علوم الحديث ومصطلحه

صبحي الصالح

بسم الله الرحمن الرحيم كلمة المؤلف في الطبعة الرابعة من ضرب في الحديث بسهم وافر علم يقيناً أنَّ طبيعة البحث فيه تفرض على الدارس أن يقتصر على المادة العلمية الرصينة. وذلك ما شرَّفني الباحثون بإيناسه في كتابي هذا منذ صدرت طبعته الأولى سنة 1959، فقد استقبلوه كما استقبلوا صِنْوَهُ، " علوم القرآن " من قبل بكثير من الحفاوة، إلاَّ أنَّ نفرًا من كرامهم وخلصائي فيهم أخذوا على " علوم الحديث " خاصة تكاثر المادة وتشعُّبها حول تاريخ الحديث، وعلومه، ومصطلحاته، فحال هذا المأخذ الذي بدا لي وجيهاً دون تفكيري بإضافه دراسات جديدة يوم مَنَّ الله عَلَيَّ بالطبعة الثانية سنة 1963، وعلَّلْتُ يومئذ إعادة طبعه بصورته القديمة نفسها «بأنَّ أي زيادة على الكتاب - مهما تكن طفيفة - لا بُدَّ أن تزيل عنه صفه الدقة والاختصاص، مع أني منذ ألفته قصدت به التبسيط ولم أقصد به قط إلى التعميم». [ز]

وهكذا لم أستشعر الحاجة إلى إجراء أي تعديل جوهري في الكتاب، بل كنت إلى النقصان منه أقرب مني إلى الزيادة عليه، فلم يُتَحْ له من الطرافة إلاَّ جدة التبويب، ثم هأنذا اليوم أثير ما تعمَّدْتُ تركه فيما سلف، وأنا مقتنع بوجوب إثارته، بعد أن عهد إِلَيَّ بتدريس الأدب الإسلامي في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية، وأصغيت إلى بعض الزملاء يصارحونني بأنهم - على إعجابهم بِمَنْهَجِيَّةِ الدِّرَاسَةِ - لا يفقهون السر في إغفالي مكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب. ومسألة الاحتجاج بالحديث، ووصف مناهج القوم في طبقات الرُوَّاةِ وتراجم مشاهير المُحَدِّثِينَ، فإذا أنا أتدارك هذا كله ببابين كبيرين تشتمل فصولهما في هذه الطبعة الجديدة على جُلِّ ما يتمناه المتعمِّق في علوم الحديث من البَاحِثِينَ المُختصِّين. ولسوف يلاحظ القارئ الكريم أَنَّ هذه الإضافات استغرقت أكثر من ربع الكتاب في حجمه الحاضر، ولسوف تعجبه بلا ريب أناقة الطبع، ودقة الإخراج، وروعة التنسيق، التي اشتهرت بها مطابع دار العلم للملايين. واللهَ أسأل أنْ يجعل هذا الكتاب قربة خالصة لوجهه الكريم، وَأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ خِدْمَةِ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ بِاليَدِ وَالقَلْبِ وَالقَلَمِ وَاللِّسَانِ. وَللهِ الحَمْدُ أَوَّلاً وَآخِرًا، والصلاة والسلام على خاتم النَبِيِّينَ، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المصطفين الأخيار. بيروت في 17 رمضان 1384 هـ / 15 كانون الثاني 1965 م صبحي الصالح [ح]

المقدمة:

المُقَدِّمَةُ: كتابنا هذا في «علوم الحديث» كصنوه «علوم القرآن» - طائفة من المباحث العلمية تنفض غبار السنين عن تراثنا الخالد، وتعرض أنفس روائع الفكر بأسلوب واضح بسيط أقرب إلى ذوق العصر. ويخيل إلى كثير من الناس أنَّ هذا اللون من الدراسة سهل ميسَّرٌ، وأنَّ طريقه آمن معبَّد، وأنَّ الأقدام فيه ثابتة لا تزِلُّ، لأنَّ علماءنا السالفين الأبرار مهَّدُوهُ كل ممهَّدٍ، وما تركوا لأمثالنا شيئاً نزيده، فما علينا إلاَّ أنْ نغترف من بحرهم قانعين بتلخيص تصانيفهم وأقوالهم. نرى لزاماً علينا أن نبادر إلى تصحيح هذا الخطأ الشائع، جازمين بأنَّ هذا اللون من الدراسة أشدّ وعورةً وأحوج إلى طول الجهد والعناء من تحقيق النصوص ونشر المخطوطات، لأنه يجمع في آن واحد بين التأليف والتحقيق، ويحاول إحكام الربط بين النتاج القديم والمنهج الجديد. [ط]

لا مفرَّ من تحقيق النصوص في تصنيف يتعلق بعلوم الحديث، فما كان لكتابنا أن يستوفي أهم المباحث التي ينشدها المختصون لولا عكوفنا على أمهات المخطوطات في هذه العلوم، ننقلها بأمانة، وَنُلَخِّصُهَا بدقة، ونجمع شتاتها في كتاب واحد يضمها بين دفتيه. ومن المعلوم أَنَّ المكتبة الظاهرية بدمشق من أغنى مكتبات العالم في الحديث وعلومه ومصطلحه، وقد أتيح لنا أن نَطَّلِعَ على الكثير من أمهاتها المخطوطة، وفي حواشي كتابنا ما يشير إلى شدة تعويلنا عليها، كما أَنَّ في «جريدة المراجع» سَرْدًا لأسمائها وَوَصْفًا وَاضِحًا لها. غير أَنَّا لم نقف عند النقل الأمين. والتلخيص الدقيق، فقد درسنا آثار السلف في علوم الحديث دراسة تاريخية تحليلية، وَوَازَنَّا بين مؤلفيها وآرائهم من غير أن نشغل القارئ بالعقيم من جدلهم، وحاولنا أن نستخلص المقاييس النقدية التي نادوا بها من خلال المصطلحات الكثيرة المتفرقة في النفيس النادر من تصانيفهم. ليس هذا الكتاب إذن تَلْخِيصًا أَوْ اخْتِصَارًا، بل هو عرض ودراسة، ولم يكن يضيرنا لو كان تَلْخِيصًا بَحْتًا أن نُصَرِّحَ بِهِ، فإنه ليشرفنا أن نكون في «علوم الحديث» عالة على نُقَّادِنَا العُظَمَاءِ، وسلفنا الطاهرين، الذين ملأوا الأرض عِلْمًا بِسُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنَّ طبيعة الموضوع أَيْضًا لتفرض علينا وعلى غيرنا من البَاحِثِينَ فيه التعويل على النقل والتلخيص، إذْ ما عسى أن يضيفه اليوم أحدنا إلى تلك الأصول المؤصلة والقواعد المُقَرَّرَةِ، والمناهج الواضحة التي وضعها قادة الدنيا وسادة [ي]

العالمين؟ لكنا نظن أَنَّ العرض الجديد لا ينافي النقل الدقيق، وَأَنَّ الموازنة بين النصوص لا تعارض التحقيق: وبهذا الروح، مَعَ تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ وَحَذَرٍ أَشَدَّ، خُضْنَا في كثير من البحوث الشائكة مُدْلِينَ غَالِبًا بالرأي الذي نختاره أو نُرَجِّحُهُ، فأوردنا ما يستحيل نقضه من البراهين على كتابة الحديث في حياة الرسول العظيم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستشهدنا بالكثير من الصحف وَالمُدوَّنَاتِ والوثائق التاريخية، وانتهينا إلى أََنَّ القوم لم يُعَوِّلُوا على الذاكرة وحدها في حفظ السُنَّةِ، بل كتبوها مثلما حفظوها في صدورهم في عهد مُبكِّرٍ، وانتقلنا إلى عرض تاريخي تَعَقَّبْنَا فيه الرحلة في طلب الحديث، والتحول منها إلى صور أخرى من تحمل العلم وأدائه، وناقشنا تلك الصور وَوَازَنَّا بينها، ثم خلصنا منها إلى كلمة عجلى في أهم التصانيف في علوم الحديث المختلفة، وَحَقَّقْنَا القول في شروط الراوي، ورأينا ما في هذه الشروط من المقاييس الإنسانية المُسَلَّمَةِ في القديم والحديث، ثم مضينا إلى أقسام الحديث نستقي مصطلحاتها الدقيقة من أوثق الكتب وَأَهَمِّهَا، فابتدأنا بـ " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " للرامهرمزي الذي كان أول من ألَّفَ في مصطلح الحديث كما هو الشائع، وانتهينا بـ " قواعد التحديث " لعلاَّمة الشام المرحوم السيد جمال الدين القاسمي. وعندما أفضينا إلى الباب الذي عقدناه لمكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب، أوضحنا كيف شملت السُنَّةُ كل آفاق التشريع، وكيف اسْتَقَلَّتْ أَحْيَانًا بتبيان الحلال والحرام ولو كان أصلها في الكتاب، وَفَصَّلْنَا القول في خبر الآحاد وشروط الاحتجاج به، ووصفنا تبكير القوم [ك]

بالرواية المصحوبة بالاستناد، وعرضنا لدى تأثُّر علوم الحديث بأسانيد المُحَدِّثِينَ , ورَدَدْنَا على المانعين من الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، وأثبتنا أنَّ مقاييس المُحَدِّثِينَ أدق من معايير اللغويين لنقل الكلام الصحيح الفصيح. ورأينا في الباب الأخير أنْ نشيع القول في طبقات الرُواة، فتحدَّثنا بوجه خاص عن ابن سعدد ومنهج التصنيف في هذه الطبقات، وأوضحنا التقسمات الاصطلاحية للصحابة أو التابعين وتابعيهم، وترجمنا للمشاهير منهم بما يغني عن الرجوع إلى المصادر والأمهات. ولقد أطلنا في بحث «تدوين الحديث» لما نعانيه في طائفة من الشباب العربي المثقف من الانخداع بالمستشرقين الذين ينكرون هذا التدوين ويثيرون الشبهات حوله، كما أسهبنا القول في «الموضوع وأسباب الوضع»، واستخلصنا القواعد المنهجية التي كان علماؤنا القدامى يستندون إليها في التمييز بين الصحيح والموضوع. وفي تضاعيف مباحثنا هذه كلها حرصنا على أنْ نؤكد أنَّ مصطلح الحديث يقوم على فلسفة نقدية دقيقة روعي فيها الجوهر قبل العرض، والمعنى قبل المبنى، والمتن قبل السند، والعقل والحس قبل المحاكاة والتقليد. ولم يكن من السهل علينا دائماً أنْ نوضح هذه القصة الشائكة كل التوضيح في غضون المباحث والفصول، لأنَّ القارئ كان فيها لا يزال يتابعنا ليعرفها أولاً ويطلع على شواهدها وأمثلتها، فجاءت خاتمة الكتاب إذن تتميماً وتوضيحاً وتركيزاً لهذه الحقيقة، ففي الخاتمة استخلصنا مقاييس [ل]

النقد عند المُحَدِّثِينَ من المادة نفسها التي احتوى عليها كتابنا، ولم نُبِحْ للقلم آنذاك أنْ يتلمس هذه المقاييس من كتب أخرى ينسخها ويسجلها وينقلها من مكان إلى مكان، فلقد اتضحت معالم الطريق أمام القارئ وبات يتوقع النتيجة الطبيعية التي لا مناص من الاعتراف بها: ألا وهي تَبَوُّؤُ مصطلح الحديث أسمى مكان في فلسفة المصطلحات على اختلاف العصور. وإننا الآن على يقين أَنَّ القارئ العربي الذي لا يفرض على عقله أَنْ يعيش غَرِيبًا فِي أُمَّتِهِ، «مُسْتَعَارًا» في ثقافته وطريقة تفكيره. سوف يمضي من تلقاء نفسه - بعد اقتناعه بدقة المصطلح - إلى دراسة علم الحديث رواية، فَلَيَقْرَأَنَّ الكتب الصحاح، وَلَيُغَذِّيَنَّ بها ثقافته اللغوية والأدبية، وَلَيَجِدَنَّ فيها مرآة صادقة لعصر النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، مرآة تُعَبِّرُ عن حياة هذا الرسول العظيم ومكارم أخلاقه، وإرشاده أصحابه إلى بناء مجتمع مثالي يقوم على الحق والخير والجمال. وفي الحديث - بلا ريب - جوانب أخرى جديرة بالعرض والدراسة لَمْ نَتَصَدَّ قط لخروجها عن نطاق بحثنا الأساسي، وأوجزنا الكلام في بعضها الآخر لضيق المقام، وأومأنا في طائفة ثالثة منها إلى الخطوط الرئيسية وأمهات المصادر لتضع الباحث في أول الطريق. ومن المباحث التي تركناها «البلاغة النَّبَوِيَّةِ» فإنها جديرة بأبحاث طوال لو عرضنا لها في هذا الكتاب لأدخلت عليها عُلُومُ الحَدِيثِ الضَّيْمَ، [م]

ولجاءت قلقة في موضعها، غير منسجمة مع الغاية التي من أجلها ألَّقْنَا كتابنا. ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلاَّ أنْ أقدِّم الشكر خالصاً جزيلاً لكل من آزرني في هذا الكتب، وأخصُّ بالذكر الصديق الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي الذي كان في نظري الرائد الأول في تحقيق تدوين الحديث منذ نشر " صحيفة همَّام بن منبه " التي أفدت منها الكثير، والصديق الدكتور يوسف العش الذي فتح أمامي - بتحقيقه العلمي الدقيق لـ " تقييد العلم " للخطيب، أوسع الآفاق في تدوين الحديث أَيْضًا، كما أنه أتاح لي الإطلاع على مختارات من الكتب النادرة والمخطوطات النفيسة، وترك بين يدَيَّ بعضها كـ " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب أَيْضًا، والصديق العالم الأديب الأستاذ أحمد عبيد الذي يَسَّرَ عَلَيَّ الرجوع إلى المصادر والأمهات، ولا سيما في تراجم الرجال. واللهَ أسألُ أنْ يجعل هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم، ويمنحني به حسن القبول، ويغفر لي ما وقع فيه من الخطأ والزلل، وهو ولي التوفيق. [ن]

الباب الأول: تاريخ الحديث:

البَابُ الأَوَّلُ: تَارِيخُ الحَدِيثِ:

الفصل الأول: الحديث والسنة واصطلاحات أخرى:

الفَصْلُ الأَوَّلُ: الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ وَاصْطِلاَحَاتٍ أُخْرَى: الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ: لو أخذنا بالرأي السائد بين المُحَدِّثِينَ، ولا سيما المتأخرين منهم، لرأينا الحَدِيثَ وَالسُنَّةَ مُتَرَادِفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، يوضع أحدهما مكان الآخر: ففي كل منهما إضافة قول أو فعل أو تقرير أو صفة إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَيْدَ أنَّ رَدَّ هذين اللفظين إلى أصولهما التاريخية يُؤَكِّدُ وجود بعض الفروق الدقيقة بين الاستعمالين لغة واصطلاحًا. فالحديث - كما لاحظ أبو البقاء (¬1) - «هُوَ اسْمٌ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَهُوَ الإِخْبَارُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ تَقْرِيرٌ نُسِبَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ ¬

_ (¬1) أبو البقاء هو أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، كان من قضاة الأحناف وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 1092 هـ وهو قاض بالقدس (انظر " هدية العارفين ": 1/ 229 و" إيضاح المكنون ": 1/ 251 / 280).

وَالسَّلاَمُ -» (¬1). ومعنى «الإِخْبَارِ» في وصف الحديث كان معروفًا للعرب في الجاهلية منذ كانوا يطلقون على «أيامهم المشهورة» اسم «الأحاديث» (¬2). ولعل الفَرَّاءَ (¬3) قد تَنَبَّهَ إلى هذا المعنى حين رأى أَنَّ «وَاحِدَ الأَحَادِيثِ أُحْدُوثَةٌ، ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ» (¬4). ومن هنا شاع على الألسنة: «صَارَ أُحْدُوثَةً» (¬5) أو «صَارَ حَدِيثًا» (¬6) إذا ضُرِبَ به المثل. واستعمل الشاعر أبو كلدة في بيت واحد المثل والأحدوثة في بيت واحد المثل والأحدوثة كأنما ليشير إلى ترادفهما فقال: وَلاَ تُصْبِحُوا أُحْدُوثَةً مِثْلَ قَائِلٍ ... بِهِ يَضْرِبُ الأَمْثَالَ مَنْ يَتَمَثَّلُ (¬7) وكيفما تُقَلِّبُ مادة «الحَدِيثِ» تجد معنى «الإِخْبَارِ» وَاضِحًا فيها حتى في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (¬8)، وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬9). وقد استشعر بعض العلماء في مادة «الحَدِيثِ» معنى «الجِدَّةِ»، فأطلقوه ¬

_ (¬1) " كليات أبي البقاء ": ص 152 (ط. الأميرية سنة 1280 هـ). (¬2) " فتوح البلدان " للبلاذري: ص 29. (¬3) هو يحيى بن زياد الديلمي، أحد نُحاة الكوفة وأئمتها المشهورين في اللغة، له كتاب في معاني القرآن. تُوُفِّيَ سَنَةَ 207 (انظر " طبقات الزبيدي ": 146). (¬4) انظر: " قواعد التحديث ": ص 25. (¬5) " الأغاني ": 21/ 150. (¬6) " الأغاني ": 14/ 47. (¬7) " الأغاني ": 10/ 120. (¬8) [سورة الطور، الآية: 34]. (¬9) [سورة الزمر، الآية: 23].

على ما يقابل القديم، وهم يريدون بالقديم كتاب الله، وبالجديد ما أضيف إلى رسول الله. قال شيخ الإسلام ابن حجر في " شرح البخاري ": «المُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ الْقُرْآنِ لأَنَّهُ قَدِيمٌ» (¬1) وهذا يُفَسِّرُ لنا - إلى حد كبير - تَوَرُّعَ كثير من العلماء من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله واستبدالهم «كَلاَمَ اللهِ» بحديث الله. وفي " سنن ابن ماجه " رواية لحديث نبوي تكاد تقطع بضرورة هذا الورع وهذا الأدب في التعبير: عن عبد الله بن مسعود أَنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلاَمُ وَالْهَدْيُ. فَأَحْسَنُ الْكَلاَمِ كَلاَمُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ» (¬2). وإذا وجدنا في جُلِّ كتب السُنَنِ «إِنَّ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ» ثم لا حظنا تَفَرُّدَ ابن ماجه برواية «أَحْسَنُ الْكَلاَمِ» أدركنا أنه ليس بمستبعد أَنْ يكون الورع حمله على إيثار هذا التعبير، وكان أقل ما نستنبطه من ذلك أَنَّ في العلماء مَنْ تَحَرَّجَ من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله القديم. والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى بنفسه قوله «حَدِيثًا» وكاد بهذه التسمية يُمَيِّزُ ما أضيف إليه عما عداه، حتى كأنه وضع الأصول لما اصطلحوا فيما بعد على تسميته «بِالحَدِيثِ». جاءه أبو هريرة يسأله عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة، فكان جوابه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَرْصِهِ عَلَىَ طَلَبِ الحَدِيثِ» (¬3). ¬

_ (¬1) " التدريب ": 4. (¬2) " سنن ابن ماجه ": 1/ 18، رقم الحديث 46 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. (¬3) " صحيح البخاري ". كتاب الرقاق. رقم 51.

وَالسُنَّةُ - في الأصل - ليست مساوية للحديث، فإنها - تبعاً لمعناها اللغوي - كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيرته المُطَهَّرَة، لأَنَّ معنى السُنَّةِ لغة الطريقة. فإذا كان الحديث عَامًّا يشمل قول النبي وفعله، فَالسُنَّةُ خَاصَّةٌ بأعمال النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. وفي ضوء هذا التباين بين المفهومين ندرك قول المُحَدِّثِينَ أَحْيَانًا: «هَذَا الحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالسُنَّةِ وَالإِجْمَاعِ»، أو قولهم: «إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَإِمَامٌ فِي السُنَّةِ، وَإِمَامٌ فِيهِمَا مَعًا» (¬1) وأغرب من هذا كله أَنَّ أحد المفهومين يدعم بالآخر، كأنهما متغايران من كل وجه، حتى صَحَّ أنْ يذكر ابن النديم كِتَابًا بعنوان " كتاب السُنن بشواهد الحديث " (¬2). وحين عَبَّرَ الإسلام عن الطريقة بِالسُنَّةِ لم يفاجئ العرب، فلقد عرفوها بهذا المعنى كما عرفوا نقيضها وهي البدعة (¬3). وكان في وسعهم أَنْ يفهموا منها هذا المعنى حتى عند إضافتها إلى اسم الجلالة في مثل قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (¬4). أما الذين سمعوا لفظها من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مثل قوله: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» (¬5)، فما كان لهم حِينَئِذٍ أَنْ يَتَرَدَّدُوا في انصرافها إلى أسلوبه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وطريقته في حياته الخاصة والعامة. ¬

_ (¬1) من ذلك ما يراه عبد الرحمن بن مهدي (- 198) «مِنْ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَالأَوْزَاعِيَّ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ وَلَيْسَ بإِمَامٍ فِي الحَدِيثِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِمَامٌ فِيهِمَا جَمِيعاً». انظر " الزرقاني على الموطأ ": 1/ 4 وقابله بـ « Trad Islam.12 , 14» . (¬2) " الفهرست " لابن النديم: ص 220. (¬3) انظر " الأغاني ": 7/ 119 وفيما يتعلق بالبدعة: 7/ 114. (¬4) [سورة الأحزاب، الآيتان: 38 و 62]. (¬5) سنن ابن ماجه 1/ 16 رقم الحديث 42.

وَالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ كانت - كما سنرى - أحرص البلاد على السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حتى سميت «دَارَ السُنَّةِ» (¬1). وفي جنباتها المشرفة بدأ مفهوم «السُنَّةِ» يأخذ شَكْلاً سِيَاسِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا إلى جانب الشكل الديني الأساسي: فالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَرِّحُ بأنَّ «مَنْ أَحْدَثَ فِي المَدِينَةِ حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬2). وَكَأَنَّ في هذا الحديث إيماء إلى براءة الله ورسوله من كل مُنْشَقٍّ على الجماعة، خالع يد الطاعة، مُؤْثِرٌ البِدْعَةَ عَلَى السُنَّةِ. فلينصح الأب ابنه: «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالحَدَثَ»، وليستجب الابن لأبيه مُكْبِراً تَقيُّدَهُ بِالسُنَّةِ المُطَهَّرَةِ: «وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ الحَدَثُ فِي الإِسْلاَمِ» (¬3)، وليقل المتهم في دينه مُدَافِعًا عن نفسه: «مَا أَحْدَثْتُ فِي الإِسْلاَمِ حَدَثاً وَلاَ أَخْرَجْتُ مِنْ طَاعَةٍ يَدًا» (¬4). ما أسرع ما انتقل المسلمون إذن من المعنى الإقليمي الضيق إلى المعنى الشامل الواسع! إنهم لا يخشون إحداث الحَدَثِ في المدينة وحدها «دَارَ السُنَّةِ»، بل يخشون الحدث في الإسلام كله، في كل بلد بلغته الدعوة المباركة، فالمبدأ عام شامل، وقد وضعه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه مُذْ قال: «شَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» (¬5) وقال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (¬6). ¬

_ (¬1) راجع فصل - الرحلة في طلب الحديث - من هذا الكتاب. (¬2) " صحيح البخاري ". الاعتصام. رقم 6. (¬3) " سنن الترمذي ": 1/ 51. (¬4) " الأغاني ": 21/ 144. (¬5) " سنن ابن ماجه ": 1/ 17 رقم 45. (¬6) " سنن أبي داود ": 4/ 280 رقم 4606.

ولم يكن لهذا المبدأ النبوي الصريح إلاَّ نتيجة واحدة حاسمة: فعلى قدر الخوف من إحداث الحدث في الإسلام كانت الرغبة في المحافظة على سُنَّةِ رسول الله. وَإِنَّ كل مؤمن لا يظل قلبه ونظره معلقين بشخص الرسول، ولا يصوغ نفسه وعمله وفق الخلق النبوي، ووفق ما جرت به السُنَّةُ (¬1) أو مضت عليه (¬2) ليس صادق الإيمان ولا هو من المُقرَّبِينَ. وإذا كان هذا الرجل من المشتغلين بالحديث النبوي زادت تبعته، فما يفعل شَيْئًا لم يفعله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يَتَرَدَّدُ في كثير من الأمور قبل الإقدام عليها ليعرف أقربها إلى السُنَّةِ، من تشميره ثيابه (¬3)، وطرقه الباب للاستئذان على المحدث (¬4)، وإفشائه السلام غير مجاوز القدر المُسْتَحَبَّ من رفع الصوت به (¬5)، وجلوسه حيث ينتهي به المجلس (¬6) وامتناعه من الجلوس في صدر الحَلَقَةِ أو وسطها (¬7) أو بين اثنين بغير إذنهما (¬8) وما شابه هذه الخصال النَّبَوِيَّةِ التي اشتمل عليها كتاب الأدب في جميع كتب «السُنَنِ». وحين بَعُدَ العهد بالوحي وبرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضحى التشبه بالسلف الصالح ¬

_ (¬1) " البخاري ". الاعتصام. رقم 4. (¬2) " سنن أبي داود ": 2/ 368 رقم 2250. (¬3) " الجامع لأخلاق الراوي ": 2/ 22. (¬4) " الجامع ": 2/ 24. (¬5) " الجامع ": 2/ 26. (¬6) " الجامع ": 2/ 28. (¬7) " الجامع ": 2/ 28 أَيْضًا. (¬8) " الجامع ": 2/ 29.

ضَرْبًا من التأسي بِالسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. وصار هؤلاء المُتشبِّهُونَ بالسلف ينسبون إليه فَيُسَمَّوْنَ «السَّلَفِيِّينَ» (¬1)، وباتت حياتهم وَقْفًا على إحياء السُنَّةِ وإماتة البدعة (¬2)، وكان المُتدَيِّنُونَ الصادقون ينظرون إليهم نظرة إجلال وإكبار في مختلف العصور، غير أنهم لم يسلموا من أذى المبتدعة وأهل الأهواء، ولا من غُلاَةِ المُتَصَوِّفِينَ، ولا من الأدباء المُتَطَرِّفِينَ. ومضى السَّلَفِيُّونَ لا يبالون بشيء من أذى العامة، فحسبهم شَرَفًا أنهم حفظوا سُنَنَ الهُدَى حِينَ ضَيَّعَهَا النَّاسُ! ولئن أطلقت السُنَّةُ في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فَإِنَّ الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على - الأقل - كان دائمًا يساور نُقَّادَ الحديث، فهل السُنَّة العملية إلاَّ الطريقة النَّبَوِيَّةَ التي كان الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - يُؤَيِّدُهَا بأقواله الحكيمة وأحاديثه الرشيدة المُوَجَّهَةِ؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السُنَّة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أَخِيرًا إلى النَّبِيِّ الكَرِيمِ في أقواله المُؤيِّدَةِ لأعماله، وفي أعماله المُؤيِّدَةِ لأقواله؟ حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النُقَّادِ لم يجدوا بَأْسًا فِي أنْ يُصَرِّحُوا ¬

_ (¬1) " المشتبه في أسماء الرجال " للذهبي، نشر جنغ Jong، ص 269. (¬2) وعلى طريقة المستشرقين في إحصاء الجزئيات واستقراء التفصيلات، قام جولدتسيهر بجمع طائفة حسنة من المعلومات عن إحياء السُنَّةِ في مختلف العصور الإسلامية، وليس لنا اعتراض على النتيجة التي خرج بها من دراسته لهذه الناحية بالذات، فقد أثبت أنَّ إحياء السُنَّةِ كان يرادف غالباً العمل على نشرها وتثبيتها في نفوس الأفراد. وانظر: Muhammedanisches Recht, in Theorie und Wirklich Keit (Zeitschrift f. vergleich) .Rechtswissenschatt, VIII, 409 sq.

الخبر والأثر:

بحقيقة لا ترد: إذا تناسينا مَوْرِدَيْ التسميتين كان الحديث وَالسُنَّةُ شَيْئًا وَاحِدًا، فليقل أكثر المُحَدِّثِينَ: إنهما مترادفان. الخَبَرُ وَالأَثَرُ: والخبر أجدر من السُنَّةِ أَنْ يرادف الحديث، فما التحديث إلاَّ الإخبار، وما حديث النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلاَّ الخبر المرفوع إليه. غير أَنَّ إطلاق اسم الإخباري على من يشتغل بالتواريخ ونحوها حمل بعض العلماء على تخصيص المشتغل بِالسُنَّةِ بلقب «المُحَدِّثِ» لتمييزه عن «الإِخْبَارِيِّ» وعلى تسمية ما جاء عنه «حَدِيثًا»، لتمييزه عن «الخَبَرِ» الذي يجيء عن غيره. وهذا يُفَسِّرُ قولهم: «بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ وَلاَ عَكْسَ» (¬1). وَالمُحَدِّثُونَ الذين انتصروا لترادف الحديث والخبر لاحظوا - إلى جانب المدلول اللغوي المتماثل بين اللفظين - أَنَّ الرُوَّاةَ لم يكتفوا بنقل المرفوع إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل عُنُوا معه بنقل الموقوف على الصحابي والمقطوع على التابعي: فقد رَوَوْا إذن ما جاء عن النَّبِيِّ وما جاء عن غيره، والرواية إخبار هنا وهناك، فَلاَ ضَيْرَ في تسمية الحديث خَبَرًا، والخبر حَدِيثًا. ومن خلال الرواية نفسها نظروا إلى الأثر، فهو مرادف للخبر وَالسُنَّةِ وَالحَدِيثِ، «يُقَالُ: أَثَرْتُ الحَدِيثَ: بِمَعْنَى رَوَيْتُهُ، وَيُسَمَّى المُحدِّثُ أَثَرِيًّا ¬

_ (¬1) " تدريب الراوي ": ص 4.

الحديث القدسي:

نِسْبَةً لِلأَثَرِ» (¬1). فلا مسوغ لتخصيص الأثر بما أضيف للسلف من الصحابة والتابعين، إذ أنَّ الموقوف والمقطوع روايتان مأثورتان كالمرفوع، إلاَّ أَنَّ الموقوف يُعْزَى إلى صحابي، والمقطوع يُعْزَى إلى التابعين، بينما ينتهي المرفوع إلى الرسول الكريم - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -. وهنالك اصطلاحات في بيان الفرق بين كل من الخبر والأثر لن تخوض فيها، ولن نماري فيها أصحابها (¬2)، فقد أخذنا برأي الجمهور في تساوي هذه المصطلحات جَمِيعًا في إفادة التحديث والإخبار، وعليهما مدار البحث في علم أصول الحديث. الحَدِيثُ القُدْسِيُّ: وكان رسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلْقِي أَحْيَانًا على أصحابه مواعظ يحكيها عن ربه - عَزَّ وَجَلَّ - ليست وَحْيًا مُنَزَّلاً فَيُسَمُّوهَا قُرْآنًا، ولا قولاً صَرِيحًا يسنده - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى نفسه إسنادًا مباشرًا فَيُسَمُّوهَا حَدِيثًا عَادِيًّا، وإنما هي أحاديث يحرص النَّبِيُّ على تصديرها بعبارة تدل على نسبتها إلى الله، لكي يشير إلى أَنَّ عمله الأوحد فيها حكايتها عن الله بأسلوب يختلف اختلافًا ظَاهِرًا عن أسلوب القرآن، ولكن فيه - مع ذلك - نفحة من عالم القدس، ونورًا من عالم الغيب، وهيبة من ذوي الجلال والإكرام. تلك هي الأحاديث القدسية، التي تُسَمَّى أَيْضًا إِلَهِيَّةً وَرَبَّانِيَّةً. ¬

_ (¬1) " التقريب ": ص 4. (¬2) من تلك الاصطلاحات أنَّ المُحَدِّثِينَ يُسمُّون المرفوع والموقوف بالأثر، وأنَّ فقهاء خُرَاسَانَ يُسَمُّونَ الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر: انظر " التدريب ": ص 4.

مثالها ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن أبي ذر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ (¬1) إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» (¬2). والصيغة التي صدر بها النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الحديث القدسي هي - كما لاحظنا - «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ» وهي العبارة التي آثرها السلف في رواية هذه الأحاديث. أما الخلف فلهم طريقة خاصة في التعبير عن هذه الأقوال القدسية الربانية، إذْ يَقُولُونَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ¬

_ (¬1) المخيط: الإبرة، ما يخاط به. (¬2) " رياض الصالحين " للنووي: ص 73.

وَالمُؤَدَّى واحد من كلتا العبارتين، وكل ما بينهما من فرق إنما هو تمييز بين اصطلاحين. وحكاية النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه في هذا الضرب من الأحاديث القدسية اتخذت حُجَّةً للعلماء القائلين: إنَّ اللفظ في الحديث القدسي من الله - عَزَّ وَجَلَّ -. غير أنَّ كَثِيرًا من العلماء يرون أَنَّ الصياغة في «القدسي» لِلْنَّبِيِّ وَأَنَّ المعنى للهِ وإلى هذا الرأي جنح أبو البقاء حين قال بصراحة ووُضوح: «إِنَّ القُرْآنَ مَا كَانَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِوَحْيٍ جَلِيٍّ، وَأَمَّا الحَدِيثَ القُدْسِيَّ فَهُوَ مَا كَانَ لَفْظُهُ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولَ، وَمَعْنَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِالإِلْهَامِ أَوْ بِالمَنَامِ» (¬1). ¬

_ (¬1) " كليات أبي البقاء ": ص 288.

الفصل الثاني: حول تدوين الحديث:

الفَصْلُ الثَّانِي: حَوْلَ تَدْوِينِ الحَدِيثِ: مَعْرِفَةُ العَرَبِ لِلْكِتَابَةِ قَبْلَ الإِسْلاَمِ: لن نغلو في وصف العرب - قبيل الإسلام - بجهل الكتابة وعدم التمرس بها، لِنُدْرَةِ أَدَوَاتِهَا المُتَيَسِّرَةِ لديهم وتعويلهم على الذاكرة في حفظ آثارهم ورواية آدابهم، فَمِمَّا لا ريب فيه أنَّ شمال الجزيرة العربية عرف الكتابة والقراءة، وَأَنَّ مكة بمركزها التجاري الممتاز شهدت من القارئين الكاتبين قبيل البعثة أكثر مِمَّا شهدت المدينة، وإنا لنستبعد ألاَّ يَكُونَ في ذلك الحين بمكة - كما جاء في بعض الأخبار - «إِلاَّ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً يَقْرَؤُونَ وَيَكْتُبُونَ» (¬1)، لأنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ إِذَا صَحَّتْ أَسَانِيدُهَا لاَ تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ إِحْصَاءً دَقِيقًا أَوْ اسْتِقْرَاءً ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال (" صحيفة همام بن منبه ": ص 2) كيف لا يزال الدكتور حميد الله يُرَدِّدُ هَذَا الخَبَرَ مُقْتَنِعًا بِهِ، ثم قارن بـ: H. Lammens, La Mecque à la veille de l'hégire, Beyrouth 1924. p. 122. وَالمُؤَرِّخُونَ مولعون بترداد هذه العبارة: «وَكَانَتْ الكِتَابَةُ فِي العَرَبِ قَلِيلَةً» ومثالاً على هذا راجع " ابن سعد ": 3/ 2 ص 148.

شاملاً، فما فيها إلاَّ دلالة ظنية غامضة لا يحسن مع مثلها القطع في هذا الموضوع الخطير. غير أننا لا نملك من الحجج والبراهين، العقلية والنقلية، ما نؤكد به كثرة القارئين الكاتبين في تلك الفترة من حياة العرب، ولا شيء يدعونا إلى الغلو في أمر الكتابة واعتقاد كثرتها في شبه الجزيرة العربية إلاَّ أنْ يصيبنا من الجهالة العمياء ما يغرينا باتباع المستشرقين الذين يزعمون أنَّ وصف العرب «بِالأُمِيِّينَ» في القرآن (¬1) لا ينافي معرفتهم القراءة والكتابة، فما الأُمِيُّ عندهم إلاَّ الذي يجهل الشريعة الإلهية، وما كان محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِيًّا» (¬2) إلاَّ لأنه نَبِيُّ هؤلاء «الأُمِيِّينَ» الوَثَنِيِّينَ «الذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولاً أَرْسَلَهُ اللهُ، وَلاَ كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ» (¬3). والواقع أَنَّ هذا الرابط المضطرب بين «الأُمِيِّ» عندما يوصف به النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وبين «الأُمِيِّينَ» وَصْفًا للعرب، ليس من المنطق في شيء، لأنه تجزئة لا مسوغ لها في أصل اللغة ولا وحي السياق للفظ قرآني واحد ينبغي تفسيره ¬

_ (¬1) [سورة الجمعة، الآية:1]. (¬2) [سورة الأعراف، الآية:2]. (¬3) وتفسير «الأميِّين» على هذا النحو جاء في بعض روايات الطبري عن ابن عباس (1/ 296) في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [سورة البقرة، الآية: 78]. ووجد المستشرقون في هذا التأويل مسوغاً لزعمهم أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كاتباً قارئاً، وأنَّ وصفه بالأميَّة - كوصف العرب بها - لا ينافي معرفة القراءة والكتابة، انظر: Paret. Encycl. de lislam. IV, 1070. Horovitz. koranische Untersuchungen. Berlin. 1924. p. 52. وكان يحسن بالمستشرقين أنْ يقرأوا " تفسير الطبري " في الصفحة نفسها ليروا أنه يُضَعِّفُ هذا الرأي.

بمعنى واحد لا بمعنيين متباينين: فإما أَنْ يكون الأُمِيَّ هو الذي يجهل الشريعة الإلهية، أو هو الذي يجهل القراءة والكتابة، ومن هنا يكبر خطأ المُفَسِّرِينَ الذِينَ أَوَّلُوا «الأُمِيِّينَ» العرب بِجَهَلَةِ الشريعة الإلهية على حين أوَّلُوا النَّبِيَّ «الأُمِيَّ» بالذي لا يعرف القراءة والكتابة. أما خطأ المستشرقين فَمُرَكَّبٌ مُضَاعَفٌ، لأنهم عَوَّلُوا فيه على رأي ضعيف شطروه شطرين، ثم آمنوا ببعضه وكفروا ببعض وجاؤوا على الأثر برأيهم الصبياني: فأما العرب - بزعمهم - فهم أميُّون لجهلهم للشريعة الإلهية، وأما النَّبِيُّ فَأُمِيٌّ نسبة إلى هؤلاء الجاهلين، لتعليمه إياهم شريعة الله، فهو نبي هؤلاء الجاهلين، أو نَبِيُّ هؤلاء الأُمِيِّينَ! فهل بعد هذين التفسيرين من تناقض! إنما ينقذنا من هذا الهذيان وضوح النص القرآني، فهو أصرح مِنْ أنْ يُؤَوَّلَ، ولفظ «الأُمِيِّ» فيه سواء أكان وصفًا للعرب أم لِلْنَّبِيِّ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لا يعني إلاَّ الذي يجهل القراءة والكتابة، وهو ما فهمه جمهور المُفَسِّرِينَ وما عليه علماء الأُمَّةِ إلى يومنا هذا (¬1). وحِينَئِذٍ لا يكون في وصف العرب «بِالأُمِيِّينَ» غُلُوٌّ في جهلهم الكتابة، إذ الأُمِيَّةُ بهذا المعنى كانت غالبة على كثرتهم، وإنما يكون الغُلُوُّ يَقينًا فِي ادِّعَاءِ كثرة الكتابة وأدواتها بين العرب، وفي الزعم القائل إنهم لم يجهلوا الكتابة بل جهلوا شريعة الله، لأنَّ أَحَدًا مِنَ البَاحِثِينَ لم يأت ببرهان على هذا الرأي العقيم. • • • ¬

_ (¬1) راجع " تفسير الطبري ": 1/ 296 - 297.

أسباب قلة الكتابة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -:

أَسْبَابُ قِلَّةِ الكِتَابَةِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَيًّا ما تكن معرفة العرب للكتابة قُبيل الإسلام، فَإِنَّ الكاتبين كانوا أكثر عَدَدًا في مكة منهم في المدينة، يشهد لذلك أَنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأسرى «بدر» المكيين بِأَنْ يفدي كل كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة (¬1). وحسبنا أَنَّ كَتَبَةَ الوحي بين يدي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلغ عددهم أربعين رَجُلاً (¬2)، وأنَّ كَثِيرًا منهم كانوا مَكِيِّينَ، وهم الذين كتبو القسم المكي من القرآن قبل هجرته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى المدينة. بَيْدَ أَنَّ المسلمين ما كادوا يَسْتَقِرُّونَ في المدينة حتى بُدِّلَتْ الحال غير الحال، فكثر فيهم الكاتبون مُذْ أنشأ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده صُفَّةً كَانَ الكَاتِبُ المُحْسِنُ عبد الله بن سعيد بن العاص يُعَلِّمُ فيها الراغبين الكتابة والخط (¬3). وأكبر الظن أَنَّ المساجد التسعة التي كانت بالمدينة على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (¬4) اتخذت مدارس لنشر العلم، يزيدنا اعْتِقَادًا بهذا أَنَّ رسول الله كان يأمر الصبيان أَنْ يتدارسوا في مسجد حَيِّهِمْ (¬5). ومن المعلوم أَيْضًا أَنَّ الرسول ¬

_ (¬1) انظر " الروض الأُنُف " على سيرة ابن هشام لِلْسُّهَيْلِي: 2/ 92 و" طبقات " ابن سعد: 2/ 1 ص 14. (¬2) راجع كتابنا " مباحث في علوم القرآن ": ص 66. ط 2. (¬3) " الاستيعاب في أسماء الأصحاب " لابن عبد البر: 2/ 366 «هامش " الإصابة " لابن حجر، ط. مصطفى محمد سَنَةَ 1358» وعبارة ابن عبد البر: «وَأَمَرَهُ - أَيْ أَمَرَ النَّبِيُّ عَبْدَ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ - أَنْ يُعَلِّمَ الكِتَابَةَ بِالمَدِينَةِ، وَكَانَ كَاتِبًا مُحْسِنًا». (¬4) " أنساب الأشراف " (مخطوطة القاهرة): 1/ 420 «ذكره حميد الله، " صحيفة همام ": ص 6 حاشية د». (¬5) راجع " التراتيب الإدارية " للكتاني: 1/ 41.

- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فِي السَنَةِ الأولى للهجرة بإحصاء المسلمين في المدينة رجالاً وأطفالاً، ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. ورواية " البخاري " في «باب كتابة الإمام للناس» من صحيحه صريحة في أَنَّ هذا الإحصاء كُتِبَ وَدُوِّنَ: فقد قال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالإِسْلاَمِ مِنَ النَّاسِ، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ» (¬1). فإذا رأينا - بعد ذلك - أَنَّ تعويل الصحابة في حفظ الحديث إنما كان على الاستظهار في الصدور لا على الكتابة في السطور، صار لِزَامًا علينا أَنْ نلمس لتعليل ذلك غير الأسباب التقليدية التي يشير إليها الباحثون عادةً كلما عرضوا لهذا الموضوع: فما نستطيع أنْ نتابعهم فيما يزعمونه مِنْ أَنَّ قِلَّةَ التدوين على عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعود بالدرجة الأولى إلى نُدْرَةِ وسائل الكتابة، لأنها لم تك قليلة إلى هذا الحد الذي يبالغ فيه، وهي - على كل حال - قِلَّةٌ نسبية قد تكون أحد العوامل في إهمال الحديث، ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابة الرسول من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللِّخَافِ وَالعُسُبِ وَالأَكْتَافِ وَالأَقْتَابِ وَقِطَعِ الأَدِيمِ (¬2). ولو أَنَّ بواعثهم النفسية على تدوين الحديث كانت تضارع بواعثهم على كتابة القرآن حماسة وقوة لاصطنعوا الوسائل لذلك ولم يتركوا سبيلاً إلاَّ سلكوها، بَيْدَ أنهم - من تلقاء أنفسهم وبتوجيه مِنْ نَبِيِّهِمْ - نهجوا في جمع الحديث مَنْهَجًا يختلف كَثِيرًا عن طريقتهم في جمع القرآن. كانوا من تلقاء أنفسهم منصرفين إلى تَلَقِّي القرآن، مشغولين بجمعه في ¬

_ (¬1) انظر " صحيفة همام ": ص 9 وقارن بـ " صحيح مسلم " كتاب الإيمان، باب جواز الاستسرار بالإيمان للخائف: 2/ 178 " بشرح النووي ". (¬2) راجع كتابنا " مباحث في علوم القرآن ": ص 67، ط 2.

الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جُلَّ أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم، وحديث رسول الله حِينَئِذٍ أكثر مِنْ أَنْ يُحْصُوهُ، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثير من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فَأَنَّى لِلْكَتَبَةِ مِنْهُمْ الوَقْتُ لمتابعة الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أَوْ يُقِرُّ الناس عليه! وإذا اندفع بعض هؤلاء الكاتبين إلى تقييد جميع ما سمعه ورآه من النَّبِيِّ العظيم، فهل يمكن أَنْ يتماثلوا كلهم في هذا الاندفاع بحيث لا يفوت أَحَدًا منهم شيء؟ إِنَّ الأقرب إلى المنطق والصواب أَنَّ أَفْرَادًا منهم وجدوا من البواعث النفسية ما حملهم على العناية بكتابة أكثر ما سمعوه - وربما كل ما سمعوه - وَأَقَرَّهُمْ على ذلك رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُمِنَ الْتِبَاسُ السُنَّةِ بِالقُرْآنِ، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شُغْلاً لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أُمِيٍّ يحفظ من القرآن والحديث مَا تَيَسَّرَ له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره. وانصراف الصحابة إلى القرآن جَمْعًا له في الصدور والسطور، واشتغالهم به عن كل شيء سواه، كان جُزْءًا من التوجيه النبوي الحكيم لهؤلاء التلامذة الخالدين من الأُمِيِّينَ وَالكَاتِبِينَ: وهو توجيه مُتَدَرِّجٌ من الحياة والأحياء، متطور مع الأحداث التي تعاقبت على المجتمع الإسلامي، فما كان لهذا التوجيه أَنْ يجمد على صورة واحدة، بَلْ رُوعِيَ فيه الزمان، وَرُوعِيَتْ الأشخاص،

فنهى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كتابة الأحاديث أَوَّلَ نزول الوحي مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته بالقرآن، ولا سيما إذا كُتِبَ هذا كله في صحيفة واحدة مع القرآن (¬1)، وقال: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (¬2)، ثُمَّ أَذِنَ بذلك إِذْنًا عَامًّا حين نزل أكثر الوحي وحفظه الكثيرون (¬3) وَأَمِنَ ¬

_ (¬1) وقد أشار إلى ذلك الخطابي في " مَعَالِمِ السُنَنْ ": 4/ 184 فقال: «وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَنَّمَا نَهَىَ أَنْ يُكْتَبَ الحَدِيْثُ مَعَ القُرْآنِ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، لِئَلاَّ يَخْتَلِطَ بِهِ، وَيَشْتَبِهَ عَلَىَ القَارِئِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الكِتَابِ مَحْظُورًا، وَتَقْيِيدُ العِلْمِ بِالخَطِّ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَلاَ». (¬2) " صحيح مسلم ": 8/ 229 من حديث أبي سعيد الخُدري. وانظر ما يقاربه في " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 170 و " تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 29 إلى 32 حَيْثُ يَذْكُرُ عَدَدًا مِنَ الرِّوَايَاتِ المُمَاثِلَةِ كُلِّهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَدْ أَعَلَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ وَوَقَفَهُ على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره. ولكن العَلاَّمَةُ أَحْمَدُ شَاكِرْ يَرَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ جَيِّدٍ، وَأَنَّ الحَدِيثَ صَحِيحٌ. انظر " الباعث الحثيث ": ص 149. وَيُؤكِّدُ صحَّتَهُ - فِي نَظَرِنَا - انْسِجَامَهُ مَعَ حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ نَفْسَهُ إذْ يَقُولُ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَكْتُبَ الحَدِيثَ، فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لِي». (" تقييد العلم ": 22 وقارن بـ " الإلماع " للقاضي عياض، مخطوطة الظاهرية ورقة 27 وجه أول). وقد ظل أبو سعيد الخُدري مُتَشَدِّداً في أمر كتابة الأحاديث لأنه كان يخشى أَنْ يضاهي الحديث بالقرآن، وقد صَرَّحَ بذلك لأبي نضرة حين طلب منه اكتاب الحديث فقال: «لاَ نَكتُبُكُمْ، وَلاَ نَجْعَلَهَا مَصَاحِفَ، كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُنَا فَنَحْفَظَ، فَاحْفَظُوا عَنَّا كَمَا كُنَّا نَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّكُمْ». انظر " ذم الكلام " للهروي. مخطوطة الظاهرية، ورقة 62 الوجه الثاني. والمشهور أَنَّ حديث النهي عن الكتابة رواه أبو سعيد الخُدري كما رأينا، غير أَنَّ بعض الصحابة الآخرين - كما يظهر - رَوَوْا في هذا الموضوع أحاديث متشابهة، كما نُقِلَ عن أبي هريرة، انظر " تقييد العلم ": 33 - 34، وابن عباس وابن عمر " مجمع الزوائد ": 1/ 150، وزيد بن ثابت " جامع بيان العلم ": 1/ 63. (¬3) وكان الرامهرمزي يرمي إلى هذا حين عَلَّقَ على حديث أبي سعيد في النهي عن =

اختلاطه بسواه فقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» (¬1)، وحفظ عنه - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - المنعُ من كتابة أحاديثه بوجه عام لأنَّ كلامه كان مُوجَّهاً إلى عامة أصحابه، وفيهم الثقة والأوثق، والصالح والأصلح، والضابط والأشد ضبطاً، والحافظ والأمتن حفظاً، وأذِنَ في الوقت نفسه لبعض أفرادهم إذناً خاصاً، لتظاهر الكتابة الحفظ إنْ كانوا ضابطين (¬2) أو تساعدهم على زيادة ¬

_ = الكتابة بقوله: «وحديث أبي سعيد: " حرصنا أنْ يأذن لنا النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكتاب فأبى "، فأحسبه أنه كان محفوظاً في أول الهجرة، وحين كان لا يؤمَنُ الاشتغال به عن القرآن» " المحدث الفاصل: 4 / ورقة 6 وجه أول. (¬1) " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: 1/ 72 و " تقييد العلم ": 69 و " المحدث الفاصل " للرامهُرْمُزي، مخطوطة الظاهرية جـ 4 ورقة 2 وجه أول. غير أنَّ السيد رشيد رضا تكلم على الحديث «مجلة المنار: 10/ 763 - 766» فضعَّفَهُ من رواية عبد الحميد بن سليمان الخُزاعي لأنَّ الذهبي تكلَّم فيه، وضعَّفَهُ أَيْضًا من رواية عبد الله بن المؤمل، وفي هذا الأخير قال الإمام أحمد: «أحاديثه مناكير»، انظر " مجمع الزوائد ": 1/ 152. وكلام السيد رشيد رضا يتناول الحديث، من هذين الطريقين، فلا يلزم منه تضعيف جميع الطرق الأخرى التي ورد بها كالطريق الذي تفرَّدَ به إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي ذئب عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» - " تقييد العلم ": ص 69. وسنرى أنَّ هذا الحديث شاع كَثِيرًا على ألْسِنَةِ الصحابة حتى رواه بعض المُحَدِّثِينَ موقوفاً على عدد منهم، فهو في الأصل مرفوع إلى النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن تناقله بين الصحابة أوهم وقفه عليهم. ولذلك قال السيوطي في " التدريب ": ص 150: «قد رواه الحاكم وغيره من حديث أنس وغيره موقوفاً». ومِمَّا يشبه أنْ يكون إذناً عاماً بالكتابة ما أورده الرامهرمزي في " المحدث الفاصل ": جـ 4 ورقة 3 وجه 1، والسيوطي في " تدريب الراوي " ص 150 عن رافع بن خديج أَنَهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ قال: «اكْتُبُوا وَلاَ حَرَجَ». وللسيد رشيد رضا رأي في تضعيف هذا الحديث (مجلة " المنار ": 10/ 763). (¬2) كما سنرى في إذن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو بن العاص بالكتابة، فكانت ثمرة هذا الإذن النبوي «الصحيفة الصادقة». وسنتكلَّمُ عنها وعن ابن عمرو قريباً في موضوع أنسب. وقد لاحظ ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ص 266 ط. مصر =

الضبط إنْ خيف نسيانهم ولم يوثق بحفظهم (¬1)، فكان إذنه لهؤلاء وأولئك أشبه بالاستثناء الذي خصَّ به - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - نفراً من أصحابه لأسباب وجيهة قدَّرَ أهميتها تبعاً للظروف والأشخاص. والقول بالنسخ في هذا الموضوع - أعني القول بنسخ أحاديث الإذن بالكتابة لأحاديث النهي عنها (¬2) - لا يراد منه إلاَّ ما أشرنا إليه من التدرُّج الحكيم في معالجة هذه القضية البالغية الخطورة. وتخصيص بعض الصحابة بالإذن ¬

_ = 1226 هـ) أنَّ من الممكن أنْ يكون رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خصَّ بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئاً للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميِّين، لا يكتب منهم إلاَّ الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجِّي: فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له». (¬1) ويذكرون في هذا حديثاً عن أبي هريرة أنَّ رجلاً من الأنصار جلس إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسمع منه الحديث يعجبه، ولا يقدر على حفظه، فشكا ذلك إلى النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «استَعِنْ بِيَمِينك»، انظر " تقييد العلم ": ص 67 و" سنن الترمذي ": 2/ 11 ط. مصر سنة 1292 و" معالم السُنن ": 4/ 184. غير أنَّ في سند هذا الحديث الخليل بن مرة. وفيه يقول البخاري: «إنه منكر الحديث». والخطيب يرويه في " تقييد العلم ": ص 66 بسند ليس فيه الخليل بن مرة هذا. ويذكره السيوطي في " تدريب الراوي ": ص 150 دورن سند، فلا يحسن التسرُّع بإنكاره وتضعيفه بجميع طرقه. ولعلَّنا لا نبعد إذا استنتجنا من مجموعة النصوص والوثائق السابقة أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمسى في سنواته الأخيرة يُجِيزُ الكتابة عنه، كما في حديث أبي شاة رجل من اليمن. فبعد أنْ فتح اللهُ على رسوله مكة قام في الناس خطيباً، حتى إذا أتمَّ خطبته قام أبو شاة فقال: «اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ». راجع تفصيل الخبر ونص الخطبة النَّبَوِيَّةِ في " تقييد العلم ": ص 89 وقارن بـ " فتح الباري ": 1/ 184 و" سُنن الترمذي": 2/ 110 و" علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 170 و" جامع بيان العلم ": 1/ 70 و" المحدث الفاصل ": 4 الورقة الأولى الوجه الثاني. (¬2) انظر " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 365 و" الباعث الحثيث ": ص 149.

الصحف المكتوبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:

في وقت النهي العام لا يعارض القول بالنسخ لأنَّ إبطال المنسوخ بالناسخ لا علاقة له ولا تأثير في تخصيص بعض أفراد العام قبل نسخه. وعلى هذا الأساس نجمع بين الآراء والتوجيهات المختلفة التي يُخيَّلُ إلى الباحث السطحي أنها متضاربة، مع أنَّ التوفيق بينها سهل مُيَسَّرٌ كما رأينا، فالعبرة بما انتهى إليه الموضوع آخر الأمر واستقرَّتْ عليه الأُمَّةُ، وهو اتفاق الكلمة بعد الصدر الأول على جواز كتابة الأحاديث. ولقد قال ابن الصلاح: «ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة» (¬1). الصُّحُفُ المَكْتُوبَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من المؤكَّد - على كل حال - أنَّ بعض الصحابة كتبوا طائفة من الأحاديث في حياته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من كتبها بإذن خاص من الرسول مُسْتَثْنَى من النهي العام كما أوضحنا، بَيْدَ أنَّ أكثرهُم قيَّدُوا ما جمعوه في السنوات الأخيرة من حياته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بعد أنْ أذن بالكتابة لكل من رغب فيها وقدر عليها (¬2)، ولدينا أخبار عن هذه الصحف تتفاوت أسانيدها قوة وضُعفاً، ومع أنَّ أسانيد بعضها قوية جداً فنحن لا نملك اليوم شيئاً محسُوساً من آثارها ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 171. (¬2) ومما يستأنس به على إجازة النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أخريات حياته بالكتابة - بعد أنْ أمن اختلاط السُنَّةِ بالقرآن - أنه قُبيْلَ وفاته أراد أنْ يكتب للمسلمين كتاباً لا يضلُّون بعده، ولم يَرَ بأساً في ذلك. انظر تفصيل الخبر في " تاريخ الطبري ": 1/ 4 ص 1806 - 1807.

وإنْ كنا لا نرتاب في تحقيق كتابتها في حياته - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -، وفي تناقل الناس لها زمناً غير قليل بعد وفاته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ولحاقه بالرفيق الأعلى. روى الترمذي (¬1) أنَّ سعد بن عبادة الأنصاري كان يملك صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسُننه (¬2)، وكان ابن هذا الصحابي الجليل يروي من هذه الصحيفة (¬3). ويروي البخاري (¬4) أنَّ هذه الصحيفة كانت نُسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى (¬5) الذي كان يكتب الأحاديث بيده، وكان الناس يقرؤون عليه ما جمعه بخطه (¬6). ¬

_ (¬1) الترمذي: هو محمد بن عيسى بن سَوْرَة بن موسى بن الضحاك السُلَمِي - بضم السين نسبة إلى بني سُليْمٍ - صاحب السُنن الشهير، ويُسمَّى كتابه " الجامع الكبير " أَيْضًا. تُوُفِّيَ سَنَةَ 279 هـ وقيل سَنَةَ 275 هـ. ولنا إليه وإلى كتابه عودة عند الكلام على الحديث الحسن وعلى أهم كتب الرواية. (¬2) " سُنن الترمذي "، كتاب الأحكام، باب اليمين مع الشاهد (انظر " صحيفة همام ": ص 16) وقارن بـ Goldziher, Etudes sur la Tradition Islamique, p. 11. ويؤكِّدُ الأستاذ عبد الصمد صارم في كتابه بالهندية " عرض الأنوار " المعروف بـ " تاريخ القرآن " طبع دهلي سَنَةَ 1359 هـ ص 137 وما بعدها أنه رأى ذكر كتاب سعد بن عُبادة في " مسند أحمد " راجع " صحيفة همام ": ص 17. وجدير بالذكر انَّ ابن حجر في " تهذيب التهذيب ": 3/ 457 رقم 883 يجزم بأن سعد بن عُبادَةَ كان من «كُتَّابِ الجَاهِلِيَّةِ». وقد توفي سعد في حُوران نحو سَنَةِ 15 هـ. (¬3) " صحيفة همام ": ص 16 نقلاً عن مناظر أحسن كيلاني في كتابه " تدوين حديث " باللغة الهندية. (¬4) سنعرض لترجمة الإمام البخاري في الفصل المناسب عند الحديث عن أهم كتب الرواية. (¬5) " صحيح البخاري "، كتاب الجهاد، باب الصبر على القتال، ذكره محمد زبير الصديقي في كتابه " السير الحثيث في تاريخ تدوين الحديث ": ص 9. (¬6) كما في عدة أبواب من " صحيح البخاري "، ويظهر ذلك بوضوح في الرواية =

وسمُرة بن جندب (- 60 هـ) كان قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة ورثها ابنه سليمان ورواها عنه (¬1)، وهي - على ما يظن - الرسالة التي بعثها سمُرة إلى بنيه (¬2)، وهي التي يقول فيها ابن سيرين (¬3): «فِي رِسَالَةِ سَمُرَةَ إِلَى بَنِيهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ» (¬4). ¬

_ = التالية عن موسى بن عُقبة صاحب " المغازي ": «عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، وكان كاتباً له، أنَّ عبد الله بن أبي أوفى كتب فقرأته - وفي رواية - كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية فقرأته. فإذا فيه أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: " أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ. فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الاَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ "»، راجع " صحيح البخاري "، باب لا تتمنوا لقاء العدو، وباب إذا لم يقاتل أول النهار، وباب الصبر على القتال. (¬1) " تهذيب التهذيب ": 4/ 198. (¬2) قارن بـ Tradition Islamique, p. 11 (¬3) هو محمد بن سيرين البصري، يُكنَّى أبا بكر. كان إمام عصره في علوم الدين بالبصرة. تُوُفِّيَ سَنَةَ 110 هـ (تهذيب التهذيب: 9/ 214). (¬4) " تهذيب التهذيب ": 4/ 236 رقم 402، والمعروف عن محمد بن سيرين أنه كان يكره كتابة العلم، فقد تحدَّثَ عن وجهة نظر الناهين عن الكتابة فقال: «وكانوا يرون أنَّ بني إسرائيل إنما ضلُّوا بكتب ورثوها» " تقييد العلم ": ص 61 وقال يوماً لعبيدة: «اكتب منك ما أسمع؟ قال: لا، قال: وجدت كتاباً أنظر فيه؟ قال: لا» (انظر " تقييد العلم ": ص 45 وقارن بـ " سنن الدارمي ": 1/ 121) وانظر عن كراهته الكتابة بصورة عامة (" علل الحديث " لابن حنبل: ورقة 6 الوجه الأول، مخطوطة الظاهرية، مجموع 40 و " المحدث الفاصل ": 4 الورقة 5 الوجه الأول و " طبقات ابن سعد ": 7/ 1 ص 141). ولكن ابن سيرين «لم ير بأساً، إذا سمع الرجل الحديث، أنْ يكتبه، فإذا حفظه محاه» كما روى عنه يحيى بن عتيق في " تقييد العلم ": ص 60 وحماد بن زيد في " المحدث الفاصل ": 4 الورقة 5 الوجه الثاني. ولعلَّهُ بدأ أمره يكتب أو يقرأ من الكتب، ولذلك عرف مضمون رسالة سَمُرَةَ إلى بنيه، وقدر ما فيها من العلم الكثير.

وكان لجابر بن عبد الله (- 78 هـ) صحيفة أَيْضًا (¬1)، ويرى مسلم (¬2) في " صحيحه " أنها في مناسك الحج (¬3)، ويحتمل أنْ يكون في بعض أحاديثها ذكر حجَّة الوداع التي ألقى فيها الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبته الجامعة، ويوشك هذا الاحتمال أنْ يصبح يقيناً إذا عرفنا أنَّ التابعي الجليل قتادة بن دعامة السَدُوسي (- 118 هـ) كان يُكْبِرُ من قيمة هذه الصحيفة ويقول: «لأَنَا بِصَحِيفَةِ جَابِرٍ أَحْفَظ مِنِّي مَن سُورَة البَقَرَةِ» (¬4) ولا يبعد أنْ تكون الأحاديث التي رواها سليمان بن قيس اليشكري (¬5) - وهو أحد تلامذة جابر - منقولة عن هاتيك الصحيفة (¬6). وجدير بنا أنْ نُقِيمَ وَزْنًا للرواية التي تُصوِّرُ لنا وهب بن منبه (- 114 هـ) يروي أحاديث جابر من إملائه (¬7) حين يعقد جابر حلقة في المسجد النبوي، فيحتمل أنْ تكون هذه الأحاديث منقولة من صحيفة جابر أَيْضًا. وأقل ما يستنتج من هذا أَنَّ تلك الصحيفة كانت معروفة مشهورة بين الناس، وأنَّ من الممكن أَنْ يكون بعض تلامذة جابر قَدْ نَسَخُوهَا (¬8) وإنْ كنا لا نملك أَثَرًا مَحْسُوسًا مِنْ نَسْخِهِمْ. ¬

_ (¬1) " طبقات ابن سعد ": 5/ 344، و" تذكرة الحُفاظ ": 1/ 110. (¬2) سَتَرِدُ ترجمة الإمام مسلم في فصل «أَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ». (¬3) " صحيفة همام ": ص 14. (¬4) " التاريخ الكبير " للبخاري: 4/ 182 ط. الهند. (¬5) ولا ريب أنَّ سليمان اليشكري كان يكتب الحديث، فحين قَالَ أَبُو بِشْرٍ لأَبِي سُفْيَانَ: «مَالِي لاَ أَرَاكَ تُحَدِّثُ كَمَا يُحَدِّثُ سُلَيْمَانُ اليَشْكُرِيُّ؟»، قَالَ أَبُو سُفْيَانُ: «إِنَّ سُلَيْمَانَ [اليَشْكُرِيُّ] كَانَ يَكْتُبُ وَلَمْ أَكُنْ أَكْتُبُ» " تقييد العلم ": ص 108. (¬6) " تهذيب التهذيب ": 4/ 215 رقم 369. (¬7) " تهذيب التهذيب " أَيْضًا، ترجمة وهب بن منبه. وانظر " صحيفة همام ": ص 14. (¬8) ومن تلامذة جابر من كبار التابعين محمد بن الحنفية (- 80) ومحمد بن علي =

ومن أشهر الصحفة المكتوبة في العصر النبوي «الصحيفة الصادقة» التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص (65) من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وقد اشتملت على ألف حديث كما يقول ابن الأثير (¬2)، وإذا لم تصل هذه الصحيفة - كما كتبها عبد الله بن عمرو بخطه فقد وصل إلينا محتواها، لأنها محفوظة في " مسند الإمام أحمد " (¬3) حتى ليصح أنَّ نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثتب كتابة الحديث على عهده - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -. ويزيدنا اطمئناناً إلى صحة هذه الوثيقة أنها كانت نتيجة طبيعية محتومة لفتوى النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله ¬

= أبو جعفر الباقر (- 114) وعبد الله بن محمد بن عقيل (ترجمته في " خلاصة التذهيب ") وكان هؤلاء الأعلام الثلاثة «ينطلقون إلى جابر، فيسألونه عن سُنن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعن صلاته، فيكتبون عنه ويتعلَّمُون». انظر " تقييد العلم ": ص 104 وقارن بـ " طبقات ابن سعد ": 5/ 344 و" المحديث الفاصل ": 4 ورقة 3 وجه 1. والسؤال الذي يجدر بنا أنْ نطرحه الآن بعد قراءة هذا النص: إذا كان هؤلاء الأعلام يكتبون عن جابر وَيَتَعَلَّمُونَ، أفلم يُفكِّرْ أحدٌ منهم بكتابة صحيفته عنه أو أحاديث منها؟ (¬1) قد صرَّحَ عبد الله بن عمرو بكتابة هذه الصحيفة بنفسه فقال: «الصادقة صحيفة كتبتُها من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» " تقييد العلم ": ص 84، وكان ابن عمرو يعظِّمُ أمر هذه الصحيفة ويقول: «مَا يُرَغِّبُنِي فِي الحَيَاةِ إِلاَّ خَصْلَتَانِ الصَّادِقَةُ وَالوَهْطُ، فَأَمَّا الصَّادِقَةُ فَصَحِيفَةٌ كَتَبْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الوَهْطُ فَأَرْضٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَمْرُو بْنُ العَاصِ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا».انظر " جامع بيان العلم ": 1/ 73 وقارن بـ " المحدث الفاصل " جـ 4 ورقة 2 وجه 2 و" سنن الدارمي ": 1/ 127. وتضعيف السيد رشيد رضا لهذا الحديث (في مجلة " المنار ": المجلد 10 ص 766) - لوجود الليث في إسناده - لا ينبغي أنْ يكون له أثر في إضعاف سائر الروايات التي تُصَوِّرُ عبد الله بن عمرو يعني بصحفته الصادقة عناية خاصة، ويعنى - بتعبير أدق - بكتابة ما كان يسمعه من الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فيها، فقد ثبتت هذه الفكرة في عدد من المصادر الموثوقة وقد أشرنا إلى أهمها. (¬2) ابن الأثير في " أُسْد الغابة " ترجمة عبد الله بن عمرو: 3/ 233. (¬3) انظر مسند عبد الله بن عمرو في " مسند الإمام أحمد ": 2/ 158 - 226.

ابن عمرو وإرشاده الحكيم له، فقد جاء عبد الله يستفتي رسول الله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في شأن الكتابة قائلاً أكتُبُ كلَّ ما أسمع؟ قال: «نَعَمْ»، قال: في الرضى والغضب؟ قال: «إِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَّا حَقًّا» (¬1). ويُخَيَّلُ إلينا أنه لا بُدَّ أنْ يكون عبد الله بن عمرو قد أخذ في كتابة الأحاديث بعد هذه الفتوى الصريحة من الرسول الكريم وتلك الصحيفة الصادقة كانت ثمرة هذه الفتوى. وآية اشتغال ابن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف أَيْضًا قول أبي هريرة الصحابي الجليل: «ما من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد أكثر حديثاً عنه مني إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب» (¬2). ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: 1/ 71 وانظر ما يقارب معناه في " مسند أحمد ": 2/ 207 و" تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 365 و" مستدرك الحاكم ": 1/ 105 و" الإلماع " ورقة 26 وجه 2 و" المحدث الفاصل ": 4 / ورقة 2 وجه 1. وفي بعض هذه الروايات أنَّ عبد الله بن عمرو كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهته قريش لأنه بشر يتكلَّمُ في الرضى والغضب، فأمسك عن الكتاب وذكر لرسول الله ذلك فأجابه بنحوه، وقال له: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ». (¬2) " تقييد العلم ": ص 82 وقارن بـ " جامع العلم ": 1/ 70 و " مسند أحمد ": 2/ 248 و" الإصابة ": 4/ 112 و " فتح الباري ": 1/ 184 ويُشير ابن حجر في (الفتح في الصفحة المذكورة) إلى معرفة عبد الله بن عمرو بالكتب، ومنها ما كان خاصاً بأهل الكتاب. ويظهر أنَّ بعض الطرق التي ورد بها الحديث لا تخلو من ضعف وعلة. ففي " علل الحديث " لابن حنبل، ورقة 6 وجه 1، ما يستنتج هذا الحديث برواية محمد بن إسحاق بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، غير أنَّ في سياق الخبر ما يوحي بأنَّ ابن علية لم يكن يتَّهم عمراً بالكذب، وإنما حمله على ذلك كراهيته لكتابة الحديث، فقد جاء في هذا السياق: «روى إسماعيل عن عمرو بن شعيب، ولكن كان مذهب محمد بن سيرين وأيوب وابن عون ألاَّ يكتبوا». وحسبنا أنَّ البخاري أورد هذا الحديث في " صحيحه " في «باب العلم».

وأكبر الظن أنَّ عمرو بن شعيب (- 120 هـ) - وهو حفيد عبد الله بن عمرو - إنما كان يروي فيما بعد من أحاديث هذه الصحيفة قارئاً أو حافظاً من أصلها (¬1). وقد أتيح للتابعي الجليل مجاهد بن جبر (- 103 هـ) أنْ يرى هذه الصحيفة عند صاحبها عبد الله بن عمرو (¬2). ولقد شاعت في عصر الصحابة صيحفة خطيرة الشأن أمر النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - نفسه بكتابتها في السنة الأولى للهجرة، فكانت أشبه شيء بـ «دستور» للدولة الفتية الناشئة آنذاك في المدينة: وهي الصحيفة التي دوَّن فيها كتاب رسول الله حقوق المهاجرين والأنصار واليهود وعرب المدينة. ولفظ الكتابة صريح في ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب ": 8/ 48 - 55 رقم 80 وقارن بـ " صحيفة همام ": ص 2 وبجولدتسيهر Tradition Islamique, p. 11 وجدير بالذكر أنه متى قيل: صحيفة عمرو بن شعيب فهي في الحقيقة صحيفة عبد الله بن عمرو يرويها عنه حفيده ابن شعيب. (¬2) " تهذيب التهذيب ": 8/ 54 و " المحدث الفاصل ": 4 ورقة 2 وجه 2 و" طبقات ابن سعد ": 2/ 2 ص 125 وكان عبد الله بن عمرو - لشدة حرصه على هذه الصحيفة - لا يسمح لأعزِّ الناس عليه بتناولها. ورؤية مجاهد لها لم تكن إلاَّ عرضاً فإنه قال: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَتَنَاوَلْتُ صَحِيفَةً مِنْ تَحْتِ مَفْرَشِهِ , فَمَنَعَنِي , قُلْتُ: مَا كُنْتَ تَمْنَعُنِي شَيْئًا , قَالَ: «هَذِهِ الصَّادِقَةُ , هَذِهِ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ ... » الخبر - " تقييد العلم ": ص 84. أما الصحيفة التي ألقاها عبد الله بن عمرو إلى أبي راشد الحبراني - وفيها الذكر الذي يدعو به المؤمن إذا أصبح وإذا أمسى - فيغلب على الظن أنها إحدى الصحف الكثيرة التي لم يكن ابن عمرو يمنعها الناس، فما هي بالصحيفة الصادقة ولا قطعة منها. واقرأ الخبر كله مع صيغة الدعاء المذكور في " تقييد العلم ": ص 85. وليس في وسعنا أنْ نقطع بوصف الطريقة التي كان ابن عمرو يُمْلِي بها أحاديثه على الناس، هل كان ذلك من حفظه أم كان ينظر في صحيفته الصادقة أو في أحد صحفه الأخرى الكثيرة. بَيْدَ أنَّ مما لا ريب فيه أنه كان يملي الحديث، وقد نقل عنه كتابان (انظر: " خطط المقريزي ": 2/ 332) بولاق سنة 1270.

مطلعها: «هذا كتاب محمد النَّبِي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمَّةٌ واحدة من دون الناس» (¬1). وقد تكرَّرت فيها عبارة (أهل هذه الصحيفة) خمس مرات، فلم يكن بُدّ من الاعتراف بكتابتها. ولقد بلغ من شهرة أمرها أنها أصبحت تقرن وحدها بكتاب الله لتواترها وكثرة ما فيها من أحكام الإسلام وكلياته الكبرى. ولعلَّ عليّ بن أبي طالب لم يكن يقصد سواها حين سُئِلَ: هل عندكم كتاب؟ فأجاب: لا، إلاَّ كتاب الله أو فهم أعطية رجل مسلم وما في هذه الصحيفة. فلما قيل له: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «الْعَقْلُ (¬2)، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» (¬3) وكانت هذه الأمور جزءاً مُهِمّاً مِمَّا اشتملت عليه الصحيفة المذكورة (¬4). وعبد الله بن عباس (- 69هـ) عني بكتابة الكثير من سُنَّةِ الرسول وسيرته في ألواح كان يحملها معه في مجالس العلم (¬5). ولقد تواتر أنه ترك حين وفاته حِمْل بعير من كتبه (¬6). وكان تلميذه سعيد بن جُبير (- 95 هـ) يكتب عنه ما يُملي عليه، فإذا نفد القرطاس كتب على لباسه ونعله وربما على كَفِّهِ ثم نسخه ¬

_ (¬1) الرواية هنا عن أبي عُبيد وابن هشام. راجع " الوثائق السياسية في العهد النبوي " للدكتور محمد حميد الله رقم 1. (¬2) يُراد بالعقل هنا المعاقل والديات. (¬3) " فتح الباري": 1/ 182 «باب كتابة العلم» وراجع أَيْضًا «باب فكاك الأسير». (¬4) لأنَّ أكثر ما ورد في هذه الصحيفة يتعلق بالمعاقل والديات. ويحسن مراجعتها في " الوثائق السياسية " لحميد الله رقم 1. (¬5) " طبقات ابن سعد ": 2/ 2 ص 123 وقارن بما ذكره محمد زبير الصديقي في " السير الحثيث: ص 9 نقلاً عن كتاب " العلل " للترمذي. (¬6) انظر " طبقات ابن سعد ": 5/ 216 و" تقييد العلم ": ص 136 و" شذرات الذهب ": 1/ 114.

صحيفة أبي هريرة لهمام بن منبه:

في الصحف عند عودته إلى بيته (¬1). ولا ريب أنَّ صحف ابن عباس ظلت معروفة متداولة مدة طويلة من الزمن، فقد ورثها ابنه عليٌّ (¬2)، وتعاقب الناس على الرواية منها والأخذ عنها حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته. ولكننا - مع ذلك - لا نستطيع تحديد الزمن الذي تلفت فيه تلك الصحف ولا الصورة التي تلفت عليها (¬3). صَحِيفَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَمَّامٍ بْنِ مُنَبِّهٍ: وكذلك تلفت الصحف الكثيرة التي جمعها الصحابي الجليل أبو هريرة (- 58 هـ) (¬4) إلاَّ صحيفة واحدة رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه (¬5) المتوفَّى سَنَةَ 101 هـ (¬6) ثم نسبت إليه فقيل: صحيفة همام وهي في الحقيقة ¬

_ (¬1) كما في " سنن الدارمي ": 1/ 128 و" ابن سعد ": 6/ 179. (¬2) " طبقات ابن سعد ": 5/ 216 «وكان عليّ بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إلى كُريب: ابعث إليَّ بصحيفة كذا وكذا، فينسخها ويبعث بها» " تقييد العلم ": ص 136. (¬3) ومن المؤسف أنَّ ورع بعض الصحابة كان يحملهم على إتلاف ما كتبوه من الأحاديث لأنفسهم مخافة أنْ تكون الذاكرة قد خانتهم فلم يوردوه بلفظ بينهم: ففي " طبقات الحفاظ ": 1/ 5 أنَّ أبا بكر الصدِّيق جمع أحاديث النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب فبلغ عددها خمسمائة حديث، ثم أتلفه مخافة أنْ يكون كتب شيئاً لم يحفظه جيِّداً. (¬4) انظر ترجمته في " تهذيب التهذيب ": 12/ 265 رقم 1216وكانت صحفه كثيرة جداً. وقد رآها ابن وهب (" فتح الباري ": 1/ 184) وعمرو بن أمية الضمري (" جامع بيان العلم ": 1/ 74). (¬5) ومن أوهام «بروكلمان» أنه نسب هذه الصحيفة إلى همام بن منده المتوفى سنة 151 هـ ولم يُصَحِّحْ ذلك في الطبعة الثانية ولا الذيل، انظر: Brockelmann, Geschischte des Arab. Litter, 1, 354. (¬6) آثرنا بما في " طبقات ابن سعد ": 5/ 396 لتحديد وفاة همام، لأنَّ هذه =

صحيفة أبي هريرة لهمام. ولا يمكننا أنْ نسلك هذه الصحيفة في عداد ما كتب في العصر النبوي، لأنَّ هماماً ولد قبيل سنة 40 وتوفي شيخه أبو هريرة سنة 58، فلا بدَّ أنْ يكون تدوينه لهذه الصحيفة قبل وفاة شيخه - لأنها سماعه منه بعد مجالسته إياه - أي في منتصف القرن الهجري الأول، وتلك نتيجة علمية باهرة تقطع بتدوين الحديث في عصر مُبكِّرٍ، وتُصَحِّحُ الخطأ الشائع: أنَّ الحديث لم يُدَوَّنْ إلاَّ في أوائل القرن الهجري الثاني. وإنما كانت لهذه الصحيفة مكانة خاصة في تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودوَّنها همام عن أبي هريرة، فكانت جديرة باسم «الصحيفة الصحيحة» (¬1) على مثال «الصحيفة الصادقة» لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد سبقت الإشارة إليها. وعثر على هذه الصحيفة الباحث المُحَقِّق الدكتور محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين (¬2)، وزادنا ثقة بما جاء فيها أنها برُمَّتِها ماثلة في " مسند أحمد " (¬3)، وأنَّ كَثِيرًا من أحاديثها مروي في " صحيح البخاري " في أبواب مختلفة (¬4)، وتعداد هذه الصحيفة 138 حديثاً (¬5) ¬

_ = الطبقات هي أقدم المصادر. وعند ابن حجر والنووي وسواهما توفي همام سَنَةَ 131 هـ، ولعله تصحيف لقول ابن سعد (مات سَنَةَ إحدى أو اثنتين ومائة) وانظر التصحيحات الملحقة بـ " صحيفة همام ": ص 2. (¬1) كما في " كشف الظنون ". (¬2) انظر وصف المخطوطتين في " صحيفة همام ": ص 21 - 22. (¬3) " مسند أحمد ": 2/ 312 - 319. (¬4) " صحيح البخاري ": ط. مصر سنة 1313 جـ 1 ص 34، 39، 56، 64، 91، جـ 4 ص 56، 63، 86 ومواضيع أخرى أَيْضًا. (¬5) وهذا التعداد أَيْضًا يحقق نسبة هذه الصحيفة إلى همام من ناحية، وتداولها بين =

موقف المستشرقين من تدوين الحديث:

ولدينا من الأخبار مَا يُؤَكِّدُ وُلُوعَ هَمَّامٍ بِالكُتُبِ وَاقْتِنَائِهَا وَإِمْلاَئِهَا، فَقَدْ كَانَ «يَشْتَرِي الكُتُبَ لأَخِيهِ وَهْبٌ» (¬1) وكان يخرج إلى الناس الكتب والكراريس فَيُمْلِي منها الأحاديث (¬2). مَوْقِفُ المُسْتَشْرِقِينَ مِنْ تَدْوِينِ الحَدِيثِ: ليس علينا إذن أنْ ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى - كما هو الشائع - بشيء اسمه تدوين الحديث أو محاولة لتدوينه. وليس علينا أنْ ننتظر العصر الحاضر لنعترف بتدوين الحديث في عصر مُبَكِّرٍ جرياً وراء بعض المستشرقين كجولدتسيهر Goldziher وشبرنجر Springer، لأنَّ كتبنا وأخبارنا ووثائقنا التاريخية لا تدع مجالاً للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النَّبِي نفسه وليس على رأس المائة الثانية للهجرة كما يمنُّ علينا هذان المستشرقان، وهي تنطق - فوق ذلك - بصدق جميع الوقائع والأقوال والسير والتصرفات التي تنطوي عليها الأحاديث الصحاح والحسان في كتب السُنَّة جميعاً لا في بعضها دون بعض كما يظن دوزي Dozy. إنَّ هؤلاء المستشرقين لم تجشَّمُوا جمع الأدلة والبراهين على إثبات تدوين السُنَّة لإسداء خدماتهم الخاصة إلينا أدبنا وشريعتنا، بل لهم أغراض ¬

_ = الناس من ناحية ثانية، لأنه التعداد المحفوظ في الكتب الموثوقة. فقد جاء في " تهذيب التهذيب ": 11/ 67 رقم 106: «فجالس - أي همام - أبا هريرة فسمع منه أحاديث وهي نحو من أربعين ومائة حديث بإسناد واحد». (¬1) " تهذيب التهذيب ": 11/ 67 رقم 106. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي: جـ 8 وقة 112.

إليها يهدفون، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. أما جولدتسيهر فعقد فصلاً خاصاً لكتابة الحديث في أبحاثه Muhammedanische Studien التي ترجم المجلد الثاني منها إلى الفرنسية (¬1). وفي هذا الفصل ( p. 241 - 250) أتى بأدلة كثيرة على تدوين الحديث في أول االقرن الهجري الثاني، وكان في الفصل الأول من الكتاب نفسه ( p. 10 - 12) قد سرد طائفة من الأخبار تشير إلى بعض الصحف التي دوَّنت في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه أحاطها بكثير من التشكك في أمرها، والريبة في صحتها. وقد رمى بهذا إلى غرضين، أحدهما إضعاف الثقة باستظهار السُنَّة وحفظها في الصدور، لتعويل الناس في القرن الهجري الثاني على الكتابة، والآخر وصم السُنَّة كلها بالاختلاق، والوضع على ألسنة المدونين لها الذين لم يجمعوا منها إلاَّ ما يوافق أهواءهم ويعبر عن آرائهم ووجهات نظرهم في الحياة. لذلك أطلنا الحديث عن الصحف المكتوبة في عهده - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لنضع بين يدي القارئ الأسانيد التاريخية الموثوقة التي تثبت بدء الشروع في كتابة الأحاديث في حياته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وتؤكِّدَ تسلسل الرواية حفظاً وضبطاً في الوقت نفسه. وشبرنجر في كتابه " الحديث عند العرب " (¬2) يحاول تفنيد المعتقد الخاطئ عن وصول السُنَّة بطريق المشافهة وحدها، ويجمع الكثير من الأدلَّة على تدوين الأحاديث والتعويل على هذا التدوين في عصر مبكِّرٍ يبدأ أَيْضًا في مطلع القرن ¬

_ (¬1) ترجمها Leon Bercher سنة 1952 م بعنوان: Etudes sur la Tradition Islamique, Maisonneuve, Paris. (¬2) Springer, das Traditionsvesen beiden Arabern, 1856, 1 - 17 dans Uber das Traditionsvesen beiden Arabern

الهجري الثاني وليس في حياة الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. وغايته لا تختلف في شيء عن غاية جولدتسيهر. وأما دوزي فَلَعَلَّهُ يخدع برأيه المعتدل كَثِيرًا من علمائنا فضلاً عن أوساط المُتعلِّمِينَ فينا، فقد كان هذا المستشرق يعترف بصحة قسم كبير من السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ التي حفظت في الصدور وَدُوِّنَتْ في الكتب بدقة بالغة وعناية لا نظير لها «وما كان يعجب لكثير من الموضوعات والمكذوبات تَتَخَلَّلُ كُتُبَ الحديث - فتلك كما يقول طبيعة الأشياء نفسها - بل للكثير من الروايات الصحيحة الموثوقة التي لا يرقى إليها الشك (ونصف " صحيح البخاري " على الأقل جدير بهذا الوصف عند أشد المُحَدِّثِينَ غُلُوًّا في النقد) مع أنها تشتمل على أمور كثيرة يَوَدُّ المؤمن الصادق لو لم ترد فيها» (¬1). فلم يكن غرض هذا المستشرق خَالِصًا للعلم والبحث المُجَرَّدِ حين مال إلى الاعتراف بصحة ذلك النصيب الكبير من السُنَّةِ، وإنما كان يُفكِّرُ أَوَّلاً وَآخِرًا بما اشتملت عليه هذه السُنَّةُ الصَّحِيحَةُ، من نظرات مُسْتَقِلَّةٍ في الكون والحياة والإنسان، وهي نظرات لا يدرأ عنها استقلالها النقد والتجريح لأنها لم تنبثق من العقل الغربي المعجز، ولم تُصَوِّرْ حياة الغرب الطليقة من كل قيد! لن نكون عالة على هؤلاء المستشرقين في تحقيق شيء يتعلق بماضي ثقافتنا ¬

_ (¬1) عِبَارَةُ دُوزِي فِي الأَصْلِ أَوْقَحُ مِنْ أَنْ نُورِدَهَا عَلَى حَالِهَا. وَمَنْ رَغِبَ فِي الاطِّلاَعِ عَلَى آرَاءِ هَؤُلاَءِ النَّاسِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ: Dozy, Essai sur L'Histoire de l'Islamisme, traduit par V.Chauvin, p. 124.

وستكون منهم على حذر في كل ما يؤرِّخُونه لحضارتنا - فما انتظرنا اعترافاتهم بتدوين الحديث، وما خفيت علينا الغاية من هذه الاعترافات، وسواء علينا أأقرُّوا أم جحدوا، فإنَّ رب الدار أدرى بالذي فيها، وإنَّ كتبنا الأمينة الموثوقة نطقت بوجود صحف مكتوبة في الحديث على عهده - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وما يدرينا لعل جميع هذه الصحف ماثلة في كتب المسانيد في بطون مخطوطات الحديث المبثوثة في مكتبات العالم كما مثلت في " مسند ابن حنبل " صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص وصحيفة أبي هريرة لهمام!. ومن الآراء التي تَخَبَّطََ فيها المستشرقون على غير هدى من منطق سليم أو نقل صحيح أنَّ الأحاديث الواردة في شأن تدوين العلم حثاً عليه أو نهياً عنه إنما كانت أثراً من آثار تسابق أهل الحديث في جانب آخر إلى وضع الأقوال المؤيِّدة لنزعتَيْهِم المُتباينتين. فأهل الحديث ينزعون إلى جواز تقييد السُنَّة ليكون مستنداً بين أيديهم لصحتها والاحتجاج بها، وأهل الرأي - على العكس - ينزعون إلى النهي عن الكتابة وإثبات عدم تقييد العلم تمهيداً لإنكار صحته وإنكار الاحتجاج به (¬1). وقد توَلَّى كِبْرَ هذا الضلال العلمي جولدتسيهر Goldziher بعد اطلاعه على مقال في «نشأة ¬

_ (¬1) Goldziher, Etudes sur la Tradition Islamique, p. 245 - 250. وقارن أَيْضًا بما كتبته الباحثة روث مكنسون متأثرة فيه برأي جولدتسيهر في مقالاتها: Ruth Mackenson, Arabic books and librairies in the Omayad period (in AJSL, vol. L. II-LIV, 245 - 253; vol. L. III, 239 - 249 ; vol. L IV 41 - 61) .

الكتابة وتطورها» لسلفه المستشرق شبرنجر Springer (¬1) الذي اكتشف سنة 1855 م كتاب " تقييد العلم " للخطيب البغدادي. غير أنَّ منهج المستشرقين يختلف اختلافاً جوهرياً في هذا الموضوع. أما شبرنجر فقد استنتج من نشأة الكتابة عند العرب ومن خلال النصوص الواردة في الكتاب المذكور أنَّ الحديث لا بُدَّ أنْ يكون دُوِّنَ منه الكثير في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان هذا ما يعنيه أولاً وبالذات. وأما جولدتسيهر فقد ارتاب في صحة جميع تلك النصوص، ورأى أنَّ بعضها وضعه أهل الحديث، وبعضها الآخر وضعه أهل الرأي. وقد قيَّضَ الله لهذا الكتاب أنْ يُنشَرَ في دمشق نشراً علمياً دقيقاً، وإذا بناشره المُحقِّق الدكتور يوسف العش يورد في مقدمته براهين لا تحتمل النقاش على خطأ جولدتسيهر في رأيه، إذ أثبت أنَّ النزاع حول جواز الكتابة أو المنع منها لم يكن ضرباً من التسابق بين أهل الحديث وأهل الرأي «لأنَّ من أهل الرأي من امتنع عن الكتابة كعيسى بن يونس (- 187 هـ) وحماد بن زيد (- 179 هـ) وعبد الله بن إدريس (- 192 هـ) وسفيان الثوري (- 161 هـ) وبينهم من أقرَّها كحماد بن سَلَمَة (- 167 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) وزائدة بن قدامة (- 161 هـ) ويحيى بن الليمان (- 189 هـ) وغيرهم. ومن المُحَدِّثِينَ من كره الكتابة كابن عُلية (- 200 هـ) وهُشيم بن بشير (- 183 هـ) وعاصم بن ¬

_ (¬1) Springer, Origin and progress of writing,in the journal of the Asiatic society of Bengal, xxv, 303 - 329.

ضمرة (- 174 هـ) وغيرهم. ومنهم من أجازها كبقية الكلاعي (- 197 هـ) وعكرمة بن عمار (- 159 هـ) ومالك بن أنس (- 179 هـ) وغيرهم» (¬1). ووفق الدكتور العش في تفسيره تطور موقف الصدر الأول من تقييد العلم محبة وبُغضاً، إلاَّ أنه يتفق وتطور الحياة الإسلامية السياسية والاجتماعية، ولسنا نشاطره رأيه في إيجاب هذا التقسيم، لأنه في ذاته مجرَّد اقتراح أو اصطلاح، فقد جعل الأجيال أربعة وحدَّدَ لكل جيل أربعين سنة (¬2)، وربما كان هذا التحديد «يوافق المدة التي يستطيع أنْ ينقطع فيها العالم في حقل العلم، ويوافق طبقات العلماء ونقل بعضهم عن بعض» (¬3)، ولكنه - على كل حال - تحديد زمني محصور في نطاق الزمن وحده، فأقل ما يفترض فيه الدقة التامة - وهي غير ميسَّرة - فقد تخالف وفيات بعض الرُواة هذا التحديد الزمني في قليل أو كثير فلا يسلم القول بهذا التقسيم. ويبدو لنا أنه ما يزال في وسعنا الاستفادة من ¬

_ (¬1) " تقييد العلم " للخطيب البغدادي. مقدمة الناشر: ص 21 - 22. (¬2) وإليك هذه الأجيال الأربعة كما أوردها الدكتور العش في مقدمة " تقييد العلم ": ص 17. 1 - عهد الرسول والصحابة الأولين، وينتهي حوالي سنة 40 هـ بوفاة آخر الخلفاء الراشدين. 2 - عند التابعين المتأخِّرين وينتهي حوالي سنة 80 في أواخر عهد عبد الملك بن مروان. 3 - عهد التابعين المتأخرين وينتهي حوالي سنة 120 في أواخر خلافة هشام بن عبد الملك. 4 - عهد الخالفين وينتهي حوالي سنة 160. (¬3) " تقييد العلم ". مقدمة الناشر: ص 17.

عصر الخلفاء الراشدين:

تقسيمات القدامى مع اعتبار الأطوار الاجتماعية التي تعاقبت على طبقاتهم المعروفة المشهورة، فجعلتهم يقفون من تقييد العلم مواقف متباينة، يؤيِّدُون الكتابة تارة ويكرهونها تارة أخرى. فهناك الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، ولقد رأينا أنَّ الكتابة كانت أمراً واقعاً في عهد الصحابة، في حياته - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -، ولكنها لم تكن كثيرة، فالصحف التي وصفها - مهما نطل الحديث عنها - كانت قليلة، وقد علَّلْنا تلك القلَّة تعليلاً مناسباً. وكان يعنينا شيء واحد هو إثبات خطأ الاعتقاد بتناقل الحديث عن طريق الحفظ وحده. عَصْرُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: حتى إذا كان عهد الخلفاء الراشدين لم يتغيَّر الحال كَثِيرًا، فقد كانت آراء هؤلاء الخلفاء في التشدُّدِ في الرواية والتورع عن الكتابة امتداداً لآراء إخوانهم الصحابة في عصر الرسول، فهذا أبو بكر يجمع بعض الأحاديث ثم يحرقها (¬1)، وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أنْ يعدل عن كتابة السُنن بعد أنْ عزم على تدوينها. وعن عُروة بن الزبير أنَّ عمر بن الخطاب أراد أنْ يكتب السُنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأشار عليه عامتهم بذلك فلبث عمر شهراً يستخير الله في ذلك شاكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السُنن ما قد علمتم. ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم، قد كتبوا مع كتاب الله ¬

_ (¬1) " تذكرة الحُفاظ ": 1/ 5.

كُتُباً، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألْبس كتاب الله بشيء أبداً، فترك كتاب السُنن» (¬1). والخلفاء الراشدون لم يتشدَّدُوا في أمر الكتابة وحدها، بل بلغ بهم الورع أنْ راحوا يتشدّدُون حتى في الرواية، فلم يعط أبو بكر الجدَّةَ سُدُسَ الميراث إلاَّ بعد أنْ شهد المغيرة بن شُعبة ومحمد بن مسلمة أنَّ الرسول أعطاها السُدُس (¬2)، ولم يتساهل عمر مع أبي موسى الأشعري حين روى حديث الاستئذان، بل هدّدَهُ بتغزيره إنْ لم يشهد أحد من الصحابة على صحة سماعه، وقال له: «أقم عليه البيِّنَةَ وإلاَّ أوجعتك» (¬3). فإذا رأينا كلاً من أبي بكر وعمر - بعد هذا - يكتبان الحديث أو ينصحان بكتابته (¬4)، وأنَّ كَثِيرًا من كبار الصحابة في عصرهما كانوا كذلك ينصحون بالكتابة ويأمرون بها أمراً صريحاً، أدركنا علة ذلك التشدُّدِ الذي وصفناه قبل، وثبت لنا - كما قال إسماعيل بن إبراهيم بن عُلية البصري (- 200 هـ) - ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 50 وانظر ما يقاربه في " جامع بيان العلم ": 1/ 64 و" طبقات ابن سعد ": 3/ 1 ص 206 و" كنز العمال " للمتقي الهندي: 5/ 239. (¬2) " المختصر في علم رجال الأثر " لعبد الوهاب عبد اللطيف: ص 79. (¬3) " صحيح مسلم ": 6/ 177 وقد شهد له أبو سعيد الخُدري بصحة سماعه. (¬4) انظر مثلاً في المخطوطة (جمع الجوامع للسيوطي - الظاهرية حديث 196) الوجه الثاني من الورقة 108 كيف أن أبا بكر كتب لأنس كتاباً فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، وراجع في مستدرك الحاكم 1/ 106 وجامع بيان العلم 1/ 72 والمحدث الفاصل للرامهرمزي - مخطوطة الظاهرية حديث 400 قول عمر بن الخطاب "قيدوا العلم بالكتاب". وكذلك علي بن أبي طالب حض على كتابة العلم، وشاعت عنه العبارة التي يرددها كثير من الصحابة "قيدوا العلم بالكتاب" انظر تقييد العلم ص 90 ومعادن الجوهر للأمين العاملي 1/ 3 دمشق 1347. ُ

عصر التابعين وتابعيهم:

أنَّ الصحابة «إِنَّمَا كَرِهُوَا الكِتَابَةَ، لأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اتَّخَذُوا الكُتُبَ فَأُعْجِبُوا بِهَا فَكَانُوا يَكْرَهُوَنَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهَا عَنِ الْقُرْآنِ» (¬1) وكما قال الخطيب البغدادي: «إِنَّ كَرَاهَةَ مَنْ كَرِهَ الكِتَابَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ، إِنَّمَا هِيَ لِئَلاَّ يُضَاهِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرَهُ، أَوْ يُشْتَغَلَ عَنْ القُرْآنِ بِسِوَاهُ» (¬2). عَصْرُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ: وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أنْ نجد كَثِيرًا منهم يتساهلون في أمرها، أو يرخِّصُون بها، أو يحُضُّون عليها، ونجدها أصبحت أمراً «رَسْمِيًّا» في عصر أوساطهم، فيُخَيَّلُ إلينا أنَّ التضارب قائم في هذه الروايات، وأنه لا يمكن أنْ يستنتج منها حكم تاريخي موثوق. ولكن الموضوع أهون من هذا، فإنَّ الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الحميع قولاً واحداً، وأخذوا به وأجمعوا عليه: وهو جواز كتابة العلم، بل إيثار تقييده والتشجيع عليه. ففي عصر كبار التابعين حتى آخر المائة الأولى امتنع كثيرون عن الإكتاب: منهم عُبيدة بن عمرو السلماني المرادي (- 72 هـ) وإبراهيم بن يزيد التيمي ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 57 وقارن بـ " تذكرة الحفاظ ": 1/ 296. (¬2) " تقييد العلم ": ص 57.

(- 92 هـ) وجابر بن زيد (- 93 هـ) وإبراهيم بن يزيد النخعي (- 96 هـ) وهم قوم لما يجدوا الضرورة الملجئة إلى الإكتاب بل ما تزال الأخبار عن الخلفاء الراشدين وكراهتهم الكتابة قريبة عهد منهم، شديد الشيوع في عصرهم، توحي بالكثير من ورع هؤلاء السادة الأخيار، فلا غرو أن يتأسَّوْا بهم ويقولوا بقولهم. ولا عجب أنْ يعد الواحد منهم تخليد كتاب عنه خطأ وإثماً: ولذلك قال عُبيدة لإبراهيم: «لاَ تُخَلِّدَنَّ عَنِّي كِتَابًا» حين علم أنه يكتب عنده (¬1). وإذا بإبراهيم يقف عند هذه الوصية ويقول بعدها: «مَا كَتَبْتُ شَيْئًا قَطُّ» (¬2). ومما زاد في كراهة القوم للكتابة أنَّ آراءهم الشخصية بدأت تشتهر، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الأحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء. ولدينا من الأخبار ما يؤكد هذا ويثبته، ولعل من أوضحه في عصر كبار التابعين ما رَوَوْا من أنه قيل لجابر بن زيد (- 93 هـ): إنهم يكتبون رأيك، فقال مستنكرًا: «يَكْتُبُونَ مَا عَسَى أَنْ أَرْجِعَ عَنْهُ غَدًا؟!» (¬3). واستنكار هؤلاء جميعاً الكتابة عنهم يعني من طريق غير مباشر أنَّ في ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم ": 1/ 67 و " تقييد العلم ": ص 46 وعُبيدة هو الذي ورد اسمه آنفاً (عُبيدة بن عمرو السلماني المُرادي) وقد دعا عُبيدة بكتبه عند موته فمحاها وقال: «أخشى أنْ يليها أحد بعدي، فيضعوها في غير موضعها» " طبقات ابن سعد ": 6/ 63. وفي " جامع بيان العلم ": 1/ 67 ما يقاربه. أما إبراهيم فهو ابن يزيد النخعي. وانظر في كراهة إبراهيم التيمي للكتابة " سنن الدارمي ": 1/ 122 في كراهة جابر بن زيد لها " جامع بيان العلم ": 2/ 31. (¬2) " تقييد العلم ": ص 60. (¬3) " جامع بيان العلم ": 2/ 31 وراجع ما يقوله بهذا الصدد الدكتور يوسف العش في مقدمة نشره لـ " تقييد العلم ": ص 20.

القوم من بدأ يستسيغ التدوين. ولا سيما حين يكون مُجرَّدًا من الآراء الشخصية مقتصرًا على الأحاديث نفسها، لأنَّ محاولات الكتابة هي التي حملت هؤلاء العلماء على استنكارها، فهم لم يستنكروها نظريًا من حيث المبدأ بل تشدَّدُوا في أمرها عمليًا عند التطبيق. فلا يدهشنا بعد ذلك أنْ نجد لسعيد بن جُبير (- 95 هـ) نقلين في شأن الكتابة يوهمان التضارب ولا تضارب، فهو تارة ينقل عن ابن عباس أنه كان ينهى عن كتابة العلم وأنه قال: «إِنَّمَا أَضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمُ الكَتْبُ» (¬1) وتارة ينقل عنه أنه قال: «خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ» (¬2): فالنهي ينصرف إلى ما تشتمل عليه الكتب من آراء خاصة. والنصيحة بالكتابة تنصرف إلى العلم بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك لم يكتف سعيد بن جبير بالكتابة بل بالغ في الحرص عليها فقال: «كُنْتُ أَسِيرُ بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ الحَدِيثَ مِنْهُمَا، فَأكْتُبُهُ عَلَى وَاسِطَةِ الرَّحْلِ حَتَّى أَنْزِلَ فَأَكْتُبَهُ» (¬3). ولما بدأ الناس يفرِّقُون بين فكرة النهي عن كتابة الأحاديث وفكرة النهي عن كتابة الآراء الشخصية، أصبح كثير من أوساط التابعين في أول المائة الثانية لا يرون بأساً في تقييد العلم، ويرخصون لتلامذتهم بتقييده، كما رخص سعيد بن المسيب (- 105 هـ) لعبد الرحمن بن حرملة بذلك حين شكا إليه سوء ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 43 وفي معناه ما جاء في " جامع بيان العلم ": 1/ 65. (¬2) " تقييد العلم ": ص 92. (¬3) " تقييد العلم ": ص 103 وانظر ما يقاربه في " جامع بيان العلم ": 1/ 72. وعلى هذا الأساس، يمكننا التوفيق بين قول كثير بن أفلح (- 63 هـ): «كنا نكتب عند زيد بن ثابت» - " تقييد العلم ": ص 102 وبين ما علمناه من رواية زيد بن ثابت حديث النهي عن الكتابة (راجع ما سبق أنْ ذكرناه في أول البحث).

الحفظ (¬1). وراح الشعبي (- 104 هـ) يُرَدِّدُ العبارة المشهورة التي كانت صدى لحديث مرفوع إلى الرسول تناقله الصحابة والتابعون: «الكِتَابُ قَيْدُ العِلْمِ» (¬2). وينبه على فائدة الكتابة فيقول: «إِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي، شَيْئًا فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ فِي حَائِطٍ» (¬3)، ويظهر أنه كتب بنفسه بعض العلم فقد وجدوا له بعد موته كتاباً في الفرائض والجراحات (¬4). أما مجاهد بن جبر المكي (- 103 هـ) فكان يصعد بالناس إلى غرفته فَيُخْرِجُ إليهم كُتُبَهُ فينسخون منها (¬5)، ومضى عطاء بن أبي رباح (- 114 هـ) يكتب لنفسه ويأذن بالكتابة لسواه (¬6)، وقتادة بن دعامة السدُوسي (- 118 هـ) لَمْ يَتَرَدَّدْ في إجابة الذي استفتاه في الكتابة بقوله الصريح له: «وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَكْتُبَ وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أَنَّهُ يَكْتُبُ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى}» (¬7). وأغلب الظن أنَّ الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز (- 101 هـ) حين أمر رَسْمِيًّا بالشروع في تدوين الحديث إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم ": 1/ 73 و " تقييد العلم: ص 99. (¬2) " تقييد العلم ": ص 99 والعبارة المشهورة عن الرسول في هذا هي كما رأينا «قيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ». (¬3) " تقييد العلم ": ص 100. (¬4) " تاريخ بغداد ": 11/ 232. (¬5) انظر " سنن الدارمي ": 1/ 128 و" تقييد العلم ": ص 105. على أَنَّ في " سنن الدارمي " نفسها: 1/ 121 ما يشير إلى كره مجاهد أنْ يكتب العلم في الكراريس. (¬6) انظر " الإلماع " للقاضي عياض: ورقة 27 الوجه الأول و" سنن الدارمي ": 1/ 125. (¬7) [طه: 52] وانظر " تقييد العلم ": ص 103 ويروي عنه الدارمي في " سننه ": 1/ 120 - مع ذلك - ما يفيد كراهته الكتابة.

على ذلك إلاَّ بعد أنْ استشارهم أو اطمأنَّ - على الأقل - إلى تأييد كثرتهم (¬1)، وإنْ كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة لما له في القلوب من منزلة، ولا سيما بين معاصريه الواثقين بِتُقَاهُ وَوَرِعِهِ. ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أنَّ خوف عمر من دُرُوسَ العِلْمِ وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى المَدِينَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَأْمُرُهُ: «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ أَوْ حَدِيثِ عَمْرَةَ [بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ] فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي قَدْ خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ أَهْلِهِ» (¬2). وعَمْرَة المذكورة هنا هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وقد ضُمَّ إليها بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق (- 107) وكلاهما من تلاميذ عائشة، فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله. ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أنْ يطلعه عامله على نتائج سعيه (¬3). على أَنَّ عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عُمَّالِهِ في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم (¬4)، وكان أول من استجاب له في حياته وَحَقَّقَ له غايته عالم ¬

_ (¬1) وإنما قلنا «تأييد كثرتهم» لأنَّ بعض العلماء أظهروا كراهتهم للتدوين في وجه عمر بن عبد العزيز، فقد رَوَوْا عن عبيد الله (- 106) أنه دخل على عمر بن عبد العزيز، فأجلس قومًا يكتبون ما يقول، فلما أراد أَنْ يقوم قَالَ لَهُ عُمَرُ: «صَنَعْنَا شَيْئًا» , قَالَ: «وَمَا هُوَ يَا ابْنَ عَبْدِ العَزِيزِ؟» , قَالَ: «[كَتَبْنَا] مَا قُلْتَ» , قَالَ: «وَأَيْنَ هُوَ؟» , قَالَ: «فَجِيءَ بِهِ فَخُرِّقَ»." تقييد العلم ": ص 45. (¬2) انظر " طبقات " ابن سعد: 2/ 2 ص 134. (¬3) انظر " مفتاح السُنَّة " لمحمد عبد العزيز الخولي: ص 20 (الطبعة الثالثة). (¬4) " الرسالة المستطرفة ": ص 4.

الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزُهري المدني (- 124 هـ) الذي دَوَّنَ له في ذلك كتابًا (¬1)، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دَفْتَرًا من دفاتره (¬2). وَحُقَّ لِلْزُّهْرِيِّ أنْ يفخر بعمله قائلاً: «لَمْ يُدوِّنْ هَذَا العِلْمَ أَحَدٌ قَبْلَ تَدْوِينِي» (¬3). وَقَدْ يُخَيَّلُ للباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أَنَّ فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تُنْسَى، ثم لا يلبث أَنْ يسمع بنغمتها الرتيبة تتعالى حتى على لسان الذين رَخَّصُوا في التدوين أو حَضُّوا عليه أو أسهموا فيه. بل لَيَسْمَعَنَّ البَاحِثُ معها نغمة جديدة من الندم والحسرة عند الذين شاركوا في التدوين خاصة، فكأنهم لم ينهضوا بالأمر من تلقاء أنفسهم، بل بتحريض الأمراء وائتمارًا بأمرهم. قال الزُهري: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ العِلْمِ، حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَلاَّ نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ» (¬4). وهو في الواقع ما منع أحدًا من المسلمين كتابة شيء، ولا منع نفسه حين كان يغلو في الكتابة حتى ليكتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته (¬5)، غير أَنَّ عَامِلاً آخر ربما شارك إكراه الأمراء في ¬

_ (¬1) " الرسالة المستطرفة ": ص 4. (¬2) " جامع بيان العلم ": 1/ 76. (¬3) " الرسالة المستطرفة ": ص 4. (¬4) " طبقات " ابن سعد: 2/ 2 ص 135 وفي كتاب " الأموال " للقاسم بن سلام: ص 578 (طبعة مصر 1353) تخصيص اسم عمر بن عبد العزيز من بين الأمراء، ومثل ذلك في " جامع بيان العلم ": 1/ 76. (¬5) " تذكرة الحفاظ ": 1/ 103 و" تقييد العلم ". وليست الصحيفة المحفوظة عنه - التي يقول فيها الخطيب البغدادي أنها تحوي ثلاثمائة حديث - إلاَّ نموذجاً من صحفه الكثيرة التي قيد بها علمه الغزير. (انظر: " تاريخ بغداد ": 14/ 87).

الإقبال على كتابة العلم والإذن بها، وهو تمييز حديث رسول الله مما وضع في فيه ولم يقله، وإنه لأمر أَقَضَّ مضجع الزُهري، فانطلق يقول كاظمًا غيظه: «لَوْلاَ أَحَادِيثَ تَأْتِينَا مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ نُنْكِرُهَا لاَ نَعْرِفُهَا , مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا وَلاَ أَذِنْتُ فِي كِتَابِهِ» (¬1). ولقد يكون رأي الزُهري هذا هو رأي أكثر العلماء في ذلك العصر، فالحرص على كلام رسول الله أنْ يضيع كالخوف عليه أنْ يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحول القول بكتابة الحديث تارة والنهي عنها تارة أخرى. فإذا كنا رأينا اسمي سعيد بن المسيب والشعبي بين أسماء المُرَخِّصِينَ في الكتابة فلن نعدم روايات تُصَوِّرُهُمَا لنا مستنكرين لها (¬2)، وقل مثل ذلك في مجاهد وقتادة (¬3)، حتى القاسم بن محمد بن أبي بكر (- 107 هـ) الذي أمر عمر بن عبد العزيز بجمع ما عنده من الأحاديث والروايات عن عائشة اشتهر عنه القول بكره التدوين (¬4)، وهكذا جمعوا وَدَوَّنُوا عن أشخاص كانوا يكرهون الجمع والتدوين. ولقد عَبَّرَ عن خوفهم من نتائج هذا التدوين الضحاك بن مزاحم الهلالي (- 105 هـ) حين طفق ينادي الناس: «لاَ تَتَّخِذُوا لِلْحَدِيثِ كَرَارِيسَ كَكَرَارِيسِ ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 108. (¬2) انظر كراهة سعيد بن المسيب للكتابة " تذكرة الحُفاظ ": 1/ 105 وفي كراهة الشعبي لها " المحدث الفاصل ": 4/ 5 الوجه الأول. (¬3) انظر في كره مُجاهد كتابة العلم في الكراريس " سنن الدارمي ": 1/ 121 وقد سبق أنْ نبَّهْنا على أنَّ في " سُنن الدارمي " نفسها: 1/ 128 ما يشير إلى عناية مجاهد بالكتابة. وانظر في كره قتادة للكتابة " سنن الدارمي ": 1/ 120. (¬4) انظر " جامع بيان العلم ": 1/ 67 و" تقييد العلم ": ص 46.

المَصَاحِفِ» (¬1) مع أنه حين لا موضع للخوف أملى على الناس مناسك الحج (¬2). وإذا كان أوساط التابعين قد بدؤوا يحذرون وضع الوَضَّاعِينَ فإن أواخر التابعين أمسوا يصادفون كَثِيرًا من نماذج الوَضَّاعِينَ وصور وضعهم تَأْيِيدًا لِلْفِرَقِ وَالشِِّيعِ المختلفة، فقد أمسى لِزَامًا أَنْ يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حِفْظًا لِلْنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ من عبث العابثين. وميزة التدوين في هذا العصر أنَّ الحديث كان ممزوجًا غالبًا بفتاوى الصحابة والتابعين: كما في " موطأ مالك " إمام المدينة (- 179). وفي عصر أتباع التابعين، مِمَّنْ كانوا على رأس المائتين، عُنِيَ العلماء بتأليف المسانيد خالية من فتاوى الصحابة والتابعين، مقصورة على السُنَّة النَّبَوِيَّةِ وحدها. وأول من ألَّفَ تلك المسانيد أبو داوود الطيالسي (- 204 هـ) (¬3). ويعتبر " مسند أحمد بن حنبل " (- 241 هـ) أوْفَى تلك المسانيد وأوسعها، إلاَّ أنَّ هذا الإمام معدود من أتباع التابعين لأنَّ وفاته بعد العشرين والمائتين. وَلَمْ تُدَوَّنْ السُنَّةُ الصحيحة وحدها مُرَتَّبَةً على الأبواب إلاَّ في عصر أتباع أتباع التابعين مِمَّنْ عاصر البخاري. وفي هذا العصر ألفت الكتب الستة الصحيحة. وسندرس ما يتعلق بها وبأصحابها (البخاري ومسلم والترمذي وأبي داوود، وابن ماجه والنسائي) في فصل «أَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ». أما المُتَأَخِّرُونَ عن عصر الرواية فيكون عملهم - في نهاية المطاف - تهذيباً وشرحاً واختصاراً للكتب الصحيحة المشهورة، فيجمع أبو عبد الله ¬

_ (¬1) " تقييد العلم ": ص 47. (¬2) " جامع بيان العلم ": 1/ 72. (¬3) وقد طبع هذا المسند في حيدر آباد بالهند سَنَةَ 1321 هـ.

الحُميدي (- 448 هـ) " الصحيحين " على ترتيب المسانيد، ثم أبو السعادات مبارك بن الأثير (- 606 هـ) " الكتب الستة " بترتيب الأبواب، ثم نور الدين علي الهيثمي (- 807 هـ) ما زاد عن " الكتب الستة " من المُصَنَّفَاتِ المَشْهُورَةِ في " مجمع الزوائد " (¬1)، وأخيرًا السيوطي (- 911 هـ) " الكتب الستة " و" المسانيد العشرة " وغيرها مِمَّا يزيد على خمسين مُصَنَّفًا في " جمع الجوامع " المُسَمَّى بـ " الجامع الكبير " (¬2). وهكذا، مَرَّ الحديث النبوي بمراحل طويلة حتى وصل إلينا مُحَرَّرًا مَضْبُوطًا، وساعدت الطباعة الحديثة على نشر هذا التراث الإسلامي العظيم. ¬

_ (¬1) وقد نشره حسام الدين القدسي سنة 1352 هـ. (¬2) انظر في «الظاهرية»، حديث 196 مخطوطة " جمع الجوامع " والموجود منه جـ 3.

الفصل الثالث: الرحلة في طلب الحديث:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ: الطَّابَعُ الإِقْلِيمِيُّ فِي نَشْأَةِ الحَدِيثِ: في المدينة المنورة «دَارُ السُنَّةِ» (¬1) التي عَظَّمَ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُرْمَتَهَا ما بين حَرَّتَيْهَا وحماها كله (¬2) نشأ الحديث نشأته الأولى، فكان الصحابة يتناقلونه فيها مشافهة وَتَلْقينًا، وإليهم كان يفزع التابعون ليأخذوه من أفواههم بالتلقين أَيْضًا، فَاتَّسَمَ الحديث - في مطلع فجره - بالطابع الإقليمي. وظلت رحاب المدينة مقدسة في عيون الرُوَّاةِ، وما فتئت تهفو إليها القلوب، لأنها الإقليم المبارك الذي اتسعت فيه آفاق الدعوة الإسلامية بعد الهجرة النَّبَوِيَّةِ. وأضحى أبناء الأقاليم الأخرى إذا حجوا بيت الله الحرام لا يلبثون أن يولوا وجوههم شطر المدينة ليسمعوا من أفواه أهليها (¬3)، وقد يرحلون إليها ¬

_ (¬1) " تاريخ الطبري ": ص 182. (¬2) راجع في " مسند أحمد "، طبعة شاكر، ج 2 ص 198 و 199 الحديث رقم 959 وفيه يقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ، وَإِنِّي أُحَرِّم مَا بَيْن حَرَّتَيْهَا وَحِمَاهَا كُلّه، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّر صَيْدهَا، وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَتهَا إلاَّ لِمَنْ أَشَارَ بِهَا» الحديث ... بإسناد صحيح. (¬3) كما رووا عن أبي العالية أنه قال: «كنا نسمع الرواية عن أصحاب =

من الأمصار النائية ليأخذوا ما تفرد به رُواتها (¬1) وأمسى بعض الأئمة لايرون بأسا في الاعتراف بأنهم حجُّوا بيت الله ابتغاء السماع من علماء الحجاز، وهم يقصدون علماء المدينة الثقات الضابطين (¬2) ولعل علي ابن المديني (¬3) كان يرقي إلى هذا حين قال: «حَجَجْتُ حَجَّةً وَلَيْسَ لِي هِمَّةٌ إِلاَّ أَنْ أَسْمَعَ!» (¬4). وإذا كان أهل المدينة قد تَفَرَّدُوا - أول نشأة الحديث - برواية أكثر السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (¬5)، فَإِنَّ بعض الأمصار الأخرى بدأت تَتَفَرَّدُ كذلك - في عصر ¬

_ = رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبصرة، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعنا من أفواههم» انظر مخطوطة " الجامع لأخلاق الراوي ": 9/ 168 وجه 2. وأبو العالية هو التابعي الجليل رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سَنَةَ 92. (¬1) ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حكى عن عبد الملك بن حبيب أنه «حَجَّ فأخذ عن عبد الملك بن الماجشون وأسند السُنَّةَ وأصبغ بن الفرج وطبقتهم ورجع إلى الأندلس بعلم جمٍّ» " تذكرة الحفاظ ": 2/ 537. ط 3 وإليها جميع أحالاتنا في هذا الفصل، ولزيادة الإيضاح ارجع إلى جريدة المراجع في آخر الكتاب. وعبد الملك بن حبيب هو عالم الأندلس وفقيهها الكبير، ويُكنَّى أبا مروان السلمي ثم المرداسي الأندلسي القرطبي. تُوُفِّيَ سَنَةَ 238. (¬2) وذلك يعني أنَّ السماع في المدينة كان أكثر منه في مكة، وهو ما قصده المؤرِّخُون من وصف المدينة بأنه «دَارُ السُنَّةِ» فلا ينبغي أن يستنتج من كلامنا تحديد أي البلدين كان له السبق في تدوين الحديث، فالسماع بالتلقين غير الكتابة مع التدوين. (¬3) هو علي بن عبد الله بن جعفر، وَيُكَنَّى أبا جعفر، سعدي بالولاء، وكان أخذ شيوخ البخاري. تُوُفِّيَ سَنَةَ 234 (شذرات الذهب: 2/ 81). (¬4) " سنن الترمذي ": 1/ 196. (¬5) ولذلك نصادف كَثِيرًا من كتب السُنَنِ «وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ المَدِينَةِ» كما في " سنن أبي داود ": 2/ 370 رقم الحديث 254 (راجع ط / 2 سنة 1369 هـ. بتحقيق محيي الدين عبد الحميد) وإليه جميع إحالتنا). =

مبكر - بطائفة من الأحاديث تشتهر في إقليمها أولاً، ثم تستفيض بعد مدة تطول أو تقصر على ألسنة الرُواة في كثير من البلدان: وفي بطون كتب الحديث ألوان من التعبير توحي بهذا التفرُّد الإقليمي في رواية السُنن، فهذا مِمَّا تَفَرَّدَ به أهل البصرة (¬1)، وهذا من سنن أهل الشام لم يشركهم فيه أحد (¬2)، وهذا حديث حمصي (¬3). ولم يكن بُدٌّ من أن يختلف المحدثون حول هذا التفرد في الرواية، تَبَعًا للإقليم الذي اختص بها. فالراوي الواحد يقبل حديثه ويُعدُّ مقارباً للصحة إذا أخذه أهل هذا المصر، ويردّ ويعتبر منكراً إذا تلقَّاه أهل مصر آخر. وذلك يفسِّرُ لنا تفسيراً منطقياً واضحاً موقف الإمام البخاري من زهير بن محمد حيث يقول: «زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَهْلُ الشَّامِ يَرْوُونَ عَنْهُ مَنَاكِيرَ، وَرِوَايَةُ [أَهْلِ العِرَاقِ أَشْبَهُ]» (¬4)، فقد اختلف حكم البخاري على هذا الرجل تَبَعًا لاختلاف الإقليم الذي أخذ عنه، لأنَّ هذا الإمام العظيم - بمعرفة الرجال، وَتَشَدُّدِهِ في شروط الرواة والمرويات - كان أقدر علماء عصره على تجريح شخص ¬

_ = ومن ذلك قول أبي داود: «أَهْلُ المَدِينَةِ يَقْرَؤُونَ {[مَلِكِ] (*) يَوْمِ الدِّينِ} وَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ حُجَّةٌ لَهُمْ» انظر " سنن أبي داود ": 1/ 416 رقم الحديث 1173. (¬1) انظر " سنن أبي داود ": 1/ 76 رقم الحديث 155 و 1/ 140 رقم الحديث 333. (¬2) " سنن أبي داود ": 1/ 56 رقم الحديث 91. (¬3) عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام يوم السبت، يقول ابن شهاب: «هذا حديث حمصي». " سنن أبي داود ": 2/ 431 رقم الحديث 2423. (¬4) " سنن الترمذي ": 1/ 60 في حديث عائشة: «أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَانَ يُسَلِّمُ فِى الصَّلاَةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، يَمِيلُ إِلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ شَيْئًا». وفي سند الحديث زهير بن محمد هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (مَلِيكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وإن كانت هذه إحدى القراءات، وهو خطأ في الطباعة، والصواب (مَلِكِ) كما ورد في " سنن أبي داود "، انظر " السنن " لأبي داود السجستاني، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، (2) كتاب الصلاة (260) باب رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم 1173، 1/ 483، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1997 م، نشر دار ابن حزم. بيروت - لبنان.

الرحلة في طلب الحديث:

وتعديل آخر، أو على تَوْهين الشخص نفسه لعلة خفية تارة وتوثيقه لأمور كثيرة يقدِّرُها تارة أخرى (¬1). الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ: وما كان لِلْرُوَّاةِ - تجاه هذا التفرد الإقليمي في الرواية - أنْ يقنعوا بأخذ العلم من أهل بلدهم (¬2)، ولا يأخذه من المدينة وحدها سواء أكانت بعيدة عن مصرهم أم قريبة منه، فأصبحت الرحلة في طلب الحديث إلى البلاد النائية أشهى أمانيهم، فبها استطاعوا أنْ يتلقوا العلم من أفواه الرعيل الأول من الرُواة، وبها تحقق لهم ما كانوا يعتقدونه من أنَّ «حُصُولَ المَلَكَاتِ عَنْ المُبَاشَرَةِ وَالتَّلْقِينِ أَشَدُّ اسْتِحْكَامًا وَأَقْوَى رُسُوخًا» (¬3). ولقد بدأ طلب العلم بالمشافهة في القرن الهجري الأول، فكان الصحابي الجليل أبو الدرداء (¬4) يقول: «لَوْ أَعْيَتْنِي آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا ¬

_ (¬1) وذهب الإمام أحمد في الاختلاف حول زهير بن محمد مذهباً آخر فقال: «كان زهير بن محمد الذي وقع عندهم ليس الذي يروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه» " سنن الترمذي ": 1/ 60. (¬2) وإن كان العلماء يستحبُّون للطالب الاقتصار على حديث بلده وتمهره في معرفته إذا كان المقصود من الرحلة متحقِّقاً بين علماء عصره. قال الخطيب البغدادي: «المقصود في الرحلة في طلب الحديث أمران أحدهما تحصيل علو الإسناد وقدم السماع، والثاني لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة، والاقتصار على ما في البلد أولى» " الجامع لأخلاق الراوي ": 9 / ورقة 167 وجه 2. (¬3) " مقدمة ابن خلدون ": ص 541 ط. مصطفى محمد بالقاهرة، بلا تاريخ. (¬4) واسم هذا الصحابي الجليل عويمر بن زيد تُوُفِّيَ سَنَةَ 32 هـ.

يَفْتَحُهَا عَلَيَّ إِلاَّ رَجُلٌ بِبِرْكِ الغِمَادِ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ» (¬1). والصحابي العليم جابر بن عبد الله (- 78 هـ) ابتاع بَعِيرًا فَشَدَّ عليه رحله وسار شَهْرًا حتى قدم الشام ليسأل عبد الله بن أُنيْس عن حديث في القصاص (¬2). وكانت الرحلة في حديث واحد مألوفة عند كثير من السلف، فعن سعيد بن المسيب (- 105 هـ): «إِنْ كُنْتُ لأَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ» (¬3)، وَعَنْ أَبِي قِلاَبَةَ (- نحو 104 هـ): «لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا مَا لِي حَاجَةً إِلاَّ رَجُلٌ عِنْدَهُ [حَدِيثٌ يَقْدَمُ]، فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ» (¬4). والرواية التالية عن مكحول: (- نحو 112 هـ) تصلح مِثَالاً وَاضِحًا للرحلة في حديث واحد ربما لا يلقي إليه أحدنا بالاً، ونحسبه هَيِّنًا وهو عند الله عظيم. قَالَ مَكْحُولٌ: «كُنْتُ عَبْدًا بِمِصْرَ لامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ فَأَعْتَقَتْنِي، فَمَا خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ وَبِهَا عِلْمٌ إِلاَّ حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِجَازَ فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلاَّ حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الْعِرَاقَ فَمَا خَرَجْتُ مِنْهَا وَبِهَا عِلْمٌ إِلاَّ حَوَيْتُ عَلَيْهِ فِيمَا أُرَى، ثُمَّ أَتَيْتُ الشَّامَ فَغَرْبَلْتُهَا، كُلُّ ذَلِكَ أَسْأَلُ عَنِ النَّفَلِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُنِي فِيهِ بِشَيْءٍ، ¬

_ (¬1) " معجم البلدان " لياقوت: 1/ 590. وبرك الغماد - بكسر الغين المعجمة، وقال ابن دُريد بضمها ن والكسر أشهر - هو موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر (معجم البلدان: 1/ 589). (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي ": 9 / ورقة 168 وجه 2، وانظر ترجمة جابر بن عبد الله في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 43 رقم 21. (¬3) " الجامع لأخلاق الراوي ": 9 / ورقة 169 وجه 1 وراجع ترجمة سعيد بن المسيب في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 54 رقم 38. (¬4) " الجامع لأخلاق الراوي ": 9 / ورقة 169 وجه 1 وأبو قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي البصري.

حَتَّى [لَقِيتُ] شَيْخًا يُقَالُ لَه زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي النَّفَلِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ (الْفِهْرِيَّ) يَقُولُ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ» (¬1). ولعل هذا الظمأ إلى طلب العلم أَنْ يكون السبب في سفر عبدان (¬2) إلى البصرة ثماني عشرة مَرَّةً ليسمع ما يرويه أهل هذا المصر من السُنَنِ التِي تَفَرَّدَ بها أيوب (¬3). واختلفت أشكال الرحلة وصورها باختلاف الأشخاص والأمصار والأجيال فكان في الراحلين من يمشي على رجليه (¬4)، ومن يرتحل وهو ابن خمس عشرة سَنَةً أو ابن عشرين (¬5)، ومن يوصف بأنه أحد من رحل وتعب (¬6)، أو بأنَّ له رحلة واسعة (¬7)، أو أنه أكثر وأكثر الترحال (¬8)، أو أنَّ له العناية التامة ¬

_ (¬1) " سنن أبي داود ": 3/ 106 رقم الحديث 2750 وأخرجه " ابن ماجه " بمعناه: 2/ 951 - 952 ومكحول هو عالم أهل الشام أبو عبد الله بن أبي مسلم الهذلي الفقيه الحافظ. (انظر ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 107 رقم 96). (¬2) عبدان هو أحمد بن موسى الجواليقي (- 306 هـ). (¬3) " معجم البلدان ": 1/ 414 وأيوب هو العالم الثقة الكبير أيوب بن كيسان السختياني، أبو بكر (- 131 هـ) (¬4) كما قيل في أبي موسى الفقيه الحافظ عبد الله بن عبد الغني (- 629 هـ). انظر " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1409. (¬5) انظر ترجمة كل من أبي يعلى الموصلي الحافظ الثقة المشهور المتوفى 307 هـ (" تذكرة الحفاظ ": 2/ 708). ومحمد بن علي الملقب بأبي النرسي (- 510 هـ). " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1261. (¬6) كالمفيد أبي البركات ابن المبارك السقطي (- 509 هـ) " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1260. أثناء الحديث عن الذين ماتوا سنة 509. (¬7) كما في ترجمة الشيرازي أبي يعقوب يوسف بن أحمد إبراهيم الصوفي (- 585). " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1357. وابن متويه إبراهيم بن محمد الأصبهاني (- 302 هـ) " تذكرة الحفاظ ": 2/ 740. (¬8) كما في ترجمة الترمذي الكبير المتوفى سنة بضع وأربعين ومائتين. " تذكرة الحفاظ ": 2/ 740.

بطلب الحديث والرحلة (¬1)، أو أنه بقي في الرحلة بضع عشرة سنة (¬2)، وكان يقال في أمثال هؤلاء أَحْيَانًا: تُضرب إليه آباط المطيِّ أو أكباد المطيِّ (¬3)، أو رحل الناس إليه (¬4)، أو كانت الرحلة إليه في زمانه (¬5). وواضح أنَّ لقب «الرحَّال والرحَّالة، والجوَّال والجوَّالة» كان وقفاً على كبار المُحَدِّثِينَ أمثل من ذكرنا ممن تحمَّل المشاق، وسافر إلى الآفاق، طلباً لأحاديث تقل أو تكثر، فكان الناس يسألون عن نوع المشقات التي مَرَّ بها هؤلاء المحدثون، وكان الذي يوصف بأنه «طوَّاف الأقاليم» موضع الإكبار والإجلال في جميع العصور. ولا ريب أنَّ بعض هؤلاء الجوالين قد طوَّفوا بالشرق وبالغرب مراراً. وإنَّ المستشرق جولدتسيهر Goldziher - على ولوعه بإنكار أخبار القوم - لا يفوته أنْ يعترف بأنَّ «الرحَّالين الذين يقولون إنهم طافوا الشرق والغرب أربع مرات ليسوا - مبعدين ولا مغالين» (¬6). ¬

_ (¬1) كما قالوا في البجيري: «الحافظ الإمام الكبير أبي حفص عمر بن محمد بن بجير الهمذاني السمرقندي. مُحَدِّثُ ما وراء النهر. تُوُفِّيَ سَنَةَ 311 هـ» " تذكرة الحفاظ ": 2/ 720. (¬2) كأبي طاهر السِلفي - بكسر السين نسبة إلى جده سلفة - الحافظ العلاَّمة شيخ الإسلام عماد الدين أحمد بن محمد الأصبهاني الجرواءاني. تُوُفِّيَ سَنَةَ 576. انظر " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1298 رقم 1298. (¬3) " معجم البلدان " لياقوت: 1/ 664. (¬4) " تذكرة الحفاظ ": 2/ 807. (¬5) كما قالوا في ابن حبيش أبي القاسم عبد الرحمن الأندلسي (- 584 هـ) انظر " تذكرة الحفاظ ": 4/ 1354. (¬6) Goldziher, Etudes sur la Tradition Islamique, p. 220.

أثر هذه الرحلات في توحيد النصوص والتشريعات: وإذا كان هؤلاء المشهورون بالطلب والرحلة (¬1) قد وثَّقُوا الأواصر بين بلدان العالم الاسلامي فذلك أمر واضح تفرضه طبائع الأشياء، وما كانت النتيجة لتتم على غير هذه الصورة، لأنَّ طواف الكثير منهم بالأقاليم ربط بين المشرق والمغرب (¬2)، وألغى السدود والحدود، وجعل هذا العالم الاسلامي أشبه بالمدينة الواحدة، تنطوي قلوب أبنائها جميعا على مبادئ واحدة وتعاليم مماثلة. بيد أنَّ أثر هذه الرحلات كان في الحديث نفسه - نصاً وروحاً - أبلغ منه في أمصار: فلقد كانت هذه الرحلات تمهيداً لطبع الحديث بطابع مشترك تتماثل فيه النصوص والتشريعات، وإنْ كانت أصول روايتها مختلفة المصادر حين تفرد بها أول الأمر إقليم واحد لم يَشْرَكه أحد. وكان ¬

_ (¬1) " معجم البلدان " لياقوت: 3/ 528 أثناء الحديث عن طرطوس ومن خرجت من مشاهير المُحَدِّثِينَ. (¬2) لأنَّ العلماء - بتنقلهم في الأمصار الإسلامية - لم يجدوا الفرصة للاستقرار في بلدهم ن فبينا يكون أحدهم في العراق إذا هو في الشام، وما يكاد يحل في الشام حتى يرحل إلى الأندلس، وفيما هو في الأندلس إذا هو في مصر. ويكثر في كتب الطبقات والتراجم نسبة الحافظ إلى بلده والإشارة إلى البلد الذي نزله: فنزار بن عبد العزيز بغدادي قدم مصر (" تاريخ بغداد ": 13/ 437) ونائل بن نجيح الحنفي بصري ورد بغداد (" تاريخ بغداد ": 13/ 434) وعلي بن معبد الرقي نزيل مصر (" [تذكرة] الحفاظ ": 2/ 550). والجوزجاني نزيل دمشق (" [تذكرة] الحفاظ ": 2/ 549) وابن واصل السدوسي البصري نزيل بغداد (" [تذكرة] الحفاظ ": 1/ 313) وعلي بن سعد العسكري نزيل الري (" [تذكرة] الحفاظ ": 2/ 749) وأحمد بن عبد الله العجلي الكوفي نزيل طرابلس الغرب (" الحفاظ ": 2/ 560) ومكي بن إبراهيم البلخي قدم بغداد (" [تاريخ] بغداد ": 13/ 118).

أقل ما يفترض في هذا التفرد الإقليمي. اختلاف العبارات باختلاف الرُواةفي الأقاليم، ولكن هذه الروايات المتباينة أخذت في التقارب شيئاً فشيئاً حتى أمكن صهرها في قالب واحد، وخيَّل إلى سامعها أو قارئها للمرة الأولى أنها رواية مصر واحد لا عدة أمصار. والأمثلة على هذا كثيرة، غير أننا نجتزئ منها بذكر حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى» لأهميته في نظر المُحَدِّثِينَ. فعبد الرحمن بن مهدي (- 198 هـ) يقول: «مَا يَنْبَغِي لِمُصَنِّفٍ أَنْ يُصَنِّفَ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ العِلْمِ إِلاَّ وَيَبْتَدِئُ بِهَذَا الحَدِيثِ» (¬1). وبمثل هذا صرَّح البخاري في قوله: «من أراد أنْ يصنِّف كتاباً فليبدأ بحديث " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ "» (¬2)، وهو الحديث الذي افتتح به البخاري " صحيحه " - كما هو معلوم - فشرع بتطبيق هذا المبدأ على نفسه، وبه افتتح العلماء الكثير من مصنَّفات الحديث أخذاً بهذه الوصية الكريمة. وحين يجد القارئ في كتب السُنن أنَّ حديث النية طليعة هذه الكتب، وأنَّ متنه يكاد يكون واحداً فيها جميعاً، يُخيَّلُ إليه أنَّ شروط التواتر متوافرة فيه، وأنه لا بد أنْ يكون قد رواه الجمع الكثير عن الجمع الكثير، والحق أنَّ هذا الحديث - كَمَا قَالَ البَزَّارُ (¬3) في " مُسْنَدِهِ " - «لاَ يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ ¬

_ (¬1) " الجامع لأخلاق الراوي ": 10/ 193 وجه 2. (¬2) المصدر نفسه، وفي الصفحة ذاتها. (¬3) هو الحافظ الشهير أحمد بن عمرو بن عبد الخالق. ويُكنَّى أبا بكر. تُوُفِّيَ سَنَةَ 292 وله مسندان: كبير وصغير. ويُسَمَّى الكبير " البحر الزخَّار " و" الكبير المُعلَّل ". وفيه يتكلم في تفرد بعض رُواة الحديث ومتابعة غيره عليه، كما رأينا في تفرَّد عمر بحديث النية. وانظر " الرسالة المستطرفة ": ص 51.

عُمَرَ، وَلاَ عَنْ عُمَرَ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ، وَلاَ عَنْ عَلْقَمَةَ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ، وَلاَ عَنْ مُحَمَّدٍ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى» (¬1): فلا يكون متواترًا (¬2) لانفراد عمر به. وهو - فوق هذا - لم يكن معروفًا إلاَّ في المدينة، ولكنه استفاض بعد ذلك في سائر الأمصار بصيغته المشهورة، فكان دليلاً واضحًا على ما للرحلات من أثر في توحيد نص الأحاديث ونقلها من طابعها الإقليمي الأصلي إلى الطابع العام المشترك: ولذلك تشابهت الروايات الماثلة في الكتب الصحيحة. حول الموضوع الواحد إلاَّ في بعض الفروق الدقيقة اليسيرة التي لم يفت المُحَدِّثِينَ التنبيه عليها، ولم يكن سبب هذا التشابه النادر العجيب إلاَّ تلاقي الرُواة حي يرتحل بعضهم إلى بعض، أو يُلَقِّنَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَيُحَدِّثُونَ الناس في الذهاب والاياب (¬3). ولم يقف أثر هذه الرحلات عند حد التشابه بين النصوص، أو التوحيد بينها أَحْيَانًا، كما في حديث النية هذا، بل تَعَدَّاهُ إلى وحدة التشريع ووحدة الاعتقاد: ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في " التدريب ": ص 83، غير أنَّ ابا القاسم بن منده يرى أنَّ حديث النية رواه سبعة عشر آخر من الصحابة (راجع أسماءهم في " التدريب ": ص 82) فعمر - في نظره - لم ينفرد به، ثم يرى أنه رواه عن عمر غير علقمة وعن علقمة غير محمد، وغن محمد غير يحيى (أَيْضًا " التدريب ": ص 82). وحسبنا الحافظ العراقي يرد مثل هذا الرأي ويُنَبِّهُ على أنَّ من سمى من الصحابة لم يرووا ذلك الحديث بعينه، بل رَوَوْا حَدِيثًا آخر يصح إيراده في ذلك الباب. ولم يصح حديث النية من طريق عن عمر إلاَّ الطريق المتقدمة. ذكره السيوطي في " التدريب ": ص 83. ويحسن قراءة كل ما يتعلق بهذا الحديث في ص 82 - 83 في " التدريب ". (¬2) " التقريب ": ص 193. (¬3) وعبارة «حَدَّثَ النَّاسَ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ» مألوفة في كتب التاريخ والتراجم. ومثالاً عليها اقرأ ما في " تاريخ بغداد ": 13/ 118 في ترجمة مكي بن إبراهيم البلخي (- 215 هـ).

فمن هذا الحديث اسننبط العلماء كَثِيرًا من المسائل الفقهية التي صدروا فيها عن سماحة الاسلام في معالجة الضمير البشري وتعويله على القلوب والسرائر لا على الصور والأشكال (¬1). وإذا كان للرحلات مثل هذا الأثر في توحيد التشريع والاعتقاد، فلا بد من التشدُّدِ في الأسانيد، لمعرفة كل رجل ورد اسمه في سلسلة الإسناد، لأنَّ «مَعْرِفَةُ الرِّجَالِ نِصْفُ العِلْمِ» كما يقول علي بن المديني (¬2). لذلك اشترطوا لقبول رواية الطالب الذي يزعم أنه رحل في الحديث وتعب أنْ يسرد من حفظه أسماء سلسلة الإسناد جميعاً، ثم يضيف اليها في آخرها اسمه، لِيُعْلَمَ أنْ قد سمع حقاً مايرويه، وإلاَّ عُدَّ متساهلاً وترك الاحتجاج بحديثه (¬3)، ولو كان إماماً واسع العلم مشهودأ له بالفضل. فالذهبي (¬4) يقول في ابن لهيعة (174 هـ) «الإمام الكبير قاضي الديار المصرية» (¬5)، ويروي عن ابن حنبل أنه قال فيه: «مَا كَانَ ¬

_ (¬1) ومن أطرف ما نذكره - في هذا المجال - أنَّ المستشرق ابن الورد Ahlward استقصى في بعض مباحثه سبعين مسألة فقهية استنبطها الإمام الشافعي من حديث النية. وانظر: Ahlwardt,II, 165.no. 162 وقد وفق في هذا البحث، لأنه جمع واستقصاه لما ورد عن الإمام الشافعي من غير مناقشة. ولو بدأ يناقش لوقع فيما يقع فيه إخوانه المستشرقين من الخطأ والزلل. (¬2) راجع قوله في " الجامع لأخلاق الراوي ": 9/ 164 وجه 1. (¬3) وتجد في " الكفاية للخطيب البغدادي ": ص 152 باباً خاصاً في ترك الاحتجاج بمن عرف بالتساهل في رواية الحديث. (¬4) هو الحافظ شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز التركماني الفارقي الأصل الذهبي، من أشطر كتبه " ميزان الاعتدال " و " تذكرة الحفاظ " تُوُفِّيَ سَنَةَ 748. (¬5) " تذكرة الحفاظ ": 1/ 238.

مُحَدِّثُ مِصْرَ إِلاَّ ابْنَ لَهِيعَةَ» وَلَكِنَّ هذا الإمام الكبير المُحَدِّثَ لا يلبث أنْ يُرْمَى بالتساهل في نظر الذهبي نفسه فيقول: «يُرْوَى حَدِيثُهُ فِي المُتَابَعَاتِ وَلاَ يُحْتَجُّ بِهِ» (¬1) ويقول: «وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ باِلمُتْقَنِ» (¬2)، ذلك بأنَّ ابن لهيعة - كما يقول الخطيب البغدادي - «وَكَانَ يَتَسَاهَلُ فِي الأَخْذِ , وَأَيَّ كِتَابٍ جَاؤُوهُ بِهِ حَدَّثَ مِنْهُ , فَمِنْ هُنَاكَ كَثُرَتِ المَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ» (¬3). قال يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ: «جَاءَ قَوْمٌ , وَمَعَهُمْ جُزْءٌ , فَقَالُوا: سَمِعْنَاهُ مِنِ ابْنِ لَهِيعَةَ , فَنَظَرْتُ , فَإِذَا لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ , فَجِئْتُ إِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي حَدَّثْتَ بِهِ لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ مِنْ حَدِيثِكَ , وَلاَ سَمِعْتَهَا أَنْتَ قَطُّ؟ , فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ؟ يَجِيئُونِي بِكِتَابٍ فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ حَدِيثِكَ , فَأُحَدِّثُهُمْ بِهِ» (¬4). ولا ريب أنَّ كَثِيرًا من المبالغات تحف أخبار الرحَّالين، وإنْ كان لا بُدَّ أنْ يكون لها في أصلها سندٌ صحيح. فهذا حجاج بن الشاعر يقول: «جَمَعَتْ لِي أُمَّي مِائَة رَغِيفٍ فَجَعَلَتْهَا فِي جِرَابٍ، وَانْحَدَرْتُ إِلَى شَبَابَة بِالمَدَائِنِ، فأقمتُ بِبَابِهِ مِائَة يَوِمٍ، كُلَّ يَوْمٍ أَجِيءُ بِرَغِيفٍ فَأَغْمِسُهُ فِي دِجْلَةَ فَآكُلُهُ، فَلَمَّا نَفِدَتْ خَرَجْتُ» (¬5). وهذا أحمد بن الفرات (¬6) يخبر بنفسه بأنه «كَتَبَ عَنْ أَلْفٍ ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ ": 1/ 239. (¬2) " تذكرة الحفاظ ": 1/ 238. (¬3) " الكفاية ": ص 152. (¬4) المصدر نفسه، والصفحة ذاتها. (¬5) " طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ص 106 (بتحقيق أحمد عبيد، مطبعة الاعتدال بدمشق، سنة 1350 هـ). (¬6) هو الحافظ الحُجَّة أبو مسعود الرازي مُحَدِّثُ أصبهان وصاحب التصانيف. تُوُفِّيَ سَنَةَ 258 هـ.

الرحلة للمتاجرة بالحديث:

وَسَبْعٍ وَمِائَةَ شَيْخٍ» (¬1) على حين لم نعرف من أسماء شيوخ الإمام البخاري الذين تَلَقَّى عنهم وأخذ من أفواههم - عند جمع " صحيحه " - إِلاَّ أَلْفًا وزيادة قليلة (¬2). وقالوا في أبي عبد الله بن منده (- 395 هـ): إنه ختام الرَّاحلين (¬3)، لأنه «لَمَّا رَجَعَ مِنَ الرِّحْلَة الطَّوِيلَةِ كَانَتْ كُتُبُهُ عِدَّةَ أَحْمَالٍ حَتَّى قَِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ حِمْلاً» (¬4). وحين صُنِّفَتْ كتب الحديث لم تُغْنِ عن الرحلة في طلب العلم، فلقد كانت الكتب لتيسر التحصيل على المتساهل، أما الذي كان يلتمس شرف العلم وكرامته فلم يكن ليرضى بما يقرؤه في الكتب بل ظلت أشهى أمانيه الرحلة في طلب الحديث. الرِّحْلَةُ لِلْمُتَاجَرَةِ بِالحَدِيثِ: ولئن كان هؤلاء الرحَّالون إنما يطلبون الحديث ابتغاء الاتساع في المعرفة، فإنَّ كَثِيرًا غيرهم بدؤوا يطلبونه متاجرةً به: فيعقوب بن إبراهيم بن سعد كان يحفظ الحديث الذي رواه أبو هريرة وفيه ينهى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاغتسال ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ ": 2/ 544. (¬2) وقد عرفنا ذلك من قول الإمام البخاري نفسه: «كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ نَفَرٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَزِيَادَةٍ» ثم يُؤَكِّدُ أنه لم يكتب إلاَّ عمَّنْ قال: «الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ». انظر حوادث سَنَةَ 256 في " شذرات الذهب ": 2/ 134 وانظر " تذكرة الحفاظ ": 2/ 555. وسماعات البخاري من البلدان المختلفة. (¬3) " تذكرة الحفاظ ": 3/ 1032. وفيها ترجمته. (¬4) " تذكرة الحفاظ ": 3/ 1032.

في الماء الدائم إذا أصابته نجاسة، «وكان يعقوب لا يُحَدِّثُ بهذا الحديث إلاَّ بدينار» (¬1). وأمر أبي نعيم الفضل بن دُكين أغرب من هذا فإنه إمام حافظ ثقة (¬2)، ولكنه ضرب الرقم القياسي في الخبرة بالشؤون المالية، فهذا أحد تلاميذه علي بن جعفر بن خالد يقول: «كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ الفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ الْقُرَشِيِّ نَكْتُبُ عَنْهُ الحَدِيثَ، فَكَانَ يَأْخُذُ مِنَّا الدَّرَاهِمَ الصِّحَاحَ، فَإِذَا كَانَ مَعَنَا دَرَاهِمُ مَكْسُورَةً يَأْخُذُ عَلَيْهَا صَرْفًا» (¬3). ولذلك كان شُعبة بن الحجاج (¬4) ينصح بأخذ الحديث من الغَنِيِّ المُوسِرِ لأنه يستغني عن الكذب فيقول لعليٍّ بن عاصم: «عَلَيْكَ بِعُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ فَإِنَّهُ غَنِيُّ لاَ يَكْذِبُ!» فيرُدُّ عليه عليُّ بن عاصم قائلاً: «كَمْ مِنْ غَنِيٍّ يَكْذِبُ!» (¬5) ويقول شُعْبَةُ مُؤَكِّداً رَأْيَهُ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِ الفُقَرَاءِ شَيْئًا» (¬6). ولقد قام العلماء - في مختلف العصور - في وجه هؤلاء المتاجرين بالحديث ¬

_ (¬1) انظر " سنن النسائي بشرح السيوطي ": 1/ 49 و" الكفاية ": ص 156. (¬2) راجع ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 372. (¬3) " الكفاية ": ص 156 وانظر في " الباعث الحثيث ": ص 116 ما يتعلَّق بموقف ابن دُكين من أخذ الأجر على الحديث. (¬4) هو شُعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي الواسطي، ويُكَنَّى أبا بسطام: مُحَدِّثُ البصرة وأمير المؤمنين في الحديث. رأى أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وسمع أربع مائة من التابعين، تُوُفِّيَ سَنَةَ 160 هـ. (¬5) " الكفاية ": ص 155. (¬6) " الكفاية ": ص 156.

يضربون على أيديهم، وينصحون طلبة العلم قائلين: «يَا ابْنَ آدَمَ عِلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا» (¬1). ويستندون في هذا إلى أنَّ التعليم مَجَّانًا وارد في الكتب السماوية، فعن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: «مَكْتُوبٌ فِي الكُتُبِ: يَا ابْنَ آدَمَ عِلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا» (¬2). ولهذا القول أصل صحيح معروف في الكتب السماوية، ففي آخر سفر من أسفار الكتاب المقدس « Deutéronome» : « إِنَّمَا عَلَّمْتُكُمْ بِأَمْرِ رَبِّي» (¬3). ويستندون أَحْيَانًا أخرى إلى الحديث النبوي نفسه ليجزموا بحرمة أخذ الأجر على تعليم العلم، ففي " سُنن أبي داود " أنَّ الصحابي الجليل عُبادة بن الصامت - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - علَّمَ ناسًا من أهل الصُفَّة الكتاب والقرآن، فأهدى إليه رجل منهم قوسًا رمزًا للشكر وعرفان الجميل، وَإِذَا عُبَادَةُ يَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ هَذِهِ الهَدِيَّةِ، فَيُفْْتِيهِ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بِلَهْجَةٍ شَدِيدَةٍ جَازِمَةٍ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» (¬4). وكان لأمثال هذا الحديث أثر بليغ في نفوس العلماء وَالرُوَّاةِ، فكانوا يعدُّون الهدية رشوة إنْ أهداها طالب الحديث، ويرفضون أنْ يلقوا إليه شيئاً منه إلاَّ إذا عاهدهم ألاَّ يهديهم شَيْئًا. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ , قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَسْمَعُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (- 167 هـ) فَرَكِبَ بَحْرَ الصِّينِ فَقَدِمَ , فَأَهْدَى إِلَى حَمَّادٍ فَقَالَ لَهُ حَمَّادٌ: " اخْتَرْ , إِنْ شِئْتَ ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 154. (¬2) انظر " الكفاية ": ص 153. (¬3) وقد أشار جولدتسيهر إلى صحة هذا الأمر في الحاشية الثالثة ص 225 في كتابه " Etudes sur la Tradition Islamique ". (¬4) " سنن أبي داود ": 3/ 360 رقم الحديث 3416. كتاب الإجارة. باب من كسب العلم.

قَبِلْتُهَا وَلَمْ أُحَدِّثْكَ أَبَدًا , وَإِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ وَلَمْ أَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ , فَقَالَ: لاَ تَقْبَلِ الهَدِيَّةَ وَحَدِّثْنِي , فَرَدَّ الْهَدِيَّةَ وَحَدَّثَهُ» (¬1). وتتَّخذ هذه الفكرة سبيلاً آخر إلى تقبيح المُتَاجِرِينَ بالحديث في مثل قول الإمام أحمد حِينَ سُئِلَ: يُكْتَبُ عَمَّنْ يَبِيعُ الحَدِيثَ؟ فَقَدْ أَجَابَ: «لاَ , وَلاَ كَرَامَةَ» (¬2)!. ولعلَّ بائعي الحديث والمتاجرين به - رغم جشعهم الظاهر أَحْيَانًا - لم يكونوا دائمًا من الكَذَّابِينَ أَوْ الوَضَّاعِينَ: ولعلَّ كَثِيرًا منهم كانوا ثقات ضابطين، ولكنه المال يثني أعناق الرجال، وكانت لهؤلاء فلسفتهم الخاصة، فهم قد تَجَشَّمُوا المشاق وركبوا الأهوال ورحلوا في طلب الحديث، «لا يعوقهم فقر، ولا يفت في عزمهم صعوبة الطريق وأخطاره، سواء عليهم الصحراء وَحَرِّهَا، والبحار وأمواجها، إذ تغلغل في نفوسهم اعتقاد أنَّ طلب العلم جهاد، فمن مات في سبيله مات شهيداً» (¬3)، بينما كان سائر الآخذين عنهم قابعين في دورهم، آمنين في سربهم، فهم لا يريدون أنْ يكونوا سواء مع هؤلاء. ونحن لا نعدم في كتبنا الأمينة أخباراً تشير إلى الأصول المنهجيَّة التي كان يَتَّبِعُهَا هؤلاء الرُواة في استقصاء الحديث النبوي، وهي أصول كانت تُكَبِّدُهُمْ من العناء الشيء الكثير، وهي لو قورنت بشيء في عصرنا الحديث لكانت أشبه بأساليب الناشرين الذين أصبحت أعمالهم وقفاً على البحث عن كنوز المخطوطات لنشرها ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 153 كراهة أخذ الأجر على التحديث ومن قال: «لاَ يُسْمَعُ مِنْ فَاعِلِ [ذَلِكَ]». (¬2) " الكفاية ": ص 54. (¬3) " ضُحى الإسلام ":2/ 72.

ثم بيعها بأغلى الأثمان. والطريقة التي وصل بها العلماء إلى أحاديث علي بن الجعد (- 230 هـ) تُوَضِّحُ لنا الكثير من فلسفة المتاجرين بالحديث في تلك الأيام: «قال أبو الفضل بن طاهر المقدسي: سمعت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي صاحبنا يقول: دخلت بغداد وسمعتُ ما قدرت عليه من المشايخ، ثم خرجت أريد الموصل، فدخلت صريفين فَبَتَّ في مسجد بها، فدخل أبو محمد الصريفيني وَأَمَّ النَاسَ فتقدَّمتُ إليه وقلتُ له: سمعتَ شيئاً من الحديث؟ فقال: كان أبي يحملني إلى أبي حفص الكتاني وابن حَبَّابَةَ وغيرهما، وعندي أجزاء. قلتُ: أخرجها حتى أنظر فيها، فأخرج إليَّ حزمة منها كتاب عَلِيٍّ بن الجعد بالتمام مع غيره من الأجزاء، فقرأته عليه، ثم كتبت إلى أهل بغداد فرحلوا إليه وأحضره الكبراء من أهل بغداد، فكل من سمعته من الصريفيني فالمِنَّةُ لأبي القاسم الشيرازي فلقد كان من هذا الشأن بمكان» (¬1). وتنصرم الأعوام، وتتعاقب الأجيال، وإذا بتلك الرحلات العلمية في طلب الحديث تصبح ضرباً من الرحلات الرياضية يطلب بها بُعْدُ الصِّيتِ، فكان بعض من لا خلاق لهم يرحلون إلى اقصى الأقاليم لا ليحفظوا الأحاديث ويعملوا بما فيها بل لتظهر أسماؤهم في سلسلة الإسناد، ولا سيما فيما لم يكن مشهوراً من الأحاديث. وهذه الرحلات الرياضية - إنْ صحَّ التعبير - كثرت في القرن الهجري الثالث، وانتهى إلى أسوأ النتائج في القرن الهجري الخامس، ¬

_ (¬1) " معجم البلدان " لياقوت: 3/ 385.

مقاومة المتساهلين بالحديث:

حتى ضَجَّ منها العلماء المخلصون بالأمصار، وراحوا يقاومونها بكل ما أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ. مُقَاوَمَةُ المُتَسَاهِلِينَ بِالحَدِيثِ: من هؤلاء العلماء أبو بكر أحمد المعروف بالخطيب البغدادي (- 463 هـ) فقد أشار إلى هذه الحال المخزية التي وصل إليها الذين يُسَمُّونَ أنفسهم في عهده رُواة الحديث بُهتاناً وزُوراً، فقال في كتابه " الكفاية في علم الرواية " في المقدمة: « ... وَقَدِ اسْتَفْرَغَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا وُسْعَهَا فِي كَتْبِ الأَحَادِيثِ وَالمُثَابَرَةِ عَلَى جَمْعِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَنْظُرُوا نَظَرَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ فِي حَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ، وَتَمْيِيزِ سَبِيلِ الْمَرْذُولِ وَالرَّضِيِّ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا فِي السُّنَنِ مِنْ الأَحْكَامِ، وَإِثَارَةِ الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا مِنَ الْفِقْهِ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ، بَلْ قَنَعُوا مِنَ الْحَدِيثِ بِاسْمِهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى كَتْبِهِ فِي الصُّحُفِ وَرَسْمِهِ، فَهُمْ أَغْمَارٌ، وَحَمَلَةُ أَسْفَارٍ، قَدْ تَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ، وَسَافَرُوا إِلَى الْبِلْدَانِ الْبَعِيدَةِ، وَهَانَ عَلَيْهِمُ الدَّأَبُ وَالكَلاَلُ، وَاسْتَوطَئُوا مَرَاكِبَ الْحِلِّ وَالاِرْتِحَالِ، وَبَذَلُوا الأَنْفُسَ وَالأَمْوَالَ، وَرَكِبُوا الْمَخَاوِفَ وَالأَهْوَالَ، شُعْثَ الرُّؤُوسِ، شُحْبَ الأَلْوَانِ، خُمْصَ الْبُطُونِ، نَوَاحِلُ الأَبْدَانِ، يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَهُمْ بِالسَّيْرِ فِي الْبِلاَدِ لِمَا عَلاَ مِنَ الإِسْنَادِ، لاَ يُرِيدُونَ شَيْئًا سِوَاهُ وَلاَ يَبْتَغُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ، يَحْمِلُونَ عَمَّنْ لاَ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ، وَيَسْمَعُونَ مِمَّنْ لاَ تَجُوزُ أَمَانَتُهُ، وَيَرْوُونَ عَمَّنْ لاَ يَعْرِفُونَ صِحَّةَ حَدِيثِهِ، وَلاَ يَتَيَقَّنُ ثُبُوتُ مَسْمُوعِهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لاَ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ صَحِيفَتِهِ، وَلاَ يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِطِ الرِّوَايَةِ، وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّمَاعِ

وَالإِجَازَةِ، وَلاَ [يُمَيِّزُ] بَيْنَ المُسْنَدِ وَالمُرْسَلِ وَالمَقْطُوعِ وَالمُتَّصِلِ، وَلاَ يَحْفَظُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ حَتَّى يَسْتَثْبِتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَكْتُبُونَ عَنِ الْفَاسِقِ فِي فِعْلِهِ، الْمَذْمُومِ فِي مَذْهَبِهِ، وَعَنِ الْمُبْتَدِعِ فِي دِينِهِ، الْمَقْطُوعُ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِهِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ وَاجِبًا، إِذَا كَانَ السَّمَاعُ ثَابِتًا، وَالإِسْنَادُ مُتَقَدِّمًا عَالِيًا ... » إلخ (¬1). ولم يكن التظاهر بالورع مُجدياً، ولا الإكثار من التعبد شافعاً لرواة الغرائب والمناكير، فإنَّ لنقاد الحديث حَدْساً داخلياً يشبه الإلهام كان يبعثهم على الحيطة في روايات هؤلاء المغْربين والاحتراس في قبولها، وقد يبلغ بهم الحذر أشُدَّهُ فيفرُّون منها ويرفضون تحمُّلها وأداءها: لم يردوارواية معلَّى بن هلال لفسقه أو قلَّة ضبطه، فهو الزاهد العابد المشهور بالصلاح، الذي كان يُصَلِّي في يومه مائة ركعة، وإنما رَدُّوها لإكثاره من رواية غريب الحديث (¬2). ولقد أمسى هؤلاء النُقَّادُ يستحبُّون رواية المشاهير، و «كَانُوا يَكْرَهُونَ - إِذَا اجْتَمَعُوا - أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ أَحْسَنَ حَدِيثِهِ أَوْ أَحْسَنَ مَا عِنْدَهُ» (¬3) وما كان «الأحسن» عندهم إلاَّ «الغريب» لأنَّ الغريب غير المألوف يستحسن أكثر من المشهورالمعروف (¬4)، ولا سيما في نظر العوامِّ الذين يكبر في عيونهم عادة ما يجهلون. ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 3 و 4. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي ": 7/ 127 وجه أول. وعبارة الخطيب: «مَا أَفْسَدَهُ عِنْدَ النَّاسِ إِلاَّ رِوَايَةُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ». (¬3) " الجامع ": 7/ 127 وجه 2. (¬4) " الجامع ": 7/ 127 وجه 2 أَيْضًا.

قيل لشُعبة بن الحجاج: ما لك لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان وهو حسن الحديث؟ فقال: «مِنْ حُسْنِهَا فَرَرْتُ»! (¬1). والفرار من التحديث بالغريب كان أصدق تعبير عن تخوف العلماء من التدليس الذي يقع فيه رُواة الغرائب والمناكير ساهين أو مُتَعَمِّدِينَ، فإنَّ أمثال هؤلاء الرواة أكثر تعرضاً لضروب التدليس من سائر المُحَدِّثِينَ: إذ يركبون الأهوال في طلب الحديث ملتمسين غرابته قبل صحته، باحثين عن ندرته قبل اتصال سنده، ليباهوا به الخاصة ويتعالوا به على العامة، من أجل ذلك استخفَّ النقاد بهم ولم يقيموا لهم وزناً، وطعنوا في عدالتهم وَرَمَوْهُمْ بالكذب مصداقاً لقول الإمام أبي حنيفة: «مَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الحَدِيثِ كُذِّبَ» (¬2). وتجريح النُقَّاد للمدلس في الحديث طلباً للغرائب وحرصاً عليها يبدو أمراً طبيعياً، فما أسرع الفضيحة إلى المدلس يكشف بها الستر عن نفسه (¬3)! حتى إذا افتضح وعُرِفَ عنه الكذب كان من عقوبته أنْ يردَّ عليه صدقه ولا تذكر محاسنه (¬4)، ولا يقبل حديثه بعد ذلك أبداً (¬5). والمدلِّسون في الحديث تباهياً ورئاء الناس كانوا أَحْيَانًا من أوقح من رأتْ ¬

_ (¬1) " الجامع ": 7/ 127 وجه 2. (¬2) " الجامع ": 8/ 146 وجه 1. (¬3) كما قال سُفيان الثوري (- 161 هـ): «مَنْ كَذَبَ فِي الحَدِيثِ افْتَضَحَ». " الكفاية ": ص 117. (¬4) وقد رَوَوْا عن عبد الله بن المبارك (- 181 هـ) أنه قال: «مِنْ عُقُوبَةِ الكَذَّابِ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ صِدْقُهُ»، ورأى غيره أنَّ «مِنْ عُقُوبَةِ الفَاسِقِ المُبْتَدِعِ ألاَّ تُذْكَرَ لَهُ مَحَاسِنَهُ». انظر: " الكفاية ": ص 117. (¬5) " الكفاية ": ص 118.

عين أو سمعتْ أذن،، فيحدث أحدهم عن رجل يدَّعي سماعه وهو لم يدركه، ويختلف أسماء أشخاص وأماكن لا يعرف عنها شيئاً، أو يعظَّم المروي عنه بصفات حسان ينسجها له بخياله الحصيب، أو ينسب إليه أعمالاً صالحات ليس لها أصل صحيح، حَدَّثَ عُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ الْكَلاَعِيُّ , قَالَ: «قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ مُوسَى حِمْصَ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ , فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا شَيْخُكُمُ الصَّالِحُ , حَدَّثَنَا شَيْخُكُمُ الصَّالِحُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ , قُلْتُ لَهُ: مَنْ شَيْخُنَا هَذَا الصَّالِحُ؟ سَمِّهِ لَنَا نَعْرِفُهُ , (قَالَ): فَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ , قُلْتُ لَهُ: فِي أَيِّ سَنَةٍ لَقِيتَهُ؟ قَالَ: لَقِيتُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ , قُلْتُ: فَأَيْنَ لَقِيتَهُ؟ قَالَ: لَقِيتُهُ فِي غَزَاةِ أَرْمِينِيَّةَ , (قَالَ): فَقُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا شَيْخُ، وَلاَ تَكْذِبْ، مَاتَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَقِيتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَأَزِيدُكَ أُخْرَى إَنَّهُ لَمْ يَغْزُ أَرْمِينِيَّةَ قَطُّ، كَانَ يَغْزُو الرُّومَ» (¬1). وواضح من هذه القصة أنَّ جهل الرُواة بتاريخ وفاة المروي عنه كان دليلاً قاطعاً على وقوع الكذب والتدليس (¬2). ولذلك اشترط نُقَّادُ الحديث معرفة ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 119. (¬2) ولا يستغرب هذا الكذب ولا الجهل الذي كان سبباً فيه وعِلَّةُ له. حين وصف بهما رجل مغمور كعمر بن موسى لا يعرف عن ترجمته إلاَّ الشيء اليسير. ولكن العجب العجاب من عالم مشهور كالسمعاني (عبد الكريم، المُتَوَفَّى سَنَةَ 563، صاحب كتاب " الأنساب ") إذا صَحَّ ما يرميه به أبو الفرج بن الجوزي من الكذب الصراح والتدليس الأقبح: يوم أمسك بيد شيخ له في بغداد، ثم عَبَرَ معه إلى الضفة الأخرى من نهر عيسى، ثم راح يُحَدِّثُ عنه قائلاً: «سمعتُ من الشيخ فلان فيما وراء النهر كذا وكذا»، يوهم بذلك أنه سمع منه في الموضع المسمَّى «ما وراء النهر». وحين وجد جولدتسيهر هذه القصة تُحْكَى في (" الكامل " لابن الأثير: 11/ 125) تَشَبَّثَ بها وغدا يُضَخِّمُهَا كدأب المستشرقين ليتَّخذها ذريعة إلى التشكيك بأمانتنا العلمية في رواية =

الرجال وتاريخهم وطبقاتهم والعناية بمواليدهم ووفياتهم، وقال سُفيان الثوري (- 61 هـ) موضِّحاً سبب الاشتغال بهذا كله: «لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمُ التَّارِيخَ» (¬1)، بل استعمل نُقَّادُ الحديث التحديد الجغرافي أَيْضًا لفضح الكذَّابين وكشف أساليبهم في الوضع أو التدليس، فلا يذكر ثقاتهم إسناداً فيه رجال رحلوا وأكثروا الترحل وطوفوا بالأقاليم إلاَّ قيدوا أسماء هؤلاء الرجال باسم البلد الذي حدَّثُوا فيه (¬2). ومهما يكن من الرحلة في الحديث متاجرة به وتكسُّباً، أو طلباً للشهرة وافتخاراً، فإنَّ الورعين الذين كانوا يحدِّثُون احتسابا لوجه الله هم الذين ملأوا الأرض علماً بِسُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد كانوا في كل زمان ومكان أكثر من أنْ يخفوا، وأجل آثاراً من أنْ يهملوا، وأقوى نفوساً من أنْ يسدل عليهم التاريخ ستار النسيان. وحسبنا - للاستدلال على دقة المُحَدِّثِينَ في قبول الروايات - أنهم صَرَّحُوا «بِأَنَّ الْكَاذِبَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

_ = الحديث. غير أنه ما لبث أنْ نكص على عقبيه لما رأى ابن الأثير في السياق نفسه يَرُدُّ فرية ابن الجوزي عن السمعاني ويرى أنَّ صاحب " الأنساب " أسمى من أنْ يكذب. وأنه رحل حقاً إلى «ما وراء النهر»، وأنَّ له في ذلك الموضع شيوخا معروفين. وإنما رماه ابن الجوزي بذلك لاختلافهما في المذهب، فالسمعاني كان شافعياً، وابن الجوزي كان حنبلياً. وقارن بـ Goldziher, Etudes sur la Tradition Islamique, p. 229 - 230. ومن المعروف أنَّ ابن الجوزي كان يتسرَّعُ في الحُكم بالوضع حتى قيل: «لاَ عِبْرَةَ بِمَوْضُوعَاتِهِ». (¬1) " الكفاية ": ص 119. (¬2) من الأمثلة على هذا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الِعيَاضِيِّ، وَالحَسَنُ بْنِ حَفْصٍ الْنَّهْرَوَانِيُّ بِسَمَرْقَنْدَ (" تاريخ بغداد " 13/ 436). أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحَرِيرِيُّ , بِبَغْدَادَ (" الكفاية ": ص 123). أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ بِمَرْوَ (" الجامع ": 8/ 157 وجه 2) وسمع الإمام البخاري ببغداد من طائفة منهم أحمد بن حنبل (" شذرات الذهب " 2/ 57 - 60) وسمع بمكة من الحميدي (" طبقات الشافعية ": ص 5). ولذلك كان المحدثون يمتحنون الراوي بالسؤال عن الموضع الذي سمع فيه (" الجامع ": 1/ 17 وجه 1 و 2).

تُرَدُّ رِوَايَتُهُ» (¬1)، وأنَّ «السَّفَهَ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَيُوجِبُ رَدَّ الرِّوَايَةِ» (¬2). فكل من يجري على لسانه شيء من الكلام البذيء أو العبارات المبتذلة ينفر منه المحدثون ويتركون الرواية عنه. رَوَوْا عن الإمام البخاري أنه رَدَّ حديث النضر بن مطرف، لأنَّ يحيى بن سعيد القطان (- 113 هـ) ترك الرواية عنه. أما يحيى فقد بيَّن سبب إهماله حديث النضر بقوله: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنْ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ فَأُمِّي زَانِيَةٌ» (*) , قَالَ يَحْيَى: «تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِهَذَا» (¬3). ويشبه هذا ما رَوَوْا عن شعبة بن الحجاج أنه قال: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى رَجُلاً يَقْدَمُ مِنْ مَكَّةَ فَأَسْأَلُهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ , حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ فَسَمِعْتُ مِنْهُ , فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَافْتَرَى عَلَيْهِ , فَقُلْتُ: تَفْتَرِي عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ غَاظَنِي , (قَالَ): قُلْتُ: يَغِيظُكَ فَتَفْتَرِي عَلَيْهِ؟! فَآلَيْتُ أَلاَّ أُحَدِّثَ عَنْهُ». فَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: «فِي صَدْرِي عَنْهُ أَرْبَعُمِائَةٍ , لاَ وَاللَّهِ لاَ حَدَّثْتُكُمْ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا» (¬4). فالافتراء على إنسان ولو غاظ الراوي سفه يسقط العدالة، لأنَّ هؤلاء الرُواة كانوا يتميَّزون بمكارم الأخلاق، ولهم آداب خاصة ومناهج في التربية والتعليم ينفردون بها من بين سائر العلماء من قُدَامَى وَمُحْدَثِينَ، في الشرق والغرب (¬5). ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 117. (¬2) " الكفاية ": ص 115. (¬3) " الكفاية ": ص 115. (¬4) " الكفاية ": ص 115. (¬5) ولعل خير كتاب يعالج مناهج المُحَدِّثِينَ في التربية والتعليم هو " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ. وهو في مكتبة البلدية بالإسكندرية (برقم 711. 3 مج) مخطوط يقع في عشرة أجزاء صغيرة. وقد تفضَّل الزميل الدكتور يوسف العش بإعارتنا نسخته المُصَوَّرة عن هذا الكتاب، فله جزيل الشكر وجزاه الله خيراً. والقارئ الكريم لاحظ بلا ريب أننا أكثرنا الاستشهاد من هذا المخطوط القيِّم الذي ضبطنا عبارته وحققناه وسننشره إنْ شاء الله.

الفصل الرابع: دور الحديث وألقاب المحدثين:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: دَوْرُ الحَدِيثِ وَأَلْقَابِ المُحَدِّثِينَ: في القرن الهجري السادس امتازت الحياة الإسلامية بظاهرة. جديدة أضعفت بعض الشيء الرحلة في طلب الحديث: فحتى أوائل هذا القرن لم تكن في المجتمع الإسلامي مدارس خاصة لتلقِّي الحديث، فكان الطلبة يضطرُّون إلى الارتحال والتجوال , وإنما كانت المدارس التي تتعمق في الفقه ومذاهبه وآرائه والمجتهدين فيه تؤسس في كل مكان، لتزوِّد جهاز الدولة بالقُضاة والمتشرِّعين. ولقد أنشئت أول دار للحديث في القرن الهجرى السادس تحقيقاً لرغبة نور الدين محمود بن أبي سعيد زنكي (- 569 هـ) الذي خَلَّدَ اسمه بإنشاء المدرسة النورية في دمشق. وكان ابن عساكر صاحب " تاريخ دمشق " من شيوخ هذه المدرسة (¬1). ¬

_ (¬1) ( Wustenfeld, die Akademien der Araber und ihre Lehrer, p.69 (ef.Tradit. Islam, 231 note 1. وكتاب وستنفلد المذكور من أطرف ما أُلِّفَ في وصف دور العلم عند العرب والترجمة لشيوخها. أما ابن عساكر فهو أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي الشافعي خاتمة الجهابذة الحُفَّاظ. تُوُفِّيَ سَنَةَ 571 هـ.

وبعد عشرات السنين، قامت في القاهرة دار للحديث بأمر الملك الأيُّوبي الكامل ناصر الدين، وقد تم تأسيسها سَنَةَ 622 هـ، وكان أول أستاذ فيها أبا الخطاب بن دحية (¬1). وبعد أربع سنوات من تأسيس المدرسة الكاملية، نشأت ني دمشق المدرسة الأشرفية سنة 626 هـ، فكان أول شيوخها أبا عمرو بن الصلاح (¬2). وَدَرَّسَ في هذه الدار أَيْضًا الإمام النووي (¬3). ولقد قامت في دمشق دُورٌ أخرى للحديث، ولكنها لم تكن ذات شأن عظيم (¬4). وهذه الدُورُ جميعاً لم تطل حياتها، لأنها لم تك كمدارس الفقه والأحكام وسيلة إلى المناصب والقضاء، والحظوة عند الخلفاء، ثم هي - فوق ذلك - لم تك تشفي غلة الورعين من طلاب الحديث. الذين ظلوا يُؤْثِرُونَ الرحلة والطواف بالأقاليم. ¬

_ (¬1) هو الحافظ عمر بن الحسن المشهور بابن دحية. وهو أندلسي بلنسي، نسبة إلى بلنسة مدينة شرق الأندلس. توفي بالقاهرة سَنَةَ 633 هـ. له " التنوير في مولد السراج المنير ". ويفهم من " خطط المقريزي ": 2/ 375 أنَّ فتى ليس له من ابن آدم إلاَّ الشكل خلف ابن دحية في التدريس بالكاملية. (¬2) هو الحافظ المعروف أبو عمرو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري المشهور بابن الصلاح. تُوُفِّيَ سَنَةَ 643 هـ. (¬3) هو الإمام محيى الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي. له في علوم الحديث تصانيف كثيرة أشهرها " شرح صحيح مسلم "، تُوُفِّيَ سَنَةَ 676 هـ. (¬4) وقد تناول هذه الدور بالدراسة الإحصائية الدقيقة ( Michael Meschaka's Cultur-Statistik von Damaskus (ef. Tradit. Islam, 232 note 1.

ألقاب المحدثين:

أَلْقَابُ المُحَدِّثِينَ: وكما أطلق العلماء على الرحالين في طلب الحديث ألقاباً مختلفة، تبعاً لنشاطهم في الرحلة والتجوال، أطلقوا على الدارسين في بلدهم أو في الأقاليم المجاورة له ألقاباً «رسميَّة» كانوا يستحسنون إلحاقها باسمائهم عند ترجمتهم لتعرف طبقاتهم ودرجاتهم وطرق تحمُّلهم للحديث وأدائه. وأشهر الألقاب التي نَبَّهُوا على التمييز بينها ثلاثة: المُسْنِدُ وَالمُحَدِّثُ وَالحَافِظُ. فَالمُسْنِدُ هو من يروي الحديث بإسناده، سواء أكان عنده علم به أم ليس له إلاَّ مُجَرَّدَ روايته (¬1). وَالمُحَدِّثُ أرفع منه بحيث عَرَفَ الأسانيد والعِلَلَ، وأسماء الرجال، والعالي والنازل، وحَفِظَ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع " الكتب الستة " و " مسند أحمد بن حنبل و " سُنَنَ البيهقي " و " معجم الطبراني "، وَضَمَّ إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية (¬2). أما الحافظ فهو أعلاهم درجةً وأرفعهم مقاماً: فمن صفاته أنْ يكون عارفاً ¬

_ (¬1) " تدريب الراوي ": ص 4. (¬2) " تدريب الراوي ": ص 6. وعبارة القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 53، مقتبسة من هنا بتصرف. فقد ذكرت فيها المسانيد والمعجم والأجزاء دون تحديد. وليس هنا موضع الحديث في الفَرْقِ بين أنواع هذه الكتب والتصانيف. وسنتحدَّثُ عنها وعن أصحابها في باب خاص.

بسُنن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بصيراً بطرقها، مُمَيِّزاً لأسانيدها، يحفظ منها ما أجمع أهل المعرفة على صِحَّتِهِ، وما اختلفوا فيه للاجتهاد في حال نقلته، يعرف فرق ما بين قولهم: فلان حُجَّةٌ، وفلان ثقة، ومقبول، ووسط، ولا بأس به، وصَدُوقٌ، وصالحٌ، وشيخ، وليِّنٌ، وضعيف، ومتروك، وذاهب الحديث، وَيُمَيِّزُ الروايات بتغاير العبارات: نحو عن فلان، وأن فلاناً؛ ويعرف اختلاف الحكم في ذلك بين أنْ يكون المُسَمَّى صحابياً أو تابعياً، والحكم في قول الراوى: قال فلان، وعن فلان، وأنَّ ذلك مقبول من المُدَلِّسِن َدون إثبات السماع على اليقين، ويعرف اللفظة في الحديث تكون وَهْماً وما عداها صحيحاً، وَيُمَيِّزُ الألفاظ التي أدرجت في المتون فصارت بعضها لاتصالها بها، ويكون قد أنعم النظر في حال الرُواة بمعاناة علم الحديث دون ما سواه، لانه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يَضُمَّ غيره من العلوم إليه» (¬1). ولعل أهم صفات الحافظ - كما يستنبط من أقوال العلماء وتعاريفهم - أنَّه يتوسَّع في أسماء الرجال حتى يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه عن كل طبقة أكثر مِمَّا يجهله (¬2). ويعتقد كثير من نُقَّاِد الحديث أنَّ الذين يجوز تسميتهم «بالحُفَّاظ»، قليلون في كل زمان ومكان وبما «يتعذَّر وجودهم» (¬3)، لما يشترط لهم من نادر الصفات وسعة العلم. وحسبك أنَّ الوصف بالحفظ على الاطلاق ينصرف ¬

_ (¬1) " الجامع لأخلاق الراوي ": 8/ 150 وجه 2. (¬2) " التدريب ": ص 7 وقارن بـ " قواعد التحديث ": ص 53. (¬3) " الجامع لأخلاق الراوي ": 8/ 159 وجه 1.

إلى أهل الحديث خاصة، فلا يقول قارئ القرآن: لقني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي: علمني فلان الحافظ (¬1). وذهب الناس يغلون في الحفاظ كل مذهب، فقد عدت كنب الإمام أحمد في اليوم الذى مات فيه، فبلغت اثني عشر حملاً، ما على ظهر كتاب منها «حَدَّثَ فُلاَنٌ» ولا في بطنه «أَخْبَرَنَا فُلاَنٌ»، وكل ذلك كان يحفظه من ظهر قلبه (¬2). قال: يحيى بن معين (¬3): «كَتَبْتُ بِيَدِي هَذِهِ سِتُّ مِائَةُ أَلْفَ حَدِيثٍ» (¬4) ولا عجب في ذلك، فقد ترك يحيى أكثر من مائة قمطر وأربعة عشر قمطراً مملوءة كتباً (¬5) وَأَمْرُ بن عُقدة (¬6) ليس أقل عجباً، لأنَّ الأخبار تصوره حافظاً أربع مائة ألف حديث أملاها من حفظه على إخوة أربعة، ولا يبعد أنْ يكون حافظاً غيرها. قال عبد الله القادسي - وهو أحد هؤلاء الأربعة -: «أقمتُ مع إخوتي بالكوفة عِدَّةَ سنين فكتب عن ابن عُقْدَةَ، فلما أردنا الانصراف وَدَّعُنَاهُ، فقال ابن عُقْدَةَ: قد اكتفيتم بما سمعتم، أقلُّ شيخ سمعت منه، عندي عنه مائة ألف حديث. (قال): فقلت: أيها الشيخ، نحن إخوة أربعة، قد كتب كل ¬

_ (¬1) " الجامع ": 8/ 152 وجه 1. (¬2) " الجامع ": 8/ 151 وجه 1. (¬3) هو سَيِّدُ الحفاظ، وإإمام الجرح والتعديل، أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد الغطفاني مولاهم، البغدادي، توفي بالمدينة سَنَةَ 233 هـ. (¬4) " الجامع ": 8/ 151 وجه 2. وفي " التدريب ": ص 8 «أنَّ ابن معين كتب بيده ألف حديث». (¬5) " الجامع ": 8/ 151 وجه 2. وفي " التدريب ": ص 8 «أنَّ ابن معين كتب بيده ألف حديث». (¬6) هو الحافظ الجامع المصنف أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، أبو العباس، مولى بني هاشم، المعروف بابن عُقْدَةَ. توفي عام 382 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 84).

واحد منا عنك مائة ألف حديث!» (¬1). وحين ينسب إلى أحد هؤلاء الحفاظ عدد عظيم من الأحاديث كتبه بيده أو أملاه على تلاميذه، فهو يحفظه غالباً من ظهر قلبه. قال أَبُو زُرْعَةَ (¬2): «مَا فِي بَيْتِي سَوَادٌ عَلَى بَيَاضٍ إِلاَّ وَأَحْفَظُهُ» (¬3) وقال الشعبي: " ما كتبتُ سواداً في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته» (¬4) ومن الحفاظ من كان يستعين على حفظ الحديث بكتابته، فإذا أتقن حفظه محاه أو دعا بمقراض فقرضه خوفاً من أنْ يَتَّكِلَ القلب عليه، منهم سفيان الثوري (¬5)، وعاصم بن ضمرة (¬6)، وخالد الحذاء (¬7) وقد شاع على ألسنة الناس: بئس المستودع العلم القراطيس! (¬8). وكان في العلماء من يميل إلى تحديد العدد المحفوظ من الحديث الذى يستحق ¬

_ (¬1) " الجامع ": 8/ 152 وجه 1 و 2. (¬2) هو أبو زرعة الرازي، عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ القرشي بالولاء، الحافظ الثقة المشهور. تُوُفِّيَ سَنَةَ 264 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 48). وكان الإمام أحمد يقول: «صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ وَهَذَا الْفَتَى - يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ - قَدْ حَفِظَ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ» (" التدريب ": ص 8 "). (¬3) " الجامع ": 8/ 152 وجه 1. (¬4) " تدريب الراوي ": ص 8. (¬5) انظر " سُنن الدارمي ": 1/ 125. (¬6) " المحدث الفاصل " للرامهرمزي: 4/ 5 وجه 1، وتوفي عاصم سَنَةَ 174 هـ. (¬7) " تقييد العلم ": ص 59. والحذاء هو خالد بن مهران، المتوفَّى سَنَةَ 141 هـ. ومن الذين كانوا يكتبون ويمحون ابن شهاب (انظر " جامع بيان العلم ":1/ 66) وابن سيرين (" المحدث الفاصل ": 4/ 5 وجه 2). (¬8) " جامع بيان العلم ": 1/ 69.

جامعه أنْ يُسَمَّى «حَافِظًا». فقال الحاكم (¬1) في " المدخل ": «كَانَ الوَاحِدُ مِنَ الحُفَّاظِ يَحْفَظُ خَمْسَ مِائَةَ أَلْفَ حَدِيثٍ» (¬2). ورأى غيره أنَّ الحَدَّ الأدنى ينبغي أَلاَّ يَقِلَّ عن عشرين ألفًا، وَلَكِنَّ فتح الدين بن سيد الناس (¬3) يلاحظ أنَّ هذه القضية نِسْبِيَّةٌ، وأنَّ لكل زمن اصطلاحًا وتحديدًا، فيقول: «أَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُنَّا لاَ نَعُدُّ صَاحِبَ حَدِيثٍ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي الإِمْلاَءِ، فَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَتِهِمْ» (¬4). وإذا كان العدد المحفوظ يتردد بين مئات الألوف وعشراتها - وهو فرق عظيم جِدًّا - فإن لهذا التردد تعليلاً واضحًا، فحين تذكر المئات يشمل الحفظ المرفوع إلى النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والموقوف على الصحابي، والمقطوع على التابعي. نسب الإمام أحمد إلى أَبِي زُرْعَةَ أنه كان يحفظ سبع مائة ألف، ففسر البيهقي (¬5) ذلك بقوله: «أَرَادَ مَا صَحَّ مِنَ الحَدِيثِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ» (¬6). وقد يشمل حِينَئِذٍ الصحيح وغير الصحيح. قال الإمام البخاري: ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، المعروف بالحاكم النيسابوري وَبِابْنِ البَيِّعِ، صاحب التصانيف الشهيرة، وأهمها " المستدرك على الصحيحين " و " المدخل ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 405 هـ. (¬2) " تدريب الراوي ": ص 8. (¬3) هو أبو الفتح، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المشهور بِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، اليعمري الأندلسي الأصل، المصري الشافعي، أحد الأعلام الحُفَّاظِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ 734 هـ. له " عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ". (¬4) " تدريب الراوي ": ص 7. (¬5) سَتَرِدُ ترجمة البيهقي. (¬6) " تدريب الراوي ": ص 8.

رواية الحديث بالحفظ:

«أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفَ حَدِيثٍ غَيْرَ صَحِيحٍ» (¬1). وكأنهم - حين يقتصرون على عشرات الألوف - لا يريدون إلا ما صَحَّ من الأحاديث المرفوعة. والورعون من الحُفَّاظِ ما كانوا ليرضوا عن غلو الناس في شأنهم لو كان لهم الخيرة من أمرهم، فإن واحدهم يكون عنده الحديث فيسوقه الناس بالقرعة حتى يخرجه أو يرويه (¬2). ويكتب أحدهم أو يحفظ مئات الألوف فلا يروي إلا عشراتها، أو يحفظ عشرات الألوف فلا يُحَدِّثُ إلا بآحادها، وَهُمْ يشترطون على أنفسهم - فوق هذا كله - التعمق في العلم والفهم والدراية، لا مجرد الإكثار التوسع في الرواية (¬3). رِوَايَةُ الحَدِيثِ بِالحِفْظِ: ويزداد إكبارنا لهؤلاء الحفاظ إذا عرفنا أن العلماء كانوا - ولا سيما في بادئ الأمر - يَتَشَدَّدُونَ في الرواية باللفظ والنص، ولا يتساهلون حتى بالواو والفاء. فكانوا يرون أن على المُؤَدِّي أن يروي ما تَحَمَّلَهُ باللفظ الذي تَلَقَّاهُ من شيخه دون تغيير ولا حذف ولا زيادة. واستدلوا على ذلك بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ حَدِيثاً فَأَدَّى كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (¬4)، وبتعليمه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - الصحابة الحِرْصَ على لفظه النبوي، كما فعل مع البراء بن عازب حين أعاد أمامه قراءة الدعاء الذي عَلَّمَهُ إياه عند أخذ المَضْجَعِ ¬

_ (¬1) " تدريب الراوي ": ص 8 أَيْضًا. (¬2) " الجامع ": 8/ 151 وجه 2. (¬3) " الجامع ": 8/ 151 وجه 1. (¬4) " الكفاية ": ص 173.

فأورده كما تعلمه منه، إلا أنه قال: «وَرَسُولِكَ» بَدَلاً مِنْ «وَنَبِيِّكَ» فنبهه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائلاً بيده في صدره: «وَنَبِيِّكَ» (¬1). ولذلك آثر أكثر اصحابة التشدد في الرواية باللفظ. قِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ؟ فَقَالَ: «مَا بِي أَلاَّ أَكُونَ سَمِعْتُ مِثْلَ مَا سَمِعُوا، أَوْ حَضَرْتُ مِثْلَ مَا حَضَرُوا، وَلَكِنْ لَمْ يُدْرَسِ الأَمْرُ بَعْدُ، وَالنَّاسُ مُتَمَاسِكُونَ، فَأَنَا أَجِدُ مَنْ يَكْفِينِي، وَأَكْرَهُ التَّزَيُّدَ وَالنُّقْصَانَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (¬2). وعلى هذا الأساس راح بعض الصحابة يُصَحِّحُ ما يسمعه من الرُوَّاةِ من تغيير اللفظ النبوي بالتقديم والتأخير، أو استبدال كلمة بمرادفها، قَالَ عُبَيْدٌ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ يَقُصُّ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الرَابِضَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْلَكُمْ، لاَ تَكْذِبُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّمَا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ» (¬3)، وسمع ابن عمر أَيْضًا رجلاً يُرَدِّدُ حديث الأركان الخمسة، فَقَدَّمَ بعضًا مخالفًا بذلك الرواية التي سمعها ابن عمر بنفسه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «اجْعَلْ صِيَامَ رَمَضَانَ آخِرَهُنَّ، ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 175. عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بَرَاءُ كَيْفَ تَقُولُ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ» (قَالَ): قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ طَاهِرًا، فَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، [رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ]، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ "، فَقُلْتُ كَمَا عَلَّمَنِي غَيْرَ أَنِّي قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي: «وَبِنَبِيِّكَ». (¬2) " الكفاية ": ص 172. (¬3) " الكفاية ": ص 173.

كَمَا سَمِعْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬1). وفي عصر التابعين وأتباع التابعين ظَلَّ كثير من الرُوَّاةِ يُؤَدِّ حديث رسول الله بلفظه ونصه، وإن كان آخرون منهم لا يَرَوْنَ بأسًا بالرواية على المعنى، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: «[أَدْرَكْتُ سِتَّةً]، ثَلاَثَةٌ مِنْهُمْ يُشَدِّدُونَ فِي الحُرُوفِ، وَثَلاَثَةٌ يُرَخِّصُونَ فِي المَعَانِي، [وَكَانَ] أَصْحَابَ الحُرُوفِ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، ... » (¬2). ولقد صَوَّرَ الأعمش تَشَدُّدَ الرُوَّاةِ بالحروف، فحمد لهم هذا التَشَدُّدَ وَتَغَنَّى به قائلاً: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ عِنْدَ أَقْوَامٍ كَانَ أَحَدُهُمْ لأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ وَاوًا أَوْ أَلِفًا أَوْ دَالاً، وَإِنَّ أَحَدَهُمُ الْيَوْمَ يَحْلِفُ عَلَى السَّمَكَةِ أَنَّهَا سَمِينَةٌ وَإِنَّهَا لَمَهْزُولَةٌ» (¬3). فَلاَ غَرْوَ إذا حرص هؤلاء الورعون على قول النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَنْتَبِذُ» لا «يَنْبُذُ» (¬4)، وَلاَ غَرْوَ إذا أظهروا شكهم بعبارة صريحة، فقال الراوي: «أَسْلَمُ وَغِفَارٌ أَوْ غِفَارٌ وَأَسْلَمُ» (¬5) أو «نَمَى خَيْرًا» أو «نَمَّى خَيْرًا» (¬6) بالتشديد أو التخفيف. وإن الأمر لأجدر بالحرص والعناية عند الرواة من هذا كله، فبعضهم يَتَحَرَّجُ من تغيير اللحن، ويبقي كلام الراوي صحابيًا كان ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 176. وابن عمر هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب، تُوُفِّيَ سَنَةَ 73 هـ. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي ": 5/ 101 وجه 1. (¬3) " الكفاية ": ص 178. والأعمش هو سليمان بن مهران (- 148 هـ). (¬4) " الكفاية ": ص 178. (¬5) " الكفاية ": ص 179. (¬6) " الكفاية ": ص 180.

أو تابعيًا على حاله، لأن القوم حَدَّثُوهُ هكذا، فلا ضير من استعمال «حَوْثَ» بَدَلاً مِنْ «حَيْثُ» (¬1) أو «لَغَيْتُ» بَدَلاً مِنْ «لَغَوْتُ» (¬2) و «عَوْثَاءُ السَّفَرِ» بَدَلاً مِنْ «وَعْثَائِهِ» (¬3). ولذلك رَوَوْا عن ابن سيرين أنه «كَانَ يَلْحَنُ كَمَا يَلْحَنُ الرَّاوِي» (¬4). وَفَسَّرَ الإِمَامً ُأَبُو عُبَيْدٍ ظاهرة إبقاء اللحن على حاله بقوله: «لأَهْلِ الحَدِيثِ لُغَةٌ، وَلأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لُغَةٌ، وَلُغَةُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَقْيَسُ، وَلاَ تَجِدُ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِ لُغَةِ [أَهْلِ] الحَدِيثِ لأَجْلِ السَّمَاعِ» (¬5). ثم رأى العلماء أن يُمَيِّزُوا في هذا الموضوع بين لحن يحيل المعنى وآخر لا يحيله فرأوا أنه لاَ بُدَّ من تغيير اللحن الذي يفسد المعنى (¬6)، وقالوا بضرورة رَدِّ الحديث إلى الصواب، إذا كان راويه قد خالف موجب الإعراب (¬7). أما الطائفة التي لم تر بأسًا في رواية الحديث بالمعنى، فإنها اشترطت لذلك شروطًا، منها أن يكون الراوي عالمًا بالنحو والصرف وعلوم اللغة عارفًا بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، بصيرًا بمدى التفاوت بينها، قادرًا على أن يؤدِّي الحديث أداءً خاليًا من اللحن، لأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفصح من نطق بالضاد. فمن الكذب ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 182. (¬2) " الكفاية ": ص 183. (¬3) " الكفاية ": ص 180. (¬4) " الكفاية ": ص 186. (¬5) " الكفاية ": ص 182. وأبو عبيد هو القاسم بن سلام، أحد كبار الأئمة في الحديث واللغة، تُوُفِّيَ سَنَةَ 223 هـ. (¬6) " الكفاية ": ص 188. (¬7) " الجامع لأخلاق الراوي ": 6/ 103 وجه 1.

عليه أن يضع المؤدي في فيه لحنًا يستحيل أن يقع منه. قال الأصمعي: «أَخْشَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ العَرَبِيَّةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ: " مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ وَلَحَنْتَ فِيهِ كَذَبْتَ عَلَيْهِ» (¬1). وإذ كانت علوم العربية متشعبة، والإحاطة بها وبالفوارق الدقيقة بين ألفاظها ومدلولاتها شِبْهَ مستحيلة، منع بعض العلماء غير الصحابة من رواية الحديث بالمعنى، لأن «جِبِلَّتَهُمْ عَرَبِيَّةٌ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ». قال القاضي أبو بكر بن العربي (¬2): «إِنَّ هَذَا الْخِلاَفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا كُنَّا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ الأَخْذِ بِالْحَدِيثِ؛ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إلَى زَمَانِنَا هَذَا قَدْ بَدَّلَ مَا نَقَلَ، وَجَعَلَ الحَرْفَ بَدَلَ الْحَرْفِ فِيمَا [رَوَاهُ]؛ فَيَكُونُ خُرُوجًا مِنْ الإِخْبَارِ بِالْجُمْلَةِ. وَالصَّحَابَةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصَاحَةُ وَالْبَلاَغَةُ؛ إذْ جِبِلَّتُهُمْ عَرَبِيَّةٌ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلَهُ، فَأَفَادَتْهُمْ الْمُشَاهَدَةُ عَقْلَ المَعْنَى جُمْلَةً، وَاسْتِيفَاءَ المَقْصَدِ كُلِّهِ؛ وَلَيْسَ مَنْ أَخْبَرَ كَمَنْ عَايَنَ. أَلاَ تَرَاهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا "، وَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَذَا "، وَلاَ يَذْكُرُونَ ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 162. (¬2) هو محمد بن عبد الله المعافري المعروف بابن العربي، من مشاهير فقهاء إشبيلية. تُوُفِّيَ سَنَةَ 544 هـ.

لَفْظَهُ،؟ وَكَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا وَنَقْلاً لاَزِمًا؛ وَهَذَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِيبَ فِيهِ مُنْصِفٌ لِبَيَانِهِ» (¬1). ووقف الإمام مالك من الرواية بالمعنى موقفًا وسطًا، فأجازها فيما لم يرفع إلى رسول الله، وَتَشَدَّدَ في منعها في الأحاديث المرفوعة، حتى كان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَعًا مِنْهُ وَاحْتِيَاطًا - يتحفظ من الباء والياء والتاء في حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما روى عنه البيهقي في " مدخله " (¬2). على أن ابن الصلاح لا يرى ضرورة للتشدد في رواية الحديث بالمعنى في المرفوع دون سواه، وإنما يشترط على من يريد الأداء بالمعنى في المرفوع وغيره اكتساب العلم بالعربية والقدرة على التصرف الصحيح فيها على الوجه الذي ذكرناه، فإنه يقول: «ومنعه بعضهم في حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأجازه في غيره والأصح جواز ذلك في الجميع، إذا كان عالمًا بما وصفناه، قاطعًا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين، وكَثِيرًا ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن مُعَوِّلَهُمْ كان على المعنى دون اللفظ. ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يُغَيِّرَ لفظ شيء من كتاب مُصَنَّفٍ ويثبت بَدَلَهُ فيه لفظًا آخر بمعناه: فإن الرواية بالمعنى رَخَّصَ فِيهَا مَنْ رَخَّصَ، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من ¬

_ (¬1) " أحكام القرآن ": 1/ 10. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 158، وقارن بـ " الكفاية ": ص 179.

الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب، ولأنه إن ملك تغيير اللفظ، فليس يملك تغيير تصنيف غيره» (¬1). والرواية بالمعنى ينبغي أن تظل مُقَيَّدَةً ببعض العبارات الدَالَّةِ على الحِيطَةِ وَالوَرَعِ، فعلى راوي الحديث إذا شك في لفظ من روايته أن يتبعه بقوله: «أَوْ كَمَا قَالَ»، «أَوْ كَمَا وَرَدَ» (¬2). وأكثر الرُوَّاةِ يحرصون على أن يؤدوا الحديث تَامًّا بجميع ألفاظه، ويرون في ذلك ضربًا من العناية باللفظ النبوي، إلا أن بعض العلماء يتساهلون في اختصار الحديث، فيحذفون بعضه، ويقطعونه، وَيَرْوُونَهُ تَفَارِيقَ في مناسبات مختلفة، كما صنع البخاري في " صحيحه ". وَلَمْ يَرَ الأئمة في صنيع البخاري موضعًا للنقد، لأنهم لاحظوا أنه لا يتساهل في ذلك إلا إذا كان قد أورد الخبر تَامًّا في رواية أخرى. ولذلك لم يُجَوِّزُوا اختصار الحديث إذا لم يرد تَامًّا من طريق أخرى، لئلا يكون ذلك كتمانًا لما يجب تبليغه (¬3). وهذا التساهل في أداء الحديث كان نتيجة طبيعية للتساهل عند تحمله: فمن قبل أن يقدم بعض الأئمة على إباحة الأداء بالمعنى، أو على الإذن باختصار المروي وتقطيعه، تَرَخَّصَ كثير منهم في تحمل الحديث بضروب جديدة من السماع في شيء، ولم يكن ترخصهم هذا - في نظر الجمهور - سيء الأثر ولا شديد الخطر. ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 189. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 161. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 161.

أخذت هذه الرحلة في طلب الحديث تضعف شيئًا فشيئًا، وبات الرحالون أنفسهم لا يستطيعون أن يُعَوِّلُوا على المشافهة والتلقي المباشر، فقد يضربون أكباد المطي إلى إمام عظيم حتى إذا أصبحوا تلقاء وجهه قنعوا منه بكتاب يعرضونه عليه، أو بإجازة يخصهم بها، أو بأجزاء حديثية يناولهم إياها مع إذنه لهم بروايتها، وقد يتطوع هذا الإمام نفسه بإعلامهم بمروياته، أو الوصية لهم ببعض مكتوباته، فيتلقفونها تلقفًا ويروونها مطمئنين كما لو كان صاحبها قد أجازهم بها بعبارة صريحة لا لُبْسَ فيها ولا إبهام. بل لقد أمسى المتأخرون لا يجدون حاجة للرحلة ولا لتحمل مشاق مذ أصبح حقًا لهم ولغيرهم أن يَرْوُوا كل ما يجدون من الكتب والمخطوطات سواء أَلَقُوا أصحابها أم لم يَلْقُوهُمْ. وذلك كله يعني أن السماع لم يعد - كما في فجر الإسلام - الصورة الوحيدة لتحمل الحديث وأدائه، وإنما أضحى إحدى الطرق الثمان التي استقرأها نُقَّادُ الحديث. وبحثنا التالي سيدور حول هذه الطرق الثمان، وبدراستها وتتبع اصطلاحاتها ودقة التمييز بين عباراتها سيجد القارئ نفسه على موعد مع المُحَدِّثِينَ لأول مرة، فليحضر القلب وليرهف السمع، فإن لهؤلاء العلماء لغتهم الخاصة التي إن لم تطرب بإيقاعها الحلو كلغة الشعر والموسيقى، فهي تعجب بمحتواها العميق كلغة فذة في فن النقد والتحليل!.

الفصل الخامس: تحمل الحديث وصوره:

الفَصْلُ الخَامِسُ: تَحَمُّلُ الحَدِيثِ وَصُوَرُهُ: أَوَّلاً - السَّمَاعُ: من المشافهة والسماع المباشر - على طريقة الرعيل الأول من الرُوَّاةِ - انتقل طلاب العلم إلى أخذ الحديث عن طريق القراءة، أو الإجازة، أو المناولة، أو المكاتبة، أو الإعلام، أو الوصية، أو الوجادة. وهذه الصور السبع - مع إضافة السماع إليها - هي صور التحمل الثمان التي تحدد مناهج القوم في التعليم (¬1). ولعل من نافلة القول أن نشير مرة أخرى إلى أن السماع أعلى هذه الصور وأرفعها وأقواها. غير أن من الضروري أن ننظر الآن إلى السماع نظرة خاصة من زاوية المُحَدِّثِينَ، ومن خلال تعاريفهم واصطلاحاتهم. عندئذٍ يتبين لنا أن السماع هو أن يسمع المتحمل من لفظ شيخه، سواء أَحَدَّثَهُ الشيخ من كتاب يقرؤه أم من محفوظاته وسواء أَأَمْلَى عليه أم لم يُمْلِ عليه (¬2). ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 129. (¬2) قارن بتعريف السماع في " التدريب ": ص 129.

ومن المعروف في لسان العرب أن قول الراوي: حَدَّثَنَا فلان أو أخبرنا أو أنبأنا أو ذكر لنا أو قال لنا تفيد معنى التحديث، فهي عند علماء اللغة تساوي قول الراوي: «سَمِعْتُ فُلاَنًا قَالَ: سَمِعْتُ فُلاَنًا». وأوشك كثير من المُحَدِّثِينَ أن يجروا على طريقة علماء اللغة في اصطلاحاتهم، حتى لم يُفَرِّقُوا بين العبارات المذكورة، وراح كل يستخدم إحدى هذه العبارات على سواء، وروي عن كثير من المتقدمين أنهم كانوا «يقولون في غالب حديثهم الذي يَرْوُونَهُ (أَخْبَرَنَا) وَلاَ يَكَادُونَ يَقُولُونَ: (حَدَّثَنَا)» (¬1). وقال رجل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، إن عبد الرزاق (¬2) ما كان يقول: (حَدَّثَنَا)، كان يقول: (أَخْبَرَنَا)، فقال أحمد بن حنبل: «حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَاحِدٌ» (¬3). وقد يكون إيثار هؤلاء المتقدمين (أَخْبَرَنَا) على الألفاظ الأخرى التي تفيد ¬

_ (¬1) " الجامع لأخلاق الراوي ": 6/ 112 وجه 1. وفي هذه الصفحة يذكر الخطيب من هؤلاء التقدمين الذين لا يفرقون بين «حَدَّثَنَا» و «أَخْبَرَنَا» ويقولون: الثانية دون الأولى: حماد بن سلمة، وَهُشَيْمٌ بن بشير، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد بن هارون، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وإسحاق بن راهويه، وعمر بن عوف، وأبا مسعود أحمد بن الفرات، ومحمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس. وقارن بـ " الكفاية ": ص 284، 285. (¬2) هو العالم الفقيه الكبير عبد الرزاق بن همام بن نافع، المُتَوَفَّى سَنَةَ 211 هـ. (¬3) " الكفاية ": ص 286. ويظهر أن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أدخلا عبارة «حَدَّثَنَا» وطلبا من أهل العلم أن يستعملوها في رواياتهم وإن كانا يقولان بِتَسَاوِي جميع هذه العبارات في إفادة التحديث والسماع. قال محمد بن رافع: «كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ «أَخْبَرَنَا» حَتَّى قَدِمَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فَقَالاَ لَهُ: قُلْ " حَدَّثَنَا ". فَكُلُّ مَا سَمِعْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ قَالَ " حَدَّثَنَا "، وَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: " أَخْبَرَنَا " ». انظر " الكفاية ": ص 286.

التحديث لغة بسبب شيوعها وكثرة استعمالها (¬1). وقد يكون التعبير بـ «أَخْبَرَنَا» أوسع وأشمل من التلفظ بغيرها، فَنُعَيْمٌ بْنُ حَمَّادٍ (¬2) يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ (¬3) يَقُولُ قَطُّ: (حَدَّثَنَا)، كَأَنَّهُ يَرَى (أَخْبَرَنَا) أَوْسَعَ!» (¬4). وإذ تساوت هذه العبارات جميعًا في إفادة التحديث والسماع، فلا ضير أن يقول القاضي عياض (¬5) يقول علماء اللغة، فيرى أن لا خلاف - عندما يكون السماع من لفظ المسمع أو من كتاب - أن يقول السامع: (حَدَّثَنَا) و (أَخْبَرَنَا) و (قَالَ لَنَا) و (ذَكَرَ لَنَا فُلاَنٌ) (¬6). غير أن نُقَّادَ الحديث يفضلون دفع كل لُبْسٍ وإبهام، فيقولون: ينبغي أن يُبَيِّنَ السماع كيف كان، فما سُمِعَ من لفظ المُتَحَدِّثِ قيل فيه (حَدَّثَنَا)، وما قُرِئَ عليه قال الراوي فيه: (قَرَأْتُ) إن كان سمعه بقراءته، ويقول فيما سمعه بقراءة غيره (قُرِئَ وَأَنَا أَسْمَعُ) (¬7). والأكثرون على تقديم لفظ (سَمِعْتُ) على الألفاظ الباقية، إذ لا يكاد ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 284. (¬2) هو نُعَيْمٌ بْنُ حَمَّادٍ بن معاوية بن [الحارث]، الخُزاعي المروزي أبو عبد الله نزيل مصر، أول من جمع المسند. توفي محبوسًا بسامرا سَنَةَ 228 هـ " الرسالة المستطرفة ": ص 37. (¬3) هو الإمام الكبير عبد الله بن المبارك، أبو عبد الرحمن، تُوُفِّيَ سَنَةَ 181 هـ. (¬4) " الكفاية ": ص 285. (¬5) هو العالم الثقة الكبير. القاضي عياض بن موسى صاحب " الشفا في شمائل المصطفى " و " الإلماع في أصول السماع " ومنه نسخة في الظاهرية. حديث 406. تُوُفِّيَ سَنَةَ 544 هـ. (¬6) " اختصار علوم الحديث ": ص 122. (¬7) " الجامع لأخلاق الراوي ": 6/ 112 وجه 1. وقد عقد الخطيب لذلك فصلاً في " الكفاية ": ص 299 - 201.

أحد بقولها في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه، فكانت لذلك أرفع من سواها (¬1). ثم يتلوها قول (حَدَّثَنَا وَحَدَّثَنِي) ثم (أَخْبَرَنَا وَأَخْبَرَنِي) (¬2) مع ضرورة التمييز بين حالتي الإفراد والجمع. وفي ذلك يقول عبد الله بن وهب (¬3) صاحب الإمام مالك (¬4): «إِنَّمَا [هُوَ] أَرْبَعَةٌ: إِذَا قُلْتُ: (حَدَّثَنِي) فَهُوَ مَا سَمِعْتُهُ مِنَ الْعَالِمِ وَحْدِي، وَإِذَا قُلْتُ: (حَدَّثَنَا) فَهُوَ مَا سَمِعْتُهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا قُلْتُ: (أَخْبَرَنِي) فَهُوَ مَا قَرَأْتُ عَلَى الْمُحَدِّثِ، وَإِذَا قُلْتُ (أَخْبَرَنَا) فَهُوَ مَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَأَنَا أَسْمَعُ» (¬5). وَيَلِي لَفْظَيْ التَّحْدِيثِ وَالإِخْبَارِ (نَبَّأَنَا وَأَنْبَأَنَا) وهما قليلان في الاستعمال (¬6)، والنية هي الفارقة بين جميع هذه الاصطلاحات على الحقيقة (¬7) ولذلك تشدد ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 284. (¬2) " التدريب ": ص 130. (¬3) هو الإمام الحافظ عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد الفهري مولاهم، المصري الفقيه، أحد الأئمة الأعلام، حَدَّثَ عن خلق كثير بمصر والحرمين وَصَنَّفَ " مُوَطَّأً " كبيرًا. قال فيه أبو زُرعة: «نظرت في ثلاثين ألف حديث لابن وهب، ولا أعلم أني رأيت له حديثًا لا أصل له. توفي ابن وهب سَنَةَ 197 هـ. راجع ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 204 - 206. (¬4) هو إمام أهل المدينة، وأمير المؤمنين في الحديث، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، وَيُكَنَّى أبا عبد الله، استغرق تأليفه " الموطأ " أربعين سَنَةً عرضه خلالها على سبعين من فقهاء المدينة. تُوُفِّيَ سَنَةَ 179 هـ. (¬5) " الكفاية ": ص 294، وفي الإسناد أحمد بن عبد الرحمن قَالَ: «سَمِعْتُ عَمِّي»، وعمه هو ابن وهب الذي ترجمنا له في الحاشية قبل السابقة. (¬6) " التدريب ": ص 120. (¬7) " الكفاية ": ص 287.

الرُوَّاةُ مع المدلسين فلم يقبلوا منهم حَدِيثًا حتى يقول قائلهم: (حَدَّثَنِي) أو (سَمِعْتُ) (¬1). وصيغة الإفراد في التحديث أعلى العبارات في نظر الحافظ ابن كثير (- 774 هـ) ففي قول الراوي (حَدَّثَنَا) أو (أَخْبَرنَا) احتمال أن يكون في جمع كثير، وربما لا يكون الشيخ قصده بذلك. ولا يعين قَصْدَ الشيخ له إلا الإفراد (¬2). وقول المُحَدِّثِ: أعلى مَنْزِلَةً من قوله: (حَدَّثَنَا فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ) إذ كانت «عَنْ» مُسْتَعْمَلَةً في تدليس ما ليس بسماع (¬3). وقد لاحظ بعض الشعراء المتأخرين هذا حين قال: يَتَأَدَّى إِلَيَّ عَنْكَ مَلِيحٌ ... مِنْ حَدِيثٍ وَبَارِعٌ مِنْ بَيَانِ بَيْنَ قَوْلِ الفَقِيهِ «حَدَّثَنَا سُفْيَانُ» فَرْقٌ وَبَيْنَ «عَنْ» سُفْيَانِ (¬4). ويجوز أخيرًا في السماع أن يقول الرَّاوِي: (قَالَ لَنَا فُلاَنٌ) أو (قَالَ لِي) أو (ذَكَرَ لِي)، إذ هي في الاتصال مثل (حَدَّثَنَا) وإن كانت أشبه بسماع المذاكرة (¬5). وأضعف هذه العبارات جميعًا أن يقول الرَّاوي (قَالَ) أو (ذَكَرَ) من غير (لِي) لأنها توهم التدليس. وإلى هذا أشار حَمَّادٌ حين قال: «إِنِّي أَكْرَهُ إِذَا كُنْتُ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَيُّوبَ (¬6) حَدِيثًا أَنْ أَقُولَ: (قَالَ أَيُّوبُ كَذَا وَكَذَا)، ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 292. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 122. (¬3) " الكفاية ": ص 289. (¬4) " الكفاية ": ص 291. (¬5) " الكفاية ": ص 130. (¬6) هُوَ أَيُّوبُ السَّخْتَيَانِي، وقد سبقت ترجمته.

ثانيا: القراءة:

فَيَظُنُّ النَّاسُ أَنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ "» (¬1). وكانت عبارة شُعبة بن الحجاج (¬2) أشد في ذلك وأعنف حين قال: «لأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: (قَالَ فُلاَنٌ)، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ!» (¬3). ونعود مرة أخرى لِنُؤَكِّدَ أن جميع هذه الألفاظ عند علماء اللسان عبارة عن التحديث، وأنها في الأصل مثل (سَمعت فلانا قال: سمعت فلانا)، وإنما الخلاف فيها بين نُقَّادِ الحديث في استعمالها من جهة العرف والعادة (¬4). ثَانِيًا: القِرَاءَةُ: لا حاجة بنا إلى تعريف القراءة، فمن الواضح أن حقيقتها المستمدة من لفظها هي قراءة التلميذ على الشيخ حِفْظًا من قلبه أو من كتاب ينظر فيه (¬5). وإذ كان التلميذ يعرض بهذا النوع من التَحَمُّلِ قراءته على الشيخ، سميت القراءة عَرْضًا لدى كثير من المُحَدِّثِينَ (¬6). وإذا لم يقرأ التلميذ من حفظه أو من كتاب بين يديه، وإنما سمع غيره يقرأ على الشيخ، فإنه يشترط في شيخه حِينَئِذٍ أن يكون حافظًا لهذا المقروء عليه، أو مُتَمَكِّنًا من مقابلته على أصله الصحيح إن لزم الرجوع إلى هذا الأصل بأيدي تلامذته الآخرين الثقات الضابطين، أو واحد منهم على الأقل (¬7). والقراءة ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 290. (¬2) سبقت ترجمته. (¬3) " الكفاية ": ص 210. (¬4) " الكفاية ": ص 288. (¬5) " التدريب ": ص 131. (¬6) " التدريب ": ص 130. (¬7) " الباعث الحثيث ": ص 123.

من الكتاب أفضل، لأن العرض به أوثق من الحفظ وآمن. ولذلك يقول الحافظ ابن حجر (¬1): «يَنْبَغِي تَرْجِيحَ الإِمْسَاكِ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا عَلَى الحِفْظِ لأَنَّهُ خَوَّانٌ» (¬2) وغني عن البيان أنه يريد بـ «الإِمْسَاكِ» هنا إمساك الأصل المكتوب. والرأي المختار أن القراءة دون السماع، فهي تليها في الدرجة الثانية (¬3)، لكن بعضهم يذهب إلى مساواتها للسماع (¬4)، وهؤلاء لا يرون بَأْسًا أن يقول التلميذ الذي قرأ على الشيخ عندما يريد أن يُؤَدِّي إلى غيره الرواية عنه: سمعت (مُطْلَقًا) من غير تقييدها بقوله: قراءة الشيخ (¬5). ويبالغ بعض المُحَدِّثِينَ في شأن القراءة فَيُقَدِّمَهَا عَلَى السَّمَاعِ (¬6). وعلى الرأي الصحيح المختار أن للتلميذ عند أداء روايته أن يقول إن قرأ بنفسه: «قَرَأْتُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ يَسْمَعُ» وإن كان القارئ سواه: «قُرِئَ ¬

_ (¬1) ابن حجر العسقلاني هو شيخ الإسلام أحمد بن علي بن محمد بن علي شهاب الدين أبو الفضل، من أئمة الحديث وحفاظه. وهو عسقلاني الأصل، منسوب إلى آل حجر، كثير التصانيف، تُوُفِّيَ سَنَةَ 852 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 121، 122). (¬2) " التدريب ": ص 131. (¬3) وهو رأي جمهور أهل المشرق. (" التقريب ": ص 132). (¬4) وهو رأي الإمام مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة ومعظم علماء الحجاز والكوفة. وهو كذلك رأي الإمام البخاري (" التقريب ": ص 132) (¬5) " اختصار علوم الحديث: ص 124. (¬6) وقد حُكِيَ هذا القول عن كثير من العلماء منهم أبو حنيفة وابن أبي ذئب. روى البيهقي في " المدخل " عَنْ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، [وَهِشَامٌ]، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَبَاحِ يَقُولُونَ: " قِرَاءَتُكَ عَلَى الْعَالِمِ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْعَالِمِ عَلَيْكَ "» ذكره في " التدريب ": ص 132.

ثالثا: الإجازة:

على الشيخ وهو يسمع وأنا كذلك أسمع». وَجَوَّزَ كثير من أهل الحديث أن يقول التلميذ عند الأداء: حدثنا الشيخ قراءة عليه «أَوْ» أخبرنا قراءة عليه «أَوْ» سمعت من الشيخ قراءة عليه يذكر هذا القيد الأخير إلزامًا، لأن عدم ذكره يوهم حصول «السَّمَاعِ» الذي هو أعلى صور التحمل على التحقيق (¬1). ونحن لم ننس بعد أن «أًخْبَرَنَا» و «حَدَّثَنَا» و «سَمِعْتُ» صيغ اصطلاحية تفيد «السَّمَاعَ» عند الإطلاق. ثَالِثًا: الإِجَازَةُ: لاحضنا في «السَّمَاعِ» أن المُتَحَمِّلَ يسمع من لفظ الشيخ، وفي «القِرَاءَةِ» أن التلميذ يعرض على شيخه قراءته، فكلتا الصورتين تشمل على الرواية مع الإسناد المتصل، إما من النطق والمشافهة، وإما من النقل الصحيح. والإجازة لا تشتمل على شيء من هذا، لأنها عبارة عن إذن الشيخ لتلميذه برواية مسموعاته أو مؤلفاته، ولو لم يسمعها منه ولم يقرأها عليه. لذلك يعترض ابن حزم على الإجازة ويراها «بِدْعَةً غَيْرَ جَائِزَةٍ»، ويزيد بعضهم على ذلك فيقول مُتَشَدِّدًا في إنكارها: «مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: " أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا لَمْ تَسْمَعْ "، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ "، لأَنَّ الشَّرْعَ لاَ يُبِيحُ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَسْمَعْ» (¬2). وهذه مغالاة، فإن بعض صور الإجازة لا يبلغ هذا الحد من ضعف الرواية، ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث ": ص 125 وقارن بـ " التدريب ": ص 132. (¬2) " التدريب ": ص 131.

فمن الصور المقبولة في الإجازة لدى الجمهور، دونما تردد (¬1). إجازة كتاب معين أو كتب معينة لشخص معين أو أشخاص معينين، كأن يقول الشيخ: أجزت لك أو لكم أو لفلان (مع ذكر اسمه ومميزاته) رواية " صحيح مسلم " أو " سنن أبي داود أو " الكتب الستة " أو ما اشتملت عليه مُدَوَّنَاتِي، وهي كذا وكذا. ويتوسع كثيرون فيقبلون كذلك إجازة شخص معين، أو أشخاص معينين بشيء مُبْهَمٍ غير معين، كأن يقول الشيخ: أجزت لك أو لكم أو لفلان جميع مسموعاتي أو مروياتي أو ما شابه ذلك من العبارات الغامضة. فقبول هذه الصورة قائم على ضرب من الاتساع في تفهم معنى الإجازة. أما الإجازة بمجهول لمجهول ففاسدة اتفاقًا. وأما الإجازات العامة كأن يقول الشيخ: أجزت برواية كذا «النَّاسَ» أو «المُسْلِمِينَ» أو «المَوْجُودِينَ» أو «أَهْلَ عَصْرِي» أو «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ» أو «مَنْ شَاءَ» أو «شَاءَ فُلاَنٌ» فالتحقيق أنها غير جائزة، وإن قال بعضهم بجوازها. والأصل في الإجازة أن ينطق الشيخ بلفظها الصريح شفاهًا أمام تلميذه، فإن أجازه كتابة من غير نطق لم تصح عند المُتَشَدِّدِينَ. غير أن الأرجح مساواة الكتابة للنطق في هذا الموضوع. والإجازة حتى في صورها المقبولة ليست في قوة القراءة فضلاً على السماع، ¬

_ (¬1) انظر في هذه الصور " التدريب ": ص 137 وما بعدها وقارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 132.

رابعا: المناولة:

فهي تأتي بعدها في الدرجة الثالثة بين درجات تحمل الحديث (¬1). رَابِعًا: المُنَاوَلَةُ: يريدون بالمناولة أن يعطي الشيخ تلميذه كتابًا أو حديثًا مكتوبًا ليقوم بأدائه وروايته عنه. وهي على صور متعددة تتفاوت قوة وضعفًا. فأعلى صورها وأقواها أن يناول الشيخ تليمذه الكتاب أو الحديث المكتوب ويقول له: قد ملكتك إياه وأجزتك بروايته فخذه عني (¬2). وَتُسَمَّى هذه الصورة «مُنَاوَلَةٌ مَعَ الإِجَازَةِ» وقد غَالَى بعضهم في شأنها فجعلها «أرفع من السماع، لأن الثقة بكتاب الشيخ مع إذنه فوق الثقة بالسماع منه وأثبت، لما يدخل من الوهم على السامع والمستمع» لكن الإمام النووي يفصل في هذه القضية بقوله: «وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُنْحَطَّةٌ عَنْ السَّمَاعِ وَالقِرَاءَةِ» (¬3). ويقارب «المُنَاوَلَةَ مَعَ الإِجَازَةِ» أن يقول الشيخ لتلميذه: «خُذْ هَذَا الكِتَابَ فَانْسُخْهُ وَرَاجِعْهُ ثُمَّ رُدَّهُ إِلَيَّ». ودون هاتين الصورتين أن يأتي التلميذ شيخه بكتاب من سماع شيخه، فيأخذه منه ويتأمله ثم يقول له: «ارْوِ هَذَا عَنِّي». ودون هذه الصور بلا ريب أن يأتي التليمذ شيخه بكتاب يلتمس منه أن يناوله إياه فيجيبه الشيخ إلى رغبته دون أن ينظر في الكتاب أو يراجعه أو يقابله. خَامِسًا: المُكَاتَبَةُ: هي أن يكتب الشيخ بخطه أو يُكَلِّفَ غيره بأن يكتب عنه بعض حديثه ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 138. (¬2) قارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 137. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 138.

لشخص حاضر بين يديه يلتقي العلم عليه، أو لشخص غائب عنه ترسل الكتابة إليه (¬1). وقوة الثقة بها لا يتطرق إليها شك بالنسبة إلى الحاضر المكتوب له لأنه يرى بنفسه خط الشيخ أو خط كاتبه بحضور الشيخ وإقراره. وأما بالنسبة إلى الغائب المكتوب له، فإن الثقة بالمكاتبة لا تضعف خلافًا لما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، لأن أمانة الرسول كافية في إقناع المرسل إليه بأن المكتوب من خط الشيخ أو خط الكاتب عن الشيخ (¬2) وفي هذه الحال يشترط أن يكون الكاتب والرسول ثقتين عدلين. وقد تشدد بعضهم فاشترط في «المُكَاتَبَةِ» أن تكون مقرونة بـ «الإِجَازَةِ» وهو تشدد لا مسوغ له، لأن أكابر الرُوَّاةِ أخذوا بالمكاتبة وحدها غير مقرونة، فهذا البخاري يروي في كتاب (الأيمان والنذور) أنه كتب إلى محمد بن بشار وروى حديثه (¬3). وهذا مسلم يقول في " صحيحه ": [عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ:] «كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلاَمِي نَافِعٍ، أَنْ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ ... » (¬4) الخ ... الحديث. ولا ريب أن المكاتبة مع الإجازة أقوى من المكاتبة وحدها، بل يذهب بعضهم إلى ترجيح المكاتبة المقرونة بالإجازة حتى على السماع نفسه (¬5). ¬

_ (¬1) قارن بـ " توضيح الأفكار ": 2/ 238 و " التدريب ": ص 146. (¬2) والحق أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه الالتباس كما لاحظ ابن الصلاح. (انظر " التدريب ": ص 146). (¬3) " توضيح الأفكار ": 2/ 339 راجع الحاشية. (¬4) " تدريب الراوي ": ص 147. (¬5) " الباعث الحثيث ": ص 140.

سادسا: الإعلام:

ومن التوسع الذي يستحسن تجنبه أن يقول المُؤَدِّي عن طريق المكاتبة: سَمِعْتُ أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، إطلاقًا، لما في هذه الألفاظ من إيهام السماع، أما إذا قَيَّدَهَا بلفظ المكاتبة فلا حرج عليه. ومن الدقة في تعبيره أن يقول: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ أَوْ أَخْبَرَنِي كِتَابَةً بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ فُلاَنٍ الذِي حَمَلَهُ إِلَيَّ رَسُولُهُ أَوْ رَسُولِي فُلاَنٌ، فِي مَجْلِسِهِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ سِوَاهُ، بِكَذَا وَكَذَا (¬1). سَادِسًا: الإِعْلاَمُ: يراد بالإعلام اكتفاء الشيخ بإخبار تلميذه بأن هذا الكتاب أو هذا الحديث من مروياته أو من سماعه من فلان، من غير أن يُصَرِّحَ بإجازته له في أدائه (¬2). والأكثرون على جواز هذه الصورة من صور التَحَمُّلِ ما دامت الثقة بالشيخ متوفرة، لأن هذه الثقة تمنعه من أن «يُعْلِمَ» تليمذه بما ليس من مروياته، وكأنه بمجرد إعلامه إياه بما صح سماعه يومئ إلى رضاه عن تحمله له وأدائه: فالإجازة بالرواية مفهومة ضِمْنًا وإن لم يذكرها الشيخ صراحة، ولذلك منع كثير من المُحَدِّثِينَ الرواية بالإعلام إن صَرَّحَ الشَّيْخُ لتلميذه بعدم سماحه له بالرواية عنه قائلاً له: «هذه سماعي أو هذه مروياتي، ولكني أمنعك من روايتها عني، أو لا أبيحها لك، أو لا أجيزها لك، أو لكن لا تُؤَدِّهَا عني» واستدلوا على هذا المنع بأن رواية كهذه بكون أشبه شيء «بالشهادة على الشهادة»، فإن الشاهد الثاني لا تصح شهادته إلا إذا أذن له الشاهد الأول بأن يشهد على شهادته (¬3)، ¬

_ (¬1) قارن بـ " توضيح الأفكار ": 2/ 341 و " اختصار علوم الحديث ": ص 139. (¬2) " التدريب ": ص 148. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 140.

سابعا: الوصية:

لكن القاضي عياضًا لا يُصَحِّحُ هذا القياس، ولا يرى وَجْهًا للمُشابهة بين الشهادة على الشهادة وبين الإعلام على هذا النحو «لأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ الإِذْنِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْحَدِيثُ عَنِ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ بِاتِّفَاقٍ، وَأَيْضًا فَالشَّهَادَةُ تَفْتَرِقُ مِنَ الرِّوَايَةِ فِي أَكْثَرِ الوُجُوهِ» (¬1). واستدلالُ القاضي عياض صريح في تسويغه الرواية بالاعلام ولو كان التلميذ ممنوعًا من شيخه من الأداء عنه. ويرى بعض الظاهرية (¬2) أنَّ نَهْيَ الشيخ تلميذه عن رواية ما أعلمه به مُسَاوٍ لِنَهْيِهِ إِيَّاهُ عن رواية ما سمعه منه سَمَاعًا حَقِيقِيًّا (¬3). سَابِعًا: الوَصِيَّةُ: الوصية صورة نادرة من صور التحمل يراد بها تصريح الشيخ عند سفره أو على فراش موته بأنه يوصي لفلان بكتاب مُعَيَّنٍ كان يرويه (¬4). وقد أباح بعض السلف للشخص المُوصَى لَهُ رواية ذلك الكتاب عن الموصى، لأنهم رأوا في هذه الوصية شبهًا من الإعلام وضربًا من المناولة، فكان الشيخ بوصيته هذه قد ناول تلميذه شيئًا مُعَيَّنًا وأعلمه بأنه من مروياته، غير أنَّ ألفاظه لم تكن واضحة في ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 148. (¬2) الظاهرية هم أتباع داود بن علي الظاهري (- 270 هـ)، سُمُّوا بذلك لأنهم يقفون عند ظاهر النصوص. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 140. (¬4) " التدريب ": ص 148. (¬5) " الباعث الحثيث ": ص 141.

ثامنا: الوجادة:

وَالمُسَوِّغُونَ للرواية بالوصية نعترفون - مع ذلك - بأن من أضعف صور التحمل، فهي دون المناولة والإعلام رغم شبهها بهما من بعض الوجوه. وابن الصلاح لا يرى وجهًا للمشابهة بين الوصية من جانب، وبين المناولة والإعلام من جانب آخر، ويشدد النكير على القائلين بهذه المشابهة فيقول: «وقد احتج بعضهم لذلك، فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة. ولا يصح ذلك فإن لقول من جَوَّزَ الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستندًا ذكرناه، لا يتقرر مثله ولا قريب منه هنا» (¬1). وعلى المُوصَى لَهُ عند أداء روايته أن يلتزم عبارة المُوصِي، فلا يزيد عليها ولا ينقص منها، لأن الوصية بالعلم كالوصية بالمال يجب أن تكون معروفة المعالم معينة المقدار، فلا بد أن يكون الشيء المُوصَى به واضحًا أنه كتاب أو كتب أو أنه حديث أو أحاديث أو مسموعات أو مرويات ن وفقًا للتعبير الذي تلفظ به الشيخ المُوصِي. ثَامِنًا: الوِجَادَةُ: الوِجَادَةُ - بكسر الواو - مصدر مولد غير مسموع من العرب اصطلح المُحَدِّثُونَ على إطلاقه على أخذ العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة (¬2)، وذلك إذا وجد الشخص حديثًا بخط شيخ كان قد لقيه فألف خطه وعرفه ووثق به، أو لم يلقه ولكنه استيقن من أن هذا المخطوط صحيح النسبة إليه، وكذلك إذا وجد بعض الأحاديث في كتب مشهورة لمؤلفين ¬

_ (¬1) " توضيح الأفكار ": 2/ 344 (في الحاشية). (¬2) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 167.

مشهورين. فللشخص الذي تقع يده على شيء من هذا أن يرويه عن الشيخ على سبيل الحكاية، فيورد إسناد الحديث كما وجده ويقول: وجدت بخط فلان، أو بخط يغلب على ظني أنه خط فلان، أو في الصحيح المشهور، ويسوق الحديث مثلما كان يصنع عبد الله بن أحمد بن حنبل، فإنه كان كثيرًا ما يقول: «وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي: حَدَّثَنَا فُلاَنٌ ... » الخ السند والمتن (¬1). ولا يجوز أن يقول الراوي عند أدائه: عن فلان، أو حدثنا أو أخبرنا فلان أو سمعت منه، أو وجدت بخطه و «شَاكٌّ فِي ذَلِكَ» فهذا كله تدليس قبيح إذا كان بحيث يوهم سماعه (¬2)، وله أن يقول: «قَالَ فُلاَنٌ، أَوْ بَلَغَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ، أَوْ كَتَبَ الشَّيْخُ بِخَطِّهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ»، ومن هنا نُقَدِّرُ مدى الخطأ الذي يقع فيه كثير من كُتَّابِنَا وَمُؤَرِّخِينَا المعاصرين حين يقولون في كتبهم أو في أحاديثهم العادية: حَدَّثَنَا الطبري أو ابن حجر أو الحافظ العراقي مثلاً (¬3). وَالوِجَادَةُ - حين تُفْهَمُ على وجهها الصحيح - لا يجوز الشك بقيمتها صورة من صور التحمل، فجميع ما ننقله اليوم من كتب الحديث الصحيحة ضرب من «الوِجَادَةِ» لأن حُفَّاظَ الحديث عن طريق التلقين والسماع أصبحوا نادرين جِدًّا في حياتنا الإسلامية بعد أن انتشرت الطباعة وأضحى الرجوع إلى أمهات كتب الحديث سهلاً ميسورًا. وقد سبق أن جزم ابن الصلاح بأن مذهب وجوب العمل بالوجادة «هُوَ الَّذِي لاَ يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، ¬

_ (¬1) قارن بـ " التدريب ": ص 148، 149. (¬2) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 168. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 144.

فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى الرِّوَايَةِ لانْسَدَّ بَابُ الْعَمَلِ بِالمَنْقُولِ، لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ فِيهَا» (¬1). وقد استدل العماد بن كثير (¬2) للعمل بالوجادة بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلاَئِكَةُ قَالَ: «وَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ»؟ وَذَكَرُوا الأَنْبِيَاءَ فَقَالَ: «وَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ؟ قَالَ: «وَكَيْفَ لاَ تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟». قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِهَا» (¬3). فيؤخذ منه مدح من عمل بالكتب المتقدمة بمجرد الوجادة. وقد استحسن البُلْقِينِي هذا الاستنباط (¬4). ولم يكن الأمر محوجًا إلى هذا كله، فوجوب العمل بالوجادة لا يتوقف عليه، لأن مناط وجوبه إنما هو البلاغ، وثقه المكلف بأن ما وصل إليه علمه صحت نسبته إلى رسول اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5). والحق أن تشدد السلف في بعض صور تحمل الحديث وأدائه، كالوجادة والوصية والإعلام، كان له ما يُسَوِّغُهُ في حياتهم وظروفهم، فقد كان الحديث شغلهم الشاغل، وكانوا أشد منا حاجة إلى حفظه وروايته، لضعف وسائل التدوين والكتابة لديهم، ونحن نجد لزامًا علينا أن ننشط في حفظ الحديث ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 169. (¬2) هو الإمام المحدث المفسر، عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن الشيخ أبي حفص شهاب الدين عمر، صاحب التصانيف الكثيرة. تُوُفِّيَ سَنَةَ 774 هـ. (¬3) " توضيح الأفكار ": 2/ 349 وقارن بـ " تفسير ابن كثير ": 1/ 74، 75، طبعة المنار. (¬4) " التدريب ": ص 149. وَالبُلْقِينِي هو عبد الرحمن بن عمر بن رسلان، أبو الفضل جلال الدين. برع في الفقه والأصول والعربية والتفسير. من كتبه " الإفهام لما في صحيح البخاري من الإيهام ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 824 هـ (" شذرات الذهب ": 7/ 166). (¬5) " الباعث الحثيث ": ص 144.

والتدقيق في طرق تحمله وروايته، ولكن تيسر الطباعة يقوم عنا بعبء كبير من أعباء حفظ الحديث وصيانته. صُوَرُ الأَدَاءِ: ------------- إن جميع الصور الثمان التي اصطلح عليها المُحَدِّثُونَ لبيان طريقة التحمل تصلح لتصوير حالات الأداء، والأداء هو رواية الحديث للتلميذ، والمؤدي إلى من دونه كان متحملاً حديث من هو فوقه، فالشخص الواحد يكون في الوقت نفسه متحملاً ومؤديًا، باعتبار الشيخ مَرَّةً والتلميذ مَرَّةً أخرى: كأن يكون أبو بكر متحملاً حديثًا عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون أبو بكر تلميذًا، والرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - شَيْخًا. فإذا أدى أبو بكر إلى عَلِيٍّ مثلاً ما تَحَمَّلَهُ، صار أبو بكر شيخًا مُؤَدِّيًا، وَعَلِيٌّ تلميذًا مُتَحَمِّلاً. لهذا الاعتبار كان لاَ بُدَّ أن ينظر إلى الأداء على أنه امتداد للتحمل، فللشخص الذي كان أهلاً للتحمل بإحدى الصور الثمان أن يؤدي ما تحمله بواحدة من هذه الصور إذا لم يكن فيه صفة تمنع أهليته للأداء أو تضعفها.

الباب الثاني: التصنيف في علوم الحديث:

البَابُ الثَّانِي: التَّصْنِيفُ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ:

الفصل الأول: علم الحديث رواية ودراية:

الفَصْلُ الأَوَّلُ: عِلْمُ الحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً: ندرس في «الحَدِيثِ» عِلْمَيْنِ رَئِيسِيَيْنِ: أحدهما علم الحديث رواية، والآخر علم الحديث دراية. فعل الحديث رواية يقوم على النقل المُحَرَّرِ الدقيق لكل ما أضيف من ذلك إلى الصحابة والتابعين، على الرأي المختار (¬1). وعلم الحديث دراية، مجموعة من المباحث والمسائل يعرف بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد (¬2). فالراوي هو الذي ينقل الحديث بإسناده، سواء أكان رجلاً أم امرأة (¬3). والمروي أعم من أن يكون مضافًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى غيره من الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) " المنهل الحديث ": ص 35 وقارن بتعريف ابن الأكفاني لهذا العلم في (" التدريب ": ص 3). (¬2) وهو مأخوذ من تعريف ابن حجر كما في " التدريب ": ص 3، 4. (¬3) " الكفاية ": ص 97.

أما أحوال الراوي المبحوث عنها (من حيث القبول والرد) فهي معرفة حاله تَحَمُّلاً وَأَدَاءً، وَجَرْحًا وَتَعْدِيلاً، ومعرفة موطنه وأسرته، ومولده ووفاته. وأما أحوال المروي فهي ما يتعلق بشروط الرواية عند التحمل والأداء، وبالأسانيد من اتصال أو انقطاع أو إعضال أو ما شابه ذلك مما سنراه في الفصول المقبلة. وإذا قلنا في وصف الراوي أو المروي: «إِنَّهُمَا مَقْبُولاَنِ أَوْ مَرْدُودَانِ» فلسنا نريد بقبولهما العمل بهما، وَبِرَدِّهِمَا عدم جواز العمل بهما، وإنما نقبلهما أو نَرُدَّهُمَا من جهة النقل، فقبولنا الراوي اعتبارنا له وأخذنا بمرويه، وَرَدُّنَا له إسقاطنا اعتباره وإغفالنا مرويه، وقبولنا للمروي اعتقادنا ثبوته، وَرَدُّنَا له شكنا فيه روفضنا صحته. ويطلق العلماء على علم الحديث دراية اسم «عِلْمَ أُصُولِ الحَدِيثِ» (¬1). وإن دراستنا التحليلية - في علم الحديث دراية - هي التي تعنينا في كتابنا هذا، فهي من متن الحديث بمنزلة التفسير للقرآن، أو الأحكام من الوقائع. ولقد كانت - على كثرتها - مستقلة في موضوعها وغايتها ومنهجها. حتى إذا شاع التدوين وكثر التصنيف اتجه كل عالم إلى ناحية، ¬

_ (¬1) " المختصر في علم رجال الأثر " لعبد الوهاب عبد اللطيف: ص 8.

1 - علم الجرح والتعديل:

فكثرت العلوم المتعلقة بهذه الدراسة التحليلية، وانطوت جميعًا تحت اسم واحد هو «عُلُومُ الحَدِيثِ». ونحن فيما يلي نذكر عبارة موجزة عن أهم تلك العلوم. 1 - عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: من تلك العلوم «عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» وهو علم يبحث عن الرُوَّاةِ من حيث ما ورد في شأنهم مما يشينهم أو يُزَكِّيهِمْ بألفاظ مخصوصة. وهو ثمرة هذا العلم والمرقاة الكبيرة منه (¬1). وقد تكلم في هذا العلم كثيرون منذ عهد الصحابة إلى المتأخرين من المشتغلين بعلوم الحديث. فمن الصحابة ابن عباس (96 هـ) وأنس بن مالك (93 هـ). ومن التابعين الشعبي (104 هـ) وابن سيرين (110 هـ). وفي آخر عصر التابعين: الأعمش (148 هـ) وشُعبة (160 هـ) ومالك (179 هـ). ويلي هؤلاء طبقة منها ابن المبارك (181 هـ) وابن عيينة (197 هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (198 هـ). ويبلغ هذا العلم الذروة عند يحيى بن معين (233 هـ) وابن حنبل (241 هـ). ومن الكتب الجامعة في الجرح والتعديل " طبقات ابن سعد " الزهري البصري (230 هـ) ويقع في 15 مجلدًا. وقد اختصره السيوطي (911 هـ) تحت ¬

_ (¬1) كما يقول الحاكم في " معرفة علوم الحديث ": ص 52 - النوع الثامن عشر -. وراجع في " الكفاية " باب الكلام على العدالة وأحكامها: ص 81 - 101 وباب الكلام في الجرح وأحكامه: ص 101.

2 - علم رجال الحديث:

عنوان " [إنجاز] الوعد، المنتقى من طبقات ابن سعد ". وللبخاري (256 هـ) تواريخ ثلاثة فيها تعديل وتجريح (¬1)، ولعلي بن المديني (234 هـ) تاريخ يقع في عشرة أجزاء، ولابن حبان (354 هـ) كتاب في أوهام أصحاب التواريخ، في عشرة أجزاء. وللعماد بن كثير (774 هـ) كتاب " التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل ". وقد اتجه بعض العلماء إلى التأليف في رجال مخصوصين تعديلاً وتجريحًا. فألف في الثقات فقط كل من العِجْلِي (361 هـ) وزين الدين قاسم (389 هـ)، وألف في الضعفاء والمتروكين كل من البخاري والنسائي وابن الجوزي، وفي المدلسين فقط ألف الإمام الحسين بن علي الكرابيسي صاحب الشافعي، ثم النسائي، ثم الدارقطني، ثم السيوطي. وقد صَنَّفَ محمد بن طاهر المقدسي في رجال البخاري ومسلم فقط، وَصَنَّفَ الحافظ الذهبي كتابه " الكاشف " في رجال الكتب الستة. 2 - عِلْمُ رِجَالِ الحَدِيثِ: وهو علم يعرف به رُوَاةُ الحديث من حيث إنهم رُوَاةٌ للحديث (¬2). وأول من عرف عنه الاشتغال بهذا العلم البخاري (256 هـ) وفي " طبقات ابن سعد " (230 هـ) الكثير من ذلك. ¬

_ (¬1) طبع منها في الهند " التاريخ الصغير " سَنَةَ 1325 هـ والجزءان الأول والرابع من " الكبير " سَنَةَ 1360، 1361 هـ. (¬2) " المنهل الحديث " للزرقاني: ص 10 وقارن بـ " الرسالة المستطرفة ": ص 96 - 100. في فصل «كتب في تواريخ الرجال وأحوالهم».

3 - علم مختلف الحديث:

وفي القرن الهجري السابع جمع عز الدين بن الأثير (630 هـ) " أسد الغابة في أسماء الصحابة "، بيد أنه خلط بهم من ليس صحابيًا. وجاء بعده ابن حجر العسقلاني (852 هـ) بكتابه " الإصابة في تمييز الصحابة " وقد اختصره تلميذه السيوطي (911 هـ) في كتاب سماه " عين الإصابة ". 3 - عِلْمُ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ: وهو علم يبحث عن الأحاديث التي ظاهرها التناقض من حيث إمكان الجمع بينها، إما بتقييد مطلقها، أو بتخصيص عَامِّهَا، أو حملها على تعدد الحادثة أو غير ذلك. ويطلق عليه علم تلفيق الحديث (¬1). قال النووي في " التقريب ": «هَذَا فَنٌّ مَنْ أَهَمِّ الأَنْوَاعِ، وَيُضْطَرُّ إِلَى مَعْرِفَتِهِ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِي حَدِيثَانِ مُتَضَادَّانِ فِي المَعْنَى ظَاهِرًا فَيُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا أَوْ يُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا، وَإِنِّمَا يُكْمِلُ لَهُ الأَئِمَّةُ الجَامِعُونَ بَيْنَ الحَدِيثِ، وَالفِقْهِ، وَالأُصُولِيُّونَ الغَوَّاصُونَ عَلَىَ المَعَانِي، وَصَنَّفَ فِيهِ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَقْصِدْ - رَحِمَهُ اللهُ - اسْتِيفَاءَهُ، بَلْ ذَكَرَ جُمْلَةً يُنَبِِّهُ بِهَا عَلَى طَرِيقِهِ» (¬2). ومثال ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «لاَ عَدْوَى» وقوله في حديث آخر: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» وكلاهما حديث صحيح، فيجمع بينهما بـ «أَنَّ هَذِهِ الأَمْرَاضَ لاَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُخَالَطَةَ المَرِيضِ [بِهَا] لِلصَّحِيحِ ¬

_ (¬1) قان " المنهل الحديث ": ص 11 بـ " توضيح الأفكار ": ص 423. (¬2) " التدريب ": ص 197.

4 - علم علل الحديث:

سَبَبًا لإِعْدَائِهِ مَرَضَهُ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِهِ، كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الأَسْبَابِ» (¬1). وقد ألف في مختلف الحديث الإمام الشافعي (204 هـ) وابن قتيبة (276 هـ) وأبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي (307 هـ) وابن الجوزي (597 هـ). 4 - عِلْمُ عِلَلِ الحَدِيثِ: هو علم يبحث عن الأسباب الخفية الغامضة من حيث إنها تقدح في صحة الحديث كوصل منقطع، ورفع موقوف، وإدخال حديث في حديث وما شابه ذلك (¬2). وعند الكلام عن (المُعَلَّلِ) من أقسام الحديث الضعيف، سنشير إلى أهم العلل التي توهن الحديث ولو كان في ظاهره سليمًا من كل علة. وَمِمَّنْ كتب في هذا العلم ابن المديني (234 هـ) والإمام مسلم (261 هـ) وابن أبي حاتم (327 هـ) وعلي بن عمر الدَّارَقُطْنِي (375 هـ) ومحمد بن عبد الله الحاكم (405 هـ) وابن الجوزي (597 هـ). 5 - عِلْمُ غَرِيبِ الحَدِيثِ: يبحث عن بيان ما خفي على كثير من الناس معرفته من حديث رسول الله ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 198. وقارن بـ " شرح النخبة " لابن حجر: ص 15. (¬2) " المنهل الحديث ": ص 11. وانظر في " الرسالة المستطرفة ": ص 107 الكُتُبَ المُؤَلَّفَةَ فِي علل الحديث.

6 - علم ناسخ الحديث ومنسوخه:

- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن تَطَرَّقَ الفَسَادُ إلى اللسان العربي (¬1). أول من ألف كتابًا في هذا العلم أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري (210 هـ) ولكن كتابه كان صغيرًا مُوجَزًا، وقد جمع أبو الحسن النضر بن شُميل المازني (204 هـ) كتابًا أكبر منه، ثم صنف أبو عُبيد القاسم بن سَلاَّمٍ (223 هـ) كتابًا أفنى فيه عمره، وابن قتيبة (276 هـ) ثم الزمخشري (538 هـ) كتابه " الفائق في غريب الحديث "، ثم مجد الدين المعروف بابن الأثير (606 هـ) كتاب " النهاية في غريب الحديث والأثر " وقد ذَيَّلَ الأرموي كتاب " النهاية " هذا، واختصره السيوطي (911 هـ) في كتابه " الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير ". 6 - عِلْمُ نَاسِخِ الحَدِيثِ وَمَنْسُوخُهُ: وهو علم يبحث عن الأحاديث المتعارضة التي لا يمكن التوفيق بينها من حيث الحكم على بعضها بأنه ناسخ، وعلى بعضها بأنه منسوخ. فما ثبت تقدمه يقال له منسوخ وما ثبت تأخره يقال له ناسخ (¬2). والناسخ قد يعرف من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كقوله: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَكُلُوا مِنْهَا مَا بَدَا لَكُمْ» رواه " مسلم " عن بريدة (¬3). وَقَدْ يُعْرَفُ الناسخ بالتأريخ ¬

_ (¬1) راجع " الرسالة المستطرفة ": ص 115 و " توضيح الأفكار ": 2/ 412. (¬2) " المنهل الحديث ": ص 11 وقارن بـ " الرسالة المستطرفة ": ص 60. (¬3) " شرح النخبة ": ص 16.

وعلم السيرة، كما في حديث «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» وذلك في شأن جعفر بن أبي طالب، قبل الفتح، وقول ابن عباس «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ»، وإنما أسلم ابن عباس مع أبيه زمن الفتح. وقد أَلَّفَ في «ناسخ الحديث ومنسوخه» أحمد بن إسحاق الديناري (318 هـ) ومحمد بن بحر الأصبهاني (322 هـ) وهبة الله بن سلامة (410 هـ) ومحمد بن موسى الحازمي (584 هـ) (¬1) وابن الجوزي (597 هـ). ¬

_ (¬1) وقد طبع كتاب الحازمي في حيدر آباد ومصر وحلب، واسمه " الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار ".

الفصل الثاني: كتابة الحديث رواية ومراتبها:

الفَصْلُ الثَّانِي: كِتَابَةُ الحَدِيثِ رِوَايَةً وَمَرَاتِبُهَا: [أ]- مَرَاتِبُ هَذِهِ الكُتُبُ: لقد صُنِّفَتْ في الحديث كُتُبٌ كثيرة وصل إلينا بعضها، ولم يصل بعضها الآخر، ولا يزال عدد كبير منها مخطوطًا في المكاتب العالمية، وسيعيش لها الجهابذة من العلماء لينفضوا عنها الغبار وَيُحْيُوا بها التراث الإسلامي العظيم. وكان ينبغي أن تكون كتب الحديث بهذه الكثرة، لأن مجمعة الأحاديث النبوية يتعذر إحصاؤها وضبطها في كتاب يجمعها مهما يكن هذا الكتاب ضخمًا عظيمًا، فالإمام أحمد بن حنبل انتخب " مسنده " وحده من 750.000 (خمسين ألف وسبع مائة ألف) (¬1) مع أن أحاديث هذا " المسند " لا تبلغ الأربعين ألفًا (¬2). وقد حاول السيوطي في كتابه " جمع الجوامع " أن يستوعب الأحاديث ¬

_ (¬1) " خصائص المسند " لأبي موسى المديني. انظر " المسند "، طبعة أحمد شاكر، المقدمة: 1/ 21. (¬2) يقول العَلاَّمَةُ أحمد شاكر في " المسند ": «هُوَ عَلَى اليَقِينِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِينَ أَلْفًا، وَقََدْ لاَ يَبْلُغُ الأَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَسَيَتَبَيَّنُ عَدَدُهُ عِنْدَ تَمَامِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ»: 1/ 23. ولكن مَنِيَّتَهُ عاجلته قبل أن يُتِمَّهُ.

النَّبَوِيَّةِ بأسرها، وفقًا لما أداه إليه اجتهاده واطلاعه، فجمع منها مائة ألف حديث ومات قبل أن يتم تصنيفه. وجدير بالذكر أنه كان يقول: «أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، القَوْلِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ مِائَتَا أَلْفَ حَدِيثٍ وَنَيِّفٍ» (¬1). إن هذا المقدار العظيم من الأحاديث التي جمعت من كتب شتى أُلِّفَتْ في أعصر مختلفة لا يمكن أن ينظر إلى مصادره كلها نظرة متساوية، وبعبارة أخرى: لا يمكن أن تكون مصادر الحديث - على اختلافها - ذات طبقة واحدة، ومرتبة واحدة، ولذلك اصطلح العلماء على تقسيم كتب الحديث بالنسبة إلى الصحة والحسن والضعف إلى طبقات (¬2): الطبقة الأولى: تنحصر في " صحيحي البخاري ومسلم " و" موطأ مالك بن أنس "، وفيها من أقسام الحديث: المتواتر، والصحيح الآحادي، والحسن. الطبقة الثانية: وفيها " جامع الترمذي "، و" سنن أبي داود "، و" مسند أحمد بن حنبل "، و" مُجْتَبَى " النسائي، وهي كتب لم تبلغ مبلغ " الصحيحين " و" الموطأ "، ولكن مُصَنِّفِيهَا لم يرضوا فيها بالتساهل فيما اشترطوه على أنفسهم، وتلقاها مَنْ بَعْدَهُمْ بالقبول، ومنها استمدت أكثر العلوم والأحكام وإن كانت لا تخلو من الضعيف. ¬

_ (¬1) وقد صَرَّحَ السيوطي بذلك فقال: «سَمَّيْتُهُ " جَمْعَ الجَوَامِعِ "، وَقَصَدْتُ فِيهِ جَمْعَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بِأَسْرِهَا». ويعلق المَنَاوِي على هذه العبارة فيقول: «وَهَذَا حَسْبَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ المُصَنِّفُ، لاَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ». (¬2) قارن بـ " حجة الله البالغة " للإمام الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي: ص 105 وما بعدها. القاهرة، المطبعة الخيرية، سَنَةَ 1322 هـ.

[ب]- التعريف بأهم كتب الرواية والمسانيد:

والمحدثون يعتمدون على هاتين الطبقتين بوجه خاص، ويستنبطون منهما أصول العقيدة والشريعة. الطبقة الثالثة: وهي الكتب التي يكثر فيها أنواع الضعيف من شاذ ومنكر ومضطرب، مع استتار حال رجالها وعدم تداول ما شذت به أو انفردت: كـ " مسند ابن أبي شيبة "، و" مسند الطيالسي "، و" مسند عبد بن حُمَيْدٍ "، و" مصنف عبد الرزاق "، وكتب البيهقي والطبراني والطحاوي، وهذه الطبقة لا يستطيع الاعتماد عليها والاستمداد منها إلا جهابذة المحدثين، الذين أفنوا حياتهم في استكمال هذا العلم وتتبع جزئياته. الطبقة الرابعة: مصنفات هزيلة جمعت في العصور المتأخرة من أفواه القُصَّاصِ وَالوُعَّاظِ والمتصوفة والمؤرخين غير العدول وأصحاب البدع والأهواء كما في تصانيف ابْنِ مَرْدَوَيْهْ وابن شاهين وأبي الشيخ. ومن الواضح أن هذه الطبقة الأخيرة لا يعول عليها أحد من الذين لهم إلمام بالحديث النبوي، لأنها مصدر الأهواء والبدع. [ب]- التَّعْرِيفُ بِأَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ وَالمَسَانِيدِ: تعدد أنواع كتب الحديث، كما تعددت طبقاتها، فكان منها كتب الصحاح والجوامع والمسانيد، والمعاجم، والمستدركات، والمستخرجات والأجزاء. آ - أما كتب الصحاح فهي تشمل " الكتب الستة " للبخاري ومسلم وأبي

داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، إلا أن العلماء اختلفوا في ابن ماجه، فجعلوا الكتاب السادس " موطأ الإمام مالك "، كما قال رُزَيْنٌ وابن الأثير، أو " مسند الدارمي " كما قال ابن حجر العسقلاني (¬1). وعلى ذلك فإن من الواضح أن عبارة " الكتب الخمسة " تصدق على كتب الأئمة الذين ذكروا قبل ابن ماجه، فإذا قرأنا في ذيل بعض الأحاديث مثل هذه العبارة: «رَوَاهُ الخَمْسَةُ» فمعنى ذلك أن البخاري ومسلمًا وأبا داود والترمذي والنسائي قد اتفقوا جميعًا على رواية هذا الحديث. وعبارة «الصَّحِيحَيْنِ» تطلق على كتابي البخاري (¬2) ومسلم (¬3)، ويقال في الحديث الذي رَوَيَاهُ «رَوَاهُ الشَّيْخَانِ» أو «مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ». ¬

_ (¬1) " الرسالة المستطرفة ": ص 10، 11. (¬2) الإمام البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، وَيُكَنَّى أبا عبد الله. أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة من عمره، فكتب عن أكثر من ألف شيخ، وحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف غير صحيح، وكتابه " الجامع الصحيح " هو أصح الكتب بعد القرآن المجيد، سمعه من أكثر من سبعين ألفًا، وظل يشتغل في جمعه ست عشرة سَنَةً. ولـ " صحيح البخاري " شروح كثيرة ذكر منها صاحب " كشف الظنون " اثنين وثمانين شرحًا، ولكن أفضلها شرح ابن حجر المُسَمَّى " فتح الباري ". ومن مُصَنَّفَاتِ البخاري التواريخ الثلاثة: " الكبير " و " الأوسط " و " الصغير " و " كتاب الكُنَى "، و " كتاب الوحدان "، وكتاب " الأدب المفرد "، و " كتاب الضعفاء ". توفي البخاري سَنَةَ 256 هـ في قرية من قُرَى سَمَرْقَنْدْ تُسَمَّى «خَرْتَنْكْ». (¬3) هو الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، وبنو قشير قبيلة عربية معروفة، النيسابوري، وكنيته أبو الحسن، أجمع العلماء على إمامته في الحديث، وقد رحل كثيرًا في طلبه. ولمسلم كُتُبٌ كثيرة منها " صحيحه " المشهور، وكتاب " العلل " وكتاب " أوهام المحدثين "، وكتاب " من ليس له إلا راو واحد "، وكتاب " طبقات التابعين "، وكتاب " المخضرمين "، وكتاب " المسند الكبير " على أسماء الرجال. وقد توفي الإمام مسلم بنيسابور سَنَةَ 261 هـ، عن خمس وخمسين سَنَةٍ.

وإنما سميت " الكتب الستة " بالصحاح على سبيل التغليب، وإلا فإن كتب " السنن الأربعة " للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه هي دون " الصحيحين " منزلة، وأقل منهما دقة وضبطًا (¬1). ولكل من أصحاب " الكتب الستة " ميزة يعرف بها، فمن أراد التفقه فعليه بـ " صحيح البخاري "، ومن أراد قلة التعليقات فعليه بـ " صحيح مسلم " (¬2)، ومن رغب في زيادة معلوماته في فن التحديث فعليه بـ " جامع الترمذي "، ومن قصد إلى حصر أحاديث الأحكام فبغيته لدى أبي داود (¬3) في " سننه "، ومن كان يعنيه حسن التبويب في الفقه فابن ماجه (¬4) يُلَبِّي رغبته، أما النسائي (¬5) فقد توافرت له أكثر هذه المزايا. ¬

_ (¬1) وكتب الصحاح غير " الكتب الستة " - كما ذكر السيوطي في خطبة كتابه " جمع الجوامع " - هي " صحيح ابن خزيمة " أبي بكر محمد بن إسحاق المُتَوَفَّى سَنَةَ 311 هـ، و " صحيح أبي عوانة " يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراييني المُتَوَفَّى سَنَةَ 316 هـ، و " صحيح ابن حبان " محمد بن حبان البُسْتِي المُتَوَفَّى سَنَةَ 354 هـ، و " الصحاح المختارة " للضياء المقدسي: محمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المُتَوَفَّى سَنَةَ 634 هـ، وقارن بـ " الرسالة المستطرفة ": ص 16 - 21. (¬2) قيل إنها لا تزيد عن أربعة عشر موضعًا، يعلق فيها سند الحديث فيقول: «مُسْلِمٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وقد سَرَدَهَا الحافظ العراقي في " شرحه لمقدمة ابن الصلاح ". (انظر ص 20، 21) طبعة حلب سَنَةَ 1350 هـ. (¬3) هو أحد أئمة الحديث المتقنين، الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث، الأزدي، السجستاني، اقتصر في " سننه " على أحاديث الأحكام. وله ملاحظات قَيِّمَةٌ على الرُوَّاةِ والأحاديث، تُوُفِّيَ سَنَةَ 275 هـ. (¬4) هو الحافظ أبو عبد الله، محمد بن القزويني، المعروف بابن ماجه (بهاء ساكنة وصلاً ووقفًا لأنه اسم أعجمي)، وهو لقب أبيه لا جَدِّهِ. وأول من أضاف " سُنَنَهُ " مكملاً به الأصول الستة أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي في " أطراف الكتب الستة " له وقد تُوُفِّيَ ابن ماجه سَنَةَ 275 هـ على الأشهر. (¬5) هو الحافظ أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب النسائي، نسبة إلى نَسَاءَ بلدة مشهورة =

و " صحيح البخاري " أرجح من " صحيح مسلم "، لأن الإمام البخاري اشترط في إخراجه الحديث شرطين أحدهما معاصرة الراوي لشيخه، والثاني ثبوت سماعه، بينما اكتفى مسلم بمجرد شرط المعاصرة (¬1). وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه " فتح الباري " أن عِدَّةَ أحاديث البخاري بِالمُكَرَّرِ وبما فيه من التعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082)، فيها من المتون الموصولة بلا تكرار (2602) ومن المتون المُعَلَّقَةِ المَرْفُوعَةِ (159) ولم يتناول ابن حجر بالعَدَّ والاستقصاء ما في " البخاري " من الموقوف على الصحابة والمقطوع على التابعين (¬2). أما عِدَّةَ ما في " صحيح مسلم " بلا تكرار فيبلغ نحو أربعة آلاف حديث (¬3). والبخاري قد وضع بنفسه عناوين " صحيحه " فَبَوَّبَهُ بطريقة خاصة تدل على سَعَةِ علمه وفقهه، وهو غالبًا يفتتح الباب بالآيات القرآنية، فيستنبط من ذلك رأيه الفقهي في الأبواب المختلفة. أما مسلم فإنه رَتَّبَ أحاديثه بطريقة خاصة، فجعل كل طائفة من الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد متلاحقة متتابعة من غير أن يُفْرِدَهَا بعنوان لها بنفسه، ولقد بَوَّبَ له " صحيحه " ووضع له ¬

_ = بخراسان. و " سننه " أقل السنن حديثًا ضعيفًا بعد " الصحيحين ". وقد جَرَّدَ الصحاح من " سننه الكبرى " فصنع منها كتابًا سَمَّاهُ " المُجْتَبَى " وهو المعدود م الأمهات الكبرى، وأحد " الكتب الستة " عند الإطلاق. وقد تُوُفَّيَ النسائي سَنَةَ 303 هـ. (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 22. غير أن أبا علي النيسابوري، شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب يُرَجِّحُونَ " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري ". الكتابان بإجماع علماء المسلمين أصح كتب الحديث قاطبة. (¬2) " فتح الباري ": 1/ 470 - 478. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 25.

عناوينه الإمام النووي، فأصبح الانتفاع به أيسر. ولمسلم في " صحيحه " مزايا منها سهولة تناوله، لأنه جعل لكل حديث مَوْضِعًا واحدًا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها وأورد فيه أسانيده المتعددة، بخلاف البخاري فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة. ومسلم يُمَيِّزُ بين «حَدَّثَنَا» و «أَخْبَرَنَا» فكان يرى أن «حَدَّثَنَا» لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و «أَخْبَرَنَا» لما قُرِئَ على الشيخ (¬1). وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث، ولا سيما الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق. ثم إن مسلمًا يُعْنَى في " صحيحه " بضبط ألفاظ الرواة، كقوله: «حَدَّثَنَا فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَاللَّفْظُ لِفُلاَنٍ قَالَ أَوْ قَالاَ: حَدَّثَنَا فُلاَنٌ» (¬2). وإذا كان بين الرواة اختلاف في حرف من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه حريص على التنبيه عليه ولو لم يتغير به المعنى (¬3) وهذا إن دَلَّ على شيء فعلى ضبطه وأمانته. وفي كل من " الصحيحين " نجد الإشارة إلى «حَدَّثَنَا» بهذه العبارة «ثَنَا» وإلى «أَخْبَرَنَا» بهذه العبارة «أَنَا» وهما اصطلاحان يُرَادُ بهما الاختصار. ويكثر في " صحيح مسلم " خاصة حرف حاء (ح) يرمز إلى التحول من إسناد إلى إسناد، ¬

_ (¬1) " شرح صحيح مسلم " للنووي: 1/ 151. (¬2) مثاله: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ -، قَالاَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ القَطَّانُ ... » [" صحيح مسلم "]: (22) [كِتَابُ المُسَاقَاةِ]، (1) بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ: 5/ 26. [3/ 1186، حديث رقم 1551]. (¬3) مثاله: «حَدَّثَنَا [عُبَيْدُ اللهِ] بْنُ مُعَاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، - وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ مَالِكٍ الأَزْدِيُّ، وَيُقَالُ المَرَاغِيُّ، وَالمَرَاغُ حَيٌّ مِنَ الأَزْدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ... » " صحيح مسلم ": (5) - كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلاَةَ، (31) - بَابُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ: 2/ 104 [حديث رقم 172، 1/ 427].

وذلك إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، فعلى القارئ إذا انتهى إليها أن يقول (ح) ثم يستمر في قراءة ما بعدها (¬1). والبخاري ومسلم لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث فلقد فاتهما عدد قليل من الأحاديث اعترفا بصحتها مع أنها لم تَرِدْ في كتابيهما، وإنما وردت في كتب " السنن الأربعة " أو سواهما من الكتب المشهود لها بالصحة (¬2). أما " موطأ الإمام مالك " (¬3) فإنه يلي " الصحيحين " في الرتبة، على الرأي القائل بأنه سادس " الكتب الستة "، ولم يعد في الكتب الصحاح على رأي الذين يجعلون الأصل السادس " سنن ابن ماجه "، وتعليل ذلك لديهم أن فيه كثيرًا من المراسيل من ناحية، وكثيرًا من الآراء الفقهية من ناحية ثانية، فهو إلى كتب الفقه أقرب (¬4). ب - والجوامع من كتب الحديث تشتمل على جميع أبواب الحديث التي اصطلحوا على أنها ثمانية: باب العقائد، باب الأحكام، باب الرقاق، باب آداب الطعام والشراب، باب التفسير والتاريخ والسير، باب السفر والقيام والقعود (ويُسَمَّى باب الشمائل أيضًا)، باب الفتن، وأخيرًا باب المناقب والمثالب (¬5). فالكتاب المشتمل على هذه الأبواب الثمانية يُسَمَّى جامعًا: ¬

_ (¬1) انظر دلالة حاء التحويل: " علوم الحديث ": ص 182، 183. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 23، 24. (¬3) سبقت ترجمته: ص 91 ح 4. (¬4) " الباعث الحثيث ": ص 31، 32. (¬5) قارن " التوضيح ": 2/ 15 بـ " المستطرفة ": ص 32. وهذه الأبواب الثمانية قبل أن تضم بين دَفَّتَيْ «جامع» واحد يجمعها، كان كل منها موضوعًا لكتاب قائم برأسه. ففي العقائد " كتاب التوحيد " لابن خزيمة، وفي الأحكام " كتب السنن الأربعة " التي سبقت الإشارة إليها، لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وفي الرقاق كتاب " الزهد " للإمام أحمد بن حنبل. وفي الآداب =

كـ " جامع البخاري " و " جامع الترمذي ". ج - المسانيد: جمع مسند، وهو ما تذكر فيه الأحاديث على أسماء الصحابة حسب السوابق الإسلامية (¬1)، أو تبعًا للأنساب (¬2). ومنها " مسند أبي داود الطيالسي المُتَوَفَّى سَنَةَ 204، وهو كما ذكرنا سابقًا أول من ألف في المسانيد، ومنها " مسند بقي بن مخلد " المُتَوَفَّى سَنَةَ 296 (¬3)، ويسمى " مسنده " أيضًا " مُصَنَّفًا " لأنه صنف فيه حديث كل صاحب على أبواب الفقه. وأوفى تلك المسانيد وأوسعها " مسند الإمام أحمد بن حنبل " (¬4) وفي هذا المسند (¬5) أحاديث صحيحة كثيرة لم تخرج في " الكتب الستة ". وقد قال الإمام أحمد في " مسنده " هذا: «هَذَا الكِتَابُ جَمَعْتُهُ وَانْتَقَيْتُهُ مِنْ أََكْثَرِ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا فَمَا اخْتَلَفَ المُسْلِمُونَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ ¬

_ = كتاب " الأدب المفرد " للبخاري. وفي التفسير كتاب ابن مردويه وابن جرير، وفي السفر والقيام كتاب " الشمائل " للترمذي، وفي الفتن كتاب لنعيم بن حماد، وراجع ما ذكره عن «الجوامع» 2/ 15 في " التوضيح ". (¬1) قال الخطيب: «وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَحَبُّ إِلَيْنَا فِي تَخْرِيجِ الْمُسْنَدِ فَيَبْدَأُ بِالْعَشَرَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - ثُمَّ يُتْبِعُهُمْ بِالْمُقَدَّمِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ» [الجامع لأخلاق الراوي]: 10/ 190 وجه 1. (¬2) وحينئذٍ يبدأ ببني هاشم الأقرب فالأقرب إلى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النسب. الجامع: 10/ 190 وجه 1. (¬3) وانظر في وصف " مسند بقي " نفح الطيب ": 1/ 581 و 2/ 131. (¬4) هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني، المروزي ثم البغدادي. وكنيته أبو عبد الله، كان آية في الحفظ والضبط، وهو من أمراء المؤمنين في الحديث، كتبه كثيرة منها " المسند " و " كتاب العلل "، وكتاب " الزهد " وكتاب " فضائل الصحابة ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 241 هـ. (¬5) " مسند ابن حنبل " مطبوع في مصر في ستة مجلدات كبار، وقد تم طبعه سَنَةَ 1313 هـ، والعَلاَّمَةُ أحمد محمد شاكر شرع بطبعه بتحقيق مشكور، ولكن مَنِيَّتَهُ أعجلته عن إتمامه فلم ينشر إلى خمسة عشر مجلدًا.

فِيهِ وَإِلاَّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ» (¬1). وقد عقب الحافظ الذهبي على ذلك بقوله: «هَذَا القَوْلُ مِنْهُ عَلَى غَالِبِ الأَمْرِ وَإِلاَّ فَلَنَا أَحَادِيثَ قَوِيَّةٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَ" السُّنَنِ " وَالأَجْزَاءِ مَا هِيَ فِي " المُسْنَدِ "» وسنرى في بحث «الموضوع وأسباب الوضع»، أن للحافظ ابن حجر رسالة سماها " القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد " رَدَّ فيها أقوال الزاعمين أن في " المسند " موضوعات، وقد فصل ابن تيمية في هذه القضية فصلاً حكيمًا إذ نفى في كتابه " التوسل والوسيلة " وجود الموضوع في " مسند الإمام أحمد إن كان المراد بالموضوع ما في سنده كَذَّابٌ، «أما إذا كان المراد ما لم يقله النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لغلط راويه وسوء حفظه، ففي " المسند " و " السنن " من ذلك كثير». د - والمعاجم جمع معجم، وهو ما تذكر فيه الأحاديث على أسماء الشيوخ، أو البلدان، أو القبائل، مرتبة على حروف المعجم (¬2). وأشهر المعاجم " معجم الطبراني الكبير "، و " المتوسط "، و " الصغير ". هـ - والمستدركات جمع مستدرك، وهو ما استدرك فيه ما فات المؤلف في كتابه على شرطه. وأشهرها " مستدرك الحاكم النيسابوري على الصحيحين "، وقد لَخَّصَهُ الذهبي (¬3). غير أن الحاكم ألزم الشيخين بإخراج أحاديث لا تلزمهما لضعف رُوَاتِهَا عندهما (¬4). على أن الضرر في " مستدرك الحاكم " أنه ¬

_ (¬1) راجع مقدمة " المسند "، ط. شاكر: ص 21. وكان الإمام أحمد شديد الاعتزاز بمسنده، لإيمانه بأنه جمع السُنَّةَ فأوعاها، فكان يقول لابنه عبد الله راوي " المسند " عنه: «احْتَفِظْ بِهَذَا المُسْنِدِ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِلْنَّاسِ إِمَامًا». (¬2) " الرسالة المستطرفة ": ص 101. (¬3) وهما مطبوعان في الهند. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 26.

كان يظن ما ليس بصحيح صحيحًا، لأنه يحاول تخريج بعض الأحاديث على شرط الشيخين، وإن كان في كثير من استدراكاته مقال (¬1). و والمستخرجات، وموضوع المستخرج - كما قال العراقي: «أَنْ يَأْتِيَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْكِتَابِ فَيُخَرِّجَ أَحَادِيثَهُ بِأَسَانِيدَ لِنَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِ الكِتَابِ، فَيَجْتَمِعَ مَعَهُ فِي شَيْخِهِ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ» (¬2). من ذلك " مستخرج أبي بكر الإسماعيلي على البخاري "، و " مستخرج أبي عوانة على مسلم "، و " مستخرج أبي علي الطوسي على الترمذي "، و " مستخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سُنن أبي داود ". قال ابن كثير في " مختصر علوم الحديث " في هذا السياق: «وَكُتُبٌ أُخَرُ الْتَزَمَ أَصْحَابُهَا صِحَّتَهَا كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ البُسْتِيَّ. وَهُمَا خَيْرٌ مِنَ " المُسْتَدْرَكِ " بِكَثِيرٍ وَأَنْظَفُ أَسَانِيدَ وَمُتُونًا» (¬3). ز - الأجزاء، والجزء عندهم تأليف الأحاديث المروية عن رجل واحد من الصحابة أو من بعدهم، كجزء أبي بكر، أو الأحاديث المتعلقة بمطلب من المطالب، كـ " جزء قيام الليل " للمروزي، و " جزء صلاة الضحى " للسيوطي، ومنه الفوائد الحديثية كالوحدانيات والثنائيات إلى العشاريات. ومنه كتاب " الوحدان " للإمام مسلم (¬4). وكل من علم شروط العمل بالحديث، وكان أهلاً لتحمله وأدائه، جاز له أن ينقل الحديث من الكتب الصحيحة المشهورة، وأن يرويه ويذيع معناه ¬

_ (¬1) " تدريب الراوي ": ص 100. (¬2) " التدريب ": ص 33. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 27. (¬4) " الرسالة المستطرفة ": ص 64، 65.

الفصل الثالث: شروط الراوي ومقاييس المحدثين:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: شُرُوطُ الرَّاوِي وَمَقَايِيسُ المُحَدِّثِينَ: العقل والضبط والعدالة والإسلام شروط لا بد منها لقبول الرواية، فلو فقدها الراوي أو فقد بعضها رُدَّتْ روايته، وَتُرِكَ حَدِيثُهُ. وإلى هذه الشروط الأربعة تَؤُولُ أقوال نُقَّادُ الحديث من قُدَامَى وَمُتَأَخِّرِينَ. غير أن دقة الاصطلاح هي ميزة المتأخرين الذين اطَّلَعُوا على الكثير من آراء الأوائل وَرَجَّحُوا بينها واختاروا أحدها، أما القدامى فكانوا يقنعون من الموضوع بتطبيقه العملي، فتغنيهم الدُّرْبَةُ والممارسة عن وضع المصطلحات والتدقيق في المقاييس. قِيلَ لِشُعْبَةَ بْنِ الحَجَّاجِ (- 160 هـ): مَنِ الَّذِي يُتْرَكُ حَدِيثُهُ؟ فَقَالَ: «إِذَا رَوَى عَنِ المَعْرُوفِينَ، مَا لاَ يَعْرِفُهُ الْمَعْرُوفُونَ فَأَكْثَرَ، تُرِكَ حَدِيثُهُ، فَإِذَا اتُّهِمَ بِالحَدِيثِ تُرِكَ حَدِيثُهُ، فَإِذَا أَكْثَرَ الغَلَطَ تُرِكَ حَدِيثُهُ، وَإِذَا رَوَى حَدِيثًا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَلَطٌ تُرِكَ حَدِيثُهُ، وَمَا كَانَ غَيْرَ هَذَا فَأَرْوِ عَنْهُ» (¬1). ويكاد شعبة بهذا يُصَرِّحُ بشرطين من شروط الراوي الذي يقبل حديثه ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث " للحاكم: ص 62.

وهما الضبط والعدالة، فكثرة الغلط تنافي الضبط، والاتهام في الحديث يعارض العدالة. أما الإسلام والعقل فأمران بديهيان لم يلتزم شُعْبَةُ ذكر لفظهما، إذ كان لا يتصور العدالة من غير إسلام، أو الضبط من غير عقل وتمييز. لكن المتأخرين من نقاد الحديث - حين أخذوا أنفسهم بدقة المصطلحات ووضوح المقاييس - نَبَّهُوا على الشروط جميعًا، فذكروا البديهيات أحيانًا، ولم يضنوا على طالب هذا العلم بالتبويب والتقسيم. وشرط العقل يرادف عند المحدثين مقدرة الراوي على التمييز. فيندرج تحته البالغ تَحَمُّلاً وَأَدَاءً، والصبي المُمَيِّزُ تَحَمُّلاً لاَ أَدَاءً. فقد لُوحِظَ في شرط العقل البلوغ ضِمْنًا، لأن في وسع الصبي أن يتحمل الرواية، ولكنه لا يُؤَدِّيهَا إلا بعد بلوغه (¬1). وَمِمَّنْ كثرت الرواية عنه من الصحابة، وكان سماعه في الصغير، أنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخُدري. وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ كَانَ مُعَلَّقًا فِي دَارِهِمْ، وَتُوُفِّيَ [النَّبِيُّ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ وَلَهُ خَمْسُ سِنِينَ (¬2). ولم يتفق المحدثون على مبلغ السن الذي يستحسن التحديث معه (¬3)، فقال قوم: الحَدُّ في السماع خمس عشرة سَنَةً، وقال غيرهم: ثلاث عشرة. وقال جمهور العلماء: يصح السماع لمن سِنُّهُ دون ذلك. وبهذا الرأي الأخير أخذ ¬

_ (¬1) انظر " الكفاية ": ص 54، باب ما جاء في صحة سماع الصغير. (¬2) " الكفاية ": ص 56. (¬3) انظر الآراء المختلفة حول هذه القضية في " الجامع لأخلاق الراوي ": 4/ 71.

الخطيب البغدادي وقال: «وَهَذَا هُوَ عِنْدَنَا الصَّوَابُ» (¬1). والحد في السماع خضع لبعض الاعتبارات الإقليمية، فإذا كان أهل البصرة يكتبون الحديث ويسمعونه لعشر سنين (¬2)، فما كان الكوفيون ليتساهلوا في ذلك إلا بعد استكمال أحدهم عشرين سَنَةً، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد (¬3). أما أهل الشام فما كانوا يكتبون العلم إلا لثلاثين (¬4). ويريدون بضبط الراوي سماعه للرواية كما يجب وفهمه لها فهمًا دقيقًا، وحفظه لها حفظًا كاملاً لا تردد فيه، وثباته على هذا كله من وقت السماع إلى وقت الأداء (¬5). فيلاحظ في شرط الضبط قوة الذاكرة ودقة الملاحظة. ويعرف ضبط الراوي بموافقة الثِّقَاتِ المُتْقِنِينَ الضَّابِطِينَ إذا اعتبر حديثه بحديثهم، فإن وافقهم غالبًا - ولو من حيث المعنى - فضابط ولا تضر مخالفته النادرة لهم، فإن كثرت مخالفته لهم وندرت الموافقة اخْتَلَّ ضَبْطُهُ وَلَمْ يُحْتَجَّ بِحَدِيثِهِ (¬6). والحق أن مخالفة الثقات الضابطين ضرب من الانحراف والشذوذ. ولا ريب في أن الذي يتحمل الروايات الشاذة يتحمل وِزْرًا كَبِيرًا وَشَرًّا كَثِيرًا (¬7). ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 54. (¬2) " الكفاية ": ص 55. (¬3) " الكفاية ": ص 54. (¬4) " الكفاية ": ص 55. (¬5) والمحدثون يُفَرِّقُونَ هنا بين قديم حديث الرجل وجديده، فقد يُضَعَّفُ ضبط الرجل في أواخر أيامه فيقال فيه: «تَغَيَّرَ بِأَخَرَةٍ». انظر في (" سنن أبي داود ": 3/ 85 رقم 2695) كيف رَدَّ حديث أحد الرواة لأنه تَغَيَّرَ ولم يخرج الحديث إلا بأخرة. (¬6) " التدريب ": ص 110. (¬7) " الكفاية ": ص 140.

قَالَ شُعْبَةُ: «لاَ يَجِيئُكَ الحَدِيثُ الشَّاذُّ إِلاَّ مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ» (¬1). ولقد قَيَّضََ اللهُ للرواية علماء أعلامًا شَدَّدُوا في أمرها، وكانوا في تشددهم حكماء، فلم ينقلوا إلا الصحيح. والصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع (¬2). ومن الطبيعي إذن أن يُحَذِّرَ عبد الله بن المبارك من كتابة الحديث أو سماعه عن غلاط لا يرجع، وَكَذَّابٍ، وصاحب بدعة وهوى يدعو إلى بدعته، ورجل لا يحفظ فَيُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ (¬3). ويريدون بعدالة الراوي استقامة التامة في شؤون الدين، وسلامته من الفسق كله، وسلامته من خوارم المروءة (¬4). وقد عَرَّفَ الخطيب البغدادي العدل بأنه «مَنْ عُرِفَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَلُزُومِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَوَقِّي مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَتَجَنُّبِ الْفَوَاحِشِ الْمُسْقِطَةِ، وَتَحَرِّي الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ فِي أَفْعَالِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، وَالتَّوَقِّي فِي لَفْظِهِ [مَا] يَثْلِمُ الدِّينَ وَالْمُرُوءَةَ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ، وَمَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ فِي حَدِيثِهِ» (¬5). وَفَرَّقُوا بين تعديل الراوي وتزكية الشاهد. وإذا كانت التزكية لا تقبل إلا بشهادة رجلين فتعديل الراوي يثبت بِمُعَرِّفٍ وَاحِدٍ، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، حُرًّا أَمْ عَبْدًا، شريطة أن يكون في نفسه عَدْلاً مَرْضِيًّا (¬6). وهذا ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 141. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 59. (¬3) " الكفاية ": ص 143. وراجع في هذه الصفحة ذاتها من " الكفاية " أقوال العلماء في ترك الاحتجاج بمن كثر غلطه، وكان الوهم غالبًا على روايته. (¬4) قارن بـ " توضيح الأفكار ": 2/ 118. (¬5) " الكفاية ": ص 80. (¬6) " توضيح الأفكار ": 2/ 121 وقارن بـ " الفروق " للقرافي: 1/ 5 - 22، ط. تونس.

هو اختيار الإمام فخر الدين (¬1)، والسيف الآمدي (¬2). على أن بعض العلماء يُسَوِّي بين الشاهد والراوي، فالتعديل يثبت لكليهما بتعريف شخص واحد (¬3). وقد انتصر القاضي أبو بكر (¬4) لهذا الرأي. وواضح أن تزكية الشاهد ليست هي عين الشهادة، فلا بد من رجلين في الشهادة على جميع الأقوال، أما تزكية الشاهد فهي التي جرى حولها الخلاف ن هل يكفي لإثباتها شخص واحد أم لاَ بُدَّ من شخصين؟. والمروءة التي ينبغي توافرها في الراوي المعدل كثيرًا ما قيست بالمقاييس الخلقية الإنسانية المشتركة. ويستشهد الخطيب البغدادي على ذلك بقول النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ» (¬5). وفي ضوء هذه المقاييس، لم يكن بُدٌّ من غض النظر عن بعض العيوب ¬

_ (¬1) هو الإمام فخر الدين الرازي، محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله، إمام كبير في المعقول والمنقول. صاحب " التفسير الكبير المشهور ". له كتب كثيرة منها " نهاية العقول " و " المحصول في علم الأصول " و " كتاب الأربعين في أصول الدين ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 606 هـ. (¬2) سيف الدين الآمدي: هو أبو الحسن، علي بن محمد بن سالم التغلبي الآمدي: من علماء الأصول. له نحو عشرين مُصَنَّفًا منها: " منتهى السول في [علم] الأصول " و " دقائق الحقائق " و " أبكار الأفكار " في علم الكلام. منسوب إلى آمد من «ديار بكر». تُوُفِّيَ سَنَةَ 631 هـ. (¬3) " توضيح الأفكار ": 2/ 121. (¬4) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، المشهور بالقاضي الباقلاني. انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. أشهر كتبه " إعجاز القرآن " تُوُفِّيَ سَنَةَ 403 هـ. (¬5) " الكفاية ": ص 78.

التي لا يَعْرَى منها إنسان، وسيظل ما يجهله الناس من سيرة كل عالم وكل رَاوٍ أكثر مِمَّا يعرفونه، «لَيْسَ مِنْ شَرِيفٍ وَلاَ عَالِمٍ وَلاَ ذِي سُلْطَانٍ إِلاَّ وَفِيهِ عَيْبٌ، لاَ بُدَّ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ تُذْكَرُ عُيُوبُهُ» (¬1). فليكن مقياسًا في تعديل الرواة أن «مَنْ كَانَ فَضْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِهِ وُهِبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ» كَمَا قََالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ (¬2). وحسن الظن بالراوي حمل بعض العلماء على التساهل في رواية الحديث عن مستور الحال، وهو كل حامل علم معروف بالعناية فيه، فهو عدل محمول في أمره أبدًا على العدالة حتى يَتَبَيَّنَ جرحه (¬3) لقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» (¬4). لكن المحققين من الأصوليين على رَدِّ كل رواية عن مستور الحال دفعًا للمفسدة (¬5)، فلا بد من تعديله والكشف عما يمكن من دخائله. وإن كان التوغل في الكشف عن سريرته ليس من عمل المحدثين في شَيْءٍ. ولا ريب أن العدالة شيء زائد على مجرد التظاهر بالدين والورع، لا يعرف إلا بتتبع الأفعال، واختبار التصرفات، لتكوين صورة صادقة عن الراوي. ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 79. (¬2) نفسه: ص 79. فالعبارة كلها منسوبة إلى سعيد بن المسيب، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. كان أحفظ الناس لأحكام الخليفة عمر بن الخطاب حتى سُمِّيَ «رَاوِيَةَ عُمَرَ». وكان - على اشتغاله بالحديث والفقه - يعيش من كسب يده، من التجارة بالزيت. وأكثر أئمة الحديث على وفاته سَنَةَ 105 كما قال الحاكم (انظر " تذكرة الحفاظ ": 1/ 56.). (¬3) " توضيح الأفكار ": 2/ 126، 127. (¬4) " الجامع لأخلاق الراوي ": 1/ 15 وجه 2. (¬5) " تدريب الراوي ": ص 115. ِ

والبحث عن عدالة المخبر كالبحث عن عدالة الشاهد يتناول ضروبًا من الاستقصاء الدقيق الذي لا يجرح كرامة أحد، بل يُزَكِّي الخبر المروي من خلال تزكية المخبر الراوي: «شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: " لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلاَ يَضُرُّكَ أَلاَّ أَعْرِفَكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنا أَعْرِفُهُ. قَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالأَمَانَةِ وَالعَدْلِ (*)، قَالَ: فَهُوَ جَارُكَ الأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: لَسْتَ تَعْرِفُهُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ "!» (¬1). ولا غرابة بعد هذا أن يكره المحدثون الرواية عن أهل الأهواء والبدع (¬2)، وعن أهل المجون والخلاعة (¬3)، على حين تساهلوا في الرواية عن المشاهير من غير أن يسألوا عن سبب عدالتهم: فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم من المحدثين أو غيرهم وشاع الثناء عليه بها لا يحتاج إلى تعديل المُزَكِّينَ، كمالك بن أنس، وسفيان بن عُيَيْنَةَ، وسفيان الثوري (¬4)، والأوزاعي (¬5)، ¬

_ (*) [في رواية (بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ)، انظر " الكفاية " تحقيق وتعليق أبي إسحاق إبراهيم بن مصطفى آل بحبح الدمياطي، الطبعة الأولى: 1423 هـ - 2003 م، 1/ 278، دار الهدى. ميت غمر. مصر]. (¬1) " الكفاية ": ص 84. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي ": 1/ 18 وجه 1. (¬3) " الكفاية ": ص 156. (¬4) هو شيخ الإسلام وسيد الحفاظ سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، نسبة إلى ثور وهو أبو قبيلة من مضر. تُوُفِّيَ سَنَةَ 160 أو 161 هـ (انظر " الرسالة المستطرفة ": ص 31). (¬5) هو شيخ الإسلام الحافظ عبد الرحمن بن عمرو بن محمد المشهور بالأوزاعي، وصفه الوليد بين مزيد فقال: «تَعْجِزُ المُلُوكُ أَنْ تُؤَدِّبَ أَوْلاَدَهَا أَدَبَهُ فِي نَفْسِهِ». تُوُفِّيَ سَنَةَ 157 هـ (انظر " تذكرة الحفاظ ": 1/ 178 - 183).

والشافعي، وأحمد بن حنبل، والليث بن سعد (¬1)، وشعبة بن الحجاج، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وَعَلِيُّ بن المديني، ويحيى بن مَعِينٍ، وقد سئل ابن حنبل عن إسحاق بن راهويه (¬2) فقال: «مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ؟!» وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ، عَنْ أَبَى عُبَيْدٍ، فَقَالَ: «مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ؟ أَبُو عُبَيْدٍ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ!» (¬3). ومناهج المحدثين في الجرح أشد منها في التعديل: فهم يقبلون التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور (¬4)، أما الجرح فيردونه إذا لم يُبَيِّنْ سببه بيانًا شافيًا، لاعتقادهم بأن الناس يختلفون في إسقاط العدالة والحكم بالفسق، وأن «مَذَاهِبُ النُّقَّادِ لِلرِّجَالِ غَامِضَةٌ دَقِيقَةٌ، وَرُبَّمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّاوِي أَدْنَى مَغْمَزٍ فَتَوَقَّفَ عَنِ الاحْتِجَاجِ بِخَبَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوجِبًا لِرَدِّ الْحَدِيثِ، وَلاَ مُسْقِطًا لِلْعَدَالَةِ» (¬5). من ذلك أنهم تشددوا في رواية مرتكب المباحات، كالتنزه في الطرقات، والأكل في الأسواق، والتبسط في المداعبة والمزاح (¬6)، أما اللعب بالشطرنج ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ الفقيه الورع شيخ الديار المصرية، الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث. تُوُفِّيَ سَنَةَ 175 هـ. (¬2) هو الإمام الحافظ إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، المعروف بابن راهويه، وَيُكَنَّى أبا يعقوب. كان يحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب. وله " مسند " كبير. تُوُفِّيَ سَنَةَ 238 هـ. (انظر " الرسالة المستطرفة ": ص 49). (¬3) " تدريب الراوي ": ص 109. (¬4) وقد عَلَّلَ السيوطي ذلك بكثرة أسباب التعديل حتى يثقل ذكرها ويشق. إذ على المعدل أن يقول: لم يرتكب كذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه. وذلك شاق جِدًّا. (" التدريب ": ص 111). (¬5) " الكفاية ": ص 109. (¬6) " الكفاية ": ص 111.

ونحوه، واللهو بآلات الطرب، فأمرهما أشد. قَالَ شُعْبَةُ بْنُ الحَجَّاجِ: «لَقِيتُ نَاجِيَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ فَرَأَيْتُهُ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ فَتَرَكْتُهُ فَلَمْ أَكْتُبْ عَنْهُ، ثُمَّ كَتَبْتُ عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ»، وَقَالَ شُعْبَةُ أَيْضًا: «أَتَيْتُ مَنْزِلَ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو فَسَمِعْتُ فِيهِ صَوْتَ الطُّنْبُورِ، فَرَجَعْتُ. فَهَلاَّ سَأَلْتُ؟ عَسَى أَنْ لاَ يَعْلَمُ هُوَ» (¬1). والمعروف في كتب الجرح والتعديل أن مُؤَلِّفِيهَا قَلَّمَا يتعرضون لبيان أسباب الجرح، بل يقتصرون على مجرد قولهم: «فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، وفلان متروك، ونحو ذلك». والناس مع ذلك يُعَوِّلُونَ عليها في رَدِّ حديث الرواة. غير أن التحقيق العلمي الدقيق في موضوع هذه الكتب أثبت أن فائدتها ليست في اعتمادها للحكم بالجرح، بل في إثارة الرِّيبَةِ حول من جَرَّحُوهُ والتوقف في أمره. فلا يقبل حديثه إلا إذا انزاحت هذه الرِّيبَةُ عنه وحصلت الثقة به (¬2). وهذه الشدة المتناهية، والورع الزائد، والدقة البالغة، كلها أثر من شعور النقاد بقيمة المَرْوِيِّ، فما هو بالكلام العادي، ولا بالأشعار والخطب والقصص وإنما هو دين لا يؤخذ إلا بالنقل الأمين، والسماع الصحيح. قال محمد بن سيرين: «إِنَّ هَذَا [الْعِلْمَ] دِينٌ، فَانْظُرُوا مِمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينِكُمْ» (¬3). ورفع بعضهم حديثًا إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا المعنى، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا ابْنَ عُمَرَ دِينُكَ دِينُكَ، إِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 111، 112. (¬2) " التدريب ": ص 111. (¬3) " الجامع لأخلاق الراوي ": 1/ 15 وجه 2.

خُذْ عَنِ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا، وَلاَ تَأْخُذْ عَنِ الذِينَ مَالُوا» (¬1). وعلى هدي هذه الوصايا، مضى طلاب الحديث يتخيرون الشيوخ إذا تباينت أوصافهم (¬2)، فكانوا يُقَدِّمُونَ السماع من الأمناء، ويكرهون النقل والرواية عن الضعفاء (¬3)، وَيُرَجِّحُونَ الأخذ عمن علا إسناده وقرب من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتقدين أَنَّ «قُرْبَ الإِسْنَادِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ» (¬4)، وحين لا يتيسر لهم الإسناد القريب إلى النبي نفسه يطلبون أقرب الأسانيد إلى الصحابة أو التابعين أو الأئمة الأعلام، واثقين أن العلم في تلك العصور الذهبية كان «غَضًّا طَرِيًّا، وَالارْتِسَامُ بِهِ مَحْبُوبًا شَهِيًّا، وَالدَّوَاعِي إِلَيْهِ أَكْبَرُ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ أَكْثَرُ» (¬5). واهتمامهم بالأسانيد العالية لم يكن ينصرف إليها لذاتها، بل لما يترتب عليها من قوة الظن بصحة متونها، فما يقيمون وزنًا لإسناد عَالٍ إذا شَكُّوا في رجاله لأن ضعف رجال الإسناد سَيُؤَدِّي ضرورة إلى ضعف المتن المروي، لذلك فَضَّلُوا النزول عن الثقات على العلو عن غير الثقات (¬6) وأنشدوا مع أبي بكر بن الأنباري (¬7): ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 121. (¬2) " الجامع ": 1/ 14 وجه 2. (¬3) " الكفاية ": ص 132. (¬4) كما روي عن محمد بن أسلم الطوسي في " الجامع ": 1/ 13 وجه 2. وفي الصفحة نفسها من هذا المخطوط أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، كَانَ يَقُولُ: «طَلَبُ إِسْنَادِ الْعُلُوِّ مِنَ السُّنَّةِ». وسندرس في «القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف» أهم ما يتعلق بالحديث العالي والحديث النازل، فانتظر التفصيل هناك. (¬5) " الجامع ": 1/ 14 وجه 1. (¬6) " الجامع ": 1/ 14 وجه 1. (¬7) هو محمد بن بشار المعروف بأبي بكر بن الأنباري، النحوي المعدود في حفظ الحديث، ومصنف التصانيف الكثيرة. توفي ببغداد سَنَة 328 هـ.

عِلْمُ النُّزُولِ اكْتُبُوهُ فَهُوَ يَنْفَعُكُمْ ... وَتَرْكُكُمْ كَتْبَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَنَتِ إِنَّ النُّزُولَ إِذَا مَا كَانَ عَنْ ثَبْتٍ ... أَعْلَى لَكُمْ مِنْ عُلُوٍّ غَيْرِ ذِي ثَبَتِ (¬1). وعرف بعض نقاد الحديث للأسانيد النازلة مزية لم يعرفوها للعالي من الأسانيد، فرأوا «أَنَّ السَّمَاعَ النَّازِلَ أَفْضَلُ، لأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ جَرْحِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ وَتَعْدِيلِهِ، وَالاجْتِهَادُ فِي أَحْوَالِ رُوَاةِ النَّازِلِ أَكْثَرُ، وَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ» (¬2). وبلغ بالمحدثين حسهم النقدي ذروة لا تسامى حين لاحظوا أن المعاصر حجاب، فكرهوا التحديث عن الأحياء (¬3) كأنهم يخشون أثر الحب في حسن الظن وأثر الكره والمنافسة في إساءة الظن بالمروي عنه، فلا تكون أسس الجرح والتعديل سليمة ولا صحيحة. قََالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: ذَاكَرْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمًا بِحَدِيثٍ وَأَنَا غُلاَمٌ، فَقَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ. فَقَالَ: «مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كَمَا حَدَّثْتُكَ. وَإِيَّاكَ وَالرِّوَايَةَ عَنِ الأَحْيَاءِ» (¬4). وقال ابْنُ عَوْنٍ: «قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: أَلاَ أُحَدِّثُكَ؟» (قَالَ): فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «أَعَنِ الأَحْيَاءِ تُحَدِّثُنِي أَمْ عَنِ الأَمْوَاتِ؟» قَالَ: «قُلْتُ، لاَ بَلْ عَنِ الأَحْيَاءِ»، قَالَ: «فَلاَ تُحَدِّثْنِي عَنِ الأَحْيَاءِ» (¬5). ¬

_ (¬1) " الجامع ": 1/ 14 وجه 2. ويراد بعلم النزول في هذين البيتين معرفة الأسانيد النازلة البعيدة عن النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن الأئمة الأعلام. (¬2) " الجامع ": 1/ 11 وجه 2. (¬3) " الكفاية ": ص 139. (¬4) " الكفاية ": ص 140. (¬5) " الكفاية ": ص 139.

وَلِنُقَّادِ الحديث اصطلاحات في التعديل والتجريح يدل تنوعها وتغايرهاعلى تباين أحوال الرواة في القوة والضعف، والثقة والريبة. وقد جعل ابن حجر هذه الاصطلاحات اثنتي عشرة مرتبة (¬1): «1 - الصحابة. 2 - من أكد مدحه بأفعل التفضيل، كأوثق الناس، أو بتكرار الصفة لفظًا، كثقة ثقة، أومعنى، كثقة حافظ، 3 - من أفرد بصفة: كثقة، أو متقن، أو ثبت، 4 - من قصر عمن قبله قليلاً كصدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس، 5 - من قصر عن ذلك قليلاً، كصدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بأخرة، ويلحق بذلك أهل الأهواء والبدع، 6 - من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، ويشار إليه بمقبول حيث يتابع، وإلا فَلَيِّنُ الحديث، 7 - من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق، ويشار إليه بمستور، أو مجهول الحال، 8 - من لم يوجد فيه توثيق معتبر، وجاء فيه تضعيف وإن لم يبين، والإشارة إليه: ضعيف، 9 - من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق، ويقال فيه: مجهول، 10 - من لم يُوَثَّقْ البَتَّةَ وَضُعِّفَ مع ذلك بقادح، ويقال فيه متروك، أو متروك الحديث، أو واهي الحديث، أو ساقط، 11 - من اتهم بالكذب، ويقال فيه: متهم، ومتهم بالكذب، 12 - من أطلق عليه اسم الكذب والوضع، ككذاب، أو وضاع أيضع، أو ما أكذبه! ونحوها». والدقة في شروط الراوي - في ضوء مصطلحات الناقدين - كانت ¬

_ (¬1) وذلك في خطبة كتابه " تقريب التهذيب ". وقد آثرنا اختصارها على النحو الذي ذكرناه. وقارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 118، 119، وبـ " توضيح الأفكار ": 2/ 261 - 271 وبمقدمة كتاب " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم.

تُرَاعَى حتى أواخر القرن الثالث الهجري بتحفظ شديد، وَحِيطَةٍ بَالِغَةٍ، لتيسر السماع وتداول هذه الألفاظ على ألسنة الشيوخ والتلاميذ. بَيْدَ أَنَّ الرُوَّاةَ اضطروا بعد ذلك إلى كثير من التساهل في هذه الشروط، فاكتفوا في تعديل الراوي بشروط العقل والبلوغ والإسلام والضبط وعدم التظاهر بالفسق لأن الرواية باتت دراسة للكتب، لا نقلاً بالمشافهة والسماع (¬1). وأما شرط الإسلام، فهو واضح في نفسه، كما أن الغاية من اشتراطه واضحة: فالراوي يؤدي أحاديث وأخبارًا وآثارًا تتعلق بهذا الدين، وبأحكامه وحكمه وتشريعاته: فالأحوط أن يقوم بهذا الشأن من كان مؤمنًا بهذه العقيدة التي يتحمل مسؤولية تفهيمها للناس. على أن الإسلام يشترط عند أداء الرواية لا عند تحملها (¬2)، فقد قبلت رواية جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الطُّورِ» مع أنه كان قد جاء في فداء أسرى بَدْرٍ ولم يكن قد أسلم بعد، وقال عن نفسه - كما في " صحيح البخاري ": «وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي». ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 119. (¬2) " الكفاية ": ص 76.

الباب الثالث: مصطلح الحديث:

البَابُ الثَّالِثُ: مُصْطَلَحُ الحَدِيثِ:

الفصل الأول: أقسام الحديث:

الفَصْلُ الأَوَّلُ: أَقْسَامُ الحَدِيثِ: الحديث إما مقبول وهو الصحيح، وإما مردود وهو الضعيف: هذا هو القسم الطبيعي الذي تندرج تحت نوعيه أقسام كثيرة أخرى تتفاوت صحة وضعفًا بتفاوت أحوال الرواة وأحوال متون الأحاديث. لكن المحدثين اصطلحوا على تقسيم ثلاثي للحديث آثروه على التقسيم الثنائي السابق، فأصبح الحديث لا يخرج عن أحد هذه الأقسام الرئيسية: فهو إما صحيح، وإما حسن، وإما ضعيف (¬1). وظاهر أن «الحَسَنَ» يكون - على الرأي الأول - تابعًا لأحد القسمين، فهو إما نوع من الصحيح - كما ينقل الذهبي عن البخاري ومسلم - (¬2) وإما نوع من الضعيف الذي لا يترك العمل به (¬3) بل هو - كما قال أحمد بن حنبل - ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 13 وقارن بـ " توضيح الأفكار ": 1/ 7. (¬2) وحجة الذهبي في ذلك أن البخاري ومسلمًا أخرجا أحاديث راويها خفيف الضبط ولكنه غير مُتَّهَمٍ بالكذب، غير أنهما اشترطا أن تُعْضَدَ بسند آخر من كل وجه. ولما كان كِتَابَا هذين الإمامين لا يشتملان إلا على أحاديث [صَحِيحَةٍ]- ولذلك سُمِّيَا بالصحيحين - فإن ما فيهما من الأحاديث التي تغلب عليها صفة الحسن جدير أن يعتبر صحيحًا. (¬3) لأنهم قَسَّمُوا الضعيف إلى متروك العمل به، وهو ما كان راويه مُتَّهَمًا بالكذب أو =

أجدر أن يعمل به من القياس. وأما على الرأي الثاني فيكون «الحَسَنُ» قسمًا قائمًا برأسه دون الصحيح وأعلى من الضعيف. وأما الموضوع - وهو المختلق على رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو على غيره من الصحابة والتابعين - فلم نذكره بين أقسام الحديث، لأنه ليس حديثًا في الواقع ونفس الأمر، وإنما هو لدى مختلقه فقط في حكم الحديث (¬1)، وإثبات وضعه هو الذي يسقط عنه صفة «الحَدِيثِ». أما قبل إثبات وضعه فلنا أن نُسَمِّيهِ «حَدِيثًا» انتظارًا لما تسفر عنه نتيجة البحث فيه، فأما أن تثبت فيه صفة الضعف، فَيُسَمَّى «حَدِيثًا ضَعِيفًا» قَطْعًا. فإذا سمعت أو قرأت هذه العبارة: «حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ» فالغرض من ذكر لفظ «الحَدِيثِ» فيها الحكم عليه بحرمة نقله وروايته. وأقسام الحديث الثلاثة تشتمل على أنواع كثيرة تندرج تحتها، ومن هذه الأنواع ما هو خالص للصحة أو للحسن أو للضعف، وما هو مشترك بين الصحيح والحسن فقط، ثم ما هو مشترك - أخيرًا - بين الثلاثة على السواء: الصحيح والحسن والضعيف. وحول ألقاب هذه الأنواع (الخالصة لأقسام الحديث تارة، أو المشتركة بينها تارة أخرى) وضعت المصطلحات الكثيرة، ¬

_ = كثير الغلط، وقسم غير متروك وهو «الحَسَنُ» لأن راويه ليس مُتَّهَمًا بالكذب ولا كثير الغلط، وإنما هو خفيف الضبط فحسب. (¬1) وعبارتنا هذه لا ينبغي أن تستغرب بعد قول السيوطي في " التدريب ": ص 13 ما نصه: «وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرِ الْمَوْضُوعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِحَدِيثٍ اصْطِلَاحًا، بَلْ بِزَعْمِ وَاضِعِهِ».

فَسَمَّاهَا بعضهم علومًا، وبعضهم أنواعًا، واتفق هؤلاء وأولئك على أنها من الكثرة بحيث لا تعد ولا تحصر (¬1)، حتى قال الحازمي [فِي كِتَابِ " الْعُجَالَةِ "] (¬2): «عِلْمُ الْحَدِيثِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ تَبْلُغُ مِائَةً، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ لَوْ أَنْفَقَ الطَّالِبُ فِيهِ عُمُرَهُ لَمَا أَدْرَكَ نِهَايَتَهُ» (¬3). وحين ألف ابن الصلاح كتابه " علوم الحديث " ذكر من هذه الأنواع خمسة وستين ثم قال: «وَلَيْسَ ذَلِكَ بِآخِرِ المُمْكِنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّنْوِيعِ إِلَى مَا لاَ يُحْصَى، إِذْ لاَ تُحْصَى أَحْوَالُ رُوَاةِ الحَدِيثِ، وَصِفَاتُهُمْ، وَأَحْوَالُ مُتُونِ الحَدِيثِ، وَصِفَاتُهَا» (¬4). ولكن ابن كثير - في اختصاره لهذا الكتاب - لاحظ إمكان دمج بعض هذه الأنواع في بعض، وأخذ على ابن الصلاح بسطه كل هذه التقاسيم، ورتبها ترتيبًا جديدًا على ما هو الأنسب في نظره (¬5)، ولنا، مع ذلك، ملاحظات على ترتيبه، فلن نأخذ به جملة وتفصيلاً وإن كنا سنسير غالبًا في هَدْيِهِ. ويبدو لنا أن العَلاَّمَةَ جمال الدين القاسمي (¬6) في " قواعد التحديث " كان ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 9. (¬2) الحازمي هو الإمام الحافظ النسابة، أبو بكر محمد بن موسى بن حازم الهمذاني، المُتَوَفَّى ببغداد سَنَةَ 584 هـ. وله كتب كثيرة منها " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ". ومنها " العجالة ". (¬3) " التدريب ": ص 9. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 19، 20. (¬5) نفسه: ص 20. (¬6) جمال الدين القاسمي هو عَلاَّمَةُ الشام، ونادرة الأيام، صاحب التصانيف الكثيرة، الذي تُوُفِّيَ منذ عهد قريب سَنَةَ 1332 هـ.

أقرب إلى المنطق حين ذكر ألقابًا للحديث تشمل الصحيح والحسن (¬1)، وأنواعًا تشترك في الصحيح والحسن والضعيف (¬2)، ثم أنواعًا تختص بالضعيف (¬3). ولاستحساننا هذا التقسيم سيظهر على كتابنا هذا أثر واضح منه، إلا أن القارئ الكريم لن يخفى عليه أننا لسنا دائمًا على وفاق مع عَلاَّمَةِ الشام في مصطلحاته وتقاسيمه. ولقد قال علماؤنا القُدَامَى: «لاَ مُشَاحَّةَ فِي الاصْطِلاَحِ» فاستخرنا الله - عَزَّ وَجَلَّ - في أن نعرض للناس مصطلحات الحديث بعبارة واضحة، وتقسيم لا لُبْسَ فيه، ولا تتداخل الأنواع والألقاب فيه قانعين من مباحثه بأهمها، مستغنين عما نظنه قليل الفائدة من النقاش اللفظي والجدل العقيم. ¬

_ (¬1) " قواعد التحديث ": ص 88. (¬2) نفسه: ص 104. (¬3) نفسه: ص 111.

الفصل الثاني: القسم الأول - الحديث الصحيح:

الفَصْلُ الثَّانِي: القِسْمُ الأَوَّلُ - الحَدِيثِ الصَّحِيحُ: عَرَّفُوا الحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ: «الحَدِيثُ المُسْنَدُ الذِي يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ إِلَى حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَى مُنْتَهَاهُ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَلاَ يَكُونُ شَاذًّا، وَلاَ مُعَلَّلاً» (¬1). وفي هذا التعريف أمور تنبغي ملاحظتها: 1 - أن الحديث الصحيح «مُسْنَدٌ» (¬2) - وهو ما اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه - ولذلك يقال في وصفه أيضًا: إنه متصل أو موصول: فالحديث المرسل الذي سقط منه الصحابي فقد الاتصال في السند، فهو على الأرجح ضعيف وليس بصحيح. وكذلك الحديث المنقطع ليس بصحيح، لأن رجلاً سقط من إسناده، أو لأن رجلاً مُبْهَمًا ذكر في هذا الإسناد، والإبهام أشبه بالسقوط. وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي «المُعْضَلِ» لأنه الحديث الذي سقط من إسناده اثنان فأكثر. ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 21. (¬2) وَيُفَرِّقُ العلماء أحيانًا بين المسند والمتصل، بملاحظة الرفع في المسند، فهو مرفوع إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما المتصل فهو ما اتصل سنده بسماع كل واحد من رُوَاتِهِ مِمَّنْ فوقه سواء أكان مرفوعًا إلى النبي أم موقوفًا على التابعي: (راجع " التدريب ": ص 60) وسنعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل في «القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف».

2 - أن الحديث الصحيح لا يكون «شَاذًّا»، وهو ما رواه الثقة مُخَالِفًا رواية الثقات، كما سنرى في بحث الشذوذ. 3 - أن الحديث الصحيح لا يكون مُعَلَّلاً - وهو الذي اكتشفت فيه عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ تقدح في صِحَّتِهِ ' وإن كان يبدو في الظاهر سليمًا من العلل. 4 - أن رجال السند في الصحيح كلهم عدول ضابطون. فإن فقدت في أحدهم صفة من صفات العدالة أو الضبط ضُعِّفَ الحَدِيثُ وَلَمْ يُصَحَّحْ. وقد عرفنا في (فصل شروط الراوي) المراد من العدالة والضبط. والصحيح على قسمين: صحيح لذاته وصحيح لغيره. فالصحيح لذاته هو ما اشتمل من صفات القبول على أعلاها، أما الصحيح لغيره فهو ما صُحِّحَ لأمر أجنبي عنه، إذا لم يشتمل من صفات القبول على أعلاها، كالحسن فإنه إذا رُوِيَ من غير وجه ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة (¬1). وكما يوصف الصحيح بأنه مُسْنَدٌ وَمُتَّصِلٌ، يوصف بأنه متواتر أو آحادي، ويجوز وصفه بأنه غريب أو مشهور (¬2). وسنرى أن ثمة ألقابًا يشترك فيها كل من الصحيح والحسن، وأن اصطلاحات أخرى تشمل الصحيح والحسن والضعيف. فالمتواتر هو الحديث الصحيح الذي يرويه جمع يحيل العقل والعادة تواطؤهم على الكذب، عن جمع مثلهم في أول السند ووسطه وآخره (¬3). وإنما قلنا في ¬

_ (¬1) " قواعد التحديث ": ص 56. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 21. (¬3) " شرح النخبة ": ص 3.

التعريف: «جَمْعٌ يُحِيلُ العَقْلُ وَالعَادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الكَذِبِ» لنتخلص من تلك الآراء المتضاربة حول تحديد عدد هذا الجمع تحديدًا «كَيْفِيًّا» ليس عليه دليل صريح. فمنهم من يرى أن أقل العدد الذي يثبت به التواتر: أربعة، لقوله تعالى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬1) في الشهادة على حصول الزنى، ومنهم من يقول: خمسة، كما في آيات الملاعنة (¬2). ومنهم من يقول: عشرة، لأن ما دون العشرة آحاد، ولا يُسَمَّى الجمع جمعًا إلا بها أو بما فوقها. ومنهم من يقول: اثنا عشر، لقوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (¬3). ومنهم من يقول: عشرون، لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬4). ومنهم من يقول: أربعون، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). وكان عددهم عند نزول الآية قد بلغ أربعين رجلاً بإسلام عمر، ومنهم من يقول: سبعون، لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} (¬6). وقال بعضهم: بل ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً وامرأتان، على عدد أهل بَدْرٍ. وهذه الاستدلالات كلها - وإن تك مستنبطة من القرآن - ¬

_ (¬1) [سورة النور، الآية: 13]. (¬2) وذلك في قوله تعالى في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة النور، الآيات: 6 - 9]. (¬3) [سورة المائدة، الآية: 12]. (¬4) [سورة الأنفال، الآية: 65]. (¬5) [سورة الأنفال، الآية: 64]. (¬6) [سورة الأعراف، الآية: 155].

ليست صريحة الدلالة، لأن الكل عدد منها علاقة بالحادثة الخاصة التي ذكر فيها. فالأرجح في تعريف المتواتر أن يلاحظ فيه مجرد روايته لتعين عدد هذا الجمع. وقد قال ابن حجر: «لاَ مَعْنَى لِتَعْيِينِ العَدَدِ عَلَى الصَّحِيحِ» (¬1). وينقسم المتواتر إلى لفظي ومعنوي، فالمتواتر اللفظي هو الذي رواه الجمع المذكور في أول السند ووسطه وآخره بلفظ واحد، وصورة واحدة وهو كما يقول ابن الصلاح: «عَزِيزٌ جِدًّا، بَلْ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ. وَمَنْ سُئِلَ عَنْ إِبْرَازِ مِثَالٍ لِذَلِكَ أَعْيَاهُ تَطَلُّبُهُ» (¬2). والأكثرون على أنه - باشتراط المطابقة اللفظية فيه من كل وجه - يستحيل وجوده في غير القرآن الكريم. وبعض العلماء يُؤَكِّدُونَ أن في الحديث النبوي نفسه غير قليل من المتواتر اللفظي، ويسوقون للدلالة على ذلك أمثال حديث «انْشِقَاقِ القَمَرِ»، وَ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»، وَ «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا»، وَ «الشَفَاعَةِ»، وَ «أَنِينِ الجِذْعِ»، وَ «المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»، وَ «الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ»، وَ «نَبْعِ المَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَ «رَدِّ عَيْنِ قَتَادَةَ»، وَ «إِطْعَامِ الجَيْشِ الكَثِيرِ مِنَ الزَّادِ القَلِيلِ» (¬3). ومن الذين ذهبوا إلى هذا الرأي السيوطي (¬4). ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 3. (¬2) غير أن ابن الصلاح يستثني من ذلك حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، ويذكر من رواته اثنين وستين من الصحابة. (قارن بـ " التدريب ": ص 190). (¬3) انظر تفصيل ذلك في " التدريب ": ص 190. (¬4) هو العَلاَّمَةُ عبد الرحمن جلال السيوطي (- 911 هـ) صاحب التصانيف الكثيرة في التفسير والحديث واللغة، وله في مصطلح الحديث " ألفية "، و " تدريب الراوي ".

في " الأزهار المتناثرة، في الأخبار المتواترة " (¬1)، والقاضي عياض في " الشفاء ". ويبدو أن الحافظ ابن حجر نفسه يجنح إلى هذا المذهب، فقد ذكر في " شرح النخبة " أَنَّ «مِن أَحْسَنَ مَا يُقَرَّرُ بِهِ كونُ المُتواتِرِ مَوجوداً، وُجودَ كَثْرةٍ في الأَحاديثِ، أَنَّ الكُتُبَ المَشْهُورَةَ المُتَداوَلَةَ بأَيدي أَهْلِ العِلْمِ شَرْقاً وغَرْباً، المَقْطوعَ عِنْدَهُمْ بِصِحَّةِ نِسْبَتِهَا إِلَى مُصَنِّفِيهَا، إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى إِخْرَاجِ حَدِيثٍ وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ تَعَدُّداً تُحِيلُ العَادَةُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الكَذِبِ إِلَى آخِرِ الشُّرُوطِ، أَفَادَ العِلْمَ اليَقِينِيَّ بِصِحَّتِهِ إِلَى قَائِلِهِ» (¬2). وأشار في " شرح البخاري " إلى أن حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا» رواه أكثر من أربعين صحابيًا، بينهم العشرة المُبَشَّرُونَ بالجنة (¬3). أما المتواتر المعنوي فمن الواضح أنه لا يشترط في روايته المطابقة اللفظية، وإنما يكتفي فيه بأداء المعنى ولو اختلفت رواياته، عن الجمع الذين يحيل العقل والعادة تواطؤهم على الكذب. وهو كثير جِدًّا ليس في وسع أحد إنكاره. ومثاله: «أَحَادِيثَ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ» فقد رُوِيَ عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء. وقد جمعها السيوطي في جزء لكنها في قضايا مختلفة، ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 190. (¬2) " شرح النخبة ": ص 4، 5. (¬3) العشرة المبشرون بالجنة هم: «الخلفاء الراشدون الأربعة ثم سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح». وقال بعض العلماء: «رَوَى هَذَا الحَدِيثَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ، وَفِي " شَرْحِ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": رَوَاهُ نَحْوُ مِائَتَيْنِ». قَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ: «وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَتْنِ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي مُطْلَقِ الكَذِبِ، وَالخَاصُّ بِهَذَا المَتْنِ رِوَايَةُ بِضْعَةٍ وَسَبْعِينَ صَحَابِيًّا: [العَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ... ]» وقد سرد السيوطي أسماءهم (في " التدريب ": ص 190).

فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها - وهو الرفع عند الدعاء - تواتر باعتبار المجموع (¬1). ويرى بعضهم أن تلك الأحاديث التي يستشهد بها نفر من العلماء على وجود التواتر اللفظي ليست في الحقيقة إلا متواترة المعنى، ولكن استفاضة محتواها واشتهاره غطيا على اختلاف الروايات في بعض ألفاظها. ومن علماء الحديث من لا يرى بأسًا في أن يكون المتواتر المعنوي في أوله آحاديًا (¬2)، ثم يشتهر بعد الطبقة الأولى ويستفيض ن فيسلكون حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» في عداد ما تواتر معنى، مع أنه لم يروه إلا عمر بن الخطاب، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وإنما طرأت له الشهرة من عند يحيى (¬3). والمحدثون لا يذكرون «المُتَوَاتِرَ» باسمه الخاص المشعر بمعناه، وإنما يتبعون فيه الفقهاء والأصوليين: لأَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ عِلْمِ الإِسْنَادِ، إِذْ عِلْمُ الإِسْنَادِ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ صِحَّةِ الحَدِيثِ أَوْ ضَعْفِهِ، لِيُعْمَلَ بِهِ أَوْ يُتْرَكَ مِنْ حَيثُ صِفَاتُ الرِّجَالِ وَصِيَغُ الأَدَاءِ، وَالمُتَواتِرُ لاَ يُبْحَثُ عَنْ رِجالِهِ، بَلْ يَجِبُ ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 191. (¬2) والحديث الآحادي - في الاصطلاح - ما لم يجمع شروط التواتر، وقد يتفرد به واحد فيكون غريبًا أو يعزز برواية فأكثر فيكون عزيزًا، أو يستفيض فيكون مشهورًا. فلا يفيد وصفه بالآحادي أنه خبر الواحد دائمًا. (قارن بـ " شرح النخبة ": ص 6). (¬3) " التدريب ": ص 189. وقارن بـ " توضيح الأفكار ": 1/ 24.

العَمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ» (¬1). ولا خلاف بين المحدثين في أن كُلاًّ من المتواتر اللفظي والمعنوي يوجب العلم القطعي اليقيني، وإنما هم يختلفون في الحديث الصحيح الآحادي هل يفيد الظن أم القطع، فالنووي في " التقريب " يراه ظني الثبوت، وأكثر أهل الحديث يقطعون منه بما أخرجه الشيخان، البخاري ومسلم، وبعضهم يُرَجِّحُونَ أن الآحادي الصحيح، سواء أأخرجه الشيخان أم سواهما، يفيد العلم القطعي اليقيني كالمتواتر بقسميه عَلَى حَدٍّ [سَوَاءٍ]. قال ابن حزم (¬2): «إَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ مَعًا» (¬3). ورأي ابن حزم أجدر بالاتباع، إذ لا معنى لتخصيص أحاديث " الصحيحين " بإفادة القطع، لأن ما ثبت صحته في غيرهما ينبغي أن يحكم عليه بما حكم عليه فيهما، فما للكتابين من منزلة خاصة في قلوب المؤمنين لا ينبغي أن يقلل من قيمة الصحيح في الكتب الأخرى، كما أنه لا معنى للقول بظنية الحديث الآحادي بعد ثبوت صحته، لأن ما اشترط فيه لقبول صحته يزيل كل معاني الظن، ويستوجب وقوع العلم اليقيني به (¬4). والحديث الصحيح يُسَمَّى «غَرِيبًا» إذا تفرد بروايته واحد ثقة، وتكون ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 4. (¬2) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره. أشهر مصنفاته " المُحَلًَّى " و " الفصل في الملل والأهواء والنحل ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 456 هـ. (¬3) " الإحكام ": 1/ 119 - 137 وفيه [بَحْثٌ] قَيِّمٌ في هذا الموضوع. وانظر " إغاثة اللهفان " لابن القيم: ص 160 (ط. الميمنية بالقاهرة). (¬4) قارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 39.

غرابته في المتن تارة، وفي الإسناد تارة أخرى (¬1). وَيُسَمَّى «مَشْهُورًا» إذا اشتركت جماعة في روايته عن الشيخ الثقة (¬2). ومن غريب أمر المحدثين أن بعضهم اشترط، في تعريف الصحيح، أن يكون «عَزِيزًا» (¬3)، وإليه يُومِئُ كلام الحاكم أبي عبد الله في " معرفة علوم الحديث " حيث قال: «وَصِفَةُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَابِيُّ زَائِلٌ عَنْهُ اسْمُ الجَهَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ تَابِعِيَّانِ [عَدْلاَنِ]، ثُمَّ يَتَدَاوَلُهُ أَهْلُ الحَدِيثِ بِالْقَبُولِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ» (¬4). ولا حاجة إلى هذا الاصطلاح الخاص بعد الذي أوضحناه من تفرقة العلماء بين تعديل الراوي وتزكية الشاهد. والإمام البخاري هو أول من صَنَّفَ في «الصَّحِيحِ المُجَرَّدِ» الذي يخلو من الإرسال والانقطاع والبلاغات. أما التعاليق التي أدخلها في " جامعه " فما أوردها إلا استئناسًا، واستشهادًا، فَذِكْرُهَا فِيهِ لا يخرجه عن كونه جَرَّدَ الصحيح (¬5). ولا يعد الإمام مالك أول من صنف في الصحيح، لأنه لم يفرده بل أدخل فيه - تَبَعًا لِمَنْهَجِهِ - المراسيل والمقاطيع والبلاغات. ثم تلا البخاري تلميذه الإمام مسلم في تصنيف الصحيح (¬6)، وتتابع التأليف بعد ذلك في الصحيح ¬

_ (¬1) سيأتي تفصيل «الغَرِيبِ» في «القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف». (¬2) وسنزيد «المَشْهُورَ» تفصيلاً في «القسم المشترك» أيضًا. (¬3) وهو - كما سنرى - الحديث الذي لا يرويه أقل من اثنين، وَسُمِّيَ بذلك إما لقلة وجوده وإما لكونه عَزَّ: أي قوي بمجيئه من طريق أخرى (" شرح النخبة ": ص 5). (¬4) " معرفة علوم الحديث ": ص 62 وقارن بـ " شرح النخبة ": ص 5. (¬5) " التدريب ": ص 24، 25. (¬6) " التدريب ": ص 25.

وما يقاربه على النحو الذي فَصَّلْنَاهُ في فصل «أَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ». غير أن درجة الصحة ليست واحدة في كل ما سُمِّيَ صحيحًا، ولا في جميع الكتب المشتملة على الصحيح، بل المحدثون يعرفون الصحيح والأصح، كما سنرى أنهم يعرفون الضعيف والأضعف، وهو يعتقدون أن رُتَبَ الصحيح تتفاوت بتفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة (¬1)، ولم يسع النووي، تجاه هذا التفاوت، إلا أن يُقَسِّمَ الصحيح سبعة أقسام: 1 - أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، 2 - ما انفرد به البخاري، 3 - ثم ما انفرد به مسلم، 4 - ثم ما كان على شرطهما وإن لم يُخْرِجَاهُ، 5 - ثم على شرط البخاري، 6 - ثم على شرط مسلم، 7 - ثم ما صححه غيرهما من الأئمة (¬2). وتتفاوت كذلك رُتَبُ الصحيح بتفاوت الأمصار التي روته، ويوشك أكثر العلماء أن يجزموا بأن أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة فهي دَارُ السُنَّةِ المُشَرَّفَةِ. قال ابن تيمية (¬3): «اتَّفَقَ أَهْلُ العِلْمِ بِالحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ المَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ البَصْرَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ» وقال الخطيب: أَصَحُّ طُرُقِ السُّنَنِ مَا يَرْوِيهِ ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 9. (¬2) " قواعد التحديث ": ص 59. وقد نقله القاسمي من " التدريب ": ص 37. (¬3) هو الإمام المجد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي صاحب التآليف الكثيرة المفيدة. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 728 هـ. وقد وضع المستشرق الفرنسي هنري لاوست كتابًا قَيِّمًا في سيرة ابن تيمية وعقائده السياسية والاجتماعية Henri Laoust, Essai sur les doctrines sociales et politiques d'Ibn Taimaya.

أَهْلُ الحَرَمَيْنِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَإِنَّ التَّدْلِيسَ عَنْهُمْ قَلِيلٌ، وَالكَذِبَ وَوَضْعَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ عَزِيزٌ. وَلأَهْلِ اليَمَنِ رِوَايَاتٌ جَيِّدَةٌ، وَطُرُقٌ صَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى أَهْلِ الحِجَازِ أَيْضًا. وَلأَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ بِالأَسَانِيدِ الوَاضِحَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ مَعَ إِكْثَارِهِمْ. وَالْكُوفِيُّونَ مِثْلُهُمْ فِي الكَثْرَةِ، غَيْرَ أَنَّ رِوَايَاتِهِمْ كَثِيرَةُ الدَّغَلِ، قَلِيلَةُ السَّلاَمَةِ مِنَ الْعِلَلِ. وَحَدِيثُ الشَّامِيِّينَ أَكْثَرُهُ مَرَاسِيلُ وَمَقَاطِيعُ، وَمَا اتَّصَلَ مِنْهُ مِمَّا أَسْنَدَهُ الثِّقَاتُ فَإِنَّهُ صَالِحٌ. وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاعِظِ» (¬1). واختلف أئمة الحديث في أصح الأسانيد، فذكر كل منهم ما أدى إليه اجتهاده. ولكل صحابي رواة من التابعين، ولهم أتباع وأكثرهم ثقات، فلا يمكن أن يُقْطَعَ الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد (¬2). وقد يعدل نقاد الحديث عن قولهم «حَدِيثٌ صَحِيحٌ» إلى قولهم: «صَحِيحُ الإِسْنَادِ»، قاصدين من ذلك إلى الحكم بصحة السند من غير أن يستلزم صحة المتن، لجواز أن يكون في المتن شذوذ أو علة. وإذا أرادوا صحة السند والمتن معًا أَوْرَدُوا العبارة المطلقة أرقى من قولهم: «صَحِيحُ الإِسْنَادِ» بهذا التقييد. ولذلك قال السيوطي في " ألفيته ": ¬

_ (¬1) ذكره القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 58. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 54، 55 وقارن بـ " توضيح الأفكار ": 1/ 33. وقد نصوا - مع ذلك - على أسانيد جمعها العَلاَّمَةُ أحمد شاكر وزاد عليها قليلاً. (انظر " الباعث الحثيث ": ص 22 - 25).

وَالحُكْمُ بِالصَّحِّةِ لِلإِسْنَادِ ... وَالحُسْنِ دُونَ المَتْنِ لِلنُّقَّادِ لِعِلَّةٍ أَوْ لِشُذُوذٍ وَاحْكُمِ ... لِلْمَتْنِ إِنْ أُطْلَقَ ذُو حِفْظٍ نُمِي (¬1). وإذا قال المُحَدِّثُونَ: «أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ كَذَا» فلا يلزم من هذا التعبير صحة الحديث، فإنهم يقولونه وإن كان الحديث ضعيفًا، ومرادهم أرجح ما في الباب أو أَقَلُّهُ ضعفًا (¬2). ¬

_ (¬1) " ألفية السيوطي "، البيتان 104 و 105 ص 55 (وانظر الهامش أيضًا). (¬2) " قواعد التحديث ": ص 59 نقلاً عن النووي.

الفصل الثالث: الحديث الحسن:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: الحَدِيثُ الحَسَنُ: الحدث الحسن هو ما اتصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط، وَسَلِمَ من الشذوذ وَالعِلَّةِ (¬1). وأهم ما في هذا التعريف، لرفع الالتباس بين الصحيح والحسن، أن العدل في الحسن خفيف الضبط، بينا هو في الصحيح تام الضبط. وَكِلاَ التقسيمين سالم من الشذوذ والعلة، وكلاهما يُحْتَجُّ بِهِ ويستشهد بمضمونه. والحديث الحسن نوعان: حسن لذاته، وحسن لغيره. وإذا أطلق الحديث الحسن [انصرف] إلى الحسن لذاته، فلا داعي إلى تعريفه مرة أخرى. وإنما سُمِّيَ «حَسَنًا لِذَاتِهِ» لأن حُسْنَهُ ناشئ عن شيء داخل فيه، ذاتي له، لا من شيء خارج عنه (¬2): فهو قد بلغ - بنفسه - درجة الصحيح في شروطه، وإن كان أخف مه بضبط رجاله. أما الحسن لغيره فهو ما في إسناده مستور لم تتحقق أهليته ولا عدم أهليته غير أنه ليس مُغَفَّلاً كثير الخطأ ولا مُتَّهَمًا بالكذب، ويكون متنه مُعَضَّدًا بمتابع ¬

_ (¬1) قارن " شرح النخبة ": ص 11 بـ " ألفية السيوطي ": ص 42 هامش. (¬2) " شرح النخبة ": ص 11.

أو شاهد (¬1). ويدور حول تعريف الحسن بقسميه جدل لا نرى ضرورة للخوض فيه، ولا ثمرة ترجى منه (¬2). و" جامع الترمذي " أصل في معرفة الحديث الحسن وإن أخذوا عليه تعريفه له. وهو الذي نَوَّهَ بذكره (¬3). وهو أول من عُرِفَ أنه قَسَّمَ الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف. والضعيف عندهم كان على نوعين: ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي (¬4). في " جامع الترمذي " عبارتان يحسن أن تفهما بوضوح، وإلا أوقعتا القارئ في اللُّبْسِ والإبهام، إحداهما: حديث حسن صحيح، والأخرى حديث حسن صحيح غريب. وأفضل ما يجاب به عن الأول أن الرواية التي وصفت ¬

_ (¬1) " توضيح الأفكار ": 1/ 188. وسنتكلم في «القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف» عن كل من المتابع والشاهد. وحسبنا الآن أن نفهم من هذين اللفظين مجرد اعتضاد الحسن لغيره برواية أخرى مماثلة تتابع لفظه، أو تشهد لمعناه، ليصبح صالحًا للاعتبار. (¬2) تناول هذا الجدل تعريف الخطابي للحسن، ومأخذ العلماء عليه، ثم تعريف الترمذي ونقدهم له، ثم محاولة التوفيق بين التعريفين (انظر على سبيل المثال " التدريب ": ص 49 - 52). وقد عَلَّلَ المحدثون هذا الاضطراب في تعريف الحسن بتوسط هذا المصطلح بين الصحيح والضعيف عند الناظر، حتى كأنه شيء ينقدح في نفس الحافظ وربما قصرت عبارته عن بيانه. أما نحن ففضلنا أن نختصر الطريق فتركنا الجدل واخترنا ما بدا لنا أبسط التعاريف واضبطها لحدود الحسن. (¬3) " اختصار علوم الحديث " و " شرحه ": ص 43. (¬4) من قول شيخ الإسلام ابن تيمية في إحدى فتاويه. " قواعد التحديث ": ص 83.

«بِالحُسْنِ» ثبتت من طريق أخرى لها شروط «الصِحَّةِ»، فما يقول فيه الترمذي: «حَسَنٌ صَحِيحٌ» أعلى عنده من الحسن ودون الصحيح (¬1). وقد أزال الحافظ ابن حجر كل إشكال حول هذا البحث حين قال: «وَشِبْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرَّاوِي: صَدُوقٌ فَقَطْ، وَصَدُوقٌ ضَابِطٌ، فَإِنَّ الأَوَّلَ قَاصِرٌ [عَنْ] دَرَجَةِ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَالثَّانِيَ مِنْهُمْ. فَكَمَا أَنَّ الجَمْعَ بَيْنَهُمَا لاَ يَضُرُّ وَلاَ يُشْكِلُ، فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ» (¬2). وأما وصف الحسن الصحيح بالغرابة فقائم على أن الصحيح يروى أحيانًا من وجه واحد فيكون غريبًا، فالحسن الذي هو دون الصحيح أجدر أن يوصف كذلك بأنه غريب. ولابن حجر مذهب آخر في تعليل هذا المصطلح، فهو يرى أن الترمذي «لَمْ يُعَرِّفْ الحسن مطلقًا، وإنما عَرَّفَهُ بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه «حَسَنٌ» من غير صفة أخرى، وذلك أن يقول في بعض الأحاديث: حسن، وفي بعضها: صحيح، وفي بعضها: غريب، وفي بعضها: حسن صحيح، وفي بعضها: حسن صحيح غريب. وتعريفه إنما وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه (*): «وَمَا [ذَكَرْنَا فِي هَذَا الكِتَابِ] (حَدِيثٌ حَسَنٌ) فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا، كُلُّ حَدِيث يُرْوَى [لاَ يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ] بِالكَذِبِ وَلاَ يُكُونُ [الحَدِيثُ] شَاذًّا [وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ] فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ». فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 47. (¬2) ذكره في " التدريب ": ص 53. (*) [انظر " كتاب العلل " بآخر " سنن الترمذي ": 5/ 758، تحقيق أحمد شاكر وآخرون (تحقيق إبراهيم عطوة عوض)، دار إحياء التراث العربي].

فيه: حسن فقط. أما ما يقول فيه: حسن صحيح، أو حسن غريب، أو حسن صحيح غريب، فلم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقول فيه: صحيح فقط، أو غريب فقط. وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عن أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه: حَسَنٌ فقط، إما لغموضه وإما لأنه اصطلاح جديد. ولذلك قَيَّدَهُ بقوله «عِنْدَنًا»، ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي (¬1)» (¬2). والحسن لذاته إذا رُوِيَ من وجه آخر، تَرَقَّى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين، فيعتضد أحدهما بالآخر، وذلك لأن الراوي في الحسن متأخر عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورًا بالصدق والستر، فإذا رُوِيَ حديثه من غير وجه، ولو وجهًا واحدًا، قوي بالمتابعة وزال ما كان يخشى عليه من جهة سوء حفظ راويه ن فارتفع حديثه من درجة الحسن إلى الصحيح. مثاله حديث: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ». فإن طريق هذا المتن: محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومحمد بن عمرو مُتَّهَمٌ في الحفظ والضبط والإتقان وإن وَثَّقَهُ كثيرون. فهذا الحديث حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَصَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، لأنه مروي عن شيخ محمد وعن شيخ شيخه، ¬

_ (¬1) الخطابي: هو الحافظ حمد - بفتح الميم بغير همزة - كما رواه عبد الله أنه سئل الخطابي عن اسمه فقال: اسمي حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه. والخطابي فقيه أديب مُحَدِّثٌ له مؤلفات منها: " معالم السنن " على أبي داود، وهو مطبوع. وله " أعلام السنن " في شرح " البخاري "، وغير ذلك، تُوُفِّيَ سَنَةََ 388 بمدينة بُسْتْ وإليها ينسب أحيانًا فيقال: «البُسْتِي». (¬2) " شرح النخبة ": ص 12.

وقد رواه أيضًا عن أبي هريرة كثيرون منهم الأعرج بن هرمز وسعيد المقبري (¬1). وإلى جانب الترمذي الذي كان أول من نَوَّهَ بالحديث الحسن نجد في الطبقة التي سبقته كأحمد والبخاري، وفي متفرقات من كلام مشايخه، أحاديث تغلب عليها صفة الحسن (¬2)، فهي دون الصحيح، وأعلى من الضعيف. ونحن لا نستغرب وجود الحسن في " صحيح البخاري " - فضلاً عن " مسند أحمد " - بعد أن أوردنا حُجَّةَ الذهبي في أن الحسن نوع من أنواع الصحيح. ويرى ابن الصلاح أن من مظان الحسن " سنن أبي داود "، لأنه يروي عنه أنه قال: «ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ. وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ» (¬3). فَيُعَقِّبُ ابن الصلاح على عبارة أبي داود هذه بقوله: «فَمَا وَجَدْنَاهُ [فِي كِتَابِهِ] مَذْكُورًا (مُطْلَقًا) وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنَ " الصَّحِيحَيْنِ " وَلاَ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَحَدٌ، فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ» (¬4). وظاهر أن تعقيب ابن الصلاح مُسْتَمَدٌّ من منهجه الذي سار عليه من ضرورة منع المتأخرين من الحكم على حديث ما بالصحة إذا لم يكن في أحد " الصحيحين " ولم يَنُصَّ أحد من الأئمة على صحته. ولذلك يرى أن ما صححه الحاكم من الأحاديث، ولم نجد لغيره من المعتمدين تصحيحًا ولا ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 57. (¬2) " اختصار علوم الحديث " و" شرحه ": ص 43. (¬3) " التدريب ": ص 55 وقارن بـ " توضيح الأفكار ": 1/ 196. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 44.

ألقاب تشمل الصحيح والحسن:

تضعيفًا حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه. والحق ما ذهب إليه الحافظ العراقي (¬1) من إباحة الحكم بالصحة أو الضعف على حديث ما للخبير المُتَمَرِّسِ الذي يستطيع أن يُدَقِّقَ في الفحص عن الأسانيد والعلل (¬2). وللبغوي (¬3) في كتابه " مصابيح السنة " اصطلاح خاص في تمييز الصحيح والحسن، فأما الصحيح فهو ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وأما الحسن فهو ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما. وقد اعترض عليه كثيرون، ولم يجدوا مسوغًا لاصطلاحه الخاص، ولا سيما لأن " مصابيحه " لَمْ تَخْلُ، كما قال النووي، من الأحاديث المنكرة التي انفرد بروايتها رَاوٍ ليس بالعدل ولا بالضابط (¬4). أَلْقَابٌ تَشْمَلُ الصَّحِيحَ وَالحَسَنَ: حين يصف النُقَّادُ حديثًا ما بـ «الصِحَّةِ» أو «الحُسْنِ» يرونه - في الوقت نفسه - صالحًا للاتصال بألقاب أخرى توحي جميعًا بقبوله وإمكان الاحتجاج به: ومن هذه الألفاظ المستعملة في الخبر المقبول: جَيِّدٌ، وَمُجَوَّدٌ، وَقَوِيٌّ، وَثَابِتٌ، وَمَحْفُوظٌ، وَمَعْرُوفٌ، وَصَالِحٌ، وَمُسْتَحْسَنٌ. ويلاحظ في هذه الألقاب أن المعنى اللغوي أغلب عليها من مصطلح ¬

_ (¬1) هو العَلاَّمَةُ الحافظ عبد الرحيم بن الحسين، زين الدين البغدادي العراقي، كان إمامًا مُقْرِئًا فَقِيهًا أصوليًا شافعي المذهب. له كتب كثيرة في علوم الحديث، و " ألفيته " مشهورة. تُوُفِّيَ سَنَةَ 806 هـ. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 29. (¬3) هو الحافظ أبو محمد الحسين بن مسعود الفَرَّاءُ البغوي، سَنَةَ 516 هـ. (¬4) " التدريب ": ص 55.

المحدثين: ففيها تنوع في التعبير يتجلى بوضوح في الألفاظ الأربعة الأولى، عندما يقارن المُجَوَّدَ بِالجَيِّدِ ن والثابت بالقوي. ويستأنس لذلك بقول الإمام أحمد: «أَجْوَدُ الأَسَانِيدِ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ» عوضًا عن «أَصَحُّ الأَسَانِيدِ» (¬1) وقد حكى ابن الصلاح هذه العبارة عن أحمد كما أخرجها عنه الحاكم أبو عبد الله، فاستنتج منها بعض العلماء أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجَيِّدِ والصحيح (¬2). ثم إن الترمذي عَبَّرَ أحيانًا بقوله: «هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ» بدلاً من عبارته المشهورة التي أشرنا إليها «حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وكأنه عدل عن اصطلاحه المشهور لارتقاء الحديث عنده عن الحسن لذاته وتردده في بلوغ الصحيح، فهو حسن لذاته وصحيح لغيره. وذلك يعني أن التعبير بالجودة يشمل الحسن كالصحيح. وَيُخَيَّلُ إلينا أن السيوطي يرمي إلى هذا حين يقول: «إِلاَّ أَنَّ الْجِهْبِذَ مِنْهُمْ لاَ يَعْدِلُ عَنْ صَحِيحٍ إِلَى جَيِّدٍ إِلاَّ لِنُكْتَةٍ، كَأَنْ يَرْتَقِيَ الحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنِ الحَسَنِ لِذَاتِهِ، وَيَتَرَدَّدُ فِي بُلُوغِهِ الصَّحِيحَ، فَالوَصْفُ بِهِ أَنْزَلُ رُتْبَةً مِنَ الوَصْفِ (بِصَحِيحٍ)، ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث: ص 54. ومما يستأنس به أيضًا على غلبة المعنى اللغوي على هذه الألقاب تعبير المحدثين عما يعجبهم من الروايات «بِجِيَادِ الأَحَادِيثِ وَعُيُونِهَا» = " الجامع ": 7/ 127 أو قول أحدهم: «لاَ حَدِيثَ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا» = " الجامع ": 7/ 134. بل لقد بلغ بهم الانطباع بلغة الحديث ومصطلحه أن صاروا يحكمون على ما يستحسنونه من الآراء والتوجيهات يمثل قولهم: «هَذَا جَيِّدٌ حَسَنٌ» = " التوضيح ": 1/ 327. وحتى في التدليس - وهو من أسباب ضعف الحديث كما سنرى - استخدم النُقَّادُ لَفْظَيْ الجَوْدَةِ وَالتَّجْوِيدِ. يقولون: جَوَّدَ السَّنَدَ إذا أسقط منه الضعفاء وذكر الأجواد على طريقة تدليس التسوية (انظر " توضيح الأفكار ": 1/ 37). (¬2) " التدريب ": ص 58.

وَكَذَا القَوِيُّ» (¬1). ولا بد أن يسترعي انتباهنا قوله في ختام عبارته: «وَكَذَا القَوِيُّ» فهو يُسَوِّي بين «الجَوْدَةِ» وَ «القُوَّةِ»، فلا يتعذر علينا - قياسًا على هذا - أن نرى التساوي أوضح بين «التَّجْوِيدِ» وَ «الجَوْدَةِ» وَبَيْنَ «الثُّبُوتِ» وَ «القُوَّةِ»، فهي جميعًا صفات للحديث المقبول سواء أكان صحيحًا أم حسنًا. وفي تعريف كل من الحسن والصحيح نبهنا على سلامتها من الشذوذ، فلا يكون أحدهما شَاذًّا ولا منكرًا، وإنما يوصفان بِنَقِيضَيْهِمَا وهما المحفوظ والمعروف. قال ابن حجر: «وَزِيَادَةُ رَاوِي الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ مَقْبُولَةٌ، مَا لَمْ تَقعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ، فإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ، وَمَعَ الضَّعْفِ فالرَّاجِحُ المَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ» (¬2). أما وصف كل من الصحيح والحسن بـ «الصَّالِحِ» فواضح في نفسه، لأن المراد صلاحيتهما للاحتجاج (¬3). وعلى هذا يقول المُحَدِّثُونَ في " سنن أبي داود ": إن أحاديثه صالحة، لأنها تشمل الصحيح والحسن. وإذا قالوا: «هَذَا حَدِيثٌ مُسْتَحْسَنٌ» (¬4)، فذلك لا يعين أنه «حَسَنٌ» بالمعنى الاصطلاحي الذي أوضحناه، بل يحتمل الصحة كالحسن، فليس الحسن إلا الجودة، ولا الاستحسان إلا الاستجادة. وما كان أيسر هذه التعابير ومشتقاتها على المُحَدِّثِينَ وما كان أدق حسهم عند تمييزها مما يشبهها على أَلْسِنَةِ ¬

_ (¬1) نفسه: ص 58. (¬2) " شرح النخبة ": ص 12 - 14. وقارن بـ " ألفية السيوطي " ص 93 هامش. (¬3) وربما استعمل في ضعيف يصلح للاعتبار. (انظر " التدريب ": ص 58). (¬4) " الجامع ": 7/ 135 وجه 1 و 2.

العامة! قَالَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ: «كُنَّا فِي مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَحَدَّثَ بِحَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أَحْسَنَهُ!؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: " [أَتَقُولُ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْسَنَهُ؟] أَلاَ قُلْتَ: هُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْجَوْهَرِ، أَحْسَنُ مِنَ الدُّرِّ، أَحْسَنُ مِنَ الْيَاقُوتِ، أَحْسَنُ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا» (¬1). ومن المباحث المشتركة بين الصحيح والحسن أن حكمنا بالصحة أو بالحسن على أحد الأسانيد لا يلزم منه حكمنا بذلك على المتن، فقد يكون شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلاً. وقد أشرنا إلى هذا في بحث الصحيح. وإنما ذكرناه ههنا مرة أخرى لنظهرك على شيء من التداخل أو التشابك المنطقي بين الصحيح والحسن، ولنضع بين يديك مِقْيَاسًا للمحدثين يراعي الجوهر قبل العرض، والمضمون قبل الشكل، حين يقولون: «مَا كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدًا صَحَّ مَتْنًا» (¬2). ¬

_ (¬1) " الجامع ": 7/ 135 وجه 1. (¬2) انظر " توضيح الأفكار ": 1/ 193 و " اختصار علوم الحديث ": ص 46.

الفصل الرابع: الحديث الضعيف:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: الحَدِيثُ الضَّعِيفُ: الحديث الضعيف ثالث أقسام الحديث، وخير تعريف له هو: «مَا لَمْ يَجْمَعْ صِفَةَ الصَّحِيحِ أَوِ الحَسَنِ» (¬1). وقد حاول بعضهم أن يجمع الصور العقلية لأقسام الحديث الضعيف من خلال فقده شروط الصحة والحسن فخرج بإحدى وثمانين وثلاث مائة صورة (381) أكثرها غير واقعي ولا يحمل عنوانًا مُعَيَّنًا بين أقسام الحديث الضعيف المصطلح عليها لدى المشتغلين بهذا العلم (¬2). ويرى ابن الصلاح أن الصور التي يمكن وقوعها في الحديث الضعيف لا تزيد عن اثنتين وأربعين صورة شرحها وَبَيَّنَ طريقة تخريجها لها، وبها أخذ الحافظ العراقي، ولكننا لن نسرد منها إلا ما أخذ اسمًا خَاصًّا به، فمثله لا يجوز أن نجهله. وأما ما كان منها حالة من حالات الضعف من غير أن يخص باسم معين فإننا نكتفي بمجرد الإشارة الإجمالية إليه. ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 59. (¬2) وفي هذا التقسيم يقول ابن حجر: «تَعَبٌ لَيْسَ وَرَاءَهُ أَرَبٌ». " ألفية السيوطي ": هامش 58.

أنواع تختص بالضعيف:

أَنْوَاعٌ تَخْتَصُّ بِالضَّعِيفِ: الأَوَّلُ - المُرْسَلُ: المشهور في تعريفه أنه ما سقط منه الصحابي كقول نافع: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا، أو فعل كذا، أو فُعِلَ بحضرته كذا، ونحو ذلك (¬1). فهو إذن مرفوع التابعي مطلقًا، صغيرًا كان أو كبيرًا (¬2). وسبب ضعفه فقد الاتصال في السند، وإنما سُمَّيَ «مُرْسَلاً» لأن رَاوِيهِ أرسله وأطلقه فلم يُقَيِّدْهُ بالصحابي الذي تَحَمَّلَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3). والمرسل ليس حُجَّةً فِي الدِّينِ. وهذا هو الرأي الذي «اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُفَّاظُ الحَدِيثِ وَنُقَّادُ الأَثَرِ، وَتَدَاوَلُوهُ فِي تَصَانِيفِهِمْ» (¬4) وأشار مسلم في مقدمة " صحيحه " إلى أَنَّ «المُرْسَلَ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا وَقَوْلِ أَهْلِ العِلْمِ بِالأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ». وأكثر أهل العلم يحتجون بمراسيل الصحابة، فلا يرونها ضعيفة، لأن الصحابي الذي يروي حديثًا لم يتيسر له سماعه بنفسه مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غالبًا ما تكون روايته عن صحابي آخر قد تحقق أَخْذُهُ عَنْ الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسقوط الصحابي الآخر من السند لا يضر كما أن جهل حاله لا يضعف الحديث، فثبوت شرف الصحبة له كاف في تعديله. قال السيوطي في " التدريب ": ¬

_ (¬1) " قواعد التحديث ": ص 114. (¬2) " شرح النخبة ": ص 17. (¬3) " توضيح الأفكار ": 1/ 284. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 52.

«وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ ذَلِكَ - أَيْ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ - مَا لاَ يُحْصَى، لأَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِهِمْ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَرِوَايَاتُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ نَادِرَةٌ، وَإِذَا رَوَوْهَا بَيَّنُوهَا، بَلْ أَكْثَرُ مَا رَوَاهُ الصَّحَابَةُ، عَنِ التَّابِعِينَ لَيْسَ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةً، بَلْ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ، أَوْ حِكَايَاتٌ، أَوْ مَوْقُوفَاتٌ» (¬1). ويتعذر إنكار مراسيل الصحابة، فأكثر الرواية عن ابن عباس مرسلة لِصِغَرِ سِنِّهِ في حياة رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقد تُوُفِّيَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وسن ابن عباس لا تزيد عن ثلاث عشرة سَنَةً (¬2). والمرسل مراتب، أعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه، ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه، ثم المخضرم، ثم المتقن كسعيد بن المسيب؛ ويليها من كان يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد؛ ودونها مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد، كالحسن. وأما مراسيل صغار التابعين كقتادة، والزهري، وحميد الطويل، فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين (¬3). ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 71. وقارن بـ " شرح التنقيح " للقرافي: ص 164 (القاهرة. المطبعة الخيرية سَنَةَ 1306 هـ). وقد أخذ على ابن الصلاح تعليله مراسيل الصحابة برواية بعضهم عن بعض (إطلاقًا). والصواب أن يقال: «إِنَّ غَالِبَ رِوَايَتَهُمْ عَنْ الصَّحَابَةِ لاَ كُلَّهَا» راجع " توضيح الأفكار ": 1/ 317. ومن العلماء من يُشَدِّدُ في «مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ» ويرى في هذا التعبير تَجَوُّزًا وَتَسَامُحًا، إذ لا مرسل للصحابة على الحقيقة: انظر " التوضيح ": 1/ 295. (¬2) " التوضيح ": 1/ 291. ولقد تساهل بعض العلماء فقبلوا مراسيل أئمة الحديث، الموثوق بهم المعروف تَحَرِّيهِمْ. (انظر " التوضيح " أَيْضًا: 1/ 287). (¬3) " قواعد التحديث ": ص 125، 126 نقلاً عن السخاوي في " فتح المغيث " على هامش " ألفية العراقي " الهند - دلهي. طبع حجر. وقد اعترض على ذكر الزُّهْرِي بين صغار التابعين، لأنه لقي من الصحابة ثلاثة عشر فأكثر. وقال ابن خِلِّكَانْ: «أَنَّهُ رَأَى عَشْرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ»: (انظر " التوضيح ": 1/ 285).

الثاني - المنقطع:

والمرسل إذا أسند عن ثقات يَتَقَوَّى وتنكشف صحته، إذ يجمع حينئذٍ صورتين، صورة الإرسال وصورة الإسناد، فإذا عارضهما مسند آخر كان أرجح منه، لاعتضاد المرسل بالمسند المتصل إلى منتهاه (¬1). الثَّانِي - المُنْقَطِعُ: أشهر تعريف له أنه «الحَدِيثُ الذِي سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ رَجُلٌ، أَوْ ذُكِرَ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ» (¬2). وسبب ضعفه فَقْدَهُ الاتصال في السند، فهو كالمرسل من هذه الناحية. ومثال ما سقط من إسناده رجل الحديث الذي رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَوِيٌّ أَمِينٌ». فقد سقط من إسناده شريك بين الثوري وبين أبي إسحاق، لأن الثوري لم يسمع الحديث من أبي إسحاق مباشرة، وإنما سمعه من شريك، وشريك هذا سمعه من أبي إسحاق. ومثال ما ذكر فيه رجل مُبْهَمٌ حديث: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ» الذي رواه أَبُو العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عن رجلين عن شداد بن أوس (¬3) فمن هُمَا هَذَانِ الرَّجُلاَنِ؟ إنهما مبهمان وقد ذُكِرَا في السند. وقد اتفق في هذا الحديث أنهما رجلان اثنان، وقد تكون الرواية في أحاديث أخر مفردة عن رجل واحد مُبْهَمٍ. والذي يعنينا هنا وصف الإبهام في بعض حلقات السند. ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 1/ 289. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 53. (¬3) نفسه: ص 54. وقارن بـ " معرفة علوم الحديث ": ص 27.

الثالث - المعضل:

وقد يُرْوَى الحديث وفي إسناده رجل غير مُسَمَّى وليس بمنقطع. مثاله حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُخَيَّرُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالْفُجُورِ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلْيَخْتَرِ الْعَجْزَ عَلَى الْفُجُورِ» لأن هذا الرجل المبهم قد ذكر في رواية أخرى فإذا هو أَبُو عُمَرَ الْجَدَلِيُّ، ولا يقف على هذا النوع مِنَ الْمُنْقَطِعِ إِلاَّ الحَافِظُ الفَهِمُ المُتَبَحِّرُ فِي الصَّنْعَةِ (¬1). وتماثل المنقطع والمرسل في سبب الضعف، وهو نقد الاتصال في السند، جعل الحافظ الخطيب البغدادي يقول في كتابه " الكفاية في علم الرواية ": «وَالمُنْقَطِعُ مِثْلُ المُرْسَلِ، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ العِبَارَةَ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي رِوَايَةِ مَنْ دُونَ [التَّابِعِينَ] عَنِ الصَّحَابَةِ، مِثْلَ أَنْ يَرْوِيَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ» (¬2). وهذا الاستعمال الغالب الذي يشير إليه الخطيب لا يتفق من كل وجه وتعريف المنقطع الذي قدمناه، فهو اصطلاح خاص بالنسبة إلى وصف يغلب كثيرًا على الأحاديث المنقطعة. الثَّالِثُ - المُعْضَلُ: هو الحديث الذي سقط منه راويان فأكثر بشرط التوالي (¬3)، وهو ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 28. (¬2) " الكفاية ": ص 21. (¬3) " التدريب ": ص 73. أما إذا لم يتوال فهو منقطع كما رأينا في الرجلين المُبْهَمَيْنِ عن شداد بن أوس. وقارن بـ " شرح النخبة ": ص 18.

الرابع - المدلس:

صورة أشد استغلاقًا وإبهامًا من المنقطع، ومن هنا جاءت تسميته بِالمُعْضَلِ (¬1). ويعتبر قسمًا من المنقطع لكن بوجه خاص لأن كل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلاً (¬2) وفقد الاتصال في سنده هو سبب ضعفه، كما قلنا في المرسل والمنقطع. ومن المعضل ما أرسله تابع التابعي: مثال ذلك ما رواه الأَعْمَشُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الأَعْمَشِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: «يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ ... » لأن الشعبي إنما رواه عن أنس. وأنس رواه عن رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقد أعضل الأعمش الحديث بإسقاطه أَنَسًا وَرَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إسناده (¬3). والمعضل أسوأ حالاً من المنقطع، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، والمرسل لا تقوم به حُجَّةٌ وإنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد، فأما إذا في موضعين أو أكثر فإنه يساوي المعضل في سوء الحال (¬4). الرَّابِعُ - المُدَلَّسُ: المدلس قسمان (¬5)، أحدهما مدلس الإسناد، وهو الحديث الذي يُؤَدِّيهِ الراوي عمن عاصره ولقيه مع أنه لم يصح له سماعه منه، أو عمن عاصره ولكنه لَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أنه سمعه من لفظه. مثال ذلك: قَوْلُ عَلِيٍّ بْنِ خَشْرَمَ: «كُنَّا عِنْدَ ¬

_ (¬1) وهو من حيث الاشتقاق مشكل (" التوضيح ": 1/ 327). (¬2) نفسه: 1/ 324. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 55. (¬4) " التوضيح ": 1/ 329. (¬5) " التوضيح ": 1/ 350.

سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: " قَالَ الزُّهْرِيُّ كَذَا "، فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتَ مِنْهُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الرَزَّاقِ عَنْ مَعْمَرَ عَنْهُ» (¬1). فسفيان قد عاصر الزهري ولقيه، ولكنه لم يأخذ عنه فيصح سماعه منه، وإنما أخذ عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق أخذ عن معمر، ومعمر أخذ عن الزهري، فالتدليس هنا إسقاط سفيان شيخيه وإيراده الحديث بصيغة توهم سماعه من الزهري مباشرة. وهذا أشد قسمي التدليس وأشنعهما وأدلهما على الكذب. قَالَ شُعْبَةُ: «لأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ» (¬2). وَقَالَ: «التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ» (¬3). وكان الشافعي يَرُدُّ مُطْلَقًا من عرف بالتدليس في الإسناد ولو مرة واحدة، ولكن أكثر العلماء على أن الراوي الذي نسب إلى التدليس يقبل من روايته ما صرح فيه بلفظ السماع، ويرد منها ما كانت عبارته محتملة مبهمة (¬4). وقد تتبع الحاكم البلاد التي أكثرت من رواية هذا القسم من التدليس، والبلاد التي لم يعرف فيها هذا الكذب في الرواية، فرأى أَنَّ «أَهْلَ الْحِجَازِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَمِصْرَ وَالْعَوَالِي، [لَيْسَ التَّدْلِيسُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَكَذَلِكَ] أَهْلُ خُرَاسَانَ، وَالْجِبَالِ وَأَصْبَهَانَ، وَبِلاَدُ فَارِسَ، وَخُوزِسْتَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهَرِ - لاَ [يُعْلَمُ] أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ دَلَّسَ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ تَدْلِيسًا أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَنَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَأَمَّا مَدِينَةُ [السَّلاَمِ] بَغْدَادَ، ... فَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا التَّدْلِيسُ، [إِِلاَّ] أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيِّ الْوَاسِطِيِّ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ التَّدْلِيسَ بِهَا» (¬5). ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 58. (¬2) " التوضيح ": 1/ 366. (¬3) وقد قال هذا شُعْبَةُ، ونقله الشافعي، وليس قائله (انظر " الباعث الحثيث: ص 58). (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 58. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 111، 112.

أما القسم الثاني فهو تدليس الشيوخ. وهو أن يصف راويه بأوصاف أعظم من حقيقته أو يسميه بغير كنيته، قاصدًا إلى تعمية أمره. من ذلك أن يقول: حدثنا العلامة الثبت، أو الحافظ الضابط. ومن ذلك ما رواه أبو بكر بن مجاهد المقرئ عن أبي بكر بن أبي داوود قال: «حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله»، وعن أبي بكر محمد بن حسن النقاش المفسر قال: «حدثنا محمد بن سند» فنسبه إلى جد له، ولم ينسبه إلى أبيه، وهو الاسم الذي يشتهر به (¬1). ويرى ابن الصلاح أن الخطيب البغدادي: «كَانَ لَهْجًا بِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ» (¬2)، وينقل عنه بعض الأمثلة في ذلك: منها أن الخطيب يروي في كتبه عن أبي القاسم الأزهري، وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفاسي، وعن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، والجميع شخص واحد من مشايخه. ويروي أيضًا عن الحسن بن محمد الخلال، وعن الحسن بن أبي طالب، وعن أبي محمد الخلال، والجميع شخص واحد. ويروي كذلك عن أبي القاسم التنوخي، وعن علي بن المحسن، وعن القاضي أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، وعن علي بن أبي علي المعدل والجميع شخص واحد. ونحن في الواقع نُجِلُّ الحافظ الخطيب عن أن يكون قصده تعمية أمر واحد من هؤلاء الشيوخ، ولكنا لا نكتم استغرابنا من ذكره هذه الأسماء التي ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 59. (¬2) " التوضيح ": 1/ 369.

يصعب معها معرفة الشيخ، مع أنها شخص واحد، وهو يعلم أنها شخص واحد، وأن كثيرين لا يفطنون لذلك. ويفرع بعض العلماء عن التدليس أبوابًا متعددة منها ما يسمونه بتدليس العطف، كأن يقول الراوي: «حدثنا فلان وفلان»، ومع أنه لم يسمع من الثاني المعطوف (¬1). ومن ذلك تدليس السكوت، كأن يقول: «سَمِعْتُ» أو «حَدَّثَنَا» أو «حَدَّثَنِي» ثم يسكت ثم يقول: «الأَعْمَشُ» مثلاً، موهمًا أنه قد سمع منه، مع أنه لم يصح له سماع منه. ومن ذلك تدليس التسوية، وهو أن يحمله على إسقاطه غير شيخه ضعفه أو صغر سنه فيجعل الحديث مَرْوِيًّا عن الثقات فقط، ليحكم عليه بالقبول والصحة. وهذا شر أنواع التدليس، لأن فيه تغريرًا شديدًا. وممن اشتهر بذلك الوليد بن مسلم، فكان يحذف شيوخ الأوزاعي الضعفاء ولا يذكر إلا الثقات، فسئل عن ذلك، فأجاب: «إن الأوزاعي أسمى من أن يروي عن مثل هؤلاء!» فقيل له: «فإذا روى عن هؤلاء، وهو ضعفاء، أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي الثقات، ضعف الأوزاعي؟ فلم يلتفت الوليد إلى ذلك القول». وعبارات المدلسين تنطوي على خبث شديد، فقد يعمد بعضهم إلى لفظ مبهم متشابه يلوي به لسانه تعظيمًا لشيخه من خلال تعظيم البلد أو الحي الذي ينسب إليه: كما إذا قال المصري: «حَدَّثَنِي فُلاَنٌ بِالأَنْدَلُسِ» فأراد موضعًا بالقرافة، أو قال: «بِزِقَاقِ حَلَبْ» وأراد موضعًا بالقاهرة، أو ¬

_ (¬1) انظر في هذا النوع والنوعين التاليين " الباعث الحثيث ": ص 60.

قال البغدادي: «حَدَّثَنِي فُلاَنٌ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ» وأراد نهر دجلة (¬1)، أوقال: «بِالرِقَّةِ» وأراد بستانًا على شاطئ دجلة، أو قال الدمشقي: «حَدَّثَنِي بِالكَرْكِ» وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق، ففي ذلك كله إيهام الرحلة في طلب الحديث. والحافظ ابن حجر يطلق على هذا التمويه اسم «تدليس البلاد»، ويلحقه بـ «تدليس الشيوخ» (¬2). وكان بعض المدلسين من أئمة الحديث يجدون في التدليس متعة نفسية، فلا يحلو لهم الدعابة إلا بهذا الضرب من الرواية المبهمة يخوضون فيه متساهلين ثم يندمون ويتوبون، قيل لِهُشَيْمٍ بْنِ بَشِيرٍ (¬3): مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ يَعْنِي التَّدْلِيسَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ!» (¬4). واجتمع نفر من أصحاب هُشيم هذا يومًا على أَلاَّ يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره: «حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ , وَمُغِيرَةُ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ»، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمُ الْيَوْمَ؟» فَقَالُوا: لاَ، فَقَالَ: «لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مُغِيرَةَ حَرْفًا مِمَّا ذَكَرْتُهُ، إِنَّمَا قُلْتُ: «حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ» غَيْرُ مَسْمُوعٍ لِي! (¬5). ¬

_ (¬1) راجع قصة السمعاني فيما وراء النهر: ص 70 ح 2 من كتابنا هذا. (¬2) انظر تفصيل هذا في " التوضيح ": 1/ 372. (¬3) هو الحافظ الكبير هُشيم بن بشير بن أبي خازم، سمع الزهري وعمرو بن دينار ومنصور ابن زاذان وحصين بن عبد الرحمن وأبا بشر وأيوب السختياني وخلقًا كثيرًا. قال فيه الذهبي: «لا نزاع في أنه كان من الحفاظ، إلا أنه كثير التدليس، روى عن جماعة لم يسمع منهم». توفي سنة 183 هـ. (راجع ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 248). (¬4) " الكفاية ": ص 361. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 105 وقارن بـ " التدريب ": ص 79. ويسمى هذا النوع من التدليس «تدليس العطف»، كما رأينا، لأن هُشيمًا هنا قال: «حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ» وهو لم يسمع من (مغيرة) المعطوف حرفًا واحدًا. أما حصين فقد سمع منه الكثير، فهو حصين بن عبد الرحمن المذكور في سماعات هُشيم في الحاشية 3. وعبارة =

أدرك هشيم إذن أن للمزاح بالتدليس حدودًا، فاعترف بنفسه بأن ما ادعى سماعه غير مسموع له!! وكذلك كان المدلسون يعترفون بتدليسهم ولا سيما إذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم ويلح في مراجعتهم (¬1). بل كانوا غالبًا يعدلون عن عبارتهم المبهمة إلى التصريح بحقيقة ما سمعوه، محذرين الناس من رواية ما دلسوا فيه. قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: «كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ (¬2) فَقَالَ: ... الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلاَ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ» (¬3). وقد يستغرب وقوع التدليس من مثل هذين الإمامين، ابن عُيينة وهُشيم لما وصفا به من الأمانة والحفظ والضبط، ولا غرابة ... فما أقل الذين سلموا من التدليس! (¬4) حتى ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ما سمع من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أحاديث ¬

_ = السيوطي في " التدريب " تقطع بهذا، فقد قال هشيم: «كُلُّ مَا قُلْتُ فِيهِ ( ... وَفُلاَنٌ) فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ». (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 104 ونقله في " التدريب ": ص 79. (¬2) هو العلامة الحافظ شيخ الإسلام سفيان بن عيينة بن ميمون، أبو محمد الهلالي الكوفي، سمع عمرو بن دينار والزهري وزياد بن علاقة وأبا إسحاق والأسود بن قيس، وزيد بن أسلم وعبد اله بن دينار والمنصور بن المعتمر وعبد الرحمن بن القاسم. اتفقت الأئمة على الاحتجاج به، ولكنه كان مدلسًا على الثقات. توفي سَنَةَ 198 هـ (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 262). (¬3) " التوضيح ": 1/ 351، و" التدريب ": ص 78. وهذا ما يسمونه «تدليس القطع» لقطع الراوي أداة الرواية، فهو يكتفي بتسمية شيخه قائلاً « ... فُلاَنٌ» كما قال ابن عيينة: « ... الزُّهْرِيِّ» فلم يعين: هل حدثه به الزهري أم قاله له أم سمعه منه. وقد سبق أن استشهدنا (ص 171) على تدليس الإسناد برواية تشبه هذه وليست مثلها تمامًا، وإنما أعدنا ذكرها هنا لاستنتاج حكم جديد. (¬4) " التدريب ": ص 77 وفيه: «قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وَعَلَى هَذَا فَمَا سَلِمَ أَحَدٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، لاَ مَالِكٌ، وَلاَ غَيْرُهُ!».

يسيرة (- قَالَ بَعْضُهُمْ: «أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ» -)، وبقية أحاديثه سمعها عن الصحابة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو لا يكاد يذكر من بينه وبين النبي، وإنما يقول: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (¬1). وابن عيينة وهشيم، فوق ذلك، كلاهما من رواة " الصحيحين " وذلك شرف عظيم لهما كان لا بد أن يهيب بأئمة الحديث إلى الدفاع عنهما وعن أمثالهما من رواة " الصحيحين " المشاهير بالتدليس كالأعمش (¬2) وقتادة (¬3) والحسن البصري (¬4) وعبد الرزاق (¬5) والوليد بن مسلم (¬6). ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 1/ 347. ويرى بعضهم أن هذا إلى مراسيل الصحابة أقرب منه إلى التدليس. والعلماء يحتجون بمراسيل الصحابة كما رأينا. وهم في الوقت نفسه يفرقون بين المرسل والمدلس على النحو الذي سنوضحه، ولا ريب أن أكثر الرواية عن ابن عباس مرسلة، لما ذكرناه سابقًا، إلا أن إرسال بعضها ضربًا من الخفاء يكاد يلحقها بالتدليس، ونقول مرة أخرى: ما أقل من سلم من التدليس!. (¬2) الأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي، أصله من بلاد الري، رأى أنس بن مالك وحفظ عنه، أحد الأعلام، معدود في صغار التابعين، ما نقموا منه إلا التدليس كما في " الميزان ". قال الذهبي: «رُبَّمَا دَلَّسَ عَنْ ضَعِيفٍ فَلاَ يَدْرِي، فَمَتَى قَالَ " حَدَّثَنَاهُ " فَلاَ كَلاَمَ، وَمَتَى قَالَ " عَنْ " تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّدْلِيسِ». توفي سَنَةَ 148 هـ. (¬3) هو قتادة بن دعامة بن عزيز، [السدوسي] البصري الضرير الأكمه، الحافظ العلامة الثقة، حدث عن عبد الله بن سرجس وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وأبي الطفيل. وكان قتادة معروفًا بالتدليس. قال ابن معين: «لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَلاَ مِنْ مُجَاهِدٍ». وقال شعبة: «لاَ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي رَافِعٍ». مات بواسط في الطاعون سَنَةَ 118 هـ. وقيل سَنَةَ 117 هـ. (¬4) هو الحسن بن أي الحسن يسار البصري، مولى الأنصار. أحد كبار التابعين وعلمائهم المشهورين بالزهد. في " الميزان ": «ثِقَةٌ لَكِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَإِذَا قَالَ: " حَدَّثَنَا " فَهُوَ حُجَّةٌ بِلاَ نِزَاعٍ». توفي سَنَةَ 110. (¬5) هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني. في " الميزان ": «أَحَدُ الأَعْلاَمِ الثِّقَاتِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَاتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَدْلِيسِهِ». توفي سَنَةَ 211 هـ. (¬6) الوليد بن مسلم هو أبو العباس الدمشقي مولى بني أمية، في " الميزان ": «أَحَدُ

واعتذروا عن ابن عيينة اعتذارًا خاصًا، فقبلوا تدليسه (¬1)، لأنه إذا وقف أحال على ابن جُريج ومعمر (¬2) ونظرائهما.: وَرَجَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬3) قَالَ: «وَهَذَا شَيْءٌ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ وَلاَ يُدَلِّسُ إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ مُتْقِنٍ، وَلاَ يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ خَبَرٌ دَلَّسَ فِيهِ إِلاَّ وَقَدْ بَيَّنَ سَمَاعَهُ، عَنْ ثِقَةٍ مِثْلِ ثِقَتِهِ» (¬4). واعتذروا عن رواة " الصحيحين " المشاهير بالتدليس اعتذارًا عَامًّا، بأن تدليسهم ضرب من الإبهام وليس كذبًا، فما رووه يعرف فيه السماع، كسمعت وحدثنا وأخبرنا ونحوها (¬5). ويحتمل أن الشيخين، البخاري ومسلمًا، ¬

_ = الأعلام، وعالم أهل الشام. ثم قال: قال أبو مسهر: الوليد مدلس، وربما دلس عن الكذابين، فإذا قال: «الوَلِيدُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَوْ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ» فليس يعتمد لأنه يدلس عن الكذابين، وإذا قال: «حَدَّثَنَا» فهو حجة. توفي سَنَةَ 195 هـ. (قارن بـ " تذكرة الحفاظ ": 1/ 302). (¬1) جميع هؤلاء الأئمة المشاهير بالتدليس من رواة " الصحيحين ". وقد أشار إلى ذلك صاحب " توضيح الأفكار ": 1/ 353، 354. وذكر السيوطي بعضهم في " التدريب ": ص 80. (¬2) ابْنُ جُرَيْجٍ هو الفقيه المكي عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الرومي الأموي مولاهم، أول من صنف الكتب. توفي سَنَةَ 150 هـ (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 169، 170). ومعمر هو الإمام الحجة أحد الأعلام، معمر بن راشد، أبو عروة الأزدي مولاهم، توفي سنة 153 على الأرجح (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 190، 191). (¬3) هو أحد الحفاظ الكبار صاحب التصانيف العديدة، محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ الميني الدارمي البُسْتِيِّ - بضم الباء وإسكان السين - أبو حاتم. له " التقاسيم والأنواع " في خمس مجلدات، وترتيبه مخترع ليس على الأبواب ولا على المسانيد. توفي سنة 354 هـ. (¬4) " التدريب ": ص 79. (¬5) نفسه: ص 80.

لم يعرفا سماع ذلك المدلس الذي رويا عنه، لكن عرفا لحديثه من المتابعات ما يدل على صحته، فاختار إسناد الحديث إلى المدلس لجلالته وأمانته وانتفاء تهمة الضعف عن حديثه، ولم يكن في المتابعين الثقات من يماثل المدلس ولا يقاربه فضلاً وشهرة (¬1). ويرى بعض النقاد أن ما رمي به بعض رواة " الصحيحين " من التدليس أجدر أن يطلق عليه اسم المرسل الخفي، وأنشأوا يفرقون بين المدلس والمرسل الخفي تفرقة دقيقة، فالتدليس يختص بمن روى عمن عُرِفَ لقاؤه إياه، فأما من عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي. قال الحافظ ابن حجر: «وَمَنْ أَدْخَلَ فِي تَعْرِيفِ التَّدْلِيسِِ المُعاصَرَةَ، وَلَوْ بِغَيْرِ لُقِيٍّ، لَزِمَهُ دُخولُ المُرْسَلِ الخَفِيِّ فِي تَعْرِيفِهِ. والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما» (¬2). ثم يستدل على اعتبار اللقي في التدليس دون المعاصرة بإطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي (¬3) وقيس بن أبي حازم (¬4) عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قبيل الإرسال لا من قبيل التدليس، ولو كان مجرد المعاصرة يكتفى به في التدليس لكان ¬

_ (¬1) انظر " التوضيح ": 1/ 356. (¬2) " شرح النخبة ": ص 18. (¬3) أبو عثمان النهدي هو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُلٍّ البصري، أدرك زمن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وارتحل زمن عمر فسمع منه ومن جماعة من الصحابة، توفي سنة 100 هـ أو بعدها بقليل (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 65). (¬4) هو قيس بن أبي حازم، أبو عبد الله الأحمسي الكوفي، محدث الكوفة، سار ليدرك النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليبايعه، فتوفي نبي الله وقيس في الطريق، سمع أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وعدة من الكبار. قال الذهبي: «حَدِيثُهُ مُحْتَجٌّ بِهِ فِي كُلِّ دَوَاوِينِ الإِسْلاَمِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ 97 وَقِيلَ سَنَةَ 98 هـ». (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 61).

الخامس - المعلل:

هؤلاء مدلسين، لأنهم عاصروا النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطعًا، ولكن لا يعرف هل لقوه أم لا (¬1). والقول الفصل للخطيب البغدادي في التفرقة بين المدلس والمرسل إطلاقًا: أن الراوي «لَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ [يَسْمَعْهُ] مِنَ الشَّيْخِ الَّذِي دَلَّسَهُ عَنْهُ وَكَشَفَ ذَلِكَ لَصَارَ بِبَيَانِهِ مُرْسِلاً لِلْحَدِيثِ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فِيهِ لأَنَّ الإِرْسَالَ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِإِيهَامٍ مِنَ الْمُرْسِلِ كَوْنَهُ سَامِعًا مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَمُلاَقِيًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ إِلاَّ أَنَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَضَمِّنٌ لِلإِرْسَالِ لاَ مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَانَ المُدَلِّسُ مُمْسِكًا عَنْ ذِكْرِ مَنْ [بَيْنَهُ] وَبَيْنَ مَنْ دَلَّسَ عَنْهُ وَإِنَّمَا [يَفْرِقُ] حَالُهُ حَالَ المُرْسِلِ [بِإِيهَامِهِ] السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَقَطْ، وَهُوَ المُوهِنُ لأَمْرِهِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا التَّدْلِيسِ مُتَضَمِّنًا لِلإِرْسَالِ، وَالإِرْسَالُ لاَ يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ لأَنَّهُ لاَ يَقْتَضِي إِيهَامَ السَّمَاعِ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ: وَلِهَذَا المَعْنَى لَمْ يَذُمَّ العُلَمَاءُ مَنْ أَرْسَلَ الحَدِيثَ وَذَمُّوا مَنْ دَلَّسَهُ» (¬2) وسبب ضعف المدلس بأنواعه واضح، فلم يثبت لرواته شرط الثقة. وما أحكم ابن المبارك حين قال: دَلَّسَ لِلنَّاسِ أَحَادِيثَهُ ... وَاللَّهُ لاَ يَقْبَلُ تَدْلِيسًا (¬3) الخَامِسُ - المُعَلَّلُ: (¬4) هو الحديث الذي اكتشفت فيه علة تقدح في صحته، وإن كان يبدو في ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 19. (¬2) " الكفاية ": ص 357. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 103. (¬4) ويسمى «المَعْلُولُ» أيضًا كما وقع في عبارة البخاري والترمذي والحاكم. والأجود =

الظاهر سليمًا من العلل (¬1). واكتشاف علة الحديث يحتاج إلى اطلاع واسع، وذاكرة طيبة، وفهم دقيق، لأن العلة نفسها سبب غامض يخفى حتى على المشتغلين بعلوم الحديث. قال ابن حجر: «وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحَدِيثِ وَأَدَقِّهَا، وَلاَ يَقُومُ بِهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى فهْمًا ثاقِبًا، وَحِفْظًا وَاسِعًا، وَمَعْرِفةً تَامَّةً بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَمَلَكَةً قويَّةً بِالأَسَانِيدِ وَالمُتُونِ» (¬2). ولقد يتمكن الخبير المتمرس بهذا الفن من معرفة إحدى العلل الغامضة بضرب من الإلهام يشرح اللهُ به صدره. ولا غرو، فالمعرفة بالحديث ليست تلقينًا، وإنما هو علم يُحْدِثُهُ اللهُ في القلب (¬3). قال عبد الرحمن بن مهدي (¬4): «مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ إِلْهَامٌ، فَلَوْ قُلْتَ لِلْعَالِمِ يُعَلِّلُ الحَدِيثَ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ» (¬5). وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: «إِنَّكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا ¬

_ = فيه أيضًا «مُعَلٌّ» بلام واحدة، لأنه مفعول أعل قياسًا. وأما «مُعَلَّلٌ» فهو مفعول علل، وهو لغة بمعنى أَلْهَاهُ بِالشَّيْءِ وَشَغَلَهُ، وليس هذا الفعل بمستعمل في كلامهم. انظر " التدريب ": ص 88. (¬1) [قَارِنْ] بـ " التدريب ": ص 89. (¬2) " شرح النخبة ": ص 21 وعنه في " التوضيح ": 2/ 29. (¬3) " الجامع ": 9/ 177. (¬4) هو الحافظ الكبير الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان، أبو سعيد البصري، مولى الأزد، وقيل: مولى بني العنبر. قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: «هُوَ أَفْقَهُ مِنْ يَحْيَى القَطَّانِ وأَثْبَتُ مِنْ وَكِيْعٍ». توفي سَنَةَ 198 هـ (انظر ترجمته في " تذكر الحفاظ ": 1/ 329). (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 113.

لَمْ يَثْبُتْ، فَعَمَّنْ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فَأَرَيْتَهُ دَرَاهِمَكَ، فَقَالَ: هَذَا جِيدٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ أَكُنْتَ تَسْأَلُهُ [عَمَّنْ] ذَلِكَ، أَوْ تُسْلِمُ [الأَمْرَ إِلَيْهِ؟] قَالَ: لاَ، بَلْ [كُنْتُ] أُسْلِمُ الأَمْرَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَهَذَا كَذَلِكَ لِطُولِ المُجَالَسَةِ وَالمُنَاظَرَةِ [وَالْخُبْرِ بِهِ]» (¬1). ولذلك قال الخطيب البغدادي: «يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الذِي يَنْتَقِدُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ فِيهَا الزَّيْفُ وَالبَهْرَجُ وَكَذَلِكَ الحَدِيثُ» (¬2). ودقة هذا الفن وصعوبته واعتماده على طول الممارسة كانت سببًا في قلة التأليف فيه (¬3). وَأَجَلُّ كتاب في هذا الموضوع " كتاب العلل " لعلي بن المديني شيخ البخاري (¬4). ويلي ذلك كتاب بالعنوان نفسه للخلال (¬5)، وآخر لابن أبي حاتم (¬6) وقد طبع الأخير في مصر في مجلدين. ومما وصل إلينا في ذلك كتاب " العلل " في آخر " سنن الترمذي "، لكنه مختصر، وقد شرحه ابن رجب (¬7). ونعلم أن للإمام أحمد بن حنبل كتابًا في العلل، وهو مخطوط (¬8). ¬

_ (¬1) انظر " التدريب ": ص 89، وعنه في " الباعث الحثيث ": ص 71. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضًا: «لأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ حَدِيثٍ [هُوَ عِنْدِي] أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْتُبَ عِشْرِينَ حَدِيثًا لَيْسَ عِنْدِي» " الجامع [لأخلاق الراوي وآداب السامع] ": 10/ 191، ومثله باللفظ في " معرفة علوم الحديث ": ص 112. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": 7/ 128 وجه 1. (¬3) " شرح النخبة ": ص 21. (¬4) " التدريب ": ص 91 وقد سبقت ترجمة ابن المديني. (¬5) هو أحمد بن محمد بن هارون البغدادي الحنبلي، أبو بكر، المعروف بالخلال، وكتابه يقع في عدة مجلدات (" الرسالة المستطرفة ": ص 111). (¬6) " الرسالة المستطرفة ": ص 111. (¬7) هو الحافظ زين الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن محمد البغدادي الدمشقي الحنبلي المعروف بابن رجب المتوفى سنة 975 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 111). (¬8) مخطوط الظاهرية، مجموع 40 وهو عبارة عن 23 ورقة من القطع الصغير، مضموم إلى مجلد يشتمل على عدة رسائل تبلغ 325 ورقة بخطوط مختلفة.

وأن لأبي الحسن الدارقطني (¬1) كتابًا جليلاً في هذا الباب أعجز به من يريد أن يأتي بعده (¬2)، إلا أنه ليس من جمعه، بل الجامع له تلميذه الحافظ أبو بكر البرقاني (¬3). وتنسب أيضًا كتب في علل الحديث إلى كل من البخاري ويعقوب ابن أبي شيبة (¬4)، والساجي (¬5) وابن الجوزي (¬6) وابن حجر (¬7). وأكثر ما يتطرق التعليل إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا، وحينئذٍ تدرك العلة بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه الناقد على وهم وقع، بإرسال موصول أو وقف مرفوع، أو دخول حديث في حديث، بحيث يغلب على ظنه أن الحديث غير صحيح، أو يتردد فيتوقف فيه (¬8) ولكثرة تطرق التعليل إلى الإسناد، يستحب أن يصنف المسند ¬

_ (¬1) هو علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن، المشهور بالدارقطني، نسبة إلى دار القطن ببغداد. أمير المؤمنين في الحديث، صاحب " السنن "، توفي سنة 385 (" الرسالة المستطرفة ": ص 19). (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 70. (¬3) " الرسالة المستطرفة ": ص 111. (¬4) " شرح النخبة ": ص 21. (¬5) والساجي هو أبو يحيى، زكريا بن يحيى الضبي البصري، مُحَدِّثُ البصرة، المتوفى سنة 307. قال الذهبي: «لَهُ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِي عِلَلِ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى تَبَحُّرِهِ فِي هَذَا الفَنِّ». (" الرسالة المستطرفة ": ص 111). (¬6) واسم كتابه " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " وقد انتقد عليها، (" الرسالة المستطرفة ": ص 111). (¬7) واسم كتابه " الزهر المطلول في الخبر المعلول ". (" التدريب ": ص 91). (¬8) " التدريب ": ص 89 وعنه في " التوضيح ": 2/ 27، 28.

معللاً (¬1)، كما يستحب للراوي إذا روى حديثًا معلولاً أن يبين علته (¬2). والطريق إلى معرفة المعلل جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم. قال علي بن المديني: «البَابُ إِذَا لَمْ [تُجْمَعْ] طُرُقُهُ لَمْ يُتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ» (¬3). وقد قسم الحاكم النيسابوري في كتابه " معرفة علوم الحديث " العلل إلى عشرة أقسام، وذكر لكل قسم منها مثلاً يوضحه (¬4)، ثم قال «وَبَقِيَتْ أَجْنَاسٌ لَمْ نَذْكُرْهَا، وَإِنَّمَا جَعَلْتُهَا مِثَالاً لأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَعْلُولَةٍ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهَا المُتَبَحِّرُ فِي هَذَا العِلْمِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ العُلُومِ» (¬5). ولكن أنواع العلل غير محصورة في هذا العشر التي ذكرها الحاكم، ولذلك سنكتفي بذكر أهم أمثلتها لتوضيح هذه الأسباب الخفية القادحة في الحديث. من ذلك أن يكون حديث ما محفوظًا عن صحابي ثم يروى عن آخر لاختلاف بلد الراويين أو الرواة، كحديث موسى بن عقبة عن أبي إسحاق ¬

_ (¬1) " الجامع ": 10/ 191. ومعنى تصنيف المسند معللاً بيان علله. وقد أفرد الخطيب بَابًا لبيان علل المسند في " الجامع ": 10/ 191. (¬2) " الجامع ": 7/ 127 وجه 2. (¬3) " التدريب ": ص 89. (¬4) هذه الأقسام العشرة المذكورة في كتاب " معرفة علوم الحديث " للحاكم من ص 113 إلى 119. والسيوطي في " التدريب " يذكر هذه الأقسام نقلاً عن الحاكم ويتبعها بأمثلته: ص 91 إلى 93. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 119.

عَنْ أَبِي بُرْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ , مَرْفُوعًا: «إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ». فالناظر في هذا الإسناد يحسبه أول الأمر مرويًا على شرط الصحيح، ولكن فيه رواية المدني عن كوفي، ومن المشهور أن المدنيين إذا رووا عن الكوفيين زلقوا (¬1). ومن ذلك الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله، كحديث أبي شهاب عن سفيان الثوري عن الحجاج بن الفرافصة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: «المُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ». ويرى الحاكم أن علته هي فيما أسند عن محمد بن كثير: حدثنا سفيان الثوري عن حجاج عن رجل عن أبي سلمة (¬2). ومن ذلك أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه، ولكنه لم يسمع منه أحاديث معينة، فإذا رواها عنه بلا واسطة، فعلتها أنه لم يسمعها منه كحديث يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَنَسِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ قَالَ: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ... » الحديث (¬3). قال الحاكم: «قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا الحَدِيثَ». ثم أسند عن يحيى قال: «حُدِّثْتُ عَنْ ¬

_ (¬1) نفسه: ص 115. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 117. ويرى العلامة أحمد شاكر أن العلة التي أعل بها الحاكم الحديث غير جيدة، لأن له شواهد ومتابعات، انظر " الباعث الحثيث ": ص 76. (¬3) تتمة الحديث: «وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ»

أَنَسٍ» فذكره (¬1). ومن ذلك أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه، كحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ». فقد روي ان مسلمًا جاء إلى البخاري وسأله عنه فقال: «هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ: وَلاَ أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الحَدِيثِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ " حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: ثَنَا سُهَيْلٌ , عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ... مَعَ أَنَّهُ لاَ يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ [سَمَاعًا] مِنْ سُهَيْلٍ» (¬2). وعلى المشتغل بدراسة الحديث حين يقرأ هذه العبارة: «هَذَ الحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِفُلاَنٍ» أن يتريث فيها فلا يستعجل الحكم بوجود علة قادحة في الحديث من نوع العلل المصطلح عليها، لأن بعض العلماء يطلقون العلة على غير معناها الاصطلاحاي (¬3)، فلا تزيد في نظرهم حينئذٍ عن السبب الظاهر (لا الخفي) الذي يجرح راوي الحديث بضعف الذاكرة أو الكذب. ووجود سبب ظاهر لضعف الحديث يمنع وصفه بالمعلل، لأن العلة لا تكون إلا سببًا غامضًا خفيًا كما أوضحنا في الأمثلة. غير أن بعض النقاد يرى أن الاحتراز بالعلة الخفية من باب التعريف ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 117، 118. (¬2) نفسه: ص 113، 114. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 77.

الأغلبي، فهناك علل ظاهرة غير خفية (¬1). قد أطلق أبو يعلى الخليلي في كتاب " الإرشاد " «العِلَّةَ» على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط، حتى قال: «مِنْ أَقْسَامِ الصَّحِيحِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مَعْلُولٌ» كما قال بعضهم: «مِنَ الصَّحِيحِ مَا هُوَ شَاذٌّ» ولم يقصد بهذا التقيد بالاصطلاح، ومثل له بحديث مالك في " الموطأ " أنه قال: بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ، وَكِسْوَتُهُ» فرواه مالك مُعْضَلاً هكذا في " الموطأ "، فقد رواه إبراهيم بن طهمان والنعمان بن عبد السلام عن مالك عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. وصار الحديث بعد بيان إسناده صحيحًا. قال بعضهم: «وَذَلِكَ عَكْسَ المَعْلُولِ، فَإِنَّهُ مَا ظَاهِرُهُ السَّلاَمَةُ، فَاطُّلِعَ فِيهِ بَعْدَ الفَحْصِ عَلَى قَادِحٍ. وَهَذَا مَعْلُولٌ ظَاهِرُهُ الإِعْلاَلُ بِالإِعْضَالِ، فَلَمَّا فُتِّشَ تَبَيَّنَ وَصْلُهُ» (¬2). والمعلول لا يشمل كل مردود، فالمنقطع ليس معلولاً، والحديث الذي في رواته مجهول أو مضعف ليس معلولاً، وإنما سمي معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك (¬3). قال الحاكم أبو عبد الله: «وَإِنَّمَا يُعَلَّلُ الحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ لَيْسَ لِلْجَرْحِ فِيهَا مَدْخَلٌ، فَإِنَّ حَدِيثَ المَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَ [أَمَّا] عِلَّةٌ الحَدِيثِ ... [فَإِنَّهُ] يَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ الثِّقَاتِ أَنْ يُحَدِّثُوا بِحَدِيثٍ لَهُ عِلَّةٌ، فَيَخْفَى عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ، ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 27. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 77، 78. وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 33، 34. (¬3) " التوضيح ": 2/ 27.

السادس - المضطرب:

فَيَصِيرُ الحَدِيثُ مَعْلُولاً، وَالحُجَّةُ فِيهِ عِنْدَنَا الحِفْظُ، وَالفَهْمُ، وَالمَعْرِفَةُ» (¬1). السَّادِسُ - المُضْطَرِبُ: (¬2) الحديث المضطرب هو الذي تتعدد رواياته، وهي - على تعددها - متساوية متعادلة لايمكن ترجيح إحداها بشيء من وجوه الرجيح، وقد يرويه راو واحد مرتين أو أكثر، أو يرويه اثنان أو رواة متعددون (¬3). ومنشأ الضعف فيه ما يقع من الاختلاف حول حفظ رواته وضبطهم (¬4) لأن انتفاء هذا الاختلاف معناه رجحان إحدى الروايات بما ثبت لراويها من حفظ أو ضبط أو طول سماع لمن أدى عنه. لذلك لا يسمى «مُضْطَرِبًا» إذا ترجحت فيه إحدى الروايتين أو الروايات (¬5). والاضطراب يقع في الإسناد غالبًا، وقد يقع في المتن، لكن قل أن يحكم ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 112، 113. (¬2) وهو مأخوذ م اختلال الأمر وفساد نظامه، وأصله اضطراب الموج لكثرة حركته وضرب بعضه بعضًا، ولو كان «المُضْطَرِبُ» مفتوح الراء لكان اسم مكان للاضطراب، ولكان ذلك أظهر لتحقق المعنى الاصطلاحي، لأن الحديث في الحقيقة موضع يظهر فيه اضطراب الراوي أو الرواة. (انظر " ألفية السيوطي ": ص 118 هامش). (¬3) قارن بـ " التدريب ": ص 93. (¬4) " التوضيح ": 2/ 47 وإشعار المضطرب بعدم ضبط رواته واضح، سواء أكان راويه واحدًا أم كثيرين. فلا يتصور الضبط في الشخص الواحد إذا تعددت روايته للشيء نفسه، لأن هذا التعدد ضرب من التناقض. أما إذا كان راوي المضطرب أكثر من واحد فكلهم يشتركون في عدم الضبط، وإنما يزول عن بعضهم بالترجيح. (¬5) " التدريب ": ص 93.

المحدث على الحديث بالاضطراب في المتن وحده دون الإسناد (¬1). فمن الاضطراب في الإسناد حديث أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ شِبْتَ، قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا "». قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: «هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْسَلاً، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مَوْصُولاً، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ سَعْدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ لاَ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالجَمْعُ مُتَعَذَّرٌ» (¬2). وقد يتبادر إلى ذهن الباحث - في مثل هذا الإسناد المضطرب - أن الاختلاف فيه على هذه الأوجه المتباينة، العشرة كما أحصاها الدارقطني، لا ينبغي أن يمنع صحة الحديث، ما دام مرددًا بين ثقات متساوين يتعذر بينهم الترجيح. وهذا الفهم المتبادر مقبول إجمالاً، غير أن الحكم على الحديث، عند التعارض مثلاً، لا بد أن يصنف رواياته درجات فيها الصحيح وفيها الأصح، «فحديث لم يختلف فيه عن راويه أصلاً أصح من حديث اختلف فيه في الجملة» (¬3). ومن هنا كان مجرد الاضطراب في الإسناد أمارة على الضعف، لأن تساوي [الروايات] في الدرجة وعدم تعارضها يمنعان الحكم باْيها صح، فكأن تعادلها في الصحة تعادل في الضعف إذ لا مرجح للأخذ بواحدة منها ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 22. (¬2) " التدريب ": ص 94. (¬3) نسبه في " التوضيح ": 2/ 47 إلى الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي: وهو صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله، الدمشقي ثم المقدسي، الشافعي، المتوفىببيت المقدس سَنَةَ 761 هـ. ومن تآليفه " جامع التحصيل في أحكام المراسيل ". و" اختصار جامع الأصول " لابن الأثير الجزري. ترجمته في " الرسالة المستطرفة ": ص 62، 63.

وإغفال سائرها (¬1). ومثال الاضطراب في المتن حديث البسملة الذي أخرجه مسلم في " صحيحه " من رواية الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: " صَلَّيْتُ خَلَفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لاَ يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلاَ فِي آخِرِهَا ". فهذه العبارة الأخيرة الي ينص فيها الراوي على نفي قراءة البسملة هي المتن المضطرب في هذا الحديث: لأن مسلمًا والبخاري اتفقا على إخراج رواية أخرى في الموضوع نفسه لا يتعرض فيها لذكر البسملة بنفي أو إثبات، وإنما يكتفي الراوي بقوله: «فكانوا يستفتحون القراءة بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}» يقصد أن الفاتحة هي السورة التي كانوا يستفتحون بها. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأمكن ترجيح الحديث المتفق عليه، فلم نصف الحديث الأول بالاضطراب، ولكن رواية ثالثة عن أنس تفيد أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية، فأجاب أنه لا يحفظ في ذلك شيئًا عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتردد مثله في هذه المسالة يحسب له حسابه، فأصبح عسيرًا أو متعذرًا ترجيح ما يتعلق بالبسملة إثباتًا أو نفيًا، وتعذر الترجيح كان السبب المباشر في وصفنا لمتن الحديث الأول بالاضطراب. ¬

_ (¬1) ومما أخذه الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي صور الاضطراب في السند، إذ عد منها سِتًّا: 1 - تعارض الوصل والإرسال، 2 - تعارض الوقف والرفع، 3 - تعارض الاتصال والانقطاع، 4 - أن يروي الحديث قوم عن رجل عن تابعي عن صحابي، ويرويه ذلك الرجل عن تابعي آخر عن صحابي بعينه، 5 - زيادة رجل في أحد الإسنادين، 6 - الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان مترددًا بين ثقة وضعيف. (وتجد هذه الصور الست مع أمثلتها في " التوضيح ": 2/ 38 - 47).

وهذا المثال يصلح شاهدًا لوقوع العلة في متن الحديث، ولذلك يذكره في الحديث المعلل كل من ابن الصلاح في كتاب " علوم الحديث " والحافظ العراقي في " شرحه لكتاب ابن الصلاح " (¬1) والسيوطي في " التدريب " (¬2). ولا غرابة في ذلك، فإن الاضطراب نوع من الإعلال، والبحثان متقاربان (¬3). وقد قال العلائي في المضطرب ما عرفنا عن ابن حجر أنه قاله في المعلل: «وَهَذَا الفَنُّ أَغْمَضُ أَنْوَاعِ الحَدِيثِ وَأَدَقُّهَا مَسْلَكًا، وَلاَ يَقُومُ بِهِ إِلاَّ مَنْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى فَهْمًا غَامِضًا (*) وَاطِّلاَعًا حَاوِيًا وَإِدْرَاكًا لِمَرَاتِبِ الرُوَاةِ، وَمَعْرِفَةً ثَاقِبَةً» (¬4). وهنا ندرك سر اعتماد ابن حجر في تأليف كتابه " المقترب في بيان المضطرب " (¬5) على كتاب " العلل " للدارقطني (¬6)، فالموضوع متقارب، والأمثلة متشابهة. ولعل هذا يعطينا فكرة عن رغبة أهل الحديث في تفريع الأقسام، وتنويع أوصاف الروايات ولو أمكن تشابكها أو تداخل بعض أقسامها. ولا يتناقض هذا التداخل، مع ما عرفناه عن أهل الحديث من الدقة، لأنهم لاحظوه أثناء التفريع والتنويع، فما كان صَالِحًا لوصفه بالاضطراب من وجه، يصلح لوصفه بالاعتلال من آخر. وهكذا. ¬

_ (¬1) ص 98 - 103. (¬2) ص 89 - 91 غير أن السيوطي يستشهد به - في الوقت نفسه - على مضطرب المتن ويقول: «وَعِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مِثَالٍ لِذَلِكَ: حَدِيثُ البَسْمَلَةِ السَّابِقِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ البَرِّ أَعَلَّهُ بِالاِضْطِرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالمُضْطَرِبُ يُجَامِعُ المُعَلَّلَ ; لأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ عِلَّتُهُ ذَلِكَ». " التدريب ": ص 95. (¬3) " التوضيح ": 2/ 37. (¬4) ذكره في " التوضيح ": 2/ 36، 37. (¬5) " التدريب ": ص 95. (¬6) نفسه: ص 91. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في بعض كتب علوم الحديث (غَايِصًا). ويراد بالغامض: المحض.

السابع - المقلوب:

والاضطراب يدخل في بعض الصور في قسم الصحيح والحسن (¬1): وذلك إذا وقع الاختلاف في نسب راو أو اسمه أو اسم أبيه مع أنه راو ثقة، فالحديث الذي هذا شأنه يسمى " مضطربًا " ولكن تسميته بذلك لا تنفي عنه الحكم بالصحة أو الحسن. إنما يكون الاضطراب الموجب للضعف في مثل ما ذكرناه قبل من صور المضطرب مَتْنًا أَوْ سَنَدًا (¬2). السَّابِعُ - المَقْلُوبُ: المقلوب هو الحديث الذي انقلب فيه على أحد الرواة لفظ في المتن، أو اسم رجل أو نسبه في الإسناد، فقدم ما حقه التأخير، أو أخر ما حقه التقديم، أو وُضِعَ شيء مكان شيء (¬3). وواضح من التعريف أن القلب يكون في المتن كما يكون في الإسناد. فمثال المقلوب في المتن: ما رواه مسلم فِي السَبْعَةٌ الذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ... «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» فالحديث في " الصحيحين " هكذا لفظه: «حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ» (¬4). ¬

_ (¬1) عبارة السيوطي في، " التدريب ": ص 65، فيما يتعلق بهذه القضية، منقولة من " مختصر " الزركشي الذي يقول: «وَقَدْ يَدْخُلُ القَلْبُ وَالشُّذُوذُ وَالاِضْطِرَابُ فِي قِسْمِ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ». (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 78. (¬3) أخذنا هذا التعريف من مجموع ما قيل في اقسام المقلوب. (¬4) عبارة الحديث هي هذه: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ [فِي] المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: =

ولكن المتن انقلب على أحد الرواة، فقدم اليمين وَأَخَّرَ الشمال، وكان عليه أن يفعل العكس. ومثال المقلوب في الإسناد التقديم والتأخير في الأسماء، كَمُرَّةَ بْنَ كَعْبٍ وَكَعْبَ بْنَ مُرَّةَ، لأن أحدهما اسم أبي الاَخر (¬1). وقد عني بهذا القسم عناية خاصة الخطيب في كتابه " رفع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب " (¬2). والقلب في المثالين وقع سَهْوًا لاَ عَمْدًا، وكان مع ذلك مُوجِبًا لضعف الحديث ولو أنه وقع عَمْدًا لاَ سَهْوًا، لكان القلب حينئذ ضَرْبًا من الوضع والاختلاق (¬3). من ذلك أن يكون الحديث مشهورًا براو أو بإسناد، فيعمد بعض الوضاعن إلى إبدال الراوي بغيره لأن الناس أشد رغبة في حديثه (¬4)، كأن يكون الحديث معروفًا عن سالم بن عبد الله (¬5)، فيجعله عن نافع (¬6)، أو يأتي بإسناد مكان ¬

_ = إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». انظر " شرح النخبة ": ص 22 وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 106. (¬1) " شرح النخبة ": ص 22. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 97 نقلاً عن " شرح النخبة ": ص 22. (¬3) " شرح النخبة ": ص 22. (¬4) " التوضيح ": 2/ 99. (¬5) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي. من سادات التابعين وعلمائهم، وأحد فقهاء المدينة السبعة. توفي بالمدينة سَنَةَ 106 هـ. (" تهذيب التهذيب ": 3/ 436). (¬6) هو أحد أئمة التابعين بالمدينة، نافع المدني، أبو عبد الله، أصابه عبد الله بن عمر صغيرًا في بعض مغازيه، وأرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلم أهلها السنن. ثقة كثير الرواية للحديث. توفي سَنَةَ 117 هـ. (انظر " التهذيب ": 10/ 412)»»

إسناد، كما روي عن حماد بن عمرو النَّصِيبِي الكذاب (¬1) عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا: «إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ، فَلاَ تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلاَمِ»: فقد قلب حماد هذا الحديث، فجعله عن الأعمش، وإنما هو معروف عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬2). وكان كثير من أهل الحديث يمتحنون الرواة بقلب الأحاديث وإدخالها عليهم (¬3)، ليعرفوا مدى قبولهم للتلقين (¬4)، غير قاصدين إلى الوضع، ولا معتقدين أن ما قلبوه استقر حديثًا (¬5). روى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الروباذي قال: خرجت مع أحمد ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق، فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: «أُرِيدُ أَنْ أَمْتَحِنَ أَبَا نُعَيْمٍ»، فنهاه أحمد، فلم ينته، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثًا من حديث أبي نعيم، وجعل على كل عشرة أحاديث حَدِيثًا ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم، فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه وأقعد أحمد عن يمينه ويحيى عن يساره، وجلست أسفل، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت، ثم الحادي عشر. فقال أبو نعيم: «لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِي، فَاضْرِبْ»، ¬

_ (¬1) قال فيه البخاري: «مُنْكَرُ الحَدِيثِ». وقال النسائي: «مَتْرُوكٌ». وقال الجوزقاني: «كَانَ يَكْذِبُ». وقال ابن حبان: «كَانَ يَضَعُ الحَدِيثَ وَضْعًا» (ذكره في " الميزان "). وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 101. (¬2) وبهذا الإسناد الأخير رواه مسلم في " صحيحه " من رواية شعبة والثوري وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن سهيل. وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 101. (¬3) " الجامع ": 1/ 17. (¬4) " التوضيح ":2/ 102. (¬5) " التدريب ": ص 107.»»

ثم قرأ العشرة الثانية، وقرأ الحديث الثاني، فقال: «وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِي، فَاضْرِبْ عَلَيْهِ»، ثم قرأ العشرة الثالثة، وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد، ثم قال: «أَمَّا هَذَا فَوَرَعُهُ يَمْنَعُهُ عَنْ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا - وَأَوْمَأَ إِلَيَّ - فَأَصْغَرَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ عَمَلِكَ يَا فَاعِلُ! ... » ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين حتى قلبه عن الدكان، ثم قام فدخل داره فقال له أحمد: «أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا وَأَقَُلْ لَكَ إِنَّه ثَبْتٌ؟» فَقَالَ يَحْيَى: «هَذِهِ الرَّفْسَةُ أَحَبُّ إِلَيَِّ مِنْ سَفَرِي!» (¬1) ولكن النقاد لا يحبون هذا النوع من الأغلوطات لنهي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها (¬2). وقد أنكر حرمي على شعبة لما قلب أحاديث عن ابان بن أبي عياش وقال: «يَا بِئْسَ مَا صَنَعَ» (¬3). ومعرفة قلب الحديث تحتاج إلى علم واسع، وتمرس وثيق بالروايات والأسانيد. وإنه ليستدل على مهارة المحدث باكتشافه ما يقع في الأحاديث من قلب. فهذا الخطيب يروي في هذا المجال عن البخارى ما يكبره في أعيننا، ويعظمه في نفوسنا. قال: «فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعُوا - أي علماء بغداد حين قدم عليهم البخاري -، وَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وَأَسَانِيدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ لإِسْنَادٍ آخَرَ، وَإِسْنَادَ هَذَا المَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَدَفَعُوهَا إِلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، إِلَى كُلِّ رَجُلٍ عَشَرَةً، وَأَمَرُوهُمْ إِذَا حَضَرُوا المَجْلِسَ يُلْقُونَ ذَلِكَ عَلَى البُخَارِيِّ. وَأَخَذُوا الوَعْدَ لِلْمَجْلِسِ، فَحَضَرَ المَجْلِسَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِ الحَدِيثِ مِنَ الغُرَبَاءِ مِنْ أَهْلِ ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 102، 103. (¬2) نفسه: 2/ 102. (¬3) " التدريب ": ص 107.

خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ وَمِنَ البَغْدَادِيِّينَ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ المَجْلِسُ بِأَهْلِهِ، انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ العَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَسَأَلَهُ عَنْ آخَرَ فَقَالَ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَمَا زَالَ يُلْقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالبُخَارِيُّ يَقُولُ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَكَانَ الفُقَهَاءُ مِمَّنْ حَضَرَ المَجْلِسَ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُونَ: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ يَقْضِي عَلَى البُخَارِيِّ بِالعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ، وَقِلَّةِ الْفَهْمِ. ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ المَقْلُوبَةِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي إِلَيْهِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ: «لاَ أَعْرِفُهُ»، ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى تَمَامِ العَشَرَةِ، حَتَّى فَرَغُوا كُلُّهُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ المَقْلُوبَةِ، وَالبُخَارِيُّ لاَ يَزِيدُهُمْ عَلَى: «لاَ أَعْرِفُهُ»، فَلَمَّا عَلِمَ البُخَارِيُّ أَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا، الْتَفَتَ إِلَى الأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَمَّا حَدِيثُكَ الأَوَّلُ، فَهُوَ كَذَا، وَحَدِيثُكَ الثَّانِي فَهُوَ كَذَا، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ عَلَى الوَلاَءِ»، حَتَّى أَتَى عَلَى تَمَامِ العَشَرَةِ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، وَفَعَلَ بِالآخَرِينَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَدَّ مُتُونَ الأَحَادِيثِ إِلَى أَسَانِيدِهَا، وَأَسَانِيدَهَا إِلَى مُتُونِهَا، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالحِفْظِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْفَضْلِ (¬1). ومنشأ الضعف في الحديث المقلوب قلة الضبط، لما يقع فيه من تقديم وتأخير واستبدال شيء بشيء. وهو - فوق ذلك - يخل بفهم السامع ويحمله على الخطأ (¬2). ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 106، 107، و" التوضيح ": 2/ 104، و" ألفية السيوطي ": ص 122 هامش. (¬2) " التوضيح ": 2/ 103.

الثامن - الشاذ:

الثَّامِنُ - الشَّاذُّ: (¬1) تعريف الشاذ عسير، ولعسره لم يفرده العلماء بالتصنيف (¬2)، غير أن أهم ما يلاحظ فيه معنيان: الانفراد والمخالفة، فهو- بصورة عامة - ما رواه الثقة مُخَالِفًا الثقات، وهو - بتعبير أدق - «مَا رَوَاهُ المَقْبُولُ مُخَالِفًا لِمَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ»، وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن هذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح (¬3). ويوشك ابن حجر، بهذا التعريف المعتمد للشاذ، أن يقرب شقة الخلاف بين اصطلاحيين مشهورين يظن الناس تضاربهما. وقد نسب هذان المصطلحان إلى كل من الإمام الشافعي (¬4)، والحاكم. أما الشافعي فيقول: «لَيْسَ الشَّاذُّ مِنَ الحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ مَا لا يَرْوِيهِ غَيْرُهُ، هَذَا لَيْسَ بِشَاذٍّ، إِنَّمَا الشَّاذُّ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا يُخَالِفُ فِيهِ النَّاسَ: ¬

_ (¬1) سمي شَاذًّا لانفراده، لأن الشاذ منفرد عن الجمهور. (" التوضيح ": 1/ 377). (¬2) " التدريب ": ص 81. (¬3) " شرح النخبة ": ص 14. (¬4) الإمام الشافعي أشهر من أن يُعَرَّفَ بِهِ. فهو الإمام الذي ملأ طباق الأرض علمًا، وصاحب المذهب المُسَمَّى باسمه، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإلى جده الأخير هذا نسب فعرف بالشافعي. وهو قرشي مطلبي مكي، كنيته أبو عبد الله، وكانت أمه أزدية. حدث عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الملك بن الماجشون، وأخذ الفقه عن مسلم بن خالد الزنجي. له كتب كثيرة في التفسير والحديث والفقه والأدب، ولكن أشهرها " الرسالة "، وله كذلك " الأم " و" المبسوط ". توفي بمصر سَنَةَ 204 هـ عن أربع وخمسين سَنَةً.

هَذَا الشَّاذُّ مِنَ الْحَدِيثِ» (¬1). والناس، في قول الشافعي، هم الثقات، فكأنه يقول: «الشَّاذُّ مَا رَوَاهُ الثِّقَةُ مُخَالِفًا الثِّقَاتَ»، وهو إذن لا يلاحظ مطلق التفرد، بل التفرد والمخالفة في آن واحد، إلا أنه لم يصرح بأن المخالفة للأولى أو الأوثق، وإنما هي مخالفة عامة للناس «الثِّقَاتَ». وبهذا الاصطلاح أخذ كثير من علماء الحجاز (¬2)، وانتصر له ابن الصلاح، واستنتج منه ابن كثير أن الثقة إذا روى ما لم يرو غيره «مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ عَدْلاً ضَابِطًا حَافِظًا، فَإِنَّ هَذَا لَوْ رَدَّ لَرُدَّتْ أَحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنْ المَسَائِلِ عَنْ الدَّلائِلِ» (¬3). وأكد هذا الاصطلاح العلامة ابن القيم (¬4) بعبارة قاطعة فقال: « ... وَإِنَّمَا الشُّذُوذُ أَنْ يُخَالِفَ الثِّقَاتَ فِيمَا رُوَوْهُ، فَأَمَّا إذَا رَوَى الثِّقَةُ حَديثًا مُنْفَرِدًا بِهِ لَمْ يَرْوِ الثِّقَاتُ خِلاَفَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يُسَمَّى شَاذًّا. وَإِنْ اِصْطُلِحَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ شَاذًّا بِهَذَا المَعْنًى لَمْ يَكُنْ هَذَا الاِصْطِلاحُ مُوجِبًا لِرَدِّهِ وَلاَ مُسَوِّغًا لَهُ» (¬5). وأما الحاكم فيرى أن «الشَّاذَّ حَدِيثٌ [يَتَفَرَّدُ] بِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ مُتَابِعٌ لِذَلِكَ الثِّقَةِ» (¬6). فهو يعتبر قيد التفرد بلفظ صريح، أما قيد المخالفة فيعتبره أيضًا - في نظرنا - ولكن بلفظ غير صريح، فلو ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 119. وعنه باختلاف يسير " التدريب ": ص 81 و " التوضيح ": 1/ 377. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 61. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 62، 63. (¬4) هو الإمام الكبير، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الذرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، الحنبلي، المُتَوَفَّى 751 هـ. (¬5) " إغاثة اللهفان ": ص 160 في الرد على من طعن في حديث ابن عباس في المطلقة ثلاثًا بأنها كانت واحدة على عهد الرسول وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. (¬6) " معرفة علوم الحديث ": ص 119.

كان للحديث أصل متابع للراوي الثقة لما كان مخالفًا الناس أو الثقات، والحاكم - كما رأينا - يشترط في الشاذ فقدان الأصل المتابع، فكأنه يشترط المخالفة ويعتبرها. وما لنا نذهب بعيدًا وقد كفانا بنفسه التخبط في فهم تعريفه، فأزال كل لبس حين عقب على ذلك مباشرة بتعريف الشافعي للشاذ، قاصدًا إلى إظهار التماثل بين رأيه ورأي هذا الإمام العظيم، وقد بلغ به استشعاره هذا التماثل حد الإتيان بشاهد واحد على الشاذ، تاركًا لك الخيار أن تجعله مثالاً على تعريفه الخاص أو على تعريف الشافعي. قال: «وَمِثَالُهُ مَا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالُوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ، أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى العَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ المَغْرِبِ أَخَّرَ المَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ العِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ المَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ، فَصَلاهَا مَعَ المَغْرِبِ». يعلّق الحاكم على هذا المثال بقوله: «هَذَا حَدِيثٌ رُوَاتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَهُوَ شَاذُّ الإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ لا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً نُعَلِّلَهُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ اللَّيْثِ، [عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ]، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَعَلَّلْنَا بِهِ الحَدِيثَ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَعَلَّلْنَا بِهِ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ العِلَّتَيْنِ، خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولاً، ثُمَّ نَظَرْنَا، فَلَمْ نَجِدْ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رِوَايَةً، وَلا وَجَدْنَا هَذَا المَتْنَ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَلا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ

جَبَلٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، فَقُلْنَا الحَدِيثُ شَاذُّ» (¬1). وإنما حرص الحاكم على اْن يقصي عن هذا الحديث معنى العلة، فصرح بأنه لم يعرف له علة يعله بها، وأنه خرج عن أن يكون معلولاً، لما يستشعره في الشاذ من صعوبة تشبه صعوبة المعلل، فهو مما «يَنْقَدِحُ فِي نَفَسِ النَّاقِدِ أَنَّهُ غَلِطَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ» (¬2)، ولذلك اضطر الحاكم إلى التفرقة بينهما، فرأى «المَعْلُولَ مَا يُوقَفُ عَلَى عِلَّتِهِ، أَنَّهُ [دَخَلَ] حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، أَوْ وَهِمَ فِيهِ رَاوٍ أَوْ أَرْسَلَهُ وَاحِدٌ، فَوَصَلَهُ وَاهِمٌ» (¬3)، فهو - على خفاء علته وغموضها - يمكن الوقوف عليه، لكن الشاذ «أَدَقُّ مِنَ المُعَلَّلِ، فَلاَ يُوقَفُ عَلَى عِلَّتِهِ، وَلاَ يُتَمَكَّنُ مِنَ الحُكْمِ بِهِ إلاَّ مَنْ مَارَسَ هَذَا الفَنَّ غَايَةَ المُمَارَسَةِ، وَكَانَ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ الفَهْمِ الثَّاقِبِ وَرُسُوخِ القَدَمِ فِي الصِّنَاعَةِ، وَرَزَقَهُ اللهُ نِهَايَةَ المَلَكَةِ» (¬4). ودقة الشاذ تنشأ غالبًا عن تعذر الحكم بفقدان الأصل المتابع له، لما يستدعيه الوقوف على ذلك من البحث والتقصي، ولعل دقة الشاذ أو صعوبته - على هذا النحو الذي بالغ فيه الحاكم - أن تكون السبب الجوهري في الاعتقاد بتفرده في تعريف الشذوذ، وابتعاده فيه عن رأي الجمهور. ولذلك ضعف ابن الصلاح رأي الحاكم، واعترض على تعريفه بحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فإنه ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 119، 120. (¬2) " التدريب ": ص 81. وقارن بـ " ألفية السيوطي ": ص 92 هامش. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 119. وقارن بما ذكرناه في المعلل. (¬4) " التوضيح ": 1/ 379. وقارن بما ذكرناه عن علل الحديث.

تفرد به عمر، وعنه علقمة، وعنه محمد بن إبراهيم التَّيْمِيِّ، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري (¬1). على أننا نبهنا إلى بعض المتابعات الغرائب التي أحصاها العلاء لهذا الحديث، واتضح لنا - من تعليقات النقاد - أن الحديث رغم المتابعات لم يصح من طريق عمر إلا الطريق المتقدمة (¬2). ولقد زعم ابن العربي أنه روى حديث النية من ثلاثة عشر طريقًا، فطعن عليه بعض أهل بلدته لما لم يبرز لهم بيان ما ادعاه من الطريق، فقال: يَا أَهْلَ حِمْصَ (¬3) وَمَنْ بِهَا أُوصِيكُمُ ... بِالبِرِّ وَالتَّقْوَى وَصِيَّةَ مُشْفِقِ فَخُذُوا عَنِ العَرَبِيِّ أَسْمَارَ الدُّجَى ... وَخُذُوا الرِّوَايَةَ عَنْ إِمَامٍ مُتَّقِ إِنَّ الفَتَى ذَرِبُ اللِّسَانِ مُهَذَّبٌ ... إِنْ لَمْ يَجِدْ خَبَرًا صَحِيحًا يَخْلَقُ (¬4) وإذا لم يسلم للحاكم حديث النية هذا مثالاً عن الشاذ، لأنه - على تفرده - صحيح، والصحيح لا يكون شَاذًّا، فما أكثر الأمثلة التي ذكرها الجمهور استشهادًا على الشاذ في تعريفه المعتمد، وهي - في الوقت نفسه - صالحة للاستشهاد على تعريف الحاكم، إذ كانت مخالفة الثقات فيها صورة من فقدان الأصول المتابعات. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، عن أبي هريرة مرفوعًا: «إِذَا ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 61. وقارن بما ذكرناه عن الآحادي حين يستفيض: ص 150. (¬2) راجع ص 59 ح 1 من كتابنا هذا. (¬3) أراد الشاعر بحمص إشبيلية لأنه يقال لها ذلك، وابن العربي من إشبيلية. (¬4) " التوضيح ": 1/ 381.

صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ». قَالَ الْبَيْهَقِيُّ (¬1): «خَالَفَ عَبْدُ الوَاحِدِ العَدَدَ الكَثِيرَ فِي هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا رَوَوْهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْفَرَدَ عَبْدُ الوَاحِدِ مِنْ بَيْنِ ثِقَاتِ أَصْحَابِ الأَعْمَشِ بِهَذَا اللَّفْظِ» (¬2). والنقاد يذكرون في هذا الباب تعريفًا لأَبِي يَعْلَى الخليلي (¬3) يحكي به رأي حفّاظ الحديث في الشاذ، فهو عندهم ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به ويرد ما شذ به غير الثقة (¬4). وكان على ابن الصلاح والعلماء أن يضعفوا هذا الرأي كما ضعفوا رأي الحاكم، ولكن بين الرأيين فرقًا واضحًا، فإذا أمكن رد تعريف الحاكم إلى رأي الجمهور، فمن المتعذر التوفيق بين ما حكاه الخليلي وما ذهب إليه الجمهور، لأن الخليلي جعل الشاذ مطلق التفرد بدون اعتبار المخالفة (¬5)، فيَ حين راعى الجمهور قيد تفرد الثقة، وقيد مخالفة الثقات. ولا يشفع للخليلي إلا أنه يحكي رأي حفاظ ¬

_ (¬1) الإمام البيهقي هو أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر، منسوب الى بيهق، وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخًا منها. وللبيهقي كتب كثيرة قيل إنها نحو الألف، وأشهرها كتاب " السنن الكبرى "، و" دلائل النبوة ". توفي البيهقي سَنَةَ 458 هـ. (" الرسالة المستطرفة ": ص 25، 26). (¬2) " التدريب ": ص 82. وهذا مثال على شاذ المتن، لأن عبد الواحد بن زياد تفرد بهذا اللفظ، بينما رواه ثقات أصحاب الأعمش من فعل النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا من قوله. (¬3) هو القاضي الحافظ الخليل بن عبد الله القزويني، المتوفى سنة 446 هـ. له " الإرشاد في علماء البلاد " ذكر فيه المحدثين وغيرهم من العلماء على ترتيب البلاد إلى زمانه. ثم رتبه على الحروف ابن قطلوبغا (- 879 هـ) (" الرسالة المستطرفة ": ص 97). (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 61. (¬5) " التدريب ": ص 81.

الحديث في الشاذ، فما هو عنده بالاصطلاح الخاص، وهو - في الحقيقة - حكى تعريف الشافعي للشاذ الذي أخذ به الجمهور (¬1) فهو في كلتا الحالتن ليس إلا ناقلاً لآراء العلماء بدقة وأمانة (¬2). على أن تعريف الشاذ - كما حكاه الخليلي - لَوْ سُلِّمَ لترتبت عليه نتائج خطيرة في مصطلح الحديث: فهذا التعريف يسمح في بعض الأحوال بوصف «الصحيح» بالشذوذ. مع أننا اشترطنا في الصحيح سلامته من كل شذوذ، كسلامته من كل علة. إلا اننا - كما رأينا فيما سَمَّاهُ الخليلي بالصحيح المعلول أنه لا يقصد به التَّقَيُّدَ بِالاِصْطِلاَحِ (¬3). - نرى هنا فيما يحكيه عن تسمية الصحيح شَاذًّا (إذا لم يكن له إلا إسناد واحد شذ به ثقة)، أنه للمرة الثانية لا يريد التقيد بالاصطلاح العام المشهور، وأنه - رغم حكايته هذا التعريف الغريب للشاذ - ما كان آخذًا إلا برأي الجمهور، يزيدنا ثقة بذلك أنه هو أيضًا حكى ذلك الرأي المشهور. فالصحيح إذن أنه لا بد في الشاذ من اشتراط التفرد والمخالفة، وبهما نُحِّيَ عن كل حديث وُسِمَ بالصحة، فعد خالصًا للضعف، ووسعنا إدراجه في الأنواع المختصة بالضعيف. أما تفرد الثقة أو غير الثقة، بغير شرط المخالفة، فإنه ضرب من التفرد المطلق الذى يوصف به الحديث «الفرد» وسنذكره ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 61. (¬2) وبهذا دافع صاحب " التوضيح ": 1/ 384 عن الخليلي. (¬3) راجع أيضًا أواخر بحث المعلل من كتابنا هذا.

التاسع - المنكر:

في القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف، فلا مسوغ لتداخله هنا مع الشاذ بوجه من الوجوه. وأما التوقف فما شذ به الثقة، وَرَدَّ ما شذ به غير الثقة، فأمران يتعلقان بالاحتجاج وعدمه، فلا أثر لهما في الحكم على حديث ما بالصحة أو بالضعف. لذلك عددنا في ألقاب الصحيح والحسن «الصالح» لصلاحيتهما للاحتجاج، فغيرهما - وهو الضعيف - ليس صالحًا ولا يحتج به، بل هو مردود. والخلاصة أن تنوع الأوصاف والألقاب لا يرادف دائمًا تنوع الأقسام والمصطلحات (¬1). التَّاسِعُ - المُنْكَرُ: أدق تعاريف المنكر هو أنه الحديث الذي يرويه الضعيف مُخَالفًا رواية الثقة. وهو يباين الشاذ، إذ أن راوي الشاذ ثقة. بينما راوي المنكر ضعيف غير ثقة. وقد لوحظ في المنكر أنه مقابل للمعروف (¬2) كما لوحظ في الشاذ أنه مقابل للمحفوظ (¬3)، لأن راوي المناكير إنما يخالف ما عُرِفَ واشتهر وإن ¬

_ (¬1) نعتذر للقارئ الكريم لاضطرارنا إلى مناقشة الآراء المختلفة في الشاذ، فقد وعدناه ألا نخوض في الجدل، ولكن لم يسعنا الإغضاء على ما يظن من تضارب التعاريف حول الشاذ، فحاولنا التوفيق بين تلك الآراء ما أمكن، لاستحالة الأخذ بأحدها دون نقاش. (¬2) لأن المنكر لغة اسم مفعول من أنكره بمعنى جحده أو لم يعرفه. ويلاحظ أن المحدثين يراعون المعنى اللغوي في مصطلحاتهم الخاصة. (¬3) وقد أشرنا إلى ذلك في بحثنا الألقاب المشتركة بين الصحيح والحسن، وراجع ص 161 بوجه خاص.

لم يحفظ، فالحفظ درجة من الضبط أبعد ما تكون عن مثل هذا الراوي الضعيف. أما راوي الشواذ فهو ثقة، وغالبًا ما يكون مع توثيقه حافظًا ضابطًا، إلا أنه خالف من هو أوثق منه ضبطًا وإتقانًا، فهو لم يخالف ما عرف واشتهر فقط بل خالف ما حفظ وأتقن أيضًا. قال ابن حجر: «وَزِيادَةُ رَاوِي الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ مَقْبُولَةٌ، مَا لَمْ تَقَعْ مَنَافِيَةً لِرِوَاِيَةِ مِنْ هُوَ أَوْثَقُ، فَإِنْ خُولِفَ بِأَرْجَحِ مِنْهُ لِمَزِيدِ ضَبْطٍ أَوْ كَثْرَةِ عَدَدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ فَالرَّاجِحُ يُقَالُ لَهُ المَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ المَرْجُوحُ يُقَالُ لَهُ الشَّاذُّ. وَإِنَّ وَقَعَتْ المُخَالَفَةُ لَهُ مَعَ الضَّعْفِ فَالرَّاجِحُ يُقَالُ لَهُ المَعْرُوفُ، وَمُقَابِلُهُ يُقَالُ لَهُ المُنَكَرُ» (¬1). لكن ابن الصلاح ذهب إلى ترادف المنكر والشاذ، إذ نقل عن البَرْدِيجِيِّ (¬2) في تعريف المنكر «أَنَّهُ هُوَ الحَديثُ الذِي يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّجُلُ، وَلاَ يُعْرَفُ مَتْنُهُ مِنْ غَيْرِ رِوَاِيَتِهِ، لاَ مِنَ الوَجْهِ الذِي رَوَاهُ مِنْهُ وَلاَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ» (¬3)، وكأنه بعبارة أوضح لا يلاحظ في المنكر إلا مطلق التفرد. وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث (¬4). والتفرد على إطلاقه منه المقبول، ومنه المردود «فَإذَا تَفَرَّدَ الرَّاوِي بِشَيْءٍ نُظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَا اِنْفَرَدَ بِهِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مِنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالحِفْظِ لِذَلِكَ وَأَضْبَطَ كَانَ مَا اِنْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مُخَالِفَةً لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا هُوَ ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 12 - 14. وقارن مرة أخرى بما ذكرناه ص 161. (¬2) هو الحافظ أبو بكر، أحمد بن هارون البرديجي، نسبة إلى برديج قرب بردعة - بإهمال الدال - بلد بأذربيجان، ويقال له البردعي أيضًا. (¬3) " التوضيح ": 2/ 4، 5. (¬4) نفسه: 2/ 6.

أَمْرٌ رَوَاهُ هُوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الرَّاوِي المُنْفَرِدِ، فَإِنْ كَانَ عَدْلاً حَافِظًا مَوْثُوقًا بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ قَبْلَ مَا اِنْفَرَدَ بِهِ وَلَمْ يُقْدَحْ الاِنْفِرَادُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ لِذَلِكَ الذِي اِنْفَرَدَ بِهِ كَانَ اِنْفِرَادُهُ خَارِمًا لَهُ مُزَحْزِحًا لَهُ عَنْ حَيِّزِ الصَّحِيحِ» (¬1). ويكاد ابن الصلاح بتفصيله أنواع التفرد المطلق يشير إلى انقسام المنكر إلى ما ينقسم إليه الشاذ. ففي كل منهما مخالفة لمن هو أرجح، وفي كل منهما مقبول ومردود، فلا بدع إذا كان كلام ابن الصلاح صريحًا في أن المنكر والشاذ بمعنى (¬2). ولكن القول بترادف الشاذ والمنكر بعيد، وقد نبه السيوطي على بعده بقوله في " ألفيته ": المُنْكَرُ الذِي رَوَى غَيْرُ الثِّقَهْ ... مُخَالِفًا، فِي نُخْبَةٍ قَدْ حَقَّقَهْ قَابَلَهُ المَعْرُوفُ، وَالذِي رَأَى ... تَرَادُفَ المُنْكَرِ وَالشَّاذِ نَأَى (¬3) وهو يقصد ابن الصلاح الذي نأى عن الأرجح وَبَعُدَ حين رأى ترادف الاصطلاحين، وهو ما قصده ابن حجر أيضًا حين قال: «وَقَدْ غَفَلَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا» (¬4). ومن أوضح أمثلة المنكر ما رواه ابن أبي حاتم (¬5) من طريق حَبيبٍ بْنِ ¬

_ (¬1) " التوضيج ": 2/ 4 هامش. (¬2) " التدريب ": ص 82. (¬3) " ألفية السيوطي في مصطلح الحديث ": ص 93، البيتان: 180، 181. (¬4) " شرح النخبة ": ص 14. (¬5) هو الحافظ ابن الحافظ، عبد الرحمن بن أبي حاتم، محمد بن إدريس بن المنذر الرازي. حافظ الري. له مسند في ألف جزء (" الرسالة المستطرفة ": ص 54).

العاشر - المتروك:

حبيب - وهو أخو حَمزَةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ المُقرئِ (¬1) - عَنْ أَبي إِسْحَاقَ عَنْ العَيْزارِ بنِ حُرَيْثٍ عَنْ ابنِ عبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَن أَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ وَحَجَّ البَيْتَ وَصَامَ وَقَرَى الضَّيْفَ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ» قالَ أَبُو حَاتِمٍ: «وَهُوَ مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الثِّقَاتِ رَوَاهُ عن أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ المَعْرُوفُ» (¬2). ومما ينبغي التيقظ له أن بعض الأئمة أطلقوا لفظ المنكر على مجرد التفرد (¬3)، فكان لا بد من أمارات على النكارة حتى لا تشتبه صورتها بصورة غيرها. وعلامة المنكر في حديث المحدث أنه إذَا عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم ولم يكذبوا فيها (¬4). وقد يذكر المحدثون في اصطلاحهم «هَذَا أَنْكَرَ مَا رَوَاهُ فُلاَنٌ»، وإن لم يكن ذلك الحديث ضعيفًا، كَقَوْلِ ابْنِ عَدِيٍّ: «أَنْكَرُ مَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأُمَّةٍ خَيْرًا قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا "». قَالَ: «وَهَذَا طَرِيقٌ حَسَنٌ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَدْخَلَهُ قَوْمٌ فِي صِحَاحِهِمْ» (¬5). العَاشِرُ - المَتْرُوكُ: المتروك في اصطلاح المحدثين هو «الحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ رَاوٍ وَاحِدٌ مُتَّهَمٌ بِالكَذِبِ فِي الحَدِيثِ أَوْ ظَاهِرَ الفِسْقِ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ كَثِيرِ الغَفْلَةِ، أَوْ ¬

_ (¬1) هو أحد القراء السبعة المشاهير، كان مولى لعكرمة بن ربيع التيمي، قرأ على الأعمش عن يحيى بن وثاب. (¬2) " شرح النخبة ": ص 14. (¬3) " التوضيح ": 2/ 6. (¬4) نفسه: 2/ 7. (¬5) " التدريب ": ص 85.

كَثِيرَ الوَهْمِ» (¬1)، كَحَدِيثِ صَدَقَةُ بْنَ مُوسَى الدَّقِيقِيِّ، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ (¬2)، وحديث عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيُّ عَنْ الحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ (¬3). • • • وهذه الأنواع العشرة التي سلكناها في عداد الضعيف الخالص للضعف، ليست على درجة واحدة من الضعف، بل تتفاوت تَبَعًا لحال رواتها، فمن الضعيف أضعف، كما أن من الصحيح أصح. وقد ساق الحاكم أبو عبد الله تفصيلاً دقيقًا لأوهى أسانيد الرجال والبلاد في كتابه " معرفة علوم الحديث " (¬4). هل الموقوف والمقطوع من الأحاديث الضعيفة؟: ---------------------------------------------- لم نسرد من أقسام الحديث الضعيف حتى الاَن - تَبَعًا لما انتهجناه في مستهل بحثنا له - إلا ما أخذ اسْمًا خَاصًّا به. وأما ما كان منها حالة من حالات الضعف من غير أن يخص باسم معين، فقد اكتفينا بمجرد الإشارة الإجمالية إليه. وجدير بنا - قبل أن ننتقل إلى (القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف) - أن نثير قضيتن إحداهما تتعلق بالموقوف والمقطوع هل يوصفان بالضعف؟ والأخرى تتصل بحكم رواية الاْحاديث الضعيفة والعمل بها. ¬

_ (¬1) " ألفية السيوطي ": ص 94 هامش. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 57. (¬3) قارن بـ " التدريب ": ص 84 بـ " شرح النخبة ": ص 14، و" معرفة علوم الحديث ": ص 56. (¬4) " معرفة علوم الحديث ": ص 56 - 58.

يُقْصَدُ بِالْمَوْقُوفِ «مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابِيِّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ فِعْلٍ، كأن يقول الراوي: قال عمر بن الخطاب كذا، أو فعل علي بن أبي طالب كذا، أو فُعِلَ كيت وكيت أمام أبي بكر فأقره ولم ينكره. فالقول أو الفعل أو التقرير الذي يفترض أن يكون صادرًا عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه، يصدر في " الموقوف " عن الصحابي. ومن هنا اتجه تفكير بعض العلماء إلى ضعف " الموقوف " (¬1) لأن للحديث المروي عن رسول الله المنتهي إليه قداسة ليست لحديث سواه ولو كان صحابيًا جليلاً. على أننا لا نجد مسوغًا لإضعاف الموقوف «إِطْلاَقًا» بهذا السبب، لأننا حين نحكم له بالصحة أو الحسن إذا توافرت فيه شروط أحدهما نعلم يقينًا أننا نصحح أو نحسن حديث الصحابي لا حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم نكذب - والحال هذه - عليه - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لا ساهين ولا متعمدين، ولم نضع في فيه ما لم يتلفظ به. ووصفنا «لِلْمَوْقُوفِ» بالصحة أو الحسن لا يعني وجوب عملنا به، وإنما نبيح لأنفسنا العمل بما ثبت منه أنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه (¬2)، لأن الصحابي في مثل ذلك لا يقول ولا يفعل ولا يقر إلا ما تحققه بنفسه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى ذلك فقول الصحابي الجليل عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬3)، وقوله لمن خرج من المسجد والمؤذن يؤذن: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ ¬

_ (¬1) ولذلك عده القاسمي في الأنواع المختصة بالضعيف. وكذلك فعل بالمقطوع. انظر " قواعد التحديث ": ص 111. وقارن بـ ص 10 من كتابنا هذا. (¬2) " شرح النخبة ": ص 26. (¬3) " التوضيح ": 1/ 262.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬1)، كلاهما حديث موقوف، وكلاهما مما يجوز لنا العمل به، وعلينا - مع ذلك - أن نتحفظ في الأحاديث الموقوفة على كعب الأحبار، وابن سلام، وابن عمرو بن العاص، لأنهم من الصحابة الذين اشتهروا برواية الإسرائيليات والأقاصيص، ولا سيما ما يتعلق منها بأشراط الساعة وفتن آخر الزمان. وأغلب الأحاديث التي تشتمل على مثل هذه الأخبار ضعيفة، إن لم نقل موضوعة، لكن ضعفها ليس ناشئًا عن وقفها، أو بعبارة أخرى لم تكن ضعيفة لأنها موقوفة، بل نشأ ضعفها عن شذوذ أو علة أو اضطراب فيها، وإلا فهي قابلة كالأحاديث المرفوعة إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن توصف بالصحة أو الحسن أو الضعف، تَبَعًا لحال أسانيدها ومتونها. وإذا قال الراوي عن الصحابي «يَرْفَعُ الحَدِيثَ» أو «يَنْمِيهِ» أو «يَبْلُغُ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع (¬2). بيد أن إطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع إطلاق غير جيد، لأن الصحابة اجتهدوا قي تفسير القرآن. واختلفوا في بعض المسائل والفروع، كما رأينا بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب (¬3). أما الحديث «المقطوع» فهو ما روي عن التابعين من قول أو فعل أو تقرير. وللإمام أبي حنيفة رأي مشهور فيه. فهو- على رغم إدراكه عددًا من الصحابة كأنس بن مالك وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - يقول ¬

_ (¬1) نفسه: 1/ 268. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 50. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 50.

قولاً صريحًا: «مَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالعَيْنِ، وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابِيِّ تَخَيَّرْنَا مِنْهُ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ التَّابِعِينَ فَهُُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ». وأوضح من قوله هذا أنه يجعل «المَقْطُوعَ» ضعيفًا لا يحتج به. ولذلك مالت مدرسة الرأي- التي هي مدرسته - إلى تفضيل العمل بالقياس الظاهر على العمل بما ورد «مَقْطُوعًا» عن التابعن. بَيْدَ أَنَّ الرأي المختار أن «المَقْطُوعَ» يوصف كذلك بالصحة أو الحسن أو الضعف - تَبَعًا لحال إسناده ومتنه - وأن تصحيحه أو تحسينه لا يعين أنه مأخوذ عن الصحابة، فضلاً عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يعين مجرد روايته عن التابعين أنفسهم، فلا يجوز أن نحتج منه إلا بما جاء عن أكابر هؤلاء التابعين كسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي ومسروق (¬1)، الذين أتيح لهم أن يعاصروا أكابر الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -. رِوَايَةُ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالعَمَلِ بِهَا: ------------------------------------ يتناقل الناس هذه العبارة «يَجُوزُ العَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ»،فيسوغون بها جميع ما يتساهلون في روايته من الأحاديث التي لم تصح عندهم، ويدخلون في الدين كثيرًا من التعاليم التي لا تستند إلى أصل ثابت معروف. وإن هذه العبارة ليست على مر العصور أكثر من صدى لعبارة أخرى مماثلة لها منسوبة إلى ثلاثة من كبار أئمة الحديث، هم أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) سبقت ترجمة ابن المسيب والشعبي، أما النخعي فهو إبراهيم بن يزيد بن قيس الكوفي، فقيه العراق. توفي سَنَةَ 96 هـ، وقال الشعبي عنه حين بلغه وفاته: «مَا تَرَكَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْهُ أَوْ أَفْقَهَ»، فَقِيلَ لَهُ: وَلاَ الحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ؟ قَالَ: وَلاَ الحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَلاَ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، وَلاَ الكُوفَةِ، وَلاَ الحِجَازِ وَلاَ الشَّامَ». وأما مسروق فهو ابن الأجدع بن مالك الكوفي، كان فقيهًا من أصحاب عبد الله بن مسعود. توفي سنة 62 هـ.

مهدي وعبد الله بن المبارك، فقد روي عن هؤلاء أنهم كانوا يقولون: «إِذَا رَوِينَا فِي الحَلاَلِ وَالحَرَامِ شَدَّدْنَا، وَإِذَا رَوِينَا فِي الفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا تَسَاهَلْنَا» (¬1). على أن عبارة هؤلاء الأئمة لم تفهم على وجهها الصحيح، فغرضهم من التشديد ليس مقابلة أحدهما بالآخر كتقابل الصحيح بالضعيف في نظرنا نحن، وإنما كانوا إذا رَوَوْا في الحلال والحرام يتشددون فلا يحتجون إلا بأعلى درجات الحديث، وهو المتفق في عصرهم على تسميته بـ «الصَّحِيحِ» فإن رَوَوْا في الفضائل ونحوها مما لا يمس الحل والحرمة لم يجدوا ضرورة للتشدد وقصر مروياتهم على الصحيح، بل جنحوا إلى قبول ما هو دونه في الدرجة وهو الحسن الذي لم تكن تسميته قد استقرت في عصرهم، وانما كان يعتبر قِسْمًا من الضعيف، في اصطلاح المتقدمين وإن كان في نظرهم أعلى درجة مما يصطلح بعدهم على وصفه بالضعيف (¬2). ولو أن الناس فهموا أن تساهل هؤلاء الاْئمة في الفضائل إنما يعني أخذهم بالحديث الحسن الذي لم يبلغ درجة الصحة، لَمَا طَوَّعَتْ لهم أنفسهم أن يتناقلوا تلك العبارة السالفة: «يَجُوزُ العَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ»، فَمِمَّا لاَ رَيْبَ فِيهِ - في نظر الدين - أن الرواية الضعيفة لا يمكن أن تكون مصدرًا لحكم شرعي ولا لفضيلة خلقية، لأن الظن لايغني من الحق شيئًا، والفضائل كالاْحكام من دعائم الدين الأساسية، ولا يجوز أن يكون بناء هذه الدعائم وَاهِيًا، على شفا جرف هار. لذلك لا نسلم برواية الضعيف في فضائل الأعمال ولو توافرت له جميع ¬

_ (¬1) قارن بـ " الكفاية ": ص 133. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 101.

الشروط التي لاحظها المتساهلون في هذا المجال. والمشهور أن تلك الشروط ثلاثة: أولاً - ألا يكون المروي شديد الضعف. ثانيًا - أن يندرج تحت أصل كلي ثبت بالكتاب أو السنة الصحيحة. ثالثًا - ألا يعارضه دليل أقوى منه. لا نسلم برواية الضعيف - رغم هذه الشروط - لأن لنا مندوحة عنه بما ثبت لدينا من الأحاديث الصحاح والحسان، وهي كثيرة جِدًّا في الأحكام الشرعية والفضائل الخلقية، ولأننا - رغم توافر هذه الشروط - لا نؤنس من أنفسنا الاعتقاد بثبوت الضعيف، ولولا ذلك لما سميناه ضعيفًا، وإنما يساورنا دائمًا الشك في أمره، ولا ينفع في الدين إلا اليقن. ومن هنا وجب علينا - حتى في دراسة الحديث وتدريسه - ضرب أمثلة على الضعيف منه أن نتحاشى عند الاستشهاد به كل عبارة تفيد الجزم والتحقيق فلا ننقل حديثًا تيقنا ضعفه قائلين: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، حتى لا نوهم السامع أو القارئ أنه صحيح أو حسن، بل نصرح بضعفه، ونشير إلى نوع الضعف من إعلال وإعضال واضطراب وشذوذ ونحو ذلك إن كنا نعلم هذا يقينًا، ونشفع قولنا بأحكام الحفاظ الذين اطلعوا على الطرق المختلفة التي ورد بها هذا الحديث مما استوجب وصفهم له بالضعف. ونحن إذا أعدنا النظر في الأمثلة المختلفة لأقسام الحديث الضعيف التي درسناها لاحظنا أن ضعفها يعود تارة إلى الإسناد، وتارة أخرى إلى المتن.

وإن هذه الملاحظة لتوجهنا إلى التزام الكثير من الحيطة في حكمنا على حديث ما بالضعف. فإطلاق الحكم بالضعف ليس من دقة المحدثين في شيء، إذ ليس لهذا الاطلاق معنى إلا ضعف الحديث المبحوث عنه إسنادًا ومتنًا في آن واحد، مع أنه يحتمل أن يكون ضعفه في الإسناد فقط، أو في المتن وحده، بل يحتمل أن يكون ضعفه في إسناد معين، بينما تكون بقية أسانيده صحيحة لا يجوز الحكم بضعفها، فعلينا إذا وجدنا حديثًا بإسناد ضعيف أن ندقق في تعبيرنا فنقول: «إِنَّهُ ضَعِيفٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ» (¬1). ونحتاط كذلك في الحديث الذي وصف بعض الحفاظ متنه بالضعف فنقول: «لَمْ يَرِدْ هَذَا المَتْنُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى صَحِيحَةً، كَمَا ذَكَرَ الحَافِظُ فُلاَنٌ فِي كِتَابِهِ كَذَا». على أن باب الاجتهاد لم يقفل في الحديث كما لم يقفل في الفقه، ويجب أن يظل بابه مفتوحًا في كل من هذين العلمين، فكل من أقبل على علم الحديث رواية ودراية وتوافرت فيه شروط الاجتهاد التى كانت تتوافر في الحفّاظ السالفين، جاز له أن يحكم إطلاقًا بضعف حديث ما إن بحث عن جميع طرقه، وغلب على ظنه أن متنه لم يرد بإسناد آخر صحيح. والناشئ في علم الحديث إذا نقل رواية لا يعلم حالها، أصحيحة ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث ": ص 99.

هي أم ضعيفة، يجب عليه أن يختار للتعبير عنها صيغة التمريض، فيقول مثلاً: «رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا»، أَوْ «بَلَغَنَا كَذَا» (¬1). ولا يجوز له أن يذكر بصيغة التمريض هذه حديثًا صحيحًا يرويه بدون إسناده، لما يوهم ذلك من ضعفه، بل يقول جازمًا: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». ¬

_ (¬1) انظر في " الباعث الحثيث ": ص 100 تعليقات العلامة أحمد شاكر.

الفصل الخامس: القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف:

الفَصْلُ الخَامِسُ: القِسْمُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ وَالضَّعِيفِ: نذكر في هذا القسم المشترك مصطلحات اتضح لنا - استقراءً وبحثًا - أنها لا تختص بنوع معين من الأنواع الرئيسية الثلاثة، بل تشملها جميعًا على سواء، فتكون ألقابًا وأوصافًا لكل من الصحيح والحسن والضعيف. وهذه المصطلحات عشرون، عرضنا لاثنين منها، وهما الموقوف والمقطوع، فَلَمْ نَرَ بأسا في اتصافهما بالصحة آو الحسن تارة، وبالضعف تارة أخرى، أما المصطلحات الثمانية عشر الباقية فهي: المرفوع والمسند والمتصل، والمؤنن والمعنعن والمعلق، والفرد والغريب، والعزيز والمشهور والمستفيض، والعالي والنازل، والتابع والشاهد والمدرج، والمسلسل، وَالمُصَحَّفُ. وسندرس بعض هذه المصطلحات زمرًا ثلاثية حيث تتقارب أو تتداخل، وبعضها الآخر زمرًا ثنائية حيث تتعاكس أو تتقابل، لتسهل المقارنة بين

أ - 1 و 2 و 3 - المرفوع والمسند والمتصل:

ألقابها وأوصافها، غير أننا سنخصص كُلاًّ من الثلاثة الأخيرة فيها ببحث مستقل، إذ لا تجاوز ولا تضارب بين المدرج، والمسلسل، والمصحف، فلكل واحد منها مفهوم واضح في نفسه، لا تزيده المقارنة بغيره شيئًا. أ - 1 و 2 و 3 - المَرْفُوعُ وَالمُسْنَدُ وَالمُتَّصِلُ: المشهور في المرفوع أنه مما أضيف إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة من قول أو فعل أو تقرير، سواء أضافه إليه صحابي أم تابعي أم مَنْ بعدهما، وسواء اتصل إسناده أم لا (¬1). وواضح من هذا التعريف أن المرفوع لا يكون متصلاً دائمًا، فقد يسقط منه الصحابي خاصة فيكون مرسلاً، أو يسقط من إسناده رجل أو يذكر فيه رجل مبهم فيكون منقطعًا، أو يسقط اثنان فأكثر فيكون مُعضَلاً، وهو في هذه الحالات الثلاث يوصف بالضعف ولو كان مرفوعًا: فليس مجرد رفع الحديث كافيًا لإطلاق الحكم بصحته، بل لا بد من تتتبع الطريق التي رُفِعَ بها ليتبين اتصاله أو انقطاعه من جهة، وَلِتُعْرَفَ دَرَجَةُ رِجَالِهِ إذا اتصل من جهة ثانية. ومن هنا أمكن دخول المرفوع في هذا القسم المشترك، فإن كان في إسناده انقطاع سمي باسم من أسماء الضعيف، تَبَعًا لنوع الانقطاع وإن اتصل إسناده صلح لأن يوصف بالصحيح والحسن، تَبَعًا لدرجة رجاله في الضبط. ومثال المرفوع من القول أن يقول الصحابي: سمعت النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 1/ 254.

كذا، أو حدثنا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكذا، أو يقول هو أو غيره: قال رسول الله كذا، أو عن رسول الله أنه قال كذا، أو نحو ذلك. ومثال المرفوع من الفعل أن يقول الصحابي: رأيت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل كذا، أو يقول هو أو غيره: كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل كذا. ومثال المرفوع من التقرير أن يقول الصحابي: فَعَلْتُ بحضرة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا، أو يقول هو أو غيره: فعل فلان بحضرة النبي كذا، ولا يذكر إنكاره لذلك (¬1). ويلاحظ أن المرفوع يُنْظَرُ فيه إلى حل المتن مع قطع النظر عن الإسناد، فكل ما أضيف إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مرفوعًا (¬2). والقول والفعل والتقرير كلها صالحة لأن تسمى «متن الحديث»، إذ لا علاقة بينها وبين الإسناد حين ينظر إليها لذاتها. أما المسند فهو - على المعتمد - ما اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه، مرفوعًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3). إلا أن الخطيب يشترط الرفع اشتراطًا أغلبيًا فيقول: «وَصْفُهُمْ لِلْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ , يُرِيدُونَ أَنَّ إِسْنَادَهُ مُتَّصِلٌ بَيْنَ رَاوِيهِ وَبَيْنَ مَنْ أَسْنَدَ عَنْهُ , إِلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذِهِ العِبَارَةَ هُوَ فِيمَا أُسْنِدَ عَنِ النَّبِيِّ ¬

_ (¬1) هذه الأمثلة الثلاثة ذكرها الحافظ ابن حجر في " شرح النخبة ": ص 26، وهي عنده من النوع الذي انتهى لفظه إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصريحًا. وهو يتبعها بأمثلة ثلاثة لما رفع إلى النبي حُكْمًا من قول أو فعل أو تقرير (27 - 28) وأكثر هذه الأمثلة يرد إلى ما ذكرناه في الموقوف فلم نجد موجبًا لإعادة القول فيه. (¬2) " التوضيح ": 1/ 259. (¬3) قارن " قواعد التحديث ": ص 104 بـ " التوضيح ": 1/ 258

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ خَاصَّةً , وَاتِّصَالُ الإِسْنَادِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاتِهِ سَمِعَهُ مِمَّنْ فَوْقَهُ , حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ , وَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِيهِ السَّمَاعُ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى العَنْعَنَةِ» (¬1). والمسند، على الأرجح، لا يرادف المرفوع وإن كان لا بد من شرط الرفع فيه: فقد رأينا إمكان الانقطاع في إسناد المرفوع، إذ يتجه النظر فيه إلى حال متنه فقط، فلا يكون كل مرفوع مُسْنَدًا. على حين يجمع المسند شَرْطَيْ الاتصال والرفع، إذُ ينظر فيه إلى الإسناد والمتن فكل مسند متصل لاتصال سنده إلى منتهاه، وكل مسند مرفوع لانتهاء متنه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (¬2). ولذلك رأى الحاكم أن المسند لا يستعمل إلا في المرفوع المتصل (¬3)، وذكر من شرائطه ألا يكون موقوفًا، ولا مرسلاً، ولا معضلاً، ولا في روايته مدلس (¬4)، وألا يكون في إسناده «أُخْبِرْتُ عَنْ فُلاَنٍ»، ولا «حُدِّثْتُ عَنْ فُلاَنٍ» ولا «بَلَغَنِي عَنْ فُلاَنٍ»، ولا «رَفَعَهُ فُلاَنٌ»، ولا «أَظُنُّهُ مَرْفُوعًا»، وغير ذلك مما يفسد به (¬5). وما أكثر الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها على المسند، كما عرفناه وفسرناه. وقد ذكر الحاكم مثلاً منها ضربه لألوف من الحديث يستدل به على جملتها فقال: «[ذَلِكَ] مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَّاكِ، بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 21. (¬2) قارن بـ " التوضيح ": 1/ 259. (¬3) " التدريب ": ص 60. (¬4) " معرفة علوم الحديث ": ص 18. (¬5) نفسه: ص 19.

اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ حَتَّى كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَتِهِ، فَقَالَ: [" يَا كَعْبُ، ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَيِ الشَّطْرَ]، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَضَاهُ» (¬1) ... فَسَمَاعُ الحَاكِمِ «مِنْ ابْنِ السَّمَّاكِ ظَاهِرٌ، [وَسَمَاعَهُ] مِنَ الحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الحَسَنِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، وَسَمَاعُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ مِنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ عَالٍ لِعُثْمَانَ، وَيُونُسَ مَعْرُوفٌ بِالزُّهْرِيِّ، وَكَذَلِكَ الزُّهْرِيُّ بِبَنِي كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَبَنُو كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِأَبِيهِمْ، وَكَعْبٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصُحْبَتِهِ» (¬2). ولابن عبد البر (¬3) رأي طريف في المسند يُسَوِّي به بينه وبين المرفوع، فهو عنده ما جاء عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة، متصلاً كان أم منقطعًا (¬4). ويمثل للمتصل منه بحديث يرويه مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وللمنقطع منه بحديث مالك عن الزهري عن ابن عباس عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5)، ويعقب ابن عبد البر على هذا الحديث الأخير بقوله: «فَهَذَا مُسْنَدٌ، لأَنَّهُ قَدْ أُسْنِدَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -» (¬6) ولكن هذا الرأي مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في ¬

_ (¬1) نفسه: ص 17، 18. (¬2) نفسه: ص 19. (¬3) هو يوسف بن عبد الله بن عبد الصمد بن عبد البر النمري القرطبي، صاحب كتاب " الاستيعاب "، و" التمهيد "، و" جامع بيان العلم وفضله ". توفي سَنَةَ 463 هـ. (" شذرات الذهب ": 3/ 314). (¬4) قارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 48. (¬5) " التدريب ": ص 60. (¬6) " التوضيح ": 1/ 258.

مقابلتهم بين المسند والمرسل، يقولون: أسنده فلان، وأرسله فلان (¬1). والحق أن المسند لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الانقطاع والإرسال وما أشبههما، بل يجمع في آن واحد الرفع والاتصال. ومن الواضح أن الاتصال كالرفع، ليس كافيًا للحكم على الحديث بالصحة (¬2)، وإنما يكون صحيحًا إذا توافرت في رجاله شروط الضبط والحفظ على النحو الذي شرحناه (¬3). وأما المتصل أو الموصول فهو ما اتصل سنده سواء أكان مرفوعًا إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم موقوفًا على الصحابي أو من دونه (¬4). غير أن الخطيب يكاد يسوي بينه وبين المسند، فلا يرى الفرق بينهما إلا في غلبة الاستعمال (¬5)، إذ يغلب على المسند أن يكون فيما أسند عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،فالرفع فيه ليس أكثر من شرط أغلبي. بيد أن هذا اصطلاح للخطيب خاص به كاصطلاحه في التسوية بين المرسل والمنقطع، فقد رأيناه لا يفرق بينهما إلا في غلبة الاستعمال أيضًا. وقد أخذنا في تعريف المسند بالرأي المعتمد الذي يلاحظ فيه اشتراط الرفع اشتراطًا حقيقيًا من كل وجه لا أغلبيًا. ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد على المتصل في حال الرفع، لأن أمثلة المرفوع تصلح له، فلا مسوغ للتكرار. وكذلك المتصل في حال الوقف تصلح له جميع ¬

_ (¬1) نفسه: 1/ 258 أيضًا. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 19. (¬3) راجع بحث (الصحيح) من هذا الكتاب. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 48. (¬5) " التوضيح ": 1/ 155.

أمثلة الموقوف. وقد ضرب له ابن الصلاح مثلاً بما يرويه مالك عن نافع عن ابن عمر (¬1). أما أقوال التابعين إذا اتصلت الأسانيد بهم فتسمى «متصلة مع التقييد» كقولهم: هذا متصل إلى سعيد بن المسيب. ولا يجوز تسميتها «متصلة مع الإطلاق» دون ذكر التابعي الذي انتهى إليه الإسناد، لأن ما ينتهي إلى التابعي يسمونه «المقطوع»، ولا ريب أن المقطوع ضد الموصول لغة وذوقًا، فكرهوا في الاصطلاح أيضًا أن يطلقوا اسم الضد على ضده (¬2). ولعلنا، بهذا الاحتراز الدقيق، نفهم جَيِّدًا قول ابن الصلاح: " «وَحَيْثُ يُطْلَقُ المُتَّصِلُ يَقَعُ عَلَى المَرْفُوعِ وَالمَوْقُوفِ» (¬3) مع أننا لاحظنا في تعريف المتصل أنه قد يكون موقوفًا على من دون الصحابي، أي مقطوعا على التابعي. • • • وخلاصة القول في هذه الزمرة الثلاثية أن المرفوع قد يكون متصلاً وغير متصل، وأن المتصل قد يكون مرفوعًا وغير مرفوع، وأن السند أعم منهما كليهما، فهو في الوقت نفسه متصل ومرفوع (¬4)، وأنها جميعًا صالحة في ذاتها لأن تكون صحيحة أو حسنة أو ضعيفة تَبَعًا لحال رواتها. ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 60. (¬2) " التوضيح ": 1/ 260 وانظر الهامش أيضًا، وقارن بـ " التدريب ": ص 60، 61. (¬3) " التوضيح ": 1/ 260. (¬4) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 104.

ب - 4 و 5 و 6 - المعنعن والمؤنن والمعلق:

ب - 4 و 5 و 6 - المُعَنْعَنُ وَالمُؤَنَّنُ وَالمُعَلَّقُ: الحديث المعنعن هو - كما يظهر من لفظه - ما يقال في سنده: «فلان عن فلان» من غير تصريح بالتحديث والسماع (¬1): وهو - على المعتمد - من قبيل الإسناد المتصل إذا توافرت فيه ثلاثة شروط: عدالة الرواة، وثبوت لقاء الراوي لمن روى عنه، والبراءة من التدليس (¬2). والمعنعن كثر في " الصحيحين "، وهو في " صحيح مسلم " أكثر، لأن مسلمًا لم يشترط ثبوت اللقاء بين الراوي ومن عنعن عنه، بل أنكر في خطبة " صحيحه " هذا الشرط مع أنه مذهب علي بن المديني والبخاري وغيرهما من أئمة المحدثين. وقد بنى مسلم رأيه على ما عليه أهل العلم قديمًا وحديثًا من أن الرواية بالعنعنة ثابتة والحجة بها لازمة، وهي محمولة أبدًا على سماع الراوي للمروي عنه إذا كانا ثقتين متعاصرين (¬3). ولم يتابع مسلمًا على رأيه أحد، بل انتقدوه فيه وأخذوه عليه، فقال ابن الصلاح: «وَفِيمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ نَظَرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ القَوْلَ الذِي رَدَّهُ مُسْلِمٌ هُوَ الذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا العِلْمِ: عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، وَالبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُمَا» (¬4). وكانت عبارة النووي في الموضوع نفسه أصرح وأوضح حيث قال: «وَهَذَا الذِي صَارَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ قَدْ أَنْكَرَهُ المُحَقِّقُونَ، وَقَالُوا: هَذَا الذِي صَارَ إِلَيْهِ ضَعِيفٌ ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 1/ 330. (¬2) انظر " شرح العراقي على علوم الحديث ": ص 67. (¬3) قارن بـ " مقدمة صحيح مسلم ": 1/ 23. (¬4) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 72 ...

وَالذِي رَدَّهُ هُوَ المُخْتَارُ الصَّحِيحُ الذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الفَنِّ ... » (¬1). وذهب بعض النقاد إلى أن الحديث المعنعن من قبيل المرسل، فلا يحتج به، وآثرت طائفة منهم الاحتجاج به رغم هذا، فقد رأوا ذلك أكثر ما يكون في مرسل الصحابي، إذا كان لا يعرف اصطلاحًا في الرواية، فتارة يقول: «سَمِعْتُ» وتارة «عَنْ رَسُولِ اللهِ» وتارة «قَالَ رَسُولُ اللهِ». لذلك استحسنوا التفصيل، فرواية الصحابي الذي لازم الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمولة على السماع بأي عبارة أديت، وإن كان من غير الملازمين احتمل الأمرين، فقد كان عمر - وهو من خواص الصحابة - يتناوب النزول لسماع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وجارٌ له، فينزل عمر يومًا ويأتي جاره بما استفاده ذلك اليوم، وينزل جاره يومًا فيأتي عمر بما استفاده في ذلك اليوم، كما صرح به البخاري في " صحيحه " (¬2). ولكن الإمام النووي يرى أن عَدَّ المعنعن من قبيل المرسل مردود بإجماع السلف (¬3). وقد اعتذروا عن كثرة المعنعن في " الصحيحين "، ولا سيما في " صحيح مسلم "، بما ورد في المستخرجات عليهما من الطرق الكثيرة التي صرح فيها بالتحديث والسماع (¬4)، ويشفع لمسلم فوق هذا كثرة طرق الحديث الواحد في " صحيحه " نفسه، وليست كلها بالمعنعنة (¬5). والقول الفصل للحافظ ابن حجر في شرح المواقع الثلاثة: أحدها أنها بمنزلة «حَدَّثَنَا» و «أَخْبَرَنَا». الثاني أنها ليست بتلك المنزلة إذا صدرت ¬

_ (¬1) " شرح صحيح مسلم " للنووي: 1/ 128. (¬2) " التوضيح ": 1/ 335. (¬3) " التوضيح ": 1/ 335. (¬4) " قواعد التحديث ": ص 104. (¬5) " شرح صحيح مسلم " للنووي: 1/ 14 .......

من مُدَلِّسٍ. والثالث أنها بمنزلة «أَخْبَرَنَا» المستعملة في الإجازة، فلا تخرج عن الاتصال، ولكنها دون السماع كما أوضحنا في صور التحمل (¬1). أما الحَدِيثُ المُؤَنَّنُ فهو الذي يقال في سنده: «حَدَّثَنَا فُلاَنٌ أَنَّ فُلاَنًا» وجعله الإمام مالك كالمعنعن، إذ سئل عن قول الراوي: «عَنْ فُلاَنٍ أَنَّهُ قَالَ كَذَا، أَوْ أَنَّ فُلاَنًا قَالَ كَذَا». فقال: «هُمَا سَوَاءٌ» (¬2). وحمله البَرْدِيجِيُّ (¬3) على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى (¬4). والحق ما سبق أن أشرنا إليه في بحث (السماع) من أن الألفاظ المختلفة التي يستعملها الراوي عبارة عن التحديث عند علماء اللسان. وإنما الخلاف فيها بين نقاد الحديث من جهة العرف والعادة (¬5). وأما الحَدِيثُ المُعَلَّقُ فهو ما حذف من مبدإ إسناده واحدٌ فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى مَنْ فوق المحذوف من رواته (¬6). وهو في " البخاري " كثير جِدًّا. مثاله: وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... » الحديث (¬7). ¬

_ (¬1) راجع هذه المواقع الثلاثة في " التوضيح ": 1/ 336. (¬2) " التوضيح ": 1/ 337. (¬3) سبقت ترجمته. (¬4) " التوضيح ": 1/ 338. (¬5) " الكفاية ": ص 288. (¬6) " قواعد التحديث ": ص 105. (¬7) " صحيح البخاري ": 3/ 64، كتاب الوكالة.

والمعلق في " صحيح البخاري " على نوعين، أحدهما ما يكون في موضع آخر من كتابه موصولاً، فهو يتصرف في إسناده بالاختصار مخافة التطويل، والآخر ما لا يكون إلا معلقًا، فهو يورده بصيغة الجزم ويستفاد منه الصحة إلى من عَلَّقَ عنه. قال النووي: «فَمَا كَانَ مِنْهُ بِصِيغَةِ الجَزْمِ كَقَالَ، وَفَعَلَ، وَأَمَرَ، وَرَوَى، [وَذَكَرَ فُلاَنٌ] (*)، فَهُوَ حُكْمٌ بِصِحَّتِهِ عَنِ المُضَافِ إِلَيْهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِيرَادُهُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّحِيحِ مُشْعِرٌ بِصِحَّةِ أَصْلِهِ إِشْعَارًا يُؤْنَسُ بِهِ وَيُرْكَنُ إِلَيْهِ» (**). وَعَلَى المُدَقِّقِ إذَا رَامَ الاِسْتِدْلاَلَ بِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي رِجَالِهِ وَحَالِ سَنَدِهِ لِيَرَى صَلاَحِيَّتَهُ لِلْحُجَّةِ وَعَدَمِهَا (¬1). ويستشعر بعض العلماء في «المُعَلَّقِ» أنه ضرب من «المُنْقَطِعِ»، الذي سقط من إسناده رجل أو ذكر فيه رجل مبهم، فقد لاحظ السيوطي أنه «وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَحَادِيثُ أُبْهِمَ بَعْضُ رِجَالِهَا» وذكر طائفة من هذه الأحاديث في بحث المنقطع (¬2)، مع أن النووي يسمي نظائرها معلقات، أو يجعل تسميتها مرددة بين الانقطاع والتعليق، فهو يقول: «قَالَ مُسْلِمٌ: وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ... » وَيَذْكُرُ الحَدِيثَ ثُمَّ يَقُولُ: «هَكَذَا وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ مُنْقَطِعًا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَاللَّيْثِ وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى مُعَلَّقًا» (¬3). وأهم ما يعنينا في هذه الزمرة الثلاثية أن الحكم عليها بالضعف الخالص ليس من الدقة في شيء، فهي قابلة لأن توصف بالصحة والحسن والضعف، تَبَعًا لحال رواتها أيضًا. ¬

_ (¬1) ذكره في " قواعد التحديث ": ص 105. (¬2) " التدريب ": ص 117، 118. (¬3) " شرح صحيح مسلم ": 4/ 63. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) أصل نص النووي كما أثبته [وَذَكَرَ فُلاَنٌ] بينما أورد الدكتور صبحي الصالح قول الشيخ محمد جمال الدين القاسمي في كتابه " قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ": [وَذَكَرَ مَعْرُوفًا]. (**) إلى هذا الحد ينتهي كلام الإمام النووي، وما بعده فهو من كلا الشيخ محمد جمال الدين القاسمي.

جـ - 7 و 8 - الفرد والغريب:

جـ - 7 و 8 - الفَرْدُ وَالغَرِيبُ: بين الفرد والغريب رابط مشترك لغة واصطلاحًا: وهو مفهوم التفرد، وقد سَوَّغَ هذا الرابط لبعض العلماء أن يحكموا بترادف الفرد والغريب، فأنشؤوا يقولون: تفرد به فلان تارة، وأغرب به فلان تارة أخرى، وهو يقصدون شيئًا واحدًا (¬1). والحق أن أكثر المحدثين على التغاير بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته: فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق الذي لم يقيد بقيد ما والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي الذي قُيِّدَ بقيد ما، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي الذي قُيِّدَ بالنسبة إلى شيء معين. وإنما يغايرون بينهما عند التسمية الاصطلاحية، فالأصل في مثل هذه التسمية عدم الترادف، أما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون بين التفرد والإغراب (¬2). والفرد المطلق لا يجوز أن يتداخل مع الشاذ، فقد رأينا، في الشاذ شرطين لا بد منهما: التفرد والمخالفة (¬3). أما الفرد فلا يلاحظ فيه إلا مطلق التفرد. ومن هنا جاء تعريفهم له بأنه «الحَدِيثُ الذِي اِنْفَرَدَ بِهِ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الطُّرُقُ إِلَيْهِ» (¬4). ويحكم له بالصحة أو الحسن أو الضعف تبعًا لحال رواته، وقد مثلوا للفرد المطلق الصحيح بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، فإن ¬

_ (¬1) قارن بـ " التوضيح ": 2/ 8 هامش. (¬2) " شرح النخبة ": ص 8. (¬3) راجع بحث الشاذ: ص 196 إلى 203. (¬4) " ألفية السيوطي ": ص 95 وانظر الهامش حول البيت 184.

هذا الحديث تفرد به عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر (¬1). والمعروف عن ابن دينار أنه ثقة ضابط متقن. والفرد النسبي (أو الغريب كما يسمى في الاصطلاح) لا يجوز أن يتداخل أيضًا مع الشاذ، فلا تشترط فيه المخالفة مع التفرد، وإنما يكون فيه ضرب من التفرد المقيد بِرَاوٍ أو براوية عن رَاوٍ معين أو بأهل بلد أو نحو ذلك، ولذلك عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ «الحَديثُ الذِي يَنْفَرِدُ بِرِوَاِيَتِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ فِي أََيِّ مَوْضِعِ وَقَّعَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ» (¬2). ويقع التفرد في الغريب في أثناء السند فيقيد بالموضع الذى وقع فيه، كأن يروي عن الصحابي أكثر من واحد ثم ينفرد بروايته عن واحد منهم شخص واحد (¬3)، بينما يقع التفرد في الحديث الفرد في أصل السند وهو طرفه الذي فيه الصحابي، وإليه يرجع ولو تعددت الطرق إليه (¬4). وحين يكون التقيد في الغريب بأهل بلد ما لا يراد من تفردهم إلا انفراد واحد منهم تَجَوُّزًا (¬5). فراوي الغريب شخص واحد على جميع الأحوال. وأنواع الغريب متكاثرة، وإنما تضبط بنسبة التفرد فيه إلى شيء معين. وأهم هذه الأنواع ثلاثة: الأول: تفرد شخص عن شخص (¬6)، كتفرد عبد الرحمن بن مهدي عن ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 8. (¬2) " شرح النخبة ": ص 6. (¬3) نفسه: ص 8. (¬4) نفسه: ص 7. (¬5) " التدريب ": ص 88. (¬6) " التوضيح ": 2/ 10. وهذا عند الحاكم هو النوع الثاني الذي سماه «أَحَادِيثُ يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، عَنْ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ». انظر " معرفة علوم الحديث ": ص 99.

الثوري عن واصل بحديث عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ»، [قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ»]، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» (¬1). وهذا النوع كثير متعارف عند المحدثين. الثاني: تفرد أهل بلد عن شخص (¬2)، كحديث ابْنِ بُرَيْدَةَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ عَلَى قَضَاءٍ بَعْدَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، يَقُولُ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ]: «القُضَاةُ ثَلاثَةٌ: فَاثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ، فَأَمَّا الاثْنَانِ: فَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ، وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الوَاحِدُ الَّذِي هُوَ فِي الجَنَّةِ، فَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ».قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ الخُرَاسَانِيُّونَ فَإِنَّ رُوَاتَهُ، عَنْ آخِرِهِمْ مَرَاوِزَةٌ (¬3). الثالث: تفرد شخص من أهل بلد عن أهل بلد آخر (¬4)، كحديث خَالِدٍ بْنِ نِزَارٍ الأَيْلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الجُمَحِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ، البَلِيغُ الذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ البَاقِرَةِ بِلِسَانِهَا». قَالَ الحَاكِمُ: " وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ أفْرَادِ المِصْرِيِّينَ، عَنِ الْمَكِّيِّينَ، فَإِنَّ خَالِدَ بْنَ نِزَارٍ عِدَادُهُ فِي المِصْرِيِّينَ، ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 100. (¬2) " التوضيح ": 2/ 10. وهو عند الحاكم النوع الأول، ويسميه «مَعْرِفَةُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَفَرَّدُ بِهَا أَهْلُ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ عَنِ الصَّحَابِيِّ». انظر " معرفة علوم الحديث ": ص 96. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 99. وراجع الطابع الإقليمي في نشأة الحديث أثناء بحث الرحلة في طلبه (ص 50) وأمثلة التفرد في رواية بعض الأمصار للحديث (ص 52). والمراوزة: أبناء مرو. (¬4) " التوضيح ": 2/ 10.

د - 9 و 10 و 11 - العزيز والمشهور والمستفيض:

وَنَافِعَ بْنَ عُمَرَ مَكِّيُّ " (¬1). وقد عَبَّرَ الحاكم عن هذا النوع الثالث بقوله: «أَحَادِيثُ لأَهْلِ المَدِينَةِ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ مَثَلاً، وَأَحَادِيثُ لأَهْلِ مَكَّةَ يَنْفَرِدُ بِهَا عَنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَثَلاً، وَأَحَادِيثُ يَنْفَرِدُ بِهَا الخُرَاسَانِيُّونَ، عَنْ أَهْلِ الحَرَمَيْنِ مَثَلاً، وَهَذَا نَوْعٌ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَفَهْمُهُ!» (¬2). كل هذه الأنواع الثلاثة - كما لاحظنا - تفرد بها شخص واحد، وكان التفرد مقيدًا في كل نوع منها بموضع من السند وقع فيه، لم يكن في أصل السند بل في أثنائه. وهذا التقييد الإضافي في الحديث الغريب هو الذي سَوَّغَ تسميته «فَرْدًا نِسْبِيًّا»، وأكثر الأمثلة التي استشهدنا بها عليه ذكرها الحاكم في النوع الخامس والعشرين من علم الحديث وهو معرفة الأفراد (¬3)، كأنه لا يرى بين الفرد والغريب فرقًا إلا في التوجيه والتعليل بين إطلاق وتقييد. د - 9 و 10 و 11 - العَزِيزُ وَالمَشْهُورُ وَالمُسْتَفِيضُ: يجمع بين هذه الأنواع الثلاثة توسطها بين مصطلحي التفرد النسبط والتواتر المعنوي، ففيها شيء من الغريب (الذي رأينا أنه هو الفرد النسبي)، لأن الغربب إذا اشترك اثنان أو ثلاثة في روايته عن الشيخ سُمِّيَ عَزِيزًا، فإن رواه عنه جماعةُ سُمِّيَ مَشْهُورًا (¬4)، وإن روته عنه الجماعة وكان في ابتدائه ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 102. (¬2) نفسه: ص 100. (¬3) نفسه: من ص 96 إلى 102. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 187.

وانتهائه سواءًُ سُمِّيَ مُسْتَفِيضًا (¬1)، وفيها ضرب من التواتر المعنوي لانتشارها بين الناس بعد أن لوحظ في روايتها التعدد، فَعُزِّزَتْ بأكثر من رَاوٍ، واستفاضت وَكُتِبَتْ لها الشهرة بتناقلها على ألسنة الجماعة. بيد أن هذه الأنواع الثلاثة ألصق بالغريب منها بالمتواتر، لأن مباحثها تتعلق بالإسناد، وليس للمتواتر صلة بالإسناد (¬2)، ثم إن تعدد الرواة فيها، على نِسَبِهِ المتفاوتة، لا يخرجها عن صفة الاَحادية ولا يبلغ بها درجة الجمع المشروط في التواتر، وهي أولاً وآخراً أسماء للغريب وألقاب حين يرقى عن التفرد بعض الشيء، وهي، لذلك، تحاكي الغريب في انقسامها مثله إلى صحيحة وحسنة وضعيفة. والناظر العجول في هذه الأنواع الثلاثة يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنها ينبغي أن تكون خالصة للصحيح، فهو يستبعد أن يكون الحديث الذي عَزَّ وَقَوِيَ بمجيئه من طريق أخرى، أو استفاض واشتهر برواية الجماعة له، بمنزلة الحديث الغريب الذي انفرد بروايته شخص واحد. وقد يبدو هذا الاستنتاج منطقيًا صحيحًا لما ألفه الناس في كل زمان ومكان من العناية بالكم والكثرة، ولكن التحقيق العلمي الدقيق يثبت أن مقياس المحدثين في تصحيح الروايات وتضعيفها ليس كَمِّيًّا فَيُعَوَّلُ على الأرقام والأعداد، ويقارن فى الجموع والأفراد: وإنما هو قيمي يُعْنَى بأوصاف الرجال المذكورين في الأسانيد، أقلة كانوا أم كثيرين. ومن هنا رأينا نُقَّادَهُمْ لا يبالون في المتواتر نفسه بتعيين عدد الجمع الراوي له، ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 5. (¬2) راجع ما فصلناه ص 150.

بل يشترطون أَنْ يُؤْمَنَ تَوَاطُؤُ هذا الجمع على الكذب في العرف والعادة (¬1). ويسرف الباحث في الظن الخاطئ أحيانًا حين يستنتج أن بعض نقاد الحديث لم يستبعدوا أن يكون لتعدد الرواة أثر في تصحيح الحديث. وفي كلام الحاكم أبي عبد الله ما يوهم أخذه بهذا المقياس العددي حين اشترط في «الصَّحِيحِ» أن يكون له راويان. وقد أوضحنا اتجاهه هذا في بحث (الصحيح) (¬2). على أن من حق الحاكم علينا أن نفسر اتجاهه تفسيرًا سليمًا. فهو إذ يشترط تعزيز الصحيح لا يحكم بتصحيح العزيز، فالصحيح عنده لا بد أن يكون عَزِيزًا ولا يحوز أن يكون فردًا ولا غريبًا، أما العزيز فلا يكون دائمًا صحيحًا، بل المشهور والمستفيض - على تعدد رواتهما واشتراط الجمع فيهما - ليسا دائمًا صحيحين، إذ يكون فيهما الحسن والضعيف، وربما الباطل والموضوع. وعبارة الحاكم في هذا الباب أصرح من أَنْ تُؤَوَّلَ، فهو يقول: «وَالمَشْهُورِ مِنَ الحَدِيثِ غَيْرِ الصَّحِيحِ، فَرُبَّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ» (¬3). ويستشهد الحاكم على ذلك بطائفة من الأحاديث منها الحسان ومنها الضعاف، ثم يقول: «فَكُلُّ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَشْهُورَةٌ بِأَسَانِيدِهَا وَطُرُقِهَا وَأَبْوَابٍ يَجْمَعُهَا أَصْحَابُ الحَدِيثِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا تُجْمَعُ طُرُقُهُ فِي جُزْءٍ أَوْ جُزْئَيْنِ، وَلَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ». ولقد اطلع السيوطي على هذه الأحاديث التي استشهد بها الحاكم، فدقق النظر فيها وأحسن التمييز بينها، وَسَمَّى كُلاًّ منها باسمه الاصطلاحي اللائق به ¬

_ (¬1) قارن بما ذكرناه ص 149. (¬2) راجع ص 152. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 92.

وزاد عليها الكثير في كتاب رتبه على حروف المعجم مستدركًا به على الإمام الزركشي ما فاته في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " (¬1). وفي " التدريب " عدد من هذه الشواهد يمثل بها السيوطي للمشهور في جميع أحواله، صحيحًا وحسنًا وضعيفًا وباطلاً. فمثال المشهور وهو صحيح حديث: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬2). ومثال المشهور وهو حسن حديث «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». فقد قال المِزِّي (¬3) «إِنَّ لَهُ طُرُقًا يَرْتَقِي بِهَا إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ» (¬4). ومثال المشهور وهو ضعيف: «جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» (¬5). وأمثلة المشهور وهو باطل لا تعد ولا تحصى، وهي بين مرفوعات وموقوفات ومقطوعات، وأكثر ما تشيع على ألسنة العامة. ومنها: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»، «يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ»، «كُنْتُ كَنْزًا لاَ أُعْرَفُ»، ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 188. (¬2) قارن " التدريب ": ص 188 بـ " معرفة علوم الحديث ": ص 92. (¬3) هو يوسف بن عبد الرحمن، وأبو الحجاج، المعروف بِالمِزِّي (بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة) نسبة إلى المزة قرية بدمشق، تُوُفِّيَ سَنَةَ 742 هـ بدار الحديث الأشرفين بدمشق (" الرسالة المستطرفة ": ص 126). (¬4) " التدريب ": ص 189، وقد ذكره الحاكم في " معرفة علوم الحديث " مكتفيًا بقوله: «لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ». (¬5) " التدريب ": ص 189.

«البَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ» (¬1). واشتهار الحديث أمر نسبي (¬2)، فقد يكون مشهورًا بين أهل الحديث خاصة، وقد يكون مشهورًا بينهم وبين غيرهم من العلماء والعامة. ومن هنا قيل: إن حديث «أَبْغَضُ الحَلاَلِ إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ» مشهور عند الفقهاء، وحديث «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مشهور عند الأصوليين، وحديث «نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» مشهور عند النحاة، وحديث «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» مشهور عند العامة. أما حديث «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» فمشهور عند أهل الحديث والعلماء والعوام في آن واحد (¬3). لكن المشهور الاصطلاحي الذي يعرفه نقاد الحديث لا يراد به ما اشتهر على ألسنة الناس من العلماء والعامة، بل الحديث الذي روته الجماعة ثلاثة أو أكثر (¬4)، وأمثلته، على كثرتها، لا يقف عليها غير أهل الحديث والمجتهدين في جمعه ومعرفته (¬5)، ومن أوضحها حديث أنس «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ» أخرجه الشيخان من رواية سلمان التيمي عن أبي مَجْلِزٍ عن أنس (¬6). قال الحاكم مُوَضِّحًا ¬

_ (¬1) وقد صرح السيوطي بوضعها فقال: «وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ لاَ أَصْلَ لَهَا». " التدريب ": ص 189. (¬2) " اختصار علوم الحديث ": ص 185. (¬3) راجع هذا كله مع تفصيلات أخرى في " التدريب ": ص 189. وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 408. (¬4) " التوضيح ": 2/ 409. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 94. (¬6) " التدريب ": ص 189.

أسباب وصف هذا الحديث بالشهرة: «هَذَا حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَهُ رُوَاةٌ عَنْ أَنَسٍ غَيْرَ أَبِي مِجْلَزٍ، وَرُوَاهُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ غَيْرِ التَّيْمِيِّ، وَرُوَاهُ عَنِ التَّيْمِيِّ غَيْرِ الأَنْصَارِيِّ، وَلا يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّ الغَيْرَ إِذَا تَأَمَّلَهُ، يَقُولُ: سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ هُوَ صَاحِبُ أَنَسٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَلا يُعْلَمُ أَنَّ الحَدِيثَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَلَهُ عَنْ قَتَادَةَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَلا يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي ذِكْرِ العُرَنِيِّينَ يُجْمَعُ وَيُذَاكَرُ بِطُرُقِهِ» (¬1). وأكثر أمثلة المشهور تصلح للمستفيض، فهما مترادفان على رأي جماعة من أئمة الفقهاء، لكن الأصح التفرقة بينهما، بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه سَوَاءٌ، والمشهور أعم من ذلك (¬2)، ومنهم من غاير بينهما على كيفية أخرى، فلاحظ أن الجماعة التي تروي المشهور ثلاثة أو أكثر، فطرقه محصورة بأكثر من اثنين، بينما يخصص المستفيض بالأكثر من الثلاثة، فلا يمكن أن تقل طرقه عن ثلاثة (¬3). وقد سُمِّيَ بذلك لانتشاره: من فاض الماء يفيض فيضًا، إذا فاض من جوانب الإناء (¬4). ولم يُثِرْ العلماء شبهة حول المشهور ولا المستفيض، فأمثلتهما كثيرة متضافرة، وإنما أثاروا الشبهات حول العزيز، فقد زعم ابْنُ حِبَّانَ البُسْتِيُّ (¬5) أن لا وجود أصلاً للحديث العزيز، لاعتقاده أن العزيز ما يرويه اثنان عن اثنين إلى أن ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 93، 94. (¬2) " شرح النخبة ": ص 5. (¬3) " التوضيح ": 2/ 402، 403 هامش. (¬4) " التدريب ": ص 188، و" التوضيح ": 2/ 407. (¬5) سبقت ترجمته.

ينتهي إسناده (¬1)، وكانه يرى أن تسميته بالعزيز لعزة وجوده وتعذره، لا لقلة وجوده وندرته، وقد رَدَّ رأيه شيخ الإسلام ابن حجر قائلاً: «إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين لا توجد أصلاً فيمكن أن يسلم، وأما صورة العزيز التي حررناها فموجودة: بألا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين، مثاله ما رواه الشيخان من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة، أن " رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» الحديث، ورواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة» (¬2). ومن الصور النادرة في المصطلح أن يجمع الحديث بين وصفي العزة والشهرة، فَيُسَمَّى عَزِيزًا مَشْهُورًا، وذلك إذا اتضح أنه عزيز في بعض طبقاته برواية اثنين، ومشهور في التي قبلها أو بعدها بروايته عن الأكثر، وَمَثَّلَ له الحافظ العلائي (¬3) بحديث: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وقال: هو عزيز عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رواه عنه حذيفة بن اليمان وأبو هريرة، ورواه عن أبي هريرة سبعة: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حازم، وطاووس، والأعرج، وهمام، وأبو صالح، وعبد الرحمن مولى أم برثن (¬4). ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 405 هامش. (¬2) " نزهة النظر ": ص 8. ونقلها في " التدريب ": ص 191. (¬3) سبقت ترجمته. (¬4) " التدريب ": ص 193.

هـ - 12 و 13 - العالي والنازل:

هـ - 12 و 13 - العَالِي وَالنَّازِلُ: مضى الورعون من العلماء يرجحون الأخذ ممن عَلاَ إسناده وقرب من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتقدين أن «قُرْبَ الإِسْنَادِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ» (¬1). ولم يكن الإسناد القريب إلى النبي يتيسر لهم دائمًا، فكانوا يلجؤون إلى أقرب الأسانيد من الصحابة والتابعين والعلماء الأعلام: فنشأت بذلك صورتان من الإسناد العالي، إحداهما مطلقة والأخرى نسبية. فالاسناد العالي المطلق هو ما قرب رجال سنده من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبب قلة عددهم إذا قيسوا بسند آخر يرد في ذلك الحديث نفسه بعدد كثير (¬2). وهذا النوع من العلو هو أجل الأسانيد شريطة أن يكون بإسناد صحيح نظيف، فلا التفات إليه إذا كان مع ضعف، ولا سيما إن كان فيه بعض الكذابين المتأخرين ممن ادعى سماعًا من الصحابة كَابْنِ هُدْبَةَ ودينار وخراشة ونعيم بن سالم وأبي الدنيا الأشج. ولذلك قال الحافظ الذهبي: «مَتَى رَأَيْتَ المُحَدِّثِ يَفْرَحُ بِعَوَالِي هَؤُلاَءِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامِّيٌّ بَعْدُ» (¬3). أما الإسناد العالي النسبي فهو ما قرب رجال سنده من إمام من أئمة الحديث، كالأعمش، وابن جريج، ومالك، وشعبة، وغيرهم، مع صحة الإسناد إليه، أو قربوا من كتاب من الكتب المعتمدة المشهورة، ك " الكتب الستة "، و" الموطأْ "، ¬

_ (¬1) " الجامع ": 1/ 12 وجه 2. (¬2) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 108. (¬3) " التدريب ": ص 184.

ونحو ذلك (¬1). وإنما سمي «نِسْبِيًّا»، لأن العلو فيه إضافي لا حقيقي. وللإسناد العالي النسبي صور كثيرة، أشهرها أن تاتي لحديث رواه " البخاري " مثلاً، فترويه باسنادك إلى شيخ البخاري، أو شيخ شيخه، وهكذا، ويكون رجال إسنادك في الحديث أقل عددًا مما لو رويته من طريق البخاري (¬2). وقد جعل ابن حجر الإسناد العالي النسبي على أربعة أنواع: الموافقة، والبدل، والمساواة، والمصافحة. فالموافقة هي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه. مثاله أن يروي البخاري عن قتيبة عن مالك حديثًا، فترويه بإسناد آخر عن قتيبة، بعدد أقل مما لو رويته من طريق البخاري عنه (¬3). والبدل هو الوصول إلى شيخ شيخه من غير طريقه أيضًا. ومثاله أن يقع لك الإسناد السابق بعينه من طريق أخرى إلى القعنبي عن مالك، فيكون القعنبي بدلاً فيه من قتيبة (¬4). والمساواة هي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين، ومثاله - كما قال ابن حجر - أن يروي النسائي مثلاً حديثًا يقع بينه وبين النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه أحد عشر نفسًا، فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بإسناد آخر إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بيننا فيه وبين النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدعشر نفسًا فنساوي ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 185. (¬2) قارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 182. (¬3) " شرح النخبة ": ص 21. (¬4) قارن " شرح النخبة ": ص 31 بـ " التدريب ": ص 185.

النسائي من حيث العدد مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص (¬1). وقال ابن الصلاح: «أَمَّا المُسَاوَاةُ: فَهِيَ فِي أَعْصَارِنَا أَنْ يَقِلَّ العَدَدُ فِي إِسْنَادِكَ لاَ إِلَى شَيْخِ مُسْلِمٍ وَأَمْثَالِهِ، وَلاَ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، بَلْ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، كَالصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ قَارَبَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ يَقَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ مَثَلاً مِنَ العَدَدِ مِثْلُ مَا وَقَعَ مِنَ العَدَدِ بَيْنَ مُسْلِمٍ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ مُسَاوِيًا لِمُسْلِمٍ مَثَلاً فِي قُرْبِ الإِسْنَادِ وَعَدَدِ رِجَالِهِ» (¬2). والمصافحة هي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف، وسميت مصافحة لأن العادة جرت في الغالب بالمصافحة بين من تلاقيا (¬3).وإن وقعت المساواة لشيخك كانت لك مصافحة، كأنك صافحت المصنف وأخذت عنه، وإن وقعت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك، وإن وقعت لشيخ شيخ شيخك فالمصافحة لشيخ شيخك (¬4). ونسبة العلو في كل من المساواة والمصافحة لا تحتاج إلى إيضاح، فهذان النوعان عاليان بالنسبة لنزول مؤلف الكتاب في إسناده. ولذلك يتعذر وجود هذين النوعين في زماننا، القرن الرابع عشر الهجري، وفيما يقاربه من القرون الماضية، لأن الإسناد بعيد جِدًّا بالنسبة إلينا. ولقد أراد ابن الصلاح أن ينفي عن المساواة والمصافحة حقيقة العلو، فحكم عليهما حُكْمًا وَاحِدًا، ونظر إليهما بمنظار واحد، ثم جزم بأن «هَذَا النَّوْعَ مِنَ العُلُوِّ عُلُوٌّ تَابِعٌ لِنُزُولٍ، إِذْ لَوْلاَ ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 32. (¬2) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 219. (¬3) " شرح النخبة ": ص 32. (¬4) " التدريب ": ص 186.

نُزُولُ ذَلِكَ الإِمَامِ فِي إِسْنَادِهِ لَمْ تَعْلُ أَنْتَ فِي إِسْنَادِكَ» (¬1). ومن صور العلو النسبي تقدم وفاة الراوي عمن روى عنه وإن تَسَاوَيَا في العدد. فمن سمع " مسند أحمد " على الحلاوي عن أبي العباس الحلبي عن النجيب أعلى نسبيًا ممن سمعه على الجمال الكتاني عن القرضي عن زينب بنت مكي، لتقدم وفاة الثلاثة الأولين على الثلاثة الآخرين (¬2) فهم أقرب إلى أحمد و" مسنده ". ومن العلو النسبي تقدم السماع (¬3): فمن سمع من الشيخ قديمًا كان أعلى ممن سمع منه أخيرًا، كأن يسمع شخصان من شيخ واحد، أحدهما سمع منه منذ ستين سنة مثلاً، والآخر منذ أربعين، فالأول أعلى من الثاني (¬4). وولوع المتأخرين من المحدثين بالإسناد العالي مطلقًا ونسبيًا، غلب على الكثيرين منهم حتى صرفهم عن الاشتغال بما هو أهم منه، فتباهوا به مثلما تباهوا بطلب الغرائب والمناكير، كما أوضحنا في فصل (الرحلة في طلب الحديث)، وفصل (شروط الراوى)، «وَإِنَّمَا كانَ العلوُّ مَرْغُوبًا فِيهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصِحَّةِ وَقِلَّةِ الخَطَأِ؛ لأنَّهُ مَا مِنْ رَاوٍ مِنْ رِجَالِ الإِسْنَادِ إِلاَّ وَالخَطَأُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، فَكُلَّمَا كَثُرَتْ الوَسَائِطُ وَطَالَ السَّنَدُ كَثُرَتْ مَظَانُّ التَّجْوِيزِ، وَكُلَّمَا قَلَّتْ قَلَّتْ» (¬5). ومن هنا شاع على ألسنة المحدثين أن النازل مفضول (¬6). قال السيوطي في ألفيته: ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 220. (¬2) " التدريب ": ص 186. (¬3) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 220. (¬4) " الباعث الحثيث ": ص 184 وقارن بـ " التدريب ": ص 187. (¬5) " شرح النخبة ": ص 31. (¬6) " اختصار علوم الحديث ": ص 184.

وَطَلَبُ العُلُوِّ سُنَّةٌ وَمَنْ ... يُفَضِّلُِ النُّزُولَ عَنْهُ مَا فَطَنْ (¬1) وغني عن البيان أن النازل هو ما قابل العالي، وأن تفصيل أقسامه يدرك من تفصيل أنواع العالي التي سبقت الإشارة إليها (¬2). على أن تفضيل العالي على النازل لا ينبغي أن يبقى على إطلاقه، فَرُبَّ إسناد نازل أفضل من عال إذا تميز بفائدة، كما إذا كان رجاله أوثق أو أحفظ أو أفقه أو كانت صورة تحمله أقرب إلى السماع (¬3). قال وكيع (¬4) لأصحابه: «" أَيُّمَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ: الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَاِئِلٍ عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ؟ " فَقَالُوا: " الأَوَّلُ ". فَقَالَ: " الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَيْخٌ عَنْ شَيْخِ، وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ، وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ "» (¬5). وقد استنتج الحافظ السَّلَفِيُّ (¬6) من هذا أن «الأَصْلَ الأَخْذُ عَنِ العُلَمَاءِ، فَنُزُولُهُمْ أَوْلَى مِنَ العُلُوِّ عَنِ الجَهَلَةِ عَلَى مَذْهَبِ المُحَقِّقِينَ مِنَ النَّقَلَةِ، وَالنَّازِلُ حِينَئِذٍ هُوَ العَالِي فِي المَعْنَى عِنْدَ النَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ!» (¬7). ¬

_ (¬1) " ألفية السيوطي ": ص 260،البيت 604. (¬2) " علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 222. (¬3) " التدريب ": ص 188. وقارن بما ذكرناه (ص 136) عن تفضيل النزول عن الثقات على العلو عن غير الثقات. (¬4) وهو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، ويكنى أبا سفيان الرؤاسي الكوفي، من قيس عيلان. ولد سَنَةَ 128 هـ وتوفي سَنَةَ 198 هـ. وفيه يقول أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: «الثَّبْتُ عِنْدَنَا فِي العِرَاقِ وَكِيعٌ» (" تاريخ بغداد ": 13/ 466 - 481). (¬5) " اختصار علوم الحديث ": ص 185. (¬6) سبقت ترجمته. (¬7) " التدريب ": ص 188.

و - 14 و 15 - المتابع والشاهد:

و - 14 و 15 - المُتَابِعُ وَالشَّاهِدُ: لا يرى بعض المحدثين بأسًا في إطلاق المتابع على الشاهد، والشاهد على المتابع (¬1)، ففي كل منهما ضرب من تعزيز الفرد النسبي «الغريب». وذلك لا يعني ترادف الاصطلاحين، فإن بينهما فَرْقًا دَقِيقًا تتباين آراء العلماء في تحديده. وقد بدا لنا - من خلال الأقوال والأمثلة المحفوظة في هذا الباب - أن الشاهد أعم من المتابع، فهو يشهد للمعنى تارة وللفظ والمعنى كليهما تارة أخرى، على حين تختص المتابعة باللفظ ولا تتعداه إلى المعنى (¬2). ويمكننا الآن - في ضوء هذا التمايز الأساسي - أَنْ نُعَرِّفَ المتابع بأنه ما وافق رَاوِيَهُ رَاوٍ آخَرَ، ممن يصلح أن يُخَرَّجَ حديثه، فرواه عن شيخه أو من فوقه بلفظ مقارب (¬3)، وَنُعَرِّفَ الشَّاهِدَ بأنه ما وافق رَاوٍ رَاوِيَهُ عن صحابي آخر بمتن يشبهه في اللفظ والمعنى جميعًا، أو في المعنى ففط (¬4). والمتابع على قسمن: تام وقاصر، والشاهد على نوعين: لفظي ومعنوي. فالمتابع التام ما جاءت المتابعة فيه للراوي نفسه، ومثاله ما رواه الشافعي في " الأم " عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاَثِينَ»، فهذا الحديث بهذا اللفظ ظن ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 15، وعنه في " التدريب ": ص 85. (¬2) " التدريب ": ص 85. (¬3) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 109. (¬4) " شرح النخبة ": ص 15.

قوم أن الشافعي تفرد به عن مالك فَعَدُّوهُ في غرائبه، لأن أصحاب مالك رَوَوْهُ بهذا الإسناد بلفظ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، لكن العلماء وجدوا للشافعي مُتَابِعًا وهو عبد الله بن مسلمة القعنبي (*). كذلك أخرجه البخاري عنه عن مالك (¬1). والمتابع القاصر، ما كانت المتابعة فيه لشيخ الراوي فمن فوقه. ومثاله في الحديث الذي تقدم ما ورد في " صحيح ابن خزيمة " من رواية عاصم بن محمد عن أبيه محمد بن زيد عن جده عبد اللَه بن عمر بلفظ: «فكَمِّلوا ثلاثينَ»، وفي " صحيح مسلم " من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ «فَاقْدِرُوا ثَلاَثِينَ» (¬2). والشاهد اللفظي هو الذي يُعَزِّزُ معنى الحديث لفظًا. ومثاله في الحديث الذي قدمناه ما رواه النسائي من رواية محمد بن حنين عن ابن عباس عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر سواء (¬3). والشاهد المعنوى هو الذي يُعَزِّزُ معنى الحديث لا لفظه، ومثاله في الحديث السابق نفسه ما رواه " البخاري " من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: «فَإِنْ غُمَّ (**) عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» (¬4). وهكذا صلح حديث «رُؤْيَةُ الهِلاَلِ» مثالاً للمتابعة التامة، والمتابعة الناقصة، والشاهد باللفظ، والشاهد بالمعنى (¬5). ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 14. (¬2) قارن " التوضيح ": 2/ 14 بـ " شرح النخبة ": ص 14. (¬3) " التدريب ": ص 86. (¬4) " شرح النخبة ": ص 15. (¬5) " التوضيح ": 2/ 15. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " الموطأ " للإمام مالك برواية القعنبي، تحقيق الدكتور عبد المجيد التركي: (6) كِتَابُ الصِّيَامِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي الهِلاَلِ لِلْفِطْرِ وَالصِّيَامِ، حديث رقم 471، ص 319، الطبعة الأولى، نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان. (**) في رواية البخاري «فَإِنْ (غُبِّيَ) عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ»، انظر " الجامع الصحيح " للإمام البخاري: (30) كِتَابُ الصَّوْمِ (11) بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»، حديث رقم 1909 (" فتح الباري " 4/ 119، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة سَنَةَ 1379 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت).

ومن المألوف في كتب مصطلح الحديث أن يذكر الاعتبار إلى جانب المتابع والشاهد، فيظن القارئ العادي أنها أنواع ثلاثة. والحق أن الاعتبار ليس أكثر من وسيلة لمعرفة المتابع والشاهد. قال السيوطي في ألفيته: الاِعْتِبَارُ سَبْرُ مَا يَرْوِيهِ ... هَلْ شَارَكَ الرَّاوِي سِوَاهُ فِيهِ (¬1). وقال ابن حجر: «وَاعْلمْ أَنَّ تَتَبُّعَ الطُّرُقِ مِنَ الجَوَامِعِ وَالمَسَانِيدِ وَالأَجْزَاءِ لِذَلِكَ الحَدِيثِ الذِي يُظَنُّ أَنَّهُ فَرْدٌ لِيُعْلَمَ هَلْ لهُ مُتَابِعٌ أَمْ لاَ هُوَ الاِعْتِبَارُ، وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلاَحِ: (مَعْرِفَةُ الاِعْتِبَارِ وَالمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ) قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الاِعْتِبَارَ قََسِيمٌ لَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ هَيْئَةُ التَوَصُّلِ إِلَيْهِمَا» (¬2). ونقاد الحديث لا يتشددون في الشواهد والمتابعات تشددهم في الأصول، فيغتفرون فيها من الرواية عن الضعيف القريب الضعف ما لا يغتفرون في الأصول، وربما وقع في " الصحيحين " شيء من ذلك. ولهذا يقول الدارقطني وأمثاله من النقاد في بعض الضعفاء: «هَذَا يَصْلُحُ لِلاِعْتِبَارِ» و «هَذَا لاَ يَصْلُحُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ» (¬3). ومتى وُصِفَ الضعيف بأنه «مَتْرُوكَ الحَدِيثِ» فهو لا يصلح للاعتبار. مثاله حديث «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا»، فقد رواه الترمذي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ بِهَذَا الإِسْنَادِ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ». فأوضح السيوطي عبارة ¬

_ (¬1) " ألفية السيوطي ": ص 104، البيت 204. (¬2) " نزهة النظر ": ص 23، وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 11، 12. (¬3) " اختصار علوم الحديث ": ص 64.

16 - المدرج:

الترمذي هذه بقوله: «أَيْ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ، وَإِلاَّ فَقَدَ رَوَاهُ الحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ. وَالحَسَنُ مَتْرُوكُ الحَدِيثِ، لاَ يَصْلُحُ لِلْمُتَابَعَاتِ» (¬1). ومن أراد تتبع الطرق التي تصلح للشواهد والمتابعات فعليه بالجوامع والمسانيد والأجزاء. وقد أوضحنا المراد منها ص 122 وما بعدها. 16 - المُدْرَجُ: المدرج هو الحديث الذي اطلع في متنه أو إسناده على زيادة ليست منه (¬2). ومورد تسميته واضح، فهو من أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه (¬3). ورواة الصحاح والحسان والمسانيد ينبهون غالبًا على كل زيادة في أحاديثهم مهما تكن هينة يسيرة، بالنص على أصحابها، سواء أوقعت تلك الزيادة في المتن أو الإسناد، ذلك بأنهم يخافون إن لم ينصوا على العبارة المدرجة وعلى مدرجيها أن يأتي من ينقلها عن لسانهم غير ملاحظ إدراجها، فيساعدون بذلك - من غير قصد - على الكذب على رسول الله أو على من أدى أحاديث هذا الرسول الكريم. ولا ريب أن تعمد الإدراج ضرب من الكذب والتدليس لا يقدم عليه إلا ضعيف الإيمان مزعزع العقيدة. قَالَ السَّمْعَانِيِّ: «مَنْ تَعَمَّدَ الإِدْرَاجَ فَهُوَ سَاقِطُ العَدَالَةِ، وَمِمَّنْ يُحَرِّفُ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالكَذَّابِينَ» (¬4). ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث ": ص 64 نقلاًَ عن " التدريب ": ص 85. (¬2) قارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 80. (¬3) " التوضيح ": 2/ 50 هامش. (¬4) " التدريب ": ص 98.

والإدراج في المتن أكثر ما يكون في آخر الحديث، يتطوع بإدخاله بعض الرواة بعبارة منهم يقصدون بها الايضاح والتفسير. وقد يوجد هذا الإدراج في أول الحديث أو وسطه، ووقوعه أوله أكثر من وسطه (¬1). فمن الإدراج في الوسط ما رواه النسائي من حديث فضالة مرفوعًا «أَنَا زَعِيمٌ، - وَالزَّعِيمُ الحَمِيلُ - لِمَنْ آمَنَ بِي، وَأَسْلَمَ ... وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ» (¬2). فعبارة «وَالزَّعِيمُ الحَمِيلُ» لم تكن في أصل الحديث من كلام رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هي مدرجة أدخلها ابن وهب - أحد رواة الحديث - تفسيرًا للفظ «زَعِيمٍ» الذي ظنه غير واضح في السياق. ومن الإدراج في أول الحديث ما رواه الخطيب من طريق أبي قطن وشبابة عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْبِغُوا الوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» فعبارة «أَسْبِغُوا الوُضُوءَ» في أول الحديث ليست من كلام الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لم يزد على أن قال «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ولكن أبا هريرة أدرج العبارة السابقة، فوهم أبو قطن وشبابة في روايتهما لها عن شعبة، وظناها من قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا من قول أبي هريرة (¬3). ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 53 هامش. (¬2) " التدريب ": ص 97. (¬3) عرفنا وقوع الإدراج في هذا الحديث من الروايات الكثيرة الأخرى الخالية من عبارة «أَسْبِغُوا الوُضُوءَ»، وأجدر تلك الروايات بالعناية والاهتمام بها ما جاء في " صحيح البخاري " عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: «أَسْبِغُوا الوُضُوءَ» فَإِنَّ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (*). وقد ذكر السيوطي في " التدريب ": ص 96 نقلاً عن الخطيب أن الحديث بروايته الأخيرة «قَدْ رَوَاهُ الجَمُّ الْغَفِيرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَرِوَايَةِ آدَمَ». ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) انظر " الجامع الصحيح " للإمام البخاري: (4) كِتَابُ الوُضُوءِ (29) بَابُ غَسْلِ الأَعْقَابِ، حديث رقم 165 (" فتح الباري ": 1/ 267، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة سَنَةَ 1379 هـ، نشر دار المعرفة - بيروت).

ومن الإدراج في آخر الحديث ما في " الصحيح " عن أبي هريرة مرفوعًا: «لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ أَجْرَانِ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ الجِهَادُ وَالحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ» (¬1) فرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتفى بقوله: «لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ أَجْرَانِ» غير أن أبا هريرة تكفل بإيضاح هذين الأجرين بقسمه بتمني الرق، ومثل هذه الأمنية يستحيل أن تساور قلب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي جاء بتعاليمه يدعو إلى تحرير الرقيق، فضلاً عن أن أمه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - توفيت وهو صغير، فلا يمكن قطعًا أن تكون العبارة من قوله - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - (¬2). أما مدرج الإسناد فمرجعه في الحقيقة إلى المتن (¬3) وأهم صوره اثنتان (¬4)، الأولى: أن يجمع راو على إسناد واحد حديثًا ذا أسانيد مختلفة، من غير أن يومئ إلى اختلاف تلك الأسانيد في الأصل (¬5). مثاله: ما رواه الترمذى من طريق ابن مهدي عن الثوري عن واصل الأحدب ومنصور والأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟» الحديث، فإن واصلاً لا يذكر في روايته «عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ» إنما يروي عن أبي وائل عن ابن مسعود مباشرة، فذكر [عمرو] بن شرحبيل إدراج على رواية منصور والأعمش، يتضح ذلك من رواية يحيى القطان ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 96. (¬2) " التوضيح ": 2/ 62. (¬3) " الباعث الحثيث ": ص 82. (¬4) ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في " شرح النخبة ": ص 21، 22 أربع صور لمدرج الإسناد، فتراجع في مواضعها. (¬5) قارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 82.

عن الثوري هذا الحديث بإسنادين إلى واصل ليس فيهما الإدراج المذكور، أحدهما عن منصور والثانى عن الأعمش، ورواية القطان أخرجها " البخاري " (¬1). فالإسناد قد تعدد، ولم يشر الراوي إلى تعدده، فأوهم بذلك أن واصلاً روى عن عمرو بن شرحبيل، المذكور صراحة في كل من الإسنادين الآخرين عن منصور والأعمش (¬2). والصورة الثانية أن يكون الحديث عند أحد الرواة بإسناد، ولديه حديث آخر بغير ذلك الإسناد، فيأتي رَاوٍ ويروي عنه أحد الحديثين بإسناده، ويدرج فيه الحديث الآخر من غير بيان. مثاله: حديث سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس مرفوعًا: «لاَ تَبَاغَضُوا، ولاَ تَحَاسَدُوا، ولاَ تَدَابَرُوا، ولاَ تَنَافَسُوا» الحديث. فابن أبي مريم أدرج في هذا الحديث عبارة ليست منه، وإنما هي من حديث آخر له إسناد آخر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا، وهذه العبارة هي «ولاَ تَنَافَسُوا» المعروفة في السند الآخر، كما في " الصحيحين " و" الموطأ " (¬3). ودواعي الإدراج كثيرة، منها تفسير بعض الألفاظ الغريبة في الحديث النبوي، ومنها تبيان حكم شرعي يمهد له الراوي بقول النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكون ذلك من الإدراج في أول المتن، ومنها استنباط حكم من حديث النبي، وذلك ¬

_ (¬1) راجع في (" التدريب ": ص 98) تفصيل نوع الإدراج في هذه الرواية. (¬2) قارن بـ "الباعث الحثيث ": ص 83. (¬3) " التوضيح ": 2/ 65. و"حاشية لقط الدرر ": ص 79.

يكون من الإدراج في وسط المتن أو في آخره (¬1). وهذه جميعًا من الدواعي التي لا يعجزنا تسويغها للراوي ولو وقعت منه على عمد. ولذلك كان الزهري وغيره من الأئمة لا يرون بأسًا بالإدراج لتفسير الغريب ونحوه مما ذكرناه (¬2). أما تعمد الإدراج، لغير هذه الدواعي، فهو حرام بإجماع أهل الحديث والفقه. ومن الواضح أن المدرج الذى أدخلناه هنا في القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف هو الذي لا يحاكي أي صورة من صور التدليس، ولا يكون صحيحًا أو حسنًا منه إلا ما عرفت فيه العبارة المدرجة، وَعُلِمَ أن الغرض من ذكرها مجرد الايضاح والتفسير، وأن الحديث في أصله خال منها ليس فيه إلا أقوال النبي الكريم في المرفوع، أو في أقوال صحابته والتابعين في الموقوف والمقطوع. والطريق إلى معرفة المدرج من وجوه (¬3): الأول: أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كحديث: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلاَّ ... » فإن العبارة الأخيرة مدرجة، زادها الراوي الصحابي ابن مسعود، إذ لا يصح أن يضاف إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء من الشرك. ومنه إدراج أبي هريرة تمني الرق في حديث الرسول، كما رأينا قريبًا. الثاني: أن يصرح الصحابي بأنه يسمع تلك الجملة المدرجة من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كحديث ابن مسعود: سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول كلمة «مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، دَخَلَ النَّارَ»، وأخرى أقولها: «مَنْ مَاتَ لاَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا، دَخَلَ الجَنَّةَ». ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 52 هامش. (¬2) " التدريب ": ص 98. (¬3) انظر تفصيل هذه الوجوه في " حاشية لقط الدرر ": ص 91 و" التوضيح ": 2/ 62.

17 - المسلسل:

والحديث في " صحيح مسلم " بلفظ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى». لكنا لا نستطيع أن نقطع بتعيين الجملة المدرجة هل هي دخول الجنة لمن لا يجعل لله نِدًّا، أو دخول النار فيمن جعل لله نِدًّا، لاختلاف الرواية. الثالث: أن يصرح بعض الرواة بفصل العبارة المدرجة عن المتن المرفوع، فيضيفها إلى قائلها، ويعين المزيد والمزيد عليه. مثاله قول ابن مسعود بعد روايته حديث النبي في التشهد: «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ».أخرجه أبوداود، فهذه العبارة مدرجة، وقد قطعت بإدراجها رواية شبابة بن سوار عن ابن مسعود، إذ قال: قال عبد الله: «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ ... » الحديث رواه الدارقطني وقال: شبابة ثقة. 17 - المُسَلْسَلُ: هو الحديث المسند المتصل الخالي من التدليس الذي تتكرر في وصف روايته عبارات أو أفعال متماثلة ينقلها كل رَاوٍ عمن فوقه في السند، حتى ينتهي إلى رسول الله (¬1). وخلوه من التدليس والانقطاع يحمل الناشئ في هذا العلم على الحكم بصحته فورًا فيكون في حكمه هذا متسرعًا، إذ يخفى عليه ما في تسلسل تلك العبارات أو الأفعال المماثلة من إثارة للريبة في اشتمال الرواية حقًا عليها. قال ابن كثير: «وفائدة التسلسل بعده من التدليس والانقطاع. ومع هذا قلما ¬

_ (¬1) قارن بتعريف ابن جماعة للمسلسل في " حاشية لقط الدرر ": ص 136 فهو يقول: «المُسَلْسَلُ مَا اِتَّفَقَ رُوَاتُهُ عَلَى صِفَةٍ أَوْ حالَةٍ أَوْ كَيْفِيَّةٍ».

يصح حديث بطريق مسلسل» (¬1). ولقد يكون أصل المتن في حديث من هذا النوع صحيحًا، لسلامته من التدليس، ولكن صفة الضعف تطرأ عليه بمجرد تسلسل بعض الأقوال أو الأفعال في روايته نفسها تسلسلاً كاملاً متماثلاً من كل وجه، لتعذر هذا التسلسل وندرة هذا التماثل في تناقل الأخبار. ومن هنا صحت متون أحاديث كثيرة، من غير أن تكون روايتها نفسها صحيحة بالتسلسل على الوجه الذي وصفناه (¬2). ولذلك قال ابن حجر في المسلسل: «وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الإِسْنَادِ» (¬3) بخلاف المرفوع ونحوه فإنه من صفات المتن، وبخلاف الصحيح فإنه من صفاتهما معًا. مثال الحديث المسلسل الذي تتماثل العبارات في روايته، ويستغرب وقوع التماثل فيه، مَا حَدَّثَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الزَّاهِدُ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ الأَدَمِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الوَاسِطِيُّ خَادِمُ أَبِي مَنْصُورٍ الشَّنَابُزِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو مَنْصُورٍ: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ مَنْصُورٍ، فَإِنَّ مَنْصُورًا قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ عَلْقَمَةَ، فَإِنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِي: قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ النَّبِيِّ ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 189. (¬2) " حاشية لقط الدرر ": ص 136. (¬3) " شرح النخبة ": ص 34.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: «قُمْ فَصُبَّ عَلَيَّ حَتَّى أُرِيَكَ وُضُوءَ جَبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ» (¬1). ومثال المسلسل الذي تتماثل الأفعال في روايته، ولا يقل عن السابق استغراب وقوع التماثل فيه: ما رواه الحاكم قال: «شَبَّكَ بِيَدِي أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ المُقْرِئُ، وَقَالَ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو عُمَرَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الحَسَنِ بْنِ بَكْرِ بْنِ الشَّرُودِ الصَّنْعَانِيُّ، وَقَالَ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبِي، وَقَالَ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبِي، وَقَالَ: شَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: شَبَّكَ بِيَدِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَقَالَ صَفْوَانُ: شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ أَيُّوبُ: شَبَّكَ بِيَدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ , وَالجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَالمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَالنُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَآدَمَ يَوْمَ الجُمُعَةِ» (¬2). ولقد استشعر رجال الحديث ما يثيره في النفس تماثل هذه الأفعال والأقوال من الشك فيها والتجريح في رواياتها، فقال الحاكم النيسابوري معلقًا على شواهد ذكرها من هذا الباب ما نصه: «فَهَذِهِ أَنْوَاعُ المُسَلْسَلِ مِنَ الأَسَانِيدِ المُتَّصِلَةِ التِي لاَ يَشُوبُهَا تَدْلِيسٌ، وَآثَارُ السَّمَاعِ بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ ظَاهِرَةٌ غَيْرَ أَنَّ رَسْمَ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلَيْهَا مُحْكَمٌ، وَإِنِّي لاَ أَحْكُمُ لِبَعْضِ هَذِهِ الأَسَانِيدِ بِالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهَا لِيُسْتَدَلَّ بِشَوَاهِدِهَا عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» (¬3). ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 20. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 33، 34. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 34.

وإذا كان الحاكم - على حد تعبيره - لا يحكم لبعض تلك الأسانيد التي ذكرها بالصحة، فإن بعضها الآخر لا بد أن يكون حكمه عليها أوفر حَظًّا من الصحيح أو التحسين، وهو بذلك يشير إلى نوع من التسلسل تستدعيه حالة الرواة الضابطين، الذين ثبت لهم الضبط فعلاً، فأدوا جميعًا روايتهم كما تحملوها بعبارات مماثلة كسمعت أو حدثنا أو أخبرنا حتى يصل الحديث مسلسلاً بالعبارة نفسها إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمثل هذا التسلسل في الألفاظ الدالة على صور الأداء ممكن الوقوع، أو هو- على الأقل - أكثر إمكانًا من تماثل ألفاظ الرواية نفسها أو أفعالها لدى الرواة. مثال ذلك قول الحاكم: «سَمِعْتُ أَبَا [الحُسَيْنَ] بْنُ عَلِيٍّ الحَافِظُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سَالِمٍ الأَصْبَهَانِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَحْيَى بْنَ حَكِيمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَوْنٍ الثَّقَفِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: " الوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ " قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمَرْوَانَ أَوْ ذُكِرَ لَهُ، فَأَرْسَلَ أَوْ أَرْسَلَنِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَحَدَّثَتْنِي، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةَ، فَانْتَشَلَ عَظْمًا أَوْ أَكَلَ كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» (¬1). ومن المسلسل الصحيح مسلسل الحفاظ، وهو مما اتفقت فيه صفات الرواة، وكل واحد منهم قد بلغ درجة الحفظ، فهذا النوع من المسلسل مما يفيد العلم القطعي (¬2). ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 30. (¬2) " التدريب ": ص 195.

لكن أصح حديث مسلسل يروى في الدنيا هو المسلسل بقراءة سورة الصف (¬1). وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ قَالَ: «قَعَدْنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَذَاكَرْنَا فَقُلْنَا: لَوْ نَعْلَمُ أَيُّ الأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ لَعَمِلْنَاهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 1، 2]. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا عَبْدُ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَكَذَا. قَالَ يَحْيَى: وَقَرَأَهَا عَلَيْنَا أَبُو سَلَمَةَ. قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا يَحْيَى. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا الأَوْزَاعِيُّ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ» (¬2). ومن الأحاديث المسلسلة التي حكم النقاد ببطلانها مَتْنًا وَتَسَلْسُلاً الحديث المسلسل بالقسم، وهو أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بِاللَّهِ العَظِيمِ لَقَدْ حَدَّثَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وَقَالَ: بِاللَّهِ العَظِيمِ لَقَدْ حَدَّثَنِي مِيكَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، إِلَى أَنْ يَنْتَهِي إِلَى رَبِّ العِزَّةِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ... » الحديث، قال السخاوي: «هَذَا الحَدِيثُ بَاطِلٌ مَتْنًا وَتَسَلْسُلاً» (¬3). والخلاصة، أن الحكم على حديث ما بالصحة أو بالضعف لا يكون اعتباطًا، فسلامة الحكم من الخطإ متوقفة - إلى حد بعيد - على تتبع السند والمتن في جميع جوانبهما، تمهيدًا لتوجيه الوصف اللائق بهما في أناة وروية. ¬

_ (¬1) نفسه: ص 194. (¬2) " حاشية لقط الدرر ": ص 135. (¬3) نفسه: ص 136.

18 - المصحف:

18 - المُصَحَّفُ: ُعني جهابذة الحفاظ عناية بالغة بمعرفة المُصَحَّفِ من الحديث مَتْنًا وَإِسْنَادًا، وَعَدُّوا «مَعْرِفَةَ هَذَا النَّوْعِ مُهِمَّةً» (¬1) وأكبروا كل من يحذقه، لأن فيه حُكْمًا على كثير من العلماء بالخطأ. وكان المتقدمون من نقاد الحديث لا يفرقون بين المُصَحَّفِ وَالمُحَرَّفِ، فكلاها يقع فيه الخطأ لأنه مأخوذ عن الصحف، لم ينقل بالمشافهة والسماع. وتبعًا لهذا الترادف بين اللفظين، سَمَّى الإمام العسكري (¬2) كتابه في هذه المباحث " التصحيف والتحريف وشرح ما يقع فيه " (¬3). وهو مِنْ أَجَلِّ التصانيف في بيان ما وقع فيه العلماء من تصحيف القُرْآنِ وَالسُنَّةِ. وأراد العسكري أن يخبر قارئ كتابه بتساوي التصحيف والتحريف في نظره فقال: «شَرَحْتُ فِي كِتَابِي [هَذَا] الأَلْفَاظَ وَالأَسْمَاءَ المُشْكَلَةَ التِي تَتَشَابَهُ فِي صُورَةِ الخَطِّ ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 22. (¬2) هو الإمام اللغوي العلامة أبو أحمد العسكري، الحسن بن عبد الله بن سعيد، انتهت إليه رئاسة التحديث والإملاء، وصنف " صناعة الشعراء " و" الحكم والأمثال "، و" المختلف والمؤتلف ". وأهم كتبه " التصحيف " الذي نذكره في هذا البحث. ومن تلاميذه أبو هلال العسكري صاحب " الصناعتين " واسم أبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل، فقد توافق الشيخ والتلميذ في الاسم واسم الأب والنسبة. ولذلك خلط بينهما بروكلمان في (" تاريخ آداب العرب ": 1/ 127) ثم انتبه إلى ذلك وصححه في الذيل. توفي أبو أحمد العسكري سَنَةَ 382 هـ (" بغية الوعاة ": ص 221). (¬3) طبع هذا الكتاب في مصر طبعًا غير متقن سَنَةَ 1326 هـ. وأصله المخطوط موجود في دار الكتب بالقاهرة. ويقع في 156 ورقة (*). ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) طبع الكتاب باسم " شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف "، تأليف أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (293 - 382 هـ)، تحقيق عبد العزيز أحمد، الطبعة الأولى: 1382 هـ - 1963 م، طبع ونشر مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

[فَيَقَعُ] فِيهَا التَّصْحِيفُ، وَيَدْخُلَهَا التَّحْرِيفُ» (¬1). وقال في موضع آخر: «أَصْلُ هَذَا أَنْ قَوْمًا كَانُوا أَخَذُوا العِلْمَ عَنْ الصُّحُفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلَقَوْا فِيهِ العُلَمَاءَ فَكَانَ يَقَعُ فِيمَا يَرْوُونَهُ التَّغْيِيرَ» (¬2). لكن المتأخرين من الحفاظ مالوا إلى التفرقة بين المصحف والمحرف وإن جاءت تفرقتهم لفظية شكلية، فرأى ابن حجر مثلاً أن ما كان فيه تغيير حرف أو حروف بتغيير النقط مع بقاء صورة الخطُ سمي «مُصَحَّفًا»، وما كان فيه ذلك في الشكل سمي «مُحَرَّفًا» (¬3). فمثال المصحف - على هذا الاصطلاح - حديث «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ» صحفه أبو بكر الصولي فقال «شَيْئًا»، بالشين المعجمة والياء. ومثال المحرف كحديث جابر: «رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ فَكَوَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» صَحَّفَهُ غُنْدُرْ وقال فيه: «أَبِي» بالإضافة، وإنما هو أُبَيٌ بْنُ كَعْبٍ، وأبو جابر كان قد استشهد قبل ذلك بِأُحُدْ (¬4). والأخبار متضافرة على أن التصحيف وقع في القرآن مثلما وقع في الحديث، وكان أكثر المصحفين من المتعالمين بين العامة، الذين لم يكن لهم شيوخ من القراء والحفاظ يوقفونهم على أخطائهم (¬5). قال أبو بكر المعيطي: «عَبَرْتُ (*) بِمُؤَدِّبٍ، وَهُوَ يُمْلِي عَلَى غُلاَمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ: " قُرَّيْقٌ فِي الحَبَّةِ وَقُرَّيْقٌ فِي الشَّعِيرِ! "، ¬

_ (¬1) " التصحيف ": ص 3. (¬2) نفسه ص 9. (¬3) " شرح النخبة ": ص 22. (¬4) " حاشية لقط الدرر ": ص 95. (¬5) " اختصار علوم الحديث ": ص 192. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع «عَثَرْتُ» وما أثبته «عَبَرْتُ» بالرجوع إلى " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب، (من أخبار المصحفين في القرآن): رقم 649، 1/ 465، الطبعة الثالثة: 1416 هـ - 1996 م، نشر مؤسسة الرسالة.

فَقُلْتُ لَهُ: " يَا هَذَا، مَا قَالَ اللَّهُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، إِنَّمَا هُوَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] فَقَالَ: " أَنْتَ تَقْرَأُ عَلَى حَرْفِ أَبِي عَاصِمِ بْنِ الْعَلاَءِ الكِسَائِيِّ، وَأَنَا أَقْرَأُ عَلَى حَرْفِ أَبِي حَمْزَةَ بْنِ عَاصِمٍ المَدَنِيِّ! "، فَقُلْتُ: " مَعْرِفَتُكَ بِالقُرَّاءِ أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَانْصَرَفْتُ "» (¬1). ولم يُحْكَ عن أحد من المحدثين من التصحيف في القرآن أكثر مما حكي عن عثمان بن أبي شيبة (¬2). وقد أورد الدارقطني في كتابا " التصحيف" كثيرًا من أخطائه وتحريفاته (¬3). من ذلك أنه قرأ على أصحابه في التفسير: «جَعَلَ السَّفِينَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ {جَعَلَ السِّقَايَةَ} [يوسف: 70]، فَقَالَ: " أَنَا وَأَخِي أَبُو بَكْرٍ لاَ نَقْرَأُ لِعَاصِمٍ! " (¬4)، وقرأ عليهم في التفسير أيضًا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] فَجَوَّدَ أَوَّلَهَا كَمَا تُجَوَّدُ فواتح السور (الم) كأنها أول سورة البقرة (¬5). ومن ذلك أنه قرأ: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسِنَّوْرٍ لَهُ نَابٌ»، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّمَا هُوَ {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13] فَقَالَ: «أَنَا لاَ أَقْرَأُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، قِرَاءَةُ حَمْزَةَ عِنْدَنَا بِدْعَةٌ!» (¬6). ¬

_ (¬1) " الجامع ": 4/ 64 وجه 1. (¬2) نفسه: 4/ 63 وجه 2. وعثمان بن أبي شيبة، هو الحافظ أبو الحسن عثمان بن محمد، وينسب إلى جده أبي شيبة. وهو أخو أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة من أصحاب المسانيد وقد توفي عثمان سَنَةَ 239 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 50). (¬3) " التدريب ": ص 197. وكتاب الدارقطني في " التصحيف " ذكره شيخ الإسلام في " شرح النخبة ": ص 22 مع كتاب العسكري الذي سبقت الإشارة إليه. (¬4) قارن بين " التدريب ": ص 197 و" الجامع ": 4/ 64 وجه 1. (¬5) " التدريب ": ص 197. (¬6) " الجامع ": 4/ 64 وجه 1.

على أن ابن كثير لا يصدق هذه الأخبار المنسوبة إلى عثمان بن أبي شيبة، ويدافع عنه دِفَاعًا حَارًّا فيقول: «وَمَا يَنْقُلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَحِّفُ قِرَاءةَ القُرْآنِ فَغَرِيبٌ جِدًّا، لأَنَّ لَهُ كُتَّابًا فِي التَّفْسِيرِ! وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَشْيَاءٌ لاَ تَصْدُرُ عَنْ صِبْيَانِ المَكَاتِبِ!!» (¬1). ولئن أحيطت مثل هذه التصحيفات بكثير من الريبة في صحتها، لوقوعها في القرآن وصدورها عن عالم حافظ، مفسر، محدث، فإن من العسر علينا أن ننكر ضروبًا من التصحيف وقعت في متون الأحاديث تارة، وفي أسانيدها تارة أخرى، وإن أي كتاب في مصطلح الحديث ليشتمل من هذا الباب على أمثلة كثيرة. وما أحسن قول الإمام أحمد: «وَمَنْ يَعْرَى عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ»؟! (¬2). والمصحف أكثر ما يقع في المتون، وقد يقع في الأسماء التي في الأسانيد (¬3): فمن مصحف المتن أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ أُجْلِسَ لِلتَّحْدِيثِ شَيْخٌ يُعْرَفُ بِمَحْمِشٍ فحدث أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ البَعِيرُ؟!» يُرِيدُ «مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» (¬4). ومنه ما رواه زَكَرِيَّا بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: " صَحَّفَ بَعْضُهُمْ: «لاَ يُوَرَّثُ حَمِيلٌ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ» فَقَالَ: لاَ يَرِثُ جَمِيلٌ إِلاَّ بُثَيْنَةَ " (¬5) وصحف ¬

_ (¬1) " اختصار علوم الحديث ": ص 192. (¬2) " التدريب ": ص 196. (¬3) " شرح النخبة ": ص 22. وإنما قال ابن حجر: «الأسماء التي في الأسانيد» احترازًا من الأسماء التي تذكر في المتون، فإنها من مصحف المتن ولو وقعت في الأسامي. (¬4) النَّغَيْرُ تصغير نغر وهو طائر صغير يشبه العصفور، أحمد المنقار، والحديث مشهور، انظر " معرفة علوم الحديث ": ص 146 وقارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 193. (¬5) " الجامع ": 4/ 62 وجه 2.

بعضهم حديث «زُرْ غباً تزدَدْ حُبًّا»، فَقَالَ: «زَرْعُنَا تَزْدَادُ حِنًّا»، ثم قص قصة طويلة أن قومًا ما كانوا يُؤَدُّونَ عشر غلاتهم ولا يتصدتون، فصارت زروعهم كلها حِنَّاءَ ... (¬1). ومن أطرف ما يروى في تصحيف المتون «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى بَيْتِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: كَيْفَ حَدَّثَكَ نَافِعٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذِي نُشِرَتْ فِي أَبِيهِ القِصَّةُ؟ فَقَالَ اللَّيْثُ: " وَيْحَكَ، إِنَّمَا هُوَ فِي الذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الفِضَّةِ يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» (¬2). ومن مصحف الإسناد ما رواه محمد بن عبد القدوس المقرئ عن بعض مشايخه أنه قال: «قرأ علينا شيخ ببغداد عن سفيان الثوري عن جلد الجدا عن الجسْر» (¬3) يريد «عن سفيان الثورى عن خالد الحذاء، عن الحسن» (¬4). ومنه ما رواه الإمام الشافعي عن تصحيفات الإمام مالك، قَالَ المُزَنِيَّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: «صَحَّفَ مَالِكٌ فِي عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَفِي جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ، وَفِي عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ قُرَيْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ قُرَيْبٍ» (¬5). ¬

_ (¬1) " معرفة علوم الحديث ": ص 148، وقارن بـ " التدريب ": ص 196. (¬2) " الجامع ": 4/ 62 وجه 2. (¬3) " معرفة علوم الحديث ": ص 152. (¬4) وقد سبقت تراجمهم جميعًا. (¬5) " معرفة علوم الحديث ": ص 150.

والتصحيف ظاهر في الاسمين الأولين. أما الاسم الثالث فقد علق عليه الحاكم بما نصه: «قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَبْدِ العَزِيزِ وَهْمٌ، فَإِنَّهٌ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ قُرَيْرٍ، بِلاَ شَكٍّ، وَلَيْسَ بِعَبْدِ المَلِكِ بْنِ قُرَيْبٍ، فَإِنَّ مَالِكًا لاَ يَرْوِي عَنِ الأَصْمَعِيِّ (¬1)، وَعَبْدُ العَزِيزِ هَذَا قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ مَالِكٍ» (¬2). ويشبه هذا مما يرويه المؤلفون في تصحيح السماع: أن شعبة بن الحجاج صَحَّفَ اسم خالد بن علقمة إلى مالك بن عرفطة (¬3). ويظهر أنهما شيخان روى شعبة عن أحدهما، وروى غيره عن الآخر، ومالك ابن عرفطة شيخ لشعبة فلا يعقل أن يصحف اسمه سَمَاعًا، ولكن ربما وهم شعبة في الإسناد فوضع اسمًا مكان آخر، فظنه النقاد تصحيفًا (¬4). والأصل في التصحيف أن يكون من أخطاء النظر في الصحف كما رأينا، ومنه كانت تسميته، ولكن منه نوعًا يُسَمَّى تَصْحِيفَ سَمْعٍ: وهو أن يكون الاسم واللقب، أو الاسم واسم الأب على وزن اسم آخر ولقبه، أو اسم آخر واسم أبيه، والحروف مختلفة شكلاً ونقطًا، فيشتبه ذلك على السمع، كحديث عاصم الأحول، رواه بعضهم فقال: «وَاصِلٌ الأَحْدَبُ» (¬5). قال ابن الصلاح: ¬

_ (¬1) يقصد أنه لا يروي عن عبد الملك بن قريب، لأنه أصمعي كما هو معروف. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 150. (¬3) انظر " التدريب " مثلاً: ص 197. (¬4) للعلامة أحمد محمد شاكر تحقيق دقيق حول هذا التصحيف في " شرحه على الترمذي ": (ج 1 ص 67 - 70). وراجع في (" مسند أحمد " بتحقيق شاكر أيضًا) الحديثين رقم 928 و 989 حيث تجد إسنادين في أحدهما خالد بن علقمة، وفي الآخر مالك بن عرفطة. (¬5) " التدريب ": ص 196، 197.

«فَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مِنْ تَصْحِيفِ السَّمْعِ، لاَ مِنْ تَصْحِيفِ البَصَرِ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَشْتَبِهُ مِنْ حَيْثُ الكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِيهِ سَمْعُ مَنْ رَوَاهُ» (¬1). ومن تصحيف السمع أن الأهوازيين صَحَّفُوا بُكَيْرًا إلى أُكَيْلٍ. قال الحاكم: «فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ أَخَذَهُ إِمْلاَءً، سَمِعَ بُكَيْرًا فَتَوَهَّمَهُ أُكَيْلاً» (¬2). وكثرة وقوع التصحيف في أسماء الرواة حملت النقاد على العناية بالمتشابه من هذه الأسماء، بل جاوزوه إلى معرفة المتشابه في قبائل الرواة وبلدانهم وكناهم وصنائعهم (¬3) وإلى معرفة من له أسماء متعددة (¬4) ومن اشتهر بالاسم دون الكنية (¬5)،والمؤتلف والمختلف من الأسماء والألقاب والأنساب (¬6)، وصنفوا في ذلك كتبًا كثيرة طُبِعَ بعضها ولا يزال أكثرها مخطوطًا. والتصحيف في جميع صوره المتعلقة بالمتن، غالبًا ما يغير المعنى، ويشوه الحقائق (¬7)، ولا سيما إذا كان المصحف قليل المعرفة، سيء الضبط. ومن ¬

_ (¬1) " علوم الحديث " لابن الصلاح ": ص 233. (¬2) " معرفة علوم الحديث ": ص 151. (¬3) نفسه: ص 221. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 235. (¬5) نفسه: ص 246. (¬6) " التدريب ": ص 235. (¬7) ولذلك يقسمون المصحف إلى مصحف في اللفظ ومصحف في المعنى، انظر " التدريب ": ص 196، 197.

غريب ما يرويه الخطيب في هذا الباب عن أبي موسى محمد بن المثنى العَنزي أنه قال يومًا يفخر بقبيلته: نحن قوم لنا شرف، نحن من عَنَزَةَ. قد صلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا!»، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إِلَى عَنَزَةَ، توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العَنَزَةُ التي صلى إليها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حَرْبَةً كانت تُحْمَلُ بن يديه فَتُنْصَبُ فيصلي إليها! (¬1). ولقد يشكل على كثيرين أن يُسْلَكَ المصحف في القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف رغم الضعف الظاهر الذي يكاد يطبعه في جميع صوره، فأقل ما يفترضه الباحث فيه أنه يجب أن يكون خالصًا للضعف، إن لم يحكم بأنه موضوع. وخطأ هذا الافتراض يبدو بكل وضوح منذ البداية، فإنه يقوم على اعتقاد فاسد خلاصته أن المصحفين يُمْنَعُونَ من تحريف الصحيح والحسن، ويؤذن لهم بالتلاعب كما يريدون بالضعيف الواهي من الروايات، وهذا مما يكذبه الواقع، فإن المصحفين لم يكتفوا بجميع أنواع الحديث يحرفونها، بل بلغت الصفاقة ببعضهم حَدًّا لا يطاق حين طوعت لهم أنفسهم التصحيف في كتاب الله. وكما يمتاز القرآن المتواتر من تلك التصحيفات فلا يلتبس بها قط، يمتاز منها الحديث أيضًا صحيحًا وحسنًا وضعيفًا، فيقال: هذا صحيح ولكن صحفه فلان، وهذا حسن وقع فيه تصحيف، كما يقال: هذا ضعيف، صُحِّفَ أَمْ لَمْ يُصَحَّفْ. وبعد، فقد تمت بدراسة «المصحف» المصطلحات العشرون المشتركة بين الصحيح ¬

_ (¬1) " الجامع ": 4/ 63 وجه 1.

والحسن والضعيف، وقد أدخلنا فيها الموقوف والمقطوع كما أشرنا إلى ذلك في مطلع هذا البحث. ودراستنا لها زمرًا ثلاثية وثنائية حيث تقاربت أو تعاكست، يسرت علينا بلا ريب فهم تعاريفها وصورها وأمثلتها وأظهرتنا على كثير من المقاييس النقدية التي كان المحدثون يعلون بها آراءهم ووجهات نظرهم، بلسان مبين فيه دقة المؤرخ، وبراعة المنطقي، وبلاغة الخطيب، وأمانة الناقل الذي يعتقد أن هذا الأمر دين!.

الفصل السادس: الموضوع وأسباب الوضع:

الفَصْلُ السَّادِسُ: المَوْضُوعُ وَأَسْبَابُ الوَضْعِ: الموضوع هو الخبر الذي يختلقه الكذابون وينسبونه إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتراء عليه (¬1). وأكثر ما يكون هذا الاختلاق من تلقاء نفس الوضاع، بألفاظ من صياغته وإسناد من نسجه. وقد يلجأ بعض المفترين، إذا لم يتح لهم خيال خصيب يقدرهم على الوضع إلى اصطناع إسناد مكذوب ينتهون به إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعين في فيه حكمة رائعة، أوكلمة جامعة، أو مثلاً موجزًا (¬2). وَلَقَدْ قِيلَ لِلإِمَامِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ المُبَارَكِ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ المَوْضُوعَةُ؟ فَقَالَ: «تَعِيشُ لَهَا الجَهَابِذَةُ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]» (¬3).وقد عاش لها الجهابذة حَقًّا، فوضعوا منهجًا علميًا دقيقًا، يميزون به الرواية الصحيحة من المختلقة المفتراة. وقواعد هذا المنهج كثيرة أشهرها الخمس التالية التي يكفي وجود إحداها في خبر ما للحكم بوضعه. ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 98. (¬2) " شرح النخبة ": ص 20. (¬3) " التدريب ": ص 102. ونسب هذا القول في (" التوضيح ": 2/ 89) إلى عبد الرحمن بن مهدي.

القاعدة الأولى: اعتراف الواضع نفسه، باختلاقه الأحاديث (¬1)، كما فعل أبو عصمة نوح بن أبي مريم، الملقب بنوح الجامع، فإنه أقر بوضعه على ابن عباس أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة (¬2). القاعدة الثانية: أن يكون في المروي لحن في العبارة أو ركة في المعنى (¬3)، فذلك مما يستحيل صدوره عن أفصح من نطق بالضاد - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وهذه القاعدة يسهل إدراكها على المتمرسين بهذا الفن، فإن للحديث - كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: «ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ, وَظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، تُنْكِرُهُ» (¬4). ونقاد الحديث يولون عنايتهم ركة المعنى قبل ركة اللفظ، لأن فساد المعنى أوضح دليل على الوضع، قال الحافظ ابن حجر: «المَدَارُ فِي الرِّكَّةِ عَلَى رِكَّةِ المَعْنَى، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ دَلَّتْ عَلَى الوَضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا رِكَّةُ اللَّفْظِ ; لأَنَّ هَذَا الدِّينَ كُلُّهُ مَحَاسِنُ، وَالرِّكَّةُ تَرْجِعُ إِلَى الرَّدَاءَةِ. أَمَّا رَكَاكَةُ اللَّفْظِ فَقَطْ، فَلاَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لاحْتِمَالِ ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 20. (¬2) " التدريب ": ص 102. ومن ذلك إقرار عمر بن صبح بن عمران [التميمي] (*) بأنه وضع خطبة للنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ,إقرار ميسرة بن عبد ربه الفارسي بأنه وضع في فضل علي بن أبي طالب سبعين حديثًا. أما أبو عصمة فإنما لقب بالجامع لأنه أخذ العلم عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطاة، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن [ابن] إسحاق، فكأنه جمع الكمالات. قال فيه أبو حاتم: جمع فيه كل شيء إلا الصدق. وقد ولي نوح الجامع قضاء مرو في خلافة المنصور. (انظر " التوضيح ": 2/ 81). (¬3) " التدريب ": ص 88. وقارن بما ذكرناه عن اللحن ص 83. (¬4) " التوضيح ": 2/ 94. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (التيمي) والصواب (التميمي) كما أثبته، انظر " تقريب التهذيب " لابن حجر، تحقيق الشيخ محمد عوامة: ص 414 ترجمة رقم 4922. طبعة دار الرشيد سوريا - حلب، طبعة ثالثة منقحة: 1411 هـ - 1991 م.

أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَغَيَّرَ أَلْفَاظَهُ بِغَيْرِ فَصِيحٍ، ثُمَّ إِنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَاذِبٌ» (¬1). القاعدة الثالثة: أن يكون المروي مخالفًا للعقل أو الحس والمشاهدة، غير قابل للتأويل (¬2). قِيلَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ عَنْ جَدِّكَ أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ طَافَتْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّتْ خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. (¬3). وواضع هذا الخبر، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، مشهور بكذبه وافترائه، ففي " التهذيب " نقلاً عن الإمام الشافعي: «ذَكَرَ رَجُلٌ لِمَالِكٍ حَدِيثًا، مُنْقَطِعًا، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ يُحَدِّثْكَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُوحٍ!!» (¬4). القاعدة الرابعة: أن يتضمن المروي وعيدًا شديدًا على أمر صغير، أو وعدًا عظيمًا على أمر حقير (¬5)، كالخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار، في رفقة آلاف من الحور العين، لفعل مندوب أو ترك مكروه (¬6)، أو الخلود في ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 99. (¬2) " الكفاية ": ص 17، و" شرح النخبة ": ص 20. (¬3) " التهذيب ": 6/ 179 وقارن بـ " التدريب ": ص 100. ومن ذلك ما رواه ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات " مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي المُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الفَرَسَ فَأَجْرَاهَا، فَعَرَقَتْ، ثُمَّ خَلَقَ نَفْسَهُ مِنْهَا!!». ويعلق على هذا السيوطي في (" التدريب ": ص 100) فيقول: «هَذَا لاَ يَضَعُهُ مُسْلِمٌ، بَلْ وَلاَ عَاقِلٌ، وَالمُتَّهَمُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ، كَانَ زَائِغًا فِي دِينِهِ، وَفِيهِ أَبُو المُهَزِّمِ، قَالَ شُعْبَةُ: " رَأَيْتُهُ، لَوْ أُعْطِيَ دِرْهَمًا وَضَعَ خَمْسِينَ حَدِيثًا "!!». (¬4) " الباعث الحثيث ": ص 91. (¬5) قارن بـ " التدريب ": ص 99. (¬6) " لقط الدرر ": ص 83.

جهنم مع مقت الله وغضبه لترك مندوب أو فعل مكروه. وكان القُصَّاصُ مولعين بوضع أخبار من هذا النوع يستميلون بها قلوب العوام إليهم (¬1). القادعة الخامسة: أن يكون واضع الخبر مشهورًا بالكذب، رقيق الدين لا يتورع عن اختلاق الأحاديث والأسانيد انتصارًا لهوى شخصي (¬2). وَقِيلَ لِمَأْمُونِ بْنِ أَحْمَدَ الهَرَوِيِّ: أَلاَ تَرَى إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ بِخُرَاسَانَ؟!، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْدَانَ الأَزْدِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، مَرْفُوعًا: «يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَضَرُّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ إِبْلِيسَ، وَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي!!» (¬3)، وأغرب من ذلك ما أسنده الحاكم عن سَيْفِ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، فَجَاءَ ابْنُهُ مِنَ الكُتَّابِ يَبْكِي، فَقَالَ: " مَالَكَ؟ " قَالَ: " ضَرَبَنِي المُعَلِّمُ " فَقَالَ: " لأُخْزِيَنَّهُمُ اليَوْمَ، حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ، أَقَلُّهُمْ رَحْمَةً لِلْيَتِيمِ وَأَغْلَظُهُمْ عَلَى المِسْكِينِ!» (¬4). وقد بدأ ظهور الوضع في سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة، على عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -، حين تنازع المسلمون شِيَعًا وَأَحْزَابًا، وانقسموا سياسيًا إلى جمهور وخوارج وشيعة، «وَرَكِبُوا- كَمَا قَالَ ابْنُ ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 99. (¬2) " شرح النخبة ": ص 20. (¬3) " لسان الميزان ": 5/ 7، 8، وقارن بـ " التدريب ": ص 100 و" لقط الدرر ": ص 84. (¬4) " التدريب ": ص 100. وسعد بن طريف هذا قال فيه ابن حبان: «كَانَ يَضَعُ الحَدِيثَ». قال فيه يحيى بن معين: «لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ»، أما راوي القصة عنه، سيف بن عمر فقال فيه الحاكم: «اتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ سَاقِطٌ» (وقارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 89).

عَبَّاسٍ- الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ» من الإكثار من التحديث للأهواء: فكان الانتصار للمذاهب منذ أول الأمر أهم الأسباب الداعية إلى وضع الأخبار واختلاق الأحاديث. ولقد دأب أصحاب الأهواء في مختلف العصور على الافتراء على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى قال عَبْدُ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ المُقْرِئُ: «إِنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ البِدَعِ رَجَعَ عَنْ بِدْعَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا هَذَا الحَدِيثَ عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ، فَإِنَّا كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا رَأْيًا جَعَلْنَا لَهُ حَدِيثًا» (¬1)! وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: «أَخْبَرَنِي شَيْخٌ مِنَ الرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عَلَى وَضْعِ الأَحَادِيثِ» (¬2). ومن أصحاب الأهواء الفقهاء الذين يتصدون للدفاع عن مذاهبهم زُورًا وَبُهْتَانًا، فيشحنون كتبهم بالموضوعات، سواء اختلقوها بأنفسهم أم اختلقها الوضاعون خدمة لهم وتاييدًا لهواهم. وقد تبلغ بهم الجراءة حد الخلط بين أقيستهم وبين أحاديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضعون في فيه عبارات أقيستهم التي وصلوا إليها باجتهادهم، وغالبًا ما يكون هؤلاء الفقهاء من مدرسة الرأي التي تعنى بالقياس عناية خاصة. قال أبو العباس القرطبي (¬3): «اسْتَجَازَ بَعْضُ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ نِسْبَةَ الحُكْمِ الذِي دَلَّ عَلَيْهِ القِيَاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[نِسْبَةً قَوْلِيَّةً، فَيَقُولُ فِي ذَلِكَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا].وَلِهَذَا تَرَى كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةً بِأَحَادِيثَ تَشْهَدُ مُتُونُهَا [بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ ; لأَنَّهَا] تُشْبِهُ فَتَاوَى الفُقَهَاءِ، [وَلاَ تَلِيقُ بِجَزَالَةِ كَلاَمِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ] ; وَلأَنَّهُمْ لاَ يُقِيمُونَ لَهَا سَنَدًا [صَحِيحًا]!!» ¬

_ (¬1) " التدريب ": ص 103. (¬2) " التدريب ": ص 103. (¬3) أبو العباس القرطبي هو صاحب كتاب " المفهم شرح صحيح مسلم ". وعبارته هذه عن فقهاء الرأي نقلها عنه السخاوي في " شرحه ألفية العراقي في مصطلح الحديث ": ص 111.

وأدهى من ذلك وَأَمَرُّ ما يضعه بعض علماء السوء في كل جيل تقربًا إلى الطبقة الحاكمة، وكسبًا للحظوة عندها: كما صنع غياث بن إبراهيم النخَعي الكوفي، فإنه دخل على أمير المؤمنين المهدي، وكان المهدي يحب الحمام ويلعب به، فإذا قدامه حمام، فقيل له: حَدِّثْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ جَنَاحٍ». فَأَمَرَ لَهُ المَهْدِيُّ بِبَدْرَةٍ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: «أَشْهَدُ عَلَى قَفَاكَ أَنَّهُ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، ثُمَّ أَمَرَ بِذَبْحِ الحَمَامِ، وَرَفَضَ مَا كَانَ فِيهِ (¬1). وأحيانًا، يكون التعالم بين العامة سببًا في وضع الأحاديث، وذلك حين يظهر جاهل بزي العلماء، ويحرص على أن يظل في أعين العامة عالمًا يشار إليه بالبنان، فلا يستر جهله إلا كثرة وضعه للغرائب التي تخلب ألباب العامة في جميع الأجيال. روى ابن الجوزي بإسناده إلى أبي جعفر بن محمد الطيالسي قال: «صَلَّى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ. فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاصٌّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالاَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ خَلَقَ اللهُ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ طَيْرًا مِنْقَارُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَرِيشُهُ مِنْ مَرْجَانَ!» وَأَخَذَ فِي قِصَّتِهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ وَرَقَةً! فَجَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَنْظُرُ إِلَى يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، وَجَعَلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَنْظُرُ إِلَى أَحْمَدَ. فَقَالَ لَهُ: «حَدَّثْتَهُ بِهَذَا!؟» ¬

_ (¬1) " شرح النخبة ": ص 20، و" التدريب ": ص 103، و" التوضيح ": 2/ 76. وللحديث أصل في " السنن الأربعة " إلا أن أصحابها لم يذكروا «الجَنَاحَ». انظر " لقط الدرر ": ص 82.

فَيَقُولُ: «وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهَذَا إِلاَّ السَّاعَةَ»، فلما فرغ من قصصه وأخذ العطيات، ثم قعد ينتظر بقيتها، قال له يحيى بن معين بيده: «تَعَالَ»، فجاء مُتَوَهِّمًا لِنَوَالٍ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: «مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الحَدِيثِ؟!» فَقَالَ: «أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ». فَقَالَ: «أَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَطُّ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!. فَقَالَ: «لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ أَحْمَقٌ، مَا تَحَقَّقْتُ هَذَا إِلاَّ السَّاعَةَ! كَأَنْ لَيْسَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ ابْن حَنْبَلٍ غَيْرُكُمَا؟. وَقَدْ كَتَبْتُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ» فَوَضَعَ أَحْمَدُ كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: «دَعْهُ يَقُومُ»، فَقَامَ كَالمُسْتَهْزِئِ بِهِمَا» (¬1)!!. والقصاص المتعالمون أصفق الناس وجهًا، وأشدهم وقاحة، وهم يتخذون- لترويج أحاديثهم المختلفة - أسانيد مشهورة يحفظونها كالببغاء ثم يضمونها إلى كل حديث يفترونه كما فعل هذا القاص الوقح مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وَكَمَا فَعَلَ قََاصٌّ آخَرَ حَكَى عَنْه أَبُو حَاتِمٍ البُسْتِي إِقْرَارَهُ بِجَهْلِهِ وَاخْتِلاَقِهِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَخَلْتُ مَسْجِدًا، فَقَامَ بَعْدَ الصَّلاَةِ شَابٌّ فَقَالَ: «حَدَثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، حَدَثَنَا أَبُو الوَلِيدِ عَنْ شُعَبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ» وَذَكَرَ حَدِيثًا، «فَلَمَّا فَرَغَ دَعْوَتُهُ، فَقُلْتُ: " رَأَّيْتَ أَبَا خَلِيفَةً؟ "قَالَ: لاَ، قُلْتُ: " كَيْفَ تَرْوِي عَنْهُ وَلَمْ تَرَهُ؟ " فَقَالَ: إِنَّ المُنَاقَشَةَ مَعَنَا مِنْ قِلَّةِ المُرُوءَةِ! أَنَا أَحْفَظُ هَذَا الإِسْنَادَ، فَكُلَّمَا سَمِعْتُ حَدِيثًا ضَمَمْتُهُ إِلَى هَذَا الإِسْنَادِ!!» (¬2). ومن الغريب حَقًّا أن بعض الزهاد والمتصوفين طوعت لهم أنفسهم وضع ¬

_ (¬1) أحمد محمد شاكر، " شرح ألفية السيوطي في المصطلح ": (ص 87، 88) و" الباعث الحثيث ": ص 93، 94، و" التوضيح ": 2/ 76، 77. (¬2) " الباعث الحثيث ": ص 93.

الأحاديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْغِيبًا للناس في صالح الأعمال، كأن هذه الثروة التي لا يدرك البيان وصفها من أقواله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ونوابغ حِكَمِهِ وَجَوَامِعِ كَلِمِهِ لم تكفهم ولم تشف صدورهم. واشتغال هؤلاء بالعبادة، واشتهارهم بالزهد والعفة، يحمل العامة على الاغترار بما يختلقونه، فخطرهم من هذه الناحية أشد هَوْلاً مما نتصور. ولقد شَوَّهُوا بجهلهم وجه الإسلام، وأدخلوا في تعاليمه ما ليس منه. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَطَّانَ: «مَا رَأَيْتُ الكَذِبَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الخَيْرِ [وَالزُّهْدِ]» (¬1). ولو ذهبنا نستقصي ما افتراه الوضاعون ونسبوه إلى رسول اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمكننا إحصاؤه، فالزنادقة وحدهم وضعوا- كما قال حماد بن زيد - أربعة عشر ألف حديث (¬2)، وَعَبْدُ الكَرِيمِ بْنُ أَبِي العَوْجَاءِ (¬3) وَضَعَ وَحْدَهُ - بِاعْتِرَافِهِ - أَرْبَعَةَ آلاَفِ حَدِيثٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُخِذَ لِتُضْرَبَ عُنُقُهُ فِي خِلاَفَةِ المَهْدِيِّ صَاحَ قَائِلاً: «لَقَدْ وَضَعْتُ فِيكُمْ أَرْبَعَةَ آلاَفِ حَدِيثٍ، أَحَرِّمُ فِيهَا الحَلاَلَ وَأُحَلِّلُ الحَرَامَ!» ¬

_ (¬1) " التوضيح ": 2/ 78. ولقد وجد المستشرق نولدكه في مثل هذه العبارة مادة صالحة للتعليق والتعقيب، مع أنها تشير إلى دقة المقاييس عند رجال الحديث، انظر: Geschischte des Coran. p. XXII (¬2) " التدريب ": ص 103. (¬3) وهو خال معن بن زائدة الشيباني الأمير المعروف. وقد ضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي أمير مكة. قال الذهبي في " الميزان " في ترجمة عبد الكريم هذا: «زِنْدِيقٌ مُبِينٌ». قارن بـ " التوضيح ": 2/ 75. ومثله في الزندقة والافتراء محمد بن سعيد بن حسان الأسدي الشامي المصلوب فإنه وضع كذلك أربعة آلاف حديث. ومن الأحاديث التي وضعها ما حكاه عنه الحاكم أبو عبد الله: أَنَّهُ رَوَى عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، مَرْفُوعًا: «أَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ». قال الحاكم معقبًا ومفسرًا: «وَضَعَ هَذَا الاِسْتِثْنَاءَ، لِمَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الإِلْحَادِ، وَالزَّنْدَقَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى [التَّنَبِّي]». انظر " التدريب ": ص 103.

على أننا - نحمد الله - أن حفظ دينه من عبث العابثين، وكلام نبيه من كذب الوضاعين بما قيض للأمة من علماء أمناء مخلصين مازوا الخبيث من الطيب، وعرفونا أسباب الوضع، وَجَرَّحُوا الوضاعين، وكشفوا معايبهم، وَأَلَّفُوا الكتب في الموضوعات يجمعونها، وأحيانًا يحفظونها، لِكَيْلاَ يلتبس عليهم منها شيء. وأشهر الكتب في بيان الأحاديث المختلفة كتاب " الموضوعات "، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) أخذ أكثره من كتاب " الأباطيل " للجوزقاني، وكان هذا الأخير يحكم بالوضع على كل حديث يخالف السنة النبوية فعلاً أو تركًا (¬1)، فكان على ابن الجوزى وقد تاثر بمنهجه أن يقع في كثير من الأخطاء التي تشبه أخطاءه هو «أي الجوزقاني»، وهكذا حكم ابن الجوزي بالوضع على بعض الصحاح والحسان. بل لقد حكم بوضع حديث في " صحيح مسلم "، وهو حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ، أَوْشَكْتَ أَنْ تَرَى قَوْمًا يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَتِهِ، فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ البَقَرِ» (¬2) وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال: «وَلَمْ أَقَفْ فِي كِتَابِ " المَوْضُوعَاتِ " لاَبِنَ الجَوْزِيِ عَلَى شَيْءٍ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالوَضْعِ وَهُوَ فِي أَحَدِ " الصَّحِيحَيْنِ " غَيْرَ هَذَا الحَديثِ، وَإِنَّهَا لَغَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْهُ!» (¬3). ووجد ابن حجر في تعقبه لابن الجوزى أربعة وعشرين حديثًا من " المسند " أوردها هذا في كتابه على أنها موضوعات، فَرَدَّ عليه حكمه ودافع عن صاحب " المسند " الإمام أحمد بن حنبل في ¬

_ (¬1) " الرسالة المستطرفة ": ص 112. وكان عليه أن يقيد السنة بالمتواترة: (" التوضيح ": 2/ 96). (¬2) " صحيح مسلم ": 2/ 355. (¬3) ابن حجر العسقلاني: " القول المسدد في الذب عن المسند ": ص 31.

كتابه: " القول المسدد في الذب عن المسند" واستطاع السيوطي في " ذيله " على هذا الكتاب أن يستخرج من " موضوعات " ابن الجوزي أربعة عشر حديثًا أخرى كتلك من " المسند " وَنَبَّهَ على عدم جواز وصفها بالوضع، كما أنه ألف " ذيلا " على الكتابين " القول المسدد " و" ذيله " عليه سماه " القول الحسن في الذب عن السنن " استخرج فيه من " موضوعات " ابن الجوزي مائة وبضعة وعشرين حديثًا من " جوامع السنن الأربعة " (الترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه) وأشار كذلك إلى تسرع ابن الجوزي في حكمه عليها بالوضع. وأخيرًا فإن السيوطي رأى أن يلخص كتاب ابن الجوزي ويتتبع أقوال الحفاظ الذين تعقبوا بعض أحاديثه، فسمى تلخيصه بـ " اللآلىء المصنوعة " وسمى إفراده للأحاديث المتعقبة " بذيل اللآلئ المصنوعة " (¬1). وبنشاط العلماء في تعقب ابن الجوزي وانتقاد كتابه اِنْتِقَادًا عِلْمِيًّا مُجَرَّدًا، أصبح الانتفاع بمصنفه " الموضوعات " ميسورًا، ولا سيما للمشتغل بعلم الحديث الذي لا يفتأ يتابع أبحاثه برغبة واهتمام. وجدير بالذكر أن الضرر في كتاب ابن الجوزي - قبل تعقب العلماء له - لا يتمثل في إغفاله أشهر الموضوعات والوضاعين، «وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ - أَنْ يَظُنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ مَوْضُوعًا عَكْسُ الضَّرَرِ بِـ " مُسْتَدْرَكِ " الحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا» (¬2). ولا بد من التنبيه على أن بعض ما يسميه العلماء موضوعًا هو إلى المدرج ¬

_ (¬1) قارن " الباعث الحثيث ": ص 87 بـ " التدريب ": ص 101. (¬2) " التدريب ": ص 100.

أقرب، وبه أشبه: وذلك حين يحدث الشيخ مثلاً فيسرق إسنادًا معينًا، ثم يعرض له ما يستوجب كلامه في غير سياق الحديث الذي يريد أن يرويه، فيظن السامع أن كلامه العارض هو المتن الذى من أجله ساق الإسناد، فيتحمله منه، ويؤديه عنه. مثاله مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الطَّلْحِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ مُوسَى العَابِدِ الزَّاهِدِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا «مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ». قَالَ الحَاكِمُ: دَخَلَ ثَابِتٌ عَلَى شَرِيكٍ وَهُوَ يُمْلِي، وَيَقُولُ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَكَتَ لِيَكْتُبَ المُسْتَمْلِي، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى ثَابِتٍ، قَالَ: مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ. وَقَصَدَ بِذَلِكَ ثَابِتًا لِزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، فَظَنَّ ثَابِتٌ أَنَّهُ مَتْنُ ذَلِكَ الإِسْنَادِ ; فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَرِيكٍ، [فَإِنَّهُ] قَالَهُ عَقِبَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ». فَأَدْرَجَهُ ثَابِتٌ فِي الخَبَرِ، ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَحَدَّثُوا بِهِ، عَنْ شَرِيكٍ (¬1). مثل هذا الحديث يرى ابن حجر أنه مدرج، فهو ضعيف، وليس بموضوع، ولكن أبا عمرو بن الصلاح يعتبره نوعًا من الموضوع على غير تعمد، وقد تابعه على ذلك النووي والسيوطي. والواقع أن من العسير جِدًّا الحكم بالوضع على حديث ما، لأن التسرع في الوصف بالوضع كالتسرع في الوصف بالصحة إنما يصدر عن باحث متساهل يلقي الكلام على عواهنه. أما ما يندرج تحت إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث ": ص 84 نقلاً عن " التدريب ": ص 104.

فليس من التسرع في شيء الحكم بوضعه، وإننا نكرر مع ابن الجوزي: «مَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا رَأَيْتَ الحَدِيثَ يُبَايِنُ المَعْقُولَ أَوْ يُخَالِفُ المَنْقُولَ أَوْ يُنَاقِضُ الأُصُولَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ» (¬1). وغني عن البيان بعد هذا كله أنه محرم علينا أن نروي خبرًا موضوعًا علمنا يقينًا بوضعه إلا مع التنبيه على أنه مختلق مصنوع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِينَ» (¬2) وإِنما نتشدد في هذا لكيلا يظن أحد أنه منسوب إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما روايته للتمثيل على الموضوع فلا ضير فيها، لأن الغرض منها. حينئذٍ التفهيم والتعليم. ¬

_ (¬1) ينقل هذا عن ابن الجوزي السيوطي في كتابه " التدريب ": ص 100. (¬2) رواه مسلم من حديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة: (" التوضيح ": 2/ 71) وقوله: «يُرَى» فيه روايتان (بضم الباء وفتحها). وقوله: «الكَاذِبِينَ» فيه روايتان أيضًا: بكسر الباء وبفتحها.

الفصل السابع: الحديث بين الشكل والمضمون:

الفَصْلُ السَّابِعُ: الحَدِيثُ بَيْنَ الشَّكْلِ وَالمَضْمُونِ: إن نظرة عجلى يلقيها الباحث المنصف على فهرس الموضوعات التفصيلي لهذا الكتاب لتقنعه بأن المكان الذي ينبغي أَنْ يَتَبَوَّأَهُ مصطلح الحديث في تاريخ العلوم يعلو كل مكان سمت إليه فلسفة المصطلحات في مختلف العصور. فإذا انتقل الباحث من نظرة عجلى في الفهرس إلى نظرة عميقة في بعض ما يستهويه من موضوعات الكتاب، آنس في الجانب التاريخي منه والجوانب التحليلية لمصطلحاته مادة غنية من النقد العلمي الدقيق الذي بناه المحدثون على تمحيص الحقائق لا على تنميق الظواهر: فالمضمون هو الذى يعني هؤلاء النَّقَدَةِ المَهَرَةِ، أما الشكل فلا قيمة له عندهم إلا بمقدار ما يعين على تحقيق ذلك المضمون. وفي مواطن مختلفة، وعصور متباينة، احتدمت خصومات ثقال طوال حول الشكل والمضمون، أو اللفظ والمحتوى، أو المعنى والمبنى ... خصومات تناولت الشعر والأدب، وانزلقت إلى العلم والفلسفة، وما فتئ خطرها يمتد إلى كل فن وإلى كل حقيقة في هذا الكون حتى اقتحم عالم الدين، وتعدى حدود الغيب، ففرق في كل دين بين حقائقه المُسَلَّمَةِ، وأصوله المؤصلة، وقواعده

المرسومة، وبين الوثائق التاريخية التي نقلت هذه الحقائق والأصول والقواعد واللغة المعبرة عن تلك الوثائق، والمنطق الذي يوجه هاتيك اللغة ... هذا كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يدرس اليوم بأقلام المستشرقين ومقلديهم من ناشئتنا أحيانًا وقادة الفكر فينا أحيانًا أخرى كما يدرس أي كتاب وضعي لا صلة له بالسماء، فتحشد له الأحكام صريحة عارية، وتلقى عليه الأضواء كشافة ساطعة، وَتُخْضَعَ مَبَاحِثُهُ كلها لطرائق الدراسة العلمية الموضوعية التي يريدها العقل الغربي أو «المستغرب»، شكاكة مرتابة، أو قل مترددة حيرى. على هذا الأساس غير الفطري، وبهذا المنطق غير الوجداني، وفي نطاق هذا البحث غير الإنساني الأصيل، درس الدارسون القرآن الكريم، وَوَدُّوا لَوْ يلمسون حقائقه بأيديهم، ويتبعون تنرلاته بأبصارهم، ويتعقبونه في مكيه ومدنيه، وناسخه ومنسوخه، وجمعه وترتيبه، وتأويله وتفسيره، ولقد حفظه الذي أنزله من عبث أولئك العابثين، مصداقًا لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. فإن يك هذا شأن القرآن، كتاب الله، فلا عجب أَنْ تَخْلُصَ هذه الدراسة النقدية العلمية إلى الحديث النبوي، تماري في أصوله وطرق نقله وحفظه وتلوينه، ومصطلحات علومه وفنونه، وتشكك في صحته مثلما شككت زَمَنًا غير قليل في صحة الشعر الجاهلي. ولا ريب أن السلاح الثقيل لا يفله إلا السلاح الثقيل، وأن الشبهات التي يثيرها العدو العليم أو الصديق الجهول لا تعالج

بالصراخ والعويل، فما يدفع الباطلَ إلا الحق ولا يدفع الشبهاتِ الحوالك إلا حجج واضحة «لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَضِلُّ فِيهَا إِلاَّ هَالِكٌ»!. وكما عرضنا في كتابنا " مباحث في علوم القرآن " (¬1) شبهات القوم وطوينا في غضونها رَدَّنَا عليها، أو ردها على نفسها - لِوَهَنِهَا وَتَهَافُتِهَا - عرضنا في «علوم الحديث»، أهم الشبهات، وأتبعناها تحليلاً دقيقًا (ما وسعنا الأمر) لحقائق هذه العلوم كما بسطها علماؤنا الأتقياء الأبرار، فَلَمْ نَرَ حاجة - وقد اتضح هذا كله - إلى عقد فصل مستقل لبحث المشكلة الأساسية التي تشغل بال المستشرقين ومقلديهم في ديارنا، ألا وهي مشكلة اللفظ والمحتوى، أو الشكل والمضمون في الحديث ومصطلحه، بل أرسلنا بحثنا على سجيته، وأجريناه إلى غايته، وجئنا هنا نتحدث في «الخاتمة» متعجبين من هؤلاء الناس الذين يظنون مصطلحنا يقوم على الشكل، ويهمل المضمون، أو كما يقولون: يعنى بالأسانيد ولا يبالي بالمتون، وأقبلنا عليهم وعلى المخدوعين بهم نؤكد أن ما استقيناه من كتب علمائنا في المصطلح (وكدنا والحمد للهِ لا نغفل واحدًا من أمهاتها مطبوعة ومخطوطة) لا يجوز أن يقال فيه أَبَدًا إِنَّهُ عُنِيَ بِالشَّكْلِ، فما اتجهت عنايته إلا إلى المضمون. ومع أن النظرة الممعنة في غضون كتابنا هذا كافية لإقناع الباحث المنصف بهذه الحقيقة البديهية، نؤثر في هذه الخاتمة أن نردد لمن ألقى السمع وهو شهيد أصداءً حلوة لطائفة من أقوال المحدثين، ونخطط له مرة أخرى بعض مقاييسهم ¬

_ (¬1) طبع هذا الكتاب في مطبعة جامعة دمشق 1377 هـ، ثم طبع الطبعة الثانية سنة 1381 هـ. وقد طبع مؤخرًا في منشورات دار العلم للملايين ببيروت.

النقدية الموضوعية، ولن نفتش بعيدًا عن هذه الأقوال والمقاييس فهي بين أيدينا في الصفحات التي يطويها هذا الكتاب بين دفتيه، حتى ليكونن حسبنا أن نشير إلى هاتيك الصفحات، ولتنطقن بَعْدُ بحقائق لا يجحدها إلا مكابر عنيد!. لقد اعتقد المحدثون أن دراستهم لمتن الحديث وعنايتهم بحفظ كتب الرواية ليستا شيئًا ذا بال إن لم تقترنا بعلم الحديث دراية، الذي هو الدراسة التاريخية التحليلية لأقوال الرسول العظيم وأفعاله، ورأيناهم في علم الحديث دراية يبحثون عن أحوال الراوي والمروي، وما كانوا يقصدون بالراوي إلا حلقة في سلسلة السند، ولا بالمروي إلا متن الحديث فعلم مصطلح الحديث - بطبيعة تعريفه - لا يقتصر على مباحث الإسناد، بل يجاوزها إلى المسائل المتعلقة بالمتن أيضًا. وقد يبدو للباحث - إذا وقف عند الظاهر وحده - أن نقاد الحديث عنوا بالإسناد أكثر من المتن، ولكن هذا وهم بعيد ما أسرع تبدده لدى البحث العميق، والنظر الدقيق. إن مباحثهم تدور حول الإسناد والمتن من حيث القبول والرد، ففي حالة القبول يدرسون الصحيح والحسن، وفي حالة الرد يدرسون [الضعيف] والموضوع. ونكاد نلمح في جميع مصطلحاتهم تقسيمًا ثنائيًا مؤلفا من السند والمتن، وأهم ما في هذا الشأن أن المتن يذكر في تقسيمهم كالسند، وإليك البيان والتفصيل: في بحثهم الصحيح والحسن قضية مشتركة خلاصتها أن الصحة قد تتناول السند والمتن مَعًا، أو السند دون المتن، أو المتن دون السند، ومثلها الحسن في ذلك، فلا يحكم بصحة حديث ولا حسنه إطلاقًا بل يبين نوع صحته أو حسنه

هل وقع في الإسناد أو المتن، فَمَا كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدًا صَحَّ مَتْنًا. وحين يكون الصحيح متواترًا لا ينظر فيه إلى إسناده من حيث تعدد رواته واشتراك الجمع فيه، بل ينظر إلى متنه بحيث يؤمن تواطؤ هذا الجمع على الكذب في مثله، لأن الكذب لا يؤمن تواطؤ الجمع عليه فما يخالف الحس أو العقل. والمتواتر، فوق ذلك، ليس من مباحث الإسناد. والحسن لذاته حين يرقى إلى درجة الصحيح لغيره لا ينظر فيه إلى كثرة طرقه وأسانيده فقط، بل يلاحظ فيه - منذ الخطوة الأولى - أنه كالصحيح لذاته في تجرده من كل شذوذ وعلة، وفي الشذوذ تفرد ومخالفة كثيرًا ما يكونان في المتن، لذلك قالوا: «لاَ يَجِيئُُكَ بِالحَدِيثِ الشَاذِّ إِلاَّ الرَّجُلُ الشّاذُّ»، ولذلك أيضًا كرهوا رواية المناكير. وفي العلة ضرب من النقد الذاتي يتناول المتون بالتضعيف من خلال توهن الرواة المدرك بنوع من الإلهام والتعمق في الفهم، لا بحفظ الأسماء والأسانيد. وفي أكثر أنواع الضعيف تتضح هذه الثنائية، يستوي فيها ما كان خالصًا للضعف وما كان مشتركًا بين الصحيح والحسن والضعيف. فمرسل الصحابة مقبول رغم انقطاع السند، لأن المتن الذي يحكيه الصحابة لا يعقل أن يكون مُخْتَرَعًا، فإذا كان هؤلاء الصحابة ممن ينلقون الإسرائيليات تشدد العلماء، لأن متونهم قد تخالف متون الأحاديث النبوية ... ومن هنا تحفظ النقاد في تفسير الصحابة، فلم يطلقوا القول بأن له حكم المرفوع، مخافة تأثر بعضهم بمسلمة أهل الكتاب. ونفى بعضهم أن يكون هنالك شيء يسمى مرسل الصحابة،

وعدوا مراسيل بعضهم تدليسًا، وقالوا صراحة: «مَا أَقَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ التَّدْلِيسِ!» (¬1). ومع اعترافهم بأن التعليل أكثر ما يتطرق إلى الإسناد لم ينفوا تعليل المتن، فقالوا: لا يطلق الحكم بصحة حديث ما لجواز أن يكون فيه علة في متنه. ومع أن الاضطراب أكثر ما يقع في الإسناد، لم يفت النقاد أن ينبهوا على وقوعه في المتن أيضًا، وجاؤوا على ذلك بشواهد. وقسموا المقلوب إلى قسمين: مقلوب مَتْنًا ومقلوب إسنادًا. وتشددهم في أداء الحديث باللفظ أكثر ما يتجه إلى المتون، حتى لا يكذب الناس على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا سيما إذا لحن الراوي زاعمًا أن خطأه من لفظ الرسول فقد عدوه متعمدًا للكذب، جديرًا بأن يتبوأ مقعده من النار. وبعض مباحث القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف إنما ينظر فيها إلى حال المتن كالمرفوع مثلاً، فإن للمرفوع إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نورًا كنور النهار يعرفه الذوق السليم، فلا يخفى على أحد شيء مما يحمل عليه أو يوضع في ¬

_ (¬1) ومع أن التدليس أخو الكذب، كما نقلنا عن العلماء ص 171، فإنهما ليسا مترادفين على معنى واحد، والمدلس على كل حال ليس هو الموضوع. فالكذب في التدليس ضرب من الخداع، والكذب في الوضع لون من الاختلاق. وقد لاحظ هذا الاختلاف بين الاصطلاحين كل من المستشرقين فرنكل وابن الورد. انظر: Frankel, Diearamaischen Fremdworter im Arabischen 188 ; Ahlwardt,Verzeichniss der Landbergschen Sammlung arab. Handschriften de la Biblioth royale de Berlin, no 149. وجولدتسيهر يعرف هذا جيدًا، ولكنه يتعمد الخلط بين الاصطلاحين ليهول في شأن الوضع والوضاعين.

فيه لأن للموضوع المختلق ظلمة كظلمة الليل، تنكره البصيرة النيرة (¬1). وكثير من مباحث هذا القسم المشترك يتناول المتون بالدرجة الأولى، وإن كانت له صور في الأسانيد، كالمدرج مثلاً، فان مدرج الإسناد يرجع في الحقيقة إلى المتن، وكالمصحف أيضًا فإنه أكثر ما يقع في المتون، وكالمسلسل بعد هذا كله فإن أشد شيء إثارة للريبة فيه تماثل العبارات في متونه، وإن كانت صورته الظاهرية ترتد إلى هذا التماثل على ألسنة الرواة، أو بعبارة أخرى إلى سلسلة الإسناد،. ولذلك يقولون: هذا باطل مَتْنَا وَتَسَلْسُلاً، كأن سِرَّ بطلانه ليس مجرد تسلسله إطلاقًا بل تسلسل متنه بهذا الشكل النادر الفريد!. ومصطلحا الفرد والغريب يخيل إلى الباحث أنهما ليسا أكثر من بحثين خالصين للإسناد، يجمعهما رابط مشترك هو التفرد كما رأينا، ولكن النظرة الفاحصة المدققة ترى القضية ألصق بالمتن منها بالسند، فكما أنكروا رواية الشواذ والمناكير أنكروا الولوع بالأفراد والغرائب، وفروا من حسن هذه الغرائب لمخالفتها متون الروايات العزيزة والمشهورة والمستفيضة. أما هذه الروايات الثلاث الأخيرة فلم تكن غاية النقاد من مباحثها سوى تقوية الأحاديث الأفراد والغرائب بمتون تشهد لها وتتابعها، وليس تقويتها ¬

_ (¬1) وتمييز المرفوع إلى النبي من الموضوع عليه المنسوب إليه جدًا حتى في اختلاق المواعظ ترغيبًا في الخير ودعوة إلى الفضيلة. وقد وافق الأستاذ أحمد خان بهادر في تصوير هذا الاستعداد الفطري للتمييز بين ما رفع إلى النبي وما نسب إليه. انظر بحثه بالإنكليزية في " قاموس الإسلام " «مادة حديث»: Ahmed Khan Bahadur, Essay on Mohammedan Tradition, in Huges Dictionary of Islam, 642 a.

بأسانيد متعددة ورجال كثيرين، فكانت مقاييسهم فيها قيمية، لا كمية عددية، فلا بدع إذا كانت الشهرة نسبية، ولا غرو إذا اشتهرت متون أحاديث عند الفقهاء، وعليها طابعهم، واشتهرت متون عند العامة وعليها ألفاظهم، وعند الصوفية، وبدت موضوعة غالبًا لتأييد أهوائهم. ولعلنا - على هذا الأساس من العناية الخاصة بالمتون - نفهم تشدد القوم في الأصول أكثر من تشددهم في المتابعات والشواهد، فالأصول ينبغي لها من الثقة بمتونها أكثر مما ينبغي للفروع المقوية للفظها أو المعززة لمعناها، ونفهم أيضًا سر رفضهم متروك الحديث عند الاعتبار، لأن من صفات المتروك عدم الضبط، فحفظ المتون لا يواتيه مهما يبذل من الجهد فيه، فكان أن فرقوا بين صالح للاعتبار وغير صالح. وإذا تذكرنا أن الشاهد عندهم على قسمين: لفظي ومعنوي، وأن اللفظي يتناول متن الحديث نَصًّا، وأن المعنوي يرد إليه لأنه تقوية للمتن نفسه بما يقارب لفظه، وأضفنا إلى ذلك أن في المتابعة أيضًا مقاربة للفظ، أدركنا ما للمتن من قيمة في جميع هذه المصطلحات. ونحن إلى هذا الحد ليس وراءنا دافع يسوقنا إلى أن نرد للمتن كل مبحث يتعلق بالإسناد، فقد أسلفنا أن الثنائية المؤلفة من المتن والإسناد، بهذا القيد الثنائي، هي التي كانت تسود جميع مسائل هذا الفن، ولا نريد أَبَدًا أن نقلل من شأن الإسناد، فنحن لا نشك ولا نحسب مُنْصِفًا يشك في أن التشدد في الأسانيد ليس عيبًا جسامًا يلام عليه علماؤنا الأخيار، ما دام لا يقصد لذاته، بل للغاية التي أنشأوا لدراسته من أجلها: ألا وهي تمييز الصحيح من الموضوع وترتيب الأحاديث على درجات متفاوتة ليتمكن العلماء من الاستفادة منها في

التشريع الديني والاجتماعي والاقتصادي والعسكري والسياسي، وهي غاية إنسانية نبيلة رافقت العلوم الإسلامية في جميع ألوانها ومختلف أطوارها، فلا يغض من قيمتها انفراد أمتنا بها، بل هي خصيصة لنا وَمَزِيَّةٌ بَاهَيْنَا وَسَنُبَاهِي بها العالمين أبد الدهر. على أننا لن نركب الحماقة التي لا يزال المستشرقون وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم «الغزير» يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوي، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلاً يفصل بين خصمين لا يلتقيان، أو ضرتين لا تجتمعان (¬1): فمقاييس المحدثين في السند لا تفصل عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم، وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهي بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقي الذي لا يخالف الحس أن يرد عن طريق سند صحيح، وإذن، فكل أبحاث النقاد في رجال الإسناد، وفي شروط الرواة، إنما تؤدي بكل بساطة إلى النتيجة التي لا مفر منها: وهي نقد متون الأحاديث، لمعرفة درجتها من الصحة والحسن والضعف. وليت القارئ الكريم يعود مرة أخرى إلى مبحث (شروط الراوي)، ويقرؤه بتدبر وتعمق، ليرى رأي العين أن تشدد النقاد في شروط الراوي ليس ¬

_ (¬1) كما فعل شبرنجر في مقاله في، " المجلة الاجتماعية الألمانية الشرقية " عن الحديث عند العرب وإن كان قد حاول أن يهدئ من غلوائه بزعمه أن التشدد في الأسانيد لم يكن يعني المحدثين حقيقة إلا إذا تعلق بالحلال والحرام، انظر: . Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft, X, p. 16. Uber das Tra .ditionswesen bei den Arabern وقد بينا فساد هذا الرأي حين عرضنا لقول الإمام أحمد: «إِذَا رَوِينَا فِي الحَلاَلِ وَالحَرَامِ شَدَّدْنَا، وَإِذَا رَوِينَا فِي الفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا تَسَاهَلْنَا». فراجع هذا مرة أخرى ص 211.

إلا وسيلة لتزكية الخبر المروي، ولقد استوجب هذا التشدد أن تقاس تلك الشروط بمقاييس إنسانية مشتركة، تصلح لأن تأخذ بها كل أمة في القديم والحديث، لاْنها صادرة في أغلب صورها عن منهج موضوعي يتعالى عن الأشخاص، وعن كل ما تفرضه قدسية بعض الأشخاص من التملق والنفاق. لا قيمة للألقاب في هذا المنهج، فالمقياس نسبي لا ضير معه أن يُرْمَى بعض الصحابة بالتدليس، ولا ضير أن يعزى التصحيف إلى العلماء الأعلام، كالإمام مالك، ولا بأس أن يفضل الإسناد النازل عن الثقات على الإسناد العالي عن غير الثقات، ولا خير في التحديث عن الأحياء، فالمعاصرة حجاب، ولا مانع من وجود أحاديث فيها مقال في كل من " الصحيحين " (¬1)، وأحاديث ضعيفة في " مسند أحمد " (¬2)، بل لا مانع أن يقوم الجدل بصورة عامة حول الحديث الآحادى هل يفيد الظن رغم صحته ورغم جميع الشروط التي روعيت لدى تصحيحه، ورغم انبناء جل التشريع الإسلامي عليه. ومقياس المحدثين زماني مكاني، أو تاريخي جغرافي، فلما استعمل الرواة الكذب استعمل لهم النقاد التاريخ، واشترطوا معرفة الرجال وطبقاتهم والعناية بمواليدهم ووفياتهم، واشترطوا تقييد أسماء الرجال باسم البلد الذي حَدَّثُوا فيه، وذكروا قصصًا وأخبارًا حكموا عليها بالتدليس بسبب جهل الراوي بتاريخ وفاة المروي عنه، وجعلوا من أمارات الوضع مخالفة الحقائق التاريخية بوجه عام (¬3)، ¬

_ (¬1) فقد وجدوا في أحاديث " البخاري " (110) انتقدوها عليه، خَرَّجَ منها " مسلم " (32) حديثًا، وانفرد " البخاري " منها بثمان وسبعين. وليست عللها كلها قادحة كما لاحظ ابن حجر. (¬2) ولذلك هب الكثيرون يدافعون عن " المسند " كما رأينا ص 272. (¬3) كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر فهذا كذب من عدة وجوه، أهمها أن فيه =

وعدوا من صور العلو النسبي تقدم وفاة الراوي وإن تساويا في العدد، وتقدم السماع، وَنَبَّهُوا على أن المدنيين إذا رَوَوْا عن الكوفيين زلقوا، وعلى أن حد السماع خضع لاعتبارات إقليمية، وعلى أن أكثر المحدثين تدليسًا أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة، ولاحظوا أثر المذاهب التي كان لها في بعض العصور والبيئات أنصارًا متحمسون، فكثيرًا ما يكون ذلك سببًا في الحكم بالوضع على مثل هذه الأحاديث، ورأوا إلحاق تدليس البلاد بتدليس الشيوخ، لأن فيه ادعاء رؤية أماكن لم يتح للراوي مشاهدتها. ومقياس المحدثين نفسي اجتماعي، فحديث الهريسة موضوع، وضعه محمد بن الحجاج اللخمي وكان صاحب هريسة (¬1) ومثله حديث «مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ ... !» فقد وضعه سعد بن طريف لما ضربوا ابنه. وحديث دخوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حَمَّامًا بِالجُحْفَةِ موضوع باتفاق الحفاظ (¬2) لأنه لم يكن على زمانه - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - حمامات. ¬

_ = شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، وفيه كتابة معاوية بن أبي سفيان، وهو إنما أسلم زمن الفتح، والجزية إنما نزلت بعد عام تبوك، وفيه أنه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وضع عنهم الكلف والسخر ولم يكن في زمان النبي كلف ولا سخر ولا مكوس. قارن بـ " اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع " للقاوقجي. ومن أجود ما كتب في هذا الباب رسالة الدكتور مصطفى السباعي " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "، وهي الرسالة التي تقدم بها لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في الأزهر، وقد تفضل الزميل الكريم بإطلاعي على رسالته هذه قبل أن تطبع، وكنت في طبعتي الأولى لكتابي هذا قد أشرت في هذا الموضوع إلى عدم تمكني من قراءة رسالة الدكتور السباعي إلا والملازم الأخيرة من كتابي ماثلة للطبع، وذكرت أن الأستاذ وعد بطبع رسالته، وقد طبعت فعلاً وأتيح لي الاطلاع عليها والإفادة منها. (¬1) انظر " تذكرة الموضوعات " للفتني: ص 145. (¬2) " اللؤلؤ المرصوع ": ص 35.

والدقة واضحة في هذه المقاييس، فمن كذب مرة واحدة لا يقبل حديثه، ولا يؤخذ الحديث عن غلاط لا يرجع عن خطئه، وَأُذُنُ المحدثين مرهفة لا يفوتها التصحيف ولو كان تصحيف سمع لا تصحيف نظر مثل أكيل وبكير. والتحفظ في الجرح أشد منه في التعديل، لأن المقاييس - على نزعتها الإنسانية السمحة - يجب أن تحجز الناس عن الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا بد من الشدة مع الجميع حتى يؤمن الخطأ والعثار. أما المتون فكل ما ذكروه في علامات الوضع يتعلق بها ويدور عليها: فاللحن والركة، ومخالفة العقل أو الحس، والمجازفة بالوعد والوعيد، ومزج الكلام البليغ الفطري بعبارات معقدة من عبارات الأصوليين أو المتكلمين (¬1)، واختلاق الأحاديث تقربًا إلى الطبقة الحاكمة، كلها مباحث تتعلق بالمتن المروي من حيث إدخال أشياء عليه لا تليق بالنبي. ومن ذلك إدراج بعض العبارات التي يستحيل صدورها عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كتمنيه الرق في حديث أبي هريرة، ومنه الاعتقاد بأن قلب الحديث عَمْدًا من الكذب، والاعتقاد بأن بقاء التعارض بين حديثين مستحيل، فإما أن يحملا على نسخ أحدهما للاَخر أو تفصيله أو تخصيصه. إن كل هذا يشير إلى نتيجة واحدة لا مراء فيها: هي أنه إذا كان لا بد من الاختيار بين السند والمتن أيهما تدور عليه مباحث المحدثين، فإنه المتن بلا ¬

_ (¬1) ذكر في " شرح الديباج المذهب ": ص 53: أن من الموضوع ما أورده الأصوليون من قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا رُوِيَ الحَدِيثُ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ خَالَفَ فَرُدُّوهُ». قال الخطابي: «وََضَعَهُ الزَّنَادِقَةُ»، وعلى ذلك فقس ...

نزاع، وما السند إلا وسيلة إلى الأقوال والمتون. وإذا انضم إلى هذا كله ورع الرواة في مختلف العصور، وركوبهم المشاق في طلب الرحلة والأحاديث، وشعورهم بقيمة المروي، وبأن هذا الأمر دين، أمكننا أن نقول: إن هذا المصطلح على نحو ما عرفه المحدثون ليس له في الدقة مثيل في التاريخ (¬1). فكيف يبيح المستشرقون لأنفسهم بعد أن تجشموا عناء قراءة ما رأينا من المخطوطات والمدونات والصحف أن يزعموا أن لا طريق لصحة المتن سوى الإسناد، وأن العرب لم يعنوا إلا بهذا الاسناد؟ وكيف يجرؤ أكابرهم على المغالطة إلى هذا الحد فيصنفوا الكتب ويكتبوا الأبحاث لمجرد الطعن في الحديث ورجاله (2)، والنيل من نصوصه ومتونه (¬2)؟ وإذا انضم مرة أخرى إلى هذا كله ما حققناه من وجود وثائق تاريخية تثبت كتابة الأحاديث في حياة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتهدم ما بناه المستشرقون وأعوانهم من أحلام وآمال، وتصور طرق المحدثين ومناهجهم في التربية والتعليم، وتشددهم في الألفاظ التي يفرقون بها بين صور التحمل والأداء، رأينا أن كل ¬

_ (¬1) ولقد اعترف المستشرق جولدتسيهر بذلك، ولكنه أبى أن يجعل الدقة فيه شاملة للمتن والسند. انظر Etudes sur la Trad. Islamique, p 6 (¬2) كطعن جولدتسيهر في الصحابي أبي هريرة: انظر: Zahiriten, 78 - 79. وعنه أخذ أحمد أمين - رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ لَهُ - فخاض في ما لم تحمد عقباه. Edw. E.Contributions from original sources to our Knowledge of the Science of Muslim Tradition. in the Journal of the American oriental Society. VII, 1862, 60 - 142.

ثناء على عمل المحدثين ومصطلحاتهم الدقيقة لا يفي شيئًا مما لهم على ثقافتنا من يد، وعلى الحضارة الإنسانية من فضل، وأيقنا أن دراسة مصطلح الحديث تدعيم لمناهجنا الأصلية في نشر الثقافة وهي مناهج لم يعرفها العالم مطبقة إلا مرة واحدة في عصورنا الذهبية، ولا يمكن أن يطبقها غيرنا، لأنها انبثقت من تفكيرنا القادر على التجريد، ومن ثقافتنا الواسعة الشاملة ومن روح ماضينا المجيد. وبعد ... فان المستشرقين قوم يتقنون الحرب وأساليب الهجوم، ويتفوقون في إلقاء الشبهات وبث السموم، ونحن قوم لا نتقن إلا ما نعلم، ولا نعلم إلا ما نعتقد، ولا يعنينا أن نحارب الناس ونجاولهم ونصاولهم حيث لا ضرورة لحرب ولا دافع لجيال أو صيال، بل يعنينا أن يرى الناس الحق كما نراه بعيون ليس عليها غشاوة، وقلوب ليس فيها مرض ... وإلى شبابنا العربي المثقف نوجه هذه الكلمات، فهلا ينصتون؟! وهلا يوقنون؟

الباب الرابع: مكانة الحديث في التشريع واللغة والأدب:

البَابُ الرَّابِعُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ وَاللُّغَةِ وَالأَدَبِ:

الفصل الأول: مكانة الحديث في التشريع:

الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ: إِشَادَةُ القُرْآنِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْتِزَامِ سُنَّتِهِ: انتهى العلماء المحققون إلى أن الحديث الصحيح حجة على جميع الأمة، وأيدوا رأيهم هذا بالاَيات القرآنية التي تفرض على المؤمنين اتباع الرسول، والتسليم لحكمه، ورأوا من يحكي خلاف هذا المذهب غير خليق بالانتساب إلى العلم وأهله، وإن نسب نفسه أو نسبته العامة إلى سعة المعرفة والتفقه في الدين (¬1). وكان طَبِيعِيًّا أن ينتهي التحقيق العلمي الدقيق إلى هذا الحكم السديد، لأن الآيات التي فرضت على المؤمنين طاعة النبي- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صريحة لا تحتمل التأويل، وإنما تكون طاعته بالتزام سنته، والعمل بحديثه، والأخذ بمضمونه الصحيح في مسائل الدين، واعتباره الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن المجيد. ومع أن تقرير هذا الأمر على هذه الصورة الواضحة يبدو بديهيًا، ¬

_ (¬1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 263.

نؤثر أن نجلو بعض الجوانب الشائكة التي تَحُفُّ بِحُجِّيَّةِ الحديث. فهل النصوص القرآنية الحَاثَّةِ على طاعة النبي تُقِرُّ لحديثه بالاستقلال في التشريع، فيؤخذ بما فيه من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب، أم لا تقر له بالاستقلال التشريعي، كما هو إلا بيان للقرآن، وراجع إليه؟ وإن يكن الحديث مُبَيِّنًا للقرآن أو مُفَصِّلاً لإجماله، فكيف يعد مع الكتاب أصلاً من أصول التشريع مع أن أحكام الدين إنما تستقى من أحدهما فقط وهو كتاب الله المجيد؟ وحين يؤخذ بالحديث أصلاً تشريعيًا أو على غير استقلال، هل يقبل فيه خبر الآحاد، أم لا بد لتصحيحه من التقوية والتعزيز؟ وإن الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة لتفرض علينا في البداية سرد أهم النصوص القرآنية الدالة على وجوب العمل بالسنة النبوية، مشفوعة بتطبيقها العملي في واقع السيرة المطهرة، ومقرونة بفهم الرعيل الأول من الصحابة لمدلولها المتبادر من غير تكلف ولا اعتساف. يرى عبد الرحمن بن يزيد رجلاً مُحْرِمًا في موسم الحج قد ارتدى ثوبًا مخيطًا، فرشده إلى نزع ثيابه والأخذ بسنة النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في لباس الإحرام، فيقول الرجل لعبد الرحمن: «اِئْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي»، فلا يرى عبد الرحمن خيرًا من أن يقرأ عليه قول الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). فَنَزْعُ الثوب المخيط لم يرد صريحًا في كتاب الله، وإنما ورد في الحديث فقط. وهكذا انفردت السُنَّةُ بهذا الحكم الشرعي، وكانت أصلاً مستقلاً من أصول التشريع، لأن الله أمر المؤمنين بالانتهاء عما نهى عنه نبي ¬

_ (¬1) [سورة الحشر، الآية: 7]. وقارن بـ " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: 2/ 188.

الهدى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. ويصلي الإمام الكبير طاووس (¬1) بعد العصر ركعتين، فيقول له الصحابي الجليل ابن عباس: اتركهما، فيجيبه طاووس بأن الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إنما نهى عنهما مخافة أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً، ولا ضير في هاتين الركعتين إن صُلِّيَّتَا بغير نية الاستمرار، ولكن ابن عباس يُصِرُّ على نهي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة مطلقًا بعد العصر، ويؤكد لطاووس أن ليس له الخيار، فما جاء به رسول الله، مستندًا إلى الآية الكريمة: " {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2) [الأحزاب: 36]. ولئن تكن للمؤمن خِيَرَة فيما مضت به سنة الرسول، فما عليه إلا أَنْ يُحَكِّمَ هذه السنة في كل خلاف يَشْجُرُ، وفي كل دعوى ترفع، مع التسليم التام لكل ما تصدره من أحكام، مصداقًا لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3). وجملة الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية تتلخص في أن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى للزبير بن العوام بالشرب من شِرَاجِ الحَرَّةِ قبل رجل شهد بدرًا من الأنصار (¬4). ولا ريب أن حديث النبي هنا قد انفرد بالتشريع في هذه ¬

_ (¬1) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء. كان من أكابر التابعين، ومن أشهر رواة الحديث المتفقهين فيه. توفي حَاجًّا بالمزدلفة سنة 106 هـ (" تهذيب التهذيب ": 5/ 28). (¬2) " الموافقات ": 4/ 25. (¬3) [سورة النساء، الآية: 65]. (¬4) انظر تفصيل هذه الرواية - مع تخريج الأسانيد والمفاضلة بينها، في " تفسير ابن كثير: 1/ 520. ومغزى تفسير الآية - على جميع الآراء - أن الأنصاري الذي اعترض على سقي الزبير قبله كان جديرًا به قبول الحكم النبوي دون أن يجد في نفسه منه حرجًا.

شمول السنة كل آفاق التشريع:

المسألة التي لم يعرض لها القرآن بحكم صريح. وعندما خاطب الله نَبِيَّهُ بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1)، نَبَّهَ المؤمنين إِلى مكانة السنة في التشريع، فإن أقوال الرسول وأعماله تبين المراد من القرآن، إذ تفصل ما أجمله، وتقيد ما أطلقه، وتخصص فيه ألفاظ العموم، وتعين ما لم يعينه من المقادير والحدود والجزئيات. فللسنة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة التبيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح. وذلك ما استنتجه عمران بن حصين لما رمى رجلاً بالغفلة الشديدة والفهم السقيم، وقال له مُؤَنِّبًا مقرعا: «إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الظُّهْرَ أَرْبَعًا]، لاَ يُجْهَرُ فِيهَا بِالقِرَاءَةِ؟» ثم سرد له بعض أحكام الصلاة ومقادير الزكاة وما أشبه ذلك من أركان الإسلام وفرائضه، ثم قال للرجل: «" أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ"، وَإِنَّمَا فَسَّرَتْهُ السُنَّةَ تَوْضِيحًا وَبَيَانًا» (¬2). شُمُولُ السُنَّةِ كُلَّ آفَاقِ التَّشْرِيعِ: وتكاد الأمثلة الواردة في تفصيل السنة مجملاتِ القرآن تشمل كل آفاق التشريع الإسلامي في العبادات والمعاملات والحلال والحرام. وينتهي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل منها، على حدة، إلى التبيان الدقيق عن ¬

(¬1) [سورة النحل، الآية: 44]. (¬2) قارن بـ " جامع بيان العلم ": 2/ 191 و" الموافقات ": 4/ 26.

طريق القياس تارة، والمقارنة بين نظيرين تارة أخرى، والموازنة بين متقابلين تارة ثالثة. فاذا قال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) أدرك رسول اللَه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الزيادة من غير مقابل ولا عوض هي السر في تحريم الربا، فألحق قياسًا بالربا كل تعامل يشمل على زيادة من هذا النوع، وحكم بأن «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، [وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ]، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» (¬2)، ثَم ينحي عن مدلول الربا ما اختلفت فيه تلك الأصناف ولم تتماثل، فخلا من كل زيادة لا عوض فيها، فيقول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ». وإذا حَرَّمَ القرآن الزنى وأباح النكاح في آيات معروفة، وسكت عن حكم النكاح المخالف للشرع، كزواج المرأة بغير إذن وليها مثلاً، عقد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقارنة بين السفاح المحض وهذا اللون من النكاح المخالف للشرع، وقضى ببطلان ما لم تراع فيه أصول العقد الزوجي، فقال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (¬3). وإذا عَدَّ القرآن صيد البحر حلالاً طيبًا فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآية: 275]. (¬2) الحديث من رواية مسلم في " صحيحه " وأحم في " مسنده " وأبي داود في " سننه ". وهو حديث مشهور. (¬3) قارن بـ " سنن أبي داود ": 2/ 308 رقم الحديث 2083 (باب في الولي) والحديث من رواية السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -.

صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬1)، وَحَرَّمَ الميتة تحريمًا قاطعًا في مواطن متعددة (¬2)، وَازَنَ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حِلِّ الصيد البحري المطلق وحرمة الميتة في صيغتها العامة المطلقة، فخص ميتة البحر بالحل واستثناها من الحكم العام، وقال عن البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» (¬3)، وأكد هذا التخصيص بقوله في الحديث الاَخر: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالحُوتُ وَالجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ» (¬4). ولعل شعور العلماء الأولين بأثر السُنَّةِ العظيم في توضيح الأصول القرآنية، بأي طريق تم ذلك التوضيح، هو الذي حمل بعضهم على الحكم بأن السُنَّةَ قاضية على الكتاب، حتى قال الأوزاعي: «الكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُنَّةِ مِنَ السُنَّةِ إِلَى الكِتَابِ». (¬5). وما أراد الأوزاعي ولا غيره بهذا إلا التنبيه على أن أعلم الخلق بمعاني القرآن هو رسول الله الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وَمِنْ هُنَا قِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ (¬6): لاَ تُحَدِّثُونَا إِلاَّ بِالقُرْآنِ، فَقَالَ لِلْسَّائِلِينَ: «وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ مِنَّا» (¬7). ¬

_ (¬1) [سورة المائدة، الآية: 96]. (¬2) كما ورد في سورة البقرة 182 والمائدة 3 والأنعام 145. (¬3) قارن بـ " سنن أبي داود ": 1/ 54 رقم الحديث 83. (¬4) قارن بـ " سبل السلام " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني: 4/ 76 (" شرح بلوغ المرام " لابن حجر). (¬5) " جامع بيان العلم ": 2/ 191. (¬6) مطرف بن عبد الله بن الشيخر، زاهد من كبار التابعين، ثقة فيما رواه من الأحاديث. توفي بالبصرة سنة 87 هـ (" وفيات الأعيان ": 2/ 67). (¬7) " الموافقات ": 4/ 26.

استقلال السنة بالتشريع ولو كان أصلها في الكتاب:

وما دامت الأمثلة التي ذكرناها تجعل السُنَّةَ بين أمرين: فهي إما مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، إما مفسرة لمجملات القرآن، فلا مناص من الاعتراف - كما قال الشاطبي - بأن «[أَدِلَّةُ] القُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، فَهُوَ لاَحِقٌ فِي الحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ» (¬1). وإن هذه الزيادة الملحوظة في التفصيلات النبوية هي التي تجعل للحديث، على جميع الأقوال، المرتبة الثانية بعد القرآن، وهي التي تؤكد أن الشرع الإسلامي يتكون من الأصلين مَعًا: القرآن والحديث، مصداقًا لقول النبي الكريم نفسه: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ , وَسُنَّتِي» (¬2). اِسْتِقْلاَلُ السُنَّةِ بِالتَّشْرِيعِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الكِتَابِ: فإن قيل بعد هذا: بل القرآن دَالٌّ على كل ما في الحديث إجمالاً وتفصيلاً، وما سن الرسول سُنَّةً قَطُّ إلا كان في الكتاب أصلها، لأن الله أنزل القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬3)، وتمم به الدين كله فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4)، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬5)، فليس للسنة، بأي صورة، أن تزيد ¬

_ (¬1) " الموافقات ": 4/ 14. (¬2) قارن بـ " جامع بيان العلم ": 2/ 180. (¬3) [سورة النحل، الآية: 89]. (¬4) [سورة المائدة، الآية: 3]. (¬5) [سورة الأنعام، الآية: 38].

في التشريع شيئًا فضلاً على استقلالها بالتشريع، أحلنا أصحاب هذه الشبهة على القرآن نفسه الذي يشيد بطاعة الرسول، ويحذر- من مخالفته، ولا يفرق في ذلك بين ما فَسَّرَهُ النبي من القرآن وما أمر به في سنته أمرًا مستقلاً، فهو الذي يقول بلهجة الإنذار: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (¬1)، وبهذه يخصه بشيء يطاع فيه ولايعصى، وهو سنته التي جاء بها ولم تكن من القرآن ولا أتت في القرآن. ويشبه هذا ما أمر الله به المؤمنين من رد النزاع إلى الله ورسوله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ} (¬2) وإنما يكون الرد إلى الله رجرعا إلى الكتاب، ولا يكون الرد إلى الرسول إلا رجوعًا إلى سنته بعد وفاته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -. وَلْتَرْجَعْ السُنَّةُ بعد هذا إلى القرآن بمدلولاتها التفصيلية كلها، فان أحدًا من أهل العلم لا يخالف في أن العمل بما جاءت به السنة هو عمل بالقرآن، لأن القرآن هو الذي دل على وجوب العمل بالسنة، ولأن القرآن أعم والحديث أخص ولا بد أن يشتمل الأعم بكلياته على الأخص بجزئياته، وما بين القرآن والحديث من اتفاق في الأصول لا ينفي ما تفرد الحديث بتشريعه أو توضيحه حتى من تلك الأصول، فإنما جعل الله رسوله إمامًا، وسنته قدوة، وهديه النبوي أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا. ¬

_ (¬1) [سورة النور، الآية: 63]. (¬2) [سورة النساء، الآية: 59].

ولقد تحدث الإمام الشافعي في " رسالته " (¬1) عما سَنَّهُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما ليس فيه نص قرآني، فأداره على أربعة وجوه ترتد كلها إلى الإقرار بوجود زيادة في السنة على ما في الكتاب، وَأَوْشَكَ - وهو يعلل مصدر هذه الزيادة ومدى حجيتها في التشريع - أَنْ يُرَجِّحَ الوجه الثاني الذاهب إلى أن النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - «لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إِلاَّ وَلَهَا أَصْلٌ فِي الكِتَابِ كَمَا كَانَتْ سُنَّتُهُ لِتَبْيِينِ عَدَدَ الصَّلاَةِ، وَعَمَلِهَا عَلَى أَصْلِ جُمْلَةِ فَرْضِ الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ ما سَنَّ مِنَ البُيُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2) وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3) فَمَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَإِنَّمَا بَيَّنَ فِيهِ عَنْ اللهِ كَمَا بَيَّنَ الصَّلاَةَ» (¬4). ويخيل إلينا أن المذهب الأخير هو أصوب المذاهب لدى توضيح مكانة الحديث في التشريع، فإنه يوفق بغير تكلف ولاتعسف بين اشتمال القرآن على كل شيء، وتبيانه كل شيء، وأن الله لَمْ يُفَرِّطْ فيه من شيء، وَبَيَّنَ إثبات السنة أحكامًا لم يثبتها القرآن ولم ينفها مع أن أصولها الأولى واردة في القرآن، وإن هذا المذهب المعتدل ليأذن لنا دون تردد، بتسمية الحديث «الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام»، ولا علينا بَعْدُ أَنْ يُعَدَّ هذا الأصل عند بعضهم مستقلاً ¬

_ (¬1) " الرسالة ":ص 91. (¬2) [سورة البقرة، الآية: 188] و [سورة النساء، الآية: 29]. (¬3) [سورة البقرة، الآية: 275]. (¬4) قارن هذا بقول الطبري في " التفسير ": 1/ 25: «إِنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ، عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لاَ يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، إِلاَّ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ، مِنْ وجُوهِ أَمْرِهِ: وَوَاجِبِهِ، وَنَدْبِهِ، وَإِرْشَادِهِ ... إِلَى آخرِِهِ».

فيما شرعه من أحكام، وعند بعضهم الآخر غَيْرَ ذِي استقلال. وقديمًا قال العلماء وصدقوا: «تَرَكَ الكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ» (¬1). ولا غرابة في هذا بعد قول الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2). ¬

_ (¬1) " الموافقات ": 4/ 16، 17. (¬2) [سورة النساء، الآية: 80].

الفصل الثاني: الحديث الصحيح حجة في التشريع:

الفَصْلُ الثاَّنِي: الحَدِيثُ الصَّحِيحُ حُجَّةٌ فيِ التَّشْرِيعِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ السُنَّةِ وَالكِتَابِ فِي الحَلاَلِ وَالحَرَامِ: لكأني برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشف حجاب الغيب فرأى في القرون من بعده قومًا يفرقون بين كتاب الله وسنة رسوله، ولا يعملون إلا بما نص عليه القرآن وحده، فإذا هو يُصَوِّرُ لنا هؤلاء تصويرًا ينبئنا عن فداحة خطئهم، وضلالهم عن الصراط المستقيم، فيقول: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» (¬1). ويفسر الإمام الشافعي اعتناء النبي نفسه بضم سنته إلى كتاب الله في الحلال والحرام، وفي كل أمر تشريعي ذي بال، بأن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولم يحرم إلا ما حرم الله في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه من طريق المقدام بن معد يكرب، وقد عد الشاطبي هذا الحديث دليلاً على أن في السنة ما ليس في الكتاب (" الموافقات ": 4/ 15).

كتابه، ثم يؤكد بلهجة جازمة حاسمة أن «جَمِيعَ مَا تَقُولُهُ الأَئِمَّةُ شَرْحٌ لِلْسُنَّةِ، وَجَمِيعُ السُنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ» (¬1). ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يَعُدُّ السُنَّةَ «وَحْيًا يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ كَمَا يُعَلِّمُهُ القُرْآنَ» (¬2)، ويصرح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في " كلياته " (¬3) دون تَجَوُّزٍ وَلاَ اتِّسَاعٍ: «وَالحَاصِلُ أَنَّ القُرْآنَ وَالحَدِيثَ يَتَّحِدَانِ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ بِدَلِيلِ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إِلاَّ أَنَّهُمَا يَتَفَارَقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ القُرْآنَ هُوَ المُنَزَّلُ لِلإِعْجَازِ وَالتحَِّدي بِهِ بِخِلاَف الحَدِيثِ، وَإِنَّ أَلْفَاظَ القُرْآن مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَلاَ لِلْرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أََنْ يَتَصَرَّفَا فِيهَا أَصْلاً. وَأَمَّا الأَحَادِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّازِلُ عَلَى جِبْرِيلَ مَعْنًى صِرْفًا فَكَسَاهُ حلَّةَ العِبَارَةِ». ولقد نكون أشد ميلاً - من ناحية الوحي - إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث، ثم نجنح - بسبب هذه التفرقة - إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا " مباحث في علوم القرآن " (¬4)، إذ «كان - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يُفَرِّقُ بِوُضُوحٍ بَيْنَ الوَحْيِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَحَادِيثِهِ ¬

_ (¬1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 33. (¬2) عزا القاسمي هذا إلى حسان بن عطية في رواية بهذا المعنى ذكرها في " قواعد التحديث ": ص 32. (¬3) " كليات " أبي البقاء: ص 288 (المطبعة الأميرية سَنَةَ 1281 هـ، الطبعة الثانية). وقارن بـ " الإحكام " لابن حزم: 1/ 96. (¬4) راجع من كتابنا هذا بعناية خاصة الفصل الثاني من الباب الأول: ص 22 (مبحث ظاهرة الوحي) الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.

تفاوت علم الصحابة بسنة رسول الله:

الخَاصَّةِ التِي كَانَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ: فَمَا يَجُولُ فِي نَفْسِهِ مِنْ خَوَاطِرَ وَأَفْكَارٍ كَانَ ذَا صِفَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ مَحْضَةٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالكَلاَمِ الرَبَّانِيَّ» (¬1). ونؤثر إذًا - لتبيان المعنى «التوفيقي» في الأحاديث النبوية التبليغية - أن نسميها «بالحكمة» كما سماها القرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (¬2)، فقد اختار معظم العلماء المحققين أن الحكمة في الآية هي شيء آخر غير القرآن، وهي مجموعة ما أطلع الله عليه رسوله من مقاصد الشرع وتعاليمه وأسراره، التي لا يمكن أن تكون غير سنة الرسول القولية والفعلية، لأن الله أمن على خلقه - كما قال الشافعي - «بِتَعْلِيمِهِمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، فَلَمْ يُجِزْ - وَاللُه أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ: الحِكْمَةُ هُنَا إِلاَّ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ الكِتَابَ، وَأَنَّ اللهَ اِفْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ، وحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ: (فُرِضَ) إِلاَّ لِكِتَابَ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِيمَانَ بِرَسُولِهِ مَقْرُونًا بِالإِيمَانِ بِهِ» (¬3). تَفَاوُتُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ: ولو رجعنا إلى العصر النبوي لرأينا رسول الله في البيت والمسجد والسوق وساحة المعركة، وفي الحضر والسفر، مُعَلِّمًا للرعيل الأول من ¬

_ (¬1) انظر كتابنا " مباحث في علوم القرآن ": ص 32 وما بعدها. (¬2) [سورة آل عمران، الآية: 164]. (¬3) الرسالة ص 78.

الصحابة الكرام، يرشدهم بأقواله وأفعاله إلى فهم القرآن في كل نازلة تقع لهم، ولرأينا من عناية أولئك الصحابة بسنته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ما لا تدرك العبارة وصفه، حتى كان بعضهم يتناوبون مجلسه يومًا بعد يوم، ينزل هذا يومًا وينزل ذاك يومًا آخر، ثم يخبر كل منهما صاحبه بما سمعه من أقوال رسول الله وتوجيهاته، مخافة أن يفوت أحدهم منها شيء، بعد أن شَوَّقَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى العلم وأروى ظمأهم إليه بمثل قوله: «رَحِمَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (¬1). لكن الصحابة لم يبلغوا جميعًا مرتبة الاجتهاد، بل تفاوتوا في علمهم بسنة الرسول وأقواله، إذ كان فيهم القروي والبدوي، والصانع والتاجر، وفيهم من صحب النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة واحدة، ومن سمع منه حديثًا واحدًا. «وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ سَمِعَ [مِنْهُمْ] حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ أَوْ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَعْمَلُ بِهِ حَسْبَ فَهْمِهِ، مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ لاَ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّ غَيْرَ المُجْتَهِدِ مِنْهُمْ كُلِّفَ بِالرُّجُوعِ إِلَى المُجْتَهِدِ فَمَا سَمِعَهُ مِنَ الحَدِيثِ، لاَ فِي زَمَانِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلاَ بَعْدَهُ فيِ زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَهَذَا تَقْرِيرٌ مِنْهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ العَمَلِ بِالحَدِيثِ لِغَيْرِ المُجْتَهِدِ وَإِجْمَاعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَلَوْلاَ ذَلِك لأَمَرَ الخُلَفَاءُ غَيْرَ المُجْتَهِدِ مِنْهُمْ - سِيمَا أَهْلَ البَوَادِي أَنْ لاَ يَعْمَلُوا بِمَا بَلغَهُمْ مِنَ النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَافَهَةً أََوْ بِوَاسِطَةٍ حَتَّى يَعْرِضُوا عَلَى المُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَرِدْ مِنْ هَذَا عَيْنٌ وَلاَ أَثَرٌ» (¬2). ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم ": 1/ 39. (¬2) من أقوال الإمام السندي الحنفي، نقلها علم الدين الفُلاَّنِي في (" إيقاظ الهمم "): ص 90. (مطبعة رياض الهند، سَنَةَ 1298 هـ).3333

ولم يكن بُدٌّ - وقد تفاوت علم الصحابة بسنة الرسول - من أن يختلفوا في تعليل بعض الأحكام، وفي ضبط بعض الألفاظ، وفي مقدار موافقتهم للسنة فما اجتهدوا فيه واستنبطوه، إذ «رَأَى كُلُّ صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ وَفَتَاوَاهُ وَأَقْضِيَتَهُ، فَحَفِظَهَا وَعَقَلَهَا، وَعَرَفَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهًا مِنْ قِبَلِ حُفُوفِ القَرَائِنِ بِهِ، فَحَمَلَ بَعْضَهَا عَلَى الإِبَاحَةِ، وَبَعْضَهَا عَلَى النَّسْخِ لأَمَارَاتٍ وَقَرَائِنَ كَانَتْ كَافِيَةً عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ وِجْدَانُ الاِطْمِئْنَانِ وَالثَّلَجِ مِنْ غَيْرِ اِلْتِفَاتٍ إِلَى طُرُقِ الاِسْتِدْلاَلِ» (¬1). تمر بالنبي وصحابته جنازة، فيقوم لها ويقوم الصحابة معه اقتداءً به، ولكنهم لا يعرفون سر قيامه لها، ولا يكتم أحد الصحابة عجبه، فيقول: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، ويجيبه النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!» ثم يردف مُعَلِّمًا مُرْشِدًا: «إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ، فَقُومُوا لَهَا» (¬2). وقد اختلف الصحابة في تعليل القيام للجنازة، وتفسير عموم الأمر به للمؤمن والكافر على السواء، فقيل: تعظيمًا لهول الموت: وقيل: إعظامًا للملائكة الحافين بالميت (¬3). ولكن مقتضى التعليل بقوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» أن القيام يستحب لكل جنازة (¬4). ويروي عبد الله بن عمر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ ¬

_ (¬1) قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص 113 (لولي الله الدهلوي) طبع بمصر سَنَةَ 1341 هـ. (¬2) الحديث في " الصحيحين " من طريق جابر بن عبد الله مرة، ومن طريق سهل بن حنيف مرة أخرى. وقارن بـ " سنن أبي داود ": 3/ 277 رقم الحديث 3174 (باب القيام للجنازة). (¬3) قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص 114. (¬4) إلى هذا التعليل ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار ".

أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فتقضي عليه عاثشة أم المؤمنين بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه، ولم يضبط لفظه، فإنما مَرَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»، فلم يكن العذاب لبكاء أهلها عليها، وليس عذاب كل ميت في قبره معلولاً للبكاء، كما يستنتج من ألفاظ الحديث برواية ابن عمر. بل الحديث - على رواية عائشة - تقرير لمشهد حكاه النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كما سمعه ورآه، فلا يتضمن حكمًا شرعيًا ولا تعليمًا نبويًا (¬1). وقد يقع اجتهاد الصحابي موافقًا للحديث كما في رواية " النسائي " أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، فَقَالَ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي فِي ذَلِكَ»، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَلَحُّوا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَقَضَى فِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَلَحُّوا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَقَضَى بِأَنَّ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلَهَا المِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ (*) فَشَهِدَ بِأَنَّهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ. فَفَرِحَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَرْحَةً لَمْ يَفْرَحْ بِمِثْلِهَا قَطُّ بَعْدَ الإِسْلاَمِ (¬2). وهكذا اختلفت مذاهب أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وأخذ عنهم التابعون، فحفظ كل ما تيسر له، وعرف مذاهب الصحابة، ووثق بين المختلف منها على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، وصار لكل عالم من أئمة التابعين مذهب مستقل، وانتصب في كل بلد ¬

_ (¬1) انظر " حجة الله البالغة ": ص 113. (¬2) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 314. --------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد في الكتاب المطبوع (معقل بن يسار) والصواب (مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ)، انظر " سنن النسائي " تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: 6/ 121، حديث رقم 3355، الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب. سوريا.3333

نشأة المذاهب واحتجاج أصحابها بالحديث:

إمام، واستفتاهم المستفتون، ودارت بينهم المسائل، ورفعت إليهم الأقضية والأحكام (¬1). نَشْأَةُ المَذَاهِبِ وَاحْتِجَاجُ أَصْحَابِهَا بِالحَدِيثِ: وسمع أتباع التابعين فتاوى المفتين، وسألوا عن قضاياهم ومسائلهم في الأمصار، ولم يألوا جُهْدًا في الاجتهاد والاستنباط، وفي القضاء والفتوى، ثم كانت المذاهب، وكثر أتباعها، واستند كل - تأييدًا لرأيه - إلى السُنَّةِ يستنطقها الحكم الصحيح في إيضاح المشكلات، والفصل في النازعات، وَصَرَّحَ أصحاب تلك المذاهب كلها بتعيين العمل بالسنة، ووجوب الاحتجاج بها، وأمسوا - عند اختلاف أحاديث الرسول في مسألة ما - يرجعون إلى أقوال الصحابة لأنهم أقرب إلى نبع الإسلام الأصيل، وأقرب الناس عَهْدًا برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. على ان أصحاب المذاهب المشهورة - مهما يزعم الباحثون من تفاوتهم في حفظ الحديث والعلم به - قد أجمعوا كلهم على أن الحديث إذا صح يقدم على القياس والنظر، فما فيهم إمام إلا قال: «إذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي» أو عبارة تشبه هذه. حتى أبو حنيفة الذي «أَفْرَطَ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي ذَمِّهِ، وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي ذَلِكَ» (¬2)، لم يوجه وجهه إلا للعمل بالسنة متى ظفر بها وصحت لديه. وقد فسر الشعراني وجهة نظر أبي حنيفة أدق التفسير حين قال: «وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الذِي أَضَافَ إِلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ القِيَاسَ عَلَى النَصِّ، ظَفَرَ بِذَلِكَ فِي كَلاَمِ ¬

_ (¬1) " حجة الله البالغة ": ص 114 بشيء من التصرف. (¬2) هذه عبارة ابن عبد البر في " جامع بيان العلم ": 2/ 148.

مُقَلِّدِيهِ الذِينَ يُلْزِمُونَ العَمَلَ بِمَا وَجَدُوهُ عَنْ إِمَامِهِمْ مِنَ القِيَاسِ، وَيَتْرُكُونَ الحَدِيثَ الذِي صَحَّ بَعْدَ مَوْتِ الإِمَامِ، فَالإِمَامُ مَعْذُورٌ، وَأَتْبَاعُهُ غَيْرَ مَعْذُورِينَ، وَقَوْلُهُمْ: (إِنَّ إِمَامَنَا لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا الحَدِيثِ) لاَ يَنْهَضُ حُجَّةً، لاِحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَوْ ظَفَرَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ» (¬1). وربما عذرنا أبا حنيفة في إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما وَرَدِّهِ كَثِيرًا من أخبار الآحاد، إذا عرفنا أن الكذب على سول الله فشا في عهده فُشُوًّا مُخِيفًا، فكان لزامًا على إمام الرأي أن يتشدد في قبول الأحاديث، ويشترط للعمل بأخبار الآحاد شروطًا غَلاَ في بعضها، فحمل الأئمة على انتقاد بعض [مواقفه]، وعلى ذم مذهبه أحيانًا. وأهم شروطه في هذا الباب ألا يعارض خبرُ الآحاد الأصول المجتمعة بعد استقراء موارد الشرع، وألا يعارض عمومات القرآن وألا يخالف السُنَّةَ المَشْهُورَةَ، سواء أكانت قولية أم فعلية، وألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص بلد، وألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه، وألا يعمل الراوي بخلاف حديثه، وألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم، وألا يكون الخبر منفردًا بزيادة، سواء أكانت في المتن أم في السند، وألا يكون مما تعم به البلوى (¬2). أما الشافعي فإجلاله للحديث أشهر من أَنْ يُعّرَّفُ بِهِ، فهو القائل: «وَهَلْ لأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حُجَّةٌ؟ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي» (¬3). ¬

_ (¬1) " الميزان " للشعراني: ص 71. (¬2) قارن بـ " أصول السرخسي ": 1/ 364. (¬3) " الميزان " للشعراني: ص 65.

الاحتجاج بخبر الآحاد وشروطه:

وهو الذي أفرد في " رسالته " فصلاً برمته لتبيان «الحُجَّةِ فِي تَثْبِيتِ خَبَرَ الوَاحِدِ» (¬1). وأما مالك بن أنس فحسبك أنه إمام أهل المدينة، دار السنة المشرفة، وأن كتابه " الموطأ " نمط من الفقه على طريقة أهل الحديث. وقد جاء احتجاجه بالحديث عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا، فلن تزيده الأقوال المروية عنه في هذا الصدد إيضاحًا ولا تفصيلاً. وكان مالك - على كل حال - يرى أن خبر الآحاد قطعي يوجب العلم والعمل مَعًا (¬2). وأما أحمد بن حنبل فـ " مسنده " العظيم في الحديث ينبئ عن مكانة السُنَّةِ العُظْمَى لديه في التشريع، وما من ريب في أنه من أكبر حفاظ الحديث، بل كان الحديث أغلب عليه من الفقه، «فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (¬3). وإن هذا كله ليؤكد أن كبار الأئمة كانوا يعرفون للحديث مكانته، ويعدونه الأصل الثاني للتشريع، وإنما يختلفون في مدى اطمئنانهم إلى أخبار الآحاد. الاِحْتِجَاجُ بِخَبَرِ الآحَادِ وَشُرُوطِهِ: ومن لَمْ يَحْتَجَّ بِخَبَرِ الآحَادِ إلا بشروط - كما صنع أبو حنيفة - كان يلتمس العذر لنفسه فيما ورد من آثار عن الصحابة ربما استؤنس ¬

_ (¬1) انظر " الرسالة ": ص 401. (¬2) " الإحكام " للآمدي: 1/ 108. (¬3) " إعلام الموقعين " لابن القيم: 1/ 32، مطبعة النيل، سَنَةَ 1325 هـ.

بها على أن بعضهم لم يكن يعمل بهذا الضرب من الخبر الآحادى: فقد رَدَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وَرَدَّ عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، وَرَدَّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رد الحكم بن العاص، وَرَدِّ علي خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وكان علي لا يقبل خبر أحد حَتَّى يُحَلِّفَهُ سوى أبي بكر، وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (¬1). والحق أن الصحابة احتجوا بخبر الآحاد، وعملوا بمضمونه، وإنما توقفوا في قبول بعضه دَفْعًا للريبة، أو رغبة في اليقن، أو تَوَاصِيًا بالحيطة البالغة في رواية الحديث. ويفسر هذا قول عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ وَلَكِنَّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»!. ويزيل اللَّبْسَ في هذا مرة واحدة علمنا بحقيقة الخبر الآحادى، فليس المراد منه ما رواه واحد فقط، بل ما يقابل المتواتر كما أوضحنا في بحث الصحيح (¬2)، فانضمام صحابي آخر إلى الصحابي الأول في الروايات المذكورة ليس كافيًا لإخراجها من صفة «الآحادية»، بل لو انضم إلى الصحابي الأول اثنان أو ثلاثة أو حتى جمع كثير لا يؤمن تواطؤهم على الكذب لم تخرج تلك الأخبار عن حَيِّزِ الآحاد. ولهذا قال الآمدي: «وَمَا رَدُّوهُ مِنَ الأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لاَ لِعَدَمِ الاِحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى العَمَلِ بِهَا» (¬3)، وعلى هذا متى ¬

_ (¬1) " الإحكام " للآمدي: 1/ 94. (¬2) ارجع إلى صفحة 150 وقارن بـ " شرح النخبة ": ص 6. (¬3) " الإحكام " للآمدي: 1/ 97. وقارن بـ " إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان " لابن القيم ": ص 160.

صح الخبر صار أصلاً من الأصول. فلم يكن الباحث بحاجة إلى عرضه على أصل آخر، لأن الأصل الثاني إن وافقه عضده وقواه، وإن خالفه لَمْ يَجُزْ رَدُّ أحدهما لأن هذا من قبيل رد الخبر بالقياس، وهو مرفوض بالاتفاق، فان السُنَّةَ مقدمة على القياس (¬1). «وَلَوْ أَنَّ امْرُءًا قَالَ: لاَ نَأْخُذُ إِلاَّ مَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلَكَانَ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ (¬2)، وَأُخْرَى عِنْدَ الفَجْرِ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَلاَةٍ، وَلاَ حَدَّ لِلأَكْثَرِ فِي ذَلِكَ» (¬3). لكن صحة العمل بخبر الواحد شيء، والقطع به شيء آخر، فالجمهور على أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل (¬4)، ويظل هذا النوع من الخبر ظني الدلالة لا يفيد القطع عند أكثرهم (¬5)، وذهب قوم، منهم الإمام أحمد، والحارث بن أسد المحاسبي، الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو سليمان - وروي عن مالك - إلى أنه قطعي موجب للعلم اليقيني (¬6)، حتى قال ابن حزم: «إِنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ مَعًا» (¬7). ومن هنا ¬

_ (¬1) ذكر نحو هذا ابن السمعاني في كتابه " الاصطلام "، نقله القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 77. (¬2) أخذًا من قوله تعالى في سورة الإسراء {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. (¬3) " ألإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 2/ 80. (¬4) " شرح مقدمة مسلم " (للنووي): 1/ 63. (¬5) عَلَّلَ النووي في (" التقريب ": ص 41) عدم قطعية الآحادي ولو كان صحيحًا بقوله: «لِجَوَازِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَلَى الثِّقَةِ» وعزا هذا الرأي للأكثرين والمحققين. (¬6) " الإحكام " (للآمدي): 1/ 108. (¬7) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 1/ 119 - 137.

تصدى الخطيب البغدادي لنقد هذا الرأي فعقد في " الكفاية " فصلاً للرد على من قال: يجب القطع على خبر الواحد (¬1). وآخر لذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم، وإبطال تلك الشبهة (¬2)، ولم ير في الوقت نفسه مَانِعًا من الإفاضة في التزام العمل بأخبار الآحاد، والاحتجاج على ذلك بما صَحَّ من الروايات، إذ تكلم على ذلك كله في بحث مستقل بعنوان: «ذِكْر بَعْضِ الدَّلاَئِلِ عَلَى صِحَّةِ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ وَوُجُوبِهِ» (¬3)، ثم فصل ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه، وانتهى إلى أن هذا الضرب من الخبر لا يقبل في «مُنَافَاةِ حُكْمِ العَقْلِ وَحُكْمِ القُرْآنِ الثَّابِتِ المُحْكَمِ , وَالسُّنَّةِ المَعْلُومَةِ , وَالفِعْلِ الجَارِي مَجْرَى السُّنَّةِ , وَكُلِّ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ» (¬4). ولئن دَلَّ هذا على شيء فإنما يدل على مكانة الحديث الصحيح في التشريع ولو رُوِيَ آحاديا، فإنه ليبدو عَسِيرًا، بل شبه مستحيل، أن تروى أخبار العلوم الوضعية، فضلاً على الدينية السماوية، بطرق أدق إسنادًا، وأصدق وَرَعًا، وأكمل أمانة. وأشد حَذَرًا، وأبلغ احتياطًا، وأوسع شهرة واستفاضة وانتشارًا، من أحاديث هذا الرسول العربي العظيم، ولو لم يبلغ معظمها درجة التواتر، ولم نورث أجيال الأمة كلها شعورًا واحدًا - أو متماثلاً - في العلم القطعي اليقيني. ولذلك لا يضر الخبر الصحيح عَمَلُ أكثر الأمة بخلافه، لأن قول ¬

_ (¬1) " الكفاية في علم الرواية ": ص 18 - 20. (¬2) المصدر نفسه: 25، 26. (¬3) نفسه: ص 26. (¬4) نفسه: ص 432.

الاحتجاج بالخبر المحتف بالقرائن، واستبعاد الضعيف:

الأكثرين ليس بحجة (¬1)، ولأن العمل بالحديث خاضع لمقاييس نقدية تتناول - كما أوضحنا (¬2) - المتن قبل السند، المضمون قبل الشكل، والمعنى قبل المبنى. الاِحْتِجَاجُ بِالخَبَرِ المُحْتَفِّ بِالقَرَائِنِ، وَاِسْتِبْعَادِ الضَّعِيفِ: من أجل هذا لم يكتف المحققون من العلماء بالاحتجاج بما صح سنده من أخبار الآحاد، بل احتجوا أيضًا بالخبر المحتف بالقرائن، وعدوه مفيدًا للعلم (¬3)، وجنحوا إلى اعتباره أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، وإن كانوا قد خصوا هذا المزية «بِمَا لاَ يَنْتَقِدُهُ أَحَدٌ مِنَ الحُفَّاظِ ... ، وَبِمَا لَمْ يَقَعِ التَّجَاذُبُ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِ ... ، حَيْثُ لاَ تَرْجِيحَ لاِسْتِحَالَةِ أَنْ يُفِيدَ المُتَنَاقِضَانِ العِلْمَ بِصِدْقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ» (¬4). فإن يقبل الخبر المحتف بالقرائن، وتكن قرائنه هي التي تقويه، فإن للحسن - ولا سيما الحسن لذاته (¬5) - من الشبه بالصحيح ما يكاد يدرجه فيه، وما يكاد يُشْرِكُهُ معه في الاحتجاج، وإن كان دونه ¬

_ (¬1) قارن بـ " حصول المأمول من علم الأصول " (لصديق حسن خان): ص 59. مطبعة الجوائب 1296 هـ بالقسطنطينية. (¬2) راجع فصل (الحديث بين الشكل والمضمون) من كتابنا هذا: ص 275 - 288. (¬3) عبارة ابن حجر في " شرح النخبة ": ص 7: «الخَبَرُ المُحْتَفُّ بِالقَرَائِنِ يُفِيدُ العِلْمَ خِلاَفًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ». (¬4) انظر أيضاً شرح النخبة 7. (¬5) خصصنا الحسن لذاته بالذكر، لأن حسنه ذاتي قائم فيه، غير ناشئ عن سبب أجنبي آخر كما في الحسن لغيره عندما يعضد ببعض الشواهد والمتابعات. وراجع ما ذكرناه عن الحديث الحسن ص 156.

قوة ودرجة وإشعارًا باليقين. فلا عجب إذا قال أكثر الأئمة: إن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، فعليه - كما ذكر الخطابي - «مَدَارُ أَكْثَرِ الحَدِيثِ، لأَنَّ غَالِبَ الأَحَادِيثِ لاَ تَبْلُغُ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ، وَعَمِلَ بِهِ عَامَّةُ الفُقَهَاءِ، وَقَبِلَهُ أَكْثَرُ العُلَمَاءِ» (¬1). بيد أن الذي ينحى عن مدار الاحتجاج، مَكَانًا قَصِيًّا، هو الضعيف بجميع أضربه وصوره، وذلك أمر طبيعي لا يحتاج إلى التفسير، فإن أنواع الضعيف كلها تثير الريبة، سواء أكانت آفتها في المتن أم في الإسناد، ولسنا براجعين كرة أخرى إلى جميع ما وصفناه من المصطلحات الخاصة للضعف لكشف اللثام عن سر الضعف في كل منها على حدة، فما غادرنا مصطلحًا منها إلا ختمناه بالحديث عن المانع الجوهرى من الاحتجاج به، وإنما نود هنا أن نذكر القارئ بالروح النقدي المنهجي الذي ساد أبحاث المحدثين، فحال دون اعتبار أي لون من الضعف، مهما يكن يسيرًا، مصدرًا لحكم شرعي ولا لفضيلة خلقية، على التحقيق (¬2). ونود أيضًا أن يظل القارئ على ذكر من اصطلاحات النقاد في التعديل والجرح، وكونها في الجرح أشد منها في التعديل (¬3)، ليستيقن أن تلك المقاييس النقدية الدقيقة جعلت جرح الرواة جائزًا بل واجبًا (¬4) لتصحيح الحديث الذي يؤخذ به، ولتنقيته من كل شائبة، فما يكون صالحًا للاحتجاج إلا الحديث الذى ثبتت نسبته إلى رواته الصالحين، وأدرك كل من رواه أن هذا الأمر دين! ¬

_ (¬1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 87 (بيان كون الحسن حجة في الأحكام). (¬2) اقرأ بإمعان بحثنا السابق (رواية الأحاديث الضعيفة والعمل بها) ص: 210 - 214. (¬3) أوضحنا ذلك في فصل (شروط الراوي ومقاييس المحدثين) ص: 126 - 140. (¬4) " شرح صحيح مسلم " (للنووي): ص 60.

الفصل الثالث: أثر الحديث في علوم الأدب:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الحَدِيثِ فِي عُلُومِ الأَدَبِ: نَشْأَةُ العُلُومِ الإِسْلاَمِيَّةِ فِي ظِلِّ الحَدِيثِ: كان بعض العلماء يقول: «العُلُومُ ثَلاَثَةٌ عِلْمٌ نَضَجَ وَمَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ النَّحْوِ وَالأُصُول، وَعِلْمٌ لاَ نَضَجَ وَلاَ احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ البَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَعِلْمٌ نَضَجَ وَاحْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ» (¬1). وانه لقول سديد ينبئ عن المراحل التي مرت بها العلوم الإسلامية الكبرى، ويصور النتائج التي انتهى إليها الباحثون بعد الموازنة بين تلك العلوم، وبعد المقارنة بين أصولها المؤصلة، وقواعدها المقررة، ومصطلحاتها الدقيقة. ولقد جعل صاحب هذه الكلمة كُلاًّ من الفقه والحديث عِلْمًا وَاحِدًا، وأصاب وأحسن صنعًا، لأن فروع الفقه تشعبت عن التراث التشريعي الضخم الذي تركه حديث رسول الله في مختلف أبواب الحياة، ¬

_ (¬1) عزاه السيوطي في " الأشباه والنظائر في النحو ": 1/ 5 إلى بدر الدين الزركشي في أول قواعده.

سواء أكان هذا الحديث تبيانًا لمجملات القرآن أم أصلاً تشريعيًا مستقلاً بعد كتاب الله. وما من ريب في أن هذا التداخل الوثيق بين الفقه والحديث قد قارب بين خطواتها في طريق التطور، وقارن بين مراحلهما المتعاقبة في سبيل النماء، فما أرسيت أصول الفقه إلا بعد أن وضعت اللبنة الأولى في بناء «علوم الحديث». وبعد أن مر الحديث والفقه بطور التمهيد والتحضير، اتسع البحث فيهما وتنوع، ودارت حولهما المدارس الفكرية تنتصر للمأثور تارة وللرأي تارة أخرى، فنضجا مَعًا واحترقا مَعًا، وظلت الرابطة وثيقة بينهما لتماثلهما في النشأة الأولى، وتشابههما في خطاهما الكبرى، واستمرار تلاقيهما في خدمة التشريع، وتعبيد الطريق للتحقيق والتدقيق فإن نُرِدْ الآن تسميتهما باسم واحد لا نجد أدق في الدلالة عليهما من لقب (علم الحديث)، وكأنا حينئذٍ نستغني بأحدهما عن الآخر إيماء إلى مكانة الحديث خاصة في مسائل الفقه جميعًا، فلولا الحديث لما كان الفقه عِلْمًا مَذْكُورًا. إن العلم الذي نضج ثم احترق إذن - من كثرة التصنيف فيه - هو علم الحديث أو «فقه الحديث»، وإن العلوم الأخرى- سواء أنضجت ولم تحترق كأصول النحو أم لم تنضج ولم تحترق كمناهج التفسير- قد تأثرت تأثرًا يتفاوت قوة وضعفًا، واتساعًا وعمقًا، بما وضعه نقاد الحديث من مقاييس، وَأَرْسَوْهُ من قواعد وأصول. ولئن نشأ الفقه في ظل الحديث ثم أضحى جزءًا لا يتجزأ من كله الكبير، فقد وجد التفسير أيضًا طريقه في رحاب الحديث حين عَوَّلَ المفسرون على السنة النبوية في تأويل كتاب الله، وظل التفسير بعد ذلك - كالفقه - جزءًا

تأثير الحديث في أصول النحو:

من الحديث، حتى استقل علمًا قائمًا بذاته له مناهجه وأصوله، ولكنه - على استقلاله - ما انفك شديد الارتباط بحديث الرسول، ولو في جانب منه على الأقل: وهو جانب التفسير بالمأثور (¬1). وهكذا احتج المفسرون بالعلم الذي نضج واحترق - وهو الحديث - تأييدًا للذي لم ينضج ولم يحترق وهو التفسير (¬2)، كما احتجوا أيضًا على الفقه بالحديث، فَدَأَبَ الفقهاء المفسرون يحتذون مناهج المحدثين، وطبعت ألوان كثيرة من الفقه والتفسير بطابع الحديث. تَأْثِيرُ الحَدِيثِ فِي أُصُولِ النَّحْوِ: بقيت أصول النحو التي نضجت ولم تحترق، فَأَنَّى يكون تأثرها بالحديث؟ وما حاجة النحو - وهو العلم الدنيوي الإنساني - إلى أصل من أصول الدين، ودعامة من دعائم التشريع؟!. ومن عَجَبٍ أَنَّا، في إجابتنا، نكاد نرى رأي العين تأثير الحديث في النحو وأصوله بنسبة من القوة لا تقل عن تأثير الحديث في الفقه والتفسير، ولكن الزاوية التي ننظر من خلالها الى التأثر والتأثير في هذا المضمار أصيلة مبتكرة ليس فيها شيء من التقليد. وقبل أن نمضي في توضيح رأينا نود أن نلتزم - تَخَفُّفًا من ثقل ¬

_ (¬1) اقرأ في كتابنا " مباحث في علوم القرآن " فصل (التفسير) ص 289، واقرأ منه بإمعان ما يتعلق بالتفسير بالمأثور. (¬2) ولا يمكن أن ينضج ولا أن يحترق، لأنه - لتعلقه بكلام الله - سيظل محتملاً لألوان من التأويل لا تحصى عددًا، مع تصريح أصحابها في كل زمان ومكان بأنهم لم يصيبوا حقيقة المراد بكلام الله العليم الحكيم.

التعبير - أن مرادنا من «النحو» كلما ذكرناه في هذا الفصل أصوله الكبرى التي تشتمل على مسائل لغوية محضة اشتمالها على جزئيات نحوية صرفة: فأصول النحو هذه - على هذا الاصطلاح العام الشامل - هي التي تلقت تأثير الحديث، وأخذت من «منهجيته» الشيء الكثير. على أن تأثير الحديث في أصول النحو - على اتساعه وعمقه وبعد مداه - كان على وجهين: أحدهما رافق نشأة علم الحديث قبل أن ينضج، والآخر شهد احتراق هذا العلم بعد أن نضج وآتى أكله اليانع الشهي!. وليس لنا في الوجه الأول أن نغلو في هذا الثأثير ولا أن نطيل، فإنا لنتصور الآن نشأة التفكير بإسناد الحديث سَاذَجًا أَوَّلِيًّا في عصر الخلفاء الراشدين، ثم نتصور نشأة التفكير - سَاذَجًا أَوَّلِيًّا أيضًا - بوضع مسائل في النحو والعربية في عهد عَلِيٍّ آخر هؤلاء الراشدين، ونبصر القوم في هذا المضمار أو ذاك يُعْنَوْنَ بضبط روايتهم التي يستمدون منها مسألة نحوية عنايتهم بضبط التي يستنبطون منها حُكْمًا شَرْعيًّا: فأبو الأسود الدؤلي الذي اشتهر بأنه سبق إلى وضع مسائل في العربية (¬1) إنما عزا إلى عَلِيٍّ التفكير الأول في ذلك الأمر، وفي عزوه هذا ضرب من الإسناد يؤكد التبكير في إيضاح طريق التحمل والأداء ولو لم يتعلق المروي بموضوع ديني تشريعي. وأبو الأسود، كما نقل عن عَلِيٍّ هذه الرواية وأسندها، أخذ عنه الكثير من فتواه في الدين عَازِيًا إليه ما أخذ أوضح ما يكون العزو والإسناد. فما يُظَنُّ من صعوبة تحديد الوقت ¬

_ (¬1) " البرهان في علوم القرآن " للزركشي: 1/ 378.

تبكير القوم بالرواية المصحوبة بالإسناد:

الذى بدأ فيه الإسناد في رواية الحديث لم ينشأ إلا من قلة الرجوع إلى مصادر الحديث، لأن من العسير نفي تلك الآثار المستفيضة المتضافرة على أخذ بعض الصحابة من بعض، وإسناد أحدهم القول إلى أخيه، وتعضيد القول الواحد بما يثبته من أقوال الصحب الغر الميامين. والقارئ الذي اطلع على فصلنا السابق عن «الاحتجاج بالحديث في التشريع»، وشهد معنا ما أشهدناه إياه من تناوب الصحابة مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لسماع العلم وتحمله وأدائه، ورأى الصور التي انتزعناها له من رواية بعض القوم عن بعض حتى في عصر النبي الكريم، ما نحسبه بحاجة إلى توكيد جديد لممارسة الرواية وما يتصل بها من الأسانيد، وما نحسبه يتردد في الحكم على الصحابة والتابعين بعزوهم الروايات لأصحابها عندما كانوا يحدثون. تَبْكِيرُ القَوْمِ بِالرِّوَايَةِ المَصْحُوبَةِ بِالإِسْنَادِ: وحين نقع على أخبار تومئ إلى أن بعض التابعين - كقتادة بن دعامة السدوسي- لم يكن يُسْنِدُ الحديث، تكون هذه الأخبار نفسها شاهدنا في أن معظم التابعين في مختلف الأمصار كانوا للحديث مسندين. ولولا ذلك لما حرص الراوي على استثناء قتادة - أو أي تابعي آخر سواه - من حكم عام لا يجهل أحد أنه - في ذلك العصر- كان يشمل الجميع. ففي الطبقات الكبرى (¬1) على سبيل المثال قول حماد بن سلمة: ¬

_ (¬1) " الطبقات الكبرى " لابن سعد: 7 / ق 2 - ص 2.

«كُنَّا نَأْتِي قَتَادَةَ فَيَقُولُ: بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ. وَلا يَكَاد يُسْنِدُ. فَلَمَّا قَدِمَ حَمَّادُ بْنُ أبي سُلَيْمَانَ البَصْرَةَ جَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ. فَبَلَغَ قَتَادَةَ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سَأَلْتُ مُطَرِّفًا وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ. وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَ بِالإِسْنَادِ». وظاهر هذا الخبر: أن قتادة ما أخبر بالإسناد إلا بعد أن أصابته عدوى حماد بن أبي سليمان لدى مقدمه البصرة، وفحوى هذا الخبر: أن كثيرًا من التابعين غير حماد بن أبي سليمان كانوا في أمصارهم يسندون، وهذا هو الذي نهضت به الحجة وقام عليه الدليل. والحق أنه لم يكن بد للقوم من مُحَرِّضٍ يغريهم بإسناد الروايات أو السؤال عن إسنادها، وما كان إلى هذا الإغراء من حاجة في زمن الرسول ولا الصحابة الأولين، لأن القوم كانوا يصدق بعضهم بعضًا، ولا يكاد واحد منهم يتهم أحدًا، وإنما «كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ هِيَ الحَدُّ الفَاصِلُ بَيْنَ صَفَاءِ السُنّةِ وَخُلُوصِهَا مِنَ الكَذِبِ وَالوَضْعِ، وَبَيْنَ التَزَيُّدِ فَيهَا وَاتِّخَاذِهَا وَسِيلَةً لِخِدْمَةِ الأَغْرَاضِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاِنْقِسَامَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ اتَّخَذَ الخِلاَفُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ شَكْلاً حَرْبِيًّا سَالَتْ بِهِ دِمَاءٌ وَأُزْهِقَتْ مِنْهُ أَرْوَاحٌ» (¬1). فبعد أن وقعت هذه الفتنة بدأ الناس يسألون عن الإسناد، «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أُخِذُوا حَدِيثَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ البِدْعَةِ تُرِكُوا حَدِيثَهُ» (¬2)، لأن ما تركته الفتنة من ¬

_ (¬1) انظر " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 89. (¬2) انظر " لسان الميزان " (لابن حجر): 1/ 7. وهذا الخبر منسوب إلى ابن سيرين، وفي أوله يقول: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، [فَلَمَّا] وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: [سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنّةِ] فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ ... » الخ.

سَيِّئَ الآثار في النفوس كان مُحَرِّضًا طبيعيًا يغري كُلاًّ من الجانبين بوضع أحاديث في فضائل أحدهما دون الآخر، حتى قال الأديب الشيعي الكبير ابن أبي الحديد: «اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ الفَضَائِلِ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشِّيعَةِ ... » (¬1). والمهم أن الرواية المصحوبة بالإسناد عرفت - أول ما عرفت - في نقل سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، لما كان لها من أثر في توجيه المسائل الفقهية والتشريعية. ومن عُنِيَ إلى ذلك - في صدر الإسلام - بروايات تتعلق بغير الدين أسند ما نقل كما وسعه الإسناد بألفاظ أقرب ما تكون إلى عفوية الورعين، وأبعد ما تكون عن جفاء اللفظيين من أصحاب الاصطلاح.، وعلى هذا، لم يكن الذين سبقوا إلى وضع مسائل في العربية مِمَّنْ عُدُّوا مؤسسي النحو في نشأته الأولى - بِدْعًا من الصحابة والتابعين الآخرين الذين أسهموا في نقل ما تيسر لهم من أخبار وآثار في مختلف الميادين، لأن أحدًا من هؤلاء وأولئك لم يكن يجد فاصلاً حقيقيًا بين رواة الأخبار بوجه عام ورواة الأحاديث النبوية بوجه خاص. ونقول مع ذلك: إن التأثير العفوى الطبيعي الذي خَلَّفَهُ الحديث في أصول النحو، يوم فكر القوم في وضع أوائلها، إنما رافق نشأة علم الحديث قبل أن ينضج، فليس لنا أن نبالي فيه، ولا أن نغلو في أبعاده ومراميه، ولكنا - بعد نضج هذا العلم في القرن الثاني، ثم بعد احتراقه في القرن الثالث - مهما نَغْلُ في وصف ما كان للحديث من أثر في النحو وأصوله، وفي مختلف العلوم ومناهجها، ¬

_ (¬1) " شرح نهج البلاغة ": 2/ 134.

علوم الأدب وتأثرها بأسانيد المحدثين:

نَظَلُّ دون إيفاء علم الحديث حقة، فما من تيار فكري إسلامي إلا وله من عدوى الحديث حظ معلوم، إن لم يكن فيما حمله تراث النبوة من وصايا وَحِكَمٍ وتعاليم ففي طرق التحمل والأداء، وشروط الرواية والرواة، ومقاييس النقد والتجريح، وأساليب التصنيف والتخريج، ومعايير الموازنة والترجيح، فهذه كلها دخلت شواهد النحو، وسادت أبحاث اللغة، وارتفعت إلى أخبار الأدب، وتركت في الجميع أصداءها الشداد، عن طريق الرواية والإسناد! عُلُومُ الأَدَبِ وَتَأَثُّرِهَا بِأَسَانِيدِ المُحَدِّثِينَ: وتفصيل ذلك أن النحو والصرف ومسائل اللغة كلها شعب من علوم الأدب، فلا يستشهد عليها - كما قال الرعيني (¬1) - إلا بكلام العرب الأصيل، وهل من سبيل غير الرواية الصحيحة والإسناد الثابت المتصل للوقوف على كلام العرب القدامى الفصحاء؟ وأجمع العلماء - ولعلهم في إجماعهم قد أصابوا - «على أنه لا يحتج بكلام المولدين واالمحدثين في اللغة العربية، (¬2)، وحملوا - عن طريق هذا الإجماع - إلى علوم العربية روايات لا ينالها الإحصاء ¬

_ (¬1) هو الرعيني الأندلسي، من علماء المائة الثامنة، ومما قاله في " شرح بديعية زميله ابن جابر ": «علوم الأدب ستة: اللغة والنحو والصرف والمعااني والبيان والبديع، والثلاثة الأولى لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب دون الثلاثة الأخيرة فإنه يستشهد عليها بكلام المولدين لأنها راجعة إلى المعاني». انظر " خزانة الأدب " للبغدادي: 1/ 20 (المطبعة السلفية بالقاهرة، 1348 هـ). (¬2) " الاقتراح " للسيوطي: ص 31.

فيها كثير من شعر الجاهليين الذين لم يدركوا الإسلام، والمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وفيها أحيانًا طائفة من الشعر الإسلامي الذي لم يدرك أصحابه من الجاهلية شيئًا (¬1). فهل تيسر لأحد منهم أن ينقل تلك الشواهد كلها من غير أن يتأثر، قليلاً أو كثيرًا، بطريقة المحدثين في إسناد الروايات؟. ربما رفع ههنا بعض الباحثين المعاصرين عقيرتهم لينادوا بنا: بل تأثرت رواية الحديث برواية الشعر وأخبار الشعراء الجاهليين، فإن من الصحابة من أشار إلى أخذ الشعر وتلقيه عن بعض الشعراء قبل الاسلام، حتى قال عمر بن الخطاب لفرات بن زيد الليثي، وقد تمثل بشعر لأخيه: «هَذَا شِعْرُ أَخِيكَ قََسَامَةُ بْنَ زَيْدٍ، هُوَ أَنْشَدَنِيهُ وَعَنْهُ أَخَذْتُهُ» (¬2). ولست أدري لماذا يأبى الباحثون - إزاء مثل هذا الخبر إن صح - إلا أن يعدوه دليلاً على إسناد الجاهليين أخبار الشعراء لمجرد كون الشعر المُتَمَثِّلِ به جاهليًا (¬3)، لا يرون فيه قط أثرًا مما صنعه الإسلام في مثل عمر من الحرص على عَزْوِ كل قول إلى صاحبه ما دام معروفًا، إيثارًا للصدق والورع والأمانة ومكارم الأخلاق!. ¬

_ (¬1) طبقة الشعراء الإسلاميين لم يمل إلى الاحتجاج بها في علوم اللغة والأدب إلا ثلة من العلماء المحققين، كالبغدادي في " خزانة الأدب ": 1/ 20. (¬2) " الإصابة " (لابن حجر): 5/ 216. (¬3) من ذلك أن صديقنا المحقق المفضال الدكتور ناصر الدين الأسد - حين يعرض لهذه الرواية - يعلق عليها بقوله: «والرواية سبيل طبيعية في كل عصر وعند كل أمة، حتى حين تنتشر الكتابة وتذيع. بينما كانت رواية الحديث أمرًا طرأ على العرب بعد الإسلام». (" مصادر الشعر الجاهلي ": ص 256).

وحتى لو عُدَّتْ الشواهد القليلة المروية من هذا القبيل - بأجمعها -حجة على سراية روح الإسناد بين الجاهليين، ولو فرض فوق ذلك كثرتها التي لا تحصى (وليس فقط هذا النزر القليل الذي لم يبلغنا منها سواه)، فمن ذا الذي قال: إن طريقة رواية تلك الشواهد - حتى بعد نضج علم الحديث واحتراقه - ظلت ساذجة أولية على النحو الذي حكيت به قبيل الإسلام أو في عهد الراشدين المهديين؟. منذ أن اتسع القول في علوم الحديث، ووضعت الأصول الكبرى لمصطلحات الحديث، وشاعت بين الناس تلك القواعد والمصطلحات، بدأ الرواة يحرصون على رواية ما اتصل من الأسانيد، في كل ما أرادوا تعلمه أو تعليمه من الأخبار والسير والأشعار، وإن كانوا في ذلك كله أحرص على الورع والاحتياط في نقل أحاديث الرسول العربي الكريم. فقد نستنتج إذن أن الناس - في عصر تصنيف العلوم - التزموا الإسناد المتصل في رواية الحديث، أو كانوا أشد التزامًا لاتصال الحلقات في هذا الضرب من الرواية الدينية (¬1)، ثم من حقنا - بل يجب علينا أيضًا- أن نستنتج أن أولئك الناس أنفسهم كانوا رواة لشواهد اللغة والنحو من الشعر وما كان من قبيله، فكانوا فيها ربما يَتَخَفَّفُونَ شَيْئًا ما من حَرَجِ الرواية الدينية، ولكنهم ما كانوا يتساهلون في شيء من ذلك تساهلهم في الجاهلية، لأن نقاد الحديث تركوا فيهم من الأثر العميق ما لا يزول حتى بالجهد والمعاناة!. ¬

_ (¬1) راجع بوجه خاص ما ذكرناه ص 134 - 136.

الفصل الرابع: الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: الاِحْتِجَاجُ بِالحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ: تَحَرُّجُ الأَئِمَّةِ مِنْ رِوَايَةِ الحَدِيثِ: إذا كان إمام كالأصمعي يتجنب رواية الحديث حتى «لَمْ يَرْفَعْ مِنْهُ إِلاَّ أَحَادِيثَ يَسِيرَةً» (¬1)، فذلك يعني أن الخوف من الكذب على رسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدركه كما أدرك الرعيل الأول من الرواة العلماء، فاختاروا لأنفسهم السلامة في دينهم ورعًا واحتياطًا، ولا ريب أنهم في رواية الشعر كانوا أسلم منهم في رواية الحديث، مع أن الورع لم يكن يزايلهم قط في رواية غير الحديث: فشعبة بن الحجاج مثلاً من أكبر أئمة الحديث، ويكاد يكون شغله الوحيد رواية السُنَّةِ للناس، ولكنه يميل أحيانًا إلى تزجية الوقت برواية شيء من الشعر، فيتناشد منه الكثير ذات يوم مع أبي زيد سعيد بن أوس، ويعجب لهذا بعض أصحاب الحديث فلا يملكون إلا أن يقولوا لشعبة: «" يَا أَبَا بَسْطَامٍ، نَقْطَعُ إِلَيْكَ ظَهْرَ الإِبِلِ ¬

_ (¬1) انظر " مراتب النحويين " (لأبي الطيب اللغوي): الورقة 74 (عن " مصادر الشعر الجاهلي ": ص 260).

الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو:

لَنَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَدَعُنَا وَتُقْبِلُ عَلَى الأَشْعَارِ! " لَكِنَّ شُعْبَةَ يُجِيبُهُمْ فِي غَضَبٍ شَدِيدٍ: " يَا هَؤُلاَءِ، أَنَا أَعْلَمُ الأَصْلَحَ لِي، أَنَا، وَالذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، فِي هَذَا أَسْلَمُ مِنِّي فِي ذَاكَ "» (¬1). وإنما كان الرواة في إقبالهم على الأشعار أسلم منهم في انكبابهم علي الأحاديث، لأنهم - عند رواية السُنَّةِ - تغلب عليهم صفة «التحديث» التي تستدعي التحقيق والتدقيق، فيعنون بألفاظ المتون (¬2) عنايتهم بسلسلة الأسانيد، وهم في رواية الأشعار أيضًا يفضلون الدقة البالغة والحذر الشديد، ويتأثرون من غير أن يشعروا بصفة «التحديث» إلا أنهم لا يستسلمون أمامها استسلامًا مطلقًا، فإن لهم في الأعاريض لمندوحة عن الكذب، كما قال الصحابي عمران بن حصين عندما قدم البصرة وأكثر فيها من رواية الأشعار بدلاً من الأحاديث، مع أنه كان يقسم: إنه لو شاء لحدث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومين متتابعين (¬3)!. الاِحْتِجَاجُ بِالحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ: أفلا تعجب - بعد هذا كله - كيف احتج معظم النحاة المتقدمين برواية الأشعار، ورفضوا الاحتجاج بالحديث؟ ألا تأخذك الدهشة وأنت تراهم يقبلون على الروافد الصغيرة ويتركون النبع مهجورًا؟. لا نقول: إن رواة الأخبار الأولين كانوا كذابين أو وضاعين، بل لا نقول: إنهم جميعًا في رواية الأشعار كانوا متساهلين، وما نظن ¬

_ (¬1) قارن " الطبقات الكبرى ": 7 / ق 2 - 38 بـ " نزهة الألباء ": ص 89، 90. (¬2) راجع ما أوضحناه عن رواية الحديث باللفظ ص 80 وما بعدها. (¬3) " الطبقات الكبرى ": 4 / ق 2 - 26.

إلا أنهم حاولوا ما وسعهم الأمر أن يكونوا في كل ما يَرْوُونَ صادقين حذرين محتاطين، ولكن حزم أهل الحديث لم يكن يدركهم إِذَا أَرْسَلُوا مُسْنَدًا، أَوْ أَسْنَدُوا مُرْسَلاً، أو قطعوا موصولاً، أو وصلوا مقطوعًا، أو أدخلوا رواية في رواية، فإن لهم عذرهم على كل حال، وإنما يتمثل هذا العذر في أخذ معظمهم أخبار الأدب وشواهد النحو واللغة من رجال لم يشهدوا العصر الجاهلي، فلا عليهم إذا سقطت بعض حلقات الإسناد، ولا ضير - حين تسقط هذه الحلقات - في سد الفجوات، وملء الفراغات، وتدليس التسوية (¬1) تعويضًا لشخص بآخر يعاصره، وترميمًا لسلسلة الإسناد حتى تخلو من الانقطاع!. ولا نقول مع ذلك: كان رواة الأشعار وضاعين، ولا متساهلين، ولا متعمدين للتمويه والتدليس، فقد أَخَذَهُمْ من عدوى أهل الحديث ما أَخَذَهُمْ، وقد كان في تهربهم نفسه من رواية الحديث أوضح دليل على تأثرهم بمصطلحات المحدثين، وخوفهم من عصا المؤدب الذي لا يرحم، ومن شبحه الغالي في الرصانة، المبالي في الحذر، الذى يريد ليكون تلامذته كلهم في كل ما يَرْوُونَ من شؤون الدنيا أو أصول الدين أصدق الناس لهجة، وأصرحهم وجهًا، وأخلصهم حديثًا. لكنا نعجب مرة أخرى للنحاة الأولين: كيف طَوَّعَتْ لهم أنفسهم أن يهجروا حديث الرسول وهم يحتجون، ويلتمسون الشواهد لما يُبَوِّبُونَ وَيُفَصِّلُونَ، مع أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن شروط المحدثين في المشافهة والإسناد تضمن لهم أصدق الأخبار وأقومها قِيلاً! ¬

_ (¬1) ارجع إلى بحث المدلس، واقرأ منه بوجه خاص ما يتعلق بتدليس التسوية: ص 172.

لماذا منعوا الاحتجاج بالحديث؟:

يفسر بعض الباحثين المعاصرين هذا الموقف العجيب أدق تفسير وأوفاه حين يقول: «ولكن ذلك - أي الاحتجاج بالحديث - لم يقع كما ينبغي، لانصراف اللغويين والنحويين المتقدمين الى ثقافة ما يزودهم به رواة الأشعار خاصة، انصرافًا استغرق جهودهم، فلم يبق فيهم لرواية الحديث ودرايته بقية، فتعقلوا لعدم احتجاجهم بالحديث بعلل، كلها وارد بصورة أقوى على ما احتجوا به هم أنفسهم من شعر ونثر» (¬1). لِمَاذَا مَنَعُوا الاِحْتِجَاجَ بِالحَدِيثِ؟: وأقوى ما تَعَلَّلَ به مانعو الاحتجاج بالحديث أنهم لم يثقوا بأن تلك المرويات المتعددة المتكاثرة كلها من لفظ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفصح العرب قاطبة، و «إنما ترك العلماء ذلك - كما يقول أبو حيان الأندلسي - لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية» (¬2). ويفسر أبو حيان موقف المانعين بأمرين: أحدهما تجويز الرواة نقل القصة الواحدة بألفاظ مختلفة مع أن النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لم ينطق بتلك الألفاظ جميعًا، وإنما أتى أولئك الرواة بالمرادف ولم يأتوا باللفظ النبوى الفصيح (¬3)، والآخر وقوع كثير من اللحن فيما روي من الحديث «لأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الرُّوَاةِ كَانُوا غَيْر عَرَبٍ ¬

_ (¬1) " أصول النحو " للأستاذ سعيد الأفغاني: ص 41. (¬2) ذكره السيوطي في " الاقتراح ": ص 16. وقارن بـ " كشف الظنون ": ص 405 - 407. (¬3) مثل لذلك أبو حيان بحديث «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ»، وفي الرابعة: «أَمْلَكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ».

بِالطَّبْعِ، وَلاَ يَعْلَمُونَ لِسَانَ العَرَبِ بِصِنَاعَةِ النَّحْوِ، فَوَقَعَ اللَّحْنُ فِي كَلاَمِهِمْ وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ» (¬1). الرد كل المانعين: ----------------- والحق أن تجويز الرواية بالمعنى قد أحيط - عِنْدَ المُجَوِّزِينَ - بشروط لم تتوافر إلا في الصحابة والتابعين وكبار أئمة الفقهاء والرواة ممن كانت لغتهم سليقة، وَجِبِلَّتِهِمْ عربية، فلو غَيَّرَ أَحَدُهُمْ - وهو العربي المطبوع - لفظًا بلفظ آخر مرادف له، لكان على النحاة تفضيله على غيره من كلام العرب، لأن تقلب صاحبه في البيئات العربية الفصحى لا يسمح قط بالتردد في قبوله والأخذ به، لذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في الشافعي: «إِنَّ كَلاَمَهُ فِي اللُّغَةِ حُجَّةٌ» (¬2). هذا على فرض رواية أولئك الأسلاف الصالحين على المعنى، وعلى فرض تساهلهم جميعًا في الحديث المرفوع كتساهلهم في غيره، ثم على فرض الإجماع على إباحة الرواية بالمعنى إطلاقًا للجميع في عصر الرواية والتدوين، ولكن الواقع خلاف هذا من كل وجه: فالرعيل الأول من الرواة كانوا يتشددون في الرواية باللفظ والنص، ولا يتساهلون حتى بالواو والفاء، وَكَانَ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمْ - كَمَا قَالَ الأَعْمَشُ -: «أَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي الحَدِيثِ وَاوًا، أَوْ أَلِفًا، أَوْ دَالاً» (¬3)، وما أكثر الأمثلة التي تشير إلى تردد الراوي بين لفظين حرص الراوي ¬

_ (¬1) قارن بـ " الاقتراح ": ص 21. (¬2) " الاقتراح " أيضًا: ص 24. (¬3) " الكفاية ": ص 178، وقارن بما أوضحناه ص 80 - 82.

نفسه على التصريح بكل منهما مخافة أن يلفظ بغير لفظ النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -! (¬1). ومن الأئمة من تشدد في منع الرواية بالمعنى في الحديث المرفوع إلى النبي، وإنما كانوا يتساهلون في الموقوف على الصحابي، والمقطوع عند التابعي، لأنهم كانوا يعتقدون أن التحفظ الكامل ينبغي أن يكون في حديث رسول الله نفسه، لما له من مكانة في التشريع (¬2). وقد رأينا كيف منع بعض المحققين من العلماء غير الصحابة من رواية الحديث بالمعنى، وإن استوفوا مراد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لدى تبديل لفظه بمرادفه، وعقلوا هذا بأن الإباحة لو أطلقت لما كان أحد على ثقة من الأخذ بالحديث (¬3)، ولا ريب أن فرص الرواية على المعنى - بعد هذا التشدد كله، وهذا التضييق من كل جانب - أمست قليلة بل نادرة الوقوع، وأن هذا الضرب من الرواية - على فرض وقوعه - كان مقصورًا بعد عصر التدوين على العالم بالنحو والصرف العارف بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، القادر على أداء الحديث خاليًا من اللحن فإن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يلحن، فمن روى عنه شيئًا ولحن فيه كذب عليه، وتبوأ مقعده من النار (¬4). ¬

_ (¬1) كما في حديث سعد بن أبي وقاص: وقال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» - أَوْ كَبِيرٌ -، فالراوي لشكه يثبت اللفظ بالثاء المثلثة والراء الموحدة. (انظر " دليل الفالحين ": 1/ 46). ومثله حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري الذي أوله قوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ». فإن فيه بعد ذلك «وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ». فقد شك الراوي هل العبارتان كلتاهما تملآن - بالتثنية - أم تعدان عبارة واحدة (تَمْلأُ) بالإفراد، فأثبت الراوي اللفظين ورعًا واحتياطًا (" دليل الفالحين ": 1/ 130). (¬2) كما نقل البيهقي في " مدخله " عن الإمام مالك. وانظر " الباعث الحثيث ": ص 158. (¬3) راجع ص 84. (¬4) قارن بـ " اختصار علوم الحديث " (لابن كثير): ص 192.

وإن طائفة غير يسيرة من الأحاديث التي فيها ما يشبه اللحن لتفسر - في نظرنا أحيانًا كثيرة - بتحرج الرواة واحتياطهم في التحمل والأداء، فكان بعضهم - لشدة أمانته - يلحن كما يلحن الراوي ما دام اللفظ الذي يرويه لا يحيل المعنى ولا يفسده (¬1)، ومن هاهنا نادى أهل التحقيق بوجوب رد الحديث إلى الصواب، إذا كان راويه قد خالف موجب الإعراب! (¬2) فمن ذلك أَنَّ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ الحُلْوَانِيِّ قَالَ: «مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي، عَنْ عَفَّانَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ عَفَّانَ كَانَ لاَ يَلْحَنُ» وَقَالَ عَفَّانُ: «مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ حَمَّادًا كَانَ لاَ يَلْحَنُ» وَقَالَ حَمَّادٌ: «مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي عَنْ قَتَادَةَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ قَتَادَةَ كَانَ لاَ يَلْحَنُ» (¬3). خلاصة البحث: --------------- وإن هذه المقاييس التى أخذ بها المحدثون أنفسهم لدى رواية المتون - إلى جانب ما التزموه من دقة بالغة لدى رواية الأسانيد - لتؤكد تأكيدًا قاطعًا أن مانعي الاحتجاج بالحديث من اللغويين والنحويين المتقدمين ارتكبوا خطأ جسيمًا حين تَعَلَّلُوا بأن مرويات الحديث لا تؤنس الثقة بأنها من لفظ النبي العربي الكريم: فإن هؤلاء المانعين أنفسهم عرفوا - كما عرف المجيزون - «أَنَّ مَا فِي رِوَايَاتِ الحَدِيثِ مِنْ ضَبْطِ ¬

_ (¬1) " الكفاية ": ص 186. وقد روي هذا عن الإمام محمد بن سيرين. (¬2) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب: 6/ 103 وجه 1. (¬3) انظر كتاب " ألف باء " للبلوي: 1/ 44.

وَدِقَّةٍ وَتَحَرٍّ لاَ يَتَحَلَّى بِبَعْضِهِ كُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ النُحَّاةُ وَاللُّغَوِيُّونَ مِنْ كَلاَمِ العَرَبِ» (¬1). على أنا نلتمس بعض العذر للمتقدمين من أولئك اللغويين والنحويين - إن لم نعلل بما تعللوا به من الريبة في الحديث - فنرى «شُحَّ المَوْرِدِ» (¬2) وندرة الرواية، وقلة التصنيف، من أقوى الأسباب التي حملت القوم على «انْتِجَاعِ الجَدْبِ فِي غَيْرِ الحَدِيثِ وَالخَصْبُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ» (¬3). فيما صحت يومئذٍ روايته عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي ضوء هذا التفسر، يمكننا أن نفهم سر الامتناع عن الاحتجاج بالحديث، الذي عَزَوْهُ إلى واضعي النحو الأولين أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من الأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين (¬4). كما أنا، في ضوء هذا التفسير نفسه، يمكننا أن نفهم سِرَّ احتجاج المتأخربن من اللغويين بأحاديث الرسول في معجماتهم التي اشتملت على أنقى الألفاظ وأفصحها مصحوبة بشروحها وشواهدها، كما في " تهذيب " الأزهري، و" صحاح " الجوهري، و " مقاييس " ابن فارس، و " فائق " الزمخشري، وكما في مسائل كبار النحويين كابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي، حتى قال ابن الطيب من أصحاب هذا المذهب (¬5): ¬

_ (¬1) " أصول النحو ": ص 47. (¬2) هذه عبارة الأستاذ سعيد الأفغاني في " أصول النحو ": ص 45 وهي عبارة دقيقة تصور الواقع النفسي للرعيل الأول من الرواة. (¬3) المصدر السابق: ص 45. (¬4) " الاقتراح ": ص 21. (¬5) بحث (الاستشهاد بالحديث) للسيد محمد الخضر حسين في " مجلة مجمع اللغة العربية ": 3/ 199.

«لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالف في هذه المسألة ما أبداه الشيخ أبو حيان (- 745 هـ) في " شرح التسهيل "، وأبو الحسن [ابن] الضائع (- 680 هـ) في " شرح الجمل "، وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي (- 911 هـ)». «وأغلب الظن - كما يقول الأستاذ سعيد الأفغاني -: أن من لم يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر به الزمن إلى العهد الذي راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه بعد القرآن الكريم، ولما التفتوا قط إلى الأشعار والأخبار التي لا تلبث أن يطوقها الشك إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة» (¬1). وبهذا المذهب المنطقي السليم لا نملك إلا أن نرد قضية الاحتجاج إلى معيار لا يخطئ أبدًا: وهو معيار الفصاحة والصفاء والسلامة من الفساد، فلا يحتج في الحديث ولا في غيره بمن لابس الضعف لغته، وخالطت العجمة كلامه، وتسربت الركة إلى لفظه مهما يَسْمُ مقامه. وكان هذا المعيار الدقيق كفيلاً - لو عرفه اللغويون المتقدمون في وقت مبكر - بإرساء قواعد اللغة وأصول النحو على دعائم ثابتة قوية، وبقطف ثمار تلك الأصول في نتاج نحوي غني بالشواهد كنتاج ابن مالك وابن هشام، من رجال النحو المتأخرين وأئمته الأعلام. ¬

_ (¬1) " أصول النحو ": ص 49.

الباب الخامس: طبقات الرواة:

البَابُ الخَامِسُ: طَبَقَاتُ الرُّوَاةِ:

الفصل الأول: ابن سعد ومنهج التصنيف في " الطبقات ":

الفَصْلُ الأَوَّلُ: ابْنُ سَعْدٍ وَمَنْهَجُ التَّصْنِيفِ فِي " الطَّبَقَاتِ ": تَمْهِيدٌ: لقد كان جمع الحديث وتلقيه والرحلة في طلبه وتدوين المصنفات للثقافة العربية الإسلامية الأولى بجميع علومها النقلية المعتمدة، المُعَوِّلَةِ على الإسناد، فكل ما نعرفه من التاريخ والسيرة، والمغازي والفتوح، والتراجم والطبقات، وحتى تفسير القرآن وعلوم القراءات تشعب عن جمع الحديث وروايته، إذ كان الحديث في صورته الأولى التي نشأ عليها يشمل ذلك كله في أذهان الرواة وذواكر الحفاظ. إلا أن هذه المعلومات الجزئية التفصيلية أخذت تستقل بأسمائها وموضوعاتها عن الحديث رويدًا رويدًا، وأضحى كل منها فيما بعد علمًا قائمًا برأسه. وكتب الطبقات لون من هذه الثقافة الإسلامية الأولى المتفرعة عن تدوين الحديث وجمع الروايات، وفيها نعثر على تراجم الرواة،

ابن سعد، حياته وأخباره:

وأحوالهم عصرًا بعد عصر، وطبقة بعد طبقة (¬1). وإنما يعنينا - في هذا الفصل - أن نعرف ما لا يسعنا جهله عن هذه الطبقات، وعن مصادرها الأساسية، وتسلسل المشتغلين بهذا اللون من الدراسة التاريخية النقدية. وما تكاد لفظة «الطبقات» تلقى حتى يطوف في الأذهان ذكر كتاب " الطبقات الكبرى " لابن سعد، لأنه من أول الكتب في علم الطبقات (¬2)، ولا ريب أن خير ما نصنعه تحليل هذا الكتاب لنقف على حقيقة هذه الدراسات، وعلى مناهج المصنفين فيها. ونبدأ أولاً بكلمة عن صاحب هذه " الطبقات ". ابْنُ سَعْدٍ، حَيَاتُهُ وَأَخْبَارُهُ: هو محمد بن سعد بن منيع الزهري، لأنه كان من موالي بني زهرة، الهاشمي أيضًا لأن أحد أجداده كان مولى للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس من الهاشميين. ولد بالبصرة سنة 168هـ. ولذلك نسب إليها فقيل (ابن سعد البصري)، ثم رحل إلى المدينة والكوفة وبغداد، ولا بد أن تكون رحلته إلى المدينة قبل سَنَة 200 هـ.، لأنه لقي فيها بعض الشيوخ وأخذ عنهم سَنَةَ 189 هـ، وقد لقي في المدينة رجال الرواية المشاهير، لأن المدينة دَارُ السُنَّةِ، والإقليم الأول الذي انطلقت منه رواية الأحاديث. أما بغداد فإنه لما ارتحل إليها أقام فيها حتى توفي سَنَةَ 230 هـ، فيكون قد عاش اثنتين وستين عَامًا. وفي بغداد ¬

_ (¬1) " الرسالة المستطرفة ": ص 104. (¬2) " مختصر علوم الحديث ": ص 302.

مصادره الأساسية:

لازم المؤرخ الكبير الواقدي صاحب " الطبقات " و" المغازي "، وظل يكتب له حتى عرف باسم «كاتب الواقدي»، وَعَدَّهُ المؤرخون نفحة من نفحاته الخالدة. ولم يُعْزَ إليه في كتب التراجم التي وصفت حياته وسيرته إلا ثلاثة كتب أحدها هذه " الطبقات الكبرى "، والثاني كتاب قدموه لنا باسم " الطبقات الصغير " والثالث " أخبار النبي " الذي لم ينسب إليه ابن النديم في " فهرسته " سواه، ويرجح بعض الباحثين - ونحن معهم - أن الكتب الثلاثة ليست في حقيقتها إلا كتابًا واحدًا، لأن محتوى كتاب " الطبقات الصغير " وكتاب " أخبار النبي " وارد على ما يبدو في الجزئين الأولين من هذه " الطبقات الكبرى ". وليس معنى هذا أن ابن سعد لم يؤلف حَقًّا غير هذا الكتاب، ولكن هذا مجمل ما ألقته كتب التراجم على ابن سعد وتآليفه من أضواء. ولئن لم يكن له إلا هذه " الطبقات الكبرى " فإنها وحدها تَنِمُّ عن علمه الغزير، وحافظته القوية، واتصاله الوثيق بمنابع الرواية ومصادر التاريخ في عصره. مَصَادِرُهُ الأَسَاسِيَّةُ: كانت مصادره في " طبقاته " على نوعين: مصدر المشافهة والسماع كأكثر المحدثين والمؤرخين في عصره، ومصدر الكتابة، وهو ضيق محدود. وما دمنا نتكلم عن " الطبقات " بشكل خاص، فإن الأمانة العلمية تفرض علينا أن نقول: إن صاحبنا عَوَّلَ بالدرجة الأولى على النقل المباشر من أفواه الشيوخ، وحتى ما تلقاه عن شيخه الواقدي في كتابه " الطبقات " أخذه عنه بالمشافهة إلى جانب أخذه إِيَّاهُ من الكراريس والقراطيس. والأمانة العلمية تفرض علينا أيضًا أن نقول: إن أحدًا غير الواقدي لم

كلمة في شيخه الواقدي:

يسبق ابن سعد في تأليف سُمِّيَ صراحة باسم " الطبقات ". ولم يكد يفوت ابن سعد التلقي المباشر عن أحد من رجال الحديث المشاهير في عصره، ومن سنذكرهم من شيوخه على سبيل المثال يكفينا سرد أسمائهم لنعرف نوع البيئة العلمية التي كان ابن سعد يحيط بها نفسه: فلقد لقي وكيع بن الجراح وسليمان بن حرب وَهُشَيْمٍ بن بشير وأبا نُعَيْمٍ الفَضْلَ بْنُ [دُكَيْنٍ] وسفيان بن عُيينة والوليد بن مسلم وأبا الوليد الطيالسي ومحمد بن سعدان المقرئ الضرير. وذلك ما أتاح لنقاد الحديث المتأخرين عن عصره والذين كانوا بُعَيْدَهُ بقليل أن يثنوا عليه وَيُزَكُّوهُ وَيُعَدِّلُوهُ ويقولوا فيه: «صَدُوقٌ ثِقَةٌ يَتَحَرَّى فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ»، حتى فضله [بعضهم] على شيخه الواقدي، فقال السخاوي مثلاً: «ثِقَةٌ مَعَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ ضَعِيفٌ». كَلِمَةٌ فِي شَيْخِهِ الوَاقِدِي: ولا بد من كلمة في أستاذه الواقدي هذا - وإن قالوا فيه: «ضَعِيفٌ» - فهو محمد بن عمر بن واقد الواقدي، كان من موالي بني هاشم. وكان مولده بالمدينة سَنَةَ 130 هـ، في خلافة مروان بن محمد، صاحب الخليفة هارون الرشيد في رحلة إلى الحج سَنَةَ 170هـ، وزار معه المدينة، ودله على المشاهد ومواقع الغزوات، فأعجب به الرشيد، ثم طلب إليه وزير الرشيد يحيى بن خالد البرمكي أن يصير إليه في العراق إذا استقرت به الدار، واتصل به الواقدي ووجد لديه كل إعزاز وتكريم. وخرج بعد ذلك إلى الشام والرقة، ثم عاد إلى بغداد حيث ولاه المامون قضاء «عسكر المهدي» ولم يزل قاضيًا حتى مات ببغداد

سنة 207هـ أو سنة 209هـ. وقد تيسر للواقدي أن يأخذ العلم من أفواه الرعيل الأول من الرواة والحفاظ أمثال مالك بن أنس إمام أهل المدينة، وسفيان بن سعيد الثوري، ومعمر بن راشد، وكان معاصرًا لمحمد بن إسحاق صاحب " السيرة " المشهورة، إلا أنه كان أصغر منه سِنًّا، ويعدونه الثاني بعد ابن اسحاق في سعة العلم بالتاريخ والسير والمغازي والفتوح. لكن أكثر علم الواقدي بالمغازي جاءه من نجيح السندي المعروف باسم أبي معشر السندي المتوفى سنة 170هـ ببغداد، وقد استقدمه الخليفة المهدي معه إلى بغداد حين جاء يزور المدينة وسمع بعلمه وفضله. ومع أن الحفاظ والنقاد يطعنون في بعض روايات أبي معشر هذا لكثرة ما يرويه من المناكير، كانوا يتفقون على بصره بالمغازي وخبرته التامة بسيرة النبي وبالفتوح. حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: «أَبُو مَعْشَرَ بَصِيرٌ بِالمَغَازِي». لا عجب إذن إذا طبقت كتب الواقدي في الطبقات والتاريخ والمغازي شرق الأرض وغربها كما يقول الخطيب البغدادي في ترجمته، فإنه تلقى كل ما يتعلق بتفصيلاتها وجزئياتها الدقيقة من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ومن الموالي، ومن الرواة والعلماء، ومن أبي معشر صاحب المغازي أولاً وبالذات، ثم إنه ما علم غزوة إلا مضى إلى الموقع الذي وقعت فيه أحداثها ليعاينه بنفسه ويراه ويحسن وصفه ويتقصى أبسط الأخبار فيه. ولا يعنينا من تآليف الواقدي التي زعموا أنها بلغت ست مائة قِمَطْرٍ من الكتب حُمِلَتْ على عشرين ومائة وَقْرٍ أو «حِمْلِ» -

بين الشيخ والتلميذ:

لا يعنينا منها كتابه المسمى " التاريخ الكبير " الذي رتبه على أخبار السنين وأحداثها وأفاد منه الطبري كثيرًا في " تاريخه "، وكان آخر ما اقتبس منه حوادث سنة 179 هـ، ولا كتابه في " الردة " الذي سرد فيه أخبار المرتدين عن الإسلام بعد وفاة الرسول، ولا كتابه المشهور " المغازي " الذي لم يصح له من تصانيفه سواه ولم يصل إلينا أيضًا سواه، وإنما يعنينا كتابه الذي لم يصلنا، وهو كتاب " الطبقات " الذي ذكر فيه سير الصحابة والتابعين على حسب طبقاتهم، ووصف أخبارهم في العصرين الإسلامي والأموي بوجه خاص، وَعَوَّلَ فيما ذكره من أخبارهم على نحو خمسة وعشرين شيخًا أكثرهم من أهل المدينة دَارَ السُنَّةِ وبلد الرواية الصحيحة، وكان هؤلاء الرواة هم الذين أخذ عنهم مغازيه أيضًا كما ذكر في أوائل كتابه " المغازي ": ذلك بأن هذه " الطبقات "- وإن لم تصل إلينا بالصورة التي وضعها مؤلفها - بلغتنا على نحو أدق وأصفى فيما نقله التلميذ عن الشيخ، وما كان التلميذ ها هنا إلا محمد بن سعد بن منيع صاحب " طبقاتنا " هذه. بَيْنَ الشَّيْخِ وَالتِّلْمِيذِ: لقد جَرَّحَ بعض نقاد الحديث الواقدي الشيخ، واتهموه بالتساهل أحيانًا وبتركيب الأحاديث أحيانًا أخرى، - قال الإمام أحمد بن حنبل: «الوَاقِدِيُّ يُرَكِّبُ الأَسَانِيدَ» وقال يحيى بن معين: «أَغْرَبَ الوَاقِدِيُّ عَلَى رَسُولِ اللهِ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ». وقالوا أيضًا: إنه كان يجمع الأسانيد المختلفة ويجيء بالمتن واحدًا، مع أن جزءًا من المتن لراو معين وجزءًا آخر لراو آخر، وقالوا، إنه كان يأخذ من الصحف

والكتب والكراريس، وهم لا يحبون للراوي أن يروي إلا ما سمعه بأذنه مخافة التحريف والتصحيف، وحسن الظن به بعضهم الآخر كالإمام مالك بن أنس الذي كان يفضل روايته على ابن إسحاق، وكأبي عبيد القاسم بن سلام، وكالإمام الشافعي، ولكن جمهرة المحدثين على التردد في أمره ولا سيما لما عرفوه عنه من شدة اتصاله بالعباسيين حتى تلاعب ببعض الأخبار جريًا مع هواه لبني العباس، فحذف اسم العباس عم النبي من قائمة الأسرى الذين وقعوا يوم بدر في أيدي المسلمين، كأنه عز عليه - وهو العباسي الهوى - أَنْ يُؤْسَرَ عَمُّ النَّبِيِّ الكَرِيمِ. لكن هذا التردد في قبول أخبار الرجل لم يكن له فيما يتعلق بابن سعد خاصة إلا أَصْدَاءٌ خِفَافٌ، فإن أكثرهم قالوا - كما أسلفنا -: «ثِقَةٌ مَعَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ ضَعِيفٌ». إن ابن سعد - كما قال ابن النديم بحق - «أَلَّفَ كُتُبَهُ مِنْ تَصْنِيفَاتِ الوَاقِدِيِّ»، فإنه لا يكاد ينسى في طبقة ترجم لها أو باب عقده لغزوة من غزوات النبي اسم شيخه الواقدي في سلسلة الإسناد، بيد أنه - رغم ذكره إياه - يغربل الرواية التي يذكرها له، أو يعضدها برواية أخرى لغيره من المشتغلين بالأنساب والمغازي والفتوح، فهو مثلاً حين يتحدث عن الوفود التي وفدت على الرسول لا يكتفي برواية شيخه الواقدي بل يضع إلى جانب اسمه هشام بن محمد بن السائب الكلبي. وربما اتفق له أن يجدد بعض الفصول التي لم يجد لشيخه فيها رواية، كمباحثه في كنية رسول الله، وما كان رسول الله يَعُوذُ بِهِ وَيُعَوِّذُهُ بِهِ جبريل، وأنساب الجاهليين وسير الأنبياء والأمم السابقة التي اتضح أن الواقدي لم يكن يحتفل بأمرها كثيرًا.

أهم محتويات الكتاب:

أَهَمُّ مُحْتَوَيَاتِ الكِتَابِ: إن " طبقات " ابن سعد كتاب ضخم غزير المادة حاول صاحبه أن يجعله في خمسة عشر مجلدًا يعرض فيها سير المحدثين والأخباريين والنسابين في عصر الرسول والتابعين وعصره الذى عاش فيه. وروى لنا هذه " الطبقات " عن ابن سعد تلميذه الحارث بن أبي أسامة، فلذلك نجد في بعض الفصول بين الحين والحين مثل هذه العبارة: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنْ ُسَعْدٍ»، وهذا يدل على آن راوي النص التلميذ وليس ابن سعد نفسه. وبهذا نعقل سر اكتفاء ابن سعد بتسجيل ما بلغه من الأخبار بدقة بالغة من غير أن يعقب عليها إلا في النادر القليل. وبعض الكتاب كان من رواية الحسن بن فهم تلميذ ابن سعد كَأَنَّ هذين التلميذين تقاسما رواية هذه " الطبقات الكبرى ". ولقد ملأ ابن سعد سواد الجزئين الأولين بسيرة الرسول، مُمَهِّدًا لذلك بذكر مَنْ وَلَدَ رَسُولَ اللهِ من الأنبياء، وذكر حواء وإدريس ونوح وإبراهيم وإسماعيل والقرون والسنين بين آدم ومحمد، وذكر تسمية الأنبياء وأنسابهم، وذكر مَنْ وَلَدَ النبي مَنْ وَلَدَ حتى آدم، وأمهات النبي وأجداد النبي قصي وعبد مناف وهاشم وعبد المطلب، وذكر أبيه عبد الله وأمه آمنة بنت وهب حتى يصل إلى مبعث الرسول، ونزول الوحي عليه، ثم يبلغ الحديث عن هجرته، فيصف غزواته واحدة واحدة، ويصف ما وفد عليه من الوفود، ويتحدث بعد ذلك عن الذين كانوا يُفْتُونَ بالمدينة على عهد الرسول، ثم يترجم بعد ذلك للصحابة والتابعين فيملأ بتراجمهم جميعًا، الأجزاء الباقية من " طبقاته " إلا الجزء الأخير الذي عقده للنساء خاصة.

منهجه في " الطبقات ":

مَنْهَجُهُ فِي " الطَّبَقَاتِ ": و" الطبقات " ينبغي أن يراعى فيها بالدرجة الأولى عنصر الزمان. وفد تنبه إلى ذلك ابن سعد، فكانت السابقة إلى الإسلام نقطة الانطلاق الزماني، في حديثه عن المهاجرين إلى الحبشة، أو عن البدريين الذين شهدوا وقعة بدر، أو من أسلم قبل فتح مكة، ولهذا بدأ بالمهاجرين البدريين ثم بالأنصار البدريين ثم بمن أسلم قديمًا ولم يشهد بدرًا وإنما هاجر إلى الحبشة أو شهد بَدْرًا، ثم من أسلم قبل فتح مكة وهكذا، ويشبه هذا ما صنعه الخليفة عمر حين دَوَّنَ الدواوين، ولعل ابن سعد راعى فيه من تلقاء نفسه ما صنعه عمر. على انه لم يغفل كذلك عنصر المكان، فترجم للصحابة على حسب الأمصار التي حلوها، فسمى من كانوا بالمدينة أو مكة أو الطائف أو اليمن أو اليمامة، ومن نزلوا الكوفة، ومن نزلوا البصرة، ومن فضلوا البقاء بالشام أو مصر. ومثل هذا المنهج الزماني المكاني لوحظ أيضًا في " الطبقات " أثناء تراجم التابعين، فقد ترجم لهم في " طبقاته " على هذا النمط نفسه، وتتراجع مدة الطبقة في رأيه خلال عشرين سَنَةً تَقْرِيبًا، وقد جرت بهذا عادة كثير من أصحاب الطبقات ورجال التراجم والسير. وأهم ما في كتاب " الطبقات " تراجم الصحابة أولاً، وكبار التابعين ثانيًا، لأن هؤلاء هم أقرب الناس إلى عهد الرسول، فكل ما يروى عنهم من المعلومات الدينية والتاريخية يؤخذ به دون تردد. وقد اصطلح ابن سعد على أن يجعل الصحابة خمس طبقات: 1 - طبقة المهاجرين البدريين 2 - طبقة الأنصار البدريين 3 - طبقة الذين أسلموا قديمًا

عنايته بالأنساب:

ممن هاجروا إلى الحبشة أو شهدوا وقعة أُحُدٍ ولكن لم يشهدوا بدرًا 4 - من أسلم قبل فتح مكة 5 - من أسلم بعد فتح مكة. وفي هذا التقسيم الطبقي الذي أخذ به ابن سعد - وفضله أصحاب الطبقات بعده، عيب واضح لكنه لا مفر منه: وهو تداخل بعض أشخاص الطبقات فيما بينهم. فقد يكون المترجم من طبقة المهاجرين البدريين، ثم يتاح له أن يهاجر إلى بعض البلدان أثناء الفتوح، ثم يكون ممن حلوا مدة طويلة في المدينة يفتون، فلم يكن بُدٌّ من أن يترجم له ابن سعد في طبقته الحقيقية، ثم يضطر لترجمته في موضعين آخرين أو أكثر، إلا أن ابن سعد التفت الى هذا فجعل الترجمة المفضلة المسهبة هي الواردة لدى طبقة الشخص المترجم وليس تبعًا لبعض ما امتاز به من الخصائص الأخرى. عِنَايَتُهُ بِالأَنْسَابِ: ومع أن ابن سعد خَصَّ كتابه باسم " الطبقات "، وكان متوقعًا ألا يشمل إلا التقسيم الطبقي، إلا أنه أبدى اهتمامًا ظاهرًا بالتاريخ الجاهلي خلافًا لأستاذه الواقدي. ونراه هنا يعتمد على هشام بن محمد بن السائب الكلبي الذي كان كأبيه نَسَّابَةً يحسن التمييز بين أحساب العرب القدامى. وذلك يعني أن ابن سعد يعرف الأنساب معرفة جيدة، وأنه تلقاها مشافهة ممن كان غزير العلم بها، فإن هشامًا الكلبي أكمل خطة أبيه «فكان عالمًا بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها» وكتبه كثيرة في المآثر والبيوتات والمنافرات وأخبار الاسلام، وأخبار البلدان، حتى عدوا له 140 كتابًا، وقد أخذ الأخبار القريبة التي حدثت في

راوية على طريقة المحدثين:

العصر الأموي من أبيه مباشرة، وقد عاش أبوه محمد بن السائب طويلاً في العصر الأموي، وشهد وقعة دير الجماجم مع عبد الرحمن بن الأشعث، لم يكن ضلعه مع بني أمية. ونجد في " طبقات ابن سعد " ذكرًا لنسابة عاش على عهد النبي ولم يعدوه صحابيًا، وهو دَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وهو الذي رَوَوْا عنه مناظرة في أنساب العرب مع أبي بكر الصديق، وهو الذي قيل إنه اتصل بمعاوية وأعجب بعلمه، وروى الكثير من أخبار الأنساب في عصره. والمادة التي تركها ابن سعد في معرفة الأنساب واضحة في كتابين ألفا بعده أحدهما " أنساب الأشراف " والآخر " فتوح البلدان " وكلاهما للبلاذري، فإن مؤلف الكتابين لا يني يروي عن ابن سعد آخذًا من " طبقاته " نصوصها وألفاظها. ولعل هذه المعرفة الدقيقة بالأنساب هي التي مكنت ابن سعد من تجنب الوقوع في مثل الأخطاء التي وقع بها المؤرخون بعده في الأنساب والطبقات، فهناك صحابة عُدُّوا من التابعين عند بعضهم: كَالنُّعْمَانِ وَمُؤَيْدٍ ابْنَيْ مُقَرِّنٍ المُزَنِي، وهناك تابعون عُدُّوا صحابة مثل (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ) غلط فيه محمود بن الربيع الجيزي لأنه أرسل الخبر، وإبراهيم بن عبد الرحمن العُذْرِيِّ غلط فيه ابْنُ مَنْدَهْ. رَاوِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ المُحَدِّثِينَ: ومع أن " طبقات ابن سعد " تعتمد على الرواية، وتكاد تختفي فيها

شخصية المؤلف، وتكاد تخلو من التعقيبات، إلا أن نتفًا يسيرة من التوضيحات أظهرتنا على النقد الموضوعي الذي كان يتمتع به ابن سعد: فهو مثلاً يورد رواية خلاصتها أن النبي بكى عند قبر أمه لما فتح مكة فقال: «وَهَذَا غَلَطٌ وَلَيْسَ قَبْرُهَا بِمَكَّةَ، وَقَبْرُهَا بِالأَبْوَاءِ». ونقل عن هشام الكلبي قوله: إِنَّ الذِي حَضَرَ بَدْرًا هُوَ السَّائِبُ بْنُ مَظْعُونٍ (لاَ السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) فَقَالَ يُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ: «وَذَلِكَ عِنْدَنَا مِنْهُ وَهَلٌ لأَنَّ أَصْحَابَ السِّيرَةِ [وَمَنْ] يَعْلَمُ المَغَازِي يُثْبِتُونَ السَّائِبَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ [فِيمَنْ] شَهِدَا بَدْرًا. وَشَهِدَ أُحُدًا، وَالخَنْدَقَ، وَالمَشَاهِدَ كُلَّهَا». والمادة الأدبية في " الطبقات " ليست غزيرة في الشعر غزارتها في الخطب، ولا سيما خطب النبي في المناسبات المختلفة. أما الشعر فبعضه جاهلي قديم يتعلق أغلبه بأجداد النبي أو بسادات العرب من قريش، وبعضه الآخر إسلامي يتصل غالبًا بباب المغازي. إلا أنه قليل إذا قيس بما ورد من الشعر في " مغازي الواقدي " أو " سيرة ابن إسحاق ". وابن سعد أولاً وآخرًا رجل رواية على طريقة المحدثين، وليس ناقدًا على طريقة الأدباء (¬1). ¬

_ (¬1) ترجمة ابن سعد في " تاريخ بغداد ": 5/ 321، و" الوفيات ": 1/ 507، و" تهذيب التهذيب ": 9/ 182، و" الجرح والتعديل ": رقم 1433، و" طبقات القراء ":1/ 142. وقد عولنا في تلخيص ترجمته هنا على تقديم صديقنا الأستاذ المفضال إحسان عباس للـ " الطبقات الكبرى " المطبوعة في بيروت في دار صادر.

الفصل الثاني: طبقات الرواة:

الفَصْلُ الثَّانِي: طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ: طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ وَتَقْسِيمُهَا الاِصْطِلاَحِي: كاد المحدثون يتفقون على أن الطبقة هي القوم المتشابهون في السن وفي لقاء الشيوخ (¬1). ولما قسموا الرواة إلى طبقات جاءت قسمتهم اصطلاحية محضة (¬2)، فمنهم من عد الصحابة كلهم طبقة واحدة، وجعل التابعين بعدهم طبقة ثانية، ثم الذين بعدهم طبقة ثالثة، واستشهدوا على هذا التقسيم بقوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ» (¬3)، فذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. ومنهم من يقسم الصحابة إلى طبقات، ثم يمضي إلى التابعين فمن ¬

_ (¬1) قارن بـ " المختصر في علوم رجال الأثر ": ص 18. (¬2) " مختصر علوم الحديث " (لابن كثير): ص 302. (¬3) الحديث مخرج في " الصحيحين " من طريق الصحابي عمران بن حصين.

طبقات الرواة على تقسيم ابن حجر:

بعدهم فيصنف كل جماعة منهم في طبقات (¬1). والضابط في هذا التقسيم الذي يتناول الجماعة الواحدة: اجتماع أفراد تلك الجماعة في صفة واحدة، ففي طبقة الصحابة تلتقي جماعات متعددة فيها السابقون إلى الإسلام تارة، وفيها المهاجرون تارة أخرى، وفيها الذين شهدوا المشاهد والمعارك تارة ثالثة: فأبو بكر يعد مثلاً من طبقة الصحابة، ومن طبقة السابقين، ومن طبقة المبشرين بالجنة، ومن طبقة المهاجرين. وكل من اشترك معه في وصف من هذه الأوصاف كان معه من طبقته (¬2). فمن هنا تعددت طبقات الصحابة، وتعددت - تَبَعًا لَهَا - طبقات التابعين، لما لوحظ من تنوع الاعتبارات واختلاف وجهات النظر في التقسيم. طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ عَلَى تَقْسِيمِ ابْنِ حَجَرْ: وقد حاول ابن حجر العسقلاني أن يحصر طبقات الرواة منذ عصر الصحابة إلى آخر عصر الرواية، فوصف اثنتي عشرة طبقة ليس فيها إلا من كانت له رواية في " الكتب الستة ". الأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم. الثانية: طبقة كبار التابعين كسعيد بن المسيب. الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين. ¬

_ (¬1) وليسوا حينئذٍ على أن القرن مائة عام. بل منهم من يجعله أربعين عامًا فقط (" مختصر علوم الحديث ": ص 302). (¬2) " المختصر ": ص 19.

الرابعة: طبقة أخرى تلي الوسطى أكثر مروياتهم عن التابعين كالزهري وقتادة. الخامسة: الطبقة الصغرى من التابعين الذين لم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش. السادسة: طبقة حضروا مع الخامسة ولم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، كَابْنِ جُرَيْجٍ. السابعة: طبقة كبار أتباع التابعين كمالك بن أنس ؤسفيان الثوري. الثامنة: الوسطى من أتباع التابعين كابن عيينة وَابْنِ عُلَيَّةَ. التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين كأبي داوود الطيالسي والشافعي. العاشرة: كبار الآخذين من أتباع الأتباع ممن لم يلق التابعين كأحمد بن حنبل. الحادية عشرة: الطبقة الوسطى منهم كالذهلي والبخاري. الثانية عشرة: صغار الآخذين عن أتباع التابعين كالترمذي (¬1). ومعرفة طبقات الرواة تزيل كثيرًا من اللبس، وتحول دون تداخل الأسماء والكنى المتشابهة، وتقف البَاحِثَ على صور التدليس والانقطاع والإرسال. ولذلك رأينا أن نعرض لأهم الطبقات، ونترجم لأشهر ¬

_ (¬1) وألحق ابن حجر بهذه الطبقة الثانية عشرة باقي شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلاً كبعض شيوخ النسائي.

طبقة الصحابة:

الرواة في كل طبقة، فندرس طبقة الصحابة، وطبقة التابعين، وطبقة أتباع التابعين. طَبَقَةُ الصَّحَابَةِ: اصطلحوا على أن الصحابي هو من لقي النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنًا به ومات وهو مسلم. فاللقاء ولو ساعة من نهار لا بد منه (¬1)، لذلك لم يعدوا أصحمة النجاشي صحابيًا، لأنه آمن برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن يلقاه. والتمييز كاف في الصحبة، فالصبي الذي «يفهم الخطاب ويرد الجواب»، - كما يقول النووي والعراقي - يعد صحابيًا، كالحسن والحسين ابني عَلِيٍّ، ومحمود بن الربيع. وقد نص العلماء على أمور إذا توفر أحدها كان دليلاً على الصحبة، أهمها (¬2): أولاً - تواتر العلم بذلك، كصحبة العشرة المبشرين بالجنة، وهم الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح. ومن المعلوم أن صحبة أبي بكر ثابتة بالقرآن في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬3) ثانيا- استفاضة العلم بذلك من غير تواتره، كصحبة ضِمام بن ثعلبة وعكاشة بن محصن. ¬

_ (¬1) قارن بـ " الكفاية ": ص 51. وانظر " الإصابة ": 1/ 4، 5. (¬2) قارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 231. (¬3) [التوبة: 40]

ثالثًا - تأكيد صحابي مشهور أن لفلان صحبة، كما قال أبو موسى الأشعري بصحبة حَمَمَةَ بْنِ أَبِي حَمَمَةَ الدَّوْسِيِّ (¬1). رابعًا - ادعاء الصحبة من شخص معلوم العدالة ضمن الإطار الزمني الممكن، وقد اصطلحوا على أن هذا الزمن الممكن لا ينبغي أن يجاوز سنة 110 هـ (مائة سنة وعشر سنين للهجرة) واستنبطوا ذلك من قوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كما في رواية مسلم والترمذي- " «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليَوْمَ، تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ» (¬2). ولذلك كان طبيعيًا أن يرفض العلماء صحبة جعفر بن نسطور الرومي الذي ادعاها بعد سنة 200هـ، وَسَرَبَاتِكْ الهندي المُتَوَفَّى سَنَةَ 333 هـ. ومما يستأنس به على ثبوت الصحبة، ولم ينص العلماء عليه: أن الأوس والخزرج كانوا جميعًا مسلمين في عهده - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فكل من لاقاه منهم فهو صحابي، وأن كل من كان بالمدينة أو بالطائف سنة عشر قد أسلم وشهد حجة الوداع مع النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فثبتت له بذلك الصحبة. وأنه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - لَمْ يُؤَمِّرْ في الفتوحات إلا أصحابه، فَقُوَّادِ الفُتُوحَاتِ في عهده صحابة كلهم (¬3). وقد حكى ابن الصلاح وابن عبد البر والنووي الإجماع على عدالة جميع الصحابة. وفي القرآن والسنة إشارة إلى فضل الصحابة وعدالتهم، فالله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4)، ويقول {وَكَذَلِكَ ¬

_ (¬1) " الباعث الحثيث: ص 321 ح 3. (¬2) " الإصابة ": 1/ 6. (¬3) " المختصر ": ص 27. (¬4) [سورة آل عمران، الآية: 110].

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1). والنبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يقول: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي»، ويقول: «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي»، ويقول: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» (¬2). وأول الصحابة إيمانًا على الإطلاق زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - السيدة خديجة بنت خويلد، ومن الشيوخ ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، ومن الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الصبيان عَلِيٌّ، ومن الأرقاء بلال، ومن الفُرْسِ سلمان (¬3). وقد تفرق الصحابة في القرى والأمصار فأصبح إحصاء عددهم مُتَعَذِّرًا، ويقول أبو زرعة (¬4): إن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا (114000)، وقد انقرض عصرهم بوفاة آخرهم أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي الكناني عام مائة على الأرجح. وَيُعَدُّ مُكْثِرًا من الرواية بين الصحابة كل من زاد منهم على ألف حديث، وهؤلاء المكثرون سبعة (¬5) هم أبو هريرة روى له (5374)، ابن عمر روى له (2630)، أنس بن مالك، روى له (2286)، ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآية: 143]. (¬2) " المختصر ": ص 29. (¬3) قارن بـ "علوم الحديث " لابن الصلاح: ص 226. (¬4) " اختصار علوم الحديث ": ص 224. (¬5) " تلقيح فهوم أهل الأثر " (لابن الجوزي)، طبعة الهند: ص 184.

السيدة عائشة لها (2210) عبد الله بن عباس له (1660)، جابر بن عبد الله له (1540)، أبو سعيد الخُدري (1170)، ولذلك سنترجم لكل منهم ترجمة خاصة، ثم نتبعهم بمن هو أقل رواية منهم، ونكتفي بذكر كلمات موجزة عنهم. وابن سعد في " طبقاته " اكتفى بتقسيم الصحابة إلى خمس طبقات، إلا أن بعضهم فَصَّلَ وَوَضَّحَ فجعلها اثنتى عشرة تَبَعًا للسبق في الإسلام والهجرة وحضور المشاهد (¬1): الأولى: السابقون بالإسلام ممن آمن بمكة، كالعشرة المبشرين بالجنة، وخديجة وبلال. الثانية: أصحاب دار الندوة الذين أسلموا بعد إسلام عمر. الثالثة: من هاجر إلى الحبشة في السَّنَةِ الخَامِسَةِ من البعثة، وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وجعفر بن أبي طالب، ورقية زوج عثمان وابنة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة. ومثل هذه الطبقة من هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا نحو ثلاثة وثمانين، منهم جعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُميس، وَعُبَيْدَ اللهِ بن جحش، وامرأته أم حبيبة وأخوه عبد الله وأبو موسى وابن مسعود. الرابعة: أهل العقبة الأولى، وفيهم اثنا عشر من الأنصار، ومنهم جابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وأسعد بن زُرارة، وعبادة بن الصامت. ¬

_ (¬1) قارن بـ " تدريب الراوي ": ص 207.

الخامسة: أهل العقبة الثانية الذين أسلموا بعد عام العقبة الأولى، وكانوا سبعين من الأنصار ومعهم امرأتان. ومنهم البراء بن معرور، وسعد بن عبادة، وكعب بن مالك. السادسة: المهاجرون الذين وصلوا إلى المدينة والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قباء قبل أن يدخل المدينة. السابعة: أهل بدر الذين قال فيهم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». رواه أبو داود، وكانت عدتهم بضعة وثلاث مائة رجل. الثامنة: من هاجر بين بدر والحديبية. التاسعة: الذين بايعوا تحت الشجرة بالحديبية بيعة الرضوان. وفيهم يقول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». العاشرة: المهاجرون قبل فتح مكة وبعد الحديبية، ومنهم خالد بن الوليد. الحادية عشرة: الذين أسلموا في فتح مكة، وهم يزيدون عن الألف، ومنهم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام. الثانية عشرة: الصبيان الذين رأوا النبي يوم الفتح وحجة الوداع، ومنهم الحسن والحسين ابنا عَلِيٍّ، والسائب بن يزيد الكلبي، وعبد الله بن الزبير.

طبقة التابعين:

طَبَقَةُ التَّابِعِينَ: عَرَّفُوا التَّابِعِيَّ بأنه من لقي صحابيًا مؤمنًا بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومات على الإيمان. ويشترط الخطيب البغدادي صحبة الصحابي، لا مجرد اللقاء فقط (¬1). وقد شهد الكتاب والسنة لهذه الطبقة بفضلها، فقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. وقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «طُوبَى لِمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» وقال: «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ». وآخر طبقات التابعين على رأي الحاكم من لقي آخر الصحابة موتًا، فآخرهم من لقي أبا الطفيل بمكة، والسائب بالمدينة، وأبا أمامة بالشام، وعبيد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وأنس بن مالك بالبصرة (¬2). ويعتبر خلف بن خليفة المُتَوَفَّى سَنَةَ 181 هـ (إحدى وثمانين ومائة) آخر التابعين موتًا، لأنه لقي في مكة آخر الصحابة موتًا أبا الطفيل عامر بن واثلة. ومن هنا قيل: إن عصر التابعين انقضى سنة 181 هـ. طَبَقَةُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ: تابع التابعي هو الذي لقي مؤمنًا بالنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومات على الإسلام. وقد عدوا من هذه الطبقة الإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي. أما أبو حنيفة فالأرجح أنه من التابعين لأنه لقي من الصحابة أنس بن مالك، ¬

_ (¬1) قارن بـ " اختصار علوم الحديث ": ص 232. (¬2) نفسه: ص 230.

وجابر بن عبد الله وعبد الله بن جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ، وعبد الله بن أُنَيْسٍ، وعائشة بنت عجرد، وروى عنهم. وأما الإمام أحمد بن حنبل فإنه يعتبر من الطبقة التى تلي أتباع التابعين، فهو من أتباع أتباع التابعين، لأن وفاته كانت سنة 241هـ مع أن عصر أتباع التابعين ينتهي بعام عشرين بعد المائتين (¬1). ¬

_ (¬1) " المختصر ": ص 44، 45.

الفصل الثالث: من تراجم الصحابة:

الفَصْلُ الثَّالِثُ: مِنْ تَرَاجِمِ الصَّحَابَةِ: أَوَّلاً - السَّبْعَةُ المُكْثِرُونَ: نَبَّهْنَا على أن كل صحابي زاد على رواية ألف حديث عُدَّ مُكْثِرًا. وَالمُكْثِرُونَ - كما قلنا - سبعة، هم: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، والسيدة عائشة، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري. وإليك ترجماتهم وفقًا للترتيب الذي وردت به أسماؤهم آنفًا. 1 - أبو هريرة: هو أكثر هؤلاء السبعة رواية، فقد أخرج له بقي بن مخلد (5374) حديثًا (¬1). ¬

_ (¬1) " مسند بقي بن مخلد " من أهم مصادر الحديث. فقد روى عن ألف وثلاث مائة صاحب ونيف، ورتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، فهو مسند مصنف، وليست هذه الرتبة لأحد قبله. (قارن بـ " نفح الطيب ": 1/ 581).

ورسوله الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي كناه (أبا هريرة) يوم شاهده يحمل هرة صغيرة ولكن هذه الكنية التي سماه بها رسول الله على سبيل التحبب غلبت عليه، حتى بات من النادر أن يطلق عليه أحد اسمه الحقيقي (عبد الرحمن بن صخر). وهو دَوْسِيٌّ، يرجع نسبه إلى بطن من الأزد هم بَنُو دَوْسِ بْنِ عَدْنَانَ. أسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عنه في السَّنَةِ السَّابِعَةِ للهجرة، عام خيبر، وتوفي بالعقيق عام 57 هـ على الراجح. وكان عريف أَهْلَ الصُفَّةِ الذين كانوا منقطعين إلى العبادة في مسجد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والصفة موضع مُظَلَّلٌ في المسجد، كان يأوي إليه أولئك الزهاد). وقد استجاب الله دعاء النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالحفظ، فكان بين الصحابة أكثرهم حفظًا. أخرج الشيخان والترمذي عنه أنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ فَلاَ أَحْفَظُهَا، قَالَ: "ابْسُطْ رِدَاءَكَ" فَبَسَطْتُ، فَحَدَّثَ حَدِيثًا كَثِيرًا، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ». وأبو هريرة - على ورعه وتقواه وزهده - كان مَرِحًا يحب الدعابة، ويطرب للنكتة، فإذا مر بصبيان أضحكهم، وإذا التقى بالناس في الأسواق قَصَّ عليهم ما يسليهم. ولكنه إذا خَلاَ إلى نفسه تَهَجَّدَ طيلة الليل، خَاشِعًا مُتَبَتِّلاً. كان عاملاً على البحرين في عهد عمر بن الخطاب، إلا أن عمر عزله بعد ذلك. ويقال: ان علي بن أبي طالب أراد في خلافته أن يستعمله فأبى عليه، ثم ولاه معاوية إمارة المدينة. ويبدو أن عمر - على عادته في التشدد في الرواية عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر عليه كثرة رواياته وقال له: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ [عَنِ رَسُولِ اللَّهِ] أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ

دَوْسٍ!» حتى إذا روى له أبو هريرة قوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَقَرَّهُ على رواية الحديث وَقَالَ: «أَمَّا إِذَنْ فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ». وقد لاحظ شعبة بن الحجاج أن أبا هريرة يروي عن كعب الأحبار ويروي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ رِوَايَتَيْهِ، فرماه «بالتدليس»، ولكن بُسْرَ (*) بن سعيد لا يطمئن إلى قول شعبة في أبي هريرة، فرده بقوة قائلاً: «اتَّقُوا اللهَ، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الحَدِيثِ، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، ثُمَّ يَقُومُ، فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ عَنْ كَعْبٍ، [وَيَجْعَلُ] حَدِيْثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». فإذا كان ثمة تدليس فليس صادرًا عن أبي هريرة نفسه، وإنما كان يصدر عن الذين يَرْوُونَهُ عَنْهُ. وحسبنا أن الامام الشافعي كان يقول: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ» وأن سَالِمًا أَبَا الزُّعَيْزِعَةِ، وَالِي مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ وَكَاتِبَهُ يَرْوِي: «أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ دَعَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَأَقْعَدَهُ خَلْفَ السَّرِيرِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ، وَجَعَلْتُ أَكْتُبُ، حَتَّىَ إِذَا كَانَ رَأْسُ الحَوْلِ دَعَا بِهِ، فَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلاَ نَقَصَ، وَلاَ قَدَّمَ وَلاَ أَخَّرَ». وقد روى أبو هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن أبي بكر وعمر وعثمان وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وأسامة بن زيد وعائشة وسواهم من الصحابة. ويجاوز عدد الذين رَوَوْا عنه ثمان مائة رجل بين صحابي وتابعي، فيهم من علماء الصحابة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك، وفيهم من علماء التابعين سعيد بن المسيب وابن سيرين ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) في الكتاب المطبوع (بِشْرٌ) والصواب: بُسْرٌ بن سعيد مولى ابن الحضرمي المدني العابد، روى عن سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم وروى عنه أبو سلمة وزيد بن أسلم ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهم، قال ابن معين: «ثِقَةٌ». انظر " التمييز " للإمام مسلم، الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، ص 175، الطبعة الثالثة: 1410 هـ، نشر مكتبة الكوثر - المربع - المملكة العربية السعودية.

2 - عبد الله بن عمر:

وعكرمة وعطاء ومجاهد والشعبي. وأصح الأسانيد عنه: ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عنه. أما أضعفها: فالسري بن سليمان عن داوود بن يزيد الأودي عن والده يزيد عنه (¬1). 2 - عبد الله بن عمر: يلي أبا هريرة في كثرة الرواية، فقد روى (2630) حديثًا. وهو ابن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وشقيق السيدة حفصة أم المؤمنين، وأحد العبادلة الأربعة المشهورين بالإفتاء، وكل واحد منهم يسمى (عبد الله) والثلاثة الباقون هم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير (¬2). ولد ابن عمر بعد البعثة النبوية بقليل، وكان عمره عشر سنوات حين أسلم مع أبيه. ثم إنه هاجر إلى المدينة قبل أبيه. وكان في معركة أُحُدْ حَدَثًا، فاستصغره رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يأذن له بالاشتراك في القتال، لكنه فيما بعد شهد كثيرًا من الغزوات، كما أنه حضر القادسية، واليرموك، وفتح إفريقية ومصر وفارس، وقدم البصرة والمدائن. كان الزهري لا يعدل برأيه أَحَدًا، وكان مالك والزهري يقولان: «إِنَّ ابْنَ عُمَرَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ». وقد ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أبي هريرة في " الإصابة " رقم الترجمة 1179 (باب الكنى) و" تهذيب الأسماء واللغات ": 2/ 270، و" حلية الأولياء ": 2/ 376. (¬2) أما عبد الله بن مسعود فقد حال اشتغاله بالعبادة وتقدم وفاته دون ذكره مع هؤلاء العبادلة المشهورين بالإفتاء. (قارن بـ " الباعث الحثيث ": ص 229).

3 - أنس بن مالك:

روى عن أبي بكر وعمر وعثمان والسيدة عائشة وشقيقته السيدة حفصة وعبد الله بن مسعود. وروى عنه كثيرون منهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن شهاب الزهري وابن سيرين ونافع ومجاهد وطاووس وعكرمة. توفي عام 73 هـ. ويقال: إن الحجاج دَسَّ له رجلاً فسم ثم زُجَّ لرمح له ورجمه به في ظهر قدمه فمات متاثرًا بهذه الإصابة. وقد تكون وفاته طبيعية، ويكون الخبر عَارِيًا عن الصحة. وأصح الأسانيد عنه ما يسمى بـ «سلسلة الذهب» وهي مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر. وأضعفها: محمد بن عبد الله بن القاسم عن أبيه عن جده عنه (¬1). 3 - أنس بن مالك: هو ثالث الرواة المكثرين من الصحابة، فقد روى (2286) حَدِيثًا. وهو خادم رسول الله الأمين، جاءت به أمه أُمُّ سُلَيْمٍ إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن عشر سنين ليقوم على خدمته. وأبوه هو مالك بن النضر، ويتصل نسبه بابن عدي بن النجار. كان - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يداعبه قائلاً: «يَا ذَا الأُذُنَيْنِ» ولم تكن معاملته له معاملة السيد لعبده، وكان أنس من أجل ذلك يقول: «لَمْ يَسْأَلْنِي صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ، وَلاَ عَنْ شَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ، بَلْ كَانَ يَقُولُ: " مَا شَاءَ اللهُ ¬

_ (¬1) انظر ترجمة ابن عمر في " الإصابة " رقم 4825، و" تهذيب الأسماء ": 1/ 278. وقارن بـ " طبقات ابن سعد ": 4/ 105.

4 - السيدة عائشة أم المؤمنين:

كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ». لم يشهد أنس غزوة بدر الكبرى، لحداثة سنه، ولكنه شهد كثيرًا من الغزوات بعد ذلك، وحين استشار أبو بكر عمر في استعمال أنس على البحرين أثنى عليه عمر وقال: «إِنَّهُ فَتًى لَبِيبٌ كَاتِبٌ». وهو مشهود له بالتقوى والورع، لطول معاشرته الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال أبو هريرة فيه: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ صَلاَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ابْنِ أُمِّ سُلَيْمٍ» (يعني أنسًا). وقال فيه ابن سيرين: «أَحْسَنُ النَّاسِ صَلاَةً فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ». انتقل أنس في أخريات أيامه إلى البصرة، ويقول بعضهم: إن سبب انتقاله إليها أنه امتحن في فتنة ابن الأشعث، فآذاه الحجاج، فلم يجد بُدًّا مِنَ الهجرة إلى البصرة، حيث كان الصحابي الوحيد فيها، ولذلك يقولون: إنه آخر الصحابة مَوْتًا بالبصرة. توفي عام 93 هـ. بعد أن جاوز المائة. وقال فيه مُوَرِّقٌ يوم وفاته: «ذَهَبَ نِصْفُ العِلْمِ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ إِذَا خَالَفَنَا قُلْنَا لَهُ تَعَالَ إِلَى مَن سَمَِع مِنَ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». أما أسانيده فأصحها ما رواه: مالك عن الزهري عنه. وأضعفها ما رواه: داود بن المحبر عن أبيه المحبر عن أبان بن أبي عياش عنه (¬1). 4 - السيدة عائشة أم المؤمنين: هي زوج النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبنت صديقه وأحب الناس إليه أبي بكر ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أنس في " طبقات ابن سعد: 7/ 10، و" تهذيب ابن عساكر ": 3/ 139.

الصديق. أسلمت صغيرة بعد ثمانية عشر شخصًا، وتزوجها - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في العام الثاني من الهجرة، ولم يتزوج بِكْرًا سواها. وكان يؤثرها بالحب ويتابعها على هواها: ولا غرو، فإن الخصال الكريمة التي اجتمعت فيها يندر أن تتوافر لسواها، فهي تعلم اللغة والشعر والطب والأنساب وأيام العرب. قَالَ الزُّهْرِيُّ: «لَوْ جُمِعَ عِلْمُ عَائِشَةَ إِلَى عِلْمِ جَمِيعِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ وَعِلْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ، لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ». وقال عروة: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِطِبٍّ وَلاَ بِشِعْرٍ وَلاَ بِفِقْهٍ مِنْ عَائِشَةَ». وهي من المكثرات في الرواية، تلي في ذلك أنس بن مالك، فقد روت 2210 أحاديث. ومن مزاياها أنها كانت أحيانًا تنفرد باستنباط بعض المسائل، فتجتهد فيها اجتهادًا خَاصًّا وتستدرك بها على علماء الصحابة، حتى إن الزركشي ألف كتابًا خاصا في هذا المعنى سماه: " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ". أما ما ينسب إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قال فيها: «خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ هَذِهِ الحُمَيْرَاءِ». - أي البيضاء لأن العرب تسمي الأبيض أحمر - فإنه حديث لا سند له، وقد صَرَّحَ ابن حجر وَالمِزِّي والذهبي وابن كثير بأنه مكذوب مصنوع. إلا أن القارئ يقول: «لكن معناه صحيح». روت عن أبيها أبي بكر، وعن عمر، وسعد بن أبي وقاص وَأُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ (*) وغيرهم. أما الصحابة الذين رَوَوْا عنها فهم أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وزيد بن خالد الجُهَنِيِّ، وصفية بنت شيبة وغيرهم. وأما كبار ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ورد بالكتاب المطبوع خطأ في الطباعة (أسيد بن خُضَيْرٍ) والصواب (أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ)، انظر " تقريب التهذيب " لابن حجر، تحقيق الشيخ محمد عوامة: ص 112 ترجمة رقم 517. طبعة دار الرشيد سوريا - حلب، طبعة ثالثة منقحة: 1411 هـ - 1991 م.

5 - عبد الله بن عباس:

التابعين الذين أخذوا عنها فهم سعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وعائشة بنت طلحة، وعمرة بنت عبد الرحمن وحفصة بنت سيرين. وهؤلاء النسوة الثلاث كن من فُضْلَيَاتِ تلميذاتها الفقيهات. وحسبها شرفًا وفخرًا أن الله أنزل في شأنها قرآنًا بعد حادثة الإفك المشهورة، فَبَرَّأَهَا من افتراء الأفاكين، حتى قال فيها حسان بن ثابت بعد أن خاض في الإفك مع الخائضين: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ وكانت - مع ذلك - تغضب إذا مس أحد حسان بن ثابت بسوء، وتدافع عنه قائلة: أليس هو القائل: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ كانت وفاتها عام 57هـ على الأصح، وصلى عليها أبو هريرة. وأصح أسانيدها ما رواه يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر بن حفص عن القاسم بن محمد عنها، وما رواه الزهري أو هشام بن عروة عن عروة بن الزبير عنها. وأضعف أسانيدها ما يرويه الحارث بن شبل عن أم النعمان عنها (¬1). 5 - عبد الله بن عباس: هو خامس الصحابة المكثرين من الرواية، يلي في ذلك السيدة ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة السيدة عائشة "الإصابة "، كتاب النساء رقم 701، و" طبقات ابن سعد ": 1/ 39، و" تاريخ الطبري ": 3/ 67، و" حلية الأولياء ": 2/ 43. واقرأ الكتاب القيم الذي ألفه الأستاذ سعيد الأفغاني عنها " عائشة والسياسة ".

عائشة، فقد روي له (1660) حَدِيثًا. وهو ابن عم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه هو العباس بن عبد المطلب، وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، أخت أم المؤمنين ميمونة. كان مولده قبل الهجرة بثلاث سنوات ودعا له - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بقوله: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، فاستجاب الله دعاء نبيه، فاشتهر ابن عباس بالعلم الغزير، والفقه الدقيق، حتى صارت تشد إليه الرحال للفتوى والرواية، وظل يفتي الناس بعد عبد الله بن مسعود نَحْوًا من خمس وثلاثين سَنَةً. وفيه يقول عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: «مَا رَأَيْتُ أحدًا أَعْلَمَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلاَ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَلاَ أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِ القُرْآنِ، وَبِالعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَالحِسَابِ وَالفَرَائِضِ. وَكَانَ يَجْلِسُ يَوْمًا لِلْفِقْهِ، وَيَوْمًا لِلْتَّأْوِيلِ، وَيَوْمًا لِلْمَغَازِي، وَيَوْمًا لِلْشِّعْرِ، وَيَوْمًا لأَيَّامِ العَرَبِ. وَمَا رَأَيْتُ قََطُّ عَالِمًا جَلَسَ إِلَيْهِ إِلاَّ خَضَعَ لَهُ، وَلاَ سَائِلاً سَأَلَهُ إِلاَّ وَجَدَ عِنْدَهُ عِلْمًا». ذكر النسائي أن أصح أسانيده في الحديث ما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، وأضعفها ما يرويه (محمد بن مروان السُدِّيُّ الصغير عن الكلبي عن أبي صالح، وهذه تسمى «سِلْسِلَةَ الكَذِبِ»). لَقَّبَهُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترجمان القرآن، وقال الناس في تفسيره: «لَوْ سَمِعَهُ أَهْلُ الرُّومِ وَالدَّيْلَمِ لأَسْلَمُوا». إلا أن الناس تزيدوا عنه في الرواية، وَنَبَّهَ العلماء على أن أوهى طرقه في التفسير هي بالدرجة الأولى «سِلْسِلَةَ الكَذِبِ» التي أشار النسائي إليها، ثم بالدرجة الثانية طريق

الضحاك بن مُزاحم، وهي منقطعة لأنه لم ير ابن عباس. وهذا السند إذا رواه جُوَيْبِرُ البَلْخِيُّ عَنْ الضَحَّاكِ زاد ضعفًا. أما طرقه الجيدة في التفسير فهي: أولاً: طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، وقد اعتمد البخاري هذه الطريق فيما يعلقه عن ابن عباس. وكانت نسخة التفسير المروية عن ابن عباس بهذه الطريق عند أبي صالح كاتب الليث بمصر، يرويها عن علي بن أبي طلحة معاوية بن صالح، ويرويها عن معاوية كَاتِبُ الليث، وفيها يَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «بِمِصْرَ صَحِيفَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، رَوَاهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَوْ رَحَلَ رَجُلٌ فِيهَا إِلَى مِصْرَ قَاصِدًا مَا كَانَ كَثِيرًا». ويظهر أن علي بن أبي طلحة لم يسمع هذه الصحيفة من ابن عباس مباشرة، وإنما سمعها من مجاهد أو ابن جُبير، وكلاهما ثقة، فكان ابن طلحة أخذها عن ابن عباس نفسه. ثانيًا: طريق قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جُبَيْرٍ عنه. وهذه الطريق على شرط الشيخين. وبها خَرَّجَ الحاكم النيسابوري عَدَدًا من الأحاديث في " مستدركه ". ثالثًا: طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة أو ابن جبير عنه. وبهذه الطريق أخرج ابن جرير الطبري كثيرًا من الروايات في " تفسيره ". سئل ابن عباس: بِمَ نِلْتَ العِلْمَ؟ فَقَالَ: «بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ». ولذلك كانت معرفته للغة القرآن تتجاوز القضايا الدينية والتشريعية إلى الإحاطة بلغة العرب، والاستشهاد على أسلوب القرآن بما كان شَائِعًا من التعبير العربى الجاهلي الصميم. روي أن نافع بن

6 - جابر بن عبد الله:

الأزرق ونجدة بن عويمر خرجا في نفر من الخوارج يطلبون العلم، فدخلا مكة، فإذا بابن عباس عند زمزم يسأله الناس في التفسير وهو يجيبهم، فسأله نافع عن آيات في القرآن، وعن كلمات فيها، فيقول له نافع: وهل تعرف العرب ذلك قبل أن ينزل الكتاب؟ فيقول له: نعم، وينشده بيتًا من الشعر حتى شهد له هو وأصحابه بسعة المعرفة، وغزارة العلم. روى ابن عباس عن عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأُبَيٍّ بْنَ كَعْبٍ، وَذَكَرَ مَعْمَرٌ أن علمه من هؤلاء الثلاثة. وروى أيضًا عن معاذ بن جبل وأبي ذر الغفاري وغيرهما. وروى عنه عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وسهل بن حنيف ومولاه عكرمة. وشهد ابن عباس حُنَيْنًا والطائف وفتح مكة وحجة الوداع، وشهد فتح إفريقية مع ابن أبي السرح، وَالجَمَلَ وَصِفِّينَ مع عِلٍّي، وقد جعله عَلِيٌّ نائبه على البصرة. وفي أخريات أيامه أصيب في بصره، كما أصيب بذلك من قبله أبوه وجده. وتوفي بالطائف عام 68 هـ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ (¬1). 6 - جابر بن عبد الله: هو سادس المكثرين عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روى (1540) حديثًا. ¬

_ (¬1) ترجمة ابن عباس في " الإصابة " رقم 4772، و" حلية الأولياء ": 1/ 314، و" نكت الهميان ": ص 180.

7 - أبو سعيد الخدري:

وأبوه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمِيِّ (نسبة إلى بَنِي سَلَمَةَ بطن من الأنصار)، وقد شهد مع أبيه هذا وخاله «العقبة الثانية» في السبعين من الأنصار الذين بايعوا الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نصرته وتأييده ونشر دينه. وأتيح لجابر أن يشهد أكثر الغزوات النبوية، إلا أنه لم يشهد معركتي بَدْرٍ وَأَحُدْ، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَلَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا، وَلاَ أُحُدًا مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ، لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ قَطُّ». قدم جابر بن عبد الله مصر والشام، فكان الناس يأخذون عنه العلم حيثما وجدوه. وفي المسجد النبوي بالمدينة كانت له حَلْقَةٌ يجتمع عليه الناس فيها وينتفعون بعلمه وتقواه. وكانت وفاته بالمدينة عام 74 هـ، وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة آنذاك. والمشهور أن أصح الأسانيد عنه ما رواه أهل مكة من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عنه (¬1). 7 - أبو سعيد الخُدري: هذا هو سابع المكثرين في الرواية عن رسول الله، فقد روى (1170) حَدِيثًا، وكان الناس يسالونه أن يكتبوا عنه ما يسمعون من أحاديثه، فيجيبهم: «لَنْ تَكْتُبُوهُ، وَلَنْ تَجْعَلُوهُ قُرْآنًا، وَلَكِنْ احْفَظُواعَنَّا كَمَا حَفِظْنَا». ¬

_ (¬1) ترجمة جابر في " الإصابة ": 1/ 213، و" تهذيب التهذيب ": 1/ 142.

وقد غلبت عليه كنيته (أبو سعيد) ولكن اسمه هو سعد بن مالك بن سنان، وقد استشهد أبوه مالك بن سنان هذا في وقعة أُحُدْ. وهو خُدْرِيٌّ، يتصل نسبه بِخُدْرَةَ بن عوف بن الحارث بن الخزرج، المعروف بـ «الأَجِيرِ». جاء به أبوه مالك يوم أُحُدْ إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعرضه عليه، وكان له من العمر ثلاث عشرة سَنَةً، وراح يشيد بقوته وصلابته ويقول: «إِنَّهُ عَبِلُّ العِظَامِ يَا رَسُولَ اللَّهِ»، ولكنه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - استصغره وأمر برده. وأبو سعيد الخدري هو أحد الذين بايعوا الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وهم أبو ذر الغفاري، وسهل بن سعد، وعُبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة. وقد خرج مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بني المصطلق، كما شهد غزوة الخندق وما بعدها، فكان مجموع ما شهده اثنتي عشرة غزوة. رواياته عن الصحابة كثيرة، ولكن أشهر من روى عنهم أبوه مالك بن سنان، وأخوه لأمه قتادة بن النعمان، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن سلام. ومن الذين رَوَوْا عنه: ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب بنت كعب بن عجرد، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، ونافع، وعكرمة. أخذ بيد ابنه عبد الرحمن إلى البقيع، وأوصاه أن يدفنه في مكان بعيد منه وقال له: «يَا بُنَيَّ، إِذَا أَنَا مُتُّ فَادْفِنِّي هَا هُنَا، وَلاَ تَضْرِبْ

ثانيا - بعض مشاهير الصحابة:

عَلَيَّ فُسْطَاطًا، وَلاَ تَمْشِ مَعِي بِنَارٍ، وَلاَ تُبْكِيَنَّ عَلَيَّ نَائِحَةً، وَلاَ تُؤَذِّنْ بِي أَحَدًا». ولقد توفي الزاهد العابد، والعالم العامل، أبو سعيد الخدري عام 74 هـ (¬1). ثَانِيًا - بَعْضُ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ: 8 - عبد الله بن مسعود: هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان سادس السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة مرتين، وحضر جميع الغزوات مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي غزوة بدر أجهز على أبي جهل، فشهد له الرسول بالجنة. وقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنِ مَسْعُودٍ) وَسَالِمٍ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ». وهو المراد بـ «عبد الله» عند الإطلاق في اصطلاح المحدثين. كان دقيق الساقين، فكان بعض الصحابة يضحكون من ذلك، فقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ». وقد وَلاَّهُ عمر على القضاء وبيت المال في الكوفة، فكان رمزًا للتقى والورع والعفاف. أصح الأسانيد عنه، ما رواه سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أبي سعيد في " تهذيب التهذيب ": 2/ 479، و" حلية الأولياء ": 1/ 369، و" صحفة الصفوة ": 1/ 299.

9 - عبد الله بن عمرو بن العاص:

عن إبراهيم، عن علقمة. وأضعف الأسانيد عنه: ما رواه شُرَيْكٌ، عن أبي فزارة، عن أبي زيد. روى عن عمر، وسعد بن معاذ. وروى عنه العبادلة، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو موسى الأشعري، وعلقمة، ومسروق، وَشُرَيْحٍ القَاضِي، وغيرهم. ويبلغ مجموع ما رواه (848) حديثًا. قدم المدينة ومرض بها، ثم توفي عام 32 هـ، ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان بن عفان (¬1). 9 - عبد الله بن عمرو بن العاص: هو أحد العبادلة الفقهاء، وقد أسلم قبل أبيه، ثم هاجر قبل الفتح. كان عابدًا زاهدًا، كثير الصيام والصلاة، مقبلاً على حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى روى [عَنْهُ] (700) حديث، وكان - بعد إذن النبي له بالكتابة - يُدَوِّنُ ما يسمعه منه من الحديث. وفي ذلك يقول أبو هريرة: «[مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً منِّي] إلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، فإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أكْتُبُ». روى عن عمر، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن عمر بن الخطاب، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب، وطاووس وعكرمة وغيرهم. ¬

_ (¬1) ترجمة ابن مسعود في " الإصابة ": رقم 4945، و" طبقات القراء ": 1/ 458، و" حلية الأولياء ": 1/ 124.

10 - أبو ذر الغفاري:

وأصح الأسانيد عنه ما يرويه عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده عبد الله. وتوفي عبد الله بن عمرو عام 43هـ ليالي حصار الفسطاط (¬1). 10 - أبو ذر الغفاري: هذه كنيته، أما اسمه فهو جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ، وهو منسوب إلى جده جُنَادَةَ الذي كان من غِفَارَ، وكان كِنَانِيًّا. عُرِفَ عنه التعبد قبل مبعث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان خامس السابقين إلى الإسلام، ولم يتيسر له أن يهاجر إلا بعد غزوة الخندق. وهو ممن بايع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ألا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن يقول الحق وإن كان مُرًّا. كان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - زَاهِدًا لاَ يَدَّخِرُ قُوتًا لِلْغَدِ، ووقف في عهد عثمان يدعو إلى نوع من الاشتراكية في المال أملاه عليه شعوره الإنساني المرهف، وورعه العظيم، ولكن عثمان بن عفان لم يرق له ذلك فنفاه إلى الرَّبَذَةِ، فبقي فيها حتى توفي عام 32 هـ في خلافة عثمان نفسه، وصلى عليه ابن مسعود الذي كان مَارًّا بالربذة في ذلك الحين. روى عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم. وروى عنه: الأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن غنم، وعطاء وغيرهم. ¬

_ (¬1) ترجمة عبد الله بن عمرو في " الإصابة ": رقم 4828، و" طبقات ابن سعد ": 4 / ق 2 ص 8 - 13، و" حلية الأولياء ": 1/ 283.

11 - سعد بن أبي وقاص:

وأصح الأسانيد عنه ما رواه أهل الشام من طريق سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني عنه. وقد روي عنه (281) حَدِيثًا (¬1). 11 - سعد بن أبي وقاص: هو سعد بن أبي وقاص بن أُهَيْبٍ الزهري، ويكنى أبا اسحاق، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو رابع السابقين إلى الإسلام، وكان إسلامه على يد أبي بكر وهو في السابعة عشرة من عمره. شهد مع الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميع الغزوات، وكان فيها جميعًا «فَارِسَ الإِسْلاَمِ»، وهو من بني زهرة الذين كانت آمنة أم النبي منهم، ولذلك قال فيه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ». وَلاَّهُ عمر بن الخطاب قيادة الجيش الذى سَيَّرَهُ لقتال الفرس، فهزمهم بالقادسية عام 15 هـ، وفي جلولاء عام 16هـ، وفتح المدائن، وبنى الكوفة عام 17هـ. وكان والي العراق في عهد عمر ثم في عهد عثمان. كان أحد الستة الذين عَيَّنَهُمْ عمر للخلافة. وقد اعتزل الفتنة الكبرى التي أسفرت عن مقتل عثمان، فلم يغادر بيته حتى توفي بِالعَقِيقِ عام 55 هـ، ودُفِنَ بِالبَقِيعِ، وهو آخر من توفي من العشرة المبشرين بالجنة. روى عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وخولة بنت ¬

_ (¬1) ترجمة أبي ذر في " الإصابة ": 7/ 60، و" طبقات ابن سعد ": 4/ 161 - 175، و" حلية الأولياء ": 1/ 165.

12 - معاذ بن جبل:

حكيم. وروى عنه مجاهد، وعلقمة بن قيس، والسائب بن يزيد. وأصح الأسانيد عنه ما رواه علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عنه. وروي عنه (270) حديثًا (¬1). 12 - معاذ بن جبل: هو فقيه الصحابة، معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، الخزرجي، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان إسلامه وهو في الثامنة عشرة من عمره، وبايع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «العقبة الثانية» وشهد جميع الغزوات مع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد آخى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بينه وبين عبد الله بن مسعود، وأرسله إلى اليمن. ليعلمهم ويفقههم في الدين ويحفظهم القرآن، فشيعه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - مَاشِيًا، وكان معاذ راكبًا، والنبي يقول له: «إِنِّ أُحِبُّكَ». وقد ظل يعلم الناس في اليمن في عهد أبي بكر، ثم هاجر الى الشام. كان أحد الصحابة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان كما قال فيه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «أَعْلَمُ النَّاسِ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ». روى عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وروى عنه أنس بن مالك، ومسروق، وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وتوفي عام 18 هـ الذي حدث فيه طاعون عَمَوَاسْ بالأردن، وهو ابن ثلاث وثلاثين. وفيه يقول عمر بن الخطاب: «عَجَزَتِ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ مُعَاذٍ، وَلَوْلاَ مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ!» (¬2). ¬

_ (¬1) ترجمة سعد في " التهذيب ": 3/ 483، و" الحلية ": 1/ 92، و" صفة الصفوة: 1/ 138، ولعبد الحميد السحار كتاب فيه. (¬2) ترجمة معاذ في " الإصابة ": رقم 8039، و" أسد الغابة ": 4/ 376، و" طبقات ابن سعد ": 3 / ق 2 ص 120.

13 - أبو الدرداء:

13 - أبو الدرداء: هذه هي الكنية التي اشتهر بها، أما اسمه فهو عويمر بن زيد بن قيس، وكان أنصاريًا خزرجيًا. حفظ القرآن عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبلى في غزوة أُحُدْ بَلاَءً حَسَنا وقال فيه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يومئذٍ: «نِعْمَ الفَارِسُ عُوَيْمِرٌ»، وقد آخى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبن سلمان الفارسي. ولي أبو الدرداء قضاء الشام في خلافة عثمان، وكان مفتي أهل الشام، وفقيه أهل فلسطين. روى عن السيدة عائشة، وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه بلال، وزوجته أم الدرداء. ويبلغ مجموع ما رواه (179) حَدِيثًا. وفيه يقول مسروق: «وَجَدْتُ عِلْمَ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عِنْدَ سِتَّةٍ: مِنْهُمْ أَبُو الدَّرْدَاءِ» (¬1). توفي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عام 32 هـ بدمشق. ¬

_ (¬1) ترجمة أبي الدرداء في " الإصابة ": رقم 6119، و" الاستيعاب " بهامشها: 3/ 15، و" طبقات القراء ": 1/ 606.

الفصل الرابع: تراجم بعض كبار التابعين:

الفَصْلُ الرَّابِعُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ: 1 - سعيد بن المسيب: (¬1) هو- كما يقول أحمد بن حنبل - أفضل التابعين، سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، كان أبوه وَجَدُّهُ صحابيين، وقد ولد لسنتين مَضَتَا من خلافة عمر، وراح منذ نعومة أظفاره يرحل الأيام والليالي في التماس الحديث الواحد. قال فيه مكحول: «طُفْتُ الأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ العِلْمِ، فَمَا لَقِيتُ أَحَدًا أعلم مِنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ». وقال علي بن المديني: «لاَ أَعْلَمُ فِي التَّابِعِينَ أَوْسَعَ عِلْمًا مِنْهُ، هُوَ عِنْدِي أَجَلُّ التَّابِعِينَ». وَيَرْوُونَ في زهده وورعه أنه زَوَّجَ ابنته لكثير بن أبي وداعة على درهمين فقط، وأبى أن يزوجها للوليد بن عبد الملك حين خطبها له أبوه عبد الملك. وحين أراد عبد الملك أن يحقق البيعة لابنه الوليد، ضرب هشام بن إسماعيل نائب عبد الملك على المدينة سعيد بن المسيب ¬

_ (¬1) أهل العراق يفتحون ياء (المُسَيَّبِ) ويشددونها، وهو الأصح، وأهل المدينة يكسرونها.

2 - نافع مولى ابن عمر:

وعرضه على السيف ليحمله على الرضا بالبيعة، ولكنه أبى أن يبايع رغم ذلك كله. روى ابن المسيب عن أبي بكر مرسلاً، وسمع من عمر، وعثمان، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، والسيدة عائشة وغيرهم. وروى عنه سالم بن عبد الله، والزهري، وقتادة، وَشُرَيْكٌ، وأبو الزناد، وغيرهم. وكانت وفاته سنة 94هـ (¬1). 2 - نافع مولى ابن عمر: (*) هو الفقيه نافع بن هرمز، وقيل: بن كاوس، وكنيته أبو عبد الله المدني، أصابه عبد الله بن عمر في بعض مغازيه، وقال فيه بعد أن آنس منه الرغبة في العلم والاستعداد الطيب للرواية: «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِنَافِعٍ». وقد أخلص نافع في خدمة سيده ابن عمر، وظل يخدمه ثلاثين عَامًا. ويرى بعضهم أن أصله من نيسابور، وآخرون أنه من كَابُلْ. أما يحيى بن معين فيقول فيه: «نَافِعٌ دَيْلَمِيٌّ فِيهِ لَكْنَةٌ». وكان الإمام مالك بن أنس من أصحاب نافع، بل كان «أَثْبَت أَصْحَابِهِ». كما يقول النسائي. وفيه يقول مالك: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ نَافِعٍ حَدِيثًا لا أُبَالِي أَلا أَسْمَعُهُ مِنْ [أَحَدٍ]». ومن هنا حكم الإمام البخاري بأن «أَصَحُّ الأَسَانِيدِ: مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ». ¬

_ (¬1) انظر ترجمة ابن المسيب في " طبقات ابن سعد ": 5/ 88، و" حلية الأولياء ": 2/ 161، و" الوفيات ": 1/ 206. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) خطأ في الطباعة حيث ورد في الكتاب المطبوع (ابن عمرو) والصواب (ابن عمر).

3 - محمد بن سيرين:

ولم يرو نافع عن ابن عمر وحده، فإن له روايات عن أبي سعيد الخدري، والسيدة عائشة، والسيدة حفصة، مرسلاً. وروى عنه عبد الله بن دينار، والزهري، والأوزاعي، وابن إسحاق، وصالح بن كيسان، وابن جريج. وكان ابن عمر يحبة كثيرًا، وقد أعطاه فيه بعضهم ثلاثين ألفًا فأبى أن يبيعه وأعتقه في سبيل الله. وأرسله الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم السنن ويفقههم في الدين. وكانت وفاة نافع سَنَةَ 117 هـ (¬1). 3 - محمد بن سيرين: هو الفقيه الزاهد العابد محمد بن سيرين الأنصاري، وكان أبوه سيرين مولى لأنس بن مالك، اشتراه من خالد بن الوليد الذي أسره في «عين التمر»، في بادية العراق قرب الأنبار. إلا أن أنسًا كَاتَبَ سيرين على شيء من المال فأدى كتابته وأصبح حُرًّا. أما أم محمد ابن سيرين فهي صفية التي كانت مولاة لأبي بكر. وكان مولده لسنتين بقيتا من خلافة عثمان وتوفي سنة 110هـ. وقد أدرك ثلاثين من الصحابة لكنه لم يدرك أبا بكر ولا أبا ذر الغفاري، ولا سمع من ابن عباس، ولا أبي الدرداء، ولا عمران بن حُصين، ولا السيدة عائشة: فجميع مروياته عن هؤلاء تعتبر مرسلة. لكنه روى أحاديث مسندة عن زيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وسواهم. وممن روى عن ابن سيرين: الشعبي، والأوزاعي، وعاصم ¬

_ (¬1) ترجمة نافع في " تهذيب الأسماء ": 10/ 412، و" الوفيات ": 2/ 150.

4 - ابن شهاب الزهري:

الأحول، ومالك بن دينار، وخالد الحذاء. وفيه يقول هشام بن حسان: «هُوَ أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ البَشَرِ». ويقول أبو عوانة: «رَأَيْتُ بن سِيرِينَ [فِي السُّوقِ] فَمَا رَآهُ أَحَدٌ إِلاَّ ذَكَرَ اللَّهَ». ويقول ابن سعد: «كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا عَالِيًا رَفِيعًا فَقِيهًا إِمَامًا كَثِيرَ العِلْمِ» (¬1). 4 - ابن شهاب الزهري: هو العالم الفقيه محمد بن مسلم بن عبد الله الذي قال فيه الليث بن سعد: «مَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ أَجَمْعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، يُحَدِّثُ فِي التَّرْغِيبِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحسِنْ غَيْرَهُ، وَيُحَدِّثُ عَنِ السُنَّةُ وَالقُرْآنِ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ جَامِعًا». كان يسكن في قرية بين الحجاز والشام تسمى «أَيْلَةَ»، وقد ذهب صيته حتى أمسى مرجع علماء الحجاز والشام. وقد جالس سعيد بن المسيب ثماني سنوات في قرية بأطراف الشام تسمى «شعبدا»، وبها كانت وفاته سنة 123هـ، وقال بعضهم: بل سنة 125هـ. وكان يُدَوِّنُ ما يسمع من الحديث. قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: «كُنْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ أَنَا وَالزُّهْرِيُّ، فَقَالَ: "تَعَالَ نَكْتُبْ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، ثُمَّ قَالَ: " تَعَالَ نَكْتُبْ عَنْ الصَّحَابَةِ "، فَكَتَبَ وَلَمْ أَكْتُبْ، فَنَجَحَ وَضَيَّعْنَا"». ويروى عنه - في معرض الاستشهاد على حفظه وضبطه - أن ¬

_ (¬1) انظر ترجمة ابن سيرين في " تهذيب التهذيب ": 9/ 214، و" الوفيات ": 1/ 453، و" تاريخ بغداد ": 5/ 331.

5 - سعيد بن جبير:

هشام بن عبد الملك سأله أن يملي على بعض ولده شيئًا، فأملى عليه أربعمائة حديث، وَخَرَجَ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: «أَيْنَ أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ الحَدِيثِ»، فَحَدَّثَهُمْ بِتِلْكَ الأَرْبَعِمِائَةٍ. ثُمَّ لَقِيَ هِشَامًا بَعْدَ شَهْرٍ [أَوْ] نَحْوِهِ، فَقَالَ هِشَامٌ لِلْزُّهْرِيِّ إِنَّ الكِتَابَ ضَاعَ مِنِّي، فَدَعَا بِكَاتِبٍ، فَأَمْلاَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَابَلَ هِشَامٌ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ، فَمَا غَادَرَ حَرْفًا وَاحِدًا، فلما أعجب بعلمه جعله مؤدب أولاده. وضبطه للحديث بهذه الدقة والعناية هو الذي حَمَلَ عمرو بن دينار على أن يعترف بفضله ويقول: «مَا رَأَيْتُ أَنَصَّ لِلْحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ» فهو يحرص على رواية الحديث بنصه. وقد قيل: إن أحاديثه بلغت ألفًا ومائتين (1200)، لكن المسند منها يناهز نصفها. روى الزهري عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وسهل بن سعد، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح. وله روايات مرسلة عن عبادة بن الصامت، وأبي هريرة، ورافع بن خديج وسواهم. ويرى البخاري أن أصح أسانيده «الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ»، أما أبو بكر بن أبي شيبة فيرى أن أصح أسانيده «الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ» (¬1). 5 - سعيد بن جبير: هو الفقيه، المقرئ، الناسك، سعيد بن جبير الأسدى الكوفي، ¬

_ (¬1) انظر في ترجمة الزهري " تهذيب التهذيب ": 9/ 445، و" الحلية ": 3/ 360، و" تذكرة الحفاظ ": 1/ 102.

6 - الإمام أبو حنيفة:

وَيُكَنَّى «أبا عبد الله». كان سفيان الثوري يقدمه على إبراهيم النخعي ويقول: «خُذُوا التَّفْسِيْرَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ». كان ابْنُ جُبَيْرٍ يكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود حين كان على قضاء الكوفة، ثم أصبح يكتب بعد ذلك لأبي بُرْدَةَ بن أبي موسى، ثم قتله الحجاج سنة 95 هـ لخروجه مع ابن الاشعث. وقد روى سعيد بن جبير عن عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وأحاديثه مسندة عن هؤلاء. إلا أنه لم يسمع من أبي هريرة وأبي موسى الأشعري، وعلي، والسيدة عائشة، فكل مروياته عن هؤلاء مرسلة. ويقول يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ في مرسلاته هذه: «مُرْسَلاَتُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلاَتِ عَطَاءٍ». وروى عنه الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وَيَعْلَى بن حكيم الثقفي، وسِماك بن حرب وغيرهم. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: «مَاتَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ رَجُلٌ إِلاَّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى عِلْمِهِ» (¬1). 6 - الإمام أبو حنيفة: أبو حنيفة هي الكنية التى اشتهر بها، أما اسمه فهو النعمان بن ثابت بن زُوطَى، وهو تَيْمِيٌّ بالولاء، إذ كان مولى لِتَيْمٍ الله بن ثعلبة الكوني، ولكن أصله من فارس. وهو تابعي لأنه رأى من الصحابة ¬

_ (¬1) انظر في ترجمته " طبقات ابن سعد ": 6/ 178، و" تهذيب التهذيب ": 4/ 11، وقارن بالطبري " 8/ 13.

أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبا الطفيل عامر بن واثلة، وروى عن بعض هؤلاء، ويقول بعض العلماء إنه روى عنهم جميعًا. أخذ أبو حنيفة الفقه والحديث عن عطاء، ونافع، وابن هرمز، وحماد بن أبي سليمان، وعمرو بن دينار وغيرهم، وروى عنه أصحابه: أبو يوسف، وَزُفَرْ، وأبو مطيع البلخي، وابن المبارك، والحسن بن زياد، وداود الطائى، ووكيع، وآخرون. وقد شهد له العلماء بسعة المعرفة، والفقه، وقوة الحجة. قال الشافعي: «النَاسُ فِي الفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ». وقال الليث بن سعد: «قَابَلْتُ مَالِكًا بِالمَدِينَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: " إِنِّي أَرَاكَ تَمْسَحُ العَرَقَ عَنْ جَبِينِكَ "، قَالَ: " عَرَقْتُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنَّهُ لَفَقِيهٌ يَا مِصْرِيُّ ". ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا حَنِيفَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَ هَذَا الرَّجُلَ فِيكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " مَا رَأَيْتُ أَسْرَعَ مِنْهُ بِجَوَابٍ صَادِقٍ وَنَقْدٍ تَامٍّ "». وهو بلا ريب فقيه أكثر منه مُحَدِّثًا، ولكن معرفته بالحديث لم تكن قليلة إلى الحد الذي يصوره به بعضهم، فقد جمع له محمد بن محمود الخوارزمي خمسة عشر مسندًا، وفي كتاب " الآثار " لصاحبه محمد بن الحسن كثير من الأحاديث التي أخذها محمد عنه. ولكن الفقه ظل الصفة البارزة فيه، وحسبه أنه مؤسس المذهب الحنفي المُسَمَّى باسمه، وإمام أهل الرأي. ولقد كان أبو حنيفة تَقِيًّا وَرِعًا، يكسب حياته من عمل يده، ولا يقبل جوائز العلماء، إِبَاءً وَأَنَفَةً وَتَرَفُّعًا بكرامة العلماء أن تذل

أَوْ تُهَانَ. أراد أبو جعفر أن يكرهه على القضاء، وحبسه وضربه مائة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة، ليحمله على قبول ذلك المنصب، ولكنه أبى، وتوفي بالسجن سنة 150هـ في بغداد. وفيه يقول ابن المبارك: «أَفْقَهُ النَّاسِ أَبُو حَنِيفَةَ، مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْهِ مِثْلَهُ، وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَغَاثَنِي بِأَبِي حَنِيفَةَ لَكُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ، كَانَ وَرِعًا سَخِيًّا صَاحِبَ غَوْصٍ عَلَى المَسَائِلِ» (¬1) ¬

_ (¬1) ترجمة أبي حنيفة في " تاريخ بغداد ": 13/ 323 - 423، و" الوفيات ": 2/ 163، و" الجواهر المضيئة ": 1/ 26.

الفصل الخامس: تراجم بعض أتباع التابعين:

الفَصْلُ الخَامِسُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ أَتْبَاعِ التاَّبِعِينَ: 1 - الإمام مالك بن أنس: هو إمام أهل المدينة، وأمير المؤمنين في الحديث، مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، نسبة إلى ذي أصبح من ملوك اليمن، وكان يكنى «أبا عبد الله»، وفيه يقول الإمام الشافعي: «مَالِكٌ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ بَعْدَ التَّابِعِينَ». ويقول ابن حيان: «كَانَ مَالِكٌ أَوَّلُ مَنْ انْتَقَى الرِّجَالَ مِنَ الفُقَهَاءِ بِالمَدِينَةِ، مَع الفِقْهِ وَالدِّينِ وَالفَضْلِ وَالنُّسُكِ، وَبِهِ تَخَرَّجَ الشَّافِعَيُّ». وَيَقُولُ النَّسَائِيُّ: «مَا عِنْدِي أَنْبَلَ مِنْ مَالِكٍ، وَلاَ أُجِّل مِنْهُ، وَلاَ أَوْثَقَ، وَلاَ آمَنَ عَلَى الحَدِيثِ مِنْهُ، وَلاَ أَقُلَّ رِوَايَةً عَنْ الضُّعَفَاءِ. مَا عَلِمْنَاهُ حَدَّثَ عَنْ مَتْرُوكٍ إِلاَّ عَبْدَ الكَرِيمِ». (يريد عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري نزيل مكة، لأنه كان حسن السمت، كثير التضرع، ولم يكن من أهل بلد مالك، فخفي عليه أمره، على أنه لم يخرج له إلا شيئًا من فضائل الأعمال، أو زيادة على متن).

وقد ألف مالك " الموطأ "، وأراد المنصور أن يحمل الناس عليه، ولكن مالكا أبى، كما أشرنا إلى ذلك في موضع آخر. وقد استغرق تأليفه " الموطأ " أَرْبَعِينَ سَنَةً عرضه خلالها على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، وقد جمعه من مائة ألف حديث. وروى " الموطأ " عنه أكثر من ألف رجل، ولذلك اختلفت نسخه فكانت ثلاثين لم يشتهر منها إلا عشرون، واشهرها رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسى المصمودي. وبعض العلماء كان يرى ان أصول الحديث سبعة، هي " الكتب الستة " ومعها " الموطأ "، ويجعل بعضهم بَدَلاً مِنْهُ " سنن الدارمي ". ويقول ابن حزم في وصف هذا الكتاب العظيم: «وهو كتاب في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره». وليست أحاديث " الموطأ " كلها مسندة، بل فيه المرسل والمعضل والمنقطع وغير ذلك. وقد أحصى بعض العلماء فيه (650) حديث مسند، و (222) حديثًا مرسلاً، و (613) موقوفًا، و (285) قولاً للتابعين، كما ذكروا أن جميع ما فيه من قوله: «بَلَغَنَا»، وقوله: «عَنْ الثِّقَةِ» من غير أن يسنده (61) لكنها مسندة من طرق أخرى غير طريق مالك نفسه. ولذلك تصدى ابن عبد البر النمري إلى تأليف كتاب حاول به أن يصل ما في " موطا مالك " من الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعضلة. روى مالك عن نُعيم المُجْمِرْ، وزيد بن أسلم، ونافع، وشُريك بن عبد الله، والزهري، وأبي الزناد، وسعيد المُقْبِِرِي، وحُميد الطويل. وكان خاتمة أصحابه حُذَافَةُ السهمي الأنصاري.

2 - الإمام الشافعي:

أما الذين رَوَوْا عنه فكثيرون، منهم من كانوا شيوخًا له كالزهري ويحيى بن سعيد، ومنهم من كانوا من أقرانه، كالأوزاعي، والثوري، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وَابْنُ جُرَيجٍ، وشعبة بن الحجاج، ومنهم الذين أخذوا عنه كالشافعي، وابن المبارك، وابن وهب، وابن مهدي، والقطان، وأبي إسحاق الفزاري. كان مولده سَنَةَ 93هـ، ووفاته سَنَةَ 179هـ (¬1). 2 - الإمام الشافعي: هو الإمام الذي ملأ طباق الأرض عِلْمًا، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، وإلى جده الأخير هذا نُسِبَ فَعُرِفَ بـ «الشافعي»، وهو قُرَشِيٌّ مُطَّلَبِيٌّ مَكِّيٌّ، كنيته أبو عبد الله. وكانت أمه «أزدية». ولد الشافعي بغزة سَنَةَ 150هـ، ثم حمل إلى مكة بعد فطامه، ففيها نشأ وتلقى العلم. حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وَجَوَّدَهُ على مقرئ مكة في ذلك الحين إسماعيل بن قسطنطين، ويروى أنه كان يختمه في رمضان ستين مرة. حَدَّثَ عن مالك بن أنس إمام أهل المدينة، وفي الثالثة عشرة من عمره حفظ في عدة ليال " موطأه " وعرضه عليه، كما حَدَّثَ عن سفيان بن عيينة، وَعَبْدَ المَلِكِ بْنِ المَاجِشُونْ (¬2) 0 أما الفقه فقد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي الذي أذن له بالفتوى وهو دون العشرين. وكان إلى هذا كله بارعًا في اللغة ¬

_ (¬1) ترجمته في " الديباج المذهب ": ص 17 - 30، و" تهذيب التهذيب ": 10/ 5، و" الوفيات ": 1/ 439. (¬2) الماجشون: بفتح الجيم وكسرها.

والشعر، قوي الحجة في المناظرة، أفحم جميع من ناظرهم من علماء العراق ومصر، وجمع بين فقه الحجازيين والمصريين والعراقيين. ولي الحكم بنجران من أرض اليمن، فَوَشَوْا به الى الرشيد وزعموا أنه كان يريد الخلافة لنفسه، فَحُمِلَ إلى دار الخلافة ببغداد حيث اجتمع بالرشيد سَنَةَ 184هـ، وناظر أمامه محمد بن الحسن وعرف هذا قدره فَبَرَّأَهُ أمام الخليفة، ثم عاد إلى مكة ثم إلى العراق مرة ثانية سَنَةَ 195هـ، وفي هذه المرة اجتمع بالإمام أحمد بن حنبل والكرابيسي والزعفراني. وما زال بعد ذلك يتنقل بين مكة وبغداد حتى انتهى به المطاف في مصر سَنَةَ 199هـ، وفيها توفي سَنَةَ 204هـ عن أربع وخمسين سَنَةً. وقد سئل إسحاق بن راهويه: كيف وضع الشافعي هذه الكتب وكان عمره يسيرًا؟ فقال: «جَمَعَ اللهُ لَهُ عَقْلَهُ لِقِلَّةِ عُمُرِهِ»!. أما كتبه التي سُئِلَ عنها ابن راهويه فكثيرة في التفسير والحديث والفقه والأدب، ولكن أشهرها كتاب " الرسالة "، التي وضعها تلبية لرغبة عبد الرحمن بن مهدي، وهي رسالة في أصول الفقه. وله كذلك كتاب " الأم " الذي جمع فيه أعظم الأصول الدينية، ومنه ومن كتاب " المبسوط " للشافعي أيضًا التقط أبو عمرو محمد بن جعفر النيسابوري أحاديثة المسندة، فظن بعض العلماء أن للشافعي نفسه " مُسْنَدًا "، مستقلاً في الحديث. ولابن الأثير (المُتَوَفَّى سَنَةَ 606هـ شرح على " المسند " المذكور. روى عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام،

3 - سفيان الثوري:

وعبد الله بن الزبير الحُميدي شيخ البخاري، وأبو ثور إبراهيم بن خالد البغدادي، ويوسف بن يحيى البُوَيْطِي، وحرملة بن يحيى، والحسن بن محمد الزعفراني وغيرهم. وشهد له الذهبي بمهارته في الحديث «كَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، بَصِيرًا بِعِلَلِهِ، لاَ يَقْبَلُ مِنْهُ إِلاَّ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَلَوْ طَالَ عُمُرَهُ لازْدَادَ مِنَّةً» (1). وحسبه أن الإمام أحمد بن حنبل يقول فيه: «[مَا أَحَدٌ] مَسَّ مِحْبَرَةً وَلاَ قَلَمًا إِلاَّ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي عُنُقِه مِنَّةٌ» (¬1). 3 - سفيان الثوري: هو الحافظ الضابط، الإمام الحجة، سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي، وكنيته أبو عبد الله، كان أبوه سعيد من علماء الكوفة. أما هو فاشتهر في رواية الحديث وضبطه حتى لَقَّبَهُ شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن معين بـ «أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ فِي الحَدِيثِ»، وهو اللقب الذي عرفناه سابقًا للإمام مالك بن أنس. قال فيه الخطيب البغدادي: «كَانَ إِمَامًا مَن أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَلِّمَا مَن أَعْلَام الدَّيْن، مُجْمَعًا عَلَى إِمَامَتِهِ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى عَنْ تَزْكِيَتِهِ، مَعَ الإِتْقَانِ وَالحِفْظِ وَالمَعْرِفَةِ وَالوَرَع وَالزُّهْدِ». روى عن الأعمش (سُلَيْمَانُ بنُ مِهْرَانَ) وعبد الله بن دينار، وعاصم الأحول، وابن المنكدر، وغيرهم. ¬

_ (¬1) ترجمة الشافعي في " طبقات الشافعية ": 1/ 185، و" تذكرة الحفاظ ": 1/ 329، و" تهذيب التهذيب ": 1/ 329، و" تاريخ بغداد ": 2/ 56 - 73.

4 - سفيان بن عيينة:

وروى عنه عبد الرحمن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن مهدي، وَمِسْعَرُ بْنِ كِدَامٍ، وأبان بن عبد الله الأحْمسي. وآخر من حَدَّثَ عنه علي بن الجعد. قال عبد الله بن المبارك: «كَتَبْتُ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ وَألْفِ شَيْخٍ، فَمَا كَتَبْتُ عَنْ أَفْضَلِ مِنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رَأَيْتَ سَعيدَ بْنَ جُبَيرٍ وَغَيْرَهُ وَتَقُولُ ذَلِك؟ قَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ». ولكنهم يَرْوُونَ عن ابن المبارك نفسه أن سفيان الثوري كان أَحْيَانًا يُدَلِّسُ. قال ابن المبارك: «حَدَّثْتُ سُفْيَانَ بِحَدِيثٍ فَجِئْتُهُ وَهُوَ يُدَلِّسُهُ، فَلَمَا رَآنِي اسْتَحْيَى وَقََالَ: " نَرْوِيهِ عَنْكَ"». فان صح هذا فَلاَ بُدَّ - للتوفيق بين عبارتي ابن المبارك - أن نحسب تدليس سفيان من النوع الذي لاَ يُجَرِّحُهُ، كأن يكون تدليسه عن الثقات فقط، ولذلك قال لابن المبارك: «نَرْوِيهِ عَنْكَ».، يريد بذلك أن إسناد الحديث إليه يُوَثِّقُهُ. توفي الثوري بالبصرة سنة 161هـ (¬1). 4 - سفيان بن عيينة: هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي، ويكنى «أبا محمد»، أدرك سبعة وثمانين من التابعين وسمع من سبعين منهم، وأشهرهم جعفر الصادق، وحُميد الطويل، وعبد الله بن دينار، وأبو الزناد، وصالح بن كيسان. ¬

_ (¬1) ترجمة سفيان الثوري في " طبقات ابن سعد ": 6/ 257، و" تهذيب التهذيب ": 4/ 111 - 115، و" الوفيات ": 1/ 210.

5 - الليث بن سعد:

وقد روى عنه كثير من شيوخه وأقرانه وتلامذته، منهم الأعمش وَمِسْعَرُ بْنِ كِدَامٍ، وعبد الله [بن] المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني. انتقل من الكوفة إلى مكة سَنَةَ 163هـ، وبقي في مكة يُحَدِّثُ الحجازيين ويعلمهم القرآن الى أن تغير في آخر عمره «يَعْنِي ضَعُفَ حِفْظُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ»، ولذلك قال فيه ابن حجر العسقلاني: «ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ، إِمَامٌ حُجَّةٌ، إِلاَ أَنَّهُ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِأَخِرَةٍ، وَكَان رُبَّمَا دَلَّسَ لَكِنْ عَنْ الثِّقَاتِ». روى نحو سبعة آلاف حديث، وشهد له الشافعي بالعلم الغزير، فقال: «لَوْلاَ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ لَذَهَبَ عِلْمُ الحِجَازِ». وقال فيه العجلي: «كُوفِيٌّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ فِي الحَدِيثِ». كانت وفاته بمكة سنة 198هـ عن إحدى وتسعين سَنَةً (¬1). 5 - الليث بن سعد: هو شيخ الديار المصرية، الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، ويكنى «أبا الحارث». ولد بِقَرْقَشَنْد سنة 94هـ. كان غَنِيًّا سَخِيًّا، يزيد دخله السنوي عن عشرين ألف دينار، ومع ذلك لم تجب في ماله زكاة، لأنه لشدة سخائه ما كان يبقي عنده نصاب الزكاة. أكثر البخاري ومسلم من الرواية عنه، ووثقه أحمد بن حنبل، ¬

_ (¬1) ترجمة ابن عيينة في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 242، و" الوفيات ": 1/ 210، و" ميزان الاعتدال ": 1/ 397.

والشافعي، وسفيان الثوري، والعجلي، وأكثر العلماء. وفيه يقول الشافعي: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ». أما الإمام مالك فإنه كلما ذكر في كتبه هذه العبارة: «أَخْبَرَنِي مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ العِلْمِ» فإنه يقصد الليث بن سعد. كان - كما قال النووي- «يَتَحَاشَى التَّدْلِيسَ فِي رِوَايَتِهِ» ولكنه كان لا يرى بأسا بالإجازة، ولذلك قال فيه أحمد بن معين: «كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي السَّمَاعِ وَالشُّيُوخِ». وقال أحمد بن حنبل: «اللَّيْثُ ثِقَةٌَ، وَلَكِنْ فِي أَخْذِهِ سُهُولَةٌ». وقد نَصَّ العلماء على أن أصح الأسانيد في مصر، ما رواه (الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر). روى الليث عن نافع، والزهري، وسعيد المقبري، ويزيد بن أبي حبيب، وروى عنه عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وغيرهما. وكانت وفاة الليث سَنَةَ 175هـ (¬1). ¬

_ (¬1) ترجمته في " تاريخ بغداد ": 13/ 3، و" تذكرة الحفاظ ": 1/ 207، و" تهذيب التهذيب ": 8/ 459، و" الوفيات ": 1/ 438.

الفصل السادس: تراجم بعض أتباع أتباع التابعين:

الفَصْلُ السَّادِسُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ أَتْبَاعِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ: 1 - الإمام أحمد بن حنبل: هو الإمام الجليل، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، الشيباني، المروزي ثم البغدادي، وكنيته أبو عبد الله. كانت أمه بِمَرْوٍ حين حملت به، ولكنها خرجت منها واتجهت إلى بغداد فولدته فيها سَنَةَ 164هـ. كان أكثر طلبه للعلم في بغداد، إلا أنه تنقل في البلدان في طلب الرواية حتى انفرد بمعرفة آثار الصحابة والتابعين، مع الضبط التام، والورع الكامل، وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب " العلل "، وكتاب " الزهد "، و" التفسير "، و" الناسخ والمنسوخ "، وكتاب " فضائل الصحابة "، وكتاب " الأشربة "،وغيرها. وأشهر كتبه وأعظمها " المسند "، وفيه ثمانية عشر مسندًا: أولها مسند العشرة، وقد ذكرنا في بحث (التعريف بأهم كتب الرواية والمسانيد) دفاع ابن حجر عن " مسند ابن حنبل "، ونفيه وجود الأحاديث الموضوعة

فيه. هذا وقد ذكر ابن حجر نفسه في كتابه " تعجيل المنفعة برجال الأربعة " أنه ليس في " المسند " حديث لا أصل له إلا ثلاثة أو أربعة. ويشتمل " مسند ابن حنبل " على (40000) أربعين ألف حديث مسند، المُكَرَّرُ منها نحو عشرة آلاف، ولابنه عبد الله زيادة فيها نحو عشرة آلاف، كما أن لأحمد بن جعفر القطيعي، الراوي عن ابنه عبد الله، بعض الزيادات. وعبد الله بن أحمد بن حنبل هو الذي رتب " مسند " أبيه، فوقع فيه خلط مات أحمد قبل أن يُهَذِّبَهُ. أما الذي رتب " المسند " على حروف المعجم فهو الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي الحنبلي. كان الإمام أحمد آية في الحفظ والضبط، حتى قال أبو زرعة عنه: «كَانَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفَ حَدِيثٍ، يُمْلِيهَا مِنْ حِفْظِهِ»، فَلاَ غَرْوَ إِذَا عُدَّ مِنْ «أُمَرَاءِ المُؤْمِنِينَ فِي الحَدِيثِ». وفيه يقول ابن حبان: «كَانَ فَقِيهًا حَافِظًا مُتْقَنًا، مُلاَزِمًا لِلْوَرَعِ الخَفِيِّ، مُحَافِظًا عَلَى العِبَادَةِ الدَّائِمَةِ حَتَّى ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنَ البِدْعَةِ، وَجَعَلَهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَمَلْجَأً يُلْجَأُ إِلَيْهِ». والبدعة التي عصمه الله منها، حتى ضُرِبَ بالسياط عليها - كما يقول ابن حبان - هي محنة خلق القرآن، فإنه قد امتنع عن القول بها، فضرب وسجن «وَدَخَلَ الكِيرَ فَخَرَجَ ذَهَبًا إِبْرِيزًا» كما كان يقول بِشْرُ بْنُ الحَارِثِ الحَافِي. كان في أول أمره يحضر مجلس القاضي أبي يوسف، ثم أخذ عن الشافعي الحديث والفقه والأنساب القرشية، وذهب إلى اليمن ليسمع

2 - الإمام البخاري:

من عبد الرزاق، ودخل الكوفة والبصرة والجزيرة ومكة والمدينة والشام. روى عَنْ بِشْرٍ [بْنِ] المُفَضَّلِ الرَّقَاشِيُّ، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وسليمان بن داود الطيالسي، وإسماعيل بن علية، ومعتمر بن سليمان البصري وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود ووكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم الكوفي، وعلي بن المديني، وابن مهدي، وفيهم شيوخه وأقرانه وتلامذته. توفي سَنَةَ 241 هـ عن سبع وسبعين سَنَةً، ومناقبه أعظم من أن تحصى (¬1). 2 - الإمام البخاري: هو الإمام الذي لا يجارى في حفظه للحديث وضبطه، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، ويكنى أبا عبد الله. أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة من عمره، فكتب عن أكثر من ألف شيخ، وحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف غير صحيح، وهو مصنف الكتاب العظيم " الجامع الصحيح " الذي هو أصح الكتب بعد القرآن المجيد: سمعه من أكثر من سبعين ألفًا، وظل يشتغل في جمعه ست عشرة سَنَةً. وللحفاظ تعليقات على بعض أحاديثه، فقد انتقدوا منها (110) خَرَّجَ منها مسلم (32) حَدِيثًا، وانفرد هو منها بثمان وسبعين (78). ويرى ابن حجر العسقلاني: أن هذه الأحاديث التِي أُخِذَتْ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) ترجمة الإمام أحمد في " تاريخ بغداد ": 4/ 412، و" الوفيات ": 1/ 17، و" الحلية ": 9 161.

«لَيْسَتْ عِلَلُهَا كُلُّهَا قَادِحَةٌ، بَلْ أَكْثَرُهَا الجَوَابُ عَنْهُ [ظَاهِرٌ، وَالقَدْحُ فِيهِ مُنْدَفِعٌ، وَبَعْضُهَا الجَوَابُ عَنْهُ] مُحْتَمَلٌ وَاليَسِيرُ مِنْهُ فِي الجَوَابِ عَنْهُ تَعَسُّفٌ». ولـ " صحيح البخاري " شروح كثيرة ذكر منها صاحب " كشف الظنون " اثنين وثمانين شَرْحًا (82)، ولكن أفضلها شرح ابن حجر العسقلاني المسمى " فتح الباري " ويليه شرح القسطلاني " إرشاد الساري " ثم شرح العيني " عمدة القاري ". وللبخاري مصنفات كثيرة، منها التواريخ الثلاثة " الكبير " و" الأوسط " و" الأصغر "، وكتاب " الكُنَى "، وكتاب " الوُحْدَانِ "، وكتاب " الأدب المفرد "،وكتاب " الضعفاء ". قال فيه الترمذي: «لَمْ أَرَ فِي العِلَلِ وَالرِّجَالِ أَعْلَمَ مِنَ البُخَارِيِّ». وقال ابن خزيمة: «مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَديمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ». وجاءه مسلم بن الحجاج فقبله بن عينيه وقال: «دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِينَ، وَيَا طَبِيبَ الحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ». ولعلنا لم ننس ما رويناه في (بحث الحديث المقلوب) حين قلب عليه علماء بغداد مائة حديث فَرَدَّ كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وأدهش العلماء بحفظه وضبطه. وفي سبيل ضبط الحديث وحفظه رَحَلَ البخاري إلى الشام ومصر وبغداد والكوفة والجزيرة والحجاز والبصرة. روى البخارى عن الضحاك بن مخلد أبي عاصم النبيل، ومكي بن إبراهيم الحنظلي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وعبد القدوس بن الحجاج، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم. وروى عنه كثيرون أشهرهم: الترمذي، ومسلم، والنسائي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، ومحمد بن أحمد الدولابى. وآخر

3 - الإمام مسلم:

من روى عنه " الصحيح " مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ [البَزْدَوِيُّ] المتوفى سَنَةَ 329هـ. كان مولد البخاري سَنَةَ 194هـ، ووفاته سَنَةَ 256هـ في قرى سمرقند تسمى «خَرْتَنْكْ» (¬1). 3 - الإمام مسلم: هو إمام أهل الحديث مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشَيْرِيُّ، وَبَنُو قُشَيْرٍ قبيلة عربية معروفة، النيسابوري، وكنيته أبو الحسين. أجمع العلماء على إمامته في الحديث وَتَضَلُّعِهِ في الرواية، وقد رَحَلَ كثيرًا في طلبه، فسمع بخراسان يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهوية وغيرهما، وبالري محمد بن مهران وأبا غسان وغيرهما، وبالحجاز سعيد بن منصور وأبا مصعب وآخرين، وبالعراق أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة وآخرين، وبمصر عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى وآخرين. أما الذين رَوَوْا عنه فكثيرون: منهم الترمذي وأبو حاتم الرازي، وأحمد بن سلمة، وموسى بن هارون، ويحيى بن صاعد، ومحمد بن مخلد، وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، وعلي بن الحسين، والحسين بن محمد بن زياد القباني، وإبراهيم بن محمد بن سفيان، وهذا الأخير هو راوية " صحيح مسلم ". ¬

_ (¬1) ترجمة البخاري في " تاريخ بغداد ": 2/ 4 - 26، و" تذكرة الحفاظ ": 2/ 122، و" تهذيب التهذيب ": 9/ 47، و" الوفيات ": 1/ 455.

4 - الإمام الترمذي:

ولمسلم كتب كثيرة منها " صحيحه " المشهور، وكتاب " العلل "، وكتاب " أوهام المحدثين "، وكتاب " من ليس له إلا راو واحد "، وكتاب " طبقات التابعين "، وكتاب " المخضرمين "، وكتاب " المسند الكبير " على أسماء الرجال، وكتاب " الجامع الكبير " على الأبواب. و" صحيح مسلم " مع " صحيح البخاري " هما أصح الكتب بعد القرآن المجيد، وقد تلقتهما الأمة بالقبول، والأكثرون على أن " البخاري " أصحهما. وكان مسلم شديد الاعتزاز بـ " صحيحه " لما بذل في جمعه من الجهد، فإنه صَنَّفَهُ من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، وكان من أجل ذلك يقول: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ يَكْتُبُونَ [الحَدِيثَ] مِائَتَيْ سَنَةٍ، فَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا المُسْنَدِ» - يعني صحيحه. توفي مسلم - رَحِمَهُ اللهُ - بنيسابور سَنَةَ 261 هـ، عن خمس وخمسين سنة (¬1). 4 - الإمام الترمذي: هو الإمام الحافظ الناقد محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي، ويكنى أبا عيسى، ولد سَنَةَ 200 هـ، ودخل بُخَارَى وَحَدَّثَ بها، وتنقل في كثير من البلدان، فسمع من الخراسانيين والحجازيين والعراقيين. روى عن البخاري، ومسلم، وإسماعيل بن موسى السدي. وروى عنه كثيرون منهم الهيثم بن كليب الشاشي، ومكحول بن الفضل، ومحمد بن محبوب المحبوبي المروزي راوي كتابه " الجامع " المعروف بـ " السنن ". ¬

_ (¬1) ترجمة مسلم في " تذكرة الحفاظ ": 2/ 150، و" تهذيب التهذيب ": 10/ 126، و" الوفيات ": 2/ 91.

وله كتب كثيرة منها: كتاب " العلل "، وكتاب " الشمائل "، وكتاب " أسماء الصحابة "، وكتاب " الأسماء والكنى "، وأشهر كتبه بلا ريب " جامعه " المسمى بـ " السنن ". وقد ذكرنا في (فصل الحديث الحسن) أن " سنن الترمذي أصل في الحديث الحسن. وفي كتابه هذا أربعة أقسام: قسم مقطوع بصحته، وقسم على شرط أبي داوود والنسائي، وقسم أظهر علته، وقسم رابع أبان عنه وقال فيه: «مَا أَخْرَجْتُ فِي كِتَابِي هَذَا إِلاَّ حَدِيثًا قَدْ عَمِلَ بِه بَعْضُ الفُقَهَاءِ». ومن مزايا " سنن الترمذي " ما أشار إليه عبد الله بن محمد الأنصاري بقوله: «كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ عِنْدِي أَنْوَرُ مَن كِتَابِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. فَقَال لَه مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيِّ: " وَلِمَ؟ " فَقَالَ:" لأَنَّهُ لاَ يَصِلُ إِلَى الفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلاَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ المَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِهَذَا الفَنِّ، وَكِتَابُ التِّرْمِذِيِّ قََدْ شَرَحَ أَحَادِيثُه وَبَيَّنَهَا فَيَصِلُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَغَيْرُهُمْ». وكان الترمذي يعرف قدر كتابه فيقول: «صَنَّفْتُ هَذَا الكِتَابَ، وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الحِجَازِ، وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَرَضُوا بِه، وَمَنْ كَانَ هَذَا الكِتَابُ فِي بَيْتِهِ، فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ»!. أصيب في بصره في أخريات حياته، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 279 هـ (¬1). ¬

_ (¬1) ترجمة الترمذي في " تهذيب الأسماء ": 9/ 387، و" تذكرة الحفاظ ": 2/ 187، و" نكت الهميان ": ص 264.

جريدة المراجع:

جَرِيدَةُ المَرَاجِعِ: (¬1) على حروف المعجم 1 - باللغة العربية: - " الإبريز " (للسيد أحمد المبارك) طبع حجر 1278 هـ. - " الإحكام " (للآمدي) مطبعة المعارف 1332 هـ. 1914 م. - " الإحكام في أصول الأحكام " (لابن حزم) بتحقيق أحمد محمد شاكر. ط. الخانجي بالقاهرة 1345 هـ. - " أحكام القرآن " (لابن العربي) مطبعة السعادة، القاهرة 1331 هـ. - " اختصار علوم الحديث " (لابن كثير) وبهامشه شرحه المسمى " الباعث الحثيث " لأحمد محمد شاكر. القاهرة 1370 هـ - 1951 م. ط. ثانية. - " الاستيعاب في أسماء الأصحاب " (لابن عبد البر) هامش " الإصابة " لابن حجر. ط. مصطفى محمد بالقاهرة 1358 هـ - 1939 م. - " أسد الغابة في معرفة الصحابة " (لابن الأثير) القاهرة 1286 هـ في 5 مجلدات. - "الأشباه والنظائر " (للسيوطي) الهند 1359 هـ. - " الإصابة في تمييز الصحابة " (لابن حجر) بهامشه (" الاستيعاب " لابن عبد البر). ¬

_ (¬1) لم نسرد هنا إلا الكتب التي رجعنا إليها ولو مرة واحدة. ورمزنا بـ (*) قبل عنوان الكتاب إلى ما ثكر رجوعنا إليه من المصادر.

ط. مصطفى محمد بالقاهرة 1358 هـ - 1939 م. - " أصول السرخسي "، القاهرة. - " أصول النحو " (لسعيد الأفغاني) مطبعة جامعة دمشق 1376 هـ. - " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " (لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي) القاهرة. الطباعة المنيرية 1346 هـ. الطبعة الأولى. - " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (لابن القيم) مطبعة النيل 1325 هـ. - " إغاثة اللهفان " لابن القيم. ط. الميمنية بالقاهرة. - " الأغاني " (لأبي الفرج الأصفهاني) ط. بولاق 1285 هـ، 20 مجلدًا. - " ألف باء " (للبلوي) المطبعة الوهبية بمصر 1287 هـ. - * " ألفية السيوطي في مصطلح الحديث " (بشرح محمد محيي الدين عبد الحميد) ط. مصطفى محمد بالقاهرة، وإليها رجعنا غالبًا (ورجعنا أيضًا إلى شرح شاكر لهذه الألفية ط. القاهرة 1353 هـ). - " الاقتراح (للسيوطي) مطبعة دائرة المعارف بحيدر آباد 1310 هـ. - * " الإلماع في أصول السماع " (للقاضي عياض) مخطوطة الظاهرية، حديث 406. - " الأموال " (لأبي عبيد، القاسم بن سلام) القاهرة 1353 هـ. - " إيقاظ الهمم " (لعلم الدين الفلاني) مطبعة رياض الهند 1298 هـ. - * " الباعث الحثيث " (شرح اختصار علوم الحديث) تأليف أحمد محمد شاكر، ط. ثانية، القاهرة 1370 هـ - 1951 م. - * " تاريخ بغداد " (للخطيب البغدادي) ط. الخانجي بالقاهرة 1349 هـ - 1931 م. - " التاريخ الصغير " (للإمام البخاري) ط. الهند 1325 هـ. - " تاريخ الطبري " (" تاريخ الأمم والملوك ") ط. دي غويه 1879 - 1901 م، ليدن. - تاريخ " الكامل " (لابن الأثير). انظر " الكامل ". - " التاريخ الكبير (للإمام البخاري) ط. حيدر آباد 1360 - 1361 هـ.

- * " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة، مصر 1326 هـ. - * " التدريب ": " تدريب الراوي شرح «تقريب» النواوي " (للسيوطي) ط. مصر 1307 هـ. - * " تذكرة الحفاظ " (لشمس الدين الذهبي) ط. 3 (1375 هـ - 1955 م، حيدر آباد). (وانظر أيضًا ط 1334 هـ، وقد استعملناها خاصة من أول الكتاب حتى 87). - * " تذكرة الموضوعات " للفتني (محمد بن طاهر بن علي الهندي)، وفي ذيلها (" قانون الموضوعات والضعفاء ") لعلامة المذكور. الطباعة المنيرية بالقاهرة. - " التصحيف والتحريف وشرح ما يقع فيه " (لأبي أحمد العسكري) طبعة ناقصة (نصف الكتاب) القاهرة 1326 هـ. - " تفسير الطبري " (" جامع البيان في تفسير القرآن ") القاهرة 1321 هـ - 1903 م. 30 جزءًا في 10 مجلدات. - " تفسير ابن كثير، مطبعة الاستقامة بالقاهرة. الطبعة الثانية 1373 هـ. - " تقريب التهذيب " (لابن حجر) طبع حجر بدهلي 1320 هـ. - * تقييد العلم (للخطب البغدادي) بتحقيق الدكتور يوسف العش، دمشق 1949 م. - " تلقيح فهوم أهل الأثر " (لابن الجوزي) طبعة الهند. - * " التهذيب ": " تهذيب التهذيب " (لابن حجر) حيدر آباد 1327 هـ. - " تهذيب الأسماء " (للنووي) طبع مصر، أربعة أجزاء. - " تهذيب ابن عساكر " (لعبد القادر بدران) طبع منه سبعة أجزاء بدمشق 1329 هـ - 1351 م. - * " التوضيح ": " توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار " (لمحمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني) بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، جزءان، القاهرة، ط 1. 1366 هـ.

- * جامع بيان العلم " (لابن عبد البر) القاهرة. إدارة الطباعة المنيرية، بلا تاريخ. - * " جامع الترمذي ": انظر " سنن الترمذي ". - * " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " (للخطيب البغدادي) مخطوطة البلدية بالإسكندرية (برقم 3711 ج). وقد رجعنا إلى النسخة المصورة عن هذه المخطوطة التي تفضل بإعارتنا إياها الدكتور يوسف العش. - " الجرح والتعديل " (لابن أبي حاتم) طبع منه الجزء الثالث في مجلدين بحيدر آباد 1360 هـ. - " جمع الجوامع " (للسيوطي) مخطوطة الظاهرية. حديث 196، والموجود منه الجزء 3. - " الجواهر المضية في طبقات الحنفية " (لعبد القادر بن محمد القرشي) مجلدان - طبع حيدر آباد 1323 هـ. - * " حاشية لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر " (لعبد الله بن حسين خاطر السمين العدوي) ط 1، مصطفى البابي الحلبي 1356 هـ - 1938 م. - " حجة الله البالغة " (لولي الله الدهلوي) القاهرة، المطبعة الخيرية 1322 هـ. (وانظر أيضًا طبعة 1341 هـ). - " حصول المأمول من علم الأصول " (لصديق حسن خان) مطبع الجوائب بالقسطنطينية 1296 هـ. - * " الحفاظ ": انظر " تذكرة الحفاظ " للذهبي. - " حلية الأولياء " (لأبي نعيم) 10 مجلدات، طبع بمصر 1351 هـ. - " خزانة الأدب " (للبغدادي) المطبعة السلفية بالقاهرة 1348 هـ. - " خصائص المسند " (لأبي موسى المديني) في مقدمة طبعة أحمد محمد شاكر لـ " مسند أحمد ": جـ 1 ص 19 - 27: انظر " مسند أحمد ". - " خطط المقريزي "، بولاق، 1270 هـ. - " دليل الفالحين " (لمحمد بن علان الصديقي) البابي الحلبي بمصر 1374 هـ. ط. 3.

- " الديباج المهذب في أعيان علماء المذهب (المالكي) لابن فرحون، طبع مصر: 1329 و 1351 هـ. - " ذم الكلام " (للهروي) مخطوطة الظاهرية، حديث 237. - " الرسالة " (للإمام الشافعي)، طبعة القاهرة. - " الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة " (لمحمد بن جعفر الكتاني): ط 1 - 1332 هـ. (عنيت بنشرها مكتبة عرفة بدمشق وطبعت في بيروت). - * " رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين " (للنووي) بتعليق رضوان محمد رضوان، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ط 3 بدون تاريخ. - " سبل السلام " (شرح بلوغ المرام) لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، طبعة البابي الحلبي: 1369 هـ. - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (للدكتور مصطفى السباعي)، دار العروبة بالقاهرة: 1380 هـ. - " سنن الترمذي "، طبعة بولاق: 1292 هـ (وانظر هذه " السنن " بشرح أحمد محمد شاكر، صدر منه جزءان فقط، ط. الحلبي سَنَةَ 1356 هـ). - " سنن الدارمي "، دمشق: 1349 هـ. - " سنن أبي داود "، ط 2 (بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد)، 1339 هـ، 4 أجزاء. - * " سنن ابن ماجه " (بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي): 1373 هـ. - * " سنن النسائي " (بشرح السيوطي وحاشية السِنْدِي)، المطبعة المصرية بالأزهر. - " السير الحثيث في تاريخ تدوين الحديث " (لمحمد زبير الصديقي)، حيدر آباد: 1358 هـ. - * " شذرات الذهب " (لابن العماد الحنبلي)، ط. القدسي: 1350 هـ. وما بعدها. - * " شرح الديباج المذهب في مصطلح الحديث " (لمنلا حنفي) بتصحيح علي محفوظ، ط. صبيح بالقاهرة.

- * " شرح العراقي على علوم الحديث ": انظر " علوم الحديث " لابن الصلاح. - * " شرح النخبة ": شرح " نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر " (لابن حجر) القاهرة: 1352 هـ - 1934 م. - " شرح نهج البلاغة " لابن أبي الحديد، طبعة القاهرة. - * " صحيح البخاري "، الطبعة السلطانية ببولاق: 1313 هـ. - * " صحيح مسلم "، دار الطباعة العامرة: 1329 - 1332 هـ. وانظر أيضًا هذا " الصحيح " بشرح النووي، مطبعة حجازي بالقاهرة. - * " صحيفة همام بن منبه " (بتحقيق الدكتور محمد حميد الله)، ط 2 من مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق: 1372 هـ - 1953 م. - " صفة الصفوة " (لابن الجوزي) جزءان، طبع حيدر آباد: 1355 هـ. - " ضحى الإسلام " (لأحمد أمين)، 3 أجزاء، القاهرة: 1933 - 1936 م. - * طبقات الحفاظ: انظر " تذكرة الحفاظ " للذهبي. - " طبقات الحنابلة " (لابن أبي يعلى) مطبعة الاعتدال بدمشق: 1350 هـ (صححها وعلق عليها أحمد عبيد). - " طبقات الزبيدي ": " طبقات النحويين واللغويين ". - * " طبقات ابن سعد ": انظر " الطبقات الكبير ". - طبقات الشافعية الكبرى (لابن السبكي)، القاهرة، طبعة الحسينية، 1324 هـ. - " طبقات القراء ": انظر " غاية النهاية ". - * " الطبقات الكبير " (لابن سعد)، ليدن 1925 م - 15 مجلدًا. (وانظر مقدمة الدكتور إحسان عباس لطبعة صادر في بيروت). - " عائشة والسياسة " (لسعيد الأفغاني)، التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة: 1957، ط 2. - " عرض الأنوار " المعروف بـ " تاريخ القرآن " (للأستاذ عبد الصمد صارم)، بالهندية. ط. دهلي 1359 هـ.

- * " علل الحديث " (للإمام أحمد بن حنبل)، مخطوطة الظاهرية، مجموعة 40. - * " علوم الحديث " (لأبي عمرو بن الصلاح) بشرح العراقي، المطبعة العلمية بحلب 1350 هـ - 1931 م. - " غاية النهاية في طبقات القراء " (لابن الجزري) مجلدان، طبع بمصر 1351 هـ. - * فتح الباري " (شرح ابن حجر على " صحيح البخاري ") بولاق 1301 هـ. - " فتح المغيث " (شرح السخاوي على " ألفية العراقي " في مصطلح الحديث) طبع حجر بدهلي. - " الفهرست " (لابن النديم) ط. فلوجل Fulgel، ليبسيك 1871 - 1872 م، جزءان في مجلد واحد. - * " قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث " (لعلامة الشام السيد جمال الدين القاسمي)، مطبعة ابن زيدون بدمشق 1353 هـ - 1925 م. - * " القول المسدد في الذب عن المسند " (لابن حجر)، ط. حيدر آباد 1319 هـ. - " الكامل " لابن الأثير الجزري، 12 جزءًا. القاهرة 1303 هـ. - " كشف الظنون " (لحاجي خليفة)، مصر 1274 هـ. - * " الكفاية في علم الرواية " (للخطيب البغدادي)، ط. دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد: 1357 هـ. - " كليات أبي البقاء "، طبعة الأميرية: 1281 هـ. - * " كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال " (للمتقي الهندي)، 8 أجزاء في 4 مجلدات، ط. حيدر آباد: 1313 هـ. - * " اللسان ": " لسان الميزان " (لابن حجر)، ط. حيدر آباد: 1331 هـ. - * لقط الدرر " - انظر " حاشية لقط الدرر ". - " اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع (لأبي المحاسن القاوقجي) وبذيله " الموضوعات " للصنعاني , و" منظومة البيقوني "، القاهرة، المطبعة البارونية.

- * " مباحث في علوم القرآن " (لمؤلف هذا الكتاب)، مطبعة جامعة دمشق، الطبعة الثانية: 1381 هـ - 1962 م. والطبعة الثالثة في دار العلم للملايين ببيروت، 1383 هـ - 1964 م. - " مجلة مجمع اللغة العربية " (بحث " الاستشهاد بالحديث ") للسيد محمد الخضر حسين، المجلد الثالث، المطبعة الأميرية ومطبعة دار الكتب المصرية. - * مجلة " المنار " - انظر " المنار ". - * مجمع الزوائد " (لابن حجر الهيتمي)، ط. حسام الدين القدسي: 1352 هـ. - * " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " (للرامهرمزي)، مخطوطة الظاهرية، حديث 400. - " المختصر في علم رجال الأثر " (لعبد الوهاب عبد اللطيف)، ط 3، القاهرة: 1381 هـ - 1952 م. - " المستدرك " (للحاكم النيسابوري)، ط. حيدر آباد: 1334 هـ. وما بعدها. - * " المستطرفة ": انظر " الرسالة المستطرفة ". - * " مسند أحمد بن حنبل "، القاهرة: 1313 هـ - 1895 م، 6 أجزاء (ورجعنا أيضًا إلى شرح أحمد محمد شاكر على " المسند "، ط 3، دار المعارف بالقاهرة: 1368 هـ - 1949 م، وقد أعجلته منيته عن إتمامه - رَحِمَهُ اللهُ -). - " مسند أبي داود الطيالسي "، ط. حيدر آباد: 1321 هـ. - " المشتبه في أسماء الرجال " (للذهبي) ليدن: 1863 هـ. - " مصادر الشعر الجاهلي " (للدكتور ناصر الدين الأسد)، القاهرة، دار المعارف، 1956 م. - " معادن الجوهر " (للأمين العاملي)، دمشق: 1347 هـ. - * " معالم السنن " (للخطابي البُسْتِي)، حلب: 1351 هـ. - * " معجم البلدان " (لياقوت الحموي) نشر وستنفلد Wustenfeld ليبسيك: 1866 م.

- * " معرفة علوم الحديث " (للحاكم النيسابوري) نشر الدكتور معظم حسين، القاهرة: 1937 م. - * " مفتاح السنة " (لمحمد عبد العزيز الخولي)، ط 3، مطبعة الاستقامة بالقاهرة. - " مقدمة ابن خلدون "، ط. مصطفى محمد بالقاهرة، بلا تاريخ. - * " المنار " (مجلة): المجلد العاشر، بحث للسيد الإمام محمد رشيد رضا حول كتابة الحديث. - * " المنهل الحديث في علوم الحديث " (لمحمد عبد العظيم الزرقاني)، القاهرة: 1366 هـ - 1947 م. - " الموافقات في أصول الشريعة " (للشاطبي) القاهرة، مطبعة مصطفى محمد، أربعة أجزاء. - * " الموضوعات " (للفتني): انظر " تذكرة الموضوعات ". - * " الميزان ": " ميزان الاعتدال " (للذهبي)، ط. الخانجي: 1325 هـ. - " الميزان " (للشعراني)، طبعة القاهرة. - " نزهة الألباء " (لابن الأنباري)، نشر علي يوسف. - " نفح الطيب " (للمقري)، أربعة مجلدات، طبع بمصر: 1302 هـ. - " نكت الهميان في نكت العميان " (لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي)، طبع بمصر: 1329 هـ - 1911 م. - " نيل الأوطار " (للشوكاني)، 8 أجزاء، المطبعة العثمانية المصرية بالقاهرة: 1957 م. - * " الوثائق السياسية في العهد النبوي " (للدكتور محمد حميد الله)، القاهرة.

2 - باللغة الأجنبية: . ( Akademien der Araber und ihre Lehrer, P. 62 (Wustenfeld Arabic books and libraries in the Omayad period (Ruth Mackenson) , in AJSL, vol. LII-LIV, 245,253; vol. LIII, 239,349 ; vol. LIV,41 - 91. .Die aramaischen Fremdworter im Arabischen. (Frankel) ,188. 1362.. Berliner Katalog (Ahlwardt) II. D. 165. No Culture-Statistik von Damascus (Michael Meschaka) remanié par Fleischer , Z.D.M.G. VIII. P 356. Essai sur les doctrines sociales et politiques d'Ibn Taymlya, (Henri Laoust) Le Caire, 1939. . Essal sur l'Histoire de l'Islamisme (Dozy) tr. Par V. Chauvin ,Essay on Mohammedan Tradition (Ahmed Khan Bahadur) in Huges Dictionary of Islam (London. 1885) P. 639 b-642a. art. Tradition.. Encyclopédie de l'Is1am, art. Ummi. IV, 1070 (Paret Etudes sur la Tradition islamique, (Goldziher) tr. en français par Léon Bercher. Paris 1952. Geschichte des Arabischen Litteratur (Brockelmann) Weimar et Berlin, 1898 - 1902, 2 vol. Koranische Untersuchungen (Horovitz) Berlin, 1924. La Mecque à la veille de L'Héjire. (H. Lammens) Bevrouth 1924. Muhammedanisches Recht. in Theorie und Wirklick keit (Zeitschrift.f. vergleich) . Goldziher, Rechtswissenschaft, VIII. 409 sq. Origin and progress of writing, in the Journal of the Asiatic society of Bengal, (Sprenger) XXV, 303 - 329. Das Traditionswesen bei den Araben (Sprenger) 1856. Verzeichniss der Landbergschen Sammlung (Ahlwardt) Handschriften de la bibliothèque royale de Berlin No. 149. ,Z.D.M.G. = Zeitschrift des Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft, X, p. 1 à 17 (Uber das Traditionswesen bel den Arabern (Sprenger) Zahiriten (Goldziher

مسرد الأعلام:

مَسْرَدُ الأعَلاَمِ: «اصطلحنا في هذا المسرد على الاكتفاء بأسماء الأشخاص من الرجال والنساء فقط. وأسقطنا في ترتيب الأسماء الأحرف التالية: ألـ، أبو، ابن. ورمزنا بحرف (ح) إلى الحاشية. وأشرنا بنجمة (*) قبل رقم الصفحة إلى الموضع الذي ترجم فيه العلم المبحوث عنه. واكتفينا - ابتداء من ص 359 حتى 400 - بسرد أسماء المترجمين من الصحابة والتابعين وأتباعهم دون من ذكروا معهم خلال تراجمهم لكثرتهم، فحسب القارئ الاطلاع على أسماء هؤلاء عرضًا في كل ترجمة على حدة» - أ - - الآمدي: 310. - آمنة بنت وهب (أم الرسول): 344. - أبان بن أبي عياش: 194. - إبراهيم بن راشد الأدمي: 250. - إبراهيم بن طهمان 187. - إبراهيم بن عبد الرحمن العذري: 347. - إبراهيم بن محمد الأصبهاني = انظر ابن متويه. - إبراهيم بن زيد التيمي: 40 ح 1، 41. - إبراهيم بن يزيد النخعي: 42، 240، 320. - إبراهيم بن أبي يحيى: 251. - أبي بن كعب: 255. - ابن الأثير (عز الدين): 27، 70 ح 2، 71، 111، 118. - ابن الأثير (مجد الدين): 113. - إحسان عباس: 348 ح 1. - أحمد بن إسحاق الديناري: 114. - أحمد أمين: 287 ح 2. - أحمد بن الحسين المقرئ: 251. - أحمد بن حنبل (الإمام): 21 ح 1، 25، 28 ح 2، 36، 53 ح 1، 65، 71 ح 2، 75، 77، 78 ح 2، 79، 89، 112، 115، 121 ح 2، * 123 ح 4، 124، 133، 135 ح 4،

141، 160، 180 ح 4، 184، 193، 194، 310، 239، 240، 257، 268، 269، 271، 309، 311، 329، 341، 342، 351، 358، 394، 396. - أحمد خان بهادر: 281 ح 1. - أحمد بن عبد الرحمن: 90. - أحمد بن عبد الله: 266. - أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي: * 57. - أحمد عبيد: 61 ح 5. - أحمد بن الفرات (أبو مسعود): 61، 89 ح 1. - أحمد محمد شاكر: 20 ح 2، 115 ح 2، 123 ح 5، 154 ح 2، 184، 214 ح 1، 259 ح 4، 259 ح 4. - أحمد بن منصور الروباذي: 193. - الأرموي: 113. - الأزهري (صاحب " تهذيب اللغة "): 332. - إسحاق بن راهويه: 89 ح 1، * 133 ح 2. - ابن إسحاق (محمد): 28 ح 2، 94 ح 6، 341، 343، 348. - أبو إسحاق: 134، 168، 175 ح 2، 183، 188، 206، 264 ح 2. - أسد السنة: 51 ح 1. - أسعد بن زرارة: 355. - أسماء بنت عميس: 355. - إسماعيل الطلحي: 273. - إسماعيل بن علية البصري = انظر ابن علية. - إسماعيل بن يحيى: 21 ح 1. - أبو الأسود الدؤلي: 318. - الأسود بن قيس: 175 ح 4. - أصبغ بن الفرج: 51 ح 1. - الأصمعي (عبد الملك بن قريب) 84، 258، 259 ح 1، 325. - الأعرج (ابن هرمز): 82، 109، 170، 173، * 176 ح 2، 193، 200، 201، 236، 240، 246، 247، 273، 329، 351. - ابن الأكفاني: 107 ح 6. - أبو أمامة (الصحابي): 357. - أمين العاملي: 40 ح 4. - ابن الأنباري (أبو بكر): * 135 ح 7. - أنس بن مالك (الصحابي): 21 ح 1، 40 ح 4، 63 ح 4، 109، 127، 169، 170، 176 ح 3، 179، 209، 233، 235، 247، 266، 270، 320، 354، 357، 359، 363، 364. - الأوزاعي: 6 ح 1، 177، 189، * 132 ح 5، 173، 253، 296. - أيوب بن خالد الأنصاري: 251. - أيوب بن كيسان السختياني: 28، 55 ح 3، 92 ح 6، 174 ح 3، 243. - أيوب بن موسى الحسيني القريمي (أبو البقاء) = انظر «أبو البقاء». - أبو أيوب (يحيى بن مالك الأزدي المراغي): 121 ح 3. - أهلورد = انظر ابن الورد (المستشرق).

- ب -

- ب - - باريه (المستشرق): 15 ح 3. - الباقلاني (محمد بن الطيب، أبو بكر): * 130 ح 3. - البجيري (الحافظ عمر بن محمد): 56 ح 1. - البخاري (صاحب " الصحيح "): 8 ح 1، 18، 20 ح 2، 22 ح 1، 26 ح 4، 28 ح 2، 35، 48، 52، 58، 62، 71 ح 2، 72، 79، 86، 94 ح 4، 98، 103 ح 4، 110، 117، 119، 122، 138، 141، 151، 154، 160، 179 ح 4، 181، 182، 185، 186، 189، 193 ح 1، 194، 195، 222، 225، 235، 237، 242، 247، 284، 351، 396، 398. - البراء بن عازب: 80، 81 ح 1. - البراء بن معرور: 356. - أم برثن: 235. - البرديجي (أحمد بن هارون، أبو بكر): * 204 ح 2، 224. - برشيه (المستشرق): 34 ح 1. - بروكلمان (المستشرق): 31 ح 5، 254 ح 2. - ابن بري (من كبار النحويين): 332. - بريدة (الصحابي): 113، 228. - ابن بريدة (الصحابي): 228. - البزار (أحمد بن عمر، أبو بكر): 58. - بشر بن عاصم: 228. - أبو بشر: 26 ح 5، 174 ح 3. - البغوي: * 161 ح 3. - أبو البقاء: 3 ح 1، 4 ح 1، 13، 24، 302. - بقي بن مخلد: 123، 359. - بقية الكلاعي: 38. - أبو بكر الأنباري = انظر ابن الأنباري. - أبو بكر البرقاني: 182. - أبو بكر الصديق: 31 ح 3، 39، 40، 104، 168، 178 ح 4، 188، 189، 197، 207، 208، 310، 347، 352، 354. - أبو بكر بن العربي (القاضي) = انظر ابن العربي. - أبو بكر بن مجاهد (المقرئ): 172. - أبو بكر بن أبي داود: 172. - أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه: 198. - أبو بكر محمد بن حسن النقاش: 172. - أبو بكر محمد بن داود الزاهد: 250. - أبو بكر المعيطي: 255. - أبو بكر الواسطي: 171. - البلاذري: 347. - بلال بن رباح: 354، 355. - البلقيني: * 103 ح 4. - البيهقي: 75، 79، 85، 94 ح 6، 117، * 201 ح 1، 330 ح 2. - ت - - الترمذي (صاحب " السنن "): 7 ح 3، * 24 ح 1، 30 ح 5، 48، 51 ح 4، 53 ح 1، 116، 118، 119، 122 ح 5، 123، 157، 158، 160، 162، 179، 181، 200، 243،

- ث -

244/ 246 / 259 ح 4، 272، 351، 353، 399، 400. - الترمذي الكبير: 55 ح 8. التنوخي (أبو القاسم، علي بن المحسن): 172. - التيمي (سليمان، صاحب أنس): 233، 234. - ابن تيمية (الإمام المجدد): 124، 153، 157 ح 4. - ث - - ثابت بن موسى (العابد الزاهد): 273. - الثوري = انظر سفيان بن سعيد الثوري. - ج - - جابر الجُعفي: 207. - جابر بن زيد (التابعي): 42. - جابر بن سمرة: 98، 177 ح 2. - جابر الأندلسي (صاحب البديعية): 332 ح 1. - جابر بن عبد الله (الصحابي): 26، 27، 54، 169، 255، 273، 355، 359. - جابر بن عتيك: 258. - جبير بن مطعم: 138. - ابن جُريج: 94 ح 6، 236، 351. - جرير بن عبد الحميد: 193 ح 2. - جعفر بن أبي طالب: 114، 355. - أبو جعفر بن محمد الطيالسي: 268. - جعفر بن نسطور الرومي (الذي رفضوا صحبته): 352. - جلال الدين البلقيني = انظر البلقيني. - ابن جماعة: 249 ح 1. - جمال الدين القاسمي: 143. - الجمال الكتاني: 239. - ابن جني (اللغوي): 332. - الجوزجاني: 57 ح 2. - الجوزقاني: 193 ح 1، 271. - جولدتسيهر (جولدزيهر): 9 ح 2، 29، 33، 35، 37، 64، 70 ح 2، 280 ح 1، 287. - ابن الجوزي (أبو الفرج): 71، 110، 112، 114، 182، 265 ح 3، 268، 271، 272، 274. - الجوهري (صاحب " الصحاح "): 332. - ح - - أبو حاتم البُستي: 206، 264 ح 2، 269. - ابن أبي حاتم: 112، 137 ح 1، 181، * 205 ح 5. - الحارث بن أسد المحاسبي: 311. - الحارث الأعور: 207. - الحارث بن أبي أمامة: 344. - الحازمي (محمد بن موسى): 114، * 143 ح 2. - أبو حازم: 235. - الحاكم (النيسابوري): 21 ح 1، * 79 ح 1، 112، 124، 152، 162، 168 ح 3، 171، 179 ح 4، 183، 184، 186، 197، 199، 201، 207، 218، 219، 228، 229، 231، 232، 233، 251، 259، 260، 266، 270 ح 3، 357.

- ابن حبابة: 66. - حبان بن هلال: 265 ح 3. - ابن حبان: 110، 119 ح 1، 125، * 177 ح 3، 193 ح 1، 234، 266 ح 4، 273. - حبيب بن حبيب: 205. - حبيب بن مسلمة الفهري: 55. - أم حبيبة (امرأة عبيد الله بن جحش): 355. - ابن حُبيش (أبو القاسم عبد الرحمن الأندلسي): 56 ح 5. - حجاج بن أرطأة: 264 ح 2. - حجاج بن الشاعر: 61. - الحجاج بن الفرافصة: 184. - ابن حجر (العسقلاني): 5، 28 ح 2، * 94 ح 1، 102، 107 ح 2، 111، 120، 124، 137، 148، 149، 158، 163، 165 ح 2، 174، 178، 180، 182، 188، 189، 190، 196، 204، 205، 217، 223، 235، 237، 243، 246 ح 4، 250، 255، 257 ح 3، 264، * 271، 272، 273، 350. - ابن أبي حدرد: 219. - ابن أبي الحديد (عز الدين أبو حامد، صاحب " نهج البلاغة "): 321. - حذيفة بن اليمان (الصحابي): 168، 235. - حرمي: 194. - ابن حزم: * 195، 251 ح 2، 311. - حسام الدين القدسي: 49 ح 1. - الحسن البصري: 176، 258، 350. - الحسن بن حفص النهرواني: 71 ح 2، 102، 119. - الحسن بن دينار: 244. - أبو الحسن [بن] الضائع: 333. - الحسن بن أبي طالب: 172. - الحسن بن علي: 352، 356. - الحسن بن علي الحلواني: 331. - الحسن بن محمد = انظر الخلال. - الحسن بن مكرم: 218، 219. - الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس الهاشمي: 388. - الحسين بن علي الكرابيسي: 110، 311. - الحسين بن علي (الحافظ): 252. - الحسين بن فهم: 344. - حصين (أحد الرواة): 174. - أبو حفص الكتاني: 66. - الحكم بن العاص: 310. - حكيم بن حزام: 356. - حماد بن زيد (التابعي): 25 ح 4، 37، 270. - حماد بن سلمة: 37، 64، 89 ح 1، 92، 243، 265 ح 3، 267، 319، 331. -حماد بن أبي سليمان: 320. - حماد بن عمرو النصيبي (الكذاب): 193. - حمزة بن حبيب الزيات (المقرئ): * 206 ح 1. - أبو حمزة بن عاصم المدني: 256. - حممة بن أبي حممة الدوسي: 353. - حُميد (أحد الرواة): 270 ح 3. - حميد الله (محمد): 14، 17 ح 4، 30 ح 1، 32، 109 ح 1. - الحميدي: 71 ح 1. ابن حنبل = انظر أحمد بن حنبل. - حنظلة بن أبي سفيان: 94 ح 6.

- خ -

- أبو حنيفة (الإمام): 69، 94 ح 6، 209، 264 ح 2، 266، 307، 309، 357، 383، 385. - أبو حيان الأندلسي: 328، 333. - خ - - خالد الحذاء: 78، 258. - خالد بن علقمة: 259. - خالد بن معدان: 70. - خالد بن مهران = انظر «خالد الحذاء». - خالد بن نزار الأيلي: 228. - خالد بن الوليد: 356. - خراشة: 236. - ابن خروف (النحوي): 332. - خديجة بنت خويلد (أم المؤمنين): 354، 355. - ابن خزيمة: 119 ح 2، 122 ح 5، 125، 242. - الخطابي (صاحب " معالم السنن "): 20 ح 1، 22 ح 1، 33 ح 2، 286 ح 1. - أبو الخطاب بن دحية = انظر ابن دحية. - الخطيب البغدادي: 20 ح 2، 22 ح 1، 37، 41، 53، 61، 67، 68، 89 ح 1، 90 ح 7، 123 ح 1، 128، 129، 130، 153، 169، 172، 179، 181، 183 ح 1، 192 - 194، 217، 220، 245، 261، 312، 341. - الخلال (أحمد بن محمد، أبو بكر): * 181 ح 5. - الخلال (الحسن بن محمد): 172. - ابن خلدون: 53 ح 3. - خلف بن خليفة (آخر التابعين موتًا): 357. - ابن خلكان: 167 ح 3. - الخليل بن أحمد: 332. - الخليل بن مرة: 22 ح 1. - الخليلي (أبو يعلى): 186، 201 ح 3، 202. - الخولي - انظر محمد عبد العزيز الخولي. - د - - الدارقطني: 110، 112، 182، 188، 190، 243، 249، 256، 260. - الدارمي: 25 ح 4، 27 ح 1، 31 ح 1، 42 ح 1، 47 ح 3، 253، 356. - أبو داود (صاحب " السنن "): 7 ح 6، 8 ح 2، 48، 51 ح 5، 52 ح 1، 55 ح 1، 118، 119، 122، 160، 161، 163، 200، 249، 272. - أبو داود الطيالسي (صاحب " المسند "): 117، 123، 351. - داود بن علي الظاهري: 100 ح 2. - ابن دحية (أبو الخطاب، عمر بن الحسن): * 74 ح 1. - أبو الدرداء (عويمر بن زيد، الصحابي): 53، 377. - ابن دُريد: 54 ح 1. - دغفل بن حنظلة الشيباني (النسابة): 347. - دوزي (المستشرق): 33، 35.

- ذ -

- أبو الدنيا الأشج: 236. - دينار (أحد الرواة): 236. - ذ - - ابن أبي ذئب: 12 ح 1، 94 ح 6. - أبو ذر الغفاري (الصحابي): 12، 374، 375. - ذكوان (أحد الرواة): 233. - الذهبي (الحافظ شمس الدين): 12 ح 1، * 60 ح 2، 61، 110، 124، 141، 160، 174 ح 3، 178 ح 4، 236، 270. - الذهلي (محمد بن يحيى): 257، 351. - ر - - الرازي (الإمام فخر الدين): 130 ح 1. - أبو راشد الحبراني: 29 ح 2. - رافع بن خديج (الصحابي): 21 ح 1. - الرامهرمزي (صاحب " المحدث الفاصل "): 20 ح 3، 21 ح 1، 40 ح 1، 78 ح 6. - الربيع بن أنس: 64. - الربيع بن خثيم: 264. - رجاء بن حيوة: 82. - ابن رجب: 181. - رشيد رضا: 21 ح 1، 27 ح 1. - رُزين: 118. - الرعيني الأندلسي: 322 ح 1. - رفيع بن مهران الرياحي = انظر «أبو العالية». - رقية ابنة النبي (زوج عثمان): 355. - ز - - زائدة بن قدامة: 37. - الزبير بن العوام: 149، 293، 352، 355. - أبو الزبير: 72، 198. - أبو زرعة الرازي: * 78 ح 2، 79، 354. - الزرقاني (محمد عبد العظيم): 110 ح 2. - الزرقاني (صاحب " الشرح على الموطأ "): 6 ح 1. - الزركشي (الإمام بدر الدين): 191 ح 1، 232، 315 ح 1. - زكريا بن مهران: 257. - الزمخشري: 113، 332. - أبو الزناد: 247. - الزهري (محمد بن مسلم بن شهاب): 47، 52، 78، 162، 167، 171، 174 ح 3، 175، 218، 219، 234، 247، 248، 351، 381، 382. - زهير بن حرب: 121 ح 2. - زهير بن محمد: 52، 53. - زياد بن جارية [التميمي]: 55. - زياد بن علاقة: 175 ح 2. - زياد بن مخراق (*): 63. - زيد بن أسلم (**): * 17 ح 2. - زيد بن ثابت: 20 ح 2، 43 ح 3. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) لم أجد هذه الترجمة في الكتاب: وهو زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ المزنيُّ البصريّ. (**) تكررت مرتين في الكتاب المطبوع.

- س -

- زيد بن حارثة: 354. - أبو زيد (سعيد بن أوس): 325. - زيد بن يثيع: 168. - زيد الدين قاسم: 110. - زينب بنت مكي: 239. - س - - السائب بن عثمان بن مظعون: 347. - السائب بن يزيد الكلبي: 356، 357. - الساجي (أبو يحيى زكريا بن يحيى): * 182 ح 5. - سالم بن عبد الله بن عمر (أحد فقهاء المدينة السبعة): 192 ح 5. - سالم أبو النضر: 25. - السخاوي: 167 ح 3، 253، 340. - سرباتك الهندي (الذي رفضوا صحبته): 353. - أبو السعادات (مبارك بن الأثير): 49. - سعد بن طريف: 266، 285. - سعد بن عبادة الأنصاري: 24، 356. - سعد بن معاذ: 285. - سعد بن أبي وقاص: 149 ح 3، 188، 320، 352، 375، 376. - ابن سعد (صاحب " الطبقات الكبرى "): 14 ح 1، 17 ح 1، 26 ح 1، 30 ح 5، 31 ح 1، 109، 110، 337 - 348، 355. - سعيد الأفغاني: 328 ح 1، 332 ح 2، 333. - سعيد بن جبير (التابعي): 31، 43، 235، 382، 383. - أبو سعيد الخدري (الصحابي): 20 ح 2، 21، 40 ح 3، 127، 355، 359، 370 - 372. - سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أحد العشرة المبشرين بالجنة): 149 ح 3، 352. - سعيد بن أبي عروبة: 94 ح 6. - سعيد بن أبي مريم: 247. - سعيد بن المسيب (التابعي): 43، 47، 54، 131 ح 2، 167،، [176 ح 3]، 210، 221، 320، 350، 378، 379. - سعيد المقبري: 160. - أبو سفيان بن حرب: 26 ح 5، 273، 356. - سفيان بن سعيد الثوري: 6 ح 1، 37، 69 ح 3، 71، 78، 92 ح 6، 94، * 132 ح 4، 168 ح 2، 169، 184، 193، 228، 240، 246، 247، 252، 258، 341، 351، 390، 391. - سفيان بن عيينة: 109، 132، 164، 171، * 175 ح 2 - 177، 196 ح 4، 340، 351، 391، 392. - السقطي (المفيد أبو البركات): * 55 ح 6. - ابن سلام = انظر عبد الله بن سلام. - السلفي (الحافظ أبو طاهر): * 56، 240. - سلمان الفارسي: 354. - أبو سلمة بن عبد الرحمن: 235. - أبو سلمة (الصحابي): 159، 184، 253. - أم سلمة: 252. - سليمان التيمي = انظر التيمي. - سليمان بن حرب: 340. - سليمان بن سمرة بن جندب: 25. - سليمان بن قيس اليشكري: 26.

- ش -

- سليمان بن مهران (الأعمش): انظر الأعمش. - سمرة بن جندب (الصحابي): 25. - السمعاني (عبد الكريم): 70 ح 2، 71، 174، 244. - أبو سنان الأشجعي: 310. - سهل بن حنيف: 305 ح 2. - سهلة بنت سهل (امرأة أبي حذيفة): 355. - سهيل بن أبي صالح: 185، 193. - السهيلي: 17، 332. - سويد بن مقرن المزني: 347. - سيبويه: 332. - ابن سيد الناس = انظر فتح الدين. - ابن سيرين (محمد): 25، 28 ح 2، 78 ح 7، 82، 83، 109، 134، 224، 243، 244، 331 ح 1، 350. - السيف الآمدي: * 130 ح 2. - سيف بن عمر التميمي: 266. - السيوطي (جلال الدين): 21 ح 1، 22 ح 1، 40 ح 4، 49، 59 ح 1، 63 ح 1، 109، 110، 113، 115، 116 ح 1، 119 ح 1، 125، 133 ح 4، 142 ح 1، * 148 ح 4، 149، 154، 162، 166، 175، 177، 183 ح 4، 190، 191، 205، 225، 231، 232، 233، 239، 243، 254، 272، 274، 315 ح 1، 333. - ش - - الشاطبي (صاحب " الموافقات "): 297. - الشافعي (الإمام): 60 ح 1، 111، 112، 121، 133، 136، 171، * 196 ح 4، 197، 198، 202، 241، 242، 258، 265، 266، 299، 301، 303، 308، 329، 343، 351، 357، 388 - 390. - أبو شاة (رجل من اليمن): 22 ح 1. - شاه ولي الله الدهلوي: 116 ح 2. - ابن شاهين: 117. - شبابة بن سوار: 245، 249. - شبرنجر (المستشرق): 33، 34، 37، 283 ح 1. - شداد بن أوس: 168، 273. - شعبة بن الحجاج: * 63 ح 4، 69، 72، 93، 109، 121، 126، 129، 133، 134، 169، 171، 176، 193 خ 2، 194، 235، 236، 245، 259، 265 ح 3، 269، 325، 326. - الشعبي (عامر بن شراحيل): 44، 47، 78، 82، 109، 136، 167، 170، 210. - الشعراني: 307. - شريك: 168، 273. - ابن شهاب = انظر الزهري. - أبو شهاب: 184. - الشوكاني: 307. - ابن أبي شيبة: 117. - أبو الشيخ: 117. - الشيرازي (يوسف بن أحمد): 55 ح 7.

- ص -

- ص - - أبو صالح: 193، 235. - الصريفيني (أبو محمد): 66. - صدقة بن موسى الدقيقي: 207. - صفوان بن سليم: 251. - ابن الصلاح (أبو عمرو): 20 ح 2، 23، * 74 ح 2، 85، 86 ح 1، 86، 98 ح 2، 101، 102 ح 2، 119 ح 2، 143، [148]، 160، 162، 165، 172، 190، 197، 199، 204، 205، 221، 222، 238، 243، 259، 273، 353. - الصنعاني = انظر عبد العزيز بن عمر. - صهيب: 233. - ض - - الضحاك بن مزاحم الهلالي: 47. - ابن الضريس = انظر محمد بن أيوب بن موسى. - ضمام بن ثعلبة (الصحابي): 352. - الضياء المقدسي (محمد بن عبد الواحد): 119 ح 1. - ط - - أبو طاهر السلفي = انظر السلفي - طاووس بن كيسان: 235، * 293. - الطبراني: 75، 117. - الطبري (شيخ المفسرين): 15 ح 3، 16 ح 1، 50 ح 1، 102. - الطحاوي: 117. - أبو الطفيل (عامر بن واثلة الكناني): 176 ح 3، 198، 199، 354، 357. - طلحة بن عبيد الله (أحد العشرة المبشرين بالجنة): 149 ح 3، 352. - طلحة بن عمرو: 94 ح 6. - الطيالسي = انظر «أبو داود». - ابن الطيب: 332. - ع - - عائشة (أم المؤمنين): 188 ح 4، 295 ح 3، 306، 310، 355، 359، 364 - 366. - عائشة بنت عجرد: 358. - عاصم الأحول: 259. - عاصم بن ضمرة: 37، 38، 78. - أبو العالية (رفيع بن مهران): * 50 ح 3، 64. - عبادة بن الصامت (الصحابي): 64، 355. - ابن عباس (عبد الله): 15 ح 3، 20 ح 6، 30، 31، 43، 109، 114، 127، 167، 175، 176 ح 1، 197، 206، 209، 219، 242، 264، 266، 293، 355، 359، 366، 369. - أبو العباس الحلبي: 239.

- أبو العباس القرطبي = انظر القرطبي. - العباس بن عبد المطلب: 334. - عبدان (أحمد بن موسى الجواليقي): * 55 ح 2. - ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله): 170، 175، 190 ح 2، * 219 ح 3، 353. - ابن عبد الحكم (المؤرخ): 136. - عبد الحميد بن سليمان الخزاعي: 21 ح 1. 0 عبد الحميد (محيي الدين): 51 ح 5. - عبد بن حميد: 117. - عبد الرحمن بن الأشعث: 347. - عبد الرحمن بن حرملة: 43. - عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: 265، 292. - عبد الرحمن بن عوف: 149 ح 3، 352. - عبد الرحمن بن غنم: 347. - عبد الرحمن بن القاسم: 175 ح 2. - عبد الرحمن بن مهدي: 6 ح 1، 58، 109، * 180 ح 4، 181 ح 1، 210، 211، 227، 246، 252، 263 ح 2. - عبد الرحمن (مولى أم برثن): 235. - عبد الصمد صارم: 24 ح 2. - عبد العزيز بن جعفر الحريري: 71 ح 2. - عبد العزيز بن صهيب: 235. - عبد العزيز بن الصنعاني: 251. - عبد العزيز بن قرير: 259. - عبد العزيز بن محمد الداوودي: 193 ح 2. - عبد الكريم بن أبي العوجاء (الوضاع): 270. - عبد الله بن أحمد بن حنبل: 102، 124. - عبد الله بن إدريس: 37. - عبد الله بن أنيس: 54، 358. - عبد الله بن أبي أوفى: 24، 25، 357. - عبد الله بن جحش: 355. - عبد الله بن جزء الزبيدي: 358. - أبو عبد الله (الحاكم) = انظر الحاكم النيسابوري. - عبد الله بن الزبير: 356. - عبد الله بن سعيد بن العاص: 17. - عبد الله بن سلام: 209، 253. - عبد الله بن شداد: 252. - أبو عبد الله الضرير = انظر محمد بن أحمد المؤمل. - عبد الله بن عباس = انظر ابن عباس. - عبد الله بن عبد الغني (الحافظ الفقيه أبو موسى): * 55 ح 4. - عبد الله بن أبي عبد الله: 172. - عبد الله بن عبد المطلب (والد الرسول): 344. - عبد الله بن عمر بن الخطاب = انظر ابن عمر. - عبد الله بن عمرو بن العاص: 21 ح 2، 22، 27، 32، 36، 373، 374. - عبد الله بن أبي الفتح الفاسي: 172. - عبد الله القادسي: 77. - عبد الله بن كعب بن مالك: 219. - عبد الله بن المؤمل: 21 ح 1. - عبد الله بن المبارك: 69 ح 4، 89 ح 1، 129، 133، 211، 263. - عبد الله بن مسعود (الصحابي): 5، 208، 228، 240، 246، 248، 250، 306، 355، 372، 373. - عبد الله بن معاذ العنبري: 121 ح 3. - أبو عبد الله بن منده = انظر ابن منده.

- عبد الله بن وهب: * 91 ح 3. - عبد الله بن يزيد (المقرئ): 267. - عبد المطلب (بن هاشم): 344. - عبد الملك بن حبيب (الفقيه الأندلسي): * 51 ح 1. - عبد الملك بن أبي سليمان: 19. - عبد الملك بن قريب = انظر الأصمعي. - عبد الملك بن الماجشون: 196 ح 4. - عبد مناف: 344. - عبد الوارث: 235. - عبد الوهاب عبد اللطيف: 108 ح 1. - عبيد بن عمير (القاص): 81. - أبو عبيد (القاسم بن سلام): * 83 ح 5، 113، 133، 343. - أبو عبيدة (عامر بن الجراح، الصحابي): 249، 352. - عبيدة بن عمرو (السلماني المرادي): 25 ح 4. - أبو عبيدة معمر بن المثنى: 113. - عبيد الله بن جحش: 355. - عبيد الله بن أحمد الصيرفي: 172. - عبيد الله بن عبد الله (التابعي): 45 ح 1. - عثمان بن أحمد السماك: 218، 219. - عثمان بن الأسود: 94 ح 6. - عثمان بن أبي شيبة: * 256 ح 2، 257. - عثمان بن عفان: 178 ح 4، 189، 310، 355. - عثمان بن عمر: 218، 219. - أبو عثمان النهدي: * 178 ح 3. - عثمان بن الهيثم (أبو عمرو): 224. - العجلي: 110. - ابن عدي: 206. - العراقي (الحافظ، صاحب " الألفية " في علوم الحديث): 59 ح 1، 125، 149 ح 3 *، 161 ح 1، 165، 352. - ابن العربي (أبو بكر، القاضي): * 84 ح 2، 200. - عروة بن الزبير: 39. - ابن عساكر (صاحب " تاريخ دمشق "): * 73. - العسكري (أبو أحمد): * 254 ح [2]. - أبو عصمة (الوضاع) = انظر نوح بن أبي مريم. - عفير بن معدان الكلاعي: 70. - عقبة بن عامر: 355. - ابن عقدة: * 77 ح 6. - عكاشة بن محصن: 352. - عكرمة بن عمار: 38، 266. - أبو العلاء بن عبد الله بن الشخير: 168. - العلائي (الحافظ): * 188 ح 2، 190، 235. - علقمة بن وقاص: 59، 150، 200، 242. - علم الدين الفلاني: 304 ح 2. - علي بن الجعد: 66. - علي بن جعفر بن خالد: 63. - علي بن خشرم: 170، 175. - علي بن رافع: 251. - علي بن سالم الأصبهاني: 122. - علي بن سعد العسكري: * 57 ح 2. - علي بن أبي طالب: 30، 40 ح 4، 104، 178، 207، 208، 266، 310، 318، 320، 354، 360. - علي بن عاصم: 63. - علي بن عبد الله بن عباس: 31.

- غ -

علي بن مبارك الأحمر: 332. - علي بن المحسن التنوخي (أبو القاسم) = انظر التنوخي. - علي بن المديني: 164، 181، 183، 222. - علي بن معبد (الرقي): 57 ح 2. - أبو علي النيسابوري (شيخ الحاكم) = انظر النيسابوري. - ابن علية (إسماعيل بن إبراهيم): 28، 37، 40، 235، 351. - العماد بن كثير = انظر ابن كثير. - عمران بن حصين (الصحابي): 294، 326، 349 ح 3. - عمر بن الحسن (أبو الخطاب = انظر ابن دحية). - عمر بن الخطاب: 39، 40، 58، 59، 131 ح 2، 132، 150، 178 ح 4، 189، 197 ح 5، 208، 221، 223، 310، 320، 323، 345، 360. - ابن عمر: 20 ح 2، 27 - 29، 43، * 81 ح 1، 82، 121، 134، 169، 192 ح 6، 219 221، 227، 241، 242، 305، 354، 359، 362، 363. - عمر بن عبد العزيز: 33، 44، 47، 192. - عمر بن موسى: 70 ح 2. - عمرو بن أمية الضمري: 31 ح 4. - أبو عمر الجدلي: 169. - عمرو بن دينار: 75 ح 2، 227، 241، 242. - عمرو بن شرحبيل: 246، 247. - عمرو بن شعيب: 21 ح 1، 28 ح 1، 29. - عمرو بن شمر: 207. - أبو عمرو الصنعاني = انظر عبد العزيز بن عمر. - عمرو بن العاص: 27 ح 1. - عمرو بن عثمان: 258. - أبو عمرو بن العلاء: 332. - أبو عوانة الإسفراييني: 119 ح 1. - عوف: 224. - ابن عون الثقفي: 28 ح 2، 82، 136، 252. - عون بن عبد الله: 185. - عياض (القاضي): 20 ح 2، 44، 49، 90، 100. - العيزار بن حريث: 206. - عيسى بن عمر: 332. - ابن عيينة = انظر سفيان بن عيينة. - غ - - غياث بن إبراهيم النخعي (الوضاع): 268. - ف - - ابن فارس (أحمد): 332. - فتح الدين بن سيد الناس: * 79 ح 3. - الفتني: 285 ح 1. - فخر الدين الرازي = انظر الرازي. - الفراء (يحيى بن زياد الديلمي): 4 ح 3، 332. - فرات بن زيد الليثي (الصحابي): 323. - أبو الفرج بن الجوزي = انظر ابن الجوزي. - فرقد السبخي: 207.

- ق -

- فرنكل (المستشرق): 280. - فضالة: 245. - الفضل بن دكين (أبو نعيم): 63، 193، 194، 340. - أبو الفضل بن طاهر المقدسي: 66، 119 ح 4. - ق - - أبو القاسم الأزهري: 172. - أبو القاسم التنوخي = انظر التنوخي. - القاسم بن سلام = انظر «أبو عبيد». - أبو القاسم الشيرازي: 66. - القاسم بن محمد بن أبي بكر: 47، 82. - أبو القاسم بن منده = انظر «ابن منده». - القاسمي: 75 ح 2، 153 ح 3، 154 ح 1، 208، 302 ح 2. - القاوقجي: 285. - قتادة بن دعامة السدوسي: 26، 44، 47، 167، * 176 ح 3، 189، 234، 235، 268، 269، 319، 320، 331، 351. - ابن قتيبة: 21 ح 2، 22 ح 2، 28 ح 1، 112، 113. - قتيبة بن [سعيد]: 198، 237. - القرضي: 239. - القرطبي (أبو العباس): 267. - قسامة بن زيد: 323. - قصي: 344. - أبو قطن: 245. - ابن قطلوبغا: 201 ح 3. - القعنبي (عبد الله بن مسلم): 237. - أبو قلابة (عبد الله بن زيد): 54. - قيس بن أبي حازم: * 178 ح 4. - ابن القيم: * 197 ح 4. - ك - - الكتاني (صاحب " التراتيب الإدراية "): 17 ح 5. - كثير بن أفلح: 43 ح 3. - ابن كثير: 92، 103 ح 3، 110، 125، 143، 197، 249، 257. - كُريب: 31 ح 2. - الكسائي: 256. - كعب الأحبار: 209. - كعب بن مالك: 219، 356. - كعب بن مرة: 192. - الكلبي: 264 ح 2. - أبو كلدة: 4. - ل - - لاووست (هنري) المستشرق: 153. - ابن لهيعة: 60، 61. - الليث بن سعد: 27، * 33 ح 1، 198، 225، 258، 392، 393. - ابن أبي ليلى: 364 ح 2. - م - - ابن ماجه: 5، 7 ح 5، 48، 55 ح [1]، [118]، 119، 122 ح 5، 272.

مالك بن أنس: 6 ح 1، 48، 85، * 91 ح 4، 94 ح 4، 116، 122، 132، 169، 175 ح 4، 186، 196، 219، 221، 224، 236، 237، 241، 242، 247، 248، 258، 259، 311، 330 ح 2، 341، 343، 351، 357، 386، 388. - مالك بن عرفطة: 259. - مأمون بن أحمد الهروي: 266. - ابن المبارك (عبد الله): 90، 109، 179. - المتقي الهندي: 40 ح 1. - ابن متويه (إبراهيم بن محمد): 55 ح 7. - المثنى بن الصباح: 94. - مجاهد بن [جبر] (التابعي): 29، 44، 47، 176 [ح 3]. - مجد الدين بن الأثير = انظر «ابن الأثير». - أبو مجلز: 233، 234. - محمد بن إبراهيم التيمي: 150، 200. - محمد بن أحمد العياضي: 71 ح 2. - محمد بن أحمد المؤمل (أبو عبد الله الضرير): 250. - محمد بن إسحاق = انظر «ابن إسحاق». - محمد بن أسلم الطوسي: * 13 ح 4. - محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس: 89 ح 1. - محمد بن بحر الأصفهاني: 114. - محمد بن بشار: 98. - محمد بن الحجاج اللخمي: 54، 285. - محمد بن الحنفية: 26 ح 8. - محمد بن حنين: 242. - محمد حميد الله = انظر «حميد الله». - محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر الأسبق): 332 ح 5. - أبو محمد الخلال = انظر «الخلال». - محمد بن رافع: 89 ح 3. - محمد زبير الصديقي: 24 ح 5، 30 ح 5. - محمد بن زياد: 245. - محمد بن زيد: 242. - محمد بن السائب (والد هشام الكلبي): 347. - محمد بن سعدان المقرئ الضرير: 340. - محمد بن سعيد بن حسان (الوضاع): 270 ح 3. - محمد بن سيرين: انظر «ابن سيرين». - محمد بن شجاع الثلجي: 265 ح 3. - محمد بن طاهر المقدسي: 110. - محمد بن الطيب = انظر «الحاكم». - محمد بن عبد الله المعافري (ابن العربي) = انظر «ابن العربي». - محمد بن عجلان: 186. - محمد بن علي (أبو جعفر الباقر): 27. - محمد بن علي (أبو النرسي) = انظر «أبو النرسي». - محمد فؤاد عبد الباقي: 5 ح 2. - محمد بن كثير: 184، 253. - محمد بن مسلمة: 40. - محمد بن موسى الحازمي = انظر «الحازمي». - محمد بن يحيى الذهلي = انظر «الذهلي». - محمد بن يحيى الواسطي: 250. - محمش: 257. - محمود بن الربيع: 127، 347، 352. - مرة الطيب: 207.

- ن -

المرداسي الأندلسي: 51 ح 1. - ابن مردويه: 117، 123. - مروان بن الحكم: 361. - المروزي: 125. - المزي: * 232 ح 3. - مسروق بن الأجدع: * 210. - ابن مسعود = انظر «عبد الله بن مسعود». - أبو مسعود الرازي: 61 ح 6. - مسلم (صاحب " الصحيح "): 12، 26، 48، 98، 110، 112، 121، 122، 125، 141، 151، 153، 166، 177، 185، 189، 191، 193 ح 2، 222 - 225، 238، 271، 274 ح 2، 284، 353، 398، 399. - مسلم بن خالد الزنجي: 196 ح 4. - أبو مسهر: 177. - مصطفى السباعي: 285، 320 ح 1. - مطرف بن عبد الله بن الشخير: 296 * ح 6، 320. - معاذ بن جبل: 198، 376. - معاوية بن أبي سفيان: 285، 320، 347، 360. - معقل بن يسار: 306. معلى بن هلال: 68. - معمر بن راشد: 171، 175، 177، 268، 341. - معن بن زائدة الشيباني: 270 ح 3. - ابن معين = انظر «يحيى بن معين». - المغيرة بن شعبة: 40، 74 ح 2. - المفيد (أبو البركات) = انظر السقطي. - مقاتل: 264 ح 2 , - المقريزي (صاحب " الخطط "): 29 ح 2. - مكحول (عالم أهل الشام): 54، 55 ح 1. - مكي بن إبراهيم البلخي: 57 ح 2، 59، 94. - مناظر أحسن كيلاني: 24 ح 3. - المناوي: 116 ح 1. - ابن منده (أبو عبد الله): 62، 347. - ابن منده (أبو القاسم): 59 ح 1. - المنصور (الخليفة): 264 ح 2. - منصور بن زاذان: 174 ح 3. - أبو منصور الشنابزي: 250. - منصور بن المعتمر: 24، 175 ح 2، 246، 247. - المنهاهل بن عمرو: 134. - المهدي (الخليفة): 268، 270. - أبو المهزم: 265 ح 3. - موسى بن إسماعيل: 185. - أبو موسى الأشعري: 40، 310، 353. - أبو موسى (الحافظ عبد الله بن عبد الغني) = انظر عبد الله بن عبد الغني. - موسى بن عقبة: 25، 183، 185. - موسى بن هارون: 198. - ن - - نائل بن نجيح الحنفي: * 57 ح 2. - ناجية: 124. - ناصر الدين الأسد: 323 ح 3. - نافع (مولى ابن عمر): 166، * 192 ح 6، 219، 221، 242، 258، 379، 380. - النجيب: 239.

- هـ -

- نجيح السندي (أبو معشر): 341. - النخعي (إبراهيم بن يزيد، التابعي): 82، * 210 ح 1. - ابن النديم: 6، 339، 343. - أبو النرسي (محمد بن علي): * 55 ح 5. - نزار بن عبد العزيز: 57 ح 2. - النسائي (صاحب السنن): 48، 110، 116، 118، 119، 120، 122 ح 5، 193، 237، 238، 245، 272، 306. - النضر بن شميل المازني: 113. - النضر بن مطرف: 72. - النعمان بن عبد السلام: 186. - النعمان بن مقرن المازني: 347. - نعيم بن حماد: * 90 ح 2، 127. - نعيم بن سالم: 236. - أبو نعيم = انظر «الفضل بن دكين». - نوح بن مريم (أبو عصمة، الوضاع): 264. - نور الدين علي الهيثمي: 49. - نور الدين محمد بن سعيد زنكي: 73. - نولدكه (المستشرق): 270 ح 1. - النووي: 12 ح 1، 18، * 74 ح 3، 97، 111، 121، 151، 153، 155 ح 2، 161، 222، 223، 225، 273، 352، 353. - النيسابوري (أبو علي، شيخ الحاكم): 120 ح 1. - هـ - - هارون الرشيد: 340. - هاشم (من أجداد النبي): 344. - هبة الله بن سلامة: 114. - هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي: 66. - ابن هدبة: 236. - الهروي (عمر بن أبي سعد): 71 ح 2. - أبو هريرة: 5، 20 ح 2، 22 ح 1، 28، 31 - 33، 36، 62، 159، 160، 169، 176، 184 - 186، 193، 200، 224، 235، 242، 243، 246 - 248، 251، 252، 265 ح 3، 286، 354، 359 - 362. - هشام الضرير (النحوي): 332. - هشام بن عبد الله: 38 ح 2. - هشام بن عروة: 52 ح 4. - هشام بن محمد بن السائب الكلبي: 343، 346، 348. - ابن هشام (صاحب " السيرة "): 30 ح 1. - هشيم بن بشير: 37، 89 ح 1، * 174 ح 3، 175، 176، 340. - همام بن منبه: 14 ح 1، 24 ح 3، 31 - 33، 36، 235. - همام بن منده: 31 ح 5. - و - - أبو وائل: 240، 246. - واصل الأحدب: 228، 246. - ابن واصل السدوسي: 57 ح 2.

- ي -

- الواقدي: 339، 340 - 343، 346، 348. - ابن الورد (المسشرق أهلورد): 60 ح 1، 280 ح 1. - ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة): 354. - وستنفلد (المستشرق): 73 ح 1. - وكيع بن الجراح: 133، 180 ح 4، * 240 ح 4، 340. - الوليد بن مسلم: 173، * 176 ح 1، 177، 189، 340. - أبو الوليد: 269. - وهب بن منبه: 26، 33، 185. - ابن وهب: 31 ح 4، 245. - ي - - ياقوت (صاحب " معجم البلدان "): 54 ح 1، 57. - يحيى بن حسان: 61. - يحيى بن حكيم (أبو سعيد): 252، 253. - يحيى بن خالد البرمكي: 340. - أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي: 112. - يحيى بن زياد = انظر «الفراء». - يحيى بن سعيد الأنصاري: 150، 200، 234. - يحيى بن سعيد القطان: 73، 180 ح 4، 246، 247، 270. - يحيى بن عتيق: 25 ح 4. - يحيى بن أبي كثير: 184. - يحيى بن الليمان: 37. - يحيى بن معين: * 77 ح 3، 109، 133، 176 ح 3، 193، 194، 240 ح 3، 266 ح 4، 268، 269، 342. - يحيى بن وثاب: 206 ح 1. - يحيى بن يحيى النيسابوري: 89 ح 1. - يزيد بن أبي حبيب: 198. - يزيد بن عبد الله بن أبي بردة: 106. - يعقوب بن إبراهيم بن سعد: 62، 63. - يعقوب بن أبي شيبة: 182. - أبو يعلى الخليلي = انظر «الخليلي». - أبو يعلى الموصلي: 55 ح 5. - ابن أبي يعلى: 61 ح 5. - يوسف العش: 37، 38، 42 ح 3، 72 ح 5. - يونس بن يزيد: 218، 219.

§1/1