علم البديع

عبد العزيز عتيق

مقدمة

مقدّمة تتألف البلاغة العربية من علوم ثلاثة هي: المعاني، والبيان، والبديع. وميدان البلاغة الذي تعمل فيه علومها الثلاثة متضافرة هو نظم الكلام وتأليفه على نحو يخلع عليه نعوت الجمال. وإدراك سمات الكلام البليغ لا يتأتى إلا عن طريق الدرس والبحث والتأمل. ومن أجل هذا تبدو الحاجة إلى دراسة البلاغة. فهي تكشف للمتعلم عن العناصر البلاغية التي ترقى بالتعبير صعدا نحو الكمال الفني، كما تضع بين يديه الأدوات التي يستطيع بالتمرس بها والتدرب عليها أن يأتي بالكلام البليغ. وهي في الوقت ذاته جزء مكمل لثقافة الناقد والأديب. دراسة البلاغة إذن ليست ضرورية فقط لمن يريد أن يجعل اللغة وأدبها ميدان تخصصه، وإنما هي ضرورية له وللناقد والأديب على حد سواء. وبعد ... فهذه محاضرات ألقيتها على طلبة الصف الثاني بقسم

اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية في علم البديع، أحد علوم البلاغة العربية. والجانب الأول من هذه المحاضرات يعالج نشأة البديع، وتطوره، والمراحل التي مر بها حتى صار علما قائما بذاته، هذا مع التعريف بكبار رجاله وكتبهم والطرق التي سلكوها في دراسته. أما الجانب الآخر من المحاضرات فدراسة مفصلة تحليلية لأهم فنون البديع اللفظية والمعنوية، وأثرها في الكلام. ولعل القارئ يجد في هذه المحاضرات ما يغريه على التوسع في دراسة علم البديع أحد أصول البلاغة العربية. والله ولي التوفيق. المؤلف

نشأة البديع وتطوره

نشأة البديع وتطوره البديع كما يقول الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن في كتابه «التلخيص» هو «علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة». ويعرفه ابن خلدون بأنه «هو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما، أو طباق بالتقابل بين الأضداد وأمثال ذلك» (¬1). وقبل التعرض لمباحث هذا العلم بالشرح والاستيفاء يجدر بنا أن نؤرخ له فنتتبع نشأته وتطوره، لأن ذلك من شأنه أن يعطي صورة واضحة عن أبعاد هذا العلم، وأن يعين على تفهم مباحثه وتذوقها. ومهما اختلفت آراء الأدباء والنقاد في جدوى هذا العلم وقيمته فإن دراسته لازمة لطلاب البلاغة العربية ونقاد الأدب العربي طالما أن الظواهر البديعية تأتي عفوا أو تكلفا على ألسنة الشعراء والأدباء كعنصر من عناصر فن القول. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون ص 1066.

ومن النقاد من يهمل هذا الجانب البديعي عند تعرضه بالنقد لنص شعري أو نثري والحكم عليه ظنا منه أنه جانب لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في الحكم على جودة التعبير وحسن أدائه للمعنى بكل ظلاله. ولكن دراسة أصول هذا العلم والأناة في تفهمها وتذوقها جديرة بإقناع الدارس أيا كان بأن استبعاد الجانب البديعي عند الحكم على عمل أدبي هو إجحاف به وانتقاص في الحكم عليه. حقا لقد أسرف الشعراء والأدباء في العصور المتأخرة غاية الإسراف في استعمال المحسنات البديعية، إما إعجابا بها وإما إخفاء لفقرهم في المعاني، وبهذا انحط إنتاجهم الأدبي. ذلك في نظري هو سبب العزوف عن هذا العلم من جانب بعض الدارسين والنقاد المعاصرين. ولو عرفوا أن العيب ليس في البديع ذاته وإنما هو في سوء فهمه واستخدامه لقللوا من عزوفهم عنه ولأعطوه حقه من العناية والدراسة، ولردوا إليه اعتباره كعنصر بلاغي هام عند تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها. وكما يقول أبو هلال العسكري: «إن هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف وبرئ من العيوب كان في غاية الحسن ونهاية الجودة» (¬1). وبعد، فقد عرف العرب في شعرهم كل الخصائص الفنية والأساليب البيانية التي تخلع عليه صفة الجمال والإبداع. وكان الشاعر منهم بحسه الفطري وعلى غير دراية منه بأنواع هذه الأساليب البيانية ومصطلحاتها البلاغية يستخدمها تلقائيا كلما جاش بنفسه خاطر وأراد أن يعبر عنه تعبيرا بليغا. ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 267.

وقد اهتدى بعض الجاهليين إلى قيمة بعض هذه الأساليب وأثرها في تقدير الشعر وحظه من البلاغة، ومن هذه الأساليب ما يمت بصلة إلى هذا أو ذاك بما عرف بعد بعلوم البلاغة العربية الثلاثة، أعني علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. ولعلنا نذكر ما كان يدور في أسواق العرب وأنديتهم من حوار أدبي، كما نذكر كيف كان الشعراء يفدون على زهير بن أبي سلمى في سوق عكاظ وينشدون أمامه أشعارهم ليحكم بينهم متفاخرين بما في شعرهم من أساليب التشبيه والمجاز بأنواعه، وكيف كان زهير يقضي لهذا أو ذاك على غيره من الشعراء لأنه أجاد التشبيه أو الاستعارة أو الكناية. الجاهليون إذن كانوا بطبيعتهم الشعرية الأصيلة يستحسنون بعض الأساليب البلاغية ويستخدمونها في أشعارهم دون علم بمصطلحاتها، تماما كما كانوا عن سليقة يستخدمون في كلامهم الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا قبل أن يظهر النحاة ويضعوا قواعد الفاعل والمفعول. وقد أخذ علماء العربية بعد الإسلام يهتمون غاية الاهتمام بعلم البلاغة ليستعينوا به في المحل الأول على معرفة أسرار الإعجاز في القرآن الكريم كتاب الله. وفي ذلك يقول أبو هلال العسكري (¬1): «اعلم- علمك الله الخير ودلك عليه وقيضه لك وجعلك من أهله- أن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ- بعد المعرفة بالله جل ثناؤه- علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة، التي رفعت أعلام ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 1 - 3.

الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشك بيقينها. وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمنه من حلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها. وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه ..... ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة، منها أن صاحب العربية إذا أخل بطلبه، وفرط في التماسه، ففاتته فضيلته، وعلقت به رذيلة فوقه، عفّى على جميع محاسنه، ..... لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء، ولفظ حسن وآخر قبيح، وشعر نادر وآخر بارد، بان جهله، وظهر نقصه. وهو أيضا إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينشئ رسالة- وقد فاته هذا العلم- مزج الصفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر (¬1)، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل. وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطي هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه، فأخذ الرديء المرذول، ¬

_ (¬1) الغرر: جمع غرة، وهي النفيس من كل شيء. والعرر: جمع عرة، وهي القذر.

أوليات البديع

وترك الجيد المقبول، فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه. وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله، كما أن شعره قطعة من معرفته وعلمه». وحسبنا هذا القدر من كلام أبي هلال العسكري للدلالة على أهمية علم البلاغة وأحقيته بالتعلم. أوليات البديع: وإذا انتقلنا من هذا التمهيد إلى علم البديع أحد علوم البلاغة العربية فإننا نلتمس أوليات هذا العلم في محاولة قام بها شاعر عباسي من أبناء الأنصار أولع بالبديع في شعره واشتهر بإجادة المدح من مثل قوله في مدح يزيد بن مزيد: تلقى المنية في أمثال عدتها … كالسيف يقذف جلمودا بجلمود تجود بالنفس إن ضن الجواد بها … والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقوله أيضا: موف على مهج في يوم ذي رهج … كأنه أجل يسعى إلى أمل ينال بالرفق ما تعيا الرجال به … كالموت مستعجلا يأتي على مهل هذا الشاعر هو صريع الغواني مسلم بن الوليد الأنصاري المتوفى سنة 208 هجرية، فقد وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية والمعنوية من مثل الجناس والطباق. ثم نلتقي من بعده بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» والمتوفى سنة 255 هـ، فهذا الكتاب وإن اشتمل على كثير من الفوائد والخطب الرائعة والأخبار البارعة، وأسماء الخطباء والبلغاء، مع بيان أقدارهم في البلاغة والخطابة، إلا أن الإبانة عن حدود

ابن المعتز

البلاغة وأقسام البيان والفصاحة تأتي مبثوثة في تضاعيفه، منتشرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير. وقد أشار الجاحظ إلى البديع بقوله: «والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربت على كل لسان، والشاعر الراعي كثير البديع في شعره، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار» (¬1). وكلمة البديع عنده تعني الصور والمحسنات اللفظية والمعنوية وإن كان لم يوضحها توضيحا دقيقا، ومع تعرضه لبعض أنواع البديع فإنه لم يحاول وضع تعريفات ومصطلحات لها، لأن اهتمامه عند الكلام عنها كان بتقديم الأمثلة والنماذج، لا بوضع القواعد. ابن المعتز: ولعل أول محاولة علمية جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولي الخلافة يوما وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة 296 هجرية. هذا الخليفة هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد، والمولود سنة 247 هجرية. لقد كان شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مغرما بالبديع في شعره، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء، والأدباء معدودا من جملتهم، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها: ديوانه، وطبقات الشعراء، وكتاب البديع. ¬

_ (¬1) البيان والتبيين ج 4 ص 55.

وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة وصاحب كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة 274 للهجرة. ويبدو أنه ألف هذا الكتاب ردا على من زعم من معاصريه أن بشار بن برد ومسلم بن الوليد الأنصاري وأبا نواس هم السابقون إلى استعمال البديع في شعرهم. وعن ذلك يقول في مقدمة كتابه (¬1): «قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس من تقيّلهم (¬2) وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه». «ثم إن حبيب بن أوس الطائي «أبا تمام» من بعدهم شغف به حتى غلب عليها وتفرع فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبي الإفراط وثمرة الإسراف. وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرا، ويزداد حظوة بين الكلام المرسل». «وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد ¬

_ (¬1) كتاب البديع لابن المعتز ص 1. (¬2) تقيلهم: حاول التشبه بهم.

القدوس (¬1) في الأمثال، ويقول لو أن صالحا نثر أمثاله في شعره وجعل بينها فصولا من كلامه لسبق أهل زمانه، وغلب على مد ميدانه. وهذا أعدل كلام سمعته في هذا المعنى». وفي موضع آخر يشير إلى غرضه من تأليف كتاب البديع فيقول: «وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع» (¬2). وفي موضع ثالث يشير إلى أنه أول من نظم وجمع فنون هذا العلم فيقول: «وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين» (¬3). والمتصفح لكتاب البديع يجد أنه يشتمل أولا على خمسة أبواب يتحدث فيها ابن المعتز عن أصول البديع الكبرى من وجهة نظره وهي: الاستعارة، والجناس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، أما الباب الخامس من البديع فهو- كما يقول- «مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي. وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا، وهو ينسب إلى التكلّف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (¬4). وليس عدم علمه مانعا علم غيره، ولم يستشهد عليه بأعظم من شواهد القرآن. وينبه ابن المعتز في كتابه على أنه اقتصر بالبديع على الفنون الخمسة السابقة اختبارا من غير جهل بمحاسن الكلام ولا ضيق في المعرفة، ولهذا فمن أحب أن يقتدي به ويقتصر بالبديع على تلك الخمسة فليفعل. ¬

_ (¬1) شاعر عباسي، من حكماء الشعراء، أمر المهدي بقتله وصلبه على جسر بغداد سنة 167 هـ. لزندقته. (¬2) كتاب البديع ص 3. (¬3) نفس المرجع ص 58. (¬4) كتاب البديع ص 53.

ورغبة منه في أن تكثر فوائد كتابه للمتأدبين أتبع هذه الفنون الخمسة التي اعتمدها أصولا لعلم البديع، بذكر ثلاثة عشر فنا بديعيا هي: 1 - الالتفات، 2 - اعتراض كلام في كلام لم يتمم الشاعر معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد، 3 - الرجوع، 4 - حسن الخروج من معنى إلى معنى، 5 - تأكيد المدح بما يشبه الذم، 6 - تجاهل العارف، 7 - هزل يراد به الجد، 8 - حسن التضمين، 9 - التعريض والكناية، 10 - الإفراط في الصفة «المبالغة»، 11 - حسن التشبيه، 12 - إعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له، وهو ما عرفه البلاغيون المتأخرون بلزوم ما لا يلزم من القوافي، 13 - حسن الابتداءات. وقد ذكر أن هذه الأنواع الثلاثة عشر هي بعض محاسن الكلام. والشعر «ومحاسنها كثيرة لا ينبغي للعالم أن يدعي الإحاطة بها حتى يتبرأ من شذوذ بعضها عن عمله وذكره» (¬1). فإذا أضفنا إلى ذلك أصول البديع الخمسة كان معنى ذلك أن ابن المعتز، قد اخترع ثمانية عشر نوعا من أنواع البديع. هذا وليس في كتاب ابن المعتز ذكر لباحث قبله في قضايا البديع سوى الأصمعي الذي قال إن له بحثا في الجناس، وسوى الجاحظ الذي قال إنه أول من سمى «المذهب الكلامي» (¬2) باسمه. ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 58. (¬2) المذهب الكلامي: أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام لأن علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة. مثل (لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا) - فهذا دليل قاطع على وحدانية الله، وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله.

وكأني به وقد بدأ المحاولة الأولى في وضع علم البديع أدرك أن هناك من قد يقلل من شأن هذه المحاولة أو يغير في بعض المصطلحات التي اختارها، أو يزيد في بعض الأبواب، أو يأخذ عليه تقصيرا في تفسير بعض الشواهد الشعرية التي استدل بها. ومن أجل هذا يقول: «ولعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته فيسمى فنا من فنون البديع بغير ما سميناه به، أو يزيد في الباب من أبوابه كلاما منثورا، أو يفسر شعرا لم تفسره، أو يذكر شعرا قد تركناه ولم يذكره، إما لأن بعض ذلك لم يبلغ في الباب مبلغ غيره فألقيناه، أو لأن فيما ذكرناه كافيا ومغنيا. وليس من كتاب إلا وهذا ممكن فيه لمن أراده، وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع، وفي دون ما ذكرنا مبلغ الغاية التي قصدناها» (¬1). والخلاصة أن ابن المعتز بوضعه كتاب البديع قد قام بالمحاولة الأولى في سبيل استقلال هذا العلم البلاغي وتحديد مباحثه التي كانت من قبل مختلطة بمباحث علم المعاني وعلم البيان، كما لفت أنظار الناس إلى أن البديع كان موجودا في أشعار الجاهلية وصدر الإسلام، ولكنه كان مفرقا يأتي عفوا، ثم جاء الشعراء المحدثون من أمثال بشار ومسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي تمام فأكثروا منه في أشعارهم وقصدوا إليه. وكان مما استحدثه ابن المعتز في كتابه أيضا وضع مصطلحات لأنواع البديع في زمنه، ونقد ما أتي معيبا من كل نوع. وتلك بلا شك محاولة علمية جادة تلقفها البلاغيون والنقاد من بعده ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 2 - 3.

قدامة بن جعفر

وأضافوا إليها ما استكملوا به مباحث هذا العلم وقضاياه، كما سنرى فيما بعد. قدامة بن جعفر: ومن النقاد الذين تلقفوا محاولة ابن المعتز العلمية في علم البديع وأضافوا إليها معاصره قدامة (¬1) بن جعفر في كتابه «نقد الشعر». وقدامة هذا كان نصرانيا ثم اعتنق الإسلام في أواخر القرن الثالث الهجري، وتوفي سنة 337 للهجرة في أيام الخليفة العباسي المطيع لله. وقد درس فيما درس الفلسفة والمنطق وتأثر بهما تفكيرا ومنهجا في كل مؤلفاته التي بلغت أربعة عشر كتابا في موضوعات شتى من الأدب وغيره. وإذا كان ابن المعتز قد قصر كتابه على علم البديع، فإن كتاب قدامة كان في نقد الشعر بصفة عامة، وجاء تعرضه فيه للمحسنات البديعية كعنصر من العناصر التي منها تألف منهاجه في نقد الشعر. والمحسنات البديعية التي أوردها قدامة في تضاعيف كتابه «نقد الشعر» بلغت أربعة عشر نوعا. وهذه على حسب ترتيب ورودها في الكتاب: الترصيع، الغلو، صحة التقسيم، صحة المقابلات، صحة التفسير، التتميم، المبالغة، الإشارة، الإرداف، التمثيل. التكافؤ، التوشيح، الإيغال، الالتفات .. ومن هذه المحسنات ما التقى فيها مع ابن المعتز مع اختلاف في التسمية الاصطلاحية فقط. فالتتميم، والتكافؤ، والتوشيح عنده هي عند ابن المعتز على التوالي: الاعتراض، والطباق، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها. وهناك محسنان يلتقيان فيهما ويتفقان على تسميتهما وهما: ¬

_ (¬1) انظر ترجمة حياته في معجم الأدباء لياقوت ج 17 ص 12.

أبو هلال العسكري

المبالغة، والالتفات، وإن كان قدامة قد خص الأخير بشق واحد من شقي «الالتفات» عند ابن المعتز. وإذا كان الاثنان قد التقيا في خمس محسنات بديعية، مع اختلاف في تسمية بعضها واتفاق في تسمية البعض الآخر، فإن قدامة يكون في الواقع قد اهتدى إلى تسعة أنواع جديدة من أنواع البديع، هي: الترصيع، والغلو، وصحة التقسيم، وصحة المقابلات، وصحة التفسير، والإشارة، والإرداف، والتمثيل، والإيغال. وبعد فقد سمى قدامة كتابه «نقد الشعر» فهل نستطيع حقا أن نعتبره هو وكتاب «البديع» لا بن المعتز من كتب النقد؟. وإجابة على السؤال نقول: على الرغم من التسمية فإن الكتابين بعيدان عن النقد الذي هو فن دراسة الأساليب، وأقرب إلى أن يكون كلاهما كتابا علميا يرمي إلى إيضاح مبادئ، واستنباط أنواع من البديع، ووضع تقسيمات. وكل ما يمكن قوله إنهما يمدان الناقد بعنصر من العناصر التي تعينه في عملية نقد العمل الأدبي وإصدار الحكم عليه. أبو هلال العسكري: ثم ظهر في القرن الرابع مع قدامة وعاش بعده أكثر من نصف قرن عالم آخر، هو أبو هلال العسكري، الذي حاول في واحد من أهم مؤلفاته، وأعني به كتاب «الصناعتين- الكتابة والشعر» أن يحقق هدفين. أحدهما أن يتم في توسع ما بدأه قدامة من بحث صناعة الشعر ونقده، سالكا في ذلك- كما يقول- مذهب صناع الكلام من الشعراء والكتاب لا مذهب المتكلمين والمتفلسفة كما فعل قدامة. أما ثاني الهدفين، فهو ألا يقف بالبحث الأدبي عند حد الشعر، وإنما

يتعداه- غير مسبوق في هذا الباب- إلى بحث صناعة الكتابة أو النثر بصفة عامة، فليس الأدب شعرا فحسب، وإنما هو شعر ونثر معا. وأبو هلال هذا هو الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، نسبة إلى مدينة «عسكر مكرم» من كور الأهواز بين البصرة وفارس. وكان من أبنائها علماء أعلام خدموا الثقافة العربية وأضافوا إليها ما لديهم من معرفة. ومن هؤلاء العلماء أبو أحمد العسكري (¬1) المحدث (293 - 382 هـ) وأبو هلال العسكري الأديب، صاحب كتاب «الصناعتين»، والأول خال الثاني وأستاذه. وقد غلب الأدب والشعر على أبي هلال العسكري إنتاجا وتأليفا، وكتبه المنشورة بين الناس تدل على تمكنه من علوم العربية أو علوم الأدب الثمانية، وأعني بها: اللغة، والنحو، والصرف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم. وهذه العلوم عند الأقدمين لم تكن تعني «الأدب» وإنما تعني أنها لازمة لثقافة الأديب، ولحاجة الأديب إليها في تكوينه عدوها من الأدب .. ولا ريب في أنه بمقدار جهل الأديب بأي من هذه العلوم يكون نقصه في الأدوات التي تؤهله بتمكن لممارسة الأدب في أية صورة من صوره. ومؤلفات أبي هلال العسكري لا تدل على تبحره في علوم العربية، فحسب، وإنما تدل أيضا على غزارة إنتاجه وتنوعه، فقد خلف لنا عشرين ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أبي أحمد وأبي هلال في معجم الأدباء لياقوت ج 8 ص 223 - 267.

كتابا عالج فيها، كما يفهم من أسمائها، موضوعات شتى في اللغة والأدب والبلاغة والنقد والتفسير، وكلها تنم عن نوع ثقافته وثقافة العصر الذي عاش فيه. على أن ما انتهى إلينا من إنتاجه لم يزد حتى الآن على ثلاثة كتب هي: «كتاب الصناعتين- الكتابة والشعر»، وكتاب «ديوان المعاني» من جزأين، وكتاب لغوي اسمه «المعجم في بقية الأشياء»، أما بقية كتبه فلا يزال الموجود منها مخطوطات في مكتبات العالم، تنتظر من يتوفر على تحقيقها ونشرها. أبو هلال العسكري إذن كان في عصره إماما في العلم والأدب، إماما وعى كثيرا من معارف سابقيه وأضاف إليها، وأثر بها فيمن جاء بعده. ولئن كانت أجيال كثيرة تتلمذت عليه في حياته، فإن أجيالا أكثر وأكثر ظلت على توالي العصور وإلى اليوم تتلمذ من بعده على آثاره العلمية التي تميزت بالأصالة. ولكن لعل من العجيب المؤلم حقا أن مثله لم يكن بليغا في حياته الخاصة بمقدار ما كان بليغا في حياته العلمية. فهو على ما كان له من قدم راسخة في العلم وولاء له، واشتغال دائم به، قد قضى حياته مغمورا خامل الذكر مضيقا عليه في الرزق، يلتمسه من احتراف البزازة وبيع الثياب في الأسواق!. مفارقة عجيبة إذن بين ما كان عليه من غنى علمي وفقر مادي، وقد دفعه تناقض الأحوال هذا إلى السخط، السخط على نفسه، وعلى الدنيا التي تختل فيها موازين العدل بين الناس. ومن ثم لا يجد أمامه ما يفزع إليه غير الشعر يبث إليه ذات نفسه، ويفضي إليه بهمومه، ويعبر فيه عن سخطه، فيقول:

إذا كان مالي من يلقط العجم (¬1) … وحالي فيكم حال من حاك أو حجم فأين انتفاعي بالأصالة والحجى … وما ربحت كفي من العلم والحكم؟ ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي … ولا يلعن القرطاس والحبر والقلم؟ ويقول من قصيدة أخرى: جلوسي في سوق أبيع وأشتري … دليل على أن الأنام قرود ولا خير في قوم يذل كرامهم … ويعظم فيهم نذلهم ويسود ويهجوهم عني رثاثة كسوتي … هجاء قبيحا ما عليه مزيد على أن حياة أبي هلال لا تعنينا فيها نحن بسبيله هنا من تتبع تاريخ علم البديع، وإنما هي نبذة ترينا في هذه الدنيا حظوظ بعض من يوالون العلم وينقطعون له، ولا يسمحون لأنفسهم أن يتاجروا فيه، أو يقايضوا عليه بأي ثمن! ولكنّ ما يعنينا هنا ونحن نتتبع تاريخ علم البديع وتطوره هو «كتاب الصناعتين- الكتابة والشعر» لأبي هلال العسكري، والذي جعله عشرة أبواب مشتملة على ثلاثة وخمسين فصلا في 462 صفحة. وغايتنا من كتاب الصناعتين لا تنصب عليه كله، وإنما هي تنصب على الباب التاسع (¬2) منه، وهو الباب الذي عقده «لشرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه». وهذا الباب يشتمل على خمسة وثلاثين فصلا، تشغل من حيز الكتاب نحو ربعه. وقبل الشروع في الكلام على ما أورده أبو هلال العسكري في الباب ¬

_ (¬1) العجم بالتحريك: النوى نوى التمر والنبق، يريد أن ماله يشبه مال من يلقط النوى للقوت. والغرض من التشبيه هنا بيان المقدار، أي للدلالة على مقدار ماله. (¬2) انظر كتاب الصناعتين ص 266 - 430.

التاسع من كتاب الصناعتين الذي عقده لشرح البديع والإبانة عن وجوهه، وحصر أبوابه وفنونه، نذكر استنادا على ما سبق شرحه أن أنواع البديع التي كانت معروفة في عصره وسبقه إليها غيره قد بلغت سبعة وعشرين نوعا. والفضل في اختراع ما عرف من أنواع البديع إلى عصر أبي هلال يرجع إلى عبد الله بن المعتز وقدامة بن جعفر. فأما ابن المعتز مؤسس علم البديع فقد اهتدى إلى ثمانية عشر نوعا من البديع، وأما قدامة فقد اهتدى إلى تسعة أنواع فقط، وبذلك يكون الاثنان قد اهتديا معا إلى سبعة وعشرين نوعا من أنواع البديع، وهذا كل ما ورد إلى علمنا مما كان معروفا من فنون علم البديع إلى عصر أبي هلال العسكري الذي بلغ بها إلى سبعة وثلاثين نوعا. ودراسة الباب التاسع من كتاب الصناعتين تظهرنا على أن أبا هلال قد أورد فيه من أنواع البديع خمسة وثلاثين نوعا. عقد لكل نوع منها فصلا خاصا، كما أورد في الباب العاشر من كتابه نوعين آخرين هما حسن الابتداءات، والاشتقاق. وبالنظر في أنواع البديع عند أبي هلال ومقارنتها بما جاء به كل من ابن المعتز وقدامة من أنواع البديع تتجلى الحقائق التالية: 1 - جارى أبو هلال ابن المعتز في اعتبار الاستعارة، والكناية، من أنواع البديع، مع أنهما في الواقع من فنون علم البيان. 2 - كذلك جارى ابن المعتز وقدامة معا في اعتبار «الاعتراض» نوعا بديعيا، كما اعتبر هو نفسه «التذييل» نوعا بديعيا آخر، مع أن

«الاعتراض» و «التذييل» أسلوبان من أساليب الإطناب الذي هو أحد أبواب علم المعاني. 3 - جارى ابن المعتز وقدامة في أربعة أنواع بديعية اتفقا فيها وهي: الطباق، المبالغة، رد الاعجاز على الصدور، الالتفات. 4 - أخذ مما انفرد به ابن المعتز ستة أنواع هي: الجناس، الرجوع، تجاهل العارف، المذهب الكلامي، حسن الابتداءات، تأكيد المدح بما يشبه الذم، والذي سماه هو «الاستثناء». 5 - كذلك أخذ مما انفرد به قدامة تسعة أنواع هي: صحة المقابلة، صحة التقسيم، صحة التفسير، الإشارة، الإرداف، التمثيل، الغلو، الترصيع، الإيغال. 6 - اهتدى أبو هلال نفسه إلى ستة أنواع بديعية، وقد حدد هذه الأنواع التي اكتشفها وعرفنا بها في كتابه بقوله: «وزدت على ما أورده المتقدمون ستة أنواع: التشطير، والمحاورة، والتطريز، والمضاعف، والاستشهاد، والتلطف» (¬1). 7 - وأخيرا أورد أبو هلال ثمانية أنواع بديعية لم يرد لها ذكر عنده أو عند قدامة أو ابن المعتز، وهذه هي: التوشيح، والعكس والتبديل، والتكميل، والاستطراد، وجمع المؤتلف والمختلف، والسلب والإيجاب، والتعطف، والاشتقاق. والاحتمال الوحيد بالنسبة لهذه الأنواع الثمانية أنها قد انتهت إلى علم أبي هلال مما أورده المتقدمون غير قدامة وابن المعتز. نقول ذلك لأنها ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 267.

ابن رشيق القيرواني

لم ترد ضمن ما اهتدى إليه كلاهما من أنواع البديع. وليس من الجائز أن تكون من اختراع أبي هلال نفسه، إذ لو كان الأمر كذلك لذكرها مع الأنواع الستة التي نص في كتابه على أنها زيادة من عنده على ما أورده المتقدمون من أنواع البديع. وتلخيصا لكل ما سبق من أنواع البديع نذكر أن ما وصل إلينا مما اكتشف منها إلى عصر أبي هلال العسكري قد بلغ واحدا وأربعين نوعا، منها: ثمانية عشر نوعا من اختراع ابن المعتز، وتسعة أنواع من اختراع قدامة، وستة أنواع زادها أبو هلال العسكري، وأخيرا ثمانية أنواع ذكرها أبو هلال، ولعله قد عثر عليها لدى بعض من سبقوه من علماء البيان باستثناء قدامة وابن المعتز. ابن رشيق القيرواني: وإذا ما انتقلنا إلى القرن الخامس الهجري فإننا نلتقي بأديب مغربي اهتم بالشعر وآدابه اهتماما كبيرا، وحظي البديع منه بنصيب ملحوظ من البحث والدراسة. ذلك الأديب المغربي هو أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني أحد بلغاء القيروان وشعرائها، ولد بالمسيلة وقيل بالمحمدية سنة 390 للهجرة، وأبوه مملوك رومي من موالي الأزد، وكانت صنعة أبيه في بلده المحمدية الصياغة، فعلمه أبوه صنعته، وقرأ الأدب بالمحمدية، وقال الشعر، ثم تاقت نفسه إلى الاستزادة منه وملاقاة أهل الأدب فارتحل إلى مدينة القيروان سنة 406 للهجرة، واشتهر بها، ومدح صاحبها المعز بن باديس الصنهاجي، ولم يزل بها إلى أن هجم العرب عليها وقتلوا أهلها وخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية وأقام فيها بقرية «مازر» إلى أن توفي سنة 464، وقيل سنة 456 من الهجرة.

ولابن رشيق مصنفات منها: رسالة قراضة الذهب، وكتاب في شذوذ اللغة يذكر فيه كل كلمة جاءت شاذة في بابها، وعدة رسائل، ثم كتاب «العمدة» في محاسن الشعر وآدابه، أو في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه. والكتاب الذي يعنينا هنا من كتبه هو كتاب «العمدة» لأنه تعرض فيه بالذكر والشرح لطائفة كبيرة من فنون البديع يهمنا التعرف عليها. ويحدثنا ابن رشيق في خطبة الكتاب عن سبب تأليفه ومضمونه فيقول: «قد وجدت الشعر أكبر علوم العرب، وأوفر حظوظ الأدب، ... ووجدت الناس مختلفين فيه متخلفين عن كثير منه: يقدمون ويؤخرون ويقلون ويكثرون، قد بوّبوه أبوابا مبهمة، ولقبوه ألقابا متهمة (¬1)، وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه، وشاهد دعواه، فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه، ليكون «العمدة في محاسن الشعر وآدابه»، إن شاء الله تعالى. وعولت في أكثره على قريحة نفسي، ونتيجة خاطري، خوف التكرار، ورجاء الاختصار: إلا ما تعلق بالخبر، وضبطته الرواية، فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه، ليؤتي بالأمر على وجهه، فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه، ولا أحلت فيه على كتاب بعينه، فهو من ذلك. وربما نحلته أحد العرب، وبعض أهل الأدب تسترا بينهم، ووقوعا دونهم، بعد أن قرنت كل شكل بشكله، ورددت كل فرع إلى أصله، وبيّنت للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه .... حتى أعرف باطله من حقه، وأميز كذبه من صدقه» (¬2). ¬

_ (¬1) متهمة بفتح الهاء: أي مشكوك فيها. (¬2) كتاب العمدة ج 1 ص 4 - 5.

والآن ماذا عن فنون البديع في كتاب «العمدة» لابن رشيق، إن هذا الكتاب يتألف من جزءين يضمان نحو مائة باب حاول مصنفه أن يجمع فيها كل ما وقف عليه مما كتب عن صناعة الشعر ووسائله البيانية والبديعية، وعمله فيه، كما يفهم من الكلمة التي اقتبسناها من خطبة الكتاب، عمل جمع وتبويب لا عمل بحث ودرس، وإن كانت له من حين لآخر التفاتات وملاحظات دقيقة تنم عن سعة اطلاعه وبصره بالشعر. ومما يلاحظ على الكتاب أن المؤلف أفرد أبوابا منه لمباحث البيان، وأخرى للمحسنات البديعية، وفي ذلك ما يوحي بأنه قد بدأ يستقر في أذهان النقاد ورجال البلاغة أن البيان شيء والبديع شيء آخر. والكتاب على الرغم من كل شيء قد وعى لنا مادة ضخمة من البلاغة والنقد معا. ويستهل ابن رشيق كلامه عن البديع بباب يعرف فيه كلا من المخترع والبديع من الشعر، ويفرق بينهما، ثم ينتهي بذكر أول من قام بجمع البديع. فالمخترع من الشعر عنده هو: ما لم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه. ويقرر أن أول الناس اختراعا للشعر هو امرؤ القيس، وأن له في شعره اختراعات كثيرة أورد نماذج منها. ومن الشعراء المخترعين عنده أيضا طرفة بن العبد. ثم يستطرد فيقول: «وما زالت الشعراء تخترع إلى عصرنا هذا وتولد، غير أن ذلك قليل في الوقت». ويدفعه ذكر التوليد إلى تعريفه فيقول: «والتوليد: أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه، أو يزيد فيه زيادة، فلذلك يسمى التوليد، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضا «سرقة» إذا كان ليس آخذا على وجهه» (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 1 ص 232.

والفرق عنده بين الاختراع والإبداع- وإن كان معناهما في العربية واحدا- أن الاختراع: خلق المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قط، وأن الإبداع: إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف، والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر، فصار الاختراع للمعنى، والإبداع للفظ. فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمد، وحاز قصب السبق. بعد ذلك يوضح كلمتي «الاختراع» و «الإبداع» ثم ينتقل بالكلام إلى علم البديع فيذكر أنه ضروب كثيرة وأنواع مختلفة، وأنه سوف يذكر منه ما وسعته القدرة، وساعدت فيه الفكرة. وعنده أن ابن المعتز هو أول من جمع البديع، وألف فيه كتابا، لم يعدّه إلا خمسة أبواب: الاستعارة أولها، ثم التجنيس، ثم المطابقة، ثم رد الإعجاز على الصدور، ثم المذهب الكلامي. وقد عد ما سوى هذه الخمسة أنواع محاسن، وأباح أن يسميها من شاء ذلك بديعا، وخالفه من بعده في أشياء، يقع التنبيه عليها حيثما وقعت من كتابه العمدة (¬1). أما أنواع البديع التي أوردها ابن رشيق في كتابه «العمدة» فتبلغ تسعة وعشرين؛ منها عشرون نوعا سبقه إليها ابن المعتز وقدامة وأبو هلال العسكري، وهي: الاستعارة، الإشارة، التجنيس، التصدير أو رد الاعجاز إلى صدورها، المطابقة، المقابلة، التقسيم، الترصيع، التسهيم، التفسير، الاستطراد، الالتفات، الاستثناء وهو توكيد المدح بما يشبه الذم، التتميم، المبالغة، الغلو، الإيغال، المذهب الكلامي، التضمين، التمثيل. ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 1 ص 232 - 236.

عبد القاهر الجرجاني

أما الأنواع التسعة الباقية والتي لم يرد لها ذكر عند رجال البديع السابقين فهي: التورية، والترديد، والتفريع، والاستدعاء، والتكرار ونفي الشيء بإيجابه، والإطراد، والاشتراك، والتغاير. وليس لنا بالنسبة لهذه الأنواع التسعة الجديدة إلا أحد احتمالين: أحد هما أنه أخذها عن بعض المتقدمين في البديع غير ابن المعتز وقدامة وأبي هلال العسكري، وثانيهما أنه هو نفسه قد زادها على ما أورده المتقدمون، وإن لم يكن قد نص على ذلك كما فعل أبو هلال مثلا. وتتميز دراسة ابن رشيق لما ذكره من فنون البديع بأنها أكثر تفصيلا، وإن كان قد سار فيها على منهاج أشبه بمنهاج أبي هلال فهو أولا يعرف الفن البديعي ثم يشفعه بالأمثلة والشواهد من منظوم الكلام ومنثوره، وقلما عرض للشاهد بالتوضيح اعتمادا على فطنة القارئ. وفي المصطلحات نلاحظ أنه إذا آثر مصطلحا بعينه لفن بديعي، فإنه يذكر اسمه الآخر عند هذا أو ذاك ممن سبقوه إلى البديع، ففي كلامه عن «الاستثناء» يقول: وابن المعتز يسميه توكيد المدح بما يشبه الذم، وفي كلامه عن «المطابقة» يقول: وسمى قدامة هذا النوع- الذي هو المطابقة عندنا- التكافؤ ... ولم يسمه التكافؤ أحد غيره وغير النحاس من جميع من علمته، وفي «الالتفات» يقول: وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، حكاه قدامة ... وهكذا. وقد جرى مع سابقيه في اعتبار الاستعارة من البديع مع أنها من أصول علم البيان. عبد القاهر الجرجاني: وفي القرن الخامس الهجري نلتقي بأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، الإمام النحوي وأحد علماء الكلام على مذهب

الأشاعرة. ولد وعاش بجرجان ولم يفارقها حتى توفي سنة 471 من الهجرة. وله مؤلفات قيمة في النحو والعروض وإعجاز القرآن، والتفسير، والبلاغة، ولكنه اشتهر أكثر ما اشتهر بكتابه «دلائل الإعجاز» الذي وضع فيه نظرية علم المعاني، وكتابه «أسرار البلاغة» الذي وضع فيه نظرية علم البيان. وهو لهذا يعد بحق مؤسس البلاغة العربية، والمشيد لأركانها، والموضح لمشكلاتها، والذي على نهجه سار المؤلفون من بعده، وأتموا البنيان الذي وضع أسسه. والمتصفح لكتابيه السابقين «الدلائل» و «الأسرار» يرى أنه لم يحاول فيهما وضع نظرية في علم البديع، كما فعل بالنسبة لعلمي المعاني والبديع، ولو أنه فعل لأعفى أصحاب البديع من توزع مباحثهم فيه توزعا حال بينها وبين أن تصير علما واضح المعالم والمباحث كالمعاني والبيان. ومع ذلك فقد تكلم في «أسرار البلاغة» عن ألوان من البديع هي: الجناس، والسجع، وحسن التعليل، مع الإشارة أحيانا إلى الطباق والمبالغة. وحديثه عن هذه المحسنات ليس لأغراض بديعية بمقدار ما هو لأغراض بيانية. وتفصيل ذلك أنه في «أسرار البلاغة» يحاول الكشف عن المعاني الإضافية التي تشتمل عليها الأساليب البيانية من تشبيه وتمثيل ومجاز واستعارة، ولهذا أجمل في مقدمة «الأسرار» النظرية التي توصل إليها في «دلائل الإعجاز» والتي تأبى أن يكون للألفاظ من حيث هي ألفاظ مزية ذاتية في الكلام، فالشأن دائما للتراكيب وصورة نظمها وتأليفها. ولكي يقيم على ذلك الدليل الذي لا يدحض عرض للجناس والسجع من فنون

البديع، وراح يثبت أن الجمال فيهما لا يرجع إلى جمال الألفاظ من حيث هي، وإنما يرجع إلى ترتيب المعاني في الذهن ترتيبا يؤثر في النفس، ويضرب لذلك مثلا من أمثلة الجناس وهو قول أبي الفتح البستي: ناظراه فيما جنى ناظراه … أو دعاني أمت بما أو دعاني ويعلق عليه بقوله: «قد أعاد- الشاعر- عليك اللفظ، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفّاها، فبهذه السريرة صار التجنيس، وخصوصا المستوفى منه المتفق في الصورة، من حلى الشعر، ومذكورا في أقسام البديع» (¬1). فجمال الجناس عنده في مثل بيت أبي فتح البستي يرجع إلى المفاجأة، وأن الكلمة ترى كأنها لا تعطيك شيئا جديدا وهي في الحقيقة تعطي كثيرا، وبذلك يؤثر الجناس التام بما فيه من خداع وخفاء لا يلبث أن ينكشف، ومن ثم عد من حلى الشعر، وذكر في أقسام البديع. وكل هذا يرجع إلى المعنى النفسي لا إلى اللفظ، ويضرب مثالا للجناس الناقص قول أبي تمام: يمدون من أيد عواص عواصم … تصول بأسياف قواض قواضب ويعقب عبد القاهر بأن تأثير الجناس ينبعث من المعنى النفسي أيضا، فإن السامع يتوهم قبل أن يرد عليه الحرف الأخير في كلمتي «عواصم، وقواضب» أن الكلمتين السابقتين لهما ستعودان ثانية، ومن هنا يأتي التأثير، يقول: «تعود إليك الكلمة مؤكدة حتى إذا تمكن في نفسك تمامها، ووعى سمعك آخرها، انصرفت عن ظنك الأول، وزلت عن الذي سبق من التخيل، وفي ذلك ما ذكرت لك من طلوع الفائدة بعد أن ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة ص: 4 - 5.

يخالطك اليأس منها، وحصول الربح بعد أن تغالط فيه حتى ترى أنه رأس المال» (¬1). وعن السجع يورد عبد القاهر أمثلة للحسن منه قول القائل: اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، فلا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال. ومثل قول الفضل بن عيسى الرقاشي: سل الأرض، فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا. ثم يذكر أنه ليس هنا لفظ اجتلب من أجل السجع، وترك له ما هو أحق بالمعنى منه. وعلى ذلك فالجناس أو السجع عنده لا يكتسب صفة القبول أو الحسن حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، بحيث لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا، أي أن المعنى هو الذي يقود المتكلم نحو الجناس والسجع، لا أن يقود هو المعنى إليهما. وفي معرض البحث في السرقات الشعرية تكلم عبد القاهر عن التعليلات الخيالية التي يسوقها الشعراء في أشعارهم والتي أطلق عليها البلاغيون اسم «حسن التعليل» كقول القائل: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته … لما رأيت عليها عقد منتطق وإجمال القول هنا أن عبد القاهر الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم البيان لم يتوسع في البديع توسعه في المعاني والبيان، وأن حديثه في «أسرار البلاغة» عن الجناس والسجع وحسن التعليل والطباق لم يكن مقصودا لذاته، وإنما جاء كلامه عنها في معرض الاستدلال على نظريته القائلة بأن الألفاظ ليست لها مزية ذاتية في الكلام من حيث هي ألفاظ، ¬

_ (¬1) نفس المرجع ص: 13.

الزمخشري

وإنما المزية تأتي دائما من قبل التراكيب وصورة نظمها وتأليفها. ذلك لأن الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب. الزمخشري: وعلى الطريق نلتقي في القرن السادس الهجري بأحد علماء الاعتزال الكبار وأعني به جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 من الهجرة. وللزمخشري مؤلفات قيّمة في النحو واللغة والأدب، ولكن أهم كتاب اشتهر به منذ عصره هو كتاب «الكشاف» الذي قدم فيه صورة رائعة لتفسير القرآن، وأشاد به حتى أهل السنّة على الرغم من نزعة صاحبه الاعتزالية. وتفسير «الكشاف» هو في الواقع خير تطبيق على كل ما اهتدى إليه عبد القاهر الجرجاني من قواعد المعاني والبيان، فقد اتخذ الزمخشري من آي الذكر الحكيم أمثلة وشواهد يوضح بها كل ما استوعبه من قواعد عبد القاهر البلاغية، سواء ما اتصل منها بعلم المعاني أو علم البيان. وإذا كان عبد القاهر هو مؤسس علم المعاني وعلم البيان، وهو من استنبط من جزئيات كل علم الكثير من قواعده، فإن الزمخشري هو من أكمل هذه القواعد بالإضافات الجديدة التي وفق إليها وجاءت مفرقة في تضاعيف تفسيره «الكشاف». وهكذا استطاع الرجلان أن يضعا ويكملا قواعد علم المعاني وعلم البيان، ولم يتركا لمن بعدهما إلا فضل استقصاء هذه القواعد عندهما وتنظيمها في كتاب يجمع متفرقها ويضم منثورها.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، ونحن نتتبع تطور علم البديع، أن المتكلمين منذ القرن الخامس من الباقلاني إلى عبد القاهر ممن عنوا بإعجاز القرآن قد نحوا البديع عن مباحث أسرار البلاغة في القرآن الكريم، لأنه في رأيهم لا يدخل في بحث الإعجاز القرآني، نظرا لأن كثيرا من فنونه مستحدث، وما ورد منه في القرآن إنما جاء دون قصد وتكلف. على هذا الأساس رأينا فيما سبق كيف أن عبد القاهر وهو يعنّي نفسه بالكشف عن نظريتي علم المعاني وعلم البيان في كتابه «دلائل الإعجاز» لم يعن أو يهتم بالبديع وفنونه. حقا لقد عرض في «أسرار البلاغة» للجناس والسجع وحسن التعليل والطباق، ولكن حديثه عنها قد جاء في معرض الاستدلال بها على نظريته في نظم الكلام. وعلى غرار عبد القاهر نرى الزمخشري لا يعني في تفسيره «الكشاف» بما جاء في آيات القرآن من بديع إلا عرضا، لأنه لم يكن يعد البديع علما مستقلا من علوم البلاغة، وإنما يعده ذيلا لها. وقد كانت نظرته هذه إلى البديع سببا في أن لا يقف طويلا أمام ما ورد في القرآن من فنون بديعية. ومن ثم فالزمخشري في ميدان البلاغة رجل بيان لا بديع. ومع ذلك فقد استدعاه تفسيره البياني في «الكشاف» أن يشير إشارة خفيفة إلى ما ورد في بعض آي الذكر الحكيم من فنون البديع من مثل: الطباق، والمشاكلة، واللف والنشر، والالتفات، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، ومراعاة النظير والتناسب، والتقسيم، والاستطراد، والتجريد. تلك كانت مساهمة الزمخشري في علم البديع، وهي مساهمة لم يكن

أسامة بن منقذ

القصد منها خدمة مباحث هذا العلم بمقدار ما كان القصد منها بيان أثرها في بلاغة القرآن وإعجازه. ... ونلتقي في القرن السادس أيضا باثنين من رجال البديع هما: الوطواط، وأسامة بن منقذ. أما الوطواط فهو رشيد الدين العمري المتوفى سنة 573 للهجرة، وقد ألّف في البلاغة الفارسية كتابا سماه «حدائق السحر في دقائق الشعر» (¬1) والكتاب محاولة دقيقة لتطبيق فنون البديع العربي على الأدب الفارسي. وقد استعان الوطواط على توضيح هذه الفنون بأمثلة وشواهد من الشعر والنثر في الأدبين العربي والفارسي، وكذلك بشواهد من أشعاره بالعربية. أسامة بن منقذ: أما رجل البديع الثاني فهو أبو المظفر أسامة بن مرشد بن منقذ المتوفى سنة 584 من الهجرة. وبنو منقذ كانوا أصحاب حصن أو قلعة قريبة من حماه تدعى «شيزر»، وظلوا يقيمون بهذه القلعة ممتنعين بمناعتها حتى أصابها الزلزال في منتصف القرن السادس وأتى عليها هدما وتخريبا، ثم استولى عليها نور الدين محمود بن زنكي وأعاد بناءها وتحكم في بني منقذ فغادروها وتفرقوا في مناح مختلفة. وأسامة من أكابر بني منقذ وعلمائهم وشجعانهم، وله تصانيف عديدة في فنون الأدب، منها: كتاب القضاء، وكتاب الشيب والشباب، ¬

_ (¬1) ترجمه إلى العربية الدكتور إبراهيم الشواربي.

وفي القرن السابع الهجري نلتقي بسبعة علماء أولى كل واحد منهم البديع وفنونه فيما كتب عناية خاصة.

وكتاب ذيل يتيمة الدهر للثعالبي، وكتاب تاريخ أيامه، وكتاب في أخبار أهله، وكتاب البديع في نقد الشعر. وفي بني منقذ جماعة من الشعراء كان أسامة أشعرهم واشهرهم، ومن شعره: قالوا نهته الأربعون عن الصبا … وأخو المشيب يجور ثمت يهتدي كم جار في ليل الشباب فدلّه … صبح المشيب على الطريق الأقصد وإذا عددت سنيّ ثم نقصتها … ز من الهموم فتلك ساعة مولدي ومن شعره في الشيخوخة: لا تحسدنّ على البقاء معمّرا … فالموت أيسر ما يئول إليه وإذا دعوت بطول عمر لامرئ … فاعلم بأنك قد دعوت عليه (¬1) وقد ذكرنا من مصنفات أسامة بن منقذ «كتاب البديع في نقد الشعر» (¬2). وهو يشتمل على خمسة وتسعين بابا ذكر فيه كثيرا من المحسنات البديعية. ... وفي القرن السابع الهجري نلتقي بسبعة علماء أولى كل واحد منهم البديع وفنونه فيما كتب عناية خاصة. وفيما يلي نبذة عن كل واحد من هؤلاء العلماء على حسب ظهورهم في عصرهم: 1 - الرازي: هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606 للهجرة، له ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أسامة بن منقذ في معجم الأدباء لياقوت ج: 5 ص: 188. (¬2) حقق هذا الكتاب الدكتور أحمد أحمد بدوي وحامد عبد المجيد.

مصنفات كثيرة في تفسير القرآن الكريم، والفقه، وعلم الكلام، والطب، والكيمياء، وكان يجيد العربية، ويميل إلى مذهب الأشاعرة. وهو يمتاز في تأليفه بدقة التفكير وقوة المنطق والقدرة على تشعيب المسائل وحصر أقسامها حصرا يحيط بها إحاطة تامة. وبهذه الطريقة اتجه في التأليف إلى البلاغة باعتبارها مدار الإعجاز في القرآن، فألّف فيها كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز». فالكتاب كما يفهم من عنوانه يتجه نحو الاختصار والإجمال، وقد أعلن في مقدمته أنه يهدف من وراء تأليفه إلى تنظيم ما صنّفه عبد القاهر في كتابيه «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة»، وذلك لما لاحظه فيهما من إهمال رعاية ترتيب الأصول والأبواب، ومن الإطناب في الكلام. وعلى هذا فالكتاب محاولة من جانب الرازي قصد بها تنظيم وتبويب كل ما كتبه عبد القاهر في صورة تنضبط فيها القواعد البلاغية وتنحصر فيها فروعها وأقسامها حصرا تاما. وبالإضافة إلى ذلك سرد الرازي في كتابه طائفة من فنون البديع، وهذه قد استمدها من كتاب «حدائق السحر في دقائق الشعر» للوطواط الذي سبقت الإشارة إليه. والرازي ينقل عنه الأمثلة العربية مع الفنون البديعية التي تمثلها، وكذلك مصطلحاتها الخاصة. ومما نقله عن الوطواط تجنيس الخط نحو قوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، كما نقل عنه ما سماه «المصحّف»، وهو كلمات إن تغير نقطها كانت قدحا وهجاء بعد أن كانت مدحا وثناء. كذلك عرض لما سماه ابن المعتز باسم «الاعنات»، وهو لزوم ما لا يلزم في قوافي الشعر وطرده في السجع.

وصور ما يحدث من حسن بسبب ائتلاف كلمتين، وعقد لذلك أربعة فصول، تحدث في أولها عن التجنيس موضحا أقسامه، وقد نقلها عن الوطواط، ونقل عنه في الفصل الثاني حديثه عن الاشتقاق وقد فصله عن الجناس مع أنه ضرب منه مثل: «فأقم وجهك للدين القيّم»، وقصر الفصل الثالث على «رد العجز على الصدر» واحتذى فيه وفي تقسيماته صنيع الوطواط، حتى في ضرب الأمثلة. أما الفصل الرابع فخص به ما سماه الوطواط، «بالمقلوب»، وهو ما يقرأ طردا وعكسا، مثل: لبق أقبل فيه هيف … كل ما أملك إن غنّى هبه فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب. ومثل: ليل أضاء هلاله … أنى يضيء بكوكب فكل كلمة من هذا البيت، ما عدا (أضاء ويضيء) تقرأ مستوية ومقلوبة. وانتقل الرازي إلى ما يحدث من حسن بسبب ائتلاف الكلمات، وردّ إلى هذا الجانب السجع، وجعل منه ما سماه الوطواط بالمزدوج، وهو ضرب من التعقيد في السجعتين، إذ يجمع داخل كل سجعة بين كلمتين متشابهتي الوزن والروي مثل «من جد وكد في البداية عز وبز في النهاية». وإلى هذا الجانب ردّ أيضا ما سماه الوطواط باسم الترصيع، وهو عنده أن تتقابل السجعتان أو يتقابل شطرا البيت تقابلا تاما بحيث يكون لكل كلمة في سجعة أو شطر قرينتها المتفقة معها في الوزن والروي بالسجعة الثانية أو الشطر الثاني مثل قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ، ومثل قول ابن النبيه: فحريق جمرة سيفه للمعتدي … ورحيق خمرة سيبه للمعتفي فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه، فإن المقابلة فيه حاصلة

بين حريق ورحيق، وبين جمرة وخمرة، وبين سيفه وسيبه، وبين المعتدي والمعتفي. وفي القسم الذي عقده في كتابه للنظم نراه في الفصل الثالث منه يبيّن أقسام النظم، ويستهل حديثه عن ذلك بقول عبد القاهر: «إن الكلام إن لم يتعلق بعضه ببعض لم يحتج إلى فكر وروية كاستهلالات الجاحظ في كتبه، ومثل هذا الكلام لا تظهر فيه قوة الطبع وجودة القريحة، إنما يظهر ذلك في الكلام الذي تتعلق فيه الجمل بعضها ببعض، وتلتحم التحاما شديدا» وعند الرازي أن ذلك يجري على وجوه شتى، عد منها ثلاثة وعشرين وجها استمد معظمها هي وأمثلتها من كتاب الوطواط «حدائق السحر في دقائق الشعر». ومن هذه الوجوه المطابقة والمقابلة والمزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء معا كقول البحتري: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى … أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر (¬1) كذلك يذكر من هذه الوجوه البديعية الاعتراض، والالتفات، والاقتباس، والتلميح. فالاعتراض هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين وتفيد زيادة في معنى غرض المتكلم، ومن معجزه في القرآن: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا- وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. والالتفات، كما فسره قدامة، هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه، أو ظن أن رادّا يرده عليه أو سائلا يسأل عن سببه ¬

_ (¬1) زواج بين نهى الناهي وإصاختها إلى وشى الواشي الواقعين في الشرط والجزاء فرتب عليهما لجاج شيء.

فيلتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلي الشك، أو يؤكده، أو يذكر سببه. وعرفه ابن المعتز بأنه انصراف المتكلم عن الاخبار إلى المخاطبة، كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ... إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. والاقتباس هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية، أو آية من كتاب الله خاصة، وهو على نوعين: نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه، كقول الحريري: «فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب» فإن الحريري كنى به عن شدة القرب، وكذلك هو في الآية الكريمة. ونوع يخرج به المقتبس عن معناه كقول ابن الرومي: لئن أخطأت في مدحيك … ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي … بواد غير ذي زرع .. فالشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه والمراد به في الآية أرض مكة. والتلميح هو أن يشير ناظم هذا النوع في بيت أو قرينة سجع إلى قصة معلومة، أو نكتة مشهورة، أو بيت شعر حفظ لتواتره، أو إلى مثل سائر يجريه في كلامه على جهة التمثيل. وأحسن التلميح وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود، وسماه قوم التلميح بتقديم الميم، كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة، كقول ابن المعتز: أترى الجيرة الذين تداعوا … عند سير الحبيب وقت الزوال؟ علموا أنني مقيم وقلبي … راحل فيهم أمام الجمال مثل صاع (¬1) العزيز في أرحل القوم … ولا يعلمون ما في الرحال ¬

_ (¬1) الصاع: مكيال مقداره ثمانية أرطال على رأي، وخمسة أرطال وثلثا رطل على رأي آخر.

هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة يوسف عليه السّلام حين جعل الصاع في رحل أخيه، وإخوته لم يشعروا بذلك. كذلك ذكر الرازي غير ما مرّ من الوجوه البديعية: إرسال المثلين، أي الجمع بينهما في بيت شعر، واللف والنشر، والتعديد، والموجّه، أو التوجيه وهو أن يمدح الشاعر ممدوحه بصفة حميدة ثم يقرن بها صفة من جنسها تفيد معنى ثانيا، أو بعبارة أخرى أن يحتمل الكلام وجهين من المعنى احتمالا مطلقا من غير تقييد بمدح أو غيره. وذلك كقول الشاعر في الحسن بن سهل عند ما زوج ابنته بوران الخليفة: بارك الله في الحسن … ولبوران في الختن (¬1) يا إمام الهدى ظفر … ت ولكن ببنت من؟ ويلي ذلك من ألوان البديع التي ذكرها الرازي: تجاهل العارف، والسؤال والجواب في بيت واحد، والإغراق في الصفة أو المبالغة، والجمع، والتفريق، والتقسيم، منفردة ومجتمعة، واستشهد لهذا الوجه بأبيات للوطواط ساقها في كلامه، ثم التعجب، وذكر فيه ما تمثل به الوطواط من قول بعض الشعراء: أيا شمعا يضيء بلا انطفاء … ويا بدرا يلوح بلا محاق فأنت البدر، ما معنى انتقاصي؟ … وأنت الشمع، ما سبب احتراقي؟ وأخيرا يذكر حسن التعليل مع نفس المثال الذي تمثل به الوطواط. وإجمالا ذكر الرازي في مقدمة كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» أنه يحاول فيه اختصار كتابي عبد القاهر «دلائل الإعجاز» و «أسرار ¬

_ (¬1) الختن: كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ، وقيل: أب المرأة.

2 - السكاكي

البلاغة» وجمع ما تناثر فيهما من القواعد البلاغية وتنظيمها وحصر فروعها وأقسامها. ولكنه في محاولته لم يقتصر على ذلك، وإنما نراه يلخص أيضا بديعيات الوطواط وينثر ما أخذه منها في ثنايا فصول كتابه على نحو أدى إلى نوع من الخلط بين مباحث علم البديع، ومباحث علمي المعاني والبديع. وما دمنا نتابع نشأة البديع وتطوره في عصوره المختلفة، فإن تحليل عمل الرازي في كتابه ونقده والحكم عليه يخرج عن دائرة ما نبغيه منه. وما نبغيه هو معرفة قدر المساهمة التي أسهم بها في خدمة علم البديع وتطويره، وهذه المساهمة، كما رأينا، ليس فيها جديد يحسب للرازي، وكل ما له أنه استخدم في كتابه بعض فنون البديع المعروفة، وكان مرجعه الأول فيها كتاب «حدائق السحر في دقائق الشعر» للوطواط. 2 - السكاكي: هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى على الراجح سنة 626 من الهجرة. ويقال إنه بدأ يشتغل بالعلم ويتفرغ له وهو في نحو الثلاثين من عمره، ولهذا أكب على علوم الفلسفة والمنطق والفقه وأصوله واللغة والبلاغة يدرسها حتى أتقنها. وللسكاكي مصنفات كثيرة أهمها كتاب «مفتاح العلوم» الذي قسمه إلى ثلاثة أقسام أساسية: قصر القسم الأول منها على علم الصرف وما يتصل به من الاشتقاق بأنواعه، كما جعل القسم الثاني منه لعلم النحو أما القسم الثالث فخص به علم المعاني وعلم البيان، وملحقاتهما من البلاغة والفصاحة، والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية.

ولما كانت علوم البلاغة تحتاج إلى علوم المنطق والعروض والقافية فقد أفرد لكل منها مبحثا خاصا وحيزا في كتابه. وبذلك اشتمل «المفتاح» على علوم الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والعروض والقافية والمحسنات البديعية. وشهرة السكاكي ترجع في الواقع إلى القسم الثالث من كتاب المفتاح، وهو القسم الخاص بعلم المعاني وعلم البيان وملحقاتهما من البلاغة والفصاحة، والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية. ومصدر هذه الشهرة أنه أعطى لأصول العلوم التي أفرد لها القسم الثالث من كتابه الصيغة النهائية التي عكف عليها العلماء من بعده يتدارسونها ويشرحونها مرارا. وقد كان ما انتهى إليه في ذلك وليد اكتساب ومجهود ذاتي. وتفصيل ذلك أنه استطاع أن يخرج من اطلاعه على أعمال رجال البلاغة المتقدمين عليه بملخص لما نثروه في كتبهم من آراء، أضاف إليها ما عنّ له شخصيا من أفكار، ثم صاغ ذلك كله صياغة محكمة استعان فيها بقدرته المنطقية في التعليل والتحديد والتقسيم والتفريع والتشعيب. ولعل عبد القاهر الجرجاني والزمخشري وفخر الدين الرازي هم أكثر من أفاد منهم السكاكي في عمله هذا. والآن ماذا عن البديع عند السكاكي ومجهوده فيه؟ لقد ذكرنا آنفا أنه ألحق البديع في القسم الثالث من كتابه المفتاح بعلمي المعاني والبيان. ومعنى ذلك أنه لم يكن ينظر إليه كعلم مستقل قائم بذاته، وإلا لكان عليه أن يعامله معاملة علمي المعاني والبيان، وأن يعطيه من العناية ما أعطاه لهما.

ومع ذلك فلعله كان أول من نظر في المحسنات البديعية وقسمها إلى محسنات معنوية وأخرى لفظية، وهذا أمر يحسب بطبيعة الحال للسكاكي لأن من بحثوا قبله في المحسنات البديعية كانوا يوردونها مختلطا بعضها ببعض، وقلما حاول أحدهم أن يفرق بين المعنوي واللفظي منها، كما فعل هو. وشيء آخر أن السكاكي لم يأت في كتابه المفتاح على كل المحسنات البديعية التي كانت معروفة إلى عصره، وإنما اقتصر منها على ستة وعشرين نوعا، لعلها كانت في نظره أهم من غيرها أثرا في تحسين الكلام لفظا ومعنى، كما أنه لم يزد على المحسنات جديدا من عنده. والمحسنات البديعية المعنوية التي آثرها على غيرها ووقف عندها في كتابه تبلغ عشرين نوعا، هي: المطابقة، والمقابلة، ومراعاة النظير، والمزاوجة، والمشاكلة، والإيهام، واللف والنشر، والجمع، والتفريق، والتقسيم، والجمع مع التفريق، والجمع مع التقسيم، والجمع مع التفريق والتقسيم، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، والتوجيه، والاعتراض، والالتفات، والاستتباع الذي سماه الفخر الرازي الموجّه، وسوق المعلوم مساق غيره لنكتة كالتوبيخ، وتقليل اللفظ ولا تقليله مما يدخل في بعض صور الإيجاز والإطناب. أما المحسنات البديعية اللفظية التي أوردها فهي: الجناس، ورد العجز على الصدر، والسجع، والقلب، والاشتقاق، والترصيع. وكل هذه الفنون البديعية مستمدة بأمثلتها من الفخر الرازي، وقد عقب بعد سردها بقوله: «ويورد الأصحاب هنا أنواعا مثل كون الحروف منقوطة أو غير منقوطة، أو البعض منقوطا والبعض غير منقوط بالسوية، فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت، وتلقب من ذلك بما أحببت».

3 - ضياء الدين بن الأثير: 588 - 637 هـ.

ولعل في هذا القول ما يعزز رأينا في سبب اقتصار السكاكي على ما ساقه من المحسنات البديعية، وإيثارها على غيرها، ذلك لأن الأمر كله مرجعه إلى الذوق والقدرة على التمييز أو التفصيل بين محسن بديعي وآخر من حيث الأثر الذي يحدثه في الارتفاع بالقول لفظا ومعنى. 3 - ضياء الدين بن الأثير: 588 - 637 هـ. هو أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد الشيباني المعروف با بن الأثير الجزري نسبة إلى جزيرة ولد فيها، تدعى جزيرة ابن عمر بالموصل. وضياء الدين بن الأثير هذا هو شقيق مجد الدين بن الأثير، وعز الدين بن الأثير. وأبناء الأثير الثلاثة هؤلاء اشتهر كل منهم بفن من الفنون، فمجد الدين المتوفى سنة 606 للهجرة من رجال الحديث المشهورين وله مؤلفات مفيدة منها «النهاية في غريب الحديث والأثر»، وعز الدين المتوفى سنة 630 للهجرة من كبار المؤرخين، وهو صاحب «الكامل في التاريخ» وهو أشهر كتب التاريخ المتداولة بين أيدينا، ومن أوثق المصادر التاريخية الإسلامية وأوضحها، بدأ فيه بالخليقة وانتهى إلى آخر سنة 628 هـ. والكتاب كله مرتب على السنين، وقد جمع فيه خلاصة الكتب التاريخية التي تقدمته، واقتبس فيه تاريخ الطبري كله تقريبا بعد حذف الأسانيد وتبعه في ترتيبه، وجعله 12 جزءا كبيرا. ولعز الدين بن الأثير أيضا كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» وهو معجم أبجدي في تراجم الصحابة، في خمسة مجلدات كبيرة. أما ضياء الدين بن الأثير الأخ الأصغر فهو لغوي أديب، ومؤلفاته كلها في الأدب والبيان وصناعة الكلام، وأهم مؤلفاته كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». وكتاب «المثل السائر» الذي هو موضوع بحثنا هنا مقسم إلى مقدمة

في علم البيان، وإلى مقالتين: الأولى في الصناعة اللفظية، والثانية في الصناعة المعنوية. ويقول علماء البيان: «إن المثل السائر للنظم والنثر بمنزلة أصول الفقه لاستنباط أدلة الأخصام» فقد أتى فيه بما لم يسبقه أحد إليه، ولعل هذا هو سبب زهوه وإعجابه بنفسه البادي في ثنايا كتابه. وقد ألّف عز الدين بن أبي الحديد صاحب شرح نهج البلاغة والمتوفى سنة 655 للهجرة كتابا سماه «الفلك الدائر على المثل السائر» يعنّف فيه ضياء الدين بن الأثير على غروره وتهجمه على من سبقوه، ويصحح بعض آرائه، وينقض اعتراضاته على الزمخشري والغزالي وأبي علي الفارسي وابن سينا والفارابي وغيرهم ممن تناولهم بالنقد والتجريح في كتابه. والآن وبعد هذه الترجمة الموجزة لابن الأثير ننتقل إلى كتابه «المثل السائر» محاولين التعرف على ما أورد فيه من أنواع البديع. وأول ما نلحظه بهذا الخصوص أنه لم ينظر إلى المحسنات البديعية كعلم قائم بذاته كما فعلت مدرسة عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي ومن لفّ لفهم، وبالتالي لم يدرسها دراسة منفصلة عن البيان، وإنما نراه يتوسع في مفهوم علم البيان بحيث يشمل مباحث علم المعاني والبديع، مجاريا في ذلك مدرسة الجاحظ التي تعتبر كلمة البيان مرادفة لكلمة البلاغة. من أجل ذلك نراه في مقالته (¬1) الأولى الخاصة بالصناعة اللفظية ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص: 56 - 122.

يتكلم عن المحسنات البديعية اللفظية، وفي مقالته الثانية الخاصة بالصناعة المعنوية يعرض للمحسنات البديعية المعنوية. وعنده أن المحسنات البديعية اللفظية هي صناعة تأليف الألفاظ، ولهذا ساق منها في مقالته الأولى ثمانية أنواع، عقد لكل نوع منها فصلا مستقلا، وهذه الأنواع هي: السجع، والتصريع، والتجنيس، والترصيع، ولزوم ما لا يلزم، والموازنة، واختلاف صيغ الألفاظ، وتكرير الحروف. وهو في دراسته لهذه الأنواع لم يقف عند حد تعريفها وبيان أقسامها وتفريعاتها، وإنما هو أيضا يمد دراسته لها إلى بيان ما يختص فيها بالكلام المنثور، وما يختص بالكلام المنظوم، وما يعم القسمين جميعا. فالسجع عنده يختص بالكلام المنثور، وعرفه بأنه تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد. وهو يطيل القول فيه على أساس أنه قد أصبح سمة من سمات الرسائل، كما يسمي فواصل (¬1) القرآن المتحدة في الروي أسجاعا، متخذا من ذلك دليله على أن السجع أعلى درجات الكلام. والترصيع يختص بالكلام المنظوم، وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الشطر الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الشطر الثاني في الوزن والقافية. وهذا لا يوجد في كلام الله تعالى لما هو عليه من زيادة التكلف، وإنما هو يوجد في الشعر كقول بعضهم: فمكارم أوليتها متبرعا … وجرائم ألغيتها متورعا فمكارم بإزاء جرائم، وأوليتها بإزاء ألغيتها، ومتبرعا بإزاء متورعا، ¬

_ (¬1) يعني بالفواصل حروف المقاطع.

وهو داخل عنده في باب السجع لأنه في الكلام المنظوم كالسجع في الكلام المنثور. أما أنواع المحسنات البديعية اللفظية الأخرى، وهي: التجنيس، والتصريع، ولزوم ما لا يلزم، والموازنة، واختلاف صيغ الألفاظ، وتكرير الحروف؛ فإنها عند ابن الأثير تعم القسمين جميعا. وفي مقالته (¬1) الثانية الخاصة بالصناعة المعنوية تكلم ابن الأثير بإسهاب عن المعاني. وقد دعاه ذلك إلى الحديث عن بعض المحسنات البديعية المعنوية، وهذه المحسنات هي: التجريد، والالتفات، والتفسير بعد الإبهام، والاستدراج، والاعتراض، والأحاجي أو الألغاز، والتناسب بين المعاني ويقسمه أقساما ثلاثة: الطباق، وصحة التقسيم، وترتيب التفسير الذي أراد به ما يشمل اللف والنشر. وقد توسع في معنى الطباق فجعله يشمل المقابلة، والمشاكلة، والمؤاخاة بين المعاني. وتكلم عن الاقتصاد والتفريط والإفراط، وهو يعني بالاقتصاد الحد الأوسط، وبالتفريط التقصير بالمعنى، وبالإفراط المبالغة، وتحدث عن الاشتقاق وعده نوعا من الجناس، كما تحدث عن التضمين، وقسمه قسمين: الاقتباس من القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وهو يكسب الكلام حسنا وطلاوة، وقسم آخر يجري في الشعر كما يجري في النثر، إذ يعلّق معنى البيت بما بعده، أو يعلّق فصل من الكلام المنثور بما يتلوه، وفي رأيه أن ذلك مقبول ولا ينبغي أن يعاب على نحو ما عابه بعض النقاد في الشعر. وأخيرا يتكلم عن الإرصاد ويقول إن أبا هلال سماه التوشيح، ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص: 122 - 310.

فمن ذلك قول بعضهم

وحقيقته أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية أرصدها له، أي أعدها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته. وعنده أن ذلك من محمود الصنعة، لأن خير الكلام ما دل بعضه على بعض. أما التوشيح عند ضياء الدين فمعناه أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى أي الداخلية كان شعرا مستقيما من بحر وقافية، وإذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى، كان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر وقافية أخرى، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح. فمن ذلك قول بعضهم: اسلم ودمت على الحوادث مارسا … ركنا ثبير أو هضاب حراء (¬1) ونل المراد ممكنا منه على ... … رغم الدهور وفز بطول بقاء فهذان البيتان من بحر الكامل التام والقافية هي الهمزة، ولكن إذا حذفنا من البيت الأول «أو هضاب حراء» ومن الثاني «وفز بطول بقاء» ظل البيتان قائمين وتحولا من بحر الكامل التام إلى بحر آخر هو مجزوء الكامل، وأصبحت صورتهما هكذا: اسلم ودمت على الحوا … دث مارسا ركنا ثبير ونل المراد ممكنا … منه على رغم الدهور ويعقب ضياء الدين على هذا النوع بأنه لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم، وأن حسنه منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البراعة. ¬

_ (¬1) ثبير: الجبل المعروف عند مكة. حراء جبل بمكة فيه غار، وكان الرسول، قبل أن يوحى إليه، يأتيه ويخلو بغاره فيتحنث فيه، أي يتعبد لله.

وقد أشار صاحب المثل السائر أخيرا إلى اختلاف البلاغيين في بعض مصطلحات الفنون البديعية وألقابها، بل منهم من يضع لفن واحد من البديع اسمين اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان، وليس الأمر كذلك بل هما نوع واحد، وذلك كما فعل «الغانمي» حينما ذكر «التبليغ» و «الإشباع» على أنهما نوعان من البديع مختلفان، مع أنهما من حيث المضمون سواء، لا فرق بينهما بحال، كما ذكر أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين النوعين بعينهما «الإيغال»، وهو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، أي قافيته، ثم يأتي بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر، كقول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا … وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية وهو «كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع» فلما احتاج إلى القافية وجاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة. ولا يفوت ضياء الدين بعد ذلك أن يشير إلى ولع بعض الكتاب والشعراء بالمحسنات البديعية وتفننهم في اختراع صور منها خرجت بالكلام عن موضوع علم البيان. وممن فعل ذلك الحريري في رسائل تضمنتها بعض مقاماته، ففي رسالة نراه يبيّنها على كلمة مهملة وكلمة معجمة، كقوله: «الكرم، ثبت الله جيش سعودك، يزين، واللؤم، غض الدهر جفن حسودك، يشين، والأروع يثيب، والمعور (¬1) يخيب». وفي رسالة ثانية يبنيها على عبارات تقرأ طردا وردا، أي لا تستحيل ¬

_ (¬1) المعور: كل من بدا فيه موضع خلل للضرب.

بالانعكاس، كقوله: «لذ بكل مؤمل إذا لّم وملك بذل». وقوله: أسل جناب غاشم … مشاغب إن جلسا وفي رسالة ثالثة يبنيها على صورة تجعلها تقرأ من أولها بوجه، ومن آخرها بوجه آخر، كقوله: «الإنسان صنيعة الإحسان، وكسب الشكر استثمار السعادة، وفصاحة المنطق سحر الألباب، وزينة الرعاة مقت السعاة، وتناسي الحقوق ينشئ العقوق». وفي رسالة رابعة ينشئها على أساس حرف غير منقوط، وآخر منقوط كقوله: سيّد قلّب سبوق مبرّ … فطن مغرب عزوف عيوف مخلف متلف أغرّ فريد … نابه فاضل زكيّ أنوف ويعلق ضياء الدين بن الأثير على مثل هذه الحيل البديعية بقوله: «كل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة، لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها، وكذلك البلاغة، فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني ... وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسائله لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة، وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة .... وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني، فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه ولا داخلا في بابه. ولو كان ذلك مما يوصف بحسن في ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز وجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة، أو ورد في كلام العرب الفصحاء، ولم نره في شيء من أشعارهم وخطبهم» (¬1). ¬

_ (¬1) المثل السائر ص: 308.

4 - التيفاشي المغربي

وأخيرا يصدر حكمه على هذا النوع من الكلام بقوله: «وكل ذلك وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان، والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة لا بدرجة الفصاحة والبلاغة» (¬1). وكأني بصاحب المثل السائر يرمي من وراء هذا التعليق إلى التنبيه على خطورة الإسراف في اختراع الحيل البديعية التي تفسد الأدب والذوق معا، وتعطي الغلبة في صناعة القول للصنعة على الطبع. ولعل فيما أوردناه عن ضياء الدين بن الأثير ما يعطي صورة عن فنون البديع التي عالجها كجزء من علم البيان لا كعلم قائم بذاته كما فعلت مدرسة عبد القاهر والزمخشري والسكاكي ومن تأثر بهم. 4 - التيفاشي المغربي: هو أحمد بن يوسف التيفاشي المغربي المتوفى بمصر سنة 651 للهجرة، وله مؤلف في علم البديع أحصى فيه سبعين محسنا من المحسنات البديعية. 5 - زكي الدين بن أبي الأصبع المصري: المتوفي سنة 654 للهجرة، وله ثلاثة كتب هي: كتاب الأمثال (¬2) وكتاب تحرير التجبير، وكتاب بديع القرآن. أما كتاب «الأمثال» فيتضمن ما جمعه ابن أبي الأصبع من أمثال أبي تمام، وأمثال أبي الطيب المتنبي، وما ولّده أبو الطيب من أمثال أبي تمام، ¬

_ (¬1) نفس المرجع. والشعبذة والشعوذة: خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين. (¬2) انظر بخصوص هذا الكتاب خزانة الأدب لا بن حجة الحموي ص 83.

6 - علي بن عثمان الأربلي

وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال، وزاد على ذلك أمثال دواوين الإسلام والحماسة، وأمثال أبي نواس، وختم الجميع بأمثال العامة، وبما سار من أمثال الطغرائي في لامية العجم كقوله: حب السلامة يثني عزم صاحبه … عن المعالي ويغري المرء بالكسل أعلّل النفس بالآمال أرقبها .. … ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! وإنما رجل الدنيا وواحدها .. … من لا يعول في الدنيا على رجل وأما كتاب «تحرير التحبير» فقد أحصى فيه من المحسنات البديعية مائة وعشرين نوعا، بدأها بمحسنات ابن المعتز وقدامة، وثنّى بما جمعه من كتب البلاغيين بعدهما، فبلغ ذلك كله اثنين وتسعين محسنا، ثم أضاف إلى هذا العدد ثلاثين محسنا جديدا، منها عشرون من زياداته هو، والباقي إما مسبوق إليه أو متداخل عليه. وفي كتابه الثالث «بديع القرآن» عرض ابن أبي الأصبع لما في القرآن من محسنات بديعية بلغ بها مائة محسّن وثمانية، كما يقول في مقدمة الكتاب. ومما يلاحظ عليه أنه في معالجته لفنون البديع قد أدخل بعض مباحث المعاني في البديع، وخاصة صور الإطناب، كالتكرار والتفصيل، والتذييل، والاستقصاء، والإيضاح، والبسط، والإيجاز. ومعنى ذلك أن البديع عنده، وربما قبله، أخذ يشتمل لا على الصور البيانية فحسب، كما كان الشأن منذ ابن المعتز، وإنما أخذ يشتمل أيضا على كثير من أساليب علم المعاني. 6 - علي بن عثمان الأربلي: المتوفى سنة 670 من الهجرة كان معاصرا لا بن أبي الأصبع

7 - ابن مالك

المصري، وقد نظم قصيدة مدح من ستة وثلاثين بيتا في كل بيت منها نوع من أنواع البديع التي كانت شائعة في عصره. وقد وضع بإزاء كل بيت اسم المحسن البديعي الذي تضمنه. وهذه القصيدة تعدّ المحاولة الأولى في الاتجاه الذي أخذ بعد ذلك يشيع بين الشعراء بدخولهم في ميدان البديع ينظمون فنونه في قصائد عرفت فيما بعد باسم «البديعيات». وفيما يلي نموذج من بديعية الأربلي: بعض هذا الدلال والإدلال … حال بالهجر والتجنب حالي (الجناس اللفظي) طلب دونه منال الثريا … وهوى دونه زوال الجبال (الغلو) وغرام أقله يذهل الآ … ساد في خيسها عن الأشبال (المبالغة) ما جد بعض فضله بذله الما … ل وقل الذي يجود بمال (رد العجز على الصدر) ليس فيه عيب يعدده الحساد … إلا العطاء قبل السؤال (الاستثناء) (¬1) 7 - ابن مالك: هو بدر الدين محمد بن جمال الدين بن مالك الطائي الأندلسي أصلا الدمشقي دارا المتوفى سنة 686 من الهجرة. وأبوه الشيخ جمال الدين بن مالك العالم النحوي صاحب الألفية المشهورة في النحو. وبدر الدين نحوي كأبيه، وله مؤلفات في النحو والبلاغة، وكتابه ¬

_ (¬1) انظر القصيدة وترجمة الأربلي في فوات الوفيات لا بن شاكر الكتبي ج 2 ص: 118.

«المصباح في علوم المعاني والبيان والبديع» هو تلخيص لكتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي. وقد جرّد كتابه من تعقيدات السكاكي المنطقية والكلامية والفلسفية التي قدّم بها لأقسام المفتاح وفصوله، كما أدخل عليه بعض تعديلات، أهمها نقل مبحث البلاغة والفصاحة من ذيل البيان إلى فاتحة مختصرة. وقد جرى بدر الدين على رأي السكاكي في أن علمي المعاني والبيان يرجعان إلى البلاغة، وأن المحسنات البديعية ترجع إلى الفصاحة، كما اعترف بأن هذه المحسنات توابع لعلمي المعاني والبديع، ولكنه مع ذلك جعلها علما مستقلا بذاته سماه «علم البديع»، وبذلك مهد الطريق أمام البلاغة لتصبح متضمنة علوما ثلاثة: المعاني والبيان والبديع. ولعل أهم شيء تميّز به المختصر على الأصل هو توسع بدر الدين في المحسنات البديعية، فقد ذكر منها أربعة وخمسين نوعا، على حين ذكر السكاكي منها ستة وعشرين فقط. ولا ريب أن بدر الدين كان متأثرا في ذلك برجال البديع في عصره، فقد توسعوا في إحصاء أنواعه حتى تجاوزوا بها المائة، بل إن منهم من بلغ بها مائة وخمسة وعشرين نوعا. وقد ردّ بدر الدين المحسنات البديعية التي عرض لها في كتابه إلى الفصاحة اللفظية والمعنوية مجاريا في ذلك السكاكي وغيره من أصحاب البديع المتقدمين عليه. ولكنه انفرد عنهم جميعا بجعل المحسنات البديعية المعنوية قسمين: قسما يعود إلى الإفهام والتبيين، مثل: المذهب الكلامي، والتتميم، والتقسيم، والاحتراس، والتذييل، والاعتراض، والتجريد، والمبالغة، وقسما يعود إلى التزيين والتحسين، مثل، اللف والنشر، والجمع مع التقسيم، والجمع مع التفريق.

وفيما يلي نبذة عن كل عالم من أولئك العلماء توضح الجهد الذي بذله والمساهمة التي أسهم بها في دراسة علم البديع.

ذلك هو مدى التطور الذي تم لعلم البديع في القرن السابع الهجري على أيدي سبعة من أشهر رجاله هم: فخر الدين الرازي، والسكاكي، وضياء الدين ابن الأثير، والتيفاشي المغربي، وابن أبي الأصبع المصري، وعلي بن عثمان الأربلي، وبدر الدين بن مالك. وإذا انتقلنا إلى القرن الثامن الهجري فإننا نلتقي بستة علماء كان لهم اهتمام بالبديع وفنونه، ومن هؤلاء من عرض للبديع في ثنايا درسه للبيان العربي بمفهومه العام، ومنهم من قصد قصدا إلى دراسة البديع لذاته في عمل مستقل. وفيما يلي نبذة عن كل عالم من أولئك العلماء توضح الجهد الذي بذله والمساهمة التي أسهم بها في دراسة علم البديع. 1 - يحيى بن حمزة: هو يحيى بن حمزة العلوي اليمني المتوفى سنة 349 للهجرة، وقد اشتهر بعلوم النحو والبلاغة وأصول الفقه، وله فيها مصنفات مختلفة، يهمنا منها كتابه المسمى «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» والذي يقع في ثلاثة أجزاء. ففي مقدمة هذا الكتاب يقفنا يحيى بن حمزة على حقيقتين: الأولى أن من ألّفوا في البلاغة إما مطيل ممل وإما موجز مخل، والحقيقة الثانية أنه لم يطلع إلا على أربعة كتب مما كتبه البلاغيون قبله، وهذه هي: «المثل السائر» لا بن الأثير، وكتاب «التبيان في علم البيان» لعبد الواحد الزملكاني الدمشقي، وكتاب «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» للفخر الرازي، وكتاب «المصباح في المعاني والبيان والبديع» لبدر الدين بن مالك. كذلك يعطي في المقدمة السبب الذي دعاه إلى تأليف كتابه، ومفاده

2 - التنوخي

أنه شرع يقرأ على بعض طلابه كتاب الكشاف للزمخشري فطلبوا منه أن يؤلف لهم كتابا في البلاغة يسترشدون به في فهم الكشاف المؤسس على البلاغة وقواعدها، فأجابهم إلى طلبهم وألّف لهم هذا الكتاب. والكتاب بحث في قواعد البلاغة سواء ما اتصل منها بالمعاني أو البيان أو البديع الذي يعنينا هنا في المحل الأول. وكل ما ذكره يحيى بن علي في كتابه عن علم البديع قد استوحاه في الواقع من كتاب «المصباح في المعاني والبيان والبديع» لبدر الدين بن مالك. فهو يجري مع بدر الدين في تقسيم علم البديع إلى ما يتعلق بالفصاحة اللفظية، وما يتعلق بالفصاحة المعنوية. وفي بحثه للفصاحة اللفظية ساق يحيى بن علي عشرين محسنا لفظيا، منها الجناس، والترصيع، والتوشيح، والالغاز، وقد عدّ من ذلك الطباق مع أنه من محسنات المعنى لا اللفظ. وفي حديثه عن الفصاحة المعنوية أورد خمسة وثلاثين محسنا معنويا، منها التشبيه، والسرقات الشعرية مستوحيا ما قاله فيها من كلام ابن الأثير. ثم ختم حديثه عن البديع بتحديد معناه وبيان أقسامه إجمالا. تلك خلاصة موجزة لما جاء في كتاب يحيى بن علي عن علم البديع. 2 - التنوخي: صاحب كتاب الأقصى القريب في علم البيان. هو محمد بن عمرو التنوخي المتوفى سنة 749 للهجرة، كان معاصرا ليحيى بن علي وتوفيا في سنة واحدة. وفي عنوان الكتاب ما ينبئ عن منحى التنوخي ومفهومه للبيان أو

3 - ابن قيم الجوزية

البلاغة. فهو لا يجري على طريقة عبد القادر والزمخشري والسكاكي، تلك الطريقة التي تقوم على أساس التمييز والفصل بين علوم البلاغة الثلاثة المعروفة، وإنما نراه يتبع طريقة ابن الأثير التي تعد البلاغة وحدة عضوية مترابطة. ثم هو بعد ذلك يخالف ابن الأثير في طريقة البحث والمعالجة، فإذا كان ابن الأثير يعتمد في بحثه على الذوق الأدبي، فإن التنوخي يعتمد على النحو والمنطق. على أن حظ البديع من كتاب التنوخي ضئيل، فهو يتكلم فيه عن الاعتراض، وتأكيد المدح بما يشبه الذم الذي يعده صورة من صور الكناية، كما يتكلم عن الاشتقاق، والتكرار، والتقسيم، والمبالغة، والتضمين، والاستدراج، والسجع، ولزوم ما لا يلزم، والجناس الذي أطال فيه. وكذلك ذكر أنواعا من البديع يمكن أن ترد إلى البيان. مثل التوشيح أو الموشحات. تلك هي فنون البديع التي ساقها التنوخي في كتابه، وهي من ناحية قليلة العدد، ومن ناحية أخرى جاءت مختلفة في الكتاب على حسب مقتضيات البحث، فلا فصل ولا تفريق بين اللفظي والمعنوي منها، كما فعل بعض البلاغيين المتقدمين عليه. 3 - ابن قيم الجوزية (¬1): هو شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيّم الجوزية المتوفى سنة 751 للهجرة. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج 4 ص: 21. وفي النجوم الزاهرة ج 4 ص: 249.

4 - صفي الدين الحلي

كان بارعا في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه، ولغة ونحو، وحديث وأصول. ولزم شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وغلب عليه حبه له حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. واعتقل مع ابن تيمية في قلعة دمشق، فلما مات ابن تيمية أفرج عنه. وكان مغرما بجمع الكتب فحصل منها ما لا يحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم. وقد صنّف وألّف كتبا كثيرة منها: «كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلوم البيان»، وهو يحتوي على مقدمة وقسمين. وفي المقدمة إشادة بعلوم البيان، لأن العلم بها في نظره يعين على معرفة إعجاز القرآن. وفي المقدمة يتحدث أيضا عن بعض مباحث البيان من حقيقة ومجاز واستعارة وتمثيل. وفي القسم الأول من الكتاب يتحدث عن الكناية، ثم يتطرق إلى محسنات البديع المعنوية فيحصي منها نحو ثمانين نوعا، وفي القسم الثاني الذي عقده للفصاحة يتكلم عن المحسنات البديعية اللفظية ويذكر منها أربعة وعشرين نوعا. تلك هي مباحث الكتاب بإيجاز، وهي في الواقع ترديد لما اهتدى إليه المتقدمون في ميدان البيان أو البديع، وليس لا بن الجوزية فيها إلا فضل الجمع، وإن كان جمعا ينقصه دقة الترتيب والتبويب. 4 - صفي الدين الحلي (¬1): هو الشاعر المشهور صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الطائي الحلي ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ج 2 رقم: 2431.

المتوفى سنة 750 للهجرة. أحب الأدب ومهر في فنون الشعر كلها، وتعلم المعاني والبيان، وصنّف فيها، واحترف التجارة، فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في التجارة، ثم يرجع إلى بلاده، وفي غضون ذلك يمدح الملوك والأعيان. وديوان صفي الدين الحلي مشهور يشتمل على فنون كثيرة من الشعر، وله في مدح الرسول قصيدة طويلة تبلغ مائة وخمسة وأربعين بيتا من بحر البسيط، وهي على غرار بردة البوصيري المشهورة موضوعا ووزنا وقافية. وهذه القصيدة هي المعروفة ببديعية صفي الدين والتي مطلعها: إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم … واقر السّلام على عرب بذي سلم وهذه البديعية تشتمل على مائة وخمسة وأربعين محسنا، لأن كل بيت فيها يتضمن محسنا من محسنات البديع. وقد قصر الأبيات الخمسة الأولى منها على الجناس الذي جعل له فيها اثني عشر نوعا. ومطلع بديعية الحلي المشار إليه آنفا يشتمل من المحسنات على براعة الاستهلال أو حسن الابتداء كما يسميه ابن المعتز، ويعني به دلالة المطلع من البدء على موضوع القصيدة. كذلك يشتمل المطلع على نوعين من الجناس بين «سلام وسلم» و «علم وسلم». وقد سمى الحلي بديعيته «الكافية البديعية في المدائح النبوية» وألّف عليها شرحا سماه «النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية»، وفي مقدمة الشرح نبذة عمن سبقه إلى التأليف في البديع. ويقول ابن حجة الحموي

5 - ابن جابر الأندلسي

إن الحلي «ذكر أنه جمع بديعيته من سبعين كتابا» (¬1). ولهذه البديعية شرح آخر وضعه عبد الغني النابلسي وسماه «الجوهر السني في شرح بديعية الصفي». ويلاحظ على بديعية الحلي أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي في كل بيت، اكتفاء بالتعريف به عن طريق المثال. ولعله أراد بذلك أن يسبغ على بديعيته صفة الوضوح والجمال الشعري، وأن يجنبها صفة التعقيد في النظم عند التزام تسمية النوع البديعي في البيت. وإذا كانت قصيدة الأربلي السابقة الذكر هي المحاولة الأولى في القصائد البديعيات فإن بديعية صفي الدين الحلي هي المحاولة الثانية في هذا الاتجاه. 5 - ابن جابر الأندلسي (¬2): هو محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الضرير المتوفى سنة 780 للهجرة. قرأ القرآن والنحو والحديث على شيوخ عصره وكان شاعرا جيد النظم عالما بالعربية، وذكر لسان الدين بن الخطيب في تاريخ غرناطة أن ابن جابر نظم فصيح ثعلب، وكفاية المتحفظ، وغير ذلك. وقد رحل من الأندلس إلى مصر والشام واصطحب معه أبا جعفر الغرناطي، فكان ابن جابر ينظم الشعر والغرناطي يكتب. ولابن جابر بديعية على قافية الميم من بحر البسيط سماها «الحلة ¬

_ (¬1) انظر خزانة الأدب لتقي الدين ابن حجة الحموي ص: 368. (¬2) ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج 3 ص: 429. وفي نكت الهميان للصفدي ص: 244.

السيرا في مدح خير الورى» نظمها على طريقة بديعية صفاء الدين الحلي وشرحها صاحبه أبو جعفر. وبديعية ابن جابر تقع في مائة وسبعة وعشرين بيتا، واستهلها بقوله: بطيبة انزل ويمم سيد الأمم … وانثر له المدح وانشر أطيب الكلم ويذكر أبو جعفر في مقدمة شرحه لهذه البديعية أن ابن جابر اتبع في سرد المحسنات البديعية الخطيب القزويني في كتابيه التلخيص والإيضاح، وذلك يعني أنه قصر بديعية على المحسنات البديعية ولم يخلطها ببعض فنون البيان كما فعل غيره. وقد التقى ابن جابر مع صفي الدين الحلي في عدم الالتزام بتسمية النوع البديعي في البيت، ولكنه خالفه من جهة عدم الإكثار من المحسنات في قصيدته مكتفيا فيها بنحو ستين محسنا، على حين تضمنت قصيدة الحلي مائة وخمسة وأربعين محسنا. والمتصفح لبديعية ابن جابر يرى أنه جرى فيها على طريقة بدر الدين بن مالك من حيث تقديم المحسنات اللفظية على المحسنات البديعية. ويبدو أن المحاولات الثلاث أو البديعيات الثلاث التي عرضنا لها حتى الآن، وأغني بها بديعية كل من الأربلي، وصفي الدين الحلي، وابن جابر الأندلسي قد لفتت أنظار بعض العلماء الشعراء فراحوا يتبارون في نظم بديعيات على غرارها يمدحون بها الرسول ويضمنونها من المحسنات البديعية ما قدروا عليه مما عرفوا منها، وكأن تأثرهم بصفي الدين الحلي أكثر من غيره. ومن أشهر من اقتدى به من هؤلاء العلماء:

6 - عز الدين الموصلي

6 - عز الدين الموصلي (¬1): المتوفى سنة 789 للهجرة. هو عز الدين علي بن الحسين الموصلي الشاعر المشهور، نزل دمشق وأقام بحلب مدة، وبرع في النظم، وجمع ديوان شعره في مجلد واحد. وللموصلي بديعية مشهورة مطلعها: براعة تستهل الدمع في العلم … عبارة عن نداء المفرد العلم وهي قصيدة نبوية في مائة وخمسة وأربعين بيتا، عارض بها بديعية الصفي الحلي، وزاد عليه الالتزام بأن يودع كل بيت اسم النوع البديعي بطريق التورية أو الاستخدام. مثال ذلك كلمة «براعة تستهل» في مطلع بديعيته السابق الذكر، فإنها تشير إلى «براعة الاستهلال»، أحد المحسنات البديعية. وكأني بالموصلي أراد بذلك أن يظهر تفوقه على صفي الدين الذي لم يلتزم بإدخال أسماء المحسنات البديعية في نسيج الأبيات اكتفاء بالتعريف بها بالأمثلة من ناحية، وبذكر أسمائها أمام الأبيات أو بحذائها من ناحية أخرى. وقد علق ابن حجة الحموي على بديعية الموصلي بقوله: «للشيخ عز الدين الموصلي قصيدة بديعية التزم فيها بتسمية النوع البديعي وورّى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي، لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل .... وربما رضي في الغالب بتسمية ¬

_ (¬1) ترجمته في الدرر الكامنة ج 3 ص: 112.

النوع ولم يعرب عن المسمى، ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقّد نظما» (¬1). ويقارن عبد الغني النابلسي بين الموصلي والحلي في مقدمة شرح بديعيته هو المسمى «نفحات الأزهار» بقوله: «ثم جاء بعد صفي الدين الشيخ عز الدين الموصلي، فعارضه بقصيدة على منوال قصيدته، وذكر من الأنواع ما ذكره، وزاد عليه بعض شيء يسير من اختراعاته معجبا بذكر اسم النوع البديعي في ألفاظ البيت موريا به لئلا يحتاج إلى تعريف النوع من خارج النظم، ولكنه تعسف وتكلف في غالب أبياته، وهجر موضع الرقة والانسجام، ثم شرحها شرحا يبيّن فيه مقصده ومراده مع الاختصار، ولم يشف غلة الأفكار». هذا وللشيخ عز الدين الموصلي بديعية أخرى لامية على وزن قصيدة كعب بن زهير التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيم إثرها لم يفد مكبول وبعد فتلك نبذة تصور حال البديع في القرن الثامن، كما تصور الجهود التي بذلها في سبيل تطويره ستة من علماء هذا العصر، ثلاثة منهم عرضوا للبديع، في ثنايا كتبهم عن البيان العربي، أو عرضوا له على أنه علم بلاغي مستقل عن علمي المعاني والبيان، وهؤلاء هم: يحيى بن حمزة، والتنوخي، وابن قيم الجوزية. أما الثلاثة الآخرون فمن أصحاب البديعيات، وهم: صفي الدين الحلي، وابن جابر الأندلسي، وعز الدين الموصلي. ... ¬

_ (¬1) انظر خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص: 2.

المتبارين فى منحاه

[المتبارين فى منحاه] وإذا ما اجتزنا القرن الثامن إلى القرن التاسع الهجري وما بعده فإننا نرى أن الاتجاه الغالب في دراسة البديع يتمثل في نظم البديعيات التي تنحو منحى صفي الدين الحلي أو عز الدين الموصلي وتتبارى مع هذا أو ذاك في منحاه. وأول هؤلاء المتبارين هو: 1 - ابن حجة الحموي (¬1): المتوفى سنة 837 للهجرة. هو تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي، كان إماما عارفا بفنون الأدب، متقدما فيه طويل النفس في النظم والنثر. وله مصنفات كثيرة منها: بروق الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم، وكشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام، وثمرات الأوراق في المحاضرات، وخزانة الأدب، وديوان شعر بديع. ولا بن حجة الحموي بديعية مشهورة في مدح الرسول تبلغ مائة واثنين وأربعين بيتا، وقد استهلها بقوله: لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم … براعة تستهل الدمع في العلم وقد حاول في نظمها كما ذكر في مقدمة شرحه لها أن يجمع بين الحسنيين، أعني أن يقتدي بعز الدين الموصلي في تضمين ألفاظ البيت ما يشير إلى نوع المحسن البديعي الذي بناه عليه، وأن يقتدي بصفي الدين الحلي في رقة شعره وجمال نظمه وسلاسته. وما من شك في أن بديعيته أرق وأسلس في نظمها من بديعية عز الدين، ولكنه لم ينجح كل النجاح في التخلص مما عابه عليه من ثقل النظم والتكلف الشديد في بديعيته. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في «الضوء اللامع» للحافظ السخاوي، وكشف الظنون لحاجي خليفة.

وليس لا بن حجة في بديعيته فضل اختراع أو زيادة على من تقدموه من أصحاب البديع، وكل ما له من فضل أنه جمع فيها من أعمال السابقين مائة واثنين وأربعين نوعا من المحسنات يختلط اللفظي فيها بالمعنوي من غير فصل أو تحديد. وكل ما يلحظ من خلاف بينه وبين سابقيه هو في تسمية بعض الأنواع، فالتصدير، والالتزام مثلا عنده هما رد العجز على الصدر، ولزوم ما لا يلزم عند غيره. ولعل التغاير في تسمية بعض أنواع المحسنات عند ناشئ من صعوبة تطويع اسم النوع كله للنظم. وقد وضع ابن حجة الحموي شرحا مطولا لبديعيته في 467 صفحة أطلق عليه اسم «خزانة الأدب». وربما كان هذا الشرح أهم من البديعية ذاتها، لأنه قد حوّله حقيقة إلى «خزانة أدب» أودعها الكثير من علمه ومعارفه. فهو يكثر في الخزانة من الأمثلة والشواهد وخاصة لشعراء عصره والقريبين منهم في العصر الأيوبي، وكثيرا ما يعرض لنوادرهم ومساجلاتهم الأدبية مع ذكر ما يستحسنه من أشعارهم. وقد يستطرد فيسوق بعض ملاحظات له أو لغيره متصلة بالبديع، أو يورد تراجم لبعض الأدباء، أو يتتبع المعاني التي أخذها شاعر من آخر، كتتبعه للمعاني التي أخذها صلاح الدين الصفدي من جمال الدين بن نباته. فالشرح الذي أودعه «خزانة الأدب» هو في الواقع موسوعة أدبية تجمع بين اللغة والأدب والبلاغة والنقد والتاريخ والتراجم ومنظوم الكلام ومنثوره، وهو في ذلك كله مرجع عام لا غنى عنه، ومرجع خاص لشعراء العصرين الأيوبي والمملوكي.

2 - وللسيوطي

2 - وللسيوطي (¬1): جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال الخضيري الأسيوطي المتوفى سنة 911 للهجرة بديعية سماها «نظم البديع في مدح خير شفيع» وله عليها شرح، ولكنها لم تنل من الشهرة ما نالته غيرها من بديعيات. 3 - عائشة الباعونية: هي التقية عائشة بنت يوسف بن أحمد بن نصر الباعوني المتوفاة سنة 922 للهجرة، أثنى عليها كثير من الأدباء، وهي شاعرة ذات ديوان شعر بديع. ولها في مدح الرسول بديعية فريدة في مائة وثلاثين بيتا، أطلقت عليها اسم «الفتح المبين في مدح الأمين» (¬2) ومطلعها: في حسن مطلع أقماري بذي سلم … أصبحت في زمرة العشاق كالعلم وتحدثنا الباعونية في شرحها المختصر لبديعيتها عن سبب نظمها فتقول: «هذه قصيدة صادرة عن ذات قناع شاهدة بسلامة الطباع، منقحة بحسن البيان مبنيّة على أساس تقوى من الله ورضوان، سافرة عن وجوه البديع سامية بمدح الحبيب الشفيع، مطلقة من قيود تسمية الأنواع، مشرقة الطوالع في أفق الإبداع، موسومة بين القصائد النبويات بمقتضى الإلهام الذي هو عمدة أهل الإشارات «بالفتح المبين في مدح الأمين». وتقول عن الشرح: «واستخرت الله تعالى بعد تمام نظمها وثبوت ¬

_ (¬1) انظر ترجمة هذا العالم الجليل بقلمه في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» ص: 155، وقد أعد له بروكلمان 415 مصنفا بين كتب كثيرة ورسائل ومقامات طبع أكثرها. (¬2) هذه البديعية وشرحها على هامش «خزانة الأدب» لا بن حجة الحموي ابتداء من صفحة: 310.

اسمها في شرح يروق الطالب موارده وتعظم عند المستفيد فوائده، وهو أن أذكر بعد كل بيت حد النوع الذي بنيته عليه، وأقر شاهده فإن ذلك مما يفتقر إليه، وأنحو في ذلك الاختصار ولا أخل بواجب، وأنبه على ما لا بدّ منه قصدا لنفع الطالب ....». ومن هذه الكلمة نرى أن حب الرسول هو الدافع إلى نظم هذه البديعية التي حشدت فيها مائة وثلاثين نوعا من المحسنات البديعية، وأنها لم تتقيّد بتسمية الأنواع، وأن طريقتها في الشرح أن تورد بعد البيت حد النوع الذي بنته عليه مشفوعا بالشاهد في اختصار غير مخل. وقد وصف الشيخ عبد الغني النابلسي الباعونية بقوله: «إنها فاضلة ومن تآليفها هذه البديعية الفريدة المسماة بالفتح المبين في مدح الأمين، نظمتها على منوال تقي الدين بن حجة، مع عدم تسمية النوع تمسكا بطلاقة الألفاظ وانسجام الكلمات، وشرحتها بهذا الشرح المختصر الذي أسفرت فيه عن لسان البيان بقدر الطاقة والإمكان، ولها ديوان شعر بديع في المدائح النبوية كله لطائف، ومن تآليفها مولد جليل للنبي صلّى الله عليه وسلّم اشتمل على فرائد النظم والنثر» (¬1). 4 - ومن أصحاب البديعيات أيضا صدر الدين بن معصوم الحسيني المدني المتوفى سنة 1117 للهجرة بمدينة حيدر أباد. وقد استهل صدر الدين هذا بديعيته بقوله: حسن ابتدائي بذكرى جيرة الحرم … له براعة شوق تستحل دمي وهي على غرار بديعية كل من عز الدين الموصلي وتقي الدين بن حجة، من حيث تضمين أبياتها أسماء المحسنات البديعية. وقد وضع لها ¬

_ (¬1) خزانة الأدب للحموي ص: 4.

شرحا سماه «أنوار الربيع في أنواع البديع»، وفيه تعرض- كسابقيه من أصحاب البديع- للحديث عمن صنفوا في البديع، ودونوه في مدائحهم النبوية البديعية. 5 - وممن عاصر صدر الدين واشتهر في هذا الميدان الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي (¬1) المتوفى سنة 1143 من الهجرة. وهو شاعر مولع بالبديع، له مؤلفات مختلفة، منها بديعيتان، نحا في إحداهما منحى صفي الدين الحلي وعائشة الباعونية، بمعنى أنه مثلهما لم يلتزم فيها اسم النوع البديعي، ومطلع هذه البديعية التي سمّاها «نسمات الأسحار في مدح النبي المختار» هو: يا منزل الركب بين البان فالعلم … من سفح كاظمة حييت بالديم وله فيها شرح سماه «نفحات الأزهار» تحدث فيه عمن ألفوا في البديع ومن نظموا البديعيات. أما بديعيته الثانية فمطلعها: يا حسن مطلع من أهوى بذي سلم … براعة الشوق في استهلالها ألمي وهي على منوال بديعية عز الدين الموصلي وتقي الدين بن حجة، من حيث تضمن كل بيت اسم النوع البديعي الذي بنى عليه. وقد كتب كل بيت من البديعية الثانية أمام ما يماثله في هامش البديعية الأولى، والتزم ذلك من طبعوا هذا الشرح. وللبديعية الثانية شرح وضعه القلعي مع البديعيات العشر. وفي شرحه «نفحات الأزهار» يحدثنا عن بديعيته الأولى بقوله: ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ الجبرتي ج 2 ص: 22.

وفي العصر الحديث نلتقي أيضا بآخرين من أصحاب البديعيات، ومن أشهر هؤلاء

«نظمت هذه القصيدة الميمية المسماة بنسمات الأسحار في مدح النبي المختار على طريقة تلك القصائد البديعية، معرضا عن نظم اسم النوع البديعي في أثناء البيت لأني رأيت ذلك إنما يكسب تنافر الكلمات وغرابة المباني وقلاقة (¬1) المعاني» ثم يستطرد إلى القول بأن التصرف في اسم النوع لضرورة النظم يجعل التعرف عليه من لا يعرف اسمه ورسمه أمرا صعبا. والغريب أنه مع نقده لهذا النوع من البديعيات يعمد إلى نظم قصيدة بديعية من طرازها!. كذلك ينبئنا في شرحه «نفحات الأزهار» أن أبيات كل من بديعيته تبلغ مائة وخمسين بيتا، وأنهما يشتملان على مائة وخمسة وخمسين محسنا بديعيا، بعد زيادة أنواع لطيفة وفنون ظريفة، لا توجد في البديعيات التي سبقته، «وربما اتفق في البيت الواحد النوعان والثلاثة بحسب انسجام القريحة في النظم، والمعتمد فيها على ما أسس البيت عليه» ثم يشير إلى أن شرحه وسط بين الإيجاز والإطناب حتى لا يشعر قارئه بالملل والسأم. ... تلك هي أهم البديعيات التي ظهرت قبل العصر الحديث، أي منذ قام بالمحاولة الأولى في هذا الاتجاه علي بن عثمان الأربلي في النصف الثاني من القرن السابع الهجري حتى عصر عبد الغني النابلسي. وفي العصر الحديث نلتقي أيضا بآخرين من أصحاب البديعيات، ومن أشهر هؤلاء: 1 - البيروتي (¬2): وهو السيد أحمد البربير البيروتي الذي ولد في دمياط ونشأ في بيروت ¬

_ (¬1) قلاقة المعاني: اضطرابها. (¬2) له ترجمة في تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان ج 4 ص: 199.

2 - الساعاتي

وتوفي في دمشق سنة 1226 للهجرة. وكان شاعرا أديبا، ومن آثاره الأدبية: مقامات البربير، على نسق مقامات الحريري، والشرح الجلي على بيتي الموصلي، توسع في شرحهما حتى استغرق كتابا كاملا فيه كثير من فنون الأدب، والبيتان لأحد شعراء القرن الثامن عشر الميلادي، عبد الرحمن الموصلي، وهما: إن مرّ والمرآة يوما في يدي … من خلفه ذو اللطف أسمى من سما دارت تماثيل الزجاج ولم تزل … تقفوه عدوا حيث سار ويمّما وللبيروتي هذا قصيدة بديعية في مدح الرسول أودعها الكثير من أنواع المحسنات ولها شرح وضعه مصطفى الصلاحي. 2 - الساعاتي: المتوفى سنة 1298 للهجرة. هو الأديب الشاعر محمود صفوت الزيلع الشهير بالساعاتي ولد في القاهرة سنة 1241 من الهجرة، وفي العشرين من عمره سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهنالك نم فضله عليه فأكرمه أمير مكة الشريف محمد ابن عون وصحبه فظل ملازما له وسافر معه إلى غزواته في نجد واليمن ووصف كثيرا من وقائعه في شعره. وعند ما عزل الشريف محمد بن عون عن إمارة مكة هاجر إلى مصر وفي صحبته الساعاتي، ثم سافر معه بعد ذلك إلى القسطنطينية، وفيها وقع بينه وبين الشيخ زين العابدين المكي تنافس أدبي. وفي أوائل عام 1268 للهجرة عاد إلى القاهرة فوظف بالحكومة وظل يتنقل من وظيفة إلى أخرى حتى فاجأته منيته سنة 1298 للهجرة، وهو عضو بمجلس أحكام الجيزة والقليوبية. وشعره إذا قيس بشعر من تقدموه

ببضعة قرون أو بشعر معاصريه أجود وأرقى. وديوان الساعاتي مطبوع، وله فيه قصيدة بديعية في مدح الرسول تبلغ مائة واثنين وأربعين بيتا التزم فيها تسمية أنواع البديع وعارض بها بديعية تقي الدين بن حجة الحموي. وقد نظمها سنة 1270 للهجرة واستهلها بقوله: سفح الدموع لذكر السفح والعلم … أبدى البراعة في استهلاله بدم وقد جرى في نظمها عل طريقة ذكر النوع البديعي واتباعه بالبيت الذي بناه عليه، وفيما يلي نموذج لذلك: التورية وكم بكيت عقيقا والبكاء على … بدر وتوريتي كانت لبدرهم الجناس التام أقمار تمّ تعالوا في منازلهم … فالصب مدمعه صب لبعدهم المطابقة قد طابقوا صحبتي بالسقم حين نأوا … ولو دنوا لشفوا ما بي من الألم وقد عني بشرح هذه البديعية شرحا وافيا عبد الله باشا فكري. ومن معاصري الساعاتي كثيرون لهم بديعيات، وقد تأثر بهذا الاتجاه بعض الشعراء المسيحيين فنظموا بديعيات في مدح عيسى عليه السّلام. ولعل الشيخ طاهر الجزائري المتوفي سنة 1341 للهجرة هو آخر من عرف بتعاطي هذا الفن، فقد نظم قصيدة بديعية وضع لها شرحا أطلق عليه اسم «بديع التلخيص وتلخيص البديع».

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن الاشتغال بعلم البديع لم يقف عند حد الكتب التي صنّفت فيه وتميّز الكثير منها بالأصالة والابتكار ولم يقف كذلك عند نظم البديعيات، هذا الاتجاه الذي ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري ثم أخذ الشعراء يتبارون ويفتنون فيه على نحو ما رأينا. أجل لم يقف الاشتغال بعلم البديع عند هذا الحد أو ذاك وإنما تجاوز ذلك أو انحط عن ذلك إلى نظم فنونه في متون شديدة الإيجاز والتعقيد والإبهام. مثل متن الجوهر المكنون (¬1) في الثلاثة الفنون، ومتن ابن الشحنة الحنفي. حقا قد يكون القصد من وراء هذه المنظومات التعليمية مساعدة الطالب على تذكر الفنون البديعية وحدودها وأقسامها عند الاقتضاء. ولكن أية فائدة يجنيها الطالب من حفظ أسماء ومصطلحات لا علم له بمدلولها، ولا يستطيع أن يستسيغها أو يتبينها إذا عرضت له في نص من النصوص الأدبية؟ وعلى سبيل المثال هل يفيد الطالب شيئا غير اليأس من البلاغة والنفور منها عند ما يقرأ الأبيات التالية التي أوردها صاحب متن الجوهر المكنون عند كلامه عن المحسنات البديعية المعنوية: وعدّ من ألقابه المطابقة … تشابه الأطراف والموافقة والعكس والتسهيم والمشاكلة … تزواج رجوع أو مقابلة تورية تدعي بإيهام لما … أريد معناه البعيد منهما؟ على أية حال إن المتون نظما كانت أو نثرا ليست محنة قاصرة على ¬

_ (¬1) صاحب هذا المتن هو عبد الرحمن الأخضري وهو نظم لكتاب «تلخيص المفتاح» للقزويني.

البديع وإنما هي محنة شملت العلوم العربية في العصور المتأخرة عند ما أخذت العقول بفعل عوامل شتى يرين عليها العقم والجمود. ... وبعد فقد عرضنا لنشأة علم البديع وتطوره في العصور المختلفة، وعرفنا على ضوء هذا العرض كيف كانت مباحثه في أول الأمر عنصرا من عناصر البيان العربي، ثم كيف أخذت هذه المباحث في العصور الأولى تتميز وتتحدد معالمها شيئا فشيئا حتى صارت علما مستقلا على يد ابن المعتز، وقدامة، وأبي هلال العسكري وابن رشيق وغيرهم، وأخيرا كيف جاء شعراء البديع والصنعة من أمثال أبي تمام فثغروا في الشعر ثغرة نفذ منها بالإضافة إليهم أصحاب البديع والبديعيات والمتون وراحوا جميعا ينظرون إلى البديع على أنه غاية لا وسيلة يستعان بها على تذوق الأساليب البيانية والارتقاء بها، وبذلك أساءوا من حيث أرادوا الإحسان. وإذا كان الشعراء والأدباء في العصور المتأخرة قد أسرفوا في استعمال البديع وصارت لهم فيه مدارس، وإذا كان علماء البديع قد توسعوا في مفهومه حتى شمل الصور البيانية وكثيرا من صور المعاني، وحتى أضافوا إليه ما ليس منه، فخلطوا بذلك بديعا مزيفا بالبديع الحقيقي- فإن ذلك كله لا يطعن في قيمة البديع بمقدار ما يدل على سوء فهمهم وقصورهم وجمودهم. ولعل في دراستنا لبعض فنون البديع ما يرجع بهذا العلم إلى صوره الجميلة عند ابن المعتز وقدامة وأبي هلال وأضرابهم، وما يرد إليه اعتباره كقيمة جمالية في الأدب.

فنون علم البديع

فنون علم البديع عرفنا من المقدمة السابقة في نشأة البديع وتطوره أن عبد الله بن المعتز هو أول من قام بمحاولة علمية جادة في سبيل تأسيس علم البديع وتحديد مباحثه التي كانت من قبل مختلطة بمباحث علم المعاني وعلم البيان. وتتمثل محاولته هذه في كتاب «البديع» الذي ألّفه وضمّنه ثمانية عشر فنا من فنون البديع. وقد مهدت محاولته السبيل أمام البلاغيين من بعده فتأثروها وأفادوا منها في تطوير هذا العلم واستكمال مباحثه وقضاياه. فقدامة بن جعفر وهو من معاصري ابن المعتز أولى البديع اهتمامه وزاد فيه تسعة أنواع جديدة، وأبو هلال العسكري اعتمد ما أتى به ابن المعتز وقدامة من فنون البديع وأضاف إليها حتى بلغت عنده سبعة وثلاثين نوعا، ثم جاء ابن رشيق القيرواني فزاد على من تقدموه تسعة أنواع لم يرد لها ذكر عندهم. وهكذا أخذت فنون البديع تنمو وتتكاثر على تعاقب الأجيال

المطابقة

والعصور حتى بلغت في القرن الثامن الهجري عند الشاعر صفي الدين الحلي مائة وخمسة وأربعين محسنا بديعيا. وهذه المحسنات يقصد بها تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة بخلوها عن التعقيد المعنوي. والمحسنات البديعية ضربان: معنوي يرجع إلى تحسين المعنى أولا وبالذات، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضا. وضرب لفظي يرجع إلى تحسين اللفظ أصلا، وإن تبع ذلك تحسين المعنى لأن المعنى (إن) عبّر عنه بلفظ حسن استتبع ذلك زيادة في تحسين المعنى. وليس من غرضنا هنا التوسع في دراسة المحسنات البديعية إلى حد الإلمام بها جميعها، وإنما الغرض هو التركيز على أهم هذه المحسنات للتعرف عليها وبيان أثرها في تحسين الكلام لفظا ومعنى. ولما كانت المعاني هي الأصل والألفاظ توابع وقوالب لها، فإننا نبدأ بدراسة المحسنات المعنوية. المحسنات البديعية المعنوية المطابقة ويقال لها أيضا: التطبيق، والطباق، والتضاد. والمطابقة في أصل الوضع اللغوي أن يضع البعير رجله موضع يده، فإذا فعل ذلك قيل: طابق البعير. وقال الأصمعي: المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي

ذوات الأربع. وقال الخليل بن أحمد: طابقت بين الشيئين، إذا جمعت بينهما على حد واحد. وليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية أدنى مناسبة، ذلك لأن المطابقة أو الطباق في اصطلاح رجال البديع هي: الجمع بين الضدين أو بين الشيء وضده في كلام أو بيت شعر. كالجمع بين اسمين متضادين من مثل: النهار والليل، والبياض والسواد، والحسن والقبح، والشجاعة والجبن، وكالجمع بين فعلين متضادين مثل: يظهر ويبطن، ويسعد ويشقى، ويعز ويذل، ويحيي ويميت. وكذلك كالجمع بين حرفين متضادين، نحو قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، فالجمع بين حرفي الجر «اللام وعلى» مطابقة، لأن في «اللام» معنى المنفعة وفي «على» معنى المضرة، وهما متضادان، ومثله قول الشاعر: على أنني راض بأن أحمل الهوى … وأخلص منه لا علي ولا ليا وقد تكون المطابقة بالجمع بين نوعين مختلفين كقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فإن أحد المتضادين اسم وهو «ميتا» والآخر فعل وهو «أحييناه». وقال زكي الدين بن أبي الأصبع المصري: المطابقة ضربان: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة. وضرب يأتي بألفاظ المجاز. 1 - فالضرب الذي يأتي بألفاظ الحقيقة هو ما يسمى المطابقة أو الطباق، ومن أمثلته قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا، وقوله تعالى أيضا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، وقوله: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ.

ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة للكبر، ومن الحياة للموت، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الحياة مستعتب (¬1)، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار». ومن شواهد المطابقة الحقيقية شعرا قول الحماسي: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد … لنفسي حياة مثل أن أتقدما وقول آخر: لئن ساءني إن نلتني بمساءة … لقد سرني أني خطرت ببالك 2 - والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز يسميه قدامة بن جعفر «التكافؤ» ومنه قول الشاعر: حلو الشمائل وهو مر باسل … يحمي الدمار صبيحة الإرهاق فقوله «حلو ومر» يجري مجرى الاستعارة، إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق. ومنه أيضا قول الشاعر: إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب … تحرك يقظان التراب ونائمه فالمطابقة هي بين «اليقظان والنائم»، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز. وهذا هو «التكافؤ» عند قدامة وابن أبي الأصبع. أما المطابقة عند قدامة ومن اتبعه فهي اجتماع المعنيين المختلفين في لفظة واحدة مكررة، كقول زياد الأعجم: ¬

_ (¬1) استرضاء، لأن الأعمال بطلت وانقضى زمانها، وقيل: رجوع عن الخطأ والذنب وطلب للرضا.

أنواع المطابقة

ونبئتهم يستنصرون بكاهل … وللؤم فيهم كاهل وسنام فاللفظة المكررة هنا هي «كاهل» ومعناها في الشطر الأول من البيت «من يعتمد عليه في الملمات، يقال: فلان كاهل بني فلان أي معتمدهم في الملمات وسندهم في المهمات». وهي في الشطر الثاني: مقدّم أعلى الظهر مما يلي العنق. ... أنواع المطابقة: والمطابقة ثلاثة أنواع: مطابقة الإيجاب. مطابقة السلب. وإيهام التضاد. 1 - فمطابقة الإيجاب: هي ما صرّح فيها بإظهار الضدين، أو هي ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. ومن أمثلتها بالإضافة إلى الأمثلة السابقة للمطابقة التي تأتي بلفظ الحقيقة قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وقوله أيضا: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. ومنه أحاديث الرسول: «أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك» وقال: «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة». ومنه شعرا قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطه السيل من عل

وقول مسافع: أبعد بني أمي أسرّ بمقبل … من العيش أو آسى على أثر مدبر؟ أولاك بنو خير وشر كليهما … وأبناء معروف ألّم ومنكر ومنه من الأقوال المأثورة: «غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله» و «كدر الجماعة خير من صفو الفرقة». 2 - ومطابقة السلب: وهي ما لم يصرح فيها بإظهار الضدين، أو هي ما اختلف فيها الضدان إيجابا وسلبا، نحو قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «يعلمون ولا يعلمون» وهي حاصلة بإيجاب العلم ونفيه، لأنهما ضدان. ومن مطابقة السلب أيضا قول امرئ القيس: جزعت ولم أجزع من البين مجزعا … وعزّيت قلبي بالكواعب مولعا فالمطابقة هي في الجمع بين «جزعت ولم أجزع» وهي حاصلة بإيجاب الجزع ونفيه. ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم: خلقوا وما خلقوا لمكرمة … فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا وما رزقوا سماح يد … فكأنهم رزقوا وما رزقوا 3 - إيهام التضاد: وهو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد مع أنه ليس بضد، كقول الشاعر: يبدي وشاحا أبيضا من سيبه … والجو قد لبس الوشاح الأغبرا فإن «الأغبر» ليس بضد «الأبيض» وإنما يوهم بلفظه أنه ضد. ومثله قول دعبل الخزاعي:

ظهور التضاد وخفاؤه

لا تعجبي يا سلم من رجل … ضحك المشيب برأسه فيكى فإن «الضحك» هنا من جهة المعنى ليس بضد «البكاء»، لأنه كناية عن كثرة الشيب، ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة. ومنه قول قريط بن أنيف: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة … ومن إساءة أهل السوء إحسانا «فالظلم» ليس بضد «المغفرة» وإنما يوهم بلفظه أنه ضد. وقول شاعر آخر: وأخذت أطرار الكلام فلم تدع … شتما يضر ولا مديحا ينفع فضد المديح هو الهجاء وليس الشتم وإن كان قريبا من معناه، ولهذا فاستعماله ضدا للمديح هو من قبيل إيهام التضاد. ... ظهور التضاد وخفاؤه: والتضاد بين المعنيين قد يكون ظاهرا كما في الأمثلة السابقة، وقد يكون خفيا كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً (¬1) فإدخال النار ليس ضد الإغراق في المعنى، ولكنه يستلزم ما يقابله وهو الإحراق؛ فإن من دخل النار احترق، والاحتراق ضد الغرق. ومثله أيضا قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «أشداء ورحماء» فلفظة «رحماء» ليست ضدا في المعنى «لأشداء» ولكن الرحمة تستلزم ¬

_ (¬1) مما خطاياهم: من أجل خطاياهم وبسببها.

بلاغة المطابقة

اللين المقابل للشدة، لأن من رحم لان قلبه ورق. ومن هذه الناحية الخفية صحت المطابقة. ومنه شعرا قول الحماسي: لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى … وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (¬1) ففي قوله «تتابع لي غنى» معنى الكثرة التي هي ضد القلة. أما قول أبي الطيب المتنبي: لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها … سرور محب أو إساءة مجرم؟ فهو من المطابقة الفاسدة، لأن المجرم ليس بضد في المعنى للمحب بوجه ما، وليس للمحب ضد إلا المبغض. بلاغة المطابقة: وبلاغة المطابقة لا يكفي فيها الإتيان بمجرد لفظين متضادين أو متقابلين معنى، كقول الشاعر: ولقد نزلت من الملوك بماجد … فقر الرجال إليه مفتاح الغنى فمثل هذه المطابقة لا طائل من ورائها لأن مطابقة الضد بالضد على هذا النحو أمر سهل. وإنما جمال المطابقة في مثل هذه الحالة أن ترشح بنوع من أنواع البديع يشاركها في البهجة والرونق، كقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. ففي العطف بقوله تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال ¬

_ (¬1) الرفد: العطاء.

العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده. وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الله. فهنا اجتمعت المطابقة الحقيقية ومبالغة التكميل. ومثله قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطه السيل من عل فالمطابقة في الإقبال والإدبار، ولكنه لما قال «معا» زادها تكميلا، فإن المراد بها قرب الحركة وسرعتها في حالتي الإقبال والإدبار، وحالة الكر والفر. فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الوقع الحسن في النفس. ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد (¬1) البديعي، وبهذا اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد. وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال: برغم شبيب فارق السيف كفه … وكانا على العلات يصطحبان كأن رقاب الناس قالت لسيفه: … رفيقك قيسيّ وأنت يماني (¬2) ¬

_ (¬1) الاستطراد البديعي أن يكون الشاعر في غرض من أغراض الشعر فيوهم أنه مستمر فيه ثم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما، على أن يكون المستطرد به آخر الكلام. (¬2) هو شبيب الخارجي، خرج على كافور وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها. كان من قيس وبين قيس واليمن عداوات وحروب قديمة، والسيف الجيد ينسب إلى اليمن فيقال له «يماني»، ومراد المتنبي هنا أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه، فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه. انظر المثل السائر ص 258.

المقابلة

فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «قيسي ويماني» وقيسي منسوب إلى قيس من عدنان ويماني منسوب إلى اليمن من قحطان وكان بينهما شقاق وتنازع واختلاف، ومن هنا أتى التضاد بين «قيسي ويماني». والتورية في لفظة «يماني» لأن الشاعر يعني أن كف شبيب وسيفه متنافران فلا يجتمعان لأن شبيبا كان قيسيا والسيف يقال له: «يماني» فورّي به عن الرجل المنسوب إلى اليمن. وقد أكثر الشعراء من استخدام المطابقة المجردة والارتفاع بجمالها وبلاغتها بما يضمونه إليها أو يكملونها أو يكسونها به من فنون البديع والبيان كالجناس واللف والنشر والتورية والتشبيه والاستعارة والتضمين. المقابلة يعد قدامة بن جعفر من أوائل من تكلموا عن «المقابلة» فقد ذكرها في معرض الحديث عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة الشعر. قال قدامة: «والذي يسمى به الشعر فائقا، ويكون إذا اجتمع فيه مستحسنا صحة المقابلة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، واعتدال الوزن، وإصابة التشبيه، وجودة التفصيل، وقلة التكلف، والمشاكلة في المطابقة. وأضداد هذا كله معيبة تمجّها الآذان، وتخرج عن وصف البيان» (¬1). وقد عرفها في كتابه «نقد الشعر» بقوله: وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق أو المخالفة بين بعضها وبعض، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف على الصحة، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده، وفيما ¬

_ (¬1) كتاب نقد النثر لقدامة ص 84.

يخالف بضد ذلك (¬1) ومن أمثلته على ذلك قول الشاعر: أموت إذا ما صد عني بوجهه … ويفرح قلبي حين يرجع للوصل وقد علّق قدامة على البيت بقوله: «فجعل ضد الموت فرح القلب، وضد الصد بوجهه الوصل، وهذه مقابلة قبيحة، ولو قال: أموت إذا ما صدّ عني بوجهه … وأحيا إذا مل الصدود وأقبلا فجعل جزاء الموت الحياة، وجزاء الصد بالوجه الإقبال لكان مصيبا» (¬2). وجاء أبو هلال العسكري بعد قدامة فعرف المقابلة بقوله: «هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على وجه الموافقة أو المخالفة، نحو قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً، فالمكر من الله تعالى العذاب، جعله الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه وأهل طاعته» (¬3). وعرّف ابن رشيق القيرواني المقابلة بقوله: «هي ترتيب الكلام على ما يجب، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا وآخره ما يليق به آخرا، ويؤتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه. وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة، مثال ذلك ما أنشده قدامة لبعض الشعراء، وهو: فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح … وفي ومطويّ على الغلّ غادر ¬

_ (¬1) نقد الشعر ص 95. (¬2) نقد النثر ص 85. (¬3) كتاب الصناعتين ص 337.

الفرق بين المطابقة والمقابلة

فقابل بين النصح والوفاء بالغل والغدر، وهكذا يجب أن تكون المقابلة الصحيحة» (¬1). كذلك عرف الخطيب القزويني المقابلة في كتابه التلخيص بقوله: «هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر ثم بما يقابل ذلك على الترتيب» (¬2) وهو يعني بالتوافق خلاف التقابل، نحو قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً. ومن التعاريف السابقة يمكن القول بأن المقابلة هي: أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب. والبلاغيون مختلفون في أمر المقابلة، فمنهم من يجعلها نوعا من المطابقة ويدخلها في إيهام التضاد، ومنهم من جعلها نوعا مستقلا من أنواع البديع، وهذا هو الأصح، لأن المقابلة أعم من المطابقة. وصحة المقابلات تتمثل في توخي المتكلم بين الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب، بحيث يقابل الأول بالأول، والثاني بالثاني، لا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق. ومتى أخل بالترتيب كانت المقابلة فاسدة. الفرق بين المطابقة والمقابلة: والفرق بين المطابقة والمقابلة يأتي من وجهين: أحدهما أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين، أما المقابلة فتكون غالبا بالجمع بين أربعة أضداد: ضدان في صدر الكلام وضدان في عجزه. وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد: خمسة في الصدر وخمسة في العجز. ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 2 ص 14. (¬2) كتاب التلخيص ص 352.

أنواع المقابلة

والثاني: أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، على حين تكون المقابلة بالأضداد وغير الأضداد، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة وأعظم موقعا، نحو قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان، ثم قابلهما بضدين: هما السكون والحركة على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا عن المقابلة؛ ذلك أنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل، لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة. ومن أمثلة هذا النوع أيضا قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ*. فقد أتى في كل صدر الكلام وعجزه بضدين، ثم قابل الضدين في صدر الكلام بضدين لهما في العجز على الترتيب. أنواع المقابلة: والمقابلة تأتي على أربعة أنواع على النحو التالي: 1 - مقابلة اثنين باثنين: نحو قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً، ونحو قوله عليه السّلام: (إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير مغاليق الشر)، وقوله أيضا للأنصار: (إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع). وكقول رجل يصف آخر: «ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية». ومن مقابلة اثنين باثنين في الشعر قول النابغة الجعدي: فتى كان فيه ما يسر صديقه … على أن فيه ما يسوء الأعاديا

وقول المعري: يا دهر يا منجز إيعاده … ومخلف المأمول من وعده ومن مليح هذه المقابلة وخفيها قول العباس بن الأحنف: اليوم مثل الحول حتى أرى … وجهك والساعة كالشهر فقد قابل اليوم بالساعة، والحول بالشهر، لأن الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر جزءا. 2 - مقابلة ثلاثة بثلاثة: نحو قوله تعالى: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وقول علي بن أبي طالب لعثمان بن عفان: «إن الحق ثقيل وبيّ، والباطل خفيف مريّ». ومن أمثلتها شعرا قول أبي دلامة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا … وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل 3 - مقابلة أربعة بأربعة: نحو قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. وقوله: اسْتَغْنى مقابل لقوله: اتَّقى لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وذلك يتضمن عدم التقوى. ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق في وصيته عند الموت: «هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها»، فقابل: أوّلا بآخر، والدنيا بالآخرة، وخارجا بداخل، ومنها بفيها. ومنه شعرا قول أبي تمام:

يا أمة كان قبح الجور يسخطها … دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها وقول جرير: وباسط خير فيكم بيمينه … وقابض شر عنكم بشماله وقول ابن حجة الحموي: قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا … ولوا غضابا فواحربي لغيظهمو فالمقابلة هنا بين «قابلتهم وولوا» و «الرضى والغضب» و «السلم والحرب» و «الانشراح والغيظ». 4 - ومن مقابلة خمسة بخمسة: قول الشاعر: بواطئ فوق خد الصبح مشتهر … وطائر تحت ذيل الليل مكتتم فالمقابلة هنا بين «واطئ وطائر» لأن الواطئ هو الماشي على الأرض، والطائر هو السائر في الفضاء، وبين «فوق وتخت» و «خد وذيل» لما بينهما من معنى العلو والسفل، و «الصبح والليل» و «مشتهر ومكتتم». ومنه قول صفي الدين الحلي: كان الرضا بدنوي من خواطرهم … فصار سخطي لبعدي عن جوارهمو فالمقابلة بين «كان وصار» و «الرضا والسخط» و «الدنو والبعد» و «من وعن» و «خواطرهم وجوارهم» على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وغيرها. ومنه أيضا قول أبي الطيب المتنبي: أزورهم وسواد الليل يشفع لي … وأنثني وبياض الصبح يغري بي ومقابلة «الليل بالصبح» لا تحسب إلا على المذهب القائل بجواز

المقابلة بين الأضداد وغيرها. أما على المذهب القائل بقصر المقابلة على الأضداد فقط فإن المقابلة بين «الليل والصبح» تكون غير تامة؛ لأن ضد الليل المحض النهار لا الصبح. 5 - ومن مقابلة ستة بستة: قول الصاحب شرف الدين الأربلي: على رأس عبد تاج عز يزينه … وفي رجل حر قيد ذل يشينه فالمقابلة هنا بين «على وفي» و «رأس ورجل» و «عبد وحر» و «تاج وقيد» و «عز وذل» و «يزينه ويشينه». ويرى علماء البديع أن أعلى رتب المقابلة وأبلغها هو ما كثر فيه عدد المقابلات شريطة ألا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف أو توحي به. كذلك يرون أن المقابلة بالأضداد أفضل وأتم، وهذا هو مذهب السكاكي؛ فالمقابلة عنده: أن تجمع بين شيئين فأكثر ثم تقابل ذلك بالأضداد، وإذا شرطت في أحد الشيئين أو الأشياء شرطا شرطت فيما يقابله ضده. ... وبعد فلعلنا أدركنا الآن على ضوء دراستنا لكل من المطابقة والمقابلة مدى أثرهما في بلاغة الكلام. فكل منهما يضفي على القول رونقا وبهجة ويقوي الصلة بين الألفاظ والمعاني، ويجلو الأفكار ويوضحها شريطة أن تجري المطابقة أو المقابلة مجرى الطبع. أما إذا تكلفها الشاعر أو الأديب فإنها تكون سببا من أسباب اضطراب الأسلوب وتعقيده. ومن صفات الأدب الجيد تلاحم أجزائه وائتلاف ألفاظه حتى كأن الكلام بأسره من حسن الجوار وشدة التلاحم كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد. وكما يتم هذا التلاحم عن طريق التشابه يتم

المبالغة

كذلك عن طريق التضاد، لأن المعاني يستدعي بعضها بعضا، فمنها ما يستدعي شبيهه، ومنها ما يستدعي مقابله، بل إن الضد أكثر خطورا على البال من الشبيه وأوضح في الدلالة على المعنى منه. وعلى هذا كلما ظهرت المطابقة أو المقابلة في الكلام بدعوة من المعنى لا تطفلا عليه، كانت أنجح في أداء دورها المنوط بها في تحسين المعنى. المبالغة إذا نظرنا إلى المبالغة من الناحية التاريخية فإننا نجد أن عبد الله بن المعتز هو أول من تحدث عنها، فقد عدّها في كتابه «البديع» من محاسن الكلام والشعر، وعرّفها بأنها «الإفراط في الصفة»، ومثّل لها. ويفهم من الأمثلة التي أوردها أن الإفراط في الصفة يأتي عنده على ضربين: ضرب فيه ملاحة وقبول، وآخر فيه إسراف وخروج بالصفة عن حد الإنسان. فمن النوع الأول عنده قول إبراهيم بن العباس الصولي: يا أخا لم أر في الناس خلّا … مثله أسرع هجرا ووصلا كنت لي في صدر يومي صديقا … فعلى عهدك أمسيت أم لا؟ ومن النوع الآخر المسرف قول الخثعميّ: يدلي يديه إلى القليب فيستقي … في سرجه بدل الرّشاء المكرب وقول آخر يهجو رجلا: تبكي السموات إذا ما دعا … وتستعيذ الأرض من سجدته

إذا اشتهى يوما لحوم القطا … صرّعها في الجو من نكهته (¬1) ... ثم جاء بعد ابن المعتز قدامة بن جعفر فتحدث عن إفراط الصفة وعدّه من نعوت المعاني، وكان أول من أطلق عليه اسم «المبالغة». وقد عرّفها بقوله: «المبالغة أن يذكر الشاعر حالا من الأحوال في شعر، لو وقف عليها لأجزأه ذلك في الغرض الذي قصده، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال ما يكون أبلغ فيما قصد، وذلك مثل قول عمير التغلبي: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث كانا فإكرامهم للجار ما كان فيهم- أي مدة إقامته بينهم- من الأخلاق الجميلة الموصوفة، واتباعهم الكرامة حيث كان من المبالغة ...» (¬2) ثم أورد بعض أمثلة أخرى للمحبوب منها والمكروه. وفي كتابه «نقد النثر» تحدث عن الإسراف في المبالغة فقال: «ومما أسرف فيه الشاعر حتى أخرجه إلى الكذب والمحال، وهو مع ذلك مستحسن قول أبي نواس: تغطيت من دهري بظل جناحه … فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت … وأين مكاني ما عرفن مكاني» (¬3) ... ¬

_ (¬1) كتاب البديع لا بن المعتز ص 58 - 66. والنكهة: ريح الفم. (¬2) كتاب نقد الشعر لقدامة ص 101 - 103. (¬3) كتاب «نقد النثر» ص 90.

ومن بعد قدامة جاء أبو هلال العسكري فعرّف المبالغة بقوله: «المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته، وأبعد نهاياته، ولا تقتصر في العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه، ومثاله من القرآن قول الله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى. ولو قال: تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة، وإنما خصّ المرضعة للمبالغة، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها، وأشغف به لقربه منها ولزومها له، لا يفارقها ليلا ولا نهارا، وعلى حسب القرب تكون المحبة والألف ... وقوله تعالى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، لو قال يحسبه الرائي لكان جيدا، ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن، لأن حاجته إلى الماء أشد، وهو على الماء أحرص (¬1). وبعد أن أورد أبو هلال بعض أمثلة من الشعر للمبالغة، تحدث عن نوع آخر منها فقال: «ومن المبالغة نوع آخر، وهو أن يذكر المتكلم حالا لوقف عليها أجزأته في غرضه منها، فيجاوز ذلك حتى يزيد في المعنى زيادة تؤكده، ويلحق به لاحقة تؤيده، كقول عمير التغلبي: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث مالا فإكرامهم الجار ما دام فيهم مكرمة، واتباعهم إياه الكرامة حيث مال من المبالغة» (¬2). وكلام أبي هلال هذا عن النوع الآخر من المبالغة هو في الواقع ترديد لرأي قدامة السابق في المبالغة واستشهاد ببعض أمثلته. ... ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 365. (¬2) كتاب الصناعتين ص 366.

كذلك عرض ابن رشيق القيرواني للمبالغة، فذكر أنها ضروب كثيرة، وأن الناس فيها مختلفون: منهم من يؤثرها ويقول بتفضيلها، ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان، وهو القائل: أشعر الناس من استجيد كذبه وضحك من رديئه. ومنهم من يعيبها وينكرها ويراها عيبا وهجنة في الكلام، وقد قال بعض حذاق نقد الشعر: إن المبالغة ربما أحالت المعنى، ولبّسته على السامع، فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه، لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضا الإبانة والإفصاح، وتقريب المعنى على السامع. فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة، وحلا منطقها في الصدور، وقبلته النفوس لأساليب حسنة، وإشارات لطيفة تكسبه بيانا، وتصوره في القلوب تصويرا. ولو كان الشعر هو المبالغة لكان المحدثون أشعر من القدماء، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قرّبوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها وبالتشكيك في الشبهين، كما قال ذو الرمة: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل … وبين النقا آأنت أم أمّ سالم؟ فلو قال: أنت أم سالم، على نفي الشك بل لو قال: أنت أحسن من الظبية، لما حل من القلوب محل الشك، وكما قال جرير: فإنك لو رأيت عبيد تيم … وتيما قلت: أيهم العبيد؟ فلو قال: «عبيدهم» أو «خير منهم» لما ظنّ به الصدق، فاحتال في تقريب المشابهة، لأن في قربها لطافة تقع في القلوب، وتدعو إلى التصديق. والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر، إذا أعياه إيراد

معنى بالغ، فيشغل الإسماع بما هو محال، ويهوّل مع ذلك على السامعين، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام. ويعلق ابن رشيق على الرأي السابق الذي أورده لأحد الحذاق بنقد الشعر قائلا: «وفي هذا الكلام كفاية وبلاغ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد، وليس كل مبالغة كذلك. فالغلو هو الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها ويقع فيه الخلاف لا ما سواه ... ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيّبت الاستعارة، إلى كثير من محاسن الكلام ...» (¬1). ... أما السكاكي ومن جاراه من أمثال الخطيب القزويني فيعدون «المبالغة المقبولة» من محاسن الكلام وبديعه، ويعرفونها بقولهم: «والمبالغة أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة أو الضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا، لئلا يظن أنه غير متناه فيه» (¬2)، أي لئلا يتوهم أن أحدا من العقلاء يظن أن الوصف المدعى غير متناه في الشدة والضعف. والسكاكي إذ يقيد المبالغة «بالمقبولة» إنما يشير بهذا القيد إلى الرد على من زعم أن المبالغة مردودة مطلقا، محتجا بأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق، وكان على منهج الصدق، كقول حسان بن ثابت: وإنما الشعر لب المرء يعرضه … على المجالس إن كيسا وإن حمقا وإن أشعر بيت أنت قائله … بيت يقال إذا أنشدته صدقا وإلى الرد كذلك على من زعم أنها مقبولة مطلقا، وأن الفضل ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 2 ص 50 - 52. (¬2) كتاب التلخيص للقزويني ص 370.

مقصور عليها، والمحاسن كلها منسوبة إليها، محتجا بأن أحسن الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه. وتنحصر المبالغة عند السكاكي في التبليغ والإغراق والغلو؛ لأن الوصف المدعى إن كان ممكنا عقلا وعادة فتبليغ كقول امرئ القيس في وصف فرسه: فعادى عداء بين ثورة ونعجة … دراكا ولم ينضح بماء فيغسل فقد وصف فرسه بأنه طارد ثورا ونعجة من بقر الوحش وأنه أدركهما وقتلهما في طلق وشوط واحد من غير أن يعرق عرقا مفرطا يغسل جسده، أي أدركهما وصادهما دون معاناة مشقة ومقاساة شدة، وذلك أمر ممكن عقلا وعادة. وإن كان الوصف ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق، كقول عمير التغلبي: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث مالا فالشاعر يدعي أن جاره لا يميل عنه إلى أي جهة إلا ويتبعه الكرامة. وهذا أمر ممكن عقلا لا عادة، أي أنه ممتنع عادة وإن كان غير ممتنع عقلا. وعند السكاكي ومدرسته أن هذين النوعين من المبالغة، أي التبليغ والإغراق مقبولان. أما إذا كان الوصف المدعى غير ممكن عقلا وعادة فهو الغلو، كقول أبي نواس: وأخفت أهل الشرك حتى أنه … لتخافك النطف التي لم تخلق فالغلو هنا هو في إسناد الخوف إلى النّطف غير المخلوقة، وهذا أمر ممتنع عقلا وعادة.

ويرى السكاكي أن من الغلو أصنافا مقبولة، منها ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة نحو لفظة «يكاد» التي تفيد عدم التصريح بوقوع المحال، نحو قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، فإن إضاءة الزيت كإضاءة المصباح من غير أن تمسه النار محال عقلا. ولكن إدخال «يكاد» هنا أفاد أن المحال لم يقع ولكن قرب من الوقوع مبالغة. ومن الغلو المقبول عنده أيضا ما تضمن نوعا حسنا من التخييل، كقول المتنبي يمدح ابن عمار: أقبلت تبسم والجياد عوابس … يخببن بالحلق المضاعف والقنا عقدت سنابكها عليه عثيرا … لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (¬1) فالمتنبي في البيت الثاني هنا ادّعى تراكم الغبار الكثيف المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها، بحيث صار أيضا يمكن سيرها عليها. وهذا ممتنع عقلا وعادة، لكنه تخيّل حسن. وقد اجتمع الأمران؛ أي إدخال ما يقرب الغلو إلى الصحة وتضمن التخييل الحسن في قول القاضي الأرّجاني: يخيّل لي أن سمّر الشهب في الدجى … وشدّت بأهداب إليهن أجفاني فالأرجاني يصف الليل هنا بالطول، فيقول: يخيل لي أن الشهب محكمة بالمسامير في الظلام لا تنتقل من مكانها، وأن أجفان عينيّ قد شدت بأهدابها إلى الشهب لطول سهري في ذلك الليل. وهذا تخييل حسن، ولفظ «يخيل» يزيده حسنا. ¬

_ (¬1) يخببن: يسرن سير الخبب، وهو ضرب من العدو والجري، والحلق المضاعف: الدروع الكثيرة، والقنا: الرماح، والسنابك: جمع سنبك، وهو طرف مقدم الحافر، والعثير: الغبار، والعنق بفتح العين والنون: ضرب من السير السريع.

ومن الغلو المقبول أيضا ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة، كقول القائل: أسكر بالأمس إن عزمت على الشر … ب غدا إن ذا من العجب! ... ومن كلام السكاكي السابق يتضح أن المبالغة المقبولة عنده هو ومن لفّ لفّه تنحصر في التبليغ، والإغراق، والغلو. فإذا كان الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة فهو التبليغ، وإذا كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق، وإذا كان ممتنعا عقلا وعادة فهو الغلو. كما يتضح أنه يرى أن هناك أصنافا من الغلو مقبولة، منها ما أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة نحو لفظة «يكاد»، ومنها ما تضمن نوعا حسنا من التخييل، ومنها ما اجتمع فيه الأمران، ومنها ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة. فالسكاكي ومعه الخطيب القزويني يعدان المبالغة بأنواعها الثلاثة من تبليغ وإغراق وغلو فنا واحدا من فنون البديع المعنوي. ولكننا نرى أن المتأخرين من أصحاب البديع يعدون كلا من المبالغة بمعنى التبليغ، والإغراق، والغلو فنا بديعيا قائما بذاته. ولذلك فهم يقصرون المبالغة على التبليغ بمفهومه عند السكاكي، أي إمكان وقوع الوصف المدعى عقلا وعادة، أو كما يقولون في تعريفهم: هي الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة. واعتبار المتأخرين للمبالغة بأنواعها على أنها ثلاثة فنون بديعية مستقلة فيه تطوير لمفهوم، المبالغة، وهو أولى بالاتباع لأنه يميز كل فن عن الآخر، ويحول دون اختلاطها وتداخل بعضها في بعض.

ومن أجل ذلك يجدر بنا أن ندرس كلا منها على حدة للخروج بصورة واضحة المعالم لكل فن من هذه الفنون البديعية الثلاثة. والآن وقد تتبعنا تاريخ المبالغة وتطورها وفصلنا القول عن المبالغة بمعنى التبليغ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة، فإننا نأتي على بعض أمثلة أخرى لها تزيدها وضوحا، ثم ننتقل إلى دراسة كل من الإغراق والغلو على أنه فن بديعي مستقل بذاته. فمن أمثلة المبالغة بمعنى التبليغ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة، قوله تعالى في وصف أعمال الكافرين: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. فلو وقف الكلام عند أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ لكان المعنى تاما بليغا، ولكن ترادف الصفات بعد ذلك والإفراط فيها أضاف للمعنى ظلالا زادت من درجة الهول الذي يطالعنا من خلال هذه الصورة التي لونتها المبالغة تلوينا يرفعها في البلاغة إلى ذروة الإعجاز. ومن الأمثلة أيضا قول ابن نباته السعدي في سيف الدولة: لم يبق جودك لي شيئا أؤمله … تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ومنه قول ابن الرومي مبالغة في البخل: لو أن قصرك يا ابن يوسف ممتل … إبرا يضيق بها فناء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة … ليخيط قدّ قميصه لم تفعل! وقوله أيضا: فتى على خبزه ونائله … أشفق من والد على ولده رغيفه منه حين تسأله … مكان روح الجبان من جسده

الإغراق

ومنه قول زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا … ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا (¬1) فزهير جعل لممدوحه على أعدائه في كل حال من أحوال البسالة والشجاعة فضلا ومبالغة. ومنه قول أبي فراس الحمداني مفتخرا: وإني لجرار لكل كتيبة … معوّدة ألا يخل بها النصر وإني لنزال بكل مخوفة … كثير إلى نزالها النظر الشزر فاظمأ حتى ترتوي البيض والقنا … وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر ونحن أناس لا توسط عندنا … لنا الصدر دون العالمين أو القبر ومنه قول المتنبي مفتخرا: إذا صلت لم أترك مصالا لصائل … وإن قلت لم أترك مقالا لقائل وقول آخر مادحا لآل المهلب: نزلت على آل المهلب شاتيا … بعيدا عن الأوطان في زمن المحل فما زال بي إكرامهم وافتقادهم … وإحسانهم حتى حسبتهم أهلي الإغراق ذكرنا فيما سبق أن المبالغة المقبولة عند السكاكي تنحصر في التبليغ والإغراق والغلو. فإذا كان الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة فهو التبليغ، وإذا كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق، وإن كان ممتنعا عقلا وعادة فهو الغلو. ¬

_ (¬1) يصف الممدوح بأنه يزيد على أعدائه في كل حال من أحوال الحرب.

كذلك ذكرنا أن السكاكي عرف المبالغة المقبولة بقوله: «هي أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة والضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا». وإذا تأملنا هذا التعريف وجدنا أنه ينطبق على نوعين فقط من أنواع المبالغة عند السكاكي هما: الغلو والإغراق. ذلك لأن الغلو هو المستحيل عقلا وعادة، والإغراق هو المستبعد وقوعه عادة لا عقلا. وعلى ذلك فالإغراق في اصطلاح البديعيين: هو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة، أو بعبارة أخرى: هو الإفراط في وصف الشيء بما يمكن عقلا ويستبعد وقوعه عادة. ومن أمثلة ذلك قول عمير التغلبي السابق: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث مالا فإكرامهم للجار مدة إقامته بينهم من الأخلاق الجميلة الموصوفة، ومدّه بالكرم عند رحيله وجعل هذا الكرم يتبعه ويشمله حيث كان وفي كل جهة يميل إليها هو الإغراق هنا. وهذا أمر ممتنع عادة وإن كان غير ممتنع عقلا. وكل من الإغراق والغلو لا يعدّ من محاسن القول وبديع المعنى إلا إذا دخل عليه أو اقترن به ما يقربه إلى الصحة والقبول، نحو «قد» للاحتمال، و «لو» و «لولا» للامتناع، و «كاد» للمقاربة، وما أشبه ذلك من أدوات التقريب. ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في القرآن الكريم ولا في الكلام الفصيح إلا بما يخرجه من باب الاستبعاد والاستحالة ويدخله في باب الإمكان، نحو: كاد ولو وما يجري مجراهما. ومن أمثلة ذلك في الإغراق قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ

بِالْأَبْصارِ، إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار، ولكنه يمتنع عادة. والذي زاد وجه الإغراق هنا جمالا هو تقريبه إلى الصحة بلفظة «يكاد»، واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة، فقلبت من الامتناع إلى الإمكان. ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلفظة «لو» قول زهير: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم … قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو «هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق» على حد قول ابن حجة الحموي. ومما استشهد به أيضا على نوع الإغراق بلفظة «لو» التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل: ولو أن ما بي من جوى وصبابة … على جمل لم يدخل النار كافر وقبل الحديث عن الإغراق في هذا البيت نذكر أن فيه نظرا من طرف خفي إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فالجمل له معنيان: الذكر من الإبل والحبل الغليظ، وسم الخياط: ثقب الإبرة. فالمعنى هنا أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها لا تفتح لهم أبواب السماء، أي لا تقبل دعواتهم ولا أعمالهم، ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل بأي معنى من معنييه السابقين في ثقب الإبرة. وبما أن دخول الجمل المعروف أو الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الضيق الصغير أمر بعيد فكذلك دخول هؤلاء المكذبين بآيات الله الجنة أمر مستبعد.

ولهذا المعنى نظر الشاعر في البيت السابق، فهو يريد أن يقول: لو كان ما به من الحب بجمل لأصابه النحول والضمور والهزال إلى حد يمكّنه من الدخول في سم الخياط، ولو تحقق دخول الجمل في سم الخياط لما بقي في النار كافر لزوال المانع لهم من دخول الجنة. ودخول الجمل في سم الخياط لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة. فإن الله جلّت قدرته إذا شاء وسّع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل، وإذا شاء رقق الجمل حتى يصير كالخيط الرفيع فيدخل في سم الخياط. ومن ذلك يتبين أن الأمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة، وهذا غاية في الإغراق. ... ومما استشهدوا به على الإغراق بغير أداة من أدوات التقريب قول امرئ القيس في وصف أنفاس صاحبته عند النهوض من النوم: كأن المدام وصوب الغمام … وريح الخزامى ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... … إذا غرد الطائر المستحر (¬1) فامرؤ القيس يصف طيب رائحة فم صاحبته سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم بأنه شبيه بطيب الرائحة المنبعثة من روائح الخمر المشوبة بالماء النقي والخزامى والبخور مجتمعة. فإذا كانت هذه رائحة ثغرها عند نهوضها مبكرة من النوم، فكيف تظن رائحة ثغرها في هوادي الليل ¬

_ (¬1) المدام: الخمر يدام على شربها أو التي أديمت في دنها، وصوب الغمام: مطر السحاب، وريح الخزامى: رائحة هذا النبت الطيب الريح، ونشر القطر بضم القاف والطاء: رائحة العود الذي يتبخر به، يعل به برد أنيابها: يسقى به ثناياها الباردة مرة بعد مرة، الطائر المستحر: المصوت في وقت السحر.

وأوائله؟. فالإغراق في تشبيه طيب رائحة فم امرأة عند تغير الأفواه بعد النوم بالرائحة الناشئة من اختلاط رائحة الخمر المشوبة بالماء النقي برائحة الخزامى والبخور- أمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة. ومن الإغراق في الوصف أيضا بغير أداة تقريب قول الشاعر: قد سمعتم أنينه من بعيد … فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين فوصف الشخص بأنه لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه إغراق في الوصف ممتنع عادة، لكنه غير مستحيل عقلا. ونظير هذا المعنى قول ابن حجة الحموي: وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى … وها أنا اليوم في الأوهام تخييل ونظيره أيضا قول شرف الدين عمر بن الفارض: كأني هلال الشك لولا تأوهي … خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي ومنه قول صفي الدين الحلي في وصف معترك: في معرك لا تثير الخيل عثيره … مما تروى المواضي تربه بدم فوصف المكان الذي يعترك فيه الفرسان بأن الخيل التي تحملهم وتعدو بهم هنا وهناك لا تثير غبارا فوقها لكثرة ما ارتوى به تراب المعترك من الدماء التي أراقتها السيوف المواضي- أقول هذا الوصف فيه إغراق شديد، إذ لم تجر العادة أن ترتوي أرض معركة بالدم إلى هذا الحد، لكنه أمر غير مستحيل عقلا. ... من كل ما تقدم يتضح أن الإغراق، وهو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة نوعان: إغراق في الوصف تدخل عليه أداة تقربه إلى

الغلو

الصحة والقبول، وإغراق في الوصف مجرد من أدوات التقريب. ولا شك أن المقارنة بين النوعين وعلى ضوء الشواهد السابقة تظهر أن الإغراق المقترن بأداة التقريب هو الأبلغ في وضوح الدلالة على المعنى وفي الإضافة إليه معنويا بما يكسبه رونقا وبهاء وقبولا. ولكن على الرغم من كل شيء يبقى الإغراق بنوعيه فنا قائما بذاته من فنون البديع المعنوية. الغلو الغلو في أصل الوضع اللغوي مجاوزة الحد والقدر في كل شيء والإفراط فيه. وهو مشتق من المغالاة، ومن غلوة السهم بفتح الغين وسكون اللام، وهي مدى رميته، يقال: غاليت فلانا مغالاة وغلاء بكسر الغين، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم. وقد عرفنا مما سبق أن المبالغة بمعنى التبليغ هي إمكان الوصف المدعى عقلا وعادة، وأن الإغراق هو إمكان الوصف المدعى عقلا لا عادة. أما الغلو في اصطلاح البديعيين فهو: امتناع الوصف المدعى عقلا وعادة. وعلى هذا فإذا كان الإغراق فوق المبالغة بمعنى التبليغ في تجاوز الحد والإفراط في الصفة المدعاة، فإن الغلو فوق المبالغة والإغراق من هذه الناحية. ولعل ابن رشيق القيرواني (¬1) من أوائل من توسعوا في بحث ¬

_ (¬1) انظر باب الغلو في كتاب العمدة لا بن رشيق ج 2 ص 57 - 62.

«الغلو»، فقد تناوله في كتابه العمدة من جوانب متعددة ألّم فيها ببعض آراء سابقيه ومعاصريه وعلق عليها بما عنّ له شخصيا من آراء وأفكار. فهو أولا يعارض من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا يرى ذلك إلا محالا، لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف. وهو يوافق الحذاق القائلين: «خير الكلام الحقائق، فإن لم تكن فما قاربها وناسبها، وأنشد المبرد قول الأعشى: فلو أن ما أبقين مني معلقا … بعود ثمام ما تأوّد عودها فقال: هذا متجاوز، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذ شبّه، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه». وأصح الكلام عند ابن رشيق ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله، فقد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق، فقال جلّ من قائل: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ. كما أتى على تعريف قدامة «للغلو» وهو: تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه، وليس خارجا عن طباعه. وعلى هذا تأويل أصحاب التفسير قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، أي: كادت ... كذلك أورد رأي القاضي الجرجاني (¬1) في الإفراط، وخلاصته أن الإفراط مذهب عام في المحدثين وموجود كذلك لدى الأوائل، وأن الناس مختلفون فيه: من مستحسن قابل، ومستقبح راد، وأن له رسوما متى وقف الشاعر عندها، ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم، ومتى تجاوزها اتسعت له ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة 366 هـ، وصاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.

الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشعبة من الإغراق. وللحاتمي (¬1) في الغلو رأي ذكره ابن رشيق وهو: «وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق، ويختلفون في استحسانها واستهجانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له، فيقولون: أحسن الشعر أكذبه، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط، وقالوا: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل: من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديئه. وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة». ويعلق ابن رشيق على زعم القائلين بأن أبا تمام هو الذي توسع في باب الغلو وتبعه الناس بعد فيقول: «وأين أبو تمام مما نحن فيه؟ فإذا صرت إلى أبي الطيب- المتنبي- صرت إلى أكثر الناس غلوا، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنيّ، وله في غيره مندوحة كقوله: يترشفن من فمي رشفات … هنّ فيه أحلى من التوحيد وإن كان له في هذا تأويل ومخرج بجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه ...» (¬2). ... ¬

_ (¬1) هو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي. كاتب شاعر ناقد له عدة كتب في النقد والأدب واللغة والتراجم، توفي سنة 388 هـ. (¬2) كتاب العمدة ج 2 ص 57 - 62.

بعد هذه المقتبسات من كتاب العمدة لا بن رشيق والتي تعرض فيها للغلو من بعض الجوانب نذكر أن رجال البديع يقسمون الغلو قسمين: مقبول وغير مقبول: 1 - فالغلو الحسن المقبول عندهم هو ما دخل عليه أو اقترن به أداة من الأدوات التي تقربه إلى الصحة والقبول من نحو: «قد» للاحتمال، و «لو» و «لولا» للامتناع، و «كأنّ» للتشبيه، و «يكاد» للمقاربة، وما أشبه ذلك. ومن أمثلة الغلو الحسن المقبول لاقترانه بأداة من أدوات التقريب قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، فإن إضاءة الزيت من غير مسّ نار مستحيلة عقلا، ولكن لفظة «يكاد» قربته فصار مقبولا. ولهذا يجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة. ومن أمثلة الغلو المقبول أيضا قول المعري: تكاد قسيّه من غير رام … تمكن من قلوبهم النبالا تكاد سيوفه من غير سل … تجد إلى رقابهم انسلالا فالقسي التي تسدد نبالها إلى القلوب من غير رام، والسيوف التي تنسل إلى الرقاب فتعمل فيها من غير أن تسلّ من أغمادها أمران مستحيلان عقلا وعادة، ولكن الذي حسّن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول لفظة «تكاد» التي صيرت ما بعدها قريب الوقوع لا واقعا فعلا كما كان الشأن قبل تدخلها. وعلى هذا النحو يمكن تفسير الغلو الحسن المقبول الذي دخلت عليه «يكاد» في قول ابن حمديس يصف فرسا:

ويكاد يخرج سرعة من ظله … لو كان يرغب في فراق رفيق وقول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يكاد يمسكه عرفان راحته … ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وقول أبي صخر: تكاد يدي تندي إذا ما لمستها … وينبت في أطرافها الورق النّضر ومن الغلو الحسن المقبول لدخول أداة الامتناع «لو» عليه قول البحتري في مدح الخليفة المتوكل: ولو أن مشتاقا تكلّف فوق ما … في وسعه لسعى إليه المنبر فسعى المنبر إلى الخليفة الممدوح تعبيرا عن اشتياقه له عند ما يعلوه ليخطب في الناس إفراط في الغلو قرّبه إلى الصحة والقبول لفظة «لو». ومن هذا الضرب من الغلو المقبول قول أبي الطيب في ممدوحه: لو تعقل الشجر التي قابلتها … مدت محيّيه إليك الأغصنا فمد الأشجار أغصانها تحية للممدوح عند مروره بها أمر مستحيل لامتناعه عقلا وعادة، لكن الذي حسّن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول «لو» التي أفادت امتناع وقوع هذا الأمر المستحيل لامتناع أن تعقل الأشجار. والمتنبي كما يقول ابن رشيق من أكثر الشعراء ولعا بالغلو وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا. ومما جاء عنده أيضا من هذا الغلو المقبول لدخول «لو» عليه، قوله مخاطبا طللا: لو كنت تنطق قلت معتذرا … بي غير ما بك أيها الرجل

وقوله مفتخرا: ولو برز الزمان إليّ شخصا … لخضب شعر مفرقه حسامي (¬1) وقوله في قبيلة الممدوح: ولو يممتهم في الحشر تجدو … لأعطوك الذي صلوا وصاموا (¬2) ومن الغلو المقبول والأداة المقربة إلى الصحة «لولا» قول أبي العلاء المعري يصف سيف ممدوحه: يذيب الرعب منه كلّ عضب … فلولا الغمد يمسكه لسالا (¬3) فالمعنى هنا أولا: أن سيفك أيها الممدوح تهابه السيوف وتصاب بالرعب والفزع منه كما يهابك الرجال ويصابون بالرعب والفزع منك، وأشد ما يجوز على السيف أن يسيل حديده ولولا الغمد يمسكه لظهر سيلانه. فذوبان كل سيف إلى حد السيلان في غمده بباعث الرعب من سيف الممدوح أمر ممتنع عقلا وعادة. ولكن تدخّل «لولا» التي أفادت امتناع سيلان هذا السيف الذائب لوجود غمده الذي يمسكه عن السيلان قد جعلت هذا الغلو المفرط في المعنى مقبولا. ... ¬

_ (¬1) المفرق: وسط الرأس، والحسام: السيف القاطع. يقول: إن الزمان الذي هو محل النكبات والنوائب لو كان شخصا ثم برز إلي محاربا لخضب شعر رأسه سيفي. (¬2) يممتهم: قصدتهم، وتجدو: تطلب جدواهم وعطاءهم. يقول: إن أبناء قبيلة الممدوح لجودهم وكرمهم لا يردون سائلا حتى لو قصدهم سائل يوم القيامة لأعطوه صلاتهم وصيامهم. (¬3) العضب: السيف.

2 - أما الغلو غير المقبول فيتمثل في المعنى الذي يمتنع عقلا وعادة مع خلوه من أدوات التقريب التي تدنيه إلى الصحة والقبول. فمن أمثلة ذلك قول المتنبي مادحا: فتى ألف جزء رأيه في زمانه … أقل جزيئ بعضه الرأي أجمع (¬1) فعلى ما في البيت من بعض التعقيد الناشئ عن التقديم والتأخير الذي اقتضاه الوزن يريد المتنبي أن يقول: إن هذا الممدوح فتى رأيه في أحوال زمانه بقدر ألف جزء، وأقل جزء من هذه الأجزاء يعادل جزء منه كل ما لدى الناس من الرأي. فوجود إنسان رأيه على النحو الذي صوره الشاعر ممتنع عقلا وعادة، وهو غلو غث لا يدعو إلى الإعجاب به بل إلى التعجب منه! ومنه أيضا مادحا: ونفس دون مطلبها الثريا … وكف دونها فيض البحار ومنه قول أبي نواس في وصف الخمر: فلما شربناها ودب دبيبها … إلى موضع الأسرار قلت لها: قفي مخافة أن يسطو علي شعاعها … فيطلع ندماني على سري الخفي فسطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفّافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة، فهو غلو مفرط. ... ومراتب القبول في الغلو تتفاوت إلى الحد الذي تؤول بقائلها إلى الكفر، فمن ذلك قول أبي نواس مادحا: ¬

_ (¬1) ترتيب البيت هكذا: فتى رأيه في زمانه ألف جزء أقل جزء من هذه الأجزاء بعضه- أي بعض جزيء من رأيه الرأي الذي في أيدي الناس كله.

الإيغال

وأخفت أهل الشرك حتى أنه … لتخافك النّطف التي لم تخلق وهذا كما لا يخفى أمر مستحيل، لأن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة. ومنه قول ابن هانئ الأندلسي في مطلع قصيدة يمدح بها المعز لدين الله الفاطميّ: ما شئت لا ما شاءت الأقدار … فاحكم فأنت الواحد القهار فادعاء أن مشيئة المعز فوق مشيئة الأقدار وأنه هو الواحد القهار غلو يوهم الكفر. ومنه قول المتنبي في مدح سيف الدولة: تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى … إلى قول قوم أنت بالغيب عالم فعلم الغيب مما استأثر الله به، فالزعم بأن إنسانا كائنا من كان يعلم الغيب إفراط في الغلو يؤول بقائله إلى الكفر. الإيغال والإيغال ضرب من المبالغة، إلّا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها. والإيغال مشتق من الإبعاد، يقال: أوغل في الأرض إذا أبعد فيها. وقيل إنه سرعة الدخول في الشيء يقال: أوغل في الأمر إذا دخل فيه بسرعة. فعلى القول الأول كأن الشاعر قد أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الدخول في المبالغة بمبادرته القافية. والإيغال الذي هو ضرب من المبالغة مقصور على القوافي يعني أن

الشاعر إذا انتهى إلى آخر البيت استخرج قافية يريد بها معنى زائدا، فكأنه قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد. وهذا النوع من المبالغة مما فرّعه قدامة بن جعفر وعرّفه بقوله: «هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرا أفاد بها معنى زائدا على معنى البيت» (¬1). وعرف أبو هلال العسكري الإيغال بقوله: «هو أن يستوفي معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتي بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا حسنا» (¬2). سئل الأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيرا، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيسا، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، فسئل: نحو من؟ فقال: نحو الأعشى إذ يقول: كناطح صخرة يوما ليوهنها … فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (¬3) فقد تم المثل- أي التشبيه- بقوله: «وأوهى قرنه» فلما احتاج إلى القافية قال «الوعل». فسئل: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنّة الجبل على قرنه فلا يضيره. ثم سئل: نحو من؟ قال: نحو ذي الرّمة بقوله: ¬

_ (¬1) خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص 234. (¬2) كتاب الصناعتين ص 380. (¬3) الوعل بكسر العين: ذكر الشاة الجبلية.

قف العيس في أطلال مية واسأل … رسوما كأخلاق الرداء المسلسل أظن الذي يجدي عليك سؤالها … دموعا كتبديد الجمان المفصل (¬1) ففي البيت الأول تمم الشاعر كلامه بقوله «كأخلاق الرداء» ثم احتاج إلى القافية، فقال «المسلسل» فزاد شيئا على المعنى. وفي البيت الثاني تمّ كلامه بقوله «كتبديد الجمان» ثم احتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدا وهو «المفصل» (¬2). ويقال: إن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى، أي الإيغال، وذلك بقوله يصف الفرس: إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه … تقول هزيز الريح مرت بأثأب (¬3) فالمعنى هنا أن الفرس إذا أجرى شوطين وابتلّ جانبه من العرق سمعت له صوتا وخفقا كخفق الريح إذا مرّت بشجر الأثأب. فالشاعر بالغ في وصف الفرس وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شوطين ويبتل عطفه بالعرق، وقد تم المعنى بقوله «مرت» ثم زاد إيغالا في صفته بذكر الأثأب الذي يكون للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت. وعلى هذا فإذا كانت لفظة «أثأب» قد استدعتها القافية ليكون الكلام شعرا، فإنها في الوقت ذاته أفادت معنى زائدا، وهو المبالغة في شدة ¬

_ (¬1) أخلاق: جمع خلق بفتح الخاء واللام: الثوب البالي، المسلسل: المهلهل دموعا كتبديد الجمان المفصل: أي دموعا تتبدد وتتناثر كتبديد وتناثر عقد الفضة المفصل، أي الذي يجعل فيه خرزة بين كل حبتين من الجمان أي الفضة. (¬2) كتاب العمدة ج 2 ص 54. (¬3) الأثأب: شجر كالائل يشتد صوت الريح وهزيزه فيه، والعطف بكسر العين: الجانب.

حفيف الفرس بتشبيهه بهزيز الريح المنبعث من اصطدامها بأغصان هذا الشجر عند مرورها من خلاله. ومن الإيغال قول امرئ القيس أيضا: كأن عيون الوحش حول خبائنا … وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب فهنا شبه الشاعر عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالجزع، وهو الخرز الأسود المشوب بالبياض، ولما كانت عيون الوحش لا ثقوب فيها كانت أشبه بالخرز الذي لم يثقب. فمعنى التشبيه تمّ بقوله «الجزع» وقوله «الذي لم يثقب» إيغال في التشبيه زوّد البيت بالقافية وأفاد معنى زائدا هو تأكيده التشبيه، لأن عيون الوحش غير مثقبة. ولا يخفى ما في هذه الزيادة من حسن. ومن الإيغال في التشبيه كذلك قول زهير: كأن فتات العهن في كل منزل … نزلن به حبّ الفنا لم يحطم (¬1) والمعنى الذي عبر عنه زهير انتهى عند قوله «حب الفنا» وزيادة المعنى في قوله «لم يحطم». فزهير شبه ما تفتت وتساقط من العهن أو الصوف الملون بحب الفنا الأحمر، ولما قال بعد تمام بيته «لم يحطم» أراد أن يكون حب الفنا صحيحا لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. فهذا البيت شبيه ببيت امرئ القيس السابق من حيث أن الإيغال فيه زوّد البيت بالقافية، وأفاد معنى زائدا في المشبه به. ومن الإيغال البليغ باتفاق البديعيين قول الخنساء في أخيها صخر: ¬

_ (¬1) العهن بكسر العين وسكون الهاء: الصوف المصبوغ أي لون كان، وفتات العهن: ما تساقط من الصوف المصبوغ ألوانا، والفنا: شجر ثمره حب أحمر، وقال الفراء: هو عنب الثعلب.

وإن صخرا لتأتم الهداة به … كأنه علم في رأسه نار فإن معنى جملة البيت كامل من غير القافية، ووجودها زيادة لم تكن له قبلها. فالخنساء لم ترض لأخيها أن يأتمّ به جهّال الناس حتى جعلته يأتمّ به أئمة الناس، ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه نارا. فهذا الإيغال البديع أكمل معنى المشبه به، وزوّد البيت بالقافية. ومن بديع إيغال المحدثين قول مروان بن أبي حفصة: همو القوم: إن قالوا أصابوا، وإن دعوا … أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا فقوله «وأجزلوا» إيغال في نهاية الحسن. ... والإيغال ليس مقصورا على الشعر، وإنما هو يجيء في الشعر والنثر على حد سواء. ومجيئه في النثر المسجوع أكثر وذلك لإتمام الفواصل وزيادة المعنى. ومن أمثلته قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فإن الكلام تمّ بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة أو الفاصلة الأولى، فلما أتى بها وهي لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أفاد بها معنى زائدا، وذلك لأنه لا يعلم أن حكم الله أحسن من كل حكم إلا من أيقن أنه سبحانه حكيم عادل. ومثله قوله تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فإن المعنى تم بقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ثم ورد ما بعد ذلك وهو إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لإتمام الكلام بالفاصلة ولإفادة معنى زائد، هو المبالغة في

التتميم

إعراض الكفار الذين شبّهوا بالموتى في عدم انتفاعهم بالأدلة. والإيغال الذي يعد من البديع حقا هو ما يستدعيه المعنى ويتطلبه الكلام استكمالا للشعر بالقافية وللسجع بالفاصلة. وليس من بديع المعنى في شيء كل إيغال يتكلفه الشاعر أو الناثر. التتميم أول من ذكر التتميم وعده من محاسن الكلام عبد الله بن المعتز في كتابه البديع (¬1). وقد سماه «اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد»، ومثّل له بثلاثة أبيات من الشعر منها: لو أن الباخلين، وأنت منهم … رأوك تعلموا منك المطالا فمبادرة الشاعر إلى الاعتراض بقوله «وأنت منهم» قبل تمام معنى الكلام هو في الواقع تتميم قصد به المبالغة في بخل المخاطبة وأن الباخلين وهي واحدة منهم جديرون بأن يتعلموا منها المطال. ومن بعد ابن المعتز جاء قدامة بن جعفر فأطلق على هذا المحسن البديعي اسم «التتميم» وعده من نعوت المعاني وعرفه بقوله: «هو أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها جودته شيئا إلا أتى به». وقد استشهد عليه بأربعة عشر بيتا من الشعر، منها قول نافع بن خليفة الغنوي: رجال إذا لم يقبل الحق منهم … ويعطوه عاذوا بالسيوف القواطع (¬2) ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 59. (¬2) كتاب نقد الشعر لقدامة ص 98، وعاذوا: التجأوا، والقواطع: جمع قاطعة، أي حادة ماضية.

أقسام التتميم

ثم يعلق على البيت قائلا: «فما تمت جودة المعنى إلا بقوله «يعطوه»، وإلا كان المعنى منقوص الصحة» (¬1). ويبدو أن تعريف قدامة لهذا الفن البديعي لاقى استحسان البلاغيين من بعده أكثر من تعريف ابن المعتز. فأبو هلال العسكري اعتمد تعريف قدامة وأضاف إليه فأسماه «التتميم والتكميل» وعرفه على حسب مفهومه له، وأورد عليه أمثلة كثيرة من القرآن الكريم والنثر والشعر. والتتميم والتكميل عند أبي هلال هو: أن توفي المعنى حظه من الجودة، وتعطيه نصيبه من الصحة، ثم لا تغادر معنى يكون فيه تمامه إلا تورده، أو لفظا يكون فيه توكيده إلا تذكره (¬2). ... وقد عرفه بعض رجال البديع بقوله: «والتتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه». أقسام التتميم: والتتميم يأتي على ضربين: ضرب في المعنى وضرب في الألفاظ. 1 - فالتتميم المعنوي: هو تتميم المعنى، وهو المراد هنا، ويجيء للمبالغة والاحتراس. ومجيئه في المقاطع والحشو، وأكثر مجيئه في الحشو. ومن أمثلة مجيئه للاحتراس قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. ¬

_ (¬1) نقد الشعر لقدامة ص 98. (¬2) كتاب الصناعتين ص 389.

فقوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تتميم وقوله وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميم ثان في غاية البلاغة، فبذكر هذين التتميمين تم معنى الكلام وجرى على الصحة. ولو حذف أحدهما أو كلاهما لنقص معنى الكلام واختل حسن البناء. ومنه قول الرسول عليه السّلام: «ما من مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفرائض إلا بنى الله له بيتا في الجنة». ففي هذا الحديث وقع التتميم في أربعة مواضع هي: قوله «مسلم» وقوله «الله» وقوله «كل يوم» وقوله «من غير الفرائض». فحذف أي من هذه التتميمات ينقص من معنى الحديث الشريف ويقلل من قيمته البلاغية. ومما ورد فيه التتميم المعنوي للاحتراس من النثر قول أعرابية: «كبت الله كل عدو لك إلا نفسك» فبقولها: «نفسك» تمّ الدعاء؛ لأن نفس الإنسان تجري مجرى العدوّ له، يعني أنها تورّطه وتدعوه إلى ما يوبقه ويهلكه. ومن أمثلته شعرا قول عمرو بن برّاق: فلا تأمنن الدهر حرا ظلمته … فما ليل مظلوم كريم بنائم فقوله: «كريم» تتميم؛ لأن اللئيم يغضي على العار، وينام عن الثأر، ولا يكون منه دون المظالم تكبّر. ومنه أيضا قول طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها … صوب الربيع وديمة تهمي فقوله: «غير مفسدها إتمام للمعنى بالاحتراس والتحرز».

ومثال ما جاء منه للمبالغة قول زهير بن أبي سلمى: من يلق يوما على علاته هرما … يلق السماحة منه والندى طرقا فقوله: «على علاته» تتميم للمبالغة. ومن أبلغ ما ورد من التتميم للمبالغة قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فقوله: عَلى حُبِّهِ تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين. 2 - والتتميم اللفظي: يقصد به التتميم الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها. وهذا النوع على ضربين أيضا: كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربا من المحاسن، فالأولى من العيوب، والثانية من النعوت والمحاسن. والتتميم في الألفاظ الذي يفيد مع إقامة الوزن ضربا من البديع هو المراد هنا، ومثاله قول المتنبي: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه … يا جنتي لظننت فيه جهنما فإنه جاء بقوله: «يا جنتي» لإقامة الوزن، ولكنها في الوقت ذاته أفادت تتميم المطابقة بين «الجنة» و «جهنم». ... لقد ذكرنا فيما سبق أن قدامة هو أول من أطلق اسم «التتميم» على هذا النوع من البديع المعنوي، وأن أبا هلال العسكري استحسن هذه التسمية فاعتمدها وأضاف إليها «التكميل». وقد جارى بعض البلاغيين أبا هلال في تسميته لهذا الفن البديعي،

وخلطوا التكميل بالتتميم، ولكن المتأخرين من أصحاب البديع عادوا بهذا الفن إلى تسمية قدامة له، وذلك لما لحظوه من فرق بين الأمرين. فالتتميم عندهم يرد على المعنى الناقص فيتمه، والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التمام. والتمام أيضا يكون متمما لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده، والتكميل يكملها. ولمزيد من الإيضاح نورد هنا مثالا للتكميل وهو لكثير عزة: لو أن عزة حاكمت شمس الضحى … في الحسن عند موفق لقضى لها فقوله: «عند موفق» تكميل حسن، فإنه لو قال: «عند محكّم» لتمّ المعنى، لكن في قوله: «عند موفق» زيادة تكميل بها حسن البيت، والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكّم موفقا، فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله. وتجدر الإشارة بعد دراستنا لكل من التتميم والإيغال إلى أن هناك فارقا بينهما. فالتتميم كما ذكرنا يرد على المعنى الناقص فيتمه، على حين يرد الإيغال على المعنى التام لختم الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا بما يعطيه قافيته، ويفيد في الوقت ذاته فائدة يتم المعنى بدونها كالمبالغة مثلا. ولبيان أثر التتميم في تحسين المعنى وصحته وبلاغته نقارن هنا بين بيتين لطرفة بن العبد وذي الرمة في معنى واحد. فطرفة في دعائه لديار صاحبته بالسقيا يقول: فسقى ديارك غير مفسدها … صوب الربيع وديمة تهمي فقوله: «غير مفسدها» فيه إتمام للمعنى بما يفيد أنه يدعو لديار صاحبته بأن يسقيها الغيث أو المطر بالقدر المطلوب، لا بالقدر الذي يزيد

التورية

عن حاجتها فيصيبها بالتلف والإفساد. فهذا التتميم بالاحتراس من البديع حقا. أما ذو الرمة ففي دعائه بالسقيا لدار صاحبته يقول: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى … ولا زال منهلا بجرعائك القطر (¬1) فذو الرمة يدعو لدار صاحبته ميّ بالسلامة وبأن يظل المطر ينهل وينصبّ على جرعائها انصبابا شديدا. وهذا بالدعاء على دار صاحبته أشبه منه بالدعاء لها، لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت. وهذا العيب ناشئ من أن الشاعر لم يتم معناه، ولم يتحرّز فيه كما فعل طرفة في بيته. التورية التورية من فنون البديع المعنوي، ويقال لها أيضا: الإيهام والتوجيه والتخيير، ولكن لفظة «التورية» أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمّى، لأنها مصدر ورّى بتضعيف الراء تورية، يقال: ورّيت الخبر: جعلته ورائي وسترته وأظهرت غيره، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر. والتورية في اصطلاح رجال البديع: هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان، قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد. ونحن نجد لها أكثر من تعريف لدى المتأخرين، ولكن هذه ¬

_ (¬1) الجرعاء والأجرع: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل، وقيل: هي الرملة السهلة المستوية لا تنبت شيئا، والقطر: المطر.

التعريفات وإن اختلفت لفظا فإنها تتفق معنى، ولا تخرج جميعها في مضمونها عن مضمون التعريف السابق الذي اصطلح عليه جمهور البديعيين. فزكي الدين بن أبي الأصبع «654 هـ» قد عرفها في كتابه المسمى «تحرير التحبير» بقوله: «التورية وتسمى التوجيه هي أن يكون الكلام يحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله». والخطيب القزويني «739 هـ» يعرفها في كتابه التلخيص بقوله: «ومن البديع التورية وتسمى الإيهام أيضا، وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد، وهي ضربان مجردة ومرشحة» ولم يزد على هذا القدر شيئا. وصلاح الدين الصفدي «764 هـ» يعرفها في كتابه «فضّ الختام عن التورية والاستخدام» بقوله: «التورية هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين، قريب وبعيد، فيذكر لفظا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد». وتقي الدين بن حجة الحموي «837 هـ» يعرّفها في كتابه «خزانة الأدب» بقوله: «التورية أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجاز، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد، ويورّى عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك، ولأجل هذا سمى هذا النوع إيهاما» (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر في كل هذه التعريفات كتاب خزانة الأدب لابن حجة الحموي 239 - 242.

ومن أمثلة التورية قول سراج الدين الورّاق (¬1): أصون أديم وجهي عن أناس … لقاء الموت عندهم الأديب ورب الشعر عندهم بغيض … ولو وافى به لهم «حبيب» فالتورية في لفظة «حبيب»، ولها معنيان: أحدهما المحبوب، وهذا هو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة بسبب التمهيد له بكلمة «بغيض»، والمعنى الثاني اسم أبي تمام الشاعر وهو حبيب بن أوس، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر ولكنه تلطف فورّى عنه وستره بالمعنى القريب. ومن أمثلتها أيضا قول بدر الدين الذهبي: يا عاذلي فيه قل لي … إذا بدا كيف أسلو؟ يمر بي كل وقت … وكلما «مر» يحلو فالتورية هنا كلمة «مرّ»، فإن لها معنيين: أحدهما أنها مأخوذة من المرارة وهو المعنى القريب بدليل مقابلتها بكلمة «يحلو»، وهذا المعنى القريب الظاهر غير مراد، والمعنى الثاني أنها مأخوذة من المرور، وهذا هو المعنى البعيد الذي يريده الشاعر. ومنها كذلك قول بدر الدين الحمّاميّ: جودوا لنسجع بالمدي … ح على علاكم سرمدا فالطير أحسن ما تغر … د عند ما يقع الندى (¬2) فالتورية هنا في كلمة «الندى»، فمعناها القريب الظاهر غير المراد ¬

_ (¬1) شاعر مصري أولع بالبديع في شعره وتوفي سنة 659 هـ. (¬2) من معاني الندى: الجود، وما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف.

هو ما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف، بدليل التمهيد له بذكر الطير والتغريد والوقوع، ومعناها البعيد هو الجود وهذا هو الذي أراده الشاعر. وقوله أيضا: أبيات شعرك كالقص … ور ولا قصور بها يعوق ومن العجائب لفظها … حرّ ومعناها «رقيق» والتورية في هذا المثال هي كلمة «رقيق» ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد، وهو العبد المملوك، وسبب قربه وتبادره إلى الذهن ما سبقه من كلمة «حر»، والمعنى الثاني بعيد وهو اللطيف السهل الدّمث من المعاني. وهذا هو الذي يريده الشاعر بعد أن ستره وأخفاه في ظل المعنى القريب. ومما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ (¬1). فلفظة التورية في الآية الكريمة هي جَرَحْتُمْ ولها معنيان: أولهما قريب ظاهر غير مراد وهو إحداث تمزّق في الجسم، والثاني بعيد خفي مراد وهو ارتكاب الذنوب واقترافها. ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية وأنها تتمثل دائما في لفظ مفرد له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد. ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية، وأن القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين: أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد ¬

_ (¬1) جرحتم: أصل معنى الجرح إحداث تمزق في الجسم، ولهذا سميت السباع جوارح لأنها تجرح.

أنواع التورية

ويورّى عنه بالمعنى القريب، فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك. ولهذا سمي هذا النوع إيهاما. ... أنواع التورية: والتورية أربعة أنواع: مجردة، ومرشحة، ومبيّنة، ومهيّأة. 1 - التورية المجردة: وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورّى به، وهو المعنى القريب، ولا من لوازم المورّى عنه، وهو المعنى البعيد. وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فكلمة التورية هي اسْتَوى والاستواء، كما يقول الزمخشري، على معنيين: أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب المورّى به غير المقصود، والثاني الاستيلاء والملك، وهو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو المراد، لأن الحق سبحانه منزّه عن المعنى الأول. ولم يذكر من لوازم هذا أو ذاك شيء، فالتورية مجردة بهذا الاعتبار. ومن هذا النوع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في خروجه إلى بدر، وقد قيل له: ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل، فقال: «من ماء»، وأراد: أنا مخلوقون من ماء. فورّى عنه بقبيلة من العرب يقال لها: ماء. ومن ذلك قول أبي بكر الصديق في الهجرة عند ما سأله سائل عن النبي قائلا: «من هذا؟» فقال أبو بكر: «هاد يهديني». أراد أبو بكر هو هاد يهديني إلى الإسلام فورّى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر. ومنه شعرا قول القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت فيه الأرض:

كأن نيسان أهدى من ملابسه … لشهر كانون أنواعا من الحلل أو الغزالة من طول المدى خرفت … فما تفرّق بين الجدي والحمل (¬1) فالتورية هنا مجرّدة، والشاهد في الغزالة والجدي والحمل، فإن الشاعر لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئا من لوازم المورّى به، كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية من طول العنق، وسرعة الالتفات، وسرعة النفرة، وسواد العين، ولا من أوصاف المورّى عنه كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية من الإشراق والسمو والطلوع والغروب. 2 - والتورية المرشحة: هي التي يذكر فيها لازم المورّى به، وهو المعنى القريب، وسميت مرشحة لتقويتها بذكر لازم المورى به. ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية وتارة بعده، فهي بهذا الاعتبار قسمان: أ- فالقسم الأول منها: هو ما ذكر لازمه قبل لفظ التورية. وأعظم أمثلته قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ فإن قوله: بِأَيْدٍ يحتمل اليد الجارجة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح «البنيان»، ويحتمل القوة وعظمة الخالق، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو المراد لأن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول. ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة: فلما نأت عنا العشيرة كلّها … أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر فما أسلمتنا عند يوم كريهة … ولا نحن أغضينا الجفون على وقر فالشاهد لفظة «الجفون» فإنها تحتمل جفون العين، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، وقد تقدم لازم من لوازمه على جهة الترشيح وهو ¬

_ (¬1) من معاني الغزالة: الشمس.

«الإغضاء» لأنه من لوازم العين، وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها، وهذا هو المعنى البعيد المراد المورى عنه. ب- والقسم الثاني: هو ما ذكر لازم المورى به بعد لفظ التورية. ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر: مذ همت من وجدي في خالها … ولم أصل منه إلى اللثم (¬1) قالت: قفوا واستمعوا ما جرى … خالي قد هام به عمي! فلفظة التورية هنا «خالها» فإنها تحتمل خال النسب وهو المعنى القريب المورّى به وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو «العم»، وتحتمل أن تكون الشامة السوداء التي تظهر غالبا في الوجه وتكون علامة حسن، وهذا هو المعنى البعيد الخفيّ المورّى عنه. 3 - التورية المبيّنة: وهي ما ذكر فيها لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية أو بعده. فهي بهذا الاعتبار قسمان: أ- فالقسم الأول: ما ذكر لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية، واستشهدوا عليه بقول البحتري: ووراء تسدية الوشاح ملية … بالحسن تملح في القلوب وتعذب فالشاهد هنا في «تملح» فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي صد العذوبة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به وغير المراد، ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد. وقد تقدم من لوازمه على التبيين «مليّة بالحسن». ¬

_ (¬1) من معاني الخال: خال النسب وهو أخو الأم، والخال الذي يكون في الجسد، وهو شامة أو نكتة سوداء في البدن، وأكثر ما يكون في الوجه، وهو علامة حسن وإن لم يكن هو حسنا في ذاته.

ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول شرف الدين بن عبد العزيز: قالوا: أما في جلق نزهة … تنسيك من أنت به مغرى يا عاذلي دونك من لحظه … سهما ومن عارضه سطرا الشاهد هنا في موضعين وهما «السهم وسطر» فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمتنزهات دمشق، وذكر النزهة بجلّق قبلهما هو المبين لهما، وأما المعنى القريب غير المراد فسهم اللحظ وسطر العارض. ب- والقسم الثاني، من التورية المبينة: هو الذي ذكر فيه لازم المورّى عنه بعد لفظ التورية. ومن أمثلته البديعة قول الشاعر: أرى ذنب السّرحان في الأفق طالعا … فهل ممكن أن الغزالة تطلع؟ فالبيت فيه توريتان إحداهما «ذنب السرحان» فإنه يحتمل أول ضوء النهار، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو مراد الشاعر، وقد بيّنه بذكر لازمه بعده بقوله: «طالعا». ويحتمل ذنب الحيوان المعروف وهو الذئب أو الأسد، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والتورية الثانية في «الغزالة» فإنه يحتمل أن يكون المراد بها الشمس، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، وهو مقصود الشاعر وقد بيّنه بذكر لازمه بعد بقوله: «تطلع». ويحتمل أن يكون المراد بها الغزالة الوحشية المعروفة، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والذي لم يقصده الشاعر. 4 - التورية المهيّأة: وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها، أو باللفظ الذي بعدها، أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر. فالمهيّأ على هذا الاعتبار ثلاثة أقسام.

أ- فالقسم الأول من التورية المهيأة: هو الذي تتهيأ فيه التورية من قبل. واستشهدوا على ذلك بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة: وسيرك فينا سيرة عمرية … فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب وأظهرت فينا من سميك سنة … فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب فالشاهد هنا في «الفرض والندب» وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورّى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه. ولولا ذكر «السنّة» لما تهيأت التورية فيهما ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية. ب- والقسم الثاني من التورية المهيأة: هو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعده. ومن أمثلته نثرا قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأشعث بن قيس: «إنه كان يحوك «الشمال» (¬1) باليمين»، فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة وهي الكساء يشتمل به، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه، ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين ونقيض اليمين، وهذا هو المعنى القريب المورّى به. ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد. ومن هذا النوع من التورية المهيأة شعرا قول الشاعر: لولا التطير بالخلاف وأنهم … قالوا: مريض لا يعود مريضا لقضيت نحبي في جنابك خدمة … لأكون «مندوبا» قضى مفروضا ¬

_ (¬1) الشمال: جمع شملة، وهي كساء يشتمل ويتلفع به.

«فالمندوب» هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أحدا لأحكام الشرعية، وهو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر «المفروض» بعده لم يتنبّه السامع لمعنى المندوب، ولكنه لما ذكر تهيّأت التورية بذكره. ج- والقسم الثالث من التورية المهيّأة: هو الذي تقع التورية فيه في لفظين لولا كل منهما لما تهيّأت التورية في الآخر. واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلا … عمرك الله كيف يلتقيان؟ هي شامية إذا ما استقلت … وسهيل إذا استقل يماني (¬1) وموضع الشاهد هنا هو «الثريا وسهيل»، فإن «الثريا» يحتمل أن يكون الشاعر أراد بها بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أراد بها نجم الثريا، وهذا هو المعنى القريب المورى به. و «سهيل» يحتمل أيضا أن يكون سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وقيل كان رجلا مشهورا من اليمن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل أن يكون النجم المعروف بسهيل، وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولولا ذكر «الثريا» التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل. وكل واحد منهما صالح للتورية. ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن التورية هنا لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبيّنة؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم ¬

_ (¬1) سبب نظم البيتين أن سهيلا المذكور تزوج الثريا المذكورة، وكان بينهما بون شاسع فالثريا مشهورة في زمانها بالجمال وسهيل مشهور بالعكس. وهذا مراد الناظم بقوله: «كيف يلتقيان؟»، وأيضا هي شامية الدار وسهيل يماني.

خاص. والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية، واللفظ الذي تترشح به، واللفظ الذي تتبيّن به- أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيّأة لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا، وأن اللفظ المرشح واللفظ المبين إنما هما مقويان للتورية، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة. ... والتورية التي هي نوع من البديع المعنوي لم يتنبه لمحاسنها إلا المتأخرون من حذّاق الشعر وأعيان الكتاب. وهؤلاء نظروا إليها على أنها من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة، ولهذا نرى الكثيرين جدا من شعراء مصر والشام خاصة في القرن السادس والسابع والثامن للهجرة يتوسعون ويفتنون في استعمالها، ويأتون فيها بالعجيب الرائع الذي يدل على صفاء الطبع والقدرة على التلاعب في أساليب الكلام. والقاضي الفاضل (¬1) «596 هـ» يعد أول من فتح باب التورية لأهل عصره ومن بعدهم بما أودع منها في نظمه ونثره. وقد تأثر به في الولع بالتورية كثيرون من شعراء مصر من أمثال ابن سناء الملك، والسرّاج، والورّاق، والجزار، والحمامي، وابن دانيال، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وجمال الدين بن نباته، وصلاح الدين الصفدي. وممن اشتهر بالتوسع في استعمال التورية من شعراء الشام شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، ومجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف الذهبي، ومحيي الدين الحموي، وشمس الدين بن العفيف، وعلاء الدين ¬

_ (¬1) هو عبد الرحيم بن علي وزير السلطان صلاح الدين، اشتهر بالقاضي الفاضل، وهو من أئمة الإنشاء وتعرف طريقته في الكتابة بالطريقة الفاضلية وقد تأثر بها وقلّدها من جاء بعده من المنشئين.

الكندي الشهير بالوداعي، والذي يقال: إنه أشهر من «قفا نبك» في نظم التورية! ولعل تقي الدين بن حجة الحموي من أكثر رجال البديع المتأخرين اهتماما بالتورية. نقول ذلك لأن ما استشهد به عليها من شعر شعراء البديع بمصر والشام من عصر القاضي الفاضل إلى عصره يمثل في الواقع ربع كتابه «خزانة الأدب» الذي يشتمل على 467 صفحة. وهو ينبئنا عن سبب اهتمامه بالتورية إلى هذا الحد بأنه كان ينوي بعد الفراغ من تأليف «خزانة الأدب» أن يؤلف كتابا خاصا بالتورية والاستخدام يسميه «كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام» (¬1). ... وإذا ألقينا نظرة على نشأة هذا النوع من البديع المعنوي فإننا نرى أن المتقدمين لم يحفلوا كثيرا بالتورية. وأن المرء ليحس فيما يلقاه منها في أدبهم أنها كانت تقع لهم عفوا من غير قصد. ويقال إن المتنبي هو أول من التفت إليها واستخدمها في شعره على نحو ظاهر، ولكن التحقيق يظهر أن شعراء البديع في العصر العباسي الأول والثاني من أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري قد سبقوه إليها. ثم أخذ الاهتمام بها ابتداء من عصر المتنبي يزداد شيئا فشيئا حتى وصلت إلى عصر القاضي الفاضل فتلقفها وتوسع في استعمالها في شعره ونثره إلى الحد الذي لفت الأنظار إليها. ومن ثم جاراه فيها شعراء مصر ¬

_ (¬1) خزانة الأدب ص 277.

التقسيم

والشام خاصة في عصره وبعد عصره، وقد أدى الإعجاب بها والمبالغة في استعمالها والإكثار منها والتكلف فيها إلى إفساد الكثير من شعر المتأخرين وإحالته إلى رياضة ذهنية وحيل لفظية ينطبق عليها قول القائل: وما مثله إلا كفارغ بندق … خلى من المعنى ولكن يفرقع! التقسيم التقسيم فن من فنون البديع المعنوي، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزّأته. أما في الاصطلاح فاختلفت فيه العبارات، والكل راجع إلى مقصود واحد. ومن أوائل من عرض له أبو هلال العسكري وفسره بقوله: «التقسيم الصحيح: أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه، فمن ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وهذا أحسن تقسيم لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، ليس فيهم ثالث» (¬1) وقد قدم الخوف على الطمع لأن الأمر المخوف من البرق يقع في أول برقه، والأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف. وذلك ليكون الطمع ناسخا للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة. وذكر ابن رشيق القيرواني أن الناس مختلفون فيه: «فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به، كقول بشار يصف هزيمة: بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه … وتدرك من نجى الفرار مثالبه فراحوا: فريق في الأسار، ومثله … قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه ¬

_ (¬1) كتاب الصناعتين ص 341.

فالبيت الأول قسمان: إما موت، وإما حياة تورث عارا ومثلبة، والبيت الثاني ثلاثة أقسام: أسير، وقتيل، وهارب، فاستقصى جميع الأقسام، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر» (¬1). وعرفه الخطيب القزويني في كتابه التلخيص بقوله: «والتقسيم ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكل إليه التعيين، كقول المتلمس: ولا يقيم على ضيم يراد به … إلا الأذلان عير الحيّ والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته … وذا يشجّ فلا يرثي له أحد (¬2) فقد ذكر الشاعر العير والوتد، ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف، وإلى الثاني الشج على التعيين. وقبله عرّفه السكاكي بقوله: «هو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك، كقوله: أديبان في بلخ لا يأكلان … إذا صحبا المرء غير الكبد فهذا طويل كظل القناة … وهذا قصير كظل الوتد (¬3) كذلك عرفه زكي الدين بن أبي الأصبع بقوله: «التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه» (¬4) وقد مثل لتعريفه بقوله ¬

_ (¬1) كتاب العمدة ج 2 ص 20. (¬2) كتاب التلخيص للقزويني ص 364، والضيم: الظلم، والعير: الحمار غلب على الوحش، والمناسب هنا الحمار الأهلي، والخسف: الذل، الرمة: القطعة من الحبل، والشج: الدق والكسر. (¬3) خزانة الأدب ص 362. (¬4) خزانة الأدب ص 362.

تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنة. وكذلك بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها؛ فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة. وبقوله تعالى أيضا: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها، والمراد الحال والماضي والمستقبل. فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل، وما خلفنا المراد به الماضي، وما بين ذلك الحال. ومما ينطبق على تعريف ابن أبي الأصبع وهو من أشرف المنثور قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وألبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟»، فلم يبق الرسول قسما رابعا لو طلب لوجد. وقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره». فالإمام علي قد استوعب هنا أقسام الدرجات وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص. ومنه أن شابا قدم مع بعض وفود العرب على عمر بن عبد العزيز ثم قام وتقدم المجلس قائلا: «يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم (¬1)، وفي أيديكم فضول ¬

_ (¬1) أنقت العظم: استخرجت نقوه بكسر النون، أي مخه.

أموال؛ فإن كانت لنا لا تمنعونا، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا. إن الله يجزي المتصدقين». فقال عمر بن عبد العزيز: «ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرا». ... ومن التعريفات والأمثلة السابقة يمكن القول بأن التقسيم يطلق على أمور: أحدها: استيفاء جميع أقسام المعنى، وقد ينقسم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما، أو إلى ثلاثة لا رابع لها، أو إلى أربعة لا خامس لها، وهكذا .. ومن تقسيم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما بالإضافة إلى بعض الأمثلة السابقة قول ثابت البناني: «الحمد لله وأستغفر الله»، ولما سئل: لم خصهما؟ قال: لأني بين نعمة وذنب، فأحمد الله على النعمة، وأستغفره من الذنوب. ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار: متى ما تقع أرساغه مطمئنة … على حجر يرفض أو يتدحرج (¬1) فالوطء الشديد إذا صادف الموطوء رخوا ارفض وتفرق منه، أو صلبا تدحرج عنه، ولهذا لم يبق الشماخ قسما ثالثا. ومن تقسيم المعنى إلى ثلاثة لا رابع لها قول زهير: فإن الحق مقطعه ثلاث … يمين أو نفار أو جلاء (¬2) ¬

_ (¬1) مطمئنة: ساكنة، ويرفض: يتفرق، والأرساغ: جمع رسغ وهو من الدواب الموضع المستدق بين الحافر. (¬2) النفار: المنافرة والتحاكم، والجلاء: البيّنة التي تجلو وتكشف حقيقة الأمر.

فذلكم مقاطع كل حق … ثلاث كلهن لكم شفاء وكان عمر رضي الله عنه يتعجب من صحة هذا التقسيم ويقول: «لو أدركت زهيرا لوليته القضاء لمعرفته». ومنه قول نصيب: فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: … نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري فليس في أقسام الإجابة عن المطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام الثلاثة. وقول عمر بن أبي ربيعة: وهبها كشيء لم يكن أو كنازح … به الدار أو من غيبته المقابر فلم يبق ابن ربيعة مما يعبر به عن إنسان مفقود قسما إلا أتى به في هذا البيت. وقول زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله … ولكنني عن علم ما في غد عم فالبيت جامع لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها. ... والأمر الثاني الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في ذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل حالة ما يلائمها ويليق بها. ومن أمثلة ذلك قول أبي الطيب المتنبي: سأطلب حقي بالقنا ومشايخ … كأنهم من طول ما التثموا مرد

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا … كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا (¬1) فالشاعر قد أضاف هنا كل حال ما يلائمها، بأن أضاف إلى الثقل حال ملاقاتهم الأعداء، وإلى الخفة حال دعوتهم إلى الحرب، وإلى الكثرة حال شدهم وهجومهم على الأعداء في الحرب، وإلى القلة حال عدّهم وإحصائهم، لأنهم إذا غلبوا أعداءهم في قلة عددهم، كان هذا أفخر لهم من الكثرة. ومنه قول زهير: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا … ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا فزهير قد أتى في هذا البيت بجميع ما استعمله الممدوح مع أعدائه في وقت الهياج والحرب مضيفا إلى كل حال ما يلائمها، وذلك بأن أضاف إلى طعن الممدوح لأعدائه حالة ارتمائهم، وإلى ضربه إياهم حالة طعنهم، وإلى اعتناقه حالة مضاربتهم. فهو في كل حال يتقدم خطوة على أقرانه. ومنه قول طريح الثقفي: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا … شرا أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا فهنا أضاف الشاعر إلى سماع الخير حالة إخفائه، وإلى سماع الشر حالة إذاعته، وإلى عدم سماعهم خيرا أو شرا حالة الكذب. ... والأمر الثالث الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في التقطيع، ويقصد به تقطيع ألفاظ البيت الواحد من الشعر إلى أقسام تمثل تفعيلاته ¬

_ (¬1) القنا: الرماح، كنى بها الشاعر عن نفسه، وبالمشايخ عن أصحابه، لا يفارقهم اللثام ولا ترى لحاهم فكأنهم مرد. واللثام في الحرب عادة العرب، لئلا تسقط عمائمهم.

العروضية، أو إلى مقاطع متساوية في الوزن. ويسمى التقسيم حينئذ «التقسيم بالتقطيع». ومن أمثلة ذلك وهو من بحر الطويل قول المتنبي: فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى … ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا فقد جاء المتنبي بهذا البيت مقسما على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت. ومنه وهو من بحر البسيط قول المتنبي أيضا: للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا … والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا فقد جاء البيت مقسما مقطعا إلى أربعة مقاطع متساوية في الوزن. ومنه وهو من بحر الخفيف قول البحتري: قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا … أو معينا أو عاذرا أو عدولا فالبيت هنا مقسم مقطّع إلى ستة مقاطع كل واحد منها يمثل تفعيلة من تفعيلات بحر الخفيف. وقد يجيء التقسيم بالتقطيع مسجوعا، كقول مسلم بن الوليد: كأنه قمر أو ضيغم هصر … أو حية ذكر أو عارض هطل وكقول أبي تمام من قصيدة يمدح فيها المعتصم ويذكر فتح عمورية: لم يعلم الكفر كم من أعصر كمنت … له المنية بين السّمر والقضب (¬1) تدبير معتصم بالله منتقم .. … لله مرتقب في الله مرتغب ¬

_ (¬1) السمر: الرماح، والقضب: السيوف، وعمورية إحدى مدن الروم الشهيرة وكانت عندهم أشرف من القسطنطينية، وقد فتحها المعتصم في معركة شهيرة.

عيوب التقسيم

فالبيت الثاني هنا فيه تقسيم بالتقطيع المسجوع. وقد أطلق قدامة على هذا النوع اسم «الترصيع»، وفضله، وأطنب كثيرا في وصفه. والقدماء لم يكثروا من هذا النوع كراهة التكلف، ومما ورد عندهم منه قول أبي المثلم في الرثاء: هباط أودية حمال ألوية … شهاد أندية سرحان فتيان يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه … من التلاد وهوب غير منان (¬1) فالتقسيم بالتقطيع المسجوع هو هنا في البيت الأول كما يرى. ومن التقسيم نوع يقال له «تقسيم الضد» ويكون بجعل كل شيء ضده، كقول العباس بن الأحنف. وصالكمو صرم، وحبكمو قلى … وعطفكمو صد، وسلمكمو حرب حكى الصولي أن محمد بن موسى المنجم كان يحب التقسيم في الشعر وكان معجبا ببيت العباس بن الأحنف هذا ويقول: «أحسن والله فيما قسم حين جعل كل شيء ضده، والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس» (¬2)!. عيوب التقسيم: والتقسيم إذا استوعب جميع أقسام المعنى أو جميع أحواله فهو التقسيم الصحيح الذي يعد من فنون البديع المعنوي. ولكن التقسيم قد يعتريه بعض أمور تفسده وتنقص من قيمته، ومن ذلك: 1 - عدم استيفاء كل أقسام المعنى، كقول جرير: ¬

_ (¬1) السرحان بالكسر: الذئب والأسد، والتلاد والتالد والتليد: كل مال قديم، وخلافه الطارف والطريف. (¬2) كتاب الصناعتين ج 2 ص 24.

الالتفات

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم … من العبيد وثلث من موالينا فهو بعد أن ذكر أنهم أقسام ثلاثة ذكر قسمين وسكت عن الثالث، فالقسمة هنا رديئة. قيل: إن جريرا أنشد هذا البيت ورجل من حنيفة حاضر، فقيل له: من أي قسم أنت؟ فقال: من الثلث الملغى ذكره! ومن هذا النوع أيضا قول ابن القربة: «الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر»، فإن القسمة هنا رديئة لعدم استيفاء أقسامها، لأن الفاجر يجوز أن يكون أحمق، ويجوز أن يكون عاقلا، والعاقل يجوز أن يكون فاجرا، وكذلك الأحمق. 2 - دخول أحد القسمين في الآخر، كقول أمية بن أبي الصلت: لله نعمتنا تبارك ربنا … ربّ الأنام ورب من يتأبّد فالقسمة هنا فاسدة لأن «من يتأبد ويتوحش» داخل في «الأنام». وكقول الآخر: فما برحت تومي إليك بطرفها … وتومض أحيانا إذا طرفها غفل فالقسمان في البيت متداخلان لأن «تومي وتومض» واحد. وكقول جميل: لو كان في قلبي كقدر قلامة … حبّا وصلتك أو أتتك رسائلي فالبيت يوهم بالتقسيم، ولكنه ليس كذلك لأن إتيان الرسائل داخل في الوصل. الالتفات لعل الأصمعي «214 هـ» أول من ذكر «الالتفات»، فقد حكى عن

إسحاق الموصلي أنه قال: قال لي الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني قوله: أتنسى إذ تود عنا سليمى … بعود بشامة؟ سقي الغمام أما تراه مقبلا على شعره، إذ التفت إلى البشام فذكره فدعا له (¬1). ... وقد عدّ ابن المعتز «الالتفات» من محاسن الكلام وبديعه، فعرفه ومثل له بعدة أمثلة من القرآن الكريم والشعر. ففي تعريفه له يقول: «الالتفات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (¬2). ثم مثل لانصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الخطاب إلى الغيبة بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فالالتفات في الآية الكريمة هو في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وعن هذا الالتفات يقول ابن الأثير: «فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم. ¬

_ (¬1) انظر كتاب العمدة ج 2 ص 44، وكتاب الصناعتين ص 392، والبشام: شجر ذو ساق وأفنان وورق ولا ثمر له. (¬2) كتاب البديع ص 58.

ولو أنه قال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة» (¬1). ومثل ابن المعتز كذلك لانصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الغيبة إلى الخطاب بقول جرير: طرب الحمام بذي الأراك فشاقني … لا زلت في علل وأيك ناضر (¬2) فجرير قد أخبر عن الغائب في الشطر الأول وهو «الحمام»، ولكنه في الشطر الثاني انصرف عن الاستمرار في خطاب هذا الغائب والتفت إلى مخاطبته بقوله «لا زلت في علل وأيك ناضر» لزيادة فائدة في المعنى هي الدعاء للحمام. أما النوع الثالث من الالتفات عند ابن المعتز وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر فقد مثل له بقول أبي تمام: وأنجدتمو من بعد اتهام داركم … فيا دمع أنجدني على ساكني نجد فالشاعر، وهو المتكلم هنا، يخبر من يخاطبهم بأنه يعلم أنهم قد اتخذوا دارهم في نجد بعد أن كانت في تهامة، ثم ينصرف أو يلتفت بعد ذلك إلى معنى آخر يتمثل في دعاء الدمع ومطالبته بأن يسعفه على ساكني نجد. ... وجاء قدامة بن جعفر بعد ابن المعتز فعد «الالتفات» من نعوت ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 170. (¬2) العلل بفتح العين واللام: الشرب بعد الشرب تباعا، والأيك: شجر، الواحدة أيكة، ويقال شجر من الأراك.

المعاني وعرّفه بقوله: «الالتفات أن يكون الشاعر آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظن بأن رادا يرد عليه قوله، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه، بمعنى يلتفت إليه بعد فراغه، فإما أن يذكر سببه أو يجلي الشك فيه» (¬1). ومن أمثلة ذلك عنده قول المعطل الهذلي: تبين صلاة الحرب منا ومنهمو … إذا ما التقينا والمسالم بادن (¬2) فقوله: «والمسالم بادن» رجوع عن المعنى الذي قدمه حين بيّن أن علامة «صلاة الحرب» من غيرهم أن المسالم يكون بادنا والمحارب ضامرا. ومن أمثلته أيضا قول الرماح بن ميادة: فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة … ولا وصله يبدو لنا فنكارمه (¬3) فكأنه يقول: «وفي اليأس راحة» والتفت إلى المعنى لتقدير أن معارضا يقول له: وما تصنع بصرمه أي هجره؟ فيقول مبينا علة ما يرجوه من انكشاف صرمه وهجره: لأنه يؤدي إلى اليأس، وفي اليأس راحة. ... ومن يقارن مفهوم «الالتفات» عند ابن المعتز وقدامة، ثم يتابع مفهومه عند غيرهم من أمثال أبي هلال العسكري، وابن رشيق، وفخر الدين الرازي والسكاكي، يجد أن منهم من يستوحي مفهوم الالتفات عند ¬

_ (¬1) كتاب نقد الشعر لقدامة ص 106. (¬2) تبين: تستبين صلاة الحرب بضم الصاد: الذين يقاسون حرها وشدتها وأهوالها جمع صال، مثل: قاض وقضاة. (¬3) الصرم بفتح الصاد: ضد الوصل وهو الهجر والصد.

أقسام الالتفات

ابن المعتز أو قدامة، ومنهم من يخلط بين هذا الفن البديعي والاعتراض. وخير من عرض لموضوع «الالتفات» في نظرنا هو ضياء الدين ابن الأثير، فقد عالجه بوضوح وفهم لأسراره البلاغية، ولهذا آثرنا أن ننقل هنا خلاصة لكلامه عن «الالتفات» توضح حقيقته ووظيفته البلاغية، وتجنبنا الخلط الكثير الذي وقع فيه غيره من البلاغيين. يستهل ابن الأثير كلامه، عن هذا الفن من فنون البديع المعنوي ببيان حقيقته فيقول: «وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقيل بوجهة تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة، لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة كالانتقالات من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلا. ويسمى أيضا «شجاعة العربية»، وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (¬1). أقسام الالتفات ثم يقسم ابن الأثير الالتفات ثلاثة أقسام هي: 1 - القسم الأول: في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة. ¬

_ (¬1) كتاب المثل السائر ص 167، ويتورد ما لا يتورد سواه: أي يعلو قرنه بما لا يعلوه سواه.

2 - القسم الثاني: في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر. 3 - القسم الثالث: في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالفعل الماضي. وفيما يلي خلاصة لكلام ابن الأثير عن كل قسم من هذه الأقسام. ... 1 - فعن القسم الأول، وهو الخاص بالرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة يورد ابن الأثير أولا آراء بعض علماء البلاغة في السبب الذي قصدت العرب إليه من وراء استعمال هذا الأسلوب، ثم يعقب عليها برأيه. فعامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبة قالوا: كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامهم. وهذا القول عنده عكاز العميان كما يقال. كذلك لم يرتض جواب الزمخشري عن هذا السؤال بأن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه. وعند ابن الأثير أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته. وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها. فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد يكون الغرض منه تعظيم شأن المخاطب، وقد يستعمل ذات الغرض للضد، أي للانتقال من الخطاب

إلى الغيبة، ومن ذلك يفهم أن الغرض الموجب لاستعمال «الالتفات» لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه. وفي الأمثلة التالية توضيح ذلك. أ- فمن الالتفات بالرجوع والعدول عن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (¬1). وإنما قيل: لَقَدْ جِئْتُمْ وهو خطاب للحاضر بعد قوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل على قائلي هذا القول بالجرأة على الله، والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبخا لهم. ومن هذا النوع أيضا، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الغيبة إلى الخطاب قول القاضي الأرّجاني: وهل هي إلا مهجة يطلبونها؟ … فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي … فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى؟ فالبيت الثاني قد جاء وهو خطاب للحاضر بعد البيت الأول وهو خطاب للغائب. فالغرض البلاغي من وراء الالتفات بالعدول عن الاستمرار في الإخبار عن الغائب إلى مخاطبته هو تمثل أحبابه الغائبين في البيت الأول كأنهم حاضرون أمامه ليقرّعهم ويلومهم على عدم معاملته بالمثل، وذلك بالمقابلة بين مشاعرهم نحوه: هو على أتم استعداد لأن يفديهم بمهجته إن أرضاهم ذلك، وهم يرومون قتله بالتمادي في هجرانه ¬

_ (¬1) الإدّ بكسر الهمزة وتشديد الدال: الأمر الفظيع المنكر، وأده الأمر بتشديد الدال: أثقله وعظم عليه.

والإعراض عنه كما لو كان عدوا لهم. ... ومما ينخرط في هذا السلك الالتفات بالرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس، كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. فالآية مثال للالتفات بالعدول عن الغيبة إلى خطاب النفس، فإنه قال وَزَيَّنَّا بعد قوله ثُمَّ اسْتَوى وقوله فَقَضاهُنَّ- وَأَوْحى. والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما، فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس لأنه مهمة من مهمات الاعتقاد، وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانه. ... ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن مخاطبة النفس إلى مخاطبة الجماعة، قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم، لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. وقد وضع قوله وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مكان قوله «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم» بدليل قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. ولولا أنه قصد ذلك لقال «الذي فطرني وإليه أرجع». ***

ب- ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الخطاب إلى الغيبة، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. فإنه إنما قال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يقل: «فآمنوا بالله وبي» عطفا على قوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه. وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان أنا أو غيري، إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب. فقرر أولا في صدر الآية أني رسول الله إلى الناس، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين: الأول منهما إجراء تلك الصفات عليه، والثاني الخروج من تهمة التعصب. ومن هذا النوع، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الخطاب إلى الغيبة قول ابن النبيه: من سحر عينيك الأمان الأمان … قتلت ربّ السيف والطيلسان أسمر كالرمح له مقلة … لو لم تكن كحلاء كانت سنان فقد عدل عن الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في البيت الثاني لغرض بلاغي قد يكون التفنن في الأسلوب، وقد يكون التمكن من بناء التشبيه الذي يشبه فيه القوام بالرمح، مع المحافظة على سلامة الوزن الشعري. ... والقسم الثاني من الالتفات، هو الخاص بالرجوع أو العدول عن

الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر. ويقول ابن الأثير إن هذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلبا للتوسع في أساليب الكلام فقط، بل الأمر وراء ذلك. وإنما يقصد إليه تعظيما لحال من أجرى عليه الفعل المستقبل وتفخيما لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أجرى عليه فعل الأمر. فمن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر قوله تعالى: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ. وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ. وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. فإنه إنما قال: أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا ولم يقل: «وأشهدكم» ليكون موازنا له وبمعناه، لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول- المستقبل- لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لمن ساءت علاقته به: أشهد عليّ أني أحبك، تهكما به واستهانة بحاله. ... ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر بغرض التوكيد لما أجرى عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقه قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. وكان تقدير الكلام: أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن ذلك بالالتفات إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في

نفوسهم، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب، إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الأعمال بالنيات». ... أما القسم الثالث والأخير من أقسام الالتفات فهو الخاص بالإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالفعل الماضي. فالأول هنا، هو «الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل». وبيان ذلك أن الفعل المستقبل إذا أتى في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي. والسبب في ذلك أن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضي. وليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض يجري هذا المجرى. وتفصيل ذلك أن عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي وهو إخبار عن الفعل الماضي بمستقبل، والآخر ليس بلاغيا. وليس إخبارا عن فعل ماض بمستقبل، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض. فالضرب الأول كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ. فإنما قال فَتُثِيرُ مستقبلا وما قبله وما بعده ماض، وذلك حكاية للحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة ... وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تميز وخصوصية، كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك.

ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ. فقال أولا خَرَّ مِنَ السَّماءِ بلفظ الماضي، ثم عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه وتهوي»، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهويّ الريح به في مكان سحيق. ومنه كذلك قول تأبط شرا: بأني قد لقيت الغول تهوي … بشهب كالصحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرّت … صريعا لليدين وللجران (¬1) فتأبط شرا قصد في هذين البيتين أن يصوّر لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يريهم إياها مشاهدة ماثلة أمام أعينهم للتعجب من جرأته على ذلك الهول. ولو قال: «فضربتها» عطفا على الفعل الماضي قبله وهو «لقيت» لزال الغرض البلاغي المذكور. أما الضرب الثاني، وهو الفعل المستقبل الذي يدل على معنى مستقبل غير ماض، ويراد به أنه فعل مستمر الوجود لم يمض فكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فإنه إنما عطف الفعل المستقبل يَصُدُّونَ على الماضي كَفَرُوا لأن كفرهم كان ¬

_ (¬1) الغول بالضم: الحية، والسعلاة، والداهية، وكل ما اغتال الإنسان وأهلكه فهو غول، وكانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات والصحارى تتراءى للناس فتتغول تغولا، أي تتلون تلونا في صور شتى فتضلهم عن الطريق وتهلكهم. وعلى هذا المعنى تكون الغول التي ورد ذكرها في البيت قد تمثلت لتأبط شرا في صورة ناقة أو جمل. والصحصحان: الأرض المستوية الواسعة، والجران بكسر الجيم: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، وإذا برك البعير ومد عنقه على الأرض قيل: ألقى جرانه بالأرض.

ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا، وصدهم عن سبيل الله متجدد على الأيام لم يمض وجوده، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين. ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. فهنا عدل عن لفظ الماضي إلى المستقبل فقال: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ولم يقل «فأصبحت» عطفا على «أنزل» وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض. وهذا كما تقول: «أنعم عليّ فلان فأروح وأغدو شاكرا له» ولو قلت: «فرحت وغدوت شاكرا له» لم يقع ذلك الموقع، لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى. ... وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل، فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر عن المستقبل الذي لم يوجد بعد، كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد. وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها. والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بالإخبار بالماضي عن المستقبل هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد. فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فإنه إنما قال

الجمع

فَفَزِعَ بلفظ الماضي بعد قوله يُنْفَخُ وهو مستقبل، للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. ومن أمثلة الالتفات بالإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل أيضا قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وإنما قيل وَحَشَرْناهُمْ ماضيا بعد «نسيّر وترى» وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك لأن الحشر هو المهم، لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي. فالعدول بالالتفات عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة لا يكون، كما رأينا، إلا لنوع من الخصوصية اقتضت ذلك. وهذه أمر لا يتوخاه في كلامه إلا المتمرس بفن القول والعارف بأسرار الفصاحة والبلاغة (¬1). الجمع الجمع: هو أن يجمع بين متعدد في حكم واحد، أو هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد، كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، فقد جمع الله سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة. ومنه قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (¬2). فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان أي الحساب ¬

_ (¬1) انظر في هذا الموضوع كتاب المثل السائر لا بن الأثير ص 167 - 173. (¬2) الحسبان بضم الحاء كالغفران: الحساب الدقيق، والنجم هنا: النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض ولا ساق له، والشجر: النبات الذي له ساق وله أغصان، ويسجدان: أي ينقادان لما أراده الله سبحانه منهما.

التفريق

الدقيق، وجمع بين النجم والشجر في السجود أي الانقياد لإرادة الله سبحانه. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (¬1). فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حكم واحد هو حيازة الدنيا وامتلاكها بحذافيرها أي من جميع نواحيها. ومنه شعرا قول أبي العتاهية: إن الفراغ والشباب والجدة … مفسدة للمرء أي مفسدة فجمع الشاعر بين الفراغ والشباب والجدة أي الاستغناء في حكم واحد هو المفسدة، أي أن هذه الأمور تؤدي بصاحبها إلى الفساد. التفريق التفريق في اللغة ضد الاجتماع. والتفريق في اصطلاح البديعيين هو إيقاع تباين بين أمرين من نوع، في المدح وغيره. وهذا معناه أن المتكلم أو الناظم يأتي إلى شيئين من نوع واحد فيوقع بينهما تباينا وتفريقا بفرق يفيد زيادة وترجيحا فيما هو بصدده من مدح أو ذم أو نسيب أو غيره من الأغراض الأدبية. ومن أمثلة التفريق قول رشيد الدين الوطواط: ¬

_ (¬1) السرب بكسر السين وسكون الراء: النفس وهو المراد هنا، ومن معانيها أيضا: الجماعة من النساء والبقر والقطا والشاء والوحش، والجمع أسراب، والحذافير: النواحي، واحدها حذفار.

ما نوال الغمام وقت ربيع … كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين (¬1) … ونوال الغمام قطرة ماء فالشاعر هنا قد أوقع التباين بين النوالين أي العطائين: نوال الغمام ونوال الأمير، مع أنهما من نوع واحد وهو مطلق نوال. ومن أمثلة التفريق أيضا قول الشاعر: من قاس جدواك بالغمام فما … أنصف في الحكم بين شكلين أنت إذا جدت ضاحك أبدا … وهو إذا جاد دامع العين فهنا شيئان من نوع واحد هما جدوى الممدوح وجدوى الغمام، أي عطاؤهما، وقد أوقع الشاعر تباينا بينهما بفرق يفيد زيادة وترجيحا لكفة عطاء الممدوح، فهو يعطي ضاحكا فرحا بالعطاء، على حين يعطي الغمام دامع العين، كأنما هناك قوة تدفعه إلى العطاء على غير إرادة منه. ومنه قول الشاعر: قاسوك بالغصن في التثني … قياس جهل بلا انتصاف هذاك غصن الخلاف يدعى … وأنت غصن بلا خلاف فالشاعر أتى هنا بشيئين من نوع واحد على التشبيه هما: غصن شجر الخلاف أي الصفصاف، وقوام صاحبته الذي يشبه الغصن في التثني، ثم أوقع التباين والتفريق بينهما لفائدة معنوية ادعاها، وهي تفضيل قوام صاحبته على غصن الخلاف، لأن الأخير تنفر النفس عنه لاسمه «الخلاف» ¬

_ (¬1) العين: من معانيها النقد عامة من دراهم ودنانير وغيرها وهو المقصود هنا، والبدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف، وهذا الكيس يصنع من جلد ولد الضأن إذا فطم، فبدرة عين: كيس مملوء بالدراهم أو الدنانير أو غيرها، والنوال: العطاء.

الجمع مع التقسيم

أما الأول وهو قوام صاحبته فغصن لا خلاف ولا شك فيه. وفي «خلاف» و «خلاف» جناس تام لتشابه اللفظين نطقا لا معنى، واتفاق حروفهما هيئة ونوعا وعددا وترتيبا. ومن التفريق أيضا قول صفي الدين الحلي في مدح الرسول: فجود كفيه لم تقلع سحائبه … عن العباد وجود السحب لم يدم ففي البيت شيئان من نوع واحد هما: جود كفي الرسول صلوات الله عليه وجود السحب، وقد أوقع الشاعر تباينا بينهما مع أنهما من نوع واحد وهو مطلق جود. وقد قصد الشاعر من وراء هذا التباين أو التفريق بين الشيئين من نوع واحد إلى غرض بلاغي هو ترجيح وتفضيل جود كفي الرسول على جود السحب، فجود كفي الرسول على العباد متصل دائم وجود السحب منقطع غير دائم. الجمع مع التقسيم الجمع مع التقسيم: هو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه، أو العكس أي تقسيم متعدد ثم جمعه تحت حكم. فالأول وهو جمع المتعدد ثم تقسيمه كقول المتنبي من قصيدة يصف فيها موقعة دارت بين الروم والعرب بقيادة سيف الدولة بالقرب من بحيرة الحدث: حتى أقام على أرباض خرشنة … تشقى به الروم والصلبان والبيع (¬1) ¬

_ (¬1) الأرباض: جمع ربض بفتحتين، وهو ما حول المدينة، وخرشنة: بلد من بلاد الروم، وفيها يقول أبو فراس الحمداني:

للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا … والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا فالمتنبي هنا جمع الروم ممثلين في نسائهم وأولادهم وأموالهم وزرعهم تحت حكم واحد هو الشقاء، ثم قسم ذلك الحكم إلى سبي وقتل ونهب وإحراق، وأرجع إلى كل قسم من هذه الأقسام ما يلائمه ويناسبه، فأرجع للسبي ما نكحوا، وللقتل ما ولدوا، وللنهب ما جمعوا، وللنار ما زرعوا، أي إتلاف مزارعهم بالإحراق. ومع أن الصلبان والبيع تشترك بالعطف مع الروم في الحكم عليها بالشقاء إلا أن التقسيم خصّ بالروم وقصر عليهم وحدهم. والثاني: هو التقسيم ثم الجمع، أو بعبارة أخرى هو تقديم التقسيم وتأخير الجمع في الحكم عليه. ومن أمثلته قول حسان بن ثابت: قوم إذا حاربوا ضروا عدوهمو … أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة … إن الخلائق فاعلم شرّها البدع (¬1) قسم الشاعر في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضر الأعداء في الحرب ونفع الأشياع والأولياء، ثم عاد فجمعها في البيت الثاني حيث قال: «سجية تلك». والنوع الأول هنا كما يبدو أحسن وأوقع في القلوب من الثاني، وعليه مشى أصحاب البديعيات. ¬

_ - إن زرت «خرشنة» أسيرا … فلكم أحطت بها مغيرا ولقد رأيت النار تن … تهب المنازل والقصورا ولئن لقيت الحزن في … ك فقد لقيت بك السرورا (¬1) البدع: جمع بدعة، وهي الحدث في الدين بعد الكمال، والمراد بها هنا محدثات الأخلاق.

الجمع مع التفريق

ومن النوع الأول أيضا وهو الجمع ثم التقسيم قول صفي الدين الحلي: أبادهم فلبيت المال ما جمعوا … والروح للسيف والأجساد للرخم (¬1) فكما يفهم من البيت جمع الشاعر المتمردين على السلطان تحت حكم واحد هو الإبادة، ثم قسم ذلك الحكم إلى المال والروح والأجساد، وأرجع إلى كل واحد من هذه الأقسام ما يناسبه، فأرجع لبيت المال ما جمعوا، وللسيف الروح وللرخم الأجساد. ويلاحظ على هذا البيت أن صفي الدين الحلي قد استوحى معناه من معنى المتنبي السابق، ولكن شتان بين صياغة وصياغة، وبين شاعر مبتدع وآخر مقلد. الجمع مع التفريق يعرفه علماء البديع بأنه الجمع بين شيئين في حكم واحد ثم التفريق بينهما في ذلك الحكم. ومن أمثلته قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً. فالمعنى أولا أن الله سبحانه جعل الليل والنهار آيتين، أي دليلين على قدرته وحكمته، والمراد بمحو آية خلقها ممحوا ضوءها، أي جعلها مظلمة كما جعل آية النهار مبصرة. على هذا جمع بين الليل والنهار في حكم واحد هو أنهما آيتان ودليلان على القدرة والحكمة، ثم فرق بينهما في ذلك الحكم من جهة أن الليل يكون مظلما والنهار يكون مضيئا. ¬

_ (¬1) الرخم: الطيور، جمع رخمة بفتحتين.

ومن أمثلة الجمع مع التفريق شعرا قول رشيد الدين الوطواط: فوجهك كالنار في ضوئها … وقلبي كالنار في حرّها فقد جمع بين وجه الحبيب وقلب نفسه في حكم واحد هو تشبيههما بالنار، ثم فرّق بينهما في ذلك الحكم من جهة وجه الشبه في كليهما، فوجه الحبيبة كالنار في ضوئها ولمعانها، وقلب الشاعر كالنار في حرارتها ولهبها المحرق. ومن الشواهد أيضا قول الفخر عيسى: تشابه دمعانا غداة فراقنا … مشابهة في قصة دون قصة فوجنتها تكسو المدامع حمرة … ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي فالشاعر هنا جمع بين الدمعين ساعة الفراق في الشبه، ثم فرّق بينهما بأن دمع الحبيبة أبيض فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدّها، وأنّ دمعه أحمر لأنه يبكي دما وجسده من النحول والشحوب أصفر فإذا جرى دمعه على خده صيّره أحمر. ومن أمثلة الجمع مع التفريق كذلك قول البحتري: ولما التقينا والنقا موعد لنا … تعجّب رائي الدرّ منا ولاقطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها … ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه فالبحتري في بيتيه هذين جمع بين رائي الدر ولاقطه في حكم واحد هو التعجب، ثم فرّق بينهما في ذلك الحكم، أي من جهة التعجب، فرائي الدر يتعجب من ثناياها اللؤلؤية التي تبدو له عند ابتسامها، ولاقط الدر يتعجب مما تنفرج عنه شفتاها عند الحديث من كلمات يلتقطها وكأنها اللؤلؤ قيمة ونفاسة.

الجمع مع التفريق والتقسيم

الجمع مع التفريق والتقسيم وهو الجمع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد، ثم التفريق بينها في ذلك الحكم، ثم التقسيم بين الشيئين أو الأشياء المفرقة بأن يضاف إلى كل ما يلائمه ويناسبه. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (¬1). أما الجمع ففي قوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإن قوله نَفْسٌ متعدد معنى، أي جمع الأنفس بقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، ثم فرق بينهم بأن بعضهم شقي وبعضهم سعيد، ثم قسم بأن أضاف إلى الأشقياء ما لهم من عذاب النار، وإلى السعداء ما لهم من نعيم الجنة. ومن الجمع مع التفريق والتقسيم شعرا قول ابن شرف القيرواني: لمختلفي الحاجات جمع ببابه … فهذا له فن وهذا له فنّ فللخامل العليا وللمعدم الغنى … وللمذنب العتبى وللخائف الأمن (¬2) فمختلفي الحاجات جمع بينهم في حكم واحد هو الاجتماع أمام ¬

_ (¬1) يوم يأتي: أي يوم يأتي أمر ربك، والزفير: إخراج النفس بشدة، والشهيق رد النفس بشدة، وعطاء غير مجذوذ: أي عطاء غير مقطوع. (¬2) الفنّ هنا: الحال، والخامل: ساقط النباهة الذي لاحظ له، مأخوذ من خمل المنزل خمولا إذا عفا ودرس، وللمذنب العتبى: أي الرضا عنه والتجاوز عن ذنبه.

بابه، ثم فرّق بينهم في ذلك الحكم من جهة أن كلا منهم له حال خاصة تخالف حال غيره، ثم عاد فقسّم بأن أضاف إلى كل واحد منهم ما يناسب حاله، فللخامل العليا، وللمعدم الغنى، وللمذنب العتبى، وللخائف الأمن.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

تأكيد المدح بما يشبه الذم أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي عبد الله بن المعتز، فقد عده في كتابه «البديع» من محاسن الكلام، وسمّاه «تأكيد مدح بما يشبه الذم» وأورد له مثالين، هما قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب وقول النابغة الجعدي: فتى كملت أخلاقه غير أنه … جواد فما يبقي من المال باقيا ومن البلاغيين من يسمي هذا الفن البديعي «الاستثناء» ناظرين إلى أن حسنه المعنوي ناشئ من أثر أداة الاستثناء التي يبنى عليها، ولكن تسمية ابن المعتز له أدلّ في الواقع عليه من تسميته «بالاستثناء». ... وتأكيد المدح بما يشبه الذم ضربان: 1 - أولهما، وهو في الوقت ذاته أفضلهما، أن يستثنى من صفة ذم

منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها في صفة الذم. كقول النابغة الذبياني السابق: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب (¬1) فالنابغة هنا نفى أولا عن ممدوحيه صفة العيب ثم عاد فأثبت لهم بالاستثناء عيبا هو أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب، وهذه ليست في الواقع صفة ذم وإنما هي صفة مدح أثبتها الشاعر لممدوحيه وأكدها بما يشبه الذم. وتأكيد المدح في هذا الضرب من وجهين: أحدهما أن التأكيد فيه هو من جهة أنه كدعوى الشيء ببيّنة وبرهان، كأنه استدل على أنه لا عيب فيهم بأن ثبوت عيب لهم معلق بكون فلول السيف عيبا وهو محال. والوجه الثاني أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال، بمعنى أن المستثنى يكون داخلا في المستثنى منه وفردا من أفراده، وعلى هذا فإذا قيل: «ولا عيب فيهم غير ...» فإن السامع يتوهم بمجرد التلفظ بأداة الاستثناء «غير» أو نحوها وقبل النطق بما بعدها أن ما يأتي بعدها وهو المستثنى لا بدّ أن يكون صفة ذم، فإذا ولى أداة الاستثناء صفة مدح تبدد توهم السامع بهذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها. لقد توهم أن الذي سيلي أداة الاستثناء لا بدّ أن يكون صفة ذم فإذا به يفاجأ بأنها صفة مدح. ومن هنا يجيء التوكيد لما فيه من المدح على المدح، ومن الإشعار بأن المتكلم لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح وتحويل الاستثناء من متصل إلى منقطع. ... ¬

_ (¬1) الفلول: جمع فل، وهو الثلم يصيب السيف في حده، وقراع الكتائب: مضاربة الجيوش ومقاتلتها عند اللقاء.

2 - والضرب الثاني من تأكيد المدح بما يشبه الذم يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له. ومثال ذلك قول الرسول: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»، و «بيد» بمعنى «غير» وهو أداة استثناء، وأصل الاستثناء في هذا الضرب أن يكون منقطعا، ولم يقدر متصلا لأنه ليس هنا صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها. وإذا لم يمكن تقدير الاستثناء متصلا في هذا الضرب فلا يفيد التوكيد إلا من الوجه الثاني، وهو أن ذكر أداة الاستثناء يوهم إخراج شيء مما قبلها من حيث أن الأصل في مطلق الاستثناء هو الاتصال، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى جاء التوكيد. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم ضرب آخر وهو أن يؤتى بمستثنى فيه معنى المدح معمولا لفعل فيه معنى الذم، وذلك نحو قوله تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا. أي وما تعيب منا إلا الإيمان بالله الذي هو أصل المناقب والمفاخر كلها. فالفعل تَنْقِمُ فيه معنى العيب والذم، والمستثنى بإلا وهو مصدر الإيمان المؤول من «أن آمنا» يتضمن صفة مدح، وهو في الوقت ذاته معمول الفعل تَنْقِمُ. فهذا المثال ونظائره مما تأتي فيه صفة المدح الواقعة بعد أداة الاستثناء معمولا لفعل فيه معنى الذم- يعد ضربا آخر من تأكيد المدح بما يشبه الذم. وفي هذا الأسلوب البديعي قد تأتي أدوات الاستثناء من مثل «إلا، وغير، وسوى» بمعنى «لكن» التي للاستدراك، وعندئذ يكون تأكيد المدح

بما يشبه الذم فيها من الضرب الثاني الذي يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له. وذلك كقول الشاعر: هو البحر إلا أنه البحر زاخرا … سوى أنه الضرغام لكنه الوبل فالممدوح هنا هو البحر، لكنه البحر زاخرا، لكنه الضرغام، لكنه الوبل أي المطر، فقد شبه الممدوح بالبحر وهذه صفة مدح، ثم أكدت هذه الصفة بصفات مدح أخرى هي: أنه البحر زاخرا، وأنه الضرغام شجاعة، وأنه الوبل أي المطر غزارة. وكل ذلك قد ثبت وتأكد بالاستدراك الذي أزال توهم السامع بالاستثناء لصفات ذم وأحل محلها صفات مدح. وبعد ... فتجدر الإشارة هنا إلى أن تسمية هذا الفن البديعي «بتأكيد المدح بما يشبه الذم» قد نظر فيها إلى الأعم الأغلب، وإلا فقد يكون ذلك في غير المدح والذم ويكون من محسنات الكلام، كقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره، وذلك غير الممكن. والغرض بطبيعة الحال هنا هو المبالغة في تحريم هذا النوع من الزواج وسد الطريق إلى إباحته. ويمكن تسمية ما يأتي من هذا القبيل «بتأكيد الشيء بما يشبه نقيضه». ... وتتمة لما سبق وزيادة في توضيحه نورد فيما يلي بعض أمثلة مما جادت به قرائح الشعراء فيه.

فالضرب الأول من تأكيد المدح بما يشبه الذم هو، كما عرفنا، أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها في صفة الذم. ومن أمثلة ذلك: 1 - قول أبي هفّان الشاعر: ولا عيب فينا غير أن سماحنا … أضرّ بنا، والبأس من كل جانب فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم … وأفنى الندى أموالنا غير عائب فقوله إن السماح والبأس أضرّا بهم ليس بعيب على الحقيقة، ولكنه توكيد مدح. ومما زاد المعنى ملاحة ولطف موقع ما تضمنه من احتراس بديع في قوله «غير ظالم وغير عائب». 2 - وقول ابن الرومي: ليس له عيب سوى أنه … لا تقع العين على شبهه فجعل انفراده في الدنيا بالحسن دون أن يكون له قرين يؤنسه عيبا، فهو بذلك يزيد توكيد حسنه. 3 - وقول حاتم الطائي: وما تشتكي جارتي غير أنني … إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع أهلها … إليها ولم تقصر عليّ ستورها 4 - وقول أبي هلال العسكري: ولا عيب فيه غير أن ذوي الندى … خساس إذا قيسوا به ولئام 5 - وقول شاعر: ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم … تعاب بنسيان الأحبة والوطن

6 - وقول صفي الدين الحلي في المعنى السابق: لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم … يسلو عن الأهل والأوطان والحشم 7 - وقول جمال الدين بن نباتة: لا عيب فيه سوى العزائم قصّرت … عنها الكواكب وهي بعد تحلق 8 - وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً. ... والضرب الثاني من تأكيد المدح بما يشبه الذم يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له. ومن أمثلته: 1 - قول النابغة الجعدي: فتى كملت أخلاقه غير أنه … جواد فما يبقى من المال باقيا فتى كان فيه ما يسر صديقه … على أن فيه ما يسيء الأعاديا 2 - وقول شاعر آخر: أدافع عن أحسابهم غير أنني … وحاشاي يوما لا أمنّ عليهمو 3 - وقول شاعر ثالث: أطلب المجد دائبا غير أني … في طلابي لا تعرف اليأس نفسي

تأكيد الذم بما يشبه المدح

تأكيد الذم بما يشبه المدح وتأكيد الذم بما يشبه المدح كعكسه السابق ضربان: 1 - أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم، بتقدير دخولها في صفة المدح. وذلك نحو قول القائل: «فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من أحسن إليه». 2 - وثانيهما أن يثبت للشيء صفة ذم وتعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له. وذلك كقول القائل: «فلان فاسق إلا أنه جاهل». والضرب الأول يفيد التأكيد من وجهين، والثاني من وجه واحد، كما مر من تأكيد المدح بما يشبه الذم. المذهب الكلامي المذهب الكلامي نوع كبير من أنواع البديع المعنوي، وقد عده ابن المعتز أحد الفنون البديعية الخمسة الأساسية التي بنى عليها كتابه

«البديع»، وقال عنه: «هو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي. وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا، وهو ينسب إلى التكلف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (¬1). ولكن ابن المعتز لم يذكر مفهوم الجاحظ لهذا الفن البديعي كما أنه لم يحاول هو تحديده، وكل ما فعله أنه ذكر بعض أمثلة له، منها قول الفرزدق: لكل امرئ نفسان: نفس كريمة … وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للندى … إذا قل من أحرار هنّ شفيعها ومنها قول أبي نواس: إن هذا يرى- ولا رأي للأح … مق- أني أعده إنسانا ذاك في الظن عنده وهو عندي … كالذي لم يكن وإن كان كانا وقول إبراهيم بن المهدي يعتذر للمأمون من وثوبه على الخلاقة: البرّ منك وطاء العذر عندك لي … فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي … مقام شاهد عدل غير متهم وإذا تأملنا كل مثال من هذه الأمثلة وجدنا أن الشاعر يدعي دعوى ثم يحاول التماس دليل مقنع عليها. تماما كما يفعل المتكلمون بإيراد الحجج العقلية على دعاواهم. وعلى هذا فأغلب الظن أن مفهوم المذهب الكلامي عند الجاحظ وابن المعتز كما توحي به الأمثلة السابقة هو: اصطناع مذهب المتكلمين العقلي في الجدل والاستدلال وإيراد الحجج والتماس العلل، وذلك بأن ¬

_ (¬1) كتاب البديع لا بن المعتز ص 53 - 57.

يأتي البليغ على صحة دعواه بحجة قاطعة أيا كان نوعها. ولعل مما يؤكد ذلك قول الجاحظ في معرض المعرفة والاستدلال: «ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى، كما أنه لولا الاستدلال لما كان لوضع الدلالة معنى ..... وللعقل في خلال ذلك مجال، وللرأي تقلب، وتنشر للخواطر أسباب، ويتهيأ لصواب الرأي أبواب» (¬1). ... وقد عرض البلاغيون بعد ابن المعتز للمذهب الكلامي وعدوه من فنون البديع، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري وابن رشيق القيرواني. وكلام هذين الأديبين لم يزد في جملته على ما قاله ابن المعتز نقلا عن الجاحظ، ولكن أبا هلال يعلق بملاحظة ذكية على قول ابن المعتز، فيقول في مستهل كلامه عن المذهب الكلامي: «جعله عبد الله بن المعتز الباب الخامس من البديع، وقال: ما أعلم أني وجدت منه شيئا في القرآن وهو ينسب إلى التكلف، فنسبه إلى التكلف وجعله من البديع» (¬2)!. كما أن ابن رشيق يقرر أنه «مذهب كلاميّ فلسفيّ» (¬3) كما جاء في تعقيبه على بيتين من شعر أبي نواس. ... وإذا ما انتهينا إلى العصور المتأخرة فإننا نجد الخطيب القزويني «739 هـ» يعرف المذهب الكلامي بقوله: «هو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام، نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬4). ¬

_ (¬1) كتاب الحيوان ج 2 ص 115 - 116. (¬2) كتاب الصناعتين ص 410. (¬3) كتاب العمدة ج 2 ص 76. (¬4) كتاب التلخيص للقزويني ص 374.

والقزويني يقصد «بطريقة أهل الكلام» أن تكون الحجة بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب. ففي قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا اللازم، وهو فساد السموات والأرض باطل، لأن المراد به خروجهما عن النظام الذي هما عليه، فكذا الملزوم وهو تعدد الآلهة باطل. ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي والإعادة أهون عليه من البدء، والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء. فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء وهو المطلوب. وقد استشهد القزويني على هذا الفن البديعي أيضا بأبيات من قصيدة للنابغة الذبياني يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر، وهي: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب (¬1) لئن كنت قد بلغت عني خيانة … لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني كنت امرأ لي جانب … من الأرض فيه مستراد ومذهب (¬2) ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم … أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم … فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا فالقضية كما يفهم من القصيدة التي منها هذه الأبيات أن النابغة قد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان لذلك وغضب على الشاعر. وفي هذه الأبيات التي هي مثال للمذهب الكلامي يجادل النابغة النعمان بالمنطق ويدافع عن نفسه بالحجج وبأنه لم ينحرف عن ولائه له، وليس من العدل التفرقة في الحكم بين مدح ومدح. ثم ينتهي بالحجة الدامغة ¬

_ (¬1) الريبة: الشك. (¬2) مستراد: موضع يتردد فيه لطلب الرزق، وهو من راد كلأ بمعنى طلبه.

فيقول: أنت أحسنت إلى قوم أراك اصطفيتهم فمدحوك، وأنا أحسن إليّ قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا، فكذلك مدحي لمن أحسن إليّ لا يعد ذنبا. ففي المذهب الكلامي قضايا ودعاوى يدافع عنها بالمنطق والجدل، والحجج والأدلة المقنعة، كما رأينا. ... وممن جاءوا بعد القزويني وعرضوا للمذهب الكلامي ابن حجة الحموي أحد علماء وأدباء القرن التاسع الهجري. ففي مستهل حديثه عنه يقول: «المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ. وهو في الاصطلاح أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة». ثم يستطرد إلى الرد على قول ابن المعتز بأنه لا يعلم ذلك في القرآن، يعني المذهب الكلامي، فيقول ابن حجة: «وليس عدم علمه مانعا علم غيره، إذ لم يستشهد على هذا المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن، وأصح الأدلة في شواهد هذا النوع وأبلغها قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله، وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا، فليس فيهما آلهة غير الله». ومن أدلته أيضا عنده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»، وتمام الدليل أن يقال: لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم. فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه.

اللف والنشر

ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي: لو يكون الحبّ وصلا كله … لم تكن غايته إلا الملل أو يكون الحب هجرا كله … لم تكن غايته إلا الأجل إنما الوصل كمثل الماء لا … يستطاب الماء إلا بالعلل فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي، فإنه قاس الوصل على الماء، فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر. وعند ابن حجة أن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره، وأعذب في الذوق، وأسهل في التركيب، فإنه جملة واقعة بعد «لو» الشرطية وجوابها، وهذه الجملة على اصطلاح المناطقة مقدمة شرطية يستدل بها على ما تقدم من الحكم (¬1). اللف والنشر ويسميه بعض البديعيين «الطي والنشر»: وهو ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك بالقرائن اللفظية أو المعنوية. وهذا يعني أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما، وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به من غير حاجة إلى أن تنص أنت على ذلك. ¬

_ (¬1) ارجع إلى كلام ابن حجة الحموي عن هذا النوع البديعي في كتابه «خزانة الأدب» ص 165.

أقسامه

أقسامه: واللف والنشر كما يفهم من التعريف السابق قسمان: الأول: ذكر المتعدد على التفصيل وهو ضربان: 1 - أحدهما: أن يكون النشر على ترتيب اللف بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف، والثاني للثاني، وهكذا إلى الآخر. وهذا الضرب هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر. ومن شواهد هذا الضرب بين اثنين قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء من فضل الله راجع إلى النهار على الترتيب. ومن شواهده شعرا قول الشاعر: ألست أنت الذي من ورد نعمته … وورد راحته أجني وأغترف؟ ومنها أيضا مع زيادة التورية قول شاعر آخر: سألته عن قومه فانثنى … يعجب من إسراف دمعي السخي وأبصر المسك وبدر الدجى … فقال ذا خالي وهذا أخي ومن شواهده بين ثلاثة وثلاثة قول ابن حيوس: ومقرطق يغني النديم بوجهه … عن كأسه الملأى وعن إبريقه (¬1) فعل المدام ولونها ومذاقها … من مقلتيه ووجنتيه وريقه ومنها قول ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم … في الحادثات إذا دجون نجوم ¬

_ (¬1) المقرطق: لابس القرطق، أي القباء بفتح القاف وهو نوع من الثياب.

فيها معالم للهدى ومصابح … تجلو الدجى والأخريات رجوم (¬1) ومثله قول حميدة الأندلسية: ولما أبي الواشون إلا فراقنا … وما لهمو عندي وعندك من ثار غزوناهمو من ناظريك وأدمعي … وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار ومن شواهد ذكر المتعدد على التفصيل والترتيب بين أربعة وأربعة قول الشاب الظريف شمس الدين بن العفيف: رأى جسدي والدمع والقلب والحشا … فأضنى وأفنى واستمال وتيما ومن شواهده أيضا قول الشاعر: ثغر وخد ونهد واحمرار يد … كالطلع والورد والرمان والبلح وقد افتن الشعراء في هذا النوع من اللف والنشر المفصل المرتب حتى بلغوا فيه إلى الجمع بين عشرة وعشرة كقول بعضهم: شعر جبين محيا معطف كفل … صدغ فم وجنات ناظر ثغر ليل صباح هلال بانة ونقا … آس أقاح شقيق نرجس درّ وحسن هذا النوع من البديع يتمثل في أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو والتعقيد جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة. ولكن المبالغة والإسراف في كثرة المتعدد منه كما في بعض الأمثلة السابقة تخرج به عن دائرة البديع وتجرده من نعوت الحسن وترده إلى نوع من العبث يدعو إلى العجب منه بدل الإعجاب به. 2 - والضرب الثاني من اللف والنشر المفصل: هو ما يجيء على غير ¬

_ (¬1) الرجوم: مفرده الرجم بسكون الجيم وهو القتل، والاخريات رجوم: أي والاخريات منايا.

ترتيب اللف. ومن هذا الضرب ما يكون معكوس الترتيب، كقول ابن حيوس: كيف أسلو وأنت حقف وغصن … وغزال لحظا وقدا وردفا (¬1) فاللحظ للغزال، والقد للغصن، والردف للحقف. وكقول الفرزدق: لقد خنت قوما لو لجأت إليهمو … طريد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا … وراءك شزرا بالوشيج المقوّم (¬2) ومنه ما يكون مختلطا مشوشا، ولهذا يسمى اللف والنشر المشوش، نحو: «هو ليل وورد ومسك خدا وأنفاسا وشعرا». ... والقسم الثاني من اللف والنشر ما يكون ذكر المتعدد فيه على الإجمال، نحو قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. فإن الضمير في قالُوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فذكر الفريقان على وجه الإجمال بالضمير العائد إليهما، ثم ذكر ما لكل منهما، أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. فلف بين القولين إجمالا ثقة بقدرة السامع على أن يرد إلى كل فريق قوله، وأمنا من الالتباس، وذلك لعلمه بالتعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه بدعوى أن داخل الجنة هو لا صاحبه. وهذا ¬

_ (¬1) الحقف بكسر الحاء: الرمل العظيم المستدير يشبه به الكفل في العظم والاستدارة. (¬2) الوشيج: شجر الرماح، وقيل: هي عامة الرماح واحدتها وشيجة، وقيل: هو من القنا أصلبه.

مراعاة النظير

القسم من اللف والنشر لا يقتضي ترتيبا أو عدم ترتيب. ... ومن بديع اللف والنشر وغريبه أن يذكر متعددان أو أكثر ثم يذكر في نشر واحد ما يكون لكل من أفراد كل من المتعددين، كقول القائل: «الغنى والفقر والعلم والجهل بها تحيا الشعوب وبها تموت». «فالغنى والفقر» لف أول، و «العلم والجهل» لفّ ثان، وقوله: «بها تحيا الشعوب وبها تموت» نشر ذكر فيه ما لكل واحد من اللفين، لأن قوله: «بها تحيا الشعوب» نشر راجع للغنى من اللف الأول وللعلم من اللف الثاني. وقوله: «وبها تموت» نشر راجع للفقر في اللف الأول، وللجهل في اللف الثاني. ولعنا بعد كل ما تقدم ندرك معنى تسمية هذا النوع من البديع المعنوي «باللف والنشر». فوجه تسمية المعنى المتعدد الأول على وجه التفصيل أو الإجمال باللف أنه انطوى فيه حكمه، لأنه اشتمل عليه من غير تصريح به، ثم لما صرح به في الثاني كان كأنه نشر لما كان مطويا، فلذلك سمي نشرا. مراعاة النظير ويسميه أصحاب البديع التناسب والائتلاف والتوفيق والمؤاخاة أيضا. وهو في الاصطلاح: أن يجمع الناظم أو الناشر أمرا وما يناسبه لا بالتضاد لتخرج المطابقة، سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى أو لفظا للفظ أو معنى لمعنى، إذ المقصود جمع شيء إلى ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أي وجه من الوجوه.

ومن أمثلة ذلك قول البحتري في وصف الإبل الانضاء التي أنحلها السير: كالقسيّ المعطفات بل الأس … هم مبرية بل الأوتار فإنه لما شبه الإبل بالقسي وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشبهها مثلا بالعراجين أو نون الخط لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة، ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار لما تقدم ذكر القسي. ومن شواهد مراعاة النظير التي يجمع فيها بين الأمر وما يناسبه لا على وجه التضاد قول الشاعر في وصف فرس: من جلّنار ناضر خده … وأذنه من ورق الآس (¬1) فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس والنضارة. ومنها أيضا قول ابن رشيق في مدح الأمير تميم: أصح وأقوى ما سمعناه في الندى … من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا … عن البحر عن كف الأمير تميم فإن الشاعر قد ناسب هنا بين الصحة والقوة والسماع والخبر المأثور والرواية، ثم بين السيل والحيا والبحر وكف تميم، مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث، فإن السيول أصلها المطر والمطر أصله البحر، ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة. ومنها كذلك قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الجلنار: زهر الرمان.

تشابه الأطراف

والطل في سلك الغصون كلؤلؤ … رطب يصافحه النسيم فيسقط والطير يقرأ والغدير صحيفة … والريح تكتب والغمام ينقط فالجمع بين كل أمر وما يناسبه في البيتين أوضح من أن يدل عليه. تشابه الأطراف: ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم «تشابه الأطراف»، وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى، كقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبرة تناسب من يدرك شيئا، فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به. ومنه قوله تعالى أيضا: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. قال: الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ على أن ما له ليس لحاجة، بل هو غني عنه جواد به، فإذا جاد به حمده المنعم عليه. إيهام التناسب: ويقصد به الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان وإن لم يكونا مقصودين، ومن أجل ذلك يلحق بمراعاة النظير. ومثال إيهام التناسب هذا قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي بحساب معلوم وتقدير محكم دقيق، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ، النجم: النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول، والشجر الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما لله فيما خلقا له. فالنجم بمعنى النبات وإن لم يكن مناسبا للشمس والقمر، فقد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما. ولهذا سمي إيهام التناسب.

أسلوب الحكيم

أسلوب الحكيم يقصد بأسلوب الحكيم تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى. ومن أمثلة ذلك: قيل لتاجر: «كم رأس مالك؟ فقال: إني أمين وثقة الناس بي عظيمة». وقيل لشيخ هرم: «كم سنك؟ فقال: إني أنعم بالعافية». ففي السؤال الأول صرف التاجر سائله عن رأس ماله ببيان ما هو عليه من الأمانة وعظم ثقة الناس فيه، إشعارا بأن هاتين الصفتين وأمثالهما أجلب للربح وأضمن لنجاح التجارة. وفي السؤال الثاني ترك الشيخ الهرم الإجابة عن السؤال الموجه إليه، وصرف سائله في رفق عن ذلك، وأخبره أن صحته موفورة، إشعارا للسائل بأن السؤال عن الصحة أولى وأجدر. ...

ولعل الجاحظ أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي، فقد عقد له بابا خاصا في كتابه البيان والتبيين (¬1) وأطلق عليه اسم «اللغز في الجواب» وأورد له أمثلة شتى منها: سأل رجل بلالا مولى أبي بكر رحمه الله وقد أقبل من جهة الحلبة: من سبق؟ قال: سبق المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له. وقال الحجاج لرجل من الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أمتفرقا كان فأجمعه؟ قال أتقرؤه ظاهرا؟ قال: بل أقرؤه وأنا أنظر إليه. قال: أفتحفظه؟ قال: أفخشيت فراره فأحفظه؟ قال ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال لعنه الله ولعنك. قال: إنك مقتول فكيف تلقى الله؟ قال ألقى الله بعملي، وتلقاه أنت بدمي. وقالوا: كان الحطيئة يرعى غنما، وفي يده عصا، فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك، قال: عجراء من سلم (¬2)، يعني عصاه، قال: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها. فمن هذه الشواهد ونظائرها يتضح أن هذا الأسلوب من الكلام والذي أطلق عليه الجاحظ «اللغز في الجواب» كان يستعمله العرب لأغراض مختلفة كالتظرف أو التخلص من إحراج السائل، أو تقديم الأهم، أو التهكم. وما من شك في أن ما قدمه الجاحظ من أمثلة شتى في هذا الباب قد لفت أنظار البلاغيين من بعده لهذا النوع من الكلام، وأعطاهم الأساس ¬

_ (¬1) كتاب البيان والتبيين ج 2 ص 148، ص 282. (¬2) العجراء: الكثيرة العجر، أي العقد، والسلم بالتحريك: شجر.

للونين من ألوان البديع هما: اللغز وأسلوب الحكيم. ... وقد أطلق عليه المتأخرون من البلاغيين اسم «القول بالموجب»، ولهم فيه عبارات مختلفة. ومن هؤلاء ابن أبي الأصبع المصري فقد عرفه بقوله: «هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم». وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه. وكلام ابن أبي الأصبع هذا يذكرنا إلى حد ما بكلام الجاحظ السابق ويوحي بأنه قد تأثر به في مفهومه لهذا النوع البديعي. وقد قسم الخطيب القزويني «القول بالموجب» في تلخيصه وإيضاحه (¬1) قسمين: 1 - أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم أو انتفائه. مثال ذلك قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فإنهم كنوا «بالأعز» عن فريقهم، و «بالأذل» عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز «الإخراج»، فأثبت الله في الرد عليهم صفة الْعِزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم. ¬

_ (¬1) كتاب التلخيص ص 386، وكتاب الإيضاح ص 272.

ومنه أيضا ما جرى بين القبعثري والحجاج، فقد توعده الحجاج بقوله: «ولأحملنك على الأدهم» فقال القبعثري: «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب». فقال له الحجاج: «أردت الحديد»، فقال القبعثري: «لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا». أراد الحجاج بالأدهم القيد، وبالحديد المعدن المخصوص، وحملهما القبعثري على الفرس الأدهم الذي ليس بليدا. فالكلام هنا قد حمله القبعثري على خلاف مراد الحجاج قائله. ... 2 - والقسم الثاني من أسلوب الحكيم أو القول بالموجب عند صاحب التلخيص هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه. وهذا القسم هو الذي شاع تداوله بين الناس ونظمه أصحاب البديعيات، كقول ابن حجاج (¬1): قال ثقّلت إذا أتيت مرارا … قلت ثقّلت كاهلي بالأيادي قال طوّلت قلت أوليت طولا … قال أبرمت قلت حبل ودادي فصاحب ابن حجاج يقول له: قد ثقلت عليك وحملتك المشقة بكثرة زياراتي فيصرفه الشاعر عن رأيه في أدب وظرف وينقل كلمته من معناها إلى معنى آخر، ويقول له: إنك ثقلت كاهلي بما أغدقت عليّ من نعم. وفي البيت الثاني يقول صاحبه: قد طولت إقامتي عندك وأبرمتك أي جعلتك برما ملولا، فيرد الشاعر عليه مرة أخرى في أدب ولطف ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله بن أحمد البغدادي، شاعر يميل إلى المجون في شعره، وله ديوان شعر كبير، توفي سنة 391 هـ.

وينقل كلامه من معناه إلى معنى آخر، ويقول له: إنك تطولت وأنعمت علي وأحكمت وقويت حبل ودادي. ... ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. فالسؤال هنا عن حقيقة الأهلة: لم تبد صغيرة ثم تزداد حتى يتكامل نورها ثم تتضاءل حتى لا ترى؟. ولما كانت هذه القضية من قضايا علم الفلك وفهمها وقتئذ يحتاج إلى دراسة عويصة، فإن القرآن قد عدل عن الإجابة عنها إلى بيان أن الأهلّة وسائل للتوقيت في المعاملات والعبادات. وفي هذه إشارة إلى أن ما كان ينبغي أن يسأل عنه هو فائدة الأهلّة لا حقيقتها، إلى أن تتيسّر لهم الحقائق العلمية التي تعينهم على فهم هذه الظاهرة الكونية. ومنه كذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فالمسلمون قد سألوا الرسول ماذا ننفق من أموالنا، فصرفهم عن هذا ببيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إن لم تقع موقعها. ومن أمثلته شعرا قول شاعر راثيا: ولما نعى الناعي سألناه خشية … وللعين خوف البين تسكب أمطار أجاب قضى! قلنا قضى حاجة العلا … فقال مضى! قلنا بكل فخار فأسلوب الحكيم في البيت الثاني هو في قوله: «قضى» ويريد بها «مات» ولكنهم حملوها على إنجاز الحاجات وقضائها، وهذا ما لم يقصده. وكذلك في قوله: «مضى» أراد بها «مات» وأرادوا هم «ذهب بالفضل ولم يدع لأحد شيئا».

ومنه قول شاعر آخر: ولقد أتيت لصاحبي وسألته … في قرض دينار لأمر كانا فأجابني والله داري ما حوت … عينا فقلت له ولا إنسانا (¬1) فالبيت الثاني جاء على أسلوب الحكيم، لأن المخاطب أراد بكلمة «عينا» الذهب، ولكن المتكلم حملها على العين الباصرة، وهو ما لم يقصده المخاطب، إشارة إلى أن منعه من القرض لا يجوز. ومنه كذلك قول بعضهم: طلبت منه درهما … يوما فأظهر العجب وقال ذا من فضة … يصنع لا من الذهب ففي البيت الثاني صرف لطيف عن طلب الدينار، فإن الشاعر لم يجب السائل عن سؤاله، وإنما أخذ يحدثه فيما يصنع منه الدينار وأنه من الفضة لا من الذهب، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يطلب. ومنه قول شاعر يجيب ابنا له سأله عن الروح والنفس: جاءني ابني يوما وكنت أراه … لي ريحانة ومصدر أنس قال: ما الروح؟ قلت: إنك روحي … قال: ما النفس؟ قلت: إنك نفسي ففي البيت الثاني سأل الابن عن الروح والنفس وهما من الأمور التي حار العلماء والفلاسفة في تعريفهما وتحديدهما، ولهذا صرف الشاعر ابنه عن ذلك ببيان منزلته منه، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يتكلم في ذلك، لقصوره عن أن يتكلم فيما دق من الأمور. ... ¬

_ (¬1) العين: الذهب والباصرة، والإنسان قد يراد به إنسان العين وقد يراد به أحد بني آدم.

وبعد فلعل في هذه الأمثلة ما يوضح ما سبق أن قلناه من أن أسلوب الحكيم أو القول بالموجب هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.

التجريد

التجريد وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة، وذلك لكمال تلك الصفة في الأمر الآخر. والتجريد أقسام: 1 - منها ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «من» التجريدية، نحو قولهم: «لي من فلان صديق حميم» (¬1). أي بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص من فلان هذا صديق آخر مثله في الصداقة. 2 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «الباء» التجريدية الداخلة على المنتزع منه، نحو قولهم: «لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر». وهذا القول يقال في مقام المبالغة في وصف «فلان» بالكرم، حيث انتزع وجرد منه بحر في الكرم والسماحة. ¬

_ (¬1) حميمك: قريبك الذي تهتم لأمره.

3 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «باء المعية» الداخلة على المنتزع، نحو قول الشاعر: وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى … بمستلئم مثل الفنيق المرحل (¬1) فالمعنى: ورب فرس هذه صفتها تعدو بي لنجدة المستغيث في الحرب ومعي من نفسي آخر مستعد للحرب. فقد بالغ في اتصافه بالاستعداد حتى انتزع وجرّد من نفسه مستعدا آخر لابسا درعا. 4 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدخول لفظة «في» على المنتزع منه، نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ، أي لهم في جهنم، وهي دار الخلد، لكنه انتزع دارا أخرى مثلها وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها، ومبالغة في اتصافها بالشدة. 5 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدون توسط حرف، كقول قتادة بن مسلمة الحنفي: فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة … تحوي الغنائم أو يموت كريم فالشاعر قد عنى «بالكريم» هنا نفسه، فكأنه انتزع وجرّد من نفسه كريما مبالغة في كرمه. وقيل إن التقدير «أو يموت مني كريم» فيكون من قبيل: «لي من فلان صديق حميم» فلا يكون قسما آخر، وإنما يكون من القسم الأول الذي يكون التجريد فيه حاصلا بدخول «من» التجريدية على المنتزع منه. ¬

_ (¬1) وشوهاء: فرس شوهاء، وشوهاء في هذا الموضع صفة محمودة، ويراد بها سعة أشداق الفرس، وصارخ الوغى: أي المستغيث في الحرب، والمستلئم: لابس اللأمة وهي الدرع، والفنيق: الفحل المكرم عند أهله، والمرحل: من رحل البعير أشخصه من مكانه وأرسله.

6 - ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بطريق الكناية، كقول الأعشى: يا خير من يركب المطي ولا … يشرب كأسا بكف من بخلا ففي البيت تجريد بطريق الكناية حيث انتزع وجرّد من الممدوح جوادا يشرب هو بكفه على طريق الكناية، لأنه إذا نفى عنه الشرب بكف البخيل، فقد أثبت له الشرب بكف كريم. ومعلوم أنه يشرب بكفه، فهو ذلك الكريم. 7 - ومن أقسام التجريد كذلك مخاطبة الإنسان نفسه، وذلك بأن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر يوجه الخطاب إليه، كقول المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال … فليسعد النطق إن لم يسعد الحال (¬1) فالشاعر هنا ينتزع من نفسه إنسانا آخر يخاطبه قائلا: ليس عندك من الخيل والمال ما تهديه إلى الممدوح جزاء له على إحسانه إليك، فليسعدك ويعنك النطق، أي فامدحه، وجازه بالثناء عليه، إن لم تعنك الحال على مجازاته بالمال أو الخيل. ومثله في مخاطبة النفس قول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل … وهل تطيق فراقا أيها الرجل؟ ومن لطيف التجريد قول المعري: ماجت نمير فهاجت منك ذا لبد … والليث أفتك أفعالا من النمر ... وقد عرض ضياء الدين بن الأثير للتجريد فعرفه أولا لغة بقوله: ¬

_ (¬1) الإسعاد: الإعانة.

«إن أصله في وضع اللغة من جردت السيف إذا نزعته من غمده، وجرّدت فلانا إذا نزعت ثيابه. ومن ههنا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا مد ولا تجريد، وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وأن تجرد ثيابه. وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع البيان». ثم عرفه اصطلاحا بقوله: «التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد وإنما المراد نفسك». وللتجريد عنده فائدتان إحداهما أبلغ من الأخرى، فالأولى طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك فإن ذلك من باب التوسع. وهو يظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات. والفائدة الثانية هي الأبلغ عنده، وذلك أن المخاطب يتمكن بالتجريد من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه، إذ يكون مخاطبا بها غيره فيكون أعذر وأبرأ فيما يقوله غير محجور عليه. ... وعنده أن التجريد يأتي على ضربين: 1 - تجريد محض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له: إلام يراك المجد في زي شاعر … وقد نحلت شوقا فروع المنابر؟ كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة … ببعضهما تنقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنك فارس ال … مقال ومحيي الدارسات الغوابر وإنك أعييت المسامع والنهى … بقولك عما في بطون الدفاتر

ثم يعلّق على ذلك بقوله: «فهذا من محاسن التجريد. ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعد ما عده من الصفات التائهة (¬1)؟ وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض». 2 - وتجريد غير محض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لنفسك لا لغيرك. ثم يستطرد ابن الأثير فيقول: «ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر». والفرق عنده ظاهر بين هذين الضربين من التجريد، فالأول وهو المحض يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به، أما الثاني وهو غير المحض فهو نصف تجريد، لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا، وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك. ومن أمثلة التجريد غير المحض عنده قول عمر بن الأطنابة: أقول لها وقد جشأت وجاشت … رويدك تحمدي أو تستريحي ومنه قول شاعر آخر: أقول للنفس تأساء وتعزية … إحدى يدي أصابتني ولم ترد وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول، وإنما المتكلم هو المخاطب بعينه، وليس ثم شيء خارج عنه. ... أما التجريد الذي قصد به التوسع خاصة، وهو ما كان ظاهره ¬

_ (¬1) التائهة هنا: صفة مشتقة من التيه بمعنى الصلف والكبر والزهو، وليست مشتقة من «التيه» مصدر تاه يتيه في الأرض بمعنى ضل فيها وتحير.

خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك، فقد مثل له ابن الأثير بقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة وهو: حننت إلى ريا ونفسك باعدت … مزارك من ريا وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعا … وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني … على كبدي من خشية أن تصدعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرّبا … وما أحسن المصطاف والمتربعا! فالبيتان الأولان يدلان على أن المراد بالتجريد فيهما هو التوسع، لأن الخطاب فيهما تجريدي إذ وجه الخطاب إلى غيره وهو يريد شخصه، ثم انتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس في البيتين الأخيرين. ولو استمر على الحالة الأولى لما قضى عليه بالتوسع، وإنما كان يقضي عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر، وكان يتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أنه ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق لما في ذلك من الشهرة والغضاضة. لكنه قد أزال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولا إلى خطاب النفس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في موضوع التجريد كتاب المثل السائر لابن الأثير ص 165 - 167.

المحسنات البديعية اللفظية

المحسنات البديعية اللفظية الجناس الجناس من فنون البديع اللفظية. ومن أوائل من فطنوا إليه عبد الله بن المعتز، فقد عده في كتابه ثاني أبواب البديع الخمسة الكبرى عنده وعرفه ومثل للحسن والمعيب منه بأمثلة شتى. وهو يعرفه بقوله: «التجنيس أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر وكلام، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها». فمفهوم الجناس عند ابن المعتز مقصور كما نرى على تشابه الكلمات في تأليف حروفها، من غير إفصاح عما إذا كان هذا التشابه يمتد إلى معاني الكلمات المتشابهة الحروف أم لا. ولكن لعل فيما ذكره من تعريف الخليل بن أحمد للجنس ما يوضح هذا الأمر. قال الخليل: «الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو، فمنه ما تكون الكلمة تجانس أخرى في تأليف حروفها ومعناها ويشتق منها مثل قول الشاعر: يوم خلجت على الخليج نفوسهم ..» (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب البديع ص 25.

أو يكون تجانسها في تأليف الحروف دون المعنى مثل قوله تعالى: «وأسلمت مع سليمان لرب العالمين» (¬1). فإن صح الاستنباط من هذا التعريف كان مفهوم الجناس عند الخليل بالأصالة وابن المعتز بالتبعية مفهوما عاما يشمل الكلمات المتجانسة الحروف سواء تجانست معنى أم اختلفت. والواقع أن الجناس من أكثر فنون البديع التي تصرف فيها العلماء من أرباب هذه الصناعة، فقد ألفوا فيه كتبا شتى، وجعلوه أبوابا متعددة واختلفوا في ذلك، وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض. ومن هؤلاء ابن المعتز السابق الذكر، وقدامة بن جعفر الكاتب، والقاضي الجرجاني، والحاتمي وغيرهم. ... ومن العلماء من يسمي هذا الفن من البديع اللفظي تجنيسا، ومن يسميه مجانسا، ومن يسميه جناسا، أسماء مختلفة والمسمى واحد. وسبب هذه التسمية راجع إلى أن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد. وحقيقة الجناس عند ابن الأثير أن يكون اللفظ واحدا والمعنى مختلفا، وذلك يعني أنه هو اللفظ المشترك، وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء. وعلى هذا فالجناس هو: تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى. وهذان اللفظان المتشابهان نطقا المختلفان معنى يسميان «ركني الجناس». ولا يشترط في الجناس تشابه جميع الحروف، بل يكفي في التشابه ما نعرف به المجانسة. ¬

_ (¬1) خلجت نفوسهم: طعنتها بالرمح.

أقسام الجناس

أقسام الجناس والجناس ينقسم قسمين: تام وغير تام، فالجناس التام: هو ما اتفق فيه اللفظان في أربعة أمور هي: أنواع الحروف، وأعدادها، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها. وهذا هو أكمل أنواع الجناس إبداعا وأسماها رتبة. أقسام الجناس التام: وهذا النوع من الجناس ينقسم بدوره ثلاثة أقسام هي: المماثل، والمستوفى بفتح الفاء، وجناس التركيب. وفيما يلي بيان كل ذلك مفصلا وموضحا بالأمثلة. 1 - الجناس المماثل: وهو ما كان ركناه أي لفظاه من نوع واحد من أنواع الكلمة، بمعنى أن يكونا اسمين، أو فعلين، أو حرفين. فمن أمثلة الجناس المماثل بين «اسمين» قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.

فالجناس هنا بين اسمين متماثلين في كل شيء هما السَّاعَةُ وساعَةٍ الأول بمعنى القيامة، والثاني بمعنى مطلق الوقت. ومثله قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. الْأَبْصارِ الأولى جمع «بصر» وهو حاسة الرؤية، والْأَبْصارِ الثانية جمع «بصر» وهو العلم، فأولو الأبصار: أصحاب العلم. ومنه شعرا قول أبي نواس: عباس عباس إذا احتدم الوغى … والفضل فضل والربيع ربيع ومنه قول المعري: تقول أنت امرؤ جاف مغالطة … فقلت: لا هوّمت أجفان أجفانا فأجفان الأولى اسم، وهو جمع واحده جفن وهو غطاء العين، والثاني اسم تفضيل بمعنى أكثرنا جفاء. فالجناس بين متماثلين لفظا مختلفين معنى. وقول البحتري: إذا العين راحت وهي عين على الهوى … فليس بسر ما تسر الأضالع العين الأولى الباصرة، والثانية الجاسوس. وقول أبي تمام: إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا … صدور العوالي في صدور الكتائب فلفظ «الصدور» في هذا البيت واحد والمعنى مختلفه. وقوله أيضا مادحا:

من القوم جعد أبيض الوجه والندى … وليس بنان يجتدي منه بالجعد فالجعد السيد، والبنان الجعد ضد البسيط، فأحدهما يوصف به الكريم السخي والآخر يوصف به البخيل الشحيح. ومن أمثلة الجناس المماثل بين «فعلين»، قول أبي محمد الخازن: قوم لو أنهمو ارتاضوا لما قرضوا … أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا «فشعروا» الأولى بمعنى أحسوا، و «شعروا» الثانية بمعنى نظموا الشعر. وقول شاعر: يا إخوتي مذ بانت النجب … وجب الفؤاد وكان لا يجب فارقتكم وبقيت بعد كمو … ما هكذا كان الذي يجب فيجب في آخر البيت الأول من الوجيب وهو الارتجاف والاضطراب، وفي آخر البيت الثاني من الوجوب وهو اللزوم والثبوت. ومن أمثلة الجناس المماثل بين «حرفين»، نحو قولك: «فلان يعيش بالقلم الحر الجريء فتفتح له أبواب النجاح به». فالباء في «بالقلم» هي الداخلة على آلة الفعل فتفيد معنى الاستعانة، أي أنه يستعين بالقلم على العيش، والباء في «به» هي باء السببية، بمعنى أن أبواب النجاح تفتح له بسبب قلمه الحر الجريء. ففي البائين جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى. ومثل قولك: «قد ينزل المطر شتاء وقد ينزل صيفا» فلفظة «قد» الأولى للتكثير والأخرى للتقليل، لأن المطر يكثر نزوله شتاء ويقل صيفا. ونحو قولك أيضا: «من الناس من يعمل من شروق الشمس إلى ما

بعد غروبها بساعات» فلفظة من في «من الناس» تفيد معنى التبعيض، أي بعض الناس، ولفظة من في «من شروق الشمس» تفيد معنى الابتداء أي ابتداء من شروق الشمس، فبين الحرفين كما ترى جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى. ... 2 - الجناس المستوفى: هو ما كان ركناه، أي لفظاه، من نوعين مختلفين من أنواع الكلمة، بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا، أو بأن يكون أحدهما حرفا والآخر اسما أو فعلا. فمن أمثلة الجناس المستوفى بين الاسم والفعل قول محمد بن كناسة في رثاء ابن له: وسميته يحيى ليحيا ولم يكن … إلى رد أمر الله فيه سبيل تيممت فيه الفأل حين رزقته … ولم أدر أن الفأل فيه يفيل (¬1) فالجناس هنا بين «يحيى» الاسم و «ويحيا» الفعل، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى ونوعا. ومن أمثلته وفي نفس اللفظين السابقين قول أبي تمام: ما مات من كرم الزمان فإنه … يحيا لدى يحيى بن عبد الله ومنه قول الشاعر: إذا رماك الدهر في معشر … وأجمع الناس على بغضهم فدارهم ما دمت في دارهم … وأرضهم ما دمت في أرضهم ¬

_ (¬1) الفأل: ضد الطيرة، وهو لا يكون إلا فيما يستحب، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، ويفيل، يخطئ.

فدارهم الأولى فعل أمر من المداراة، ودارهم الثانية اسم للبيت، وأرضهم الأولى فعل أمر من الإرضاء، وأرضهم الثانية هي الأرض اسم. ومنه قول أبي العلاء المعري: لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا … ونحن في حفر الأجداث أحيانا فأحيانا الأولى اسم بمعنى من وقت لآخر، وأحيانا الثانية فعل مضارع بمعنى بعث فينا الحياة من جديد، ففي اللفظين الجناس المستوفى لتشابههما لفظا واختلافهما نوعا ومعنى. ومن بديع الجناس بين الاسم والفعل ما كتب به إلى الخليفة المأمون في حق عامل له وهو: «فلان ما ترك فضة إلا فضها، ولا ذهبا إلا أذهبه، ولا مالا إلا مال عليه، ولا فرسا إلا افترسه، ولا دارا إلا أدارها ملكا، ولا غلّة إلا غلّها، ولا ضيعة إلا ضيّعها، ولا عقارا إلا عقره، ولا حالا إلا أحاله، ولا جليلا إلا أجلاه، ولا دقيقا إلا دقه». ومن الجناس المستوفى بين الفعل والحرف قول الشاعر: علا نجمه في عالم الشعر فجأة … على أنه ما زال في الشعر شاديا فالجناس هنا بين «علا» الأولى وهي فعل بمعنى ارتفع و «على» الثانية التي هي حرف جر. ومنه قول شاعر آخر: ولو أن وصلا عللوه بقربه … لما أنّ من حمل الصبابة والجوى فالجناس هنا بين «أن» الأولى وهي حرف توكيد ونصب و «أن» الثانية فعل ماض من الأنين. ...

3 - جناس التركيب: وهو ما كان أحد ركنيه كلمة واحدة والأخرى مركبة من كلمتين: وهذا الجناس ثلاثة أضرب تأتي على النحو التالي: أ- المتشابه: وهو ما تشابه ركناه، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا وخطا. ومن أمثلته قول الشاعر: إذا ملك لم يكن ذا هبه … فدعه فدولته ذاهبه ومثله قول القائل: يا سيدا حاز رقى. … بما حباني وأولى أحسنت برا فقل لي … أحسنت في الشكر أولا؟ فالجناس بين «أولى» وهي كلمة مفردة فعل بمعنى منح وأعطى، وبين «أولا» وهي كلمة مركبة من «أو» العاطفة و «لا» النافية. ومثله قول شمس الدين محمد بن عبد الوهاب: حار في سقمي من بعد همو … كل من في الحي داوى أورقا بعدهم لا طل وادي المنحنى … وكذا بان الحمى لا أورقا (¬1) فركن الجناس الأول هنا «أورقا» وهو مركب من كلمتين أولاهما «أو» العاطفة، والأخرى «رقا» الفعل بمعنى عوّذه بالله، وركنه الثاني «أورقا» الفعل وهو كلمة واحدة بمعنى خرج ورقه. ¬

_ (¬1) البان: شجر يطول في استواء مثل نبات الأثل، وهو شديد الخضرة، وثمره كاللوبياء واحدته «بانة» وبها تشبه الجارية الناعمة. والمعنى: لا سقى الله وادي المنحنى ولا أورق بان الحمى بعد رحيلهم.

ب- المفروق: وهو ما تشابه ركناه، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا لا خطا. ومن أمثلة هذا النوع كقول الشاعر: لا تعرضن على الرواة قصيدة … ما لم تكن بالغت في تهذيبها وإذا عرضت الشعر غير مهذب … عدوه منك وساوسا تهذي بها فالجناس بين: تهذيبها، وتهذي بها؛ وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلافهما معنى. ومنه قول الشاعر: قلت للعاذل الملح على الدم … ع وإجرائه على الخد نيلا سل سبيلا إلى النجاة ودع دم … ع عيوني يجري لهم سلسبيلا فركنا الجناس «سل سبيلا» و «سلسبيلا» وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى. ومثله قول ابن أسد الفارقي: عدونا بآمال ورحنا بخيبة … أماتت لنا أفهامنا والقرائحا (¬1) فلا تلق منا غاديا نحو حاجة … لتسأله عن حاجة والق رائحا فالجناس بين: «القرائحا» و «الق رائحا» الأولى اسم هو جمع قريحة، والأخرى مركبة من فعل أمر واسم، والركنان متشابهان لفظا مختلفان خطا ومعنى. ومثله قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف: ¬

_ (¬1) القرائح: جمع قريحة، وقريحة الإنسان طبيعته التي جبل عليها، لأنها أول خلقته.

أسرع وسر طالب المعالي … بكل واد وكل مهمة وإن لحا عاذل ... جهول … فقل له: يا عذول مه مه ومنه قول الشاعر: فقل لنفسك أي الضرب يوجعها … ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي فالجناس بين اسم مفرد «النواقيس» جمع ناقوس، ومركب من اسم وفعل «النوى» اسم بمعنى الفراق و «قيسي» الأمر المسند إلى ياء المخاطبة من قاس يقيس. وقد تشابه به الركنان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى. ومنه كذلك قول بهاء الدين السبكي: كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي … حتى تعود لي الحياة وأنت هي فالجناس بين «انتهى» و «أنت هي». وهكذا يسمى الجناس في هذه الأمثلة ونظائرها مما يأتي فيه ركنا الجناس أو لفظاه متشابهين لفظا لا خطا بالجناس «المفروق». ج- المرفوّ: وهو ما يكون فيه أحد الركنين كلمة والآخر مركبا من كلمة وجزء من كلمة، نحو قول الحريري: والمكر مهما أسطعت لا تأته … لتقتني السودد والمكرمة فالجناس هنا ركنه الأول مركب من كلمة وجزء من كلمة، هما لفظة «المكر» والميم والهاء من «مهما» والثاني مفرد هو «المكرمة». ومثله قول الحريري أيضا: ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه … بدمع يحاكي المزن حال مصابه ومثل لعينيك الحمام ووقعه … وروعة ملقاه ومطعم صابه

فالجناس هو بين كلمة «مصابه» ومركب من كلمة وجزء من كلمة أخرى، هما الميم الأخيرة من «مطعم» وكلمة «صابه»، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى. وهذا النوع الأخير من جناس التركيب لا يخلو، كما يبدو، من تعسف وتعقيد بالمقارنة إلى نوعيه الآخرين. ... الجناس غير التام: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة السابقة التي يجب توافرها في الجناس التام، وهي: أنواع الحروف، وأعدادها، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها. أ- فإن اختلف اللفظان في أنواع الحروف فيشترط ألا يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد. وهذا الجناس يأتي على ضربين: 1 - جناس مضارع: وهو ما كان فيه الحرفان اللذان وقع فيهما الاختلاف متقاربين في المخرج، سواء كانا في أول اللفظ نحو قول الحريري: «بيني وبين كن ليل دامس وطريق طامس» (¬1)، أو في الوسط نحو قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، أو في الآخر نحو: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير». 2 - جناس لاحق: وهو ما كان الحرفان فيه متباعدين في المخرج، سواء أكانا في أول اللفظ نحو قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أو في الوسط نحو قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ¬

_ (¬1) الكن بكسر الكاف وتشديد النون: المنزل، والدامس: الشديد الظلمة، والطامس: المطموس العلامات الذي لا يهتدى فيه إلى المراد.

وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أو في الآخر نحو قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ (¬1). ... ب- وإن اختلف اللفظان في أعداد الحروف سمي الجناس ناقصا وذلك لنقصان أحد اللفظين عن الآخر، وهو يأتي كذلك على ضربين: 1 - ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بحرف واحد، سواء كان ذلك الحرف في أول اللفظ نحو قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أو في الوسط نحو: «جدّي جهدي» (¬2) أو في الآخر كقول الشاعر: عذيري من دهر موار موارب … له حسنات كلهن ذنوب وقول شاعر متغزلا: وسألتها بإشارة عن حالها … وعليّ فيها للوشاة عيون فتنفست صعدا وقالت: ما الهوى … إلا الهوان فزال عنه النون وقول البهاء زهير: أشكو وأشكر فعله … فأعجب لشاك منه شاكر طرفي وطرف النجم في … ك كلاهماه ساه وساهر ¬

_ (¬1) وإذا جاءهم: أي إذا جاء المنافقين وضعاف العقول من المسلمين خبر أمر من أمور جيوش المسلمين مما يتصل بأمنها أو بما تخافه أذاعوا به، أي أذاعوه ونشروه وتحدثوا به، وقد يكون في ذلك ضرر على الجيوش. (¬2) الجد بفتح الجيم: الحظ، والجهد بفتح الجيم: المشقة والاجتهاد، والمعنى حظي من الدنيا أو غناي فيها إنما هو على قدر ما أبذل من سعي واجتهاد، وما أتحمل من مشقة.

وقول أبي تمام: يمدون من أيد عواص عواصم … تصول بأسياف قواض قواضب (¬1) وربما سمى هذا القسم الذي تكون فيه الزيادة في الآخر «مطرّفأ» وذلك لتطرف الزيادة فيه. ووجه حسن هذا النوع، كما يقول عبد القاهر الجرجاني، إنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من «عواصم» أنها هي الكلمة التي مضت، وإنما أتى بها للتوكيد، حتى إذا تمكن آخرها في نفسك ووعاه سمعك، انصرف عنك ذلك التوهم. وفي ذلك حصول الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها. 2 - ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بأكثر من حرف واحد في آخره. وربما سمى هذا النوع «مذيلا». ومن أمثلته قول النابغة الذبياني: لها نار جن بعد أنس تحولوا … وزال بهم صرف النوى والنوائب وقوله أيضا راثيا: فيا لك من حزم وعزم طواهما … جديد الردى بين الصفا والصفائح وقول حسان بن ثابت: وكنا متى يغز النبي قبيلة … نصل جانبيه بالقنا والقنابل (¬2) ¬

_ (¬1) يمدون من أيد: يصح أن تكون «من» زائدة فيكون المعنى يمدون أيديا، ويصح أن تكون للتبعيض، أي يمدون بعض أيد، ومثلها «هز من عطفه وحرك من نشاطه»، وعواص: جمع عاصية من عصاه ضربه بالعصا: أي السيف هنا، وعواصم: جمع عاصمة من عصمه، أي حفظه ورعاه، وقاض: جمع قاضية: من قضى عليه قتله، وقواضب: جمع قاضب من قضبه قطعه، والمعنى: يمدون للضرب يوم الحرب أيديا ضاربات للأعداء حاميات للأولياء صائلات على الأقران بسيوف قاتلة قاطعة. (¬2) القنابل: واحدها القنبلة والقنبل بفتح القاف فيهما: الجماعة من الناس أو الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه.

وقول الخنساء وهو من أرق ما سمع في هذا الباب: إن البكاء هو الشفا … ء من الجوى بين الجوانح ومما تجدر ملاحظته هنا أن بين المطرف والمذيل التقاء من وجه وافتراقا من وجه، فهما يلتقيان في أن كليهما زيادة في طرف أحد ركني الجناس، ويفترقان في أن زيادة المطرّف حرف واحد، أما المذيل فتكون الزيادة فيه بأكثر من حرف. ... ج- وإن اختلف اللفظان في هيئة الحروف الحاصلة من الحركات والسكنات والنقط، فإن الجناس يأتي فيه على ضربين: محرّف، ومصحف. 1 - فالجناس المحرّف: هو ما اتفق ركناه، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها، واختلفا في الحركات فقط سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك، فإن القصد اختلاف الحركات. ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. ولا يقال هنا إن اللفظين متحدان في المعنى لأنهما من «الإنذار» فلا يكون بينهما جناس، فاختلاف المعنى ظاهر، إذ المراد باللفظ الأول مُنْذِرِينَ الفاعلون وهم الرسل، وبالثاني الْمُنْذَرِينَ المفعولون، وهم الذين وقع عليهم الإنذار. ومنه قول الرسول صلوات الله عليه: «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي». ومنه قولهم: «جبة البرد جنة البرد» (¬1) وكذلك قولهم: «الجاهل إما مفرط أو مفرّط» الأول اسم فاعل من الإفراط وهو تجاوز ¬

_ (¬1) وقع الاختلاف بين البرد والبرد، لأن الباء في الأول مضمومة ويراد بها الثوب وفي الثاني مفتوحة وهو ضد الحر. والجنة بضم الجيم: الوقاية.

الحد، والثاني اسم فاعل من التفريط وهو التقصير، وقولهم: «البدعة شرك الشرك». ومن أمثلته شعرا قول المعري: والحسن يظهر في بيتين رونقه … بيت من الشعر أو بيت من الشعر الأول بالشين المكسورة والعين الساكنة، والثاني بالشين والعين المفتوحتين، والمراد منهما واضح. وقول ابن الفارض: هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ … لم يلف غير منعم بشقاء وقول عبد العزيز الحموي: لعيني كل يوم فيك عبرة … تصيرني لأهل العشق عبرة (¬1) ومن أبدع ما جاء فيه هذا النوع من الجناس قول جميل بثينة، وبعضه من أنواع أخرى: خليلي إن قالت بثينة: ما له … أتانا بلا وعد؟ فقولا لها لها أتى وهو مشغول لعظم الذي به … ومن بات طول الليل يرعى السها سها بثينة تزري بالغزالة في الضحى … إذا برزت لم تبق يوما بها بها لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة … كأن أباها الظبي أو أمها مها دهتني بود قاتل وهو متلفي … وكم قتلت بالود من ودها دها (¬2) ¬

_ (¬1) العبرة بفتح العين: الدمعة، والعبرة بكسر العين: العظة. (¬2) «لها لها» الكلمة الأولى جار ومجرور والثانية فعل ماض من اللهو، و «السها سها» الأولى اسم نجم والثانية فعل ماض من السهو، و «بها بها» الأولى جار ومجرور والثانية اسم مقصور من البهاء بمعنى الحسن، و «أمها مها» الأولى الأم المعروفة والثانية جمع مهاة وهي =

فالجناس في البيت الأول «تام»، وفي البيت الثاني والثالث والخامس «محرف» وفي البيت الرابع «مطرف». 2 - والجناس المصحف: هو ما اتفق فيه ركنا الجناس، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في النقط فقط. ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقوله تعالى أيضا: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى». وقول عمر بن الخطاب: «لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم تفتني ريحه». وقال أهل الأدب: «خلف الوعد خلق الوغد». ومن أمثلة الجناس المصحف في الشعر قول الشاعر: فإن حلوا فليس لهم مقر … وإن رحلوا فليس لهم مفر وقول أبي فراس الحمداني: من بحر جودك أغترف … وبفضل علمك أعترف وقول البهاء زهير متغزلا: وليس مشيبا ما ترون بعارضي … فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا ¬

_ = هنا بقرة الوحش ومن معاني المهاة أيضا «الدرة والبلورة الشديدة البياض» فإذا شبهت المرأة بالمهاة في البياض فإنما يعني بها الدرة أو البلورة، فإذا شبهت بها في المقلتين أي العينين، فإنما يعني بها بقرة الوحش وهو المراد هنا في بيت جميل. و «بالود من ودها دها» الكلمة الأولى اسم بمعنى الوداد، والثانية فعل ماض بمعنى أحب، وهذان ركنا الجناس أما الكلمة الأخيرة «دها» فاسم مقصور من الدهاء وهي خارجة عن الجناس.

وما هو إلا نور ثغر لثمته … تعلق في أطراف شعري فألهبا وأعجبني التجنيس بيني وبينه … فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا فالشنب بفتحتين صفة حسن ورقة وعذوبة في الثغر، يقال: ثغر أشنب، أي طيب النكهة رقيق تبدو منه الثنايا بيضاء نقية، والجناس هنا في «أشنبا» و «أشيبا»، واللفظان متماثلان في كل شيء ولا يختلفان إلا في النقط فقط، وكل جناس من هذا النوع يسمى «جناس التصحيف». ... د- وإن اختلف اللفظان في ترتيب الحروف سمي «جناس القلب»، وسماه قوم «جناس العكس». وهذا الجناس يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب. وهو يأتي على أربعة أضرب. 1 - قلب كل: وذلك إذا جاء أحد اللفظين عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها، نحو قولهم: «حسامه فتح لأوليائه وحتف لأعدائه»، وهذا المعنى مأخوذ من قول العباس بن الأحنف: حسامك فيه للأحباب فتح … ورمحك فيه للأعداء حتف ومنه قول الشاعر وقد جانس بين لفظي «راهب» و «بهار» بفتح الباء: حكاني بهار الروض حين ألفته … وكل مشوق للبهار مصاحب (¬1) ¬

_ (¬1) البهار بفتح الباب نبت طيب الريح له زهرة صفراء ينبت أيام الربيع، وقيل هو العرار بفتح العين الذي يقال له عين البقر. قال الشاعر: تمتع من شميم عرار نجد … فما بعد العشية من عرار

فقلت له ما بال لونك شاحبا … فقال لأني حين أقلب راهب فكل من «بهار» و «راهب» مقلوب الآخر أو عكسه في ترتيب حروفه كلها. ومن بديع هذا النوع من الجناس قول جمال الدين بن نباتة في مدح الأمير شجاع الدين بهرام: قيل كل القلوب من … رهب الحرب تضطرب قلت هذا تخرص … قلب بهرام ما رهب (¬1) فالجناس هنا بين «بهرام» و «ما رهب» وكلاهما عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها. 2 - قلب بعض: وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب بعض الحروف. ومن أمثلة هذا النوع قول الشاعر: إن بين الضلوع مني نارا … تتلظى فكيف لي أن أطيقا؟ فبحقي عليك يا من سقاني … أرحيقا سقيتني أم حريقا؟ فالجناس بين «رحيقا» و «حريقا» فالاختلاف هو في ترتيب الحرفين الأولين منهما. ومنه قول القائل: وألفيتهم يستعرضون حوائجا … إليهم ولو كانت عليهم جوائحا فالجناس بين «حوائجا» و «جوائحا» وهو قلب جزئي في ترتيب بعض الحروف ومنه قول عبد الله بن رواحة في مدح الرسول: ¬

_ (¬1) التخرص بتشديد الراء: الكذب.

تحمله الناقة الأدماء معتجرا … بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما (¬1) فالجناس بين «البرد» وهو الثوب و «البدر». وقول أبي تمام: بيض الصفائح لا سود الصحائف في … متونهن جلاء الشك والريب (¬2) فالجناس بين «الصفائح» وهي السيوف العريضة و «الصحائف». وكذلك قول المتنبي: ممنعة منعمة رداح … يكلف لفظها الطير الوقوعا (¬3) ففي كل هذه الأمثلة وقع الجناس بين لفظين مختلفين في ترتيب بعض الحروف، ولهذا يقال إن الجناس فيها وفي نظائرها جناس «قلب بعض». 3 - قلب مجنح: وهو ما كان فيه أحد اللفظين اللذين وقع بينهما القلب في أول البيت والثاني في آخره، كأنهما جناحان للبيت. ومن أمثلة ذلك قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف: أسكرني باللفظ والمقلة ال … كحلاء والوجنة والكاس ساق يريني قلبه قسوة … وكل ساق قلبه قاس فالجناس هنا بين «ساق» في أول البيت و «قاس» في آخره، ولهذا ¬

_ (¬1) الناقة الأدماء: البيضاء بياضا واضحا، ومعتجرا: من اعتجر العمامة لفها على رأسه. (¬2) الصفائح: جمع صفيحة، وهي السيف العريض. (¬3) امرأة رداح: ضخمة العجيزة ثقيلة الأوراك.

يقال له جناس «قلب مجنح». وإذا نظرنا إلى مجيء أحد اللفظين عكس الآخر في جميع حروفه قلنا إن فيه جناس «قلب كل» أيضا. ومنه كذلك قول الشاعر: قد لاح أنوار الهدى … في كفه في كل حال 4 - مستو: وهذا النوع سماه قوم المقلوب، وسماه السكاكي مقلوب الكل، وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن يكون عكس لفظي الجناس كطردهما، بمعنى أنه يمكن قراءتهما من اليمين والشمال دون أن يتغير المعنى، نحو قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ* فإنك لو عكست هذا التركيب فبدأت من الكاف في فَلَكٍ* إلى الكاف في كُلٌّ* كان هو بعينه. وكذلك الشأن في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. ومنه قول الحريري: «ساكب كاس». ومن الغايات في هذا الباب قول القائل: لبق أقبل فيه هيف … كل ما أملك إن غنى هبه فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب. وأعلى من البيت السابق منزلة قول سيف الدين بن المشد: ليل أضاء هلاله … أنى يضيء بكوكب فكل كلمة في هذا البيت تقرأ مستوية ومقلوبة، وهو مما لا يستحيل بالانعكاس. ... وهناك نوع من الجناس غير الأنواع السابقة يسميه علماء البديع «الجناس الملفق».

السجع

وحدّ الملفق أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين، وهذا هو الفرق بينه وبين «جناس التركيب» الذي أحد ركنيه كلمة مفردة والثاني مركب من كلمتين. ومن الجناس الملفق في النظم قول الشاعر: وكم لجباه الراغبين إليه من … مجال سجود في مجالس جود ومنه قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين وقد ولى القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة وأقام في الحكم خمس سنين: وليت الحكم خمسا وهي خمس … لعمري والصبا في العنفوان فلم تضع الأعادي قدر شأني … ولا قالوا فلان قد رشاني ومنه كذلك قول شرف الدين بن عنين: خبروها بأنه «ما تصدى» … لسلو عنها ولو «مات صدا» ... وهذا ومما تجدر الإشارة إليه أن أحد المتجانسين إذا ولى الآخر سمي «مزدوجا» و «مكررا» و «مرددا»، نحو قوله تعالى: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. ونحو قولهم: من طلب وجدّ وجد. وقولهم: من قرع بابا ولجّ ولج. السجع هو توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد. وهذا هو معنى قول السكاكي: «السجع في النثر كالقافية في الشعر». والأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام، والاعتدال

مطلوب في جميع الأشياء والنفس تميل إليه بالطبع، ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند توافق الفواصل على حرف واحد هو المراد من السجع، إذ لو كان الأمر كذلك لكان كل أديب من الأدباء سجاعا. وإنما ينبغي في السجع بالإضافة إلى ما تقدم أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة لا غثة ولا باردة. والمراد بغثاثة الألفاظ وبرودتها أن صاحبها يصرف النظر إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وتراكيبها وما يشترط لكليهما من صفة الحسن. فإذا صفّي الكلام المسجوع من الغثاثة والبرودة فإن وراء ذلك مطلوبا آخر، وهو أن يكون اللفظ فيه تابعا للمعنى لا أن يكون المعنى فيه تابعا للفظ، وإلا كان كظاهر مموّه على باطن مشوّه. فإذا توافرت هذه الأمور فإن وراءها مطلوبا آخر، وهو أن تكون كل واحدة من الفقرتين أو السجعتين المزدوجتين دالة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه الأخرى. فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه، لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها، وإذا وردت سجعتان يدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه. وإذا رجعنا إلى كلام أعلام الكتاب المشهود لهم بالتفوق في النثر الفني من أمثال الصابي وابن العميد وابن عباد والحريري في مقاماته وابن نباتة في خطبه وجدنا أكثر المسجوع من كلامهم كذلك والأقل منه هو المستوفي لشروط السجع الحسن. وهذه الشروط، كما يقول ابن الأثير، تتمثل في ثلاثة أمور: الأول

أقسام السجع

اختيار مفردات الألفاظ المسجوعة والتراكيب، بحيث تكون بعيدة عن الغثاثة والبرودة، والثاني أن يكون اللفظ في الكلام المسجوع تابعا للمعنى لا المعنى تابعا للفظ، والثالث أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها. ومن السجع الحسن المستوفي لهذه الشروط قول ابن الأثير من كتاب يتضمن العناية ببعض الناس، قال: «الكريم من أوجب لسائله حقا، وجعل كواذب آماله صدقا، وكان خرق العطايا منه خلقا، ولم ير بين ذممه ورحمه فرقا. وكل ذلك موجود في كرم مولانا أجراه الله من فضله على وتيرة، وجعل هممه على تمام كل نقص قديرة». ومن السجع الذي خرج إلى التطويل والتكرار لاتفاق السجعتين في معنى واحد وإن اختلفت الألفاظ قول الصابي من تحميد في كتاب: «الحمد لله الذي لا تدركه العيون بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها، ثم الصلاة على النبي الذي لم ير للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه». فلا فرق هنا بين مرور العصور وكر الدهور، وكذلك لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم. أقسام السجع والسجع ليس صورة واحدة، وإنما هو يأتي في الكلام على أربعة أضرب أو أقسام: المطرّف، والمرصع، والمتوازي، والمشطر. 1 - فالمطرّف: هو ما اختلفت فيه الفاصلتان أو الفواصل وزنا واتفقت رويا، وذلك بأن يرد في أجزاء الكلام سجعات غير موزونة

عروضيا وبشرط أن يكون رويها روي القافية، نحو قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً. ومنه شعرا على الرأي القائل بأن السجع غير مختص بالنثر، وإنما هو يدخل النثر والشعر معا- قول أبي تمام: تجلى به رشدي وأثرت به يدي … وفاض به ثمدي وأورى به زندي (¬1) 2 - الترصيع: وهو عبارة عن مقابلة كل لفظة من فقرة النثر أو صدر البيت بلفظة على وزنها ورويها. ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، وقوله تعالى أيضا: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ. ومنه قول الحريري في المقامات: «يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه». ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس الحمداني: وأفعالنا للراغبين كرامة … وأموالنا للطالبين نهاب ومنه قول الشاعر: فيا يومها كم من مناف منافق … ويا ليلها كم من مواف موافق والمبرز في هذا النوع يجرد نظم بيته من الحشو، والحشو في الترصيع عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست منه، بحيث لا يأتي في صدر بيته ¬

_ (¬1) تجلى به رشدي: أي ظهر بهذا الممدوح بلوغ المقاصد، وأثرت به يدي: صارت ذات ثراء، والثمد بكسر الثاء وسكون الميم: هو في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا المال القليل، وأورى به زندي بفتح الزاي: أي صار ذا وري، وهذا كناية عن الظفر بالمطلوب.

بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز، حتى في العروض والضرب، كقول ابن النبيه الشاعر: فحريق جمرة سيفه للمعتدي … ورحيق خمرة سيبه للمعتفي فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه، فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق ورحيق، وبين جمرة وخمرة، وبين سيفه وسيبه، وبين المعتدي والمعتفي. وبيت أبي فراس السابق خال من تصريع العروض والضرب، والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء فدخل عليه الحشو. 3 - المتوازي: وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة (¬1) أي الفقرة مع نظيرتها في الوزن والروي، كقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا». ومنه قول الحريري في المقامات: «الجأني حكم دهر قاسط إلى أن أنتجع أرض واسط»، وقوله: «وأودى بي الناطق والصامت، ورثى لي الحاسد والشامت». ومن أمثلته شعرا قول المتنبي: فنحن في جذل والروم في وجل … والبر في شغل والبحر في خجل (¬2) ¬

_ (¬1) القرينة: الفقرة، وسميت الفقرة كذلك، لأنها تقارن أختها. (¬2) الجذل: الفرح، والوجل: الخوف، والمعنى: نحن المسلمين فرحون بانتصاره، والروم في خوف منه لغاراته وغزواته، والبر مشتغل بجيشه لا يتفرغ لغيره، والبحر في خجل من غزارة كرمه وندى يديه.

أحسن السجع

4 - المشطور: ويسمى أيضا التشطير، وهو أن يكون لكل شطر من البيت قافيتان مغايرتان لقافية الشطر الثاني. وهذا القسم خاص بالشعر، كقول أبي تمام: تدبير معتصم بالله منتقم … لله مرتغب في الله مرتقب (¬1) فالشطر الأول كما ترى سجعة مبنية على قافية الميم، والشطر الثاني سجعة مبنية على قافية الباء. ... أحسن السجع: 1 - وأحسن السجع وأشرفه منزلة للاعتدال الذي فيه هو ما تساوت فقراته في عدد الكلمات، نحو قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وقوله تعالى أيضا: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. 2 - ثم ما طالت به الفقرة الثانية عن الأولى طولا لا يخرج بها عن الاعتدال كثيرا وذلك لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة، نحو قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى، وكذلك قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (¬2)، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا فإن الفقرة الأولى ثمان لفظات والثانية تسع. ¬

_ (¬1) المرتغب في الله: الراغب فيما يقربه من رضوانه، والمرتقب: المنتظر الثواب الخائف العقاب. (¬2) الإدّ بكسر الهمزة: الأمر الفظيع المنكر.

السجع من حيث الطول والقصر

3 - ثم ما طالت فقرته الثالثة نحو قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ. 4 - ولا يحسن أن يؤتى بالفقرة الثانية أقصر من الأولى كثيرا، لأن السجع قد استوفى أمده من الفقرة الأولى بحكم طوله، ثم تجيء الفقرة الثانية قصيرة عن الأولى، فتكون كالشيء المبتور فيبقى الإنسان عند سماعها كمن يريد الانتهاء عند غاية فيعثر دونها. السجع من حيث الطول والقصر: إن السجع على اختلاف أقسامه يأتي على ضربين من حيث القصر والطول. فالسجع القصير هو ما تكون فيه كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة. وكلما قلت الألفاظ كان أحسن لقرب الفواصل أو الفقرات المسجوعة من سمع السامع. وهذا الضرب أوعر السجع مذهبا وأبعده متناولا، ولا يكاد استعماله يقع إلا نادرا. أما الضرب الثاني، وأعني به السجع الطويل، فهو ضد الأول لأنه أسهل تناولا، وإنما كان القصير من السجع أوعر مسلكا من الطويل، لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عز تحقيق السجع فيه لقصر تلك الألفاظ، وضيق المجال في استجلابه. وأما الطويل فإن الألفاظ تطول فيه، ويستجلب له السجع. وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عدة ألفاظه. وأحسن السجع القصير ما كان مؤلفا من لفظتين لفظتين، كقوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا

الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ (¬1) فَاهْجُرْ. ومنه ما يكون مؤلفا من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة، وكذلك إلى العشرة، وما زاد على ذلك فهو من السجع الطويل. ومما جاء منه قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، وقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ. وأما السجع الطويل فإن درجاته تتفاوت أيضا في الطول، فمنه ما يقرب من السجع القصير، وهو أن يكون تأليفه من إحدى عشرة إلى اثنتي عشرة لفظة، وأكثره خمس عشرة لفظة، كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. فالفاصلة الأولى إحدى عشرة لفظة، والثانية ثلاث عشرة لفظة». ومن السجع الطويل ما يكون تأليفه من العشرين لفظة فما حولها، كقوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. ومن السجع الطويل ما تزيد الألفاظ في فقراته على هذا العدد. ¬

_ (¬1) الرجز بضم الراء وكسرها: عبادة الأوثان، والشرك، وقيل: هو العمل الذي يؤدي إلى العذاب والعقاب.

بناء الأسجاع

بناء الأسجاع: هذا والأسجاع مبنية على سكون الاعجاز، أي أواخر فواصل الفقرات، لأن الغرض هو التواطؤ والمزاوجة بينها، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف بالسكون، كقولهم: «ما أبعد ما فات! وما أقرب ما هو آت!». فلو لم نقف هنا على أواخر الفقرات بالسكون ووصلنا الكلام لاستدعى الأمر إجراء كل من الفقرتين على ما يقتضيه حكم الإعراب فتكون التاء الأولى مفتوحة والثانية مكسورة منونة، وبذلك يفوت الغرض من السجع. ... وبعد ... فلا تفوتنا الإشارة إلى اختلاف أرباب صناعة الكلام حول السجع وقيمته البلاغية. فمنهم من يعيبه ويعده من الأساليب التي تقوم أكثر ما تقوم على الصنعة والتكلف والتعسف. وهم يستدلون على وجهة نظرهم هذه بما آل إليه البيان العربي من تدهور وانحطاط في العصور التي شاع فيها استعمال السجع. ومنهم من استحسنه ودافع عنه محتجا بأنه لو كان مذموما لما ورد في القرآن الكريم، حيث لا تكاد سورة تخلو منه، بل إن من سوره ما جاءت جميعها مسجوعة كسورة الرحمن وسورة القمر وغيرهما. كذلك يحتجون بأن الصنعة والتكلف والتعسف ليست أمورا مقصورة على أسلوب السجع، وإنما هي أمور من الجائز أن تلحق بالسجع كما تلحق بغيره من الأساليب. وليس العيب في السجع ذاته وإنما العيب فيمن يحاوله ثم يعجز عن حسن استخدامه.

رد العجز على الصدر

ولعل عبد القاهر الجرجاني خير من فصل في هذه القضية، فهو يقرر في معرض الكلام عن التجنيس والسجع أنهما يختصان بالقبول والحسن عند ما يكون المعنى هو الذي يقود المتكلم نحوهما لا أن يقوداه إلى المعنى. حتى أنه لو تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس ولا سجع فيه لنسب إليه ما ينسب إلى المتكلف للتجنيس المستكره والسجع النافر. وفي ذلك يقول: «ولن تجد أيمن طائرا وأحسن أولا وآخرا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب إلى الاستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس منها إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تضع في نفسك أنك لا بد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم. فإن ساعدك الجد كما ساعد المحدث- يعني أبا الفتح البستي- في قوله: ناظراه فيما جنى ناظراه … أو دعاني أمت بما أودعاني وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله: وأنجدتمو من بعد اتهام داركم … فيا دمع أنجدني على ساكني نجد فذاك. وإلا أطلقت ألسنة العيب، وأفضى بك طلب الإحسان من حيث لم يحسن الطلب، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب» (¬1). رد العجز على الصدر أول من تكلم عن هذا الفن البديعي اللفظي عبد الله بن المعتز، ¬

_ (¬1) كتاب أسرار البلاغة ص 4 - 10.

فقد عده في كتابه أحد فنون البديع الخمسة الكبرى، وسماه «رد أعجاز الكلام على ما تقدمها»، وقسمه ثلاثة أقسام ومثل له نثرا وشعرا للدلالة على أنه يرد في الكلام بنوعيه. وأقسامه عنده هي: 1 - ما يوافق آخر كلمة فيه آخر كلمة في نصفه مثل قول الشاعر: تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما … في جيش رأى لا يفلّ عرمرم 2 - ما يوافق آخر كلمة فيه أول كلمة في نصفه الأول، كقول الشاعر: سريع إلى ابن العم يشتم عرضه … وليس إلى داعي الندى بسريع 3 - ما يوافق آخر كلمة فيه بعض ما فيه، كقول الشاعر: عميد بني سليم أقصدته … سهام الموت وهي له سهام ومن هذا النوع عنده قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا. وقوله تعالى أيضا: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* (¬1). ... أما المتأخرون من رجال البديع فمنهم من سمى هذا الفن «رد العجز على الصدر»، ومنهم من سماه «التصدير»، لأن هذه التسمية في نظرهم أدل على المطلوب وأليق بالمقام وأخف على المستمع. والخطيب القزويني وهو من المتأخرين يقرر أن رد العجز على الصدر ¬

_ (¬1) كتاب البديع لا بن المعتز ص 47.

أما رد العجز على الصدر في الشعر فيرد على الصور التالية

يرد في النثر والشعر على السواء، ثم يعرفه بقوله: «وهو في النثر أن يجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة والآخر في آخرها. وهو في النظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو آخره أو صدر المصراع الثاني». واللفظان «المكرران» هما المتفقان في اللفظ والمعنى، و «المتجانسان» هما المتشابهان في اللفظ دون المعنى، و «الملحقان بهما» أي بالمتجانسين وهما اللفظان اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق. فمن أمثلة المكررين وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. ومن المتجانسين، أي المتشابهين لفظا لا معنى وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قول القائل: «سائل اللئيم يرجع ودمه سائل». ومن اللفظين اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبهه، وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً وقوله تعالى أيضا: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ومنه حديث الرسول: «من مقت نفسه فقد آمنه الله من مقته». ومن اللفظين اللذين يجمعهما شبه الاشتقاق قوله تعالى: قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ. فاللفظة الأولى هنا قالَ مشتقة من القول، واللفظة الأخيرة واحدها قالَ بالتنوين اسم فاعل مشتق من القلي بكسر القاف وهو البغض، فيجمع بينهما شبه الاشتقاق من جهة اللفظ لا المعنى. ... أما رد العجز على الصدر في الشعر فيرد على الصور التالية:

أ- في اللفظين المكررين

أ- في اللفظين المكررين: 1 - ما يكون أحد اللفظين المكررين أي المتفقين لفظا ومعنى في آخر البيت والثاني صدر المصراع الأول. ومن أمثلته قول الشاعر: تمنّت سليمى أن أموت صبابة … وأهون شيء عندنا ما تمنّت وقول شاعر آخر: سكران: سكر هوى وسكر مدامة … أنى يفيق فتى به سكران؟ ومنه البيت الثاني من شعر عمر بن أبي ربيعة: ليت هندا أنجزتنا ما تعد … وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرة واحدة … إنما العاجز من لا يستبد 2 - ومنه ما يكون أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول، كما في البيت الثاني من قول الصمة القشيري: أقول لصاحبي والعيس تهوي … بنا بين المنيفة فالضمار تمتع من شميم عرار نجد … فما بعد العشية من فرار (¬1) ومنه قول جرير: سقى الرمل صوب مستهل غمامه … وما ذاك إلا حبّ من حلّ بالرمل 3 - ومنه ما يكون أحد المكررين في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول، كقول أبي تمام: ¬

_ (¬1) العرار: وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة، وموضع «عرار» الثانية من الإعراب اسم «ما» التي بمعنى ليس، و «من» زائدة.

ب- في اللفظين المتجانسين

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما … فإني بالبيض القواضب مغرما (¬1) 4 - ومنه ما يكون أحد المكررين في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الثاني كالبيت الثاني من قول ذي الرمة: ألما على الدار التي لو وجدتها … بها أهلها ما كان وحشا مقيلها وإن لم يكن إلا معرج ساعة … قليلا فإني نافع لي قليلها (¬2) ... ب- في اللفظين المتجانسين: 1 - ما يكون أحد اللفظين المتجانسين، أي المتشابهين لفظا لا معنى في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول، كقول القاضي الأرجاني: دعاني من ملامكما سفاها … فداعي الشوق قبلكما دعاني (¬3) «دعاني» الأول فعل أمر بمعنى اتركاني، و «دعاني» في آخر البيت فعل ماض من الدعاء بمعنى الطلب. 2 - ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول، كقول الثعالبي: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها … فانف البلابل باحتساء بلابل ¬

_ (¬1) الكواعب: جمع كاعب وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهوض، والبيض القواضب: السيوف القواطع. (¬2) ألما: أنزلا قليلا، والتعريج على الشيء: الإقامة عليه و «معرج» خبر يكن واسمه ضمير الإلمام، وقليلها مبتدأ مؤخر خبره «نافع» والضمير في «قليلها» للساعة، أي قليل الساعة في التعريج ينفعني ويبل أوامي ويروي شوقي إلى أهل هذه الدار. (¬3) سفاها: طيشا.

ج- في اللفظين الملحقين بالمتجانسين للاشتقاق

«فالبلابل» الأول جمع بلبل وهو الطائر المعروف، و «البلابل» الثاني جمع بلبال بفتح الباء وهو شدة الحزن والهم، و «البلابل» الثالث جمع بلبلة وهو إبريق الخمر. وموضع الشاهد هنا والمقصود بالتمثيل هو «البلابل» الثالث في آخر البيت بالنسبة إلى مجانسه الذي ورد في حشو المصراع الأول. فاللفظان كما ترى متجانسين، أي متشابهين لفظا مختلفين معنى. 3 - ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول كقول الحريري: فمشغوف بآيات المثاني … ومفتون برنات المثاني (¬1) فلفظ «المثاني» الأول يراد به القرآن الكريم ولفظ «المثاني» في آخر البيت يراد به المزامير، فاللفظان متشابهان لفظا مختلفان معنى. 4 - ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والآخر في أول المصراع الثاني، كقول القاضي الأرجاني: أمّلتهم ثم تأمّلتهم … فلاح لي أن ليس فيهم فلاح «فلاح» الأول فعل ماض بمعنى ظهر وبدا، و «فلاح» في آخر البيت اسم من الإفلاح بمعنى الفوز، فاللفظان متشابهان لفظا مختلفان معنى. ج- في اللفظين الملحقين بالمتجانسين للاشتقاق: 1 - ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق ¬

_ (¬1) المثاني من القرآن: قيل القرآن جميعه لاقتران آية الرحمة بآية العذاب، وتسمى سورة الفاتحة مثاني لأنها يثنى في كل ركعة من ركعات الصلاة وتعاد في كل ركعة، وهي المقصودة بالسبع المثاني في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لأنها سبع آيات، ورنات المثاني: نغمات المزامير.

وأحدهما في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول كقول البحتري: ضرائب أبدعتها في السماح … فلسنا نرى لك فيها ضريبا «فالضرائب» جمع ضريبة وهي السجية والطبيعة والفطرة، يقال: هذه ضريبته التي ضرب عليها، أي طبع وفطر عليها، ويقال: فلان ككريم الضريبة، ولئيم الضريبة، أي الطبيعة. و «الضريب» في آخر البيت: النظير والمثل، «فالضريبة والضريب» راجعان إلى أصل واحد في الاشتقاق. 2 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول، كقول امرئ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه … فليس على شيء سواه بخزان (¬1) فالفعل «يخزن» وصيغة المبالغة «خزّان» في آخر البيت مما يرجعان في الاشتقاق إلى أصل واحد. 3 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول، كقول ابن عيينة المهلبي: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري … أطنين أجنحة الذباب يضير؟ «فضائر» و «يضير» مما يجمعهما الاشتقاق. 4 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق ¬

_ (¬1) المعنى: إذا لم يخزن المرء لسانه على نفسه ولم يحفظه مما يعود ضرره إليه، فلا يخزنه على غيره ولا يحفظه مما لا ضرر له فيه.

د- في اللفظين الملحقين بالمتجانسين لشبه الاشتقاق

وأحدهما في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الثاني، كقول أبي تمام في رثاء محمد بن نهشل حين استشهد: وقد كانت البيض القواضب في الوغى … بواتر فهي الآن من بعده بتر (¬1) «فالبواتر» و «البتر» بضم فسكون يرجعان في أصلهما إلى اشتقاق واحد. د- في اللفظين الملحقين بالمتجانسين لشبه الاشتقاق: 1 - ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول، كقول الحريري: ولاح يلحى على جري العنان إلى … ملهى فسحقا له من لائح لاح ف «لاح» الأول ماضي يلوح بمعنى ظهر، و «لاح» في آخر البيت اسم فاعل من لحاه بمعنى أبعده، فهما متجانسان لفظا مختلفان معنى، ويجمعهما شبه الاشتقاق. 2 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول، كقول المعري: لو اختصرتم من الإحسان زرتكمو … والعذب يهجر للإفراط في الخصر (¬2) ¬

_ (¬1) البيض القواضب: السيوف القواطع جمع قاضب، والبواتر: صفة أخرى هنا للسيوف بمعنى القواطع أيضا لحسن استعماله إياها، وبتر بضم فسكون: جمع أبتر، أي مقطوع الفائدة. (¬2) العذب هنا: يعني العذب من الماء، والخصر بفتحتين: البرودة، والمعنى: أن بعدي عنكم إنما هو لكثرة ما أنعمتم عليّ وطوقتموني من الإحسان.

لزوم ما لا يلزم

فلفظ «اختصر» الوارد في حشو المصراع الأول هو فعل ماض بمعنى قلّل، ولفظ «الخصر» بفتحتين في آخر البيت هو اسم بمعنى البرودة، فاللفظان متجانسان لفظا مختلفان معنى، ولهذا يجمعهما شبه الاشتقاق. 3 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول، كقول الحريري أيضا: ومضطلع بتلخيص المعاني … ومطلع إلى تخليص عاني (¬1) فاللفظ الأول «المعاني» من عنى يعني، والثاني «عاني» اسم فاعل من عنا يعنو، فالجامع بينهما شبه الاشتقاق. 4 - ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الثاني، كقول شاعر: لعمري لقد كان الثريا مكانه … ثراء فأضحى الآن مثواه في الثرى فاللفظ الأول «ثراء» واوي من الثروة وفعله «ثرا» يقال: ثرا المال يثرو: كثر، واللفظ الثاني في آخر البيت «الثرى» بمعنى التراب يائي، فعله «ثري» بكسر الراء، فاللفظان متجانسان لفظا مختلفان معنى، ولكن يجمعهما شبه الاشتقاق. لزوم ما لا يلزم هذا النوع من البديع اللفظي سماه قوم «الالتزام» و «لزوم ما لا ¬

_ (¬1) المضطلع في الشيء: القوي فيه الناهض به، وتخليص العاني: فكاك الأسير.

يلزم»، وقد عده ابن المعتز من محاسن الكلام ومثل له، وعرفه بأنه «إعنات الشاعر في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له». ومن أمثلته عنده قول الشاعر: يقولون في البستان للعين لذة … وفي الخمر والماء الذي غير آسن فإن شئت أن تلقى المحاسن كلها … ففي وجه من تهوى جميع المحاسن وقد عرف القزويني لزوم ما لا يلزم بقوله: «هو أن يجيء قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في السجع». ومعنى هذا أن يلتزم الناثر في نثره أو الناظم في نظمه بحرف قبل حرف الروي أو بأكثر من حرف بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف. ولزوم ما لا يلزم من فنون البديع اللفظي الذي يرد في النثر والنظم على السواء، وقد ورد في القرآن الكريم شيء منه إلا أنه يسير جدا. فمن ذلك قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وقوله تعالى: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ وقوله تعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ وكالفاصلتين الأخيرتين من قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. وعلى هذا النحو قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ومن أمثلته نثرا قول ابن الأثير في مستهل كتاب إلى بعض الإخوان: «الخادم يهدي من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا، ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا» فاللزوم هنا في الراء والضاد.

ومنه قول الحريري في المقامة الوبرية: «حكى الحارث بن همام، قال: ملت في ريّق زماني الذي غبر، إلى مجاورة أهل الوبر، لآخذ أخذ نفوسهم الأبية، وألسنتهم العربية، فأوطنوني أمنع جناب، وفلّوا عني حد كل ناب ...» (¬1). ومنه قول بديع الزمان الهمذاني في مقامته الجاحظية التي ينقد فيها كلام الجاحظ على لسان عيسى بن هشام: «فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتهم له لفظة مصنوعة أو كلمة مسموعة؟» (¬2). فمن كلام الحريري وبديع الزمان ما التزم فيه بحرف أو أكثر قبل حرف الروي. ومن أمثلة لزوم ما لا يلزم في الشعر قول شاعر جاهلي: عصاني قومي والرشاد الذي به … أمرت ومن يعص المجرب يندم فصبرا بني بكر على الموت إنني … أرى عارضا ينهل بالموت والدم فاللزوم هنا في الميم والدال. ومنه قول أبي تمام: خدم العلا فخدمته وهي التي … لا تخدم إلا قوام ما لم تخدم فإذا ارتقى في قلة من سودد … قالت له الأخرى: بلغت تقدم ¬

_ (¬1) مقامات الحريري ص 196، وريق زماني: أوله، وغبر: مضى وتقدم، وأهل الوير: هم أهل البدو، لآخذ أخذ نفوسهم: لأقتدي بهم، وأوطنوني: أنزلوني وأحلوني، وفلوا: كسروا. (¬2) مقامات بديع الزمان ص 75، وعريان الكلام: ما لا يكسوه ثوب الصنعة، ومعتاص الكلام: ممتنعه مما تكثر فيه الصنعة فتبعده عن أذهان العامة.

وقوله أيضا: ولو جربتني لوجدت خرقا … يصافي الأكرمين ولا يصادي (¬1) جديرا أن يكر الطرف شزرا … إلى بعض الموارد وهو صادي فاللزوم في المثال الأول لأبي تمام في الميم والدال، وفي المثال الثاني في الدال والألف والصاد. ومن الشعر العذب الذي لا كلفة عليه في باب اللزوم قول الحماسي: إن التي زعمت فؤادك ملها … خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النعيم فصاغها … بلباقة فأدقها ... وأجلها حجبت تحيتها فقلت لصاحبي … ما كان أكثرها لنا وأقلها! وإذا وجدت لها وساوس سلوة … شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها فاللزوم في الهاء واللام. ومن الشعراء المتقدمين الذين مالوا إلى اللزوم في شعرهم كثير عزة، ومن شعره الذي التزم فيه ما لا يلزم قصيدة تربو على عشرين بيتا منها: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا … قلوصيكما ثم احللا حيث حلت وما كنت أدري قبل عزة ما الهوى … ولا موجعات الحزن حتى تولت هنيئا مريئا غير داء مخامر … لعزة من أعراضنا ما استحلت فما أنا بالداعي لعزة بالجوى … ولا شامت إن نعل عزة زلت وإني وتهيامي بعزة بعد ما … تخليت مما بيننا ... وتخلت ¬

_ (¬1) الخرق بكسر الخاء: الكريم المتخرق في الكرم المغالى فيه، ولا يصادي: أي ولا يداجي ولا يداري ويساتر.

لكالمرتجي ظل الغمامة كلما … تبوأ منها للمقيل اضمحلت كأني وإياها سحابة ممحل … رجاها فلما جاوزته استهلت فإن سأل الواشون: فيم هجرتها؟ … فقل: نفس حر سلّيت فتسلت (¬1) وممن مالوا إلى اللزوم من المتقدمين أيضا عبد الله بن الزبير الأسدي، وذلك كقوله من قصيدة في مدح عمرو بن عثمان بن عفان: سأشكر عمرا ما تراخت منيتي … أيادي لم تمنن وإن هي جلت (¬2) فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت (¬3) رأى خلّتي من حيث يخفي مكانها … فكانت قذى عينيه حتى تجلت (¬4) فاللزوم في شعر كثير عزة وابن الزبير الأسدي هو في التاء واللام المشددة. ... والتزام ما لا يلزم لدى المتقدمين كما يبدو من شعرهم يأتي عفو الخاطر غير مقصود ولا متعمد، ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة أو الصنعة شيء. أما المتأخرون فتوسعوا فيه وأكثروا منه، ومنهم من تعمده وقصد إليه قصدا، كأنما يريد أن يدل بذلك على مقدرته في النظم وسعة إحاطته باللغة ومفرداتها. ومن أولئك الشعراء أبو العلاء المعري فله في هذا النوع من الشعر ¬

_ (¬1) أمالي القالي ج 2 ص 107. (¬2) لم تمنن: أي لم تقطع ولم تخلط بمنة. (¬3) إذا النعل زلت: زلة القدم والنعل كناية عن نزول الشر والمحنة. (¬4) خلتي: الخلة بفتح الخاء: الخصاصة والفقر.

ديوان كامل سماه «اللزوميات» أتى فيه بالجيد الذي يحمد، والرديء الذي يذم. ومن شعره الذي التزم في قافيته ما لا يلتزم قوله: أرى الدنيا وما وصفت ببر … إذا أغنت فقيرا أرهقته إذا خشيت لشر عجلته … وإن رجيت لخير عوقته حياة كالحبالة ذات مكر … ونفس المرء صيدا أعلقته فلا يخدع بحيلتها أريب … وإن هي سورته ونطقته أذاقته شهيا من جناها … وصدت فاه عما ذوقته فاللزوم هنا في الهاء والتاء والقاف. ومنه أيضا قوله: تنازع في الدنيا سواك وماله … ولا لك شيء بالحقيقة فيها ولكنها ملك لرب مقدر … يعير جنوب الأرض مرتد فيها ولم تحظ من ذاك النزاع بطائل … من الأمر إلا أن تعد سفيها فيا نفس لا تعظم عليك خطوبها … فمتفقوها مثل مختلفيها تداعوا إلى النزر القيل فجالدوا … عليه وخلوها لمغترفيها وما أمّ صلّ أو حليلة ضيغم … بأظلم من دنياك فاعترفيها (¬1) تلاقي الوفود القادميها بفرحة … وتبكي على آثار منصرفيها فأطبق فما عنها وكفا ومقلة … وقل لغوي القوم: فاك لفيها (¬2) ¬

_ (¬1) فاعترفيها: أي فاسأليها أيتها النفس، وربما وضعوا اعترف بمعنى عرف، وعلى هذا يكون المعنى فاعترفيها: أي اعرفي حقيقة دنياك يا نفس. (¬2) فاك لفيها: كلمة تستعملها العرب عند الدعاء بالمكروه والشماتة، وأصل ذاك أن السباع إذا تهارشت صرفت أفواهها بعضها لبعض.

فاللزوم هنا في الهاء والياء والفاء، وقد التزم مع حرف الروي بحرفين. ويجدر التنبيه هنا إلى الفرق بين لزوم ما يلزم ولزوم ما لا يلزم في القوافي. فمن باب لزوم ما يلزم قول الشاعر: في شعاب النسيان أفردت وحدي … فعبرت الأيام حيا كميت أجد الغدر والعقوق من النا … س وألقى الظلام في عقر بيتي والعذاب الروحي في ليلي الدا … ئم أورى دمي وأنضب زيتي فتعالي ... وفي يديك انطلاق … من فجاج النسيان أما أتيت فحرف القافية هنا هو التاء والياء قبلها حرف ردف يلتزم به الشاعر في جميع أبيات القصيدة والعدول عنه إلى أي حرف آخر كأن يقول مثلا «حضرت» بدل «أتيت» يعد عيبا في القافية. أما في لزوم ما لا يلزم، كما هو الشأن في قوافي الأبيات السابقة لكثير عزة، وابن الزبير الأسدي والمعري، فاللازم هو حرف القافية فقط، أما ما عداه مما ألزم الشاعر به نفسه حرفا كان أو أكثر فهذا يجوز للشاعر أن يلتزمه أو يعدل عنه ولا يعد في الوقت ذاته عيبا من عيوب القافية. فلو التزم الشاعر حرف الراء مثلا قبل القافية في قصيدة بعض كلمات قافيتها مثل «شرق، وفرق وبرق» فإنه يجوز له أن يبقى على هذا الالتزام، كما يجوز له أن يعدل عنه ويقول: «شرق، وسبق، وخلق» دون أن يعد ذلك عيبا في القافية. ... ولزوم ما لا يلزم هو، كما يقول ابن الأثير، من أشق هذه الصناعة مذهبا وأبعدها مسلكا، وذلك لأن مؤلفه يلتزم ما لا يلزمه. فإن اللازم في

الموازنة

هذا الموضوع وما جرى مجراه إنما هو السجع الذي هو تساوي أجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها. وهذا فيه زيادة على ذلك وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا، وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات الشعرية (¬1). ومما لا ريب فيه أن هذا النوع من أصعب أنواع البديع اللفظي استخراجا، ولكن مما لا ريب فيه أيضا أنه يعد من محاسن الكلام، إذا وفق فيه الأديب فجاءه عفو الخاطر بدون تكلف ولا تعمل، وكان المعنى هو الذي يقود إليه ويستدعيه، وليس هو الذي يقود إلى المعنى. الموازنة الموازنة نوع من أنواع البديع اللفظي يقع في النثر والنظم: وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التقفية، نحو قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ. فلفظا «مصفوفة ومبثوثة» متساويان في الوزن لا في التقفية، لأن الأول على الفاء والثاني على الثاء، ولا عبرة لتاء التأنيث لما هو معروف في علم القوافي. وقد فصّل ابن الأثير الكلام عن الموازنة بعض الشيء فقال: «هي أن تكون ألفاظ الفواصل في الكلام المنقور متساوية في الوزن، وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزنا. وللكلام بذلك طلاوة ورونق وسببه الاعتدال، لأنه مطلوب في جميع الأشياء، وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت من النفس موقع الاستحسان وهذا لا مراء فيه لوضوحه. ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 106.

وهذا النوع من الكلام أخو السجع في المعادلة دون المماثلة، لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال، هي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد. وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع ولا تماثل في فواصلها، فيقال إذن: «كل سجع موازنة، وليس كل موازنة سجعا، وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة» (¬1). ومما ورد من الموازنة في القرآن الكريم قوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فالمستبين والمستقيم موازنة، لأنهما تساويا في الوزن دون التقفية. ومنها كذلك قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا. فالموازنة هنا بين «عزا وضدا» وبين «أزا وعدا» فقد جاء كل زوج على وزن واحد، وإن اختلفت أحرف التقفية أو المقاطع التي هي فواصلها. وأمثال هذا في القرآن كثير بل معظم آياته جارية على هذا النهج، حتى إنه لا يكاد يخرج منه شيء من السجع والموازنة. ومن أمثلة الموازنة شعرا قول ربيعة بن ذؤابة: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأشدهم بأسا على أصحابه … وأعزهم فقدا على الأصحاب فالبيت الثاني هو المختص بالموازنة فإن «بأسا» و «فقدا» على وزن واحد، دون التقفية. ¬

_ (¬1) المثل السائر ص 111.

التشريع

ومنها قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس … قنا الخط إلا أن تلك ذوابل (¬1) فالموازنة تامة بين كل لفظة وما يقابلها في المصراعين ما عدا لفظتي «هاتا وتلك». ومنها قول أبي تمام أيضا، والموازنة تامة بين جميع ألفاظ الشطر الأول وما يقابلها من ألفاظ الشطر الثاني: فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا … وأقدم لما لم يجد عنك مهربا ومن أمثلة الموازنة كذلك قول الشاعر: صفوح صبور كريم رزين … إذا ما العقول بدا طيشها ففي الشطر الأول من البيت هنا موازنتان: الأولى «صفوح صبور» والثانية «كريم رزين» وقد تساوى اللفظان في كل موازنة وزنا واختلفا تقفية. التشريع التشريع، ويسمى التوشيح والتوأم، هو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى عند الوقوف على كل منهما. وتفصيل ذلك أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على وزنين من أوزان الشعر وقافيتين. فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعرا مستقيما من وزن على عروض، وإذا أضاف إلى ذلك ما بني عليه شعره من القافية ¬

_ (¬1) المها: جمع مهاة وهي هنا البقرة الوحشية، والخط، موضع تنسب إليه الرماح المستقيمة. والشاعر يصف هنا الأوانس أو النساء بسعة العيون وطول القدود.

الأخرى كان أيضا شعرا مستقيما من وزن آخر على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح. والتشريع لا يكاد يستعمل في الكلام المنثور المسجوع إلا قليلا وليس من الحسن في شيء! واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور. ومن أمثلته شعرا قول بعضهم: أسلم ودمت على الحوادث مارسا … ركنا ثبير أو هضاب حراء ونل المراد ممكنا منه على … رغم الدهور وفز بطول بقاء فهذان البيتان من وزن «الكامل» التام المؤلف من «متفاعلن» مكررة ست مرات وقافيتهما الهمزة. فإذا أسقطنا من كل بيت تفعيلتين فإن البيتين ينتقلان إلى مجزوء الكامل ويصيران: أسلم ودمت على الحوا … دث مارسا ركنا ثبير (¬1) ونل المراد ممكنا … منه على رغم الدهور وقد استعمل ذلك الحريري في قصيدة كاملة معروفة في مقاماته منها: يا خاطب الدنيا الدنيّة إنها … شرك الردى وقرارة الأكدار دار متى ما أضحكت في يومها … أبكت غدا بعدا لها من دار فالقصيدة التي منها هذان البيتان من وزن الكامل التام أيضا والقافية الراء، فإذا أسقطنا هنا تفعيلتين صار البيتان من مجزوء الكامل والقافية الدال هكذا: ¬

_ (¬1) ثبير: الجبل المعروف عند مكة، وحراء: جبل بمكة فيه غار، وكان الرسول قبل أن يوحى إليه يأتيه ويخلو بغاره فيتحنث فيه، أي يتعبد لله.

يا خاطب الدنيا الدنيّ … ة إنها شرك الردى دار متى ما أضحكت … في يومها أبكت غدا وقد ظهر «التشريع» قبل كلام الحريري في كلام العرب المتقدمين، من نحو القائل: وإذا الرياح مع العشي تناوحت … هوج الرمال بكثبهن شمالا ألفيتنا نقري العبيط لضيفنا … قبل القتال ونقتل الأبطالا (¬1) فالبيتان من وزن الكامل التام كذلك والقافية اللام، وبإسقاط تفعيلتين ينتقل البيتان إلى وزن آخر هو مجزوء الكامل وإلى قافية أخرى هي اللام أيضا هكذا: وإذا الرياح مع العشي … تناوحت هوج الرمال ألفيتنا نقري العبي … ط لضيفنا قبل القتال ولا شك أن هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف، وحسنه منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البلاغة والبراعة. ومن ثم لا يحسن إلا إذا كان يسيرا؛ كالرقم في الثوب أو الشية في الجلد كما يقول ابن الأثير. وأوسع البحور في هذا النوع «الرجز» الذي يتألف من «مستفعلن» ست مرات، فإنه قد وقع مستعملا «تاما» و «مجزوءا» و «مشطورا» و «منهوكا»، فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف. ¬

_ (¬1) العبيط: الذبح، ويقال: اعتبط الإبل والغنم إذا ذبحها لغير داء، ونقري العبيط لضيفنا: أي نحسن إلى ضيفنا ونقدم له من طعامنا خير ما نذبح من إبلنا أو غنمنا المبرأة من الأدواء.

ولعل في النموذج التالي من شعر محمد بن جابر الضرير الأندلسي ما يوضح ذلك. قال: يرنو بطرف فاتر مهما رنا … فهو المنى لا أنتهي عن حبه يهفو بغصن ناضر حلو الجنى … يشفي الضنى لا صبر لي عن قربه لو كان يوما زائري زال العنا … يحلو لنا في الحب أن نسمى به فهذه الأبيات من الرجز التام، فإذا تركناها على حالها فهي من الرجز التام والقافية الباء، وإذا أسقطنا منها تفعيلتين من آخر كل بيت صارت من الرجز المجزوء والقافية النون هكذا: يرنو بطرف فاتر … مهما رنا فهو المنى يهفو بغصن ناضر … حلو الجنى يشفي الضنى لو كان يوما زائري … زال العنا يحلو لنا وإذا أسقطنا تفعيلة من آخر كل بيت من مجزوء الرجز هذا صارت الأبيات من مشطور الرجز والقافية النون أيضا هكذا: يرنو بطرف فاتر مهما رنا … يهفو بغصن ناضر حلو الجنى لو كان يوما زائري زال العنا وإذا عدنا فأسقطنا تفعيلة من هذا المشطور صارت الأبيات من منهوك الرجز والقافية الراء هكذا: يرنو بطرف فاتر … يهفو بغصن ناضر لو كان يوما زائري

ولعلنا لاحظنا من كل ما سبق أن التشريع كنوع من البديع اللفظي إذا أسرف الشاعر منه في القصيدة الواحدة أسقطها وأحالها إلى نوع من الصناعة الباردة الغثة، وأن أحسنه ما جاء فيها قليلا عفو الخاطر.

§1/1