علوم القرآن الكريم - نور الدين عتر

نور الدين عتر

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وصلى الله على سيدنا محمد هادي البشرية، ومنقذ بني الإنسان، على مدى السنين والأزمان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن القرآن الكريم هو هداية الله العظمى، وبينته الخالدة، وهو شريعة الله ودينه الذي ارتضاه لعباده، من ابتغى الهدى في غيره فلن يقبل منه، ومن اعتصم به فلن يضل عن صراط ربه، وهو الروح الذي يطير به الإسلام إلى القلوب، والمد الساري في تغذية الأرواح والنفوس، والنظام الكامل الكافل لسعادة الإنسان، في هذه الدنيا، ثم في الآخرة في أعالي الجنان. فلا عجب أن تكثر الدراسات حوله حتى لا تحصى، وأن تفيض القرائح والأقلام بالمؤلفات من دراسته حتى لا تستقصى، وإن من أهم دراسة تتأكد على دارس القرآن خاصة، والمثقف المسلم عامة هي هذه الدراسة التي نقدم فيها هذا الكتاب، تبين مصدر هذا القرآن الإلهي، ونزوله لهدايتنا، وأصول تفسيره، وما يلزم من علوم ودراسات ضرورية لحسن فهمه، وتبرز إعجازه في فنون بيانه، وعجائب معانيه ومضامينه، تثلج قلب القارئ بحلاوة اليقين

بكتاب الله، وحقية الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤيدا بالأدلة الساطعة والحجج اليقينية القاطعة، وضمنته إيضاحا لما التبس على بعض الكاتبين، وتصحيحا لما خبط فيه بعض المعاندين، من أجانب مستشرقين، أو أتباع لهم من جلدتنا مقلدين. وراعيت في ترتيبه ما يتصل بالتفسير، ثم الإعجاز، وفي أسلوبه وضوح العبارات، والاقتصار على المهمات، مما يحتاجه دارسو الشرع الحنيف، وراغبو الثقافة في ضوء القرآن الكريم. ونود أن ننبه أخيرا إلى أن كل مسلم يحتاج إلى هذه الدراسة، فإن أحسست بشيء في صدرك فارجع إلى هذه الدراسة وتأملها، لتجد راحة القلب بالإيمان، وادع إليها من تحبه ومن تريد قربه إلى كتاب الله، لأنها تزيد اليقين بكتاب الله تعالى، وترسخه. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. كتبه نور الدين عتر خادم القرآن وعلومه والحديث وعلومه

الفصل الأول التعريف العام بعلوم القرآن

الفصل الأول التعريف العام بعلوم القرآن هذا التعبير «علوم القرآن» يدل لغة على أنواع العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم. وهكذا كان يستعمل في عصور المتقدمين، فيراد به علوم تؤخذ من القرآن من علوم الشرع، كالعقيدة، أو الفقه، أو الأخلاق، أو من المعارف العامة حول الإنسان، والكون، والطبيعة، والنبات، والسماء والأفلاك. كما يراد ب «علوم القرآن» لغة علوم تخدم معاني القرآن مباشرة، وتوصل إليها، أو تدور حوله، أو تستمدّ منه، فيدخل تحت هذا التعبير بهذا الاستعمال اللغوي الثاني علوم كثيرة ضخمة، مثل: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم إعراب القرآن، وسائر علوم الدين واللغة والبلاغة، وغير ذلك، من علوم، درس العلماء في تآليفهم فيها القرآن كله في ضوء كل علم دراسة تفصيلية. ثم جعل العلماء هذه العبارة: «علوم القرآن» اسم علم، يراد به معنى خاص يدل على علم خاص غير ما سبق كله، لأن هذا المعنى الجديد يختص بأنه علم واحد يجمع ضوابط تلك العلوم المتصلة بالقرآن من ناحية كلية عامة، أما علوم القرآن بالمعنى اللغوي فإن كل علم منها يدرس القرآن كله من زاوية اختصاصه آية آية دراسة تفصيلية.

"علوم القرآن في الاصطلاح

وبناء على ذلك يمكن أن نعرف «علوم القرآن» باعتباره اسما لعلم واحد فنقول: «علوم القرآن في الاصطلاح: هو المباحث الكلية التي تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله، وترتيبه وجمعه، وكتابته، وتفسيره، وإعجازه وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك» (¬1). التصنيف في علوم القرآن: وبالنظر لأهمية هذا العلم كثرت الدراسات فيه في القديم والحديث، فكتب كثير من المفسرين في مقدمات تفاسيرهم بحوثا هامة في علوم القرآن، عنوا فيها بما يتعلق بأصول تفسيره وإعجازه، على مثال مقدمة الطبري، لتفسيره «جامع البيان»، والقرطبي لتفسيره «الجامع لأحكام القرآن». وصنف العلماء مؤلفات مستقلة تشمل كل علوم القرآن، مثل هذه الكتب الهامة: 1 - «فنون الأفنان في عيون علوم القرآن»، للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597. 2 - «البرهان في علوم القرآن»، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794. 3 - «الإتقان في علوم القرآن»، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911. وقد بناه على كتاب البرهان، وأضاف إليه فوائد وبحوثا. وفي هذا العصر اقتصر الباحثون في هذا العلم على أهم ما يحتاج إليه الدارس في هذا العصر، اعتمادا على تكملة بحوث أخرى من علوم شرعية ¬

_ (¬1) ومن هنا ندرك الخطأ الواضح الذي وقع فيه من عرّف علوم القرآن فقال: «هي جميع المعلومات والبحوث التي تتعلق بالقرآن ... ». فقد خلط بين المعنى اللغوي وهو يدل على علوم كثيرة، والمعنى الاصطلاحي وهو علم واحد، ألا ترى إلى قوله «هي». وهكذا استمر الخطأ ...

ولغوية أو اعتقادية مقررة في مناهج معاهد العلوم والدراسات الإسلامية. ومن أهم المؤلفات المعاصرة ما يلي: 1 - «مناهل العرفان في علوم القرآن»، للعلّامة الكبير محمد عبد العظيم الزرقاني. وهو كتاب حافل واسع المحتوى، عذب الأسلوب يقع في مجلدين. 2 - «المدخل إلى دراسة القرآن الكريم»، لفضيلة أستاذنا الدكتور العلّامة الشيخ محمد محمد أبو شبهة. 3 - «البيان في علوم القرآن»، لفضيلة أستاذنا الدكتور العلّامة الشيخ عبد الوهاب غزلان. 4 - «مباحث في علوم القرآن»، للأستاذ الدكتور صبحي الصالح. 5 - «من روائع القرآن»، للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. وقد قسم بعضهم كتابه أبوابا. منها: «باب تاريخ علوم القرآن» و «باب علوم القرآن». ونرى في هذا التقسيم خللا وضعفا، لأن العنوان الثاني: «علوم القرآن» يوهم أن الأبحاث الأخرى ليست من علوم القرآن، وهي قطعا من علوم القرآن، فكيف تستبعد عن هذا العنوان ولا تدرج تحته. ونود التنبيه إلى أن التصنيف في علوم القرآن بالمعنى الأول مستمر أيضا لم ينقطع، وذلك تلبية لحاجة العصر من كشف دسائس وفضح أباطيل، أو تفصيل مسائل واستيفائها بالبحث، أو لإظهار مزيد من أوجه الإعجاز الذي أفاده تقدم العلوم، الأمر الذي يزيد اليقين بأن هذا القرآن كتاب الله المعجز على الدوام. تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.

الفصل الثاني القرآن والوحي وتنزلاته

الفصل الثاني القرآن والوحي وتنزلاته القرآن هذا الإسم «قرآن» في اللغة: على أصح الآراء مصدر على وزن غفران، بمعنى القراءة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. وأما تعريف القرآن اصطلاحا: فقد تعددت تعاريف العلماء للقرآن، بسبب تعدد الزوايا التي ينظر العلماء منها إلى القرآن- وإن كان التعبير بأنه الكلام المعجز كافيا- ونحن نختار هنا التعريف المناسب لغرض دراستنا، أعني التمهيد بمعارف عامة وهامة موجزة عن القرآن الكريم فنقول: «القرآن هو كلام الله المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلّم المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المعجز ولو بسورة منه». وقد اشتمل هذا التعريف على الصفات التالية للقرآن، وتعتبر في اصطلاح أهل التعاريف قيودا تشمل المعرّف وتميزه عما عداه وهي: آ) كلام الله المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلم: وتتضمن هذه الجملة أمورا نذكر منها: 1 - إبعاد كل كلام لغير الله تعالى- مهما كان عظيما- عن أن يسمّى قرآنا، وسواء في ذلك حديث النبي صلّى الله عليه وسلم أو غيره من الإنس والجن والملائكة، فكل ذلك لا يسمى قرآنا.

ب) المكتوب في المصاحف

2 - قوله: «على محمد»: احتراز عما أنزل على الأنبياء السابقين، كالتوراة والإنجيل، والزبور وغيرها، فلا يسمى شيء منها قرآنا. ب) المكتوب في المصاحف: وهذه مزية للقرآن أنه دوّن وحفظ بالكتابة منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وبإشرافه واعتنائه الزائد. ثم لما قام الصحابة بجمع القرآن في المصحف وكتبت المصاحف في عهد عثمان، أجمع الصحابة على تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا، وقالوا: جرّدوا المصاحف، فمن ادعى قرآنية شيء ليس في المصاحف فدعواه باطلة كاذبة، وهو من المفترين على الله وعلى رسوله. ج) المنقول بالتواتر: أي أن القرآن قد نقله جمع عظيم غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب ولا وقوع الخطأ منهم صدفة، هذا الجمع الضخم ينقل القرآن عن جمع مثله وهكذا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك يفيد العلم اليقيني القاطع بأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلم. وهذه خصوصية ليست لغير القرآن من كتب السماء. فإن الكتب السابقة لم يتح لها الحفظ في السطور ولا في الصدور، فضلا عن أن تنقل بالحفظ نقلا متواترا جيلا عن جيل. أما القرآن فقد جعل الله فيه قابلية عجيبة للحفظ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. بل إن هذه الخصوصية، خصوصية حفظ القرآن في الصدور بلغت مبلغا عجيبا، فهذه أمم العجم، تحفظ القرآن عن ظهر قلب حفظا متينا لا يتطرق إليه خلل ولا بكلمة واحدة، ولا تفريط في حكم تجويد، وتجد أحدهم مع حفظه هذا لا يدري من العربية شيئا. د) المتعبد بتلاوته: أي أن مجرد تلاوة القرآن عبادة يثاب عليها المؤمن، ولو لم يكن

هـ) المعجز ولو بسورة منه

استحضر نية تحصيل الثواب بالتلاوة، كما أن الصلاة لا تصح إلا بتلاوة شيء منه، وقد وردت نصوص كثيرة غزيرة في الحض على تلاوة القرآن وبيان فضلها وعظمة ثوابها، وألّف العلماء في ذلك كتبا كثيرة نافعة (¬1). وهذا القيد يخرج من اعتبار القرآن القراءات الشاذة، لأنا غير متعبدين بها، وكذا الأحاديث القدسية. هـ) المعجز ولو بسورة منه: الإعجاز أعظم خصائص القرآن، حتى لو عرّف القرآن بهذه الصفة: «الكلام المعجز» لكفى ذلك لتمييزه والتعريف به. والقرآن معجز بجملته، كما أنه معجز بأي سورة منه، ولو كانت هي أقصر سورة من سوره. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬2). وقال تباركت أسماؤه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (¬3). وهذا الإعجاز برهان قاطع على أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه الحق الذي يجب الإيمان به واتباعه، والحذر من مخالفته وعصيانه. أسماء القرآن: عرفنا أن لفظة القرآن هي أشهر أسماء القرآن الكريم، بل هي الاسم العلم الدال على هذا الكتاب العزيز، وللقرآن الكريم أسماء أخرى كثيرة يشير كل منها إلى جانب من خصائص القرآن أو فضائله، أو أهدافه، وقد عني العلماء بإحصائها واستقصائها وشرحها. ¬

_ (¬1) نذكر للقارئ منها كتاب «تلاوة القرآن المجيد» لفضيلة أستاذنا العلّامة الشيخ عبد الله سراج الدين. (¬2) سورة الإسراء، الآية 88. ظهيرا: ناصرا ومؤيدا. (¬3) سورة البقرة، الآيتان 23 - 24.

"الكتاب"

ومن أشهر أسماء القرآن الكريم: «الكتاب»: وهذه المادة مأخوذة في أصلها من الكتب، أي الجمع، ومنه الكتيبة للجيش لاجتماعها، ثم أطلقت على الكتابة، لجمعها الحروف (¬1)، وسمّي القرآن بذلك لأنه يجمع أنواعا من القصص والآيات والأحكام والأخبار على أوجه مخصوصة، كما ذكروا. إلا أنا نرى حقا ما قرره المحقق الدكتور محمد عبد الله دراز (¬2) أن في تسمية القرآن بهذين الاسمين: القرآن والكتاب: «إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيّها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬3)، ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، فإن الله لم يتكفل بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (¬4)، أي بما طلب إليهم حفظه. والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، وكان ¬

_ (¬1) كما اتفقت عليه المعاجم، فلا معنى للالتفات لما كتبه بعض المستشرقين من إرجاع هذه الكلمة أو غيرها إلى أصل غير عربي من الآرامية أو غيرها، فذلك زعم لا أرومة له. (¬2) في النبأ العظيم ص 7 - 9. (¬3) سورة الحجر، الآية 9. (¬4) سورة المائدة، الآية 44.

ومن أسماء القرآن"النور"

سادّا مسدّها ولم يكن شيء منها ليسدّ مسدّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. ومن أسماء القرآن «النور»: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (¬1). ومناسبة هذه التسمية أن القرآن يكشف الحقائق ويجلوها ببيانه الناصع، وبرهانه الساطع، ويجعلنا ندرك غوامض الحلال والحرام، وما لا يستقل العقل بالتوصل إليه من علوم العقيدة والشريعة وغيرها. «الفرقان»: قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (¬2). ووجه هذه التسمية: أنه فرّق بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والحلال والحرام، والخير والشر، وذلك لغاية كماله في الهداية والبيان. الوحي معنى الوحي لغة: قال الإمام ابن فارس (¬3): «الواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء إلى غيرك، فالوحي الإشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان». ويختص معنى الوحي لغة إضافة إلى ما قاله ابن فارس بتضمنه معنى السرعة، فالإشارة السريعة هي التي يقال لها: وحي. وورد الوحي في القرآن بمعنى الإلهام، كما في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية 174. (¬2) أول سورة الفرقان. (¬3) معجم مقاييس اللغة. (¬4) سورة القصص، الآية 7.

أما في الاصطلاح الشرعي

كما ورد بمعنى الوسوسة: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ (¬1). أما في الاصطلاح الشرعي: فالوحي هو إعلام الله تعالى لمن اصطفاه من عباده بطريق خفية سريعة. مراتب الوحي: وإذا ابتغينا التفصيل لهذا الإجمال عن الوحي، وتساءلنا عن كيفياته وأحواله وآثاره فإن خير مرجع يحقق لنا تلك الأمنية هو صاحب الوحي نفسه، في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة. كما جاء في الحديث الصحيح: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لمثلها». «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع. فقال لخديجة- وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي. فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب في ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية 121.

كيفيات الوحي

الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟!» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي». قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: وهو يحدث عن فترة الوحي: فقال في حديثه: «بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاء في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. فحمي الوحي وتواتر» (¬1). كيفيات الوحي: وليست مراتب الوحي مقتصرة على هذين الحالين اللذين عرفناهما من الحديث،: الرؤيا والأخذ من الملك، بل إن له مراتب وكيفيات عدة ذكر القرآن الكريم أصولها في قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (¬2). وقد دلّت هذه الآية الجامعة على كيفيات الوحي وأنها ثلاث لا رابع لها، وسماها العلماء مراتب الوحي، وهي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في أول صحيحه وغيره. غطّني: ضمني وعصرني بقوة. زمّلوني: لففوني بالثياب. الرّوع: الفزع. الناموس: صاحب السّرّ. جذع: شاب. لم ينشب: لم يلبث. (¬2) سورة الشورى: الآية 51.

المرتبة الأولى

1 - أن يلقي الله ما يريد إلقاءه إلى النبي مباشرة بطريق خفي سريع دون واسطة. 2 - أن يكلم الله النبي، من وراء حجاب تكليما. 3 - أن يرسل الله الملك إلى النبي فيلقي إليه ما أمره الله تعالى به. وقد بحث العلماء في هذه المراتب- ومرادهم كيفيات الوحي- واستقصوا أحوالها فيما ورد من وصف الوحي من الكتاب والسنّة، وأوصلوها إلى سبع مراتب ينقسم إليه الوحي ويقع بها، ومنهم من جعلها ثماني مراتب (¬1)، وترجع كلها إلى المراتب الأساسية التي ذكرتها الآية، وتندرج في ضمنها ولا تتجاوز حدها، كما يتضح من هذا البيان الذي يشرحها: المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة، وذلك كما ورد في حديث عائشة: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم»، والوحي في هذه المرتبة إما أن يكون بإلقاء الله أو بواسطة الملك فهو داخل في الآية لا يخرج عنها. المرتبة الثانية: أن يأتيه الملك فيلقي في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما أخرج الشهاب والحاكم عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ... » (¬2). المرتبة الثالثة: أن يتمثّل له الملك رجلا فيخاطبه فيعي عنه ما يقول: كما في الحديث المشهور من سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ¬

_ (¬1) انظر في ذلك الروض الأنف للسهيلي ج 1 ص 153 - 154، وزاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 77 - 80 (ط. الرسالة)، والإتقان للسيوطي ج 1 ص 44، والمواهب اللدنية للقسطلاني، وشرحه للزرقاني ج 1 ص 55، وغيرها. (¬2) مسند الشهاب بلفظه ج 2 ص 185 والمستدرك بنحوه ج 2 ص 4 وله شواهد كثيرة تقويه.

المرتبة الرابعة

الإسلام والإيمان والإحسان والساعة. وهو متفق عليه. المرتبة الرابعة: أن يأتيه الملك على حاله الملكية ويوحي إليه، وفي هذه المرتبة يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، وكان ذلك أشد الوحي عليه صلّى الله عليه وسلم. المرتبة الخامسة: أن يأتيه الملك جبريل ويظهر له في صورته الملكية العظيمة التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له صلّى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في الأرض، والثانية: في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، كما قال تعالى في سورة النجم (¬1): وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. وهذه المراتب الأربعة التي بعد الأولى كلها صور لمرتبة واحدة لا تخرج عنها، ذكرها القرآن في قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ. المرتبة السادسة: كلام الله تعالى للنبي من وراء حجاب، كما وقع للنبي صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج بعد أن استقرت فريضة الصلوات على الخمس فنودي: أحكمت فريضتي وخففت على عبادي، وكما وقع لموسى عليه السلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. المرتبة السابعة: كلام الله تعالى للنبي وحيا بلا واسطة ملك ولا حجاب: كما أوحاه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج وهو فوق السموات من فرض الصلوات ومضاعفة الحسنات الحسنة بعشر أمثالها، وغير ذلك، وهي مرتبة داخلة في قوله: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي إعلاما خفيا. لكن بعضهم استشكل ما وردت به الأحاديث في هذه المرتبة وقال به أكثر ¬

_ (¬1) الآيات: 13 - 18.

مظاهر الوحي

العلماء أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ربه عزّ وجلّ ليلة المعراج كيف يتفق مع قوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وليس هاهنا حجاب؟ إلا أن هذا الإشكال في الحقيقة غير وارد هنا إذا ما علمنا أن الوحي الإلهي في هذه المرتبة لا يشبه خطاب الخلق، بل هو داخل في قوله إلا وحيا، لأن الوحي إعلام في خفاء، وقد أبان الإمام المفسر البيضاوي عن ذلك في تفسيره لهذه الآية وهو يفسر إِلَّا وَحْياً: «كلاما خفيا يدرك بسرعة، لأنه تمثيل، ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة»، فأزاح بذلك شبهة خروج هذه المرتبة عن حد الآية الكريمة. مظاهر الوحي: والوحي في أي مرتبة من مراتبه أمر عظيم يقتضي من الإنسان أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة ليتصل بالملائكة وعالم الغيب، وذلك يقتضي من صاحبه استعدادا يهيئه الله تعالى في أولئك الأخيار الذين اصطفاهم من خلقه لهذه المنزلة، وكثيرا ما كان يحدث للنبي صلّى الله عليه وسلم مشقة شديدة في التلقي من الملك. قالت عائشة رضي الله عنها: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول». قالت عائشة رضي الله عنها: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» (¬1). ومن آثار الوحي ومظاهره على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما وردت به هذه الأحاديث: 1 - ما ذكر في حديث السيدة عائشة الذي رويناه سابقا. ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري في مطلع صحيحه ص 2 - 3 ومسلم في الفضائل (باب عرق النبي صلّى الله عليه وسلم ... ) ج 7 ص 82.

وأخرج البخاري أول صحيحه وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان ممّا يحرك شفتيه، فقال ابن عباس فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عزّ وجلّ: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، قال جمعه لك صدرك وتقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، قال فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه، ثم إن علينا أن تقرأه. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلم كما كان قرأ». 2 - أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل: عن عبد الرحمن بن عبد القارّيّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة»، ثم قرأ علينا: «قد أفلح المؤمنون ... حتى ختم العشر» (¬1)، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. 3 - أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ثقل جسمه حتى يكاد يرضّ فخذه فخذ الجالس إلى جنبه. ¬

_ (¬1) وهي: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وانظر الحديث في المسند رقم 223 والترمذي ج 2 ص 316 - 317 والمستدرك ج 1 ص 535.

عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أملى عليه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يملّها عليّ قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت.- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم سرّي عنه فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، أخرجه البخاري بلفظه وأحمد وأبو داود وغيرهم (¬1). 4 - أنه صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي بركت به راحلته. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن كان يوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها» أخرجه أحمد. وعن عروة بن الزبير: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرّك حتى يسرّى عنه. أخرجه ابن جرير، وهو مرسل، والجران باطن عنق الناقة. وقد حضّ النبي صلّى الله عليه وسلم المسلم على أن يجعل ليوم الوحي اهتماما وتوجها خاصا إلى الله، بمجاهدة النفس والتصفية لها بصيام مستحب، تكميلا ومتابعة لمجاهدتها بالصيام المفروض في شهر رمضان حتى تصفو النفوس من أكدارها وتخلص القلوب وجهتها نحو بارئها سبحانه، وتقبل عليه بقوة وعزم، وعلى العالم بالمكارم والإصلاح ودعوة الخير الذي نزل به الوحي في ذلك اليوم، أخرج مسلم (¬2) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ» (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري: ج 6: 47 وأبو داود ج 3: 11 والمسند ج 5: 184. (¬2) في صحيحه كتاب الصيام ج 3 ص 168. (¬3) وبهذه الدراسة يتبين لنا بجلاء الفرق بين الوحي والإلهام أو الكشف، وذلك من وجوه كثيرة نذكر منها: 1 - إن الوحي أخذ وتلقّ من ذات خارجية علوية آمرة قاهرة، تتلقاه شخصية النبي مذعنة ضعيفة مأمورة. أما الإلهام والكشف فيدخل فيهما عنصر الحدس

الرد على منكري الوحي

الرد على منكري الوحي وقد أثار أعداء الأنبياء والكافرون ببعثة الرسل الشبهات حول ثبوت الوحي من الله تعالى لهؤلاء الخيرة المصطفين من عباده، وتعللوا في إنكارهم بتعللات مختلفة، بدأها أوائلهم في العصور السالفة الغابرة وجددها أواخرهم في العصور الخالفة الحاضرة. ويتخلص أهم ما قالوه في دعويين سبق إليهما الكفرة المشركون من قبل، حين زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلم مجنون، أو أنه مصاب بمرض عصبي، وزعموا أنه يأتيه رئيّ من الجن يلقي إليه هذا القرآن، ولما كان منكروا النبوة في هذا العصر ينكرون الجن فقد صاغوا شبهتهم باسم «الوحي النفسي». ولا شك أن دعوى المرض العصبي كذب واضح يدل على الجهل الفاضح بشخص محمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم، بل يدين قائله بأنه بلغ به العناد والتجني على الحقيقة مبلغا فقد به توازنه العقلي، فالتاريخ يشهد بأدلته القاطعة للنبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان أعظم الناس خلقا، وأوسعهم أفقا، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم يدا، لا تصمد أمامه معضلة، ولا يتعقد أمامه موقف إلا واجهه بأحسن الحلول وأعلاها وأفضلها، وأنه كان أفصح الناس لسانا وأعذبهم بيانا، مما يشهد بأنه صلّى الله عليه وسلم أكمل العالم عقلا وتفكيرا وأنه أمة وحده في علوّ أخلاقه وثباته وحلمه، وكمال عقله ورباطة ¬

_ والتخمين وعمل الذهن غير الشعوري. 2 - إن الوحي يوقع في القلب علما يقينيا اضطراريا لا يقبل التغيير ولا التبديل، أما الكشف أو الإلهام فهو أمر يقع في النفس فتعرفه معرفة دون اليقين، وقد تتحمس له كاليقين، لكن كثيرا ما يظهر الخطأ فيه. 3 - إنه يجب الأخذ بالوحي قطعا، لكن لا يجوز الأخذ بالإلهام أو الكشف وإن تكرر صدقه إلا بعد عرضه على دلائل الشرع، لأن الوحي معصوم، أما الإلهام وكذا الكشف ونحو ذلك فليس شيء منها بمعصوم، فلا بد من مراجعة ذلك.

جأشه، ولهذا ردّ القرآن على هؤلاء بأنهم هم الذين فقدوا رشدهم: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. وأما دعوى (الوحي النفسي) فقد وجدت لدى المنكرين ومثيري الشبهات مرتعا خصيبا ولا سيما اليهود من المستشرقين (¬1) لما فيها من التلبيس الخبيث والمكر في الدس والافتراء الذي يضفي على هذه الفرية مسحة كاذبة من دعوى البحث العلمي العصري. وإن الثابت المقرر من مظاهر الوحي وآثاره ليثبت بطلان هذه الدعوى وكذبها، من وجوه كثيرة جدا، نذكر منها: 1 - إعجاز القرآن، فإن نفس محمد صلّى الله عليه وسلم مهما صفت فإنها ستظل كسائر المتعبدين والعباقرة يأتون بالشيء العظيم لكن لا يعجز أمثالهم أن يلحقوا بهم أو يسبقوهم ويتفوقوا عليهم، وهذا القرآن الذي أوحي به إلى محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم معجز تحدى الجن والإنس، والأولين والآخرين، فأنّى يمكن أن يكون هذا الكتاب إلا من عند الله. 2 - إن حادث الوحي يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه آت من ذات مستقلة خارجة عن ذات النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك واضح في حديث بدء الوحي في غار حراء، حيث إن الملك جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فجأة كما في الحديث الصحيح المتفق عليه: «فجاءه الملك فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ ... فهذا الحادث يوضح أن هناك ذاتا خارجة عن ذات محمد وشخصه تملي عليه وتأخذه وتغطّه أي تضمّه وتعصره عصرا شديدا، وتقول له: اقرأ، فهي ذات متكلمة، وهي ذات آمرة ومؤثرة في بدنه بالضغط الشديد عليه، حتى يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لقد خشيت على نفسي». وذلك يثبت بطلان زعم الوحي النفسي ويفنّده تفنيدا. ¬

_ (¬1) مثل جولد زيهر.

3 - إن الوحي كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلم غير مرتبط بإرادته أو رغبته، ولا بتفكيره أو بحثه لدى وقوع المهمات، فربما كان في بيته يأخذ شيئا من الراحة فينهض والبشر على محياه وقد نزلت سورة، كما ثبت الخبر في نزول سورة الكوثر كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ومن القرآن ما تنزل في هزيع أخير من الليل، كآية التوبة على الثلاثة الذين خلّفوا، وآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وكان النبي صلّى الله عليه وسلم في خيمته والحرس حوله، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه من الخيمة فقال: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» (¬1) ولهذا كثرت أقسام القرآن بحسب أوقات نزوله، فمنه السفري والحضري، ومنه الليلي والنهاري، ومنه ما نزل مشيّعا، ومنه ... ومنه، مما فصله علماؤنا في مصادر علوم القرآن. 4 - «إن عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان، ويتقيد بحدودهما وآفاقهما، بينما يتخطى القرآن دائما نطاق هذه الحدود، ليدلّ من خلال رحابة موضوعاته إلى أن دور محمد- صلّى الله عليه وسلم- فيه إنما هو الحفظ والوعي، أو الأخذ والتلقي، ثم الإبلاغ للعالم. بل إن جميع معارف الإنسان في عصر نزول القرآن- لا معارف النبي ومعارف بيئته- ومعارف عصور لا حقة لا تمثل شيئا من شمول المعارف القرآنية وتنوعها وعمقها، فضلا عما في معارف القرآن من تصحيح تلك المعارف وتقويم عوجها من جذورها، حتى ما كان منها متعلقا بما هو سابق لعصر نزول القرآن، فليت شعري إن لم يكن هذا وحيا ممن يعلم السر في السموات والأرض فأي شيء يكون» (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 198. (¬2) باختصار وتصرف عن كتاب «الظاهرة القرآنية» تأليف مالك بن نبي رحمه الله، وليرجع إلى هذا الكتاب ففيه فوائد هامة. وانظر ما يأتي في الإعجاز العلمي وفي بحث «الكون في القرآن».

الفصل الثالث نزول القرآن منجما وأسراره

الفصل الثالث نزول القرآن منجما وأسراره لقد حدثنا القرآن عن نزوله في مناسبات كثيرة يدور قطب بحثنا هنا على هذه الجمل منها: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. وظاهر الآية الأولى يستدعي البحث، لما هو معلوم عند الجميع أن القرآن لم ينزل جملة واحدة، إنما نزل مفرقا، وقد تساءل عن ذلك الدارسون منذ العصر الأول، كما روي: عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك من قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وقد أنزل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثمّ أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام»،

للقرآن ثلاث تنزلات

رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه (¬1). وقد تضافرت الأسانيد الصحيحة إلى ابن عباس تثبت قوله بنزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ليلة القدر في رمضان، وبهذا قال أكثر العلماء، وبذلك يكون للقرآن ثلاث تنزّلات: 1 - التنزّل الأول: نزوله إلى اللوح المحفوظ، كما نصّت الآية: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. واللوح المحفوظ عالم علوي عظيم جعله الله تعالى من أعظم المظاهر الدالة على عظمة علمه تعالى وحكمته وقدرته النافذة في الأكوان، ويختص اللوح المحفوظ بكونه مشتملا على تسجيل ما قضى الله تعالى وقدّر ما كان وما سيكون (¬2). قال الإمام أبو حيان في تفسير الآية: «واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء» اهـ. وهو من أسرار الغيب التي لم يطلعنا الله تعالى على حقيقتها وستظل كذلك في أستار الغيب. 2 - التنزيل الثاني: النزول إلى بيت العزّة في السماء الدنيا جملة واحدة، كما سبق عن ابن عباس. 3 - التنزيل الثالث: النزول على قلب النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة. ويرى كثير من العلماء تفسير آيات نزول القرآن في ليلة القدر وشهر رمضان على غير ما ذكرناه، وأن المراد ابتدأنا إنزاله في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، كما هو مستعمل كثيرا في اللغة إطلاق «فعل» على ابتداء الفعل، ¬

_ (¬1) وهذا لفظ ابن مردويه، أنظر تفسير ابن كثير ج 1 ص 310 والإتقان ج 1 ص 40 وفيه تصحيف. (¬2) قارن ب «مباحث في علوم القرآن» ص 51 حيث جعل هذا النزول ثابتا بالأسانيد الصحيحة، وإنما هو ثابت بالقرآن.

نزول القرآن منجما على قلب النبي الكريم

وكأن هذا الفريق يرى حديث ابن عباس تفسيرا من اجتهاده ورأيه، لأنه لم يأت مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في شيء من طرقه، ولا ورد عن أحد من الصحابة غير ابن عباس، وإن كان هذا التأويل غير ظاهر. وقد يتساءل القارئ عن الحكمة من إنزال القرآن جملة واحدة ثم إنزاله منجما بعد ذلك. والحق أنه لم يرد لنا نص صريح يجلو لنا سر ذلك. لكن الباحث يتلمس باجتهاده حكمة لذلك وسرا، ومن ذلك ما يلي: 1 - تفخيم أمر القرآن وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم» (¬1). 2 - سرّ يرجع لإعجاز القرآن، في ترتيب القرآن في النزول، ثم ترتيبه في المصحف، حيث ينظره جبريل في سماء الدنيا وهو على ترتيب المصحف، ثم يتنزل بآياته تباعا على حسب الحوادث فتوضع كل آية في مكانها في المصحف وفق الترتيب في اللوح المحفوظ (¬2). نزول القرآن منجما على قلب النبي الكريم لقد صرّحت الآيات القاطعة بأن القرآن الكريم كلام الله المنزل من عند الله تعالى بلفظه ومعناه على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم، لا تصرف لأحد في شيء منه ولا في حرف من حروفه. قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وقال: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. فالقرآن تلقاه النبي صلّى الله عليه وسلم من الله تعالى كما تشير كلمة ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 230 والإتقان: 1: 40 - 41 وصرح بعزو هذا إلى المرشد الوجيز لأبي شامة. وانظر المرشد الوجيز ص 24. (¬2) باختصار وتصرف عن كتاب الوحدة الموضوعية: 74.

الحكم في نزول القرآن منجما

«لدن»، وهو كلام الله كما صرحت الآية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ. لكن تنزيل القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن دفعة واحدة، كما نزلت الكتب السابقة على الأنبياء دفعة واحدة، بل اختص الله تعالى هذا القرآن بأن أنزله منجما أي مفرقا، بحسب المناسبات، واقتضاء الحال، فكثيرا ما كانت تنزل خمس آيات، أو تنزل عشر آيات، أو أقل أو أكثر، وقد صح نزول عشر آيات قصار في أول سورة المؤمنون، ونزلت عشر آيات طوال في قصة الإفك في سورة النور، وقد ينزل بعض آية كقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وقد استمر نزول القرآن ثلاثا وعشرين سنة، منذ بدء الوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في الثالثة والستين من عمره الشريف صلّى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. الحكم في نزول القرآن منجما: هكذا اختص القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بأنه نزل مفرقا على نجوم كثيرة كما ذكرنا، وقد أثار ذلك أعداء القرآن من المشركين واليهود وغيرهم، فتساءلوا لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت الكتب التي قبله؟. وهذا سؤال تولّى الله تعالى الإجابة عنه في موضعين من قرآنه: قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآيتان 32، 33.

أولا، تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه

وقال أيضا: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (¬1). فبيّن القرآن حكما وأسرارا غفل عنها المتطفلون باقتراحهم، اقتضت نزول القرآن مفرقا، وبالنظر إلى عبارات الآيات القرآنية نستطيع عرضها من خلال أربعة جوانب، يستدل عليها من الآيات السابقة: أولا، تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلم وتقوية قلبه: كما قال تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. فقد بعث الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوم جفاة شديدة عداوتهم، كما قال تعالى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا. وكانوا لا يكادون ينتهون من حملة أو مكيدة حتى يشرعوا في تدبير أخرى مثلها أو أشد أو أمرّ، فكانت تنزلات القرآن بين الفينة والأخرى تواسيه وتسليه، وتشدّ أزره وعزيمته على تحمل الشدائد والمكاره، لما فيها أولا من تجديد الاتصال بالملإ الأعلى كلما ادلهمّ الأمر أو نزل الخطب، مما يثلج القلب ويشرح الصدر. ثم ما هنالك من التذكير بالأسوة بالأنبياء السابقين وأحوالهم مع أقوامهم كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ .... ويستطيع القارئ تبين هذه الحكمة بسهولة ويسر لدى مراجعته قصص القرآن، كأن يقوم باستعراض سريع لسورة هود مثلا، وما فيها من بيان مواقف الأمم من أنبيائهم وتحمّل الأنبياء والمؤمنين معهم وصبرهم حتى ينزل الله تعالى نقمته على أعدائهم، ويكرم المؤمنين بالفوز والنجاة، مما له أثره البالغ في تثبيت المؤمنين وزلزلة قلوب الكافرين لتكرار ذلك في كل موقف، حتى ضربت الأمة الإسلامية المثل البالغ حيث تعرضت لهزات وأعاصير أباد جزء منها أمما وأذاب شعوبا وحضارات، فثبتت الأمة الإسلامية أمام ذلك كله. بل سجلت أمة الإسلام في هذا المضمار ما هو معجز، حيث إنها ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 106.

ثانيا: مواجهة ما يطرأ من أمور أو حوادث تمس الدعوة

حافظت على نفسها ودينها وحضارتها ليس هذا فحسب، بل امتصت القوى التي جاءت لإفنائها وجعلتها هي تتحول لتكون من أسباب قوّتها، كما حصل من الانقلاب الكبير للصليبيين بعد احتكاكهم بالمسلمين، والعبرة الأكبر في التتار الذين دخلوا الإسلام واعتنقوه، مما يبرز لنا أهمية التربية الإسلامية، وأسلوبها في غرس هذه العوامل بوسائل كثيرة منها أسلوب قصص الأمم السابقة، ولهذا ندرك أيضا موقع هذا الاختتام العظيم لسورة هود بهذه الآيات: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا .... ثانيا: مواجهة ما يطرأ من أمور أو حوادث تمس الدعوة: كما قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. وهذه حكمة جليلة لها أثرها البالغ في نجاح الدعوة، لمواجهة الوحي نفسه للطوارئ والملمات، ومن أهم ذلك ما يثيره المبطلون من الاعتراضات أو الشبهات، وهو الأصل الذي صرحت به الآية الكريمة أي لا يأتونك بسؤال عجيب أو شبهة يعارضون بها القرآن بباطلهم العجيب إلا جئناهم بما هو الحق في نفس الأمر، الدامغ له، وهو أحسن بيانا وأوضح، وأحسن كشفا لما بعثت له (¬1)، وكأن جبريل واقف بالمرصاد يشرع سهم القرآن في صدور المشركين كلما أجمعوا أمرهم وألقوا سؤالهم أو حزبوا لنصرة الباطل أمثالهم. هذا أبيّ بن خلف من رؤساء الشرك جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتته ويذريه في الهواء وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: «نعم، يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار»، ونزلت هذه الآيات من آخر سورة يس (¬2): ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير الموضع السابق، وأنوار التنزيل للبيضاوي مع حاشية الكازروني ج 4 ص 94. (¬2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 579 وفي رواية أن العاص بن وائل فعل ذلك وصححه الحاكم

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ .... أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة- الذي خلقه من نطفة والذي خلق السموات والأرض- للأجساد والعظام الرميمة ونسي نفسه، وأن الله خلقه من العدم، وهو أعظم من الحشر الذي استبعده ولهذا قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. كذلك كانوا يلقون عليه أسئلة اختبار للتثبت من نبوته، كما روي في سبب نزول سورة الكهف أن قريشا سألت اليهود في المدينة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ... فنزلت في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة سورة الكهف بشأن الفتية أصحاب الكهف وبقصة ذي القرنين، ونزلت آية الإسراء وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1). وقد جاء مع هذا الجواب التوجيه الرباني للنبي صلّى الله عليه وسلم يعتب عليه أن قال لهم: «أخبركم غدا»، ولم يستثن، أي لم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما، وشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي بالإجابات، ونزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً. وكان المسلمون كذلك يسألون عما يهمهم من أمر دينهم، كالأسئلة عن النفقة: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (¬2). وعن الأهلّة: ¬

_ كما في لباب النقول ص 607 ولا مانع من أن تكون الواقعة تعددت. (¬1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 111 - 112 و 132 - 133 ولباب النقول ص 491 - 493. (¬2) أي الفضل والزائد.

ثالثا: تعهد هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. والحيض: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ... ولا شك أن الأسئلة لم تكن في وقت واحد بل كانت في أوقات متفرقة مختلفة فكان لا بد من نزول القرآن منجما. ويدخل في هذا الجانب متابعة الوقائع والأحداث في وقتها ينزل الوحي بشأنها ببيان التوجيه الإلهي، كما في غزوة بدر ومسألة الأنفال، ومصيبة المسلمين يوم أحد ونزول القرآن بالدروس والعبر التي نجعت فيهم مدى حياتهم مع تسلية أحزانهم ومواساتهم. أو ينزل القرآن ببيان الحكم الإلهي كما في آيات الزنا والظّهار، والعدّة والأيمان ... وهذه غزوات الرسول الكريم وحدها مثل غزوة بدر وأحد والخندق وتبوك وحنين مثال ناطق بهذه الحكمة الجليلة التي تقتضي نزول القرآن منجما في مناسبتها فكان لا بد للقرآن أن ينزل منجما وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ. ثالثا: تعهد هذه الأمة التي أنزل عليها القرآن: وذلك لصياغتها على النهج الإسلامي القرآني علما وعملا، فكرا واعتقادا وسلوكا، تخلقا وعرفا. كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ. ومن مظاهر هذا الجانب أنهم كانوا قوما أميين لا يحسنون القراءة والكتابة فكانت الذاكرة عمدتهم الرئيسية، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه، فأنزل الله قرآنه مفرقا ليقرأه الرسول صلّى الله عليه وسلم عليهم على تمهّل فيسهل عليهم حفظه ويتيسر فهمه ودرسه كذلك. ثم إن الأمة العربية التي خوطبت بالقرآن أولا قبل سائر الأمم كانت لها عقائد راسخة وعادات موروثة وأخلاق مأثورة عن أسلافهم يتباهون بها ويتفاخرون، ويتبارون في التمسك بها ويتسابقون، على عنجهيّة لم تعرفها أمة

غيرهم إذ ذاك، فكان كما قال الإمام مكّيّ بن أبي طالب (¬1): «أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة فإنه ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي». لهذا سلك القرآن الكريم معهم مسلك التربية الحكيمة، وهو مسلك التدرج في التشريع من حكم إلى حكم. والتأنّي في نقلهم من حال إلى حال، ومن خلق إلى خلق، وهكذا بلغ الغاية في تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعاداتهم المسترذلة، وسما بهم إلى عقائد القرآن وأخلاقه وعباداته وأحكامه ونظامه الشامل. ويصور لنا هذه الحكمة التربوية ما أخرجه البخاري (¬2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا». وهكذا كانت تنزل الفرائض: تنزل الفريضة حتى إذا تمكنت في النفوس نزلت الأخرى، وكذلك المحرمات، بل إن التدرج في أحيان كثيرة كان يقع في الحكم الواحد، مثل فرائض النفقات، والجهاد، وحقوق المرأة، والميراث، وتحريم الخمر، حتى أثمرت تلك التربية الربانية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وحتى كان في وقائع امتثالها ما تباهي أرقى الدول في هذا العصر في محاولتها إصلاح مجتمعها، وما قصة تحريم الخمر المشهورة ومحاولة بعض الدول الكبرى في معالجتها ببعيدة عنّا، فقد كان الفشل ذريعا بل تسبب باستفحال المشكلة حتى انجرّ الكثيرون إلى الإمعان والزيادة في الشراب من الأنواع الأشد رداءة مما يعطينا العبرة في إعجاز التربية القرآنية التي كان التدرج في نزول الوحي بالاحكام من أنجع وسائلها. ¬

_ (¬1) في كتابه الناسخ والمنسوخ، انظر الإتقان. (¬2) في فضائل القرآن ج 6 ص 185.

رابعا: التنبيه على وجه من إعجاز القرآن

رابعا: التنبيه على وجه من إعجاز القرآن: وإليه الإشارة بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ فعبّر بقوله كَذلِكَ أي مثل ذلك التنزيل العجيب الشأن البالغ الغاية في الحكمة والإحكام، ثم تذييل الآية بقوله وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وأصل الترتيل: التنضيد. وكذلك يشير إليه قوله تعالى في الآية الأخرى: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. بيان ذلك أننا إذا ما لاحظنا أن القرآن نزل مفرقا على حسب أحداث ووقائع لم تكن على ترتيب أو نسق معين ثم قد وضعت كل آية أو مجموعة آيات نزلت في مكان خاص بها من سورة يأمر الوحي بوضع الآية أو الآيات فيها، ويتناول ذلك عدة سور في آن واحد، حتى إن سورة البقرة كانت أول ما نزل من القرآن في المدينة واستمر نزولها يتتابع فكان فيها آخر ما تنزل من القرآن قاطبة، وهي. طول سورة في القرآن. ثم يقرأ القارئ المتدبر هذا القرآن بعد ذلك فيجد الترابط المحكم والاتساق العجيب وكأن السورة الطويلة أيا كانت لوحة جميلة متناسقة الألوان والظلال والمشاهد، أو بناء محكم الترابط تام التكوين. قال الإمام الشاطبي: «إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها فهي تكون قضية واحدة» (¬1). أي تدور على موضوع واحد. مما يدل دلالة قاطعة على أن هذا القرآن تنزيل حكيم عليهم، أحاط علمه بما هو كائن، كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. ¬

_ (¬1) الموافقات ج 3 ص 414.

الفصل الرابع أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

الفصل الرابع أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن أول ما نزل من القرآن الكريم إن أول ما نزل من القرآن الكريم هو صدر سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. وذلك كما ثبت في حديث السيدة عائشة الذي أخرجه البخاري ومسلم. لكن هذا قد يشكل بما أخرجه الشيخان (¬1) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو اقْرَأْ فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فإذا هو جبريل، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ». وقد اغتر بهذه الرواية بعض أهل العلم، وجعل صدر سورة المدثر أول ما نزل من القرآن. ¬

_ (¬1) البخاري في بدء الوحي ج 1 ص 3 - 4 وتفسير سورة المدثر ج 4 ص 161 - 163 وتفسير سورة اقرأ ج 4 ص 174. ومسلم ج 1 ص 98 - 99.

آخر ما نزل من القرآن الكريم

لكن التحقيق أن حديث جابر لا يتحدث عن ابتداء الوحي الأول إنما يتحدث عن أول ما نزل بعد فتور الوحي، وهو هذه الآيات من سورة المدثر، وهي أول ما نزل من القرآن يأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإنذار. يدل على ذلك ما ثبت في الحديث نفسه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله الأنصاري في حديثه السابق وفيه قوله: .. فإذا الملك الذي جاءني بحراء» (¬1). وليس بخاف ما في هذا الافتتاح لبدء الوحي ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من الحكمة الجليلة حتى أن الخطباء والكتّاب والأدباء لا يملّون من القول فيها، ومن أن يرددوه في كل مناسبة تقال عن العلم وعن الحضارة، وعن الثقافة وعن القرآن وعن الإسلام، وعن أثر القرآن في تحويل العالم، ولا سيما إذا قارنّا ذلك بما افتتح به كتاب آخر لدى الأمم الأخرى (¬2). آخر ما نزل من القرآن الكريم أقوى الآراء وأرجحها في آخر ما نزل من القرآن مطلقا أنه قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. ثبت ذلك من طرق عن عبد الله بن عباس، وروي عن أبي سعيد أيضا. وقد ورد أنه صلّى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق، ونحوه ثابت عندهما من أكثر من وجه يؤكد ما قلناه، وأما ادعاء أن سورة المدثر نزلت بتمامها جملة واحدة فلا يتلاءم مع ما ذكرناه في سبب نزولها، فإنها أسباب متعددة ومتباعدة في الزمن، وقد نزل لكل سبب منها جملة من آيات من السورة، فضلا عن افتقار هذا القول للدليل المثبت. (¬2) نلفت النظر هنا للعبارة البليغة التي عبّر بها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في كتابه إنتاج المستشرقين ص 32 فليرجع إليه.

الأوائل والأواخر النسبية

وهي الآية الحادية والثمانون ومائتين من سورة البقرة، نزلت ختاما لآيات تحريم الربا وآخرها آية الوعيد الشديد: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وروى البخاري عن ابن عباس قال: «آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم آية الربا» (¬1). وهذا ليس منافيا لما ثبت عن ابن عباس في الآية السابقة، لأن مراد ابن عباس أنها آخر ما نزل في الربا، كما أشار لذلك الإمام البخاري رضي الله عنه. ولا يخفى عظم موقع الآية من الآيات التي سبقتها وعظم الحكمة في اختتام وحي القرآن بها، فإن تأثير المال على الإنسان عظيم حتى قالوا: المال شقيق الروح، والآخرة أعظم دواء لداء الدنيا وأموالها، وخير مقوّم لعوج النفس فيها، فكان اختتام الوحي بهذه الآية في غاية المناسبة الجليلة لما قصده تعالى من وعظ عباده وتذكيرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من المال والمتاع وغيرهما، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ليحاسب خلقه (¬2). الأوائل والأواخر النسبية: وقد عني العلماء في بحوثهم بالأوليات المقيدة أي النسبية في موضوع معين، أو ناحية معينة، وبالآخر المقيد النسبي كذلك، وهو مأثور في أصله عن الصحابة والتابعين، حتى ربما كانت الأولية أو الآخرية المقيدة ترد عن الصحابي أو التابعي فيظنها بعضهم مطلقة، لذلك وجب الاطلاع عليها. ومن أمثلة أول ما نزل من القرآن مقيدا: 1 - أول سورة نزلت بتمامها سورة الفاتحة. 2 - أول ما نزل في تشريع الجهاد: ¬

_ (¬1) البخاري آخر تفسير سورة البقرة ج 6 ص 33. (¬2) انظر كتابنا «التفسير أحكام القرآن» ص 473 - 474.

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ... الآيات 39 - 41 من سورة الحج نزلت في السنة الثانية للهجرة (¬1). 3 - أول ما نزل في تحريم الخمر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ... الآية من سورة البقرة (¬2). ومن أمثلة آخر ما نزل من القرآن مقيدا: 1 - آخر ما نزل يذكر النساء خاصة: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. الآية في أواخر سورة آل عمران. 2 - آخر ما نزل في المواريث آية الكلالة في آخر سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... 3 - آخر سورة نزلت بتمامها من القرآن: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... ولهذا البحث في أول ما نزل وآخر ما نزل فوائد هامة، يحتاج إليها دارس التفسير، وباحث الأحكام، ومن ذلك: 1 - تمييز الناسخ من المنسوخ إذا وردت آيتان أو آيات متعددة في موضوع واحد. 2 - معرفة تاريخ التشريع الإسلامي وتدرجه، والتوصل إلى حكمة القرآن العظيم في تربية الناس وأخذهم بالرفق، والتحرز عن الطفرة في تنقيتهم وتخليصهم من أوحال الجاهلية، ونقلهم إلى الفضائل الإسلامية (¬3). ¬

_ (¬1) الإتقان: 1: 26 ومناهل العرفان: 1: 94 - 95. (¬2) الإتقان: 1: 26/ 27 ومناهل العرفان: 1: 90 - 93 وقد استخلصنا الأمثلة من مناقشة الأقوال المرجوحة في آخر ما نزل. (¬3) مناهل العرفان: 1: 85.

الفصل الخامس ترتيب آيات القرآن وسوره

الفصل الخامس ترتيب آيات القرآن وسوره تعريف الآية: الآية في اللغة: أصلها بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ (¬1). وأما في اصطلاح علم القرآن الكريم: فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديرا، ذو مبدأ ومقطع مندرج في ضمن سورة. سميت آية لمناسبات عدة، أولاها في اختيارنا: أنها علامة على صدق من أتى بها، وعلى عجز المتحدّى بها (¬2). تعريف السورة: للسورة في اللغة إطلاقات متعددة ، لعلّ أقربها هنا أنها مأخوذة من سور المدينة، أو من السورة بمعنى المرتبة والمنزلة الرفيعة، على حد قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي أعطاك منزلة عالية على غيرك من الملوك. أما في الاصطلاح فالسورة: قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 248. (¬2) البرهان ج 1 ص 266 و 267.

"الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ...

ومناسبة التسمية واضحة، لأنها كالسور تحيط بآياتها وتجمعها كاجتماع البيوت بالسور، أو لعلوّ قدرها وشرفها (¬1). وفي تقسيم القرآن إلى سور وآيات فوائد كثيرة، وحكم جليلة تعرض العلماء لها، نذكر إجمالات من كلامهم عنها فيما يلي: قال الزمخشري: «الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ... منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا. ومنها: أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا اقتطع ميلا أو فرسخا وانتهى إلى رأس برية نفّس ذلك منه ونشطه للمسير، ومن ثمة جزّأ القرآن أجزاء وأخماسا. ومنها: أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا»، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل. ومنها: أن التفصيل يسبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض، وبذلك تتلاحظ المعاني والنظم، إلى غير ذلك من الفوائد». مصدر ترتيب القرآن الكريم: أجمع العلماء سلفا فخلفا على أن ترتيب الآيات في السور توقيفي، أي اتبع فيه الصحابة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وتلقّاه النبي الكريم عن جبريل عليه السلام، ولا يشتبه في ذلك أحد (¬2). وفي هذا يقول أبو جعفر بن الزبير: «ترتيب الآيات في سورها واقع ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 263 و 264. (¬2) البرهان ج 1 ص 256 والإتقان ج 1 ص 60.

بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين» انتهى (¬1). وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في الانتصار: «ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا» (¬2). والأحاديث في إثبات التوقيف في ترتيب الآيات في السور كثيرة جدا كثرة تفوق حد التواتر، وتجعل من العسير استيعابها وحصرها لكنا نذكر هنا أمثلة منها تلقي الضوء على صنيع النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج البخاري (¬3) عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه. وأخرج أحمد ومسلم (¬4) عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: «يكفيك آية الصيف التي في آخر النساء». وأخرج أحمد بالإسناد الثابت عن عثمان بن أبي العاص قال كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إلى آخرها (¬5). ومنها الأحاديث التي تخبر عن آيات بموضعها، وذلك يشعر بكون هذا الترتيب معلوما شائعا مفروغا منه، وهي أحاديث كثيرة تعسر على الحصر: مثل الأحاديث في فضل خواتيم البقرة في الصحيحين، وحديث فضل من ¬

_ (¬1) الإتقان في الموضع السابق. (¬2) انظر المرجعين السابقين. (¬3) ج 6 ص 31. (¬4) المسند ج 1 ص 26 ومسلم ج 5 ص 61. (¬5) المسند ج 4 ص 218 وانظر الإتقان ج 1 ص 60.

وأما ترتيب سور القرآن

حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجّال أخرجه مسلم، وفي رواية العشر الأواخر من سورة الكهف. ومن ذلك الأحاديث الكثيرة المتضافرة في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سور القرآن، وغير ذلك مما يصعب عده وإحصاؤه. وأما ترتيب سور القرآن: فقد وقع فيه خلاف بسبب وجود روايات فهم منها بعض العلماء أن ترتيب بعض السور كان باجتهاد من الصحابة. لكن جماهير العلماء على أن ترتيب سور القرآن توقيفي، وليس باجتهاد من الصحابة، وإن كانوا اختلفوا هل كل ذلك الترتيب بتوقيف قولي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم ينص على كل سورة أنها بعد سورة كذا، أو أن بعض هذا الترتيب قد استند فيه الصحابة إلى مستند فعلي من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مثلا. وذهب ابن عطية وبعض العلماء إلى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم، كالسبع الطوال والحواميم والمفصّل، وأن بعض السور يمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده. ولعل أقوى ما يستدل به لهذا الرأي حديث ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن

الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال» أخرجه أحمد والثلاثة وابن حبان والحاكم. وهو استدلال غير سديد سندا ومتنا. أما السند فإن إسناد هذا الحديث ضعيف، فيه يزيد الفارسي وهو ضعيف ضعفه البخاري وغيره، وقالا تفرد به فلا يصلح للاحتجاج (¬1)، فضلا عن أن يكون مرجعا في قضية هامة كهذه. وأما المتن: فإن الصحابة يقرءون القرآن ويتلقونه، فكيف لا يوجد عند أحد منهم علم بسورتين من القرآن الكريم. يؤيد ما ذكرناه أيضا ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف». وقال الإمام القشيري: والصحيح أن البسملة لم تكن فيها لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها. والأدلة على أن ترتيب السور كلها توقيفي كثيرة جدا من السنة نجد فيها ترتيب السور على وفق مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، نذكر منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهنّ من تلادي»، أخرجه البخاري. فذكر ابن مسعود السور نسقا كما استقر ترتيبها. ومثله في البخاري أيضا، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين. وعن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت مكان ¬

_ (¬1) انظر التوسع في نقد السند. كتابنا الجامع المفصل في علوم القرآن يسر الله إخراجه.

التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل» أخرجه أبو داود الطيالسي وأبو عبيد (¬1). قال أبو جعفر النحاس: «وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد، لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القرآن، وفيه أيضا دليل على أن سورة الأنفال سورة على حدة، وليست من براءة» انتهى (¬2). وعن سعيد بن خالد أنه قال: «قرأ صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة» أخرجه ابن أبي شيبة (¬3). وعن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي في حديث طويل قال فيه أوس: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث (¬4)، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصّل وحده» أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد (¬5). وغير ذلك يضيق المجال عن حصره. ويشهد لذلك من حيث الدراية والعقل واقع الترتيب وطريقته، وذلك من وجهين لا يشك الناظر فيهما أن الترتيب بين السور توقيفي: أي مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأول: مما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم، رتبت ولاء، وكذا ¬

_ (¬1) من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح الهذلي عن واثلة، وفي حديث سعيد لين، لكنه ورد من طريق آخر هو عمران القطان عن قتادة عند الطيالسي كما في البرهان ج 1 ص 244 و 258 فتقوى من هذه الناحية. (¬2) البرهان ج 1 ص 258 ونقله في الإتقان بتصرف ج 1 ص 62. (¬3) الإتقان، الموضع السابق. (¬4) أي ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، وخمس سور بعدها وهكذا ... حتى يختم في أسبوع، كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو. (¬5) البرهان ج 1 ص 246 - 247 والإتقان 63.

الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء وطسم القصص بطس النمل مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت طس النمل عن طسم القصص (¬1). وهكذا من يتدبر سائر السور يعلم أن ترتيبها توقيفي. الثاني: ما راعاه العلماء الأئمة في بحوثهم من التزام بيان أوجه التناسب بين كل سورة وما قبلها، وبيان وجه ترتيبها. ويدل الإجماع على ذلك أيضا، فإن الصحابة قد أجمعوا على هذا الترتيب وقرءوا به في صلواتهم، وفي المصاحف من غير مخالفة، ولو كان لدى بعضهم مستند لترتيبه على غير ذلك لتمسكوا به، لكنهم أجمعوا على التزام هذا الترتيب وترك ما سواه، ثم استمرت الأمة على ذلك من غير خلاف قط، فكان ذلك إجماعا على الترتيب الذي في مصحف عثمان، ووجوب التزامه مدى الأزمان (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان والبرهان. (¬2) وقد أخطأ من خالف هذا الترتيب في تفسيره للقرآن أو لجزء منه، وذلك لما يلي: 1 - مخالفة الإجماع على ترتيب سور القرآن كما هي في المصحف. 2 - الإخلال بمقاصد الوحي الإلهي من ترتيب القرآن، وما فيه من مناسبات حكيمة تتصل بمعاني القرآن وتدخل في إعجازه، فمهما خطر ببال أحدهم فحكمة الوحي أعلى وأسمى، وقد أحكم الحكيم العليم ترتيب كتابه آيات وسورا، كما أحكم ترتيب أطرافه، وقد افتتح القرآن بالمعارف الإلهية وأصول العقيدة في سورة الفاتحة، ثم قرر في البقرة عظمة القرآن ومقاصد هدايته ودعا إلى توحيد الله مستدلا بدلائل الخلق والآفاق وإلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وتحدى العالم بمثل سورة منه، وذكر الجنة والنار، ثم أقام الحجج على المشركين وغيرهم ... وهكذا فقد عرّف القرآن الإنسان منذ بداية طرف المصحف الأول بمقام ربه وعظيم شأنه وأجال نظره في آياته التي تتجلى في مخلوقاته، وعرف نبوة رسوله وحقية كتابه، وصار بذلك أهلا لفهم التشريع متهيئا لقبوله، فأتاه حينئذ بالتشريع والأحكام.

الفصل السادس أسباب النزول

الفصل السادس أسباب النزول هذا علم جوهري من علوم القرآن، وأثير لدى الباحثين في التفسير عامة، وفي أسرار أسلوب القرآن خاصة. ويعرف سبب النزول بأنه: ما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه أيام وقوعه. وهذا القيد «أيام وقوعه» يعتبر شرطا جوهريا لبيان سبب النزول وتمييزه عن الآيات التي نزلت للإخبار بالوقائع الماضية، حتى انتقد العلماء «ما ذكره الواحدي في تفسيره سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك. وجدير بالتنبيه عليه هنا أنه ليس كل القرآن قد نزل على أسباب، بل إن من القرآن الكريم ما نزل ابتداء غير مبني على سبب، ومن ذلك أكثر قصص الأنبياء مع أممهم، وكذا وصف بعض الوقائع الماضية، أو أنباء الغيب القادمة، وبيان أهوال القيامة، والجنة والنار، فقد نزل أكثر من ذلك ابتداء، من غير توقف على سبب (¬1). ¬

_ (¬1) أما قول ابن مسعود «والله ما نزلت آية إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ... » ونحوه عن علي رضي الله عنهما، فليس يعني أن لكل آية سببا بل المراد إن كان لها سبب فهو يعلمه، وقد حاد عن الجادة من حمله على المبالغة أو ظن بالرواة تزيدا. فليتنبه.

فوائد علم أسباب النزول

فوائد علم أسباب النزول: ولا ريب عند من له تأمل وخبر بدراسة النصوص والوثائق أن لمعرفة أسباب النزول والوقائع التي بني عليها ورود النص أو ترتب عليها وقوع الحدث من أحداث التاريخ له أثر بالغ الخطر في دراسة تلك النصوص أو الأحداث، وذلك من أوجه كثيرة، نذكر منها في هذا المقام: 1 - الاستعانة على فهم المعنى المراد: لما هو معلوم من الارتباط بين السبب والمسبب، قال الواحدي: «لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها». وقال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن» (¬1). وقال ابن تيمية: «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب». 2 - معرفة وجه الحكمة التي ينطوي عليها تشريع الحكم: مما يكون أدعى لتفهمه وتقبله، فمن قرأ أسباب نزول آيات تحريم الخمر متدرجة واحدة بعد الأخرى، أدرك ضرورة تحريم الخمر، وبعثه موقف الصحابة عند نزول تحريمها الباتّ لأن يقتدي بهم ويأتسي بعملهم فينزجر عما قد يكون عليه من فعل محرّم. 3 - إزالة الإشكال عن ظاهر النص لمن لم يتعرف سبب النزول: وذلك كثير يصادفه المفسر، ومنه هذا المثال المشهور وهو أنه قد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (¬2)، وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 28 وقارن نصه بالبرهان ج 1 ص 22. (¬2) سورة آل عمران، الآية 188.

4 - كشف أسرار البلاغة في القرآن العظيم

يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون؟ حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه» أخرجه الشيخان (¬1). 4 - كشف أسرار البلاغة في القرآن العظيم: لما يفيده علم أسباب النزول من تلاؤم أسلوب القرآن مع مقتضى حال السامعين والعالمين إلى يوم الدين. وقد حفلت مصادر التفسير البلاغي بهذا اللون (¬2). كيف نعرف أسباب النزول: لما كان سبب النزول أمرا واقعا نزلت الآية بشأنه كان من البدهي ألا يدخل العلم بهذه الأسباب في دائرة الرأي والاجتهاد لهذا قال الإمام الواحدي في ديباجة كتابه أسباب النزول (¬3): «ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطّلاب». ومن هاهنا نفقه تشدد السلف في البحث عن أسباب النزول حتى قال الإمام محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: «اتق الله وقل سدادا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل الله من القرآن» (¬4). ولما أن أسباب النزول غير خاضعة للاجتهاد أدخلها علماء الحديث من الصحابي الذي عاين التنزيل وعاصره فيما له حكم المرفوع، وإن كانت العبارة فيها لفظ الصحابي (¬5) كحديث ابن عباس السابق في جوابه لمروان، فإن ¬

_ (¬1) البخاري في التفسير ج 6 ص 40 - 41 ومسلم بلفظه في المنافقين ج 8 ص 122. (¬2) انظر دراسة موسعة لهذه الناحية في كتابنا «القرآن الكريم والدراسات الأدبية» ص 85. (¬3) ص 3 - 4 وقارن بالإتقان ج 1 ص 31. (¬4) الموافقات للشاطبي ج 3 ص 422 - 423، والإتقان الموضع السابق. (¬5) انظر المسألة في معرفة علوم الحديث للحاكم ص 20 ومنهج النقد في علوم الحديث ص 328 - 329.

اختلاف روايات أسباب النزول

اللفظ لابن عباس، لكن له حكم المرفوع أي المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اتفق علماء الحديث على اعتبار قول الصحابي في سبب النزول له حكم المرفوع، وأخرج المحدثون أسباب النزول في كتبهم كالبخاري ومسلم وغيرهما. أما ما يرويه التابعون من أسباب النزول فهو مرفوع أيضا، لكنه مرسل (¬1)، لعدم ذكر الصحابي فيه. لكن ينبغي الحذر والتيقظ، فلا نخلط بأسباب النزول ما ليس منها، فقد يقع على لسانهم قولهم: «نزلت هذه الآية في كذا»، أو «في الرجل يفعل كذا». ويكون المراد بيان موضوع الآية، أو ما دلت عليه من الحكم. كقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. أخرج البخاري عن حذيفة في هذه الآية قال: «نزلت في النفقة» (¬2). قال الإمام الزركشي (¬3): «وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها ... فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع». اختلاف روايات أسباب النزول: لما كان سبيل الوصول إلى أسباب النزول هو الرواية والنقل، كان لا بد أن يعرض لها ما يعرض للرواية مما هو معلوم ومدروس في علوم الحديث، من صحة وضعف، واتصال وانقطاع، وغير ذلك مما لا نطيل به، غير أنا ننبه هنا على ظاهرة هامة يحتاج الدارس إليها وهي اختلاف روايات أسباب النزول ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 31. (¬2) ج 6 ص 57 والآية هي 195 من سورة البقرة. (¬3) البرهان ج 1 ص 31 - 32 باختصار.

1 - ضعف الرواة

وتعددها، وذلك لأسباب يمكن تلخيص مهماتها فيما يلي (¬1): 1 - ضعف الرواة: وضعف الراوي يسبب له الغلط في الرواية، وأن تكون مردودة، فإذا خالفت روايته رواية المقبولين، كانت أولى بالرد. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬2). فقد ثبت أنها في صلاة التطوع للراكب المسافر على الدابة: أخرج مسلم عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬3). وأخرج الترمذي (¬4) وضعفه أنها في صلاة من خفيت عليه القبلة فاجتهد فأخطأ القبلة، فإن صلاته صحيحة. فالمعول هنا في سبب النزول على الأول لصحته. 2 - تعدد الأسباب والمنزّل واحد: وذلك بأن تقع عدة وقائع في أزمنة متقاربة فتنزل الآية لأجلها كلها، وذلك واقع في مواضع متعددة من القرآن، والعمدة في ذلك على صحة الروايات، فإذا صحت الروايات بعدة أسباب ولم يكن ثمة ما يدل على تباعدها كان ذلك دليلا على أن الكل سبب لنزول الآية والآيات. ¬

_ (¬1) قارن سياقنا في التقسيم بسياق السيوطي في الإتقان ج 1 ص 31 - 34 ولا سيما في الصورة الثالثة. (¬2) سورة البقرة، الآية 115. (¬3) صحيح مسلم ج 2 ص 149 وأصله متفق عليه، أنظر البخاري ج 2 ص 44 و 45، وقد قصر السيوطي فلم يعز الحديث إلى مسلم. (¬4) الترمذي ج 1 ص 176 وأخرجه أيضا ابن ماجة ج 1 ص 326 والدارقطني ص 101 طبع الهند.

3 - أن يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب

مثال ذلك: آيات اللعان: فقد أخرج البخاري أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ .... وفي الصحيحين أنها نزلت في عويمر العجلاني وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا .. فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك» (¬1). وظاهر الحديثين الاختلاف، وكلاهما صحيح. فأجاب الإمام النووي بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا، وبذلك قال الإمام الخطيب، قال: «لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد» (¬2). 3 - أن يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب: قال الإمام الزركشي (¬3): «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه ... ». ولذلك أمثلة، منها: ما ثبت في الصحيحين (¬4) عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة، ومعلوم أن هذه الآية في سورة «سبحان»، وهي مكّية بالاتفاق، فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك بمكة وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك، فأنزل الله الجواب، كما سبق بيانه (¬5). ولا يقال: كيف يتعدد النزول بالآية الواحدة، وهو تحصيل حاصل؟ فالجواب: أن لذلك فائدة جليلة، «والحكمة من هذا- كما قال ¬

_ (¬1) البخاري في التفسير: 6: 99 و 100 ومسلم في اللعان: 4: 205. (¬2) الإتقان ج 1 ص 33. (¬3) البرهان ج 1 ص 29. (¬4) البخاري في التفسير ج 6: 108 - 109 ومسلم في القيامة: 8: 128. (¬5) ص 31 وانظر المسند ج 2 ص 255 والطبري ج 15 ص 104.

عموم اللفظ وخصوص السبب

الزركشي (¬1) - أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدّى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تذكيرا لهم بها، وبأنها تتضمّن هذه». عموم اللفظ وخصوص السبب: هذه قضية أصولية من قواعد أصول الفقه، كما أنها من أصول التفسير الهامة، تضبط كيفية تفسير السبب للنص ضبطا يزيل التوهم الفاسد. فالسبب الخاص قد ينزل فيه نص خاص بموضوع السبب، وقد ينزل نص عام الصيغة. 1 - أما إن كان النص النازل خاصا بالسبب، ولا عموم للفظه فإن الآية حينئذ تقتصر عليه قطعا (¬2). مثال ذلك قوله تعالى في سورة الليل: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى. هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع، ومن هنا استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما من ظنّ أنها عامة في كل من عمل عمله فهذا غلط منه، لأن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم حتى نطبق عليها قاعدة: «العبرة لعموم اللفظ»، بل إن «ال» في الأتقى للعهد، يؤكد ذلك أن «ال»، الموصولة التي تفيد العموم لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، والأتقى ليست جمعا، بل هو مفرد، والعهد موجود، خصوصا مع ما يفيده أفعل التفضيل من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص، والقصر على من نزلت فيه رضي الله تعالى عنه. ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 31. (¬2) الإتقان ج 1 ص 30.

2 - وإما أن يكون السبب خاصا ولفظ الآية عاما

2 - وإما أن يكون السبب خاصا ولفظ الآية عاما: فالمعتمد الذي عليه جمهور الفقهاء والأصوليين والمفسرين وغيرهم «أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب». ومن الأدلة على ذلك احتجاج الصحابة والتابعين فمن بعدهم في وقائع كثيرة بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة، وكان ذلك الاستدلال شائعا ذائعا بينهم، لا ينكره أحد. لذلك قال محمد بن كعب القرظي: «إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد». وسأل نجدة الحنفي ابن عباس عن قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... أخاصّ أم عام؟ قال: بل عام (¬1). ويدل لذلك أيضا أنه كما قال الإمام الزركشي: «قد جاءت آيات في مواضع اتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها، كنزول آية الظّهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية، ونزول حدّ القذف في رماة عائشة رضي الله عنها، ثم تعدّى إلى غيرهم» (¬2). وهذه القاعدة من البدهيات، لا يمكن للعالم أن يخصص ألفاظ القرآن العامة «بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق» كما قال ابن تيمية (¬3). وعلى ذلك درجت القوانين في الدنيا كلها، فإن القانون يصدر لأسباب خاصة في أحيان كثيرة ثم يكون حكمه عاما على الجميع. أشهر المؤلفات في أسباب النزول: كان التسطير في أسباب النزول من اختصاص الأئمة الكبار المحدثين ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 29 - 30. (¬2) البرهان ج 1 ص 24. (¬3) الإتقان ص 30. وانظر البرهان ج 1 ص 32.

المشاركين في عدد من العلوم، ثم منهم من تعرض لأسباب النزول في كتب التفسير كما نراه في كتب التفسير بالمأثور بصورة خاصة، ومنهم من أفرد جمع مادة هذا العلم في تأليف مفرد. وأول من عرفناه ألّف في أسباب نزول القرآن الكريم شيخ البخاري الإمام علي بن عبد الله المديني (المتوفى سنة 234 هـ)، ثم تتابعت المصنفات في ذلك، لكنها لم تعن بالتنقيح ولم تلتزم ببيان السقيم من الروايات من الصحيح، مما يلزم الدارس بالتثبت والتحقيق. وأهم الكتب المصنفة في ذلك هذان الكتابان المطبوعان: 1 - «أسباب النزول» للإمام المفسّر النحوي المحدث أبي الحسين علي بن أحمد النيسابوري الشهير بالواحدي، المتوفى سنة 427 هـ، وقد عول فيه على رواية الأسباب بأسانيده، وأورد أشياء معلقة بدون إسناد. 2 - «لباب النقول في أسباب النزول» للإمام المحدث الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (المتوفى سنة 911 هـ) جرّده من الأسانيد وعزى كل حديث لمن أخرجه، فكفى القارئ بذلك جهدا كبيرا، وزاد على ما ذكره الواحدي، غير أنه أخلّ بأمرين: الأول: أنه لم ينص على الصحيح من غيره، معتمدا على المراجع التي أحال القارئ عليها وكثير منها نادر الوجود، وبعضه في زمننا هذا مفقود. الثاني: أنه ترك كثيرا من أسباب النزول لم يوردها، كما يعلم من مطالعة المراجع مثل تفسير ابن كثير، والدر المنثور للسيوطي نفسه، فلا تظنن الآية نزلت مبتدأة لا على سبب لعدم ذكر سببها في اللباب فقد يكون لها في المراجع سبب أو أسباب.

الفصل السابع المكي والمدني

الفصل السابع المكي والمدني هذا الموضوع يدرس جوانب الظروف العامة التي أحاطت بنزول القرآن، وليس قاصرا على ما يدل عليه ظاهر العبارة من تقسيم القرآن إلى مكي نزل بمكة أو مدني نزل بالمدينة، ومن هنا فإن هذا الموضوع يحتل أهمية كبيرة في دراسة بلاغة القرآن، لما يكشفه من توفر عميق لأصل البلاغة ومراعاة مقتضى الحال، إلى جانب توفر عنصر آخر من سمات إعجاز القرآن هو انعتاقه من قيود الزمان والمكان وانطلاقه من إسار البيئة الضيقة ليحلق في علياء الموضوعية التي يخاطب بها الإنسان في كل زمان، وفي أي مكان. ضابط المكي والمدني: تعددت طرائق علماء هذا الفن في كيفية التمييز بين القرآن المكي والقرآن المدني، على ثلاثة نماذج نوضحها فيما يلي: المذهب الأول: أن القرآن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والقرآن المدني هو ما نزل بعد الهجرة. وهذا هو أشهر الاصطلاحات في المكي والمدني (¬1)، ويمتاز بشمول تقسيمه جميع القرآن لا يخرج عنه شيء، حتى كان عموم قولهم في المدني: «ما نزل بعد الهجرة» يشمل ما نزل بعد الهجرة في مكة نفسها في عام الفتح أو عام حجة الوداع، مثل آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .... ¬

_ (¬1) كما ذكر السيوطي في الإتقان ج 1 ص 9.

كما يشمل ما نزل بعد الهجرة خارج المدينة في سفر من الأسفار أو غزوة من الغزوات. روي عن يحيى بن سلام قال: «ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني». وهذا أثر هام ومفيد، يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحا (¬1). المذهب الثاني: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة. وهذا المذهب مكاني، قد تقيد بالتسمية المكانية، والتزم ظاهر التسمية، وإن كان شرّاحه أدخلوا في مكة ضواحيها، فاعتبروا من القرآن المكي ما نزل بمنى وعرفات والحديبية، ومن القرآن المدني ما نزل بأحد وسلع (¬2). لذلك كان في هذا الضابط ثلمة هي وجود قسم ثالث هو واسطة بين القسمين، وهو ما نزل من القرآن في الأسفار، فإنه لا يعد مكيا ولا مدنيا ... المذهب الثالث: أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة. وفسّر بهذا قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: «كل شيء نزل فيه: «يا أيها الناس» فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه «يا أيها الذين آمنوا» «فهو بالمدينة» (¬3). ¬

_ (¬1) كما قال السيوطي في الإتقان ج 1 ص 9. (¬2) المرجع السابق وزاد في ضواحي المدينة ذكر «بدر»، وهو مستبعد لبعدها الشاسع عن المدينة. (¬3) أخرجه الحاكم عن ابن مسعود، ويشهد له ما ورد بمثله عن كثير من المفسرين وعن ابن عباس، أنظر البرهان ج 1 ص 189 - 190.

أهمية علم المكي والمدني

غير أنا نرى أن هذا الأثر ليس صالحا للاستدلال لهذا المذهب لأن ابن مسعود لم يقصد وضع ضابط وتعريف للمكي والمدني، إنما أراد بيان علامة من علامات القرآن المكي والمدني، أو تفسيرا لبيان المراد بهذا الخطاب، وهو أمر أغلبي ليس مضطردا دائما كما سيتضح. وهذا المذهب في تفسير المكي والمدني أضيق من المذهب السابق، لأنه قد تقيد بالأشخاص المعينين في أمكنة معينة، وتقيد بموضوع معين هو ما كان فيه خطاب من آيات القرآن، فبقي القسم الأكبر من القرآن خارج هذا المنهج في تعريف المكي والمدني. ولهذا الذي ذكرناه في نقد المذهبين الثاني والثالث، كان المذهب الأول أكثر قبولا لدى العلماء، حتى كان هو الأشهر كما ذكرنا. ويندرج في ضمن المكي والمدني بناء على المذهب الأشهر المعتمد أنواع كثيرة من الدراسات المتصلة بالظروف المحيطة بنزول القرآن كالسفري والحضري، والليلي والنهاري، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وغير ذلك من دراسات تدل على الاعتناء العجيب الذي أحيط به هذا القرآن، وتوفير وسائل دراسته من جميع الجهات. وبناء على هذا الضابط المختار كان عدد السور المدنية تسعا وعشرين سورة، وسائر السور بعد ذلك مكية، وقد يوجد في السورة المدنية ما هو مكي، كما قد يوجد في السورة المكية ما هو مدني، والنظر في ذلك لمطلع السورة إن نزل بمكة عدّت مكية، وإن نزل بالمدينة عدّت مدنية. أهمية علم المكي والمدني: مما لا يخفى على الباحث أهمية معرفة الأحوال التي احتفت بنزول القرآن في فهمه وتفسيره، حتى صرحوا بأنه لا يحل لمن ابتعد عن علمها أن يتكلم في تفسير القرآن الكريم، ونوضح أوجه أهمية هذا العلم فيما يلي:

كيف نعرف المكي والمدني

1 - إن علم المكي والمدني يعين الدارس على معرفة تاريخ التشريع والوقف على سنّة الله الحكيمة في تشريعه، بتقديم الأصول على الفروع، وترسيخ الأسس الفكرية والنفسية ثم بناء الأحكام والأوامر والنواهي عليها، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الدعوة الإسلامية بالقبول، ومن ثم الإذعان لأحكامها. 2 - إنه يعرف بالمكي والمدني الناسخ والمنسوخ، الذي كان من حكمة تربية القرآن في التشريع. كيف نعرف المكي والمدني: ذكروا لمعرفة المكي والمدني طريقتين لا ثالث لهما، وهما: السماع والقياس (¬1). أما السماع: فالمراد به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة الذين عاينوا التنزيل. وقد كانت عناية الصحابة والتابعين بهذه الأمور عناية بالغة حتى نجد العالم يعتز بعلمه بهذا الموضوع. أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ... » (¬2). وقال أيوب السختياني سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن؟ فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع، أخرجه أبو نعيم (¬3). وأما القياس: فهو ضوابط عرفت بالاستقراء، واستدل بها العلماء على المكي والمدني، وكان ذلك موضع عناية المتقدمين. ¬

_ (¬1) البرهان نقلا عن الجعبري أنه حددهما ج 1 ص 189. (¬2) البخاري ج 6 ص 186 - 187 ومسلم ج 7 ص 148. (¬3) الإتقان الموضع السابق.

1 - أول هذه الضوابط ما سبق عن عبد الله بن مسعود: «كل شيء فيه يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو بالمدينة». وهذه العلامة ليست عامة عموما شاملا، بل استثني من ذلك مواضع قليلة، منها موضعان في سورة البقرة هما: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬1) ويا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً (¬2) وسورة البقرة مدنية كلها اتفاقا. وأربع مواضع في سورة النساء هي: الآية الأولى من السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ. وإِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ. ويا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ. ويا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ (¬3). 2 - كل سورة فيها الاستفتاح بالحروف المقطعة فهي مكية سوى الزهراوين: البقرة وآل عمران. 3 - كل سورة فيها كُلا فهي مكية. 4 - كل سورة فيها ذكر آدم وإبليس فهي مكية سوى السورة الطولى- أي البقرة-. 5 - كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية. 6 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت. والحكمة في ذلك ترجع إلى المقاصد الموضوعية التي نزل بها القرآن، فالخطاب في مكة كان لأمور اعتقادية تشمل كل الناس، وهي مناط إنسانيتهم، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 21. (¬2) سورة البقرة، الآية 168. (¬3) سورة النساء، الآيات 1 و 133 و 170 و 174، ولم نذكر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* في سورة الحج المكية، لأنها مكية ومدنية.

القرآن المكي من حيث الموضوع

فناسب خطابهم ب يا أَيُّهَا النَّاسُ كما أن محاورة أهل العناد تناسب حرف الردع كُلا، وكذلك التنويه بإعجاز القرآن لإفحام المنكرين، والاستفتاح بحروف الهجاء في أوائل السور، وقد وجد من ذلك قليل في القرآن المدني تبعا لاقتضاء الموضوعات المدنية التي كانت فترة بناء وكانت فترة مكة فترة تأسيس. القرآن المكي من حيث الموضوع: فمن سمات القرآن المكي الاعتناء بالموضوعات التالية الأساسية: 1 - تقرير أصول العقائد الإيمانية، بدعوة الخلق إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والإيمان باليوم الآخر وما يتبع ذلك من الجزاء والجنة والنار، وتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، والإيمان بالملائكة عليهم السلام. تأمل مثلا سورة القصص المكية ودعوتها لهذه الأصول، وانظر هذه الآيات التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (¬1). وتأمل هذه الآيات الخاتمة من سورة إبراهيم تعرض من مشاهد القيامة: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيات 69 - 73.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ. ويطمئن القلب إيمانا بالآخرة وهو يتفكر في مثل هذه الآيات من سورة ق: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (¬1). وهكذا الحجة البالغة في مثل هذه الآيات الخاتمة من سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى. 2 - الحملة على الشرك والوثنية، والإلحاد والدهرية، وإقامة الحجج والبراهين الدامغة على بطلان عقائدهم الزائغة، مستعينا بضرب الأمثال وأنواع البيانات، حتى كشف لهم سوأة عقائدهم وفضحها حتى جعل أصنامهم دون الذباب، تأمل هذه الآيات من سورة الحج أيضا: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (¬2). وتأمل قوله في سورة العنكبوت: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة ق، الآيات 6 - 11. (¬2) سورة الحج، الآيات 73 - 75. (¬3) سورة العنكبوت، الآية 41.

ولما كان التقليد منبعا خطيرا من منابع الضلال، واحتج المشركون بما وجدوا عليه آباءهم، عني القرآن بتوسيع آفاق العقل والفكر وأمر بالتفكر وحض على النظر والتعقل، وسفّه أحلامهم وأحلام آبائهم، حتى جعل التقليد الأعمى للآباء عارا وشنارا، يعتبر به المعتبر، فضلا عن تقليد الأعداء فيما يبتكرونه في الفكر من الأزياء. قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (¬1). وقال تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (¬2). 3 - الاستدلال بدلائل الأنفس والأكوان على عظمة الله تعالى وسلطانه، ووجوب طاعته والانقياد له، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته، والإيمان بالقيامة والبعث بعد الموت. حتى كانت في تلك الآيات دلائل إعجاز علمي، لما اشتملت عليه من حقائق الكون والإنسان والحياة، ونواميس خلقه تعالى وسنن تصريفه لأمور الأكوان. انظر هذه الآيات من سورة لقمان وما فيها من سبق علمي: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ¬

_ (¬1) سورة لقمان، الآية 21. (¬2) سورة الزخرف، الآيات 22 - 25.

إلى أن قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (¬1). وتأمل هذه الآيات من سورة الأنعام: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬2). 4 - اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء مع أقوامهم، حتى كاد ذلك أن يكون علامة تميزه، إذ لم يوجد قصص الأنبياء في القرآن المدني إلا في سور قليلة، كقصة موسى وقومه في سورة البقرة والمائدة وهما مدنيتان، وقصة عيسى وموسى عليهما السلام في سورة آل عمران والصف وهما مدنيتان أيضا. والحكمة في اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء والأمم الغابرة ظاهرة جدا مما ذكرناه في حكم نزول القرآن منجما، وما كان لها من أثر عظيم في ¬

_ (¬1) سورة لقمان، الآيات 20 - 27. (¬2) سورة الأنعام، الآيات 95 - 99.

تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومواساتهم فيما كان يصيبهم، وإنذار أعدائهم، وإثارة العبرة والعظة بقصص من سبقهم. انظر على سبيل المثال القصص في سور الأعراف، يونس، هود وغيرها وغيرها ... تجد فيها أبلغ المواعظ وأنفع العبر لتقرير سننه تعالى في إهلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان والإحسان. تأمل قوله تعالى في آخر قصة موسى مع فرعون في سورة غافر: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى. قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. 5 - إن القرآن المكي شرح أصول الأخلاق، وقواعد عامة في الاجتماع مما لا يختلف فيه حال ولا عقل، لكونها من البدهيات الظاهرة والمقوّمات الأساسية لإنسانية الإنسان، واطمئنانه بالإيمان، كالصدق، والبرّ، والصلة، وبرّ الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلب واللسان، وغير ذلك. وقد شرح القرآن تلك القيم ببيانه المعجز شرحا غرسها في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق، والظلم، ووأد البنات، والقتل والزنا. انظر هذه الآيات بالوصايا العشر الأخلاقية والاجتماعية في سورة الإسراء: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً.

القرآن المدني من حيث الموضوع

وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (¬1). القرآن المدني من حيث الموضوع: ومن سمات القرآن المدني الاعتناء بالموضوعات التالية: 1 - بيان جزئيات التشريع وتفاصيل الأحكام العملية، في العبادات كأحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والمعاملات كالبيوع والأموال، والاجتماعيات كالنكاح والطلاق والرضاع، والعقوبات كالحدود والقصاص كما هو ملاحظ في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور. 2 - دعوة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إلى الإسلام، وإقامة ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآيات 33 - 39.

القرآن المكي من حيث الأسلوب

الحجج عليهم، كما هو ملحوظ في سورة البقرة، وآل عمران، والمائدة وغيرها. انظر مثلا قوله تعالى لليهود: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وذلك بعد قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. 3 - وصف المنافقين، وكشف فضائحهم والتحذير من أساليبهم، لأن النفاق أخطر ما تبتلى به دعوة، حتى أنزلت سورة خاصة تحمل اسم المنافقين، وغير ذلك من مواضع في القرآن تتعلق بهم. 4 - بيان الأحكام الخاصة بالعلاقات بين الأمة الإسلامية وغيرها. وكان ذلك أول تنظيم وتقنين يحكم العلاقات بين الدول، كالأحكام المتعلقة بالحرب، والسلم والصلح، والمعاهدات، والغنائم والأسرى، كما في سور: البقرة والأنفال وبراءة والقتال والفتح والحشر، مما جعل القانون الدولي مدينا للقرآن في هذه الأحكام، ولا تزال الأصول القرآنية في هذا الباب نبراسا يعمل بها القانون الدولي في هذا العصر. القرآن المكي من حيث الأسلوب: وإذا كان لكل من القرآن المكي والمدني موضوعات يعنيان بها، فلا غرو أن تكون لهما أساليبهما التي تميز أحدهما عن الآخر في كثير من الأحيان بحسب تنوع الموضوعات التي يعالجها القرآن مكيا كان أو مدنيا. ذلك أن المبنى والمعنى، والشكل والمضمون ركنان متآزران في الأداء القرآني، كل فكرة لها قالب، ولها أسلوب وتناغم خاص، وإثارة معينة للخيال والعاطفة. فمن سمات أسلوب القرآن المكي:

1 - أنه يغلب عليه قصر الآيات والسور، وقوة التعبير والتناغم الموسيقى. 2 - كثرة الفواصل القرآنية وقصرها، وتنوعها بما يتناسب مع المعاني والمواقف والصور. 3 - كثرة أسلوب التأكيد، والاعتناء بوسائل التقرير أي ترسيخ المعاني وتثبيتها، فكثر في المكي القسم، وضرب الأمثال، والتشبيه وتكرار بعض الجمل أو الكلمات. 4 - إن الآيات المكية يكثر فيها التجسيم الحسي، وإضفاء الحركة وخواص الحياة على الأشياء، ولا سيما في مشاهد القيامة، وأهوال النار، وبيان أحوال أهل الجنة والنار، وكذلك القصص. والحكمة في اختيار هذه الأساليب للقرآن المكي واضحة ظاهرة لنزول القرآن بمكة، وكان أهلها ينكرون دعوة القرآن وهم أصحاب عنجهية، وحمية جاهلية، فكان المناسب لهم النذر القارعة، والعبارات الشديدة الرادعة ليزدجروا عن غيّهم، ويسلسلوا قيادهم أمام التأكيدات والتخييلات الحسية، كما أن مضمون خطابات القرآن في مكة لا يختص بالمؤمنين، بل يتوجه للناس أجمعين، يحمل الدعوة إلى أصول الإيمان، فكان من المناسب أن يبرز في إعجازها عنصر الجانب الصوتي، والجرس الموسيقى، فتصخ آياته الآذان، وتستولي على المشاعر وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون، فلا يلبث البليغ منهم أن يلقي عصا العجز، بل يرسلها قولة صريحة تعلن إعجاز القرآن. ومن أمثلة ذلك المعروفة: الوليد بن المغيرة القرشي، الذي لم يلبث بعد أن سمع القرآن سماع تأمل وتروّ أن تغير موقفه حتى شهد للقرآن بالإعجاز فقال: «والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى».

القرآن المدني من حيث الأسلوب

ولما أكرهه أصحابه المشركون على أن يقول قولا ينصر آلهتهم ويرضيهم لم يتمكن من إخفاء الصراع الذي في نفسه، فاستمهلهم وقتا ليفكّر، ثم خرج ليقول: إن القرآن سحر يؤثر يأخذه محمد من بعض العالمين بالسحر. فأنزل الله تعالى فيه: ... إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... فتأمل هذه الآيات كيف صورت صراعه النفسي، وتكلفه الشديد ذلك التصوير المعبّر الموحي، الذي صار مثلا يضرب في الجهد العظيم، الذي يخرج بعده صاحبه بالقول الباطل العقيم. القرآن المدني من حيث الأسلوب: ومن سمات أسلوب القرآن المدني: 1 - طول أكثر السور والآيات، كما هو واضح ظاهر من سورة البقرة وآل عمران مثلا. 2 - أنها غالبا ما تسلك سبيل الهدوء، واللين في أسلوبها، واسترسال فواصلها. والحكمة في اختيار هذا الأسلوب اشتمال القرآن المدني على الموضوعات السابقة، وهي تقتضي البسط والإسهاب، كما أن الخطاب في المدينة توجّه في أكثره للمؤمنين وذلك يناسب الهدوء واللين. مناقشة المستشرقين حول المكي والمدني: ومن ذلك نتبين فساد ما توهمه بعض المستشرقين، ومن تبعهم من ببغاوات تتلمذت عليهم من أبنائنا من توهم أو تصور ما زعم من تأثر القرآن بالبيئة، وأن القرآن لما كان في مكة بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة، ولما وجد في المدينة بين مثقفين مستنيرين جاءت سور المدني وآياته طويلة، وجاء القرآن المكي لذلك خلوا من التشريع والأحكام، بينما القسم

المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام، بل بلغ الأمر بهذا الزاعم أن قال: «إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين فيقول: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. هكذا يستدل هذا الزاعم بهذه الاستدلالات على ما توهمه من تأثر القرآن بالبيئة واقتباسه منها ... (¬1). وهذا في الواقع تجنّ واختلاق، صادر عن سفيه جهول، أو آفك مغرض متحامل حقود، ونورد إلماحات وجيزة لرد هذا الزعم فيما يلي: 1 - إن سمات المكي والمدني الأسلوبية وكذا الموضوعية خاضعة لقضية البلاغة الجوهرية والمسلمة لدى كل ذي إلمام بالبلاغة والبيان عربيا أو غير عربي، وهي مراعاة مقتضى الحال، كما ذكرنا من قبل، لذلك نجد في المكي سورا طوالا بل من أطول الطوال ونجد في المدني سورا قصارا وفيها الآيات والفقرات القصيرة، بل من أقصر القصار، كما في سورة «الفتح» وسورة «الكوثر» وهي أقصر سورة في القرآن وهي مدنية كما ثبت بذلك الحديث الصحيح الذي لا يقاوم. كذلك نجد في المدني شدة أحيانا، كما في هذه الآيات من مطلع سورة «الصف» المدنية بالاتفاق: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل عبارات هذه الفقرة ومناقشتها في كتاب: مناهل العرفان ج 1 ص 198 - 232 والمدخل إلى دراسة القرآن الكريم لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد

بل نجد في المدني ما بلغ الغاية في الشدة والتخويف، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران (¬1): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. كان الإمام أبو حنيفة يقول (¬2) في هذه الآية: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. كما قد نجد كذلك في المكي اللين والعفو البالغ أقصاه، كقوله تعالى في سورة «فصّلت» (¬3): وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. 2 - إن ادعاء خلو القرآن المكي من الحجج والأدلة قلب للقضايا وعكس للأوضاع ومناقضة للحقائق، فالقرآن المكي من سماته الموضوعية كما ذكرنا اعتناؤه بالدلائل العلمية الكونية على عظمة الله تعالى ووحدانيته، وعلى إبداع حكمته وجليل علمه وقدرته، حتى كانت فيه دلائل الإعجاز العلمي، الذي ألّفت ولا تزال الكتب تؤلّف في كشف عجائب هذا الإعجاز، وأسرار دلالته على موافقة ما يكشفه العلم بعد هذه القرون والحقب الطوال. ¬

_ أبو شهبة وقد عني بذكر عبارات هذا الزاعم بنصها ص 232 - 251. (¬1) الآيات 130 - 132. (¬2) كما في تفسير الكشاف للزمخشري ج 1 ص 318. (¬3) الآيات 23 - 25.

وكذلك نجد في القرآن المكي الدلائل العقلية القاطعة على حقّيّة التوحيد، والقيامة، وبعث الرسل وغير ذلك، وقد سبقت لنا آيات من سورة «يس» في دلائل القيامة، وانظر قوله تعالى في إثبات التوحيد في سورة «المؤمنون» المكية (¬1): مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. 3 - إن هذا الزاعم قد حكم على نفسه بالجهل المطبق أو التجاهل والتجني المهلك، فإن الآية التي أوردها على أنها من المدني: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، إنما هي من القرآن المكي، وهي الآية (22) من سورة الأنبياء، وهي مكية كلها، وهذه الآية مكية بالإجماع. وهكذا كان دأب الباطل أن يتّخذ الإفك وتحريف الحقائق ذريعة يسند إليها باطله وجحوده، سواء كان صاحبه جاهليا قديما، أو عصريا حديثا، ويريد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الجاحدون. ¬

_ (¬1) الآيتان 91 - 92.

الفصل الثامن التفسير أصوله ومصادره

الفصل الثامن التفسير أصوله ومصادره هذا البحث هام وجليل، فإنه يحتل بين بحوث علوم القرآن منزلة الغاية من الوسيلة، والهدف من المقدمات، قد سمى بعض أساتذتنا الأفاضل (¬1) كتابه في علوم القرآن: «المدخل إلى دراسة القرآن الكريم» فأصاب بتسميته مفصل القضية ولبابها. وكثرت الكتابة في أصول التفسير ومنها مؤلفات مفردة نذكر منها: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، وكتاب «التفسير والمفسرون» للدكتور الشيخ محمد حسين الذهبي. تعريف التفسير: التفسير في اللغة: التفسير مأخوذ من الفسر، وهو الإبانة والكشف، قال في لسان العرب في مادة (ف س ر): الفسر البيان، فسر الشيء يفسره بكسر السين، ويفسره بالضم فسرا، وفسّره أبانه. ثم قال: «الفسر: كشف المغطى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل». والتفسير اصطلاحا: هو: «علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه» (¬2). ويستعمل العلماء أيضا عبارة (التأويل) ونعرفه فيما يلي: التأويل في اللغة: مأخوذ من الأول، وهو الرجوع. قال في القاموس: ¬

_ (¬1) فضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد محمد أبو شهبة رحمه الله. (¬2) الإتقان ج 2 ص 174.

وأما التأويل اصطلاحا

«آل إليه الأمر أولا ومآلا: رجع، وعنه ارتد ... ». وأما التأويل اصطلاحا: فنختار لتعريف التأويل بالنسبة لدراسة القرآن هذا التعريف وهو: «التأويل: بيان ما يرجع إليه معنى القرآن بمقتضى القواعد والنظر الدقيق» (¬1). على أنه قد يطلق «التأويل» ويراد به ما يشمل التفسير، كما هو استعمال الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره، فإنه يصدّر الآية قبل الكلام عليها بقوله: «القول في تأويل قوله تعالى ... كذا ... ويذكر ما هو من التفسير، وما هو من التأويل. مراتب التفسير وحكمها: وقد ورد في ذلك بيان عن أقدم إمام في التفسير هو رئيس المفسرين عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، نورده بلفظه، قال ابن عباس: (التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله). وهو تقسيم صحيح ودقيق (¬2): أما التفسير الذي تعرفه العرب بلغاتها: فهو ما يرجع إلى اللسان العربي من اللغة والإعراب وعلوم العربية. وأما التفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته: فهو ما يظهر للأفهام معرفة معناه من القرآن ظهورا لا خفاء فيه. وأما التفسير الذي يعلمه العلماء: فهو ما يرجع إلى اجتهادهم ودقة نظرهم في استنباط دقائقه من المعاني الخفية أو أوجه البلاغة المعجزة، أو الأحكام الفقهية، أو غير ذلك بحسب اختصاص العالم الباحث. ¬

_ (¬1) انظر البحث في الفرق بين التأويل والتفسير في الإتقان ج 2 ص 173 والتفسير والمفسرون ج 1 ص 19 - 22. (¬2) كما في البرهان والإتقان ج 2 ص 182.

أقسام التفسير من حيث منهجه العلمي

وأما القسم الرابع: فهو ما يتعلق بحقائق المغيّبات كالروح والملائكة، فهذه يفوّض علمها على حقيقتها إلى الله تعالى. أقسام التفسير من حيث منهجه العلمي ينقسم التفسير من حيث منهجه العلمي إلى قسمين رئيسيين هما: التفسير المأثور، والتفسير بالرأي، نبحثهما فيما يلي: القسم الأول: التفسير بالمأثور ويشمل ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل وما نقل عن الرسول وأصحابه. أما ما ينقل عن التابعين فبعض العلماء يعتبره من المأثور وبعضهم يعتبره من التفسير بالرأي، ولكن كتب التفسير بالمأثور قد ضمت ما نقل عن التابعين في التفسير، ولذلك نعتبره مدرجا في التفسير المأثور. التفسير المأثور أول أنواع علوم القرآن تدوينا، وكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا. ويقولون: إن أول من جمع فيه هو الإمام مالك بن أنس، ثم انفصل التفسير عن الحديث فألّفت في القرن الثاني تفاسير جمعت أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج وغير ذلك وقد جمعها ابن جرير في تفسيره الكبير. أسباب الضعف في التفسير المأثور: تسرب الخلل إلى التفسير المأثور لا سيما ما كان عن الصحابة والتابعين إلى حد كاد يفقد الثقة به لولا جهود العلماء رضي الله عنهم، حتى قال الشافعي: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث». ونستطيع أن نجمل أسباب الضعف في أمور ثلاثة: أولها: دخول الإسرائيليات. ثانيا: حذف الأسانيد.

السبب الأول: الإسرائيليات

ثالثا: كثرة الوضع في التفسير. السبب الأول: الإسرائيليات: والمراد بها اللون اليهودي واللون النصراني في التفسير وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية. ومبدأ دخولها في التفسير يرجع لعهد الصحابة، غير أن الصحابة وإن تشوقوا لمعرفة التفاصيل لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء ولم يقبلوا منهم كل شيء، مع توقفهم فيما يلقى إليهم ما دام يحتمل الصدق والكذب، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله» (¬1). فلم يسألوهم عن شيء يتصل بالعقيدة ولم يعدلوا عما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة ... وهكذا لم يخرج الصحابة عن دائرة الجواز التي حددها لهم الرسول في قوله: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» (¬2). كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا». أباح الأول أن يحدثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب للعبرة والعظة بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا، والثاني يراد منه التوقف فيما يحدّث به أهل الكتاب مما يكون محتملا للصدق والكذب، أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه. أما التابعون: فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب وكثرت في عهدهم الروايات الإسرائيلية لكثرة من دخل منهم في الإسلام، فظهرت في هذا العهد جماعة حشوا التفسير بكثير من القصص المتناقضة كمقاتل بن سليمان. وهكذا تزايد أمر الإسرائيليات حتى كان جماعة بعد عصر التابعين لا يردون قولا، ثم في عصر التدوين وجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذه القصص الإسرائيلية؟. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري: 4: 170. (¬2) أخرجه البخاري أيضا: 6: 20 - 21.

أثر الإسرائيليات في التفسير

أثر الإسرائيليات في التفسير: كان للإسرائيليات أثر سيّئ لأن الأمر لم يقف على ما كان في عهد الصحابة، بل زاد ودخل فيه النوع الخيالي المخترع. فوضعوا الشوك في طريق المفسر، إذ أنه أصبح يشك فيها جميعا لاعتقاده أن الكل من واد واحد. وتنقسم الإسرائيليات إلى ثلاث أقسام: الأول: ما يعلم صحته بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح مقبول. وكذا إذا كان له شاهد من الشرع يؤيده. الثاني: ما يعلم كذبه فلا يصح قبوله ولا روايته. الثالث: مسكوت عنه لا هو من الأول ولا من الثاني، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته للحديث السابق ... وهذا القسم غالبه مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. موقف المفسر إزاء الإسرائيليات: يجب أن يكون المفسر يقظا جدا ليستخلص ما يوافق العقل ويتقيد بمقدار الضرورة. ويجب أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا وجد في سنة نبينا- صلى الله عليه وسلم- بيانا للقرآن، ويجوز أن يذكر خلاف المتقدمين بشرط أن لا يطلقه بل ينبه على الصحيح ويزيف غيره، لئلا يوقع القراء في الاضطراب، على أن من الخير للمفسر كل الخير الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يعد صارفا عن القرآن وشاغلا عن التدبر في حكمته وأحكامه. وأشهر الرواة للإسرائيليات: 1 - عبد الله بن سلام. 2 - كعب الأحبار. 3 - وهب بن منبه. 4 - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

السبب الثاني لضعف التفسير المأثور: حذف الإسناد

السبب الثاني لضعف التفسير المأثور: حذف الإسناد: منذ ظهر الوضع في عصر الصحابة صاروا يسألون عن الإسناد، فكان ما يروونه من التفسير المأثور عن النبي أو الصحابة لا يروونه إلا بإسناد، ثم جاء بعد عصر التابعين من جمع التفسير، فدوّن التفسير المأثور بإسناده كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح، ثم جاء بعد هؤلاء أقوام ألفوا في التفسير فاختصروا الأسانيد وأهملوا عزو الأقوال لقائليها ولم يتحروا الصحة فالتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من يسنح له قول يورده وينقل ذلك من بعده ظانا له أصلا، ولعل هذا أخطر الأسباب جميعا، لأن حذف الأسانيد جعل من ينظر في هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها. السبب الثالث: الوضع: وقد كثر الوضع أي الكذب في الحديث والتفسير، وأثّر الوضع بأن ضاع كثير من هذا التراث الذي خلفه لنا السلف، لأن ما أحاط به من شكوك أفقدنا الثقة به، وجعلنا نرد كل رواية تطرق إليها شيء من الضعف، وربما كانت صحيحة، كما أن اختلاطها جعل بعض من ليس قادرا على التمييز بين الصحيح والعليل يحكم على الجميع بالصحة. وأهم المصنفات في التفسير المأثور: 1 - جامع البيان في تفسير القرآن للطبري. 2 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير. 3 - لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن. 4 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن، للثعالبي. نعرف بمؤلفيها وبمناهجهم في هذه الكتب بإيجاز فيما يلي: 1 - جامع البيان في تفسير القرآن للطبري: مؤلفه: هو الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري الإمام الجامع للعلوم والمعارف والمجتهد المطلق، ولد في آمل طبرستان (سنة 224 هـ) واستقر به

طريقة الطبري في تفسيره

المقام بعد أن نضج واكتمل في مدينة بغداد حتى توفي سنة 310 هـ. وكان محمد بن جرير كما وصفه المؤرخون: أحد الأئمة الأعلام، يحكم بقوله، ويرجع إليه لمعرفته وفضله، جمع من العلوم مع التقدم والإمامة فيها ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا للقراءات عارفا بها، عارفا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن- عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، وناسخها من منسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس والأمم وتاريخهم وأخبارهم. وأما مؤلفاته فكثيرة وبالفوائد حافلة وغزيرة، أشهرها تأليفه في التاريخ وتأليفه في التفسير، حتى عد بحق شيخ المؤرخين وشيخ المفسرين. طريقة الطبري في تفسيره: كتاب «جامع البيان في تفسير القرآن» كاسمه كتاب جامع ومرجع واسع في هذا الفن، قد تعرض فيه مؤلفه لدراسة القرآن الكريم من جوانب متعددة من حيث اللغة والنحو والاشتقاق وغير ذلك ومن حيث الرواية والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين، والترجيح بينها، واستنباط الفوائد والأحكام، وبيان المذاهب والأدلة، حتى ليمكن أن يعتبر من مراجع التفسير بالرأي، لما اشتمل عليه من تلك الفنون، لكنه اعتبر من كتب التفسير بالمأثور لاعتنائه بالآثار عناية كبيرة. وقد أجمع العلماء من الشرق والغرب على عظمة هذا الكتاب وأنه مرجع لا يستغني عنه باحث في التفسير. يستهل ابن جرير كلامه على الآية أو الجملة من الآية بهذه العبارة: «القول في تأويل قول الله تعالى ... كذا وكذا ... ثم بعد أن يذكر نص الآية أو الجملة يفسرها، ويستشهد لما يقول بشواهد اللغة والآثار، ويورد الأقوال وينقد ويناقش. ومن أمثلة بحثه اللغوي تفسير كلمة (اسم) في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

حيث قال: « ... وإنما معنى قوله «بسم الله» أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي الله ... ثم قال: فإن قال (أي معترض): فإن كان الأمر على ما وصفت فكيف قيل «بسم الله» وقد علمت أن الاسم اسم وأن التسمية مصدره (¬1). قيل: إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامة، وإنما بناء مصدر (أفعلت) إذا أخرج على فعله (الإفعال)، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما. وبناء مصدر (فعّلت) التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر: أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا يريد إعطائك ... إلى آخر ما أورده من الشواهد ... ومن أمثلة بحثه الإعرابي ما يلي نصه من كلامه رحمه الله: «القول في تأويل قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. قال أبو جعفر: والقراء مجمعة على قراءة «غير» بجر الراء منها، والخفض يأتيها من وجهين: أحدهما: أن يكون «غير» صفة «الذين» ونعتا لهم فتخفضها، إذ كان «الذين» خفضا، وهي لهم نعت وصفة. وإنما جاز أن يكون غير نعتا ل «الذين» و «الذين» معرفة و «غير» نكرة لأن «الذين» بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة (¬2) كالأسماء التي هي أمارات بين الناس، مثل زيد وعمرو وما أشبه ذلك. وإنما هي كالنكرات المجهولات مثل الرجل، والبعير وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) المراد أن كلمة (اسم) ليست مصدرا وأنت فسرتها «بتسمية الله» والتسمية مصدر، فكيف تفسر الاسم بالمصدر. (¬2) أي المعينة وهي اسم العلم الشخصي.

والوجه الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون «الذين» بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وجه إلى ذلك كانت «غير» مخفوضة لتكرير «الصراط» (¬1) الذي خفض «الذين» عليها، فكأنت قلت: صراط الذين أنعمت عليهم، صراط غير المغضوب عليهم. وهذان التأويلان في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وإن اختلفا في اختلاف معربيهما فإنهما يتقارب معناهما ... » انتهى. ومن أمثلة استشهاده بالمأثور أنه بعد أن فسر قوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بأنهم من ذكرهم الله في القرآن: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. استشهد بالآثار فقال: «وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس وغيره: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا بشر بن عمارة قال حدثنا أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يقول: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أطاعوك وعبدوك. حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال أخبرنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر عن ربيع قال صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: النبيون. حدثني القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: المؤمنين ... حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه» انتهى. ¬

_ (¬1) يريد أن تكون (غير) بدلا كما سيتضح لك من تفسير الجملة على هذا الوجه.

2 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير

ويمتاز عمل ابن جرير في التفسير بالمأثور أنه يورد الروايات بأسانيدها، لكنه وقد التزم هذا الأسلوب لم يلتزم الصحة فيما يورده، كما أنه قلّما يعقّب على الروايات بتصحيح أو تضعيف، وذلك لأنه كان يرى- فيما يبدو- أن من أسند فقد حمّلك البحث عن رجال السند ودرسه، وكان عصره عصر العلم بهذا الفن يسهل على طالب العلم معرفة حال الروايات أسانيد ومتونا، فاعلم ذلك وراعه. 2 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير: هو الإمام المحدث الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير البصيري ثم الدمشقي، الفقيه والمفسر والمؤرخ ولد نحو سنة (700 هـ) وتوفي سنة (774 هـ) وكان أبو الفداء إسماعيل بن كثير على مبلغ عظيم من العلم الذي تجلّى في تفسيره، وتاريخه (البداية والنهاية) حتى ليمكن أن نقول: «إنه منقح التفسير، ومحقق التاريخ». قال عنه الذهبي في المعجم المختص: «الإمام المفتي المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة». وقال ابن حبيب فيه: «زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والتفسير». طريقة هذا التفسير: اتبع الإمام ابن كثير في تفسيره هذا طريقة نبّه عليها في مقدمته القيّمة التي صدر بها لتفسيره بأن يفسر القرآن بالقرآن، ثم يفسر القرآن بالسنة، ثم بالآثار عن الصحابة والتابعين. وقد أتى في ذلك بغرر تفاسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، ومصادر السنة مع العزو إلى كل مصدر، وذكر إسناده غالبا. على أنه يعنى كذلك باللغة عند الحاجة لذلك، ويدعم تفسيره المنقول

3 - لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن

بذلك، ويمتاز تفسيره بالانتقاء لمادة الكتاب، وأنه كثيرا ما ينقد الرواة والروايات ويصحح ويضعف، ويجرح ويعدل، وينبه إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات ويحذر منها. ومن الأمثلة من هذا التفسير تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال ابن كثير (ثم) هاهنا عطف خبر على خبر وترتيبه عليه كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشا فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ويقولون: نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن حازم حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمّون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. وكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة، والسدّي، وغيرهم، واختاره ابن جرير وحكى عليه الإجماع، رحمه الله. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة، فذهبت أطلب، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف، قلت: إن هذا من الحمس ما شأنه هاهنا؟ أخرجاه في الصحيحين ... ». والكتاب مطبوع طبعات متعددة أحسنها تحقيق عبد العزيز غنيم وزملائه. 3 - لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن: وهو العلّامة علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الشّيحي

طريقة هذا التفسير

البغدادي الشافعي الصوفي، عرف بالخازن، لأنه كان خازن كتب خانقاه السميساطية بدمشق. ولد ببغداد سنة 678 هـ وسمع من علمائها ثم قدم دمشق وتلقّى فيها العلم حتى تمكن، فاشتغل بنشر العلم والتأليف وكانت له مؤلفات كبيرة وكثيرة، أشهرها كتابه في التفسير، وتوفي سنة 741 هـ. طريقة هذا التفسير: اختصر الخازن تفسيره هذا من تفاسير من سبقه ولا سيما تفسير «معالم التنزيل» للبغوي، فكان عمله فيه كما ذكر في مقدمته النقل والانتخاب، مع حذف الأسانيد وتجنب التطويل والإسهاب. وعني فيه بتخريج الأحاديث النبوية من الصحيحين والسنن الأربعة وغيرها وشرح غريب الأحاديث التي يوردها، وهو في الواقع يكثر من التفسير المأثور، مما جعلنا نضمه إلى هذه الزمرة خلافا لما صنعه بعض الكاتبين حيث صنفه ضمن كتب التفسير بالرأي، وكأنه اغتر بعنوان «لباب التأويل». وقد عرف هذا التفسير بتوسعه في رواية الإسرائيليات وأخبار الأمم الماضية والأخبار التاريخية، حتى جعله هذا التوسع يورد أمورا مما لا يسلم أمام النقد العلمي. لكن للخازن طريقة خاصة في إيراد هذه الروايات، هي أنه يصدرها بلفظ يشعر بعدم جزمه بها، مثل (يروى) أو (روى) أو (عن فلان)، وما أشبه ذلك من عبارات، وهو أسلوب اصطلح عليه العلماء رمزا إلى أنّ ما صدر بمثل هذه الصيغ فهو ضعيف أو مشكوك فيه، وهذا يتيح فرصة حسن الإفادة منه لمن أوتي حظا من التيقظ والتنبه. 4 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي: هو الإمام العالم المحقق أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، الجزائري، المالكي، المتوفى سنة 876 هـ عن عمر يقارب تسعين سنة ودفن في الجزائر رحمه الله ورضي عنه.

طريقة الثعالبي في تفسيره

كان الثعالبي من كبار العلماء العاملين ورعا زاهدا: معرضا عن الدنيا وكان إماما علّامة مصنفا، صنّف كتبا كثيرة نافعة منها: «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» الذي نحن بصدده. طريقة الثعالبي في تفسيره: نستطيع أن نعتبر تفسير الثعالبي صفوة منتخبة ومستخلصة من مصادر كثيرة في هذا الفن، وقد ذكر في ديباجة هذا التفسير أنه جمعه من كتب الأئمة، وثقات أعلام هذه الأمة، وذلك قريب من مائة تأليف، ما فيها تأليف إلا وهو لإمام مشهور بالدين ومعدود في المحققين. وقد اشتمل الكتاب بهذا على فوائد هامة نظرا لنقوله الكثيرة عن مصادر مفقودة، كما أنه يمتاز بوضوح العبارة وسلاسة الأسلوب، مع احتياطه في شأن الاسرائيليات. وهذا مثال منه من تفسيره لبعض قصار السور وهي سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. قال الثعالبي ما نصه: «روي في سبب نزول هذه السورة عن ابن عباس وغيره أن جماعة من صناديد قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: دع ما أنت فيه ونحن نمولك ونملكك علينا، وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا، ونعبد إلهك حتى نشترك، فحيث كان الخير نلناه جميعا. وروى أن هذه الجماعة المذكورة هم: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأمية بن خلف، وأبيّ بن خلف، وأبو جهل وأبناء الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يكتب له الإسلام وحتم بشقاوته. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الله عز وجل أنه لا يعبد ما يعبدون وأنهم غير عابدي ما يعبد. ولما كان قوله: لا أعبد، محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه من عبادته «جاء البيان بقوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي أبدا» ثم جاء قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدا، كالذي كشف الغيب ... إلى آخر ما ذكر.

القسم الثاني من أقسام التفسير التفسير بالرأي

القسم الثاني من أقسام التفسير التفسير بالرأي معنى التفسير بالرأي: هو تفسير القرآن بالاجتهاد اعتمادا على الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر. وقد اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير القرآن بالرأي: فقوم تشددوا ولم يبيحوا تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه أثر من المرفوع أو الموقوف، وقوم لم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم. وقد استدل المانعون بما يلي: أولا: التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، وذلك منهي عنه لقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. والقول بالظن قول على الله بغير علم كذلك. وقد رد المجيزون هذا الدليل بمنع دلالته لأن الظن نوع من العلم، إذ هو إدراك الطرف الراجح وعلى تسليمها نمنع الاستدلال الآخر لأن الظن منهي عنه إذا أمكن العلم اليقيني القطعي بأن يوجد نص شرعي قاطع أو دليل عقلي موصل لذلك. ثانيا: قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فقد أضاف بيان القرآن إليه فعلم أن ليس لغيره شيء من ذلك. وأجيب بأن النبي لم يبيّن كل شيء، وقد اكتفينا ببيانه فيما بيّنه، وما لم يرد بيانه عنه ففيه اجتهاد أهل العلم كما قال في آخر الآية: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ثالثا: استدلوا بما ورد في السنة المرفوعة، كحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». حديث حسن.

وحديث جندب: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». وقد أجيب بأن النهي محمول على من قال برأيه فيما لا يعلم إلا عن طريق النقل وأنه أراد بالرأي الرأي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، فيتناول من يعرف الحق لكنه يميل إلى رأي من طبعه وهواه فيتأول القرآن وفق هواه، ويتناول من كان جاهلا فيحمل الآية على ميله وهواه، ويتناول من يستدل بالقرآن على غرض صحيح غير مقصود به ما أراد، كمن يستدل ب اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى على مجاهدة النفس بحمل فرعون على النفس. وأجيب أيضا بحمل النهي على من يقول في القرآن بظاهر العربية دون رجوع لما يجب معرفته على من يتكلم في التفسير. على أن حديث جندب ضعيف، فيه: سهل بن أبي حزم وهو ضعيف متكلم فيه (¬1). واستدل الفريق الثاني وهم الجمهور على جواز التفسير بالرأي بما يأتي: أولا: بنصوص كثيرة وردت في القرآن نحو أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ. فقد حثّ سبحانه على تدبر القرآن، بل وبخ الذين لا يتدبرونه. ثانيا: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا، وهذا باطل بيّن البطلان. ثالثا: ثبت أن الصحابة قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسير القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، بل توصلوا إلى معرفة البعض بعقولهم، ولو كان التفسير بالرأي محظورا لما فعلته الصحابة. ¬

_ (¬1) راجع مقدمة التفسير لابن تيمية ص 29 - 31 ومقدمة التفسير للراغب الأصفهاني ص 422.

التحقيق في الموضوع

رابعا: استدلوا بدعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل لما كانت فائدة في تخصيص ابن عباس بهذا الدعاء (¬1). التحقيق في الموضوع: لو عرفنا سر المتشددين في التفسير ووقفنا على شروط تفسير القرآن بالرأي عند المجوزين للتفسير بالرأي لظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي، وذلك لأن الرأي قسمان: قسم جار على كلام العرب مع مراعاة سائر شروط التفسير وهو جائز لا شك فيه. وقسم غير جار على قوانين العربية أو لا يوافق الأدلة الشرعية أو غير مستوف لشروط التفسير، وهذا هو مورد النهي، وهو مراد ابن مسعود بقوله: «ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع»، وقال عمر بن الخطاب: «إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه». وهذا هو الذي يفسّر عليه كلام المانعين للتفسير بالرأي. قال ابن تيمية: «فهذه الآثار الصحيحة عن السلف، وما شاكلها محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فلا حرج عليه ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد ... ». العلوم التي يحتاج إليها المفسر: والتمكن منها شرط أساسي للباحث في التفسير، وهي: 1 - علم اللغة. ¬

_ (¬1) انظر هذه وغيرها في المرجعين السابقين والموافقات للشاطبي ج 3 ص 421 - 422.

أهم كتب التفسير بالرأي

2 - علم النحو والصرف والاشتقاق. 3 - علوم البلاغة. 4 - علم القراءات. 5 - علم أصول الدين. 6 - أصول الفقه. 7 - الأحاديث المبينة للتفسير، مثل أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، أو ما فيه بيان لتفسير المجمل أو المبهم ... 8 - علم القصص. 9 - علم الموهبة، وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم، كما ورد في الحديث وقد اختلف العلماء في سرد هذه العلوم إسهابا وإيجابا. 10 - الإلمام بمسلّمات العلوم الحديثة. وللشيخ محمد عبده في مقدمة تفسير المنار كلمة يحسن الرجوع إليها تتميما للفائدة. أهم كتب التفسير بالرأي: 1 - الكشاف، للزمخشري. 2 - أنوار التنزيل وحقائق التأويل، للبيضاوي. 3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، للنسفي. 4 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السعود العمادي. 5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي. نتكلم عنها باختصار فيما يلي (¬1): 1 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري: وهو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المعتزلي، الملقب بجار الله، لإقامته بمكة ومجاورته بها. ¬

_ (¬1) ونرجو ممن يدرس الموضوع أن يرجع إلى هذه الكتب نفسها في ضوء دراستنا الموجزة للاستزادة من فهمها.

طريقته في تفسير الكشاف

ولد سنة 467 في زمخشر من قرى خوارزم وتوفي في جرجانية خوارزم سنة 538. وحاز الزمخشري في العلوم القدم الراسخ، ولا سيما علوم اللغة العربية، وبلاغتها، وعلوم التوحيد والجدل على طريقة المعتزلة ومذهبهم، وكان مستعلنا بتأييد المعتزلة، يفخر بانتمائه إليهم ويتعصب لهم تعصبا شديدا. طريقته في تفسير الكشاف: 1 - غلب عليه إظهار ثروة القرآن البلاغية التي لها أثر كبير في عجز العرب عن معارضته وقد تأثر بهذه الطريقة جميع المفسرين الذين جاءوا بعده، ولذلك امتاز تفسير أهل المشرق على أهل الأندلس بهذا الفن في التفسير. 2 - يتعرض بدون توسع إلى المسائل الفقهية التي تتعلق ببعض الآيات باعتدال، ودون تعصب لمذهبه الحنفي، انظر تفسيره وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ .... 3 - يقل من الروايات الإسرائيلية، وما يذكر منها يصدّره بلفظ «روي» المشعر بالضعف، أو يفوض علمها إلى الله، وهذا غالبا فيما لا مساس له بالدين، وأحيانا ينبه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو الضعف. 4 - انتصاره لمذهبه: مثل اهتمامه بآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في الاستدلال على خلود أهل الكبائر في النار، كما هو مذهب المعتزلة. 2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي: وهو قاضي القضاة: ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي، البيضاوي الشافعي، من بلاد فارس. قال فيه ابن قاضي شهبة: «صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، ولي قضاء شيراز». توفي 691 هـ. التعريف بالتفسير وطريقته: تفسير العلّامة البيضاوي: متوسط الحجم جمع التفسير والتأويل، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السنّة. اختصر البيضاوي تفسيره من الكشاف للزمخشري، وترك ما فيه من الاعتزالات وأحيانا يذهب إلى ما يذهب إليه صاحب الكشاف وبعض المفسرين

3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل: للنسفي

كأن يذكر في نهاية كل سورة حديثا في فضلها. وليتهم لم يفعلوا ذلك، لأن الحديث المروي في فضل سور القرآن سورة سورة موضوع كما بين المحدثون (¬1). كما استمد تفسيره من التفسير الكبير المسمى: بمفاتيح الغيب للفخر الرازي، ومن تفسير الراغب الأصفهاني، وضمّ لذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، غير أنه أعمل فيه عقله فضمنه استنباطات بلاغية دقيقة، في أسلوب رائع موجز، ويورد أحيانا القراءات ولا يلتزم المتواتر منها، ويعرض للصناعة النحوية ويتعرض لبعض المسائل الفقهية بدون توسع. وكثيرا ما يقرر مذهب أهل السنّة ومذهب المعتزلة عند ما يعرض لتفسير آية لها صلة بنقاط النزاع بينهم مع ترجيح لمذهب أهل السنّة. وهو يقل من الروايات الإسرائيلية ويصدر روايتها ب «روي» أو «قيل» إشعارا منه بضعفها ويقف موقف الموزج لها غير القاطع بصحتها. ثم إذا عرض للآيات الكونية فإنه لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث الكون والطبيعة مماشيا لطريقة الفخر الرازي في التفسير، وبذلك كله كان من أمهات الكتب في التفسير التي لا يستغنى عنها. 3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل: للنسفي: وهو أبو البركات، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي، أحد الزهاد، والأئمة المعتبرين، صاحب التصانيف المعتبرة في الفقه والأصول وغيرهما، منها متن الوافي في الفروع، والمنار في أصول الفقه، والعمدة في أصول الدين، وكذا تفسيره مدارك التنزيل وحقائق التأويل. وغير ذلك من المؤلفات التي تداولها العلماء دراسة وبحثا، وهذا لا يستكثر عليه لتفقهه على شمس الأئمة الكردري، وأحمد بن محمد الذي روى عنه الزيادات توفي سنة 701 هـ. ¬

_ (¬1) راجع كتابنا «منهج النقد في علوم الحديث»، وفيه بيان ما صح في فضائل السور بإيجاز ص 310 - 311.

طريقة هذا التفسير

طريقة هذا التفسير: اختصر التفسير من تفسير البيضاوي ومن الكشاف للزمخشري وغيرهما، غير أنه ترك الاعتزالات وجرى فيه على مذهب أهل السنّة، ومما يمتاز به: 1 - أنه جمع فيه بين وجوه الإعراب والقراءات غير أنه من ناحية الإعراب لا يستطرد كثيرا ولا يزج بالتفاصيل النحوية في تفسيره. 2 - وأما من ناحية القراءات فهو ملتزم للقراءات السبع مع نسبة كل قراءة إلى قارئها وهي مزية هامة لهذا التفسير. 3 - عني بكشف وجوه البلاغة وأساليب الأداء في القرآن بعبارات موجزة مفيدة جدا. 4 - عند آيات الأحكام يعرض للمذاهب الفقهية التي لها تعلق وارتباط بالآية ويوجه الأقوال بدون توسع. 5 - يقل من ذكر الإسرائيليات كثيرا وما يذكره من ذلك يمرّ عليه بدون أن يتعقبه أحيانا وأحيانا يتعقبه ولا يرتضيه ويرى أن كل ما يمس العقيدة من هذه القصص يجب التنبيه على عدم صحته وما لا يمس العقيدة فلا مانع من روايته بدون تعقيب عليه ما دام يحتمل الصدق والكذب في ذاته ولا يتنافى مع العقل أو يتصادم مع الشرع. إذن فهو موجز العبارة سهل المأخذ غزير الفائدة، مما جعله مرجعا مهما في التفسير للدارسين متداولا بين أهل العلم. 4 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود: وهو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى، العمادي الحنفي، المولود سنة 893 هـ من بيت عرف بالعلم، قرأ كثيرا من العلوم على والده وتتلمذ على أجلّة العلماء وتولّى التدريس وقلّد قضاء «بروسة» ثم القسطنطينية، ثم تولى أمر الفتوى الذي طال ثلاثين سنة، أظهر فيه الدقة العلمية التامة والبراعة، وكان يكتب جواب الفتوى على منوال ما يكتب له السؤال منظوما مع

التعريف بهذا التفسير

الاتفاق في الوزن والقافية أو نثرا عربيا أو تركيا، وكانت أعماله هذه عائقا عن التفرغ للتصنيف والتأليف. توفي سنة 982 هـ. التعريف بهذا التفسير: اختلس فرصا من وقته وألّف تفسيره فيها مما جعل تأليفه لهذا التفسير غاية في بابه، فقد أتى فيه صاحبه من الفوائد بما لم يسبقه إليه أحد، فذاعت شهرته بين أهل العلم، وصار يقال له: خطيب المفسرين. حيث اعتمد فيه على تفسير الكشاف والبيضاوي جاريا على مذهب أهل السنّة في تفسيره متجنبا الاعتزالات ومحذرا منها. عنايته بالكشف عن بلاغة القرآن وسرّ إعجازه: يهتم أبو السعود بأن يكشف عن نواحي القرآن البلاغية وسر إعجازه في نظمه وأسلوبه وبخاصة في الوصل والفصل، والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والاعتراض والتذييل كما يهتم بإبداء المعاني الدقيقة التي تحملها التراكيب القرآنية بين طياتها، فهو أول المفسرين في هذه الناحية، ما مع تفرد به من فوائد بلاغية ليست في غيره من كتب التفسير، ولم يسبقه إليه أحد. ويجد القارئ أنه مقل في سرد الإسرائيليات غير مولع بذكرها يصدّرها ب «روى وقيل» مما يشعر بضعفها إذا ذكرها ومع ذلك فلم يعقب عليها بكلمة واحدة، وكأنه فعل ذلك لأنه تحاشى ما يجب رده منها. ويهتم أبو السعود بإبداء وجوه المناسبات بين الآيات ويعرض كذلك للقراءات بقدر ما يوضح به من المعنى دون توسع، لكن لا يلتزم المتواتر. ويتعرض أبو السعود في تفسيره لبعض المسائل الفقهية لكنه مقل جدا ولا يكاد يدخل في المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية بل يسرد المذاهب في الآية. ونلحظ أنه يعرض للناحية النحوية: إذا كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب ويرجح واحدا منها ويدلل على رجحانه. كما يعرض لاحتمالات الآية من المعاني ويرجح بينها بنظر دقيق، وتحقيق عميق.

5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي

فالكتاب دقيق بعيد عن خلط التفسير بما لا يتصل به غير مسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن النواحي العلمية وهو مرجع ضروري يعتمد عليه المفسرون. 5 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي: وهو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الآلوسي البغدادي المتوفى سنة 1270 هـ وكان شيخ العلماء في العراق. أكثر من العلوم حتى أصبح علامة المنقول والمعقول فهامة في الفروع والأصول. أخذ عن فحول العلماء. منهم والده العلّامة الشيخ خالد نقشبندي، والشيخ علي السويدي، اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقلّد إفتاء الحنفية وتتلمذ له خلق كثير، كان عالما باختلاف المذاهب خلّف ثروة علمية كبيرة. طريقة هذا التفسير: تفسير روح المعاني جامع لآراء السلف رواية ودراية شامل لخلاصة ما سبقه من التفاسير، ينقل عن تفسير أبي السعود ويعبر عنه بقوله: «قال شيخ الإسلام»، وعن البيضاوي بقوله: «القاضي»، وعن الفخر الرازي بقوله: «الإمام». ويقف حكما عدلا بين المراجع، وناقدا مدققا، ثم يبدي رأيه حرا. ويمكن تلخيص طريقته فيما يلي: 1 - إنه يستطرد إلى الكلام في الأمور الكونية، ويقر منه ما يرتضيه ويفند ما لا يرتضيه. 2 - يستطرد إلى الكلام في الصناعة النحوية ويتوسع حتى يكاد يخرج به عن وصف كونه مفسرا. 3 - يتكلم عن آيات الأحكام ويستوفي مذاهب الفقهاء وأدلتهم، مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه. 4 - يعنى بجلاء ثروة القرآن البلاغية، ويتوسع في ذلك بإفاضة بالغة. 5 - أما الإسرائيليات: فهو شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التي

شروط المفسر والقواعد التي يحتاج إليها

ذكرها كثير من المفسرين، وظنوها صحيحة، مع سخرية منهم أحيانا. 6 - يعرض الآلوسي لذكر القراءات، متواترة وغير متواترة. 7 - يعتني بإظهار أوجه المناسبات بين السور مع بعضها، وبين الآيات مع بعضها. وهذا فن عميق ومهم لفهم بلاغة القرآن. 8 - يعتني ببيان أسباب النزول. 9 - يكثر الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية. 10 - يتكلم الآلوسي عن التفسير الإشاري بعد أن يفرغ من الكلام على كل ما يتعلق بظاهر الآيات، لذا عدّ بعض العلماء تفسيره وتفسير النيسابوري ضمن كتب التفسير الإشاري. لكن الصواب أن يعدّا في ضمن كتب التفسير المنهجي، لما أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الإشاري، بل كان تابعا لغيره من التفسير الظاهر. وهكذا نجد «روح المعاني» موسوعة تفسيرية قيّمة جمعت كل ما قال علماء التفسير، مع النقد الحر، والترجيح الذي يعتمد على قوة الذهن، وإن كان يتوسع في نواح علمية مختلفة، إلا أنه متزن في كل ما يتكلم به، مما يشهد له بالإحاطة والعمق فيما أتى به في تفسيره هذا. شروط المفسر والقواعد التي يحتاج إليها: إن النقاش الذي سبق في التفسير بالرأي يفيد أمورا هي شروط وقواعد على غاية من الأهمية تتعلق بالاحتياط في التفسير بالرأي (¬1)، نعرضها موجزة فيما يلي: أولا: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بيّنة ، باستيفاء العلوم التي ذكرناها. فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات: إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين، كالصحابة والتابعين ومن يليهم، وهؤلاء قالوا في التفسير برأيهم مع التوقي والتحفظ، والهيبة والخوف ¬

_ (¬1) وقد نبّه الإمام الشاطبي عليها في الموافقات ج 3 ص 423 - 424.

ثانيا: ينبغي على الناظر في القرآن أن يعتمد في ذلك على من تقدمه

من الهجوم، فنحن أولى منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم. وهيهات. الثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم، فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه. وسبيله أن يأخذ تفسيرا يدرسه بمراجعة العلماء. الثالثة: من شكّ في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض. فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه، لأن الأصل عدم العلم، فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال. وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين. ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل. ثانيا: ينبغي على الناظر في القرآن أن يعتمد في ذلك على من تقدمه وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القول في القرآن، فإن المحظور فيه شديد جدا، وهو خوف التقوّل على الله تعالى. ثالثا: أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم على القرآن أن ما يقوله من التفسير هو قول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد وإلا كان باطلا، ودخل صاحبه تحت الوعيد الشديد الوارد في أهل الرأي المذموم. ولذلك احتاط السلف في الكلام على القرآن أيما احتياط، مع ما كانوا عليه من العلم. عن مسروق الهمداني قال: «اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله». وعن إبراهيم النخعي قال: «كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه». وهذا الأصمعي وجلالته في علم اللغة وإمامته معروفة قد نقل عنه أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب.

رابعا: من واجبات المفسر أيضا إضافة لما ذكرنا واجب هام، وهو أن يلاحظ المنهجية في كلامه في التفسير

وعن سعيد بن المسيب وهو سيد التابعين وأحد الفقهاء الأئمة السبعة أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال: «أنا لا أقول في القرآن شيئا». وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: «هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما. نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم» (¬1). رابعا: من واجبات المفسر أيضا إضافة لما ذكرنا واجب هام، وهو أن يلاحظ المنهجية في كلامه في التفسير ، وقد أوضح السيوطي ذلك فقال (¬2): قال العلماء: يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسّر، وأن يتحرز في ذلك من نقص لما يحتاج إليه في إيضاح المعنى، أو زيادة لا تليق بالغرض، ومن كون المفسّر فيه ميل عن المعنى وعدول عن طريقه، وعليه بمراعاة المعنى الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، والغرض الذي سيق له الكلام، وأن يؤاخي بين المفردات. وأن يتصف بالعدل والإنصاف في بحثه، فذلك أساس في البحث العلمي وفي التفسير خاصة. خامسا: خطة التفسير: يبدأ المفسر بالمناسبة ثم أسباب النزول ثم العلوم اللفظية، وأولها «تحقيق الألفاظ المفردة، فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف، ثم الاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب، فيبدأ بالإعراب، ثم بما يتعلق بعلم المعاني، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبين المعنى المراد، ثم الاستنباط، ثم الإشارة» (¬3). وقد أصبح التفسير الذي يعنى بالدقة والعمق في استعمال العلوم التي يحتاج إليها المفسّر وخصوصا اللغوية والبلاغية أصبح يسمى في اصطلاح المعاصرين «التفسير التحليلي». والعمدة فيه مصادر التفسير بالرأي الأمهات، فاعتن بها. ¬

_ (¬1) الأثر عن سعيد بن المسيب وابن عباس في الموافقات ج 3 ص 422. (¬2) الإتقان ج 2 ص 185. (¬3) الموضع السابق. وانظر ما يأتي في التفسير الإشاري.

الفصل التاسع التفسير الإشاري

الفصل التاسع التفسير الإشاري ويسمى أيضا التفسير الصوفي، لكنا نؤثر التسمية الأولى، لما فيها من الدلالة على الانضباط، بقواعد، بما يشبه ما يسمى «إشارة النص» عند الأصوليين. تعريفه: التفسير الإشاري: هو تأويل آيات القرآن الكريم على معنى غير ما يظهر منها، بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة (¬1). وهذا الشرط الأخير وهو «أن يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر» هام جدا، لأنه يفيد انضباط التفسير بما يحتمله كلام العرب، الذي نزل به القرآن، ويجب فهمه على وفق كلام العرب، كما يفيد الالتزام بالمعنى الظاهري الأصلي المراد من كلام الله تعالى. الأصل فيه: وعلى هذا الأساس فإن التفسير الإشاري ليس جديدا في إبراز معاني القرآن، بل هو معروف، قد فسر به الصحابة من غير نكير. أخرج البخاري (¬2) عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون ج 3 ص 18 بتصرف. وفيه قوله: «خلاف ما يظهر». وما قلناه أولى، لأنه يبعد معنى التعارض. (¬2) في كتاب التفسير إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ ج 6 ص 179.

شروط التفسير الإشاري

عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد (¬1) في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟. فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟. فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟. فقلت: لا. قال: فما تقول؟. قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له: قال: إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك، فسبّح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول». شروط التفسير الإشاري: لما كان التفسير الإشاري إثارة لمعاني كتاب الله تعالى، كان لا بد له من معيار ينضبط به، حتى يتميز عن عبث المتلاعبين بالقرآن تحت ستار اسم باطن القرآن، وهم لا يفسرون القرآن على الحقيقة بل يتلاعبون لهدم الشريعة باسم الشريعة. والمعيار الذي ينضبط به التفسير الإشاري ليكون مقبولا هو الشروط الآتية: 1 - أن يكون له شاهد شرعي يؤيده من غير معارض. وذلك لأنه إن لم يكن للتفسير الإشاري شاهد في محل آخر، أو كان له شاهد لكن له معارض صار دعوى تدّعى على القرآن من غير دليل. والدعوى التي لا دليل عليها مرفوضة باتفاق العلماء (¬2). 2 - أن يصح التفسير الإشاري على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، وذلك ضرورة كون القرآن عربيا، إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، ولو كان ¬

_ (¬1) أي عتب. (¬2) الموافقات للشاطبي ج 3 ص 394.

له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا، بل يدخل قائله تحت وعيد من قال في كتاب الله بغير علم. 3 - أن لا يكون له معارض شرعي ولا عقلي. لما علم مما سبق. 4 - أن لا يدّعى أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر، بل لا بد أن نعترف بالمعنى الظاهر أوّلا، إذ لا يطمع في الوصول إلى الإشارة قبل إحكام فهم العبارة، «ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب!!» (¬1). ومن أمثلة ما اختل فيه بعض هذه الشروط: كمن فسّر قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فقال: معناه: «من ذلّ» من الذل، إشارة إلى النفس «يشف» من الشفاء «ع» أمر من الوعي. ومن أمثلة ما وقفنا عليه في هذا العصر في أملية خاصة طبعت في كتاب وإذا فيه تفسير سورة العاديات هكذا: «والعاديات» الريح تجري مستمرة «ضبحا» صوتها أثناء جريها «فالموريات» الغيوم «قدحا» تحتك ببعضها فينشأ عن ذلك البرق «فالمغيرات» المغيثة بالمطر «صبحا» تغيثكم غياثا ظاهرا كالصبح ... وهكذا إلى آخر السورة من عجاب التحريف .. !؟!. وهذا تحريف مخالف لصريح اللغة، ومصادم لاتفاق المفسرين أن «العاديات» هي الخيل المسرعة تضبح «ضبحا» وهو اسم صوت الخيل وهي تسرع، فتصدم حوافرها الأرض فتقدح الشرر «قدحا» فتغير «صبحا» تشن الهجوم على العدو صباحا ... هذا هو الصواب في تفسير السورة، وليس ذلك التفسير الذي نقلناه سابقا من الصواب بسبيل، إنما هو تمزيق للنص وعبث به. ¬

_ (¬1) كما قال السيوطي في الإتقان ج 2 ص 185.

من أهم كتب التفسير الإشاري

وقد ظهر حديثا بعض الأدعياء، وراح يتلاعب بالقرآن، حتى توصل إلى معان مسفة يستحيي منها، فكشف العلماء دجله وحذروا منه (¬1). وقال بعضهم في الآية الخاتمة لسورة العنكبوت: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي أضاء المحسنين، وإنما هي لام التوكيد، و «مع» الظرفية، فانظر أنّى ذهب عن النص. من أهم كتب التفسير الإشاري: 1 - «تفسير القرآن العظيم»، للتّستري: وهو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التّستري، والمولود بتستر، سنة 200، وكان من كبار العلماء العارفين، أهل الورع والكرامات، أقام بالبصرة وتوفي بها سنة 273. وتفسيره هذا جزء واحد، يظهر أنه قطعة من مجموعة أخذت من كلامه، ونجده- في الجملة- متمشيا مع الشروط السابقة. وأنه يعنى بتزكية النفوس، وتطهير القلوب، والتحلي بالفضائل مما يدل عليه القرآن بطريق العبارة أو الإشارة. ومن أمثلة ذلك قوله (¬2) في سورة الصافات [107]: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ: «إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أحبّ ولده بطبع البشرية، تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه، إذ لم يكن المراد منه تحصيل الذبح، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب، فلما خلص السر له ورجع عن عادة الطبع فداه بذبح عظيم». 2 - «لطائف الإشارات» للقشيري: الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، زين الإسلام. ¬

_ (¬1) ونحوه قول بعض آخر معاصر في حديث «الحج عرفة»، هو: «الحج عرفه» أي عرف الله. وهو عبث ركيك ينم عن جهل عميق، باللغة وبكتاب الله. قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ. (¬2) تفسير التستري ص 120.

المولود سنة 376. وهو عربي النسب من قبيلة قشير. كان علّامة في علوم عصره، وتوجه بعد إتقانها إلى التصوف بتلمذته على أبي علي الحسن الدقاق، وكان الدقاق إمام عصره، فارها في العلم، جنيدي الطريقة. فجمع القشيري العلوم العقلية والنقلية والصوفية، وراح يمزج بينها بما لا يعارض بينها، وألّف كتبا كثيرة، وكانت له كرامات ظاهرة. وتوفي سنة 465 (¬1). ويمتاز هذا التفسير بأنه تفسير إشاري كامل للقرآن الكريم، وأن صاحبه سار على خطة واضحة بينها في مطلع كتابه، وهي خطة تتمشى مع شروط التفسير الإشاري، وأحيانا كثيرة مع التفسير الظاهري نفسه. وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات كبار. ومن أمثلة ذلك: قوله جل ذكره: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. قال القشيري (¬2): «الإسلام هو الإخلاص، وهو الاستسلام، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس. قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ: قابلت الأمر بالسمع والطاعة، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة، ولم يدخر شيئا من ماله وبدنه وولده، وحين أمر بذبح الولد قصد الذبح، وحين قال له خله من الأسر عمل ما أمر به، فلم يكن له في الحالين اختيار ولا تدبير. ويقال: إن قوله: «أسلمت» ليس بدعوى من قبله، لأن حقيقة الإسلام إنما هو التبرّي من الحول والقوة، فإذا قال: «أسلمت» فكأنّه قال: أقمني فيما كلّفتني، وحقق مني ما به أمرتني، فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شيء من قبل نفسه. ويقال: أمره بأن يستأثر بمطالبات القدرة، فإن من حلّ في الخلّة محلّه يحل به لا محالة ما حلّ به ... » إلى آخر ما ذكره من فوائد قيمة. ¬

_ (¬1) باقتضاب عن تقديم المحقق لكتاب «لطائف الإشارات». (¬2) لطائف الإشارات ج 1 ص 126. أخذنا المثالين منه بالتقليب العفوي.

وعند قوله جل ذكره: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ: يقول القشيري (¬1): «أي هذا القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء والقصص أو يقال: إنه شرف لك، لأنه معجزة تدل على صدقك، وإن للذين يتقون المعاصي لحسن المنقلب. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ: أي إذا جاءوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالترحاب والتبجيل، متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب على ما يشتهون، وعندهم حور عين قاصرات الطرف عن غير أزواجهن، أَتْرابٌ لدات مستويات في الحسن والجمال والشكل. ¬

_ (¬1) في اللطائف ج 3 ص 260.

الفصل العاشر التفسير الفقهي

الفصل العاشر التفسير الفقهي تعريف التفسير الفقهي ونشأته: التفسير الفقهي هو التفسير الذي يعنى فيه بدراسة آيات الأحكام وبيان كيفية استنباط الأحكام منها. وهذا التفسير بهذه الصفة يتميز بمزيد من دقة الفهم، وعمق الاستنباط، ويسمح بإعمال الذهن في المناقشة والموازنة بين الآراء أكثر من غيره، مما يجعل له أهمية أكبر. ويلزم بالاعتناء به أكثر. ويرجع ابتداء هذا التفسير إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فسّر للصحابة كثيرا من آيات القرآن وبيّن لهم أحكامه بأنواع البيانات. ثم جاء الصحابة وراحوا يعالجون ما يجد لهم من الأمور، وكانوا يبحثون أولا في كتاب الله تعالى ثم في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهدون، فكان من المتوقع أن تختلف اجتهاداتهم في فهم بعض الآيات واستنباط الأحكام منها. ومن أمثلة ذلك اختلافهم في عدة المطلقة هل تحسب بالحيض أو بالأطهار؟ فذهب عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود إلى أنها الحيض، وذهب عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والسيدة عائشة إلى أنها الأطهار. والسبب في ذلك أن القروء في قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ تحتمل في لغة العرب أن تفسر بالحيض، وبالأطهار.

أشهر ما ألف في التفسير الفقهي

فالتمس كل فريق قرينة رجح بها ما ذهب إليه (¬1). وكان الصحابة رضي الله عنهم متجردين لطلب الحق لا يحيدون عنه، وربما تناظروا فإن اقتنع الواحد برأي الآخر أخذ به، وإلا عذر كل واحد أخاه في اجتهاده ووسع له فيه. وهكذا استمر الحال في اجتهاد أئمة التابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم، لكن ازدادت الوقائع المستجدّة فازدادت المسائل التي تستنبط من القرآن الكريم وتوسعت الدراسات التفسيرية لآيات الأحكام. ولما ظهرت مذاهب فقهاء الأمصار ببنيانها الضخم المؤصل على الأصول الاجتهادية ودوّنت ثم ذاعت في الناس تأثر بكل مذهب منها طوائف من العلماء، كما حصل من قبل أن تأثر بفقهاء الصحابة طوائف من الصحابة والتابعين، لكن العصور المتأخرة شهدت توسعا في المناقشات يؤيد كل فريق مذهبه الذي اعتقد أنه الحق، وربما جرّ ذلك إلى تشديد النقد على المذهب المخالف مما يخالف منهج البحث العلمي، لا سيما في القرن الرابع وما بعده حين انتشرت المناظرات الكلامية. أشهر ما ألف في التفسير الفقهي: وهكذا ظهرت التفاسير الفقهية للقرآن وكثرت وكان أكثرها يقتصر على تفسير آيات الأحكام، وفسّر بعضها القرآن كله. ونعرف القارئ بأشهر تفسيرين فقهيين وهما: (أحكام القرآن) للرازي الجصّاص و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي. 1 - أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (الجصّاص): مؤلف الكتاب: هو الإمام العلّامة المفتي المجتهد الحافظ عالم العراق أبو بكر أحمد بن ¬

_ (¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 3 ص 112، وغيره.

طريقة المؤلف فيه

علي الرازي المشهور بالجصّاص نسبة إلى العمل بالجصّ، ولد سنة 305 وتوفي سنة 370. أخذ الفقه عن أبي سهل الزجاج وأبي الحسن الكرخي وعن غيرهما من فقهاء عصره، وأخذ الحديث وتوسع فيه ورحل إلى الآفاق، فأخذ عن ابن قانع والطبراني وجماعة من الأئمة الحفّاظ. استقر له التدريس ببغداد وانتهت إليه الرحلة، وكان على طريق شيخه الكرخي وبه انتفع، وكان الجصاص زاهدا ورعا متعبدا، عرض عليه منصب قضاء القضاة فامتنع منه، وعظم الانتفاع به وانتهت إليه رئاسة الحنفية وتخرّج به أصحاب المذهب، وكان له فضل كبير في إظهار حجج الحنفية وأدلتهم. ويحتج في كتبه بالأحاديث المتصلة بأسانيده. له كتب كثيرة، منها: أصول الفقه، وشرح مختصر الطحاوي، وأهمها كتاب (أحكام القرآن) (¬1). طريقة المؤلف فيه: هذا التفسير هو أول تفسير فقهي مطبوع، وأهم كتب التفسير الفقهي، لما فيه من عمق الاستنباط وفنون الاستدلالات، وقد شمل آيات الأحكام كلها على ترتيبها في المصحف، لكنه مع ذلك مبوّب على مثال ترتيب كتب الفقه، يضع لكل آية أو آيات عنوانا يدل على مضمون المسائل التي تستنبط منها أو تتفرع عليها، فكان بذلك أسبق من العصريين في اتباع هذه الطريقة. ومن مزايا هذا التفسير أنه لا يقتصر على ذكر الأحكام التي تستنبط من الآيات، بل يستطرد إلى تفريع مسائل تتفرع منها، ويذكر فيها خلافيات بين الأئمة والأدلة بتوسع كثير. ويعتني الإمام الجصاص في كل مسائل كتابه بتأييد مذهب الحنفية، بأن ¬

_ (¬1) الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص 27 - 28 وسير أعلام النبلاء للذهبي ج 16 ص 340 - 341.

يبين وجه استدلالهم بالآية، أو يدفع استدلال المخالفين بآية احتجوا بها على الحنفية. ومن الأمثلة تفسيره لقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فقد فسّر آتُوا بمعنى أعطوا والْيَتامى بما بعد البلوغ، مجازا باعتبار ما كان، وفائدة المجاز الإشارة إلى الإسراع بدفع ما لهم إليهم حتى كأنّ اسم اليتم لم يزل عنهم، لأنه لا يسمى يتيما بعد البلوغ. وهذا ظاهر لا تكلف فيه. ثم فرّع على هذا التفسير وجوب دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أخذا من قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ، لأن الآية الأولى لم تشترط إيناس الرشد لإيتاء المال إلى اليتيم، فجعلها فيما إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، والثانية اشترطته فجعلها فيما دون ذلك، لانعقاد الإجماع على أن لا يدفع له المال قبل الخامسة والعشرين، يعني ولا إجماع بعد ذلك فاستعمل الآية فيه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وهو استدلال بعيد كتفسير للآية، وإن كان يمكن أن يقال: إن هذا السن مظنّة بلوغ الرّشد، فيعامل معاملة تحققه، دفعا لطمع الأوصياء في مال اليتيم. وربما شدد الجصاص الهجوم على مخالفي الحنفية من الأئمة، وكانت أجواء المنافسات والمناظرات تهيّأ لذلك خصوصا في بغداد مما ينبهنا إلى أن لا نتأثر في عصرنا بمثل هذه المؤثرات، وقد كثرت ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 54 - 59.

2 - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي

فسر جمهور المفسرين أَلَّا تَعُولُوا أن لا تميلوا إلى إحدى الزوجات. وفسرها الشافعي بألا تكثر عيالكم، فشنّع الجصاص تبعا للمبرد على الشافعي هذا التفسير بأنه يخالف اللغة، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال «ألّا تعيلوا»، وشدّد في التشنيع مما لا ينبغي أن يصدر عن مثله (¬1). والحاصل أن هذا التفسير- على ما انتقدناه به- فإنه تفسير جليل وعميق، ومفيد جدا لطالب العلم في تعميق ملكة التفقه في كتاب الله تعالى. 2 - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي: مؤلف الكتاب: هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، نشأ في قرطبة ثم رحل منها إلى المشرق واستقر بمنية ابن خصيب شمالي أسيوط، وتوفي فيها سنة 671 هـ. كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين. الزاهدين في الدنيا، المشغولين بالآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. وبلغ من زهده أنه اطّرح التكلف وصار يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. أخرج كتبا كثيرة انتفع الناس بها، منها كتابه التفسير الذي نتكلم عنه، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، وهي مطبوعة، وله كتب غير ذلك مفيدة (¬2). طريقة هذا التفسير: اسم هذا التفسير هو (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمّن من السنّة وآي الفرقان)، واشتهر بتفسير القرطبي، وهو من أجل كتب التفسير وأعظمها ¬

_ (¬1) وتابعه على ذلك أبو بكر ابن العربي أيضا في كتابه «أحكام القرآن» ج 1 ص 131. وقد انتقده القرطبي في تفسيره ببيان واسع ج 2 ص 322. (¬2) نفح الطيب للمقري ج 1 ص 428 ومقدمة تفسير القرطبي.

نفعا. بيّن مؤلفه في مقدمته طريقته فيه وتتخلص بما يلي: العناية بالرواية وتخريج الأحاديث، وبيان جوانب اللغة والإعراب، وذكر القراءات، وبيان الناسخ والمنسوخ وإسقاط القصص والتواريخ، والتعويض عنها بالأحكام المستنبطة، وذكر أدلة الأئمة، ثم الإدلاء برأيه بغاية الهدوء والموضوعية. ويمتاز هذا التفسير بمزايا هامة، منها: وضوح عبارته وسهولته، ومنها حسن ترتيبه، فهو يقسم الأفكار ويجعل كل فكرة مسألة، ويصدر تفسير الآية بهذه العبارة: قوله تعالى كذا ... فيه سبع عشرة مسألة مثلا، المسألة الأولى .. وهكذا .. ما يساعد القارئ على ترتيب أفكاره وحسن الفهم. ومنها اعتناؤه بعلوم اللغة في دلالة الكلمة واشتقاقها ووجوه الإعراب وفائدتها في المعنى. ومنها أنه عني بالاستنباط من كل القرآن فاستنبط أحكاما من آيات ليست مما يورده أصحاب تفسير أحكام القرآن. ومن أمثلة طريقته في الجانب الفقهي الذي نتكلم عنه هنا: قوله تعالى في آية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ: قال رحمه الله (¬1): «ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، وهذه حقيقة الغسل عندنا وقد بيّناه في النساء. وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده. ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلّك يقال: غسل وجهه ويده. ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الإسم فإذا حصل كفى». فقد رجح مذهب غير المالكية أنه لا يجب الدلك في الغسل، واستدل بأن الغمس في الماء يسمى غسلا، وبالتالي فإن المطلوب حصول ما يسمى غسلا، وهو معنى قوله: «لا يعتبر في ذلك غير حصول الإسم» أي لا يجب إلا ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن ج 6 ص 83. وانظر تفسيره آية النساء ج 5 ص 209.

حصول ما يسمى في اللغة غسلا، فإذا حصل- أي ما يسمى غسلا- كفى لأداء الواجب. وهو إنصاف واضح واعتماد دقيق على أصول فن التفسير وتطبيقها. ولاعتناء القرطبي بالاستنباط نجده يلتفت لفوائد لا يذكرها غيره، ومن ذلك قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... قال القرطبي في الآية (¬1) «دليل على أنه- أي المهر- في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو؟ بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحلّ- أي حلّ الاستمتاع- ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك». ومن غاية إنصاف القرطبي وسموّه رفضه النيل من أئمة الإسلام وإن وقع ذلك من بعض أعلام مذهبه، مما يعطي أهل العلم درسا في ذلك (¬2). وهكذا جاء تفسير «الجامع لأحكام القرآن» جامعا كاسمه لفنون اللغة والعلوم التي يحتاج إليها المفسر مسبوكة بأسلوب واضح وترتيب جميل وتقسيم ميسر، مما جعل هذا التفسير من أجلّ كتب التفسير وأعظمها نفعا وأكثرها تداولا في هذا العصر. ¬

_ (¬1) ج 5 ص 129. لكن قوله «إن المهر في مقابلة البضع ... » غير مسلّم، لأن الاستمتاع مشترك بين الزوجين، وسمي المهر أجرا لتأكيد لزومه وإلا فهو عطية مبتدأه للمرأة، قال تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي عطية مبتدأة ليست في مقابل شيء. (¬2) انظر ما سبق ص 107 تعليقا.

الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث

الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث في مطالع القرن الرابع عشر الهجري المنصرم وفي ظل الاحتلال الأجنبي لكثير من البلاد الإسلامية أو أكثرها احتدم الصراع الفكري في البلاد الإسلامية وأثيرت شبهات وإشكالات حول مفاهيم القرآن الأساسية والعلوم التي اشتمل عليها، وكانت النزعة المادية الصرفة الملحدة متسلطة على المفكرين في أوربة مما جعل جملة هذه العوامل وغيرها يثير الجدل والشبهات، التي أثارت رجال العلم والفكر المسلمين للاضطلاع بمهمتهم تجاه هذا الواجب. وكان من الطبيعي أن تتجه أنظار الجميع إلى القرآن: توجه المنحرفون إلحادا وتشكيكا، وتوجه العلماء إظهارا للحق وهداية القرآن، وتفسيرا صحيحا لآياته ولإعجازه (¬1). لكن في ظل الانبهار والدهشة لتفوق الأجنبي جاءت بحوث عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين متأثرة بمناهج الأجانب ومفاهيمهم المادية البحتة، وظهر أثر ذلك واضحا في تفاسير عدد منهم مما يتعارض مع الأدلة ومناهج التفسير. ومن ذلك إنكار بعضهم المعجزات الحسية وتأويل الآيات الواردة فيها تأويلا بعيدا متكلفا، مثل تأويل الإسراء على أنه كان بالمنام أو بالروح فقط، ¬

_ (¬1) كما هو صريح مقصد الشيخ محمد عبده في «تفسير القرآن الحكيم» المشهور بتفسير المنار.

الفصل الحادي عشر التفسير في العصر الحديث

مصادما صريح الآية والأحاديث المتواترة. كذلك إنكار خلق آدم وتأويل قصته، حتى فسّر بعضهم قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أن المراد خلق العرب من إسماعيل عليه السلام (¬1)، جاهلا أو متجاهلا إجماع المفسّرين، وأن العرب ليسوا كلهم من إسماعيل .. ؟! ومن ذلك تأويل الملائكة بالخاصة في المخلوق «وهو- كما قال الشيخ محمد عبده- أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان». وفسّر الناس كلامه ذلك بأنه أراد قوى الطبيعة، وانتشر في أوساط كثيرة آنذاك، وهو خطأ في العلم وفي الفهم أيضا، ولا ينسجم مع الإيمان بالوحي والنبوات (¬2). وراح بعضهم يفسر الآيات القرآنية على أي شيء يسمعه من المكتشفات العلمية دون تثبت من صحة الاكتشاف فضلا عن فهم حقيقته وطبيعته، ودون تقيد بأصول علم التفسير التي لا يجوز الإخلال بها، حتى ظهر تفسير ضخم للقرآن كله هو: «الجواهر في تفسير القرآن»، للشيخ طنطاوي جوهري يعجّ بالطامات في أمور العلم والجموح العجيب في تفسير القرآن، حتى نجده يفسر الآيات التي تذكر إحياء الموتى في سورة البقرة فيجعلها أصلا في علم تحضير الأرواح وأنه استخرج منها بزعمه، حتى يقول: «والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولا، ثم بسائر أوربة ثانيا ... » (¬3)؟!! ¬

_ (¬1) انظر ذلك في تفسير المراغي. في مطلع سورة النساء؟! (¬2) انظر كلام الشيخ محمد عبده مطولا بتمامه في تفسيره ج 1 ص 267 - 268. لكنه نفى أن يكون هذا هو مراده ص 270 - 273 وبيّن أن مراده هو «أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك بما يعرفها سلفك .. ؟!». لكن يظل هذا التأويل غير مقبول، لمخالفته أوصاف الملائكة وأعمالهم الواردة في الكتاب والسنّة. (¬3) تفسير الجواهر ج 1 ص 71 وما بعده.

وأهم أنواع التفسير المعاصرة ما يلي

وفي الحروف المقطعة أول سورة آل عمران الم يعقد بحثا طويلا عنوانه «الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية .. » أتى فيه بما يبعد عن العلم وعن فطرة العقل كذلك (¬1). ولا نزال نوافى بمثل تكلفاته هذه في عصرنا هذا!!. نحن نقدر حرص الكاتبين على إظهار إعجاز القرآن والنهوض بالمسلمين في مدارج الرقي لكنهم أخطئوا الطريق، فليس الطريق إلى ذلك بمخالفة العلم في درسه ولا القرآن في أصول بحثه. وقد ظهرت ردود ومناقشات حول هذه القضايا كلها، لكن لم يظهر تفسير كامل ملتزم بمنهج التفسير في ذلك الوقت، يتضمن التفسير الصحيح في هذه الآيات الكثيرة. حتى إذا كان الربع الأخير من القرن الرابع عشر نشطت الدراسات القرآنية نشاطا عظيما، وظهرت دراسات تفسيرية لبعض السور أو الجوانب، كما ظهرت تفاسير متنوعة، ذات مناهج مبتكرة متعددة، فيها تجديد في عرض معاني كتاب الله، يعتمد أصول التفسير، ويعوّل على المصادر القديمة، ويلائم حاجة القارئ المعاصر في ضوء استقرار الحقائق العلمية، وانجلاء الغبار عن أخطاء السابقين، وإن كان بعضهم تأثر بأخطاء السابقين لكن الجملة يعتمد عليها. وأهم أنواع التفسير المعاصرة ما يلي: الأول: التفسير المنهجي (¬2): ومن أشهر كتبه المتداولة: «التفسير الواضح» للدكتور الشيخ محمد محمود حجازي. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ج 2 ص 10 - 11. (¬2) هكذا اخترنا تسميته، لما بينا من طريقته، وهي طريقة عامة في هذا العصر. أما التفسير التحليلي فيتميز بمزيد الدقة والعمق.

الثاني: التفسير الأدبي الاجتماعي

وطريقة هذا التفسير أنه يتبع أصول التفسير وخطواته عند العلماء، لكنه ينظم هذه الخطوات في فقرات منفصلة هكذا: أسباب النزول، مناسبة الآية لما قبلها، المفردات اللغوية، الإعراب وأثره في المعنى، البلاغة، المعنى العام، ثم ما يستنبط من النص من الفوائد، مع مراعاة سلاسة الأسلوب ووضوحه، ومزج فيه التفسير بالمعاني العلمية والتوجيهات الاجتماعية والاستنباطات. لكن المؤلف كثيرا ما يخالف ما عليه الجمهور، دون أن يظهر مبرّر لعمله ذلك (¬1). وعلى كل فالكتاب هام وسهل لعامة القراء، ومفيد، يلائم بث روح النهوض في المسلم، وإيقاظ وعيه للعلوم والثقافات. الثاني: التفسير الأدبي الاجتماعي: وهو تفسير يبرز إعجاز القرآن ويعتمد في عرض معانيه على الأسلوب الأدبي الجذّاب ليصل إلى القارئ بما يريد من التأثير والتوجيه. وقد لفت هذا التفسير الوحيد إليه الأنظار، لأنه استطاع أن يملك ناصية البيان الأدبي في عرض المعاني، وناصية الذوق الأدبي في فهم أسرار إعجاز القرآن، ثم في المنطلق المعاصر الذي عني به وهو إبراز إعجاز القرآن في فن التصوير حتى استطاع أن ينال الاعتراف به والإعجاب، إذ سبق وبادر لإثبات إعجاز القرآن وفق مقياس أدبي فنّي حديث: هو فن التصوير، وأن يقدم تفسيرا ¬

_ (¬1) مثل تفسيره النَّازِعاتِ ... بالكواكب، خلافا للجمهور، وخلافا لظاهر قوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً. ومثل تفسيره الْعِشارُ عُطِّلَتْ السحاب. وتعطيلها منعها من حمل الماء، وقيل: «هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر ... ». فعبر بقيل عن التفسير الذي هو ظاهر اللغة ورأي أكثر الناس، ولم يبين سبب اختياره؟! مع أنه لا إشكال على المعنى الظاهر، لأنه يشير إلى اشتغال الناس بداهية القيامة عن أنفس أموالهم، وكانت العشار أعزّ أموال العرب عليهم.

الثالث: التفسير العلمي

كاملا للقرآن يبرز فيه مصداق هذه النظرية (¬1). الثالث: التفسير العلمي: هو التفسير الذي يجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية من القرآن الكريم (¬2). وقد أخذ هذا النوع من التفسير اهتماما عظيما لدى المثقفين في الآونة الأخيرة، وذلك لما كشف عنه تقدم العلم من إعجاز القرآن، وتصديقه الحقائق العلمية، على حين قضى تقدم العلم بالبطلان على التراث الديني لدى الأمم الأخرى. وزاد ذلك الاهتمام ضعف ملكة الدارسين الأدبية، فضلا عن أن القسم الأعظم من المسلمين ليسوا من العرب. لكن وقع من بعض الكاتبين غلو وجنوح في هذا التفسير مما سبق أن حذرنا منه، وأوضحناه بالأمثلة. وأتينا في بحث الكون في القرآن على تفاصيل وشروط يجب أن تتبع في هذا التفسير. ومما يذكر من المؤلفات في هذا الباب: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة. للدكتور موريس بوكاي (¬3). وآيات الله في الآفاق. للأستاذ الشيخ محمد وفا أميري. الرابع: التفسير العام: هو تفسير يعرض مقاصد الآيات ومعانيها، دون دخول في تفاصيل المفردات وجزئيات المعنى. وقد احتل هذا التفسير مكانة كبيرة في الأوساط العامة، وأصبح عمدة في الخطب والمقالات، والأحاديث والبحوث الإسلامية الثقافية. ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي في الفصل الخاص بالتصوير في القرآن. (¬2) بتصرف عن التفسير والمفسرون ج 3 ص 140. (¬3) على تحفظ من آرائه في الحديث النبوي تعرضنا لها في كتابنا: «السنّة المطهرة والتحديات» فارجع إليه.

الخامس: التفسير الموضوعي

لكن كثر دخول من ليس من أهل التفسير فيه، وكثر الخطأ فيه، حتى ربما أدخل كثيرون في تفسير الآية أشياء لا علاقة لها بالآية، فضلا عما هو أشد من ذلك. والذي يجب أن يتنبّه له كلّ باحث أو محاضر أو خطيب أو داعية أن يعلم أنه مطالب بمراعاة أصول التفسير وقواعده، ليكون ما يعرضه على الناس من التفسير العام حصيلة دراسة مبنية على المنهج السليم، فيحوز أجر المبلّغين لكتاب الله وعلومه، وينجو من الوعيد الشديد الذي عرفناه فيمن تكلم في القرآن برأيه. ولعل أهم ما صنّف كتفسير في هذا النوع: تفسير القرآن الكريم، لفضيلة أستاذنا الشيخ محمود شلتوت رحمه الله شيخ الأزهر الأسبق، وشمل فيه الأجزاء العشر الأولى فقط. الخامس: التفسير الموضوعي: وهو تفسير يدرس القضايا بحسب دلالة الآيات القرآنية في القرآن كله. أو بحسب مقصد سورة منه (¬1). وقد عني المعاصرون بالتفسير الموضوعي، لملاءمته حاجة العصر ودراسة القضايا الحديثة. ومن الكتب الهامة المفيدة فيه كتابا «هدي القرآن إلى الحجة والبرهان» و «هدي القرآن إلى معرفة العوالم والتفكر في الأكوان» كلاهما لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين. وكتاب «نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن» للدكتور حسن ضياء الدين عتر. وهكذا جاءت جهود المعاصرين بأساليب مبتكرة في التفسير، تلبي حاجة العصر، وتبرز إعجاز القرآن في أسلوبه ومضمونه وفي هدايته، وخصوصا تلك التي التزمت منهج التفسير الذي قرره العلماء. ¬

_ (¬1) قارن تعريفنا هذا بالتعاريف الواردة في كتاب «مباحث في التفسير الموضوعي» للدكتور مصطفى مسلم ص 16. وانظر الكتاب كله لفائدته.

الفصل الثاني عشر ترجمة القرآن الكريم وحكمها

الفصل الثاني عشر ترجمة القرآن الكريم وحكمها هذا موضوع حاق، والحاجة لبحثه ضرورية. فقد انتفع بفهم معاني القرآن أقوام فآمنوا، وازداد آخرون إيمانا، وضلّ قوم بسوء ما فسّر لهم القرآن بغير لغته، وصدهم ذلك التحريف لمعانيه عن الإيمان. ونرى لزاما علينا لبحث الموضوع بحثا علميا منهجيا أن نقسم الترجمة إلى قسمين: القسم الأول: الترجمة الحرفية. القسم الثاني: الترجمة التفسيرية. القسم الأول: الترجمة الحرفية الترجمة الحرفية: هي أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى، ترجمة تحاكيه حذوا بحذو، بحيث تحلّ مفردات الترجمة محل مفرداته، وأسلوبها محل أسلوبه. وهذه الترجمة مستحيلة في حق القرآن العظيم وذلك لسببين أساسيين: أولهما: كونه معجزة للبشر لا يقدرون على الإتيان بسورة مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. الثاني: إنه هداية تؤخذ منه الأحكام، وتستنبط الفوائد والتوجيهات، وهذا الاستنباط لا يؤخذ فقط من المعاني الأصلية التي يسهل فهمها والتعبير

القسم الثاني: الترجمة التفسيرية

عنها بلغات أخرى، بل إن كثيرا من الاستنباطات إنما يستفاد من المعاني الثانوية، مثل إشارة النص، ودلالة النص، إلى آخر ما هنالك، ومن غير الممكن أن يحافظ في الترجمة على المعاني الثانوية هذه، لأنها لازمة للقرآن لا تنتقل إلى اللغات الأخرى. القسم الثاني: الترجمة التفسيرية الترجمة التفسيرية أو المعنوية: هي شرح الكلام بلغة أخرى على قدر طاقة الإنسان. فهي في الواقع تفسير لمعاني القرآن لكنه مكتوب بلغة غير لغة القرآن. بأن نفهم المعنى المراد من النص قدر طاقتنا ثم نعبر عنه باللغة المترجم إليها على وفق الغرض الذي سيق له. وهذه ولا شك ممكنة، لا يماري فيها أحد. ويمكن أن نتبين الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية التفسيرية بالتطبيق العلمي على مثال هو هذه الآية: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (¬1). لو أراد المترجم أن يترجم هذه الآية الكريمة ترجمة حرفية، لقال بلغة أخرى: «لا تربط يدك إلى عنقك ولا تمدها غاية المد .. ». وهذا تعبير بعيد عن المقصود الحقيقي للآية، يثير استنكار القارئ غير العربي، لأنه مثير للاستغراب، ولا يفهم منه المعنى الذي قصده القرآن وما فيه من التشبيه البليغ. أما إذا أراد ترجمتها ترجمة تفسيرية فإنه يبين نهي القرآن عن الضدين: التقتير والتبذير، وقد عرضهما القرآن مصوّرين صورة شنيعة ينفر منها الإنسان، فإن الكلام الذي فسّر به معنى الآية باللغة الأخرى يكون مفهوما للقارئ الأعجمي، ومقبولا عنده ومؤثرا فيه. وشتان ما بين العملين، وما أبعد ما بينهما. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 29.

حكم الترجمة التفسيرية

وهذه شهادة منصفة من رجل متمكن من اللغة العربية ولغته الفرنسية، هو المستشرق الفرنسي الدكتور ماردريس، فقد كلفته وزارة الخارجية والمعارف الفرنسيتان بترجمة 62 سورة من السور الطوال، فحاول جهده، وقال في مقدمة ترجمته هذه (¬1): «أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جلّ وعلا، فإن الأسلوب الذي ينطوي على كنه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيا .. لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان أداء تأثير هذا النثر البديع الذي لم يسمع بمثله بلغة أخرى، وخاصة الفرنسية القاسية الضيقة التي لا تتسع للتعبير عن الشعور .. زد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات العصرية ليست لغة دينية، وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية» (¬2). حكم الترجمة التفسيرية: إن تفسير القرآن الكريم علم جليل، وهو من العلوم التي فرض الله على الأمة تعلمها وتعليمها، والترجمة التفسيرية هي تفسير للقرآن الكريم بلغة أخرى غير اللغة العربية، فكانت هذه الترجمة فرضا مما فرضه الله تعالى على الأمة، بل هي الآن أكثر فرضية لما يترتب عليها من الواجبات المحتمة، مثل تبليغ معاني القرآن على وجه صحيح إلى المسلمين غير العرب، وكذلك إلى غير المسلمين أيضا، ومثل المحافظة على العقيدة الإسلامية من التحريف الخاطئ أو المعتمد الذي كثر فيما يسمى ترجمات القرآن، مما يشوّش عقيدة قارئها المسلم، ويصد غير المسلم عن دين الله تعالى، وكذلك الدفاع عن القرآن بكشف أضاليل المبشرين والمستشرقين الذين تعالت أصوات الشكايات من دسهم وتزييفهم. ¬

_ (¬1) الصادرة سنة 1926. كما في المعجزة الخالدة ص 186 - 187 عن الوحي المحمدي ص 21 - 22. (¬2) هذا هو حال اللغة العربية قبل نزول القرآن، كما يلاحظ من دراسة الأدب الجاهلي، لكن إعجاز القرآن هو الذي جعلها لغة دين وإيمان بأقصى تفاصيل إيمانية وإلهية لا توجد في دين آخر، كما جعلها لغة العلوم والمعارف.

شروط الترجمة التفسيرية

شروط الترجمة التفسيرية: ولتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة ومؤدية للغرض المطلوب، وبعيدة عن أي ضرر فقد اشترط العلماء المعاصرون في إعدادها وطبعها الشروط التالية: 1 - أن تكون مستوفية شروط التفسير التي سبقت. وذلك يوجب على المترجم استحضار معنى الأصل من تفسير عربي مستوف لتلك الشروط. أما إذا استقل برأيه ولم يكن أهلا لذلك، أو اعتمد على تفسير غير مستوف للشروط فلا تكون هذه الترجمة صحيحة ولا جائزة. وينطبق عليها الوعيد الشديد والإثم الأكيد فيمن قال في القرآن برأيه المجرد. 2 - أن يكون المترجم بعيدا عن الميل إلى أي عقيدة زائغة تخالف عقيدة القرآن، وهذا شرط في الأصل التفسيري أيضا كما هو معلوم. 3 - أن يكون المترجم عالما باللغتين: المترجم منها والمترجم إليها معرفة خبرة بأسرارهما، وعلم دقيق بوجوه وضع اللغة، وطرق الأساليب، واختلاف الدلالة بحسب الأسلوب في كل من اللغتين. 4 - أن يراعى في طباعة الترجمة التفسيرية اشتمال الطبعة على القرآن أولا، ثم تفسيره العربي ثانيا، ثم يتبع ذلك بترجمته التفسيرية، حتى لا يتوهم متوهم أن هذه ترجمة حرفية للقرآن. والجدير بالذكر أن بعض البلاد الإسلامية طبعت المصاحف محاطة بتفسير باللغة المحلية في هامش المصحف، كما فعل الإيرانيون والباكستانيون، وليت هذا التفسير يكتبه أولا فريق من العلماء أهل الاختصاص إذن لكان العمل أسلم وأجدى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التوسع في الموضوع: في منهج الفرقان في علوم القرآن لمحمد علي سلامة ج 2 ص 71 - 90 ومناهل العرفان ج 2 ص 6 - 25 وديباجة ابن قتيبة لكتابه تأويل مشكل القرآن، والتفسير والمفسرون ج 1 ص 23 - 30 والمعجزة الكبرى ص 611 - 619 وغيرها.

الفصل الثالث عشر المحكم والمتشابه

الفصل الثالث عشر المحكم والمتشابه الاحكام لغة: الإتقان البالغ، ومنه البناء المحكم الذي أتقن فلا يتطرق إليه الخلل أو الفساد. وأما المتشابه: فهو في أصل اللغة: من الشبه وهو التماثل بين شيئين أو أشياء. ولما كان التماثل بين الأشياء يؤدي إلى الشك والحيرة، ويوقع في الالتباس توسعوا في اللفظ، وأطلقوا «متشابه» و «مشتبه» على كل ما غمض ودقّ. وكما توسعوا في المتشابه توسعوا في «المشكل» فصار كما قال ابن قتيبة «يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل». ويمكن أن نلحق بهذين النوعين نوعا ثالثا هو المبهم، وهو مأخوذ من الإبهام، والمراد به ما أغفل ولم يعيّن فيه الفرد أو الشخص مع فهم المعنى، مثل: «رجل»، «امرأة». وبناء على الإطلاق اللغوي للمحكم والمتشابه وهو إطلاق شامل واسع فإن بوسعنا أن نفهم استعمال القرآن هذين اللفظين بإطلاقات متعددة ولمعان متنوعة، وصف فيها القرآن بالإحكام ووصف بالتشابه: لقد جاء وصف القرآن كله بالإحكام في أكثر من موضع من القرآن، كما وصف بالحكمة أيضا:

المحكم والمتشابه اصطلاحا

قال تعالى في أول سورة هود: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. فوصف الله تعالى القرآن بأنه كِتابٌ عظيم الشأن جليل القدر، وعبر بالإحكام في قوله: أُحْكِمَتْ عن الإتقان للإشارة إلى أنه متكامل العظمة من الناحية الإيجابية بإتقانه البالغ، نظما ومعنى ومن الناحية السلبية فلا يتطرق إليه دخل ولا خلل لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. كذلك وصف القرآن كله بأنه متشابه، في قوله تعالى في سورة الزمر (¬1): اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. فقد جاء مدح القرآن هنا بأنه متشابه أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز، ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ يردد فيه القول، أو يذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وهكذا ... المحكم والمتشابه اصطلاحا: وليس موضوع هذا البحث تفصيل أوجه الإحكام والتشابه اللذين وردا فيما سبق، وإنما موضوع البحث وصف القرآن حسبما ورد النص فيه صراحة في سورة آل عمران في هذه الآية من مطلعها: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. ¬

_ (¬1) الآية 23.

هل يمكن تفسير المتشابه

فقد دلّت الآية على أنّ من القرآن ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فما هو المراد بهما هاهنا؟ لقد تعددت الآراء في تعريف المحكم والمتشابه المذكورين في هذه الآية وكان السبب في ذلك اختلاف الوجهة التي ينظر منها صاحب كل رأي. ولعلنا إذا نظرنا إلى سياق الآية نخلص إلى ترجيح رأي الإمام الطيبي. المحكم: هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال. والمتشابه: هو الذي طرأ عليه خفاء في المعنى المراد منه (¬1). فإن سياق الآية يؤيد هذا، لأنه تعالى جعل المحكم مقابلا للمتشابه، فينبغي أن يفسّر بما يقابله، وأشار إلى أن المتشابه يحتاج إلى تأويل، الأمّ فيه أي المرجع والأصل الذي يجب التعويل عليه هو المحكم. هل يمكن تفسير المتشابه: وبالنظر لغموض المتشابه وخطورة البحث فيه لكونه بحثا في كلام الله تعالى اختلفت الآراء فيه، هل هو مما يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يمكن الاطلاع على علمه، ولا يعلمه إلّا الله. وقد أرجعوا السبب في هذا الاختلاف إلى الاختلاف في آية آل عمران السابقة وقوله تعالى فيها: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا .... فذهب بعض أهل العلم إلى أن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه، وفسروا الآية على أن قوله وَالرَّاسِخُونَ معطوف على قوله إِلَّا اللَّهُ وقوله يَقُولُونَ في محل نصب حال، ولا يقف هؤلاء على لفظ الجلالة اللَّهُ، بل على قوله رَبِّنا. والمعنى أن الله هو الذي يعلم تأويله وكذا الراسخون في العلم حال كونهم قائلين آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وتكون الآية دالة ¬

_ (¬1) انظر رأي الطيبي في الإتقان ج 2 ص 4.

التحقيق في المسألة

على أن الراسخين في العلم أي الثابتين المتمكنين فيه يعلمون تأويله. وذهب كثير من أئمة العلماء المتقدمين والمتأخرين إلى أن المتشابه لا يطلع على علمه إلا الله تعالى، واستدلوا بالآية نفسها كذلك وقالوا: إن قوله تعالى: إِلَّا اللَّهُ نهاية الكلام السابق والوقوف في القراءة عليه، وقوله: وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ في محلّ رفع خبر، والمعنى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم استأنف ويقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا، أي كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا تبارك وتعالى، لا نفرق بينهما في الإيمان والخضوع، وكل واحد منهما يصدق الآخر، وليس شيء من عند الله بمختلف ولا بمتناقض. وقد وردت آثار تشهد لهذا الرأي، منها ما أخرجه عبد الرزاق والحاكم في المستدرك عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ... (¬1). فهذا خبر بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن يدل على أنه يفسر الآية هكذا، وهو دليل على أن الواو في قوله: وَالرَّاسِخُونَ للاستئناف. ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذمّ متبعي المتشابه، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله وسلّموا إليه، كما مدح المؤمنين في مواضع كثيرة بأنهم يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. التحقيق في المسألة: ونحن إذا أمعنا النظر في الموضوع من أصله، وبحثنا منطلقات الفريقين نجد أنهما متقاربان، وأن الخلاف ليس جوهريا، وإنما هو خلاف فرعي ناشئ عن اختلافهم في حقيقة المتشابه. وذلك أن الذين قالوا لا يعلم المتشابه إلا الله أدخلوا في المتشابه قضايا من الغيب مثل قيام الساعة، وخروج الدجال، وحقائق العوالم الأخرى. بل ¬

_ (¬1) الإتقان ج 2 ص 3 وانظر الطبري ج 6 ص 202 وابن كثير ج 2 ص 8.

كيف نفسر المتشابهات

إن منهم من قصر المتشابه على هذه القضايا ونحوها من مبهمات القرآن. وهذه أمور قد استأثر الله بعلمها، لا خلاف في ذلك بينهم إطلاقا. وأما الذين قالوا إن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه فلم يدخلوا فيه هذه القضايا، فبقي الموضوع في إطار ما يمكن بحثه لهذه النخبة من أئمة العلم والدين. وثمة أمر آخر له أثره في اختلاف الآراء، هو تحديد حقيقة التأويل، أو بعبارة أخرى المدى الذي يبلغه التأويل، وفي هذا يقول الإمام المفسر ابن كثير (¬1): «ومن العلماء من فصّل في هذا المقام فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ... ومنه قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ .. أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة إِلَّا اللَّهُ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل .. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء، كقوله: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ... ». كيف نفسر المتشابهات: لما كانت المتشابهات تقع في القرآن الكريم في موضوعات متعددة فإنها ¬

_ (¬1) في تفسيره ج 2 ص 8 باختصار وتصرف يسير.

متشابه الصفات

تنقسم إلى أكثر من قسم نكتفي منها هنا بأهم ما يجب على دارس القرآن، وهو متشابه الصفات: متشابه الصفات: المراد من «متشابه الصفات» الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى، مما قد يوهم من لم يتمعن الكلام تشبيها لله تعالى بخلقه، كقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، وقوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وغير ذلك، وتسمى أيضا «آيات الصفات». وقد اختلفت الآراء في هذه المسألة بما يمكن حصر المقبول منه في هذين المذهبين المشهوري: المذهب الأول: مذهب السلف: وهو تفويض علم حقيقة معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، مع اعتقاد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة في حقه تعالى. واستدلوا لمذهبهم بأدلة من النقل والعقل: أما أدلة النقل فمنها حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية السابقة: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم متفق عليه (¬1). وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر عليهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أخرجه الطبراني (¬2). وكذلك سار الصحابة والتابعون حيث تركوا الاشتغال بتأويل المتشابه وفوضوا علم حقيقته إلى الله تعالى، مع اعتقاد تنزيهه عن التعطيل والتشبيه والتجسيم. ¬

_ (¬1) البخاري في التفسير ج 6 ص 34 ومسلم في العلم ج 8 ص 56. (¬2) الإتقان ج 2 ص 3.

المذهب الثاني: مذهب الخلف

وأما دلالة العقل فلأن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يكون بتأويل نتبع فيه قواعد اللغة وأسلوب العرب، وهي لا تفيد العلم اليقيني القاطع، بل قد تحتمل أكثر من وجه، وصفات الله تعالى من العقائد لا بد فيها من اليقين، لذلك نتوقف، ونفوض إلى الله تعالى. ومن هنا قالوا: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى المراد معنى يليق بجلاله تعالى لا يشبه صفاتنا، الله أعلم بحقيقته، وكذلك يقولون في غير ذلك. المذهب الثاني: مذهب الخلف: وهو تأويل هذه الآيات بما يناسب استعمالات اللغة مما يليق بكمال الله تعالى وتقدسه. فيفسرون: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بأن المراد: استولى مثلا ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بمعنى القدرة، وهكذا ... ودليلهم أنه لما استحال أن يكون المعنى الظاهري مرادا، كان دليلا على أن المراد هو معنى مجازي، فنفسره وفق ما يفسر به كلام العرب، لأن القرآن عربي كما صرح القرآن بذلك في مواضع كثيرة فيجب الاعتماد على منهج فهم كلام العرب. وبالنظر في حقيقة الأمر نجد بين المذهبين اتفاقا في جوهر المسألة وأساسها، وهو: 1 - الاعتماد فيها على الآيات المحكمات، التي سماها الله تعالى أُمُّ الْكِتابِ أي الأصل والمرجع وهي قاطعة في تنزيه الله عن مشابهة الخلق. 2 - صرف هذه النصوص عن ظواهر ألفاظها اللغوية المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر الموهمة للتشبيه غير مرادة قطعا، فالفريقان إذن متفقان في جوهر القضية، غاية الأمر أن السلف اكتفوا بالإجمال، وهو اعتقاد التنزيه عن هذه الظواهر، لكن دون تعيين التأويل المراد، أما الخلف فقد خطوا خطوة

ثانية وهي تفسير تلك النصوص حسبما يتبادر منها وفق استعمالات كلام العرب. وقد تاه أقوام في فهم مذهب السلف، وأتوا في تعريفهم به بعبارة موهمة فقالوا: إن المراد من هذه الآيات المتشابهة في الصفات هو معناها الحقيقي على وجه يليق به تعالى. وهذا تعبير منتقد من حيث اللفظ والمعنى: أما انتقاده من حيث اللفظ فلأن السلف لم يأتوا بكلمة «حقيقة»، وهذا باب دقيق يجب التقيد فيه بالعبارات المنقولة تماما، فكيف نقحم على كلامهم ما لم يقولوا؟! وأما انتقاده من حيث المعنى: فلأن قولهم «المراد معناها حقيقة» يوهم تشبيه الله تعالى بخلقه، وقولهم «على وجه يليق به» ينافي ذلك، فصارت العبارة متناقضة موهمة، حتى وجدنا كثيرا ممن نظر في كلام أصحاب هذا الرأي أو اعتقده يتجه فهمه إلى التشبيه من حيث لا يشعر. وإنّ من نظر في سياق تلك الآيات الواردة من متشابه الصفات وتمعن في الغرض الذي سيقت له علم بعدها عن إرادة المعنى الظاهري، واستحالة تفسيرها به. تأمل قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، تعلم أن هذه الآيات وردت في مقام بيان قدرته تعالى، ووردت فيها اليد مفردة ومثناة وجمعا، مما يدل على استحالة إرادة المعنى الظاهري. وحسبنا في هذا كلام الإمام الحافظ السلفي ابن كثير، قال في تفسير

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ (¬1): «أي الأمور كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام ... ». وقال في تفسير آية: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (¬2): «أي هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم». وقال في آية بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ (¬3): «أي بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه». وهكذا الشأن في قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: ما ورد هذا التعبير إلا في مناسبة بيان عظمة سلطانه تعالى، وأنه هو وحده المتصرف في الأكوان بقهره وجبروته كالأمثلة التالية: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 24]. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: 5 - 6]. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة: 4]. قال الإمام ابن كثير في آية الأعراف (¬4) ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: «وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 73 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 49. (¬2) سورة الفتح، الآية 10 وتفسير ابن كثير ج 7 ص 312. (¬3) سورة المائدة، الآية 64 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 138. (¬4) تفسير ابن كثير ج 3 ص 422 وكذا قال في تفسير آية (2) من الرعد ج 4 ص 352. «يمرّر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا».

وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى الأذهان المشبّهين منفيّ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وهكذا سائر الآيات يفسرها السلف رضي الله عنهم على هذه الطريقة (¬1). وقد اتفقوا على وجوب تأويل الآيات الواردة في متشابه الصفات في بعض الأحوال مثل: 1 - أن يكون للمتشابه تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا، فيجب القول به إجماعا، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، فهذه الآية ليس لها إلا تأويل واحد، هو الكينونة مع الخلق بالإحاطة بهم علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة. قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: «أي رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء ... » (¬2). 2 - أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين (¬3). ونقول أيضا: إنه إذا خيف من ترك التأويل سوء فهم الناس ووقوعهم في الزيغ وجب التأويل والأخذ بمذهب الخلف، وما أكثر ما يحتاج إليه في هذا الزمن الذي قل فيه العلم وكثر الجهل، وشاعت في أوساط المتعلمين أساليب التفكير العامّيّة، وطرق التصور السطحية. ¬

_ (¬1) انظرها في مواضعها من تفسير ابن كثير. (¬2) ج 8 ص 34. (¬3) انظر هاتين المسألتين في مناهل العرفان ج 2 ص 182.

لماذا ورد المحكم والمتشابه

لماذا ورد المحكم والمتشابه: لقد أشار القرآن الكريم إلى بعض الحكم والأسرار الكامنة في ورود المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في هذه العبارة: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ .... فتضمن هذا النص حكما علمية وعملية توسع العلماء في بحثها، نورد نبذا منها فيما يلي: أولا: أن الله سبحانه احتج على العرب بالقرآن، إذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة وحسن البيان، والإيجاز والإطناب، والمجاز والكناية، والإشارة والتلويح، وهكذا فاشتمل القرآن كذلك على هذه الفنون. ثانيا: أنزله الله سبحانه اختبارا ليقف المؤمن عنده، ويرده إلى عالمه فيعظم به ثوابه، ويرتاب به المنافق فيستحق العقوبة، ولم يضرهم جهلها ولو افتقروا إلى علمه لم يطوه عنهم، كما اختبر قوم طالوت بالماء فقال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فكما جاز ترك الأغراض في هذا وأن لا يقال ما العلة في هذا، فكذلك يؤمر بالمتشابه، ولا يقال: لم لم يكشف معانيها ولم يوضحها. ثالثا: أنزل المتشابه لتشغل به قلوب المؤمنين، وتتعب فيه جوارحهم وتنعدم في البحث عنه أوقاتهم، ومدد أعمارهم، فيحوزوا من الثواب حسبما كابدوا من المشقة، والأثرة له على غيره مما يعمل لربه، كما تعبدهم بالصلوات، والصيام، والحج من المنازل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وغيرها من الشرائع. وهكذا كانت المتشابهات ميدان سباق تنقدح فيه الأفكار والعلوم لما ذكرنا من الحكم في ورودها في القرآن (¬1). ¬

_ (¬1) أخذناها عن مقدمة كتاب المباني باختصار وتصرف ص 177 - 182 وانظر مشكل القرآن للإمام ابن قتيبة ص 63 وما بعد، ومناهل العرفان ج 2 ص 178 - 181.

الفصل الرابع عشر الناسخ والمنسوخ

الفصل الرابع عشر الناسخ والمنسوخ تعريف النسخ: النسخ في اللغة يطلق بمعنيين: المعنى الأول: الإبطال والإزالة، كقولهم نسخت الشمس الظل: أزالته. المعنى الثاني: النقل، ومنه نسخت الكتاب أي نقلته من كتاب آخر. والمراد بالنسخ بالاصطلاح الشرعي: رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر (¬1). وهذا العلم هام لدارس القرآن الكريم، وقد قال الأئمة: «لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ» (¬2). وقد قال علي بن أبي طالب لقاض: «أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تعريف النسخ والتوسع في شرحه في الاعتبار للحازمي ص 7 - 9. (¬2) الإتقان ج 2 ص 20. (¬3) المرجع السابق.

أقسام النسخ

أقسام النسخ: وقد قسموا النسخ عدة تقسيمات، أهمها بالنسبة لدراستنا هنا هذه الأقسام: أ- نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ، وهو أكثر الأقسام وقوعا، مثل نسخ آية العدة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ، فكانت العدة للمتوفى عنها زوجها حولا، ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. ب- نسخ القرآن بالقرآن كما سبق ذكره. ج- د- نسخ القرآن بالسنّة أو العكس. مثل نسخ استقبال بيت المقدس بالتوجه إلى القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فهذا نسخ للسنّة بالقرآن. هـ- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه نزلت آية في رجم الزاني المتزوج، وقد نسخت التلاوة وبقي الحكم. ونسخ الحكم والتلاوة معا مثل حديث السيدة عائشة: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخ بخمس رضعات معلومات يحرّمن، والجملة الأولى منسوخة التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي من منسوخ التلاوة فقط وحكمها باق عند الشافعية، ولم يعمل المالكية والحنفية بهذه الرواية من أصلها. ومما يؤيدهم في ذلك أن الرواية غير متواترة، ولا تثبت قرآنية شيء إلا بالتواتر، كما لا ينسخ القرآن إلا بالتواتر، وهذا الاعتراض يرد على ادعاء قرآنية آية الرجم. حكمة وقوع النسخ: يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، لما كان يتحقق به من نقل الإنسان إلى الدين الذي يأتي به كل نبي بعد النبوات التي قبله، حتى جاءت

شريعة الإسلام أكمل الشرائع وخاتمة الشرائع جميعا، فكان من حكمته سبحانه أن نسخ بها الشرائع والأديان السابقة كلها. وتفصيل هذا وشرحه: «أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة، وضعفا وجهالة، ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متباينة، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على تفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعا لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان، ومتمما للشرائع، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد، جمعا وفّق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها» (¬1). لذلك لم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود، فأنكروا جواز النسخ عقلا، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى عليه السلام، وتذرعوا بذلك الزعم لإنكارهم نبوة عيسى ونبوة سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام. وأثاروا الشبهة فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى، لأنه يدل على البداء، أي ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، والبداء مستحيل في حق الله تعالى، لأنه واجب له تعالى لذاته وصف العلم المحيط بكل شيء من الأزل إلى الأبد. والجواب عن هذا من وجوه: ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ج 2 ص 90 - 91.

1 - قال الإمام الغزالي (¬1) يرد هذه الشبهة محتكما إلى فهم معنى النسخ فقال: وهو عبارة عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت المشروط استمراره بعدم لحوق خطاب يرفعه، وليس من المحال أن يقول السيد لعبده: «قم»، ولا يبين له مدة القيام، وهو يعلم أن القيام مقتضى منه إلى وقت بقاء مصلحته في القيام، ويعلم مدة مصلحته ولكن لا ينبه عليها، ويفهم العبد أنه مأمور بالقيام مطلقا وأن الواجب الاستمرار عليه أبدا إلا أن يخاطبه السيد بالقعود، فإذا خاطبه بالقعود قعد ولم يتوهم بالسيد أنه بدا له أو ظهرت له مصلحة كان لا يعرفها والآن قد عرفها، بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصلحة القيام وعرف أن الصلاح في أن لا ينبه العبد عليها ويطلق الأمر له إطلاقا حتى يستمر على الامتثال، ثم إذا تغيرت مصلحته أمره بالقعود. 2 - إن القرآن الكريم رد على خرافة هؤلاء في شأن النسخ في قوله تعالى في سورة البقرة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فبين أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، ثم عقّب فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. 3 - الاستدلال بوقوع النسخ بين شرائع الأنبياء من لدن آدم إلى موسى عليه السلام، واليهود يعترفون بذلك وبنبوة هؤلاء الأنبياء الذين نسخت شرائعهم أحكاما من شرائع أنبياء قبلهم، فلماذا يجحدون بنبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام متذرعين بزعم استحالة النسخ ... وقد ذكر العلماء من النسخ الذي وقع في الشرائع السابقة أمثلة: منها أنه أحلّ لآدم تزويج بناته من بنيه من بطن آخر ثم حرم ذلك. وأباح الله تعالى لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها. وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، ¬

_ (¬1) في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد أول القطب الرابع ص 99.

التأليف في الناسخ والمنسوخ

فإن كانوا صادقين في إيمانهم بالتوراة فواجب أن يقروا بالنسخ، ويؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنهم يكونون مكذبين للتوراة نفسها. التأليف في الناسخ والمنسوخ: هذا ولأهمية هذا العلم فقد عني به العلماء في تفاسيرهم، وفي كتب أحكام القرآن، فبينوا ما وقع من النسخ في بعض الآيات، بل أفرده بالتصنيف في كتب خاصة خلائق لا يحصون كما قال السيوطي (¬1)، منهم أبو عبيد القاسم بن سلّام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس وابن الأنباري وابن العربي، ومكي ابن أبي طالب وآخرون». إلا أنا ننبه إلى أنه وقع توسع كثير من بعض العلماء في النسخ، فقالوا بنسخ آيات كثيرة لا دليل على نسخها، وكثير من ذلك من باب التخصيص لا النسخ. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ادّعي في هذه الآية وأمثالها أنها نسخت بآية فرض الزكاة. وليس ذلك بسديد لأن الآية عامة في النفقات الواجبة والمندوبة والمباحة، وهي بهذا لا تعارض آية فرض الزكاة، فمن أين يأتي النسخ؟!!. ومن أشهر الأمثلة وأهمها ادعاء أن آية السيف أي وجوب الجهاد قد نسخت: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ونحوها من الآيات كما نجده في تفسير الجلالين. وليس ذلك مقبولا، لأن آية الجهاد والشدة في حال علاقات الحرب، والآيات الأخرى تأمر بالإحسان ومكارم الأخلاق في حال السلم فكل من الآيات خاص بوقته المناسب له، وليس ذلك من النسخ. وغير ذلك مما يوجب التنبه والتحقق في هذا الأمر الخطير. ¬

_ (¬1) الإتقان ج 2 ص 20.

الفصل الخامس عشر الأحرف السبعة

الفصل الخامس عشر الأحرف السبعة يجد الدارس لهذا الموضوع في دراسته هنا تطبيقا لأصل عظيم من الأصول التي جاءت بها الشريعة، وهو مراعاة اليسر على الناس ورفع العسر والمشقة عنهم، وموضع اليسر هنا هو أن يسهل على العرب أخذ كتاب الله تعالى، والاهتداء بهداه. تعريف الأحرف السبعة: تعريف الحرف لغة: الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وحرف السفينة والجبل جانبهما، ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (¬1). أي أن من الناس من لا يدخل في الدين دخول متمكن، فإن أصابه خير أي خصب وكثر ماله أو ماشيته اطمأن به، ورضي بدينه، وإن أصابته فتنة اختبار بجدب وقلة مال انقلب على وجهه أي رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان (¬2). تعريف الأحرف السبعة اصطلاحا: الأحرف السبعة سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية 11. (¬2) من تفسير الزجاج وقال بنحوه ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» ص 27 - 28.

بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي

بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي: ولما أن سبيل درس هذا الموضوع هو النقل الثابت الصحيح من الذي لا ينطق عن الهوى، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه إلا لحسن الفهم، والترجيح بين الآراء، وبتعرف الصواب من الخطأ، فإنا نقدم نخبة من الأحاديث الثابتة تلقي لنا الضوء على هذا الموضع فيما يلي: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدت أساوره في الصلاة فتصبّرت حتى سلّم، فلبّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا عمر»، فقرأت التي أقرأني، فقال: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». متفق عليه (¬1) عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه. ¬

_ (¬1) البخاري ج 1 ص 184 ومسلم ج 2 ص 202 مختصرا.

ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا، فحسّن النبيّ صلى الله عليه وسلم شأنهما. فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا. فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه أن هوّن على أمتي. فرد إليّ الثانية اقرأه على حرفين. فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فردّ إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم». أخرجه مسلم (¬1) وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أيضا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا». أخرجه مسلم (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم في صلاة المسافرين (باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف) ج 2 ص 203 وانظر سنن أبي داود في الصلاة ج 2 ص 76 والنسائي في مفاتيح الصلاة (باب جامع ما جاء في القرآن) ج 2 ص 153 وتفسير الطبري رقم 33، 38، 89. (¬2) صحيح مسلم في صلاة المسافرين ج 2 ص 203 - 204، وأبو داود في الصلاة ج 2 ص 76. والنسائي في مفاتيح الصلاة ج 2 ص 152 - 153 وتفسير الطبري الأحاديث 34 و 35 و 36 و 37 و 46.

دلالة هذه الأحاديث على أصول الموضوع

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف». متفق عليه (¬1) ولمسلم عن ابن شهاب قال: «بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام». وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصة اختلافه مع بعض الصحابة في القراءة وأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عليّ بن أبي طالب فقال علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علّمتم». أخرجه الحاكم في المستدرك وأحمد والطبري وابن حبّان (¬2). دلالة هذه الأحاديث على أصول الموضوع: دلت هذه الأحاديث على جملة قواعد هامة نوضحها فيما يلي: 1 - ثبوت التوسعة في إنزال القرآن على سبعة أحرف ثبوتا قاطعا، نظرا لصحة أسانيد الأحاديث الواردة في القضية صحة حازمة، بل إن الحديث بلغ درجة التواتر الذي يفيد اليقين، لكثرة أسانيده ورواته من الصحابة فمن بعدهم. 2 - إن القراءة بأي حرف من هذه الأحرف يلزم فيها اتباع التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) البخاري في فضائل القرآن ج 6 ص 184 وفي بدء الخلق (باب ذكر الملائكة) ج 4 ص 113 ومسلم في صلاة المسافرين ج 2 ص 202 والمسند ج 1 ص 263 - 264 و 299 و 313 وتفسير الطبري حديث رقم 19. (¬2) المستدرك في كتاب التفسير ج 2 ص 224 والمسند ج 1 ص 150 وتفسير الطبري حديث رقم (13).

الأحرف السبعة والقراءات السبع

وأول ما يدل على ذلك هذا التعبير أُنْزِلَ الذي تواترت به الأحاديث فإنه يدل على أنه نزل به الوحي. ويدل على ذلك أيضا دلائل كثيرة في نصوص الأحاديث، مما يدل على أن المعيار في قبول الحرف أو رده ليس هو عدم ألفته من السامع، ولا كونه لهجة غير مألوفة له، إنما الأساس في الموضوع كله هو السماع والتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عدم التلقي عنه. ومما يدل على بطلان تفويض القراءة للقارئ بما يختاره من تلقاء نفسه أن ذلك يؤدي إلى ذهاب إعجاز القرآن وتعريضه لأن يبدّل، وذلك خلاف قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. ثم إن التغيير والتبديل بمرادف أو بغير مرادف مرفوض بقوله تعالى في سورة يونس: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فإذا كان هذا ليس من حق النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، فكيف يسوّغ ذلك في حق أحد من الناس؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق «هكذا أنزلت». 3 - تثبت عبارات الأحاديث المفصلة الواردة في الأحرف السبعة أصلا هاما يجب أن لا يغيب عن بال الباحث في تفسير الأحرف السبعة، وهو أنها وجوه في أداء الألفاظ فقط، أي كيفيات في القراءة، وجه الدلالة على ذلك أن الخلاف بين الصحابة في القراءة إنما وقع حول قراءة الألفاظ، ولم يكن اختلاف في تفسير المعاني، أنظر إلى قول عمر بن الخطاب: «فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وهكذا سائر العبارات تشير إلى أن القضية كانت تدور حول كيفية قراءة الألفاظ، لا تفسير المعاني. الأحرف السبعة والقراءات السبع: دلتنا النصوص التي درسناها ومحصنا دلالاتها على أن المراد بالأحرف

ما هي حقيقة الأحرف السبعة

السبعة سبع لغات نزل بها القرآن، ونود أن ننبه بأن الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع المشهورة، التي يظن كثير من عامة الناس أنها الأحرف السبعة. وهو خطأ عظيم ناشئ عن الخلط وعدم التمييز بين الأحرف السبعة والقراءات. وهذه القراءات السبع إنما عرفت واشتهرت في القرن الرابع، على يد الإمام المقرئ ابن مجاهد الذي اجتهد في تأليف كتاب في القراءات، فاتفق له أن جاءت هذه السبعة موافقة لعدد الأحرف، فلو كانت الأحرف السبعة هي القراءات السبع لكان معنى ذلك أن يكون فهم أحاديث الأحرف السبعة بل العمل بها أيضا متوقفا حتى يأتي ابن مجاهد ويخرجها للناس ... وقد كثر تنبيه العلماء في مختلف العصور على التفريق بين القراءات السبع والأحرف السبعة، والتحذير من الخلط بينها (¬1). ما هي حقيقة الأحرف السبعة: إذا بحثنا بعد هذا عن حقيقة الأحرف السبعة بدقة نجد أمامنا مذاهب تجتهد في تفسير المراد بهذه الأحرف، وتحاول تبيين الاختلاف في كيفية أداء ألفاظ القرآن على الأوجه السبعة التي نزل بها القرآن، ولعل هذا الخلاف أن يكون مستغربا مع اتفاق أصحاب هذا المنهج على أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه في قراءة القرآن، وقد هدانا البحث إلى معرفة سبب هذا الاختلاف، وهو اختلاف الطريقة التي توصل إلى تحديد هذه الأحرف: ذهب بعض العلماء إلى استخراج الأحرف السبعة باستقراء أوجه الخلاف الواردة في قراءات القرآن كلها صحيحها وسقيمها، ثم تصنيف هذه الأوجه سبعة أصناف، بينما عمد آخرون إلى التماس الأحرف السبعة في لغات العرب. فتكوّن بذلك مذهبان رئيسيان، نذكر نموذجا عن كل منهما فيما يلي: ¬

_ (¬1) انظر كلماتهم في النشر ج 1 ص 36 و 39 و 40 و 46 وفتح الباري ج 9 ص 25.

المذهب الأول

المذهب الأول: مذهب استقراء أوجه الخلاف في لغات العرب، وفي القراءات كلها ثم تصنيفها وقد تعرض هذا المذهب للتنقيح على يد أنصاره الذين تتابعوا عليه، ونكتفي هنا بأهم تنقيح وتصنيف لها فيما نرى، وهو تصنيف الإمام الرازي نسوقه فيما يلي: قال أبو الفضل عبد الرحمن الرازي: «فمن التأويلات التي يحتملها الخبر ولم يتقدم على نظامه تأويل هو أن كل حرف من الأحرف السبعة المنزلة جنس ذو نوع من الاختلاف». - أحدها: اختلاف أوزان الأسماء من الواحد والتثنية والجموع والتذكير والمبالغة وغيرها. ومن أمثلته: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وقرئ لأمانتهم بالإفراد. - والثاني: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه، نحو الماضي والمستقبل والأمر، وأن يسند إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به. ومن أمثلته: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بصيغة الدعاء، وقرئ: ربنا بعد فعلا ماضيا. - الثالث: وجوه الإعراب: ومن أمثلته: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ قرئ بفتح الراء وضمّها، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ برفع الْمَجِيدُ وجره. - الرابع: الزيادة والنقص: مثل: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى قرئ والذكر والأنثى. - الخامس: التقديم والتأخير: مثل: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، قرئ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، ومثل: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت. - السادس: القلب والإبدال في كلمة بأخرى، أو حرف بآخر: مثل:

المذهب الثاني

وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي، وقرئ: ننشرها بالراء. - السابع: اختلاف اللغات: مثل: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى تقرأ بالفتح والإمالة في أتى وموسى وغير ذلك من ترقيق وتفخيم، وإدغام ... وهكذا ... ثم قال أبو الفضل الرازي: « ... فهذا التأويل مما جمع شواذ القراءات ومشاهيرها ومناسيخها على موافقة الرسم ومخالفته، وكذلك سائر الكلام لا ينفك اختلافه من هذه الأجناس السبعة المتنوعة، فإن وافق هذا التأويل معنى الخبر (أي حديث الأحرف السبعة) حذوا بحذو فقد أصاب من أخذ به، وإن لم يوافقه فلا شك في دخول معنى الخبر تحت هذه الوجوه، وإن لم يكن مرتبا عليها» (¬1). المذهب الثاني: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات قبائل العرب الفصيحة. وذلك لأن المعنى الأصلي للحرف هو اللغة، فأنزل القرآن على سبع لغات مراعيا ما بينها من الفوارق التي لم يألفها بعض العرب، فأنزل الله القرآن بما يألف ويعرف هؤلاء وهؤلاء من أصحاب اللغات، حتى نزل في القرآن من القراءات ما يسهل على جلّ العرب إن لم يكن كلهم، وبذلك كان القرآن نازلا بلسان قريش والعرب كما قال الإمام البخاري في صحيحه. وقال جماعة من العلماء: إنّ هذه اللغات هي لغات: قريش، وهذيل، وتميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر (¬2). والحاصل أن هذين المذهبين أقوى ما قبل في تفسير حقيقة الأحرف السبعة. ولا خلاف بينهما في النتيجة، لأن أحدهما يبين أوجه الاختلاف، ¬

_ (¬1) «الأحرف السبعة في القرآن» ص 100 نقلا عن كتاب أبي الفضل الرازي نفسه وهو مخطوط محفوظ في مكتبة الأوقاف بحلب. وانظر فتح الباري ج 9 ص 23 - 24 ومناهل العرفان ج 1 ص 149. (¬2) البرهان ج 1 ص 217.

أين الأحرف الستة

والثاني ما تنطبق عليه هذه الأوجه من لغات العرب. وهما يحققان ما وردت به الأحاديث من نزول القرآن على سبعة أحرف يقرأ بها. أين الأحرف الستة: ذلك ما تبين بالأدلة من حقيقة الأحرف السبعة، والقول الصحيح فيها الذي يجب أن لا يخرج عنه الباحث، فأين هي الأحرف السبعة، هل ما يقرأ به المسلمون من القراءات اليوم يشتمل على الأحرف السبعة ويحققها، أو أنه حرف واحد، وأين هي الستة الباقية إذن. يرى المحققون في هذا الموضوع كالإمام الباقلاني وغيره أن الأحرف السبعة باقية وأن المصاحف العثمانية التي استنسخها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد اشتملت على الأحرف السبعة جميعا. وهذه عبارات الإمام المحقق أبي بكر الباقلاني تلقي الضوء ساطعا على القضية، قال رحمه الله ورضي عنه: «لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ... » (¬1). « ... لأن القوم عندنا لم يختلفوا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي لم يمت حتى علم من دينه أنه أقرأ بها، وصوّب المختلفين فيها، وإنما اختلفوا في قراءات ووجوه أخر لم تثبت عن الرسول عليه السلام، ولم تقم بها حجة، وكانت تجيء مجيء الآحاد وما لا يعلم ثبوته وصحته وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله: ¬

_ (¬1) انظر البرهان ج 1 ص 235 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 6 ص 100.

والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر (¬1). فَإِنْ فاؤُ (¬2)، ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج (¬3) ... فمنع عثمان من هذا الذي لم يثبت ولم تقم الحجة به، وأحرقه وأخذهم بالمتعين المعلوم من قراءات الرسول عليه السلام ... (¬4)». ¬

_ (¬1) أصل الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وورد عن بعض الصحابة زيادة «وهي صلاة العصر»، وهي قراءة تفسيرية، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الصلاة الوسطى أنها صلاة العصر. (¬2) الآية أصلها في المرأة يحلف زوجها لا يقربها: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقراءة فِيهِنَّ تفسيرية. (¬3) الآية في بيان بعض أحكام الحج، وجواز تعاطي التجارة ونحوها للمحرم بالحج، وقوله «في مواسم الحج» تفسير ليس من الآية. (¬4) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 174 - 175 نقلا عن الانتصار للباقلاني مخطوط ج 1 ورقة 113.

الفصل السادس عشر القراءات والقراء

الفصل السادس عشر القراءات والقراء تعريف القراءة: القراءة في اللغة: مصدر لقرأ. وفي الاصطلاح: «القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة» (¬1). وقولهم: كلمات القرآن: أي كلمة كلمة من أول القرآن إلى آخره، ببيان ما يندرج تحت قاعدة عامة، وما هو حالة خاصة. مثل السكوت اللطيف على عِوَجاً من الكهف. وقولهم: بعزو الناقلة: أي أن هذا العلم ثابت بالنقل الثابت المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا مصدر له سوى النقل والتلقين الشفاهي. والمقرئ: العالم بالقراءات، الذي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلو حفظ كتاب «التيسير» في القراءات مثلا فليس له أن يقرأ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة» (¬2). ¬

_ (¬1) منجد المقرئين لابن الجزري ص 3. وانظر تعريفا آخر في مناهل العرفان ج 1 ص 405. (¬2) منجد المقرئين ص 3.

ضابط القراءة المقبولة

ضابط القراءة المقبولة: ولما كان النقل بعزو الناقلة يختلف قوة وضعفا بحسب حال الناقلة، فقد احتاج الأمر إلى ضابط تميز به القراءة المقبولة وغير المقبولة. وقد ضبط علماء القراءات القراءة المقبولة بقاعدة مشهورة متفق عليها بينهم، وهي: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت رسم أحد المصاحف ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة» (¬1). ويتبين من هذا الضابط ثلاثة شروط يتوقف قبول القراءة على اجتماعها كلها وهي: الشرط الأول: موافقة العربية ولو بوجه: ومعنى هذا الشرط أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه النحو، ولو كان مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله، فلا يصح مثلا الاعتراض على قراءة حمزة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ، بجر الأرحام بأنه عطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وهو خلاف مذهب البصريين، لأنا نقول إن الكوفيين يجيزون مثل هذا العطف، وهكذا ... الشرط الثاني: موافقة خط أحد المصاحف ولو احتمالا: وذلك أن النطق بالكلمة قد يوافق رسم المصحف تحقيقا، إذا كان مطابقا للمكتوب، وقد يوافقه احتمالا أو تقديرا باعتبار ما عرفنا أن رسم المصحف له أصول خاصة به تسمح بقراءته على أكثر من وجه. مثال ذلك: ملك يوم الدين رسمت ملك بدون ألف في جميع المصاحف، فمن قرأ ملك يوم الدين بدون ألف موافق للرسم تحقيقا، ومن قرأ مالِكِ فهو موافق تقديرا، لحذف هذه الألف من الخط اختصارا. ¬

_ (¬1) النشر بتصرف يسير ج 1 ص 9.

الشرط الثالث: صحة السند

الشرط الثالث: صحة السند: وهو أن يروي القراءة عدل ضابط عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شذوذ ولا علّة. ويشترط في هذه القراءة أن تنال ثقة أئمة القراء الضابطين، بحيث تكون مشهورة لديهم متلقاة بالقبول عندهم. وقد يتساءل من لم يتمعّن حقيقة المسألة، كيف يكفي لقبول القراءة صحة السند مع أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر؟. والجواب عن هذا التساؤل من أوجه كثيرة نكتفي منها بوجه هو أن القراءة ثابتة بنقل أهل المنطقة كلهم، لكن بحكم قانون الانتخاب الطبيعي يوجد أفراد يفوقون أهل عصرهم، حتى يكونوا مرجعا لهم، وكذلك شأن هؤلاء القراء فإن السند وإن اتصل بخبر صحيح ظاهرا، لكنه متواتر في الحقيقة، لذلك قالوا يشترط أن تنال ثقة الأئمة وتكون مشهورة بينهم. أنواع القراءات حسب أسانيدها: وبالنظر لما ذكرناه فقد قسّموا القراءات بحسب أسانيدها ستة أقسام، وبينوا حكم كل نوع ودرجته من حيث القبول أو الرد، وهذه الأقسام هي: الأول: المتواتر: وهو ما نقله جمع غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند، وهذا النوع هو غالب القراءات. الثاني: المشهور: وهو ما صح سنده واستوفى شروط القراءة الصحيحة واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، وهذا تصح القراءة به، ولا يجوز رده، ولا يحل إنكاره. الثالث: الآحاد: وهو ما صحّ سنده وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا لا تجوز القراءة به. الرابع: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده ولو وافق رسم المصحف والعربية مثل قراءة: ملك يوم الدين، بصيغة الماضي في ملك ونصب يَوْمِ مفعولا.

الخامس: الموضوع

الخامس: الموضوع: وهو المختلق المكذوب. السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث ، وهو ما زيد في القراءة على وجه التفسير كما نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. فكلمة صالحة ليست قرآنا، إنما هي تفسير. وهذه الأنواع الثلاثة الأخيرة لا تحل القراءة بها، بالأحرى والأولى إذا كانت قراءة الآحاد لا تجوز القراءة بها، ويعاقب من قرأ بها. القراءات المتواترة وقراؤها: تلقى الصحابة القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأت كل قبيلة القرآن كما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم. ثم خرجت كل قبيلة في الفتوحات في كتيبة أو كتائب مجتمعة إلى بعضها، واستقرت في البلاد تقرأ قراءتها، ويتلقاها الأبناء عن الآباء فكان لكل بلد أو قطر قراءته المتواترة جيلا عن جيل. وكان من الضروري والطبيعي أن يشتهر في كل عصر جماعة من القراء، في كل طبقة من طبقات الأمة، يتفوقون في حفظ القرآن وإتقان ضبط أدائه، والتصدي والتفرغ لتعليمه، من عصر الصحابة، ثم التابعين، وأتباعهم، وهكذا، وكان من القراء من بلغ الذروة في الإتقان والضبط، كما كان ثمة قراء دونهم، وآخرون ليسوا من أهل الإتقان، فقام العلماء بتمحيص هذه القراءات ودراسة أحوالها، وبينوا للناس المتواتر منها. واعتبارا من عصر التابعين انتشرت القراءات كثيرا فشعرت طائفة من أهل العلم بضرورة الاحتياط للقرآن وقراءاته، فنهض كل إمام بضبط القراءة عن الأئمة المقرئين وهكذا في العصور التالية، ثم أودعت تلك القراءات في مؤلفات خاصة، كما فعله أبو عبيدة ثم الطبري ومن جاء بعد ... ثم جاء الإمام أحمد بن موسى بن العباس المشهور بابن مجاهد المتوفى سنة 324، فأفرد القراءات السبع المعروفة فدونها في كتابه «القراءات السبع» فاحتلت مكانتها في التدوين وأصبح علمها مفردا يقصدها طلاب القراءات.

شبهات بعض المستشرقين حول القراءات

وقد بنى اختياره هذا على شروط عالية جدا، فلم يأخذ إلا عن الإمام الذي اشتهر بالضبط والأمانة، وطول العمر في ملازمة الإقراء، مع الاتفاق على الأخذ منه، والتلقي عنه، فكان له من ذلك قراءات هؤلاء السبعة وهم: 1 - عبد الله بن كثير الداري المكي المتوفى سنة 120 هـ. 2 - عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي المتوفى سنة 118 هـ. 3 - عاصم بن أبي النّجود الأسدي الكوفي المتوفى سنة 127 هـ. 4 - أبو عمرو زبّان بن العلاء البصري المتوفى سنة 154 هـ. 5 - حمزة بن حبيب الزيات الكوفي المتوفى سنة 156 هـ. 6 - نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني المتوفى سنة 169 هـ. 7 - أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي الكوفي المتوفى سنة 189 هـ. وقد تابع العلماء البحث لتحديد القراءات المتواترة، حتى استقر الاعتماد العلمي واشتهر على زيادة ثلاث قراءات أخرى، أضيفت إلى السبع فأصبح مجموع المتواتر من القراءات عشر قراءات، وهذه القراءات الثلاث هي قراءات هؤلاء الأئمة: 8 - أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني المتوفى سنة 130 هـ. 9 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 205 هـ. 10 - خلف بن هشام، المتوفى سنة 229 هـ. شبهات بعض المستشرقين حول القراءات: دأب بعض المستشرقين على محاولة التشكيك بالقرآن العظيم وتشويش أذهان الناس، ولما أن القرآن محوط بأعظم أنواع الحفظ والصيانة في نقله وأدائه بالسطور والصدور، كان سبيل هذه الشبهات هو المغالطة وتجاهل الحقائق الثابتة، كذلك فعل المستشرق جولد تسيهر في موضوع القراءات، قال جولد تسيهر (¬1): «وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية ¬

_ (¬1) مذاهب التفسير الإسلامي ص 8.

الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة تبعا لاختلاف النقط الموضوعية فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حال تساوي المقادير الصوتية، يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة الغربية الأصلية ما يحدده إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وهذا إلى اختلاف دلالتها، وإذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط أو اختلاف الحركات في المحصول الموحّد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحرّ الدقة في نقطه أو تحريكه» انتهى. كذلك يقول بعض الكاتبين المعاصرين: «وقد يدل بعضها- أي بعض الروايات- على تحريف بعض الكلمات القرآنية بمعنى قراءتها بشكل مختلف عن القراءة التي أنزلت على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينسجم مع الرأي الذي ينكر تواتر القراءات السبعة، ويرى أنها نتيجة لاختلاف الرواية والاجتهاد» (؟!!). ويستدل هذا القائل لزعمه هذا ببعض روايات، وبعض نقول عن بعض الأئمة، مثل ما نقله عن جابر الجعفي عن أبي جعفر- وهو محمد الباقر- رضي الله عنه قال في رواية طويلة جاء فيها قوله: «أما كتاب الله فحرفوا ... ». هكذا يحاول هذا المستشرق وهذا الكاتب نسبة القراءات إلى تصرف فردي واختيار شخصي، مصادمين الوقائع الثابتة، والدلائل القطعية، نكتفي منها بما يلي: 1 - إن أحدا لم يقبل القرآن إلا موافقا للمتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرت بنا وقائع من إنكار الصحابي لما سمع قراءة لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان من شروط القراءة المقبولة التلقي بالأسانيد.

وقد أحسّ جولدتسيهر بهذا الضعف الخطير، فراح يستره بما هو أعظم، فادعى أن شرط صحة الرواية لا يحد من حرية القراءة، لأنه ليس عسيرا- في زعمه- أن يسند المرء قراءته إلى ثقات معترف بهم فتحرز قراءته القبول» (¬1). وهذا الزعم من تسيهر يكشف عن جهله بحقائق نقل القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم وحقائق مصطلح الحديث، أو تجاهله المتعمد لهذه الحقائق كلها، فإنه ليس يصح الحديث بمجرد الادعاء ونسبة القراءة أو الرواية إلى ثقة معرف به، بل هناك شروط الراوي ومنها العدالة والضبط، وهناك شروط سلسلة السند، وهناك السلامة من الشذوذ والعلة، وما في ذلك من تفاصيل تجعل من المتعذر حصول الاعتراف بقراءة أو رواية غير ثابتة على الحقيقة. فضلا عن أن حقيقة المطلوب في القراءة المقبولة هو التواتر كما حققناه، لذلك لا تقبل قراءة رجل انفرد بها عن أهل بلده، كما هو متفق عليه في هذا العلم. 2 - لو كان ثمة تسامح في القراءة وفق رسم المصحف من غير توقيف على التلقي لوجب أن يكون عدد القراءات كثيرا كثرة تبلغ أضعافا هائلة بالنسبة للقراءات الثابتة التي دققها العلماء وحققوا صحة سندها وتواترها، وقد اعترف جولدتسيهر نفسه بقراءات يسمح بها الخط، لكنها اعتبرت عند العلماء منكرة، مثل قراءة تستكثرون في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف: 248]. ومثل قراءة حماد الرواية أَباهُ عوضا عن إِيَّاهُ في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114]. ولو كان مجرد موافقة الخط كافيا لاعتمدت هذه القراءات ... ، وحسبنا ¬

_ (¬1) مذاهب التفسير الإسلامي ص 8.

القراءات الشاذة

هذا دليلا على أن مجرد موافقة الخط لم يكن هو العمدة في صحة القراءة. وإذا كانت قضية القراءة نقل قبيلة ثم بلد، فكيف يمكن لرسم المصحف أن يؤثر فيها، أو يؤثر فيها الاجتهاد الشخصي؟!. 3 - إن فذلكة تسيهر للموضوع جرت على قلب القضية من أساسها، وذلك أنه ليس هناك أي اختلاف في أن تجريد المصاحف العثمانية من الشكل والنقط كان بقصد استيعاب الأحرف المروية الثابتة من قبل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الزاعم قلب القضية وجعل هذا الرسم للمصحف سببا لظهور القراءات فيما بعد بزعمه الباطل. 4 - أن يكون الاستدلال بقراءة مكذوبة كما سبق، أو تكون قراءة تفسيرية كما هو مقرر، أو أن يكون النقل مختلقا على الإمام الذي نسب إليه، مثل الكلام المنقول عن الإمام أبي جعفر رضي الله عنه، فإنه مكذوب عليه، لأن سنده من طريق كذاب، قال أبو حنيفة ما رأى أكذب منه (¬1). فتحققنا من ذلك كله قطعية نقل القراءات المعتمدة، بأقوى نقل، هو التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. القراءات الشاذة: القراءة الشاذة: هي كل قراءة لم يتوفر فيها شرط واحد من شروط القراءة الصحيحة التي سبقت في ضابط القراءة الصحيحة. وهذا الإطلاق للشذوذ قديم، وكان الأصل فيه إطلاق الشذوذ على ما خالف رسم المصحف، واستوفى سائر الشروط، ويطلق على القراءة التي استوفت الشروط إلا أن سندها ضعيف: «رواية ضعيفة»، كما أطلقوا عليها وصف: «الشذوذ» أيضا على سبيل التوسع. أما إذا لم يوجد للقراءة سند فإنها تكون رواية مكذوبة مختلقة، يكفّر متعمدها حتى لو وافقت المعنى ورسم المصحف. ¬

_ (¬1) علل الترمذي بشرح ابن رجب ص 69.

أما حكم القراءة الشاذة فيتلخص بما يلي: 1 - يحرم القراءة بها، ولا تجوز الصلاة بها، لأنها ليست قرآنا، ويعاقب لقارئ بها ويستتاب. 2 - ذهب كثير من الفقهاء ومنهم الشافعية إلى عدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة، لأنها زعمت قرآنا ولم يثبت ذلك. وخالف الحنفية فقالوا: يجوز الاحتجاج بها في الأحكام، لأنها من قبيل التفسير، والظاهر أنه تفسير نقله الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - أما الاحتجاج بالقراءات الشاذة في اللغة فالراجح قبولها، لأنها لا تقل عن كثير من شواهد النحويين واللغويين. وبعد: فإن للأحرف السبعة والقراءات أهمية بالغة، لما جاءت به من فوائد في تنزيل القرآن وحفظ لغات العرب ولهجاتها. ولزيادة الدلالة على إعجاز القرآن، فإنها تؤيد بعضها بعضا، كما أن نظم القرآن المعجز يجري في كل قراءاته على ما هو عليه من الإعجاز: جزالة أو تتابع سرد، ونغم موسيقي، مع كثرة أوجه القراءات، مما يزيد الدلالة على إعجاز القرآن الكريم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التوسع في حكم نزول القرآن على سبعة أحرف وقراءاته في تفسير الطبري ج 1 ص 70 - 71 والأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 138 - 146 وغيرهما.

الفصل السابع عشر فواتح السور

الفصل السابع عشر فواتح السور حسن افتتاح الكلام من غاية البلاغة وأسباب القبول، لأنه أول ما يلامس أذن السامع، فإن كان بليغا جميلا استدعى انتباه السامع وإقباله، وإلا لم يكن له ذلك الوقع والتأثير. وقد شهد أئمة البيان والبلاغة للقرآن الكريم أنه أتت فيه فواتح السور على أحسن الوجوه وأكملها، حتى أخذت منه فنون حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال، كما أخذت من أساليبه سائر فنون البلاغة. ويجد الناظر في فواتح السور تفننا عظيما في أنواع الافتتاحيات، أثارت انتباه البلغاء وعقدوا لها دراسات، ومؤلفات، لحسنها، وكثرة فنونها، ففيها الافتتاح بالتحميد، والتسبيح لله تعالى، والقسم، والنداء، والأمر، والجمل الخبرية، وحروف التهجي، وجمل الشرط، والاستفهام، والدعاء، والتعليل (¬1). الافتاح بحروف التهجي: وكان أعجب فواتح السور حالا، وإثارة للبحث، هي حروف التهجي، التي افتتحت بها سور كثيرة من القرآن، وعرفت باسم «الحروف المقطعة في فواتح السور»، مثل: «الم»، «المص»، «ألر»، «حم»، «ق»، «ن». ¬

_ (¬1) انظر تفصيلها وبيان السور التي افتتحت بكل نوع منها في الإتقان، النوع الستين.

فما هو الهدف أو المقصود من إيرادها؟. أكثر العلماء من المفسرين واللغويين، وغيرهم قالوا: إن هذه الحروف المقطعة في فواتح السور هي أسماء للسور التي افتتحت بها، قالوا: سمّيت بها إيذانا بأنها كلمات عربية معروفة التركيب، قد ركّبت من هذه الحروف وأمثالها، وفي ذلك إشارة إلى الإعجاز، وأن القرآن لولا أنه وحي من الله تعالى لما عجزوا عن معارضته (¬1). يؤيد هذا القول أحاديث، منها ما في الصحيحين (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان». وكذا حديث: «يس قلب القرآن» (¬3). وحديث: «من قرأ آية «الكرسي» و «حم» المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء» (¬4). وذهب كثير من المحققين إلى أن هذه الحروف هي حروف مسرودة على طريقة التعديد- أي النطق بلفظها فقط- تنبيها على إعجاز القرآن، وكأنه يقول: إن القرآن منتظم من عين الحروف التي يتألف منها كلام العرب، فلولا أنه نازل من عند خلّاق القوى والقدر لما تضاءلت عن الإتيان بمثله قدرتهم، ولا عجزت عن كلام يساويه طاقاتهم، وهم فرسان البيان وأرباب الفصاحة والبلاغة. ¬

_ (¬1) هكذا نقله أبو السعود في تفسيره ج 1 ص 16 وكثيرون ذكروه أنه اسم للسورة دون ذكر الإشارة إلى الإعجاز. (¬2) كلاهما في الجمعة البخاري ج 2 ص 5 ومسلم ج 3 ص 16. (¬3) أخرجه أحمد عن معقل بن يسار مرفوعا في ضمن حديث ج 2 ص 26 وأخرجه الترمذي عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم وفيه «وقلب القرآن يس». في فضائل القرآن رقم 3048 والبزار عن أبي هريرة. تفسير ابن كثير ج 6 ص 547. (¬4) أخرجه البزار والترمذي في فضائل القرآن رقم 3039، والأحاديث في تسمية السور «حم» و «يس» وغيرهما كثيرة، انظرها في الجامعين الصغير والكبير في لفظ «من قرأ» وفي مصادر التفسير المأثور.

وقيل: إن هذه الحروف جاءت ليدل كل حرف منها على اسم من أسمائه تعالى، أو أنها لو وصلت صارت اسما من أسماء الله تعالى. وهما منقولان عن ابن عباس. فقد ورد عنه أنه قال: الم: «أنا الله أعلم». وقيل: إن الألف من «الله»، واللام من «لطيف»، والميم من «مجيد». ومثال وصلها ببعضها ما ورد عن ابن عباس: «الر» و «حم» و «ن» هي الرحمن. واستشهدوا لهذا بأن العرب قد تستعمل الحرف تريد به الكلمة، كقول الشاعر: فقلت لها قفي ... فقالت ق. أي وقفت. والذي يترجح عندنا من هذه الأقوال وغيرها هو المذهب الأول، وذلك لما ذكرنا من الأدلة، ولأنه أقرب المذاهب لاستعمال العرب، وإفادة الكلام. أما الرأي الثاني الذي يجعلها إشارة فقط إلى إعجاز القرآن، لأن القرآن مؤلف من هذه الحروف وغيرها، وكلامكم هو كذلك، وحيث عجزتم عن الإتيان بمثله فقد ثبت أنه كلام الله، فهذا الرأي له مؤيدات كثيرة. منها: أن عدد السور التي افتتحت بحروف التهجي تسع وعشرون، وهو عدد حروف الهجاء إذا جعلنا الهمزة والألف حرفين، وعدد الحروف الواردة فيها هو/ 14/ أي نصف الحروف، وأنها جاءت على نظام تركيب الكلمة عند العرب، منها ما هو حرف واحد، ومنها اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة. ومن أقوى ما يؤيّد به هذا الرأي أن عادة القرآن أن يذكر بعد هذه الافتتاحيات القرآن وعظمته، إلا مواضع قليلة هي ثلاثة. لكنه بعد ما فسّر الرأي الأول بأن هذه الفواتح أسماء للسور سمّيت بها إشارة للإعجاز فقد أصبح الرأي الأول يتضمن هذا الثاني، وهو بذلك أقرب منه، لما فيه من إفادة معنى مراد، ليس مجرّد الرمز والإشارة.

وأما جعل هذه الحروف رمزا لاسم من أسماء الله تعالى منفردة أو بوصلها مع بعضها فقد أولع به كثيرون من أهل الرياضات والتعبدات، وراح كل واحد يحملها محامل حسبما يخطر له، فليس مما نرجحه، لعدم انضباطه، أما شواهد كلام العرب فمنضبطة بقرينة تفيد المراد، والله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين. وبناء على الرأيين الأقوى في تفسير هذه الفواتح لحظ العلماء دقة التناسب بينها وبين السور التي افتتحت بها، وأتوا بعجائب غريبة: قال الإمام الزركشي رحمه الله (¬1): «ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة، واختصاص كل واحدة بما بدئت به، حتى لم يكن لترد «الم» في موضع «الر» ولا «حم» في موضع «طس». وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الواردة فيها، فلو وضع «ق» موضع «ن» لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة «ق» بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذكر القرآن، والخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، و ... ، وقول العتيد والرقيب ... وحقّيّة الوعيد ... وغير ذلك مما هو واضح فيها». ونضيف إلى ذلك ملاءمة حرف القاف الشديد لموضوع السورة ومعانيها كذلك. «واشتملت سورة «ص» على خصومات متعددة: فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ ¬

_ (¬1) فيما لخصه السيوطي في الإتقان: النوع الثاني والستون مع تصرف.

الأعلى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم ... » (¬1). وهكذا نخلص بعد هذه الدراسة إلى أن حروف الهجاء الواقعة في فواتح السور لها شأن عظيم: افتتحت بها تسع وعشرون سورة، وهو أكبر عدد بالنسبة لغيره من فواتح السور الأخرى، وكل هذه السور مكية عدا البقرة وآل عمران، وقد اشتملت السور التي افتتحت بهذه الحروف على بيان عظمة القرآن ¬

_ (¬1) وأما إخضاع هذه الحروف إلى حساب رقمي- الذي ظهر حديثا- فقد سبق بمحاولة قديمة هي حساب الجمّل الذي توصل به بعضهم إلى وقائع معينة، أو فضيلة شخص، وكل منهما وكذا ما يشابههما من أي تفسير للقرآن- على هذا النحو- باطل مردود، وذلك لأنه طريق غير مقبول للفهم في كلام العرب، ولا يجوز فهم القرآن بغير طرائق فهمهم، ولما في ذلك من فتح أبواب لأهل الباطل، فإن كتابا كبيرا لا يخلو من أن تتفق فيه كلمات أو حروف مع رقم ما، فهل نجعل ذلك دليلا على حقية ما يزعمه أصحاب هذا الرقم؟! ثم إن الله تعالى تحدى العرب والعالم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، من الكلام الدال على المعاني، ولم يتحدّ أحدا بحروف تعدّ ثم تقسم على عدد، فإدخال هذا الأمر خروج بالقرآن أسلوبا ومضمونا وإعجازا عن حقيقة القرآن. هذا لو فرضنا أن هذا الحساب المزعوم قد انتظم، كيف وقد اختل على يد مدعيه ولم ينتظم. وليس أمر العدد جديدا، بل قد لاحظ أسلافنا كثرة هذه الحروف في السورة التي افتتحت بها، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك وهو تلاؤم مضمون السورة لهذه الحروف ونغمها الموسيقى، فعلمنا من هذه البحوث العددية المعاصرة تأكيد دراستهم فقط، وهو إحكام القرآن ودقة نظمه وعمق أغواره، ليس بطريق حساب عدد متوهم مزعوم بل بطريق دقة النظم وعمق التجاوب بين هذه الفواتح وسورها. قال الزركشي: «وقد عد بعضهم القافات التي وردت في سورة «ق» فوجدها سبعا وخمسين، مع أن آيات السورة خمس وأربعون، وفي سورة «ن» تكرر هذا الحروف أربع عشرة ومائة مرة وآياتها اثنتان وخمسون ... كذلك أحصى العلماء عدد كلمات القرآن وحروفه، وكلمات سوره وحروفها أيضا، فلم يكن أمر الإحصاء والعدد غائبا عنهم. لكن العلماء كانوا أبعد نظرا وأسدّ مسلكا فإنهم أخذوا من هذا العمل بيان إحكام القرآن في نظمه ومعناه، كما رأينا.

وإعجازه، كما أن كل افتتاح منها جاء ملائما للسورة التي افتتحت بها، لفظا ومعنى، شكلا ومضمونا، نغما ودلالة، مما يجعلها واقعة في مواقعها لتمييز هذه السور التي افتتحت بها، فتكون أسماء لها، ومفاتيح افتتحت بها، كما قال الإمام التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه: «سمعت السلف يقولون: إنها أسماء السور ومفاتيحها».

الفصل الثامن عشر جمع القرآن الكريم حفظا في الصدور والسطور

الفصل الثامن عشر جمع القرآن الكريم حفظا في الصدور والسطور جمع القرآن يعني حفظه، وأول ما ورد هذا التعبير ورد في القرآن إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. وهذا موضوع جليل، قد عني العلماء بدرسه في كتب علوم القرآن، بل أفردوه بالدراسة في مؤلفات خاصة متعددة، نذكر منها هذه المؤلفات: 1 - «المصاحف» لابن أبي داود، مطبوع. 2 - «المصاحف» لابن أشتة. 3 - «الانتصار لنقل القرآن» للقاضي الإمام أبي بكر بن الطيب الباقلاني (403 هـ). 4 - «نكت الانتصار لنقل القرآن» للإمام الصيرفي. مطبوع. جمع القرآن في الصدور حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن: كان النبي الكريم أعظم العالم حفظا للقرآن، وكان يتلو هذا القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لا سيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العدد من السور الطوال. ولزيادة التثبيت كان جبريل يعارضه بالقرآن كذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل

حفظ الصحابة للقرآن الكريم

ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» أخرجه البخاري (¬1). وقال أبو هريرة: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض» أخرجه البخاري (1). حفظ الصحابة للقرآن الكريم: توفرت للصحابة العوامل التي تجعلهم يحرصون على حفظ القرآن إلى أقصى حد، وتجعل حفظ القرآن يتوفر فيهم إلى أبعد مدى، ومن تلك العوامل: 1 - قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة الطويلة من الشعر بالسمعة الواحدة. 2 - نزول القرآن منجما كما عرفنا من قبل. 3 - لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة، وما هنالك من الفضل والثواب في تطويل المنفرد صلاته لنفسه. 4 - وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم، وقد ترجموه إلى سلوك وخلق وحضارة. 5 - حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارئ من الثواب والأجر العظيم، والقوم أميون لا سبيل لهم إلا الحفظ عن ظهر قلب، وقد حددت السنة أقصى مدة للمسلم يختم بها القرآن شهرا، أو أربعين يوما. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله ¬

_ (¬1) في فضائل القرآن ج 6 ص 186.

عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول «الم» حرف ولكن «ألف» حرف و «لام» حرف و «ميم» حرف» أخرجه الترمذي. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، حتى قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» متفق عليه. 6 - تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن: فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل أفق أو قبيلة أرسل إليهم من القرّاء من يعلّمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية. وقد وافتنا الوثائق الثابتة الصحيحة بنماذج عن كثرة الحفاظ بين الصحابة، فهذه حرب المرتدين في اليمامة يقتل فيها، سبعون من القراء، بل ثبت بأوثق الإثباتات أنه صلى الله عليه وسلم أرسل في وفادة واحدة لتعليم بعض القبائل سبعين من القراء، وهم الذين غدر بهم المشركون في طريقهم وقتلوهم، كما في الصحيحين. وإننا إذ نوضح هذا نذكّر أولا جيلنا بواجبهم تجاه القرآن الكريم وأن يحذوا حذو سلفهم الصالح في حفظ القرآن، أو على الأقل أن يجعل المسلم من تحصيله ودرسه للقرآن حصة كسائر ما يدرسه ويتحفظه من المعارف، ونذكّر ثانيا بتلك الصيانة الكبيرة الواسعة التي أحيط بها القرآن منذ عصره الأول ولم يزل كذلك حتى وصل إلينا بنقل الكافة عن الكافة. على أن التاريخ إذ يسجل بدقة سمات مجتمع سلفنا، فإنه في الظواهر العامة لا يستطيع أن يسجل كل حالة على انفراد من حالات السمة العامة، إنما يسجل الحالات الخاصة والمتميزة عن سائر الأفراد فهو لا يسجل من الأطباء كل طبيب ولا من المهندسين كل مهندس ولا من العباد كل عابد، ولا من الفقهاء

كل فقيه، إنما يسجل من هؤلاء وهؤلاء الأفذاذ الذين بزّوا أقرانهم، وفاقوا أندادهم، حتى يكونوا كالمراجع لهم، وحتى لا يتبادر إلى الذهن لدى ذكر اختصاصهم غيرهم. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى كبار المقرئين ليأخذوا عنهم القرآن، كما أرشد وذكر مناقب اختص بها واحدا منهم أو اثنين بالذكر، ولم يفهم من ذلك أحد حصر القضية فيهم. عن مسروق أنه قال: «ذكر عبد الله بن عمرو عبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبّه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيّ بن كعب» أخرجه البخاري (¬1). وعلى هذا النحو ورد الحديث عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، وأبو زيد» أخرجه البخاري (¬2). فقد ذكر أنس هؤلاء لمعنى خاص لاحظه، أو أنهم هم الذين حضروا لذهنه (¬3). ¬

_ (¬1) في فضائل القرآن ج 6 ص 186. (¬2) ج 6 ص 187. (¬3) وأما رواية قول أنس: «مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»، أخرجها البخاري أيضا عقب الرواية السابقة، فليس يصلح أن نأخذ منها ما يخلّ بما قدمنا الدلالة القاطعة عليه. أما السند: فقد انتقده العلماء بأنه خالف الرواية الأولى وهي الأصح عند البخاري كما أشار لذلك البخاري نفسه، والمخالفة جاءت من وجهين: أحدهما التصريح بالحصر، والآخر ذكر «أبي الدرداء» بدل «أبيّ بن كعب»، وقد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة.

وقد تنوعت المواصفات التى سردت فيها قوائم القراء من الصحابة، فهناك الأئمة الذين اشتهروا أكثر، وكانوا مصادر تلقى عنهم المسلمون وهم سبعة: «عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري» (¬1). وهناك آخرون كثيرون ذكرهم العلماء. وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام- في كتاب القراءات الذي صنّفه (¬2) - القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء الراشدين الأربعة، وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسالما مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة (وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير)، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. وحفظ القرآن من الأنصار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة ابن الصامت، ومعاذ أبو حليمة، ومجمّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلّد. ¬

_ واما المتن: فلا يصلح فهمه على معنى نفي الحفظ عن غير هؤلاء، وحسبنا حديث أنس الأول دليلا حاسما في المسألة، وغاية ما هنالك أن الراوي فهم الحصر من الحديث فرواه على المعنى الذي فهمه، فأخطأ فيه، وخالف الثقات، لذلك قال الإمام البيهقي في المدخل «الرواية الأولى أصح». وأجيب عن المتن على تقدير صحته وسلامته من أي علة بأن المراد به الحصر الإضافي لا الحقيقي، والمعنى: لم يجمعه على جميع الأوجه والأحرف والقراءات التي نزل بها إلا أولئك النفر. الإتقان ج 1 ص 70، ولا يشكل على ذلك ورود الرواية في البخاري لأن البخاري قد يورد الحديث من أكثر من وجه، لبيان قوة أصل الحديث، والتنبيه على ما في بعض الروايات فلا يقدح ذلك فيه لأن العمدة على الأصل. (¬1) الإتقان ج 1 ص 72. (¬2) كما نقل عنه السيوطي في الإتقان ج 1 ص 72 وقال إنه صرح بأن بعضهم كمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يخل.

لكن هذا التعداد ليس للحصر قطعا، فهناك أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك. وقد أضاف الإمام الذهبي (¬1) جملة من القراء إلى ما ذكره أبو عبيد وهناك غيرهم كثير يستخرجهم القارئ من دراسة الكتب المؤلفة في الصحابة، ومما تتوارد به الروايات في المراجع (¬2). وهكذا ثبت حفظ الصحابة للقرآن في صدورهم بما يبلغ رتبة التواتر بل يزيد عليها أضعافا، تجعلنا تتيقن ما قاله الإمام أبو الخير بن الجزري: «إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة». وذلك مصداق البشارة التي وردت عن الأنبياء السابقين في وصف هذه الأمة: «أناجيلهم في صدورهم»، وهو تحقيق للحديث القدسي: «إني مبتليك ومبتل بك، ومنزّل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ... » (¬3)، كما أن هذا من تحقيق الإعلان القرآن الذي كرره القرآن وأكده: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. ¬

_ (¬1) في كتابه طبقات القراء كما نقل عنه الزركشي في البرهان ج 1 ص 242 - 243. (¬2) ومن ذلك: أبو زيد الذي ورد اسمه في الصحيح. وكمثل هذه الصحابية التي وجدها السيوطي ولم يعدها أحد وهي أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، أنظر الإتقان ج 1 ص 72، وكذلك أبو أمامة، وكان يقرئ في مسجد دمشق مع أبي الدرداء. (¬3) أخرجه مسلم في الجنة ج 8 ص 158 - 159 في حديث طويل.

جمع القرآن الكريم تدوينا في السطور

جمع القرآن الكريم تدوينا في السطور هذا الجمع هو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، ولا يذهب بذهاب الإنسان، فلا غرو أن يتحقق أكمل تحقق لهذا الكتاب الذي تكفل الله تعالى بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وقد رافق الجمع بالكتابة كل نجم من نجوم هذا القرآن منذ أن تنزّل هذا النجم بالوحي، إلى أن تكامل العمل بجمعه في المصحف جمعا محوطا بأشد أنواع العناية والحفاظ، حتى انتشر بين أمة الإسلام وهو في كل ذلك بإجماعها واطلاعها. وتقتضي الدراسة الدقيقة تقسيم البحث في جمع القرآن إلى ثلاثة مراحل، كما قسمها المحققون من قبل. جمع القرآن تدوينا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جدا، فكان كلما نزل عليه نجم دعا الكتاب فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل الرّقاع، واللّخاف، والأكتاف، والعسب (¬1). وقد اشتهر أن عدد كتّاب الوحي خمس وعشرون كاتبا، لكنه فيما يبدو أكثر من ذلك بكثير. فقد بلغ عدد الكتّاب فوق الأربعين، حسبما أفاده الإحصاء المستقصي لبعض المحققين (¬2)، وقد حصر النبي الكريم جهد هؤلاء الكتّاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلا في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين، كما في الحديث الصحيح: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه» أخرجه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) الرقعة: القطعة من الأديم أي الجلد ونحوه، واللحاف الحجارة الرقيقة، والعسب: سعف النخل يكشط طرفه العريض ويكتب عليه. (¬2) ابن حديدة الأنصاري في كتابه «المصباح المضيّ في كتّاب النبي العربي» وقد بلغ عدد الكتّاب عنده أربعة وأربعين. (¬3) مسلم في الزهد ج 8 ص 229 وأحمد ج 3 ص 21 بلفظه، وانظر في المسألة كتابنا منهج النقد ص 39 وما بعد.

فتحقق بذلك توفر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم (¬1) بسند على شرط الشيخين عن أنس رضي الله عنه قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع .. »، ومقصود هذا الحديث فيما نرى هو أن «المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم». ومن هنا كان لا بد أن تتوفر نسخ كثيرة من القرآن مدونة عند عدد من الصحابة مثل «أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، فبغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة». وكذلك السيدة عائشة رضي الله عنها. وثمة نصوص تثبت كثرة كتابة القرآن وانتشاره مكتوبا، تؤكد ما ذهبنا إليه، نذكر منها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو»، متفق عليه (¬2). وفي لفظ لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو». وهذا ظاهر في وجود المصاحف عندهم مكتوبة كما أشار البخاري في صحيحه. وكذلك كتابه صلى الله عليه وسلم المشهور إلى عمرو بن حزم: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» أخرجه مالك والنسائي وابن حبان (¬3). وقد تظاهرت الأخبار أن سبب إسلام عمر بن الخطاب هو سماعه القرآن يقرأ في المصحف من سورة طه. وغير ذلك من الأخبار في هذا الباب يثبت وجود القرآن عندهم مكتوبا في نسخ عديدة لديهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك تحقق للقرآن ¬

_ (¬1) ج 2 ص 229 وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة ص 44 - 45. (¬2) البخاري ج 4 ص 56 ومسلم ج 6 ص 30. (¬3) الموطأ ج 1 ص 157 والنسائي ج 8 ص 57 وموارد الظمآن ص 203.

جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحفظ التام بنوعيه: حفظ الصدور وحفظ السطور. جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ثم لاحت في الأفق إشارات تحذّر من الخطر، وذلك نتيجة القتل الكثير الذي وقع في صفوف الصحابة في حروب الردة، وكان قرّاؤهم أكثر إقداما بين مقاتليهم، فكثر فيهم القتل حتى دعا ذلك للتدبر في المستقبل الذي سيواجه فيه المسلمون الدولتين الأعظم في العالم آنذاك، كما فصلت لنا الروايات الصحيحة القطعية الثبوت، نسوق منها هنا رواية الإمام البخاري: أخرج البخاري (¬1) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرّ يوم القيامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه ¬

_ (¬1) في فضائل القرآن (باب جمع القرآن) ج 1 ص 183.

الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم». وهذا النص يفيد تخوّف الصحابة وحسابهم للمستقبل الذي يوجب الحذر والاستعداد لما يطرأ للقراء في مجتمع فرض عليه الجهاد وأحدقت به الأعداء. ويذكر الحديث ما اقتضاه العمل من الجهد في قول زيد: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال». إن هذا يعني في ضوء المعلومات الثابتة التي قدمناها معنى جليلا هو أنه «طلب القرآن متفرقا ليعارض (¬1) بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن، ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكّوا في أنه جمع عن ملأ منهم» (¬2). وفي ضوء هذا نفهم قوله: «وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره». وروى البخاري عن ابن شهاب قال: «وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: «فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فألحقناها في سورتها في المصحف» (¬3). فقد ورد من أكثر من طريق (¬4) أن زيدا وعمر بن الخطاب قاما بعمل جمع ¬

_ (¬1) أي يقابل وتدقق نسخته. (¬2) البرهان ج 1 ص 238 - 239. (¬3) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ج 6 ص 184. وقد اخترنا أن قصة هذه الآية وقعت في جمع القرآن على عهد أبي بكر لاتحاد مخرج القصتين فإنهما ترويان عن زيد بن ثابت، أما الجمع على عهد عثمان فمن رواية أنس بن مالك، كما أنه من المستبعد جدا فقد شيء من مصحف أبي بكر، وعمل الصحابة في عهد عثمان إنما كان نشرا للمصاحف عن مصحف أبي بكر، وهو الذي جزم به الإمامان ابن كثير والزركشي. (¬4) كما أخرجها ابن أبي داود في المصاحف ص 12 و 17 وانظر الإتقان ص 58.

القرآن هذا «وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان». وقد فسر هذا القول بتفاسير متعددة كلها تشير إلى غاية التثبت، ولعل أولاها عندنا هو الاستشهاد على أن ذلك كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فسره أبو شامة المقدسي، وعلم الدين السخاوي. «ولذلك قال في آخر سورة التوبة: لم أجدها مع غيره، أي لم أجدها مكتوبة على الشرط المذكور مع غيره». وإلا فإن خاتمة براءة محفوظة عنده وعند غيره من الصحابة، مشهورة قد وردت أحاديث في فضلها. وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، واستغرق هذا الجمع زهاء سنة، هي مدة ما بين واقعة اليمامة ووفاة الصديق رضي الله عنه، وأودعت نسخة المصحف لدى الخليفة لتكون إماما تواجه الأمة به ما قد يحدث في المستقبل ولم يبق الأمر موكولا إلى النسخ التي بين أيدي كتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفّاظ وحدهم. ويعجبنا في هذا ما قاله الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب «فهم السنن»: «كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء (¬1). وما كان أقواه وأمتنه من خيط ذاك الذي جمع به الصحابة رضي الله عنهم كتاب الله تعالى. وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 238 والإتقان ج 1 ص 58.

جمع القرآن بنسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه

عظيمة من مناقبه وفضائله الجمة رضي الله عنه، أثنوا عليها وأشادوا بها، لكونه أول من جمع القرآن، أي هذا الجمع العظيم الموثق، وحسبنا في ذلك ما ثبت عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله» (¬1). جمع القرآن بنسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه: إن ما يميز السياسة الراشدية نظرها الثاقب الذي يتدبر الأمور، بل الذي يسبق الحوادث قبل وقوعها، كما سجلها المؤرخون قديما وحديثا، وهكذا كان عمل أبي بكر والصحابة في جمع المصحف عدة ماضية آتت أعظم النتائج في مواجهة ما تطويه الأيام من تغيرات ومفاجآت (¬2)، فقد استجد في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يوجب نشر هذا المصحف وتعميمه على الآفاق ليحقق الغاية التي جمع لأجلها واستغرق تلك الجهود والأوقات. أخرج البخاري (¬3) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي داود في المصاحف. والمراد أنه أول من جمع كتاب الله الجمع الموثّق باطلاع جميع المسلمين عليه، لما علمنا بالأدلة القاطعة الثبوت أن الصحابة كان عندهم القرآن مكتوبا. (¬2) نذكر هنا بمواقف الصحابة من رواية الحديث لما برز قرن الفتنة وظهر الكذب وكيف واجهوا الموقف بأحكم الوسائل العلمية في المحافظة على الحديث النبوي، كما فصلناه في كتابنا منهج النقد في علوم الحديث ص 55 - 57 محققا بالأدلة الثابتة. (¬3) ج 6 ص 183 - 184.

الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق». فقد أفادت هذه الرواية فوائد لها أهميتها في فهم العمل الذي قام به عثمان بن عفان رضي الله عنه، عني العلماء ببحثها ودراستها: وأول ذلك: السبب الدافع للعمل الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن، حتى قرءوه بلغاتهم- كما قال ابن التين (¬1) - على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش ... ». وهذا يوضح لنا فرقا جوهريا بين عمل أبي بكر وعمل عثمان، وهو أن عمل أبي بكر كان جمع القرآن كله في نسخة معتمدة يشترك فيها الجميع لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في نسخة واحدة موثقة ذلك التوثيق، بل كان ما وجد من نسخ المصحف عند كتّاب الوحي على مسئوليتهم الخاصة. وأما نوع الاختلاف الذي حدث بين الناس في القراءة فيلخصه لنا الإمام أبو بكر الباقلاني في الانتصار بأن عثمان «إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ... خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد» (¬2). ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 60، وقارن بفتح الباري ج 9 ص 19. (¬2) البرهان ج 1 ص 235 - 236، والإتقان الموضع السابق.

شروط الكتابة في المصاحف العثمانية

ثم إنا نجد ما يدل على أن العمل في نسخ المصاحف ساهم فيه غير هؤلاء الأربعة المذكورين هنا، وقد أخرج ابن أبي داود من أربعة طرق عن محمد بن سيرين قال: «جمع عثمان اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب ... » (¬1). وتوافينا روايات تفصيلية بأسماء صحابة آخرين سوى أعضاء اللجنة الرباعية ساهموا في نسخ المصاحف، حتى اجتمع من التتبع إحصاء أسماء تسعة نفر منهم، مما يقوي رواية الاثني عشر، ويشير إلى أن اللجنة الرباعية كانت هي الرئيسية، ورفدها في العمل خبراء، عملوا معها لكتابة المصاحف التي تكفي لحاجة المسلمين» (¬2). شروط الكتابة في المصاحف العثمانية: وأما القواعد التي اتبعوها في كتابة المصاحف، فكانت أصولا هامة سارت عليها الأمة من بعد، وقد صرّح الحديث بقاعدة هامة منها، وحدثتنا الروايات عن غيرها، فمن مهمات ذلك: 1 - اختيار حرف قريش: لما جاء في الحديث: «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا». وهذا لا يدل على إبطال بقية الأحرف السبعة، لما هو معلوم من قواعد رسم الصحف أنه غير مشكول ولا منقوط، وأنه لم تثبت فيه ألفات المد حسب قواعد في رسم الألف وعدمها، فمثلا «مالك» تكتب «ملك» و «الكتاب» تكتب «الكتب». ومن هنا كان لقراءة رسم المصحف طريقان: الموافقة للرسم المكتوب تحقيقا، والموافقة احتمالا وتقديرا. ¬

_ (¬1) المصاحف ص 33 - 34 وانظر فتح الباري ج 9 ص 16. (¬2) قارن رأينا هذا بفتح الباري ج 9 ص 16 - 17، وفيه التتبع للزيادة على الأربعة. وراجع للتوسع نكت الانتصار لنقل القرآن للصيرفي ص 367 وما بعد.

فقراءة «ملك يوم الدين» موافقة للرسم تحقيقا. وقراءة «مالك يوم الدين» موافقة له تقديرا. لكن لا تجوز أي قراءة يحتملها الرسم إلا إذا ورد بها النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو مقرر في ضابط القراءة الصحيحة، غاية الأمر هنا أن يكون الرسم موافقا للسان قريش تحقيقا، ولغيرهم تقديرا (¬1). 2 - إذا لم يمكن استيعاب كل الأوجه كتب بعض المصاحف ببعض الأوجه، وكتب بعض آخر بأوجه أخرى مثل «ووصّى»، «وأوصى». 3 - تجريد المصحف عن كل ما ليس قرآنا، حتى سرت هذه العبارة المأثورة التي تناقلها التابعون: «جرّدوا المصاحف». 4 - التثبت البالغ في الرسم، كما قال كثير بن أفلح أحد الكاتبين مع اللجنة الرباعية: «فكانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه»، قال ابن سيرين: «أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة» (¬2). وقد ورد نحو ذلك بأكثر من وجه. وبهذا كان عمل عثمان بن عفان متكاملا في غاية الضبط والإتقان وقد حقق الهدف الذي قصد إليه من وراء هذا العمل من وجهين هما بيت القصيد: آ- المحافظة على نص القرآن أن يدخل فيه ما ليس منه، أو أن يتعرض لأي تحريف، بسبب العوامل التي سبق ذكرها. ب- اعتماد القراءات المتعددة المتواترة التي يمكن أن يقرأ بها القرآن، كما ذكرنا في قاعدة الرسم، وبذلك قضى عثمان رضي الله عنه على الخصام ¬

_ (¬1) وأما رواية أنهم اختلفوا في التابوت فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوة، فرفع إلى عثمان فقال اكتبوه «التابوت» فإنه نزل بلسان قريش، فهذه الرواية في إسنادها كلام، رواها الزهري مرسلة، وتفرد بوصلها من هو ضعيف، وانظر فتح الباري ج 9 ص 17. (¬2) فتح الباري ج 9 ص 16.

نشر عثمان المصاحف في الأمصار

بسبب القراءات بين المسلمين، لأن الجميع علموا شرعية ما يقرأ به القرآن، لاعتماده على الأصل المجمع عليه من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يشير إلى هذا الهدف قول عثمان يرد على الخارجين عليه اعتراضهم لحرقه المصاحف: «إنما منعتكم من الاختلاف ... ». نشر عثمان المصاحف في الأمصار: تم العمل الضخم الذي قام به عثمان وهو نسخ المصاحف بما لا يتجاوز كثيرا (سنة 25 هـ) التي هي سنة غزو المسلمين إرمينية كما يثبته التاريخ (¬1)، فأعاد عثمان الصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، ووزع المصاحف على وجه يحقق المقصود، ويزيل الإشكال فأرسل إلى كل مصر من الأمصار الإسلامية بمصحف من المصاحف التي نسخت، واحتفظ عنده بمصحف سمي «المصحف الإمام»، وقد وقع الاختلاف في عدد هذه المصاحف، والمشهور أنها خمس على ما قرره السيوطي، لكن إذا أضفنا إليها المصحف الإمام كان المجموع ستة مصاحف. ولاحظ عثمان في هذا التوزيع إرداف الكتابة بالقراءة، وهي العمدة بالنسبة لقراءة القرآن التي تحتاج إلى التلقي من الأفواه، فأرسل إلى كل بلد قارئا يرافق المصحف ويقرأ بالقراءة الموافقة لرسم المصحف، على التوزيع التالي: زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السّلمي مقرئ المصحف الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري (¬2). وفي مقابل ذلك أمر عثمان بما سوى ذلك من المصاحف أن يحرّق، ¬

_ (¬1) خلافا لما توهمه بعض السابقين ممن لم يحقق فزعم أنه كان سنة 30، ومن ثم جاء بعض الأجانب ليبني على هذا القول الساقط خيالات باطلة، وانظر تحقيق الترجيح في فتح الباري للحافظ ابن حجر. (¬2) بتصرف يسير عن مناهل العرفان ج 1 ص 396 - 397.

فضيلة عمل عثمان

فاستجاب الصحابة كلهم لذلك، وحمدوا صنيعه، حتى عبد الله بن مسعود نفسه، فإنه بعد أن امتنع قليلا وافق طواعية، كما ثبت ذلك بالأدلة القاطعة الثابتة عنه (¬1). وإنما صنع عثمان ذلك بهذه المصاحف الفردية لإزالة جذور الخلاف ومنابته. وقد انعقد إجماع الأمة عبر كل العصور منذ عهد الصحابة على التزام المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وعملت بذلك جميع الفرق الإسلامية، لا يسمح أحد بمخالفة المصحف لا في رسمه ولا ترتيبه. وهذه المصاحف في مختلف البلاد الإسلامية ولدى مختلف الفرق المسلمة لا تختلف في شيء عن مصاحف أهل السنّة، حتى في طريقة تقسيم السور وترقيمها، الأمر الذي أثبت بالدلالة القاطعة لكل العقلاء المنصفين على اختلاف أديانهم «أن المصحف الذي نسخه عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي من الجميع للنص المقبول نفسه حتى اليوم يعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا» (¬2). فضيلة عمل عثمان: وقد حمد المسلمون سلفا فخلفا لعثمان رضي الله عنه صنيعه، حتى لقبوه جامع القرآن، لما «وفّق له من هذا الأمر العظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الآثار عنه في المصاحف لابن أبي داود تحت عنوان «رضا عبد الله بن مسعود لجمع عثمان ... ». (¬2) باختصار عن المستشرق (و. موير). (¬3) البرهان ج 1 ص 239 و 240.

وقد ثبت عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: «يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا» (¬1). وقال علي رضي الله عنه أيضا: «لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل» (¬2). وقد عنيت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية أكبر عناية، فاتخذت هذه المصاحف أصولا يؤخذ منها، وأئمة يقتدى في كتابة المصاحف بها، حتى حدثنا الرحالون المسلمون العلماء، والأئمة الكبار عن نسخ من هذه المصاحف أو قطع منها شاهدوها في بلاد الإسلام، ولا تزال أجزاء هامة من بعض هذه المصاحف حتى عصرنا هذا تحتفظ بها بعض دور الآثار الضخمة وتزهو بها على العالم. ويحدثنا الإمام ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة (774 هـ) عن المصحف الشامي فيقول (¬3): «أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518، وقد رأيته كتابا عزيزا، جليلا، عظيما، ضخما، بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم، في رقّ أظنه من جلود الإبل». وقد ظل هذا المصحف مفخرة تزهو بها دمشق، ويحتضنها جامعها الأموي الكبير، حتى كان الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 15 والنص أخرجه ابن أبي داود في المصاحف ص 30 وابن الأنباري والسياق لابن أبي داود لكن الجملة الأولى من سياق ابن الأنباري، وانظر الإتقان ج 1 ص 59 ومقدمتان في علوم القرآن ص 46 ومناهل العرفان للزرقاني ج 1 ص 155. (¬2) المصاحف من أكثر من طريق ص 19 و 30 وانظر البرهان ج 1 ص 240. (¬3) في كتابه فضائل القرآن المطبوع في آخر تفسير ابن كثير ج 4 ص 15.

1310 هـ، واحترق فيه هذا المصحف الجليل (¬1). وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن في الصدور والسطور منذ عهد الرسالة، ثم بصنيع أبي بكر وصنيع عثمان بن عفان والصحابة في نسخ المصاحف مزية ليست لأمة غيرها، هي اعتماد المسلمين على نسخ من كتاب ربهم، منقولة على غاية الدقة والتحري عن الأصل المكتوب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع مقابلة ذلك كله بحفظه في صدور المسلمين كلهم، ثم نقله كذلك عبر أجيالهم، ليعترف لهم التاريخ على لسان الموالي لهم والمخالف لدينهم بأنه أدق وأكمل مما يتوقعه أو يمكن أن يفعله أي إنسان، تحقيقا لقول الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ¬

_ (¬1) قال الأستاذ العلّامة الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن ص 89: «وقد ذكر لي الزميل الأستاذ الدكتور يوسف العش أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا في المقصورة، وله بيت خشب» انتهى بحروفه.

حفظ الله تعالى القرآن العظيم من التحريف والتبديل فيه والزيادة والنقصان أبد الآبدين

حفظ الله تعالى القرآن العظيم من التحريف والتبديل فيه والزيادة والنقصان أبد الآبدين لقد أثبت البحث العلمي في حفظ القرآن على عهد الصحابة الكرام أنه قد ثبت قطعا ويقينا حفظ الصحابة للقرآن الكريم بعدد يفوق التواتر حفظا في الصدور، كما أنه حفظ تسجيلا في السطور في الصحف حتى بلغ عدد النسخ جملة كثيرة عند كتّاب الوحي الذين زاد عددهم على الأربعين. وهذا يدل قطعا على أن الله تعالى قد حفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان. ويدل على ذلك أيضا أدلة أخرى كثيرة قطعية يقينية، نذكر نبذة منها فيما يلي: أولا: قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1). فقد دل على أنه سبحانه هو الذي أنزل هذا القرآن وهو تكفل أن يحفظه من التلاعب والزيادة والنقصان، فكما يجب الإيمان قطعا بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى، يجب الإيمان قطعا بأن الله هو حافظ لهذا القرآن قطعا. وذلك يوجب ألا يدخل عليه أي تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان. فلو جرى على هذا القرآن تبديل أو تغيير أو زيادة أو نقص: لما صحّ الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولما صدق الله تعالى وعده بالحفظ لهذا القرآن العظيم، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن الله تعالى لا يخلف ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية 9.

وعده، وإن خبره صادق محتم الوقوع. ومن أصدق من الله قيلا! ومن أوفى بعهده من الله!! فإنه سبحانه لا يكذب خبره ولا يتخلّف وعده ولا تنقض كفالته. ثانيا: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬1). فإنه لو جرى على هذا القرآن الكريم تبديل أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومعارضا لقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن الله تعالى أخبر أن الباطل لا يأتي هذا القرآن ولا يتسرب إليه لا في نصوصه ولا في معانيه، فهو لا يعارض ولا يناقض، ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، لأن الزيادة فيه باطلة ليست منه، والنقص منه هو إبطال لما هو منه حقا دالا على حق. فقوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ دليل صيانته وحفظه من التلاعب والزيادة والنقص. وهذا الخبر القرآني لا يتخلف ولا يتبدل. إذن فالباطل لا يمكن أن يتسرب إلى هذا القرآن قطعا، لا في نصوص كلماته بزيادة أو نقص، ولا في معانيه بتكذيب أو نقض. ثالثا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص: لكان ذلك منافيا ومخالفا لقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ الآية. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر به أول هذه الأمة وأوسطها وآخرها على حد سواء، وجعل الله تعالى القرآن الكريم حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع العباد، وبلاغا عنه لكافة العباد إلى يوم المعاد، فإنه صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة العامة للثقلين إلى يوم القيامة، ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى كتابه الذي أنزله الله عليه، يبقى محفوظا إلى يوم الدين، لتقوم الحجة على العباد، وليهتدوا به إلى سبيل ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية 41.

الرشاد، ويبلّغه آخر هذه الأمة كما بلغه صلى الله عليه وسلم لأولها. فلو جاز أن يجري عليه تحريف أو زيادة أو نقص لما تحقق إنذاره صلى الله عليه وسلم بالقرآن لمن يأتي من بعده، كما أنذر الذين في عصره، في حين أن الآية تخبر بإنذاره صلى الله عليه وسلم لمن في عصره ومن بعده على حد سواء. رابعا: لو جرى على هذا القرآن الكريم تحريف أو زيادة أو نقص: لأدّى ذلك إلى ذهاب الثقة به، ولأدّى ذلك إلى عدم الإيمان الجازم بما جاء به، وكيف لا يوثق به ولا يقطع جزما بما جاء به، مع أن الله تعالى بيّن لعباده أن هذا الكتاب الذي هو بجميع آياته موثوق به ومقطوع بحقيقته لا يتطرق الباطل ولا الخلل إلى جانب من جوانبه. قال تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فإن فحوى هذه الآية ونصها يناديان العباد ويخبرانهم أن الثقة كل الثقة، واليقين كل اليقين، والحق كل الحق، في هذا الكتاب العزيز الذي لا يجد الباطل والوهم والكذب والافتراء والتلاعب وما شابه ذلك- لا يجد ذلك إلى الكتاب سبيلا أصلا. فلو جرى عليه تحريف أو زيادة أو نقص لذهبت الثقة واليقين به. أما ذهاب الثقة بالمزيد فالأمر بيّن. وأما ذهاب الثقة بالمزيد عليه فإن العاقل يقول: لعل في هذا الأصل زيادة أيضا، فما يدرينا أنها كلّها أصل؟! وأما ذهاب الثقة به حالة النقص: فذلك لأن بين الأصل المنقوص عنه والشيء الناقص منه ارتباطا في المعاني والأحكام والأخبار وغير ذلك، ولو جرى عليه النقص لأدى ذلك إلى عدم الثقة بالناقص والمنقوص منه. فلا يكون أحد من المسلمين على ثقة بدينه، لاحتمال نسخ بعض الصلوات أو تغيير أوقاتها أو الزيادة عليها، أو نسخ الزكاة أو مقاديرها، أو نسخ الصيام أو الزيادة فيه أو بتبديله بغيره، أو نسخ الحج، أو تحليل الخمر والميسر ونحوهما من المحرمات، أو تحريم بعض أنواع من الحلال، وبذلك لا يكون أحد من الناس على عبادة إلا وهو على شك منها، ولا يقدم على حلال ولا يحجم عن

حرام إلا وهو متشكّك، فأين الإيمان والجزم بشرع الله تعالى! نعوذ بالله تعالى! إن ذلك يخل بوجوب امتثال الإسلام، الذي كلف الله تعالى به جميع الأنام، في كل الأزمان، وذلك الإخلال ضد نصوص القرآن القطعية التي تطالب الناس بالإسلام في كل عصر وآن. قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً الآية. وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلذلك كان أيضا حفظ كتابه النازل عليه صلى الله عليه وسلم ثابت بالأدلة القطعية المفحمة للعقول، كما تقدم. ومن ذلك أيضا قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فقد بيّن سبحانه في هذه الآية أن وظيفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله أن ينذر العالمين إلى يوم الدين، دون أن يقتصر على أهل زمانه فحسب. ولا بد لهذا الخبر أن يتحقق وقوعه، لأنه من الله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا فكيف كان ذلك؟ هل تحقق أم لا؟. نعم كان ذلك حقا، كما بيّن الله تعالى في قوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أي وأنذر القرآن كل من بلغه هذا القرآن إلى يوم الدين، لأن هذا القرآن باق كما هو، إلى يوم الدين بحفظ رب العالمين (¬1). خامسا: إن من المعلوم قطعا أن القرآن الكريم كان في حياة الصحابة والسلف الصالح بمنزلة الروح من الجسد، به آمنوا بالإسلام، وبه جاهدوا، وبه جادلوا وقارعوا أهل الملل، ولأجله عاشوا، وبذلوا أرواحهم رخيصة من أجل القرآن ودعوته، واستحفظوه حوافظهم الفذة، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. فمن المحال أن يحصل في كتاب الله تعالى خلل أو زيادة أو نقص من أي شخص كان مهما عظم شأنه سهوا أو عمدا إلا وينهض القوم بأجمعهم ¬

_ (¬1) تلاوة القرآن المجيد ص 11 وما بعد، وهدي القرآن الكريم إلى الحجة والبرهان ص 216 وما بعد، كلاهما لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين حفظه الله.

كبيرهم وصغيرهم، دانيهم وقاصيهم لتقويم العوج وتصحيح النص. ويحاربون لأجله، ويجاهدون في سبيله، لا سيما وأن إعداد نسخة المصحف التي أريد أن تكون مرجعا للناس، التي أعدت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم نسخ المصاحف عنها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ذلك كله باطلاع المسلمين كلهم، ومراجعة كل من عنده علم بشيء من كتاب الله تعالى، الأمر الذي يوقن به كل عاقل بأن نص القرآن الموجود هو طبق الوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في اللوح المحفوظ، يتعبد به المسلمون ربهم، ويتشرف به القارءون، ويهتدي به العالم (¬1). سادسا: على أنه لو كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم أن في القرآن الكريم الذي نشره عثمان في الأمصار إسقاطا، أو تغييرا ما، لما أمكن أن يتجاوزه أبدا، ولما جاز له أن يشتغل وهو خليفة آلت إليه أمور المسلمين لمدة ست سنوات تقريبا يشتغل بمقاتلة من خالفوه في السياسة عن تصحيح القرآن ومقاتلة الذين رضوا بتحريفه وتبديله. فكيف وهو لم يفعل شيئا من ¬

_ (¬1) وليست القضية كما زعم بعضهم: «أن المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمر، دون أن تستغلها في صراعها مع العهد والخليفة، مع أننا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم» انتهى. وهذا زعم عجيب جدا، ناشئ عن الخطأ العظيم في فهم مجتمع الصحابة الذين نزع الله الغلّ من صدورهم، وكانوا إخوانا متحابين، لا سيما في عصر الراشدين، أو هو قياس غريب على الأوضاع السياسية الحاضرة التي فيها أحزاب حكومة وأحزاب معارضة. وإلا فإن المعارضة في عهد الشيخين أبي بكر وعمر وكذا في عهد عثمان لا وجود لها إلا في خيال هذا القائل الواهم. ومما يدل على ما نقول أنه لولا أن الكلمة مجتمعة عند الصحابة كلهم على كتاب الله بأقصى تقديس وغيرة لما كان بوسع المعارضة المزعومة في كلام هذا القائل أن تفعل شيئا. فدلّ كلام هذا القائل نفسه على أن القضية هي قداسة القرآن، والحفاظ عليه، والإجماع على العمل به وبسنّة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة جميعهم، والأمة كلها في عهد الراشدين ومن بعدهم، وإلا فلا سلطان بل لا وجود لمن خالف ذلك، فلا يمكن أن يطرأ على القرآن تغيير قط.

ذلك، ولا فاه بكلمة حوله، بل كيف وقد كان هو يتلو القرآن وفق المصحف الذي نشره عثمان ويؤم الناس به في الصلوات. سابعا: لقد ذكر الله تعالى بالمدح والتعظيم- التوراة، ثم ذكر الإنجيل، ثم ذكر هذا القرآن الكريم، وبيّن منزلته من بين الكتب الإلهية، ورفعة رتبته على جميع الكتب، وأنه المهيمن على الكتب السماوية التي نزلت قبله! قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ الآية. ثم قال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ الآية. ثم قال تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. فقد أخبر سبحانه عن رتبة هذا الكتاب العزيز بالنسبة لجميع الكتب قبله بأنه مصدق لما جاءت به من عند الله تعالى، وأنه المهيمن على جميع الكتب قبله. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «المهيمن الأمين. والقرآن أمين على كل كتاب قبله». وقال أيضا: «المهيمن: الحاكم». وكلا قوليه هنا صحيح. فإذا كان أمر القرآن وموقفه من الكتب السابقة أنه هو الأمين عليها، والحاكم على ما فيها فلا يمكن أن يجري عليه تحريف في كلمة، ولا زيادة أو نقص، لأن ذلك يعني أن الله تعالى قد نصب على كتبه السماوية السابقة أمينا غير مضمون وحكما غير مأمون. تعالى الله الحكيم العليم عن ذلك علوا كبيرا. بل إن في جعل الله تعالى هذا القرآن الكريم أمينا وحكما على الكتب قبله شهادة منه سبحانه بضمانة وأمانة هذا القرآن وحفظه من التلاعب فيه والزيادة والنقص، ولذلك حقّ له أن يكون مهيمنا على الكتب السماوية قبله،

حاكما عليها وشاهدا وأمينا، يحقّ ما فيها من حق، ويبطل ما حرّف منها، أو زيد فيها. وهكذا نجد الأدلة القطعية اليقينية تشهد بحقية نقل القرآن، ذلك النقل الذي لم يكن لكتاب غيره قط باجتماع التواتر له حفظا في الصدور وتدوينا في السطور. وضمان من الله تعالى بل ضمانات، وتكفل بل كفالات، وأي ضمان أعظم من ضمان الله، وأي كفالة أحفظ من كفالة الله تعالى، كيف وقد أكّد عز وجل وعده القاطع وكفالته الضامنة بمؤكدات على غاية القوة، فقد أكّد ب «إنّ»، ثم أكد بالضمير «نحن»، ثم باللام في لَحافِظُونَ. ثم زاد هذه المؤكدات قوة بالتعبير بصيغة العظمة التي في الجمع إِنَّا نَحْنُ، وبالجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام، فأفاد ذلك تأكيدا بالغا غاية الغايات، ونهاية النهايات. وبهذا آمنا بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير والزيادة أو النقص، إيماننا بنزوله من عند الله، وإيماننا بمن أنزله وهو الله سبحانه وتعالى، لنقبل عليه تلاوة وتدبرا، وعلما وعملا، ودعوة للخلق إليه، بكل يقين واطمئنان، كما تشير لذلك عبارة الآية الكريمة، لمن تأملها: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.

الفصل التاسع عشر رسم القرآن الكريم

الفصل التاسع عشر رسم القرآن الكريم هذا البحث يظهر لنا غاية حفظ الأمة لكتاب ربها، حتى في طريقة كتابته. والمراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها، ووزّعها على الأمصار. ويطلق عليه: رسم المصحف، ومرسوم الخطّ (¬1). ويرجع هذا الرسم في الأصل إلى كتابة القرآن بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم على كتاب الوحي، فكتبوه حسبما يعرفون وبإشرافه صلى الله عليه وسلم واطلاعه عليه (¬2). ومن هنا فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الاملاء، للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة واستمرت عليه الأمة (¬3)، وقد صرح الإمام أحمد فيه ¬

_ (¬1) الإتقان ج 2 ص 166. (¬2) وليس منشأ الرسم هو تأثر المسلمين العاطفي بإجلال الخليفة الشهيد عثمان بن عفان كما تصوره بعض الكاتبين متأثرا بآراء استشراقية. (¬3) مناهل العرفان ج 1 ص 370.

بالتحريم فقال: «تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك» (¬1). وسئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. قال الإمام أبو عمرو الداني: «ولا مخالف له من علماء الأمة» (¬2). وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنّة متبعة إلى عصرنا هذا، كما قال البيهقي في شعب الإيمان: «واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها» (¬3). وكان ذلك للمبالغة في المحافظة والاحتياط على نص القرآن حتى في مسألة شكلية هي كيفية رسمه. لكن العلماء استثنوا من ذلك نقط المصاحف وتشكيلها، لتمييز الحروف، والحركات فأجازوا ذلك بعد اختلاف في الصدر الأول عليه، وذلك لما اضطروا إلى ذلك لتلافي الاخطاء التي شاعت بسبب اختلاط العرب بالعجم. وكان أول ما فعلوه من ذلك ضبط حركات الحروف، وقد رمزوا لذلك في بادئ الأمر بنقط على كيفية معينة، ثم تلا ذلك تمييز الحروف المعجمة عن غيرها. وقد اختلفوا في أول من نقّط المصاحف، فقال المبرد: «أول من نقّط المصاحف أبو الأسود الدؤلي صاحب علي بن أبي طالب، وذكروا أن ابن سيرين التابعي كان له مصحف نقّطه له يحيى بن يعمر، وذكر الجاحظ في ¬

_ (¬1) المقنع لأبي عمرو الداني ص 30 وانظر البرهان ج 1 ص 379. (¬2) المقنع ص 10 والبرهان الموضع السابق. (¬3) البرهان ج 1 ص 380.

أحكام تختص بالمصحف

كتاب الأمصار أن نصر بن عاصم أول من نقّط المصاحف وكان يقال له: نصر الحروف (¬1). وهكذا حافظت الأمة على صورة الحروف والكتابة وفق الرسم العثماني، إنما أضافت له النقط والشكل، لما أن ذلك دلالة على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها. وإذا ما نظرنا لمتطلبات العصر وللحاجة إلى تسهيل قراءة القرآن وتعلمه على الناس فبوسعنا أن نقول: إنه يجوز كتابة القرآن بالرسم المعتاد لنا في مجالس التعليم، لتسهيل التعلم ولكي يتم نقل المتعلم إلى الرسم الأصلي بسهولة، نتيجة تدربه على أسلوب القرآن الكريم، على ما يستفاد من رأي الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، الذي توسّع في هذه المسألة ولم يلزم العامي بالرسم العثماني قائلا: «لئلا يوقع في تغيير الجهّال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» (¬2). أحكام تختص بالمصحف: لما كان المصحف يضم بين دفتيه كلام الله تبارك وتعالى، فقد اختص بأحكام شرعية ليست لغيره من الكتب مهما جلّت أو عظمت أهميتها، وقد عني العلماء بتفصيل تلك الأحكام، وتفريعها، نذكر مهمات منها فيما يلي: 1 - كره كثير من العلماء بيع المصاحف وشراءها، لما أخرج ابن أبي داود عن عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشددون في بيع المصاحف». والمختار عند بعض الأئمة ومنهم الشافعية كراهية البيع دون الشراء، والثمن يتوجه إلى الورق أو أجرة الكتابة، أو يتوجه لهما معا. ¬

_ (¬1) البرهان ج 1 ص 250 - 251. (¬2) البرهان ج 1 ص 379.

ولعل هذا بالنسبة لمن عنده مصحف في بيته فلا يبيعه، أما أصحاب المكتبات فلا يمكن تطبيق ذلك عليهم، لما فيه من تعطيل مصالح المسلمين، غير أنه لا يسمى بيعا بل هبة، ولا يقال اشترى بل استوهب، تأدبا واحتراما. 2 - يستحبّ تقبيل المصحف وتطييبه، وجعله على كرسي، ويحرم توسده، لأن فيه امتهانا، وكذا مد الرجلين إليه. 3 - يستحب الاستياك لقراءة القرآن. 4 - إذا احتيج إلى تعطيل أوراق فيها قرآن لبلاء أو نحوه فلذلك طرق: غسلها بالماء إن أمكن أو إحراقها بالنار، واختار الحنفية أن يحفر له في الأرض ويدفن في موضع بعيد عن أن تطأه الأقدام. 5 - اتفق جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة على تحريم مسّ المصحف للمحدث حدثا أصغر أو أكبر، لقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، ولما ثبت في الحديث: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر هذه الأحكام وغيرها في البرهان ج 1 ص 459 و 477 - 480 والإتقان ج 2 ص 172 - 173، وانظر تفصيل مسألة مس المصحف في كتابنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطهارة والصلاة.

الفصل العشرون إعجاز القرآن الكريم

الفصل العشرون إعجاز القرآن الكريم المعجزة في اصطلاح علماء التوحيد هي: «أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة». ويطلق على المعجزات دلائل النبوة وأعلام النبوة، ونحو ذلك، وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات، ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب ولا في السنّة، وإنما فيه لفظ الآية، والبينة، والبرهان» (¬1). الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر: قد يكرم الله تعالى بعض أوليائه من المتقين الأبرار بأمر خارق يجريه له، ويسمى ذلك «الكرامة». وثمة فرق شاسع بين المعجزة والكرامة، لأن الكرامة لا يدّعي صاحبها النبوة، بل لا يتحدى بها الناس، وإنما تظهر على يده لصدقه في اتباع النبي، لذلك قرر كثير من المحققين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره أن الكرامات التي تقع للأولياء هي من جملة معجزات الأنبياء، وهذا حق وصواب، لأن هؤلاء الأبرار ما كانت تقع لهم هذه الخوارق لولا اعتصامهم بالاتباع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيامهم بدعوته، فكانت الكرامة لهم معجزة للنبي ¬

_ (¬1) لوائح الأنوار البهية للسفاريني ج 2 ص 278 نقلا عن الجواب الصحيح لابن تيمية، لكن يجب التنبه إلى التمييز بين المعجزة والآية أو البرهان والبينة في اصطلاح علماء التوحيد.

تنوع المعجزة وحكمته: وتنقسم المعجزات إلى قسمين

صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تقررت هذه القاعدة: «كل كرامة لولي معجزة لنبيه». وهذا يبين لنا أن شرط الكرامة للولي صدق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم لكن ليس من شرطه العصمة، فإن الولي قد يقع في المعصية، أما الأنبياء فقد عصمهم الله تعالى. وأما السحر فهو أبعد شيء عن المعجزة أو الكرامة، وإن كان قد يقع فيه غرابة وعجائب، لكنه يفترق عن المعجزة والكرامة من أوجه كثيرة تظهر في شخص الساحر وفي عمل السحر: فمما يفترق به الساحر عن الولي ركوب متن الفسق والعصيان، والطاعة للشيطان، والتقرب إلى الشياطين بالكفر والجنابة والمعاصي، حتى ترى الساحر أكذب الناس وأشدهم شرا. وأما عمل السحر فقد يكون مستغربا طريفا، لكنه لا يخرج عن طاقة الإنس والجن أو الحيوان، كالطيران في الهواء مثلا، بل هو أمر مقدور عليه لأنه يترتب على أسباب إذا عرفها أحد وتعاطاها صنع مثلها أو أقوى منها، لذلك ما إن يواجه السحر بالحقيقة حتى يذهب سدى، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، ومن هنا خضع السحرة لموسى عليه السلام، لأنهم وهم أعرف الناس بالسحر، كانوا أكثر الناس يقينا بحقية معجزته، وصدق نبوته فما وسعهم أمام جلال المعجزة الإلهية إلا أن خروا سجدا وقالوا: آمنا برب هارون وموسى. تنوع المعجزة وحكمته: وتنقسم المعجزات إلى قسمين: القسم الأول: المعجزات الحسية: مثل معجزة الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم حتى روى المئين، وتكثير الطعام القليل، وقلب الحصى حية، وإحياء الموتى ...

القسم الثاني: المعجزات العقلية

القسم الثاني: المعجزات العقلية: مثل الأخبار عن المغيبات، والقرآن الكريم، واستجابة الدعاء. وقد جرت سنّة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي مشاكلة لما يتقن قومه ويتفوقون فيه. ولما كان العرب قوم بيان ولسن، يقادون بمقولهم كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم. مصدر علمنا بإعجاز القرآن: وقد أعلن إعجاز القرآن على العالم من أعظم مصدر ثابت وهو القرآن نفسه، حيث نادى على رءوس الأشهاد وفي كل جيل وقبيل يتحدى الناس بل العالم أن يأتوا بمثله، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (¬1). فقد كبّلهم بالعجز عن هذا التحدي فلم يفعلوا ما تحداهم، فجاءهم بتخفيف التحدي فتحداهم بعشر سور فحسب في هذه الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (¬2). ثم أرخى لهم حبل التحدي، ووسّع لهم غاية التوسعة فتحدّاهم بسورة واحدة أيّ سورة ولو من قصار السور، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (¬3). وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاما والمسلمون قليل مستضعفون، وكان الوحي يتتابع وهو يتحداهم، ويفضح عجزهم الذي استبان وظهر لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يعي، ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآيتان 33 و 34. (¬2) سور هود، الآيتان 13 و 14. (¬3) سورة يونس، الآية 38.

القدر المعجز من القرآن

وقد قطع الله عليهم بل على الثقلين كلهم منافذ اللدود لهذا الإعلان الحاسم قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬1). وقد أمعن القرآن في هذا التحدي وأكده في سورة البقرة المدنية، فتحداهم ثانية بسورة منه، وأكد عجزهم عن ذلك بالإعلان على العالم أنهم لن يستطيعوا ذلك، ولن يفعلوه أبدا: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (¬2). القدر المعجز من القرآن: وهكذا نجد القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل سورة واحدة من القرآن، ولو كانت من قصار سوره، وإذا كانت أقصر سورة فيه هي سورة الكوثر تتألف من ثلاث آيات قصار علمنا أن كل آية طويلة معجزة، وكل عدة آيات قصار تبلغ سورة الكوثر أو أكثر من ذلك فهي معجزة كذلك. وإذا علمت أن عدد آيات القرآن يزيد على ستة آلاف آية علمت كم عدد المعجزات في القرآن الكريم، فضلا عن النظر فيما يحمله من أوجه الإعجاز المتعددة، فتكون معجزاته بذلك كثيرة متنوعة يضيق عنها الحصر والتعداد. خصائص إعجاز القرآن: إن من المقرر المعلوم أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى بين سائر المعجزات، لما اختص به في إعجازه من خصائص ليست لمعجزة سواه. 1 - اختص القرآن: «مع كونه معجزا أنه معجز لجميع المكلفين، فوجب في الحكمة أن يكون أمرا يبقى ببقاء التكليف، ولذلك تكفل الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 88. (¬2) سورة البقرة، الآيتان 23 و 24.

بحفظه وحراسته، وخصّه بأن أودعه من علم الأولين والآخرين ومن دلالة الحرام والحلال ما يدعو إلى تحفظه والتوفر على تأمله ... » (¬1). 2 - اختص بالقرآن بكونه معجزة بذاته بخصوصية ثانية انفرد بها عن جميع المعجزات بل عن جميع البراهين والبينات، قال ابن خلدون: «فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «ما من نبيّ من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬2). يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهي كونها نفس الوحي، كان المصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق والمؤمن وهو التابع والأمة» (¬3). 3 - ثمة خصوصية أخرى بالغة الأهمية هي أن الإعجاز في الخوارق الحسية أنها أمور مخالفة للمعتاد من سنن الكون، وقواعد الطبيعة، فتأتي المعجزة الحسية ويدركها الناس بتلك المخالفة لقوانين الطبيعة فيعلمون إعجازها وصدق النبي الذي ظهرت على يديه (¬4). ¬

_ (¬1) المغني للقاضي عبد الجبار ج 16 ص 344. (¬2) البخاري ج 9 ص 93 ومسلم ج 1 ص 92 - 93. (¬3) مقدمة ابن خلدون ص 106 - 107 مطبعة التقدم بمصر سنة 1329. (¬4) ننبه هنا إلى أنها ليست مخالفة للعقل، ولا هي مستحيلة في النظر العقلي المجرد، أي أن تتابع الأحداث في الطبيعة وإنتاج الأسباب للمسببات ليس واجبا عقليا مثل كون الواحد والواحد يساوي اثنين، لكن العادة جرت على ذلك بحكمة الله تعالى وتدبيره، وقد يتحقق السبب ولا يتحقق المسبب لمانع، أو لتدخل قانون طبيعي أعلى من الأول، وهكذا يجري الله المعجزات وفق سنن إلهية خاصة غير معروفة للبشر، ولا داخلة في تعلمهم، وهو خالق العالم ومدبره، وذلك لتحقيق حكمته وإرادته في تأييد رسله وأنبيائه.

شهادة العالم بإعجاز القرآن

أما إعجاز القرآن فإنه لم يكن بواسطة مخالفة السنن الكونية، وصرف الإنسان عنها، بل إن معجزة هذا القرآن يدركها الإنسان بمقدار إعمال عقله وفهمه، بل إنه كلما ازداد معرفة بسنن الكون والطبيعة ازداد يقينا بإعجاز هذا القرآن. ولذلك واجه القرآن عناد المشركين وتطلبهم للمعجزات بخصوصية القرآن الكبرى التي تجعله يكفي عن كل معجزة، فقال عز وجل: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (¬1). شهادة العالم بإعجاز القرآن شهادة العرب بأحوالهم وأفعالهم: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم والعرب أكثر ما كانت شاعرا وخطيبا،- كما ذكر الجاحظ- وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت في البيان عدة، لهم القصيد العجيب، والرّجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، إذا تأملت بالذوق الصحيح والملكة الفنية المذواق تبينت من خلال أدبهم ما بلغوه في هذا المضمار. فلما أمر الله نبيه أن يبلغ دعوته للناس راح يتتبع أفراد عشيرته وقومه، يقرأ عليهم ما نزل عليه من القرآن، ولم يكن برهانه ولا ما أمر به أن يلزمهم حجة وبرهانا، أنما هو إله واحد وأن محمدا نبي لله إلا دليلا واحدا هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآيتان 50 - 51.

شهادة بلغاء العرب بإعجاز القرآن بأقوالهم

قال الإمام الباقلاني: «فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل- الشعر- أو من الجنس الذي ألفوه لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف وقد أمهلهم، وفسح لهم الوقت، وكان يدعوهم إليه سنين كثيرة، وقال عزّ من قائل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ. وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه .. » (¬1). بل إن العرب قد تحملوا في مواجهة التحدي بالقرآن وركوبهم متن العناد والتصميم على الشرك وعبادة الأوثان الأهوال والأخطار، فلو كان ذلك بوسعهم، وتحت مقدورهم لما عدلوا عن السهل المتناول من القول يخملون به حجته، ويصرفون الناس عن دعوته، إلى ركوب متن كل صعب وذلول، وتكلف الوعر المضني من الفعل بخوض غمار الحروب. شهادة بلغاء العرب بإعجاز القرآن بأقوالهم: صدرت عن سادة العرب الفصحاء البلغاء اعترافات صريحة بإعجاز القرآن، أملتها عليهم سجيتهم العربية، وطبيعتهم الفنية التي لا يمكن معها جور ولا محاباة، وإن كانوا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاندين دعوته إلى الإيمان، وقد أوردت لنا المصادر وقائع كثيرة يطول بسطها واستقصاؤها هنا (¬2). من ذلك ما روى الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن ص 289. (¬2) انظر للاستزادة إن شئت كتاب «المعجزة الخالدة» فقد توسع وأفاض.

ساعدهم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السّطة (¬1) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؟ قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع». قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (¬2) على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد» قال: نعم. قال: فاستمع مني، قال: أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (¬3). ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك». فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكوننّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن ¬

_ (¬1) أي الفضل. (¬2) أي الجني بزعمه الفاسد. (¬3) سورة فصلت، الآيات 1 - 4.

تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنّ يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزّكم وكنتم أسعد به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم» (¬1). ولقد تحيرت العرب في شأن هذا القرآن لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين، ثم هم يجدونه مباينا لكلامهم، فحاروا ماذا يقولون فيه من طغيان اللدد والخصومة. وإنه لخبر مشهور، خبر تحير الملأ من قريش، حينما ائتمرت حين حضر موسم الحج، لكي يتفقوا على قول واحد يقولونه للناس، وقد رأوا شتات كلامهم السابق المختلف، وأداروا الرأي فيما يقولون في هذا القرآن وفي النبي الكريم الذي سوف يتلو هذا القرآن على الناس في الموسم؟. فطرحوا فكرة القول بأنه شاعر، وأنه كاهن، أو أنه مجنون أو ساحر، وصاحب المشورة فيهم الوليد بن المغيرة يرد كل ذلك عليهم بالحجة والبرهان، ثم قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: «ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته». فهذا التحير المظلم الذي غشاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فأجاد النعت، كان تحيرا لما يسمعون من نظمه، وإعظاما ودهشة لما يحسون من إعجاز بيانه. ولهذا فإنهم كانوا يخافون أن يفلت الزمام من أحدهم فيدخل في الإسلام لتأثره بعظمة القرآن، حتى قالوا لبعضهم كما سجل القرآن ذلك عليهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. فكانوا إذا تلا النبي القرآن عليهم صخبوا وصفقوا كيلا يتمكن الناس من ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 90 - 91.

بلغاء كبار سمعوا القرآن فآمنوا

سماع القرآن بهذا الضجيج، فكانت طريقة في الغلبة طريفة ... بلغاء كبار سمعوا القرآن فآمنوا: وهذا أعظم الشهادات بإعجاز القرآن، إن سادة العرب في البيان ألقوا زمام قيادتهم وأسلموا لهذا القرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم «مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت، وغيرهم: من الشعراء والخطباء الذين أسلموا. على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر» (¬1). وما قصة إسلام عمر بخافية عنا، وما أسلم إلا بتلاوته للقرآن الكريم من سورة «طه» كما هو معلوم. وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه حديثا طويلا عن إسلامه، وفيه: أن أنيسا أخا أبي ذر ذهب إلى مكة ثم عاد فقال لأبي ذر: «لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم. ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر. والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون» (¬2). ونسوق لك تصريح جبير بن مطعم بأن سبب تحول قلبه إلى الإسلام، أنه أصغى إلى تلاوة الرسول سورة الطور في صلاة المغرب. فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن أبيه قال: ¬

_ (¬1) انظر إعجاز القرآن- للباقلاني- ص 304 - 305. (¬2) صحيح مسلم- فضائل الصحابة- باب فضائل أبي ذر رضي الله عنه ج 4 ص 1920 - طبع عيسى البابي الحلبي بمصر، أما قوله (على دينك) أي مثلك يعبد الله والمراد بقوله: (أقراء الشّعر) طرقه وبحوره، وبقوله (فما يلتئم .. أنه شعر) لا يوافق نسق الشعر.

شهادة بلغاء من النصارى بإعجاز القرآن

«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي» (¬1). شهادة بلغاء من النصارى بإعجاز القرآن: قال الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تقديمه كتاب إعجاز القرآن للرافعي: «فإن من أوتي حظا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته. وقد صرّح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتاب (الخواطر الحسان)». قال الرافعي يعلق على هذا: «وصرح لنا بذلك «بإعجاز القرآن» أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، وهو أبلغ كاتب، أخرجته المسيحية، وقد أشار إلى رأيه ذلك في مقدمة كتابه (نجعة الرائد)، وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران، ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقرّ لنا بمثل ما أقرّ به أستاذه اليازجي، والأمر بعد إلى العقل «المنصف»، والعقل «المنصف» ليس له دين إلا الحق. والحق واحد لا يتغير» (¬2). كذلك الأديب الشاعر المعاصر نقولا حنا قد تلا القرآن، فجذبه إليه وشغل قلبه وفؤاده، وزاده إيمانا بالله على إيمانه، وقذف في أعماق فكره وضميره يقينا راسخا بأن القرآن هو كتاب الله المعجز العزيز وأنه يسمو على سائر معجزات الأنبياء، فهو معجزة إلهية خالدة تبرهن بنفسها على نفسها. وأعلن ذلك في قصيدة من روائع الشعر، عنون لها بهذا العنوان «من وحي القرآن» وقال في مقدمة هذه القصيدة: ¬

_ (¬1) كتاب المغازي والسير- قبيل باب تسمية من سمي أهل بدر. (¬2) عن «وحي القلم» - بتصرف يسير ص 15 - 16.

«قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت به ففتنني، ثم أعدت القراءة فآمنت ... آمنت بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول من حمله، النبي العربي الكريم، أما الله فمن نصرانيتي ورثت إيماني به، وبالفرقان عظم هذا الإيمان ... «وكيف لا أومن ومعجزة القرآن بين يديّ أنظرها وأحسها كل حين .. هي معجزة لا كبقية المعجزات .. معجزة إلهية خالدة تدل بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدّث عنها أو يبشر بها. وكان يقول: «وكم احتاجت وتحتاج الأديان السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحضّ الخلق على اعتناقها، إذ ليس لديها ما هو منظور محسوس يثبّت أصولها في القلوب. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك بالقرآن، فهو أعلم معلم وأهدى مبشر، وهو أصدق شاهدا وأبلغ حجة وأدمغ برهانا ... هو المعجزة الخالدة خلود الواحد الأزلي، المنظورة المحسوسة في كل زمان ... ومن إيماني العميق هذا استلهمت أبيات قصيدتي هذه» (¬1). وذكر في قصيدته ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة أجلّها القرآن، وكان مما قال فيها: يقولون ما آياته، ضلّ سعيهم ... وآياته- ليست تعدّ- عظام (¬2) كفى معجز الفرقان للناس آية ... علا وسما كالنجم ليس يرام فكل بليغ عنده ظل صامتا ... كأن على الأفواه صرّ كمام (¬3) وشاء إله العرش بالناس رحمة ... وأن يتلاشى حقدهم وخصام ففرّق ما بين الضلالة والهدى ... بفرقان نور لم يشبه قتام ¬

_ (¬1) من وحي القرآن- نقولا حنا ص 1. (¬2) «ليست تعد» جملة معترضة بين المبتدأ «آياته» والخبر «عظام»، والمراد أن آيات النبي عظام أي معجزاته عظيمة جدا وكثيرة لا يحيط بها العد والإحصاء. (¬3) الصرّ: الشد أو الربط. الكمام: ما يكم به فم البعير لئلا يأكل أو يعضّ.

منشأ إعجاز القرآن

منشأ إعجاز القرآن رأي الإعجاز بالصّرفة: على الرغم من إجماع العلماء على إعجاز القرآن، وأن إعجازه وصف ثابت له، فقد شذّ بعض المتكلمين وهو أبو إسحاق النظّام من المعتزلة، ونحى في هذه المسألة منحى انفرد به دون أهل العلم قاطبة، وعرف رأيه بينهم ب «الصّرفة». وقد فسر النظام إعجاز القرآن بهذا وقال يشرح رأيه: «إن الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به». وقد جرّ النظّام لهذا القول بعده عن معاناة أساليب البيان وانشغاله بالأساليب الفلسفية، مما أدى إلى وقوعه في هذا الخلط في تفسير إعجاز القرآن. وجدير بالذكر أن هذا القول لا يدخل فيه عنصر الطعن في القرآن، ولا كان في قصد صاحبه ما يحوم حول ذلك، لأنه يعترف ويشهد بأنه من عند الله تعالى، إلا أنه شذّ في تفسير إعجاز القرآن، وحسب القارئ هنا أن أحدا من علماء البيان لم يوافقه على ذلك، حتى المعتزلة أنفسهم ومنهم تلميذه الجاحظ، الذي عني برد هذا الرأي وجلاء إعجاز نظم القرآن حتى كان- أي الجاحظ- أول من يبلغنا عنه هذا التعبير «نظم القرآن». والحقيقة أن هذا الرأي من الضعف بحيث يغني شرحه عن تكلف الردّ عليه، ولولا ترداده على ألسنة بعض المتحذلقين في هذا العصر لما عرضنا له بشيء لمصادمته بدهيات الدلالة من القرآن والإجماع والعقل والواقع، كما أوضحه العلماء.

أوجه إعجاز القرآن الكريم

قال الإمام الزركشي في البرهان (¬1): 1 - «وهو قول فاسد، بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم. ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره. 2 - هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة- أي نسبة- الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله ... 3 - «ومما يبطل القول بالصّرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصّرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون المنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضلا على غيره في نفسه». يعني وأن فضيلة القرآن ظاهرة، ومزاياه معجزة باهرة، مما يدل على بطلان تفسير إعجاز القرآن بالصرفة، ويثبت الإعجاز الذاتي للقرآن العظيم. ونتكلم عن أوجه إعجاز القرآن فيما يلي: أوجه إعجاز القرآن الكريم كثرت الدراسات واستفاضت البحوث في تبيان أوجه الإعجاز الذاتي للقرآن فما من عصر إلا قدمت فيه مجموعة من الدراسات والآراء تحاول كشف أوجه إعجاز القرآن مما قدم للدراسات القرآنية واللغوية البيانية كنوزا لا تفنى ذخائرها ولا تبيد. والجدير بالذكر هاهنا أن تعدد الآراء في بيان أوجه إعجاز القرآن وتنوع الوجهات في دراستها ليس تنوع اختلاف وتعارض، إنما هو تنوع ناشئ من غزارة فنون هذه المعجزة وعظمتها، مما يجعل أي فكر أو أي عصر من ¬

_ (¬1) ج 2 ص 93. باختصار وتصرف يسير.

عرض الإعجاز عند المتقدمين

العصور عاجزا عن استنفاد أوجه إعجاز القرآن والإحاطة بها خبرا، وإنما يبلغ من ذلك مقدارا يتناسب مع ما يمكن أن يحققه هذا الإنسان العاجز المحدود، وهو يحاول فك أسرار الإعجاز، الذي تجاوز الطاقة والحدود. عرض الإعجاز عند المتقدمين: وسوف نكتفي بنموذج من بيان الأسلاف لأوجه إعجاز القرآن يساعد على استجماع الأفكار وتلخيص عصارة زبدة دراساتهم، ويمهد لتحليل جديد لهذه الأوجه. وهذا النموذج للإمام المفسّر الكبير أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في مطالع كتابه العظيم في التفسير «الجامع لأحكام القرآن». قال القرطبي رحمه الله تعالى (¬1). ووجه إعجاز القرآن الكريم عشرة: 1 - منها: النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء، وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذر: لقيت رجلا في مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: حم فصلت، فإذا اعترف عتبة بن ربيعة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة، بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه. 2 - ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 73 - 75.

3 - ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلى آخرها، وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى آخر السورة [الزمر: 67 - 75]، وكذلك قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إلى آخر السورة [إبراهيم: 43 - 52]. قال ابن الحصار: فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ولا أن يقول: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ. قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كلّ آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة لا تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة «الكوثر» ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيّبين: أحدهما: الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل. والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قول الحق: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثم أهلك الله- سبحانه- ماله وولده، وانقطع نسله. [قال نور الدين: قال القرطبي آخر تفسيره يفسّر الآية: «الأبتر: أي المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة». انتهى. قال نور الدين: «وهذا هو الصحيح. وقد حصل ذلك لمبغضي النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه. الصحيح. وقد حصل ذلك لمبغضي النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه. وفي الآية على هذا إشارة إلى غيب ثالث، هو عزّة الإسلام وانتشاره، حتى يؤدي إلى بتر مبغض النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع ذكره، من خير الدنيا والآخرة]. 4 - ومنها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به مخلوق،

حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. 5 - ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطّه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم- وهو أمّي من أمة أميّة ليس لها بذلك علم- بما عرفوا من الكتاب السالفة صحته، فتحققوا صدقه. قال القاضي أبو الطيب: ونحن نعلم ضرورة أن هذا ما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. 6 - ومنها: الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيد بشرط كقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وشبه ذلك. 7 - ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الآية، ففعل ذلك. وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا وبحرا، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ

عرض الإعجاز عند المعاصرين

قَبْلِهِمْ وقال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وقال: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ .... فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه. 8 - ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام. 9 - ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة أن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي. 10 - ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف، قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. انتهى كلام القرطبي. وبالنظر في هذه الأوجه العشرة نجد أن إعجاز القرآن يتنوع تنوعا واسعا شاملا للأسلوب وللمضمون أي المعنى، مما يجعل إعجازه متناولا كل أنواع البشر: من كان مميزا للكلام البليغ والأبلغ، ومن لم يرزق تلك الموهبة، وإن كانت الحجة تلزم هذا النوع من الناس بشهادة أهل الموهبة الفنية والذوق الأدبي، من الفصحاء العقلاء، والبلغاء المراجيح الألبّاء. لكن إذا أفحم هؤلاء القاصرون بمضمون القرآن وبما اشتمل عليه من المعاني لم يبق في الإعجاز أبلغ ولا أعظم من ذلك. عرض الإعجاز عند المعاصرين: وقد عني العلماء المعاصرون والباحثون المحدثون بتحقيق البحث في أوجه إعجاز القرآن مستفيدين من دراسات القدماء ومن نتائج بحث الحدثاء، وقدموا دراسات متوالية تنقّح كلّ دراسة الدراسة التي قبلها وتضيف إليها ما ولّدته

نتائج مستفيدين من هذه الدراسات

قريحة كل دارس جاء بعدها. وكان أول المشاهير في العصر الحديث علّامة الأدب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه «إعجاز القرآن»، ثم جاء البحّاثة المحقق الدكتور محمد عبد الله درّاز رحمه الله فقدّم دراسات متعددة عن إعجاز القرآن كان أشهرها كتابه «النبأ العظيم»، الذي تميز بنظرات جديدة في الموضوع، ثم جاء معاصره العلّامة محمد عبد العظيم الزرقاني (¬1) فنقح القول في أوجه إعجاز القرآن وأفاد من دراسات الدكتور درّاز واستكمل دراسته فجاءت دراسة عصرية وافية اقتبس منها الدارسون وأفادوا من نتائجها، وعني بعضهم أخيرا (¬2) بتنقيحها والبناء عليها فجاء عمله بذلك أتم وأوفى. [نتائج مستفيدين من هذه الدراسات] وسنقدم فيما يلي خلاصات ونتائج مستفيدين من هذه الدراسات مع الإيجاز الشديد مراعاة لمقتضى المقام في هذا الكتاب: القسم الأول من أوجه إعجاز القرآن: أسلوب القرآن الكريم هذا القسم من أوجه إعجاز القرآن فيه أعظم جوانب الإعجاز في القرآن، وإن كان قد يخفى معنى عظمه على كثير من الناس، والسبب في عظمة هذا الوجه أنه هو الذي به كان القرآن قرآنا، وأن المنهج البياني المعجز للقرآن هو سمة عامة لجميع القرآن الكريم، أما الأوجه الأخرى فيوجد الوجه منها في بعض الآيات دون الآخر، مثل أخبار الغيب، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي وهكذا. وهذا الوجه يدركه العرب، وهم أول من يخاطب به وإذا عجزوا هم عنه، فغيرهم أعجز وأعجز، لكن جلال الإعجاز في هذا الكتاب لا يقتصر ¬

_ (¬1) في كتابه القيم مناهل العرفان في علوم القرآن ج 2 ص 205 وما بعد إلى ص 308، وبلغت أوجه إعجاز القرآن عنده أربعة عشر وجها، عدا ما يتضمنه بعضها من خواص معجزة، أدمجها في بعض الأوجه. (¬2) هو شقيقي الدكتور حسن ضياء الدين عتر في كتابه «المعجزة الخالدة»، فليرجع إليه للاستزادة ص 225 - 388.

الوجه الأول: خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله وجوهره

على ذلك بل إنه يشمل أوجها أخرى يدرك الإعجاز فيها كل من يفقه معاني الكلام، ولو لم يكن له في ساحة البيان جولات. وقد أطال الدارسون القدماء والمحدثون في بيان خصائص أسلوب القرآن الكريم، ونلخص منها هذه الجوانب فيما يلي: الوجه الأول: خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله وجوهره: وهي خاصية بارزة عني بها بعض المتأخرين، وصاغها نظرية في إعجاز القرآن الموسيقى، وهو الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله (¬1). أما خاصية تأليف القرآن الصوتي في شكله: فهي أول ما يسترعي سامع القرآن الكريم عن بعد بحيث يسمع فيه جملة الحركات والسكنات، والغنّات والمدّات وهكذا ... فإن السمع يجد نفسه إزاء لحن غريب عجيب لا يجده في كلام آخر، هو لحن فرد اختص به القرآن لا يوجد في الموسيقى ولا في الشعر، وذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد فيها الأوزان بيتا بيتا وشطرا شطرا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أصداؤها وتذهب مذهبا متقاربا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها إذا أعيدت وكرّرت عليك بتوقيع واحد بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع ومتجدد، على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. وأما جوهر تأليف القرآن الصوتي: فيكمن في نظم حروفه ورصفها وترتيب أوضاعها: هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر حرف استعلاء وغيره حرف شدة أو رخاوة، وهكذا، ترى الجمال اللغوي ماثلا أمامك في هذا التناغم الموسيقى المعجز، الذي جعل منه القرآن قالبا لما حمله من معاني الرسالة وحكمها وأحكامها، وعقائدها وقواعدها، ومواعظها وزواجرها، وما امتاز به أسلوبها في عرض هذه المعاني من سائر الخصائص المعجزة. ¬

_ (¬1) في كتابه القيم «إعجاز القرآن» ونكتفي بالإشارة إلى نظريته هذه لضيق المقام.

الوجه الثاني: القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى

الوجه الثاني: القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى: وهما نهايتان في اتجاهين متضادين، لا يقبل المرء على إحداهما إلا ابتعد عن الأخرى، ذلك أن البليغ إما أن يؤدي مراده جملة مختصرا، مقلّا من الألفاظ فلا بد أن يحيف على المعنى قليلا أو كثيرا، وإما أن يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره وإبراز كل دقائقه، فلا يجد بدا من أن يمدّ في نفسه مدا، لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة. ولئن وفق البليغ لتقريب هاتين الغايتين تقريبا ما في جملة أو جملتين، فلا يلبث أن يدركه الكلال والإعياء، وضعف الطبع الإنساني فلا يسترجع قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر هاهنا وقطعة هنالك، فتقول هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود ... وقد أجمع نقّاد الشعر والنثر على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة من قصائد معدودة، ثم وراء ذلك الوسط والرديء والغثّ والمستكره ... أما القرآن الكريم فقد جاء البيان فيه مقدرا أحسن تقدير، فلا تحسّ فيه بالإسراف ولا بالتقتير، فهو يؤدي لك الصورة وافية نقية لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، ولا يشذ عنها شيء من عناصرها وكمالها، كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه، كما قال الإمام أبو بكر الباقلاني: «محاسن تتوالى، وبدائع تترى». ولنزيدك إيضاحا في هذا فخذ ما شئت من القرآن، واحص كلماته عدّا، ثم احص مثل عددها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن المصحف، وانظر ما حواه هذا الكلام من المعاني، وقايسه إلى ذلك، ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها من غير القرآن أو يمكن أن تبدلها بأخرى غيرها دون إخلال بغرض قائله؟ وانظر مقابل ذلك أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من القرآن؟؟ لما وجدت لذلك سبيلا في القرآن، بل إن كتاب الله تعالى- كما

الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة

قال الإمام ابن عطية (¬1): لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد»، بل هو كما وصفه الله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. الوجه الثالث: خطاب العامة وخطاب الخاصة: وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك- إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حقها كاملا من بيانك- أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأما أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسّر لكل من أراد وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. الوجه الرابع: إقناع العقل وإمتاع العاطفة: في النفس الإنسانية قوتان قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها: فأما إحداهما فتنقّب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا. ¬

_ (¬1) في مقدمة تفسيره الجليل «المحرر الوجيز» ج 1 ص 39.

فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوّا في جانب، وقصورا في جانب، فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع، وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور في نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيّا أو رشدا، وأن يكون حقيقة أو تخيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة، وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت هذا ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرّغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه. وأما أن أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ويجمع في يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا وأزهارا وأثمارا معا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية. فمن لك إذا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟

الوجه الخامس: تآلف الألفاظ والمعاني

ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابا خالصا سائغا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجّهت، ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟. أولا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ. الوجه الخامس: تآلف الألفاظ والمعاني: التآلف في الألفاظ هو ألا تكون بينها ثغرة في المخارج، ولا في النغم بل تتآلف وتتآخى في نسق واحد. ويقول الإمام أبو بكر الباقلاني في هذا: «واعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه، وهو أدقّ من السحر وأهول من البحر، وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعرا أو سجعا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع وتزلّ عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها، وتراها في مكانها، وتجدها غير منازعة في أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت في موضعها لكانت في محل نفار، ومرمى شرار، ونابية عن استقرار ... » (¬1). وأما التآلف في المعاني: فهو ألا يكون معنى لفظ نافرا من المعنى الذي بليه، وأن تتآلف الألفاظ والمعاني: وما تثيره من الصور والأخيلة، وما ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن ص 280.

القسم الثاني من أوجه إعجاز القرآن: الإعجاز بالمضمون

تستدعيه من معان يستلزم بعضها بعضا، فيتألف من ذلك علم كثير، وأفهام زاخرة. وهذه الخصوصية هي كغيرها أيضا مستوفاة في جميع القرآن، وفي كل آية منه، لا يحتاج الدارس والباحث إلى اختيار وانتقاء، بل كيفما قلب المصحف ونظر بعين البصيرة المدركة وجد أي خصوصية يطلبها على أعظم منازل الكمال الذي لا يطيقه إنسان، ووجد أسلوبه ينفذ من كافة أقطار النفس، ويتغلغل في أعماق الأفئدة، فيحملها على الخشوع والإخبات، لما في طياته من قوة وهيمنة تدل على تنزله من علو، وصدوره من عظمة الألوهية وشرف الربوبية، وقدرة الإله الحق ذي الجبروت. فالقرآن بنفسه يدل على قدر متكلمه ويخبر عن مقام منزله عز وجل، كما ينبه على عظيم شأنه تبارك وتعالى، فيثبت لكل عاقل صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق نبوته (¬1). القسم الثاني من أوجه إعجاز القرآن: الإعجاز بالمضمون يمتاز هذا القسم من أوجه إعجاز القرآن بأنه معجزة عقلية، يعقلها ويدركها كل من يفهم الخطاب ويرد الجواب، سواء كان يملك ذوقا أدبيا فنيا أم لا يملك، بل سواء كان عربيا أو أعجميا. وذلك من غاية كمال الإعجاز في القرآن الكريم. ونقتصر على مهمات من أوجه إعجاز المضمون في القرآن فيما يلي: ¬

_ (¬1) انظر في خصائص أسلوب القرآن هذا كتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز ص 95 وما بعد ومناهل العرفان للزرقاني ج 2 ص 215 وما بعد، وبينات المعجزة الخالدة ص 302 - 307 و 317 - 320 والعمدة في الخاصة الأخيرة على المرجعين الأخيرين وإعجاز القرآن للباقلاني وكتاب المعجزة الكبرى للشيخ محمد أبو زهرة ص 133 - 135.

الوجه الأول: الإخبار عن الغيب

الوجه الأول: الإخبار عن الغيب: والقرآن حافل بأنواع الاخبار عن الغيب: غيب المستقبل، وغيب الحاضر، وغيب الماضي، مما يحتاج تفصيله لتأليف واسع كبير، لذلك سنكتفي هاهنا بإلماعة ولمحة وجيزة لضيق المقام عن التوسع فضلا عن الاستيفاء. أولا: الإخبار عن غيب المستقبل: في القرآن تنبؤات كثيرة جدا عن أمور ستقع في المستقبل، لعل أهم ما نذكر منها تلك الأخبار المتعلقة بأمور مصيرية، إذا لم تتحقق بدقة كاملة أدت إلى انتقاض دعوة القرآن من الأساس، ومن ذلك: 1 - إخبار القرآن في مكة والمسلمون في أقل القلة وأشد الضعف عن تحول المؤمنين إلى القوة وانتصارهم، وهزيمة المشركين، وذلك في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (¬1). فنبّأ القرآن بهزيمة جموع المشركين في وقت لا مجال فيه للتفكير بالحرب، لغاية ما كان عليه المسلمون من الضعف والقلة، لذلك تساءل عمر: أيّ جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدّبر»، فعرفت تأويلها (¬2). وفي الحديث الآخر عن ابن عباس في يوم بدر قال: «وهو- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- في الدرع فخرج وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة القمر، الآيتان 44 - 45. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم. (¬3) أخرجه البخاري ج 6 ص 143 - 144. وانظر ابن كثير في تفسيره سورة القمر ج 7 ص 456 - 457.

2 - إخباره بوقوع الجدب على المشركين وكشف الله إياه عنهم وعودهم إلى الكفر: قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (¬1). فأخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمرين: رفع العذاب عن قريش بدعائهم وعدم اتعاظهم بذلك وعودهم إلى الكفر، وهزيمتهم يوم البطشة الكبرى، وهو يوم بدر. كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: « ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا فقال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عزّ وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ .. إلى قوله إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال: أفيكشف عذاب الآخرة؟ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فالبطشة الكبرى يوم بدر ... » (¬2). 3 - إخباره عن عودة النصرة للروم بعد هزيمتهم المنكرة أمام الفرس حتى اضطر ملك الروم للالتجاء إلى القسطنطينية. وقد فرح المشركون بذلك لكون الفرس مجوسا يعبدون النار والأصنام، والروم أهل كتاب، فأنزل الله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآيات 10 - 16. (¬2) متفق عليه واللفظ لمسلم، وانظر تفسير ابن كثير ج 7 ص 233.

ثانيا: الإخبار عن غيب الحاضر

الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ .... وهذا مثال مشهور من أخبار الغيب بالقرآن، وقد اشتمل على خبرين خطيرين: أولهما: انتصار الروم على الفرس في فترة وجيزة جدا بالنسبة لتغير ميزان القوى بين الدول، ولا سيما في ذلك العصر، وخصوصا بعد هزيمة ساحقة منكرة، وقد تحقق ذلك في سبع سنين من تاريخ الحادث ونزول القرآن فيه. ثانيهما: احتفاف ذلك بتغير ميزان القوة لمصلحة المسلمين وانتصارهم على المشركين وكان ذلك يوم بدر، وفرح المؤمنون بنصر الله لهم، كما فرحوا بنصر الروم وهم أهل كتاب على الفرس وليس لهم كتاب (¬1). ثانيا: الإخبار عن غيب الحاضر: في القرآن أخبار كثيرة عن مغيبات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما مما كان يبيته الاعداء والمنافقون، وقد عنيت سورة التوبة بكشف دخائل المنافقين ودسائسهم، وفضح مؤامراتهم حتى سميت الفاضحة. ومن هذا النوع من الأخبار أيضا هذان المثالان: 1 - مؤامرة المشركين في بعض الغزوات على المسلمين أن يعطوهم الهدنة التي اعتادوها لأجل الصلاة، ويفاجئوهم بالهجوم عليهم غدرا وهم يصلون، فأنزل الله تعالى بيان كيفية صلاة الحرب بما فيه الوقاية من هذه المكيدة وقال فاضحا نوايا العدو: ¬

_ (¬1) انظر النبأ العظيم ص 41 - 42 ومناهل العرفان ج 2 ص 265 - 267، ومصادر التفسير، تفسير أول سورة الروم، وانظر التحقيق في كتاب «المعجزة الخالدة» ص 340 - 344، وفيه أمثلة أخرى كثيرة ليست في غيره.

ثالثا: أخبار الغيب الماضي

وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً (¬1). 2 - ائتمر المنافقون بتوجيه من اليهود فبنوا مسجدا بجوار مسجد قباء، زعموا أنه للصلاة وللمساكين يأوون إليه، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، فأنزل الله تعالى يكشف خبيئة نفوسهم الخبيثة (¬2): وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (¬3). ثالثا: أخبار الغيب الماضي: وذلك كثير جدا في القرآن يتضمن الإخبار عن حوادث قديمة وقعت من قبل، وقصص الأنبياء وأممهم مما سنعرض له بشيء من التفصيل في بحث القصة في القرآن (¬4). الوجه الثاني: الإعجاز التشريعي: إن القرآن قد جاء بتشريع معجز يثبت أنه تنزيل من الله ووحي منه تبارك وتعالى، وذلك من أوجه كثيرة نذكر منها: 1 - إنها جاءت على لسان رجل أمي وفي أمة أمية، تعيش الحياة القبلية بكل كيان أفرادها، لا يخطر على بال أحد منهم انتظام أو التزام بقانون عام أو نظام حضاري. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية 102. (¬2) سورة التوبة، الآيتان 107 - 108. (¬3) وقد عدّ صاحب مناهل العرفان الأخبار عن الملائكة والجن من أنباء الغيب الحاضر، ونحن نرى أنها تعتبر كذلك بالنسبة لمن سبق منه الإيمان، لا سيما إن قورنت بما عند الأمم الأخرى من علوم الغيب، أما غير تلك الحالة فهي من الغيبيات التي يتوقف الإيمان بها على أصل الإيمان بالله ورسله. (¬4) انظر التوسع في هذا الوجه الثاني كتاب «بينات المعجزة الخالدة» فقد أطال وأجاد بما لا تجده في غيره ص 321 - 358.

2 - إنه تشريع شامل وكافل لإحقاق الحق، وصيانة مصالح الناس في جميع شئونهم المالية، والاجتماعية والأسرية، والدولية ... 3 - إنه تسامى على كل قانون عرفته الأمم قديمها وحديثها، حتى أقرت المجامع القانونية الدولية الفقه الإسلامي مصدرا أساسيا تقتبس منه القوانين، وإن القوانين الحديثة في تطورها تتسامى لتقترب من الفقه الإسلامي. قال فضيلة العلّامة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله (¬1): «ومن هذه الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن، فإنها لا يمكن أن تكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من عند الله، وقد كتبنا في هذه عدة بحوث في إحدى المجلات الإسلامية بعنوان (شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله) جمعتها إحدى الهيئات الإسلامية في رسالة، ونشرتها، وترجمتها إلى الفرنسية والإنكليزية، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتي بها أمي لا يقرأ ولا يكتب وقد نشأ في بلد أمي ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة وهي في أحكامها لا يمكن أن تكون إلا من عند الله تعالى. وكتبنا بحثا وازنا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان في الملكية بالخلافة (الميراث)، وذكرنا أن قانون الرومان قد تكوّن في نحو ثلاثة عشر قرنا ومع ذلك هو بالملكية بالخلافة لا يوازن بشريعة القرآن إلا إذا وازنا بين عصا هشة وسيف بتّار، فلا يمكن أن يأتي به محمد من عنده، بل هو من عند الله تعالى. والأوربيون القانونيون يرون في قانون الميراث في القرآن أن العقل البشري لم يصل إلى الآن إلى خير منه ونحن نقرر لهذا أن ما ذكره القرطبي غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلا هو من عند الله تعالى العليم الخبير». ¬

_ (¬1) في كتاب «المعجزة الكبرى» ص 95، وانظر دراسات مفصلة حول هذا الموضوع وبيان تفوق أنظمة القرآن ص 454 - 547 من كتابه هذا.

الوجه الثالث: اتساق نظريات القرآن وأحكامه

الوجه الثالث: اتساق نظريات القرآن وأحكامه: جاء القرآن الكريم بهداية كاملة شاملة، كافية وافية في جميع الشئون المختلفة المتنوعة، وزاد عدد آياته على ستة آلاف آية تناولت مختلف الموضوعات التي تزيد على المئات، وجاء ذلك كله متفقا في معانيه وأحكامه، متسقا في أسلوبه وإعجازه، فكان ذلك دلالة على أنه كلام الله، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (¬1). وقد فصّل الإمام الغزالي وجه الدلالة بهذا تفصيلا وافيا بإيجاز جميل فقال (¬2): «الاختلاف لفظ مشترك بين معان، والمراد هنا نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة، أو هو مختلف الدعوى، أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه. وكلام الله منزّه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، مسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين. وكلام الآدميين تتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين، ولا يتساوى رسالتان وقصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية 81. (¬2) كما نقل عنه السيوطي في الإتقان ج 2 ص 124 بتصرف يسير.

الوجه الرابع: تأثير القرآن وفاعليته في الأفئدة

سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة وتارة يذمونها ويسمونها تهوّرا، ولا ينفك كلام الآدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض بالأحوال. والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه وتتعذر عليه عند الانقباض. وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافا في كلامه بالضرورة، فلا يصادف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا». الوجه الرابع: تأثير القرآن وفاعليته في الأفئدة: وهو وجه هام، ذهب عنه الناس، فلا يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك هو صنيعه العجيب في القلوب، وتأثيره العميق في القلوب (¬1). لو أن إذاعات عالمية أو صحفا كبرى أخبرت عن دويلة صغرى أنها أخذت بكتاب لديها فارتقت من دحض الضعف والتخلف والجهل إلى أوج القوة والتقدم والعلم حتى اكتسحت الدولتين الأعظم لاعتبرنا ذلك حيلة إذاعية، أو خدعة صحفية، لأن هذا يتنافى مع ما جرت به العادة وقوانين الاجتماع، وقد كان العرب أدنى من ذلك حالا وأشد تخلفا، وإذا بهم بهذا القرآن وتأثيره فيهم انقلبوا حتى كانوا كما سجل القرآن نفسه في مدحهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وهكذا ظل القرآن مدى التاريخ كتاب ¬

_ (¬1) كما ذكر الخطابي في رسالته «بيان إعجاز القرآن» ص 64.

الهداية، يؤمن بسببه الكافر، ويهتدي الضال، ويتوب الفاسق ويثوب العاصي، مما لا تجده من التأثير العميق لكتاب آخر قط. وهذا كما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.

الفصل الحادي والعشرون التصوير في القرآن

الفصل الحادي والعشرون التصوير في القرآن بحث هذه الخاصة في أسلوب القرآن قديم وحديث، سابق ولا حق، يبرز الإعجاز عن إدراك إعجاز القرآن، وقد أشار القدماء لهذه الخاصة بما عبّروا عنه حسب مصطلحاتهم كالتخييل والتجسيم، دون أن يغوصوا أعماقه الفنية، حتى إذا جاءت العصور الحديثة وفيها ارتقى التصوير، وأدوات العرض بالرؤية من أشرطة وأجهزة رائية جهد الأدب أن يلحق المصوّرة، ويحل بالكلمة والعبارة محل الصورة، وكان من البدهي أن يلتفت الدارسون إلى إعجاز القرآن يبحثون فيه عن الصورة وعن فن التصوير. وكان أن وجدوا في أدب القرآن المعجز أنه معجز في تصويره بالمعنى العصري الحديث كما أنه معجز في نظمه في نظرية النظم في الاصطلاح القديم (¬1)، كيف لا وهو الذي تحدّى الله تعالى العالمين كلهم أن يأتوا بمثله، أو بمثل سورة منه، وأعلن لهم على رءوس الأشهاد أنهم لم يأتوا بمثله، ولن يأتوا بمثله، فكان إعجاز القرآن معجزا في كل عصر، وفي أي مقياس أدبي صحيح، وذوق فني سليم، لا ينحصر بعصر دون آخر، ولا يضيق على مقياس أدبي صحيح أو آخر، ولا يستطيع أن يدرك كنهه أو يحيط بأسراره عبقري بل ولا عصر من العصور أو جيل من الأجيال، إنها معجزة فوق الإعجاز، معجزة كل عصر وزمان. ¬

_ (¬1) إشارة إلى نظرية «النظم» التي فسّر بها الجرجاني إعجاز القرآن.

يتجه القرآن لهذا الإنسان فيخاطبه بكليته، وذاته كلها عقله وفكره ونفسه ووجدانه، يخاطب كينونة الإنسان كلها، وذلك بأسلوبه العجيب أسلوب التصوير الحي. لو استعرضت القرآن من بدايته إلى ختامه فستجد طريقة خاصة بالتعبير الفني تكسو أسلوب القرآن حتى يصطبغ بألوانها البرّاقة الزاهية فإنك لن تجد فيه بيانا مجردا لمعنى ذهني، أو حالة نفسية أو حادث مادي أو مشهد منظور، أو طبيعة آدمية، أو موقف من مواقف يوم الحساب، بل تجده عبّر عن كل منها بصورة محسوسة متخيلة، حاضرة شاخصة، صورها بالألوان أو الحركات أو الإيقاع، ومزج بها جرس الكلمات ونغم العبارات، حتى تسري في أوصالها الحياة وتدب في جنباتها الحركة فإذا خلع عليها الحوار فقد نفخ فيها الروح فاكتملت فيها كل عناصر التخييل الحسي والتشخيص الحي، حتى تريك ساحة الحوادث على بساط الطبيعة والواقع، وتنسى أن هذا كلاما يتلى، لأن القرآن قد أحالك من قارئ أو مستمع إلى مشاهد يتابع أحداث المنظر وتجدد الحركات، وفيض الانفعالات الدافقة والوجدانات المتجاوبة مع الحوادث الجارية ... فتتبدى لك صورة حية بارعة خلّابة، تهيمن على مشاعرك وأحاسيسك حتى تجعلك أمام قبس من الحياة الحقيقية. أما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض وحادث يقع أمامه، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنم عن الأحاسيس المضمرة». «إنها الحياة هنا وليست حكاية الحياة».

وسائل التصوير الفني في القرآن

«فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني، والحالة النفسية، تشخّص النموذج الإنساني، أو الحادث المرئي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر أدركنا موضع الإعجاز في تعبير القرآن» (¬1). وبوسعنا أن نقول: إن هذه النتيجة التي انتهى إليها صاحب البحث في «التصوير الفني» لعلها كما قال الدكتور صبحي الصالح (¬2): «أن تكون أصدق ترجمة لمفهومنا الحديث لإعجاز القرآن، لأنها تساعد جيلنا الجديد على استرواح الجمال الفني الخالص في كتاب الله، وتمكّن الدارسين من استخلاص ذلك بأنفسهم، والاستمتاع به بوجدانهم وشعورهم، ولا ريب أن العرب المعاصرين للقرآن دهشوا قبل كل شيء بأسلوبه الذي حاولوا أن يعارضوه فما استطاعوا، حتى إذا فهموه أدركوا جماله، ومسّ قلوبهم بتأثيره ... ». وسائل التصوير الفني في القرآن: ليست أدوات التصوير الفني قاصرة كما قد يتوهمه بعض الناس على أدوات معينة، من تشبيه مركب أو بسيط، أو من استعارة تخييلية أو غير تخييلية، أو مجاز أو نحوه مما قد يقع في خاطر الدارس قبل التمعن والتروي، هذا ظن الذين يغلطون فيحسبون الأدب صناعة كصناعات الحرف والحديد والخشب، وهم بذلك يفقدون الأدب حيويته ويحنطونه جثمانا فاقدا روحه، فالأدب والفن أوسع من أن تحيط به القوالب، أو تحده الحدود، فكيف بمعجزة الأدب وفن التصوير فيها. إن وسائل التصوير في القرآن هي كل وسيلة من وسائل التعبير تثير المخيلة وتستدعي الصورة إلى الفكر، وتسيّر الحركة، وتلمس مشاعر الوجدان والقلب. ¬

_ (¬1) التصوير الفني في القرآن ص 33. (¬2) في كتابه «مباحث في علوم القرآن» ص 320.

فمن التصوير بالحرف

فالحروف في القرآن تصوّر، والكلمة تصور، والجملة، وفنون البلاغة كذلك تصور، وهناك من وراء ذلك أدوات وأدوات، فهناك «تصوير باللون وتصوير بالحركة وتصوير بالإيقاع ... وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن، والحسّ والخيال، والفكر والوجدان ... ». أما المادة التي تستخدم من المعاني والأشياء فهي مادة «تصوير حي منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة» (¬1). ولسنا هنا أمام ظاهرة ضيقة لكي نلتمس لها الأمثلة، ونتكلف لها الاختيار، بل إنك حيثما قلبت الطرف في هذا القرآن وجدت فيه خصائص الإعجاز الأسلوبي عامة، والتصوير منها خاصة. فمن التصوير بالحرف: هذه الآية الوجيزة الجامعة من سورة القلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. هذه الآية أمدح قول يقال، جمعت في وجازة عبارتها الفضائل العلمية والعملية، لأن الخلق الكريم لا يتحقق في الإنسان إلا بعد معرفته ما يحسن من الأمور وما يقبح، وما هو الأحسن، ثم يختار الأحسن والأفضل في كل موقف، وأمام كل مسألة، وينفذه، فذلك ما يقتضيه الوصف بالخلق العظيم. لكن حرف الجر «على» نقل هذا المعنى المجرد إلى صورة حسية يتخيلها المرء، لأن هذا الحرف معناه الاستعلاء، والاستعلاء إنما يكون على شيء مادي، فكأن مكارم الأخلاق قد ذلّلت وانقادت للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها تصرف المستعلي على الشيء المتمكن منه، كما أنها أفادت رفعة مقام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه في قمة المكارم والفضائل، ¬

_ (¬1) التصوير الفني في القرآن ص 32.

ومن التصوير بالكلمة

فلا يمكن أن يدانيه أحد أو يساويه لأنه علا فأصبح لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. وهكذا ارتقى المعنى بهذا التصوير ليبلغ غاية لا تساميها غاية، حيث أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى المكارم والفضائل، ثم هي فوق ذلك لا تصدر عنه بتكلف أو مشقة بل بغاية اليسر، لأنها منقادة له، وتلك نهاية في الكمال لا تدرك، ولا يبلغها إلا من قال الله تعالى له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. ومن ثم قال المادح المتذوق عظم هذه الآية وجلالها: إذا الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى ومن التصوير بالحرف: هذه الجملة من مطلع سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ. فقوله: ذلِكَ الْكِتابُ أفاد غاية كمال القرآن، حتى كأنه لا كتاب سواه، وذلك لأن هذه العبارة جملة اسمية معرّفة الطرفين، وتعريف طرفي الجملة الاسمية يفيد الحصر، فأفادت الجملة حصر صفة الكتاب في القرآن، والمراد بيان غاية كماله حتى كأنه لا كتاب سواه، كما تقول: لا شجاع إلا علي. لكن حرف اللام في ذلِكَ وهو لام البعد أضفى على المعنى خيالا مصورا فإنه أفاد أن هذا الكتاب لفرط كماله بعيد عن أن تناله أطماع الطامعين بانتقاص شيء منه أو الإتيان بمثله، فصوّر تعاليه المعنوي بالبعد الحسي، فاستعمل اسم الإشارة، وهي تستعمل حقيقة في الحسيات، وأدخل لام البعد، يصوره لنا في بعده المعنوي عن أن يتوصل إليه بالبعد المكاني الذي لا تبلغه وسائل التوصيل. ومن التصوير بالكلمة: قوله تعالى (¬1): الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. ¬

_ (¬1) في مطلع سورة الملك.

فقوله تعالى هنا: لِيَبْلُوَكُمْ المراد منه يختبركم، وأصل المقصود ليظهر أيكم أحسن عملا، ولما أن الاختبار يكشف هذه الحقائق ويظهرها فقد عبّر به عن ذلك، لكن الآية القرآنية نقلتنا من هذا المعنى المجرد إلى صورة فيها المعاناة المستمرة باستعمال كلمة لِيَبْلُوَكُمْ وأصل الكلمة من (البلى)، فصورت هذه الكلمة الإنسان بتعرضه للامتحانات واحتكاكها به في كل شئونه وكأنه قد بلي منها، وجاءت الصيغة لِيَبْلُوَكُمْ بالفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار لكي تحضر لك صورة هذا الإنسان وأنواع الاختبارات تتوالى عليه في عباداته ومعاملاته، وماله وبدنه، ونفسه ومجتمعه، ودنياه وآخرته هل يستقيم فيها جميعها على أمر الله أو لا يستقيم، فتتابع عليه الابتلاء حتى بلي، فأثرت الكلمة في إيجاد الصورة كما لعبت الصيغة دورا أعطى الصورة حركة وحسا، لو عبّرت بكلمة أخرى أو صيغة أخرى غير المضارع من المادة نفسها لفات من غرض الكلام ونقص مغزاه. ولصيغة الكلمة الصرفية دورها الهام جدا في أسلوب القرآن الكريم، ينطوي على لون من قمة الإعجاز البياني، بل وجدناه ينطوي على إعجاز علمي عظيم. ومن أمثلة ذلك هذه الآية (¬1): أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ. تصوّر كل من الكلمتين صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ طيران الطيور في الهواء، في حال بسط أجنحتها، وفي حال ضربها بأجنحتها على جنوبها صافَّاتٍ: أي باسطات أجنحتها وَيَقْبِضْنَ أي يضربن بأجنحتهن على جنوبهن، والصورة واضحة من التعبير، وجاءت كلمة فوقهم لتستكمل صورة الطيران فهو محلق في الهواء فَوْقَهُمْ. لكن التأمل الدقيق يوقفنا على سر في التعبير غاية في العجب، ذلك أنه ¬

_ (¬1) سورة الملك أيضا، الآية 19.

ومن التصوير بالجملة

اختار في المعنى الأول صيغة اسم الفاعل صافَّاتٍ، وفي المعنى الثاني الفعل المضارع يَقْبِضْنَ. ولو أنه قال: «قابضات ويصففن» لما فات التناغم الموسيقى الذي يتوهم بعض الناس فيه ما لا يجوز من الأوهام، فما السر في هذا الاختيار للصيغة المختلفة في كل معنى من المعنيين؟ إن الإعجاز العلمي الكامن وراء هذا التصوير هو الذي يكشف لنا سر هذا الاختيار. لقد عبّر القرآن عن بسط جناح الطائر في طيرانه باسم الفاعل صافَّاتٍ، وعبّر عن قبض الطائر جناحه وضربه جنوبه بجناحيه بصيغة الفعل يَقْبِضْنَ، ليأتي التصوير الفني في القرآن على غاية الدقة في موافقة قانون الطيران، وذلك لأن الأصل في قاعدة الطيران هو بسط أطراف الجسم الطائر في الهواء، وهو القانون الذي بنيت عليه الطائرات الحديثة بأنواعها، ووجدت به رياضة الطيران الشراعي، فجاء القرآن في تصويره للطيران بالتعبير عما هو طارئ بلفظ الفعل، لأنه يفيد الحدوث وعبّر عما هو الأصل بصيغة اسم الفاعل، أي أنهن في جو السماء صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة (¬1). ومن التصوير بالجملة: قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وقد جاء التصوير في الجمل هنا بواسطة الاستعارة، وهي استعارة قرآنية تعلو إلى أسمى مراتب البلاغة، لا يصل إليها بيان إنساني قط، إنما هو بيان القرآن فقط. ¬

_ (¬1) باختصار وتصرف عن تفسيري الكشاف والنسفي وكتابنا محاضرات في تفسير القرآن ص 127 - 128.

ففي هذه الآية الكريمة استعارات متعددة تبلغ أعلى درجات البيان: أنظر قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وتأمل ما فيه من اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر، فقد أضاف اللباس إلى الجوع، وفي ذلك تشبيه الجوع باللباس، على سبيل الاستعارة، فالجوع القائم المستمكن الذي يعدم فيه القل، ويكثر العدم، والخوف الذي يفزع النفوس، ويذهب بالاطمئنان، ويلقي بالاضطراب، شبه باللباس السابغ، لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله، وكذلك الجوع إذا عم، والخوف إذا طم، فإنه لا يبقى في الجماعة أحد لم ينله، لأن الأزمات الجانحة، والخوف من عدوّ داهم لا ينجو منه أحد، فكان التعبير عن هذه الحال باللباس، وفوق ذلك فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه، وكذلك الجوع، والهم والغم والخوف، وفي ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمّها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها. وهناك استعارة أخرى وهي قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ، فإن اللباس يلبس ولا يذاق، ولكن لباس الجوع والخوف لأنه يتصل بالنفس، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها، عبّر عنه بالذوق، فشبّه حال النزول بحال الإذاقة، للنزول الذي ترتب عليه أنهم أحسوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا في بحبوحة العيش فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى. وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات، وهو تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها، ولم تؤد الطاعات ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق رزقها، وبدلت من الأمن خوفا، ومن الرغد جوعا (¬1). ومن الأمثلة للتصوير بالجملة قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (¬2). ¬

_ (¬1) المعجزة الكبرى لمحمد أبو زهرة ص 278 - 280. (¬2) سورة مريم، الآية 4.

قال الرماني (¬1) يوضح بلاغة هذه الآية وما بها من الاستعارة: «أصل الاشتعال للنار، وهو في هذا النص أبلغ، وحقيقته كثرة شيب الرأس، إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدا سريعا صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار، وله موقع في البلاغة عجيب، وذلك أنه انتشر في الرأس انتشارا لا يتلافى، كاشتعال النار». وهذا التعبير لم يكن معروفا عند العرب، وذلك أنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار للسرعة وللبياض وللملازمة، ولأنه ينتهي بتدمير ما تتصل به، وتجعل حطامه ترابا (¬2). هذا عرض سريع لفن التصوير في القرآن، يبرز إعجاز القرآن وفق منظور معاصر، ومقياس فني حديث، سبق فيه القرآن تقدم العصور والقرون، بل تفنن في هذا التصوير بما تعجز عنه آلات التصوير الحسية، وفنون التصوير الأدبية، وقد شمل في تصويره أنواع الظواهر الطبيعية في الإنسان والكون، وتوغل في المشاعر الداخلية، وعرض للمعاني الدقيقة في صور من السمع والبصر والذوق والوجدان واللون والزمان والمكان ... وجعل من هذا الجمال الفني المعجز قالبا يحمل جمال الفكرة والدعوة، والحجج والبراهين، والحكم والتشريع، لكي يعتصم الإنسان بحبل القرآن في كل مكان وكل زمان. ¬

_ (¬1) في رسالته النكت في إعجاز القرآن 81 - 82. (¬2) انظر المعجزة الكبرى لمحمد أبو زهرة ص 280 - 281. وللجرجاني تفصيل قيم حول بلاغة الآية لم نطول به.

الفصل الثاني والعشرون الكون في القرآن

الفصل الثاني والعشرون الكون في القرآن هذا البحث من الدراسات التي أجداها تقدم العلم في إبراز وجه عظيم من أوجه إعجاز القرآن وهو إعجازه العلمي، ولا يزال الدارسون يفيضون فيه مع ظهور الجديد في العلم ووسائله، وكلما استقر قرار العلم في مسألة ما بإعطاء الحكم الجازم أو استخلاص النتيجة النهائية فيها. وعلى الرغم من بدائية الإنسان العلمية لدى نزول القرآن وانتشار التسليم بالأفكار التي هي اليوم خرافة، وعلى الرغم أيضا من أن القرآن لم يقصد فيما عرض له من شئون الكون تقرير علم كوني، فإنا نجد القرآن يسبق القرن العشرين وعصور الكهرباء والذرة وغزو الفضاء. ونستطيع أن نوجز إعجاز القرآن العلمي في ركنين أساسيين: الأول: ما احتواه القرآن من المعارف عن الكون وأصناف المخلوقات. وفي هذا يقول الدكتور موريس بوكاي (¬1): «إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص (يعني القرآن) لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق، وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، والتناسل الإنساني، وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ. يعني فضلا عن أن ¬

_ (¬1) دراسة الكتب المقدسة، ص 145.

القرآن أتى بثقافة علمية سبقت بحوالي عشرة قرون ثقافتنا العلمية فيما يخص بعض الموضوعات». الركن الثاني: وقد يستغربه القارئ: وهو أن ما لا يحتويه القرآن هام أيضا، فإن القرآن «لا يحتوي في الواقع على ذكر النظريات السائدة في عصر تنزيله، عن تنظيم العالم السماوي مثلا، تلك النظريات التي أثبت العلم فيما بعد عدم صحتها ... ولا بد من التنويه بهذا الطابع السلبي، كما يقول الدكتور موريس بوكاي (¬1). والسبب في ذلك أنه لو كان مصدر القرآن غير سماوي لكان لازما قطعا أن تتسرب إليه نظريات ذلك العصر، كما حدث لبعض مفسري القرآن أن فسر بعض الآيات خطأ متأثرا بمعارف عصره. كما فسر بعضهم قوله: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ ... فسر الصخرة بأنها صخرة عظيمة تستقر عليها الأرض (¬2). وتؤكد المقابلة بين القرآن والتوراة والإنجيل دلالة هذين الركنين: فإن القرآن- كما يقول الدكتور بوكاي: «يثير وقائع ذات صفة علمية، وهي وقائع كثيرة جدا خلافا لقلتها في التوراة، إذ ليس هناك وجه للمقارنة بين القليل جدا لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن، وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية .. ». ومن هنا كانت النتائج خطيرة ومتباينة جدا لدى الدراسة المقارنة، والتي توصل إليها عالم كبير لم يكن لدى تصديه للدراسة مسلما، هو الدكتور موريس بوكاي نفسه، فاستمع إليه يحدثك عن النتائج (¬3): ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 175. (¬2) انظر ذلك في تفسير النسفي للآية 16 من سورة لقمان وكذا وقع نحوه لغيره وانظر تفسير الآية في كتابنا في التفسير ص 71. (¬3) دراسة الكتب المقدسة، ص 13 - 14.

«لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة باحثا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف قبل هذه الدراسة وعن طريق الترجمات أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي (¬1) استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل: أما بالنسبة للعهد القديم: فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ونعني بها شجرة أنساب المسيح. وذلك أن نص إنجيل متى يناقض بشكل جليّ إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة بقدم الإنسان على الأرض .. ». «وسيجد القارئ في الجزءين الأول والثاني في هذا الكتاب (¬2) أمثلة صحيحة في ذلك. أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دراسة أحد الكتب المقدسة (يعني القرآن)، وهو تطبيق لم يكن ليتوقعه الإنسان، كما سيجد القارئ في ذلك بيانا لما قد جاء به العلم الحديث الذي هو في متناول كل يد من أجل فهم أكمل لبعض الآيات القرآنية التي ظلت حتى الآن مستغلقة أو غير مفهومة، ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توأمان متلازمان. ¬

_ (¬1) تعلّم الدكتور موريس بوكاي اللغة العربية بإتقان حتى يتمكن من دراسة القرآن بنفسه، فليعتبر بذلك شبابنا. (¬2) أي كتاب «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة».

الأصول العامة لحديث القرآن عن الكون

فمنذ البداية كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام، وإن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا. وإن التقدم الذي تمّ اليوم بفضل المعارف العلمية في شرح بعض ما لم يكن مفهوما أو في شرح بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن من آيات القرآن، ليشكّل قمّة المواجهة بين العلم والكتب المقدسة». الأصول العامة لحديث القرآن عن الكون: فإذا أردنا بعد هذا أن نزداد فهما للقرآن في حديثه عن الكون فتأملنا حديثه هذا وما اشتمل عليه من المعلومات والمعارف فإننا نجد أن هناك أصولا عامة يجب أن تكون نصب أعيننا لدى دراسة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكون، وهذه الأصول هي: 1 - إن القرآن الكريم لم يتخذ العلوم الكونية موضوعا من موضوعاته الأساسية، بل كان غرضه الأكبر هو هداية الناس. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. فهو لم يضع نظريات في العلوم، وليس يرفع من قدره أن يفعل ذلك، لأن هذه العلوم إذا خلت من الهداية تحولت إلى نقمة تحقيق بالإنسانية. كما هو مشاهد لنا على مستوى الأفراد والجماعات والدول، فحسب القرآن أن ينشئ المجتمع الفاضل، لكنه في الوقت نفسه قد أرسى أسس تقدم العلم بما رسخ من مفاهيم صحيحة، وأبطل من أفكار زائغة. 2 - إن العلوم الطبيعية خاضعة للتدرج يوما بعد يوم فترك القرآن بحث النظريات العلمية ابتلاء للناس كما ترك غيرها من الوسائل الحيوية والمهن والصناعات والحرف ليترك المجال مفتوحا وليستحق كل بما يقدمه. وقد وقف القرآن من هذه العلوم موقف المؤيد الموافق لها فأمر بها وحض الناس على النظر في مظاهر الكون وما تكنه من أسرار ودلائل مما أودعه الخبير القدير من أعاجيب الخلق والتكوين، وبيّن القرآن أن حقائق هذا الكون فيها عبرة للعقلاء

من الناس: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. 3 - قرر القرآن أن الكون خادم الإنسان مسخّر له، وأثبتت العلوم الحديثة ما قرره القرآن، والتاريخ الإسلامي لم يعرف الانفصال بين عالم الدين وعالم الطبيعيات، فابن النفيس مثلا عالم الضوء كان إماما في الفقه الشافعي يقتدى به، وغيره كثيرون، فليس هناك تباين بين الدين والعلم، بل كثيرا ما قد نجد عالم الدين عالما كونيا وعالم الكون عالما دينيا، فلا عداء بين الإسلام والعلوم الكونية قديمها وحديثها لأن الكون في مفهوم القرآن مسخّر كما بينا للإنسان، بخلاف ما ساد في أوربة حتى عهد قريب من أن الإنسان وجد في جو معاد له وأن الكون يصارع الإنسان. وقد أثبتت الأبحاث العلمية المتقدمة أن هذا الكون خادم للإنسان، وأن مجال انتفاع الإنسان منه لا يمكن أن يحيط به الحصر، بل يخضع لمدى قدرة الإنسان على الانتفاع منه، وذلك ما أشار إليه القرآن في مواطن كثيرة كقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ... وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. فقد عبّر القرآن تعبيرا دقيقا عن العلاقة بين الكون والإنسان في هذه الكلمة سَخَّرَ بكل ما فيها من معاني استمرار الخدمة، فكان هذا الموقف من القرآن الكريم تقريرا لقاعدة العلم الأساسية ومنطلقا للعلماء في أبحاثهم. 4 - إن القرآن تكلم عن حقائق الكون ولم يتبنّ نظريات علمية، لكنه تكلم ولفت النظر إلى ما في الكون من عجيب الصنع وكان هدفه الاستنباط والاستدلال على المكون الخالق والامتنان على الناس بما أنعم الله عليهم. وهذان الغرضان متلازمان مع الهدف الذي من أجله جاء القرآن، فالمنّة والإنعام تستدعي الشكر والطاعة والتقرب إلى الله تعالى.

ومن ثمّ جاء موقف هام آخر للقرآن، وهو أن القرآن في حديثه عن الكون جاء من حيث طريقته جامعا بين الإجمال والتفصيل، وفي هذا الحديث نجد التوافق بين القرآن والعلم قرنا فقرنا، وهنا يظهر عنصر معجز عظيم لأن القرآن في حديثه عن الكون انعتق من التأثر بما كان عليه أمر الناس من علوم ونظريات سائدة في ذلك العصر، فقد كان في عصر القرآن الكريم من يعبد الفلك ومظاهر الطبيعة مثلا، فجاء القرآن وتكلم عن الكون وعن الأفلاك كلاما علميا يتفق مع أحدث النظريات القائمة المعتمدة اليوم، ولا مصدر لهذا العلم في ذلك الوقت القصي إلا التنزيل عمن خلق الكون، ولذلك نجد أن كثيرا من مواقف القرآن الكريم يزداد على مدى الزمن وضوحا ودقة، بعد أن كان يفهم فهما إجماليا. خذ مثلا قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ في معرض الحديث عن المطر والسحاب، وقد تبين ذلك في العلم الحديث، فالرياح التي تمطر تلقح السحاب ببعضه، إذ تتفاعل القوة الموجبة في السحاب مع القوة السالبة فيكون البرق والرعد والمطر .. وخذ مثلا قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وقد فهم المتقدمون من زوجين الأمرين المتقابلين كالليل والنهار والظلمة والضياء، ولكن المعنى الأوسع هو السالب والموجب، فإن أصغر خلية في الذرة وهي الجوهر تتألف من السالب والموجب وقد جاء العلم الحديث يقرر أن مادة الكون ترجع إلى عنصر واحد هو (الطاقة) ومن الطاقة الموجبة والطاقة السالبة تتكوّن الذرة، ثم المادة. وهكذا توصّل التقدم العلمي الحديث إلى ما سبق أن قرره القرآن منذ أربعة عشر قرنا. وهذا الموقف للقرآن من العلوم كان له أثر في تحرر الناس من الخرافة والأوهام وفي تقدم العلوم على أيدي المسلمين بعد أن كان العالم في الظلمات حتى تتلمذ العالم قرونا على يد المسلمين الذين منهم انبثقت الشعلة، وإنا لنرجو أن تحقق هذه الأمة بتقدمها الخلقي الديني وما ينبثق عنه

شروط تفسير الآيات الكونية

من تقدم علمي مجدا يسابق مجدها القديم برسالتها الخالدة في إنقاذ الإنسانية وهداية بني الإنسان. شروط تفسير الآيات الكونية: يحاول كثير من العلماء المخلصين تفسير الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكون، وإبراز ما في تضاعيفها من موافقة مكتشفات العلم، وكثيرا ما أوغل بعضهم وتكلف. مما لا يتفق مع أصول علم التفسير، ونقتبس على هذا الصنيع ملاحظتين من فضيلة الأستاذ العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة (¬1) تشملان شروط قبول هذا التفسير: الملاحظة الأولى: أنهم يحاولون أن يحمّلوا القرآن نظرياتهم، وعليهم أن يفهموه كما تبين ألفاظه وكما تومي إشاراته، وذلك لأنهم أحيانا يحمّلون القرآن ما لا يحتمل، ويرهقون ألفاظه بالتأويل، وأحيانا يأتون بنظريات لم تكن حررت بعد من الشكّ والنظر، وقد تتغير. ولا يصح أن يبقى القرآن تتردد معانيه باختلاف النظريات، بل إن الواجب أن ندرس ما في القرآن على أنه حقائق، فما وافقه من العلوم قبلناه. الملاحظة الثانية: أن يدرس الكون في القرآن على أنه (يعني القرآن) حقائق ثابتة، وأنه هو موضع التسليم من المؤمن بالله تعالى وبالقرآن، فلا تجعل حقائقه (القرآن) موضع نظر، بل إن الإيمان بالقرآن يوجب الإيمان بكل ما اشتمل عليه، ولا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن ونتجه إلى تأويله، إلا أن يكون الظاهر يقبل التأويل وتكون حقائق العلم الثابتة تقتضي الأخذ بالتأويل الذي يحتمله القرآن من غير تعسف، ولا خروج بالألفاظ إلى غير معانيها. وإنا بهذه الدراسة وبما قررناه من شروط تفسير الآيات الكونية نؤكّد الحقيقة المسلمة أن كتاب الله تعالى هو كتاب الحق، والصدق والعلم، لأنه من عند الله تعالى الذي لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، ¬

_ (¬1) في كتابه «المعجزة الكبرى» ص 552.

الفصل الثالث والعشرون القصة في القرآن

الفصل الثالث والعشرون القصّة في القرآن لا يخفى ما تدل عليه أخبار الأمم السابقة مع أنبيائها، ووقائع الماضي البعيد الذي عفت عليه الأيام، وذهبت بعلمه ومعرفته، فالقصص عن الأمم السابقة معجزة بينة، وحجة حاسمة من دلائل علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، كما أنه دروس وعبر، وحكم ومواعظ يفهمها العامة من مؤمن ومنكر، والخاصة من متعمق ومتمعن، لذلك عني القرآن الكريم بأنباء السابقين أيما عناية، وبث هذه الأخبار في ثنايا دعوته، لتأييد حججه وبيناته. أهداف القصة في القرآن: لا بد أن يلاحظ المتأمل لكتاب الله تعالى عنايته بالقصص حتى انها قد بثّت في ثنايا الكتاب الكريم بشكل بارز ملحوظ، وذلك لما يهدف إليه إيرادها من الحكم والأسرار الجليلة، نلخص جملة من أهمها فيما يلي: أولا: الهدف الأكبر والأعظم للقصص في القرآن هو إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي يوحى من الله تعالى، وذلك لأن علم الماضي قد ذهب واندثر، والنبي صلى الله عليه وسلم أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وقومه كذلك أميون، لم ينشأ بين أهل الكتاب ولا كان ثمة مدرسة يتعلم منها هو أو أحد من قومه، ولا خالط أحدا من أهل العلم بالكتاب السابق ولا تلقى عن أحد منهم شيئا قط، فلما جاء بهذه الأخبار ينبئ بها نبأ الأنبياء مع أممهم، فيطابق ما كان عند أهل الكتاب صوابا لم يدخله خطأ، ويصحح ما كان عندهم

دخله تغيير أو تبديل، ويخبر بوقائع لا يعلمها أهل الكتاب ولا ذكرت في تراثهم فكان كما قال تعالى في وصف القرآن: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. وهذا مع أن علماء أهل الكتاب كانوا يخفون تلك العلوم التي عندهم ولا يطلعون أحدا عليها، فدل ذلك القصص على أنه لا يمكن إلا أن يكون تلقيا من عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الوجه من الإعجاز، وصرح به في مواضع متعددة، تأكيدا لإعجازه، وتأكيدا لتحدي المرتاب الشاك، والمنكر المعاند. فنجده- مثلا- عقب ذكر قصة مريم وكفالة نبي الله زكريا لها يقول: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (¬1). ويقول في سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (¬2). فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا لم يقرأ كتابا قط، ولا تعلم من عالم قط، وقومه كذلك أميون، وهو لم يشاهد تلك الحوادث ولا التقى بشخصيات تلك الوقائع التي قصها القرآن، بل قد تعرض للامتحان فيما يأتي به من قصص الغيب الماضي، فطرح عليه أهل الكتاب أسئلة مما يعلمونه مغيبا عنه فسألوه بواسطة أهل مكة عن أهل الكهف والروح وذي القرنين فأجابهم عن ذلك كله بدقة وتفصيل، فآمنا من ذلك « .. إنه ما علم إلا بوحي الله واطلاعه عليه، وهي أخبار كثيرة، لا يقع الصدق فيها إلا بالوحي من الله عز وجل» (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 44. (¬2) سورة هود، الآية 49. (¬3) تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار الهمذاني ص 86 - 87. وفي هذه العبارة إشارة هامة إلى حكمة من حكم كثرة القصص واتساع المساحة التي يحتلها من القرآن، وهي تأكيد هذا الإعجاز.

ثانيا: بيان أن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله في النهاية، ويهلك الكافرين المكذبين، ولا يخفى ما في ذلك من تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية نفوس المؤمنين وزجر الضالين المعاندين وزحزحتهم عن مواقفهم، فتتأثر النفوس كل نفس بحسب ما تحتاج إليه، إذ يتوالى عليها بيان نصر المؤمنين، وخذلان الكافرين، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ويتكرر رفع راية العدل، ومحق قوة الظلم من خلال وقائع القصص التي يذكرها القرآن، بل بما يقع فيه من التصريح بهذا التنبيه، وإثارة هذه القضية، في كثير من مناسبات القصص. تأمل هذه الآيات تعقيبا على قصص الأنبياء في سورة هود: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ، وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (¬1). وفي سورة غافر يقول تعالى عقب قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون وإنجاء الله موسى والمؤمن وإهلاك فرعون: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (¬2). ثالثا: بث المعاني الدينية الواضحة وترسيخ قواعد الدين، بما يقع في ثنايا القصص من حوار، ومواعظ وحجاج، يصغي إليها السامع، ويتابعها القارئ، سواء كان موافقا أو مخالفا مؤمنا أو كافرا، لما في طبيعة القصص من التشويق والإثارة. تأمل ما يلقيه مؤمن آل فرعون لما خشي على موسى من طغيان فرعون وبطشه: ¬

_ (¬1) سورة هود، الآيات 100 - 103. (¬2) سورة غافر، الآيتان 51 - 52.

وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآيات إلى آخر القصة في سورة غافر .. (¬1). ففي قصة موسى مع فرعون هنا برزت التوجيهات على لسان الرجل المؤمن يقرر أمورا على غاية من الأهمية وهي جميعها معان دينية، وتوجيهات صريحة تضمنها الحوار القصصي، مما يجعل وقعها في النفوس أبلغ وأعمق. رابعا: في قصص القرآن دحض ادعاءات تزعم في نشأة الأديان أن الإنسان الأول كان في ظروف الطبيعة القاسية والغابات ورءوس الجبال، فجره الخوف من مظاهر الطبيعة وعجزه عن تفسيرها إلى أن يتصور لكل منها إلها، فجعل للريح إلها، وللمطر إلها، وللخصب إلها ... وصنع التماثيل لهذه الآلهة وعبدها. وكان ذلك برأيهم قبل ظهور الأديان السماوية، ثم تطور الحال إلى الأديان السماوية وإلى توحيد الله تعالى .. إن القرآن الكريم الذي وصفه الحديث: «فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم ... » (¬2) ليعطينا الأجوبة الكثيرة لإبطال هذا الزعم الوهمي، نقتصر منها هنا على ما يلي (¬3): 1 - إن الدين السماوي المبني على توحيد الله قد وجد مع وجود الإنسان، فحين أهبط الله آدم وزوجته وإبليس إلى الأرض قال لهم: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... ثم كان موقف الأنبياء جميعهم على ضد ما توهمه هؤلاء، فقد قاموا كلهم بإبطال العادات الفاسدة، والعقائد الزائغة التي تفشّت في المجتمع ¬

_ (¬1) على القارئ استحضار الآيات وتأملها. (¬2) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن ج 5 ص 172. (¬3) انظر التوسع في كتابنا «الفكر المسلم».

بسبب البعد عن العلم. وبسبب اتّباع الأهواء ... قال تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (¬1). فبنى الأنبياء عليهم السلام دعوتهم على نبذ التقليد لكي يتحرر العقل ويعمل ببصيرته النافذة، فيتوصل إلى الحق ويعتصم به. 2 - إن الأنبياء- كما قصّ القرآن علينا- إنما دعوا قومهم إلى الله تعالى وتوحيده بالحجج القاطعة والأدلة الساطعة، وعلى أوجه متنوعة كثيرة يشغل استيفاؤها بحثا كبيرا. هذا نبي الله نوح عليه السلام يقول لقومه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً .. (¬2). وإبراهيم عليه السلام يقول لمن حاجّه في ربه: قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ .. (¬3). وموسى عليه السلام يقول لفرعون عند ما سأله قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (¬4). والقرآن حافل بالحجج، كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (¬5). وقوله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية 23. (¬2) سورة نوح، الآية 15 - 18. (¬3) سورة البقرة، الآية 258. (¬4) سورة طه، الآية 50. (¬5) سورة الأنبياء، الآية 22. (¬6) سورة الطور، الآية 25.

قصص القرآن حقيقة تاريخية

وغير ذلك كثير جدا، يحكم بالبطلان على من زعم تأثر العقيدة أو الدين في القرآن وفي دعوة الأنبياء بعادة أو عرف أو أثر من المجتمع ... ويثبت أن القضية إنما هي قضية حجة وبرهان، فنقول لمن خالف القرآن في الإيمان بالله وتوحيده ما قاله القرآن وتحدّى به كل مخالف: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قصص القرآن حقيقة تاريخية: لقد صرح القرآن بأنه يقص القصص الحق أي الثابت الواقع، فكان ذلك دلالة على أن ما جاء في هذا الكتاب الكريم تبيان لوقائع حدثت في غيب الماضي الذي اندثر علمه عن الناس، وكان هذا القصص وجها من أوجه إعجاز القرآن الدالة على أنه من عند الله تعالى. غير أن التحريف والدس في قصص الأنبياء الذي وقع في تراث الأمم السابقة عامة، وفي المرويات الإسرائيلية خاصة دفع الباحثين العلميين الأجانب إلى التشكك في هذه القصص بل إلى الغلو في التشكك، حتى في القضايا البدهية، مثل وجود بعض الأنبياء المتقدمين الذين تدل دلائل اليقين القاطع على وجودهم، بل من كان له الأثر الكبير في تحول الإنسانية مثل إبراهيم أبي الأنبياء أو موسى وعيسى عليهم السلام. ثم جاء ببغاوات الثقافة الأجنبية من أبناء ملتنا ليرددوا بغير علم قالة أولئك، ويطبقوها على قصص القرآن، ويثيروا حوله الشك والريب، وكأنّ ثمة فئة من الناس تستكثر على هذا الإنسان أن يبقى له مرجع واحد ثابت لا يتطرق إليه الظن، يرقى بهذا الإنسان مما آل إليه من الانحدار. والعجيب أن القرآن الكريم أحال الناس من قديم على مخلّفات الأمم البائدة وآثارها، قبل أن يتقدم علم الآثار ليقرأ فيها الباحثون أخبار الأمم ويستنطقوها أحوالها، تأمل قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ .. ، وقال لفرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ...

لقد أثيرت أسئلة حول موسى عليه السلام وعلاقة فرعون بقومه، وزعم بعض المبشرين أنه كان مجرد طاغية كافر، ليس بينه وبين قومه علاقة عبادة، وأطلق بعض المبشرين ألسنتهم بما شاء لهم أدبهم في حق القرآن. وأثيرت أيضا ريبة حول إبراهيم عليه السلام ووجوده، أثار المستشرق اليهودي جولد تسيهر هذه الريبة (¬1). لكن تقدم علم الآثار وتفوق العلماء في قراءة الأحافير جاء ليسجل مصداق ما جاء به القرآن الكريم، وأنه صحح أخطاء في تراث الأمم السابقة، وتفرّد بمعلومات دقيقة لم تكن معروفة عند أحد من العالم. أما بشأن فرعون فقد تبين من الآثار أنه كان يقيم نوعا من علاقة التأليه مع شعبه. كما اكتشفت جثته التي تفرد القرآن بالإخبار عن نجاتها: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً. وعقد الدكتور موريس بوكاي فصلا هاما (¬2) حول هذه القضية وهو قد شاهد «مومياء» فرعون هذا بنفسه في متاحف القاهرة واختتم الفصل بقوله: «أيّ بيان رائع لآيات القرآن ذلك الذي يخص بدن فرعون والذي تهبه قاعة الموميات الملكية بدار الآثار بالقاهرة لكل من يبحث في معطيات المكتشفات الحديثة عن أدلة على صحة الكتب المقدسة». وأما بشأن إبراهيم الخليل عليه السلام فقد جاءت الحفريات لتثبت أخبار القرآن عنه وعن قومه تلك التي قام بدراستها «ليوناردو وولي» وألّف بناء عليها كتابه عن إبراهيم، وإذا به يخبر عن قوم بابل وعبادتهم للنجوم، وأن عبادة القمر سابقة على عبادة الشمس خلافا لما قد يتبادر للذهن، وأن رب الأرباب عند اليونان هو كوكب المشتري وليس الشمس أو القمر، ومن ذلك قدم القرآن ¬

_ (¬1) في أوائل كتابه: «العقيدة والشريعة في الإسلام» ص 12 وما بعدها. (¬2) في كتابه القيم «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» ص 149 - 271.

طريقة القصص في القرآن

ذكر الكوكب في قصة إبراهيم فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ... (¬1). ونختم بهذه الكلمة التي يقولها الدكتور بوكاي عن جثة فرعون إذ يقول (¬2): «في عصر محمد صلى الله عليه وسلم كان كل شيء مجهولا عن هذا الأمر ولم تكتشف هذه الجثث إلا في نهاية القرن التاسع عشر، وكما يقول القرآن فقد أنقذ بدن هذا الفرعون، وأيا كان هذا الفرعون فهو الآن في قاعة المومياءات الملكية في المتحف المصري بالقاهرة، ويستطيع الزوّار أن يروه». طريقة القصص في القرآن: لما كانت القصة في القرآن تهدف إلى مقاصد دينية وإيمانية كانت طريقة القص في القرآن متميزة عن المألوف في هذا الفن، لكي يتلاءم أسلوب عرض القصة مع الوفاء بحق الغرض الذي سيقت لأجله، ومن أبرز سمات طريقة القرآن في القصص ما يلي: أولا- القصة لا ترد في القرآن بتمامها دفعة واحدة ، بل يقتصر على الجزء الذي يناسب الغرض الذي تساق القصة لأجله، كما يكتفي بالجملة من الآية أو شطر البيت من الشعر للاستشهاد به. وهذا الجزء الذي يذكر إنما يذكر بالحدود الملائمة للغرض كذلك. فقصة موسى مع فرعون في سورة غافر وردت في جو كأنه جو معركة، لأن فيها بيان الصراع بين الحق والباطل، والمعركة بين الإيمان والكفر، فتذكر السورة من القصة ما يلائم ذلك: محاولة قتل موسى، والتفكير بقتل «أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم». ثم ظهور الرجل المؤمن بين قوم فرعون ¬

_ (¬1) انظر التفاصيل المثيرة في كتاب «إبراهيم أبو الأنبياء» لعباس محمود العقاد رحمه الله. (¬2) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص 269.

ثانيا - استخراج التوجيهات والعظات، والإعلان بها في ثنايا القصة وختامها

يكتم إيمانه فينصر موسى ويدافع عنه، واحتيال فرعون للتهرب من دلائل الحق وبراهينه إلى أن تأتي نهايته بالهلاك والعذاب الأليم. وبحفظ الله تعالى لهذا المؤمن الحكيم. فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ .. فكان الختام ملائما لجو السورة، كما أنه في الوقت نفسه ختام فنّيّ رائع ذلك المشهد الذي يبرز فيه فرعون وقومه قد أحاط بهم سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ... ثانيا- استخراج التوجيهات والعظات، والإعلان بها في ثنايا القصة وختامها ، مما توحي به القصة من العبر والدروس. ففي قصة لقمان مثلا: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. يأتي البيان القرآني بتعقيب على هذه الموعظة بقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... الآيات ... فهذا بعد وصية لقمان الأولى ليس من كلام لقمان، بل هو من كلام الله تعالى يوجهه سبحانه لعباده لمناسبة وعظ لقمان، يحقق غرضين كبيرين: الأول: التأكيد على وصية لقمان لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ببيان أنه أعظم الحقوق، وأنه لا يجوز التساهل إزاء قضية الإيمان وتوحيد الله تعالى لأي اعتبار، ولو كان هو حق الوالدين البالغ غاية التقديس. الثاني: تأكيد حق الوالدين، وبيان أنه أجلّ حقوق العباد على الإنسان، وأقدس واجبات الإنسان تجاه الإنسان، لكنه مع ذلك لا يقاوم حق الله تعالى. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ... ومن ذلك ما نقرؤه في ثنايا حوار موسى ومؤمن آل فرعون، فموسى يقول: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ. وهذا يشير إلى فظاعة من اتصف بذلك، وفي ثنايا كلام مؤمن آل فرعون: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.

ثالثا - التكرار

ثالثا- التكرار: والتكرار خاصة من خصائص أسلوب القرآن بصورة عامة، وهو في طريقة عرض القرآن للقصة جزء من تلك الطريقة. ولهذا نجمع بحث هذه السمة لنلخص بحثها في هذه المناسبة في فقرتين: تكرار القصة في القرآن، تكرار العبارات في القرآن. 1 - تكرار القصة في القرآن: إن إطلاق كلمة تكرار هنا فيها كثير من التسامح والتساهل، فإن تعرض القرآن لما حدث مع نبي من الأنبياء مع قومه في أكثر من موضع ليس هو تكرارا بالمعنى الحقيقي، إنما هو استشهاد بالقصة لأغراض متعددة، لذلك لا نجد القصة تعاد كما هي، وإنما يذكر الجزء المناسب للغرض والمقصد الذي اقتضى الاستشهاد بالقصة باستعراض سريع. أما جسم القصة فلا يكرر إلا نادرا، ولاستنباط دروس وعبر جديدة منه مما يجعله على الحقيقة غير مكرر. وهكذا وردت قصة آدم في ست مواضع من القرآن تثير العبر حول خطر اتباع الهوى ومخالفة أمر الله، وضعف الإنسان أو توبته وقبول توبته وهكذا. كذلك وردت قصة إبراهيم في نحو عشرين موضعا، تثير في كل موضع عبرة ودرسا، في التوحيد، أو الإنابة، أو تأسيس البيت العتيق، أو الأذان في الحج .. إلى آخر ما هنالك .. وهكذا تكررت قصة موسى، مع فرعون، ومع قومه، ومع نبيّ الله شعيب في مدين: ... وفي كل موضع عبرة وعظة وحكمة ودروس. 2 - تكرار العبارات في القرآن: هذا القسم من التكرار يبرز بعض خصائص أسلوب القرآن، وأسرار بلاغته المعجزة، فتارة يكرر الجملة أو العبارة بنصها دون تغيير فيها، لما في ذلك من التأكيد، أو التهويل، أو التصوير، وكل ذلك له أثر عظيم في تعميق المعنى في النفس وصدعها عما تصر عليه. ويظهر ذلك بوضوح بالمثال الذي يتبادر للذهن أول شيء لدى ذكر التكرار، وهو سورة الرحمن التي تكرر فيها

كثيرا قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فإن هذه السورة تعدد للمنكرين نعم الله عليهم ودلالة كل نعمة على وجوب الانقياد لله تعالى شكرا له، وخضوعا لعظمته، لكنهم كفروا هذه النعم فوضعوها في غير موضعها، وكفروا بالمنعم وأشركوا به غيره فعبدوا الأوثان والشركاء، فجاءت سورة الرحمن تحاجّهم وتحاقّهم بإيقافهم على كل واحدة منها بالحجة الملزمة، وهكذا بالتعداد المفصل لتلك النعم والدلائل حتى تزحزح المعاند عن عناده، وترسّخ في أعماق النفس الشعور بوجوب شكره تعالى، فعقّب ذكر كل واحدة من النعم والدلائل بهذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. وتارة يكون التكرار مع اختلاف في نظم الجملة، أو إيجاز أو إطناب أو نحو ذلك. وذلك يبرز سرا من أسرار إعجاز القرآن، وهو التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب دون أن ينال تكرار المعنى من سموّ الأسلوب وإعجازه، بينما لا يخلو كلام البشر في مثل هذا الحال من تفاوت بين الأسلوبين واختلاف مستوى الأداءين. وذلك من جملة تصريف البيان في القرآن الذي ذكره القرآن في مناسبات متعددة، كقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ .. (¬1) وقوله: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (¬2). وحقيقة التصريف: «إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول العهد به» (¬3). وبهذا التصريف المعجز حقق القرآن هدفا عظيما هو خطاب الناس كافة، من تكفيه الإشارة والموجز من القول، ومن لا يسد خلل فهمه إلا التفصيل وهكذا تنوع أسلوب القرآن. وقد لفت هذا التصريف المعجز أنظار البلغاء وراحوا يكشفون ما في كل ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية 100. (¬2) سورة طه، الآية 113. (¬3) كما قال الزركشي في البرهان ج 3 ص 10.

موقع من سرّ بلاغي، وإعجاز بياني، حتى في الكلمة الواحدة تختلف بها العبارة من موقع إلى موقع، ونشأ عن هذا الغرض الأخير فنّ جليل دقيق هو «متشابه القرآن اللفظي»، صنّف فيه العلماء عدة كتب، أذكر منها كتاب «درة التنزيل وغرة التأويل» للراغب الأصفهاني. ومن أمثلة ذلك هذا التحليل نسوقه من الكتاب: قال تعالى في سورة الأنعام (¬1): وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وقال في سورة الإسراء (¬2): وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ. فالسؤال هنا: لم قدم في الأول: ضمير المخاطب نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وفي الثاني ضمير الغائب: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ .... والجواب عن هذا من أكثر من وجه نذكر منها ما يختص بالمعنى: إن الآية الأولى تحرّم قتل الأولاد الذي يدفع إليه الفقر النازل فعلا بالآباء كما قال مِنْ إِمْلاقٍ. فناسب لذلك تقديم ذكر الآباء لأنهم هم الذين يعانون الفقر فعلا، وهو يدفع بعضهم للتخلص من أعز شيء عليه، فكان الملائم للمقام هنا تقديم ذكر الآباء. أما الآية الثانية: فتحرم قتل الأولاد الذي يدفع إليه خوف الفقر في المستقبل خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لتضاعف مسئوليات النفقة بسبب الأولاد. فناسب لذلك تقديم ذكر الأبناء نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ لضمان مستقبلهم من الله وإزاحة هذا التخوف والوسواس الذي تحرك في القلب بسببهم» (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 152. (¬2) الآية 32. (¬3) درة التنزيل وغرة التأويل ص 339. وقد طبع هذا الكتاب منسوبا للخطيب الاسكافي، وذلك خطأ، إنما هو للراغب، كما وجدناه في مخطوطاته.

أسلوب القصة الفني في القرآن

ولذلك أمثلة كثيرة أتى في دراستها العلماء بروائع الإعجاز القرآني. أسلوب القصة الفني في القرآن: وأسلوب القصة في القرآن جزء من أسلوبه المعجز بخصائصه العامة. لكنا هنا نقف على جديد في الأسلوب هو تجاوب أسلوب القص الفني في القرآن مع أحدث فنون القصة، فأنت واجد في قصص القرآن مقومات القصة الفنية من تمهيد وعرض أحداث وعقدة وحل للعقدة، ثم خاتمة ونهاية للقصة. بل تجد في قصص القرآن ما لا يخطر على بالك، ذلك هو خصوصية المسرحية وما يسمى بالأسلوب التمثيلي، حتى إن القصة في القرآن ليمكن أن تعرض مسرحيا دون أي تعديل فيها. وذلك ما لا يتأتى في غيره من القصص إلا أن تكون قد كتبت وأعدت إعدادا خاصا لهذا الغرض. ومن يتأمل ما ورد في سورة غافر من قصة موسى مع فرعون وجد مصداق ذلك في تلك الآيات (¬1): فقد ذكر في هذه السورة من قصة موسى مع فرعون ما يلائم غرض السورة العام وهو معالجة قضية الحق والباطل، وبدأت أولا بهذا التمهيد: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ... فتهيأت الأذهان بهذا التمهيد للقصة التي جاءت بمثابة المثال التطبيقي لهذه القاعدة الكلية التي مهدت بها السورة. ثم جاءت العقدة مبكرة- وقد تأتي في مواضع أخرى متأخرة عن مثل هذا الموقع- والعقدة: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ... وهنا يأتي دور مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه من قبل، لكنه الآن يرى الواجب يدعوه لقولة الحق، فتصرف بما يوجبه عليه الموقف بحكمة وتبصر. ودار الحوار وسط تشوق العقل لمعرفة النتيجة وكيف حل العقدة التي لم تتأثر بهذا المنطق السديد الحكيم، فكان الحل أخيرا بهذا الأخذ الإلهي: ¬

_ (¬1) الآيات 23 - 47 من سورة غافر وعلى القارئ استحضارها.

فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ .... وكان بعد حل العقدة انتهاء القصة بمشهد ختامي رائع، هو مشهد أولئك الطغاة الجبارين يذوقون أليم العذاب: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ... إلى آخر السورة وما فيها من اختصامهم في النار ... ونلمح في القصة خصوصيتين من خصائص فن القصص المسرحي: الأولى: الاعتناء بفن التصوير، ويظهر هنا واضحا في رسم الشخصيات، فشخصية موسى هي شخصية ذلك النبي الواثق بقضيته فهو يواجه تهديد فرعون باللجوء إلى الله تعالى، وشخصية الرجل المؤمن تبدو من خلال الحوار شخصية الرجل الحكيم الذي يتبع المنطق المعقول، مع إثارة عواطف قومه بالنداء المتكرر «يا قوم .. يا قوم .. » وشخصية فرعون تبدو بجبروتها وخبثها وإصرارها على الباطل، يقابل دعوة الحق بسفك الدماء، ويواجه المنطق المفحم بالحيلة والدهاء: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ... الخصوصية الثانية: حذف الثغرات بين الوقائع مما لا حاجة إليه لفهم القصة، بطريقة فنية عجيبة اخترق بها قصص القرآن أستار القرون ليأتي متلائما مع ما يسمونه «العرض التمثيلي» الذي نما في هذا العصر إلى أبدع أسلوب وصل إليه الأدب. فتجدنا مع قصص القرآن ننتقل من مشهد إلى مشهد، كما لو كنا أمام القضية تعرض علينا صورا. فمن مشهد إرسال موسى ودعوته فرعون، وتهديد فرعون بالقتل، إلى مشهد مجلس خاص بين فرعون وحاشيته يبرز فيه مؤمن آل فرعون حيث يدور الحوار الذي يشغل القسم الأكبر من القصة، إلى مشهد آل فرعون، وقد حاق بهم سوء العذاب في ختام القصة. ومن تأمل سائر قصص القرآن تبين له ما عرضناه هنا، وتذوق إعجاز أسلوب القرآن في القصة، وزاد إحساسه بذلك إذا لاحظ البون الهائل بين القصة في الأدب العربي وآداب العالم في عصر نزول القرآن وما تطور إليه فنها في العصر الحديث.

وأخيرا صدق الله العظيم: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

الفصل الرابع والعشرون علم غريب القرآن وأثره في التفسير وكشف الإعجاز

الفصل الرابع والعشرون علم غريب القرآن وأثره في التفسير وكشف الإعجاز الغريب لغة: هو البعيد عن أقاربه. أو المنفرد. واصطلاحا: ما وقع في القرآن من الألفاظ البعيدة عن الفهم. سمي بذلك لبعده عن ظاهر الفهم، أو لأنه كالمنفرد عن الألفاظ الأخرى القريبة للفهم. وسبب الغرابة قد يكون لقلة استعمال الكلمة، أو لاستعمالها في كناية أو استعارة أو مجاز، أو لقلة علم القارئ والسامع باللغة، وهو كثير جدا، وازداد كثرة باختلاط العرب بالعجم، وبعد العهد عن عصر الصحابة رضي الله عنهم. أثر علم الغريب في التفسير: ومعرفة هذا الفن أمر ضروري للمفسر. وإلا فلا يحل له الإقدام على تفسير كتاب الله تعالى (¬1). لكنا لم نقتصر في هذا الفصل على تفسير المعنى بالغريب، وفهم المفردات، بل وجدنا له فائدة أخرى جليلة، هي أثر هذا العلم في إبراز ثروة القرآن البلاغية، وأسرار إعجازه. ومصدر هذا العلم الأساسيّ هو لغة العرب، لذلك قرروا: «أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة العربية وموضوعاتها، تفسير شيء من كلام الله،- لأن الله تعالى أنزله، قرآنا عربيا- ولا يكفي في حقه تعلّم اليسير منها، فقد يكون اللفظ ¬

_ (¬1) البرهان: 1/ 292، والإتقان: 2/ 5.

ومن خير ما يستعان به في تفسير الغريب أشعار العرب وكلامهم

مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين، والمراد المعنى الآخر .. » (¬1). ومن هنا توقف بعض الصحابة في تفسير بعض الكلمات، مثل توقف عمر بن الخطاب في معنى «الأبّ» من قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا. قال الإمام مالك بن أنس: «لا أوتى برجل يفسّر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا». وقال مجاهد بن جبر الإمام التابعيّ المفسّر: «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب» (¬2). ومن خير ما يستعان به في تفسير الغريب أشعار العرب وكلامهم: قال ابن عباس: «ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول: «تعال أفاتحك» يعني أقاضيك». وقال أيضا: «ما كنت أدري ما «فاطر السّماوات والأرض» حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يعني ابتدأتها» (¬3). ولأشعار العرب أهمية خاصة في هذا الفن، قال أبو بكر بن الأنباري (¬4): «قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرا الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر». ولحبر المفسرين ابن عباس اعتناء كثير بالشعر في تفسير القرآن، نقلت عنه ثروة كبيرة في ذلك في مصادر التفسير، وأجمع ما روي عنه في ذلك مسائل نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة من الخوارج، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب ¬

_ (¬1) البرهان: 1/ 292. (¬2) البرهان: 1/ 292. (¬3) المرجع السابق 293، والإتقان: 2/ 4 و 5. (¬4) كما نقل عنه في الإتقان: 2/ 55.

الوقف والابتداء، والطبراني في المعجم الكبير، وساقها السيوطي بتمامها في كتاب الإتقان (¬1). ومن أمثلة استشهاده بالشعر: تفسيره قول الله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج: 37] قال: العزون: الحلق الرّقاق، واستشهد ببيت عبيد بن الأبرص: فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا وفسّر قوله تعالى: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]: «الشّرعة: الدين، والمنهاج: الطريق». واستشهد بقول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: لقد نطق المأمون بالصدق والهدى ... وبيّن للإسلام دينا ومنهاجا (¬2) ونبه أئمة العلم على أمر ذي خطر، هو أنه: ينبغي العناية بتدبّر الألفاظ كي لا يقع الخطأ، كما وقع لجماعة من الكبار. روى الخطّابي عن أبي العالية أنه سئل عن معنى قوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5]، فقال: هو الذي ينصرف عن صلاته ولا يدري عن شفع أو وتر. قال الحسن: مه يا أبا العالية. ليس هكذا، بل الذين سهوا عن ميقاتها حتى تفوتهم، ألا ترى قوله: «عن صلاتهم»!. فلما لم يتدبّر أبو العالية حرف «في» و «عن» تنبّه له الحسن، إذ لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: «في صلاتهم»، فلما قال: «عن صلاتهم» دل على أن المراد به الذّهاب عن الوقت (¬3). وكذلك قال ابن قتيبة (¬4) في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: 36]: إنه من عشوت أعشو عشوا، إذا نظرت. وهو قول ¬

_ (¬1). 2/ 55 - 88. قال في آخرها: «حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا». قلت: وقد قام بإخراجها كاملة بعض أصدقائنا ووثقها بأصول تحقيق المخطوطات. أثابه الله. (¬2) الإتقان: 2/ 56 - 57. (¬3) البرهان: 1/ 294 - 295. (¬4) لتفسير غريب القرآن: 397 - 398. وانظر معاني القرآن للفراء وللأخفش.

المؤلفات في غريب القرآن

أبي عبيدة معمر بن المثنّى والأخفش. ونقل قول الفرّاء: «يعرض عنه» ثم نقده، فقال: «ولا أرى القول إلا قول أبي عبيدة، ولم أر أحدا يجيز، «عشوت عن الشيء»: أعرضت عنه، إنما يقال: «تعاشيت عن كذا»، أي تغافلت عنه كأني لم أره، ومثله تعاميت، والعرب تقول: «عشوت إلى النار» إذا استدللت إليها ببصر ضعيف» ... إلخ. قال الزركشي: «وغلّطوه في ذلك، وإنما معناه يعرض، وإنما غلط لأنه لم يفرق بين عشوت إلى الشيء وعشوت عنه». لذلك يجب على دارس التفسير ألا يكتفي بظاهر اللغة، حتى ينظر إلى التركيب، ومقصد السياق، حتى لا يقع في الخطأ. المؤلفات في غريب القرآن: ولأهمية هذا العلم كثرت المؤلفات فيه، حتى جاوزت المائة (¬1)، ومعظمها يحمل في عنوانه عبارة «غريب القرآن». وكانت في بادئ الأمر تكتفي بشرح الكلمات الغامضة، ثم أدخلوا عليها شيئا من الإعراب، ونحوه، في كتب حملت اسم: معاني القرآن، ثم توسعوا وشرحوا كل مفردات القرآن تقريبا، لعموم الحاجة واتساعها، وأكثرها مرتب على ترتيب ورودها في السور، وبعضها مرتب على نظام المعاجم، مثل كتاب: المفردات للراغب الأصفهاني. ومن أهم هذه الكتب المطبوعة: 1 - مسائل نافع ابن الأزرق لابن عباس وإجاباته عنها. 2 - معاني القرآن، للفراء، يحيى بن زياد (ت 207). 3 - غريب القرآن، لابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدّينوري (ت 276). 4 - كتاب الغريبين: غريب القرآن وغريب الحديث، للهروي: حمد بن محمد أبو عبيد (ت 401). وهو من أنفعها. ¬

_ (¬1) انظر إحصاءها مفصلا في التعليق على البرهان للزركشي تحقيق الدكتور يوسف المرعشلي وزميليه. ط. دار المعرفة- بيروت (ص 388 - 393). وقد فاته أشياء.

المعرب في القرآن

5 - المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني: الحسين بن محمد (ت 502)، وهو من أحسن ما ألفوا في هذا الباب، وهو يتصيد المعاني من السياق. ومن مراجع هذا العلم الأساسية كتب اللغة، اسما، وفعلا، وحرفا. المعرّب في القرآن: يتصل هذا بغريب القرآن، لأنه لا بد من معرفته لتفسير القرآن الكريم فهو نوع من غريب القرآن. وهو الألفاظ التي وقعت في القرآن من غير لغة العرب. وهذا موضوع خطير كثر فيه الكلام منذ القديم، وتعرض له العلماء كثيرا في كتب علوم القرآن (¬1)، وكتب التفسير (¬2)، وكتب اللغة (¬3)، وغيرها (¬4). وألّفت فيه كتب وبحوث مفردة (¬5). وقد جمعت هذه الألفاظ فبلغت (115) نحو خمس عشرة ومائة كلمة، أحصاها السيوطي وتكلم عليها بإيجاز في كتابه: الإتقان في علوم القرآن (¬6). نذكر منها هذه الأمثلة: أرائك: السّرر بالحبشية. ¬

_ (¬1) انظر فنون الأفنان لابن الجوزي: 341 تحقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر والبرهان: 1/ 287 والإتقان: 2/ 105. (¬2) انظر مقدمة الطبري لتفسيره: 1/ 6 ومقدمة ابن عطية لتفسيره المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز: 57، وتفسير القرطبي: 1/ 68. (¬3) الصاحبي في فقه اللغة لأحمد بن فارس: 28 - 30 ط. السلفية. وفقه اللغة للثعالبي: 197 ط. البابي الحلبي. والمزهر في علوم اللغة العربية للسيوطي: 1/ 268. (¬4) مثل الرسالة للإمام الشافعي: 41 - 42. (¬5) منها المعرّب للجواليقي وهو عام في القرآن وغيره، والمهذب فيما وقع في القرآن من المعرّب للسيوطي. وبحث نقاء القرآن الكريم من العجمية للدكتور حسن ضياء الدين عتر. بحث جامعي محكّم. (¬6). 2/ 108 - 119. لكن في عده لجملة منها في المعرب نظر، مثل طه، يس، ن وغيرها مثل: ابلعي، تتبيرا، الرحمن، شطر، القيوم، منفطر.

استبرق: الديباج الغليظ بلغة العجم. الجبت: الشيطان، بلغة الحبشة، أو الساحر. جهنم: قيل: فارسية وعبرانية، وقيل: أعجمية. سجّيل: بالفارسية، أوّلها حجارة وآخرها طين. سندس: رقيق الديباج بالفارسية. فردوس: بستان، الكرم، بالرومية. قسورة: الأسد، بالحبشية. وقد اختلف في هذه القضية اختلافا كثيرا، فأنكر جمهور العلماء أن يكون في القرآن شيء غير عربي، لأن الله تعالى أنزله بلغة العرب، وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]. واستدلوا بأن الله تعالى جعله معجزة شاهدة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتحدى به العرب العرباء، وأفحم الفصحاء والبلغاء بآياته، فلو اشتمل على غير لغة العرب لاحتجوا عليه، واعترضوا (¬1). واستدل من قال بوقوع المعرّب في القرآن بوجود ألفاظ فيه هي في لغات غير العرب، كالشواهد التي ذكرناها. قالوا: إن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كلّ شيء، فلا بدّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن، ليتمّ إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها، وأخفّها، وأكثرها استعمالا للعرب» (¬2). وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كل أمة، فلا بدّ وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو. وقد ذهب المحققون إلى التوفيق بين الرأيين، وسبق لذلك الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام، وذلك أن هذه الألفاظ أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، ¬

_ (¬1) فنون الأفنان: 342 والبرهان: 1/ 287، والإتقان: 2/ 105 وغيرها مما ذكرنا. (¬2) الإتقان: 2/ 106 - 107.

أثر علم الغريب والمفردات في كشف الإعجاز

فعرّبتها بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فخاطبهم بها، لأنها صارت من لسانهم (¬1). أثر علم الغريب والمفردات في كشف الإعجاز: يحتاج المفسر إلى علم غريب القرآن كركن من عمله في التفسير، وكذلك يحتاج إلى التأمل في سائر مفردات القرآن أي ألفاظه وإن لم تكن غريبة بحسب الظاهر، لما عسى أن يكون قد ارتبط بها من مجاز أو ترجيح معنى على معنى أو غير ذلك، مما سبقت الإشارة إليه. وإذا نظر المفسر البارع في فنون البلاغة المتذوق لجمال الكلام وأساليبه إلى غريب القرآن وسائر كلماته وألفاظه، بمنظار البلاغة وجمال الكلام، وجد فيها جمالا وفصاحة، يصل بمداومة النظر فيهما إلى كشف إعجاز القرآن في كلماته ومفرداته، كما هو معجز في جمله وآياته. وقد وقع لبعض الناس من قدامى ومحدثين خطأ في هذه المسألة، فزعموا أن الألفاظ متساوية كلّها في الفصاحة، لأن العرب قد استعملتها جميعا. وقد خالف جمهور علماء البلاغة والنقد الأدبي هذه النظرة، ووسموها بالسّقم والسطحية، حتى قال العلامة اللغوي الأديب ضياء الدين بن الأثير (¬2): «وقد رأيت جماعة من الجهّال إذا قيل لأحدهم: هذه اللفظة حسنة، وهذه قبيحة أنكر ذلك، وقال: كلّ الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسنا. ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة: «الغصن» ولفظة «العسلوج»، وبين لفظة «المدامة» ولفظة «الإسفنط»، وبين لفظة «السيف» ولفظة «الخنشليل»، وبين لفظة «الأسد» ولفظة «الفدوكس»، فلا ينبغي أن يخاطب ¬

_ (¬1) البرهان: 1/ 290 والإتقان: 2/ 108 وانظر فنون الأفنان: 343 - 344. أورده مختصرا. وفيه قوله: «فهذا القول يصدّق الفريقين جميعا». (¬2) في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب الشاعر ط. مصطفى الحلبي، تطرق لهذه المسألة في مواضع متعددة، وانظر تفصيلا لذلك في كتاب المعجزة الخالدة لأخي الشقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 201 - 203.

1 - حسن اختيار ألفاظه ودقة أدائها

بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه، كما قيل: «اتركوا الجاهل بجهله، ولو ألقى الجعفر في رحله» (¬1). وقد شهد أئمة العربية الأجلاء، أن ألفاظ القرآن هي أفصح كلام العرب، وأعلاها جمالا، وأنسا، وبعدا عن وحشيّ الكلام، وحسبنا في هذا قول الإمام أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهاني، وقد مخر عباب ألفاظ القرآن في كتابه «المفردات في غريب القرآن» فقال في مقدمته (¬2): «فألفاظ القرآن هي لبّ كلام العرب وزبدته» وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم، وحكمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرّعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتّبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة». وقد عني العلماء النّقاد المتذوقون جمال الكلام بدراسة أثر الكلمة في جمال الأسلوب، وأثرها في إعجاز القرآن، في قديم الزمان وحديثه، وأثبتوا إعجاز الكلمة القرآنية في موقعها (¬3). نذكر مهمات من ذلك على سبيل الإيجاز الشديد، فمن ذلك. 1 - حسن اختيار ألفاظه ودقة أدائها: واللغة العربية واسعة الثروة اللفظية، حتى لا يحيط بها إلا نبيّ، فاستحضار أحسن لفظ وأنسبه يحتاج إلى اطلاع على جميع ثروتها، ثم استحضار جميع ما يلائم الموقع من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، ¬

_ (¬1) الجعر: القذر. رحله: بيته. (¬2) ص 6. قوله: «واسطته» أي كواسطة العقد، أنفس شيء فيه. بالإضافة: أي بالنسبة والقياس إليها. (¬3) نذكر من هذه الدراسات: المثل السائر لابن الأثير، وإعجاز القرآن للرافعي، والمعجزة الخالدة للدكتور حسن ضياء الدين عتر، أتى فيه بفصول قيمة، فانظره، وجماليات المفردة القرآنية، وهو أوفى ما كتب، قد جمع بين نظريات القدامى والمحدثين، ألّفه بإشرافنا الدكتور أحمد ياسوف، فجاء كتابا فريدا في بابه.

2 - تآلف الألفاظ مع المعاني

واستحضار ذلك متعذر على البشر في أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أحسن هنا من التعبير ب «تقرأ»، لثقله بالهمزة، ولا رَيْبَ فِيهِ أحسن من لا شك فيه، لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب، ومنها وَلا تَهِنُوا أحسن من: ولا تضعفوا، لخفّته (¬1). 2 - تآلف الألفاظ مع المعاني: وهو من أوجه إعجاز القرآن العامة، عني به الباقلاني والجاحظ (¬2) وغيرهما. وهو كما قال الباقلاني: «علم شريف المحل، عظيم المكان، .. ، وهو أدقّ من السّحر، وأهول من البحر، وأنت تحسب أنّ وضع الصّبح في موضع الفجر، يحسن في كل كلام، إلا أن يكون شعرا أو سجعا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع وتزلّ عن مكان لا تزلّ فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه، وتضرب بجرانها ... ». وهذا الوجه مستوفى في كل القرآن، وفي كل آية منه، لا تحتاج إلى اختيار وانتقاء. هذه سورة الفاتحة مثلا: افتتحت بأفضل وأكمل الثناء الحسن الجميل على الله وأبلغه: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ولم تقل الشكر، ولا المدح، لأن الشكر يختص بجميل الفعال، والمدح يختص بجميل الخصال أي الصفات، فعبرت ب «الحمد» فشملت معنى كل من المدح والشكر. ثم جاءت كلمة «الحمد» معرفة بأل، وهي هنا للاستغراق، فأفادت شمول كل حمد وكل شكر وكل مدح. ثم أسندت الحمد لله تعالى بهذا الاسم «الله»، وهو الاسم الدال على ¬

_ (¬1) الإتقان من أواخر النوع الرابع والستون: 4/ 22. وانظره للاستزادة، وانظر المعجزة الخالدة: 210 - 211. (¬2) إعجاز القرآن للباقلاني: 280 والبيان والتبيين للجاحظ: 1/ 40. وانظر كتابنا القرآن الكريم والدراسات الأدبية: 178 - 179.

3 - التناغم الموسيقى

الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات، فأشارت بذلك إلى كمالاته التي لا تعدّ ولا تحصى، وهكذا إلى آخر السورة (¬1). وهذه سورة البقرة افتتحت بالإشارة إلى إعجاز القرآن وغاية عظمته: الم* ذلِكَ الْكِتابُ، فرمز لإعجاز القرآن بهذه الحروف المقطعة، ثم أشار إلى غاية كماله وإعجازه باسم الإشارة: «ذلك»، مع أن الإشارة في الأصل تكون للماديات المحسوسة، لتفيد غاية وضوح أمر القرآن وتميّزه عن غيره كمال تميّز، وجاءت بلام البعد، لتفيد بعده أن تصل إليه طاقة البشر، وتأتي بمثله. وزادت عظمة القرآن فعبّرت ب «الكتاب» معرفا بأل، فأفادت العبارة الحصر، أي أنه لغاية كماله وعظمته صار كأنه الكتاب الوحيد الذي يستحق أن يسمّى كتابا ... وهكذا إلى آخر السورة، وإلى آخر القرآن. حتى صارت كل كلمة في القرآن فريدة، في مكانها (¬2). 3 - التناغم الموسيقى: وفي ذلك يقول الرافعي (¬3): «لو تدبّرت ألفاظ القرآن في نظمها رأيت حركاتها الصرفية، واللغوية تجري في الوضع والتركيب على غاية التآلف الصوتي، فيهيّئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقى، حتى إنّ الحركة ربما كانت ثقيلة لسبب ما، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الحروف والحركات قد مهّدت لها طريقا في اللسان، فجاءت أعذب شيء، وكانت متمكّنة في موضعها غاية التمكن. من ذلك لفظة: «النّذر» جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها، لتواليها على ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (تفسير سورة الفاتحة): 98 وما بعد و (في تفسير القرآن الكريم وأسلوبه المعجز): 23 - وما بعد. (¬2) انظر كتابنا القرآن الكريم والدراسات الأدبية: 271 وما بعد، ومصادر التفسير البلاغي مثل الكشاف للزمخشري وإرشاد العقل السليم لأبي السعود العمادي وروح المعاني للآلوسي وغيرها. (¬3) بتصرف واختصار من كتابه إعجاز القرآن: 257 - 258.

4 - إفادة التصوير

النون والذال معا، لكنها جاءت في آية: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر: 36] في غاية الفصاحة، وجمال الموقع في حسّ السمع، وذلك بما سبقها من القلقلة في دال «لقد» وطاء «بطشتنا»، والفتحات المتوالية في «فتماروا»، التي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة خفيفا عليه. وتأتي اللفظة متمكنة في موضعها مستقرّة في قرارها إلى أقصى غاية، مع أدائها المعنى المراد غاية الأداء». 4 - إفادة التصوير: وذلك أن الكلمة القرآنية تقدم للقارئ صورة فنية، وتستقل برسم مشهد، أو نقل حركة، أو تشخيص فكرة، بل إنها تقدّم لنا ما يسميه العصريون «التجسيم»، تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات، لتزيد المعنى تمكنا من النفس وتأثيرا فيها (¬1). ومن ذلك مثلا قوله تعالى في اليهود: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] فلننظر «تلك الصورة الساخرة الهازلة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت به هذه الصورة المجسّمة لتؤدّيه، وهو حبّ اليهود الشديد لعبادة العجل» الذي صنع لهم من الذهب. واقرأ كذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11]. تأمل كلمة «حرف» ومعناه الطرف من الشيء، «إنّ الخيال ليكاد يجسّم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس، وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب المحسوس في وقفتهم، وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب». 5 - الإعجاز العلمي: فقد جاءت عبارات القرآن الكريم عن القضايا الكونية بطريقة عجيبة ¬

_ (¬1) انظر كتاب من بلاغة القرآن للدكتور أحمد بدوي: 65، وراجع أمثلته بتوسع. وانظر كتابنا علوم القرآن الكريم: 228 - 230 ففيه أمثلة مفيدة.

تجعلها مفهومة عند العربي القديم، والعامي، لكنها تفيض بمعان يكشفها التأمل تتناسب مع تقدم العلم، وظهور مزيد من الحقائق التي كانت مجهولة، مما حفلت به دراسات إعجاز القرآن العلمي. وللمفردة القرآنية دور كبير في هذا الباب العظيم، يطول استقصاؤه جدا، نكتفي ببعض الأمثلة منه: فمن ذلك: قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً. فقوله: لَواقِحَ فهمه المفسّر القديم مجازا عن تلقيح الرياح الأزهار أو جمع السّحب اجتماع الذكر بالأنثى. لكنّ العلم الحديث قرر أنّ السحاب يحمل شحنة كهربائية، بعضه سالب الشحنة وبعضه موجب، وأن الرياح تلقح السحب السالبة بالموجبة فينزل المطر. وهذا التفسير في غاية الدقة، وهو أليق بتناسب الجملة مع قوله بعدها: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً لا سيما مع هذا العطف بحرف الفاء، التي تفيد الترابط. وهكذا آيات القرآن المتعلقة بالكون، كلها شاهد أنه تنزيل من يعلم «السّرّ في السموات والأرض»، تبارك وتعالى. وغير ذلك كثير من دور غريب القرآن، وكلماته، يزيد المتأملين فيه إيمانا، وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً. ويرحم الله ابن عطية (¬1) إذ قال: «وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد». ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز: 60 - 61.

الفصل الخامس والعشرون فضائل القرآن وآداب حملته

الفصل الخامس والعشرون فضائل القرآن وآداب حملته فضائل القرآن في القرآن فضائل القرآن ووجوه عظمته كثيرة، تعز على الاستقصاء والإحاطة، وقد عرض لها القرآن نفسه في آيات كثيرة جدا، نشير إلى أصول مهمة من مقاصدها فيما يأتي: 1 - إن القرآن آية الله الكبرى، والمعجزة الإلهية الخالدة، الدالة على حقّيّة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تحدّى الله به الإنس والجن، فقال عزّ من قائل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. بل تحداهم بمثل سورة منه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. 2 - أنه كتاب هداية العالم كله إلى الطريق الأقوم، والمرشد لسعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقال عز وجل: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. 3 - إن القرآن علاج آفات الأفراد والمجتمعات قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقال أيضا: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ. 4 - القرآن حجة الله على العباد، لإظهار الحق وإزهاق الباطل، وبه يجاهد الباطل ويقاوم، وذلك لغاية ما اشتمل عليه من الحجج الدامغة والبراهين القاطعة، قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً.

فضائل القرآن في الحديث الشريف

5 - القرآن حاكم على الكتب السابقة ومهيمن عليها. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. فالقرآن مهيمن على ما سبقه يقرّ من أحكامها ما كان صالحا للبقاء، وينسخ ما كان خاصا بتلك الأمة لا يصلح للبقاء، ويبين الحق فيما دخل على الكتب السابقة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، فهو مهيمن عليها. وهو المرجع في مضامينها. وفي الحق أن بحث فضائل القرآن في القرآن يشغل مؤلفا كبيرا، نبهنا هنا على عناوين مهمة جدا، يحتاج شرح كل منها إلى بحث، تذكرة للطالب، وإثارة لرغبة المؤمن الراغب، ليقبل على كتاب ربه بكليته، ويجعله نبراس حياته. فدونك كتاب الله تعالى، أقبل عليه، متأملا آياته، من هذه الزاوية، متعمقا في معانيه وخصائصها، تجد العجب العجاب، الذي تسجد له أولو الألباب. فضائل القرآن في الحديث الشريف إن الأحاديث الدالة على فضل القرآن وعظمته كثيرة جدا، جمعت فيها مؤلفات بهذا الاسم «فضائل القرآن» منها، لابن الضّريس، ولابن أبي شيبة، والنسائي، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وابن كثير، والسيوطي وسماه «خمائل الزّهر في فضائل السور» وغيرهم. ومن الأحاديث ما يدل على فضائل القرآن كله عامة، ومنها ما يدل على فضل سور أو آيات. ونذكر من أمهات مقاصد الأحاديث الواردة في فضل القرآن عامة ما يأتي: 1 - أنه خير الحديث والكلام قاطبة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خير

2 - القرآن يشفع لصاحبه

الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» أخرجه مسلم (¬1). وهو مأخوذ من القرآن الكريم. قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. 2 - القرآن يشفع لصاحبه: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» أخرجه أحمد ومسلم وابن حبان وابن الضّريس (¬2). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، فمن جعله بين يديه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» أخرجه الطبراني وابن الضّريس وصححه ابن حبان من حديث جابر مرفوعا (¬3). أي من عمل به قاده إلى الجنة، ومن لم يعمل به ساقه إلى النار، وصار في حقه ماحلا مصدقا أو خصما مجادلا ضدّه، لأن القرآن هو مقياس العمل الصالح وغير الصالح، ومقياس الفلاح والخسار. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والقرآن حجة لك أو عليك» أخرجه مسلم (¬4). ¬

_ (¬1). 3/ 11. (¬2) المسند: 5/ 249 ومسلم في صلاة المسافرين (فضل قراءة القرآن): 2/ 197، وابن حبان بنحوه: 1/ 322 وابن الضّريس في فضائل القرآن: 59. (¬3) فضائل القرآن لابن الضّريس: 58 و 57 و 63 - 64 من ثلاثة طرق وابن حبان: 1/ 331 - 332 والطبراني في المعجم الكبير رقم 10450 وانظر مجمع الزوائد: 1/ 171 ففيه فوائد. و7/ 164 والترغيب: 2/ 349 وخرجه في الإتقان: 4/ 104 عن أنس مرفوعا من فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلّام. وحديث ابن مسعود له حكم المرفوع وقد أيده حديثا جابر وأنس فثبت أنه قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬4) في فضل الوضوء: 1/ 140 في ضمن حديث طويل.

3 - القرآن يرفع صاحبه مع السفرة البررة

3 - القرآن يرفع صاحبه مع السفرة البررة: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران» متفق عليه (¬1). 4 - القرآن يؤنس صاحبه في الحشر: عن بريدة الأسلميّ رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبره، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن، أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم وراء كل تجارة. قال: فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا. فيقولان: بم كسينا هذه؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنّة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقول، هذّا كان، أو ترتيلا» أخرجه أحمد وابن ماجة وابن الضّريس والحاكم وصححه على شرط مسلم. وقال الهيثمي في رجال أحمد: «رجال الصحيح» (¬2). وله شواهد بطوله عن أبي أمامة الباهلي (¬3) وأبي هريرة (¬4) ومجاهد مرسلا (¬5) وعن شمر بن عطية (¬6) وفيه عند قوله: «حين ينشق قبره»: «فيقول: ¬

_ (¬1) البخاري في التفسير (سورة عبس): 6/ 166 ومسلم في صلاة المسافرين (فضل الماهر بالقرآن): 2/ 195 واللفظ لمسلم. (¬2) المسند: 5/ 348، وابن الضّريس: 60 والمستدرك: 1/ 556 مختصرا ووافقه الذهبي وكذا ابن ماجة: 2/ 1242. وقال في الزوائد: «إسناده صحيح» وانظر مجمع الزوائد: 7/ 159 ومصباح الزجاجة: 2/ 258. (¬3) ابن الضريس: 56 ومجمع الزوائد: 7/ 159 خرجه من الطبراني في الأوسط. (¬4) أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد: 7/ 160، وفيه يحيى الحمّاني: ضعيف. (¬5) ابن الضريس: 57. (¬6) المرجع السابق: 58 - 59.

خطورة الغفلة عن القرآن

أبشر بكرامة الله، أبشر برضوان الله. فيقول: مثلك يبشّر بالخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا القرآن .. ». خطورة الغفلة عن القرآن: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» أخرجه الترمذي وصححه (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّى» متفق عليه (¬2). أي أنه نسّاه عقوبة له على ذنوب، لأن نسيان القرآن من أعظم المصائب، فلا يكون إلا من ذنب عظيم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» أخرجه أبو داود والترمذي (¬3). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن البيت إذا قرئ فيه القرآن حضرته الملائكة، وتنكّبت عنه الشياطين. واتّسع على أهله، وكثر خيره وقلّ شرّه. وإنّ البيت إذا لم يقرأ فيه القرآن حضرته الشياطين، وتنكبت عنه الملائكة، وضاق على أهله، وقلّ خيره وكثر شرّه» أخرجه الإمام محمد بن نصر المروزي. وفي معنى الحديث أحاديث كثيرة (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري: 6/ 194 و 193 ومسلم: 2/ 191. (¬2) في فضائل القرآن (باب 18): 5/ 177 وقال: «هذا حديث حسن صحيح». (¬3) أبو داود في الصلاة (كنس المسجد): 1/ 126 والترمذي في ثواب القرآن: 5/ 178 - 179 وقال: «حديث غريب». قلت: لكن يشهد له أحاديث مرفوعة وموقوفة تقويه، كما نبه الحافظ ابن حجر في الفتح: 9/ 70 فكن على حذر. (¬4) انظر نحو العشرة منها في كتاب تلاوة القرآن المجيد: 40 - 41 و 53 - 54.

آداب حملة القرآن وتلاوته

آداب حملة القرآن وتلاوته ليذكر قارئ القرآن فضائل القرآن وجلالة شأنه، وأنه حجة له أو عليه، فليعتبر بذلك كلّه، وليستحضر أيضا تكريم الله إياه أن جعله يقرأ هذا القرآن ويناجي به ربّه، فإذا وفّق لذلك انكفّت نفسه عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح الكامل، ونبعت آداب التلاوة وصدرت من النفس متأثرة بهذه المشاعر، وزادت بالتالي توفيق القارئ فقطف ثمار قراءته، وتنوّر بأنوار تلاوته. ومراعات لحسن تقسيم الدراسة نقسمها ستة أقسام: 1 - آداب معلم القرآن وحامله. 2 - آداب متعلم القرآن. 3 - آداب التأهب لقراءة القرآن 4 - آداب تلاوة القرآن. 5 - آداب الاستماع للقرآن. 6 - آداب ختم القرآن. آداب معلم القرآن وحامله: وهي آداب كل معلم علما شرعيا، أو عالم بعلم من هذه العلوم الشريفة، لأن علوم الشرع مشتملة على العلم بالقرآن كليا أو جزئيا، وهي مستمدة منه وخادمة له. 1 - أول هذه الآداب (الإخلاص) واجب أساسي وهو روح كل عمل- لا سيما هذه العلوم، التي هي أفضل ما عبد الله به بعد أركان الإسلام- وذلك هو الإخلاص، قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنّيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه، وهذا الحديث من أصول الإسلام، بل هو نصف الإسلام.

2 - أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل

ويساعد على ذلك سؤال الله تعالى الإخلاص، ودعاء التوجه في افتتاح الصلاة بحضور قلب وضراعة، والتعوذ من دخول الدنيا في قصده بأي صورة، أو شكل. 2 - أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى الله عنه، إجلالا للقرآن، وأن يكون مترفعا على الجبابرة والمستكبرين من أهل الدنيا، اعتزازا بما آتاه الله تعالى من كنز القرآن أو علم الشرع، فإنه أنفس شيء عند العقلاء، لا تقوم به الدنيا، قال تعالى ممتنّا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ* لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. فجعل سبحانه إيتاء القرآن موجبا للترفع على الدنيا وأهلها، وللتواضع للمؤمنين المتقين. 3 - ليحذر عالم القرآن أو أي علم شرعي أن يتخذ القرآن أو العلم أداة لكسب المال ، يقصد به الدنيا. لما سبق من وجوب الإخلاص، والبعد عن الرياء، ولما ورد في الكتاب والسنة من التهديد والوعيد على كتمان العلم. ومنه تعليم القرآن فإنه واجب على الكفاية، كما أن تعلمه واجب على كل مسلم. وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن- لمن خصلت نيته عن قصد الدنيا وأكل المال بالقرآن أو العلم فهذا الأخذ للأجرة بهذا الشرط قد اختلف العلماء فيه، وكثير من السلف كانوا على المنع ومنهم الحنفية والمالكية. ثم اتفق المتأخرون على جواز أخذ الأجرة على ما ذكرنا، لما رأوا ضرورة انتظام تعليم القرآن، ونشر العلم توجب ذلك (¬1). ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عباس في اللديغ، لما رقاه بعض الصحابة وجعلوا له جعلا، أي عطية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» أخرجه البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) انظر التفصيل في التبيان: 48، 58، 60، والبرهان: 1: 457 - 458 وغيرهما. (¬2) في الطب (الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب): 7/ 131.

4 - أن يبذل المعلم النصيحة لطلبته

وإن بذل التعليم بلا مقابل طلبا للثواب مرتبة عليا، هي عمل الأنبياء والمرسلين. 4 - أن يبذل المعلم النصيحة لطلبته: فإن «الدين النصيحة» كما ثبت الحديث الشريف وصح (¬1)، ومن النصيحة لله ولكتابه ولرسوله إكرام قارئ القرآن، وطالب العلم وإرشاده إلى مصلحته، وأن يحرضه على الطلب، ويذكر له فضيلة ذلك، ليكون سببا في نشاطه. 5 - اتخاذ حال المهابة والوقار: ليكن معلم القرآن أو أي علم وقورا، أي ساكنا، لا يكثر من الحركات بغير حاجة. ولذلك ينبغي أن يصون يديه عن العبث، وعينيه عن تفريق نظرهما من غير حاجة، ويقبل على كل طلابه، ويقعد على طهارة مستقبل القبلة، ويستعين بالإشارة بيده لتفهيم المعنى من غير إكثار أو زيادة، وتكون ثيابه وسائر هندامه نظيفة، وشعر لحيته ورأسه مرجّلا مرتّبا. وينبغي ألّا يذلّ العلم، فلا يذهب إلى مكان من يتعلم منه ليعلمه فيه، بل يصون العلم عن ذلك. كما صانه السلف، وحكاياتهم في ذلك كثيرة مشهورة، وقد تهاون بعض أهل العلم في زمننا بهذا، وقصدوا أهل الدنيا لطباعة كتبهم على نفقتهم، بزعم توزيعها، وجرّ ذلك إلى إشكالات، وسوء سمعة، يجب أن يصان العلم والعالم عنها (¬2). آداب متعلم القرآن: وتشترك مع المعلم في أمور متعددة، وينفرد الطالب بآداب نذكر منها: 1 - التواضع مع المعلم والتأدب مع الرفقة: لينظر المتعلم إلى معلمه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته، فإنه أقرب لانتفاعه به، وعلى الأهل والأصدقاء تقرير ذلك، ودفع سوى ذلك مما قد يجرؤ عليه بعض الطلبة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الإيمان: 1/ 531 والبخاري معلقا في الإيمان: 1/ 17. (¬2) اقتبسنا هذه الآداب بتصرف واختصار عن التّبيان ض: 39 - 50، 57 - 60.

2 - مذاكرة الحفظ والعلم

ومن جوامع ذلك قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من حقّ العالم عليك أن تسلّم على الناس عامة وتخصّه دونهم بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرنّ عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تقولن: فلان قال ... خلافا لقوله، ولا تغتابنّ عنده أحدا، ولا تسارر في مجلسه .. » (¬1). وهذه مأخوذة من آداب الصحابة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - مذاكرة الحفظ والعلم: يجب على طالب القرآن مذاكرة حفظه، بنظام مستمر، امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم «تعاهدوا القرآن ... » وتحاشيا لنسيانه الذي هو من الكبائر كما تقدم (¬2). ودرج الحفاظ على قراءة خمسة أجزاء يوميا، وقالوا: «من قرأ الخمس لم ينس»، كذلك يجب على طالب العلم مذاكرة علمه، ولا يكتفي بنجاحه في الامتحان. فذلك غلط عظيم يقع فيه أكثر الطلبة، فلا تمر عليهم فترة إلا وقد عادوا جاهلين كأنهم لم يتعلموا. آداب التأهب لتلاوة القرآن: إن قراءة القرآن من أجلّ أمر يشتغل به الإنسان، وهي لمن قصد بها التقرّب إلى الله تعالى والتفكر بآيات الله من أعظم الطاعات، لذلك شرع لها التأهب والاستعداد بما يعدّ النفس لحسن الانتفاع بالقراءة أو التأهل لها، وبعضها شرط وهو أولها، ونبينها فيما يأتي: 1 - الطهارة: الطهارة من الجنابة ومن الحيض والنفاس شرط لجواز قراءة القرآن، سواء كانت عن ظهر قلب أو من المصحف بمسه أو من غير مسه، باتفاق الأئمة الأربعة. وعليه فالجنب والحائض والنفساء، يحرم عليهم قراءة القرآن، ويجوز لهم إجراء القرآن على قلوبهم، كما يجوز لهم النظر في المصحف من غير مسّ ¬

_ (¬1) التبيان: 51. (¬2) الصفحة السابقة وانظر هذه الآداب في التبيان ص: 50 - 54.

2 - استحسان المكان والزمان

ولا تلفظ، بل بإمراره على القلب. وأجمع المسلمون على جواز سائر الأذكار سوى القرآن لهم، كالتوحيد والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وأما مسّ المصحف فالطهارة الكاملة واجبة له باتفاق الجمهور والأئمة الأربعة ولو لم يقصد القراءة، وأجاز الحنفية مسّه بحائل غير متصل به، وأجاز المالكية قراء القرآن ومسّ المصحف للحائض والنفساء للتعليم أو التعلم أو الحفظ تيسيرا عليهم. ويستحب لمن قرأ من غير مسّ المصحف أن يكون على طهارة كاملة، فإن قرأ محدثا حدثا أصغر من غير لمس المصحف جاز بإجماع المسلمين بلا كراهة. 2 - استحسان المكان والزمان: أما المكان: فتسنّ القراءة في مكان نظيف، وأفضله المسجد، لا سيما إذا نوى الاعتكاف فيه مدة مكثه، وتصح القراءة في أي مكان كان، لكن تكره في الأماكن المستخبثة، مثل الحمام وغيرها. وأما الزمان: فكلّ الأوقات تباح القراءة فيها، ولا تكره في شيء منها. وثمة أوقات لها أولوية، أفضلها ما كان في الصلاة، ثم الليل، ثم نصفه الأخير، وهي ما بين المغرب والعشاء محبوبة، كذا بعد الصبح (¬1)، لكن لا تترك القراءة في نشاطك لأجل وقت أولى، فربما لا تنشط. 3 - السواك: يسنّ الاستياك لقراءة القرآن، تعظيما له، وتطهيرا، وقد ثبت الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» (¬2). فحسّن السواك لأجل هذه القربة الجليلة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 128 والمجموع: 2: 182 - 183. (¬2) أخرجه النسائي: 1/ 10، وابن خزيمة رقم 135 وابن حبان: 3/ 348 ورواه البخاري معلقا بصيغة الجزم: 3/ 31.

الاستعاذة والبسملة

الاستعاذة والبسملة: أما الاستعاذة: فهي التحصّن والاحتماء بالله تعالى، لحماية العمل وهو هنا القراءة أن تشوبها شائبة نقص، أو ما يبعدها عن القبول عند الله، ولحماية الإنسان نفسه من كل مكروه. احتاج القارئ إليها، لأن قراءة القرآن من أعظم الطاعات، ووسائل التقرب إلى الله تعالى، والترقي في منازل القرب (¬1). وأما البسملة: فهي شعار يعني الاستمداد من الله تعالى للإعانة على فعل الأمر الذي ذكرت عليه، وأن ذاكرها يتقرب به إلى الله، أي بك يا الله أقرأ، وإليك بالقراءة أتقرب، لذلك جعلها الله عنوانا لكتابه، وافتتاحا لقراءة القرآن، وابتداء لكل عمل مهم (¬2). أما النية: فليست شرطا للقراءة، أو للإثابة عليها، لأن قراءة القرآن شرعت عبادة بنفسها، فمجرد القراءة عبادة يثاب القارئ عليها الحرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. آداب تلاوة القرآن: تقوم آداب تلاوة القرآن على أساسين هما أصل لغيرهما، وهما: التدبر والترتيل: 1 - التدبر والخشوع: هذا يسنّ متأكدا على القارئ، فإن التّدبّر وهو التفهم وكذا الخشوع هما المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، وبذلك تنشرح الصدور وتستنير القلوب، والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: 29]. والتدبر والخشوع دواء القلب من أمراضه والنفس من عللها، قال السيد الجليل إبراهيم الخوّاص رضي الله عنه: «دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن ¬

_ (¬1) انظر تفسير الاستعاذة وأحكامها ومواضعها في كتابنا «في تفسير القرآن الكريم واسلوبه المعجز» 7 - 9. وانظر دراستها مفصّلة جدا في كتابنا تفسير سورة الفاتحة: 11 - 40. (¬2) انظر تفسير البسملة في تفسير القرآن وأسلوبه المعجز: 11 - 15 وتفسير الفاتحة 43 - 75.

ويستحب: للتدبر والتخشع

بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السّحر، ومجالسة الصالحين» (¬1). وقد قسم بعض العلماء الناس في تلاوة التدبر على ثلاثة مقامات: الأول: من يشهد أوصاف المتكلّم سبحانه في كلامه، ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: «إن الله تجلى لخلقه بكلامه، ولكن لا يبصرون». الثاني: من يشهد بقلبه كأنّ الله تعالى يخاطبه ويناجيه بألطافه، ويتحبب إليه بإنعامه، فمقام هذا الحياء من الله وتعظيم الله تعالى. الثالث: من يرى أنه يناجي ربّه سبحانه، فهذا مقامه السؤال والتمسكن لله تعالى» وحاله الطلب، وهو وصف عامة المتقين (¬2). وكل مقام من هذه سبيل لفهم عال من كتاب الله تعالى، يتذوقه القارئ، فالحظ هذا، واستفد منه. ويستحب: للتدبر والتخشع: ترديد الآية أي تكرارها وإعادتها مع التأمل وزيادة التفهم لها، وقد ثبت حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: «قام النبيّ صلى الله عليه وسلم بآية يردّدها حتى أصبح». والآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أخرجه النسائي وابن ماجة (¬3). وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر هذه الآية حتى أصبح: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (¬4). وعن عبّاد بن حمزة قال: دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو. فطال ¬

_ (¬1) التبيان: 79. (¬2) باختصار عن البرهان: 1: 452 - 453. وارجع إليه للتوسع فإن مهم. (¬3) النسائي في الافتتاح (ترديد الآية): 2: 177 وابن ماجة في إقامة الصلاة (القرآن في صلاة الليل): 1: 429. والآية من سورة المائدة رقم 78. (¬4) التبيان: 80، والآية من سورة الجاثية تمامها: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ.

قراءة النظر وقراءة الحفظ

عليّ ذلك، فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو» (¬1). والآثار في ذلك عن السلف كثيرة، تكفي الإشارة إليها للذكرى والعبرة. قراءة النظر وقراءة الحفظ: القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، قال النووي: لم أر فيه خلافا. لكن اختار الإمام عز الدين بن عبد السلام، أن القراءة عن ظهر قلب أفضل، لأن المقصود التدبر، والنظر في المصحف يخل بهذا المقصود. ولما أن التدبر هو المقصود، فينظر القارئ الحال الذي يلائمه فيأخذ به، وقد يكون تغيير إلى من قراءة نظر إلى قراءة حفظ أوفق له، ولو بعض جمل إن كان غير حافظ، فيفعل ذلك. وهذا هو اختيار النووي: إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبّر والتفكر وجمع القلب أكثر فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن كانا متساويين فمن المصحف أفضل: قال: «وهو مراد السلف» (¬2). 2 - ترتيل التلاوة: وهذا مطلب جليل: أمر الله تعالى به، قال تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. والترتيل: التنضيد وحسن تناسق الشيء وانتظامه، تقول العرب: ثغر رتل ورتل إذا كان حسن التنضيد (¬3). وقد أمر الله تعالى به وَرَتِّلِ وأكده بقوله: تَرْتِيلًا وهو مفعول مطلق مؤكّد، فدل على الوجوب، قال الفخر الرازي: «قوله تعالى: تَرْتِيلًا تأكيد ¬

_ (¬1) المرجع السابق: والآية من سورة الطور: 27. (¬2) الأذكار: 182 وانظر التبيان: 90، والمجموع: 2: 180، والبرهان: 1: 461 - 463، وفيه توسع والإتقان: 1: 304 - 305. (¬3) لسان العرب مادة (رتل): 13: 281، وتفسير القرطبي: 19: 36 ومدارك التنزيل للنسفي: 4: 303، وهذا هو مراد من فسر الآية: بين وفصل أي بين الحروف وفصلها عن بعضها.

وحده الأدنى: تبيين الحروف

في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارئ» (¬1). واختار غير الرازي أن الأمر للندب، ويؤيده أن الخطاب وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لكن يجب الترتيل بمعنى أدائه بمخارجه لقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وغير ذلك من الآيات. وقواعد التجويد هي كلام العرب، فللترتيل حدّ أدنى واجب، وحدّ كمال مستحب. وحده الأدنى: تبيين الحروف ، وألا يقع فيها تداخل، ولا إخلال بمخارج الحروف أو بواجب التلاوة من إظهار وإدغام ومدّ وغير ذلك، وهذا واجب. وتمرين المسلم لسانه على ذلك واجب، وله فيه أجران، كما ثبت الحديث الصحيح، وأقل ما في التقصير في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم. وكمال الترتيل: أن يعطي الأداء حقه التام ، فيمد المدود بكمالها، ويتأنى في القراءة، ويسكت بين النفس والنّفَس، ويراعي الوقوف وهكذا. وأكمل الترتيل: أن يتوقف على الحروف والمدود ما لم يخرج إلى التمطيط، ويقرأ القرآن على منازله: فإن كان يقرءا تهديدا لفظ به لفظ المتهدّد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ على التعظيم، وهكذا (¬2). قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب: (¬3) «واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع ويسمى الهذّ. قالوا: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزءين في قدر ذلك الزمن بلا ترتيل، قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبر، ولأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرا في القلب، ولهذا يستحب الترتيل للأعجمي الذي لا يفهم معناه. رفع الصوت بالقراءة: أما القراءة في الصلاة: فقد أجمع المسلمون على مشروعية الجهر بالقراءة ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب: 30: 173. (¬2) بتصرف عن البرهان: 1: 449، 450، وفي كلامه تداخل بين المراتب. (¬3): 2: 179 وانظر الإتقان: 1: 299، وقارن بالتبيان: 82 - 84.

وأما القراءة في غير الصلاة

في صلاة الصبح والجمعة والعيدين والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، وهو مستحب عندهم فيها للمنفرد، وكذا للإمام عند الجمهور ومنهم الشافعية، وقال الحنفية جهر الإمام بالقراءة فيها واجب، وأما المقتدي: فلا يجهر بالإجماع، بل يسرّ. ويسرّ الإمام والمنفرد في بقية الصلوات الخمس ونوافل النهار والليل، وقيل: ويجهر في نافلة الليل. ومعنى الإسرار في القراءات والتكبيرات والأذكار وغير ذلك هو أن يقوله بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السّمع، فإن لم يسمع نفسه لم تصح قراءته ولا غيرها من الأذكار، بلا خلاف (¬1). وأما القراءة في غير الصلاة: فالجهر فيها مستحب، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن، يجهر به» متفق عليه (¬2). قال الإمام النووي: (¬3) «وفي إثبات الجهر أحاديث كثيرة. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فأكثر من أن تحصر، وأشهر من ان تذكر». لكن خالف بعض السلف وفضّلوا الإخفاء على الجهر، ويدل لهم حديث عقبة، به عامر، رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن، كالمسرّ بالصدقة» أخرجه الثلاثة وحسّنه الترمذي (¬4). ¬

_ (¬1) التبيان: 111 - 112. (¬2) البخاري في التوحيد (الماهر بالقرآن): 9: 157، ومسلم (استحباب تحسين الصوت بالقرآن): 2: 192. (¬3) التبيان: 96. (¬4) أبو داود في الصلاة (رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل): 2: 38، والترمذي في ثواب القرآن: 5: 180، وقال: «حسن غريب» والنسائي: 5: 80.

تحسين الصوت بالقرآن

فدل على تفضيل الإخفات بالقراءة، لأنه شبهها بصدقة السّرّ، والسّرّ بها أفضل من الإعلان. لكن يجاب عن هذا بأنه لا إشكال، ولا خلاف في الحقيقة، لأن المراد تفضيل قراءة السرّ لمن خاف على نفسه العجب أو الرياء، أو نحو ذلك، وتفضيل قراءة الجهر لمن أمن ذلك. تحسين الصوت بالقرآن: وهذه سنة، أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على سنية تحسين الصوت بالقرآن (¬1)، وأدلة ذلك من الأحاديث السابقة ظاهرة، وغيرها كثير، منها: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» أخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه البخاري (¬2). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وأخرجه البخاري عن أبي هريرة (¬3). والمعنى تحسين الصوت عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حسنا وزينة بالصوت الحسن، وبالتالي يزداد نفعه للقلوب لدى القارئ والسامع (¬4): كما هو معلوم مشاهد. تلحين قراءة القرآن: ذهب جمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى استحباب تلحين القرآن، وهو ¬

_ (¬1) التبيان: 98، والإتقان: 1: 302، انظر المجموع: 179، 181. (¬2) أبو داود (استحباب الترتيل): 2: 74، والنسائي: (تزيين القرآن بالصوت): 2: 179 - 180 وابن ماجة (حسن الصوت بالقرآن): 1: 426 وعلقه البخاري بصيغة الجزم في التوحيد: 9: 157، وهو حكم بصحته. (¬3) المسند: 1: 172، 175، 179، وأبو داود في الموضع السابق وابن ماجة: 1/ 424، والبخاري في التوحيد: (باب قول الله وأسروا قولكم ... ) 9: 153. (¬4) وليس معناها أن القرآن بحاجة إلى تزيين كما رأى بعض العلماء. انظر حاشية السندي على سنن النسائي: 2: 179.

مذهب الحنفية والشافعية، وذهب جماعة من السلف إلى منعه، وهو مذهب المالكية والحنبلية (¬1). واستدل الجمهور بما سبق من الأحاديث في رفع الصوت وفي تحسينه، وهي صريحة في المراد، مثل قوله: «ما أذن الله لنبي يتغنّى بالقرآن»، و «زينوا القرآن بأصواتكم» و «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». وغير ذلك. واستدل المانعون بأدلة من القرآن والسنة والعقل والقياس. أما القرآن فقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ والتلحين باطل، لأنه يؤدي إلى تغيير الكلام. واستدلوا من السنة بأحاديث فيها ضعف، ومنها ضعفه شديد جدا. واستدلوا من القياس بأن التلحين يخرج الكلام عن أصله، ويزيد فيه المد ولو غير ممدود، ويجعل الحرف الواحد حروفا والمد مدودا، والألف ألفات، أو يقصر ما هو ممدود، وغير ذلك مما يحتاجه التطريب، وكل ذلك لا يجوز (¬2). وأجابوا عن أدلة الجمهور بأن المراد بتغني النبي صلى الله عليه وسلم تحسين صوته ورفعه، لا التلحين، وأن معنى «يتغنى بالقرآن»: يستغن. وقالوا: حديث زينوا القرآن بأصواتهم، هذا على القلب، والمراد زينوا أصواتكم بالقرآن، لأن القرآن منبع الخبر والفضائل، فكيف نزينه. وغير ذلك من أجوبة وتأويلات كثيرة، اخترنا أمثلها، لا نطيل بإيرادها (¬3). ونرى أنه لا خلاف في الحقيقة فقد أراد المجوزون التلحين الذي لا يخرج ¬

_ (¬1) كذلك عزا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 1: 10 - 11 وتفسير آيات الأحكام بإشراف فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علي السائس: 4: 192 - 193. وكأنه اختصر بحث القرطبي قارنه بتفسير آيات الأحكام: 4: 192 - 196. (¬2) الجامع لأحكام القرآن: 1/ 16. (¬3) انظرها مفصلة في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي مع جمع أدلة الكل: 1/ 12 - 16.

قراءة الجماعة مجتمعين أو بالدور

عن قواعد أداء القرآن وتجويده، وأراد المانعون، ما يخرج عن ذلك، وهو ولا شك ممنوع بل حرام يفسق به القارئ ويأثم المستمع، لأنه عدل عن نهجه القويم (¬1). يؤيد ذلك كلام المانعين نفسه وأدلتهم، لمن تأملها، ولذلك ورد القولان عن بعض الأئمة، كالإمام الشافعي، وقال أصحابه: ليس هذا اختلاف رأي، بل المراد واحد، على نحو ما ذكرنا (¬2). قراءة الجماعة مجتمعين أو بالدور: قال الإمام النووي: (¬3) «اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة، وأفعال السلف والخلف المتظاهرة». وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنه قال: «ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده». قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم (¬5). ولمن يجمع الناس على قراءة القرآن أو دراسته أو مجلس ذكر أو علم له فضيلة، جاء فيها نصوص كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» أخرجه مسلم (¬6). ¬

_ (¬1) الإتقان: 1/ 303. وانظر المجموع: 2/ 181. (¬2) الإتقان الموضع السابق. (¬3) التبيان: 90. وانظر المجموع: 2/ 180. (¬4) في الدعوات: (القوم يجلسون فيذكرون .. ): 5/ 459 - 460 والمسند: 2/ 447، 3/ 33. (¬5) في الذكر والدعاء (فضل الاجتماع على القرآن): 8: 71. (¬6) في الإمارة (فضل إعانة الغازي .. ) 6: 41.

حكم القراءة للغير

وقال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى. قال النووي: «ولا شك في عظم أجر الساعي في ذلك» (¬1). وأما القراءة بالدور: وعبروا عنها بقولهم «الإدارة بالقرآن» - وهو أن يجتمع جماعة يقرأ بعضهم عشرا، أو أكثر أو أقل، ثم يسكت ويقرأ الآخر من حيث انتهى الذي قبله، فهذا جائز حسن أيضا ولا إشكال فيه. وثوابه عظيم (¬2). حكم القراءة للغير: ذهب أكثر العلماء إلى مشروعية قراءة الإنسان القرآن لغيره من حي أو ميت، وأنه يصل ثوابها إليه، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى خلاف ذلك، لقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (¬3). استدل الجمهور بظواهر أدلة كثيرة، منها من القرآن: قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ. وقال أيضا: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. واستدلوا بصحة الصدقة والحج عن الغير، وكذا هذا. وأجابوا عن الآية بأن وصول الثواب للغير هو من سعيه، وهو إيمانه، أو أن المعنى أن لا يجب للإنسان إلا ما سعى. ويرجح ذلك أنه لا خلاف في مشروعية دعاء المؤمن لأخيه المؤمن، والتصدق عنه، وهذا دعاء بوصول الثواب، وقبوله بفضل الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) التبيان: 92، ومن أنكر هذا الاجتماع وأمثاله فهو مخالف للسنة، ولما عليه السلف والخلف، وهو قول متروك، كما قال النووي. (¬2) التبيان: 93، والإتقان: 1/ 303. (¬3) الإتقان: 1/ 314. (¬4) كما قال الآلوسي في روح المعاني: 8: 265، وفيه توسع، وانظر المدخل: 467.

آداب استماع القرآن

آداب استماع القرآن: 1 - الاستماع والإنصات: وما يطلب من الأدب في حضرة القرآن الكريم كما صرحت الآية: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فيستحب له التدبر، والتخشع، والبكاء الذي أثنى الله تعالى على أهله، والكف عما يشغل الذهن ليكون محل تنزل الرحمة المرجوة من فضل الله تعالى. 2 - استحباب طلب القراءة الطيبة: ولعظمة فضل الاستماع لقراءة القرآن، وقد جعلها الله تعالى سببا لرحمته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال الحنفية: إن استماع القرآن أفضل من قراءة الإنسان القرآن بنفسه، لأن الاستماع واجب، وقراءة القرآن خارج الصلاة ليست واجبا. واتفقوا على أنه يستحب أن يطلب المسلم القراءة ممن يحسن قراءة القرآن مع حسن الصوت. وقد كان جماعات من السلف رضوان الله عليهم يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون، وهذا متفق على استحبابه وهو من عادة الأخيار المتعبدين، وعباد الله الصالحين». وهو سنة ثابتة عن أفضل النبيين صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ» قلت: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «نعم». (وفي لفظ آخر عندهما: «إني أحبّ أن أسمعه من غيري .. »). فقرأت سورة النّساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قال: حسبك الآن. فالتفتّ إليه، فإذا عيناه تذرفان» صلى الله عليه وسلم. وقد وقع استماع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من أصحابه كثيرا، فاحرص عليه. آداب ختم القرآن: 1 - يسنّ ختم القرآن كل أسبوع ، كما كان عليه أهل النشاط من الصحابة والتابعين، ولا يزيد على شهر. قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في

2 - التكبير

شهر» قال: إني أجد قوة، حتى قال: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» متفق عليه. ويكره أن يختم في أقلّ من ثلاث، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي. 2 - التكبير: ولفظه اللَّهِ أَكْبَرُ ونقل عن جماعة «لا إله إلا الله والله أكبر» وزاد بعضهم «ولله الحمد». ومحلّه من آخر سورة الضحى إلى آخر الناس أو أولهما. ولا يوصل التكبير بآخر السورة، بل يفصل بينهما بسكتة. 3 - يستحسن الصيام: يوم الختم، ثبت فعل ذلك عن جماعة من التابعين. 4 - الشروع في ختمة أخرى: «استحبه السلف والخلف» كما نصّ النووي، وفيه حديث ابن عباس عن أبيّ بن كعب بذلك، أخرجه الدارمي بسند حسن كما ذكر السيوطي في الاتقان. 5 - حضور مجلس الختم: وهو مستحب استحبابا متأكّدا، كان يحرص عليه الصحابة والتابعون. قال مجاهد بن جبر: «كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، يقولون: تنزل الرحمة». 6 - الدعاء عقب الختم: يستحب الدعاء عقيب ختم القرآن استحبابا متأكدا، لحديث «من قرأ القرآن فليسأل الله به ... » أخرجه ابن حبان وحسّنه السيوطي (¬1). مع أحاديث كثيرة تبلغ العشرة (¬2)، ما بين مرفوع صريحا ومرفوع حكما. ¬

_ (¬1) الجامع الصغير وشرحه فيض القدير: 6: 204. (¬2) انظرها في التبيان: 131 - 133، وتلاوة القرآن المجيد: 118 - 120. وأوصي القارئ الكريم لزاما أن يرجع بتوسع إلى كتب تلاوة القرآن المجيد، فإن فيه روحا خاصا، كما هو حال كتاب فضيلة شيخنا أمتع الله المسلمين به.

الفصل الختامي حقوق القرآن على بني الإنسان

الفصل الختامي حقوق القرآن على بني الإنسان هكذا توصلنا بهذه الدراسة المحقّقة إلى علم اليقين بهذا القرآن وعظمته، فقد تيقنّا ألوهية مصدره وأنه تنزيل من حكيم حميد، على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وقد حفظ في صدور الأمة من أيامها الأولى ودوّن في السطور، ورتّب على وفق نسخته في الملأ الأعلى في اللوح المحفوظ، بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم. واتضح لنا أيضا منهج تفسيره، وأنه قائم على أصول متينة هي أصول فهم كلام العرب لا يتخطاها، يؤيد هذا المنهج دراسات من أسباب النزول والمكي والمدني والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ... ثم وقفنا بالتالي خاشعين أمام إعجازه، وآمنا بجلال هذا الإعجاز، وشموله الأسلوب والمضمون، المبنى والمعنى، وأنه يتلاءم مع تجدد الأدب وتقدم العلم، في كل زمان ومكان، وزاد تلك النتائج ثبوتا ويقينا دلائل إعجاز القرآن في التصوير الفني، والكون، والقصة، ليتناول إعجاز القرآن الحاضر، وما قبله من الماضي، وما بعده من المستقبل، كما قال عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. إن هذه الحقائق لتقرر حق القرآن الواجب على بني الإنسان عامة وعلى المسلم خاصة، أن يقوموا به حق القيام بدأب واستمرار:

إن أول حق القرآن على العالم وعلى المسلم أن يؤمن بأنه كلام الله حقا، أنزله على قلب رسوله الصادق الأمين، معجزة بينة وبرهانا قاطعا، يثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى العالم كله على مدى الزمان، وأنه خاتم النبيين، لقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً. وقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. وقوله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ. وإنّ من حق القرآن أن نعظمه غاية التعظيم، إعظاما لقائله عز وجل، وإعظاما لما أتى به من بيانات الحق وفنون الإعجاز، وعرفانا لفضله على العالم، فلولا القرآن لما خرجت العرب من جاهليتها إلى نور العلم وإلى السيادة، ولما خرجت الإنسانية من دياجير الظلام إلى نور الحضارة والعرفان. وإن من حق القرآن على كل إنسان عامة وعلى المسلم خاصة أن يتلوه حقّ تلاوته، ومن حق تلاوته قراءته حسب أصولها وإقامة حروفه، والخشوع لدى قراءته أو استماعه، وأن يستظهروه في حافظتهم، وسويداء قلوبهم. وإن من حق القرآن على كل إنسان وعلى كل مسلم أن يتدارسوا القرآن حق درسه، ويتفهموه على أصول فهمه، ويدفعوا تأويل المحرّفين، ويرفضوا زيغ المغرضين في فهم معانيه، أو حقيّته ودعوته وتشريعه. وإن من حق القرآن على كل مسلم وعلى كل إنسان أن يعنوا العناية كلّها بذوق الجمال في بلاغته وإعجاز بيانه، ويعتبروا بأمثاله وقصصه ومواعظه، ويغوصوا بفكرهم على درره، فإنه لا تفنى عجائبه. وإن من حق القرآن على كل مسلم وعلى كل إنسان أن يتفهم علوم القرآن، ويقف مع أحكامه، فيصوغ منها حياته، ويترجمها سلوكا يعيشه، وخلقا وإنسانية يسمو بهما على كل مثل العالم. وإن من حق القرآن على كل مسلم أن يبلغ دعوة الإيمان بالقرآن إلى

العالم امتثالا للواجب، وعملا بالفريضة: فريضة الدعوة إلى الله التي جاء بها كتاب الله، والتي حمّلها القرآن للمسلمين عامة وللعرب خاصة، وجعل بها عزّهم وشرفهم، واحترامهم في العالم: قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. وقال صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري وغيره-: «بلغوا عني ولو آية». وفي هذا حث للمسلم أن يبذل ما يستطيع، ولو بخدمة آية من كتاب الله، فبالاستمرار يعظم الخير وتنتشر الهداية. اللهم وفقنا لتلاوة كتابك حق تلاوته، وفهمه حق فهمه، والعمل به حق العمل، وخدمة الدعوة إليه، كما تحب وترضى. وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، رحمة باقية خالدة، وهداية كاملة شاملة، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. كتبه نور الدين محمد عتر خادم القرآن وعلومه والحديث وعلومه في كليات الشريعة والآداب بجامعتي دمشق وحلب

§1/1