علم البيان

عبد العزيز عتيق

مقدمة

مقدّمة هذا الكتاب يضم بين دفتيه محاضرات في «علم البيان» ألقيتها على طلبة الصف الثاني في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية. والقسم الأول من هذه المحاضرات يعالج تاريخ علم البيان ويتابع نشأته وتطوره في العصور المختلفة، أي منذ بدأت مباحثه في صورة ملاحظات بلاغية حتى صارت علما واضح المعالم قائما بذاته على يد عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي ومن بعدهم من رجال البلاغة. وقد حرصنا في هذا العرض التاريخي على التعريف بعلماء البلاغة وأعمالهم، مسلطين الضوء بوجه خاص على ما ورد في كتبهم متصلا بفنون علم البيان موضوع بحثنا. كذلك حرصنا على بيان منهاج كل منهم في بحثة ومدى تأثره بمن قبله وتأثيره فيمن بعده، مع الإشارة إلى من أدّت مساهمته منهم في هذا الميدان إلى نهضة البلاغة العربية أو جمودها. أما القسم الثاني من المحاضرات فدراسة مفصلة تحليلية تعززها النماذج والشواهد لفنون علم البيان من التشبيه، والحقيقة والمجاز بأنواعه، والكناية. والله أسأل أن ينفع بهذه المحاضرات بمقدار الجهد الذي بذل فيها. المؤلف

نشأة علم البيان وتطوره

نشأة علم البيان وتطوّره ترتبط «البلاغة العربية» في الأذهان عند ذكرها بعلومها الثلاثة المعروفة لنا اليوم وهي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أنّ هذه العلوم الثلاثة البلاغية قد نشأ كل واحد منها مستقلا عن الآخر بمباحثه ونظرياته، ولكن الواقع غير ذلك. فالواقع أنّ البلاغة العربية قد مرّت بتاريخ طويل من التطور حتى انتهت إلى ما انتهت إليه، وكانت مباحث علومها مختلطا بعضها ببعض منذ نشأة الكلام عنها في كتب السابقين الأولين من علماء العربية، وكانوا يطلقون عليها «البيان». وقد أخذت الملاحظات البيانات تنشأ عند العرب منذ العصر الجاهلي، ثمّ مضت هذه الملاحظات تنمو بعد ظهور الإسلام لأسباب شتّى، منها تحضر العرب، واستقرارهم في المدن والأقطار المفتوحة، ونهضتهم العقلية، ثمّ الجدل الشديد الذي قام بين الفرق الدينية المختلفة

في شؤون العقيدة والسياسة. فكان طبيعيا لذلك كله أن تكثر الملاحظات البيانية والنقدية تلك التي نلتقي بها في تراجم بعض الشعراء الجاهليين والإسلاميين في كتاب مثل كتاب الأغاني. وإذا انتقلنا إلى العصر العباسي فإننا نجد بالإضافة إلى نمو الملاحظات البلاغية محاولات أولية لتدوين هذه الملاحظات وتسجيلها، كما هو الشأن في كتب الجاحظ، وبخاصة كتاب «البيان والتبيين». وقد أدّى إلى هذه النقلة الجديدة عوامل منها تطور الشعر والنثر بتأثير الحضارة العباسية، ورقي الحياة العقلية فيها، ومنها ظهور طائفتين من العلماء المعلمين عنيتا بشؤون اللغة والبيان، إحداهما طائفة محافظة هي طائفة اللغويين، وهؤلاء كانوا يعلمون رواية الأدب وأصوله اللغوية والنحوية، وكان اهتمامهم بالشعر الجاهلي والإسلامي أكثر من اهتمامهم بالشعر العباسي، وقد هداهم البحث في أساليب الشعر القديم من ناحيتيها اللغوية والنحوية إلى استنباط بعض الخصائص الأسلوبية على نحو ما نجد في كتاب سيبويه من مثل كلامه عن التقديم والتأخير، والحذف والذكر، والتعريف والتنكير، ونحو ذلك. كذلك نلتقي بكتاب «معاني القرآن» للفرّاء «207 هـ»، والذي يعنى فيه بالتأويل وتصوير خصائص بعض التراكيب، والإشارة إلى ما في آي الذكر الحكيم من الصور البيانية. ثمّ نلتقي بكتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنى «211 هـ» الذي كان معاصرا للفراء، وهذا الكتاب لا يبحث في مجاز القرآن من الجانب البلاغي، وإنّما هو بحث في تأويل بعض الآيات القرآنية، وأبو عبيدة هذا هو أوّل من تكلم بلفظ المجاز، كما ذكر ابن تيمية في كتابه «الإيمان» ولكنه لم يتكلّم عن المجاز الذي هو قسيم الحقيقة، وإنّما المجاز

عنده يعني بيان المعنى. ومع هذا فقد وردت في كتابه «مجاز القرآن» إشارات إلى بعض الأساليب البيانية كالتشبيه والاستعارة والكناية، وبعض خصائص التعبير النحوية التي لها دلالات معنوية من مثل الذكر والحذف والالتفات والتقديم والتأخير. ومع ما اهتدى إليه كل من الفراء وأبي عبيدة من السمات والخصائص البيانية فإنّ مدلولاتها البلاغية لم تتبلور وتحدد في ذهن أي منهما أو أي من اللغويين والنحاة المعاصرين لهما. أما طائفة العلماء المعلمين الأخرى التي ظهرت في العصر العباسي فهي طائفة علماء الكلام وفي طليعتهم المعتزلة الذين كانوا يدربون تلاميذهم على فنون الخطابة والجدل والبحث والمناظرة في الموضوعات المتصلة بفكرهم الاعتزالي. وكان هذا التدريب يعمق ويمتد حتى يشمل الكلام وصناعته وقيمته البلاغية والجمالية. وقد حفظ لنا كتاب البيان والتبيين للجاحظ قدرا كبيرا من ملاحظات المعتزلة المتصلة بالبلاغة العربية، وهذه قد استقوها من مصدرين هما: التقاليد العربية، والثقافات الأجنبية التي شاعت في عصرهم واطلعوا عليها. فالثقافات الأجنبية التي أخذوا أنفسهم بدراستها وتعمّقوا في فلسفتها ومنطقها قد عادت عليهم بفائدتين لهما أثرهما في شؤون البلاغة: فائدة عقلية بحتة مصدرها دراسة الفلسفة الإغريقية التي نظمت عقولهم تنظيما دقيقا أعانهم على استنباط القضايا البلاغية، وفائدة أخرى ترجع إلى طلبهم معرفة ما في ثقافات الأمم الأخرى التي وصلت إليهم من قواعد البلاغة والبيان. ويتضح ذلك حين نجد الجاحظ المعتزلي يورد في كتابه البيان والتبيين تعاريف اليونان والفرس والهند للبلاغة وهذا يعني أنّ المعتزلة

أخذوا يضيفون إلى ملاحظات العرب الخاصة في البلاغة ملاحظات الأمم الأجنبية وخاصة اليونان، ومضوا من خلال ذلك ينفذون إلى وضع المقدمات الأولى لقواعد البلاغة العربية. وأوّل معتزلي خطا خطوة ملحوظة في هذا السبيل هو رئيس المعتزلة ببغداد بشر بن المعتمر المتوفى سنة 210 للهجرة، فعنه نقل الجاحظ صفحات نثر فيها بشر ملاحظات دقيقة في البلاغة، تلقفها من جاء بعده من العلماء، واستعانوا بها على بلورة بعض أصول البلاغة وقواعدها. ولعلّ أكبر معتزلي جاء بعد بشر بن المعتمر وأولى البلاغة العربية عناية فائقة هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 للهجرة. فقد ألّف في البلاغة كتابه «البيان والتبيين» في أربعة مجلدات ضخام جمع فيها معظم ما انتهى إلى عصره من ملاحظات بلاغية، سواء ما اهتدى إليه علماء العربية بأنفسهم أو ما جاء إليهم منقولا عن آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم أو عن طريق ما قاله بشر (¬1) بن المعتمر وكان به سابقا لعصره في ميدان البلاغة. هذا بالإضافة إلى آراء الجاحظ وملاحظاته الخاصة في القضايا البلاغية، ولا سيما ما يتصل بالتشبيهات والاستعارات والمجازات التي هي موضوع «علم البيان». وقد خطا الجاحظ خطوة غير مسبوقة في ملاحظاته البلاغية، وذلك بالكلام عن التشبيه والاستعارة عن طريق النماذج، مع التفريق بينهما، كما استعمل «المثل» مرادفا للمجاز، وجعله مقابلا للحقيقة، وذلك إذ يقول عند حديثه عن «نار الحرب» (¬2): «ويذكرون نارا أخرى، وهي على طريق ¬

_ (¬1) كتاب البيان والتبيين ج: 1 ص: 135. (¬2) أي غير النار الحقيقية، وهي التي كان يوقدها العرب ليلا على جبل إذا توقعوا جيشا عظيما في حرب وأرادوا الاجتماع لإبلاغ الخبر إلى أصحابهم.

المثل لا على طريق الحقيقة. قال ابن ميادة: يداه يد تنهلّ بالخير والندى … وأخرى شديد بالأعادي ضريرها وناراه: نار نار كل مدفّع … وأخرى يصيب المجرمين سعيرها» (¬1) فالمثل المرادف عنده للمجاز قد استعمله مقابلا للحقيقة، وبهذا كان أوّل من فطن إلى تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز. ولا شك أنّ هذا ينفي ما زعمه ابن تيمية في كتابه «الإيمان» (¬2) من أنّ تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرن الثالث الهجري. ولعلّ خير من أفاد من ملاحظات الجاحظ البلاغية وبنى عليها وطورها هو ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة 637 للهجرة، في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، كما سنرى فيما بعد. ومجمل القول في الجاحظ من جهة البلاغة أنّه ألّم في كتبه بالأساليب البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وحقيقة ومجاز، ولكنه لم يوردها في تعريفات اصطلاحية، وإنّما جاء تعريفه لها والدلالة عليها عن طريق الأمثلة والنماذج لا عن طريق القواعد البلاغية. والمقارنة بينه وبين من تقدموه في هذا الميدان تظهر أنّه كان بلا شك أقدرهم على إدراك أسرار البلاغة، وأكثرهم اهتداء عن طريق النماذج إلى شتى العناصر أو الأساليب البيانية التي عرفت وحدّدت فيما بعد، وأصبحت تؤلف مباحث البلاغة وموضوعاتها. ولهذا فهو يعدّ بحق مؤسس ¬

_ (¬1) كتاب الحيوان للجاحظ ج: 5. ص 133 الضرير: الشدة والبأس. الكل بفتح الكاف: من يعوله غيره، أو اليتيم. المدفع بفتح الدال وتشديد الفاء: الفقير الذليل. (¬2) الإيمان. ص 34.

البلاغة العربية الأول، ومعبّد الطريق أمام من أتى بعده من رجالها. ثمّ جاء من بعده متأثرا خطاه وإن لم يكن معتزليا (¬1) مثله ابن قتيبة الدينوري «276 هـ» ففي كتابه «تأويل مشكل القرآن» يتحدّث أولا عن إعجاز القرآن كرد على الطاعنين في أسلوبه، جهلا منهم بأساليب البيان العربي، ثمّ ينتقل من ذلك إلى الحديث المبوب عن موضوعات «علم البيان» من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية. وبعد ابن قتيبة يأتي معاصره أبو العباس المبرد «285 هـ» بكتابه «الكامل» الذي يجمع بين الشعر والنثر، ويعدّ من كتب اللغة الممهدة للمعاجم بما تضمنه من تفسير كل ما يقع في نصوصه من كلام غريب أو معنى مغلق. ومع أنّ «الكامل» في الأصل كتاب لغة فإنّ المبرد تعرض فيه عند شرح النصوص الأدبية لبعض موضوعات البيان مثل المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه الذي توسع في بحثه وقسمه إلى أربعة أقسام: تشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد. وقد استوحى هذا التقسيم مما كتبه الجاحظ عن التشبيه دون أن يضيف هو إليه جديدا من عنده. ... وأوّل كتاب يلقانا من كتب علماء الكلام الذين اهتموا بالمباحث البلاغية من أجل تفسير الإعجاز البلاغي للقرآن هو كتاب «النكت في ¬

_ (¬1) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي المولد، وسمي الدينوري لأنّه كان قاضي الدينور. وكان لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنّه خطيب أهل السنة، كما كان الحاحظ خطيب المعتزلة.

كتاب الموازنة

إعجاز القرآن» للرماني المعتزلي «386 هـ». وقد تحدّث الرماني فيه عن البلاغة وجعلها في عشرة أبواب يعنينا منها هنا اثنان من أبواب «علم البيان»، هما التشبيه والاستعارة. أمّا التشبيه فقد قسّمه إلى حسي وعقلي، ثمّ فصّل القول في العقلي منه تفصيلا أفاد منه فيما بعد عبد القاهر الجرجاني في كتاب «أسرار البلاغة». وكذلك توسع في الكلام عن الاستعارة مبينا قيمتها البيانية، وأنّها أبلغ في الدلالة على المعنى من الحقيقة. وكل ما قاله الرماني عن الاستعارة كان رصيدا جديدا انتفع به أيضا فيما بعد عبد القاهر وغيره من البلاغيين إلى حد كبير. وكتاب «النكت في إعجاز القرآن» بمشتملاته ومضمونه والجديد فيه له أثر واضح في تاريخ البلاغة العربية، فقد عرّف فيه بعض ألوانها تعريفا نهائيا، وميّز أقسامها وأفاض في شرحها. ... تلك نبذة عن مسائل «علم البيان» التي وردت في كتب بعض المتكلمين ممن عنوا بدراسة بلاغة القرآن وأسرار إعجازه. وبالإضافة إلى ذلك ظهرت في القرن الرابع الهجري دراسات نقدية على أسس بلاغية تعرّض فيها أصحابها إلى مباحث من علم البيان. كتاب الموازنة: من هذه الدراسات النقدية على أسس بلاغية كتاب «الموازنة بين أبي تمام والبحتري» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفى سنة 370 للهجرة. والكتاب كما يدل عليه اسمه موازنة بين شعر شاعرين، أو موازنة

بين مذهبين في الشعر متقابلين من حيث صنع الشعر ونقده. والمذهب الأول هو مذهب أبي عبادة البحتري ودعاة البلاغة العربية «ممن يفضلون سهل الكلام وقريبه، ويؤثرون صحة السبك، وحسن العبارة، وحلو اللفظ، وكثرة الماء والرونق» (¬1). والمذهب الثاني هو مذهب أبي تمام وأصحابه ممن «يميلون إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوي على غير ذلك» (¬2). ومنهاج الآمدي في الموازنة ألا يفصح بتفضيل أحد الشاعرين على الآخر، وإنّما يعرض بالنقد لحجج المتعصبين لكل منهما، ثمّ يقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتّفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، مع بيان أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثمّ بترك الحكم حينئذ للقارئ على جملة ما لكل واحد منهما، إذا أحاط علما بالجيد والرديء (¬3). فالموازنة في الواقع دراسة تطبيقية للصورة والمحسنات في شعر الشاعرين. وليس يعنينا من الموازنة هنا إلّا ما جاء فيها متصلا بعلم البيان، وهو الباب الذي عقده الآمدي لما عيب من الاستعارة عند أبي تمام، فهو في هذا الباب يذكر القبيح من استعارات أبي تمام، ومصدر هذا القبح في نظره هو غلوّ أبي تمام وإغراقه في استعاراته، ويقول: «إنّ للاستعارة حدا تصلح فيه، فإذا جاوزته فسدت وقبحت». ثمّ يشير إلى الاستعارة إشارات عامة من غير تحديد لها كقوله: «وإنّما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا ¬

_ (¬1) الموازنة: ص 4 - 5. (¬2) نفس المرجع ص: 5. (¬3) الموازنة ص: 5.

كتاب الوساطة

كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله، أو كان سببا من أسبابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه». وكان يعنينا من الموازنة أيضا باب آخر متصل بعلم البيان ذكره الآمدي في منهاج بحثه، ولكنه مفقود من الكتاب، وأعني به الباب الذي أفرده لما وقع في شعر أبي تمام والبحتري من التشبيه والمفاضلة بينهما فيه. وإذا كان هدفنا الأول من وراء هذا التمهيد هو تتبع فنون علم البيان منذ نشأتها حتى أصبحت علما مستقلا بذاته، فإنّ ذلك لا يمنع من التعليق على رأي الآمدي في الاستعارة بأنّ التمييز بين الاستعارة الجيدة والاستعارة القبيحة أمر يرجع إلى الذوق المكتسب بالمران والنظر في أقوال الشعراء المجيدين أكثر مما يرجع إلى القواعد التي وضعها لذلك علماء البيان. كتاب الوساطة: ومن كتب الدراسات النقدية على أسس بلاغية كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه» لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني، المتوفى سنة 366 للهجرة. ومع أنّ الوساطة كتاب نقد أكثر منه كتاب بلاغة، فإنّ الجرجاني قد عالج فيه الاستعارة بتوسع، مفرقا بينها وبين التشبيه البليغ. وفي حديثه عن الاستعارة يقول: «فأمّا الاستعارة فهي أحد أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسع والتصرف، وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النظم والنثر، وقد قدمنا عند ذكرنا البديع نبذا منها مثلنا بها المستحسن والمستقبح، وفصلنا بين المقتصد والمفرط. وقد كانت الشعراء تجري على

كتاب العمدة

نهج منها قريب من الاقتصاد، حتى استرسل فيها أبو تمام ومال إلى الرخصة فأخرجه إلى التعدي، وتبعه أكثر المحدثين بعده، فوقفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة، والتقصير والإصابة. وأكثر هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه، وأقمت لك الشواهد عليه، وأعلمتك أنّه مما يميز بقبول النفس ونفورها، وينتقد بسكون القلب ونبوه، وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه، واهتدت إلى الكشف عن صوابه أو غلطه» (¬1). ولعلّنا ندرك من هذا القول أنّ مردّ الحكم على جودة الاستعارة أو قبحها عند الجرجاني هو «قبول النفس أو نفورها» وأنّ ذلك أكثر من الحجج الدالة على جودة الاستعارة أو قبحها، فقد يجد الناقد حججا يستدل بها على جودة الاستعارة، ومع ذلك تنفر منها النفس، أو يجد حججا يستدل بها على قبح الاستعارة، ومع ذلك تقبل عليها النفس. ولا ريب أنّه في ذلك يلتقي مع الآمدي في أنّ الحكم على جودة الاستعارة أو رداءتها يرجع أكثر ما يرجع إلى الذوق الذي هو وليد المران والدربة وإطالة النظر والتأمل في أقوال الشعراء المجيدين. كتاب العمدة: وفي القرن الخامس الهجري نلتقي بأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني «456 هـ» في كتابه «العمدة» الذي يعدّ أيضا من الدراسات النقدية على أسس بلاغية. ويحدّثنا ابن رشيق في مقدمة كتابه العمدة عن الدافع الذي حفزه ¬

_ (¬1) الوساطة بين المتنبي وخصومه ص: 319 - 320.

على تصنيفه فيقول: «.... فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب، وأوفر حظوظ الأدب، وأحرى أن تقبل شهادته، وتتمثل إرادته، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشعر لحكما» وروي «لحكمة»، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستنزل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم»، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة». «وجدت الناس مختلفين فيه، متخلفين عن كثير منه: يقدمون ويؤخرون، ويقلون ويكثرون، قد بوّبوه أبوابا مبهمة، ولقبوه ألقابا متهمة (¬1)، وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه، وشاهد دعواه، فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه، ليكون «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» «إن شاء الله تعالى». «وعولت في أكثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري خوف التكرار ورجاء الاختصار، إلّا ما تعلق بالخبر، وضبطته الرواية، فإنّه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه، ليؤتى بالأمر على وجهه». «فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه، ولا أحلت فيه على كتاب بعينه، فهو من ذلك، إلّا أن يكون متداولا بين العلماء، لا يختص به واحد منهم دون الآخر، وربما نحلته أحد العرب، وبعض أهل الأدب، تسترا بينهم، ووقوعا دونهم، بعد أن قرنت كل شكل بشكله ورددت كل فرع إلى أصله، وبينت للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه، وكشفت عنه لبس الارتياب به، حتى أعرّف باطله من حقه وأميز كذبه من صدقه» (¬2). ¬

_ (¬1) متهمة بفتح الهاء: مشكوك فيها. (¬2) كتاب العمدة: ج 1 ص 4 - 5.

كتاب الصناعتين

تلك نبذة من مقدمة كتاب «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» توضح غرض ابن رشيق من وراء تصنيفه، والمنهاج الذي رسمه لنفسه في إخراجه، مع بيان مقدار ما له وما لغيره فيه. وما دمنا نتحدث عن نشأة علم البيان والجهود التي أسهمت في تطويره من ملاحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إلى علم بلاغي قائم بذاته، فإنّ موضع اهتمامنا من كتاب العمدة معلّق بالأبواب التي عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان، من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية. حقا إنّه جمع تحت كل باب من هذه الأبواب أقوال السابقين فيه وعرضها عرضا حسنا ييسرها للطالبين، وليس هذا الجهد في حد ذاته بقليل. ولكن من الحق أيضا أنّ له إضافات جديدة في هذه الأبواب تدل على غزارة علمه، ودقّة فهمه، وسلامة ذوقه الأدبي. كتاب الصناعتين: ومن كتب الدراسات النقدية التي قامت على أسس بلاغية، وإن كانت أكثر تخصصا من سابقتها كتاب «الصناعتين- الكتابة والشعر» لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى سنة 395 للهجرة. فأبو هلال في كتاب الصناعتين يدرس البلاغة دراسة دقيقة هي مزيج من علمه الخاص بها وعلم من سبقوه إليها، مع الإكثار من الأمثلة والشواهد. وهو يعني بالصناعتين الكتابة والشعر، فالكتاب ينبئ من عنوانه عن موضوعه الذي يبحث بحثا مستفيضا في أصول هاتين الصناعتين وأدواتهما التي تتضافر على صنع الكاتب والشاعر. والكتاب يشتمل على عشرة أبواب: باب في الإبانة عن موضوع

البلاغة وحدودها، وباب في تمييز جيد الكلام من رديئه، وباب في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ، وباب في البيان عن حسن النظم وجودة الرصف، وباب في ذكر الإيجاز والإطناب، وباب في حسن الأخذ وحل المنظوم، وباب في التشبيه، وباب في ذكر الاسجاع والازدواج، وباب في شرح البديع، وباب في ذكر مبادئ الكلام ومقاطعه. ويندرج تحت كل باب من هذه الأبواب فصول تتراوح من فصل إلى خمسة وثلاثين فصلا. وفي الباب الأول الذي عقده أبو هلال للإبانة عن موضوع البلاغة وحدودها ينوّه بشأن البلاغة، ويقرر أنّ العلم بها ضروري لمعرفة إعجاز القرآن الكريم، ولتربية الذوق الأدبي، والتمييز بين جيّد الكلام ورديئه. وأبو هلال لا يخفي تأثره بالجاحظ وإعجابه بكتابه البيان والتبيين، واقتباسه الكثير منه، ولكنه مع ذلك يشير إلى ما يأخذه على منهجه التأليفي بقوله: «إنّ الإبانة عن حدود البلاغة، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة لا توجد إلّا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير، فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملا على جميع ما يحتاج إليه في صنعة الكلام نثره ونظمه» (¬1). فهذا المأخذ على منهاج الجاحظ التأليفي ورغبته في تلافيه وعلاجه كان أحد الأسباب التي دفعت أبا هلال على تأليف كتاب الصناعتين، أمّا الأسباب الأخرى فهي معرفته بقيمة علم صناعة الكلام، وشعوره بشدّة الحاجة إليه، وتخبط العلماء وتخليطهم فيما راموا منه، ثمّ قلّة الكتب المصنفة فيه، والتي كان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص: 5.

وقد صرّح بأنّه لم يؤلف كتابه على طريقة المتكلمين، وإنّما ألّفه على طريقة صنّاع الكلام من الشعراء والكتاب. والمتصفح لكتاب الصناعتين يرى أنّ المؤلف قد ألّم فيه تقريبا بكل مباحث علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، ولكن مباحث كل علم لا تأتي في موضع معين من الكتاب، وإنّما تأتي في ثناياه وتضاعيفه على حسب مقتضيات المنهاج الذي رسمه أبو هلال لنفسه في تأليفه. ولما كنا نعرض هنا بإيجاز لتاريخ البيان وتطوره حتى صار علما قائما بذاته، فإنّ ما يعنينا من كتاب الصناعتين هو معرفة ما ورد فيه من موضوعات علم البيان وطريقة المؤلف في معالجتها، وهذه الموضوعات هي التشبيه، والاستعارة، والكناية. وقد عقد أبو هلال للتشبيه في كتابه بابا (¬1) من فصلين، تحدّث في أولهما عن حد التشبيه، ووجوه التشبيه المختلفة، وأدوات التشبيه، والطريقة المسلوكة في التشبيه، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها، وإخراج ما لا قوّة له إلى ما له قوة، وتشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر، وغريب التشبيه وبديعه ومليحه، وشرف التشبيه وموقعه من البلاغة. وفي الفصل الثاني تحدّث عن قبح التشبيه وعيوبه، مثل خطأ التشبيه، والتشبيه الكريه، والتشبيه الرديء اللفظ، وبعيد التشبيه، والتشبيه المتنافر. أمّا الاستعارة فعقد لها فصلا (¬2) تكلّم فيه عن: الاستعارة والمجاز، ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين: ص: 238 - 259. (¬2) كتاب الصناعتين: ص 268 - 288.

والغرض من الاستعارة، والاستعارة المصيبة ووقعها، وفضل الاستعارة على الحقيقة، ولا بدّ لكل استعارة ومجاز من حقيقة، ولا بدّ من معنى مشترك بين المستعار والمستعار منه، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، والاستعارة في كلام العرب والنبي والصحابة والأعراب، والاستعارة في أشعار المتقدمين، وفي كلام المحدثين. وقد عدّ أبو هلال الكناية ضمن فنون البديع، وعقد لها فصلا عرّفها فيه وذكر نماذج من الجيد والمعيب منها، مع أنّها من مباحث علم البيان، وليس المهم إلى أي علوم البلاغة قد نسبها، وإنّما المهم أنّه أتى على ذكرها في كتابه. وطريقته في معالجة هذه الموضوعات البيانية ليست طريقة عالم البلاغة المعنيّ بدقائقها وتفاصيلها، وإنما هي طريقة من يمزج البلاغة بالأدب والنقد، وإذا القارئ أمام مزيج ترتاح إليه نفسه، ويستدرجه إلى الاسترسال في تحصيله طلبا للمزيد من المتعة العقلية والأدبية. ... وبعد فلعلنا أدركنا من ثنايا عرضنا التاريخي للبيان منذ نشأة البحث فيه حتى الآن كيف تطور على مرّ العصور، وكيف تضافرت جهود الباحثين فيه تدريجيا على كشف أصوله من تشبيه وحقيقة ومجاز واستعارة وكناية، وكيف أخذت معالم هذه الأصول تتضح وتتلاحق واحدة بعد الأخرى. وقد ظلّ الأمر كذلك حتى ظهر عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري فاقتطف ثمار هذه الجهود واتّخذ منها مادة استعان بها في وضع نظرية علم البيان.

عبد القاهر الجرجاني

عبد القاهر الجرجاني: هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني الإمام النحوي وأحد علماء الكلام على مذهب الأشاعرة. ولد وعاش بجرجان ولم يفارقها حتى توفي سنة 471 للهجرة، وله مؤلفات فيّمة في النحو والصرف والعروض، وإعجاز القرآن، والتفسير، والبلاغة، ولكنه اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابه «أسرار البلاغة» الذي وضع فيه نظرية علم البيان، وكتابه «دلائل الإعجاز» الذي وضع فيه نظرية علم المعاني. وهو لهذا يعدّ بحق واضع أسس البلاغة العربية والمشيد لأركانها، والموضح لمشكلاتها، والذي على نهجه سار المؤلفون من بعده، وأتموا البنيان الذي وضع أسسه. ومن العجيب أنّ الضعف بدأ يدب إلى اللغة في القرن الخامس وهي في أوج نهضتها، وكان أوّل مرض ألّم بها في هذا العصر هو الوقوف عند ظواهر قوانين النحو، ومدلول الألفاظ المفردة والجمل المركبة، والانصراف عن معاني الأساليب، وعدم الاهتمام بمناحي القول، وضروب التجوز والكناية فيه. وكان ذلك ما أشفق منه عبد القاهر على اللغة، فعكف على تأليف «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» اللذين دوّن فيهما علم البلاغة، ووضع قوانين للبيان والمعاني، كما وضعت قوانين النحو عند ظهور الخطأ في الإعراب. ومن مقدمة كتابه «أسرار البلاغة» يشعر القارئ أنّ مدرسة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره وغطّت على مدرسة المعاني، ومن أجل ذلك حاول هو بكتابه تأييد المعاني وبيان أثرها ودورها في بلاغة القول. وعلى هذا فالذي يعنينا من كتبه فيما نحن بسبيله هنا هو كتاب

«أسرار البلاغة» الذي وضع فيه نظرية علم البيان بقواعده وشعبه وتفريعاته الكثيرة. والحق يقال إنّه فريد في بابه، فهو بحث في البيان العربي غير مسبوق ولا ملحوق، وإنّه ليدل فيما يدل على ألمعية صاحبه، وغزارة علمه، وسلامة ذوقه، وعقليته الجبارة المبتكرة. و «أسرار البلاغة» باستثناء ما ورد فيه عن الجناس، والسجع، والاتفاق في الأخذ والسرقة عند الشعراء، هو بحث أصيل عميق في أصول علم البيان من حقيقة ومجاز، واستعارة، وتشبيه. وإذا كان لم يتكلم فيه عن الكناية، فإنّه قد استوفى الكلام عنها في كتابه الآخر «دلائل الإعجاز»، كما عرض فيه أيضا لبعض جوانب من الاستعارة، وللمجاز الحكمي «العقلي» الذي اهتدى إليه بذوقه الكلامي وعدّه ضربا جديدا من المجاز. وعبد القاهر ينظر إلى المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية على أنّها عمد الإعجاز وأركانه، والأقطاب التي تدور البلاغة عليها. وعنها يقول: «ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلّا ذكرها، وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية، وخصوصا الاستعارة والمجاز، فإنّك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون، وأوّل ما يوردون» (¬1). وليس من غرضنا هنا التوسع بعرض مجمل آراء عبد القاهر في مباحث علم البيان فهذا أمر يطول شرحه، وإن كنّا سنعرض فيما بعد لبعض آرائه عند دراستنا التفصيلية لفنون البيان من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية. إنّما الغرض الآن أن نبين المنهاج الذي رسمه لنفسه في البحث ¬

_ (¬1) انظر دلائل الإعجاز. ص: 329 - 330.

والذي يكاد يكون أوّل منهاج علمي منظم في البلاغة، ثمّ نشفع ذلك بذكر الجوانب التي تطرق لبحثها في كل موضوع، الأمر الذي يدل على سعة علمه وتفوقه على غيره، وأخيرا نشير بإيجاز إلى طريقته في التأليف. أمّا عن منهاجه في البحث فاستمع إليه يعرضه في كلماته: «واعلم أنّ الذي يوجبه ظاهر الأمر، وما يسبق إليه الفكر: أن نبدأ بجملة من القول في الحقيقة والمجاز، ونتبع ذلك القول في التشبيه والتمثيل، ثمّ ننسق ذكر الاستعارة عليهما، ونأتي بها في أثرهما، وذلك أنّ المجاز أعم من الاستعارة، والواجب في قضايا المراتب: أن نبدأ بالعام قبل الخاص. والتشبيه كالأصل في الاستعارة، وهي شبيهة بالفرع له أو صورة مقتضبة من صوره. إلّا أنّ ههنا أمورا اقتضت أن تقع البداية بالاستعارة وبيان صدر منها، والتنبيه على طريق الانقسام فيها، حتى إذا عرّف بعض ما يكشف عن حالها، ويقف على سعة مجالها، عطف عنان الشرح إلى الفصلين الآخرين، فوفّي حقوقهما، وبيّن فروقهما، ثمّ ننصرف إلى استقصاء القول في الاستعارة» (¬1). ذلك هو المنهاج الذي أخذ به نفسه، وجمع فيه لأوّل مرة مباحث علم البيان بعضها إلى بعض، ورتّبها من حيث الكلام عنها ترتيبا منطقيا منظما، يبدأ فيه بالعام قبل الخاص، وبالأصل يتلوه الفرع، مع العناية بتوضيح ما بين التشبيه والتمثيل من فروق، وباستقصاء القول في الاستعارة. أمّا الجوانب التي تطرق لبحثها في كل مبحث من مباحث علم البيان فلا سبيل هنا إلى سردها جملة لكثرتها، ولكنا نكتفي بذكر طائفة منها ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة ص: 21 - 22.

لبيان أهميتها والدلالة بها على عقلية عبد القاهر التي تنحو منحى الابتكار والإبداع. 1 - الحقيقة والمجاز: حدّ كلّ منهما، المجاز العقلي واللغوي والفرق بينهما، معنى المجاز وحقيقته، وكونه أعم من الاستعارة، ومكان الاستعارة منه، تقسيم المجاز إلى لغوي وعقلي، واللغوي إلى الاستعارة، والمجاز المرسل، كون المجاز العقلي في الجمل لا المفردات، الحذف والزيادة، وهل هما من المجاز أم لا. 2 - التشبيه: التشبيه وأقسامه، وجوه الشبه المنتزعة من شيء أو أشياء، التشبيه المتوقف على دقّة الفكر، التفصيل لدقائق التشبيه المركب، التشبيه في الهيئة التي تقع عليها الحركات، الجمع بين الشكل وهيئة الحركة في التشبيه، قلب التشبيه، القلب أو العكس في طرق التشبيه، القياس في التشبيه، تشبيه الحقيقة والمجاز، جعل الفرع أصلا في التشبيه وعكسه، تأثير اختلاف الجنس بين المشبه والمشبه به. 3 - التمثيل: الفرق بين التشبيه والتمثيل: التشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا، وجوه الشبه في جمل من التمثيل، التمثيل في المدح والذم والحجاج والافتخار والاعتذار والوعظ، الفرق بين تأثر الكلام في التمثيل وعدمه، أسباب قوّة تأثير التمثيل وعلله النفسية بسبب تأثير التمثيل في ضربيه، تعليل في فلسفة التمثيل، جعل التمثيل الشيء كضده أو عدمه، مآخذ التمثيل من الموجودات، الفرق بين التمثيل الدقيق والتعقيد. 4 - الاستعارة: حدها، أقسامها، الاستعارة المفيدة وأقسامها، الاستعارة المختلفة الجنس والأنواع، الاستعارة القريبة من الحقيقة، التفرقة

بين نوعي الاستعارة في الجنس، وجه الشبه العقلي في الاستعارة، الاستعارة والمبالغة في التشبيه، وقوع الاسم مستعارا بحسب الحس وهو ليس كذلك، بيان أنّ الاستعارة ليست من التخييل، بناء الاستعارة والتخييل على تناسي التشبيه، الفرق بين التشبيه والاستعارة. ومن جوانب الاستعارة الأخرى التي ذكرها في كتابه دلائل (¬1) الإعجاز: شرح معنى الاستعارة، الاستعارة التمثيلية، فضل الاستعارة والتمثيل، أمثلة من بديع الاستعارات، المستعار هو معنى اللفظ لا اللفظ نفسه، لا يعار اللفظ إلّا بعد أن يعار المعنى. 5 - الكناية: تكلّم عبد القاهر في كتابه «دلائل (¬2) الإعجاز» عن الجوانب التالية من الكناية: الكناية والاستعارة، السبب في قبح الكناية، شعب الكناية وصورها ليس لها حد ولا غاية، في الكناية إثبات يصحبه البرهان، الاستعارة والكناية والمجاز من عمد البلاغة وأركانها. أمّا الطريقة التي سار عليها عبد القاهر في تأليف كتابيه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» وامتاز بها على كتب البيان الأخرى فهي طريقة تجمع بين العلم والعمل الذي يثبّت به العلم. أما العلم فيتمثل في القواعد الكلية، وأمّا العمل فيتمثل في الأمثلة والشواهد. فإذا كانت القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، فإنّ الأمثلة والشواهد صور تفصيلية لها. تلك هي طريقة عبد القاهر: يذكر القاعدة الكلية ثمّ يردفها ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز. ص: 45 - 49. (¬2) انظر الدلائل ص: 44، 176، 205، 272، 280، 330.

الزمخشري

بالأمثلة والشواهد التي تفصّلها وتوضحها، إدراكا منه بأنّ التعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة، إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل. وبهذه الطريقة امتاز كتاباه على كتب البلاغة الأخرى التي اقتصرت على سرد القواعد بعبارات اصطلاحية تأباها بلاغة الأساليب العربية، والتي لا تذكر من الشواهد والأمثلة إلّا القليل النادر الذي أدلى به السابق إلى اللاحق. الزمخشري: ثمّ ظهر بعد عبد القاهر الجرجاني عالم آخر كان له أثر كبير في ميدان البلاغة العربية ونهضتها. ذلك هو العالم المعتزلي جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 للهجرة، والذي ضرب بسهم وافر في علوم العربية والتفسير، وله فيها المؤلفات القيّمة التي تشهد بفطنته وسعة علمه. ومن مؤلفاته التي وصلت إلينا «المفصل» في علم النحو، و «مقات الزمخشري» في التصوف، و «أساس البلاغة» وهو معجم لغوي يورد فيه المعاني اللغوية للكلمة، موضحا إياها في عبارات، ومردفا ذلك بمعانيها المجازية، ولكن أهم كتاب اشتهر به منذ عصره هو «الكشاف» الذي قدّم فيه صورة رائعة لتفسير القرآن، وأشاد به حتى أهل السنة على الرغم من اعتزال مؤلفه. واهتمام المعتزلة بتفسير الإعجاز البلاغي للقرآن اهتمام قديم، فقد كتب فيه من رجالهم الجاحظ والرماني وعبد الجبار المعتزلي ثمّ الزمخشري الذي أقبل بشغف على الدراسات البلاغية ولا سيما كتابات عبد القاهر

الجرجاني في «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة». أجل لقد تتلمذ على عبد القاهر في هذين الكتابين وعمق في فهمهما واستيعابهما إلى الحد الذي جعله يؤمن بأنّ المعرفة بالبلاغة وأساليبها لا تكشف فقط عن وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن، بل تكشف أيضا عن خفايا معانيه وأسرارها. وفي مقدمة «الكشاف» يقرر أنّ تفسير القرآن لا يكفي فيه أن يكون المفسر من أئمة الفقه، أو النحو، أو اللغة، أو علم الكلام، أو القصص والإخبار. وإنّما ينبغي فيمن يتصدى له أن يكون بارعا في علمين مختصين بالقرآن هما: علم المعاني، وعلم البيان، وهذان، في نظره، أهم عدّة لمن يريد أن يفسر القرآن، إذ بدونهما لا تستقيم له الدلالات، ولا تتضح له الإشارات، ولا لطائف ما في الذكر الحكيم من الجمال المعجز الذي عنت له وجوه العرب وخروا له ساجدين. إذن فالتفسير عنده ليس قاصرا على معرفة معاني القرآن فحسب، وإنّما هو أيضا بيان لأسرار إعجازه، بل إنّ معرفة معانيه لا تتم إلّا لمن تمّت له آلة البلاغة، وعرف وجوه الأساليب وخصائصها المعنوية، وأدرك الأسباب المعينة على تمييز صور الكلام البيانية. ... والذي يدرس بإمعان تفسير «الكشاف» يخرج منه بحقيقتين: إحداهما أنّه استوعب كل ما كتبه عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» قبل أن يشرع في تفسيره. والحقيقة الثانية أنّ «الكشاف» هو في الواقع خير تطبيق على كل ما اهتدى إليه عبد القاهر من قواعد المعاني والبيان، فقد اتّخذ الزمخشري من آي الذكر الحكيم أمثلة وشواهد يوضح

بها كل قواعد عبد القاهر البلاغية، سواء ما اتصل منها بعلم المعاني أو علم البيان. ولم تقف جهود الزمخشري في البلاغة عند حد تطبيق آراء عبد القاهر في تفسيره تطبيقا مستقصيا، ولكنه وصل هذا التطبيق بكثير من آرائه التي تدل على تعمقه، وفطنته في تصوير الدلالة البلاغية، وإحاطته بخواص العبارات والأساليب. ولو أنّه اكتفى بذلك لكان حسبه مساهمة في تطوير علمي المعاني والبيان، ولكنا نراه يضيف إلى مباحث هذين العلمين ما عنّ له من آراء، ويستكمل كثيرا من شعبها ودقائقها ومقاييسها. ولما كان بحثنا هنا هو في المحل الأول عن علم البيان، فإنّ الجديد الذي أضافه الزمخشري إلى مباحثه كثير. وتتمثل إضافاته إليه في استكمال صور الكناية والاستعارة والمجاز المرسل والمجاز العقلي، وإحكام وضع قواعدها إحكاما دقيقا. وإذا كان عبد القاهر هو مؤسس علم المعاني وعلم البيان، وهو من استنبط من جزئيات كلا العلمين أكثر قواعده فإنّ الزمخشري هو الذي أكمل قواعدهما، وهي وإن جاءت مفرقة في تضاعيف تفسيره، فإنّها دائما مقرونة بأمثلة من القرآن الكريم توضحها وتكشف عن دقائقها. وهكذا بمنهاج عبد القاهر الذي أجملت أهم عناصره آنفا، وبطريقته التعليمية الواضحة، وكذلك بتطبيق الزمخشري لآراء عبد القاهر في تفسيره «الكشاف» وبالإضافات الجديدة التي استكمل بها قواعده- أقول بكل ذلك استطاع الرجلان أن يضعا ويكملا قواعد علم المعاني وعلم البيان، وكل ما هناك أنّه بقي من يستقصي هذه القواعد عندهما وينظمها في كتاب يجمع متفرقها ويضم منثورها.

السكاكي

وكان ذلك العمل على يد السكاكي الذي دخلت البلاغة به في طور الجمود، كما سنرى. السكاكي: هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى سنة 626 للهجرة، احترف صناعة المعادن حتى الثلاثين من عمره، ثمّ خطر له أن يخلص للعلم فتفرّغ له وأكبّ على دراسة الفلسفة والمنطق والاعتزال والفقه وأصوله، وعلوم اللغة والبلاغة حتى أتقنها. وللسكاكي مؤلفات مختلفة، منها كتاب «مفتاح العلوم» الذي يعدّ أهم كتبه، وقد قسّمه ثلاثة أقسام رئيسية، خص الأول منها بعلم الصرف والاشتقاق بأنواعه، والثاني بعلم النحو، وخص القسم الثالث بعلم المعاني وعلم البيان وألحق بهما مبحثا عن البلاغة والفصاحة، وآخر عن المحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية. وشهرة السكاكي العلمية ترجع في الواقع إلى هذا القسم من كتابه الذي أعطى فيه للمعاني والبيان والفصاحة والبلاغة والبديع الصيغة النهائية التي عكف عليها العلماء من بعده يدرسونها ويشرحونها مرارا وتكرارا. وما أعطاه لعلوم البلاغة ليس ابتكارا خالصا له، وإنّما هو تلخيص دقيق يجمع بين أفكاره الخاصة وأفكار البلاغيين من قبله. وقد صاغ ذلك كله صياغة مضبوطة محكمة بقدرته المنطقية في التعليل والتجريد والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب. وأهم الكتب التي اعتمد عليها في النهوض بهذا العمل كتاب «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» للفخر الرازي المتوفى سنة 606 للهجرة، وكتابا «دلائل

الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني، وكتاب «الكشاف» للزمخشري. وقد سبقه الفخر الرازي إلى تلخيص كتابي عبد القاهر، ولكن تلخيص السكاكي أدق وأشمل. والمقارنة بين التلخيص تظهر أنّ السكاكي كان أكثر ضبطا وتنظيما للمسائل، مع ترتيب المقدمات وإحكام القياس. ومع ذلك فقد خلا تلخيصه من تحليلات عبد القاهر والزمخشري التي تبهر القارئ، وتحولت البلاغة في تلخيصه إلى علم طغت فيه القواعد والقوانين على روح البيان وومضاته التي تمتع النفس. وهو في سبيل استنباط القواعد والقوانين قد استخدم المنطق بأصوله وألفاظه وأسلوبه الجاف الذي لا يحوي أي جمال. ولا عجب في ذلك فقد كان همه أن يقنن البلاغة ويقعّدها كسائر العلوم الأخرى، وهذا أمر يستعان عليه بالمنطق. وما يعنينا هنا هو كلام السكاكي عن علم البيان، وقد عرفه بقوله: «إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه». وفي مقدمة تلخيصه لقضايا علم البيان تعرض للكلام عن الدلالات وكان في كلامه عنها متأثرا برأي الفخر الرازي فيها. وقد قسمها إلى الدلالة الوضعية للألفاظ، والدلالة العقلية أو الالتزامية، وعن الدلالة الأولى يقول إنّه لا يجوز إرجاع الفصاحة والبلاغة إلى الدلالة اللفظية، غير أنّه قد يلابسها ما يفيد الكلام جمالا وزينة. أمّا الدلالة العقلية أو الالتزامية فهي التي تجري في الصور البيانية وهي تختلف عن الدلالة الوضعية.

وهذه الدلالة العقلية أو الالتزامية إمّا أن تكون من باب دلالة اللازم على الملزوم كدلالة كثرة الرماد على الكرم في الكناية، وإما من باب دلالة الملزوم على اللازم، أي دلالة المسبب على السبب كقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فالرزق لا ينزل من السماء ولكن الذي ينزل مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا، فالرزق هو المسبب أو الملزوم الذي دلّ على السبب أو اللازم، وذلك على نحو ما هو معروف في المجاز المرسل. ثمّ يخلص من هذه المقدمة التي يغلب عليها أسلوب المنطق إلى أن علم البيان يتناول التشبيه والمجاز والكناية. ومباحث التشبيه عند السكاكي تتناول أربعة موضوعات هي: طرفاه، ووجهه، والغرض منه، وأحواله في القرب والغرابة، والقبول والرفض. فطرفا التشبيه إما أن يدركا بالحس كتشبيه الوجه بالقمر، وإما أن يدركا بالخيال كتشبيه شقائق النعمان (¬1) على أغصانها بأعلام ياقوت على رماح من زبرجد. فالتشبيه الخيالي هو المعدوم الذي فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها يدرك بالحس، فإنّ الأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية مما لا يدرك بالحس، لأنّه لا وجود لها في عالم الواقع، ولكن المادة التي تركب منها التشبيه، أي الأعلام والياقوت والرماح والزبرجد كل منها محسوس بالبصر. وإما أن يدرك طرفا التشبيه بالوهم كما إذا قدرنا ¬

_ (¬1) شقائق النعمان: نور وزهر أحمر، أضيف إلى النعمان بن المنذر آخر ملوك الحيرة، لأنّه خرج مرة إلى ظاهر الحيرة فرأى هذا النوع من الزهر، فقال: ما أحسنه! احموه، فكان أول من حماه فنسب إليه.

صورة وهمية للموت وشبهناها بالمخلب أو الناب، وإما أن يدركا بالعقل كتشبيه العلم بالحياة، وإما أن يدركا بالوجدان كاللذة والألم والشبع والجوع. وهذه تقسيمات للتشبيه واستحدثها السكاكي متأثرا بكلام الفلاسفة وعلماء الكلام في صور الإدراك. ... وأقسام وجه الشبه عند السكاكي كثيرة: فوجه الشبه عنده إمّا أن يكون واحدا أو غير واحد، وغير الواحد إما أن يكون في حكم الواحد لكونه هيئة مركبة أو لا يكون. والواحد إما أن يكون حسيا أو عقليا، ولا بد في الحسي من أن يكون طرفاه حسيين. أما وجه الشبه العقلي فيجري في جميع صور التشبيه، فقد يكون طرفاه حسيين. كتشبيه الشجاع بالأسد في الجراءة، وقد يكون طرفاه عقليين كتشبيه الجهل بالموت في عدم النفع، وقد يكون أحدهما حسيا والآخر عقليا كتشبيه العلم بالنور في النفع والفائدة. وهكذا يمضي السكاكي في تقسيم وجه الشبه أقساما أخرى قد نعرض لها عند الكلام عن التشبيه تفصيليا. ... ثمّ يتحدّث السكاكي عن أغراض التشبيه، ويقسمها إلى ما يعود إلى المشبه أو إلى المشبه به. ويقسم الأول إلى بيان حال، وبيان مقدار حال، وبيان إمكان حال، وزيادة تقرير حال، وتزيين، وتقبيح واستطراف. أما الأغراض التي تعود إلى المشبه به فمرجعها إلى إيهام كونه أتم من المشبه في وجه الشبه، أو بيان أنّه أهم عند مريد التشبيه.

ولا يفوته هنا أن يبدي رأيه في التشبيه التمثيلي مقررا أنّ وجه الشبه فيه ينبغي أن يكون مركبا، أي صورة منتزعة من متعدد وأن يكون وهميا اعتباريا، وهو في ذلك يخالف عبد القاهر الذي يشترط أن يكون وجه الشبه في التشبيه التمثيلي مركبا وأن يكون عقليا، والعقلي عنده يشمل الوهمي. ... وعن أحوال التشبيه من حيث القرب والغرابة، والقبول والرفض، يستوحي السكاكي في ذلك رأي عبد القاهر، فيقول: إن إدراك الشيء مجملا أسهل من إدراكه مفصلا، وإنّ حضور ما يتردد على الحس أقرب من حضور ما لا يتردد عليه، وإنّ الشيء مع ما يناسبه أقرب حضورا منه مع ما لا يناسبه، وإنّ استحضار الأمر الواحد أيسر من استحضار غير الواحد، وإنّ ميل النفس إلى الحسيات أتم من ميلها إلى العقليات، وإنّ النفس لما تعرف أقبل منها لما لا تعرف، وإنّ الجديد المستطرف عندها ألذ من المعاد المكرر. وعلى ضوء هذه الأصول يقول: إنّ من أسباب قرب التشبيه أن يكون وجهه أمرا واحدا، أو يكون المشبه به قريبا في الصورة من المشبه، أو يكون حاضرا في الخيال بجهة من الجهات. أمّا غرابته فمن أسبابها أن يكون وجه الشبه مركبا، أو يكون المشبه به بعيد الشبه عن المشبه، أو يكون وهميا أو مركبا عقليا. أمّا التشبيه المقبول فالأصل فيه أن يكون صحيحا، وألّا يكون مبتذلا. وكذلك يعرض السكاكي لصور التشبيه البليغ، ويتابع عبد القاهر في إدخال صور التجريد المختلفة في التشبيه كقولك عن صديق أنست بحديثه «وجدت في حديثه نسمة عطرة» فقد جردت من حديث الصديق

نسمة متصفة بالعطر كأنّها غيره، مع أنّ حديث الصديق هو هي. وكقول الشاعر: أعانق غصن البان من لين قدها … وأجني جنى الورد من وجناتها فالشاعر هنا جرّد من قدّ الحبيبة غصن بان لين، ومن وجنتيها وردا. فهو بدل أن يعبر بالتشبيه الصريح فيقول: قدّ الحبيبة كغصن البان لينا، ووجناتها كالورد، عبّر عنه بأسلوب التجريد الذي عدّه السكاكي صورة من صور التشبيه. وأخيرا يختم السكاكي كلامه عن التشبيه ذاكرا أنّه قد يشبّه الضد بضده على سبيل التهكم، كتشبيه الجبان بالأسد، والبخيل بحاتم مثلا. ... بعد ذلك ينتقل السكاكي إلى الحديث عن المجاز ويجره ذلك أولا إلى تعريف الحقيقة بأنّها: «الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع» واحترز بقوله: «من غير تأويل في الوضع» حتى لا تدخل الاستعارة. ثمّ يخلص من ذلك إلى تعريف المجاز بأنّه: «الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع». ويحترز بقيد «التحقيق» من خروج الاستعارة، وبقيد «استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها» من استعمال الكلمة لغة أو شرعا أو عرفا، وبقيد «مع قرينة مانعة عن إرادة معناها» من الكناية. ويفرق بين المجاز والمشترك اللغوي، بأنّ المجاز يلاحظ فيه المعنى

الأصلي، أمّا المشترك فيدل على المعنيين معا، ويتخصص بالقرائن وهي دلالة وضعية. ومن تعريف المجاز ينتقل إلى أقسامه، فيقسمه قسمين أساسيين: مجازا لغويا في المفرد، ومجازا عقليا في الجملة ثمّ يفرّع هذين القسمين أقساما أخرى، منها المفيد الخالي عن المبالغة في التشبيه وهو المجاز المرسل، ومنها المفيد المتضمن للمبالغة في التشبيه، وهو الاستعارة، وهي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به. ... بعد ذلك يأخذ السكاكي في تقسيم الاستعارة إلى تصريحية وهي ما صرّح فيه بلفظ المشبه به، وإلى مكنية وهي ما ذكر فيها لفظ المشبه، ثمّ يقسمها إلى أصلية أو تبعية، وإلى مرشحة أو مجردة. وبعد الكلام مفصلا عن كل نوع من أنواع الاستعارة، يعود إلى استيفاء بقية أنواع المجاز فيتكلم عن مجاز الحذف من مثل «وجاء ربك» أي أمر ربك، ومجاز الزيادة من مثل «ليس كمثله شيء» إذ زيدت الكاف في الآية، والمجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، كقول المتنبي في وصف ملك الروم بعد هزيمة سيف الدولة له: ويمشي به العكاز في الدير تائبا … وقد كان يأبى مشي أشقر أجردا فالفعل «يمشي» هنا قد أسند إلى «العكاز» أي إلى غير فاعله، لأنّ العكاز لا يمشي وإنّما الذي يمشي هو صاحب العكاز، ولكن لما كان

العكاز سببا في المشي جاز إسناد الفعل إليه. ... وأخيرا ينتقل السكاكي إلى الكناية فيعرّفها بأنّها: «ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه، لينتقل من المذكور إلى المتروك». ويلاحظ أنّ المتروك قد يكون قريبا ظاهرا، وقد يكون بعيدا خفيا، ولهذا قال إنّ الكتابة تتفاوت من تعريض إلى تلويح، ورمز، وإيحاء وإشارة. ثمّ يعرض إلى التفريق بين الكناية والمجاز من وجهين: أحدهما أنّ الكتابة لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها، فالخنساء عند ما ترثي أخاها صخرا «بأنّه كثير الرماد» كناية عن جوده وكرمه، فإنّ هذه الكناية لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي بأنّ أخاها صخرا كثير الرماد حقيقة ومن غير تأويل. أمّا المجاز فيمنع من إرادة المعنى الحقيقي، فلا يجوز أن يكون المراد من قولك: «كلمت أسدا» الأسد الحقيقي. والوجه الثاني أنّ الكناية بنيت على الانتقال من اللازم إلى الملزوم على حين بني المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم. ويقسم السكاكي الكناية بحسب المراد منها إلى ثلاثة أقسام: كناية عن صفة، وكناية عن موصوف، وكناية عن نسبة. تلك خلاصة لما أورده السكاكي في كتابه «مفتاح العلوم» عن مباحث علم البيان التي أكثر فيها من التقسيمات والتفريعات، وخرج بها من جو البلاغة الواضحة السمحاء إلى ميدان المنطق المعقد الجاف. ... وعلى طريق تتبعنا لنشأة علم البيان وتطوره نلتقي بعد السكاكي

ابن مالك

بطائفة من علماء البلاغة الذين انحرفوا في دراستها عن طريقة السكاكي، أو ساروا عليها تلخيصا لمجهوده فيها. ... ابن مالك: ومن أولئك العلماء بدر الدين بن مالك المتوفى سنة 686 للهجرة، وصاحب كتاب «المصباح في علوم المعاني والبيان والبديع»، وكتابه هذا هو في الواقع تلخيص لكتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي، مع تجريده من تعقيداته المنطقية والكلامية والفلسفية، ولعلّ التغيير الوحيد الذي أحدثه هو نقل مبحث البلاغة والفصاحة من ذيل علم البيان إلى فاتحة مختصرة أو تلخيصه. وقد جرى على رأي السكاكي في النظر إلى علمي المعاني والبيان على أنّهما مرجع البلاغة، وإلى الفصاحة على أنّها مرجع المحسنات البديعية، ومع اعترافه بأنّ هذه المحسنات توابع للمعاني والبيان فإنّه جعلها علما مستقلا سماه «علم البديع» وبذلك مهّد لأن تصبح البلاغة العربية متضمنة ثلاثة علوم. التنوخي: ومنهم التنوخي محمد بن محمد بن عمرو المتوفى سنة 692 للهجرة، وصاحب كتاب «الأقصى القريب في علم البيان». والتنوخي هذا ممن انحرفوا عن طريقة السكاكي والزمخشري وعبد القاهر الجرجاني في تقسيم البلاغة إلى علوم، لكل منها مباحثه الخاصة التي تميزه عن غيره. وقد نحا التنوخي في كتابه منحى ابن الأثير من حيث إطلاق اسم البيان على جميع

ابن الأثير

مباحث البلاغة من غير فصل بينها. أمّا من حيث مباحث علم البيان التي عرض لها في كتابه فلم تتجاوز الاستعارة والتشبيه. وكلامه عن الاستعارة موجز يقف فيه عند ما سماه السكاكي الاستعارة التصريحية، وهي ما صرح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه. أمّا الاستعارة المكنية والتي هي قسيم التصريحية فلم يتعرض لها في كتابه. وقد أطال في سرد أمثلة التشبيه وبيان أنواعه، وبهذا نال من اهتمامه أكثر مما نالت منه الاستعارة. ابن الأثير: ومن أولئك العلماء أيضا ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة 637 من الهجرة، وصاحب كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». وهو ممن انحرفوا في دراسة البلاغة عن طريقة السكاكي، والذي تتسع عنده كلمة «علم البيان» لتشمل كذلك مباحث المعاني والبديع. وقد بنى ابن الأثير كتابه على مقدمة ومقالتين: المقدمة تعالج أصول علم البيان، والمقالة الأولى في الصناعة اللفظية، والمقالة الثانية في الصناعة المعنوية. وما يعنينا هنا من كتابه هو محاولة التعرف على المساهمة العلمية التي أسهم بها في تطوير مباحث علم البيان، وهذه المباحث التي عالجها في كتابه وعدّها من الصناعة المعنوية هي: الاستعارة والمجاز والتشبيه والكناية والتعريض.

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلامه عن هذه المباحث ينقصه التنظيم والتبويب، فالحديث عن هذه الفنون البيانية يأتي عنده متداخلا على حسب ما تستدعيه طبيعة البحث. ومع هذا فإنّ الدارس لمباحث علم البيان في كتاب المثل السائر يخرج منه بصورة شاملة واضحة لهذه المباحث البيانية، وبصورة أخرى لمنهاج ابن الأثير في البحث، هذا المنهاج الذي يجمع فيه بين علمه الدقيق بأصول البيان العربي وبين النقد والتحليل. وإذا انتقلنا الآن إلى عرض كلامه في مباحث علم البيان فإننا نراه بدأ أوّل ما بدأ بالاستعارة ممهدا لها بحديث عن المجاز، فالاستعارة عنده من أوصاف الفصاحة والبلاغة العامة التي ترجع إلى المعنى، وهي ضرب من المجاز الذي هو قسمان: توسع في الكلام وتشبيه. ولا يكاد يذكر التشبيه حتى يستطرد إلى الكلام عنه فيقسمه تقسيما أوليا إلى تشبيه تام وتشبيه محذوف مع تعريف كليهما وتوضيحه بالأمثلة. ولا ينتهي من ذلك حتى يبدأ فيقسم التشبيه تقسيما آخر، من حيث ذكر أداة التشبيه وحذفها، إلى تشبيه مظهر وتشبيه مضمر. وهنا يضطره البحث إلى التفريق بين التشبيه المضمر والاستعارة، فالتشبيه المضمر يحسن إظهار أداة التشبيه فيه، أمّا الاستعارة فلا يحسن إظهار أداة التشبيه فيها، أي أنّها لا تكون إلّا بحيث يطوي ذكر المستعار له. فالتشبيه المضمر من مثل «زيد أسد» إذا أظهرت الأداة فيه وقيل: زيد كالأسد، حسن ظهورها، ولم تقدح في الكلام الذي أظهرت فيه، ولا تزيل عنه فصاحة ولا بلاغة. وهذا بخلاف الاستعارة فإنّه لا يحسن فيها ظهور أداة التشبيه، ومتى أظهرت أزالت عن ذلك الكلام ما كان متصفا به من جنس فصاحة وبلاغة. فقول الشاعر:

فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت … وردا، وعضت على العنّاب بالبرد (¬1) عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به، وهو من باب الاستعارة. فإذا أظهرنا المستعار له والأداة صرنا إلى كلام غث، وذاك أنا نقول: فأمطرت دمعا كاللؤلؤ، من عينين كالنرجس، وسقت خدا كالورد، وعضت على أنامل مخضوبة كالعناب، بأسنان كالبرد. وينتقل من ذلك إلى ذكر سبب تسمية الاستعارة، وبيان حقيقتها، وميزتها على التشبيه المضمر. ثمّ يعود إلى التشبيه استيفاء للكلام عنه، فيقسم المضمر منه خمسة أقسام من حيث تقدير أداة التشبيه. فإذا ما فرغ من ذلك نراه يشير إلى تفرقة علماء البيان بين التشبيه والتمثيل، مع أنهما في رأيه شيء واحد، لا فرق بينهما في أصل الوضع، إذ يقال: شبهت هذا الشيء بهذا الشيء، كما يقال مثلته به. وينتقل بعد ذلك إلى بيان فائدة التشبيه من الكلام مقررا أنّ من محاسنه مجيئه مصدريا، كقولنا: أقدم إقدام الأسد، وفاض فيض البحر، وكقول أبي نواس في وصف الخمر: وإذا ما مزجوها … وثبت وثب الجراد وإذا ما شربوها … أخذت أخذ الرقاد أي وثبت كوثب الجراد، وأخذت بشاربيها كأخذ الرقاد. ¬

_ (¬1) العناب بضم العين وتشديد النون: نوع من الثمر أحمر اللون. والبرد بفتح الباء والراء: شيء أبيض ينزل من السحاب يشبه الحصى، ويسمى حب الغمام، وحب المزن، وتشبه به الأسنان عادة لشدة صفاء بياضه.

ومن بيان فائدة التشبيه يستطرد إلى القول بأنّ تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر لا يخلو من أربعة أقسام: إما تشبيه معنى بمعنى، كقولنا: زيد كالأسد، وإمّا تشبيه صورة بصورة، كقوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، وإمّا تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، (¬1) وإمّا تشبيه صورة بمعنى، كقول أبي تمام: وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا … فتك الصبابة بالمحب المغرم فشبه فتكه بالمال والأعداء، وذلك صورة مرثية، بفتك الصبابة وهو فتك معنوي. وعنده أن أبلغ هذه الأقسام الأربعة هو تشبيه معنى بصورة لتمثيله المعاني الموهومة أو المتخيلة بالصور المشاهدة، وأنّ ألطف هذه الأقسام هو تشبيه صورة بمعنى، لأنّ فيه نقل صورة إلى غير صورة. وتقسيمه السابق للتشبيه هو تقسيم له من حديث المعنى، ولهذا نراه يقسمه مرة أخرى من حيث اللفظ أقساما أربعة أيضا هي: تشبيه مفرد بمفرد، وتشبيه مركب بمركب، وتشبيه مفرد بمركب، وتشبيه مركب بمفرد، موضحا كل ذلك بالأمثلة. وهو يعني بتشبيه مفرد بمفرد تشبيه شيء واحد بشيء واحد، كما يعني بالمركب تشبيه شيئين بشيئين فما فوقهما، كقول بعضهم في الخمر: وكأنّها وكأن حامل كأسها … إذ قام يجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقط وجهها … بدر الدجى بكواكب الجوزاء ¬

_ (¬1) القاع والقيعة بكسر القاف: المستوى من الأرض الذي لا ينبت.

فقد شبه الشاعر هنا ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء: شبه الساقي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب. ... بعد ذلك ينتقل ابن الأثير إلى الحديث عن الكناية والتعريض في موضع آخر من كتابه ذاكرا في مستهل حديثه أنّ علماء البيان من أمثال الغانمي وأبي هلال العسكري وابن سنان الخفاجي قد خلطوا الكناية بالتعريض، ولم يفرقوا بينهما، ولم يعرّفوا كليهما بتعريف يميزه عن الآخر. وقبل أن يتعرض هو لتعريف كل منهما يورد تعريف علماء أصول الفقه للكناية وهو «أنّها اللفظ المحتمل»، أي أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه. ويعقب ابن الأثير على هذا التعريف بأنّه تعريف فاسد، إذ ليس كل لفظ يدل على المعنى وعلى خلافه بكناية، فقد يدل اللفظ على المعنى وعلى خلافه، وليس بكناية. وتمهيدا لتحديد مفهوم الكناية عنده يقول ابن الأثير: «إنّ الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين .... وأمّا التشبيه فليس كذلك، ولا غيره من أقسام المجاز، لأنّه لا يجوز حمله إلّا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى. ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد أسد، لا يصح إلّا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنّا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأنّ زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع، والذنب، والوبر، والأنياب والمخالب، وإذا كان الأمر كذلك فحدّ الكناية الجامع لها هو أنّها كل لفظة دلّت على معنى يجوز حمله على جانب الحقيقة

والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» (¬1)، مثال ذلك قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فكني بذلك عن النساء والوصف الجامع بينهما هو التأنيث، فالمعنى هنا يجوز حمله على جانب الحقيقة، كما يجوز حمله على المجاز. ثمّ يعرض ابن الأثير بعد ذلك لاشتقاق لفظة «الكناية» مقررا أنّها قد تكون مشتقة من لفظة «الكنية» أو من الستر، إذ يقال كنيت الشيء إذا سترته. كما يقرر أنّ الكناية ليست نوعا مستقلا من المجاز، وإنّما هي جزء من الاستعارة، لأنّ الاستعارة لا تكون إلّا بحيث يطوى المستعار له، وكذلك الكناية فإنّها لا تكون إلّا بحيث يطوى ذكر المكنّى عنه. ونسبتها إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فيقال: كل كناية استعارة وليس كل استعارة كناية. هذا فرق بينهما، وفرق آخر هو أنّ الاستعارة لفظها صريح، والصريح هو ما دلّ عليه ظاهر لفظه، والكناية ضدّ الصريح، لأنّها عدول عن ظاهر اللفظ. فهذه فروق ثلاثة بين الاستعارة والكناية ذكرهما ابن الأثير: أحدهما الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والثالث الحمل على جانب الحقيقة والمجاز. وكما فرّق بين الكناية والاستعارة، فرّق أيضا بين الكناية والتعريض الذي عرفه بقوله: «هو اللفظ الدال على الشيء عن طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي»، فإذا قال قائل لمن يتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: «والله إني لمحتاج، وليس في يدي شيء، وأنا عريان، والبرد ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 247.

قد آذاني» فإنّ هذا القول وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا القول موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا، وإنّما دلّ عليه من طريق المفهوم. وعنده أنّ التعريض سمي تعريضا لأنّ المعنى يفهم فيه من عرضه، أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه. وكما فرّق بين الكناية والتعريض من جهة خفاء الدلالة ووضوحها، فرّق بينهما من جهة اللفظ، فالكناية تشمل المفرد والمركب معا، فتأتي على هذا تارة وعلى هذا أخرى، أمّا التعريض فيختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد البتة. ودليله على ذلك أنّ المعنى في التعريض لا يفهم من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنّما يفهم من جهة التلويح والإشارة، وذلك لا ينهض به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب. وعند ابن الأثير أنّ الكناية تنقسم قسمين: أحدهما ما يحسن استعماله، والآخر ما لا يحسن استعماله، وهو عيب في الكلام فاحش. وقد عرض هنا إلى تقسيم بعض البلاغيين لها فقال: «وقد ذهب قوم إلى أنّ الكناية تنقسم أقساما ثلاثة: تمثيلا، وإردافا، ومجاورة» (¬1) ثمّ بين ما يقصدونه من كل قسم، وعقب عليه بأنّه تقسيم غير صحيح، ولكن تعليقه يبدو فيه شيء من الاضطراب والتناقض. وأخيرا يختم ابن الأثير كلامه عن الكناية والتعريض بضرب الأمثلة عليهما نثرا ونظما حتى يزيد ما ذكره عنهما وضوحا. ذلك عرض موجز لجانب من كتاب المثل السائر لابن الأثير، وهو ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 251.

يحيى بن حمزة

الجانب الذي تكلّم فيه عن مباحث علم البيان من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية. وقد قصدنا من وراء هذا العرض الموجز إلى بيان أمرين: مدى مساهمة ابن الأثير في تطوير هذه المباحث البيانية عن طريق المادة البلاغية التي قدّمها لنا فيها، وكذلك الطريقة التي سلكها في معالجة هذه المادة وعرضها، وهي طريقة تخالف بلا شك طريقة السكاكي التي قصد بها إلى تأصيل قواعد البلاغة وصبها في قوالب منطقية جافة. وربما التقيا في كثرة التقسيمات والتفريعات، ولكن شتان بين تقسيمات وتفريعات يغلب عليها المنطق وأخرى يجليها الفن ويحببها إلى النفس. يحيى بن حمزة: ومن علماء البلاغة أيضا يحيى بن حمزة العلوي اليمني المتوفى سنة 749 للهجرة وصاحب المصنفات المختلفة في النحو والفقه وأصول الدين والبلاغة. ومما صنفه في البلاغة كتاب «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز»، ويقع في ثلاثة أجزاء. وهو متأثر في كتابه هذا بخمسة كتب هي: المفتاح للسكاكي والمثل السائر لابن الأثير، وكتاب التبيان في علم البيان لابن الزملكاني، وكتاب نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز للفخر الرازي، وكتاب المصباح في المعاني والبيان والبديع لبدر الدين بن مالك. وكتابه لا تبدو فيه طريقة مميزة لصاحبه، وإنّما هو موزع بين طريقة السكاكي، وطريقة الرازي، وطريقة ابن الأثير ومباحثهم وما أصّلوه من قواعد البلاغة. وقد بناه على مقدمات ومقاصد وتكملات وسمي كل جانب من هذه الجوانب فنا. وفي الفن الثاني من الكتاب يتحدّث عن موضوعات البيان بادئا

بالمجاز ومدخلّا فيه الاستعارة والتمثيل والكناية. وهو في إدخاله الكناية في المجاز يخالف ابن الأثير الذي قرر أنّ الكناية ليست نوعا مستقلا من المجاز، وإنّما هي جزء من الاستعارة. ثمّ يعرض بالقول للاستعارة فيفصّل القول فيها ذاكرا تعريف الرماني والرازي وابن الأثير لها، وهو يدخل فيها التشبيه البليغ أو التشبيه المضمر الأداة كما يسميه ابن الأثير. ويسوق على الاستعارة شواهد كثيرة من القرآن الكريم وأحاديث الرسول ومن كلام العرب نثرا وشعرا. وأخيرا يتكلم عن أقسام الاستعارة مستأنسا في ذلك بكلام الرازي وبدر الدين بن مالك. ومن الاستعارة ينتقل إلى التشبيه فيطيل الكلام فيه مفيدا من كل ما ذكره الرازي وبدر الدين بن مالك وابن الأثير. وأخيرا يتحدّث عن الكناية ويسوق فيها تعريف عبد القاهر الجرجاني وهو: «والمراد بالكناية أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ إليه ويجعله دليلا عليه»، مثال ذلك قولهم «هو طويل النجاد» يريدون طويل القامة، وفي المرأة «نؤوم الضحى» والمراد أنّها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله، كما ترى، معنى ثمّ لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أنّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف (¬1) ذلك أن تنام إلى الضحى (¬2)؟. ¬

_ (¬1) ردف بكسر الدال: تبع. (¬2) دلائل الإعجاز ص 44.

الخطيب القزويني

كذلك ساق تفريعات بدر الدين بن مالك وابن الأثير وبعض علماء أصول الفقه في الكناية، وتحدّث عن أقسامها كما تحدّث عن التعريض، وأخيرا ختم كلامه في البيان عن التمثيل. الخطيب القزويني (¬1): وممّن استفاضت شهرته في عصره وبعد عصره في ميدان البلاغة العلّامة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة 739 للهجرة، ولقّب بالخطيب لأنّه ولّي خطابة دمشق في المسجد الأموي الكبير. كان عالما بارعا مفتنا في علوم كثيرة، منها أصول الفقه والبلاغة، وله مصنفات في عدة فنون. وكان معجبا بالشاعر الأرّجاني ويقول: إنه لم يكن للعجم نظيره، واختصر ديوانه فسمّاه «الشذر المرجاني من شعر الأرجاني». والكتاب الذي عمّت شهرته ويعنينا هنا هو كتابه «التلخيص»، هذا الكتاب الذي لخّص فيه القسم الثالث من كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي، وغطى به على كل من لخّصوه قبله وبعده من أمثال بدر الدين بن مالك، وعبد الرحمن الشيرازي. والخطيب القزويني في تلخيصه لم يقف من كتاب «مفتاح العلوم» موقف الملتزم كما فعل غيره، وإنما تصرف فيه فترك ما لم يستحسنه وأبقى على ما استحسنه منه وأضاف إليه من آرائه وآراء من سبقوه. فهو في تلخيصه قد استبعد منه تعقيد السكاكي وحشوه وتطويله كما وضّح غامضه بالشرح والأمثلة، واستبدل ببعض مصطلحاته وتعريفاته ¬

_ (¬1) له ترجمة في كتاب النجوم الزاهرة ح 9 ص 318، وترجمة أخرى في كتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج 4 ص 120.

الملتوية مصطلحات وتعريفات أخرى أكثر وضوحا ودقة، وسمح لنفسه فرتب مباحثه ترتيبا قريبا يجعلها أيسر منالا. ولم يكتف بذلك وإنما أضاف إليه فوائد عثر عليها في كتب المتقدمين، وزوائد لم يظفر بها في كلام أحد لا بالتصريح ولا بالإشارة. وكل ذلك قد صاغه صياغة حسنة العبارة واضحة الدلالة. ولعلّ كل هذا هو ما هيأ لتلخيصه سبيل الشهرة، ولفت الأنظار إليه، فأقبل الناس عليه في عصره وإلى اليوم ما بين دارس وشارح وملخّص وناظم. و «تلخيص المفتاح» يشتمل على مقدمة في الفصاحة والبلاغة، وثلاثة فنون: الفن الأول عقده لمباحث «علم المعاني» والثاني لمباحث «علم البيان»، والثالث لمباحث «علم البديع». ولما كانت دراستنا في هذا الكتاب قاصرة على «علم البيان»، فإن ما يهمّنا هنا من كتاب «تلخيص المفتاح» للقزويني هو التعريف إجمالا بمباحث البيان التي وردت فيه، تاركين الكلام عنها تفصيلا إلى ما بعد الفراغ من هذه المقدمة. ... وإذا عدنا إلى «علم البيان» في كتاب «تلخيص المفتاح» فإننا نجد القزويني يبدأ أول ما يبدأ فيعرّف علم البيان بأنّه «علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه» ويجرّه هذا التعريف إلى دلالة اللفظ فيقسمها إلى دلالة وضعية وأخرى عقلية، ثم يخلص من شرح هاتين الدلالتين إلى أن مباحث علم البيان ثلاثة: التشبيه، والمجاز والكناية. وينتقل إلى «التشبيه» فيعرفه ثم يتكلم عن أركانه، وهي: طرفاه ووجهه وأداته، وعن الغرض منه، وعن تقسيم طرفيه إلى حسيين وعقليين

أو مختلفين. كذلك يتكلم عن وجه الشبه وأنواعه، وأدواته: «الكاف، وكأن، ومثل» وما في معناها، وعن أغراض التشبيه وما يعود منها إلى المشبه أو المشبه به. بعد ذلك يقسم التشبيه باعتبار طرفيه إلى تشبيه مفرد بمفرد وهما غير مقيدين، أو مقيدان، أو مختلفان، وتشبيه مركب بمركب، وتشبيه مفرد بمركب، وتشبيه مركب بمفرد. ثم يقسم طرفي التشبيه من حيث تعددهما إلى أربعة أقسام: تشبيه مكفوف، كقوله: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا … لدى وكرها العناب والحشف البالي وتشبيه مفروق، كقوله: النشر مسك، والوجوه دنا … نير، وأطراف الأكف عنم (¬1) وتشبيه التسوية أن تعدّد طرفه الأول، كقوله: صدغ الحبيب وحالي … كلاهما كالليالي وتشبيه الجمع أن تعدّد طرفه الثاني، كقوله: كأنما يبسم عن لؤلؤ … منضد، أو برد أو أقاح (¬2) ويقسمه باعتبار وجه الشبه إلى تشبيه تمثيل، وتشبيه غير تمثيل، وتشبيه مجمل، وتشبيه مفصّل. كذلك يقسمه باعتبار أداته إلى مؤكد وهو ما حذفت أداته، ومرسل وهو ما ذكرت فيه الأداة. وأخيرا يقسمه ¬

_ (¬1) النشر: الرائحة الطيبة، أو رائحة فم المرأة وأعطافها بعد النوم. العنم: شجر لينّ الأغصان تشبه به أصابع النساء. (¬2) الأقاح: جمع أقحوان، وهو ورد له نور.

باعتبار الغرض إلى مقبول أو مسلم الحكم فيه، أو مردود. ثم يختم كلامه بالحديث عن التشبيه البليغ على أنه أعلى مراتب التشبيه في قوة المبالغة لحذف وجهه وأداته. ... ومن الكلام عن التشبيه ينتقل إلى الحديث عن مبحث «الحقيقة والمجاز» وهنا يبدأ أول ما يبدأ بتعريف «الحقيقة والمجاز» اللغويين. فالحقيقة اللغوية «هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب»، وهو يعني بالوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه، وبهذا يخرج المجاز اللغوي لأنه يدلّ على معنى بقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. ثم يقسم المجاز أولا إلى مفرد ومركب، وثانيا إلى مجاز مرسل إن كانت العلاقة فيه غير المشابهة، وإلى استعارة إن كانت العلاقة فيه المشابهة، ويستطرد من هذا إلى بيان علاقات المجاز المرسل وهي: السببية، والمسببية، والجزئية، والكلية، واعتبار ما كان، واعتبار ما سيكون، والمحلية والحالية. ومن المجاز المرسل يستطرد إلى الاستعارة فيذكر: أنها قد تقيد أو توصف بالأصلية أو لتحقّق معناها حسّا أو عقلا، كقول زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف … له لبد أظافره لم تقلم فالاستعارة هنا في لفظ «أسد» الذي استعير للرجل الشجاع، وهو أمر متحقق حسّا، وكقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فقد استعير «الصراط المستقيم» للدين الحق، وهو أمر متحقّق عقلا. ويعرض بالتفصيل لقرينة الاستعارة التي تمنع من إرادة المعنى

الحقيقي، وهي عنده إما أمر واحد أو أكثر أو معان ملتئمة، مع التمثيل لكل نوع. ثم ينتقل إلى تقسيم الاستعارة باعتبار الطرفين قسمين لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن نحو «أحييناه» في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أي ضالّا فهديناه، وإما ممتنع كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم غنائه وجدواه، وهو يسمى الاستعارة التي من النوع الأول «وفاقية» (¬1) والتي من النوع الثاني «عنادية». كذلك يقسّم الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع، أي باعتبار المستعار منه والمستعار له والصفة الجامعة بينهما ستة أقسام. وتفصيل ذلك أن الطرفين إن كانا حسيين فالصفة الجامعة بينهما إما حسيّة أو عقلية أو مختلفة، وإن كان الطرفان عقليين أو مختلفين والحسيّ هو المستعار منه، أو مختلفين والحسيّ هو المستعار له، فالصفة الجامعة في كل ذلك عقلية. فهذه ستة أقسام. ومن هذا التقسيم ينتقل إلى تقسيم آخر وهو تقسيم الاستعارة باعتبار لفظها إلى أصلية وتبعية. فالاستعارة تكون أصلية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا، أعني اسم جنس دالّا على ذات محسّة مثل لفظة «أسد»، أو اسم جنس دالّا على معنى، مثل لفظة «قتل» المصدر. والاستعارة تكون تبعية إذا كان اللفظ الذي جرت فيه فعلا أو ما اشتق منه أو حرفا. وأخيرا يقسّم القزويني الاستعارة إلى مطلقة، ومجردة، ومرشحة. فالاستعارة المطلقة هي ما خلت من ملائمات المستعار منه والمستعار له، ¬

_ (¬1) الوفاقية: نسبة إلى الوفاق بكسر الواو، بمعنى الموافقة.

والاستعارة المجردة هي ما ذكر معها ملائم المستعار له، أما الاستعارة المرشحة فهي ما ذكر معها ملائم المستعار منه. وقد يجتمع التجريد والترشيح في الاستعارة كقول زهير السابق: لدى أسد شاكي السلاح مقذّف … له لبد أظافره لم تقلّم فالاستعارة هنا في لفظة «أسد» و «شاكي السلاح» تجريد لأنه وصف يلائم المستعار له أي المشبّه، وهو الرجل الشجاع، وباقي البيت «له لبد أظافره لم تقلم» ترشيح، لأنه وصف يلائم المستعار منه أي المشبّه به، وهو الأسد الحقيقي. وبعد أن يستوفي القزويني الكلام عن الاستعارة على النحو السابق نراه يعود إلى القسم الثاني من المجاز، وهو المجاز المركب فيعرفه بأنه «اللفظ المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة»، كما يقال للمتردد في أمر: «إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى». وهذا التمثيل على سبيل الاستعارة، بمعنى أن حال المتردد في أمره يشبه حال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى. إذن هذا التركيب «إنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى» قد استعمل استعمالا مجازيا لا حقيقيا، لأن المتردد في أمره، قد يبدو عليه التردد دون أن يقدم رجلا ويؤخر أخرى فعلا. والعلاقة هنا هي علاقة المشابهة بين حال المتردد وحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى. وهذا النوع الذي سمّاه القزويني «التمثيل على سبيل الاستعارة» عرف فيما بعد باسم «الاستعارة التمثيلية». وقد اقترب القزويني من هذا التعريف عند ما قال: «وقد يسمى التمثيل مطلقا، ومتى فشا استعماله كذلك سمّي مثلا». بعد ذلك عقد الخطيب القزويني فصلا خاصّا للاستعارة المكنية قال

فيه: «قد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويدل عليه بأن يثبت للمشبه أمر يختصّ بالمشبه به فيسمى التشبيه استعارة بالكناية أو مكنيا عنها، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية، وقد مثّل لهذه الاستعارة بقول الهذلي: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها … ألفيت كلّ تميمة لا تنفع شبّه هنا المنيّة بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار. وإثبات الأظفار للمنيّة التي هي المشبه هو من قبيل الاستعارة التخييلية. وأخيرا يختم القزويني عرضه للاستعارة بثلاثة فصول يجمل فيها كلام السكاكي عن الحقيقة اللغوية والمجاز اللغوي والاستعارة تعريفا وتقسيما وتفريعا مع مناقشته في بعض آرائه. كما يشير إلى رأي السكاكي في أن حسن الاستعارة التمثيلية والاستعارة التحقيقية، وهي التي يتحقق معناها حسّا وعقلا، إنما يكون برعاية حسن التشبيه، بمعنى أن لا يشم رائحته لفظا، وأن حسن الاستعارة المكنية إنما يكون بحسب حسن المكنّى عنه. كذلك يشير في النهاية إلى المجاز العقلي مبيّنا أنه لا يكون في اللفظ كما هو الشأن في الاستعارة والمجاز المرسل، وإنما يكون في الإسناد، أي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، وهذا أمر يدرك بالعقل، ولهذا سمي المجاز العقلي. ... ومن الحقيقة والمجاز ينتقل الخطيب القزويني للكلام عن المبحث الثالث والأخير من مباحث علم البيان، وأعني به «الكناية» فيعرفها بأنها

«لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه»، ويوضّح الفرق بينها وبين المجاز الذي لا يجوز إرادة المعنى الحقيقي معه، إذ لا يجوز أن يكون المراد من قولك: «كلّمت أسدا» الأسد الحقيقي. ثم يقسّم الكناية باعتبار المكنّى عنه ثلاثة أقسام: لأن المكنّى عنه قد يكون موصوفا، وقد يكون صفة، وقد يكون نسبة. ولم تفته الإشارة هنا إلى أنواع أخرى من الكناية ذكرها السكاكي كالتعريض والتلويح والرمز والإشارة والإيحاء. ذلك عرض موجز لمباحث علم البيان كما وردت في كتاب «تلخيص المفتاح» للخطيب القزويني والذي أنهى الكلام فيه بفصل عن بلاغة المجاز والكناية والحقيقة والاستعارة، مقرّرا أن البلغاء أجمعوا على أن المجاز والجناية أبلغ من الحقيقة والتصريح، لأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم، فهو كدعوى الشيء بيّنة، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه لأنها نوع من المجاز. ... وعلى الرغم من الجهد العلمي الذي أفرغه القزويني في «التلخيص» فإنه، على ما يبدو، لم يكن راضيا عنه كل الرضاء. نقول ذلك لأننا رأيناه يعود فيضع له شرحا سمّاه «الإيضاح» يفصّل فيه بعض ما أجمله في «التلخيص» مضيفا إليه زوائد مما استوحاه من كتابات عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي، وكذلك مما هداه إليه تفكيره ولم يجده لغيره. وفي ذلك يقول في مقدمة الإيضاح: «هذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها ترجمته بالإيضاح وجعلته على ترتيب مختصري الذي سمّيته «تلخيص المفتاح»، وبسّطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت

مواضعه المشكلة، وفصّلت معانيه المجملة، وعمدت إلى ما خلا منه المختصر مما تضمنه «مفتاح العلوم» وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذّبتها ورتبتها حتى استقر كل شيء في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري ولم أجده لغيري». ومع ما يتخلل «التلخيص» و «التوضيح» من اعتراضات على السكاكي ومناقشات كثيرة لآرائه فإن القزويني مدين له بمادة الكتابين الأساسية، لأنه استقاها من كتابه مفتاح العلوم مع زوائد من كتابات عبد القاهر والزمخشري ومن آرائه الخاصة التي لم يجدها لغيره. ويبقى بعد ذلك أنه خير من تأثر بالسكاكي ونجا منحاه في تلخيص قواعد البلاغة، هذا المنحى الذي أدّى الالتزام به والاسترسال فيه فيما بعد إلى جفاف الدراسات البلاغية وجمودها. وكما أقبل القزويني على مفتاح السكاكي تلخيصا وتوضيحا، أقبل كذلك كثيرون من رجال البلاغة شرقا وغربا على «تلخيص» القزويني درسا وحفظا وتلخيصا وشرحا ونظما، كأنهم رأوا فيه خير مرجع لقواعد البلاغة. فممّن نظمه شعرا جلال الدين السيوطي وسمى نظمه «الجمان» ووضع له شرحا سمّاه «عقود الجمان»، وخضر بن محمد وسمّى نظمه «أنبوب البلاغة»، وعبد الرحمن الأخضري، وسمّى نظمه «الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون».

وممّن قام باختصاره عزّ الدين بن جماعة، وأبرويز الرومي، وزكريا الأنصاري. وممّن شرحه محمد بن مظفر الخلخالي «745 هـ»، وسمى شرحه «مفتاح تلخيص المفتاح» وبهاء الدين السبكي «773 هـ» وسمى شرحه «عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح»، ومحمد بن يوسف ناظر الجيش «778 هـ» وسمى شرحه «شرح تلخيص المفتاح»، ومحمد البايرتي «786 هـ»، وشمس الدين القونوي «788 هـ» وسمى كلاهما شرحه «شرح تلخيص المفتاح للقزويني»، وسعد الدين التفتازاني «792 هـ» وقد وضع له شرحين: الشرح الكبير، والشرح الصغير للتلخيص. وهؤلاء الشرّاح كما يلاحظ هم من علماء القرن الثامن الهجري، وقد استمر الاهتمام بشرح تلخيص القزويني متصلا حتى لنجد من علماء القرن الثاني عشر الهجري من قام بشرحه مثل ابن يعقوب المغربي «1110 هـ» صاحب كتاب «مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح». وأطول هذه الشروح شرح بهاء الدين السبكي والشرح الكبير للتفتازاني الذي عدّه القدماء خير شروح التلخيص. ولعلّ مما يلاحظ على من شرحوا «تلخيص» الخطيب القزويني أن معظمهم كانوا على اطّلاع واسع بعلوم الفلسفة والمنطق وأصول الفقه والنحو والبلاغة. ويبدو من شروحهم أنهم لم يكونوا يهدفون إلى توضيح ما في «التلخيص» من إبهام وغموض وتعقيد بمقدار ما كانوا يهدفون إلى الإعلان عن مدى إلمامهم بالفلسفة والمنطق وأصول الفقه والنحو وغيرها. ذلك أنهم أقحموا الكثير من قضايا هذه العلوم على البلاغة إقحاما، وبهذا أضافوا إلى ميراث الصعوبات التي وضعها من تقدمهم على طريق البلاغة العربية صعوبات أخرى أشاعت اليأس في نفوس الراغبين في دراستها والإفادة منها.

من كل ما تقدم ندرك أن البلاغة العربية منذ أن تولّاها في القرن السابع الهجري أمثال الفخر الرازي والسكاكي لم يدخل على مباحثها مباحث جديدة تثريبها وتبقيها مطّردة النمو والازدهار. ولعلّ سبب ذلك هو ما ران وغلب على العصور المتأخرة من أعراض الجمود الفكري التي لم تصب البلاغة وحدها وإنما تجاوزتها إلى الأدب شعرا ونثرا. لقد تلقف السكاكي البلاغة العربية التي صنعتها الأجيال السابقة من عبد القاهر والزمخشري وهي زاخرة بالحيوية والحياة مشرقة بالجمال، وكان عليه أن يسلمها إلى من بعده أكثر حيوية وحياة وإشراقا حتى يستمر نموّها وازدهارها. ولكنه بدل ذلك انكبّ عليها بعقليته العلمية يصوغها ويصبّها ويحصرها في قوالب فلسفية منطقية هادفا من وراء محاورته إلى جمع قواعدها وتبويب مباحثها، ووضع المعالم والحدود المميزة لعلومها. ولعلّه كان يظن أنه بذلك يسدي إلى البلاغة أجلّ صنيع، وما درى أن محاولته كانت من أهم الأسباب التي قيدت البلاغة وحدّت من نشاطها وحيويتها وانتهت بها تدريجيا إلى حال من الذبول والجفاف. ولو وقف الأمر بالبلاغة عند صنيع السكاكي لقلنا عثرة على طريقها ستنهض منها، ولكن جاء بعده من نظروا إلى ما أتى به السكاكي على أنه البلاغة فالتزموا به وعكفوا عليه درسا وحفظا، وتلخيصا وشرحا ونظما، مستخدمين في كل ذلك طرائق تقيد العقول بدل أن تحررها، وتقضي على الأذواق والمواهب والملكات بدل أن ترقى بها وتنمّيها ... !! ... وبعد ... فهذا عرض لنشأة علم البيان وتطوره منذ بدأ في العصر

الجاهلي على صورة ملاحظات بيانية أخذت تنمو وتتكاثر على تعاقب العصور حتى صارت علما مستقلا بذاته على يد عبد القاهر الجرجاني ومن جاء بعده من البلاغيين. ومن خلال هذا العرض التاريخي تعرّفنا إلى الكثيرين من علماء البلاغة العربية ومؤلفاتهم فيها. والأمل أن يجد طلاب البلاغة ودارسوها فيما ذكرناه بإيجاز من موضوعات هذه المؤلفات البلاغية ومشتملاتها ما يغريهم بالرجوع إليها، ويحبّبهم في قراءتها والإفادة منها. والآن نشرع في تفصيل الكلام عن المبحث الأول من مباحث علم البيان، وأعني به مبحث «التشبيه».

المبحث الأول فن التشبيه

المبحث الأوّل فن التشبيه حد التشبيه: التشبيه لغة: التمثيل، وهو مصدر مشتق من الفعل «شبّه» بتضعيف الباء، يقال: شبّهت هذا بهذا تشبيها، أي مثّلته به. والتشبيه في اصطلاح البلاغيين له أكثر من تعريف، وهذه التعاريف وإن اختلفت لفظا فإنها متفقة معنى. فابن رشيق مثلا يعرفه بقوله: «التشبيه: صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة، لا من جميع جهاته، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه. ألا ترى أن قولهم «خدّ كالورد» إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه» (¬1). ¬

_ (¬1) العمدة ج 1 ص 256.

وأبو هلال العسكري يعرفّه بقوله: «التشبيه: الوصف بأن أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه، ناب منابه أو لم ينب، وقد جاء في الشعر وسائر الكلام بغير أداة التشبيه، وذلك قولك: «زيد شديد كالأسد»، فهذا القول هو الصواب في العرف وداخل في محمود المبالغة، وإن لم يكن زيد في شدته كالأسد على حقيقته» (¬1). ويعرّفه الخطيب القزويني بقوله: «التشبيه: هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى» (¬2). ويعرّفه التنوخي بقوله: «التشبيه: هو الإخبار بالشبه، وهو اشتراك الشيئين في صفة أو أكثر ولا يستوعب جميع الصفات» (¬3). وللتشبيه تعريفات أخرى كثيرة لا تخرج في جوهرها ومضمونها عما أوردناه منها آنفا، ومن مجموع هذه التعريفات نستطيع أن نخرج للتشبيه بالتعريف التالي: التشبيه: بيان أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر، بأداة هي الكاف أو نحوها ملفوظة أو مقدرة، تقرّب بين المشبه والمشبه به في وجه الشبه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن «التمثيل» نوع من أنواع التشبيه، وهذا رأي عبد القاهر الجرجاني الذي يقول: «والتمثيل ضرب من ضروب التشبيه، والتشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا» (¬4). ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 239. (¬2) انظر متن التلخيص في «مجموع المتون الكبرى» ص 473. (¬3) كتاب الأقصى القريب للتنوخي ص 41. (¬4) كتاب أسرار البلاغة ص 75.

ويوضح عبد القاهر رأيه هذا في موضع آخر من كتابه بقوله: «واعلم أن الشيئين إذا شبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين أحدهما: أن يكون من جهة أمر بيّن لا يحتاج فيه إلى تأويل، والآخر: أن يكون الشبه محصّلا بضرب من التأويل» (¬1). ثم يروح يشرح قوله هذا في إسهاب مفاده أن التشبيه العام هو ما كان وجه الشبه فيه مفردا، أي صفة أو صفات اشتركت بين شيئين ليس غير، وأن تشبيه التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه صورة مأخوذة أو منتزعة من أشياء عدة. فقول البحتري في ممدوحه مثلا: هو بحر السماح والجود فازدد … منه قربا تزدد من الفقر بعدا هذا التشبيه على رأي عبد القاهر تشبيه عام لأن البحتري فيه يشبه ممدوحه بالبحر في الجود والسماح، فوجه الشبه هنا مفرد وهو اشتراك الممدوح والبحر في صفة الجود. وقول المتنبي في ممدوحه سيف الدولة: يهز الجيش حولك جانبيه … كما نفضت جناحيها العقاب (¬2) هو عند عبد القاهر تشبيه تمثيل، لأن المتنبي يشبه صورة جانبي الجيش، أي صورة ميمنة الجيش وميسرته وسيف الدولة بينهما وما فيهما من حركة واضطراب بصورة عقاب تنفض جناحيها وتحركهما. ووجه الشبه هنا ¬

_ (¬1) نفس المرجع ص 70 - 71. (¬2) العقاب بضم العين: من الطيور الكاسرة، وهي طائر خفيف الجناح سريع الطيران، وبها يضرب المثل في العزة والمنعة، فيقال: «أمنع من عقاب الجو».

أركان التشبيه

ليس صفة مفردة، ولكنه صورة منتزعة من متعدد، وهي وجود جانبين لشيء في حالة حركة وتموج. عبد القاهر إذن يفرق بين التشبيه العام وتشبيه التمثيل على النحو الذي بسطناه، ويرى أن بين الاثنين عموما وخصوصا مطلقا، فكل تمثيل عنده تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا. ولكنّ كثيرا من البلاغيين ينظرون إلى المعنى اللغوي للتشبيه، وهو التمثيل، فيجعلون التشبيه والتمثيل مترادفين، ومن هؤلاء البلاغيين ضياء الدين بن الأثير الذي يقول: «وجدت علماء البيان قد فرّقوا بين التشبيه والتمثيل، وجعلوا لهذا بابا ولهذا بابا مفردا، وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع، يقال شبّهت هذا الشيء بهذا الشيء، كما يقال مثلته به. وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه» (¬1). أركان التشبيه أركان التشبيه أربعة هي: 1 - المشبّه. 2 - المشبه به. ويسميان «طرفي التشبيه». 3 - أداة التشبيه، وهي الكاف أو نحوها ملفوظة أو مقدرة. 4 - وجه الشبه، وهو الصفة أو الصفات التي تجمع بين الطرفين. ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 153.

طرفا التشبيه

طرفا التشبيه طرفا التشبيه هما المشبه والمشبه به، وهما ركناه الأساسيان، وبدونهما لا يكون تشبيه. ولعل قدامة بين جعفر هو أول من بحث التشبيه بحثا أقرب إلى المنهاج العلمي، فأساس التشبيه عنده أن يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معان تعمّهما ويوصفان بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها. وهو يبني قوله هذا على أساس أن الشيء لا يشبّه بنفسه ولا بغيره من كل الجهات، لأن الشيئين إذا تشابها من جميع الوجوه، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتّحدا، فصار الاثنان واحدا. وإذا كان الأمر كذلك، فأحسن التشبيه عنده هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد (¬1). وقد تابع أبو هلال العسكري قدامة في رأيه القائل بأن الشيئين إذا تشابها من جميع الوجوه، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتحدا، فصار الاثنان واحدا، وذلك إذ يقول: «ويصح تشبيه الشيء بالشيء جملة، وإن شابهه من وجه واحد، مثل قولك: وجهك مثل الشمس، ومثل البدر، وإن لم يكن مثلهما في ضيائهما ولا عظمهما، وإنما شبّه بهما لمعنى يجمعهما وإياه وهو الحسن. وعلى هذا قول الله عز وجلّ: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إنما شبّه المراكب بالجبال من جهة عظمها لا من جهة ¬

_ (¬1) انظر نقد الشعر لقدامة ص 77 - 78.

وطرفا التشبيه: إما

صلابتها ورسوخها ورزانتها، ولو أشبه الشيء الشيء من جميع جهاته لكان هو هو» (¬1). وما من شك في أن ابن رشيق كان ينظر أيضا إلى قول قدامة الآنف الذكر عند ما قال في كتابه العمدة ما معناه: إن المشبه لو ناسب المشبه به مناسبة كلية لكان إياه، كقولهم «فلان كالبحر»، إنما يريدون كالبحر سماحة وعلما وليس يريدون ملوحة البحر وزعوقته (¬2). ومما يجري مجرى الكلام السابق بالنسبة لطرفي التشبيه قول السكاكي: «لا يخفى عليك أن التشبيه مستدع طرفين مشبّها ومشبّها به، واشتراكا بينهما من وجه وافتراقا من آخر، مثل أن يشتركا في الحقيقة ويختلفا في الصفة أو بالعكس. فالأول كالإنسانين إذا اختلفا طولا وقصرا، والثاني كالطولين إذا اختلفا حقيقة: إنسانا وفرسا، وإلا فأنت خبير بأن ارتفاع الاختلاف من جميع الوجوه حتى التعيّن يأبى التعدد، فيبطل التشبيه، لأن تشبيه الشيء لا يكون إلا وصفا له بمشاركته المشبّه به في أمر، والشيء لا يتصف بنفسه. كما أن عدم الاشتراك بين الشيئين في وجه من الوجوه يمنعك محاولة التشبيه بينهما، لرجوعه إلى طلب الوصف حيث لا وصف» (¬3). وطرفا التشبيه: إما: 1 - حسيّان: والمراد بالحسيّ ما يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة؛ ومعنى هذا أنهما قد يكونان من المبصرات، أو ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 239. (¬2) كتاب العمدة ج 1 ص 256. (¬3) كتاب مفتاح العلوم للسكاكي ص 177.

المسموعات، أو في المذوقات، أو المشمومات، أو الملموسات: أ- فيكونان من المبصرات، أي مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها، كقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فالجامع البياض والحمرة. وكقول الشاعر: أنت نجم في رفعة وضياء … تجتليك العيون شرقا وغربا فالمخاطب الممدوح هنا شبّه بالنجم في الرفعة والضياء. ونحو تشبيه الخد بالورد في البياض المشرب بحمرة، وتشبيه الوجه الحسن بالشمس والقمر في الضياء والبهاء، والشعر بالليل في السواد. ب- ويكونان من المسموعات، أي مما يدرك بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية والتي بين بين، نحو تشبيهك صوت بعض الأشياء بصوت غيره، كتشبيه صوت المرأة الجميل بصوت البلبل، وصوت الغاضب الهائج بنباح الكلاب، وكقول امرئ القيس: يغط غطيط البكر شد خناقه … ليقتلني والمرء ليس بقتّال فامرؤ القيس يصور هنا غضب رجل أظهرت امرأته ميلا نحو الشاعر، فيشبه غطيط أو صوت هذا الزوج المغيظ المحنق بغطيط البكر وهو الفتيّ من الإبل الذي يشد حبل في خناقه لترويضه وتذليله. ج- ويكونان في المذوقات، أي مما يدرك بالذوق من المطعوم، كتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر، والريق بالشهد أو الخمر، وكقول الشاعر: كأن المدام وصوب الغمام … وريح الخزامى وذوب العسل يعل به برد أنيابها .. … إذا النجم وسط السماء اعتدل

د- ويكونان في المشمومات، أي مما يدرك بحاسة الشم من الروائح، وهذا نحو تشبيه رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور والمسك، وتشبيه النّكهة بالعنبر، وتشبيه أنفاس الطفل بعطر الزهر، وتشبيه رائحة فم المرأة وأعطافها بعد النوم بالمسك. هـ- ويكونان في الملموسات، أي في كل ما يدرك باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والخفة والثقل وما يتصل بها؛ كتشبيه اللين الناعم بالخز، والجسم بالحرير، وكقول الشاعر: لها بشر مثل الحرير ومنطق … رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر 2 - أو عقليان: والمراد بالطرفين العقليين أنهما لا يدركان بالحس بل بالعقل، وذلك كتشبيه العلم بالحياة، والجهل بالموت، فقد شبه هنا معقول بمعقول، أي أن كلا منهما لا يدرك إلا بالعقل. 3 - أو مختلفان: وذلك بأن يكون أحدهما عقليا والآخر حسيّا، كتشبيه المنيّة بالسبع، والمعقول هو المشبه، والمحسوس هو المشبه به، وكتشبيه العطر بالخلق الكريم، فالمشبه وهو العطر محسوس بالشم، والمشبه به وهو الخلق عقليّ. والتشبيه الحسي الذي يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس يدخل فيه أو يلحق به التشبيه «الخيالي». والتشبيه الخيالي هو المركب من أمور كل واحد منها موجود يدرك بالحسّ، لكن هيئته التركيبية ليس لها وجود حقيقي في عالم الواقع، وإنما لها وجود متخيّل أو خيالي. ولكن لأن أجزاء التشبيه الخيالي موجودة تدرك بالحس ألحق بالتشبيه

الحسي، لاشتراك الحس والخيال في أن المدرك بهما صورة لا معنى، وذلك كقول الشاعر: وكأنّ محمرّ الشقي … ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد (¬1) فالهيئة التركيبية التي قصد التشبيه بها هنا، وهي نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط لعدم وجودها في عالم الحس والواقع، ولكن العناصر التي تألفت منها هذه الصورة المتخيلة، من الأعلام والياقوت والرماح والزبرجد موجودة في عالم الواقع وتدرك بالحس. ويدخل البلاغيون في التشبيه العقلي ما يسمونه بالتشبيه «الوهميّ»، وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، ولكنه لو وجد فأدرك، لكان مدركا بها، كما في قوله تعالى في شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ»، وكقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي … ومسنونة زرق كأنياب أعوال؟ فالشياطين (¬2) والغول وأنيابها مما لا يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، ولكنها لو وجدت فأدركت لكان إدراكها عن طريق حاسة البصر. ¬

_ (¬1) الشقيق: ورد أحمر في وسطه سواد ينبت في الجبال، وتصوب: مال إلى أسفل، وتصعد: مال إلى أعلى. (¬2) من عادة العرب أن يشبهوا كل قبيح الصورة بالشيطان لأن له صورة بشعة في توهمهم، وأن يشبهوا حسن الصورة بالملك بفتح اللام، لحسن صورته في توهمهم.

أجود التشبيه عند أبي هلال

ويدخل في العقلي أيضا ما يدرك بالوجدان، كاللذة والألم، والشّبع والجوع، والفرح والغضب. وما يدرك بالوجدان يعني ما يدرك بالقوى الباطنية مثل القوة التي يدرك بها الشّبع، والتي يدرك بها الجوع، وكالقوة الغضبية التي يدرك بها الغضب، وكذلك القوة التي يدرك بها الفرح والخوف وغير ذلك من الغرائر. فمثل هذه المعاني توجد بفعل قوى باطنية تدركها النفس بها، وتسمى تلك القوى وجدانا، والمدركات بها وجدانيات. وقد سميت عقلية لخفائها وعدم إدراكها بالحواس الظاهرة، كالألوان المدركة بالعين، والطعم المدرك بالذوق. أجود التشبيه عند أبي هلال: وعند أبي هلال العسكري أن أجود التشبيه وأبلغه ما يقع على أربعة (¬1) أوجه: أحدها: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وهو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ (¬2) يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، فأخرج ما لا يحس إلى ما يحس، والمعنى الذي يجمعهما بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة ولو قال: «يحسبه الرائي ماء» لم يقع موقع قوله: «الظمآن»؛ لأن الظمآن أشد فاقة إلى الماء، وأعظم حرصا عليه. وهكذا قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 240. (¬2) القيعة بكسر القاف والقاع: المستوي من الأرض الذي لا ينبت.

بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. والمعنى الجامع بينهما بعد التلاقي، وعدم الانتفاع. وكذلك قوله تعالى في حال من كذب بآياته ورفض الإيمان في كل حال «فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث»، أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه من لهث الكلب. والمعنى أن الكلب لا يطيعك في ترك اللهث على حال، وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق ولا عنف. ومثله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ، فالمعنى الذي يجمع بينهما الحاجة إلى المنفعة، والحسرة لما يفوت من درك الحاجة. والوجه الآخر: ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، كقوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، (¬1) والمعنى الجامع بين المشبه والمشبه به الانتفاع بالصورة. ومن هذا قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، (¬2) هو بيان ما جرت به العادة ¬

_ (¬1) النتق: الزعزعة والنقض والرفع، ومعنى «نتقنا الجبل» زعزعناه ورفعناه، والظلة: الغمامة، والمراد بالجبل: جبل الطور. (¬2) سورة يونس 24، اختلط به نبات الأرض: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء وجودة الأرض، أخذت الأرض زخرفها: صار منظرها بهيجا، وازينت: أي بأشكال-

والوجه الثالث

إلى ما لم تجر به، والمعنى الذي يجمع الأمرين الزينة والبهجة، ثم الهلاك، وفيه العبرة لمن اعتبر والموعظة لمن تذكر. ومنه قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فاجتمع الأمران في قلع الريح لهما وإهلاكهما، والتخوف من تعجيل العقوبة. ومنه قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ، (¬1) والجامع للمعنيين الحمرة ولين الجوهر، وفيه الدلالة على عظم الشأن، ونفوذ السلطان. ومنه قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، والجامع بين الأمرين الإعجاب، ثم سرعة الانقلاب، وفيه الاحتقار، للدنيا، والتحذير من الاغترار بها. والوجه الثالث: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها، فمن هذا قوله عزّ وجل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، فقد أخرج ما لا يعلم بالبديهة وهو عرض الجنة إلى ما يعلم ¬

_ - النبات وألوانه، قادرون عليها: قادرون على التمتع بها، أتاها أمرنا: نزل بها ما أمرنا به من إهلاكها، جعلناها حصيدا: جعلنا ما على الأرض كالمحصود، أي هالكا، كأن لم تغن بالأمس: كأن لم يكن نباتها موجودا بالأمس. (¬1) وردة: كوردة، كالدهان: أصله ما يدهن به، والمراد كالزيت الذي يغلى، فهو تشبيه آخر قصد به أن وجه الشبه هو الذوبان والحرارة.

والوجه الرابع

بها، والجامع بين الأمرين العظم، والفائدة فيه التشويق إلى الجنة بحسن الصفة. ومثله قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً والجامع بين الأمرين الجهل بالمحمول، والفائدة فيه الترغيب في تحفظ العلوم، وترك الاتكال على الرواية دون الدراية. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، (¬1) والجامع بين الأمرين خلو الأجساد من الأرواح، والفائدة الحث على احتقار ما يؤول به الحال. وهكذا قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، فالجامع بين الأمرين ضعف المعتمد، والفائدة التحذير من حمل النفس على التغرير بالعمل على غير أس. والوجه الرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة على ما له قوة فيها، كقوله عز وجل: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، والجامع بين الأمرين العظم، والفائدة البيان عن القدرة في تسخير الأجسام العظام في أعظم ما ¬

_ (¬1) ريح صرصر: أي شديدة الصوت مزعجة، عاتية: بالغة منتهى الشدة في التدمير، حسوما: جمع حاسم، أي قاطع بوزن شهود وشاهد، والمراد قاطعات لدابرهم، صرعى: جمع صريع أي هالك، أعجاز نخل خاوية: أي جذوع نخل خالية تناثر كل ما في جوفها.

أقسام التشبيه عند المبرد

يكون من الماء. وعلى هذا الوجه يجري أكثر تشبيهات القرآن، وهي الغاية في الجودة، والنهاية في الحسن. وقد جاء في أشعار المحدثين تشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر، وهو رديء، وإن كان بعض الناس يستحسنه لما فيه من اللطافة والدقة، وهو مثل قول الشاعر: وندمان سقيت الراح صرفا … وأفق الليل مرتفع السّجوف صفت وصفت زجاجتها عليها … كمعنى دقّ في ذهن لطيف فأخرج ما تقع عليه الحاسة إلى ما لا تقع عليه، وما يعرف بالعيان إلى ما يعرف بالفكر. ومثله كثير في أشعارهم. أقسام التشبيه عند المبرد: والمبرد من أوائل العلماء الذين درسوا فن التشبيه، وهو يقسمه إلى أربعة أضرب: 1 - التشبيه المفرط: وهو التشبيه المبالغ فيه، أو المبالغ في الصفة التي تجمع بين المشبه والمشبه به، كقول الخنساء في أخيها صخر: وإن صخرا لتأتم الهداة به … كأنه علم في رأسه نار فجعلت المهتدي يأتم به، وجعلته كأنه نار في رأس علم، والعلم الجبل. ومن هذا النوع في شعر المحدثين قول بشار: كأن فؤاده كرة تنزّي … حذار البين إن نفع الحذار وقول أبي نواس الحسن بن هانئ في صفة الخمر:

فإذا ما اجتليتها فهباء … تمنع الكفّ ما تبيح العيونا (¬1) أكل الدهر ما تجسّم منها … وتبقّى لبابها المكنونا فهي بكر كأنها كل شيء … يتمنى مخيّر أن يكونا في كؤوس كأنهن نجوم … جاريات بروجها أيدينا طالعات من السّقاة علينا … فإذا ما غربن يغربن فينا فهذا تشبيه مفرط يصفه المبرد بأنه غاية على سخف كلام المحدثين!. 2 - التشبيه المصيب: ويفهم من الأمثلة التي أوردها المبرد أنه يعني به ما خلا من المبالغة وأخرج الأغمض إلى الأوضح، كقول امرئ القيس في طول الليل: كأن الثريا علّقت في مصامها … بأمراس كتان إلى صمّ جندل (¬2) فهذا التشبيه في ثبات الليل، لأنه يخيل إليه من طوله كأن نجومه مشدودة بحبال من الكتان إلى صخور صلبة، وإنما استطال الليل لمعاناته الهموم ومقاساته الأحزان فيه. وكقوله في ثبات الليل: فيا لك من ليل كأن نجومه … بكل مغار الفتل شدت بيذبل (¬3) ¬

_ (¬1) الهباء: الذرات المنبثة التي ترى في ضوء الشمس، وتجسم: صار جسما، أي لم يبق من الخمر إلا روحها، لأن الخمر إذا عتقت صفت ورقت وكاد يخفى جسمها. (¬2) الثريا: من الكواكب، وسميت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها، في مصامها: في مكانها الذي لا تبرح منه كمصام الفرس، وهو مربطه، والأمراس: جمع مرس وهو الحبل، وصم: جمع أصم، وهو الصلب، والجندل: الصخرة، والجمع جنادل. (¬3) مغار الفتل: شديد الفتل، ويذبل: اسم جبل.

فهو هنا يشبه نجوم الليل في ثباتها وعدم تحركها كما لو كانت قد شدت بشيء مفتول قوي إلى جانب هذا الجبل. وقد ذكر ابن رشيق أمثلة للتشبيه المصيب منها قول النابغة في وصف المتجردة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها … نظر السقيم إلى وجوه العوّد وقول عدي بن الرقاع العاملي: وكأنها وسط النساء أعارها … عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنّقت … في عينه سنة وليس بنائم وقول صريع الغواني: فغطت بأيديها ثمار نحورها … كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع (¬1) 3 - التشبيه المقارب: كقول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته … وقد جللته المظلمات الحنادس وهذا من نوع التشبيه المقلوب الذي يجعل فيه المشبه مشبها به فالعادة أن أعجاز النساء أو أوراك العذارى تشبه بكثبان الرمال ولكن الشاعر هنا قلب التشبيه طلبا للمبالغة. ومن المقارب الحسن قول الشماخ: كأن المتن والشرخين منه … خلاف النصل سيط به مشيج ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 1 ص 270، والجوامع: الأكبال.

أداة التشبيه

يريد سهما رمى به فأنفذ الرميّة وقد اتصل به دمها، والمتن متن السهم، وشرخ كل شيء حده، فأراد شرخي الفوق (¬1) وهما حرفاه، والمشيج المختلط. 4 - التشبيه البعيد: وهو الذي يحتاج إلى تفسير، وعند المبرد أن هذا النوع هو أخشن الكلام، كقول الشاعر: بل لو رأتني أخت جيراننا … إذ أنا في الدار كأني حمار فإن الشاعر أراد الصحة، وهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله عز وجل- وهو من البين الواضح-: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً في أنهم قد تعاموا عن التوراة وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها. ويلاحظ على هذا التقسيم الذي أورده المبرد للتشبيه أمور منها: أن هذه الأنواع الأربعة هي صفات لبعض التشبيهات، وأنه لم يضع حدودا تميز كل نوع عما عداه. وترك هذا لحدس القارئ وتخمينه، وأنه قد حكم على بعض الأمثلة التي أوردها بالحسن أو القبح دون أن يعلل لما استحسنه أو استقبحه. ولكنه في عصره المبكر وفي المراحل الأولى للبلاغة والنقد لم يكن ينتظر منه أن يتوسع في دراسة التشبيه بأكثر مما فعل. أداة التشبيه وأداة التشبيه كل لفظ يدل على المماثلة والاشتراك، وهي حرفان وأسماء، وأفعال، وكلها تفيد قرب المشبه من المشبه به في صفته. والحرفان هما: ¬

_ (¬1) الفوق بضم الفاء: فوق السهم، وهو موضع الوتر.

1 - الكاف: وهي الأصل لبساطتها، والأصل فيها أن يليها المشبه به، كقول الشاعر: أنا كالماء- إن رضيت- صفاء … وإذا ما سخطت كنت لهيبا وقول آخر: أنت كالليث في الشجاعة والإقدام … والسيف في قراع الخطوب (¬1) وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به، وذلك إذا كان المشبه به مركبا، كقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، ولا بمفرد آخر يتعمل ويتمحل لتقديره، بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفا ثم يهيج فتطيّره الرياح كأن لم يكن. ونحو قول لبيد: وما الناس إلا كالديار وأهلها … بها يوم حلّوها وبعد بلاقع فلبيد لم يشبه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها وسرعة نهوضهم عنها وتركها خالية. 2 - كأن: وتدخل على المشبه أو يليها المشبه، كقول الشاعر: كأن أخلاقك في لطفها … ورقة فيها نسيم الصباح وقول آخر: وكأنّ الشمس المنيرة دينا … رجلته حدائد الضّرّاب (¬2) ¬

_ (¬1) قراع الخطوب: مصارعة الشدائد والتغلب عليها. (¬2) جلته: صقلته. والضراب: الذي يطبع النقود.

و «كأن» حرف مركب عند أكثر علماء اللغة من الكاف وإن. قالوا: والأصل في «كأن زيدا أسد» «إن زيدا كأسد» ثم قدم حرف التشبيه اهتماما به، ففتحت همزة «إن» لدخول الجار، وما بعد الكاف جرّ بها. و «كأن» للتشبيه على الإطلاق، وهذا هو استعمالها الغالب والمتفق عليه من جمهور النحاة، وزعم جماعة من النحاة أنها لا تكون للتشبيه إلا إذا كان خبرها اسما جامدا، نحو: كأن زيدا أسد. بخلاف كأن زيدا قائم، أو في الدار، أو عندك، أو يقوم، فإنها في ذلك كله للظن والشك. أي بمنزلة ظننت وتوهمت. ومعنى هذا أنه إذا كان خبرها وصفا أو جملة أو شبه جملة فهي فيهن للظن، ولا تكون للتشبيه إلا إذا كان الخبر مما يتمثل به. فإن قلت: كأن زيدا قائم، لا يكون تشبيها لأن الشيء لا يشبه نفسه. ولكن جمهور النحاة على الرأي الأول القائل بأنها للتشبيه على الإطلاق، وعلى هذا يقولون: إن معنى كأن زيدا قائم، تشبيه حالته غير قائم بحالته قائما. 3 - مثل: ومن أدوات التشبيه مثل وما في معنى مثل كلفظة «نحو»، وما يشتق من لفظة مثل وشبه، نحو مماثل ومشابه وما رادفهما. وأما أدوات التشبيه الفعلية فنحو: يشبه ويشابه ويماثل ويضارع ويحاكي ويضاهي. وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه كالفعل «علم» في قولك: علمت زيدا أسدا ونحوه، هذا إذا قرب التشبيه بمعنى أن يكون وجه الشبه قريب الإدراك، فيحقق بأدنى التفات إليه. وذلك لأن العلم معناه التحقق، وذلك مما يناسب الأمور الظاهرة البعيدة عن الخفاء. أما إن بعد التشبيه أدنى تبعيد قيل: خلته وحسبته ونحوهما لبعد الوجه عن التحقق، وخفائه عن الإدراك العلمي، وذلك لأن الحسبان

التشبيه باعتبار الأداة

ليس فيه الرجحان، ومن شأن البعيد عن الإدراك أن يكون إدراكه كذلك دون التحقق المشعر بالظهور وقرب الإدراك. التشبيه باعتبار الأداة: والبلاغيون يقسمون التشبيه باعتبار الأداة إلى مرسل ومؤكد: 1 - فالتشبيه المرسل: هو ما ذكرت فيه أداة التشبيه، نحو: خلق كالمدام أو كرضا ال … مسك أو كالعبير أو كالملاب وقول الشاعر: العمر مثل الضيف أو … كالطيف ليس له إقامة وقول المتنبي في هجاء إبراهيم بن إسحاق الأعور بن كيغلغ: وإذا أشار محدثا فكأنه … قرد يقهقه أو عجوز تلطم 2 - والتشبيه المؤكد: هو ما حذفت منه أداة التشبيه، وتأكيد التشبيه حاصل من ادعاء أن المشبه عين المشبه به، وذلك نحو قوله تعالى تصويرا لبعض ما يرى يوم القيامة: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي أن الجبال ترى يوم ينفخ في الصور تمر كمر السحاب، أي تسير في الهواء كسير السحاب الذي تسوقه الرياح. ومنه شعرا قول المتنبي مادحا: أين أزمعت أيهذا الهمام … نحن نبت الرّبا وأنت الغمام (¬1) كل عيش ما لم تطبه حمام … كل شمس ما لم تكنها ظلام (¬2) ¬

_ (¬1) أزمعت: وطدت عزمك، والربا جمع ربوة: الأراضي العالية. (¬2) المعنى: كل عيش لم تطبه وتؤنسه هو كالحمام أي الموت، وكل شمس إذا لم تكن أنت إياها كالظلام.

والتشبيه المؤكد أبلغ من التشبيه المرسل وأوجز، أما كونه أبلغ فلجعل المشبه مشبها به من غير واسطة أداة فيكون هو إياه، فإنك إن قلت: زيد أسد كنت قد جعلته أسدا من غير إظهار أداة التشبيه، وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه. ومن التشبيه المؤكد ما أضيف فيه المشبه به إلى المشبه، نحو قول الشاعر: والريح تعبث بالغصون وقد جرى … ذهب الأصيل على لجين الماء فالصورة هنا أن الريح تعبث بغصون الأشجار المخضرة فتميلها يمينا وشمالا وأعلى وأسفل، والحال أنه قد جرى «ذهب الأصيل» أي الأصيل الذي كالذهب في الصفرة على «لجين الماء»، أي على ماء كاللجين أي كالفضة في الصفاء والبياض. وقول الشريف الرضي: أرسى النسيم بواديكم ولا برحت … حوامل المزن في أجداثكم تضع ولا يزال جنين النبت ترضعه … على قبوركم العرّاصة الهمع (¬1) فهو يريد «بحوامل المزن» المزن أو السحب التي هي كالحوامل من الحيوان، بجامع ما في كل من المنفعة، كما يريد «بجنين النبت» النبت الذي كالجنين. فالمشبه به في هذين التشبيهين قد أضيف إلى المشبه. وهذا تشبيه مؤكد. وقد يسمى التشبيه المرسل «مظهرا» كما يسمى التشبيه المؤكد ¬

_ (¬1) الأجداث: القبور، والعراصة: السحابة التي صارت كالسقف ذات رعد وبرق، والهمع: اسم لما يهمع أي يسيل، والماطر.

«مضمرا». وهذا التشبيه المؤكد أو المضمر ينقسم أقساما، منها: - ما يقع فيه المشبه والمشبه به موقع المبتدأ وخبره المفرد، نحو: أنت أسد، وكرمك بحر، وقولك شعر، وحديثك شهد. ففي هذه الأمثلة وأشباهها لا يصعب تقدير الأداة. 2 - وما يقع فيه المشبه موقع المبتدأ والمشبه به موقع الخبر المفرد المكون من مضاف ومضاف إليه، نحو: أنت حصن الضعفاء. وهذا القسم بدوره يأتي على نوعين: أ- إذا كان المضاف إليه معرفة، كما في المثال السابق، جاز لنا عند تقدير أداة التشبيه الإبقاء على المضاف إليه كما هو أو تقديمه على المضاف، فنقول مثلا: أنت كحصن الضعفاء، أو أنت للضعفاء كحصن. ب- وإذا كان المضاف إليه نكرة تعين تقديمه عند تقدير الأداة، فنقول في مثل: فلان بحر بلاغة، «فلان في البلاغة كبحر». ومن ذلك قول البحتري مادحا: غمام سحاب ما يغبّ له حيا … ومسعر حرب ما يضيع له وتر فإذا شئنا تقدير الأداة هنا قلنا: «سماح كالغمام»، ولا يقدر إلا هكذا والمبتدأ هنا محذوف وهو الإشارة إلى الممدوح، وكأن التقدير: هو غمام سماح. وعند تقدير الأداة يقدم المضاف إليه فيقال: هو سماح كالغمام، أو هو في السماح كالغمام (¬1). ومه قول أبي تمام: أيّ مرعى عين ووادي نسيب … لحبته الأيام في ملحوب ¬

_ (¬1) المثل السائر لابن الأثير ص 153.

وجه الشبه

ومراد أبي تمام أن يصف هذا المكان بأنه كان حسنا ثم زال عنه حسنه فقال بأن العين كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة بالمرعى، فإنه كان يشبب به في الأشعار لحسنه وطيبه. وإذا قدرنا الأداة هنا قلنا: كأنه كان للعين مرعى وللنسيب منزلا ومألفا. وجه الشبه وجه الشبه هو المعنى الذي يشترك فيه طرفا التشبيه تحقيقا أو تخييلا. والمراد بالتحقيق هنا أن يتقرر المعنى المشترك في كل من الطرفين على وجه التحقيق. وذلك نحو تشبيه الرجل بالأسد. فالشجاعة هي المعنى المشترك أو الصفة الجامعة بينهما، وهي على حقيقتها موجودة في الإنسان. وإنما يقع الفرق بينه وبين الأسد الذي شبّه به من جهة قوة الشجاعة وضعفها. وزيادتها ونقصانها. ومثل ذلك تشبيه الشعر بالليل ووجه الشبه هنا هو السواد وهو مأخوذ من صفة موجودة في كل واحد من الطرفين وجودا حقيقيا، وإن كان من فرق في الصفة فهو في درجة قوتها وضعفها. والمراد بالتخييل أن لا يمكن وجوده في المشبه به إلا على سبيل التأويل والتخييل كقول القاضي التنوخي: وكأن النجوم بين دجاها … سنن لاح بينهنّ ابتداع (¬1) ¬

_ (¬1) البدعة والابتداع: غلب استعمالهما فيما هو نقص في الدين أو زيادة، لكن قد يكون بعض البدعة غير مكروه، فيسمى بدعة مباحة، وهو ما شهد لجنسه أصل الشرع، أو اقتضته مصلحة يندفع بها مفسدة.

فإن وجه الشبه في هذا التشبيه أو الجامع بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود. فهذه الهيئة غير موجودة في المشبه به إلا على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة والضلالة وكل ما هو جهل يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة فلا يهتدي إلى الطريق ولا يفصل الشيء من غيره- شبهت بالظلمة، ولزم على عكس ذلك أن تشبّه السنة والهدى وكلّ ما هو علم بالنور. وأصل ذلك قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ،* وشاع ذلك حتى وصف الصنف الأول بالسواد، كما في قول القائل: «شاهدت سواد الكفر من جبين فلان»، وحتى وصف الصنف الثاني بالبياض، كما في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتيتكم بالحنيفية البيضاء»؛ وذلك لتخيل أن السنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين، وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك. ولهذا صار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين البدع، كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب، أو بالأزهار مؤتلقة بين النبات الشديد الخضرة. فالتأويل فيه أنه تخيّل ما لا لون له ذا لون. ومن التشبيه التخييلي قول ابن بابك: وأرض كأخلاق الكرام قطعتها … وقد كحل الليل السماك فأبصرا (¬1) فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة، تخيّل أخلاق الكرام شيئا له سعة، وجعله أصلا فيها، فشبّه الأرض بالسعة. ¬

_ (¬1) السماك: أحد السماكين أو النجمين النيرين: الأعزل، والسماك الرامح.

وجه الشبه من حيث الإفراد والتعدد

ومنه قول أبي طالب الرقي: ولقد ذكرتك والظلام كأنه … يوم النوى وفؤاد من لم يعشق فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا، فيقال اسودّ النهار في عيني وأظلمت الدنيا عليّ، ولما كان المحب الغزل يفترض القسوة فيمن لم يعشق، وكان القلب القاسي يوصف بالسواد توسعا، تخيّل الشاعر العاشق يوم النوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد، وجعلهما أعرف به، وأشهر من الظلام فشبهه بهما. وجه الشبه من حيث الإفراد والتعدد: ووجه الشبه قد يكون واحدا حسيا كالحمرة والخفاء وطيب الرائحة ولذة الطعم ولين الملمس، في تشبيه الخد بالورد، والصوت الضعيف بالهمس، والنكهة بالعنبر، والريق بالعنبر، والريق بالخمر، والجلد الناعم بالحرير. وقد يكون وجه الشبه واحدا عقليا، كالجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد، وكمطلق الهداية في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». وقد يكون وجه الشبه متعددا حسيا، والمراد بالتعدد هنا أن يذكر في التشبيه عدد من أوجه الشبه من اثنين فأكثر على وجه صحة الاستقلال، بمعنى أن كل واحد منها لو اقتصر عليه كفى في التشبيه. مثال ذلك أن يقال: البرتقالة كالتفاحة في شكلها وفي لونها وفي حلاوتها، وفي رائحتها. فلو أسقط وجهان من أوجه الشبه هذه لكفى الباقي في التشبيه للإبانة عن قصد المتكلم. وهذا هو وجه الشبه المتعدد. والمتعدد العقلي نحو: البنت كأمها حنانا وعطفا وعقلا ولطفا.

التشبيه باعتبار وجهه

والمتعدد المختلف نحو: الولد كأبيه في طوله ومشيته وصوته، وخلقه وكرمه وعلمه. التشبيه باعتبار وجهه: وللتشبيه باعتبار وجه الشبه ثلاث تقسيمات: تمثيل وغير تمثيل. مفصل ومجمل. قريب وبعيد. 1 - تشبيه التمثيل: وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أمور. هذا هو مذهب جمهور البلاغيين في تعريفه، ولا يشترطون فيه غير تركيب الصورة، سواء أكانت العناصر التي تتألف منها صورته أو تركيبه حسية أو معنوية. وكلما كانت عناصر الصورة أو المركب أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ. ومن أمثلته قول شاعر يمدح فارسا: وتراه في ظلم الوغى فتخاله … قمرا يكرّ على الرجال بكوكب فالمشبه هنا هو صورة الممدوح الفارس وبيده سيف لا مع يشق به ظلام غبار الحرب، والمشبه به صورة قمر يشق ظلمة الفضاء ويتصل به كوكب مضيء، ووجه الشبه هو الصورة المركبة من ظهور شيء مضيء يلوح بشيء متلألئ في وسط الظلام. ومنه قول ابن المعتز يصف السماء بعد تقشع سحابة: كأن سماءنا لما تجلّت … خلال نجومها عند الصباح

رياض بنفسج خضل نداه … تفتّح بينه نور الأقاح (¬1) فالمشبه صورة السماء والنجوم منثورة فيها وقت الصباح والمشبه به صورة رياض من أزهار البنفسج تخللتها أزهار الأقاحي، ووجه الشبه هو الصورة الحاصلة من شيء أزرق انتشرت في أثنائه صور صغيرة بيضاء. ومنه قول أبي تمام في مغنية تغني بالفارسية: ولم أفهم معانيها ولكن … ورت كبدي فلم أجهل شجاها فبتّ كأنني أعمى معنّى … بحبّ الغانيات وما يراها (¬2) فالمشبه هنا حال الشاعر يثير نغم المغنية بالفارسية في نفسه كوامن الشوق وهو لا يفهم لغتها، والمشبه به حال الأعمى يعشق الغانيات وهو لا يرى شيئا من حسنهن، ووجه الشبه هو صورة قلب يتأثر وينفعل بأشياء لا يدركها كل الإدراك. ومنه قول شاعر في صديق عاق: إني وإياك كالصادي رأى نهلا … ودونه هوّة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماء عزّ مورده … وليس يملك دون الماء منصرفا فالمشبه حال الشاعر مع صديقه العاق يدعوه الوفاء إلى الإبقاء على مودته، ويدعوه ما يراه فيه من العقوق إلى قطعه، وهو بين الأمرين حائر، ولكنه يصغي أخيرا إلى داعي الوفاء، والمشبه به حال عطشان رأى ماء ¬

_ (¬1) الخضل: الرطب، والمعنى: بعد أن انقشعت السحابة صارت السماء بين النجوم المنتشرة وقت الفجر كرياض من البنفسج المبتل بالماء تفتحت في أثنائه أزهار الأقاحي. (¬2) ورت كبدي: ألهبته، والشجا: الحزن والطرب، والمعنى: لم أجهل ما بعثته في نفسي من الحزن، والمعنى: المتعب الحزين.

تحول بينه وبين الشرب منه هوّة يخشى منها الهلاك على نفسه لو دنا منه، فوقف حائرا ولكنه لا يستطيع الانصراف عن الماء، ووجه الشبه هو صورة من يريد شيئا فتحول العقبات دونه فتدركه الحيرة ولكنه لا ييئس. ومنه قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. فالمشبه حال من ينفق قليلا في سبيل الله ثم يلقى عليه جزاء جزيلا، والمشبه به حال من بذر حبة فأنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة، ووجه الشبه هو صورة من يعمل قليلا فيجني من ثمار عمله كثيرا. ... أما وجه الشبه عند ما يكون غير تمثيل فهو عكس ذلك، أي عند ما لا يكون صورة منتزعة من متعدد، وبعبارة أخرى هو ما يكون غير مركب أي مفردا، وكونه مفردا لا يمنع من تعدد الصفات المشتركة بين طرفي التشبيه. ومن أمثلة التشبيه عند ما يكون وجه الشبه فيه غير تمثيل قول البحتري: هو بحر السماح والجود فازدد … منه قربا تزدد من الفقر بعدا فالمشبه هنا هو الممدوح والمشبه به هو البحر، ووجه الشبه الذي يشترك فيه الممدوح والبحر هو صفة الجود. وقول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله … عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

2 - ويكون وجه الشبه مفصلا ومجملا

فالمشبه في هذا البيت هو الليل في ظلامه وهوله، والمشبه به هو موج البحر، وأن هذا الليل أرخى عليه حجبه وسدوله مصحوبة بكل أنواع الهموم والأحزان ليختبر صبره وقوة احتماله، ووجه الشبه الذي يشترك فيه الليل وموج البحر صفتان هما: الظلمة والروعة. وقول أبي بكر الخالدي: يا شبيه البدر حسنا … وضياء ومنالا وشبيه الغصن لينا … وقواما واعتدالا أنت مثل الورد لونا … ونسيما وملالا زارنا حتى إذا ما … سرّنا بالقرب زالا فالمشبه في هذا المثال هو الحبيب، والمشبه به هو البدر مرة، والغصن مرة ثانية، والورد مرة ثالثة، ووجه الشبه الذي يشترك فيه الطرفان صفات متعددة لا يرتبط بعضها ببعض، وكل صفة منها يمكن الاكتفاء بها كوجه شبه، بمعنى أنه لو حذف بعضها دون بعض أو قدّم بعضها على بعض ما اختل التشبيه. ولعلنا الآن أدركنا من هذه الأمثلة أن تشبيه غير التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه غير صورة أي غير مركب. وبعبارة أخرى هو ما كان مفردا مهما تعددت الصفات التي يشترك فيها الطرفان، وأن هذه الصفات المشتركة إن وجدت لا يشترط فيها نظام أو ترتيب معين، بمعنى أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، كما يجوز الإبقاء عليها أو على بعضها كوجه شبه من غير إخلال بالتشبيه. 2 - ويكون وجه الشبه مفصلا ومجملا: أ- فالتشبيه المفصل: هو ما ذكر فيه وجه الشبه، وذلك نحو قول الشاعر:

كم وجوه مثل النهار ضياء … لنفوس كالليل في الإظلام فالبيت هنا فيه تشبيهان وجه الشبه في الأول «ضياء» وفي الثاني «الإظلام» وكلاهما مذكور في التشبيه. قول ابن الرومي: يا شبيه البدر في الحس … ن وفي بعد المنال جد فقد تنفجر الصخ … رة في الماء الزلال فالمشبه هو الحبيب والمشبه به البدر ووجه الشبه هو اشتراك الطرفين في صفتي الحسن وبعد المنال، وكلتاهما مذكورة في التشبيه. وقول آخر: أنت كالبحر في السماحة، والش … مس علوا، والبدر في الإشراق فهذا البيت يشتمل على ثلاثة تشبيهات ذكر في كل منها وجه الشبه، وهو في التشبيه الأول «السماحة» وفي الثاني «العلو» وفي الثالث «الإشراق». فكل تشبيه من التشبيهات التي تضمنتها هذه الأمثلة تشبيه مفصّل، لأن وجه الشبه قد ذكر فيه. ب- والتشبيه المجمل: هو ما حذف منه وجه الشبه، وذلك نحو قول الشاعر: وكأن إيماض السيوف بوارق … وعجاج خيلهم سحاب مظلم (¬1) ففي البيت تشبيهان: تشبيه إيماض السيوف بالبرق في الظهور وسرعة الخفاء، وتشبيه عجاج الخيل بالسحاب المظلم في سواده وانعقاده ¬

_ (¬1) الإيماض: اللمعان، والبوارق: جمع بارق وهو البرق، والعجاج: الغبار.

في الجو. ووجه الشبه في كليهما محذوف، ولهذا فهو تشبيه مجمل. ومن التشبيه المجمل ما وجه شبهه ظاهر يفهمه كل أحد حتى العامة كالمثال السابق، وكقولنا: زيد أسد، إذ لا يخفى على أحد أن المراد به التشبيه في الشجاعة دون غيرها. ومن التشبيه المجمل ما وجهه خفيّ لا يدركه إلّا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة، كقول فاطمة بنت الخرشب عند ما سئلت عن بنيها أيهم أفضل فقالت: «عمارة، لا بل فلان، لا بل فلان. ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل. هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها». فمعنى ذلك أن أبناءها لتناسب أصولهم وفروعهم وتساويهم في الشرف يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها وتساويها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا. فتشبيه أبناء بنت الخرشب بالحلقة المفرغة تشبيه مجمل، ووجه شبهه المحذوف هو تعذر بل استحالة تعيين أوليّة أو أفضلية أشياء متناسبة متساوية، أو هو التناسب المانع من تمييز يصح معه التفاوت. فهذا الوجه المحذوف والذي يشترك فيه طرفا التشبيه أمر خفيّ لا يستطيع إدراكه إلا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة، كما ذكرت آنفا. ومن التشبيه المجمل ما لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به، أي الوصف المشعر بوجه الشبه، ومن هذا النوع: تشبيه إيماض السيوف بالبوارق، وتشبيه زيد بالأسد السابقين. ومنه ما يذكر فيه وصف المشبه به وحده، كتشبيه عجاج الخيل بالسحاب المظلم، وتشبيه أبناء بنت الخرشب بالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها.

ومن هذا النوع أيضا، أي التشبيه المجمل الذي ذكر فيه وصف المشبه به وحده قول زياد الأعجم: وأنا وما تلقي لنا إن هجوتنا … لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق وقول النابغة الذبياني: فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ومن التشبيه المجمل ما ذكر فيه وصف كل من المشبه والمشبه به، كقول أبي تمام في مدح الحسن بن سهل: صدفت عنه ولم تصدف مواهبه … عنيّ، وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريّقه … وإن ترحلت عنه لجّ في الطلب (¬1) فالتشبيه هنا هو: «الممدوح كالغيث» والبيت الأول مشتمل على وصف المشبه وهو الممدوح، والبيت الثاني مشتمل على وصف المشبه به وهو الغيث، وكلا الوصفين مشعر بوجه الشبه المحذوف، وهو عدم التخلص من كليهما على أي حال. 3 - ويكون قريبا وبعيدا: كذلك يكون التشبيه باعتبار الوجه قريبا وبعيدا. والمراد بالقريب القريب المتبذل، وبالبعيد البعيد الغريب. فالقريب المتبذل: هو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير ¬

_ (¬1) صدفت عنه: أعرضت عنه، لم تصدف مواهبه: لم تنقطع عني عطاياه، الغيث: المطر الواسع المقبل الذي يغيث أهل الأرض، وافاك ريقه: جاءك ولاقاك وأقبل عليك أوله وأحسنه، وإن ترحلت عنه: أي فررت من الغيث، لج في الطلب: ألح وبالغ في إدراكك مع فرارك منه.

تدقيق نظر، وذلك لظهور وجهه في بادئ الرأي. وسبب ظهوره أمران: الأول كون الشيء جمليا، فإن الجملة أسبق دائما إلى النفس من التفصيل. ألا ترى أن الرؤية لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل لكن على الجملة، ثم على التفصيل؟ ولذلك قيل النظرة الأولى حمقاء، وفلان لم يمعن النظر. وكذلك الشأن بالنسبة لسائر الحواس، فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق والشم واللمس في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى. فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة أشياء يريد تمييزه مما اختلط به، ومن يريد الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا من غير تدقيق نظر. وكذلك حكم ما يدرك بالعقل، ترى الشيء يسبق دائما إلى الذهن إجمالا، أما التفاصيل فمغمورة في الإجمال لا تحضر وتنكشف إلا بعد إعمال الرؤية. والأمر الثاني في ظهور وجه الشبه في بادئ الرأي كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن، إما عند حضور المشبه لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل وفي المقدار، وإما مطلقا لتكرره على الحس، كتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة في الاستدارة والاستنارة؛ فإن قرب المناسبة والتكرر كل واحد منهما يعارض التفصيل لاقتضائه سرعة الانتقال. والبعيد الغريب: هو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر، وذلك لخفاء وجهه في بادئ الرأي. وسبب خفائه أمران: أحدهما كونه كثير التفصيل، كقول الراجز: «والشمس كالمرآة في كف الأشل». فوجه الشبه في هذا التشبيه هو الهيئة

الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة مع تموّج الإشراق واضطرابه بسبب تلك الحركة حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض. فالشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدية إلى هذه الهيئة، وكذلك المرآة إذا كانت في كف الأشل. فالهيئة التي يتركب منها وجه الشبه هنا لا تقوم في نفس الرائي للمرآة الدائمة الاضطراب إلا بعد تأمل وطول نظر وتمهل. والأمر الثاني لخفاء وجه الشبه في بادئ الرأي هو ندرة حضور المشبه به في الذهن، أما عند حضور المشبه لبعد المناسبة بينهما كتشبيه البنفسج بنار الكبريت في قول الشاعر: ولا زورديّة تزهو بزرقتها … بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها … أوائل النار في أطراف كبريت فإن لازورديّة وهي البنفسجة شبهت بالنار في أطراف كبريت، ومعلوم أن الشيء الطبيعي الذي يتبادر إلى الذهن بسرعة عند حضور «اللازوردية» فيه هو الأزهار والرياحين التي هي من جنسها لا أوائل النار في أطراف الكبريت. ولما كان الانتقال من البنفسج إلى النار المذكورة بعد التأمل وطول النظر كان التشبيه غريبا. وإما أن تحصل ندرة المشبه به حصولا مطلقا من غير تقيد بوقت حضور المشبه لكونه وهميا، كما مضى من تشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال، أو لكونه مركبا خياليا كتشبيه أزهار الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد، أو لكونه مركبا عقليا كتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا.

التشبيه المقلوب

فإن كلّا سبب لندرة حضور المشبه به في الذهن، أو لقلة تكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، فقد يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل. فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين هما: كثرة التفصيل في وجه الشبه، وقلة التكرار أو الورود على الحس. التشبيه المقلوب التشبيه المقلوب هو جعل المشبه مشبها به بادعاء أن وجه الشبه فيه أقوى وأظهر. وأبو الفتح عثمان بن جني في كتابه الخصائص (¬1) يسمي هذا النوع من التشبيه «غلبة الفروع على الأصول» ويقول: «هذا فصل من فصول العربية طريف، تجده في معاني العرب، كما تجده في معاني الأعراب. ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة. فمها جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته … إذا ألبسته المظلمات الحنادس (¬2) أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا؟ وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء أي الرمال، ألا ترى إلى قوله: ¬

_ (¬1) كتاب الخصائص لابن جنى ج 1 ص 300، مطبعة دار الكتب المصرية. (¬2) ألبسته: غطته، والحنادس: جمع حندس، والحندس: اشتداد الظلمة، وقد ذهب بها مذهب الوصف.

ليلى قضيب تحته كثيب … وفي القلاد رشأ ربيب (¬1)؟ ولله البحتري فما أعذب وأظرف وأدمث قوله: أين الغزال المستعير من النقا … كفلا ومن نور الأقاحي مبسما؟ فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا، فشبّه كثبان الأنقاء، أي الرمال بأعجاز النساء. وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء، وصار كأنه الأصل فيه، حتى شبه به كثبان الأنقاء». وقد عرض ابن الأثير في كتابه المثل السائر لهذا النوع من التشبيه، وسماه «الطرد والعكس»، وذلك إذ يقول: «واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس، وهو أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول ... ومما جاء منه قول البحتري: في طلعة البدر شيء من محاسنها … وللقضيب نصيب من تثنيها وقول عبد الله بن المعتز في تشبيه الهلال: ولاح ضوء قمير كاد يفضحنا … مثل القلامة قد قدّت من الظّفر ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه الأصل، وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ. وهذا قد ذكره أبو الفتح ابن جني في كتاب الخصائص. ولما نظرت أنا في ذلك وأنعمت نظري فيه تبين لي ما أذكره، وهو ¬

_ (¬1) القلاد: واحدها قلادة، والرشأ: الظبي إذا تحرك وقوي ومشى مع أمه.

أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبّه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل، أي يشبه بما هو أبين وأوضح، أو بما هو أحسن منه أو أقبح، وكذلك يشبه الأقل بالأكثر، والأدنى بالأعلى. وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة لأن الذي قدمنا ذكره مطرد في بابه وعليه مدار الاستعمال. وهذا غير مطرد وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف، وذاك أن تجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبها به. ولا يحسن في غير ذلك مما ليس بمتعارف؛ ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان، فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا، وكذلك فعل البحتري، فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر، والقد الحسن بالقضيب، فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا. ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك، وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء، والقضيب بغير قدّها لما حسن ذلك أيضا. وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة؛ لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال، فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه» (¬1). ... ومن أمثلة التشبيه المقلوب قول ابن المعتز: والصبح في طرّة ليل مسفر … كأنه غرّة مهر أشقر (¬2) ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 164. (¬2) طرة الشيء: طرفه، وليل مسفر: دخل في الإسفار وهو ظهور الفجر، والغرّة: بياض في-

فالمشبه هنا هو الصبح والمشبه به هو غرّة مهر أشقر، وهذا تشبيه مقلوب، لأن العادة في عرف الأدباء أن تشبّه غرّة المهر بالصبح، لأن وجه الشبه وهو البياض أقوى في الصبح منه في المهر. ولكن الشاعر عدل عن المألوف، وقلب التشبيه للمبالغة، بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في غرّة المهر منه في الصبح. ومنه قول محمد بن وهيب الحميري (¬1) في ذات التشبيه: وبدا الصباح كأن غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح فالمشبّه هنا أيضا هو ضوء الصباح في أول تباشيره، والمشبه به هو وجه الخليفة عند سماعه المديح. فالتشبيه كما ترى مقلوب، والأصل فيه هو العكس، لأن المألوف أن يشبّه الشيء دائما بما هو أقوى وأوضح منه في وجه الشبه؛ ليكتسب منه قوة ووضوحا. ولكن الشاعر تفننا منه في التعبير عكس القضية وقلب التشبيه للمبالغة والإغراق بادّعاء أن الشبه أقوى في المشبّه. ومنه قول البحتري مادحا: كأن سناها بالعشيّ لصبحها … تبسّم عيسى حين يلفظ بالوعد شبّه البحتري برق السحابة الذي ظلّ لّماعا طوال الليل بتبسم الممدوح حين يعد بالعطاء، ولا شك أن لمعان البرق أقوى من بريق الابتسام، فكان المألوف أن يشبّه الابتسام بالبرق على عادة الشعراء، ولكن البحتري قلب التشبيه تفننا في التعبير والتماسا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه أقوى في المشبّه. ¬

_ - جبهة الفرس، والمهر الأشقر: الأحمر الشعر. (¬1) شاعر شيعي عباسي انقطع لمدح المأمون.

ومنه قول شاعر آخر: أحنّ لهم ودونهم فلاة … كأن فسيحها صدر الحليم فالشاعر في هذا البيت شبّه فسيح الفلاة بصدر الحليم، فالتشبيه كما ترى مقلوب، إذ المعهود تشبيه صدر الحليم بالفلاة. ولكن الشاعر رغبة منه في المبالغة بادّعاء أن صدر الحليم أفسح من الصحراء عكس التشبيه. ... وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة التشبيه المقلوب تترك للدّارس أمر التعرّف إلى المشبه والمشبه به في كلّ منها. قال أبو نواس في وصف النرجس: لدى نرجس غضّ القطاف كأنه … إذا ما منحناه العيون عيون وقال البحتري في المدح: لجرّ عليّ الغيث هدّاب مزنه … أواخرها فيه وأوّلها عندي تعجّل عن ميقاته فكأنه … أبو صالح قد بت منه على وعد وقال ابن المعتز يصف سحابة ويشبه البرق بالسيوف المنتضاة: وسارية لا تملّ البكا … جرى دمعها في خدود الثرى سرت تقدح الصبح في ليلها … ببرق كهندية تنتضى (¬1) وقال البحتري في تشبيه حمرة الورد بحمرة خدي محبوبته، وتشبيه ميلان الغصن إذا هزّه النسيم بتثني قدّها: ¬

_ (¬1) السارية: السحابة تمطر ليلا، والثرى: التراب الندي، والأرض، كهندية تنتضى: أي مثل سيوف هندية تسلّ من أغمادها.

في حمرة الورد شيء من تلهّبها … وللقضيب نصيب من تثنيها وقال أيضا في وصف بركة المتوكل، وتشبيه البركة في تدفق مائها بيد المتوكل في العطاء: كأنها حين لجّت في تدفقها … يد الخليفة لما سال واديها (¬1) وقال في تشبيه الندى على شقائق النعمان بدموع الشوق على خدود الحسان: شقائق يحملن الندى فكأنه … دموع التصابي في خدود الخرائد ... والخلاصة أن الأصل في التشبيه أن يجري على السّنن المعروف عند العرب والذي يتمثل في أن يلتمس المشبه به مما هو معروف ومألوف في حياتهم حتى ولو كان المشبه أقوى وأعظم في الصفة التي يشترك فيها مع المشبه به. فالعرب مثلا قد اشتهر بينهم عمرو بن معدّ يكرب بالإقدام، وحاتم بالجود، وأحنف بن قيس بالحلم، وإياس بالذكاء، وأصبح كل واحد من هؤلاء مثلا عاليا في الصفة التي اشتهر بها. فالأسلوب العربي يقضي على الشاعر أن يجعل كل واحد من هؤلاء الأعلام مشبّها به، سواء أوجد بعده من هو أعظم منه في الصفة وأقوى أم لم يوجد. وقد سلك القرآن الكريم هذا السّنن فشبّه نور الله سبحانه وتعالى، وهو بلا شك أقوى الأنوار، بنور المصباح في مشكاة، لأنّ العرب جروا على عادة أن يجعلوا نور المصباح أكبر الأنوار وأعظم الأضواء. كذلك اطّردت العادة في البلاغة على تشبيه الأدنى بالأعلى، فإذا جاء ¬

_ (¬1) لجّ في الأمر: تمادى واستمر.

التشبيه الضمني

الأمر على خلاف ذلك فهو التشبيه المعكوس أو المقلوب طلبا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به. وقد شاع ذلك، كما يقول ابن الأثير، في كلام العرب واتّسع حتى صار كأنه الأصل في التشبيه. والواقع أن هذا الضرب من التشبيه حسن الموقع لطيف المأخذ، وهو مظهر من مظاهر الافتنان والإبداع في التعبير. والشرط في استعمال التشبيه المقلوب ألّا يرد إلا فيما جرى عليه العرف والإلف لدى العرب، وذلك حتى تظهر فيه بوضوح صورة القلب والانعكاس. على هذا الأساس يحسن التشبيه المقلوب ويقبل، أما إذا ورد في غير المعهود المألوف فإنه يكون معيبا لأن المبالغة فيه تصيبه بالغموض، وتؤدي إلى التداخل بين طرفيه، فلا يعرف أيّهما المشبّه، وأيّهما المشبه به. ويقرب من هذا النوع ما أطلق عليه «تشبيه التفضيل»، وهو أن يشبّه شيء بشيء لفظا أو تقديرا، ثم يعدل عن التشبيه لادّعاء أن المشبه أفضل من المشبه به. ومن ذلك قول الشاعر: حسبت جماله بدرا منيرا … وأين البدر من ذاك الجمال؟ وقول شاعر آخر: من قاس جدواك يوما … بالسحب أخطأ مدحك السحّب تعطي وتبكي … وأنت تعطي وتضحك التشبيه الضمني التشبيه الضمني: تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة، بل يلمحان في التركيب. وهذا الضرب من التشبيه

يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أسند إلى المشبه ممكن. وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبير عن بعض أفكاره إلى أسلوب يوحي بالتشبيه من غير أن يصرّح به في صورة من صوره المعروفة. ومن بواعث ذلك التفنّن في أساليب التعبير، والنزوع إلى الابتكار والتجديد، وإقامة البرهان على الحكم المراد إسناده إلى المشبه، والرغبة في إخفاء معالم التشبيه، لأنه كلما خفي ودقّ كان أبلغ في النفس. ولنأخذ مثالا لذلك، وهو قول أبي فراس الحمداني: سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم … وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فهو هنا يريد أن يقول: إن قومه سيذكرونه عند اشتداد الخطوب والأهوال عليهم ويطلبونه فلا يجدونه، ولا عجب في ذلك لأن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظلام. فهذا الكلام يوحي بأنه تضمن تشبيها غير مصرّح به؛ فالشاعر يشبّه ضمنا حاله وقد ذكره قومه وطلبوه فلم يجدوه عند ما ألّمت بهم الخطوب بحال البدر يطلب عند اشتداد الظلام. فهو لم يصرّح بهذا التشبيه وإنما أورده في جملة مستقلة وضمنه هذا المعنى في صورة برهان. ولنأخذ مثالا آخر وهو قول البحتري: ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم … وللسيف حدّ حين يسطو ورونق فممدوح البحتري يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم في الوقت ذاته ببأسه وسطوته، وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك. وهذا كلام يشمّ منه رائحة التشبيه الضمني.

فالبحتري لم يأت بالتشبيه صريحا فيقول: إن حال الممدوح يضحك في غير مبالاة عند ملاقاة الشجعان ويفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق وفتك، ولكنه أتى بذلك ضمنا، لباعث من البواعث السابقة. ولنأخذ مثالا ثالثا وهو قول ابن الرومي: قد يشيب الفتى وليس عجيبا … أن يرى النّور في القضيب الرطيب (¬1) فابن الرومي يودّ أن يقول هنا: قد يعتري الفتى الشيب في ريعان شبابه، وليس ذلك بالأمر العجيب لأن الغصن الغضّ الندي قد يظهر فيه الزهر الأبيض قبل أوانه. فالأسلوب الذي عبّر به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها لم يصرّح به، فإنه لم يقل مثلا: إن الفتى وقد شاب مبكرا كالغصن الغضّ الرطيب وقد أزهر قبل أوانه، ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا، لإفادة أن الحكم الذي أسند للمشبّه أمر ممكن الوقوع. ولنأخذ مثلا أخيرا وهو قول أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى … السيل حرب للمكان العالي يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلوّ الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريبا، لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل. فالكلام يوحي بتشبيه ضمني، ولو صرّح به لقال مثلا: إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل. ولكن ¬

_ (¬1) النور: الزهر الأبيض. والقضيب الرطيب: الغصن الغضّ الندي.

الشاعر لم يقل ذلك صراحة، وإنما أتى بجملة مستقلة وضمّنها هذا المعنى في صورة برهان على إمكان وقوع ما أسنده للمشبّه. ... وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمنى: 1 - قال المتنبي: وما أنا منهم بالعيش فيهم … ولكن معدن الذهب الرغام (¬1) المشبه حال الشاعر لا يعدّ نفسه من أهل دهره وإن عاش بينهم، والمشبه به حال الذهب يختلط بالتراب، مع أنه ليس من جنسه. 2 - وقال أيضا: ومن الخير بطء سيبك عني … أسرع السحب في المسير الجهام (¬2) المشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليلا على كثرته، والمشبّه به حال السحب تبطئ في السير ويكون ذلك دليلا على غزارة مائها. 3 - وقال أبو العتاهية: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها؟ … إن السفينة لا تجري على اليبس المشبه حال من يرجو النجاة من عذاب الآخرة ولا يسلك مسالك النجاة، والمشبه به حال السفينة التي تحاول الجري على الأرض اليابسة. 4 - وقال ابن الرومي: ¬

_ (¬1) الرغام: التراب. (¬2) السيب: العطاء، والجهام: السحاب لا ماء فيه.

أغراض التشبيه

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت … وقع السهام ونزعهنّ أليم المشبه حال المحبوبة إذا نظرت وإذا أعرضت، والمشبه به حال السهام تؤلم إذا وقعت وتؤلم إذا نزعت. التشبيه البليغ: والتشبيه إذا ما حذفت منه الأداة ووجه الشبه فهو «التشبيه البليغ» وهو أعلى مراتب التشبيه في البلاغة وقوة المبالغة، لما فيه من ادّعاء أن المشبّه هو عين المشبه به، ولما فيه من الإيجاز الناشئ عن حذف الأداة والوجه معا، هذا الإيجاز الذي يجعل نفس السامع تذهب كل مذهب، ويوحي لها بصور شتى من وجوه التشبيه، كقول أبي فراس: إذا نلت منك الودّ فالكل هينّ … وكل الذي فوق التراب تراب أغراض التشبيه قد يلجأ الكاتب أو الشاعر في التعبير إلى أسلوب التشبيه لشعوره بأنه أكثر من غيره في إصابة الغرض ووضوح الدلالة على المعنى. وأغراض التشبيه منوعة، وهي تعود في الغالب إلى المشبّه، وقد تعود إلى المشبّه به. وهذه الأغراض هي: 1 - بيان إمكان وجود المشبّه: وذلك حين يسند إلى المشبه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له. مثال ذلك قول المتنبي: فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإن المسك بعض دم الغزال فالتشبيه هنا ضمني، وفيه ادّعى الشاعر أن المشبّه وهو الممدوح مباين لأصله بصفات وخصائص جعلته حقيقة منفردة. ولما رأى غرابة دعواه وأن هناك من قد ينكر وجودها احتجّ على صحتها بتشبيه الممدوح

بالمسك الذي أصله دم الغزال. ومن أمثلة ذلك أيضا قول البحتري: دان إلى أيدي العفاة وشاسع … عن كل ندّ في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوؤه … للعصبة السارين جدّ قريب ففي البيت الأول وصف الشاعر ممدوحه بأنه قريب للمحتاجين، بعيد المنزلة، بينه وبين نظرائه في الكرم والندى بون شاسع. ولكن الشاعر حينما أحسّ أنه وصف ممدوحه بوصفين متضادين، هما القرب والبعد في وقت واحد، أراد أن يبينّ أن ذلك ممكن، وأن ليس في الأمر تناقض، ولهذا شبّه الممدوح في البيت الثاني بالبدر الذي هو بعيد في السماء، ولكن ضوءه قريب جدا للسارين بالليل. فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو بيان إمكان وجود المشبّه. 2 - بيان حال المشبه: وذلك حينما يكون المشبه مجهول الصفة غير معروفها قبل التشبيه، فيفيده التشبيه الوصف. ومن أمثلة ذلك قول النابغة الذبياني: فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب فالنابغة يشبه ممدوحه بالشمس، ويشبّه غيره من الملوك بالكواكب، لأن عظمة ممدوحه تغضّ من عظمة كل ملك كما تخفي الشمس الكواكب. ولما كانت حال الممدوح وغيره من الملوك، وكلّ منهما مشبّه، مجهولة غير معروفة، فقد أتى بالمشبّه به لبيان أن حال الممدوح مع غيره من الملوك كحال الشمس مع الكواكب، فإذا ظهر أخفاهم كما تخفي الشمس الكواكب بطلوعها. ومن أمثلته أيضا قول ابن الرومي:

حبر أبي حفص لعاب الليل … يسيل للإخوان أيّ سيل فالمشبّه هنا هو حبر أبي حفص أو مداده، والمشبّه به هو لعاب الليل أي سواده. فالمشبه وهو الحبر مجهول الحال أو الصفة لأن للحبر أكثر من لون. ولذلك التمس ابن الرومي له مشبها به هو لعاب الليل الأسود لبيان حاله. فبيان حال المشبه إذن غرض من أغراض التشبيه. 3 - بيان مقدار حال المشبه: أي مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان، وذلك إذا كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة. وذلك نحو قول عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة … سودا كخافية الغراب الأسود فعنترة يخبر في هذا البيت بأن حمولة أهل محبوبته تتألف من اثنتين وأربعين ناقة تحلب، ثم وصف هذه النوق بأنها سود، والنوق السود هي أنفس الإبل وأعزّها عند العرب. ولبيان مقدار سواد هذه النوق شبّهها بخافية الغراب الأسحم، أي جناحه الأسود. فالغرض من التشبيه بيان مقدار حال المشبّه. ومن قول المتنبي في وصف أسد: ما قوبلت عيناه إلا ظنّنا … تحت الدجى نار الفريق حلولا فالمتنبي يصف عينيّ الأسد في الليل بأنهما محمرّتان، ولبيان مقدار احمرارهما لمن يراهما في الليل عن بعد يشبههما بنار لفريق من الناس حلول مقيمين. وقد اضطر المتنبي إلى التشبيه ليبينّ هذا الاحمرار وعظمه، أي ليبينّ مقدار حال المشبه. وهذا غرض من أغراض التشبيه.

ومنه كذلك قول ابن شهيد (¬1) الأندلسي يصف برغوثا: «أسود زنجيّ. أهليّ وحشيّ ... كأنه جزء لا يتجزأ من ليل، أو نقطة مداد، أو سويداء فؤاد ...» فالغرض من التشبيهات الثلاثة هنا هو بيان مقدار حال المشبه، لأنه لما وصف البرغوث بالسواد أراد أن يبيّن مقدار هذا السواد. فالغرض من التشبيه عند عنترة والمتنبي وابن شهيد هو بيان مقدار حال المشبه، أي بيان مقدار صفته المعروفة فيه قبل التشبيه معرفة إجمالية. 4 - تقرير حال المشبه: أي تثبيت حاله في نفس السامع وتقوية شأنه لديه، كما إذا كان ما أسند إلى المشبه يحتاج إلى التأكيد والإيضاح بالمثال؛ وذلك نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ. فالآية الكريمة تتحدث في شأن عبّاد الأوثان الذين يتخذون آلهة غير الله، وتصفهم بأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم، ولا يعود عليهم دعاؤهم إياهم بفائدة. وقد أراد الله سبحانه أن يقرّر هذه الحال ويثبتها في الأذهان، فشبّه هؤلاء الوثنيين بمن يبسط كفّيه إلى الماء ليشرب فلا يصل الماء إلى فمه بداهة، لأنه يخرج من خلال أصابعه ما دامت كفّاه مبسوطتين. فالغرض من التشبيه هنا تقرير حال المشبه. ومن أمثلة هذا الغرض أيضا قول الشاعر: وأصبحت من ليلى الغداة كقابض … على الماء خانته فروج الأصابع فحال الشاعر مع صاحبته ليلى هي حال من كلما دنا منها بعدت عنه، أو حال من كلما أوشك أن يظفر بها أفلتت منه، وقد أراد الشاعر أن ¬

_ (¬1) من أدباء الأندلس وشعرائهم، له شعر جيد ومؤلفات قيّمة. توفي سنة 426 هـ.

يقرر هذه الحالة ويوضّحها فشبّهها بحال القابض على الماء يحاول إمساكه والظفر به فيسيل ويخرج من بين أصابعه. فالغرض من هذا التشبيه أيضا تقرير حال المشبه. ومما يلاحظ على هذا الغرض أنه لا يأتي إلا حينما يكون المشبه أمرا معنويا، لأن النفس لا تسلّم بالمعنويات تسليمها بالحسيّات، ومن أجل ذلك تكون في حاجة إلى الإقناع. وأغراض التشبيه الأربعة السابقة، وهي: بيان إمكان وجود المشبّه، وبيان حاله، وبيان مقداره، وتقرير حاله، تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتم وهو به أشهر؛ إذ على تمام وجه الشبه في المشبه به واشتهاره به يكون حظ التشبيه في تحقيق الغرض بالنسبة للمشبّه. ... 5 - تزيين المشبّه: ويقصد به تحسين المشبّه والترغيب فيه عن طريق تشبيهه بشيء حسن الصورة أو المعنى. ومن أمثلة ذلك قول الشريف الرضي: أحبّك يا لون الشباب لأنني … رأيتكما في القلب والعين توأما (¬1) سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه … فلم أدر من عزّ من القلب منكما؟ فالشريف الرضي في قوله: «سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه» يشبّه حبيبته بحبة القلب السوداء التي هي مناط الحياة في الإنسان. فالغرض من التشبيه هنا تزيين المشبه وبيان أن منزلته في نفس الشاعر منزلة المشبّه به. ¬

_ (¬1) التوأم من جميع الحيوان: المولود مع غيره في بطن إلى ما زاد، ذكرا كان أو أنثى، أو ذكرا مع أنثى. ويقال: هما توأمان، وهما توأم، والمراد بالتوأم في هذا البيت النظيران.

ومن أمثلته أيضا قول أبي الحسن الأنباري (¬1) في رثاء مصلوب: مددت يديك نحوهم احتفاء … كمدّهما إليهم بالهبات فالأنباري يشبّه مدّ ذراعي المصلوب على الخشبة والناس حوله بمدّ ذراعيه بالعطاء للسائلين أيام حياته. فالمشبّه وهو هنا الصلب أمر قبيح تشمئز منه النفوس، ولكن صورة المشبّه به وهي مدّ اليدين بالعطاء للسائلين قد أزالت قبحه وزينته. فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو التزيين، وأكثر ما يكون هذا الغرض في المدح والرثاء والفخر ووصف ما تميل إليه النفوس. ... 6 - تقبيح المشبه: وذلك إذا كان المشبّه قبيحا قبحا حقيقيا أو اعتباريا فيؤتى له بمشبّه به أقبح منه يولّد في النفس صورة قبيحة عن المشبّه تدعو إلى التنفير عنه. ومن أمثلة ذلك قول الشاعر المتنبي في الهجاء: وإذا أشار محدّثا فكأنه … قرد يقهقه أو عجوز تلطم فالمتنبي يشبّه المهجو عند ما يتحدث بالقرد يقهقه أو العجوز تلطم. والغرض من التشبيه تقبيح المشبّه لأن قهقهة القرد ولطم العجوز أمران مستكرهان تنفر منهما النفس. ¬

_ (¬1) أحد الشعراء المجيدين، عاش في بغداد، وتوفي سنة 328 هـ. وقد اشتهر بمرثيته التي رثى بها أبا طاهر بن بقية، وزير عزّ الدولة بن بويه، لما قتل وصلب. والمرثية التي منها هذا البيت من أعظم المراثي، ولم يسمع بمثلها في مصلوب. قيل إن عضد الدولة الذي أمر بصلبه لما سمعها تمنى لو كان هو المصلوب وقيلت فيه. انظر المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء ج 4 ص 8.

وقول ابن الرومي في وصف لحية طويلة: ولحية سائلة منصبّة … شهباء تحكي ذنب المذبّة فابن الرومي يشبّه لحية طويلة شهباء يختلط فيها السواد بالبياض بذنب المذبة، أي المنشة التي يذب بها الذباب ويطرد. والغرض هو تقبيح هذه اللحية والسخرية بصاحبها. وقول أعرابي في ذم امرأته: وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته … توهمته بابا من النار يفتح فالأعرابي الساخط على امرأته بعد أن يدعو عليها بالحرمان من الوجود يشبه فمها عند ما تفتحه بباب من أبواب جهنم. والغرض من هذا التشبيه هو التقبيح. والتشبيه بغرض التقبيح أكثر ما يستعمل في الهجاء والسخرية والتهكم ووصف ما تنفر منه النفس. وفيما يلي بعض أمثلة أخرى للتشبيه عند ما يكون الغرض منه التقبيح: قال ابن الرومي في وصف لؤم شخص ذي لحية: لا تكذبن فإن لؤمك ناصل … كنصول تلك اللمّة الشمطاء شبّه لؤمه الظاهر بظهور اللحية المخضوبة حين يزول الخضاب عنها. وقال السري الرفاء في وصف منزله: لي منزل كوجار الكلب أنزله … ضنك تقارب قطراه فقد ضاقا

فهو يشبّه منزله الضيق الذي تقارب قطراه أي جانباه بوجار الكلب وجحره. وقال ابن الرومي: أبدئت صفحة قسوة وخشونة … من دون تافه نيلك المطلوب فكأنك الينبوت في إبدائه … شوكا يذود به عن الخروب يشبّه ابن الرومي هنا شخصا فظّا غليظ القلب حين يطلب منه أقل معروف بشجر الخروب الذي لا يعادل شوكه ما يجنى من ثمره الأسود المعوجّ الصلب. وقال أيضا في وصف قينة: غنّت فمسّ القلب كلّ كرب … واستوجبت منّا أليم الضرب لها فم مثل اتساع الدّرب (¬1) شبّه فم هذه القينة وهي تغني بالدرب أي الباب الواسع. ومن فوائد التشبيه أنه يمكن عن طريقه تحسين الشيء وتقبيحه في وقت واحد كقول ابن الرومي في مدح العسل وذمّه: تقول: هذا مجاج النحل تمدحه … وإن تعب قلت: ذا قيء الزنابير فابن الرومي قد مدح وذمّ الشيء الواحد بتصريف التشبيه المجازي المضمر الأداة الذي خيّل به إلى السامع خيالا يحسّن الشيء عنده تارة ¬

_ (¬1) الدرب: المدخل بين جبلين، والعرب تستعمله في معنى الباب، فيقال لباب السكة: درب، وللمدخل الضيق درب، لأنه كالباب لما يفضي إليه.

ويقبّحه أخرى، ولولا التوصل بطريق التشبيه إلى هذا الوجه لما أمكنه ذلك. ... وبعد فمن بحثنا السابق لأغراض التشبيه يتضح أن للتشبيه أغراضا شتى نلخص ما ذكرناه منها فيما يلي: 1 - بيان إمكان وجود المشبه: وذلك حين يسند إلى المشبّه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له. 2 - بيان حال المشبّه: وذلك حينما يكون المشبه مجهول الصفة قبل التشبيه، فيفيده التشبيه الوصف. 3 - بيان مقدار حال المشبه: وذلك إذا كان المشبّه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة من جهة القوة والضعف والزيادة والنقصان. 4 - تقرير حال المشبّه: وذلك بتثبيت حال المشبّه في نفس السامع وتقوية شأنه لديه، كما إذا كان ما أسند إلى المشبّه يحتاج إلى التأكيد والإيضاح بالمثال. وأغراض التشبيه الأربعة السابقة تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتمّ وهو به أشهر، وذلك لكي تتحقق هذه الأغراض بالنسبة للمشبّه. 5 - تزيين المشبّه: وذلك بأن يلتمس للمشبّه مشبّه به حسن الصورة أو حسن المعنى يرغب فيه. وأكثر ما يكون هذا الغرض في المدح والرثاء والفخر ووصف ما تميل إليه النفس. 6 - تقبيح المشبّه: وذلك إذا كان المشبّه قبيحا حقيقيا أو اعتباريا، فيؤتى له بمشبه أقبح منه للتنفير منه. وأكثر ما يكون هذا الغرض في الهجاء

غرائب التشبيه وبديعه

ووصف ما تنفر منه النفس. وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن جميع هذه الأغراض ترجع في الغالب إلى المشبّه، وقد ترجع إلى المشبّه به وذلك في حالة التشبيه المقلوب. ... غرائب التشبيه وبديعه التشبيه أسلوب من الأساليب البيانية، وهو ميدان واسع تتبارى فيه قرائح الشعراء والبلغاء. ولعلّه هو وأسلوب الاستعارة من أكثر أساليب البيان دلالة على عقل الأديب وقدرته على الخلق والإبداع. والتشبيه الذي هو في الوقت ذاته أساس الاستعارة يدلّ فيما يدلّ على خصب الخيال وسموّه وسعته وعمقه، كما يظهر كذلك مدى القدرة على تمثيل المعاني والتعبير عنها في صور رائعة خلّابة. من أجل ذلك كله يفتنّ الشعراء والبلغاء في صور التشبيه وألوانه، ويتنافس ذوو المواهب في طرق تناوله والإتيان فيه بكل غريب وبديع طريف. ولما كان التشبيه على هذا الوضع يعدّ مقياسا يقاس به بلاغة البليغ وأصالته، فإننا نرى من البلغاء من لا يقف في الدلالة على براعته في التشبيه عند حدّ إجادته، وإنما يتجاوز ذلك إلى الإتيان بأكثر من تشبيه في بيت واحد. فمنهم مثلا من شبّه شيئين بشيئين في بيت واحد، كقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

فقد شبّه الرطب من قلوب الطير بالعناب، واليابس منها بالحشف البالي، فجاء تشبيهه في غاية الجودة. وكقول الطرماح في وصف ثور وحشي: يبدو وتضمره البلاد كأنه … سيف على شرف يسلّ ويغمد فالثور الوحشي حين يظهر كأنه سيف يسلّ من غمده على مكان عال، وهو حين يخفى كأنه سيف يغمد في غمده. وكقول البحتري في وصف الندى تحمله شقائق النعمان: شقائق يحملن الندى فكأنه … دموع التصابي في خدود الخرائد (¬1) فقطرات الندى مشبهة بدموع التصابي، وشقائق النعمان بخدود الحسان. وكقول بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه شبّه مثار النقع والغبار فوق الرؤوس بظلمة الليل، وشبّه السيوف بالكواكب وقد كثر تشبيههم شيئين بشيئين حتى لم يصر عجبا. وكقول آخر: بيضاء تسحب من قيام فرعها … وتغيب فيه وهو جثل أسحم فكأنها فيه نهار ساطع … وكأنه ليل عليها مظلم شبّه امرأة بيضاء في شعرها الأسود المسترسل إلى الأرض بالنهار الساطع وشبّه شعرها الكثيف الملتف على رأسها بالليل المظلم. ¬

_ (¬1) الخرائد: جمع خريدة، وهي من النساء البكر التي لم تمسّ قطّ.

ومنهم من شبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، كقول البحتري أيضا: وتراه في ظلم الوغى فتخاله … قمرا يكرّ على الرجال بكوكب شبّه وغى الحرب وعجاجها وجلبة أصواتها بالظلم، وشبّه الممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب. وكقول شاعر آخر: نشرت إليّ غدائرا من شعرها … حذر الكواشح والعدو المويق (¬1) فكأنني وكأنها وكأنه … صبحان باتا تحت ليل مطبق شبّه الشاعر نفسه وشبّه صاحبته بصبحين، وشبّه شعر صاحبته الأسود بليل مطبق الظلام. وكقول المرقش: النشر مسك والوجوه دنا … نير وأطراف الأكفّ عنم (¬2) شبّه الرائحة بالمسك، والوجوه بالدنانير، وأطراف الأكفّ بالعنم. وكقول ابن الرومي: كأن تلك الدموع قطر ندى … يقطر من نرجس على ورد شبّه الدموع بقطر الندى، والعيون بالنرجس، والخدود بالورد وكقول ابن المعتز: ¬

_ (¬1) الكواشح: جمع كاشح وهو العدو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه أي باطنه، والكشح بفتح الكاف وسكون الشين: الخصر، وسمي العدو كاشحا لأنه يخبئ العداوة في كشحه وفي كبده، والكبد بيت العداوة والبغضاء، ومنه قيل للعدو: أسود الكبد، كأنّ العداوة أحرقت الكبد. والعدو الموبق: المهلك والمظهر العداوة. (¬2) العنم: شجر له ثمر أحمر يشبّه به البنان أو الأصابه المخضوبة.

بدر وليل وغصن … وجه وشعر وقدّ خمر ودرّ وورد … ريق وثغر وخدّ في البيت الأول شبّه البدر بالوجه، والليل بالشعر، والغصن بالقد، وفي البيت الثاني شبّه الخمر بالريق، والدرّ بالثغر، والورد بالخد. ويلاحظ في جميع هذه التشبيهات أنها من التشبيه المقلوب. ومنهم من شبّه أربعة أشياء بأربعة أشياء كقول امرئ القيس: له أيطلا ظبي وساقا نعامة … وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل شبّه خاصرتي الفرس بخاصرتي الظبي، وشبّه ساقيه بساقي النعامة، وشبّه إرخاءه، أي مدّ عنقه في استرسال عند السير بإرخاء السرحان أي الذئب، وليس دابة بأحسن إرخاء منه، وشبّه تقريبه، أي جمع يديه ووثبه عند الجري بتقريب التتفل، أي ولد الثعلب، والمعنى يوحي بأنه أراد الثعلب بعينه مشبّها به. وكقول المتنبي: بدت قمرا ومالت خوط بان … وفاحت عنبرا ورنت غزالا (¬1) شبّه المتغزّل فيها بالقمر حسنا، وشبّه تمايلها وتثنيها في مشيتها بغصن البان، وشبّه طيب رائحتها بالعنبر، وشبّه سواد مقلتيها عند ما ترنو وتنظر بمقلتي الغزال. ومثله قول شاعر آخر: سفرن بدورا وانتقبن أهلّة … ومسن غصونا والتفتن جآذرا وكقول ابن حاجب وزير القادر بالله: ¬

_ (¬1) الخوط: الغصن الناعم، ورنت: نظرت.

ثغر وخد ونهد واختضاب يد … كالطلع والورد والرمان والبلح (¬1) شبّه الثغر بالطلع، والخد بالورد، والنهد بالرمان، واليد المخضوبة بالبلح. وكقول ابن رشيق: بفرع ووجه وقدّ وردف … كليل وبدر وغصن وحقف شبّه الشعر الأسود بالليل، والوجه بالبدر، والقدّ أو القامة بالغصن، والردف (¬2) بالحقف وهو كثير الرمل. ومنهم من شبّه خمسة أشياء بخمسة أشياء كقول أبي الفرج الوأواء الدمشقي: قالت وقد فتكت فينا لواحظها … كم ذا أما لقتيل اللحظ من قود (¬3)؟ وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت … وردا وعضّت على العنّاب بالبرد إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت … من بعد رؤيتها يوما على أحد كأنما بين غابات الجفون لها … أسد الحمام مقيمات على رصد ففي البيت الثاني شبّه دموع هذه الإنسانة باللؤلؤ، وعينيها بالنرجس، وخدّيها بالورد، والأنامل المخضوبة بالعناب، وثناياها بالبرد. ويقول أبو هلال العسكري: «ولا أعرف لهذا البيت ثانيا في ¬

_ (¬1) الطلع، ما يطلع من النخلة ثم يصير ثمرا إن كانت أنثى، وإن كانت ذكرا لم يصر تمرا بل يؤكل طريا، ويترك على النخلة أياما معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق، وله رائحة ذكيّة فيلقح به الأنثى. (¬2) ردف المرأة: عجزها. (¬3) القود بفتح القاف والواو: القصاص. وهو قتل القاتل بالقتيل.

محاسن التشبيه

أشعارهم» ومعنى هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه خمسة أشياء بخمسة أشياء في بيت واحد، وأن هذا النوع نادر في الشعر العربي. وهكذا نرى أن بعض الشعراء قد أكثروا من التشبيهات في البيت الواحد ولكن الولع بهذا اللون من التشبيه ومحاولة إظهار البراعة والافتنان فيه من شأنه أن يؤدي إلى التكلّف الذي يذهب برونق التشبيه ونضارته وتأثيره كما يبدو على بعض هذه التشبيهات. محاسن التشبيه من بلاغة التشبيه أن يشبّه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، لأن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة، فإما أن يكون مدحا أو ذمّا أو بيانا وإيضاحا، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة. وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ فيه من تقدير لفظة «أفعل»، فإن لم تقدّر فيه لفظة «أفعل» فليس بتشبيه بليغ. ألا ترى أنّا نقول في التشبيه المضمر الأداة «زيد أسد» فقد شبّهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه، فإن لم يكن المشبّه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبّه كان التشبيه ناقصا إذ لا مبالغة. ومن التشبيه المظهر للأداة قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر لأن السفن البحرية وإن كانت كبيرة فإن الجبال أكبر منها. وكذلك إذا شبّه شيء حسن بشيء حسن، فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة، وإن شبّه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون المشبّه به أقبح. وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح.

ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» لا بدّ منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصا. وقد عرفنا مما سبق أن تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر لا يخلو من أن يكون تشبيه معنى بمعنى، أو تشبيه صورة بصورة، أو تشبيه معنى بصورة، أو تشبيه صورة بمعنى. وأبلغ هذه الأنواع تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ووجه بلاغة هذا النوع تأتي من تمثيله للمعاني الموهومة بالصور المشاهدة. ومن محاسن التشبيه المضمر الأداة قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فشبّه الليل باللباس، لأن الليل من شأنه أن يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يجب الاطّلاع عليه من أمره. وهذا من التشبيهات التي لم يأت بها إلا القرآن الكريم، فإن تشبيه الليل بلباس مما اختصّ به القرآن دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فشبّه تبرّؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ، وذلك أنه لما كانت هوادي الصبح وأوائله عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن يقال: «يخرج» لأن السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج. ومن محاسن التشبيه المضمر في الأمثال «الليل جنة الهارب»، ومنه في الشعر قول المتنبي: وإذا اهتزّ للندى كان بحرا … وإذا اهتز للوغى كان نصلا وإذا الأرض أظلمت كان شمسا … وإذا الأرض أمحلت كان وبلا

فهنا أربعة تشبيهات، كلّ واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن في معناه. ومن تشبيه المركب بالمركب مع إضمار الأداة، ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول عند ما قال له: «أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: «أو نحن مؤاخذون بما نتكلم»؟ فقال له الرسول: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟». فقوله: حصائد ألسنتهم، من تشبيه المركب بالمركب، فإنه شبّه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض. وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنه قول أبي تمام: معشر أصبحوا حصون المعالي … ودروع الأحساب والأعراض فقوله «حصون المعالي» من التشبيه المركب، لأنه شبّه المعشر الممدوح في منعهم المعالي وحمايتها من أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته. وكذلك الشأن في تشبيههم بدروع الأحساب والأعراض. ومن تشبيه المركب بالمركب مع إظهار الأداة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة (¬1) طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم له، ¬

_ (¬1) الأترجة بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم: ثمرة ذهبية اللون طيبة الرائحة والطعم.

ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ». فالرسول قد شبّه المؤمن القارئ وهو متّصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح، وشبّه المؤمن غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما الإيمان وعدم القراءة بالتمرة، وهي ذات وصفين هما الطعم وعدم الريح، ووصف المنافق القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق والقراءة بالريحانة وهي ذات وصفين هما الريح وعدم الطعم، ووصف المنافق غير القارئ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق وعدم القراءة بالحنظلة، وهي ذات وصفين هما عدم الريح ومرارة الطعم. ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحتري: خلق منهمو تردّد فيهم … وليته عصابة عن عصابة كالحسام الجراز يبقى على الده … ر، ويفنى في كل حين قرابه (¬1) وقول ابن الرومي: أدرك ثقاتك أنهم وقعوا … في نرجس معه ابنة العنب فهمو بحال لو بصرت بها … سبّحت من عجب ومن عجب ريحانهم ذهب على درر … وشرابهم درّ على ذهب (¬2) ويقارن ابن الأثير بين هذا التشبيه وسابقه مقررا أن تشبيه البحتري أصنع، وذلك أن تشبيه ابن الرومي صدر عن صورة مشاهدة، على حين ¬

_ (¬1) الحسام الجراز: السيف الماضي النافذ المستأصل، وقراب السيف: غمده. (¬2) أدرك ثقاتك: ألحق بمن تثق بهم فهم بين ريحان وراح، والعجب بضم فسكون: الزهو، والعجب بفتح العين والجيم: إنكار الشيء لأنه خلاف المألوف.

استنبط البحتري تشبيهه استنباطا من خاطره. ثم يوضّح ابن الأثير رأيه بقوله: «وإذا شئت أن تفرّق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا، فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة، فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع. ولعمري أن التشبيهين كليهما لا بدّ فيهما من صورة تحكى، لكن أحدهما شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر استنبطت له صورة لم تشاهد في تلك الحال وإنما الفكر استنبطها. ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبّه، وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر، ثم استنبط لذلك تشبيها فأدّاه فكره إلى السيف وقرابه الذي يفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائه. ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه» (¬1). والأصل في حسن التشبيه أن يشبه الغائب الخفي غير المعتاد بالظاهر المعتاد، وهذا يؤدي إلى إيضاح المعنى وبيان المراد، وذلك كقول الرسول: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ففي هذا الحديث إرشاد إلى خفة الحال وعدم الارتباط والتعلّق الشديد بالدنيا؛ فإن الغريب لا ارتباط له في بلاد الغربة، وابن السبيل لا وجود له في مكان إلا بمقدار العبور وقطع المسافة. فهذا المعنى أظهره التشبيه نهاية الظهور. ويؤكد أبو هلال العسكري هذا الأصل من أصول التشبيه الحسن بقوله: «والتشبيه يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغن أحد منهم عنه. وقد جاء ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 159 - 160.

عن القدماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان. فمن ذلك ما قاله صاحب كليلة ودمنة: الدنيا كالماء الملح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا. وقال: لا يخفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كالمسك يخبا ويستر، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح. وقال: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا، كالنهار يزيد البصير بصرا ويزيد الخفاش سوء بصر» (¬1). ومن مقاصد التشبيه إفادة المبالغة، ولهذا قلّما خلا تشبيه مصيب عن هذا القصد. ولكن ينبغي ألّا يؤدي الإغراق في المبالغة إلى البعد بين المشبه والمشبه به أو إلى عدم الملاءمة بينهما، وإلّا ارتدّ التشبيه قبيحا. ويعبّر عبد القاهر الجرجاني عن مدى أثر التشبيه في التعبير عن المعاني المختلفة بقوله (¬2): «فإن كان- التشبيه- مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح وأغلب على الممتدح ... ، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذمّا كان مسه أوجع وميسمه (¬3) ألذع، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ. وإن كان حجاجا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر. وإن كان افتخارا كان شأوه (¬4) أبعد، وشرفه أجدّ ولسانه ألدّ. وإن كان اعتذارا ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 243 - 244. (¬2) أسرار البلاغة ص 93 - 96. (¬3) الميسم بكسر الميم: الآلة التي يكوى بها ويعلم. (¬4) الشأو: الأمد والغاية، وشرفه أجد: أعظم، والألد: الشديد الخصومة.

كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم (¬1) أسلّ، ولغرب (¬2) الغضب أفلّ. وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر ... وهكذا الحكم إذا استقصيت فنون القول وضروبه ...». ويرجع عبد القاهر تأثير التشبيه في النفس إلى علل وأسباب. فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيّ إلى جليّ، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردّها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعمّا يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس ... يفضّل المستفاد من جهة النظر والفكر ... ، كما قالوا: «ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين»، فالانتقال في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له سبب سوى زوال الشك والريب. فالمشاهدة لها أثرها في تحريك النفس وتمكين المعنى من القلب، ولولا أن الأمر كذلك لما كان هناك معنى لنحو قول أبي تمام: وطول مقام المرء في الحي مخلق … لدياجتيه فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة … إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وذلك أن هذا التجدّد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسا من ¬

_ (¬1) السخائم: الضغائن، وسل السخائم: نزعها واستخراجها. (¬2) غرب السيف: حدّه، وفل السيف: ثلمه، والمعنى أن الاعتذار يضعف من حدّة الغضب الذي يكون له وقع السيف على النفس.

حيث هي رؤية، وكان الإنس لنفيها الشك والرّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل. ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هل يجتمعان؟ وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماء والنار؟ وسبب آخر من أسباب بلاغة التشبيه وتأثيره في النفس عند عبد القاهر هو التماس شبه للشيء في غير جنسه وشكله، لأن التشبيه لا يكون له موقع من السامعين ولا يهزّ ولا يحرّك حتى يكون الشبه مقررا بين شيئين مختلفين في الجنس، كتشبيه العين بالنرجس وتشبيه الثريا بما شبّهت به من عنقود الكرم المنوّر. وفي ذلك يقول: «وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدّ كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب». «وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرّة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى بها- التشبيهات- الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض ...». «ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان الشغف منها أكثر وأجدر. فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة المستغرب وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته،

ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته ...». «وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرّك قوى الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف فإن التمثيل- أي التشبيه- أخصّ شيء بهذا الشأن». فالتشبيه عنده «يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بن المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق (¬1). وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرى، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين. كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نار، كقول الشاعر: أنا نار في مرتقى نظر الحا … سد ماء جار مع الإخوان وكما يجعل الشيء حلوا مرّا، وصابا عسلا، وقبيحا حسنا، وأسود أبيض في حال كقول الشاعر: له منظر في العين أبيض ناصع … ولكنه في القلب أسود أسفع (¬2) ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا، كقول البحتري: دان على أيدي العفاة وشاسع … عن كل ندّ في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوؤه … للعصبة السارين جدّ قريب ويجعله حاضرا غائبا، كقول الشاعر: ¬

_ (¬1) المشئم: من أتى من الشام، والمعرق: من أتى من العراق. (¬2) الأسفع: الأسود المشرب بحمرة، والاسم السفعة بضم السين.

عيوب التشبيه

أيا غائبا حاضرا في الفؤاد … سلام على الحاضر الغائب (¬1) ثم يخلص عبد القاهر من كل ذلك إلى القول بأن الشاعر الصنّاع يبلغ بتصرفه في التشبيه إلى غايات الابتداع، فيقول: «وكفى دليلا على تصرفه باليد الصناع وإيفائه على غايات الابتداع أن يريك العدم وجودا والوجود عدما، والميت حيّا والحيّ ميتا، أعني جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له، كما قال: «ذكرة (¬2) الفتى عمره الثاني»، وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت ... ولطيفة أخرى له وهي: جعل الموت نفسه حياة مستأنفة حتى يقال إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم: «فلان عاش حين مات» يراد الرجل تحمله النفس الأبيّة والأنفة من العار أن يسخو بنفسه في الجود والبأس وقتال الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مرّ الدهور ويشهر، كما قال ابن نباتة: بأبي وأمي كل ذي … نفس تعاف الضيم مرة يرضى بأن يردّ الردى … فيميتها ويعيش ذكره» (¬3) ... عيوب التشبيه لعلّ التشبيه من بين الأساليب البيانية أكثرها دلالة على قدرة البليغ وأصالته في فن القول. وذلك لأن التشبيه هو في الواقع ضرب من التصوير ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة ص 102 - 114. (¬2) الذكرة بضم الذال: الصّيت. (¬3) أسرار البلاغة ص 102 - 114.

لا تتأتى الإجادة أو الإبداع فيه إلا لمن توافرت له أدواته، من لفظ ومعنى وصياغة، ومن سموّ خيال ورهافة حسّ، ومن براعة في تشكيل صور التشبيه على نحو يبثّ فيها الحركة ويمنحها الجمال والتأثير. ومن أجل ذلك يقال: إن التشبيه بين ألوان البلاغة ممعن في الترف، كثير الأناقة، شديد الحساسية، رقيق المزاج، وأيّ تهاون فيه يعيبه، ويخرجه من الحسن إلى القبح. وهذا القبح أنواع كثيرة، منها ما يرجع إلى اللفظ أو المعنى أو الصياغة أو الخيال أو الأصول البلاغية التي يبنى عليها التشبيه. فمن الأصول البلاغية أن يشبّه الشيء بما هو أكبر وأقوى منه، فيشبه الحسن مثلا بالأحسن، والقبيح بالأقبح، والبينّ الواضح بما هو أبين وأوضح منه، وإلا كان التشبيه ناقصا. وطبقا لذلك يقول ابن الأثير: «ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبّها له فقال: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة (¬1) خضبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة. وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء، فإنه أخطأ في تشبيه الحصن بالأنملة، أي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟». ثم يستطرد ابن الأثير: «فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال: والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فمثل الهلال بأصل عذق النخلة. والجواب أنه شبّه الهلال في ¬

_ (¬1) الأنملة بتثليث الهمزة مع تثليث الميم: مفصل الإصبع الذي فيه الظفر، وقيل الأنامل: رؤوس الأصابع، والقلامة: طرف الظفر المقلوم.

الآية بالعرجون القديم، وذلك في هيئة نحوله واستدارته لا في مقداره، فإن مقدار الهلال عظيم ولا نسبة للعرجون إليه، لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئة لا مقدارا. وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق، لأنه شبّه صورة الحصن بأنملة في المقدار لا في الهيئة والشكل، وهذا غير حسن ولا مناسب. ومن بلاغة التشبيه أن يثبت للمشبّه حكم من أحكام المشبّه به، فإذا لم يكن بهذه الصفة أو كان بين المشبه به بعد فإن ذلك مما يعيب التشبيه ويضع من قيمته البلاغية. ومن أمثلة ذلك قول أبي تمام: لا تسقني ماء الملام فإنني … صبّ قد استعذبت ماء بكائي فالشاعر جعل للملام ماء، وذلك تشبيه بعيد، وسبب بعده أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما المخالفة والبعد من هذه الجهة. ومنه قول المرّار: وخال على خديك يبدو كأنّه … سنا البدر في دعجاء باد دجونها (¬1) فالمتعارف عليه أنّ الخدود بيض والخال أسود، ولكنّ الشاعر رغم ذلك يشبه الخال بضوء البدر والخدين بالليلة المظلمة. فالتشبيه هنا ليس بعيدا فحسب، بل هو مناقض للعادة، ومن أجل ذلك فهو تشبيه رديء. ومن بعيد التشبيه أيضا قول الفرزدق: ¬

_ (¬1) الدعجاء: السوداء، وهي هنا صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ليلة دعجاء، ودجونها: سوادها.

يمشون في حلق الحديد كما مشت … جرب الجمال بها الكحيل المشعل (¬1) فالفرزدق شبّه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب، وهذا من التشبيه البعيد؛ لأنّه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون لأنّ لون الحديد أبيض، ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض. ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإنّه تشبيه سخيف. ومنه كذلك قول أعرابي: وما زلت ترجو نيل سلمى وودها … وتبعد حتى ابيض منك المسائح ملا حاجبيك الشيب حتى كأنّه … ظباء جرت منها سنيح وبارح (¬2) فشبه شعرات بيضا في حاجبيه بظباء سوانح وبوارح تمر بين يديه يمينا وشمالا. فهذا كما ترى من بعيد التشبيه. ومنه قول أبي نواس في الخمر: وإذا ما الماء واقعها … أظهرت شكلا من الغزل لؤلؤات ينحدرن بها … كانحدار الذرّ من جبل فشبّه الجب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل، وهذا من ¬

_ (¬1) الكحيل: النفط أو القطران يطلى به الإبل، وأشعل إبله بالكحيل أو القطران طلاها به وكثره عليها. (¬2) ملا: ملأ، وسهلت الهمزة لضرورة الشعر، المسائح: جوانب الرأس أو الشعر، جمع مسيحة، والسنيح أو السانح من الظباء والطير خلاف البارح، وهو ما يمر بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لأنّه أمكن للرمي والصيد، والبارح من الظباء والطير: ما مر منها بين يديك من يمينك إلى يسارك، والعرب تتطير به، لأنّه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف.

البعيد، كما يقول ابن الأثير، على غاية لا يحتاج فيها إلى بيان وإيضاح. ... وقد يكون التشبيه مصيبا ولكنّ وقع المشبه به على النفس صورة كان أو صفة أو حالا قد يثير فيها حالا من البشاعة أو الاستنكار، وبهذا يفقد التشبيه روعته وسحره وتنتفي عنه صفة البلاغة، ويضحى تشبيها قبيحا معيبا. ومن أمثلة ذلك قول شاعر يصف روضا: كأنّ شقائق النعمان فيه … ثياب قد روين من الدماء فتشبيه شقائق النعمان بالثياب المرتوية بالدماء قد يكون هذا تشبيها مصيبا ولكن فيه بشاعة ذكر الدماء، ولو شبه الشقائق مثلا بالعصفر الأحمر اللون أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس. وقول امرئ القيس: وتعطو برخص غير شثن كأنّه … أساريع ظبي أو مساويك أسحل (¬1) فامرؤ القيس يقول إنّ صاحبته تتناول الأشياء ببنان أو أصابع رخصة ليّنة ناعمة، ثمّ يشبه تلك الأنامل بدود الرمل أو المساويك المتخذة من شجر الأسحل. فقد يكون تشبيه البنان بهذا الضرب من الدود مصيبا من جهة اللين والبياض والطول والاستواء والدقة، ولكنه في الوقت ذاته يحضر إلى الذهن صورة الدود وفي ذلك ما فيه من نفور النفس واشمئزازها. ومن ¬

_ (¬1) تعطو: تتناول، برخص: أراد به بنانا أو أصابع رخصة لينة، غير شثن: ليس بخشن، الأساريع: دود يكون في الرمل تشبه أنامل النساء به، الظبي: اسم رملة بعينها، والأسحل: شجر تتخذ من أغصانه الدقيقة المستوية مساويك كالأراك، وتشبه به الأصابع في الدقة والاستواء.

هنا يتطرق القبح إلى هذا التشبيه على إصابته. أمّا تشبيه البنان بمساويك الأسحل فجار مجرى غيره من تشبيهاتهم، لأنّهم يصفونها بالأقلام والعنم وما أشبه ذلك. والبنان قريب الشبه من أعواد المساويك في القدر والاستواء ونعومة الملمس. وقول العرجي في دبيب الهوى: يدب هواها في عظامي وحبها … كما دب في الملسوع سم العقارب فتشبيه دبيب الهوى في العظام بدبيب سم العقارب في الملسوع غاية في البشاعة. ومنه قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة: وترفع الصوت أحيانا وتخفضه … كما يطن ذباب الروضة الغرد فقد شبّه القينة وهي ترفع صوتها أحيانا وتخفضه بالغناء بطنين الذباب الغرد في الروضة. فهذا التشبيه وإن كان مصيبا لعين الشبه فإنّه غير طيب في النفس ولا مستقر على القلب. فأي قينة تحب أن تشبه بالذباب، وأن يشبه غناؤها بطنين الذباب؟ ومع هذا فقد سرق أبو محجن هذا التشبيه ولم يحسن استخدامه فقلبه وأفسده. أجل لقد سرقه من قول عنترة العبسي يصف ذباب روضة: وخلا الذباب بها فليس ببارح … غردا كفعل الشارب المترنم وشتان بين تشبيه وتشبيه. وأين قول أبي محجن من قول بشار في وصف قينة: تصلى لها آذاننا وعيوننا … إذا ما التقينا والقلوب دواعي

إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت … قلوبا دعاها للوساوس داعي كأنّهم في جنة قد تلاحقت … محاسنها من روضة وبقاع يروحون من تغريدها وحديثها … نشاوى وما تسقيهم بصواع (¬1) وبعد فالجوانب التي تعيب التشبيه ويتطرق منها القبح إليه أكثر من أن تحصى أو تستقصى؛ فمنها ما أوردناه ومثلنا له، ومنها ما يتطرق إليه من جوانب أخرى كاللفظ أو المعنى أو رداءة الصياغة والنسج أو قلق القافية في الشعر، وما أشبه ذلك. وكما ذكرت آنفا أنّ التشبيه من أكثر الأساليب البيانية دلالة على مقدرة البليغ ومدى أصالته في فن القول. فالبلغاء كانوا- وما زالوا- في كل زمان ومكان يتنافسون في اصطياده، ويلقون بشباك خيالهم في محيطه، ثمّ ينزعونها وإذا بعضها ملؤه اللآلئ والدرر! وإذا بعضها الآخر ملؤه الحصى والحجر!. ¬

_ (¬1) الصواع بضم الصاد: المكيال.

المبحث الثاني الحقيقة والمجاز

المبحث الثاني الحقيقة والمجاز إذا تتبعنا نشأة الكلام عن «الحقيقة والمجاز» فإننا نجد أنّ الجاحظ من أوائل من عرضوا لهذا الموضوع بالبحث. والجاحظ إذ يتناول قضايا البيان العربي لا يهتم كثيرا بصبها في قوالب التعريفات والتحديدات على عادة رجال البلاغة من بعده. وإنّما نراه يسوق النماذج عليها من بليغ القول نثرا وشعرا، مع شرح بعضها أحيانا أو التعليق عليه، تاركا لمن يهمهم أن يعرفوا مفهومه لأي موضوع بلاغي طرقه أن يستنبطوه من خلال شرحه له. ففي كلامه عن الحقيقة والمجاز يقول: «وإذا قالوا: أكله الأسد، فإنّما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا: أكله الأسود، فإنّما يعنون النهش واللدغ والعض فقط. وقد قال الله عزّ وجل أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ

يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ ويقولون في باب آخر: فلان يأكل الناس، وإن لم يكن يأكل من طعامهم شيئا، وكذلك قول دهمان النهري: سألتني عن أناس أكلوا … شرب الدهر عليهم وأكل فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز» (¬1). فالأكل في قوله: «أكله الأسد» حقيقي، أمّا في الأمثلة الأخرى فالأكل على اختلاف أنواعه مجازي كما ذكر. فمن هذه الأمثلة يتضح أنّ المجاز عند الجاحظ مقابل للحقيقة، وأنّ الحقيقة في مفهومه تعني «استعمال اللفظ فيما وضع له أصلا»، كما أنّ المجاز عنده هو «استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي». ومن معاصري الجاحظ الذين عرضوا لذات الموضوع من زاوية خاصة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري «276 هـ»، فقد اهتمّ ابن قتيبة فقط بالرد على من أنكروا المجاز وزعموا أنّ الكلام كله حقيقة ولا مجاز فيه. وفي ذلك يقول: «لو كان المجاز كذبا لكان أكثر كلامنا باطلا، لأنّا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل ورخص السعر ... ، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء. وقال الله عزّ وجل: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ، لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بدا من أن يقول: يهمّ أن ينقض، أو يكاد أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة ¬

_ (¬1) كتاب الحيوان ج 5 ص 27 - 28، والأسود هنا: نوع خبيث من الأفاعي.

العجم إلّا بمثل هده الألفاظ» (¬1). وبعد ابن قتيبة جاء أبو الحسين أحمد بن فارس «396 هـ» فعرف الحقيقة والمجاز بقوله: «الحقيقة هي الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير كقول القائل: الحمد لله على نعمه وإحسانه، وهذا أكثر الكلام، أي أنّ الكلام الحقيقي يمضي لسنته لا يعترض عليه. وقد يكون غيره ويجوز جوازه لقربه منه إلّا أنّ فيه من تشبيه واستعارة وكف ما ليس في الأول. كقولك: عطاء فلان مزن واكف، فهذا التشبيه. وقد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير واف» (¬2). فالمجاز عند ما كان قريبا من الحقيقة وفيه تشبيه أو استعارة. وعند ابن رشيق القيرواني «456 هـ» أنّ «المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعا في القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثمّ لم يكن محالا محضا فهو مجاز، لاحتماله وجوه التأويل، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز، إلّا أنّهم خصوا بالمجاز، بابا بعينه، وذلك أن يسمّى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب، كما قال جرير بن عطية: إذا سقط السماء بأرض قوم … رعيناه وإن كانوا غضابا أراد المطر لقربه من السماء، ويجوز أن تريد «بالسماء» السحاب، لأنّ كل ما أظلّك سماء، وقال «سقط» يريد سقوط المطر الذي فيه، وقال ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 1 ص 236. (¬2) كتاب الصاحبي لابن فارس 196 - 198.

«رعيناه» والمطر لا يرعى، ولكنه أراد «النبت» الذي يكون عنه فهذا كله مجاز» (¬1). كذلك أشار إلى ولع العرب بالمجاز فقال: «والعرب كثيرا ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها، فإنّه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات» (¬2). ويعرف عبد القاهر الجرجاني «471 هـ» الحقيقة في المفرد بقوله: «كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره. وهذه عبارة تنتظم الوضع الأول وما تأخر عنه كلغة تحدث في قبيلة أو في جميع العرب أو في جميع الناس مثلا أو تحدث اليوم. ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرتجلة كغطفان، وكل كلمة استؤنف بها على الجملة مواضعة أو ادّعي الاستثناف فيها. وإنّما اشترطت هذا كله لأنّ وصف اللفظة بأنّها حقيقة أو مجاز حكم فيها من حيث أنّ لها دلالة على الجملة لا من حيث هي عربية أو فارسية أو سابقة في الوضع أو محدثة مولدة». ويعرف المجاز بقوله: «أمّا المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول. وإن شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوّز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز» (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب العمدة لابن رشيق ج 1 ص 236. (¬2) المرجع نفسه. (¬3) كتاب أسرار البلاغة 302 - 305.

كذلك عرض السكاكي «626 هـ» للحقيقة والمجاز وعرفهما بقوله: «الحقيقة اللغوية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له، والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها في ذلك النوع» (¬1). وممن توسع في موضوع «الحقيقة والمجاز» ضياء الدين الأثير «637 هـ» فقد عرفهما أولا بقوله: «الحقيقة اللغوية: هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء، أي نفسه وعينه، فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره. وتقرير ذلك أنّ أقوال المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدل بها عليها ليعرف كل منها باسمه من أجل التفاهم بين الناس وهذا يقع ضرورة لا بدّ منها. فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له، فإذا نقل إلى غيره صار مجازا. ومثال ذلك أنا إذا قلنا «شمس» أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، وهذا الاسم له حقيقة لأنّه وضع بإزائه. وكذلك إذا قلنا «بحر» أردنا به هذا الماء العظيم المجتمع الذي طعمه ملح، وهذا الاسم له حقيقة لأنّه وضع بإزائه. فإذا نقلنا «الشمس» إلى الوجه المليح استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة، وكذلك إذا نقلنا «البحر» إلى الرجل الجواد استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة» (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب التلخيص للقزويني ص 328. (¬2) كتاب المثل السائر ص 24.

ويوضح ابن الأثير كلامه هذا بما معناه أنّ إطلاق لفظ «الشمس» على الوجه المليح مجاز، وإطلاق لفظ «البحر» على الرجل الجواد مجاز أيضا. ومن هذا يرى أنّ لفظ «الشمس» له دلالتان، إحداهما حقيقية وهي هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، والأخرى مجازية وهي الوجه المليح، وأنّ لفظ «البحر» له دلالتان أيضا، إحداهما هذا الماء العظيم الملح وهي حقيقية، والأخرى هذا الرجل الجواد وهي مجازية. ولا يمكن أن يقال إنّ هاتين الدلالتين سواء، وإنّ الشمس حقيقية في الكواكب والوجه المليح، وإنّ البحر حقيقية في الماء العظيم الملح والرجل الجواد. لأنّ ذلك لو قيل لكان اللفظ مشتركا بحيث إذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقا بغير قرينة تخصصه لم يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته، على حين أنّ الأمر بخلاف ذلك، لأننا إذا قلنا «شمس» أو «بحر» وأطلقنا القول لم يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد، وإنّما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم لا غير. والمرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة التي هي وضع الأسماء على المسميات، ولم يوجد فيها أنّ الوجه المليح يسمى شمسا ولا أنّ الرجل الجواد يسمى بحرا، وإنما أهل الخطابة والشعر هم الذين توسعوا في الأساليب المعنوية فنقلوا الحقيقة إلى المجاز، ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع، ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية. هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئا لم يكن قبله، فمن ذلك أنّه أوّل من عبّر عن الفرس بقوله: «قيد الأوابد» (¬1) ولم يسمع ذلك لأحد من ¬

_ (¬1) وردت هذه العبارة في بيت من معلقة امرئ القيس هو:

قبله. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال يوم غزوة حنين: «الآن حمي الوطيس»، وأراد بذلك شدّة الحرب، فإنّ «الوطيس» في الوضع هو «التنور» (¬1)، فنقل إلى الحرب استعارة، ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وواضع اللغة ما ذكر شيئا من ذلك، فعلمنا حينئذ أنّ من اللغة حقيقة بوضعه ومجازات بتوسعات أهل الخطابة والشعر. وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل، ولو كان هذا موقوفا من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده ولا زيد فيه ولا نقص منه. ثمّ يستطرد ابن الأثير إلى الكلام عمّا بين المجاز والحقيقة من عموم وخصوص وكذلك إلى الكلام عن قيمة المجاز البلاغية فيقول: «واعلم أنّ كل مجاز له حقيقة لأنّه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلّا لنقله عن حقيقة موضوعة له، إذ المجاز اسم للموضوع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها، وإذا كان كل مجاز لا بدّ له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية، فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، فإنّ من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام لأنّها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات. ¬

_ - وقد اغتدي والطير في وكناتها … بمنجرد «قيد الأوابد» هيكل الأوابد: الوحوش، والهيكل: العظيم الجرم والجسم. والمعنى: قد أباكر الصيد قبل نهوض الطير من أوكارها على فرس قليل الشعر عظيم الجسم ماض في السير يقيد الوحوش بسرعة لحاقه إياها. وقوله «قيد الأوابد» جعل الفرس لسرعة إدراكه الصيد كالقيد لها لأنها لا يمكنها الفوت منه، كما أنّ المقيد غير متمكن من الفوت والهرب. (¬1) التنور: نوع من الكوانين، والتنور: كل ما يخبز فيه، والتنور: نبع الماء كالقدر حين يفور، قال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ.

وكذلك فاعلم أنّ المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة، لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها، ولييس الأمر كذلك، لأنّه قد ثبت وتحقق أنّ فائدة الكلام الخطابي هي إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصور حتى يكاد ينظر إليه عيانا. ألا ترى أنّ حقيقة قولنا: «زيد أسد» هي قولنا: «زيد شجاع»، لكنّ هناك فرقا بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع، لأنّ قولنا: «زيد شجاع» لا يتخيل منه السامع سوى رجل جريء مقدام، فإذا قلنا: «زيد أسد» يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس، وهذا لا نزاع فيه» (¬1). فأعجب ما في العبارة المجازية عنده أنّها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال، فإذا البخيل سمح جواد، والجبان شجاع، والطائش حكيم حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام وأفاق من نشوته عاد إلى حالته الأولى، وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال. وأخيرا يشير ابن الأثير إلى ضرورة العدول عن المجاز إلى الحقيقة إن لم يكن فيه زيادة فائدة عليها، وفي ذلك يقول: «واعلم أنّه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه فانظر، فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز، فلا ينبغي أن يحمل إلّا على طريق الحقيقة لأنّها هي الأصل والمجاز هو الفرع، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلّا لفائدة ... وهكذا كل ما يجيء من الكلام ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 25 - 26.

أقسام المجاز

الجاري هذا المجرى، فإنّه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه» (¬1). وبعد فتلك نبذة عن آراء بعض العلماء في مفهوم الحقيقة والمجاز، وقد كثر كلام رجال البلاغة في تحديد هذا المفهوم، ولا يخرج كلامهم في الواقع عن معنى ما أسلفناه. ... أقسام المجاز: يقسم علماء البلاغة المجاز قسمين: 1 - المجاز العقلي: ويكون في الإسناد، أي في إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له. ويسمى المجاز الحكمي، والإسناد المجازي، ولا يكون إلّا في التركيب. 2 - المجاز اللغوي: ويكون في نقل الألفاظ من حقائقها اللغوية إلى معان أخرى بينها صلة ومناسبة. وهذا المجاز يكون في المفرد، كما يكون في التركيب المستعمل في غير ما وضع له. وهذا المجاز اللغويّ نوعان: أ- الاستعارة: وهي مجاز لغويّ تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي المشابهة. ب- المجاز المرسل: وهو مجاز تكون العلاقة فيه غير المشابهة. وسمّي مرسلا لأنّه لم يقيّد بعلاقة المشابهة، أو لأنّ له علاقات شتى. المجاز العقلي عرّف السكاكي المجاز العقليّ بأنّه الكلام المفاد به خلاف ما عند ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 26.

المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند، وبنى الوزير القصر (¬1). وعرف الخطيب القزويني هذا المجاز بقوله: «هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل». وللفعل ملابسات شتى، فهو يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب، فإسناد الفعل إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة، وكذا إسناده إلى المفعول إذا كان مبنيا له. أمّا إسناد الفعل إلى غيرهما لمشابهته لما هو له في ملابسة الفعل فمجاز، كقولهم في المفعول به: عيشة راضية، وماء دافق، وكقولهم في عكسه: سيل مفعم، وفي المصدر: شعر شاعر، وفي الزمان: نهاره صائم وليله قائم، وفي المكان: طريق سائر، ونهر جار، وفي السبب: بنى الأمير المدينة (¬2). أمّا عبد القاهر الجرجاني فيسمي هذا الضرب من المجاز «المجاز الحكمي». ويفهم من كلامه أنّه يقصد به المجاز الذي لا يكون في ذات الكلمة ونفس اللفظ، ففي قولك: «نهارك صائم وليلك قائم» ليس المجاز في نفس «صائم وقائم» ولكن في إجرائهما خبرين على «النهار والليل». وكذلك في قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ليس المجاز في لفظة «ربحت» نفسها ولكن في إسنادها إلى «التجارة». فكل لفظة هنا أريد بها معناها الذي وضعت له على وجهه وحقيقته- فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الربح (¬3). ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم للسكاكي ص 208. (¬2) الإيضاح لمختصر تلخيص المفتاح ص 20. (¬3) دلائل الإعجاز ص 194.

ولما كان الكلام السابق مجملا فإنّا نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثمّ نعقب عليها بالشرح والتحليل توضيحا لحقيقة هذا الضرب من المجاز. الأمثلة: 1 - أعمير إنّ أباك غيّر رأسه … مرّ الليالي واختلاف الأعصر 2 - بنى خوفو الهرم الأكبر. 3 - ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزود 4 - يغنّي كما صدحت أيكة … وقد نبّه الصبح أطيارها 5 - قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟. 6 - قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا. 7 - تكاد عطاياه يجنّ جنونها … إذا لم يعوّذها برقية طالب فإذا تأملنا المثال الأول رأينا أنّ المجاز العقلي هو قول الشاعر: «غيّر رأسه مرّ الليالي»، ومعنى غير رأسه، أي لوّن شعر رأسه فحوله من السواد إلى البياض، وقد أسند تغيير لون الرأس إلى مرور الليالي وتواليها وهذا لا يشيب، وإنّما الشيب يحدث عادة من ضعف في أصول الشعر ومواطن غذائه. ولكن لما كان مر الليالي وتعاقبها سببا في هذا الضعف أسند تغيير لون الشعر إلى مر الليالي. ففي الإسناد مجاز عقلي علاقته السببية. كذلك إذا تأملنا المثال الثاني وجدنا أنّ الفعل «بنى» قد أسند إلى غير فاعله، فإنّ خوفو لم يبن وإنما الذين بنوا هم عماله، ولما كان خوفو سببا في البناء أسند الفعل إليه. ففي الإسناد هنا مجاز عقلي علاقته السببية أيضا. وإذا نظرنا إلى المثال الثالث وجدنا الفعل «ستبدي» أسند إلى «الأيام» أي أسند إلى غير فاعله الحقيقي. لأنّ فاعله الحقيقي هو «حوادث

الأيام»، والذي سوغ هذا الإسناد أنّ المسند إليه «الأيام» زمان الفعل. فإسناد الإبداء إلى الأيام مجاز عقلي علاقته الزمانية. وفي المثال الرابع الأيكة الشجرة وهي لا تغني ولا تصدح، فالفعل «صدحت» أسند إلى «الأيكة» أي إلى غير فاعله، لأنّ فاعله الحقيقي هو «الطيور» التي تتخذ من الأيكة مكانا لها تصدح من فوقه. وعلى هذا فإسناد الصّدح إلى الأيكة مجاز عقلي علاقته «المكانية» لأنها مكان الطيور التي تصدح. وفي المثال الخامس يقول الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟. فالحرم لا يكون آمنا لأنّ الإحساس بالأمن صفة من صفات الأحياء وإنّما الحرم مأمون بمعنى يؤمن، ولهذا أسند الوصف المبني للفاعل «آمن» إلى ضمير المفعول. وهذا مجاز عقلي علاقته «المفعولية». وإذا تدبرنا المثال السادس وهو قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، نجد أنّ كلمة «مأتيا» جاءت بدل كلمة «آت»، فاستعمل هنا اسم المفعول مكان اسم الفاعل، أو بعبارة أخرى أسند الوصف المبني للمفعول إلى الفاعل، وهذا مجاز عقلي علاقته «الفاعلية». وفي المثال السابع والأخير نجد أنّ المجاز العقلي هو في قول الشاعر «يجنّ جنونها» فالفعل «يجنّ» أسند إلى مصدره ولم يسند إلى فاعله، وإسناد الفعل إلى مصدره مجاز عقلي علاقته «المصدرية». فمن معالجة هذه الأمثلة نرى أنّ أفعالا أو ما يشبهها لم تسند إلى فاعلها الحقيقي، بل أسندت إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه، أو مصدره، وأنّ صفات كان من حقها أن تسند إلى المفعول أسندت إلى الفاعل، وأخرى كان يجب أن تسند إلى الفاعل أسندت إلى المفعول.

كذلك رأينا أنّ هذا النوع من الإسناد غير حقيقي، لأنّ الإسناد الحقيقي هو إسناد الفعل إلى فاعله الحقيقي. فالإسناد إذن هنا إسناد مجازي ويسمى بالمجاز العقلي، لأنّ المجاز ليس في اللفظ كالاستعارة والمجاز المرسل، بل في الإسناد وهذا يدرك بالعقل. ... على ضوء هذا الشرح نستطيع أن نستنبط القواعد التالية: 1 - المجاز العقلي: هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي. 2 - الإسناد المجازي: يكون إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره، أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل. 3 - من القاعدة السابقة يتضح أنّ علاقات المجاز العقلي هي السببية أو الزمانية أو المكانية أو المصدرية أو المفعولية أو الفاعلية. ... ولمزيد من الإيضاح نقدم طائفة أخرى من الأمثلة مع بيان المجاز العقلي في كل منها وعلاقته. أ- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة السببية: 1 - قال تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ. ففي إسناد بناء الصرح إلى هامان وزير فرعون مجاز عقلي علاقته السببية، لأنّ هامان لم يبن الصرح بنفسه، وإنّما بناه عماله، ولكن لما كان

هامان سببا في البناء أسند الفعل إليه. 2 - إنا لمن معشر أفنى أوائلهم … قيل الكماة ألا أين المحامونا؟ (¬1) فإسناد الإفناء إلى قول الكماة مجاز عقلي علاقته السببية، لأنّ قول الكماة: «ألا أين المحامون؟» سبب في هجوم هؤلاء المحامين وقتلهم. 3 - يفعل المال ما تعجز عنه القوة. فإسناد الفعل إلى المال إسناد غير حقيقي لأنّ المال لا يفعل وإنّما صاحبه هو الذي يفعل، فهنا مجاز عقلي علاقته السببية، لأنّ المال هو الذي يدفع صاحبه إلى الفعل. 4 - لها وجه يصف الحسن. فإسناد وصف الحسن إلى الوجه هو إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي لأنّ الذي يصف حسن الوجه إنّما هو من يراه، ولما كان الوجه وما أودع فيه من جمال هو السبب في دفع الناس إلى وصفه أسند الوصف إليه. وهذا مجاز عقلي علاقته السببية. 5 - قال المتنبي: والهمّ يخترم الجسيم نحافة … ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم (¬2) الفعل «يخترم» بمعنى يهلك وقد أسند «الهم» أي إلى غير فاعله ¬

_ (¬1) الكماة: جمع كمي وهو الشجاع المتكمي في سلاحه أي المتغطي المتستر به، والقيل: القول. (¬2) يخترم: يهلك، والناصية: شعر مقدم الرأس: إنّ الهم إذا استولى على الجسم هزله حتى يهلك، وقد يشيب به الصبي ويصير كالهرم من الضعف.

الحقيقي، لأنّ الهم لا يهلك الجسم وإنّما الذي يهلكه هو المرض الذي سببه الهم، وكذلك الفعل «يشيب» أسند إلى ضمير الهم، أي إلى غير فاعله الحقيقي أيضا، لأنّ الهم لا يشيب الرأس وإنّما الذي يشيبه هو الضعف في جذور الشعر الناشئ عن الهم. وعلى هذا فإسناد الاخترام والإشابة إلى الهم مجاز عقلي علاقته «السببية». ... ب- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة الزمانية: 1 - نهار الزاهد صائم وليله قائم. إذا تأملنا هذا المثال وجدنا أن «الصوم» أسند إلى ضمير «النهار»، وأن «القيام» أسند إلى ضمير «الليل»، مع أن النهار لا يصوم، بل يصوم من فيه، وأن الليل لا يقوم بل يقوم من فيه. وعلى هذا فكل من الوصفين «صائم وقائم» أسند إلى غير ما هو له، والذي سوغ ذلك الإسناد أن المسند إليه زمان الفعل. وعلى هذا فإسناد الصوم إلى ضمير النهار وإسناد القيام إلى ضمير الليل مجاز عقلي علاقته «الزمانية». 2 - ضرب الدهر بينهم وفرق شملهم. في هذا المثال أسند الضرب والتفريق إلى الدهر مع أن الدهر في حقيقته لا يضرب ولا يفرق، وعلى هذا فإسناد الضرب والتفريق إليه هو إسناد لكل من هذين الفعلين إلى غير فاعله الحقيقي، لأن الذي ضرب بينهم وفرق شملهم هو الحوادث والمصائب التي حدثت في الدهر. فالمجاز هنا مجاز عقلي علاقته «الزمانية». 3 - ضرّسهم الزمان وطحنتهم الأيام. في إسناد فعل التضريس إلى الزمان وفعل الطحن إلى الأيام إسناد

إلى غير الفاعل الحقيقي لأن الذي يضرس ويطحن هو الحوادث والكوارث التي تقع في الزمان والأيام. فإسناد التضريس إلى الزمان والطحن إلى الأيام إذن مجاز عقلي علاقته «الزمانية». 4 - قال المتنبي: صحب الناس قبلنا ذا الزمانا … وعناهم من أمره ما عنانا وتولوا بغصة كلهم من … هـ وإن سر بعضهم أحيانا ربما تحسن الصنيع ليالي … هـ ولكن تكدر الإحسانا كلما أنبت الزمان قناة … ركب المرء في القناة سنانا (¬1) في البيت الثاني الفعل «سرّ» فاعله ضمير يعود على «الزمان» قبله، وإسناد هذا الفعل إلى ضمير الزمان إسناد للفعل إلى غير فاعله الحقيقي، لأن الزمان وهو الوقت لا يسر وإنما تسر الحوادث التي به. وإذن فإسناد السرور إلى الزمان مجاز عقلي علاقته «الزمانية». كذلك في كل من «تحسن الصنيع لياليه» وفي «تكدر الإحسانا» مجاز عقلي علاقته «الزمانية»، فإسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي إسناد غير حقيقي، لأن الذي يفعل ذلك هو الحوادث التي تقع في الليالي التي هي زمان. ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي إسناد غير حقيقي، لأن الذي يفعل ذلك هو الحوادث التي تقع في الليالي التي هي زمان. ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي مجاز عقلي علاقته «الزمانية». وفي البيت الأخير «كلما أنبت الزمان قناة» أسند إنبات القناة إلى الزمان أي إلى غير فاعله الأصلي، لأن الزمان ليس في قدرته وطبيعته ¬

_ (¬1) القناة: عود الرمح، والسنان: نعله.

الإنبات، وإنما الذي يفعل إنبات القناة حقيقة حوادث تجدّ في الزمان. وعلى هذا فإسناد إنبات القناة إلى الزمان مجاز عقلي علاقته «الزمانية». ... ج- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المكانية: 1 - قال الشاعر: ملكنا فكان العفو منا سجية … فلما ملكتم سال بالدم أبطح (¬1) في قول الشاعر: «سال بالدم أبطح» مجاز عقلي. وتفصيله أن سيلان الدم أسند إلى أبطح، أي إلى غير فاعله، لأن الأبطح مكان سيلان الدم، وهو لا يسيل وإنما يسيل ما فيه وهو الدم. فإسناد سيل الدم إلى الأبطح مجاز عقلي علاقته «المكانية». 2 - يجري النهر. في هذا المثال أسند الجري إلى النهر، أي إلى غير فاعله الحقيقي، لأن النهر مكان جري الماء، وهو لا يجري، وإنما يجري ما فيه وهو الماء. فإسناد الجري إلى النهر إسناد مجازي غير حقيقي، وهو لهذا مجاز عقلي علاقته «المكانية». 3 - ذهبنا إلى حديقة غناء. ولفظة «غنّاء» مشتقة من الغنّ، والحديقة التي هي مكان لا تغنّ، وإنما الذي يغنّ عصافيرها أو ذبابها، ففي الكلام مجاز عقلي علاقته «المكانية». ¬

_ (¬1) الأبطح بفتح الطاء: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.

4 - جلسنا إلى مشرب عذب. «المشرب» وهو مكان الشرب لا يكون عذبا، وإنما يعذب الماء الذي يكون فيه، فإسناد العذوبة إلى مكان الشرب إسناد مجازي غير حقيقي، وهو لهذا مجاز عقلي علاقته «المكانية». ... د- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المفعولية: 1 - كان المنزل «عامرا» وكانت حجره «مضيئة». في هذا المثال المنزل لا يعمر غيره وإنما هو معمور بغيره، والحجرة ليست مضيئة لأن الإضاءة لا تقع منها في حقيقة الأمر وإنما تقع عليها، فهي لهذا مضاءة. وإذن ففي كل من «عامر» و «مضيئة» مجاز عقلي علاقته «المفعولية». 2 - قال الشاعر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى … ونمت وما ليل المطي بنائم (¬1) فالمجاز هو في قول الشاعر: «وما ليل المطي بنائم» فإسناد النوم إلى ليل المطي مجازي غير حقيقي، لأن ليل المطي لا يحدث منه النوم على الحقيقة، وإنما يقع فيه الفعل، أي ينام فيه. إذن الليل ليس بنائم وإنما هو منوم فيه، وعلى هذا ففي كلمة «نائم» مجاز عقلي علاقته «المفعولية». 3 - من أقوال العرب: «عجب عاجب». فالعجب الأمر الذي يتعجّب منه لخفاء سببه، وهو لهذا لا يمكن أن ¬

_ (¬1) السرى: السير ليلا، والمطي: جمع مطية وهي الدابة تمطو: أي تسرع في مشيها.

يعجب، أي أن يسند إليه العجب على الحقيقة، لأن العجب صفة من صفات العقلاء، ولكن العجب يدعو إلى تعجب الناس، فاستعمل اسم الفاعل «عاجب» هنا مكان اسم المفعول «متعجّب منه». وهذا مجاز عقلي علاقته «المفعولية». 4 - قال النابغة الذبياني: فبتّ كأني ساورتني ضئيلة … من الرّقش في أنيابها السم ناقع (¬1) فالمجاز هو في قول الشاعر: «السم ناقع» وإسناد النقع إلى ضمير السم إسناد مجازي غير حقيقي. لأن السم لا يفعل النقع على الحقيقة، وإنما هو الذي يفعل به النقع، وبمعنى آخر أن السم لا يكون ناقعا وإنما يكون منقوعا في ماء أو نحوه. ففي كلمة «ناقع» مجاز عقلي علاقته «المفعولية». ... هـ- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة الفاعلية: وذلك فيما بني للمفعول وأسند للفاعل الحقيقي، نحو: سيل مفعم بضم الميم الأولى وفتح العين، لأن السيل هو الذي يفعم أي يملأ، وأصله أفعم السيل الوادي، أي ملأه. فالفاعل الحقيقي الذي أسند إليه الإفعام هو السيل. فلو أريد الإسناد الحقيقي لقيل: سيل مفعم بكسر العين. ولكن الذي حدث أنه جيء بالمسند مبنيا للمفعول «مفعم» بفتح العين، ثم أسند إلى غير فاعله الحقيقي وقيل «سيل مفعم» بفتح العين. فالإسناد ¬

_ (¬1) ساورتني: واثبتني، والضئيلة: الحية الدقيقة الضعيفة، والرقش: جمع رقشاء وهي الحية فيها نقط سوداء وبيضاء، والسم الناقع: المنقوع، وإذا نقع السم كان شديد التأثير.

هنا مجازي، وهو مجاز عقلي علاقته «الفاعلية». ... و- أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المصدرية. 1 - سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم … وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فالمجاز في البيت هو في «جدّ جدّهم» حيث لم يسند الفعل «جدّ» إلى فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «جدهم»، وذلك بجعل ما هو مصدر في المعنى فاعلا لفظيا على سبيل المجاز. ومن هذا يرى أن الفعل أسند إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي. فهنا مجاز عقلي علاقته «المصدرية». 2 - قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. فالفعل «نفخ» المبني للمجهول لم يسند إلى نائب فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «نفخة» أي أسند إلى غير ما هو له لعلاقة المصدرية. فهذا مجاز عقلي علاقته «المصدرية». 3 - قد عز عزّ الألى لا يبخلون على … أوطانهم بالدم الغالي إذا طلبا فالفعل «عزّ» لم يسند إلى فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «عزّ» وذلك بجعل ما هو مصدر في المعنى فاعلا لفظيا على سبيل المجاز. فالفعل في البيت قد أسند إلى غير ما هو له لعلاقة المصدرية، وهذا مجاز عقلي علاقته «المصدرية». ... هذا وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى نقطة جديرة بالنظر بالنسبة لهذا المجاز وذلك إذ يقول: «واعلم أنه ليس بواجب في هذا- أي المجاز

الحكمي أو العقلي- أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل إنك تقول في «ربحت تجارتهم»: ربحوا في تجارتهم ... فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء. ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك: «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» فاعلا سوى «الحق». وكذلك لا تستطيع في قوله: وصيّرني هواك وبي … لحيني يضرب المثل وفي قول أبي نواس: يزيدك وجهه حسنا … إذا ما زدته نظرا أن تزعم أن ل «صيرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» ... ولا تستطيع كذلك أن تقدر ل «يزيد» في قولك: «يزيدك وجهه» فاعلا غير الوجه. فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن «القدوم» في قولك: «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» موجود على الحقيقة. وكذلك «الصيرورة» في قوله: «صيرني هواك»، و «الزيادة» في قوله: «يزيدك وجهه» موجودتان على الحقيقة. وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه، وإذا لم يكن في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر» (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب دلائل الإعجاز ص 193 - 194.

المجاز المرسل

المجاز المرسل ذكرنا عند كلامنا على المجاز اللغوي أنه قسمان: مجاز استعاري، وهو ما كانت علاقته المشابهة، ومجاز مرسل وهو ما كانت علاقته غير المشابهة. كما ذكرنا أن المجاز اللغوي بقسميه يأتي في المركب والمفرد على السواء، وأن مجيئه في المركب يكون باستعمال التركيب في غير ما وضع له، كقولك لمن يسيء إليك وينتظر منك حسن الجزاء: «إنك لا تجني من الشوك العنب». أما مجيئه في اللفظ المفرد فيكون باستعمال الكلمة في غير ما وضعت له أصلا لعلاقة مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي. ويعرف البلاغيون «العلاقة» بأنها الأمر الذي يقع به الارتباط بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي فيصح الانتقال من الأول إلى الثاني. وهذه العلاقة التي تربط في المجاز بين المعنيين: الحقيقي والمجازي قد تكون «المشابهة» نحو: رأيت زهرة تحملها أمها، تريد: طفلة كالزهرة في نضارتها وجمالها. وقد تكون العلاقة «غير المشابهة» كالجزئية في قوله تعالى: «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» يريد: «وصلوا» لأن الركوع جزء من الصلاة، فأطلق الجزء وأراد به الكل مجازا. أما «القرينة» فعرفها البلاغيون أيضا بأنها الأمر الذي يصرف الذهن عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، وهي إما قرينة عقلية أي حالية نحو: «أقبل بحر» والسامع يرى رجلا، وإما قرينة لفظية نحو: «رأيت بحرا يعظ الناس من فوق المنبر» فعبارة «يعظ الناس من فوق المنبر» قرينة لفظية، تدل على أن لفظة «بحر» استعملت استعمالا مجازيا وتمنع في

الوقت ذاته من إرادة المعنى الحقيقي لهذه اللفظة. ... والمجاز المرسل، كما عرفه الخطيب القزويني، هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه، وذلك مثل لفظة «اليد» إذا استعملت في معنى «النعمة»، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ومنها تصل إلى المقصود بها (¬1). وقد سماه البلاغيون «مجازا مرسلا» لإرساله عن التقييد بعلاقة المشابهة. وقد اشترط عبد القاهر الجرجاني في ذلك أن يكون في الكلام إشارة إلى مصدر تلك النعمة وإلى المولي لها، فلا يقال: اتسعت «اليد» في البلد، أو اقتنيت «يدا»، كما يقال: اتسعت النعمة في البلد أو اقتنيت نعمة، وإنما يقال: جلّت «يده» عندي، وكثرت أياديه لديّ ونحو ذلك. ونظير هذا «اليد» في معنى «القدرة» لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد، وبها يكون البطش والضرب والقطع والأخذ والدفع والوضع والرفع، إلى سائر الأفعال التي تنبئ عن وجوه القدرة ومكانها. ونظير هذا أيضا قولهم في صفة راعي الإبل: «إن له عليها إصبعا»، أرادوا أن يقولوا: له عليها أثر حذق، فدلّوا عليها بالإصبع، لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع، واللطف في رفعها ووضعها كما في الخط والنقش. وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ، أي نجعلها كخفّ البعير، فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة، ¬

_ (¬1) كتاب التلخيص للقزويني ص 295.

فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا، حتى يقال رأيت أصابع الدار، وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة، على معنى أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك. ... هذا وللمجاز المرسل علاقات شتى منها: 1 - السببية: وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد المسبب، نحو قولهم: «رعينا الغيث» أي المطر، وهو لا يرعى، وإنما يرعى «النبات» الذي كان المطر سبب ظهوره. ومن أجل ذلك سمى النبات غيثا، لأن الغيث سبب وجود النبات وظهوره. فالعلاقة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي في هذا المجاز المرسل هي «السببية». ومنه قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فالمجاز هنا في لفظة «الشهر»، والشهر لا يشاهد، وإنما الذي يشاهد هو «الهلال» الذي يظهر أول ليلة في الشهر، والهلال سبب في وجود الشهر، فإطلاق الشهر عليه مجاز مرسل علاقته «السببية». ومنه كذلك قول السموأل: تسيل على حد السيوف نفوسنا … وليست على غير السيوف تسيل فالشاعر السموأل أراد بالنفوس الدماء، لأنها هي التي تسيل على حدّ السيوف، ووجود النفس في الجسم سبب في وجود الدم فيه، فإطلاق النفوس على الدم التي هي سبب في وجوده مجاز مرسل علاقته «السببية». ... 2 - المسببية: وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد السبب، نحو: «أمطرت السماء نباتا»، فذكر النبات وأريد الغيث، والنبات مسبب عن

الغيث أي المطر. فهذا مجاز مرسل علاقته «المسبّبية». ومن هذا النوع من المجاز قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً، فالمجاز هنا هو في كلمة «رزقا»، والرزق لا ينزل من السماء، ولكن الذي ينزل منها مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا، فالرزق مسبب عن المطر، فهو مجاز مرسل علاقته «المسببية». ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً. فالمجاز في الآية الكريمة هو في لفظة «نارا» أي: ما لا تتسبب عنه النار عقابا، فهنا أطلق لفظ المسبب «النار» وأريد به السبب «المال»، وهذا أيضا مجاز مرسل علاقته «المسببية». ... 3 - الجزئية: وهي تسمية الشيء باسم جزئه، وذلك بأن يطلق الجزء ويراد الكل، نحو قوله تعالى في شأن موسى عليه السّلام: «فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها». وتقر عينها: أي تهدأ، ولفظة المجاز هنا هي «عينها»، والذي يهدأ هو النفس والجسم لا العين وحدها، ولهذا أطلق الجزء وهو «العين» وأريد به الكلّ وهو النفس والجسم. وهذا مجاز مرسل علاقته «الجزئية». ومنه قولهم: «الإسلام يحث على تحرير الرقاب»، فالمقصود من «الرقاب» أشخاص العبيد لأرقابهم ليس غير، ولكن لما كانت الرقاب عادة موضع وضع الأغلال في العبيد المأسورين أطلقت عليهم. ففي كلمة الرقاب مجاز مرسل علاقته «الجزئية». ومنه استعمال «العين في الربيئة»، والربيئة الشخص الذي يستطلع تحركات العدوّ في مكان عال، فإطلاق العين عليه لأن العين هي المقصودة

في كون الرجل ربيئة، إذ ما عداها من أعضاء الجسم لا يغني شيئا مع فقدها، فصارت كأنها الشخص كله. ومن أجل ذلك قال البلاغيون: «لا بد في الجزء المطلق على الكل من أن يكون له مزيد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل، فمثلا لا يجوز إطلاق اليد أو الإصبع على الربيئة وإن كان كل منهما جزءا منه» (¬1). ... 4 - الكلية: وهذا يعني تسمية الشيء باسم كله، وذلك فيما إذا ذكر الكل وأريد الجزء، نحو قوله تعالى على لسان نوح عليه السّلام: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، فالكلمة موضع المجاز في هذه الآية الكريمة هي «أصابعهم» فقد أطلقت وأريد أناملها أو أطرافها، لأن الإنسان لا يستطيع أن يضع إصبعه كلها في أذنه. وكل مجاز من هذا النوع يطلق فيه الكل ويراد الجزء هو مجاز مرسل علاقته «الكلية». والغرض منه هنا هو المبالغة في الإصرار على عدم سماع الحق بدليل وضع أصابعهم في آذانهم. ومنه قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فالإنسان لا يتكلم بفمه وإنما يتكلم بلسانه فإطلاق الأفواه على الألسنة مجاز مرسل علاقته «الكلية». ومنه كذلك: أقام أبو الطيب المتنبي في مصر فترة من حياته. فالمراد أن المتنبي أقام في بعض بلاد مصر ولم يقم في القطر جميعه، فإطلاق «مصر» وإرادة بعض بلادها مجاز مرسل علاقته «الكلية». ... ¬

_ (¬1) كتاب التلخيص للقزويني ص 298.

5 - اعتبار ما كان: أي تسمية الشيء باسم ما كان عليه، نحو قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، أي الذين كانوا يتامى. وتفصيل ذلك أن اليتيم في اللغة هو الصغير الذي مات أبوه، والأمر الوارد في الآية الكريمة ليس المراد به إعطاء اليتامى الصغار أموال آبائهم، وإنما الواقع أن الله يأمر بإعطاء الأمول من وصلوا سن الرشد والبلوغ بعد أن كانوا يتامى. فكلمة «اليتامى» هنا مجاز مرسل استعملت وأريد بها الراشدون ممن كانوا يتامى. وعلاقة هذا المجاز «اعتبار ما كان». ومنه قولك: «من الناس من يأكل القمح ومنهم من يأكل الذرة والشعير» وأنت تريد بالقمح والذرة والشعير «الخبز» الذي كان في الأصل قمحا أو ذرة أو شعيرا. فعلاقة المجاز المرسل هنا «اعتبار ما كان». ومثله أيضا قولك: «شربت البن» تريد بذلك: شربت «قهوة» كان أصلها بنّا. فإطلاق البن على القهوة مجاز مرسل علاقته أيضا «اعتبار ما كان». ... 6 - اعتبار ما يكون: وهو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه. نحو قوله تعالى على لسان أحد الفتيين اللذين دخلا السجن مع يوسف عليه السّلام: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً. فالمجاز هنا في كلمة «خمرا»، والخمر لا تعصر لأنها سائل، وإنما الذي يعصر هو «العنب» الذي يؤول ويتحول بالعصر إلى خمر. فإطلاق الخمر وإرادة العنب مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما يكون». ونحو قوله تعالى على لسان نوح عليه السّلام: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ففي كلمتي «فاجرا وكفارا» من قوله تعالى: وَلا يَلِدُوا

إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً مجازان، لأن المولود حينما يولد لا يكون فاجرا ولا كفارا، ولكنه قد يكون كذلك بعد الطفولة، أي بعد أن يتحول من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة. ولهذا فإطلاق المولود الفاجر الكفار، وإرادة الرجل الفاجر الكفار مجاز مرسل علاقته أيضا اعتبار «ما يكون»، أي اعتبار ما يؤول ويتحول إليه في المستقبل. ومنه كذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، فالقصاص وهو المساواة في العقاب والجزاء لم يفرض فيمن قتل قبل نزول الآية الكريمة، وإنما فرض فيمن سيقتل بعد نزولها. فالمجاز في كلمة «القتلى» أي الذين سيقتلون بعد نزول الآية. فإطلاق القتلى وإرادة من سيقتلون بعد نزول آية القصاص مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما يكون». ... 7 - المحلية: وذلك فيما إذا ذكر لفظ المحلّ وأريد الحالّ فيه، نحو قوله تعالى في زجر أبي جهل الذي كان ينهى النبي عن الصلاة: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ. كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. فالأمر في قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ خرج إلى السخرية والاستخفاف بشأن أبي جهل، والمجاز هو في كلمة «ناديه»، فإننا نعرف أن النادي مكان الاجتماع، ولكن المقصود به في الآية الكريمة من في هذا المكان من عشيرته وأنصاره، فهو مجاز مرسل أطلق فيه المحلّ وأريد الحالّ، فالعلاقة «المحلية». ومنه قول الشاعر: لا أركب البحر إني … أخاف منه المعاطب طين أنا وهو ماء … والطين في الماء ذائب

فالمجاز في كلمة «البحر» حيث أراد بها الشاعر «السفن» التي تجري فيه، فالبحر هو محل جريان السفن، فإطلاق المحل «البحر» وإرادة الحال فيه «السفن» مجاز مرسل علاقته «المحلية». وفي كلمة «طين» في البيت الثاني مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما كان». ومنه قول الحجاج من خطبته المشهورة في أهل العراق: «وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرّها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي»، فالمجاز هنا في كلمة «كنانته» والكنانة لغة وعاء توضع فيه السهام، والوعاء لا ينثر، وإنما ينثر ما حل فيه. فإطلاق المحل «الكنانة» وإرادة الحالّ فيها وهو «السهام» مجاز مرسل علاقته «المحلية». ... 8 - الحالّية: وهي عكس العلاقة السابقة، وذلك فيما إذ ذكر لفظ الحالّ وأريد المحل لما بينهما من ملازمة. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* فالمجاز في كلمة «نعيم»، والنعيم لا يحل فيه الإنسان لأنه معنى من المعاني، وإنما يحل الإنسان في مكانه. فاستعمال النعيم في مكانه مجاز مرسل أطلق فيه الحالّ وأريد المحل، فعلاقته «الحالّية». ومنه أيضا قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، فالمجاز في كلمة «رحمة» والرحمة لا يحل فيها الذين ابيضت وجوههم لأنها معنى من المعاني، وإنما هم يحلون في مكان الرحمة الذي يراد به في الآية الجنة. فإطلاق الحالّ «الرحمة» وإرادة محلها «الجنة» مجاز مرسل علاقته «الحالّية».

ومن أمثلته شعرا قول شاعر يرثي معن بن زائدة: ألّما على «معن» وقولا لقبره … سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا (¬1) فالمجاز في كلمة «معن» يراد به قبره، فقد أطلق الشاعر الحالّ وهو «معن» وأراد المحل الذي حل فيه بعد وفاته وهو «القبر» بدليل قوله «وقولا لقبره». فالمجاز هنا مجاز مرسل علاقته «الحالّية». ... 9 - الآلية: وذلك إذا ذكر اسم الآلة وأريد الأثر الذي ينتج عنها، نحو قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. فالمجاز في كلمة «لسان»، والمراد واجعل لي قول صدق أي ذكرا حسنا، فأطلق اللسان الذي هو آلة القول على القول نفسه وهو الأثر الذي ينتج عنه. فإطلاق «اللسان» آلة القول وأداته وإرادة الأثر الناتج عنه وهو «القول أو الكلام» مجاز مرسل علاقته «الآلية». ونحو قوله تعالى أيضا: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ، أي على مرأى منهم، والأعين هي آلة الرؤية. فالمجاز في كلمة «أعين» حيث أطلقت وأريد الأثر الناتج عنها وهو الرؤية. فهذا مجاز مرسل علاقته «الآلية». ... 10 - المجاورة: وذلك فيما إذا ذكر الشيء وأريد مجاوره. ومن أمثلة ذلك قول عنترة: ¬

_ (¬1) ألما عليه: أنزلا به، والغوادي: جمع غادية وهي السحابة تنشأ غدوة أو مطرة الغداة، والمربع: اسم مشتق من أربعة، والمعنى: سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية ثم أربعة أخرى متوالية: فهو دعاء بكثرة السقيا للقبر.

فشككت بالرمح الأصمّ «ثيابه» … ليس الكريم على القنا بمحرّم (¬1) فالشاعر يعني بقوله: «شككت ثيابه» شككت قلبه: وأي مكان آخر من جسمه يصيب منه الرمح مقتلا. فالمجاز في كلمة «ثيابه» التي أطلقت وأريد بها ما يجاورها من القلب أو أي مكان آخر في الجسم يصيب الرمح منه مقتلا. فإطلاق الثياب وإرادة ما يجاورها من مقاتل الجسم بأي سلاح كان كالرمح مجاز مرسل علاقته «المجاورة». ¬

_ (¬1) الرمح الأصم: الصلب الأصم، والمراد بالثياب هنا القلب، والشاعر يصف نفسه هنا بالإقدام قائلا: إن الكريم ليس بمحرم ولا عزيز على الرماح.

المبحث الثالث الاستعارة

المبحث الثالث الاستعارة الاستعارة لغة رفع الشيء وتحويله من مكان إلى آخر، يقال استعار فلان سهما من كنانته: رفعه وحوّله منها إلى يده. وعلى هذا يصح أن يقال استعار إنسان من آخر شيئا، بمعنى أن الشيء المستعار قد انتقل من يد المعير إلى المستعير للانتفاع به. ومن ذلك يفهم ضمنا أن عملية الاستعارة لا تتمّ إلا بين متعارفين تجمع بينهما صلة ما. ويؤكد هذا المعنى ويوضحه قول ابن الأثير: «الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذ من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة: وهي أن يستعير بعض الناس من بعض شيئا من الأشياء، ولا يقع ذلك إلا من شخصين بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة أحدهما من الآخر شيئا، وإذا لم يكن بينهما سبب معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر شيئا إذ لا يعرفه حتى يستعير منه. وهذا الحكم جار في استعارة

الألفاظ بعضهما من بعض، فالمشاركة بين اللفظين في نقل المعنى من أحدهما إلى الآخر كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما إلى الآخر» (¬1). ولعلنا نلحظ من ذلك صلة بين المعنى اللغوي أو الحقيقي للاستعارة ومعناها المجازي، إذ لا يستعار أحد اللفظين للآخر في واقع الأمر إلا إذا كان هناك صلة معنوية تجمع بينهما. وإذا شئنا التعرف على تاريخ «الاستعارة» لدى البلاغيين فإننا نجد الجاحظ «255 هـ» من أوائل من التفتوا إليها وعرّفوها وسمّوها وأفاضوا بعض الشيء في الحديث عنها. فالاستعارة عنده: «هي تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه»، ورد ذلك التعريف في تعليقه على البيت الثالث من الأبيات التالية: يا دار قد غيّرها بلاها … كأنما بقلم محاها .. أخربها عمران من بناها … وكرّ ممسناها على مغناها وطفقت سحابة تغشاها … تبكي على عراصها عيناها فقد علق الجاحظ على البيت الثالث هنا بقوله: «وطفقت، يعني ظلت. تبكي على عراصها عيناها، عيناها ها هنا للسحاب، وجعل المطر بكاء من السحاب على طريق الاستعارة، وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (¬2). ¬

_ (¬1) المثل السائل ص 143. (¬2) كتاب البيان والتبيين ج 1 ص 153، والعراص: جمع عرصة بسكون الراء، وهي كما يقول الجاحظ: كل جوبة منفتقة ليس فيها بناء، والجوبة: فجوة ما بين البيوت.

وكثيرا ما يستعمل الجاحظ في تعليقاته على النصوص عبارات «على التشبيه»: «وعلى المثل»، «وعلى الاشتقاق» وهو يعني بها الاستعارة أو المجاز بمعناه العام الذي تندرج تحته الاستعارة. وليس في ذلك من غرابة، فالاستعارة مجاز علاقته المشابهة، وكلمة التشبيه ترد عند تحليل الاستعارة أو إجرائها، ثم هي في حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه. ... وجاء بعد الجاحظ ابن المعتز «296 هـ» فتحدث عن الاستعارة وعدها أول باب في كتابه «البديع» وأورد لها أمثلة من الكلام البديع من نحو قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وقوله تعالى أيضا: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وقول الشاعر: «... والصبح بالكوكب الدريّ منحور». وقد علق على هذا الكلام بقوله: «وإنما هو استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها مثل أم الكتاب، ومثل جناح الذل، ومثل قول القائل «الفكرة مخ العمل» فلو كان قال «لب العمل» لم يكن بديعا» (¬1). ومن هذا التعليق يمكن استشفاف مفهوم ابن المعتز للاستعارة. وكما أورد أمثلة شتى للاستعارة البديعة وعلق على بعضها بما يؤكد مفهومه السابق للاستعارة أورد كذلك أمثلة للاستعارة المعيبة في نظره من مثل قول أبي تمام: كلوا الصبر غضا واشربوه فإنكم … أثرتم بعير الظلم والظلم بارك ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 2.

متى يأتك المقدار لا تك هالكا … ولكن زمان غال مثلك هالك (¬1) ... ثم نلتقي بعد ابن المعتز بقدامة بن جعفر المتوفي سنة 337 للهجرة، فقد عقد قدامة في كتابه «نقد النثر» بابا للاستعارة تحدث فيه عن الحاجة إليها في كلام العرب ومفهومها عنده، كما تحدث عن الاستعارة المكنية وإن لم يسمها الاسم الذي عرفت به فيما بعد. فعن الأمرين الأولين يقول قدامة: «وأما الاستعارة فإنما احتيج إليها في كلام العرب لأن ألفاظهم أكثر من معانيهم، وليس هذا في لسان غير لسانهم، فهم يعبرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة ربما كانت مفردة له، وربما كانت مشتركة بينه وبين غيره، وربما استعاروا بعض ذلك في موضع بعض على التوسع والمجاز، فيقولون إذا سأل الرجل الرجل شيئا فبخل به عليه: «لقد بخّله فلان»، وهو لم يسأله ليبخل وإنما سأله ليعطيه؛ لكن البخل لمّا ظهر منه عند مسألته إياه، جاز في توسعهم ومجاز قولهم أن ينسب ذلك إليه. ومنه قول الشاعر: «... فللموت ما تلد الوالدة»، والوالدة إنما تطلب الولد ليعيش لا ليموت، لكن لما كان مصيره إلى الموت جاز أن يقال: للموت ولدته» (¬2). فالاستعارة في نظر قدامة تتمثل في استعارة بعض الألفاظ في موضع بعض على سبيل التوسع والمجاز. وعن الاستعارة المكنية التي التفت إليها ولم يسمها باسمها ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 23. (¬2) كتاب نقد النثر لقدامة ص 64.

الاصطلاحي المعروف يقول: «ومن الاستعارة ما قدمناه من إنطاق الربع وكل ما لا ينطق إذا ظهر من حاله ما يشاكل النطق. ومما جاء من هذا النوع في القرآن قوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. لما جاز أن تحتمل مزيدا من الكافرين حسن أن يقال: قالت وهل من مزيد؟ وكذلك قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، وذلك لما كانتا عن إرادته من غير استصعاب عليه ولا عصيان له، جاز أن يقال إنهما قالتا أتينا طائعين. وكذلك قوله: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ، لما كانت الإرادة من أسباب الفعل وكان وقوع الفعل يتلوها، جاز لما قد كاد أن يقع وقرب وقوعه، أن يقال أراد أن يقع. ومثل ذلك قول الشاعر: «... امتلأ الحوض وقال قطني»، أي لما لم تكن فيه- الحوض- سعة لغير ما قد وقع فيه من الماء، جاز على الاستعارة أن يقال: قد قال حسبي، وهذا شائع في اللغة كثير» (¬1). وإذا كانت الاستعارة المكنية هي ما حذف فيها المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه فإن في كل من «جهنم، والسماء، والأرض، والحوض» الواردة في الأمثلة السابقة استعارة مكنية حذف في كل منها المشبه به وهو شخص أو إنسان ورمز إليه بشيء من لوازمه هو «النطق والقول». ومن البلاغيين من يسمي هذا النوع من الاستعارة «التشخيص» حيث تمثل فيه المعاني والجمادات إلى أشخاص تكتسب كل صفات الكائنات الحية أيا كانت وتصدر عنها أفعالها. ¬

_ (¬1) كتاب نقد النثر ص 65 - 66.

وهم يعدون هذا النوع من أجمل الصور البيانية لما فيه من التشخيص والتجسيد وبث الحياة والحركة في الجمادات وتصوير المعنويات في صورة محسة حية. وبعد فقد عرضنا في مستهل هذا الكتاب وعلى التحديد في مبحث «نشأة علم البيان وتطوره» لتاريخ الاستعارة مبينين كيف نشأ البحث فيها وتطور لدى رجال البلاغة في العصور المختلفة. وليس من قصدنا أن نعيد هنا ما سبق أن ذكرناه عن الاستعارة، فهذا أمر يمكن الرجوع إليه وتتبعه تاريخيا في مكانه من الكتاب. وإنما القصد أن نلقي مزيدا من الضوء على أوائل من فطنوا إلى الاستعارة وقاموا بالمحاولة الأولى في بحثها، تلك المحاولة التي التقطها البلاغيون من بعدهم وتوسعوا في دراستها، حتى وصلت الاستعارة بفضل جهودهم إلى ما وصلت إليه من التفريع والتقسيم. ذلك هو القصد، وقصد آخر هو أن نتخذ من ذلك مدخلا إلى دراسة الاستعارة دراسة موسعة تعززها الأمثلة والشواهد الكثيرة، وذلك لأهميتها في باب البيان العربي، تلك الأهمية التي جعلت إماما من أئمة البلاغة هو عبد القاهر الجرجاني ينظر إليها وإلى المجاز والتشبيه والكناية على أنها عمد الإعجاز وأركانه، والأقطاب التي تدور البلاغة عليها، وذلك إذ يقول: «ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها، وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية، وخصوصا الاستعارة والمجاز، فإنك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر دلائل الإعجاز ص 329 - 330.

تعريف الاستعارة

تعريف الاستعارة 1 - عرّفها الجاحظ بقوله: «الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه». 2 - وعرّفها ابن المعتز بقوله: «هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها». 3 - وعرّفها قدامة بن جعفر بقوله: «هي استعارة بعض الألفاظ في موضع بعض على التوسع والمجاز». 4 - وعرّفها القاضي الجرجاني (¬1) بقوله: «فأما الاستعارة فهي أحد أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسّع والتصرّف، وبها يتوصّل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النظم والنثر». وعرّفها مرة أخرى بقوله: «ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصلي ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها بقرب التشبيه، ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر» (¬2). 5 - وعرّفها أبو الحسن الرماني (¬3) بقوله: «الاستعارة استعمال العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة» ومثل لها بقول الحجاج: «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها». ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني «366 هـ» صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه. (¬2) العمدة ج 1 ص 240. (¬3) كتاب العمدة لابن رشيق ج 1 ص 241، والرماني «386 هـ» صاحب كتاب «النكت في إعجاز القرآن».

6 - وعرّفها الآمدي (¬1) بما معناه: «هي استعارة المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه». 7 - وعرّفها أبو هلال العسكري بقوله: «الاستعارة نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض». 8 - وعرّفها عبد القاهر الجرجاني بقوله: «الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفا تدلّ الشواهد على أنه اختصّ به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية (¬2). 9 - وعرّفها السكاكي بقوله: «الاستعارة أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالّا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخصّ المشبه به» (¬3). 10 - وعرّفها ضياء الدين بن الأثير بقوله: «الاستعارة هي طيّ ذكر المستعار له الذي هو المنقول إليه، والاكتفاء بذكر المستعار الذي هو المنقول» (¬4). وعرّفها ابن الأثير تعريفا آخر بقوله: «الاستعارة نقل المعنى من لفظ ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي «371 هـ» صاحب كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري. (¬2) أسرار البلاغة ص 22. (¬3) الإيضاح للقزويني ص 226. (¬4) المثل السائر ص 142.

إلى لفظ لمشاركة بينهما مع طيّ ذكر المنقول إليه (¬1). 11 - وعرّفها الخطيب القزويني بقوله: «الاستعارة مجاز علاقته تشبيه معناه بما وضع له. وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به في المشبّه، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبه مستعارا له، واللفظ مستعارا» (¬2). ... تلك طائفة من تعريفات الاستعارة تبيّن مفهومها لدى كبار رجال البلاغة العربية في عصورها المختلفة، وهي وإن اختلفت عباراتها فإنها تكاد تكون متفقة مضمونا. ومن كل التعريفات السابقة تتجلى الحقائق التالية بالنسبة للاستعارة: 1 - الاستعارة ضرب من المجاز اللغوي علاقته المشابهة دائما بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. 2 - وهي في حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه. 3 - تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به في المشبّه، فيسمى المشبّه به مستعارا منه، والمشبه مستعارا له، واللفظ مستعارا. 4 - وقرينة الاستعارة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي قد تكون لفظية أو حالية. ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 145. (¬2) الإيضاح للقزويني ص 194 - 200.

أقسام الاستعارة

أقسام الاستعارة 1 - الاستعارة التصريحية والمكنية يقسّم البلاغيون الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى: تصريحية ومكنية. 1 - فالاستعارة التصريحية: وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبه به، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه. 2 - والاستعارة المكنية: هي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه، ورمز له بشيء من لوازمه. ولبيان هذين النوعين من الاستعارة نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثم نعقّب عليها بالشرح والتفصيل. الأمثلة: 1 - قال المتنبي في وصف دخول رسول الروم على سيف الدولة: وأقبل يمشي في البساط فما درى … إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي في هذا البيت مجاز لغوي، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البحر» والمقصود بها سيف الدولة الممدوح، والعلاقة المشابهة، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي لفظية وهي «فأقبل يمشي في البساط». وفي البيت مجاز لغوي آخر، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البدر» والمقصود بها أيضا سيف الدولة الممدوح، والعلاقة بين البدر والممدوح المشابهة في الرفعة، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي لفظية أيضا وهي «فأقبل يمشي في البساط».

2 - وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. ففي الآية الكريمة مجازان لغويان في كلمتي «الظلمات والنور» قصد بالأولى «الضلال» وبالثانية «الهدى والإيمان». فقد استعير «الظلمات» للضلال، لعلاقة المشابهة بينهما في عدم اهتداء صاحبهما. كذلك استعير «النور» للهدى والإيمان، لعلاقة المشابهة بينهما في الهداية، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي في كلا المجازين قرينة حالية تفهم من سياق الكلام. 3 - وقال المتنبي في مدح سيف الدولة أيضا: أما ترى ظفرا حلوا سوى الظفر … تصافحت فيه بيض الهند باللمم (¬1)؟ ففي البيت هنا مجاز لغوي في كلمة «تصافحت» يراد منها «تلاقت» لعلاقة المشابهة، والقرينة لفظية هي «بيض الهند واللمم». وإذا تأملنا المجاز اللغوي في كل هذه الأمثلة الثلاثة رأينا أنه تضمن تشبيها حذف منه لفظ المشبه واستعير بدله لفظ المشبه به ليقوم مقامه بادّعاء أن المشبه به هو عين المشبه مبالغة. فكل مجاز من هذا النوع يسمى «استعارة»، ولما كان المشبه به مصرّحا به في هذا المجاز سمي «استعارة تصريحية». ... ¬

_ (¬1) بيض الهند: السيوف، واللمم: جمع لمّة بكسر اللام وتشديد الميم، وهي الشعر المجاور شحمة الأذن، والمراد بها هنا الرؤوس، والمعنى: لا ترى انتصارا حلوا لذيذا إلا بعد معركة تتلاقى فيها السيوف بالرؤوس.

4 - قال الشاعر دعبل الخزاعي: لا تعجبي يا سلم من رجل … ضحك «المشيب» برأسه فبكى فالمجاز هنا في كلمة «المشيب» حيث شبّه بإنسان على تخيل أن المشيب قد تمثل في صورة إنسان، ثم حذف المشبه به «الإنسان» ورمز له بشيء من لوازمه هو «ضحك» الذي هو القرينة. 5 - قال الشاعر: وإذا «العناية» لا حظتك عيونها … نم فالمخاوف كلهنّ أمان المجاز اللغوي في كلمة «العناية»، فالذي يفهم من البيت أن الشاعر يريد أن يشبّه «العناية» بإنسان، وأصل الكلام: العناية كامرأة لاحظتك عيونها، ثم حذف المشبه به «المرأة» فصار: العناية لاحظتك عيونها، على تخيل أن العناية قد تمثلت في صورة امرأة، ثم رمز للمشبه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «لاحظتك عيونها» والذي هو القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. 6 - وقال الحجاج من خطبته في أهل العراق: «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها». فالمجاز اللغوي هنا في كلمة «رؤوسا»، وأصل الكلام على التشبيه «إني لأرى رؤوسا كالثمرات قد أينعت وحان قطافها» ثم حذف المشبه به وهو «الثمرات»، فصار الكلام «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها» على تخيل أن الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمار، ثم رمز للمشبّه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «قد أينعت وحان قطافها».

إجراء الاستعارة

ولما كان المشبه به في هذا النوع من الاستعارة محتجبا سميت «استعارة مكنية». من هذه الأمثلة وشرحها يتضح ما سبق أن ذكرناه من أن الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها نوعان: 1 - الاستعارة التصريحية: وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبّه به، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه. 2 - الاستعارة المكنية: وهي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه، ورمز له بشيء من لوازمه. إجراء الاستعارة يقصد بإجراء الاستعارة تحليلها إلى عناصرها الأساسية التي تتألف منها. وهذا التحليل يتطلب تعيين كلّ من المشبه والمشبه به في الاستعارة، وعلاقة المشابهة أو الصفة التي تجمع بين طرفي التشبيه، ونوع الاستعارة، وكذلك نوع القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، والتي تكون أحيانا لفظية وأحيانا حالية تفهم من سياق الكلام. وفيما يلي إجراء لبعض الاستعارات يحلّلها ويوضّح العناصر الرئيسية التي تتألف منها: 1 - قال ابن المعتز: جمع الحق لنا في إمام … قتل البخل وأحيا السماحا في البيت استعارتان الأولى منهما في «قتل البخل» حيث شبّه تجنب كل مظاهر البخل، وهو المشبه، بالقتل، وهو المشبه به، بجامع الزوال في كل، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي هي لفظة «البخل». ولأن

المشبّه به وهو «القتل» مصرّح به تسمى هذه الاستعارة «تصريحية». والاستعارة الثانية في البيت هي «أحيا السماحا»، حيث شبّه تجديد وانبعاث ما اندثر من عادة الكرم، وهو المشبه، بالإحياء، وهو المشبه به، بجامع الإيجاد بعد العدم في كل، والقرينة هنا لفظية وهي «السماحا». ولأن المشبه به «الإحياء» مصرّح به فالاستعارة «تصريحية». 2 - وقال الشاعر في وصف مزين: إذا لمع البرق في كفه … أفاض على الوجه ماء النعيم في هذا البيت شبّه الموسى بالبرق بجامع اللمعان في كل، واستعير اللفظ الدالّ على المشبه به وهو «البرق» للمشبه وهو «الموسى»، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «في كفه». ولما كان المشبه به «البرق» مصرّحا به فالاستعارة تصريحية. ... 3 - قال أبو خراش الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها … أبصرت كل تميمة لا تنفع في هذا البيت شبّهت «المنية» بحيوان مفترس بجامع إزهاق روح من يقع عليه كلاهما، ثم حذف المشبه به «الحيوان المفترس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أنشبت أظفارها»، والقرينة لفظية وهي إثبات الأظفار للمنيّة. والاستعارة هنا «مكنية» لأن المشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه. 4 - وقال أبو العتاهية يهنئ المهدي بالخلافة: أتته الخلافة منقادة … إليه تجرّر أذيالها

2 - الاستعارة الأصلية والتبعية

شبّهت «الخلافة» هنا بغادة ترتدي ثوبا طويل الذيل بجامع بهاء المنظر والحسن في كل، ثم حذف المشبه به «الغادة» ورمز إليها بشيء من لوازمها وهو «أتته منقادة»، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية، وهي «تجرر أذيالها» أو إثبات تجرير الأذيال للخلافة. ونوع الاستعارة «مكنية» وذلك لحذف المشبه به والرمز إليه بشيء من لوازمه. 5 - وقال السري الرفاء: مواطن لم يسحب بها الغيّ ذيله … وكم للعوالي بينها من مساحب (¬1) ففي هذا البيت شبّه «الغيّ» بإنسان بجامع أن كليهما يقود إلى الزلل، ثم حذف المشبه به «الإنسان» ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو «يسحب ذيّله»، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية، وهي «إثبات سحب الذيل للغي». ولما كان المشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه فالاستعارة «مكنية». 2 - الاستعارة الأصلية والتبعية ويقسم البلاغيون الاستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إلى أصلية وتبعية. أ- فالاستعارة الأصلية: هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا غير مشتق. ¬

_ (¬1) العوالي: جمع عالية وهي الرماح، والمعنى: إن هذه الأماكن طاهرة من شرور الغواية، وإنها منازل شجعان طالما جرت فيها الرماح.

1 - مثال ذلك لفظة «كوكبا» في قول التهامي الشاعر راثيا ابنا صغيرا له: يا «كوكبا» ما كان أقصر عمره … وكذاك عمر كواكب الأسحار ففي إجراء هذه الاستعارة يقال: شبّه الابن «بالكوكب» بجامع صغر الجسم وعلو الشأن في كل، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «الكوكب» للمشبه «الابن» على سبيل الاستعارة التصريحية، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به. والقرينة نداؤه. وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «الكوكب» رأيناه اسما جامدا غير مشتق، ومن أجل ذلك يسمى هذا النوع من الاستعارة «استعارة أصلية». 2 - ومثاله أيضا لفظة «القيان» في قول الشاعر: حول أعشاشها على الأشجار … قد سمعن «القيان» وهي تغني وفي إجراء هذه الاستعارة أيضا يقال: شبّهت الطيور المغردة على الأشجار «بالقيان» أي المغنيات بجامع حسن الصوت في كل، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «القيان» للمشبه «الطيور» على سبيل الاستعارة التصريحية، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي قوله: «حول أعشاشها على الأشجار». وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «القيان» جمع قينة رأيناه اسما جامدا غير مشتق. ولهذا يسمى هذا النوع من الاستعارة التي يكون فيها اللفظ المستعار اسما جامدا «استعارة أصلية». 3 - ومن الاستعارة الأصلية كذلك لفظة «حديقة» في قول المتنبي: حملت إليه من لساني «حديقة» … سقاها الحجا سقي الرياض السحائب

فالاستعارة هنا في لفظة «حديقة»، وفي إجراء الاستعارة يقال: شبّه الشعر «بالحديقة» بجامع الجمال في كل، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «الحديقة» للمشبه «الشعر» على سبيل الاستعارة التصريحية، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به. والقرينة «من لساني وسقاها الحجا». وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «الحديقة» رأيناه كذلك اسما جامدا غير مشتق، ومن أجل ذلك تسمى «استعارة أصلية». ومن إجراء هذه الاستعارات وتحليلها يتجلى لنا أمران: الأول أنه قد صرّح في كل استعارة بلفظ المشبه به، ولهذا تسمى الاستعارة «تصريحية»، والثاني أن اللفظ المستعار اسم جامد غير مشتق، وبسبب ذلك تسمى الاستعارة «أصلية». ومن أجل ذلك تسمى هذه الاستعارات وأمثالها مما يتوافر له هذا الأمر أن «استعارة تصريحية أصلية». ... ب- الاستعارة التبعية: وهي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه الاستعارة اسما مشتقا أو فعلا. 1 - مثال ذلك لفظة «سكت» من قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ. ففي هذه الآية الكريمة استعارة تصريحية، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به، وفي إجرائها نقول: شبه انتهاء الغضب عن موسى «بالسكوت» بجامع الهدوء في كل، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به وهو «السكوت» للمشبه وهو «انتهاء الغضب»، ثم اشتق من «السكوت» بمعنى انتهاء الغضب «سكت» الفعل بمعنى انتهى.

2 - ومثالها أيضا لفظة «عانقت» في قول البحتري يصف قصرا: ملأت جوانبه الفضاء وعانقت … شرفاته قطع السحاب الممطر ففي هذا البيت استعارة تصريحية، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبّه به، واللفظ المستعار هو فعل «عانقت»، وفي إجراء الاستعارة نقول: شبهت الملامسة «بالمعانقة» بجامع الاتصال في كل، ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو «المعانقة» للمشبه وهو «الملامسة»، ثم اشتق من «المعانقة» بمعنى الملامسة الفعل «عانقت» بمعنى لامست. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «شرفاته». 3 - ومن أمثلتها كذلك لفظ «لبس» من قول ابن الرومي: بلد صحبت به الشبيبة والصّبا … ولبست ثوب اللهو وهو جديد ففي لفظة «لبس» أولا استعارة تصريحية، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به، واللفظ المستعار هنا هو فعل «لبس»، وفي إجراء الاستعارة نقول: شبّه فيها التمتع باللهو «باللبس» للثوب الجديد بجامع السرور في كل، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به وهو «اللبس» للمشبه وهو التمتع باللهو، ثم اشتق من «اللبس» الفعل «لبس» بمعنى تمتع. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «ثوب اللهو». ... وإذا وازنّا بين إجراء الاستعارات الثلاث الأخيرة وإجراء الاستعارات الثلاث الأولى، رأينا أن الإجراء هنا لا ينتهي عند استعارة المشبه به للمشبه كما انتهى في الاستعارات الثلاث الأولى، بل يزيد عملا

آخر، وهو اشتقاق كلمة من المشبه به، وأن ألفاظ الاستعارة هنا مشتقة لا جامدة. وهذا النوع من الاستعارة يسمى «بالاستعارة التبعية»، لأن جريانها في المشتق كان تابعا لجريانها في المصدر. ... وإذا رجعنا إلى المثال الأول من الأمثلة الثلاثة الأخيرة وهو «ولما سكت عن موسى الغضب» فإننا نرى أنه يجوز أن يشبّه «الغضب» بإنسان، ثم يحذف المشبه به «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «سكت»، فتكون في «الغضب» استعارة «مكنية». وإذا رجعنا إلى المثال الثاني منها وهو «وعانقت شرفاته قطع السحاب الممطر» فإننا نرى أنه يجوز أيضا أن تشبه «شرفات القصر» بإنسان ثم يحذف المشبه به «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «عانقت»، فتكون في «شرفاته» استعارة «مكنية». وإذا رجعنا إلى المثال الثالث والأخير منها وهو «ولبست ثوب اللهو» فإننا نرى كذلك أنه يجوز أن يشبه «اللهو» بإنسان له ثوب أعاره الشاعر ثم يحذف المشبه به وهو «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الثوب». ومن ذلك نرى أن كل استعارة «تبعية» يصحّ أن يكون في قرينتها استعارة «مكنية»، غير أنه لا يجوز لنا إجراء الاستعارة إلا في واحدة منهما لا في كلتيهما معا. وبعد ... فلعلّ من المفيد هنا أن نعود فنلخص القواعد الخاصة بهذا القسم من الاستعارة زيادة في الإيضاح وتمكينا من الإلمام بها.

3 - الاستعارة باعتبار الملائم

1 - يقسّم البلاغيون الاستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إلى أصلية وتبعية. 2 - الاستعارة الأصلية: هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا غير مشتق. 3 - الاستعارة التبعية: هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما مشتقا أو فعلا. وتسمى تبعية لأن جريانها في المشتق يكون تابعا لجريانها في المصدر. 4 - كل استعارة تبعية قرينتها استعارة مكنية، وإذا أجريت الاستعارة في واحدة منهما امتنع إجراؤها في الأخرى. 3 - الاستعارة باعتبار الملائم ذكرنا فيما سبق أن الاستعارة تنقسم باعتبار طرفيها إلى تصريحية ومكنية، وباعتبار اللفظ المستعار إلى أصلية وتبعية، وهنا نذكر أنها تقسم باعتبار الملائم تقسيما ثالثا إلى مرشحة، ومجردة، ومطلقة. 1 - فالاستعارة المرشحة: هي ما ذكر معها ملائم المشبه به، أي المستعار منه. ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ. ففي هذه الآية الكريمة استعارة تصريحية في لفظة «اشتروا» فقد استعير «الاشتراء» «للاختيار» بجامع أحسن الفائدة في كل، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الضلالة». وإذا تأملنا هذه الاستعارة رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه

به «الاشتراء»، وهذا الشيء هو «فما ربحت تجارتهم». ومن أجل ذلك تسمى «استعارة مرشحة» .. ومن أمثلة الاستعارة المرشحة أيضا قول الشاعر: إذا ما الدهر جرّ على أناس … كلاكله أناخ بآخرينا (¬1) ففي هذا البيت استعارة مكنية في «الدهر» فقد شبه الدهر بجمل ثم حذف المشبه به «الجمل» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الكلاكل»، وقد تمت لهذه الاستعارة قرينتها وهي «إثبات الكلاكل للدهر». وإذا تأملنا هذه الاستعارة المكنية التي استوفت قرينتها رأينا أنها قد ذكر معها شيء يلائم المشبه به «الجمل»، وهذا الشيء هو «أناخ بآخرينا». ولهذا تسمى استعارة «مرشحة». من ذلك يتضح أن الاستعارة سواء أكانت تصريحية أم مكنية إذا استوفت قرينتها وذكر معها ما يلائم المشبه به فإنها تسمى استعارة «مرشحة». ... 2 - والاستعارة المجردة: هي ما ذكر معها ملائم المشبه، أي المستعار له. أ- ومن أمثلة ذلك قول القائل: «لا تتفكهوا بأعراض الناس، فشرّ الخلق الغيبة». ففي قوله: «لا تتفكهوا» استعارة تصريحية تبعية، فقد شبّه فيها ¬

_ (¬1) الكلاكل: جمع كلكل وهو الصدر، والمعنى: أن عادة الدهر تكدير العيش، فهو يصيب قوما بأذاه، ثم ينتقل إلى إصابة غيرهم.

«التكلم في الأعراض» «بالتفكه» بجامع أن بعض النفوس قد تميل إلى كل، ثم اشتق من «التفكه» تفكه بمعنى تكلم في العرض، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «بأعراض الناس». وإذا تأملنا الاستعارة رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه «التكلم في الأعراض»، وهذا الشيء هو «فشرّ الخلق الغيبة» ولهذا السبب يقال إن الاستعارة «مجردة». ب- ومن أمثلة الاستعارة المجردة أيضا قول سعيد بن حميد: وعد «البدر» بالزيارة ليلا … فإذا ما وفى قضيت نذوري ففي البيت استعارة تصريحية أصلية في كلمة «البدر» حيث شبهت المحبوبة «بالبدر» بجامع الحسن في كل، ثم استعير المشبه به «البدر» للمشبه «المحبوبة» على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هنا لفظية، وهي «وعد». فالاستعارة قد استوفت قرينتها، ولكن إذا تأملناها رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه «المحبوبة»، وهذا الشيء هو «الزيارة والوفاء بها». ولذكر ملائم المشبه مع الاستعارة تسمى استعارة «مجردة». ج- ومن أمثلها كذلك قول القائل: «رحم الله امرأ ألجم نفسه بإبعادها عن شهواتها». ففي لفظة «نفسه» استعارة مكنية، فقد شبّهت «النفس» «بجواد» بجامع أن كلّا منهما يكبح، ثم حذف المشبه به «الجواد» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «ألجم». والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي «إثبات الإلجام للنفس».

وإذا تأملنا هذه الاستعارة التي استوفت قرينتها رأينا أنها تشتمل بالإضافة إلى ذلك على شيء يلائم المشبه «النفس» وذلك الشيء هو «إبعادها عن شهواتها». فذكر الإبعاد عن الشهوات وهو ملائم المشبه تجريد. ومن أجل ذلك تسمى الاستعارة «مجردة». وهكذا يتضح من تحليل الاستعارات الثلاث السابقة، أن الاستعارة مطلقا إذا استوفت قرينتها وذكر معها ما يلائم المشبه فإن الاستعارة بسبب ذلك تسمى استعارة «مجردة». ... 3 - والاستعارة المطلقة: هي ما خلت من ملائمات المشبه به والمشبه، وهي كذلك ما ذكر معها ما يلائم المشبه به والمشبه معا. أ- فمن أمثلة الاستعارة المطلقة قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. ففي لفظة «طغى» استعارة تصريحية تبعية، فقد شبّه فيها «الزيادة» «بالطغيان» بجامع تجاوز الحد في كل، ثمّ اشتقّ من «الطغيان» الفعل طغى بمعنى زاد على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الماء». وإذا تأملنا هذه الاستعارة بعد استيفاء قرينتها رأيناها خالية مما يلائم المشبه به والمشبه. ولهذا تسمى استعارة «مطلقة». ب- ومن أمثلتها أيضا قول المتنبي يخاطب ممدوحه: يا بدر يا بحر يا غمامة يا … ليث الشرى يا حمام يا رجل (¬1) ففي هذا البيت استعارة تصريحية في كل من: «بدر» و «بحر» ¬

_ (¬1) الشرى: مكان في جزيرة العرب يوصف بكثرة الأسود، والحمام بكسر الحاء: الموت.

و «غمامة» و «ليث الشرى» و «حمام». فالمشبه هنا الممدوح، والمشبه به هو «البدر» مرة، و «البحر» مرة ثانية، و «الغمامة» مرة ثالثة، و «ليث الشرى» مرة رابعة، و «الحمام» مرة خامسة. والقرينة في كل استعارة هي النداء. إذا تأملنا كل استعارة من هذه الاستعارات بعد استيفاء قرينتها رأيناها كذلك خالية مما يلائم المشبه به والمشبه. ولهذا السبب تسمى استعارة «مطلقة». ج- ومن أمثلة الاستعارة المطلقة كذلك قول قريظ بن أنيف: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم … طاروا إليه زرافات ووحدانا (¬1) ففي لفظة «الشر» استعارة مكنية، وفي إجرائها يقال: شبه الشر «بحيوان مفترس»، ثمّ حذف المشبه به «الحيوان المفترس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أبدى ناجذيه». والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي «إثبات إبداء الناجذين للشر». وهذه الاستعارة التي استوفت قرينتها قد خلت من كل ما يلائم المشبه والمشبه به، ومن أجل ذلك تسمى استعارة «مطلقة». د- ومن أمثلتها كذلك قول كثير عزة: رمتني «بسهم» ريشه الكحل لم يضر … ظواهر جلدي وهو للقلب جارح ففي لفظة «سهم» استعارة تصريحية أصلية، ويقال في إجرائها: شبه «الطرف» بسكون الطاء «بالسهم» بجامع الإصابة بالضرر والأذى، ثمّ ¬

_ (¬1) الناجذان: النابان، وإبداء الشر ناجذيه كناية عن شدته وحدته

استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو «السهم» للمشبه وهو «الطرف» على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الكحل». وإذا تدبرنا هذه الاستعارة التي استوفت قرينتها رأينا أنّه قد اقترن بها ملائم للمشبه به «السهم» وهو «الريش»، وكذلك ملائم للمشبه «الطرف» وهو «الكحل». ولهذا السبب الذي يتمثل في اقتران الاستعارة بما يلائم المشبه به والمشبه معا تسمى الاستعارة أيضا «مطلقة». وهكذا يتضح من تحليل الاستعارة في الأمثلة السابقة أيضا أنّ الاستعارة مطلقا إذا استوفت قرينتها يقال لها استعارة «مطلقة» في حالين: الأولى إذا خلت من ملائمات المشبه به والمشبه، والثانية إذا ذكر معها ما يلائمها معا. هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الترشيح أبلغ من التجريد والإطلاق، لاشتماله على تحقيق المبالغة في الاستعارة، ولهذا كان مبنى الترشيح على أساس تناسي التشبيه والتصميم على إنكاره إلى درجة استعارة الصفة المحسوسة للمعنوي وجعلها كأنّها ثابتة لذلك المعنوي حقيقة، وكأنّ الاستعارة لم توجد أصلا، وذلك كقول أبي تمام: ويصعد حتى يظن الجهول … بأنّ له حاجة في السماء فقد استعار لفظ العلو المحسوس لعلو المنزلة، ووضع الكلام وضع من يذكر علوا مكانيا، ولولا أنّ قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيضاح للقزويني ص 217 - 219.

4 - الاستعارة التمثيلية

هذا وفيما يلي تجميع للمتفرق هنا من القواعد البلاغية المتصلة بهذا النوع من الاستعارة: 1 - تنقسم الاستعارة باعتبار الملائم إلى مرشحة ومجردة ومطلقة. 2 - الاستعارة المرشحة: ما ذكر معها ملائم المشبه به، أي المستعار منه. 3 - الاستعارة المجردة: ما ذكر معها ملائم المشبه، أي المستعار له. 4 - الاستعارة المطلقة: ما خلت من ملائمات المشبه به والمشبه، وكذلك ما ذكر معها ما يلائمهما معا. 5 - لا يعتبر الترشيح أو التجريد إلّا بعد استيفاء الاستعارة لقرينتها لفظية أو حالية، ومن أجل ذلك لا تسمى قرينة التصريحية تجريدا، ولا قرينة المكنية ترشيحا. 4 - الاستعارة التمثيلية تنقسم الاستعارة من حيث الإفراد والتركيب إلى مفردة ومركبة. فالمفردة هي ما كان المستعار فيها لفظا مفردا كما هو الشأن في الاستعارة التصريحية والمكنية. أمّا المركبة فهي ما كان المستعار فيها تركيبا، وهذا النوع من الاستعارة يطلق عليه البلاغيون اسم «الاستعارة التمثيلية». وهم يعرفونها بقولهم: «الاستعارة التمثيلية تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي».

واستجلاء لحقيقة هذه الاستعارة نورد فيما يلي بعض الأمثلة لها معقّبين عليها بالشرح والتحليل. ... الأمثلة: 1 - قال المتنبي: ومن يك ذا فم مرّ مريض … يجد مرّا به الماء الزلالا «يقال لمن لم يرزق الذوق لفهم الشعر الرائع». فهذا البيت يدل وضعه الحقيقي على أنّ المريض الذي يصاب بمرارة في فمه إذا شرب الماء العذب وجده مرا. ولكن المتنبي لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمن يعيبون شعره لعيب في ذوقهم الشعري، وضعف في إدراكهم الأدبي، فهذا التركيب مجاز قرينته حالية، وعلاقته المشابهة، والمشبه هنا حال المولعين بذمه والمشبه به حال المريض الذي يجد الماء الزلال مرا في فمه. ولذلك يقال في إجراء هذه الاستعارة: شبهت حال من يعيبون شعر المتنبي لعيب في ذوقهم الشعري بحال المريض الذي يجد الماء العذب الزلال مرا في فمه بجامع السّقم في كلّ منهما، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي قرينة حالية تفهم من سياق الكلام. ... 2 - قال الشاعر: ومن ملك البلاد بغير حرب … يهون عليه تسليم البلاد

«يقال لمن يبعثر فيما ورثه عن والديه». فالمعنى الحقيقي للبيت هنا هو أنّ من يستولي على بلاد بغير تعب وقتال يهون عليه تسليمها لأعدائه. والشاعر لم يستعمل البيت في هذا المعنى الحقيقي، وإنّما استعمله مجازيا للوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه لعلاقة مشابهة بينهما ولقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. إذن في هذا التركيب الذي اشتمل عليه البيت استعارة، وإذا شئنا إجراءها قلنا: شبهت حال الوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه بحال من استولى على بلاد بغير تعب وقتال فهان عليه تسليمها لأعدائه، بجامع التفريط فيما لا يتعب في تحصيله في كل، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة حالية. ... 3 - لا تنثر الدر أمام الخنازير. «يقال لمن يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به». المعنى الحقيقي لهذا التركيب هو النهي عن نثر الدر أمام الخنازير. وهذا التركيب لم يستعمل للدلالة على هذا المعنى الحقيقي، وإنّما استعمل مجازيا لمن يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به، لعلاقة مشابهة بينهما. والقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. فالتركيب هنا استعاري وفي إجراء استعارته يقال: شبهت حال من يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به بحال من ينثر الدرّ أمام الخنازير، بجامع أنّ كليهما لا ينتفع بالشيء النفيس الذي ألقي إليه، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة

التمثيلية. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي قرينة حالية تفهم من سياق الكلام. ... 4 - قال المتنبي: ومن يجعل الضرغام للصيد بازه … تصيده الضرغام فيما تصيدا «يقال مثلا للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله». فالمعنى الحقيقي للبيت أنّ من اتّخذ الأسد وسيلة للصيد افترسه الأسد في جملة ما افترس. والمتنبي لم يستعمل البيت في هذا المعنى الحقيقي، وإنّما استعمله مجازيا للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله، لعلاقة مشابهة بين الحالين، ولقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. وعلى هذا يكون البيت بتركيبه قد اشتمل على استعارة يقال في إجرائها: شبهت حال التاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله بحال من اتّخذ الأسد وسيلة للصيد فافترسه في جملة ما افترس من الصيد، بجامع سوء البصر بما يستخدم ورجاء الخير مما طبع على الشر. ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة هنا كالقرائن السابقة حالية تفهم من سياق الكلام. ... من هذا التحليل يتضح أنّ كل مثال من الأمثلة السابقة قد تألف من تركيب استعمل في غير معناه الحقيقي، وأنّ العلاقة بين معناه المجازي ومعناه الحقيقي هي المشابهة، وأنّ هناك دائما قرينة تمنع من إرادة المعنى

مكان الاستعارة من البلاغة

الحقيقي، وأنّ التركيب الذي تتوافر له كل هذه الحقائق يسمى استعارة تمثيلية. وما من شك في أنّ كل ذلك يوضح ويؤكد ما سبق أن ذكرناه في مستهل هذا الموضوع من أنّ الاستعارة التمثيلية هي تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. مكان الاستعارة من البلاغة الاستعارة صورة من صور التوسع والمجاز في الكلام، وهي من أوصاف الفصاحة والبلاغة العامة التي ترجع إلى المعنى. وإذا كان البلاغيون ينظرون إلى المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية على أنّها عمد الإعجاز وأركانه، وعلى أنّها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها، وتوجب الفضل والمزية، فإنّهم يجعلون المجاز والاستعارة عنوان ما يذكرون وأوّل ما يوردون. وكما يقول عبد القاهر الجرجاني إنّ فضيلة الاستعارة الجامعة تتمثل في أنّها تبرز البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنّك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد، حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد ... ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها: أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدّة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر ... (¬1). ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة ص 32 - 33.

ومن خصائصها كذلك التشخيص والتجسيد في المعنويات، وبث الحركة والحياة والنطق في الجماد، وقد التفت الجرجاني إلى شيء من ذلك بقوله: «فإنّك لترى بها الجماد حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية ... وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها، إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنّها قد جسمت حتى رأتها العيون، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها» (¬1). يقول الله تعالى في تصوير العذاب الذي أعدّه للكافرين به: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟. (¬2) «فالشهيق» في الآية الكريمة قد استعير «للصوت الفظيع» وهما لفظتان و «الشهيق» لفظة واحدة، فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان. و «تميز» استعير للفعل «تنشق من غير تباين» والاستعارة أبلغ، لأنّ التميز في الشيء هو أن يكون كل نوع منه مباينا لغيره وصائرا على حدّته، وهو ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة ص 33. (¬2) الشهيق: أصله الصوت المزعج كصوت الحمار، والمراد به هنا «الحسيس» وهو الصوت الخفي الناشئ عن الفوران، وهذا الصوت يحدثه الله سبحانه في النار لشدة ازعاج الكافرين، وتميز: أصله تتميز، أي تتقطع وينفصل بعضها عن بعض، من الغيظ: أي من غيظها منهم، والكلام كله تمثيل لشدة غليانها انتظارا لهم، فوج: المراد هنا جماعة من الكفرة، والخزنة: جمع خازن، وهم الملائكة الموكلون بجهنم، وقد وصفهم الله في آية أخرى بأنّهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

أبلغ من الانشقاق، لأنّ الانشقاق قد يحدث في الشيء من غير تباين. واستعارة «الغيض» لشدّة الغليان أوجز وأبلغ في الدلالة على المعنى المراد، لأنّ مقدار شدّته على النفس مدرك محسوس، ولأنّ الانتقام الصادر عن المغيظ يقع على قدر غيظه، ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة (¬1). فالاستعارات هنا قد حققت غرضين من أغراض الاستعارة هما الإيجاز والبيان، كما تضافرت معا في رسم نار جهنم وإبرازها في صورة تنخلع القلوب من هولها رعبا وفزعا، صورة مخلوق ضخم بطاش، هائل جبار، مكفهر الوجه عابس يغلي صدره غيظا وحقدا. فالاستعارة هي التي لوّنت المعاني الحقيقية في الآية كل هذا التلوين، وهي التي بثّت فيها كل هذا القدر من التأثير الذي ارتفع ببلاغتها إلى حد الإعجاز. ومن خصائص الاستعارة المبالغة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة كقوله تعالى في الإخبار عن الظالمين ومقاومتهم لرسالة رسوله: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ على قراءة من نصب «لتزول» بلام كي. «فالجبال» ههنا استعارة طوي فيه ذكر المستعار له وهو أمر الرسول، ومعنى هذا أنّ أمر الرسول وما جاء به من الآيات المعجزات قد شبه بالجبال، أي أنّهم مكروا مكرهم لكي تزول منه هذه الآيات المعجزات التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال. فجمال المبالغة الناشئة عن الاستعارة هنا هو في إخراج ما لا يدرك ¬

_ (¬1) انظر كتاب الصناعتين ص 271.

إلى ما يدرك بالحاسة تعاليا بالمخبر عنه وتفخيما له إذ صير بمنزلة ما يدرك ويشاهد ويعاين. وعلى هذا ورد قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. فاستعار «الأودية» للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها، وإنّما خص الأودية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها، لأنّ معاني الشعر تستخرج بالفكر والروية، والفكر والروية فيهما خفاء وغموض، فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق لإبراز ما لا يحس في صورة ما يحس مبالغة وتأكيدا. ومما ورد من الاستعارة في الأحاديث النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار «النار» للرأي والمشورة، أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم. فرأي المشركين أمر معنوي يدرك بالعقل وتمثيله بالنار هو إظهار له في صورة محسة مخيفة يبدو فيها رأي المشركين نارا تحرق كل من يلامسها أو يأخذ بها. فالسر في قوّة تأثير هذه الصورة وجمالها راجع إلى مفعول الاستعارة، هذا المفعول الذي انتقل بالفكرة من عالم المعاني إلى عالم المدركات مبالغة. ومن خصائص الاستعارة أيضا بث الحياة والنطق في الجماد كما ذكرنا آنفا كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فكل من السماء والأرض جماد تحول بالتوسع الذي هيأته الاستعارة إلى إنسان حي ناطق. وكقول الرسول وقد نظر يوما إلى «أحد»: «هذا جبل يحبنا ونحبه»،

فجبل أحد هذا الجماد قد استحال بسحر الاستعارة إلى إنسان يجيش قلبه بعاطفة الحب. كذلك من خصائصها تجسيم الأمور المعنوية وذلك بإبرازها للعيان في صورة شخوص وكائنات حية يصدر عنها كل ما يصدر عن الكائنات الحية من حركات وأعمال. فأبو العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة يقول من قصيدة: أتته الخلافة منقادة … إليه تجرر أذيالها فالخلافة هنا تستحيل بفعل الاستعارة إلى غادة هيفاء مدللة تعرض عن جميع من فتنوا بها إلّا المهدي فإنّها تقبل عليه طائعة في دلال وجمال تجر أذيالها تيها وخفرا. وأبو فراس الحمداني عند ما يقول: ويا «عفتي» مالي؟ ومالك؟ كلما … هممت بأمر هم لي منك زاجر! فما شأن عفّة أبي فراس؟ وما شأن الصراع الناشب بينها وبينه؟ إنّها تستحيل بلمسة من لمسات الاستعارة السحرية إلى إنسان يقف موقف الزاجر كلما هم الشاعر بأمر تراه العفة غير لائق به! فهذه الصورة الرائعة الخلابة المؤثرة ما كانت لتكون لو أنّ الشاعر التزم في التعبير حدود الحقيقة وقال مثلا: «أنا لا أحاول ما يشين لأني رجل عفيف». والأفلاك وهي جماد والدهر وهو أمر معنوي ما خبرهما في بيت البارودي الذي يقول فيه: إذا استلّ منهم سيد غرب سيفه … تفرّعت الأفلاك والتفت الدهر

فكل من «الأفلاك» و «الدهر» قد تحوّل بالاستعارة إلى كائن حي حساس. فهاتان الاستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة الأجرام السماوية حية حساسة ترتعد خوفا وفزعا، وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهولا كلما استلّ سيد من قبيل الشاعر المشهود لهم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده! هذه الصورة التي تموج بالحركة والاضطراب والحيوية والمشاعر المختلفة من فزع وخوف ودهشة هي وليدة الاستعارة التي بالغ الشاعر في استخدامها إلى حد يجعل المتملي لها يتولاه الذهول من هول المنظر الذي يراه ماثلا أمام عينيه! ... وبعد ... فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور الاستعارة وخصائصها وأغراضها، فهذا أمر يطول شرحه ويضيق المقام عنه هنا. وحسبنا ما ذكرنا من خصائصها للإبانة عن مكانتها في البلاغة. ولعلّ في هذا القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها الأخرى، والدور الذي تؤديه في صناعة الكلام وأثرها فيه.

المبحث الرابع الكناية

المبحث الرّابع الكناية الكناية في اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به. والكناية في اصطلاح أهل البلاغة: لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة ذلك المعنى. ومثال ذلك لفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة مع جواز أن يراد حقيقة طول النجاد أيضا. فالنجاد حمائل السيف، وطول النجاد يستلزم طول القامة، فإذا قيل: فلان طويل النجاد، فالمراد أنّه طويل القامة، فقد استعمل اللفظ في لازم معناه، مع جواز أن يراد بذلك الكلام الإخبار بأنّه طويل حمائل السيف وطويل القامة، أي يراد بطويل النجاد معناه الحقيقي واللازمي. وإذا تتبعنا تاريخ «الكناية» بقصد التعرف على مفهومها لدى علماء العربية والبلاغيين على تعاقب الأجيال والعصور فإننا نجد أبا عبيدة معمر ابن المثنى «209 هـ» أول من عرض لها في كتابه «مجاز القرآن».

فهو يمثل للكناية في كتابه هذا بأمثلة من نحو قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وقوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، وقوله: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ثمّ يعقب عليها بأنّ الله سبحانه كنّى بالضمير في الأول عن الأرض، وفي الثانية عن الشمس. وفي الثالثة عن الروح. فهو يستعمل الكناية استعمال اللغويين والنحاة بمعنى «الضمير»، ومعنى هذا أنّ الكناية عنده هي كل ما فهم من سياق الكلام من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة. ثمّ نلتقي بعد أبي عبيدة بالجاحظ «255 هـ» فقد وردت الكناية عنده بمعناها العام وهو التعبير عن المعنى تلميحا لا تصريحا وإفصاحا كلما اقتضى الحال ذلك. يفهم ذلك من قوله: «رب كناية تربى على إفصاح» كما تفهم من إيراده لتعريف البلاغة عند بعض الهنود وذلك إذ يقول: «وقال بعض الهنود: جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة. ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة» (¬1). من ذلك يتضح أنّ الكناية عنده تقابل الإفصاح والتصريح إذا اقتضى الحال ذلك. وفي حديثه عن بلاغة الخطابة والخطب يسلك الكناية مع بعض الأساليب البلاغية التي يقتضيها الحال أحيانا من إطناب وإيجاز يأتي كالوحي والإشارة، وفي ذلك يقول في معرض الحديث عن تناسب الألفاظ مع الأغراض: «ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء: فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، ¬

_ (¬1) كتاب البيان والتبيين ج 1 ص 88.

والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال» (¬1). فالكناية عند الجاحظ كما نرى هنا معدودة من الأساليب البلاغية التي قد يتطلبها المعنى للتعبير عنه ولا يجوز إلّا فيها، وأنّ العدول عنها إلى صريح اللفظ في المواطن التي تتطلبها أمر مخل بالبلاغة. والذي يتتبع الجاحظ فيما قاله عن الكناية وفيما أورده من أمثلة لها يرى أنّه استعملها استعمالا عاما يشمل جميع أضرب المجاز والتشبيه والاستعارة والتعريض دون أن يفرق بينها وبين هذه الأساليب. ومن علماء العربية الذين جاءوا بعد الجاحظ وبحثوا في «الكناية» تلميذه محمد بن يزيد المبرد «285 هـ»، فقد عرض لها في الجزء الثاني من كتابه «الكامل» ذاكرا أنّها تأتي على ثلاثة أوجه، فهي: إمّا للتعمية والتغطية، كقول النابغة الجعدي: أكني بغير اسمها وقد علم الل … هـ خفيات كل مكتتم وإما للرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره: كقوله تعالى في قصة سيدنا عيسى وأمه عليهما السّلام: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. كناية عما لا بدّ لآكل الطعام منه (¬2). وأمّا للتفخيم والتعظيم والتبجيل كقولهم: «أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال، ومن هذا الوجه اشتقت الكنية. ¬

_ (¬1) كتاب الحيوان ج 3 ص 39. (¬2) كتاب الكامل للمبرد ص 290 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

فالمبرد كما نرى لم يعرّف الكناية وإنما التفت إلى ما تؤديه بعض صورها من فائدة في صناعة الكلام، وكأنّه بذلك يوحي بأنّ هذا الاتجاه هو الأهم في دراسة الأساليب البلاغية، وأنّه ينبغي التركيز عليه أكثر من التركيز على القواعد. وابن المعتز «296 هـ» قد عدّ الكناية والتعريض من محاسن البديع ومثل لهما من منظوم الكلام ومنثوره، ومن الأمثلة التي أوردها: «كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه إنسان بسوء لم يجبه، ويقول: إني لأتركك رفعا لنفسي عنك. ثمّ جرى بينه وبين علي بن عبد الله بن عباس كلام، فأسرع إليه عروة بسوء، فقال علي بن عبد الله: إني لأتركك لما تترك الناس له. فاشتد ذلك على عروة (¬1). وقدامة بن جعفر «337 هـ» عرض لها في «باب المعاني الدال عليها الشعر» من كتابه نقد الشعر، وعدّها نوعا من أنواع ائتلاف اللفظ والمعنى، وأطلق عليها اسم «الإرداف» وعرفه بقوله: «الإرداف أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دلّ على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة قول الشاعر: بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل … أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم» (¬2) ثمّ أورد بعض أمثلة أخرى عليها. والكناية أو الإرداف على رأي قدامة هو في «بعيدة مهوى القرط» وهذا كناية عن طول العنق، فمهوى ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 64. (¬2) كتاب نقد الشعر لقدامة ص 113.

القرط هو المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف، وإذا كانت هذه المسافة بعيدة لزم أن يكون العنق طويلا. ... كذلك عرض للكناية أبو الحسين أحمد بن فارس «395 هـ» في كتابه «الصاحبي»، وعقد لها بابا خاصا تكلم فيه أولا عن صورتين من صورها، إحداهما كناية التغطية، وذلك بأن يكنّى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسينا للفظ أو إكراما للمذكور، والثانية كناية التبجيل نحو قولهم: «أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال، وأنّ الكنى مما كان للعرب خصوصا ثمّ تشبه غيرهم بهم في ذلك. ولا ريب أنّه في ذلك متأثر برأي المبرد السابق. ثمّ تكلّم ثانيا عن الكناية بمفهومها عند النحاة فقال: «الاسم يكون ظاهرا مثل: زيد وعمرو، ويكون مكنيا، وبعض النحويين يسميه «مضمرا» وذلك مثل: هو وهي وهما وهن. وزعم بعض أهل العربية أنّ أوّل أحوال الاسم الكناية ثمّ يكون ظاهرا، قال: وذلك أنّ أول حال المتكلم أن يخبر عن نفسه أو مخاطبه فيقول: أنا وأنت، وهذان لا ظاهر لهما، وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنى عنها مرة. والكناية متصلة ومنفصلة ومستجنّة، فالمتصلة كالتاء في «حملت وقمت»، والمنفصلة كقولنا: إياه أردت، والمستجنة قولنا «قام زيد» فإذا كنينا عنه فقلنا: «قام» فتستر الاسم في الفعل». ثمّ يستطرد فيقول: «وربما كنّي عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال أهل العلم وإنّما جاز هذا لأنّه قد جرى الذكر في القرآن. وقال حاتم:

أماويّ لا يغني الثراء عن الفتى … إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ويقولون: إذا أغبر أفق وهبت شمالا. أضمر الريح ولم يجر لها ذكر» (¬1). فابن فارس يشير بهذا إلى قول النحاة بأنّ ضمير الغائب إذا كان عائده غير لفظ فإن عائده هو «الغائب المعلوم». فالضمير في «هبت شمالا» يعود على الغائب المعلوم وهو الريح، لأنّه معلوم أنّ التي تهب شمالا هي الريح. ولهذا فالضمير المستجن أو المستتر في «هبت» هو كناية عن ذلك الغائب المعلوم ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. فالهاء في «أنزلناه» كناية عن الغائب المعلوم وهو «القرآن الكريم». ... وأبو هلال العسكري يقرن الكناية بالتعريض كأنّما يعتبرهما أمرا واحدا، ثمّ يعرفهما بقوله: «الكناية والتعريض أن يكنّى عن الشيء ويعرّض به ولا يصرّح، على حسب ما عملوا بالتورية عن الشيء» ثمّ يورد أمثلة لهما، وكذلك للتعريض الجيد والكناية المعيبة. ومن الأمثلة التي أوردها أبو هلال قوله: ومن مليح ما جاء في هذا الباب قول أبي العيناء وقيل له: ما تقول في ابني وهب؟ قال: «وما يستوي البحران هذان عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» سليمان أفضل. قيل: وكيف؟ قال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (¬2) ... ¬

_ (¬1) كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها ص 260 - 263. (¬2) كتاب الصناعتين ص 268.

وأبو علي الحسن بن رشيق القيرواني «456 هـ» عقد في كتابه «العمدة» فصلا خاصا بالإشارة أشاد في مستهله بفضلها وأثرها في الكلام قائلا: «والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وهي بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلّا الشاعر المبرز والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملا، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه». ثمّ يستطرد إلى بيان أنواعها والتمثيل لها فيعد منها: الإيماء والتفخيم والتلويح والتمثيل والرمز والتعريض والكناية. وفي كلامه عن الكناية نراه متأثرا برأي المبرد السابق في أنّها تأتي على ثلاثة أوجه هي: كناية التعظيم والتفخيم ممثلة في الكنية، وكناية الرغبة عن اللفظ الخسيس، وكناية التغطية والتعمية. وعن هذا الوجه الأخير من الكناية يقول: إنّه هو التورية في أشعار العرب حيث يكنون عن الشجر بالناس كقول المسيّب بن علس: دعا شجر الأرض داعيهمو … لينصره السّدر والأثاب فكنى بالشجر عن الناس، وهم يقولون في الكلام المنثور: جاء فلان بالشوك والشجر، إذا جاء بجيش عظيم. كذلك يكنون عن المرأة بالشجرة والنخلة والسرحة والبيضة والناقة والمهرة والشاة والنعجة أو ما شاكل ذلك. ثمّ أورد على ذلك بعض أمثلة منها قول حميد بن ثور الهلالي عند ما حظر عمر على الشعراء ذكر المرأة: تجرّم أهلوها لأن كنت مشعرا … جنونا بها يا طول هذا التجرّم ومالي من ذنب إليهم علمته … سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي

بلى فاسلمي ثمّ اسلمي ثمت اسلمي … ثلاث تحيات وإن لم تكلّمي ومنها قول امرئ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها … تمتعت من لهو بها غير معجّل كناية بالبيضة عن المرأة. وقول عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلّت له … حرمت عليّ وليتها لم تحرم فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي … فتجسّسي أخبارها لي واعلمي قالت رأيت من الأعادي غرّة … والشاة ممكنة لمن هو مرتم فالشاة هنا كناية عن امرأة أبيه وكان يهواها ويتمنى لو لم يتزوجها أبوه حتى كان يحل له تزوجها. ثمّ يقول وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عزّ وجل في إخباره عن خصم داود عليه السّلام: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، كناية بالنعجة عن المرأة (¬1). ... وممن عرضوا للكناية غير هؤلاء ونظروا إليها من زوايا وجوانب مختلفة عبد القاهر الجرجاني وأبو يعقوب يوسف السكاكي وضياء الدين ابن الأثير والخطيب القزويني ويحيى بن حمزة صاحب كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز. وقد سبق أن أتينا في المبحث الأول من هذا الكتاب والخاص «بنشأة ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 1 ص 271 - 282.

أقسام الكناية

علم البيان وتطوره» على ملخص آرائهم وأقوالهم في الكناية، ولهذا فلا داعي لتكرارها هنا وليرجع إليها هناك. أقسام الكناية ذكرنا فيما سبق أنّ الكناية في عرف اللغة أن تتكلم بشيء وتريد غيره، ويقال: كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به. كما ذكرنا أنها في اصطلاح علماء البيان: لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى، أي المعنى الحقيقي للفظ الكناية (¬1). وقد عبّر الإمام عبد القاهر الجرجاني عن هذا المعنى الاصطلاحي بصورة أخرى فقال: «الكناية أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومي إليه ويجعله دليلا عليه، مثال ذلك قولهم: «هو طويل النجاد» يريدون طول القامة، «وكثير رماد القدر» يعنون كثير القرى، وفي المرأة «نؤوم الضحى» والمراد أنّها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها. فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى ثمّ لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أنّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إلى الضحى؟ (¬2). كذلك عبر ابن الأثير عن معناها الاصطلاحي بصورة ثالثة ومثل لها ¬

_ (¬1) كتاب التلخيص ص 338. (¬2) كتاب دلائل الإعجاز ص 44.

فقال: «حدّ الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلّت على معنى يجوز حمله على جانب الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز، نحو قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ. فقد كنّى بذلك- يقصد لفظة النعجة- عن النساء، والوصف الجامع بينهما هو التأنيث. فالمعنى هنا يجوز حمله على الحقيقة كما يجوز حمله على المجاز (¬1). وقد انتهى البحث في «الكناية» إلى السكاكي والقزويني ومدرستهما البلاغية فتوسعوا في بحثها وحددوا أقسامها على النحو الذي فصلته في مبحث «نشأة علم البيان وتطوره»، ثمّ جاء البلاغيون من بعدهم فأخذوا بتقسيمهم الذي لا يزال متّبعا إلى اليوم في دراسة «الكناية». ... وإذا عدنا إلى تقسيم السكاكي والقزويني وجدنا أنّ المطلوب بالكناية عندهم لا يخرج عن ثلاثة أقسام هي: طلب نفس الصفة، وطلب نفس الموصوف، وطلب النسبة. ومعنى هذا أنّهم يقسمون الكناية باعتبار المكنى عنه ثلاثة أقسام تتمثل في أنّ المكنى عنه عندهم: قد يكون صفة، وقد يكون موصوفا، وقد يكون نسبة. ولعلّ الأمثلة والتعقيب عليها بالشرح والتحليل خير وسيلة لتوضيح أقسام الكناية وبيان أثر صورها المختلفة في بلاغة الكلام. كناية الصفة: وهي التي يطلب بها نفس الصفة، والمراد بالصفة هنا الصفة المعنوية كالجود والكرم والشجاعة وأمثالها لا النعت. ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 248.

1 - ومن أمثلة ذلك قول عمر بن أبي ربيعة في صاحبته هند: نظرت إليها بالمحصّب من منى … ولي نظر لولا التحرّج عارم فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة … بدت لك تحت السّجف أم أنت حالم؟ بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل … أبوها وإمّا عبدّ شمس وهاشمّ (¬1) فالكناية هنا في البيت الثالث، هي «بعيدة مهوى القرط»، ومهوى القرط المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف. فابن أبي ربيعة يصف صاحبته بأنها بعيدة مهوى القرط، وهو بهذه الصفة يريد أن يدل على أن هندا صاحبته «طويلة الجيد». ولهذا عدل عن التصريح بهذه الصفة إلى الكناية عنها، لأن بعد المسافة بين شحمة الأذن والكتف يستلزم طول الجيد. 2 - وقال المتنبي في إيقاع سيف الدولة ببني كلاب: فمساهم وبسطهمو حرير … وصبحهم وبسطهمو تراب فالمتنبي هنا يصف بني كلاب الذين أوقع بهم سيف الدولة بأن بسطهم في المساء وقبل الإيقاع بهم كانت من الحرير ثم صارت في الصباح من التراب بسبب ما أصابهم من الأمير سيف الدولة. وقصد الشاعر من وراء هذا التعبير في الواقع أن يصف بني كلاب بأنهم في المساء كانوا سادة أعزاء ثم صاروا في الصباح وبعد الإيقاع بهم فقراء أذلاء. وقد عدل الشاعر بتعبيره عن التصريح إلى أسلوب الرمز ¬

_ (¬1) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 207، ونظر عارم: خارج عن القصد، والبيعة بكسر الباء: متعبد النصارى، والسجف بكسر السين: الستر، وبعيدة مهوى القرط: كناية عن طول عنقها، ونظيره قول الحماسي: أكلت دما إن لم أرعك بضرة … بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

والكناية، لأن بسط الحرير التي كانت لهم في المساء تستلزم السيادة والعزة، وإن هذه البسط التي تحولت في الصباح إلى تراب تستلزم الفقر والحاجة والذلة. فالبيت كما نرى كناية عن صفة. هذا ويجوز حمل المعنى على جانب الحقيقة، بمعنى أنه يصح هنا إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ، أي أنهم في المساء كانوا يجلسون على بسط من الحرير فعلا ثم صاروا في الصباح يجلسون على التراب حقيقة. 3 - وقالت الخنساء في أخيها صخرا: طويل النجاد رفيع العماد … كثير الرماد إذا ما شتا فالخنساء في هذا البيت تصف أخاها صخرا بثلاث صفات هي: إنه طويل النجاد، رفيع العماد، كثير الرماد. وهي بهذه الصفات تريد أن تدل على أن أخاها شجاع، عظيم في قومه، كريم. ولكنها عدلت عن التصريح بهذه الصفات إلى الكناية عنها، لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة، ثم إنه يلزم من كونه رفيع العماد أن يكون سيدا عظيم القدر والمكانة في قومه وعشيرته، كما أنه يلزم من كثرة الرماد كثرة إحراق الحطب تحت القدور، ثم كثرة الضيفان، ثم كثرة الكرم. وهنا أيضا يجوز حمل المعنى على جانب الحقيقة، فمن الجائز بالإضافة إلى المعنى الكنائي أن يكون أخوها حقيقة طويل النجاد، رفيع العماد، كثير الرماد. فتراكيب الكناية في الأمثلة السابقة هي «بعيدة مهوى القرط» و «كون بسطهم حريرا» و «كون بسطهم ترابا» و «طويل النجاد» و «رفيع العماد» و «كثير الرماد». ولما كان كل تركيب من هذه التراكيب قد كني به عن صفة لازمة

لمعناه، كان كل تركيب من هذه وما يشبهه «كناية عن صفة». وهذا هو القسم الأول من أقسام الكناية. ... كناية الموصوف: وهي التي يطلب بها نفس الموصوف والشرط هنا أن تكون الكناية مختصة بالمكنيّ عنه لا تتعداه، وذلك ليحصل الانتقال منها إليه. 1 - ومن أمثلة ذلك قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله للذئب: عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته … فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد فأوجرته خرقاء تحسب ريشها … على كوكب ينقض والليل مسودّ (¬1) فما ازداد إلا جرأة وصرامة … وأيقنت أن الأمر منه هو الجد فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها … بحيث يكون اللب والرعب والحقد ففي قول البحتري في البيت الأخير «بحيث يكون اللب والرعب والحقد» ثلاث كنايات لا كناية واحدة، لاستقلال كل واحدة منها بإفادة المقصود. فالبحتري يريد أن يخبرنا أنه طعن الذئب أولا برمحه طعنة خرقاء لم تزده إلا جرأة وصرامة ولهذا أتبع الطعنة الأولى طعنة أخرى استقر نصلها في قلب الذئب. ولكنه بدل أن يعبر هذا التعبير الحقيقي الصريح نراه يعدل عنه إلى ما هو أبلغ وأشد تأثيرا في النفس، وذلك بالكناية عن القلب ببعض ¬

_ (¬1) أوجره الرمح: طعنه به في فيه أو صدره.

الصفات التي يكون هو موضعها، وهي اللب والرعب والحقد. وهذا كناية عن «موصوف» هو القلب لأن القلب موضع هذه الصفات وغيرها. 2 - وقال أبو نواس في وصف الخمر: فلما شربناها ودب دبيبها … إلى موطن الأسرار قلت لها: قفي مخافة أن يسطو عليّ شعاعها … فيطلع ندماني على سرّي الخفي فالكناية في البيت الأول وهي «موطن الأسرار». يريد أبو نواس أن يقول: «فلما شربنا الخمر ودب دبيبها، أي سرى مفعولها إلى القلب أو الدماغ قلت لها: قفي». ولكنه انصرف عن التعبير بالقلب أو الدماغ هذا التعبير الحقيقي الصريح إلى ما هو أملح وأوقع في النفس وهو «موطن الأسرار»، لأن القلب أو الدماغ يفهم منه أنه مكان السر وغيره من الصفات. فالكناية «بموطن الأسرار» عن القلب أو الدماغ كناية عن «موصوف»، لأن كليهما يوصف بأنه موطن الأسرار. 3 - وقال شاعر في رثاء من مات بعلة في صدره: ودبّت له في موطن الحلم علّة … لها كالصّلال الرقش شرّ دبيب (¬1) فلفظ الكناية هنا هو «موطن الحلم»، ومن عادة العرب أن ينسبوا الحلم إلى الصدر، فيقولون: فلان فسيح الصدر، أو فلان لا يتسع صدره لمثل هذا، أي لا يحلم على مثل هذا. ولو شاء الشاعر أن يعبر عن معناه هنا تعبيرا حقيقيا صريحا لقال: «ودبت له في الصدر علة»، ولكنه لم يشأ ذلك وآثر التعبير عنه كنائيا ¬

_ (¬1) الصلال بكسر الصاد: ضرب من الحيات صغير أسود لا نجاة من لدغته، والرقش: جمع رقشاء، وهي التي فيها نقط سوداء في بيضاء، والحية الرقشاء من أشد الحيات أذى.

بقوله: «ودبت له في موطن الحلم علة» لما له من تأثير بليغ في النفس، إذ الصدر موضع الحلم وغيره من الصفات. فالكناية «بموطن الحلم» عن الصدر كناية عن «موصوف» لأن الصدر يوصف بأنه موطن الحلم وغيره. وإذا تأملنا تراكيب الكناية في هذه الأمثلة وهي «بحيث يكون اللب والرعب والحقد» و «موطن الأسرار» و «موطن الحلم» رأينا أن كل تركيب منها كني به عن ذات لازمة لمعناه، لذلك كان كل منها «كناية عن موصوف»، وكذلك كل تركيب يماثلها. ... كناية النسبة: ويراد بها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، أو بعبارة أخرى يطلب بها تخصيص الصفة بالموصوف. 1 - ومن أمثلة ذلك قول زياد الأعجم في مدح ابن الحشرج: إن السماحة والمروءة والندى … في قبة ضربت على ابن الحشرج فزياد بهذا البيت أراد، كما لا يخفى، أن يثبت هذه المعاني والأوصاف للممدوح واختصاصه بها. ولو شاء أن يعبر عنها بصريح اللفظ لقال: إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في الممدوح أو مقصورة عليه، أو ما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها. ولكنه عدل عن التصريح إلى ما ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كونها فيه، فخرج كلامه إلى ما خرج إليه من الجزالة وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة. ولو أن الشاعر خطر له أن يعبر عن معناه هنا بصريح اللفظ، لما كان له ذلك القدر من الجمال الذي تطالعنا به هذه الصورة المبهجة من خلال البيت.

2 - ومن أمثلة كناية النسبة أيضا قول أبي نواس مادحا: فما جازه جود ولا حل دونه … ولكن يسير الجود حيث يسير فالشاعر هنا يريد أن ينسب إلى ممدوحه الكرم أو أن يثبت له هذه الصفة، ولكنه بدل أن ينسب إليه الكرم بصريح اللفظ فيقول: «هو كريم» كنى عن نسبة الكرم إليه بقوله: «يسير الجود حيث يسير»، لأنه يلزم من ذلك اتصافه به. وشتان بين الصورتين في الجمال والتأثير: الصورة الصريحة التي نرى فيها الممدوح كريما وحسب، والصورة المقنعة المدعاة التي يرينا فيها الشاعر الكرم إنسانا يرافق الممدوح ويلازمه ويسير معه حيث سار. 3 - ومن أمثلتها كذلك قول الشاعر: اليمن يتبع ظله … والمجد يمشي في ركابه فالشاعر في هذا البيت بدل أن يصف الممدوح بأنه ميمون الطلعة، قال إن اليمن يتبعه أينما سار، واتباع اليمن ظله يستلزم نسبته إليه. فكناية النسبة كما يتضح من الأمثلة السابقة تتمثل في العدول عن نسبة الصفة إلى الموصوف مباشرة ونسبتها إلى ما له اتصال به. وأظهر علامة لهذه الكناية أن يصرح فيها بالصفة كما رأينا في الأمثلة السابقة، أو بما يستلزم الصفة كقول شاعر معاصر: بين برديك يا صبية كنز … من نقاء معطر معشوق وبعينيك يا صبية شجو … ساهم اللمح مستطار البريق ففي قوله: «بين برديك يا صبية كنز من نقاء» كناية عن نسبة «الطهارة» للمخاطبة بما يستلزم هذه الصفة وهو «كنز من نقاء». أما

بين الكناية والتعريض

الكناية في البيت الثاني «بين عينيك يا صبية شجو» فهي من النوع الأول الذي عدل فيه عن نسبة صفة الشجو أي الحزن إلى الموصوف مباشرة ونسبتها إلى ما له اتصال به، وهو هنا «العينان». وإذا رجعنا إلى أمثلة الكناية السابقة في جميع أقسامها وأنواعها رأينا أن منها ما يدل على معنى يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، أو بعبارة أخرى رأينا أن منها ما يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي الذي يفهم من صريح اللفظ، ومنها ما لا يجوز فيه ذلك. بين الكناية والتعريض لعل ضياء الدين ابن الأثير أوضح من بحث أسلوبي الكناية والتعريض وفرّق بينهما. ففي مستهل حديثه عنهما في كتابه المثل السائر يقول: «هذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا. وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما، ولا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النثر والنظم وأدخلوا أحدهما في الآخر، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض وللتعريض أمثلة من الكناية، فمن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري». وفي محاولة لتحديد مفهوم «الكناية» فرق ابن الأثير بينها وبين غيرها من أقسام المجاز بقوله: «إن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا. ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل؟ ولهذا ذهب

الشافعي إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو الحقيقة في اللمس. وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ويجوز حمله على كليهما معا. أما التشبيه فليس كذلك ولا غيره من أقسام المجاز، لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى. ألا ترى أنا إذا قلنا «زيد أسد» لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب. وقد خلص من هذا النقاش إلى تعريف الكناية بقوله: «حد الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» وطبقا لهذا التعريف فمثالها عنده قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي هو التأنيث. ولولا ذلك لقيل في هذا الموضع إن هذا أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل هذه كناية عن النساء. فالوصف الجامع بين الحقيقة والمجاز شرط في صحة تعريف الكناية عنده. ... بعد ذلك انتقل ابن الأثير إلى بيان ما بين الكناية والاستعارة من صلة فقال: «أما الكناية فإنها جزء من الاستعارة، ولا تأتي إلا على حكم

الاستعارة خاصة، لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له، أي المشبه، وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه، أي لازم المعنى. ونسبة الكناية إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فيقال كل كناية استعارة، وليس كل استعارة كناية، وهذا فرق بينهما. ويفرق بينهما من وجه آخر، وهو أن الاستعارة لفظها صريح، والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه، والكناية ضد الصريح، لأنها عدول عن ظاهر اللفظ. وهذه فروق ثلاثة: أحدها الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والثالث الحمل على جانب الحقيقة والمجاز. وإذا كانت الكناية جزءا من الاستعارة، وكانت الاستعارة جزءا من المجاز، فإن نسبة الكناية إلى المجاز هي نسبة جزء الجزء وخاص الخاص. ... ومن بيان الصلة بين الكناية والاستعارة والتفرقة بينهما انتقل ابن الأثير لبحث الصلة بين التعريض والكناية. وقد بدأ بتعريف التعريض فقال: «أما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي»، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: «والله إني لمحتاج، وليس في يدي شيء، وأنا عريان، والبرد قد آذاني»، فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا، إنما دل عليه من طريق المفهوم، بخلاف دلالة اللمس على الجماع. وعنده أن التعريض إنما سمي تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه. وكما فرق بين الكناية والتعريض من جهة خفاء الدلالة ووضوحها، فرق بينهما كذلك من جهة اللفظ فقال: «واعلم أن الكناية تشمل اللفظ

المفرد والمركب معا، فتأتي على هذا تارة وعلى هذا أخرى. وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد البتّة. والدليل على ذلك أن التعريض لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنما يفهم من جهة التلويح والإشارة، وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب». ومن أمثلة التعريض: 1 - قوله تعالى في شأن قوم نوح: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. فقوله: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ومما يؤكد ذلك قولهم: «وما نرى لكم علينا من فضل». 2 - كان عمر بن الخطاب يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ فقوله: «أية ساعة هذا؟» تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليها. وهو من التعريض المعرب عن الأدب. 3 - وقفت امرأة على قيس بن عبادة فقالت: «أشكو إليك قلة الفأر في بيتي». فقال: «ما أحسن ما وردت عن حاجتها، املأوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما». فهذا تعريض من المرأة حسن الموقع.

بلاغة الكناية

4 - كتب عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه وهو: «أما بعد فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقة بنظر أنه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدى طاعته». فوقع المأمون في ظهر كتابه قد عرفت تصريحك له وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما. وهذا من أحسن التعريضات (¬1). بلاغة الكناية الكناية من أساليب البيان التي لا يقوى عليها إلا كل بليغ متمرس بفن القول. وما من شك في أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع في النفس من التصريح. وإذا كان للكناية مزية على التصريح فليست تلك المزية في المعنى المكنى عنه، وإنما هي في إثبات ذلك المعنى للذي ثبت له. فمعنى طول القامة وكثرة القرى مثلا لا يتغير بالكناية عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر، وإنما يتغير بإثبات شاهده ودليله وما هو علم على وجوده، وذلك لا محالة يكون أثبت من إثبات المعنى بنفسه. فالمبالغة التي تولدها الكناية وتضفي بها على المعنى حسنا وبهاء هي في الإثبات دون المثبت، أو في إعطاء الحقيقة مصحوبة بدليلها، وعرض القضية وفي طيها برهانها. هذا أبو فراس الحمداني وهو أسير في بلاد الروم يخاطب ابن عمه سيف الدولة بقوله: ¬

_ (¬1) ارجع في ذلك إلى المثل السائر ص 247 - 258.

وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع … وفي كل يوم لقية وخطاب فكيف وفيما بيننا ملك قيصر … وللبحر حولي زخرة وعباب؟ ففي البيت الثاني يريد أبو فراس أن يقول: «فكيف وفيما بيننا بعد شاسع» ولكنه كنى عن هذا المعنى بقوله: «ملك قيصر وللبحر حولي زخرة وعباب» فجمال هذه الكناية ليس في المعنى المكنى عنه وهو «البعد الشاسع الذي يفصل بين الرجلين» وإنما هو في الإتيان بملك قيصر والبحر الزاخر العباب وإثباته للمكنى عنه في صورة برهان محسوس عليه. والكناية كالاستعارة من حيث قدرتها على تجسيم المعاني وإخراجها صورا محسوسة تزخر بالحياة والحركة وتبهر العيون منظرا. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى تصويرا لحال صاحب الجنة عند ما رأى جنته التي كان يعتز بها قد أهلكها الله عقابا له على شركه: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. فالكناية في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ والصفة التي تلزم من تقليب الكفين هي الندم والحزن، لأن النادم والحزين يعملان ذلك عادة. فتقليب الكفين في مثل هذا الموقف كناية عن الندم والحزن. فالمعنى الصريح هنا هو «فأصبح نادما حزينا» وهذا أمر معنوي تدخلت فيه الكناية فجسمته وأظهرته للعيان في صورة رجل اعتراه الذهول من هول ما أصاب الجنة التي كان يعتز بها، فوقف يقلب كفيه ندما وحزنا على أمله المنهار أمام عينيه! وهذا سبب من أسباب بلاغة الكناية. ومن صور الكناية الرائعة تفخيم المعنى في نفوس السامعين، نحو

قوله تعالى: الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟ «فالقارعة» كناية عن «القيامة» وقد عدل عن التصريح بلفظ «القيامة» إلى الكناية عنه بلفظ «القارعة» لا لإثبات ذلك المعنى للقيامة، وإنما لإثبات شاهده ودليله وهو أنها تقرع القلوب وتزعجها بأهوالها، وذلك تفخيما لشأن القيامة فى النفوس. ومن صورها كذلك التعمية والتغطية حرصا على المكنى عنه أو خوفا منه، كالكناية عن أسماء النساء أو أسماء الأعداء، كقول عمر بن أبي ربيعة: أيا نخلتي وادي بوانة حبذا … إذا نام حراس النخيل جناكما فطيبكما أربى على النخل بهجة … وزاد على طول الفتاء فتاكما فقد كنى «بنخلتي وادي بوانة» عن اثنتين من صواحبه، حرصا على سمعتهما، كما كنى «بحراس النخيل» عن ذويهما خوفا منهم. وكقوله أيضا: الما بذات الخال فاستطلعا لنا … على العهد باق ودها أم تصرما وقولا لها: إن النوى أجنبية … بنا وبكم قد خفت أن تتيمما فقد كنى «بذات الخال» عن اسم إحدى صواحبه حرصا على سمعتها وصونا لاسمها عن الابتذال. ويظهر أن من الشعراء من كانوا يضيقون ذرعا بالكناية عن أسماء صواحبهم ويودون- لو استطاعوا- التصريح بأسمائهن تلذذا بترديدها، يدلنا على ذلك قول ذي الرمة: أحب المكان القفر من أجل أنني … به أتغنى باسمها غير معجم!

ولعل أسلوب الكناية من بين أساليب البيان هو الأسلوب الوحيد الذي يستطيع به المرء أن يتجنب التصريح بالألفاظ الخسيسة أو الكلام الحرام. ففي اللغات، وليس في اللغة العربية وحدها، ألفاظ وعبارات تعدّ «غير لائقة» ويرى في التصريح بها جفوة أو غلظة أو قبح أو سوء أدب أو ما هو من ذلك بسبيل. وعدم اللياقة في النطق أو التصريح بهذه الألفاظ الخسيسة والعبارات المستهجنة التي تدخل في دائرة الكلام الحرام كما يقول علماء الاجتماع قد يكون باعثه الاشمئزاز، الاشمئزاز مما تولده في النفس من مشاعر وانفعالات غير سارة، وقد يكون باعثه الخوف، الخوف من اللوم والنقد والتعنيف، والخوف من أن يدمغ المرء بالخروج على آداب المجتمع الذي يعيش فيه. لكل ذلك كانت الكناية هي الوسيلة الوحيدة التي تيسر للمرء أن يقول كل شيء، وأن يعبر بالرمز والإيحاء عن كل ما يجول بخاطره حراما كان أو حلالا، حسنا كان أو قبيحا، وهو غير محرج أو ملوم. وتلك مزية للكناية على غيرها من أساليب البيان. ... وبعد ... فلعل خير ما نختم به هنا توضيحا لبعض ما ذكرناه عن الكناية أن نورد نصا لجأ الشاعر فيه أكثر ما لجأ إلى هذا الأسلوب الرمزي سترا لبعض ما لا يريد أن يصرح به. وهذا النص من قصيدة لأبي فراس الحمداني بعث بها وهو أسير في بلاد الروم إلى ابن عمه الأمير سيف الدولة يسأله المفاداة. قال: دعوتك للجفن القريح المسهد … لدي، وللنوم القليل المشرد (¬1) ¬

_ (¬1) القريح: الجريح.

وما ذاك بخلا بالحياة، وإنها … لأول مبذول لأول مجتد (¬1) وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله … وما الخطب مما أن أقول له: قد (¬2) ولكنني أختار موت بني أبي … على صهوات الخيل غير موسد (¬3) نضوت على الأيام ثوب جلادتي … ولكنني لم أنض ثوب التجلد (¬4) دعوتك والأبواب ترتج بيننا … فكن خير مدعو وأكرم منجد أناديك لا أني أخاف من الردى … ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد ولكن أنفت الموت في دار غربة … بأيدي النصارى الغلف ميتة أكمد (¬5) فلا كان كلب الروم أرأف منكمو … وأرغب في كسب الثناء المخلد متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى … طويل نجاد السيف رحب المقلد؟ فإن تفقدوني تفقدوا شرف العلا … وأسرع عواد إليها معود وإن تفقدوني تفقدوا لعلاكمو … فتى غير مردود اللسان ولا اليد يدافع عن أعراضكم بلسانه … ويضرب عنكم بالحسام المهند ¬

_ (¬1) لأول مجتد: لأول سائل أو طالب. (¬2) قد هنا: اسم بمعنى حسبي، وتستعمل للمخاطب كذلك فتقول: «قدك» بسكون الدال بمعنى «حسبك». (¬3) صهوات: جمع صهوة، وصهوة كل شيء أعلاه، وهي هنا مقعد الفارس من ظهر الفرس. (¬4) نضا الثوب ينضوه: خلعه وألقاه. (¬5) الغلف: جمع أغلف، يقال قلب أغلف، أي أصم أو عليه غشاء عن سماع الحق وقبوله، وهو قلب الكافر.

§1/1