علم الأخلاق الإسلامية

مقداد يالجن

مقدمة

مقدمة مقدمة عامة للموسوعة مدخل ... مقدمة عامة للموسوعة في هذه المقدمة سنتكلم عن دوافع إنجاز هذه الموسوعة كما سنتكلم عن أهمية الأخلاق وأهمية التربية الأخلاقية للأفراد والجماعات والشعوب على حد سواء. ولإدراكي لهذه الأهمية فقد كرست جزءًا كبيرًا من حياتي لها، حيث استغرقت الدراسات الأخلاقية ثماني سنوات متواصلة من عمري، وكنت متفرغًا فيها لهذه الدراسة، ولم أكن قد تزوجت، ولم تكن لي في الوقت نفسه وظيفة، ولهذا كان جل وقتي منصبًّا على هذه الدراسة، وكان الدافع الأساسي إلى هذه الدراسة هو رؤيتي المشكلات الاجتماعية وتحليلي لأسبابها وبخاصة مشكلة ازدياد الجرائم الظاهرة والباطنة في الحياة الاجتماعية العامة وفي الإدارات أو الدوائر الحكومية، وبالذات في مجال التربية والتعليم، وبخاصة تلك الجرائم والانحرافات الخطيرة التي تفتك بكيان الدولة والمجتمع من الناحية الاقتصادية والوظيفية والاجتماعية، ذلك أنها تثير العداوة والبغضاء والصراعات الاجتماعية بسبب انتشار الاختلاسات الظاهرة والباطنة من أموال الدولة من قبل بعض الموظفين، وبسبب انتشار الظلم والمحاباة والرشوة والغش والتزوير وما أشبه ذلك، وهي كلها ترجع أساسًا إلى النقص الخلقي. وعندما نظرت إلى المنحرفين والمفسدين الذين يفسدون ويرتكبون جرائم تتسع آثارها وتمتد على نطاق واسع وجدتهم من المتعلمين الذين تخرجوا في المدارس والمعاهد والجامعات، فقلت: ألم يتعلم هؤلاء الأخلاق في المدارس؟، ونظرت إلى المناهج التعليمية، فوجدتها تفتقد هذه الدراسات الأخلاقية بصفة عامة، ووجدت أيضا في بعض البلاد

الأخلاقيات تدرس باعتبارها عادات وتقاليد وأعرافًا سائدة في المجتمع، وهي تتغير بحسب الزمان والمكان، وهي تقوم على دراسات نقدية توجه أحيانًا ضد الأخلاق والقيم بأنها تقاليد وأعراف اجتماعية لا تحمل في ذاتها قيمة ثابتة كما تحمل القوانين العلمية التي تنطوي على قيمتها في ذاتها، وبخاصة فإنها تقرر أحيانًا في بعض الجامعات والمدارس بطريقة غير موجهة، وعلى هذا الأساس تدرس من زوايا وآراء فلسفية مختلفة ومتناقضة بين آراء الغربيين والشرقيين مما يجعل الطلاب في حيرة، ويقولون: أين الحق؟ أليست هناك حقائق أخلاقية ثابتة؟ هل هي مجرد آراء متضاربة ومتناقضة؟ إن مثل هذه الدراسات الأخلاقية تهون من شأن القيم الأخلاقية إذ إنها بدلًا من أن تدفع الناس إلى التمسك بها تقتل روح هذا التمسك في نفوس المتعلمين، وغيابها قد يكون أفضل من وجودها. وزاد اقتناعي بأهمية تعليم الأخلاق وبأهمية التربية الأخلاقية نتيجة بعض الوقائع حيث علمت من خلالها أن مجرد الاهتمام بالعلوم والتقدم فيها لا يصلح شيئًا من النفوس، ولا يساعد على انتشار الأخلاق وقيمتها في حياة الأفراد والجماعات. فمن تلك الوقائع مثلًا: كنت سألت عن حال مدينة كنت زرتها منذ عشرة سنوات من حيث الصلاح والفساد، فقال الذي يتردد عليها: لقد انتشر الفساد فيها انتشارًا فظيعًا، فلما استفسرت عن السبب، قال السبب هو إنشاء الجامعة فيها، فقلت: هل الجامعة تكون سببًا للفساد؟ إن هذا لَتفسير عجيب، فالجامعة مفروض أن تكون منار إصلاح وإشعاع نور وهداية وتهذيب الأخلاقيات

فقال: الأمر ليس كذلك، ولما استفسرت عن بقية الموضوع قيل لي إنها جامعة علمية لا تبالي بالأخلاق ولا بالقيم والآداب بل تفسد أخلاقيات الشباب؛ لأنها تسمح بالاختلاط بين الجنسين بدون حدود في الشواطئ ومرافق الجامعة ومساكنها، والاختلاء في الغرف المخصصة من أجل المذاكرة، ولقرب غرف نوم الطلاب والطالبات في المبنى الواحد لا مانع من الاختلاء بحكم الزمالة والمذاكرة. ومن تلك الوقائع أيضًا ما حصل أثناء زيارتي لإحدى المدن الشهيرة، وأثناء زيارتي ونحن نطوف بأرجائها كنا نمر من جوار سور كبير، فسألت الذي يطوف بي عن السور وعما بداخله فقال: إن أكبر المجرمين من اللصوص والقتلة والخونة في المجتمع يتربون في داخل هذا السور، فقلت: عجبًا كيف يكون هذا؟ ألا تعلم الدولة ذلك؟ قال: بلى، إن الدولة هي التي تربيهم كذلك، فزادت دهشتي، فقلت: يا رجل اشرح كلامك كيف يكون هذا؟ فقال: إن بداخله جامعة كذا، فقلت: وهل الجامعة تربي اللصوص والمجرمين؟ قال: نعم، وقال: ألا ترى الذين يسرقون من الأموال العامة، والذين يأخذون الرشاوى، والذين يزورون الوثائق في الدوائر هم من خريجي الجامعة؟ ثم بدأ يعرض بعض التفصيلات، من ذلك كيف أن أحد المحامين سبب إفلاسه بسبب حادثة مرورية، أعطاه مبلغًا من المال ليدافع عنه، فأخذ مالًا من خصمه، فحول القضية إلى قضية استمرت شهورًا حتى أفلس. ومثال آخر مرضت زوجته وأخذها إلى طبيب، فطلب منه مبلغًا كبيرًا ليعمل لها عملية؛ لأن حالتها خطيرة تستدعي عملية عاجلة، فدفع المبلغ ثم أجرى العملية وتوفيت الزوجة على أثرها. وبعد ذلك تبين أن الحالة كانت بسيطة وما كانت تستدعي العملية، وإنما أجراها من أجل المال، قال محدثي: هذا مثل من أعمال هؤلاء الذين تخرجوا في هذه الجامعة قتلوا امرأتي وسرقوا أموالي باسم

العملية وباسم المحاماة. وإني بدروي أذكر ما يشبه هذه الوقائع، كما يمكنني ذكر عشرات الأمثلة مما شاهدت وقرأت وعلمت عن طريق محادثة بعض رجال الدولة تحدثوا عن مثل تلك الجرائم الواقعة من موظفي الدولة أيضًا. وبعد أن اقتنعت بأهمية الأخلاق في حياة الفرد والمجتمع والدولة، اقتنعت بالأهمية نفسها بأن كل إصلاح فردي واجتماعي يجب أن يبدأ من تعليم الأخلاق بطريقة خاصة حسب اتجاه وتوجيهات وأهداف تبدأ من منطلقات ومسلمات تدفع إلى التمسك بالأخلاق وتساعد على الالتزام بها لدى المتعلمين. ولهذا اتجهت لدراسة الأخلاق من منطلق الاتجاه الإسلامي؛ لأن الدراسات الأخلاقية إن لم تكن موجهة ولم تقم على عقيدة وإيمان ثابت بقيمتها تفقد قيمتها التربوية. ولهذا فإن كثيرًا من الدراسات الأخلاقية عندما بدأت من منطلق اجتماعي بأنها ظاهرة اجتماعية والمجتمع من حقه أن يغير أخلاقياته؛ لأنه سيد الأوضاع ولا ضير في تغيير الأخلاقيات، ثم لم تقم على عقيدة أو أساس ديني نتيجة؛ لذلك فقدت تلك الدراسات قيمتها ولم تؤثر في نفوس الأجيال، وبخاصة إذا اختلطت مفاهيمها بمفاهيم العادات والتقاليد التي لا يخسر المجتمع بتغيرها أو تعديلها، أما الأخلاق في نظر الإسلام فهي سيد المجتمع، فالمجتمع يجب أن يخضع لها بدلًا من أن تخضع الأخلاق للمجتمع. ولهذا كله فإن التعليم الأخلاقي والتربية الأخلاقية يجب أن يأخذا أهميتهما بقدر أهمية العلوم في المدارس والجامعات على أقل تقدير.

أهداف تعليم الأخلاق

أهداف تعليم الأخلاق مدخل ... أهداف تعليم الأخلاق: إن التعليم حسب أهداف محددة يجب تحقيقها من خلال أساليب التدريس وبوسائلها الخاصة التي تؤدي إلى تحقيقها، فالأهداف بمثابة معايير من خلالها نعرف تحققها أو عدم تحققها ونستطيع تقويم أساليب تعليمها. وأهم أهداف تعليم الأخلاق في الاتجاه الإسلامي هي ما يلي: 1- بيان حقائق القيم الأخلاقية الإسلامية ومبادئها وميادينها. 2- التبصير بشمولية روح الأخلاق الإسلامية على كل تصرفات وسلوكيات الناس الفردية والاجتماعية. 3- إبراز أهمية وأثر القيم الأخلاقية الإسلامية من الناحية العلمية والاجتماعية والإنسانية والحضارية المادية والمعنوية. 4- إظهار خصائص ومميزات القيم الإسلامية بالنسبة إلى الأخلاقيات البشرية الوضعية. 5- وضع المعايير الخلقية الإسلامية أمام المتعلمين؛ ليستطيعوا توجيه سلوكهم وتقويم السلوكيات في ضوئها. 6- تكوين القناعة بثبات القيم الأخلاقية الإسلامية، وأنها ليست خاضعة للتغيرات الاجتماعية، بل إن التغيير والتكوين الاجتماعي يجب أن يخضع لهذه القيم. 7- تكوين الإيمان بالعلاقات الثابتة والمتينة بين العقيدة الإسلامية والقيم الأخلاقية الإسلامية.

8- الإشعار بأن تعليم الأخلاق لا يعني مجرد توصيل المعلومات الأخلاقية إلى الأذهان فقط، بل يعني الإشعار بالمسئولية الأخلاقية وبتطهير النفوس وتزكيتها من الرذائل والشرور وتحليتها بالفضائل ومكارم الأخلاق. 9- تكوين الشعور بالمحبة للفضائل والكراهية والنفور من الرذائل والشرور. 10- تنمية الميول نحو العمل بالقيم الأخلاقية، والدعوة إليها ما استطاع المعلم إلى ذلك سبيلًا في المدرسة وخارجها. ولا بد مع ذلك من تعليم الأخلاق في إطار معايير ثابتة بها يعرف الدارس القيم الأخلاقية وبها يستطيع أن يميز بين العادات والتقاليد وبين القيم الأخلاقية. وقد بينا تلك المعايير بشئ من التفصيل وقسمناها إلى قسمين: معايير الأخلاق الإسلامية في الجزء الأول من هذه الموسوعة، ومعايير التربية الأخلاقية في الجزء الثاني منها. ولكي يكون التعليم الأخلاقي مؤثرًا في السلوك الأخلاقي لا بد من تحقيق الأمرين، الأول: دراسة الأخلاق من حيث كونها علمًا من العلوم الإسلامية، والقسم الثاني: التربية الأخلاقية الإسلامية. وهذا النوع من الدراسات للأخلاق الإسلامية تميزت به هذه الموسوعة عن غيرها من الدراسات الأخلاقية الأخرى التي تقتصر على الجانب الأول، ولا تتناول القسم الثاني إلا قليلًا، كما سنتناول في الجزء الثالث نظام الأخلاق الإسلامي. ولهذا فإن هذه الدراسة -من هذه الزاوية- تعد من أوسع الدراسات الأخلاقية من حيث الشمولية على الجوانب الثلاثة المهمة. والآن أرى من الأهمية أن أتعرض لأهمية كل جانب.

أهمية الأخلاق

أولا: أهمية الأخلاق: ونذكر جوانب هذه الأهمية في النقط الآتية: 1- أهمية الأخلاق باعتبارها من أفضل العلوم وأشرفها، ذلك أن علم الأخلاق- بالتعريف المختصر- هو علم الخير والشر والسلوك النافع والضار، والطيب والخبيث، ولهذا عندما يحاول بعض العلماء بيان قيمة علم الأخلاق بالنسبة للعلوم الأخرى فمنهم من يقول: إنه إكليل العلوم جميعًا، ومنهم من يقول: إنه تاج العلوم، ومنهم من يقول: إنه زبدة العلوم، ذلك أن العلوم الأخرى أساسا تساعد على الأخلاق في الكشف عن الخير والشر، وعن النافع والضار، وهما موضوع الأخلاق، ولهذا أيضًا فإن علم الأخلاق يستخدم العلوم الأخرى في الكشف عن مهمته وتحقيق أهدافه، وتعتبر تلك العلوم وسائل معينة لتحقيق هذا العلم. 2- إن السلوكيات الأخلاقية وآدابها هي التي تميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث الجنس والأكل والشرب والنظافة، وتذوق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنها في المعاشرة والمحادثة والتعاون والتآلف وتبادل المحبة والإكرام والإحسان والتراحم والتعاطف وغيرها. ولهذا فالآداب الأخلاقية زينة الإنسان وحليته الجميلة، وبقدر ما يتحلى بها الإنسان يضفي على نفسه جمالا وبهاء، وقيمة إنسانية.

أهمية الأخلاق من حيث إن هدفها تحقيق السعادة في الحياة الفردية والجماعية. ذلك أن الحياة الأخلاقية هي الحياة الخيرة البعيدة عن الشرور بجميع أنواعها وصورها، فكلما انتشرت هذه الحياة انتشر الخير والأمن والأمان الفردي والاجتماعي، وتنتشر أيضًا الثقة المتبادلة والألفة والمحبة بين الناس، وكلما غابت هذه الحياة انتشرت الشرور وزادت العداوة والبغضاء، والنفور والتناحر والتكالب من أجل المناصب، ومن أجل المادة والشهوات، والشرور أصلًا سبب التعاسة والشقاء في حياة الفرد والجماعة، ولذا قال أحد الأخلاقيين الغربيين: إن الحياة من غير قيم -وإن كانت حلوة على الشفاه- فإنها مرة على القلوب والنفوس؛ ولهذا أيضًا عندما يتكلم بعض علماء النفس عن عذاب الوجدان، يقولون: إنها لظى جحيم يعض قلوبنا ليلا ونهارا، ولهذا يرجع بعض علماء النفس الأمراض النفسية إلى عذاب الوجدان، ويقول: إن كل مرض نفسي يبدو وراءه نقص خلقي. 4- أهمية الأخلاق من حيث إنها وسيلة لنجاح الإنسان في الحياة. ذلك أن الإنسان الشرير والغاش والمعتدي على أعراض الناس وأموالهم أو على أنفسهم، أو الذي يؤذي الآخرين لا يكون محبوبًا أولًا بين الناس، ولا يثقون به، ولا يتعاملون معه، ثم أن الغشاش لا بد من أن ينكشف غشه وخداعه في يوم من الأيام إن عاجلا أو آجلا، وعندما يعلم أمره يعاقب أو يبعد عن وظيفته وإن كان تاجرًا لا يتعامل الناس معه وهذا يؤدي إلى فشله. والطالب إذا غش فإنه لا بد من أن ينكشف أمره إما في أيام الامتحانات

أو بعد أن يتولى الوظيفة؛ لأن الغشاش يستخدم غشه ونيته السيئة أينما كان وسوف ينكشف أمره، ولهذا قال الشاعر: ومهما تكن عند امرء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم ثم إن الطالب الذي يغش في الامتحان سوف يعتمد على الغش، وهذا يؤدي إلى ضعف تكوينه العلمي ويظهر ذلك بعد التخرج وبعد ما يتولى وظيفته. 5- أهمية الأخلاق من حيث إنها وسيلة مهمة للنهوض بالأمة: ذلك أن سقوط الأمم والحضارات كثيرًا ما ترجع أسبابها إلى الانهيار الأخلاقي فيها، كما قررها بعض المؤرخين مثل جيبون وابن خلدون. الأخلاقيات الهدامة كثيرة منها: الظلم ونقض العهود والتناحر من أجل السلطة والعدوانية والتخريب، أما إذا انتشرت الروح الأخلاقية كالتضحية في خدمة الأمة وروح الإخاء والتعاون وتحقيق المساواة والعدالة الشاملة وتنفيذ العهود، سوف تؤدي إلى التقدم، ونجد أفراد الأمة يخترعون ويبدعون ويتفاخرون بتقدم أمتهم، ثم إن التقدم يكون نتيجة سيادة الأمن والاستقرار في المجتمع، ولا يتحقق هذا وأمثاله إلا بانتشار الأخلاق والروح الخيرة والتعاون المثمر والقيام بالواجبات والأعمال والصناعات كما ينبغي ويجب. والحقيقة أني ما كنت أدرك سر أهمية الأخلاق في تقدم الأمم ونهضتها، وكان مفتاح الوقوف على السر هو قراءتي لحوار جرى مع وزير التعليم الياباني قبل عشرين سنة تقريبًا فيسأل الصحفي الوزير ويقول: ما سر تقدم اليابان هذا

التقدم؟ فقال الوزير: السر يرجع إلى تربيتنا الأخلاقية وسيلة للنهوض بالأمة على ذلك النحو، وبعد دراسة متعمقة لمناهج التعليم الياباني فيما يتعلق بالتربية الأخلاقية في المراحل المختلفة علمت السر وعرفت قيمة هذه التربية.

التربية الأخلاقية

التربية الأخلاقية والآن لننتقل إلى بيان أهمية التربية الأخلاقية، التي من أجلها خصصت الجزء الثاني من هذه الموسوعة لدراسة أهمية هذه التربية، أهمية التربية الأخلاقية. تكمن أهمية التربية الأخلاقية بالنسبة لعلم الأخلاق من حيث إن وظيفة علم الأخلاق الكشف عن الخير والشر، أو التعريف بهما وبيان مواضعهما في الحياة والسلوك، لكن معرفة الإنسان بالخير والشر غير كافية للالتزام بالأول وتجنب الثاني. والخطأ التربوي نشأ من هنا أصلا، ذلك أن بعض المربين ظنوا خطأ قديمًا بأن العلم بالخير كافٍ للإتيان به، والعلم بالشر كافٍ لتجنبه، ولهذا كانوا يرون أن تعليم الأخلاق كعلم يكفي لتمسك المتعلمين بالأخلاقيات، ولكن خطأ ذلك تبين لدى كثير من المربين بعد ذلك بأن العلم بالخير غير كافٍ لإتيانه، والعلم بالشر غير كاف لتجنبه، ذلك أن بعض الناس يعرفون أضرار بعض السلوكيات مثل: مدمني المخدرات والخمور والسجائر، فإنهم يعرفون باليقين أضرارها عن طريق التجربة ومعاناة ويلاتها، ومع ذلك لا يستطيعون تركها، وإن بعض الناس يعرفون خيرية الفضائل ومع ذلك لا يستطيعون فعلها، وذلك بسبب ضعف إرادتهم أو لعدم قدرتهم على مقاومة أهوائهم أو لعدم استطاعتهم مواجهة

الصعوبات التي لا بد من اجتيازها ليكون الإنسان فاضلا خيِّرا. فمن هنا بات من الضروري تذوق التربية الأخلاقية التي مهمتها الأولى تنشئة الأجيال على السلوكيات الخيِّرة والآداب الاجتماعية النبيلة، وبناء قوة الإرادة، وبناء الروح الخيِّرة القوية الدافعة إلى الخير، ثم تكوين قناعة عقلية علمية بتلك القيم عن علم وبصيرة وإلى التضحية من أجل ذلك، عن وعي كامل لكل ما يترتب على فعله وعلى تركه. ولهذا كله أرى الإشارة إلى أهمية أهم جوانب التربية الأخلاقية فيما يلي:

أهمية التربية الأخلاقية

أهمية التربية الأخلاقية: 1- إنها خير وسيلة للقضاء على مشكلة ازدياد الجرائم والانحرافات بجميع أشكالها وألوانها؛ لأن وظيفة التربية الأخلاقية بناء جيل ملتزم بالخير متجنب للشرور والجرائم الناشئة عن الشرور الروح الإجرامية. 2- إنها خير وسيلة لبناء خير فرد وخير مجتمع وخير دولة وخير حضارة إنسانية، ذلك أن أهم وظيفتها إزالة الشرور من النفوس، وتكوين الروح الخيرية في النفوس. 3- إنها ضرورية لتحقيق التماسك والتجانس الاجتماعي لتحقيق النهضة الاجتماعية القوية، ذلك أن من أسباب تمزيق وحدة المجتمع والأسر والأخوة هي: الشرور وعدم مراعاة الحقوق، فانتشار العداوة والظلم بين الناس يمزق البناء الاجتماعي مهما كان صغيرا أو كبيراً، والتربية الأخلاقية الإسلامية تبعد الناس عن العدوان والشرور وإزالة هذه الشرور بين الناس ومن المجتمعات.

4- إنها ضرورية كوسيلة لتحقيق السعادة في الحياة الاجتماعية، ذلك أن الشقاء والتعاسة الاجتماعية ناشئة عن الشرور وانتشار الانحراف والرعب في الحياة الاجتماعية، والتربية الأخلاقية تربي الناس على إزالة الشرور والفتن، وعلى نشر المحبة في الحياة الاجتماعية لأجل تحقيق السعادة في المجتمع، كما أنها تربي الأجيال على المسارعة في الخيرات، والاستباق فيها كما يتسابق الناس في ميادين الألعاب وغيرها، والسعادة تتحقق من سيادة الخير وزوال الشرور. 5- إنها ضرورية لبناء دولة قوية منظمة يعمل موظفوها بأمانة ونزاهة وإخلاص، ذلك أن أية دولة تقوم على الانحلال وفساد الأخلاق فإن عمرها يكون قصيرًا، ولا يهنأ فيها رجال الدولة ولا المواطنون، وعلى العكس من ذلك فإن قامت الدولة على الأسس الأخلاقية وفي ضوئها إذا انتشرت العدالة والمساواة فإن المواطنين يصبحون جنودًا للخير وللدولة، يعملون بإخلاص لبقائها والحفاظ عليها، ونتيجة لذلك تثق الدولة بالمواطنين ويثق المواطنون برجال الدولة. 6- إنها ضرورية لصيانة الأجيال من تسرب الفساد إلى نفوسهم. ومن جوانب أهمية التربية الأخلاقية أنها تعمل من البداية على صيانة النشء من تسرب الجراثيم الأخلاقية في نفوسهم، وتعمل لخلع جذور الشرور منها وتزكيتها من النيات والغايات السيئة التي إذا رسخت فيها أدت إلى الانحرافات الأخلاقية إن عاجلًا أو آجلاً، كما تعمل هذه التربية بوسائلها الخاصة تكوين حصانة لدى النشء ضد الإصابة بالأمراض الأخلاقية حتى إذا وقعوا في بيئة فاسدة لا يتأثرون بفسادها، كما أن الإنسان المحصن ضد الأمراض لا يتأثر بالأمراض المنتشرة كما يتأثر غير المحصن ضدها.

أهمية النظام الأخلاقي الإسلامي

أهمية النظام الأخلاقي الإسلامي وفيما يتعلق بأهمية النظام الأخلاقي الإسلامي الذي سوف يجسده الجزء الثالث يمكن التعبير عنها بإيجاز على النحو التالي: 1- أن هذا النظام سوف يبرز أولًا المثل العليا لكل عامل في كل مجال. وتلك المثل نحن بحاجة إليها في كل ميدان ليعرف كل فرد مدى اقترابه أو ابتعاده عن تلك المثل في الميادين المهمة في الحياة الاجتماعية. 2- أن هذا النظام في ضوء تلك المثل سوف يوضح الأخلاقيات الخاصة بكل عامل في كل ميدان في ميدان الإدارة والصناعة والتجارة والسياسة. 3- أن هذا النظام عندما يتحول إلى التطبيق عن طريق التربية الأخلاقية الشاملة لكل فرد من أفراد المجتمع عن طريق التربية الإلزامية سوف يكون الشعور بالمسئولية الأخلاقية في ضوء المعايير الأخلاقية في بناء الشخصيات. تبقى بعد ذلك كله في هذه المقدمة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن هذه الموسوعة منظمة أساسًا على أساس الموضوعات لا على أساس الحروف الأبجدية؛ لأنها دراسة موضوعية، الهدف منها تغطية الحاجات في الدراسات الأخلاقية، ويمكن تدريسها ضمن المقررات الدراسية. ولسهولة الرجوع إلى الموضوعات سوف نضع في النهاية فهرسًا أبجديًّا لتحقيق الهدفين: هدف الدراسة الموضوعية وهدف التنظيم الأبجدي. والآن بعد هذه المقدمة العامة لننتقل إلى الجزء الأول في عرضه، ثم معالجة موضوعاته. المؤلف

المنهج وتطبيقه

المنهج وتطبيقه مدخل ... المنهج وتطبيقه إن دراسة أي اتجاه في موضوع معين يتطلب معرفة الفلسفة التي ينتمي إليها والتي تحدد طبيعته سواء كان هذا الاتجاه خاصًّا بالتقييم أو التنظيم أو التفسير أو العرض. وإذا كان الاتجاه الإسلامي في الأخلاق ينبع من فلسفة الإسلام عمومًا، فلا بد إذن من معرفة هذه الفلسفة أولا، حتى نستطيع تحديد الجانب الأخلاقي منها علمًا بأن الدراسات الأخلاقية من ضمن الدراسات الفلسفية عمومًا. إذن ما هي الفلسفة الإسلامية؟ لا أريد من هذا السؤال أن أتعرض لدراسة الفلسفة الإسلامية دراسة شاملة هنا إذ ليس هذا مجالها، ولكن لا بد من أن أعرض فهمي لها -باعتباري باحثًا في موضوع من موضوعاتها- ليكون اتجاهي نحوها واضحًا، ولكي يمكن تفسير كلامي في هذا الموضوع بالذات في ضوئها، وإذن يمكن تعريف الفلسفة الإسلامية بأنها تلك القضايا النظرية التي تتعلق بحقائق الوجود عمومًا من جهة، وتبين للإنسان مركزه في هذا الكون وعلاقته بالكائنات المحيطة به من جهة أخرى، وتحدد نظام حياته من جهة ثالثة، وهي تعتمد في كل ذلك على الوحي لا على البحث والتنقيب، وتنبع من رسالة الإسلام نفسها، إذن هي تشمل العقيدة والأخلاق والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك. ولكن الفلسفة الإسلامية التي أقصدها -كما يتبادر من التعريف السابق- ليست تلك الفلسفة التقليدية المعروفة التي تدرس حاليا وتسمى بالفلسفة الإسلامية فإن هذه الفلسفة الأخيرة تعتبر -في نظري- فلسفة فلاسفة المسلمين

وليست فلسفة إسلامية حقاً؛ لأنها- كما رأيتها- أمشاج من الآراء والأفكار التي تمثل آراء الفلاسفة المسلمين ممن تأثروا بالنظريات الفلسفية الأجنبية وبالفكر الإسلامي وبما اخترعوا نتيجة لهذا وذاك من آراء خاصة بهم. ولهذا ينبغي أن نسميها بفلسفة الفلاسفة المسلمين، لا بالفلسفة الإسلامية، أما الفلسفة الإسلامية الجديرة بهذا الاسم فهي تلك التي ذكرناها والتي تنبع من صميم الإسلام نفسه، وقد فصلت ذلك في كتاب خاص بعنوان "معالم منهج تجديد الفلسفة الإسلامية". إذن فإذا ما أردنا أن نحدد مكانة الفلسفة الإسلامية بين الفلسفات الأخرى أو أن نعالج موضوعًا من موضوعاتها فمن الواجب أن تكون هذه الفلسفة، لا تلك التي نجدها عند فلاسفة الإسلام. ولكن كيف نستطيع تحقيق ذلك؟ كنت قد أثرت هذه النقطة في كتاب لي هو "منهاج الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث" ورسمت فيه منهاجًا لتحقيق هذه الغاية، وأريد هنا أن أحدد هذا المنهاج بإيجاز مع إضافة بعض نقط جديدة؛ لأنني أريد تطبيقه عمليًّا في هذا الموضوع الذي يعتبر من أهم موضوعات هذه الفلسفة كما سيبدو ذلك فيما بعد، وهذا المنهاج تحدد معالمه النقاط الآتية:

أن تكون البداية من الإسلام

أولاً: أن تكون البداية من الإسلام وذلك بأن نجعل أرضية دراستنا هي الإسلام نفسه، فكل دارس لقضية من القضايا أو لمشكلة من المشكلات الفكرية المتصلة بحياتنا بدرجة أكثر وأكبر ينبغي له أن يعالجها من وجهة النظر الإسلامية بادئا بالبحث عن الحل في

النصوص الإسلامية أي: في القرآن والسنة أولا، وعندما نحاول إبراز رأي الإسلام أو اتجاهه في قضية من القضايا الفكرية يجب أن نلجأ إلى الإسلام أولًا لا إلى الفلاسفة المسلمين وآثارهم؛ لأن الإسلام شيء وهؤلاء وآثارهم شيء آخر، فهم لا يمثلون بآرائهم الإسلام وآراءه؛ ولأنهم قد يخطئون أحيانًا، وقد يسيئون إلى الإسلام عن عمد، وقد حصل هذا وذاك فعلًا1 ثم أنهم حاولوا أن يفهموا الإسلام في إطار المشكلات الفكرية والثقافية ومشكلات الحياة العملية التي اعترضتهم في حياتهم من حين إلى آخر، فلماذا لا نحاول نحن أيضًا عن قصد وعزم أن نفهم الإسلام نفسه، وأن نعمل لحل مشكلاتنا المعاصرة في ضوء فهمنا له، ولماذا نتخذهم ملجأ لنا؟ ولماذا نأخذ الإسلام منهم، وهل فُقد الإسلام من بين أيدينا؟ والحقيقة أننا بذلك نجعل آراءهم في الإسلام كالإسلام نفسه ونغفل عن المنبع الحقيقي ونتخذهم وسطاء، وكأننا لا نستطيع أن نصل إلى ما وصلوا إليه، وكأننا لسنا مزودين من قوة الإدراك والتعقل بمثل ما تزودوا به ولا سيما في العصر الذي يختلف عن عصرهم، وتجددت لدينا مشكلات لم تكن موجودة في وقتهم.

_ 1 هنا يقول الأستاذ الدكتور محمود قاسم: "إن أمثال الفارابي وابن سينا كانا يهدفان إلى هدم الإسلام عن طريق بعض النظريات الباطنية" انظر هامش دراسات في الفلسفة الإسلامية ط2 ص 101 للدكتور محمود قاسم.

أن نفهم موضوعات الفلسفة الإسلامية بالفلسفة الإسلامية نفسها وتحقيق هذه النقطة يتطلب ثلاثة أمور

ثانيا: أن نفهم موضوعات الفلسفة الإسلامية بالفلسفة الإسلامية نفسها، وتحقيق هذه النقطة يتطلب ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن ندرس المبادئ الإسلامية من جديد عن طريق نصوصها بعيدًا عن الأفكار الفرقية والمذهبية والحزبية على أن يكون الهدف الأساسي هو الوصول إلى الفهم الصحيح للإسلام ومبادئه.

الأمر الثاني: ألا نحاول فهم الإسلام بالآراء الفلسفية؛ لأن هذا الفهم يعتبر فهمًا من الخارج لا من الداخل، والذين حاولوا ذلك قد أدت محاولتهم إلى تشويه جوانب كثيرة من حقائق الإسلام ولا سيما هؤلاء الذين اعتنقوا بعض النظريات الفلسفية ثم حاولوا أن يفرضوها على الإسلام فرضا. ويمكن أن نقسم هؤلاء الذين حاولوا فهم الإسلام من الخارج إلى ثلاث فرق أو جماعات: نفر اعتنقوا المبادئ الفلسفية ثم لما وجدوا أن الإسلام يعارضها أو أنها تتناقض معه حاولوا التوفيق بينها وبين المبادئ الإسلامية، وفي محاولتهم هذه ساروا في ثلاث اتجاهات: اتجاه يخضع الإسلام للفلسفة، والآخر يخضع الفلسفة للإسلام والثالث يوفق بينهما، ولكل مساوئ، وإن كانت مساوئ كل اتجاه تختلف عن مساوئ الآخر بدرجة قليلة أو كثيرة. والنفر الثاني اخترعوا أفكارًا من عند أنفسهم ثم حاولوا أن يفرضوها على الإسلام، وذلك لإيجاد سند لها من الإسلام لتجد قبولًا لدى الجمهور. والنفر الثالث حاولوا عمدًا دس الأفكار الغريبة على الإسلام بقصد تشويه روحه، وإثارة البلبلة في نفوس المسلمين، وقد استطاع هؤلاء فعلًا أن يؤثروا تأثيرًا كبيرًا في ناحية التشويه وخلق بلبلة وحيرة في نفوس الناس وعقولهم، وذلك عن طريق إدخال تلك المبادئ المتناقضة مع فلسفة الإسلام في الإسلام باسم الإسلام، فأصبح الإسلام بذلك متنقاضًا مع نفسه في نفوس كثير من الناس.

الأمر الثالث أن نفهم المبادئ الإسلامية الخاصة بموضوع معين في ضوء النظام الإسلامي كله، وألا نقتصر بقدر الإمكان في الحكم على القضايا من وجهة النظر الإسلامية على نص واحد؛ لأن هناك نصوصًا متعددة وردت بشأن هذه القضية، وكل نص أحيانًا يصور جانبًا من القضية أو يضع شروطًا وقيودًا للحالة التي يطبق فيها هذا المبدأ أو ذاك، إذن فإن تعدد النصوص يفيدنا من ناحيتين: ناحية تصور الحقيقة من أطرافها، وناحية تطبيق المبادئ في الحياة العملية.

أن نحدد موقفنا من دراسات السابقين باتخاذها وسيلة من وسائل الفهم والتقويم

ثالثا: أن نحدد موقفنا من دراسات السابقين باتخاذها وسيلة من وسائل الفهم والتقويم ولا سيما فيما يتعلق ببعض القضايا التي لا توجد فيها نصوص صريحة أو لا توجد نصوص قط، ولكن يجب ألا نتخذ دراستهم مأخذ القبول دائما، ولا نتخذها كذلك بداية نبدأ بها ولا نهاية ننتهي إليها، وإنما تكون واسطة بين البداية والنهاية، وهذه النقطة في غاية الأهمية ويجب أن يتنبه إليها دارسو الفلسفة الإسلامية أو التفكير الإسلامي عمومًا. إذ إنهم يدرسون عادة فلسفة الفلاسفة المسلمين باسم الإسلام، فهم عندما يختارون موضوعات إسلامية والبحث في ميدان التفكير الإسلامي، يختارون موضوعات إسلامية عند واحد من هؤلاء الرجال، فيقولون مثلًا: الأخلاق عند ابن مسكويه أو عند الغزالي أو مشكلة الحرية بين المعتزلة والأشاعرة وما إلى ذلك، وكأنهم يمثلون الإسلام أو هم الإسلام، فالأولى أن نختار موضوعات ونبحث عنها في الإسلام ونقول: مشكلة الحرية في الإسلام والأخلاق في الإسلام وما إلى ذلك. والخطورة كل الخطورة أن نتخذ الفلسفة الإسلامية التقليدية بداية ونهاية، ولئن فعلنا فمعنى ذلك أننا ندخل أنفسنا في متاهات قد لا نستطيع أن نخرج

منها، أو أننا ندخل أنفسنا في دراسة تشبه أن تكون حلقة مفرغة لا ندري أين طرفاها، وعلى أي حال سواء استطعنا أن نخرج منها أم لم نستطع فماذا نستفيد؟! إن غاية ما قد نصل إليه هو أن نبطل رأيًا أو نرجح رأيًا على آخر، ولكننا نفقد كثيرًا من الجهد وربما انتهينا إلى شيء جديد لو استأنفنا البحث لحسابنا الخاص، ولو سلكنا هذا المسلك التقليدي لما خدمنا الفلسفة الإسلامية الحقيقية وإنما نكون قد خدمنا فلسفة هؤلاء الرجال، ولكن هل يليق بنا الآن أن نخدم الرجال ونترك خدمة الإسلام ونحن أشد حاجة إليه في العصر الحديث الذي نعاني فيه من مشكلات لم يجد لها رجال الفكر حلًّا مرضيًا بعد، ولماذا لا نلتجئ إلى الإسلام نفسه مباشرة ونلتمس منه الحل ونحاول إخراج كنوزه وإبراز شخصية فلسفته بين الفلسفات الأخرى ثم نحاول استخدامها في حل مشكلاتنا المعاصرة؟

أن يكون هدفنا الأساسي هو معالجة المشكلات الفلسفية المتصلة بحياتنا الراهنة

رابعًا: أن يكون هدفنا الأساسي هو معالجة المشكلات الفلسفية المتصلة بحياتنا الراهنة أريد المشكلات التي يعاني منها الناس جميعًا فنعالجها من زاوية الفلسفة الإسلامية الصافية ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ولا مانع من أن نستعين من حين لآخر بدراسات السابقين واللاحقين إذا لم نجد في هذه الفلسفة نصوصًا لحل تلك المشكلات بشرط ألا تكون هذه المعالجة مخالفة لروح الإسلام وفلسفته العامة.

أن نميز السنة التشريعة من السنة غير التشريعة عند معالجتنا

أن نميز السنة التشريعة من السنة غير التشريعة عند معالجتنا ... خامسًا: أن نميز السنة التشريعية من السنة غير التشريعية عند معالجتنا تلك المشكلات. فكثير من المسلمين وغير المسلمين لا يميزون بين نوعين من الأحاديث: نوع يحمل طابع الإلزام والتشريع، ونوع لا يحمل طابع الإلزام والتشريع

وهو يشمل الأحاديث التي تتعلق بحياة الرسول البشرية مثل حبه لبعض الأطعمة والأشربة ورغبته في بعض اللباس، وأقواله في الزراعة والتجارة والأدوية والأمور الطبية وما أشبه ذلك من الأحاديث التي لا تمت إلى الشريعة بمعناها العام. ولقد أقر الرسول نفسه ما نقرره هنا في مسألة تأبير النخل فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم..فإنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"، وقال: "فإن كان ينفعهم ذلك "تلقيح النخل" فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله" 1، وقال أيضًا عندما سألوه عن اختياره موقع الحرب في بدر: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الحرب والمكيدة، فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة " 2، وكان قد نهى عن الغيلة في مبدأ الأمر بناء على كلام العرب أنه يضر الولد، ثم لما سمع أن الفرس والروم يغيلون ولا يضر لم يَنْهَ، فقال: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا" 3، ومن قبل ذلك كان قد نهى بناء على ما سمع أنه يضر فقال: "لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه" 4، وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على صحة ما نقرر

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي جـ15 ص 117-118 باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون من معايش الدنيا. 2 سيرة ابن هشام جـ 2، ص 452. 3 جامع الأصول في أحاديث الرسول، كتاب النكاح، فصل في الغيلة والعزل، صحيح مسلم جـ 2 ص 67 10 "والغيل جماع المرأة أثناء الحمل أو الإرضاع" 4 تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول، جـ 4 كتاب النكاح ص 242 وجاء في ابن ماجه ما يشبه هذا المعنى انظر سنن ابن ماجه جـ1، باب الغيل ص 317.

هنا. فقال مثلا في القضاء أيضًا: "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بضعكم يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" 1، وإذا كانت هناك بعض نصوص تدل على تشريعية كل ما يصدر عن الرسول مثل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2, فإنها مخصصة في رأينا بالأحاديث السابقة وإلا كان هناك تناقض وهذا غير موجود في الإسلام، وصدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 3. وتقرير هذه الفكرة له أهمية كبرى، ذلك أنه وسيلة للتخلص من كثير من المشكلات المتعلقة بالإسلام كان سببها الخلط وعدم التمييز بين نوعين من الأحاديث. من هذه المشكلات اتهام بعض الدارسين الإسلام بأنه يخالف في بعض القضايا الحقيقة والعلم؛ لأن بعض أقوال الرسول التي أخبر بها عن بعض الأمور المتعلقة بشئون الحياة والطب لا تتفق مع ما يقرره العلم، ومنها أيضًا أن الإسلام لا يتلاءم مع العصر أو لا يساعد على تطور الحياة وتقدم المدنية؛ لأنه يقيد كل جوانب الحياة بما كانت عليه الحياة في عهد الرسول أو بمعنى خاص بحياة الرسول على ما كان عليه أكله ولبسه وشربه وأدوات تنقله وأكله في بيته؛ لأنه إذا كان ذلك شريعة فمخالفته مخالفة للإسلام وإذا كان الإسلام كذلك فإنه يدعو إلى الجمود والتأخر ولا يسمح بازدهار الحياة وتطورها، وتزمت بعض الناطقين باسم الإسلام في تلك الأمور، وتمسكهم في ضوء تلك الفكرة قد أدى إلى تشويه روح الإسلام في نظر كثير من المسلمين وغير المسلمين.

_ 1 هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري جـ1 ص 222. 2 سورة النجم الآية: 3-4. 3 سورة النساء الآية: 82.

ولا ينبغي أن يفهم من تقرير هذه الفكرة أننا بذلك نريد إزالة بعض ما هو من الشريعة، بل الحقيقة أننا نريد أن نزيل من الشريعة الإسلامية ما ليس منها، ولا ينبغي أن نغفل أخيرًا خطورة هذا الموضوع إذ إنه -إذا ترك فوضى بدون قيد أو شرط- قد يفتح أمام المنحرفين بابًا لإلغاء حكم بعض الأحاديث المتعلقة بجانب التشريع بدعوى أنها ليس منه، ولذا ينبغي أن نكون على حذر تام عند تحديد وبيان كل نوع من هذين النوعين من الأحاديث.

التحقق من صدق النصوص الإسلامية التي نعتمد عليها في تقرير الأفكار

سادسًا: التحقق من صدق النصوص الإسلامية التي نعتمد عليها في تقرير الأفكار. وأقصد من النصوص هنا بصفة خاصة الأحاديث النبوية، ذلك أن ما يخطئ فيه كثير من الدارسين أنهم ينقلون نصوصًا من هذا النوع دون التحقق من صدقها وصحتها ويستخدمونها لمجرد أنها تخدم أغراضهم؛ أو لأن أحدًا من كبار الأئمة ذكرها في أحد مؤلفاته واستخدمها لغرض ما، ويغفلون أن بعض هؤلاء الأئمة قد وقعوا في الخطأ نفسه، ونذكر منهم على سبيل المثال الإمام الغزالي وابن عربي، فإن الغزالي مثلا يذكر بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة أحيانًا في مؤلفاته، وكذلك ابن عربي فإنه على سبيل المثال قد ذكر كثيرًا من أحاديث أربعين الودعانية، وقد ذكر مخرجو الأحاديث أمثال السيوطي والصنعاني1 والمزني والفتني أن أحاديث الكتاب المذكور موضوعة سرقها ابن ودعان من واضعها زيد بن رفاعة، ويقولون أيضًا: إن كثيرًا من أحاديث أبي سعيد الخاصة بالوصية لعلي ولأبي هريرة موضوعة2 وقد استخدم ابن عربي بعض تلك

_ 1 الصنعاني: هو رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن الصنعاني. 2 تذكرة الموضوعات للعلامة محمد طاهر بن على الهندي الفتني ص8.

الأحاديث في كتاب الوصايا في الجزء الرابع من الفتوحات. وفي هذا الصدد أصرح وأقول: إنني لم أنقل حديثًا ولم أستخدمه في هذا الكتاب دون البحث والتخريج، وقد استعنت في ذلك بتخريج الحافظ العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين والإمام السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة والفتني في تذكرة الموضوعات وغير هؤلاء من المحدثين، فما قال أحد من هؤلاء: إنه حديث موضوع أو ضعيف لم آخذ به وكان رعايتي في ذلك لصحة المتن أكثر من رعايتي لصحة السند. ولا أريد هنا أن يفوتني التذكير بأنني لا أريد بهذا النقد التنقيص من قيمة رجالنا أو إساءة الظن بهم وإزالة الثقة عنهم، وإنما كل ما أريده هو عدم الاعتماد عليهم كلية في نقل الأحاديث وصحتها، وألا نتخذ آراءهم في ذلك واستخدامهم لها حجة ومعيارًا للصدق والصحة، حتى نستطيع أن نتجنب الأخطاء التي وقعوا فيها. وهكذا نستطيع أن نقدم الفلسفة الإسلامية الخالصة وأن نعالح مشكلاتنا المعاصرة عن طريق هذه الفلسفة التي نريد لها أن تسهم في حل مشكلاتنا خاصة والمشكلات الإنسانية عامة، وعند ذلك نكون قد خدمنا الإسلام وخدمنا مجتمعنا الإسلامي بوجه خاص والمجتمعات الإنسانية بوجه عام، ولهذا كله قلت: لا بد من أن يكون الإسلام هو البداية وهو النهاية في الوقت نفسه. هذا هو منهجنا بإيجاز في تقديم التفكير الإسلامي في المجالات المختلفة، يبدو هذا المنهج لأول وهلة غير ذي أهمية إذا لم يمعن المرء النظر والفكر فيه، إلا أن له في نظري أهمية كبيرة؛ لأنه يؤدي عند التطبيق إلى نتائج عظيمة القيمة في

حياتنا الفكرية والعملية إذ إنه يؤدي عندئذ إلى إبراز الفلسفة الإسلامية الصافية بصورة واضحة ذات قيمة عظيمة بين الفلسفات والتيارات الفكرية المعاصرة وستثبت قدرتها على معالجة المشكلات الإنسانية الأساسية أكثر من أية فلسفة أخرى. ولم يكن هذا المنهج مجرد خاطرة طافت بذهني فأسرعت إلى تسجيلها، بل كان نتيجة تأملات طويلة كنت أقضيها في الدراسات الفلسفية ونتيجة لما كنت أقوم به من مقارنات بين التفكير الإسلامي وتفكير الفلاسفة عمومًا، وقد زاد تحمسي لدراسة الفكر الإسلامي لما رأيت فيه من حقائق وخصائص كبرت في عيني فبدأت أنساق إليه وأندفع، فساقني إداركي لتلك الحقائق والخصائص من النظر إلى العمل ودفعني من التفكير إلى التطبيق.

التطبيق

التطبيق ... وتطبيقًا لهذا المنهج اخترت موضوعًا من أهم الموضوعات التي تمس حياتنا اليومية ومشكلة من أهم المشكلات الاجتماعية والفردية. وحددت صيغة هذا الموضوع "بعلم الأخلاق الإسلامية"، لأبحث عنه في الإسلام نفسه، وليس لدى الفلاسفة أو المفكرين؛ لأن لهذا الموضوع أهمية كبرى في الحياة الإنسانية وفي نظر الفلسفة الإسلامية بالمعنى المحدد؛ ولأنه يعتبر من جوهر رسالة الإسلام، ولذلك كانت روح الفلسفة الإسلامية روحًا أخلاقية في مقوماتها وأهدافها من الناحية النظرية والعملية مع مقارنتها بغيرها لإبراز مكانتها. من أجل ذلك فقد اتجهت إلى الاهتمام بهذا الموضوع وزاد اهتمامي به عندما رأيت أنه لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث ولا سيما دراسته من الناحية

العلمية والتربوية، يدرك هذه الحقيقة كل من يتأمل في الدراسات الأخلاقية وتظهر له هذه الحقيقة بصورة أوضح عندما يقارنها بالدراسات الأخرى، وعندما يرى كم نالت تلك الدراسات الأخرى من عناية الدارسين واهتمامهم، ولم يكن هذا الحق مهضومًا لدى الدارسين الإسلاميين فقط بل لدى غير الإسلاميين كذلك من الفلاسفة والمفكرين. ولا أريد هنا أن أهضم حق المهتمين بالدراسات الأخلاقية بين المسلمين بل من الواجب أن نعترف أن هناك رجالًا من المفكرين الإسلاميين قد أبدوا كثيرًا من الاهتمام بالأخلاق أمثال: ابن مسكويه والغزالي والطبري ومحمد مهدي العراقي قديمًا، وجاد المولى بك والدكتور محمد عبد الله دراز والدكتور عبد الرحمن حبنكة حديثا، وبالرغم من ذلك فإن هذه الدراسات لم تعطِ للأخلاق حقها من الدراسة، أو أنها -بتعبير أصدق- لم تعطها حقها من الدراسة النظرية والتربوية والنظامية، ولعل أكبر محاولة جادة لإعطاء هذا الجانب النظري حقه هي المحاولة التي قام بها المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز، وما قام به حديثا الدكتور حسن حبنكة الميداني، أما الجانب التربوي والنظامي فلم يأخذا حقهما من الدراسة الجادة. وكانت رؤيتي لهذا النقص ضمن العوامل التي دفعتني إلى إنجاز هذه الموسوعة بأجزائها الثلاثة، ولإبراز ذلك بصورة أكثر وضوحًا احتجت إلى عرض بعض الاتجاهات الأخرى الهامة؛ لأن ذكر المتناقضات يجعل ما نريد بيانه أكثر جلاء ويغني عن كثير من الكلام، ولهذا فإن التعرض للاتجاهات الأخرى لم يكن هدفي منه عملية المقارنة الأكاديمية بقدر ما كان وسيلة للإيضاح وبيان مكانة

التفكير الإسلامي في هذا الموضوع، واتجاهه فيه من بين تلك الاتجاهات، ولقد سبقت بعرض مجمل وأغلب تلك الاتجاهات الفلسفية في أغلب الموضوعات الرئيسية، لما رأيت أن كل ما أريد أن أفيده في هذا الصدد لا أستطيع إفادته إلا بهذا النظام والترتيب، كما أن سعة الموضوع بوجه عام ورغبتي في الإيجاز مع ذلك أوجبتا علي الإشارة بقليل من اللفظ إلى كثير من المعنى، ولهذا أشرت أحيانا بالمقدمات إلى النتائج، كذلك وجدتني مضطرا إلى تركيز معالجتي على معالم الموضوع الهامة والضرورية فقط، بناء على هذا كله وبناء على متطلبات المادة العلمية والفكرة المنهجية التي ألمعت إليها حددت مراحل البحث في هذا الجزء على النحو التالي: فقد تطلب منطق البحث أن أعقد أولًا بابًا أحدد فيه مفهوم علم الأخلاق الإسلامية، ثم أحدد فيه كذلك غاية الأخلاق ومجالها ومدى ضرورتها للحياة الإنسانية في نظر الإسلام. ثم رأيت أنه لا بد من بيان الأسس التي يقوم عليها بناء علم الأخلاق الإسلامية، وكانت هذه الأسس هي الأساس الميتافيزيقي والواقعي والطبيعة الإنسانية والحرية والمسئولية والجزاء، وقد عالجت هذه الأسس في الباب الثاني وأفردت كل أساس بفصل مستقل. وبعد هذا تطلب الأمر أن أحدد المعايير التي نستطيع بها التمييز بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي والتي تمكننا من تحديد قيمة الأخلاق، وأن نتعرف أيضا على حقيقة القيم الأخلاقية من الناحية النظرية والعلمية. وهذا مرتبط بالموضوع السابق؛ لأن تحديد القيمة مبني على تحديد المعيار

فينبغي أن نحدد القيمة بالمعيار لا المعيار بالقيمة، ولقد ساقني الأمر بعد ذلك كله إلى بيان اتجاه الإسلام الأخلاقي في تحديد قيمة الفرد والمجتمع؛ لأن فلسفة الإسلام في الموضوعات السابقة واتجاهه نحو هذا الموضوع الأخير بالذات، قد أثَّرا في تحديد المبادئ والقيم الأخلاقية وتكييف نظام الحياة الخلقية في صورتها النظرية والعملية معًا، وكل هذا قد عالجته في الباب الثالث بفصوله الثلاثة. وأخيرًا تطلب البحث استخلاص النتائج العامة التي أدى إليها البحث، وهي التي تحدد بصورة واضحة خواص علم الأخلاق في الإسلام، وهذا ما جاء في الخاتمة. ولم أُتبع في بيان ذلك كله الطريقة التي سلكها السابقون أو المنهج الذي وضعه الدارسون للأخلاق من الفلاسفة ومفكري الإسلام السابقين. ولا يعني هذا أنني لم أستفد منهم، ولكنه يعني أنني لم أتخذ دراستهم نقطة بدء ونقطة انتهاء، بل جعلتها وسيلة أستعين بها في بعض النقط، وذلك اتباعًا لمنهجي الخاص الذي ذكرته آنفا. وعندما كنت بصدد بيان رأي الإسلام في أي موضوع من الموضوعات السابقة كنت أجمع النصوص من الآيات والأحاديث المتعلقة به وأدرسها في سياقها الخاص، ثم أدرسها مجتمعة باعتبارها تمثل موضوعًا وتحدد اتجاهًا، وعندما كنت أستخلص الفكرة أذكر النصوص الهامة التي تحدد الفكرة أو الاتجاه من أطرافه المختلفة1، ومن هنا فقد ذكرت أحيانًا عدة نصوص في موضوع فكرة واحدة، وفيما يتعلق بالاستشهاد بالنصوص لم أستشهد بحديث قيل إنه موضوع

_ 1 واعترافًا بالجميل يجب أن أذكر هنا توجيهات أستاذي في استخدام النصوص بهذه الطريقة.

أو ضعيف أو مختلف فيه ولا سيما عند تدعيم الأفكار الرئيسية، ومن حيث المعنى فلم أنص أحيانًا على المعنى الذي أقصده اكتفاء بذكره في إطار فكرة معينة؛ لأن ذكره في هذا الإطار أو ذاك يدل على المعنى المقصود منه. وكان لاتباعي هذا المنهج في دراسة هذا الموضوع الفضل في أن أخرج بنتائج في غاية الأهمية ولا سيما فيما يتعلق بتحديد الفكرة وإبرازها بصورة متكاملة، وهذا التصور الكامل للموضوعات قد أدى بي كثيرا إلى التوفيق بين وجهات نظر المفكرين المتناقضة في موضوعات مختلفة. وبعد فمهما كانت النتائح التي خرجت بها حقا في نظري فإني لا أنظر إليها على أنها نهائية لا تقبل المناقشة. وفي نهاية هذا الموضوع يتلخص منهج البحث في هذه الدراسة في ثلاثة مناهج بارزة وهي الآتية: 1- منهج الوصفي التحليلي ... ويستخدم في وصف المذاهب الأخلاقية ومقارنتها بالاتجاه الأخلاقي الإسلامي. 2- المنهج الاستنباطي الأصولي.. وذلك لاستنباط الآراء والأفكار والقيم الأخلاقية الإسلامية من نصوص القرآن والسنة. 3- المنهج التاريخي.... وذلك للوقوف على التراث الأخلاقي الإسلامي الذي خلده علماؤنا الأجلاء السابقون. ومن الناحية الفنية فلم أكتب كل البيانات الخاصة بالمراجع في الهوامش ولكن نظمتها بالحروف الأبجدية في قسم المراجع لسهولة الحصول على المطلوب.

الباب الأول: علم الأخلاق الإسلامية مفهومة، غايته، مجالاته، مدى ضرورته في نظر الإسلام

الباب الأول: علم الأخلاق الإسلامية مفهومة، غايته، مجالاته، مدى ضرورته في نظر الإسلام الفصل الأول: تحديد مفهوم علم الأخلاق الإسلامية مدخل ... الباب الأول: علم الأخلاق الإسلامية مفهومة، غايته، مجالاته، مدى ضرورته في نظر الإسلام. الفصل الأول: تحديد مفهوم علم الأخلاق الإسلامية. إن مما يتطلبه البحث العلمي الدقيق تحديد سير البحث وخط تفكيره، وهذا لا يتم إلا عن طريق تحديد المصطلحات الأساسية ومنهج البحث فيه، ففيما يتعلق بالمنهج تحدثت عنه عموماً في المقدمة. وبالاختصار فهو منهج الوصفي التحليلي، ومنهج الاستنباط الإسلامي. وفيما يتعلق بالمصطلحات فهناك مصطلحان أساسيان: أولهما علم وثانيهما الأخلاق.

تحديد مفهوم كلمة العلم

تحديد مفهوم كلمة العلم مدخل ... أولا: تحديد مفهوم كلمة العلم: عرف بعض العلماء العلم "بأنه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع" وقيل هو إدراك الشيء على ما هو به، وقيل وصول النفس إلى معنى الشيء1، وقيل هو إدراك حقائق الأشياء وعللها، وقيل هو الإدراك الكلي2. في هذه التعريفات تختلط مفهوم المعرفة بمفهوم العلم ولا بد من التمييز بينهما: فالمعرفة عامة تتعلق بالجزئيات، فهي إدراك حقيقة الشيء في أي ميدان من الميادين، سواء كان ماديًّا أو معنويًّا، وتنقسم إلى قسمين: الأول المعرفة العامية: وهي التي يكونها الإنسان من خلال تجاربه وملاحظاته ومشاهداته العادية من غير اتباع منهج دراسي معين، وتكون غالبًا شخصية وطنية.

_ 1 كتاب التعريفات: للجرجاني، دار الكتب اللبنانية، بيروت 1403 هـ ص 155. 2 المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982م ص 99.

والثانية المعرفة العلمية: وهي التي يكونها الإنسان عن طريق اتباع منهج دراسي أو بحثي معين مناسب لموضوع المعرفة وتكون علمية وموضوعية. أما العلم: فيطلق على مجموعة من المعارف العلمية المتجانسة تتعلق بموضوع متميز له أسسه وقواعده ومعاييره. أو بعبارة أخرى أن العلم مجموعة من المعارف العلمية المصنفة والمنظمة تجمعها علاقة وثيقة وتتعلق بموضوع واحد، وعلى ذلك يمكن تلخيص أهم خصائص العلم بما يلي: 1- العلم يطلق على الإحاطة بعلم معين له أجزاء عديدة من المعارف الجزئية. 2- العلم له موضوع مستقل ومنهجه الخاص به. 3- العلم شيء موضوعي يمكن التحقق من صدقه من خلال الدراسة والتجربة أو اتباع منهج مناسب لهذا الموضوع. 4- العلم يكون يقينيًّا: أو هو كما يقول الغزالي "ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا تبقى معه ريبة ولا يقارنه إمكان الغلط".

أقسام العلوم وموقع علم الأخلاق منها

أقسام العلوم وموقع علم الأخلاق منها فقد قسم أرسطو قديمًا العلوم على حسب مقاصدها من الطلب، وهي ثلاثة: مقاصد الاطلاع، والإبداع، والانتفاع ... وعلى هذا الأساس قسم العلوم إلى ثلاثة أقسام أو صنفها على ثلاثة مجموعات وفق الآتي: 1- العلوم النظرية مثل الرياضيات والطبيعيات.

2- علوم شعرية كالبلاغة والشعر والجدل. 3- العلوم العملية كالأخلاق والاقتصاد والسياسة1. وقسمها ابن سينا إلى صنفين: الأول: العلوم النظرية كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات. والثاني: العلوم العملية كالأخلاق وتدبير المنزل وتدبير المدينة "ويقصد بها الاقتصاد" وأخيرًا السياسة. وصنفها ابن خلدون في صنفين: الأول العلوم العقلية وهي النظرية عند غيره، والثانية العلوم النقلية وهي العلوم الشرعية. وصنفها آمبر إلى قسمين: الأول العلوم الكونية وموضوعها المادة، والثاني العلوم المعنوية وموضوعها الفكر وآثاره. وهناك تقسيمات أخرى مثل العلوم التطبيقية مثل: الصناعة والاقتصاد والعلوم الإنسانية وهي التي تبحث في سلوك الناس والمعنويات والاجتماعيات والعلوم المعيارية مثل: المنطق وعلم الأخلاق وعلم الجمال والعلوم الخفية مثل القوى المادية والروحية المجهولة. فمن هذا المنطلق إذا أردنا الإجابة على سؤال: هل الأخلاق علم؟ فنقول: بالتأكيد إنه علم، وإذا أردنا أن نعرف مكانها بين العلوم فنقول: إنه يمكن تصنيفه بين العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية والعلوم العملية والعلوم الشرعية.

_ 1 المعجم الفلسفي، جميل صلبيا، مرجع سابق ص 100.

مفهوم كلمة الأخلاق

ثانيا: مفهوم كلمة الأخلاق فقد اختلفت المذاهب والاتجاهات الفلسفية

في تحديده، ولا أريد هنا -كعادة الباحثين- أن أستطرد فأذكر جميع أو أكثر التعاريف والمفاهيم الواردة في كلمة الأخلاق، إذ إنه لا داعي إلى ذلك في نظري، وإنما سأقتصر كما فعلت في كلمة العلم على بعض المعاني والمفاهيم الهامة التي تكون سندا علميا لنا في الوقوف على معنى الأخلاق، وذلك لدعم بعض المفاهيم ومناقشة بعضها الآخر أو اتخاذها وسيلة إيضاح نلقي بها بعض الأضواء الكاشفة على معالجتنا لبعض الموضوعات في ثنايا الدراسة. ولهذا اقتضى الأمر أن نبحث عن معناها في ثلاث نواحٍ: في اللغة وفي الفلسفة وأخيرًا في الإسلام نفسه. أما في اللغة، فقد جاءت كلمة الخَلْق في أساس البلاغة بمعنى التقدير، واستعملت في القرآن مجازا بمعنى الإيجاد بتقدير وحكمة، يقال: رجل مختَلق أي: حسن الخِلْقَة، ويقال: رجل له خُلُق حسن وخليقة، وهي ما خلق عليه من طبيعته. وتخَلَّق بكذا وهو خليق لكذا كأنما خلق وطبع عليه، ويقال: امرأة خليقة أي: ذات خَلْق وجسم. إذن خلاصة معنى الخلق في الأساس: هو الخلق بحسن التقدير والحكمة، ويشمل الخلق على هيئة جميلة، ومن هنا استعمل للسلوك على نهج مستقيم جميل. وجاءت كلمة الخُلُق في القاموس المحيط بمعنى السجية والطبع والمروءة والدين1، والخلقة بمعنى الفطرة، والخَلْق بمعنى التقدير. وفي لسان العرب الخُُلُق: الطبيعة وجمعها أخلاق، والخُلْق والخُلُق:

_ 1 انظر إلى معنى الدين في كتاب العقيدة والأخلاق ص 76، للدكتور محمد بيصار.

السجية، وقال الخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه وصف لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة. من هذا العرض اللغوي للأخلاق يمكننا تلخيص ثلاثة معانٍ بارزة: الأول: الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة. والثاني: تدل الأخلاق أيضا على الصفات التي اكتسبت وأصبحت كأنها خلقت مع طبيعته. والثالث: أن للأخلاق حانبين: جانبًا نفسيًّا باطنيًّا وجانبًا سلوكيًّا ظاهريًّا. وأما مفهوم الأخلاق لدى الفلاسفة فتابع في مقوماته للاتجاهات التي يدين بها هؤلاء الفلاسفة، فكل يعرف الأخلاق ويحدد معناها وخصائصها وفقًا للاتجاه الفلسفي الذي يعتنقه، ونحن نعلم أن هناك اتجاهات فلسفية متعددة ومختلفة حول الأخلاق، مثل: الاتجاه الاجتماعي والمثالي والتجريبي والواقعي والعقلي والحدسي والنفعي، وما إلى ذلك، ولا أريد تفصيل القول في اتجاه كل فلسفة في الأخلاق ولكن أريد أن أعطي فكرة موجزة عن بعضها، وهي المهمة في نظري. وفي هذا الصدد سأعرض أولا بعض الاتجاهات في المذاهب الفلسفية المختلفة وأتبع ذلك باتجاه الفلاسفة الأخلاقيين المسلمين، وذلك لما بين الفلسفتين من الصفات المميزة، وإن كانت هناك صفات أخرى مشتركة.

فمن الناحية الأولى توجد عدة اتجاهات مختلفة منها: الاتجاه الاجتماعي الوضعي: فقد ذكر "ليفي بريل" الذي يتبنى هذا الاتجاه ثلاث دلالات أو معانٍ لكلمة الأخلاق، وهي الدلالات الآتية: أولاً: تطلق كلمة الأخلاق على مجموعة من الأفكار والأحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجبات بعضهم تجاه بعض، والتي يعترف بها ويقبلها الأفراد بصفة عامة في عصر معين أو في حضارة معينة. ثانيا: أنها تطلق أيضا على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، كما أن علم الطبيعة هو العلم الذي يدرس الظواهر الطبيعية، وبذلك يتميز علم الأخلاق عن العلوم الطبيعية الأخرى، وإذا كانت هذه العلوم الأخيرة تتميز عن موضوعها في الدلالة، فإن علم الأخلاق يدل على العلم وعلى موضوعه في آن واحد. ثالثاً: وأخيرا تطلق الأخلاق على تطبيقات هذا العلم. وعلى هذا يفهم من تقدم الأخلاق تقدم الحياة الاجتماعية مثل: زيادة العدالة والتعاون والأمن والطمأنينة، وما إلى ذلك1. وأهم صفات أو خصائص الأخلاق عند "دور كايم" الواجب أو الخير من حيث إنه نظام وقاعدة للسلوك الاجتماعي، ومن حيث إنه يضع للسلوك الإنساني غاية خيِّرة ويجذب إرادة الناس إلى عمل الخيرات، وهذه الواجبات وضعها المجتمع لتحقيق الخير لنفسه 2.

_ 1 الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ليفي بريل، ترجمة الدكتور محمود قاسم ص 169. 2 التربية الأخلاقية، إميل درو كايم، ترجمة السيد محمد بدوي، ص 117.

وبناء على ذلك تكون الأخلاق في نظر الاتجاه الاجتماعي علما وضعيا واقعيا يدرس سلوك الإنسان مرتبطا بزمانه ومكانه، وليس علما معياريا مثاليا يدرس السلوك من حيث ما ينبغي أن يكون عليه وفقا للمثل العليا التي يؤمن بها المجتمع على أنها فوق موضوعاته. ومنها الاتجاه المثالي العقلي الذي يفهم الأخلاق على خلاف الاتجاه السابق تماما، فهو يرى أن الأخلاق هي السلوك الإنساني كما ينبغي أن يكون وفقا للمثل العليا التي توجب على العقل الإنساني أن يسايرها في سلوكه لا لغاية بل لأنها واجب. فالشعور بأن هذا السلوك أو ذاك واجب هو الذي يضفي عليه الصفة الخلقية، إذن فالأخلاق بناء على هذا الاتجاه علم معياري لا وضعي كما ذهب إليه الاجتماعيون الوضعيون. ومن أهم خصائص الأخلاق في هذا الاتجاه -على نحو ما ذكره الدكتور توفيق الطويل- أنها عامة وليست جزئية، ضرورية وليست عرضية، واضحة بذاتها لا تقبل برهانا ولا تقبل شكا ولا جدلا ولا تحمل تناقضا1. وقد تمثل هذا الاتجاه في أضيق صوره، أو ذروة مثاليته لدى الفيلسوف الألماني "كانط" وهو يتفق في اتجاهه العقلي مع الاتجاه العقلي اليوناني في الأخلاق الذي يتمثل لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو2 وإن كان يختلف عن هؤلاء في الهدف الأخلاقي إذ إنه أنكر أن يكون للأخلاق هدف أو غاية وإن كانت

_ 1 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل، ص9374. 2 فالأخلاق عند هؤلاء نظام للسلوك الإنساني يقوم على أساس من العقل، وتكون له غاية معقولة بدلا من ذلك النظام الذي يقوم على أساس العادة والعرف - تجديد في الفلسفة، جون دوي، - ص267.

الأخلاق تؤدي بطبيعتها إلى الخير العام، إلا أنه ينبغي ألا تتبع الأخلاق بهذه النية، بل بنية أنها الواجب فقط لا غير، ولذلك يسمي الأخلاق علم الواجبات، أما أولئك الفلاسفة فقد اتفقوا على أن تكون الأخلاق غاية وهي الخير أو الكمال الإنساني أو السعادة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه. ومن تلك الاتجاهات الاتجاه النفعي: ويدخل فيه ثلاثة مذاهب: الأول مذهب المنفعة الشخصية، وله صورتان: صورة دعا إليها "أرستبوس" تلميذ سقراط الذي فسر السعادة عند سقراط باللذة، ودعا إلى اللذات الحسية الفردية العاجلة، وقال: على المرء أن يستعجلها؛ لأن تأخيرها يثير في النفس البؤس والشقاء، والحرمان، والسلوك الذي يحقق هذه السعادة القائمة على تلك اللذات أخلاقي، والمبادئ السلوكية التي تحققها مبادئ أخلاقية1 ونجد صورة أخرى لهذا المذهب، وهي المنفعة الفردية التي دعا إليها "هوبز" ومن سلك مسلكه، فقد ادعى "هوبز" أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أنانية تعمل لمصلحة الذات، وقد اخترع المبادئ الأخلاقية متخذها وسيلة لتحقيق منفعته الشخصية، ولهذا يرى أن الأخلاق توضع وسيلة لتحقيق المنفعة وليست طبيعة في الإنسان، والفرق بين "هوبز" و"أرستبوس" أن "هوبز" يجاوز اللذة الحاضرة ويطلب النظر إلى الخير والشر الذين ينتجان عنها2 ولهذا أولى أن نسمي مذهب أرستبوس بمذهب اللذة الفردية، ومذهب هوبز بالمنفعة الفردية وتجمعها صفة الأنانية الشخصية.

_ 2 مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، د. توفيق الطويل، ص 41 وما بعدها. 1 المرجع السابق، وانظر كذلك المذاهب الأخلاقية، د. عادل العوا جـ2 ص 378- 389.

الثاني: مذهب المنفعة العامة الذي دعا إليه "بنتام" و"جون ستورات ميل" وغيرهما قالوا: إن على الإنسان أن ينشد منفعة البشر عامة حتى الحيوانات1. وقد اشترك "مل" مع "بنتام" في إقرار المنفعة غاية للأفعال الإنسانية ومعيارا للأخلاق، وتقاس أخلاقية الفعل بنتائجها لا ببواعثها، والجزاء هو العامل الوحيد لفعل الخير وتجنب الشر، وزاد "ميل" على "بنتام" بتقرير الجزاء الباطني والوجداني2. الثالث: مذهب النفعية العملية "المذهب البرجماتي": يعد هذا المذهب -الذي يمثله جون ديوي في مرحلته الأخيرة- صورة من الاتجاه النفعي أو فرعا متطورا منه كما يقول الدكتور توفيق الطويل3. فقد اتفق المذهب البرجماتي مع النفعية في إرجاع الأخلاق إلى نتائج الأعمال دون بواعثها، ويهتم البراجماتي بالنجاح العملي وما له من قيمة معنوية، عكس النفعية التي تجعل الأعمال تجارية وصناعية وترد الأخلاق إلى تحقيق ذاتية أو رغبات شخصية أكثر من خدمة اجتماعية إنسانية4. وخالف الواقعيين التجريبيين؛ لأنهم يرفضون الأفكار المطلقة والمبادئ الميتافيزيقية، فإنها في نظره إذا أدت إلى تحقيق عمل نافع لا مانع من قبولها ولو لم تكن صحيحة في ذاتها؛ لأن قيمة الشيء ليست في حقيقة وجوده بل فيما يحقق من فائدة عملية، ولو لم يكن موجودا في حقيقة ذاته، وأرجع المثل الأخلاقية إلى نتائج الظروف الواقعية للإنسان، فهي ليست مبادئ مطلقة ثابتة.

_ 1 مذهب المنفعة العامة في فلسفة، د. توفيق الطويل، ص 41 وما بعدها. 2 الفلسفة الأخلاقية، د. توفيق الطويل، ص 200. 3 الفلسفة الخلقية، د. توفيق الطويل، ص 269. 4 تجديد في الفلسفة، جون ديوي، ص 298.

يضعها الفلاسفة، كما يدعي المثاليون، وليست من وضع المجتمع كما يدعي الوضعيون الاجتماعيون، وليست من وضع السماء كما يدعي رجال الدين1، ثم أنكر أن تكون للأخلاق غاية علية سامية ثابتة وأن لها مبادئ مطلقة لا تقبل التغير؛ لأن الحياة متطورة2، ومغزى هذا المذهب أنه جعل أساسا هدف الإنسان في الحياة العمل المنتج النافع، وبناء على ذلك اعتبر كل فكرة أو اعتقاد يؤدي إلى العمل الناجح أمرا قيما بصرف النظر عن قيمتها العلمية أو المنطقية أو الحقيقية، ومن ثم اتفق عنده أن معيار الخطأ والصواب أو الحق والباطل، ومعيار الأخلاق هو تحقيق المنفعة العملية3، وعلى ذلك فقد عرَّف ديوي الأخلاق بأنها "كل ما ينطوي عليه العمل من عمليات الإمعان أي: الموازنة والتروي والرغبة أو الدوافع سواء كانت هذه العمليات قريبة أو بعيدة"4. وأخيرا هناك اتجاه الطبيعة البشرية، ويسمي هذا الاتجاه الأخلاق أحيانًا بأنها علم السجايا الإنسانية؛ لأنه يحاول أن يستخلص المبادئ الأخلاقية عن طريق السجايا الإنسانية5. ومفهوم الأخلاق في هذا الاتجاه عموما هو عبارة عن مبادئ للسلوك الإنساني تنبع من طبيعة الإنسان، غير أن القائلين بهذا الاتجاه لم يتفقوا على هذه الطبيعة، ولا تحديد تلك المبادئ التي تحدد السلوك الأخلاقي، ومن ثم ذهبوا مذاهب مختلفة في تفسير سلوك الإنسان وبيان دوافعه. فقد ذهب "شفتسبوري"

_ 1 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل، ص 276. 2 تجديد في الفلسفة، جون ديوي، ص 273. 3 الفلسفة الخلقية، د. توفيق الطويل، ص 269 وما بعدها. 4 التربية وطرق التدريس، صالح عبد العزيز، جـ2 ص 235. 5 علم أخلاق "باللغة التركية"، وزارة الأوقاف بتركيا، مطبعة أنقرة، 1341هـ، ص9.

Shaftesbury إلى أن في الإنسان ميولا اجتماعية طبيعية وعاطفة إنسانية نبيلة يدركها كل منا عندما يتأمل في إعجابه بالنبل وميله إلى التعاطف مع الآخرين وحبه الخير لهم. وقد أيد وجهة نظره هذه "هاتشيسون" عندما أكد وجود حاستين خاصتين في الطبيعة الإنسانية: إحداهما حاسة الجمال، والأخرى حاسة الخير، وبهما يكشف الإنسان جمال السلوك الأخلاقي وخيريته، ويندفع إلى عمل الخيرات، وإصدار الأحكام على الأفعال. ومن أنصار هذا الاتجاه "آدم سميث" الذي أثبت في الإنسان غريزة التعاطف الإنساني، وجعلها منبع الأخلاق الإنسانية. كما سار على هذا النحو "جان جاك رسو" الذي يرى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة طيبة، لكن المدنية هي التي تفسد هذه الطبيعة، لذا يرى أن الفساد الخلقي من نتاج المدنية، والأخلاق الإنسانية ناتجة أساسًا من هذه الطبيعة الطيبة1، يقول روسو: "إن في قرارة النفوس مبدأ فطريا للعدل والفضيلة، نقيس إليه أفعالنا وأفعال سوانا من الناس، ونحكم عليها بالخير أو السوء، وهذا المبدأ هو الذي أسميه الضمير"2. ويقول روسو أيضا: "يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في يد البشر يلحقه الاضمحلال.. يقلب كل شيء، ويشوه كل شيء، يحب المسخ والإمساخ، ولا يريد شيئا على الوجه الذي برأته به الطبيعة حتى ولو كان

_ 1 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، مطبعة دمشق ط2، جـ2 ص 385. 2 كتاب إميل، جان جاك روسو، ترجمة د. نظمي لوقا، ص 213 وما بعدها.

ما برأته الطبيعة إنسانا مثله، فهو يأبى إلا أن يروض له كأنه جواد ركوب، وأن يصاغ على هواه كأنه شجرة في بستانه1"، وهذا ضد الاتجاه المسيحي الذي يرى أن تلك الطبيعة الإنسانية شريرة في أصلها2. ومن مذاهب هذا الاتجاه مذهب العاطفة الجمالية الذي ذهب إليه جون روسكين "John Ruskin" والذي يرى أن الإحساس بجمال الطبيعة وآثار الفن البديعة هو الأساس للشعور الأخلاقي، ولقد بالغ في الأمر حتى اعتبر تعبد الجمال أخلاقا، فالجمال الذي أبدعته يد الخالق والجمال الذي صنعته يد الفنان كلاهما يهب الإنسان سموا ونبلا، والإحساس بذلك يؤدي إلى السعادة الروحية التي هي هدف الأخلاق3. ومن أنصار هذا الاتجاه "شوبنهور" الذي أعاد أساس الأخلاق إلى غريزة التعاطف والتراحم، فقال: "إن التعاطف المباشر وهو شعور غريزي يقصر وحده عن بناء الأخلاق ولا بد من عاطفة الرحمة"4 وشبيه بهذا ما ذهب إليه "وليم مكدوجل" حيث إنه أثبت مجموعة من الغرائز أو الميول الفطرية في الطبيعة الإنسانية وعلى رأسها مراعاة الذات والحنان والتقزز من كل ما هو كريه ومنبوذ واعتبرها استعدادات أولية للأخلاق والتنمية الأخلاقية5. وأخيرا من أنصار هذا الاتجاه "فولتير" الذي أرجع قانون الأخلاق إلى الطبيعة

_ 1 إميل، جان جاك روسو، ص 24. 2 دراسات في الفلسفة الإسلامية، دكتور محمود قاسم، ص 3، ص 119. 3 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، جـ2 ص 385. 4 المرجع السابق جـ2 ص 488. 5 الأخلاق والسلوك في الحياة، وليم مكدوجل، ص 24-25، 80- 84.

الإنسانية فقال "وما هذا القانون الطبيعي إلا القانون الأخلاقي الذي أودع الله في غريزة جبلتنا محبته والتقيد به والحفاظ عليه"1. هذا أحد وجهتي النظر في فطرية السلوك التي مرجعها النفس والقلب، وهناك وجهة نظر أخرى تقول بوجود ملكة عقلية -لا ملكة نفسية أو قلبية كالأولى- تصدر أحكامها على أفعال الإنسان، وأحكامها بريئة عن احتمال الخطأ، وترى أن بعض الأفعال في ذاتها حق وعدل وخير، وبعضها الآخر باطل وظلم وشر، وأكبر مؤيد لهذا الاتجاه هو "بطلر"2 الذي قال "إن الفضيلة طبيعية في الإنسان والرذيلة انتهاك لطبيعتنا، إذ هي نوع من تشويه الذات"3. ويقول "جون كارل فلوجل" مؤيدا وجهة النظر هذه، ومبينا مدى وضوح تلك المبادئ الأخلاقية في الطبيعة الإنسانية أو في عقل البشر "إن الأخلاق "بمعنى المثل العليا التي نسعى وراءها، والقيود التي تفرض وتراعى والآثام التي نشعر بها والعقاب الذي يجب أن نناله" راسخة كل الرسوخ في العقل البشري، وإن الإنسان في أساسه حيوان أخلاقي، لكن كثيرا من أخلاقياته خشن بدائي، سيئ التكيف مع الواقع، ولذلك كثيرا ما يبدو سلوك المرء متنافيا مع ما يحلم به عقله، وما يطمح إليه من سامي الآمال التي يكون متفطنا إليها"4.

_ 1 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، جـ 2 ص 412. 2 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل ص 161. 3 الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية مجموعة الأساتذة بإشراف الدكتور مصطفى نجيب محمود ص 84. 4 الإنسان والأخلاق والمجتمع جون كارل فلوجل، ترجمة عثمان نوير وغيره، ص 237.

ويقول "ازفلد كولبه": "إن معظم الفلاسفة الأخلاقيين قالوا بفطرية الضمير الأخلاقي"1.

_ 1 المدخل إلى الفلسفة، ازفلد كولبه "Oswald Kulpe"، ص 311-312.

ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولا فأول حتى يصير ملكة وخلقا"1. والطابع العام في الاتجاه العقلي هو تفسير المبادئ الأخلاقية وتدعيمها بالعقل، وجعل غايتها غاية عقلية ثابتة، ومقياسها الأسمى العقل والوسطية، ثم حصر الفضائل الأخلاقية تحت أمهات الفضائل الأربع: وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، وأساس الفضيلة هو التصرف بمقتضى العقل والحكمة، وهذا الاتجاه يظهر بصورة أوضح لدى المعتزلة، وسيأتي تفصيل رأيهم. وأما الاتجاه الثاني فيمثله المتصوفون بصفة عامة، ونحن نعرف أن الأخلاق من أهم موضوعات التصوف، ولقد بالغ بعض المتصوفين حتى قصر التصوف على الأخلاق، فعرف التصوف "بأنه الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني"2، وقال التستري: "من لم يدخل فيما بينه وبين الله على مكارم الأخلاق لم يتهن بعيشه في دنياه وآخرته"3، وقال الجنيد عندما سئل عن التصوف "التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة"4 من هذه التعريفات نرى مدى اهتمام المتصوفين بالأخلاق، وتتبلور الأخلاق في الاتجاه الصوفي في النقط الآتية:

_ 1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص 31. 2 الرسالة القشيرية للإمام القشيري، ص 217. 3 في الفلسفة والأخلاق، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 273. 4 التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر محمد الكلاباذي، ص 25.

1- الاهتمام الزائد بإصلاح الباطن: وإصلاح الباطن يتوقف على ثلاثة أمور: الأمر الأول معرفة النفس ونوازعها ورغباتها، ومن هنا نرى تركيز المتصوفة في دراستهم الأخلاقية على التحليلات النفسية الدقيقة من وصف خلجات النفس وخطرات القلب، والصراع النفسي وأهوال هذا الصراع، ثم الرذائل الناتجة عن اتباع أهواء النفس ورغباتها، الأمر الثاني تطهير القلب وتصفية الروح من الرذائل وذلك عن طريق المجاهدات والعزلة والزهد والعبادة الزائدة، الأمر الثالث: التحلي بالفضائل والمكارم الأخلاقية، ولذلك نراهم يقسمون التربية الأخلاقية إلى مراحل: مرحلة للمبتدئين وأخرى للمتوسطين وثالثة للواصلين، ويسمون المرحلة الأولى بالتخلية، والثانية بالتحلية، والثالثة بالثبات والدوام في حضرة الله. 2- التفاني في الإخلاص لله في جميع الأعمال، والتنكر للإرادة البشرية، والاتحاد مع إراداة الله في تطبيق جميع مراد الله، ومن هنا ينكرون الحرية للإنسان من حيث وجوب الاختيار لا من حيث القدرة على الاختيار؛ لأن الإنسان يجب أن يطبق إرادة الله ولا ينبغي أن يخرج على إرادة الله، ويعتبرون إفناء إرادة الإنسان في إرادة الله هو الإخلاص الكامل لله في الأعمال. 3- تنمية علاقة المودة والمحبة والإخاء بين الناس والتفاني في الفداء والإيثار. 4- إيثار الزهد في الدنيا والتقشف في الحياة، ومن هنا قال "أبو على الروذباري" عندما سئل عن الصوفي: "الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهاج

المصطفى"1. 5- الثبات في الشخصية في جميع الظروف والأحوال، وذلك تطبيقا لقوله تعالى: {أَلاَّ إنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. 6- الاهتمام بالجانب التطبيقي أو العملي من الأخلاق أكثر من الاهتمام بالجانب النظري؛ لأن العمل هو الأهم وليس النظر، وقد نجد تطبيق هذه المبدأ لدى المتصوفين الأوائل أكثر مما نجده لدى الأواخر3. هذه بعض معالم الأخلاق الهامة، في الاتجاه الصوفي حاولت إيجازها بالقدر الذي يتناسب مع موضوع البحث. وأما الاتجاه الثالث: وهو الذي يجمع بين الاتجاهين السابقين فيمثله بصورة أوضح الإمام الغزالي في معالجته للموضوعات الأخلاقية، إذ إننا نجده في هذه المعالج يسير من ناحية على خط تفكير الفلاسفة في دراسة الأخلاق، مثل: إخضاع قوى النفس المختلفة لحكم العقل وسلطانه4، ومثل: محاولة حصر الفضائل الأخلاقية تحت أمهات الفضائل كالحكمة والشجاعة والعفة والعدالة5، ويسير من ناحية أخرى على خط تفكير المتصوفين في تحليلاته النفسية والروحية الدقيقة، وفي طرق تطهير الباطن وتصفية الروح والتحلي بالفضائل الأخلاقية، ولهذا فقد عرف الأخلاق كالآتي: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث

_ 1 التعرف لمذهب أهل التصوف ص 25، مرجع سابق. 2 سورة يونس آية: 62. 3 في الفلسفة والأخلاق، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، مرجع سابق، ص 273. 4 ميزان العمل للإمام الغزالي، ص50. 5 ميزان العمل للإمام الغزالي، ص 67، إحياء علوم الدين جـ3 ص 53.

تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا"1. وربما كان السبب في انتهاج الغزالي هذا المنهج هو اعتماده في دراسته الأخلاقية على الدراسات الصوفية والفلسفية معًا.

_ 1 إحياء علوم الدين جـ 3 ص 53، مرجع سابق.

مفهوم علم الأخلاق الإسلامية

ثالثا: مفهوم علم الأخلاق الإسلامية: بعد هذا العرض لمفهوم الأخلاق في الاتجاهات الفلسفية المختلفة ننتقل إلى تحديد مفهوم الأخلاق في الاتجاه الإسلامي. مفهوم علم الأخلاق الإسلامية؛ هو علم الخير والشر والحسن والقبح، وهو واحد من العلوم الإسلامية التي تقوم على مصادر المعرفة الإسلامية منها القرآن والسنة والمصادر التشريعية الأخرى، والدليل على ذلك كثير في القرآن والسنة؛ إذ جاءت كثير من الآيات والأحاديث تبين أين الخير والشر وأين الحسن والقبح، وتعرفها أحيانا بالمعروف وأخرى بالمنكر والنفع والضر، وسوف نذكر لذلك كله دليلا من الآيات والأحاديث فيما بعد. بعد هذا تبقى نقطة أخرى في المفهوم المحدد سابق، وهي أن الأخلاق تنظم الحياة من الناحية العملية من أجل الحياة الخيرة مع الغير أيا كان هذا الغير إنسانا كان أم حيوانا أو غير حيوان من حيث ما ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك كسلوك إنساني تجاه الغير، وذلك بناء على مكانته في الكون ومسئولياته التي يجب أن ينهض بها، وبناء على ما وضع له خالقه من أهداف في هذه الحياة. هذا جانب من مفهوم الأخلاق في الإسلام، وهناك جانب آخر وهو تكامل

الجانب النظري مع الجانب العملي منه، ثم إن هناك شيئا آخر هاما لا بد من ملاحظته وهو أن النظام الأخلاقي ليس جزءا من نظام الإسلام العام، بل إن الأخلاق هو جوهر الإسلام وروحه السارية في جميع جوانبه، فالنظام الإسلامي عموما مبني على فلسفته الخلقية أساسا. ومصداق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" 1، فقد قصر الرسول أهداف رسالته في هذا الحديث على الأخلاق، وأنه جاء ليتم البناء الأخلاقي الذي بدأت الرسالات السابقة به، كما قال في حديث آخر: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء" 2. إذن فهدف الرسالات الإلهية كلها هدف أخلاقي أيضا؛ لأنها تستهدف إرشاد الإنسان إلى طريق الخير وإبعاده عن الشر في الدنيا وسوء العاقبة في الآخرة، وهذا هو موضوع الأخلاق كما بينا سابقا. ولهذا قال الرسول: "الدين حسن الخلق" 3، وكانت عائشة تفهم هذا المعنى من الدين الإسلامي، ولهذا فهي عندما سئلت عن أخلاق النبي قالت: "كان خلقه القرآن"4، يؤيد ذلك قول الرسول أيضًا: "إن أحسن الناس خلقا أحسنهم

_ 1 مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 381. 2 صحيح مسلم بشرح النووي جـ 15 ص 52 باب ذكر كون النبي خاتم الأنبياء. 3 قال الحافظ العراقي في هامش الأحياء جـ 3 ص 50 أخرجه المروزي في مسنده في كتاب تعظيم قدر الصلاة من رواية أبي العلاء بن الشخير مرسلًا.. انظر علم الأخلاق لأرسطو جـ 1 ص 131. 4 صحيح مسلم تحقيق عبد الباقي جـ 1 ص 512-513، كتاب صلاة المسافرين.

دينا" وقوله كذلك: "الإسلام حسن الخلق" 1. وقال الرسول: "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن" 2، وروي عنه أنه قال: "حسن الخلق خلق الله الأعظم" 3، وعندما سئل الرسول أي الإسلام أفضل قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده "4، وجاء في تفسير القرطبي وابن كثير في قوله تعالى: {وَإنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي: على دين فيه أخلاق عظيمة ولأن الدين عبارة عن واجبات نحو الله تعالى ونحو الإنسان نفسه وغيره، وواجباته نحو المخلوقات الحية الأخرى، وإذا علمنا أن الله لم يصف أحدا من الأنبياء بالخلق العظيم وإنما وصفهم بأوصاف مثل: رشيد وصالح وحليم وما إلى ذلك، علمنا السر في ذلك. وقد سمى البعض الأخلاق بأنها علم الواجب أي: أنها علم يعرِّف الإنسان الواجبات كما يجب أن يفعلها5، ومن ثم كان إطلاق الأخلاق على الدين في اللغة كما سبق، وفي الاصطلاح أحيانا كما بينا، ومن هنا يدخل العبادات في إطار الواجبات "انظر آراء الفلاسفة في إدخال الواجبات الإلهية في إطار الأخلاق في علم الأخلاق لأرسطو ج1 ص 131". وليس هذا الفهم الذي عرضناه مفروضا على الإسلام أو غريبا عنه، بل روح الإسلام فإن هذه الروح روح أخلاقية، وهدف الإسلام في الحياة تحقيق غاية

_ 1 منخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 132 - كتاب الأدب المفرد للبخاري ص 81. 2 مختصر شرح وتهذيب سنن أبي داود، باب حسن الخلق جـ 7 ص 172. 3 التاج جـ 15 ص 61 كتاب الأخلاق. 4 مختصر صحيح البخاري، زين الدين الزبيدي، دار النفائس 1405 هـ جـ1 ص 27. 5 علم الأخلاق "تركي"، وزارة الأوقاف أنقرة 1341 هـ، ص 11.

أخلاقية هذه روح نجدها في كل جانب من جوانب الإسلام، نجدها في جانب العقيدة، كما جاء في الحديث، فقال الرسول: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا"، وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2، وقال أيضا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" 3. ثم إن الإسلام اعتبر الإيمان برا فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4. ومعلوم أن البر صفة للعمل الأخلاقي أو هو جامع لأنواع الخير، كما يقول بعض العلماء5. وقد بين الرسول أن من لم يتخلق بالأخلاق الحسنة لا يقبل الله منه الإيمان والدين، فقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" 6. وأخلاقية الإيمان تتضح من ناحيتين: الأولى: باعتباره عملا، ذلك أن الأعمال إما داخلية وإما ظاهرية، والإيمان من النوع الأول، ولهذا فقد نص الرسول نفسه على أن الإيمان عمل فقال عندما سأله رجل، أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله" 7؛ لأنه عمل إيجابي من أعمال القلب، الناحية الثانية: أن الإيمان في حقيقته عمل القلب بالاعتراف بالحقيقة الإلهية والاعتراف

_ 1 صحيح المستدرك للحاكم النيسابوري، مكتبة مطابع النصر الحديثة بالرياض، جـ1 ص53. 2 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ ص 10 كتاب الإيمان. 3 المرجع السابق جـ 1 ص 10. 4 سورة البقرة آية: 177. 5 انظر التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول جـ 5 ص 3. 6 الجامع الصحيح الصغير للإمام السيوطي جـ2 ص 198. 7 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ1 ص 16 كتاب الإيمان.

بالحقيقة فضيلة، وعدم الاعتراف بها مكابرة، وهي خروج على الخلق الحسن، ولهذا فقد وصف الله الكافرين بالتكبر في كثير من الآيات، كما وصف الشرك بالظلم؛ لأنه يشرك غير المنعم بالمنعم في الإجلال والتعظيم، ولهذا يقول "رنيه مونييه": إن الإيمان ليس على الصعيد المنطقي بل على الصعيد الأخلاقي؛ لأنه ينتمي إلى واجب" "البحث عن الحقيقة ص46". وهو اعتراف أيضا بإنعام المنعم والاعتراف بالفضل وهو أخلاق، ولهذا بيَّن الله في الآية السابقة "أن الإيمان به بر"؛ لأنه من أعمال القلوب الإيجابية الأخلاقية، ثم الشكر على هذا واجب وأداء الواجب أخلاق. ومن هنا نجد أن روح العبادة روح أخلاقية في جوهرها؛ لأنها أداء الواجبات الإلهية، ولهذا نجد الاتجاه الأخلاقي سائدا في جميع العبادات، ففي الصلاة قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} 1، وبيَّن الرسول أن من لم يتخلق لا يقبل الله منه الصوم، فقال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" 2، وقال تعالى في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 3، وقال أيضا في الأضحية: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 4، وقال في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 5، وقد ذكر للرسول مرة أن فلانة تكثر من

_ 1 سورة العنكبوت آية: 45، وقال في حديث قدسي: "إنما أتقبل الصلاة من تواضع لعظمتي وكف شهواته عن محارمي ... " الأحاديث القدسية، ص30. 2 رواه الخمسة إلا مسلما، التاج ج2 ص61. 3 سورة البقرة آية: 197. 4 سورة الحج آية: 37. 5 سورة التوبة آية: 103.

صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار" 1. هنا نجد الإسلام يختلف في نظريته الأخلاقية بالنسبة إلى الله عن بعض الفلاسفة مثل "كانط" الذي يرى عدم وجود هذا النوع من الأخلاقية؛ لأن الأخلاق في نظره واجبة، والواجب يقتضي سبق حق وليس للإنسان حق سابق على الله2. أما الإسلام فقد قرر أن للعباد حقا على الله كتبه الله على نفسه إذا عبدوه ولم يشركوا به أن يدخلهم الجنة، فقال الرسول: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولم يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئا" 3، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4. بل أكثر من ذلك فقد قرر الإسلام حقوقا للحيوان على الإنسان في مقابل حق تسخيرها له، قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 5، هذا إلى أن الإسلام

_ 1 الترغيب والترهيب ج3 ص356، قال الحاكم: صحيح الإسناد. 2 كلمات في مبادئ الأخلاق، دكتور محمد عبد الله دراز، ص27، انظر رأي كانط بالذات في كتابه: التربية ص95 أنه خلاف ما هنا بالنسبة للحيوانات. 3 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج1 ص32. 4 سورة التوبة آية: 111. 5 سورة النحل الآيات: 5-7.

قرر الحقوق الطبيعية للحيوان، وعلى الإنسان أن يحترم هذه الحقوق، وبيَّن الرسول "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا سقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" 1، وقال عبد الله: "كنا مع رسول الله في صفر فانطلقت لحاجتي فرأيت حمرة "عصفورة" معها فرخان، فأخذت فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرض "تغرد حزنا" فجاء النبي فقال: "من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" 2. ثم إن الإسلام دين الرحمة جاء رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3. وعلى ذلك فلا بد من أن يقرر لكل مخلوق حي حقوقا طبيعية، وأن يوجب على الإنسان احترام هذه الحقوق، ولهذا فقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول في الرفق بالحيوان فمنها أيضا ما روي عن المقداد أن الرسول قال لعائشة عندما رآها ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردد: "عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" 4، وقال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" 5. ولعل هذا المبدأ هو الذي جعل "شبلي" رحيما حتى لأتفه مخلوق، لدرجة أنه اشترى يوما كيسا من القمح وبعد أن حمله على كتفه إلى بلده وجد فيه نملة،

_ 1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج3 ص201. 2 التاج ج5 ص18-19، كتاب الأخلاق. 3 سورة الأنبياء آية: 107. 4 صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص146-147. 5 هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري ج1 ص159.

فأخذته الشفقة فبات قلقا عليها حتى أعادها في الصباح إلى مكانها قائلا لها: "أيتها الجريحة ليس من الرحمة أن أجلب لك الحزن"، ثم قال: "إذا أردت أن تعيش سعيدا فأسعد قلوب الذين ألمت بهم الأحزان"1. ولقد أثار القرآن هذا التعاطف والتراحم بين الإنسان والكائنات الحية الأدنى في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 2. أما روح الأخلاق في المعاملة العامة بين الناس في جانب الشريعة الإسلامية فنجدها بصورة أوضح، ومن الأدلة الواضحة على ذلك ما نجد من اعتراف علماء الشريعة أنفسهم بهذا المفهوم، ذلك أنهم في صدد بيان مقاصد الشريعة قالوا: إن مقاصد الشريعة ثلاثة، وهي: تحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينات للإنسان في هذه الحياة، والضروريات في نظرهم "هي الأمور التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وبهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ... ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل"3، وأما الحاجيات فهي: الأمور التي يحتاج إليها الإنسان في هذه الحياة لرفع الضيق والحرج والمشقة التي تكون نتيجة عدم تحقيق بعض المطالب مثل: تحقيق كل حاجيات الإنسان بشيء من السعة والرفاهية من المأكل

_ 1 بوستان، سعد الشيرازي، ترجمة الدكتور محمد موسى هنداوي، الأنجلو المصرية، ج2 ص17-18. 2 سورة الأنعام آية: 38. 3 الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي ج2 ص4 وما بعدها.

والمشرب والملبس والمسكن وإزالة ما يؤدي إلى الضيق والحرج في بعض الظروف كالتخفيف عن المكلف بالرخص في بعض التكاليف في حالات الاضطرار، وأما التحسينات فهي اتخاذ أجمل وأحسن الأساليب في حالة معاشرة الناس ومراعاة شعورهم وإحساساتهم الأدبية1. وإذا كان الأمر كذلك نجد مقاصد الشريعة مقاصد أخلاقية، لذا من الممكن تفسير النظام التشريعي في ضوء النظرية الأخلاقية أو في ضوء هذه الروح الأخلاقية، ويؤيدنا في هذه الفكرة نصوص كثيرة لا حصر لها، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 2. ومنها قول الرسول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله"، وفي رواية "والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه" متفق عليه3، وقال الرسول أيضا: "من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا" 4. ومما يدل على ما نقول فهم بعض أهل الشريعة أن جوهر الشريعة يكمن في تحقيق الخير ودفع الشر، يتبين ذلك لنا عندما نرى البعض عند محاولة سرد القواعد الأصولية واختصارها، فحصرها البعض في قاعدتين الأولى: جلب

_ 1 الموافقات في أصول الأحكام جـ 2 ص 5-6 للشاطبي. 2 سورة طه آيات 74-76 3 كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ2 ص 253 حديث 3304 صحيح مسلم جـ2 ص 100 بدون من هاجر.... الخ. 4 صحيح مسلم كتاب الإيمان باب من غشنا فليس منا جـ2 ص 108.

المصلحة والثانية: دفع المفسدة، واختصرها البعض في قاعدة واحدة وهي تحقيق المصلحة أو جلب المصلحة، وذلك على أساس أن جلب المصلحة أو تحقيقها يقتضي دفع المفسدة والمضرة. والشريعة تحاول تحقيق روح الأخلاق بالتشريعات الملزمة لدفع الناس إلى طريق الخير والفلاح وردعهم عن طريق الشرور والمفاسد، ولا تتحقق للإنسان السعادة إلا بذلك، ولهذا الأمر بالمعروف وهو الخير والنهي عن المنكر وهو الشر واجب. وهكذا نجد أن الإسلام قد ربط بين جوانب الإسلام برباط أخلاقي لتحقيق غاية أخلاقية، وأصدق دليل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1، وأصحاب الخلق هم هؤلاء الذين يؤدون تلك الواجبات السابقة، وقد فهم هذه الروح الأخلاقية في الإسلام "أكثم بن صيفي" أحد حكماء العرب الذي قال عندما دعا قومه إلى الإسلام: "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا"2. وبعد هذا كله لا نبالغ إذا قلنا: إن الأخلاق في الإسلام بالمفهوم السابق هي

_ 1 سورة البقرة آية: 177. 2 مختارات من روائع الأدب العربي، دكتور عبد السلام سرحان ص 533.

روح الرسالة الإسلامية، وإن النظام الإسلامي التشريعي يعد صورة مجسمة لهذه الروح. وبعد هذه التحليلات والتحديدات لمفهوم الأخلاق في نظر الإسلام يمكننا أن نجمل هذا المفهوم بأن "الأخلاق الحسنة هي أنماط السلوك الحسن الخير والمعروف في الحياة"، سواء كان هذا السلوك ظاهرا أو باطنا يصدر من الإنسان بإرادة ويهدف إلى تحقيق غاية، وهذا الفهم ليس غريبا على الاستعمال اللغوي والفلسفي، بل يدخل في إطار نظرة الإسلام توسيعا لإطار استعمالها اللغوي والفلسفي، ومن ثم فإن معالجتنا لهذا الموضوع ستقتصر على المعالجة النظرية وسوف أحاول فيها بقدر المستطاع الكشف عن الأصول الفكرية لفروع الأخلاق الإسلامية المختلفة وبيان فلسفته فيها، كما أحاول أحيانا معالجة بعض المشكلات المعاصرة لأَضرب مثالا عمليا لإمكان معالجة مشكلاتنا المعاصرة المتعلقة بالأخلاق أو النابعة من الانحرافات الخلقية. وعلى ذلك يكون مفهوم الأخلاق السيئة هي أنماط سلوك الشر والقبيح والمنكر، وينبغي أن نعرف أن هناك أنواعا ومستويات من الخيرات الظاهرة والباطنة والخيرات المادية والمعنوية والاجتماعية والصحية. كما أن هناك أنواعا ومستويات من الشرور الظاهرة والباطنة والشرور المادية والمعنوية والاجتماعية، انظر إلى تفصيلات ذلك في كتابنا "طريق السعادة".

الفصل الثاني: غاية الأخلاق

الفصل الثاني: غاية الأخلاق الاتجاهات العامة في غاية الأخلاق مدخل ... الفصل الثاني: غاية الأخلاق أولا: الاتجاهات العامة في غاية الأخلاق: إذا ألقينا نظرة عامة على الاتجاهات الفلسفية المختلفة فيما يتصل بغاية الأخلاق وجدنا فيها اتجاهين عامين: يرى أحدهما أن للأخلاق غاية، وهو اتجاه معظم الأخلاقيين، ويرى ثانيهما أن ليست للأخلاق غاية، وهو الاتجاه الذي ذهب إليه كانط1 وأساس الخلاف يرجع إلى أنه كان هناك غاية للأخلاق فمعنى ذالك أنها وسيلة، وأنها تتغير وتتبدل وليست ثابتة، ومن جهة أخرى فالادعاء بأن الأخلاق وسيلة يؤدي إلى تجريدها من كل قدسية، وهذا يؤدي بدوره إلى عدم الإلزام والالتزام اللائقين بها. وقد ذهب إلى هذا أيضا بعض أنصار الاتجاه الأول وخالفه البعض الآخر، فقال هؤلاء المخالفون: إن وجود الغاية للأخلاق لا يدل على أن الأخلاق تتغير وتتبدل، ولا يدل كذلك على عدم وجود قدسية تكون موضع احترام الناس، حتى إن بعض هؤلاء أمثال "جون ديوي" قد ادعى وحدة الوسيلة مع الغاية في الأخلاق، من حيث عدم إمكانية انفصال إحداهما عن الأخرى2. وإذا كانت للأخلاق غاية بناء على رأي الاتجاه الأول فما هذه الغاية؟ يقولون: إن الغاية من الأخلاق هي السعادة، وأما الاتجاه الثاني فيرى أنه وإن لم يكن للأخلاق غاية فإنها تؤدي إلى حال من السعادة بطبيعتها، ومن هنا نرى أن

_ 1 القيم الأخلاقية، دكتور عادل العوا ص 95. 2 تجديد في الفلسفة، جون ديوي، ترجمة أمين مرسي قنديل، ص 283.

الأخلاقيين اتفقوا جميعا على اختلاف اتجاهاتهم سواء كانوا من الأول الاتجاه الروحي أو الثاني الاتجاه المادي أو الثالث الاتجاه العقلي على أن الأخلاق تؤدي إلى السعادة سواء أكانت السعادة غاية لها أم لم تكن غاية. ولكن ما حقيقة السعادة؟ لقد اختلف الدارسون في تحديد السعادة من حيث ماهيتها ومن حيث الطريق المؤدي إليها ومن حيث زمانها ومكانها، وقد أدى هذا الاختلاف إلى الاختلاف في تنظيم الحياة الأخلاقية ومجالات العمل الأخلاقي، وسنفصل القول في هذا الجانب الأخير بعد هذا الموضوع مباشرة، وسوف نوضح كيف أن هذا الاختلاف قد أدى إلى الاختلاف في تحديد هذه المجالات ولا شك أن أكثر أسباب هذا الاختلاف راجعة إلى الاختلاف في فهم حقيقة طبيعة الإنسان ومصيره وطراز الحياة الذي يحقق هذه السعادة له. والآن قبل بيان رأي الأسلام في الموضوع أود إعطاء فكرة موجزة عن بعض الاتجاهات المختلفة في السعادة الأخلاقية، وسنقصر القول على الاتجاهات الآتية:

الاتجاه الروحي

أ- الاتجاه الروحي: يرى هذا الاتجاه أن الروح حقيقة الإنسان وجوهره، وأما الجسم فما هو إلا أداة تستعملها الروح، ولهذا فحقيقة سعادة الإنسان سعادة روحية وهي لا تتم إلا بالاهتمام بها وتحقيق متطلباتها وتطهيرها وتزكيتها من العلائق المادية والنوازع الشريرة، وبذلك تصبح مالكة الجسم تسيره حسب مشيئتها وتتحرر من قيود الجسم وأغلاله ومتطلباته، ولذا لا ينبغي الاهتمام بالجسم؛ لأن الاهتمام به يقوي النوازع المادية فتتسلط المادة على الروح وتشقى، ومن جهة أخرى فإن الروح هي

الحقيقة الباقية بعد فناء الجسد، فالاهتمام بها يعد اهتمامًا بالسعادة الحقيقية الدائمة، تلك هي السمة العامة لهذا الاتجاه، لكنه يتشكل بصورة متفاوتة فهناك اتجاه روحي صرف يتمثل في الاتجاه الصوفي الذي يرى أن السعادة هي الرضا الروحي والسكينة الروحية، وتكتمل هذه السعادة بصورة مؤقتة عند الوصول إلى الله، ومعرفته معرفة كاملة عن طريق التطهير والتأمل، كما قال الغزالي: "إنما الوصول إليه "أي: الله" بالتجرد عن علائق الدنيا والإكباب بجملة همته على التفكير في الأمور الإلهية حتى ينكشف له بالإلهام الإلهي جليها، وذلك عند تصفية نفسه من هذه الكدورات، والوصول إلى ذلك هو السعادة"1. أو عند المكاشفة كما يقول ابن عربي: "فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن فقد أوتي خيرًا كثيرًا"2- وقال بعضهم أيضا: "من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله تعالى"3. تلك هي السعادة المؤقتة في الاتجاه الروحي، أما السعادة الأبدية فتتحقق بعد انتقال الروح من عالم الدنيا إلى عالمها الأول عالم الخلود. وهناك اتجاه روحي آخر "يتمثل في فلسفة البراهمة، وخاصة البوذية التي تطورت من البراهمة على يد واحد من زهادهم اختلف في اسمه فقيل: هو "سكياموني" وقيل: "سدهارتا جوتاما" ولقب بالبوذا أي: المستنير"4، ترى

_ 1 ميزان العمل للإمام الغزالي، مكتبة الصبيح، ص23. 2 فصوص الحكم لابن عربي، طبع حلبي ص 2366. 3 الرسالة القشيرية للإمام القشيري، ص 243. 4 في الدين المقارن، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 248.

هذه الفلسفة بصفة عامة أن السعادة الكاملة تتم عن طريق التخلص من هذه الحياة التي هي مصدر الآلام والأحزان والشقاء والكآبة والتعاسة، والانتقال إلى عالم الإله أو إفناء الذات في الله: "في رأي من يثبت عقيدة التأله في أصل الدين البرهمي أو البوذي"1، أو الالتحاق بعالم النرفانا "في رأي من ينكر مثل تلك العقيدة في أصل هذه الديانة"2، والنرفانا عالم موجود مستقل بذاته لا يوجد فيه ما يسمى بالفناء أو بعدم الفناء، وليس هو هذا العالم ولا غيره، هو نهاية عالم مرحلة التألم والمعاناة، وهو عالم لا يوصف بالتركيب ولا بالقدم ولا بالحدوث3، يسعد من يدخل في نطاقه أو يفنى فيه، والسبيل إلى ذلك هو محاربة الأهواء والرغبات المادية، وترك اللذائذ والمتع الدنيوية، وتجنب الرذائل والآثام والقبائح مثل: الكذب وشهادة الزور والزنى وإراقة الدماء وقتل البقر بصفة خاصة، ثم التحلي بالفضائل مثل الجود والعفو والقناعة والاستقامة والطهارة ودراسة الفيدا والصبر والصدق وعبادة الله4، ومعلوم أن الانتقال من دار الشقاء إلى دار السعادة يتم عن طريق التناسخ وهو من أهم مبادئ هذه الفلسفة، وللتناسخ في هذا المذهب مراتب، ولكل مرتبة تجربة روحية خاصة، وعند انتقال الروح في هذه التجربة من المرتبة الأولى إلى أعلاها تشعر بالسعادة الجزئية، وهكذا تزيد سعادتها وتكتمل عندما ترجع إلى مصدرها الأول وهو الله5، أو إلى النرفانا.

_ 1 الأسفار المقدسة، الدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 163، انظر أيضا: الملل والنحل للشهرستاني 5 ص 175. 2 في الدين المقارن، الدكتور محمد كمال جعفر، ص 259 وما بعدها. 3 التصوف طريقة وتجربة ومذهبا، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 289. 4 الأسفار المقدسة للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 170-180. 5 المرجع السابق للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 164.

الاتجاه العقلي

ب- الاتجاه العقلي ويرى هذا الاتجاه أن السعادة هي الشعور الغالب بالسرور الدائم في جميع الظروف، وهذا الشعور يأتي نتيجة إخضاع السلوك لحكم العقل واتباع قوانينه والتمسك بالفضائل التي يأمر بها، وقد ذهب إلى هذا الاتجاه أرسطو والرواقيون في العصور القديمة، و"ديكارت" و"كانت" في العصور الحديثة، وإذا كان هناك فارق بين هؤلاء فإنما هو في الدرجة لا في النوع. فالسعادة الحقيقية عند "أرسطو" تحصل نتيجة الحصول على جميع الخيرات الداخلية والخارجية، وهي الخيرات التامة، فهو بذلك يجمع بين الخيرات الخارجية الحسية من المال والنعم الأخرى، والخيرات الداخلية النفسية من الحكمة والمعرفة والفضيلة، إلا أنه يفضل الخيرات العقلية والنفسية على الخيرات الخارجية أي: إنه يرجح إلى الخيرات المعنوية على الخيرات المادية، فيقول مثلا: "حسب المرء الرزق الكفاف لتكون حياته سعيدة متى اتخذ الفضيلة قائدا لسلوكه"1. والسعادة عنده درجات: الدرجة الأعلى هي التي تحصل في الحياة العقلية؛لأنها موافقة لأعلى جزء في الإنسان، ولهذا فهي حياة قدسية عنده. والدرجة الثانية هي التي تحصل في الحياة الأخلاقية الفاضلة، وهذه الحياة حياة إنسانية، أما الحياة المادية فيسميها باللذائذ، ويعتبرها جزءا من السعادة وليست السعادة وليست من الخيرات الأعلى أيضا2. وقد تبنى ابن مسكويه رأي أرسطو في السعادة، ولهذا فلا داعي لتفصيل

_ 1 علم الأخلاق إلى نيكوماخوس، أرسطو، ترجمة لطفي السيد جـ2 ص364. 2 المرجع نفسه لأرسطو جـ2 ص 358.

رأيه1، والسعادة عند الرواقية هي حالة شعورية بالسرور تحصل للإنسان نتيجة اتحاد إرادته مع إرادة الله، ونتيجة اتحاد عقله مع عقل الله، أو نظامه في الطبيعة، وعن طريق المعرفة لهذا وذلك. ذلك أنهم يعتقدون أن نظام الكون نظام عقلي أو هو العقل الأكبر -كما يسمونه- وعقل الإنسان هو العقل الأصغر، ووظيفة هذا العقل الأخير أن يعمل وفقا لذلك النظام العقلي أو الطبيعة، فالحياة وفقا للطبيعة هي الحياة الأخلاقية الفاضلة وهي التي تؤدي إلي السعادة الحقيقية2. واتجاه الرواقية يشبه اتجاه أرسطو من جهة واتجاه المتصوفين من جهة أخرى، أما من الجهة الأولى فإنهم قد دعوا إلى الخضوع للعقل، واختلفوا مع أرسطو عندما دعوا إلى استئصال الشهوات من جذورها، بينما كان أرسطو لا يدعو إلى هذا، بل كان يدعو إلى إخضاعها لمنطق العقل، ومن الجهة الثانية فإنهم كانوا يدعون كالمتصوفين إلى محاربة الشهوات والابتعاد ما أمكن عن الحياة المادية المحسوسة3. وقد ذهب الفارابي إلى قريب من هذا الاتجاه، إذ عرف السعادة بأنها اتحاد عقل الإنسان مع العقل الفعال4، وقد يكون ذلك عن طريق التحلي بالفضائل الأخلاقية، والابتعاد عن الشرور والرذائل الأخلاقية5.

_ 1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص66 وما بعدها. 2 المشكلة الأخلاقية، الدكتور زكريا إبراهيم، ص147. 3 الفلسفة الخلقية، الدكتور توفيق الطويل، ص87. 4 آراء أهل المدينة الفاضلة، ص79. 5 آراء أهل المدينة الفاضلة، ص61 طبعة صبيح.

وأما السعادة عند "ديكارت" فهي الحالة الروحية أو الشعور النفسي بالارتياح الناتج عن خضوع الإرادة لحكم العقل، أو خضوع السلوك لحكم العقل أو نتيجة الحياة الفاضلة التي لا تخضع إلا للحكمة1. والسعادة عند "كانط" هي الشعور بالخير الكامل الذي يأتي نتيجة التمسك بالفضيلة، والسعادة ليست هدفا خارجا عن الفضيلة، وليست الفضيلة علة للسعادة، وإنما هما مقترنان، والخير الكامل يجمع بين الفضيلة والسعادة معا2.

الاتجاه المادي

ج- الاتجاه المادي: يرى أصحاب هذا الاتجاه أن السعاة هي: التي يشعر بها الإنسان نتيجة إشباع دوافعه الطبيعية وغرائزه الحسية. وقد تطور هذا الاتجاه وأخذ صورا مختلفة على هيئة مذاهب خاصة منها: مذهب القورينائية أتباع "أرستبوس" تلميذ سقراط، وقد فسروا السعادة التي نشدها سقراط باللذة الحسية، واهتموا باللذات العاجلة بدلا من الآجلة، ونشدوا إشباع الدوافع في حينها، وأوصوا بعدم تأخيرها؛لأنه يؤدي إلى الشعور بالحرمان والكآبة، وهذا شقاء نفسي، ولهذا تجب المسارعة في طلب اللذات، ولا حياء ولا خجل في طلب اللذات في أية صورة كانت وبأية طريقة تيسرت. ومنها مذهب الأبيقورية أتباع أبيقور، وقد توسع هؤلاء في مفهوم اللذة فضمونها اللذات الحسية والعقلية واللذات العاجلة والآجلة المستمرة، بل آثروا

الآخرة على الأولى، ولا سيما إذا كان يعقبها ألم ومشقة، ومهما كان من أمر فإن الغالب على هذا المذهب هو الطابع الحسي والاهتمام الزائد باللذات الحسية كسابقه. ومنها مذهب المنفعة التطوري الذي يمثله "هربرت سبنسر" و"لسلي ستيفن" ويرى هذا المذهب أن الحياة السعيدة تكون في التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع وهي الفضيلة، وبقدر ما يزيد مقدار هذا التكيف يزيد مقدار لذة الفرد وخاصة اللذة النفسية، والإنسان يسعى إلى هذا التكيف بالطبيعة؛ لأنه حاجة بيولوجية لا لمجرد مصلحة مصطنعة أو عقد اجتماعي كما يدعي البعض، وهذا التكيف الذي يسعى إليه الإنسان بالطبيعة لم يكتمل بعد، وسوف يكتمل فيما بعد؛ لأن الحياة بطبيعتها متطورة، وهي سائرة نحو الحياة الإنسانية المثالية1.

_ 1 مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، الدكتور توفيق الطويل، ص41.

اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق

ثانيا: اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق: قلنا فيما مضى: إن نظام الإسلام لحياة الإنسان نظام خلقي في جوهره، ومقاصده، فما الهدف الذي كان يرمي إليه الإسلام من وضع هذا النظام؟ عندما ندرس الإسلام من جميع النواحي نجد تصريحات حينا وتلميحات حينا آخر، إلى أن هذا النظام وضع من أجل خير الإنسان، وتحقيق السعادة له، لا في هذه الحياة فقط بل في الحياة الآخرة أيضا، ونجد أيضا أن حقيقة السعادة في هذه الحياة هي الشعور والإحساس الدائم للمرء بالبهجة والأريحية والطمأنينة نتيجة إحساسه بخيرية الذات وخيرية الحياة وخيرية المصير.

وليتحقق العنصر الأول وهو الإحساس بخيرية الذات لا بد من صحة العقيدة وصحة العقل وصحة النفس، والدليل على صحة العقيدة أن تبرر نفسها بنفسها بالبراهين العقلية الواضحة، والدليل على صحة العقل التمييز بين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وبين النافع والضار، وهذا يكون بالمعرفة والعلم والحكمة. والدليل على صحة النفس الشعور بالصحة النفسية والشعور بالأمن والطمأنينة، ولكي يتحقق هذا الأمن لا بد من توافر الأمن الخارجي وذلك متوقف على النظام العام للحياة، ولا بد من توافر الأمن الداخلي أيضا، وذلك إنما يتحقق بالتوفيق بين تلك العقيدة التي يؤمن بها، وبين السلوك في الحياة، ثم بينهما وبين الأهداف التي يريد الإنسان تحقيقها في الحياة، فلا بد من أن يكون بين هذه الأمور انسجام وتوافق وتناسق ليشعر بالأمن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. ولكي يتحقق العنصر الثاني وهو: الشعور بخيرية الحياة لا بد من توافر الشروط الآتية: الأول: الشعور بخيرية الذات والثاني: السلامة من الأمراض والثالث والأخير: تحقيق مطالب الإنسان الأولية وأن يكون ذلك بالحكمة. وأما العنصر الثالث: فإن تحققه يتوقف على تحقيق العنصرين السابقين، ذلك أن الإنسان لا يشعر بخيرية مصيره إلا إذا رسخت العقيدة الصحيحة في قلبه وإلا إذا عمل بمقتضى هذه العقيدة، وإلا إذا كانت الأهداف التي حددها لنفسه في حياته متلائمة مع هذه العقيدة من جهة ومع إمكانات طبيعته البشرية من جهة.

_ 1 سورة الأنعام آية: 82.

أخرى، يقول أفلاطون: "إن النفس تجد طمأنينية تامة وقوة، أيما قوة، عندما تتفق إحساساتها وأعمالها فتغتبط بأنه ليس لها أن تعود باللائمة على نفسها في فكرة أو عمل ظالم في حق الله أو في حق الناس"1. وتحقيقا لذلك فقد جاء الإسلام بعقيدة سليمة، بَرْهَنَ على صدقها وصحتها ببراهين عقلية واضحة لا يشك في صحتها وسلامتها إلا المكابر أو ضعيف العقل، وقد فسر بها الإنسان ألغاز هذا الوجود ومعضلاته التي لولاها لما كان له أن يحيط بكنهها تماما، وأن يطمئن إليه بقلبه وجنانه. ثم جاء بنظام عام للحياة الإنسانية، حدد فيه سلوك الإنسان تفصيلا فيما ينبغي تفصيله، ومجملا ينبغي إجماله، وقد راعى في هذا وذاك طبيعة هذا الوجود بوجه عام وطبيعة الإنسان بوجه خاص، كما حدد مركزه ومصيره والأهداف التي ينبغي أن يسعى إلى تحقيقها، وقد ربط في كل ذلك بين العقيدة وواقع الإنسان وسلوكه في هذه الحياة، ومصيره فيما بعد هذه الحياة، وكل ذلك بحكمة تخضع لها العقول المدركة لحقيقتها خضوع الإكبار والإجلال. وليس ما أقول هنا مجرد دعوى بدون دليل، أو فكرة مفروضة على الإسلام بل إنها مستوحاة من روح الإسلام وفلسفته، إذ أنا نجد في الإسلام أسانيد لها، ففيما يتعلق بأثر العقيدة الراسخة في سعادة الفرد، قال الرسول: "إن الله عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط" 2. ولهذه العقيدة أثر آخر وهو: حلاوة طمأنينة القلب

_ 1 علم الأخلاق لأرسطو ص 35. 2 أخرجه الطبراني من منتخب كنز العمال هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 257 حديث ابن مسعود، انظر تخريج العراقي في هامش الإحياء جـ4ص347.

ولهذا قال إبراهيم -عليه السلام- ليطمئن قلبي، ولها أثر ثالث وهو: حلاوة الإيمان الناشئ عن محبة، ولهذا قال الرسول: "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" 1، يقول هنا "وليم جيمس": "إن الإيمان بالله هو الذي يجعل للحياة قيمة، وهو الذي يمكننا من أن نستخرج من الحياة كل ما فيها من اللذات والسعادة". ويقول الفيلسوف الألماني "ليبيتز": "ولإزالة القلق النفسي والروحي أن يؤمن بالله عن طريق العقل أو يملأ نفسه بسرور عقلي؛ لأن القلق ناتج عن الشك، والشك وسيلة لتفتيت القلب"3. ولصحة العقل وسعادته اتخذ الإسلام طريقين: طريق الوقاية وطريق التنمية، ففي الطريق الأول حرم على الإنسان تناول كل ما يخدر العقل ويضره، وفي الطريق الثاني دعا إلى تحقيق مطالبه من النظر والمعرفة والحكمة، ولم يكتفِ بمجرد الدعوى إلى ذلك فحسب، بل زوده بمعرفة كثيرة من أسرار الكون والحياة وعلم الغيب، علم ما وراء هذا الكون، وهم العلم الذي ما كان يستطيع العقل الإنساني أن يصل إليه وحده، وصدق الله العظيم إذ قال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 4.

_ 1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ1 ص9 عيسى البابي الحلبي. 2 لمحات في وسائل التربية الإسلامية، للدكتور محمد أمين المصري ص 117. 3 آثار ليبتنز الفلسفية، باللغة الفرنسية، مطبوع في باريس جـ 1 ص 148. Oeuvres Philosophiques De Leibniz.Paris.,1900 4 سورة البقرة آية: 151.

حقا ليس في قدرة الإنسان أن يعلم أو يدرك ما وراء هذا الكون وما وراء هذه الحياة، ونحن نعلم مدى حيرة الفلاسفة الذين حاولوا أن يعلموا من ذلك شيئا عن طريق البحث النظري، وذلك مع عظم عقولهم ومع ما بذلوا من مجهودات ضخمة، ومع قصور الإنسان في هذا العلم فإنه دائم التساؤل عنه طوال تاريخه الطويل. وكأن هناك دافعا وراء العقل الإنساني يدفعه إلى هذا التساؤل الدائم وهذا البحث المستمر، وربما كان هذا فطرة إلهية أودعها فيه منذ خلقه، ليعرف الإنسان أن هذا الوجود ليس هو هذه المحسوسات فقط، بل إنه أوسع وأكبر مما ندركه بحواسنا الظاهرة، ومهما كان من أمر فإن الإسلام قد أتى في هذا العلم بما يشفي غليل الإنسان ويكفيه التساؤل ويحفظه من الزلل والتيه، ويريحه من عناء البحث ومشقته، ومن ثم يطمئن عقله إلى ما جاء به الإسلام في هذا الميدان. وفيما يتعلق بالأمن الداخلي فقد دعا الإسلام إلى بعض الأمور التي تحقق هذا الأمن منها: ذكر الله دائما؛ لأن القلوب تطمئن بذكرالله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1. ومنها دعوته إلى أن يكون الله ملجأ الإنسان في السراء والضراء، والمستعان الذي يستطيع معاونة الإنسان ونصره وتأييده وهو يكلؤه ويحفظه إذا سلك طريقه وكسب رضاه ومحبته، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث قدسي: "إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر

_ 1 الرعد آية: 28.

به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأن أكره مساءته" 1. ونتيجة الاطمئنان إلى رعاية الله ونصره فلا يصيب هذه النفوس خوف ولا فزع عند المصائب والشدائد: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. وأما تحقيق الأمن الخارجي فإن النظام الأخلاقي الذي وضعه الإسلام يكفل للفرد الأمن الخارجي، ذلك أن هذا النظام أوجب احترام الفرد في حريته وممارسة حقوقه الطبيعية، وحرم القتل والغصب والسرقة والاعتداء على الأعراض، وإلى جانب هذا دعا الناس إلى التبشير بالخير والنهي عن التشاؤم فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بشروا ولا تنفروا" 3، وقال أيضا: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني من الفأل الصالح الكلمة الطيبة" 4، وقال "سوء الخلق شؤم" 5. وذلك ليعيش الناس في ضياء من التفاؤل بخير الحياة، كما أمر بالتعاون والتراحم واحترام مشاعر الناس وإحساساتهم الأدبية ليجد الناس الاستقرار والطمأنينة والأمن في معاملاتهم وفي حياتهم، ثم لم يكتفِ بوضع النظام بل أقام حكومة لتنفيذ هذا النظام وجعل الحكام مسئولين عن ذلك. ولتحقيق الصحة الكاملة أمر الإسلام بثلاثة أمور: الأمر الأول: الوقاية من الأمراض، وذلك بالأمر بمراعاة النظافة والطهارة

_ 1 الأحاديث القدسية جـ1 ص 81، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة. 2 يونس آية: 62. 3 التاج جـ1 - كتاب العلم 71. 4 فتح الباري بشرح البخاري جـ12 ص 324. 5 منتخب كنز العمال في هامش المسند الإمام أحمد جـ1 ص 130.

في كل شيء؛ لأن أغلب الأمراض تأتي -كما يقول الأطباء- نتيجة عدم الاعتناء بالنظافة، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله نظيف يحب النظافة.. فنظفوا أفنيتكم" 1، وقال: "الطهور شطر الإيمان"، وأمر بتغطية الأطعمة والآنية من التلوث بالجراثيم، فقال: "أوكوا قربكم"، وفي رواية "خمروا الطعام والشراب" 3، كما أمر بالابتعاد عن الأمراض المعدية والأماكن الموبوءة فقال: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" 4، وقال: "وفر من المجذوم فرارك من الأسد"، وقال أيضا: "لا يورد ممرض على مصح" 6. هنا نرى الرسول يأمر بعملية الحصار للمرض المعدي إذا أصاب فردا، أو بلدا كما تفعل الدول اليوم عندما ينتشر مرض معدٍ في بلد ما مثل: منع التنقل بين هذا البلد والبلاد الأخرى، ومنع الأفراد المصابين بمثل تلك الأمراض من الاتصال بغيرهم. غير أنه ينبغي ألا نغفل هنا الإشارة إلى بعض النصوص الأخرى التي تفيد إنكار الرسول العدوى مثل: حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة" 7، ومناقشته مع الأعرابي في مسألة تعدي الجذام من بعير إلى آخر، وأكله -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم8.

_ 1 التاج كتاب الباس جـ3 ص 162. 2 صحيح مسلم، كتاب الطهارة جـ3 ص100. 3 فتح الباري بشرح البخاري جـ12، كتاب الأشربة ص 1991، والتخمير بمعنى التغطية. 4 المصدر نفسه جـ12، كتاب الطب ص 289. 5 المصدر نفسه جـ12، كتاب الطب ص 265. 6 شرح العسقلاني على البخاري جـ12، كتاب الطب ص 267. 7 فتح الباري جـ12، كتاب الطب ص 264. 8 المصدر نفسه كتاب المرض والطب جـ12 ص 265.

ولقد وقع هنا خلاف طويل بين العلماء، إلا أن الرأي الراجح عندي هو الرأي القائل بأن حديث "لا عدوى" عام، والأحاديث التي تفيد العدوى خاصة، وهذا صحيح؛ لأنه ليس كل الأمراض معدية، كما أن أكل الرسول مع المجذوم ومناقشته مع الأعرابي يوحيان بأن الرسول أراد أن يثبت أن العدوى لا تحصل إلا بإرادة الله، فهو لا يريد أن يلغي إرادة الله مع وجود الأسباب، لكن مع ذلك أمرنا باتخاذ الأسباب بصفة عامة لتحقيق الأهداف، اتباعا لقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} 1. الأمر الثاني: تحقيق المطالب الأساسية في الطبيعة الإنسانية بحكمة واعتدال، وهذه الحاجات تنقسم -بصفة عامة- إلى قسمين: هما الحاجات الروحية والحاجات الحسية، وأهمية الأولى لا تقل عن الثانية؛ لأن الروح موجودة في الطبيعة الإنسانية، أودعها الله في الإنسان لمعرفته وللاتصال به، ولتدفع الإنسان إلى تحمل مسئولياته الإنسانية في هذه الحياة، وهي وإن كانت غامضة من حيث كنهها وجوهرها فهي ظاهرة من حيث آثارها في السلوك، وفاعليتها في الأبدان، وهي متأصلة في الإنسان بالفطرة، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون لها مطالب تنشط بتحقيقها وتبذل وتضيق بالحرمان منها، من أجل هذا قرر الإسلام لها نصيبًا من حياة الإنسان في نظامه الخلقي، والحياة الروحية كما قررها الإسلام هي: أداء العبادات المختلفة من الصلاة والصوم والحج والزكاة، وتذكر الله دائما بأنه خالقه ورازقه، وهو الذي يستمد منه العون ويعتمد عليه في كل شيء؛ لأن الأمر بيده، وهو على كل شيء قدير، وأن يتذكر أن هذه الحياة

_ 1 الكهف: 84-85.

مؤقتة ستتحول في النهاية -إن أحسن الإنسان عمله- إلى حياة أبدية ملؤها السعادة والهناء، ولهذه الحياة الروحية دور كبير في سعادة الإنسان، ذلك أن الإنسان عندما يحيا هذه الحياة يشعر بالاطمئنان والراحة في أعماق قلبه؛ لأنه يحس دائما في قرارة نفسه بأن الله راضٍ عنه وأنه سيكلؤه ويحفظه، وهو بعد ذلك يتطلع إلى حياة صافية من الأحزان والآلام؛ ولأنه يرى أن الموت لا يقطع عليه حياته بل ينقله من حياة مؤقتة إلى حياة دائمة، وأن الأعمال التي يؤديها هنا وإن لم يجنِ ثمارها كلها أو بعضها هنا سوف يجنيها هناك، ولهذا كله فإن هؤلاء الذين يحبون هذه الحياة تبتسم سريرتهم بالرغم من الشدائد التي يعانون منها والصعوبات التي يخوضونها، أما الذين أهملوا الروح، ولم يعطوها حقها من الحياة فهم في ضيق وحرج ولا سيما عند الأزمات والمصائب يزعجهم خوف الموت، ويقلقهم ضياع الحقوق، وعدم استيفائهم ثمار أعمالهم -ويؤدي بهم هذا الضيق والحرج أحيانا- إلى الذبحة الصدرية أو الانتحار، ولقد أدرك هذه الحقيقة العالم الفرنسي الدكتور ألكسيس كارل، فهو يقول: "ومن الغريب أن الإنسان الحديث قد استبعد من الحقيقة الواقعية كل عامل نفسي "روحي" وبنى لنفسه وسطا ماديا بحتا، غير أن هذا العالم لا يلائمه قط، بل نراه يصاب فيه بالانهيار.. فيبدوا -جيدا- أنه يجب على البشرية المتحضرة لكي تتجنب ترديها النهائي في وهدة التنافر والفوضى، أن تعود إلى بناء المعابد في ذلك العالم الفاخر الصارم الذي يعيش فيه علماء الطبيعة والفلك.. فالعالم الحديث يبدو لنا كالثوب المفرط في الضيق بمجرد أن يطبعه مذهب الحرية الفردية أو المذهب الماركسي بطابعه. ومما لا يقبله العقل أن يصبح الواقع الخارجي أضيق من أن يشمله الإنسان في كليته، وألا يكون تركيبه متفقا مع تركيبنا من بعض الوجوه

فمن الحكمة إذن أن نجعل لعالم الروح الموضوعية نفسها التي لعالم المادة"1، ويهاجم المتحضرين فيقول: "فهم يتوهمون أن تربية الذكاء تضاهي تربية الروح، ولم يكتشفوا بعد أن هناك إلى جانب التفكير المنطقي ضروبا أخرى من النشاط الروحي الضرورية حتى يكون السلوك في الحياة سلوكا عقليا، وقد ردت الحياة على هذا الجهل بجواب بطيء صامت بدت مظاهره جلية.. في الزحف التدريجي للقبح والقذارة والفظاظة والسُكْر وشهوة الترف وحب السلامة والحسد والنميمة والبغض المتبادل.. والنفاق والكذب والخيانة، هكذا أجابت الحياة بطريقة آلية على رفض الخضوع لقانون الارتقاء الروحي فقضت على نفسها بالانحطاط والانحلال"2، وهكذا نرى فداحة الخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الذين يضعون نظاما للناس ويهملون فيه الجانب الروحي بقصد أو بغير قصد. وأما الحاجات الحسية الأساسية في الإنسان -مثل: المأكل والمشرب والجنس والملبس والمسكن وما إلى ذلك- فهي ضرورية أيضا لدوام الحياة أولاً وللشعور بالسعادة ثانيا، ولهذا فقد أباح الإسلام كل ما يحتاج إليه الإنسان بالضرورة، وحرم كل شيء يضر الصحة، وقد سمي الأول بالطيب والثاني بالخبيث {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3، وكيف يحرم الطيبات وهو الذي خلقها رزقا للعباد {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} 4.

_ 1 تأملات في سلوك الإنسان، الدكتور الكسيس كارل. ت. محمد القصاص. مراجعة د. محمود قاسم ص 173-174. 2 المرجع السابق نفسه ص 78، الدكتور ألكسيس كار. 3 الأعراف آية: 157. 4 الأنعام آية: 141.

{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 1. وليس لمجرد الرزق فحسب بل للمتعة، ولهذا قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 2، وأباح النكاح للحاجة البيولوجية وللمتعة النفسية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3، وخلق الله أشياء لنصنع منها لباسا نحمي به أنفسنا من حر الشمس وبرد الشتاء: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 4، إذن لا مانع من أن نهتم بحاجاتنا الأساسية لنسعد في حياتنا، ولهذا قال الرسول: "من سعادة ابن آدم ثلاثة ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" 5، وقال أيضا: "ثلاث خصال من سعادة المرء المسلم في الدنيا، الجار الصالح والمسكن الواسع والمركب الهنيء" 6. ذلك أن هذه الأمور بالإضافة إلى ضرورتها فإن الإنسان مقارن لها بالاستمرار فإذا كانت غير مريحة شعر بالضيق والحرج والألم، إذن ينبغي أن يهتم الإنسان بأن يختار مما يحتاج إليه أحسنه وأفضله ليسعد نفسه ويريح باله.

_ 1 ق آيات: 9-11. 2عبس: 24-32. 3 الروم: 21. 4 النحل: 80. 5 مسند الإمام أحمد جـ1 ص 168. 6 رواية سعد بن أبي وقاص، الجامع الصغير جـ1 ص 137.

ولم يراعِ الإسلام حاجة الإنسان التي بها قوام حياته ودوامها فحسب بل لفت نظره إلى العناصر الجميلة في الكون التي خلقها الله للزينة والمتعة ليشبع بها العاطفة الجمالية، ولهذا كرر دعوته مرارًا إلى النظر إلى زينة السماء {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} 1. وإلى زينة الحدائق وأنواع الأشجار والنبات {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2، وجمال الحيوانات والدواب {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 3، وهكذا نجد أن الإسلام يقرر للإنسان حياة مادية حسنة يحقق مطالبه، وهذا مما لا شك فيه يمثل جزءا من سعادة الإنسان في هذه الحياة، وصلة تحقيق الحاجات بالأخلاق أن حرمان الإنسان نفسه من حقه ظلم كظلم غيره، والظلم منافٍ للأخلاق. غير أنه توجد هنا ملاحظة لا ينبغي أن نغفلها وهي: أننا نجد هناك نصوصًا إسلامية أخرى تذم الحياة الدنيا وطلاب هذه الحياة، ولكن لا ينبغي أن نظن وجود تناقض بين تلك النصوص، كما قد يبدو للنظرة السطحية، وإنما هذا الانقسام الظاهري من نظرة الإسلام إلى الحياة المادية من زاويتين مختلفتين؛ لأنه يريد بذلك أن يكشف لنا عن منهجه في الحياة وفلسفته فيها، وربما كان انقسام النصوص بهذا الشكل حول الحياة المادية، وإذا شرحنا الزاويتين السابقتين بدا لنا موقف الإسلام من هذه الحياة بوضوح. أما الزاوية التي منها ذم الحياة فهي زاوية الماديين: وهي أن هذه

_ 1 الحجر: 16. سورة ق: 7-8. النحل: 5، 6، 8.

الحياة غاية لا وسيلة، وأنها مستقلة لا صلة لها بحياة بعدها، بل هي الحياة ولا حياة بعدها، وعندما نظر الإسلام إليها من هذه الزاوية وبهذا الاعتبار ذمها وذم المنهمكين فيها؛ لأنها حياة عارضة زائلة، وفيها أحزان وآلام ومشقة، فهي بهذه النظرة لا تساوي شيئا ولا جناح بعوضة، بالنسبة إلى حياة مقدرة للإنسان بعد موته، ولهذا قال الرسول: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء"، حقا إنها لا تساوي جناح بعوضة حين نقيسها بالحياة الأخروية، ومن هنا يستحق الذم هؤلاء الذين يتخذونها مجمع همهم ومبلغ سعيهم فلا يرجون الآخرة من بعدها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 2، وكل الآيات والأحاديث التي تذم الحياة المادية وأهلها، إنما تذمها بهذا الاعتبار ومن هذه الزاوية. يريد الإسلام بذلك أن يبين للناس أنه ينبغي ألا تتخذ هذه الحياة غاية في ذاتها؛ لأنه أمر لا يليق بهم، فقد خلقوا لهدف أعلى أو غاية كبرى وهي: تلك الحياة الأبدية السعيدة وهذه الحياة هي الجديرة بأن يعمل المرء من أجلها، وحقيق أن يتخذها غاية. وأما الزاوية الثانية: فهي أن هذه الحياة ما هي إلا وسيلة لحياة أخرى أو مقدمة لها، يجب استغلالها لتلك الحياة واشتراؤها بها، فمن هذه الزاوية وبهذا الاعتبار نرى الإسلام يمدح الحياة ويهتم بها، وكان اهتمامه بها على النحو التالي

_ 1 انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي جـ6 ص 611، الإمام الحافظ أبو العلا محمد المباركفوري. 2 سورة إبراهيم: 3.

أولاً: تنظيمها تنظيما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وقضائيا. ثانياً: دعوة الناس إلى أخذ نصيبهم منها، من مأكل ومشرب وزواج وملبس ومسكن، وكل ما يحتاج إليه الإنسان بحكم الغريزة والطبع، قال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 1، كما وبخ الذين يمنعون الناس من هذه المتعة التي أخرجها لعباده: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، وما أحسن الإشارة هنا إلى أن نعيم هذه الدنيا خلق للمؤمنين، وإذا اشترك معهم الكفار في التمتع به فلن يشتركوا معهم في نعيم الجنة في الآخرة، نعيم لا يخالطه غم ولا مشقة، ثم إن الإسلام يعتبر هذه الحياة كلها سبيل الله إلى الجنة التي أعدها الله للسالكين سبيله، فهو داخل فيها في نهاية المطاف بالوعد الذي قطعه على نفسه، وبذلك تكون لهذه الحياة أهمية كبرى في نظر الإسلام، وتعطي لها قيمة لا يساويها شيء إلا تلك الحياة الأبدية، ذلك أنها وإن كانت لا تساوي شيئا في حد ذاتها بالنسبة لتلك الحياة إلا أنها لما كان من الممكن أن تشتري بها الجنة فإن قيمتها تساوي الجنة بهذا الاعتبار، ومن هذا كله تبين لنا أنه لا تعارض بين هذه النصوص المتعلقة بشئون الحياة، وأن النظرتين فيها تمثِّلان فلسفة الإسلام في الحياة ومنهجه فيها، ومن ثم تبين خطأ الذين نبذوا هذه الحياة استنادا إلى تلك النصوص، كما تبين خطأ أولئك الذين ينهمكون في ملذات هذه الحياة، ويتمتعون كالأنعام تاركين كل الجوانب الأخرى والواجبات الإلهية والإنسانية وكأنهم خلقوا من أجل هذه المتعة الحسية فقط، ولهذا كله قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ

_ 1 المائدة: 88. 2 الأعراف: 32.

الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. الأمر الثالث: الذي أمر به الإسلام لكمال الصحة هو الاعتدال في الحياة والتصرف فيها طبقا للحكمة سواء كان في ميدان إشباع الدوافع والمطالب الأساسية أم في ميدان العمل أيا كان نوع هذا العمل وشكله. أما في ميدان إشباع الدوافع أو الحاجات الاساسية؛ فإن الإسلام قد قرر بصورة عامة إشباعها؛ لأن عدم إشباعها يؤدي إلى الشعور بالكآبة والضيق والحرمان، كما يؤدي إلى حدوث بعض الأعراض والأمراض، مثل: الأنيميا "فقر الدم" والعته والآم المفاصل وتصلب الشرايين، وما إلى ذلك. والأمر كذلك في الإفراط في إشباعها، والانهماك في الملذات الحسية أو بعضها فقد تؤدي كثرة الأكل والشرب -مثلاً- إلى التخمة والسكتة القلبية، والإفراط في الجنس يؤدي إلى إتلاف بعض الأنسجة والخلايا التي لا يستطيع تعويضها فيما بعد، وبالتالي يؤدي ذلك في النهاية إلى بعض الأمراض الفسيولوجية2. ولهذا كله منع الإسلام الإفراط في الأكل والشرب والملذات الأخرى فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3.

_ 1 القصص: 77. 2 انظر تأملات في سلوك الإنسان للدكتور ألكسيس كارل ص 117. الترجمة العربية، انظر كذلك كتاب: قلبك وكيف تحافظ عليه، تأليف ألتون باكسل، ترجمة الدكتور أحمد بدارن ص116. 3 سورة الأعراف: 31.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يأكل في معىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" 1، وليس المراد من كثرة الأمعاء هنا معناها الحقيقي بل القصد منها الكناية عن الكثرة في الأكل، ويريد من الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فهمُّهم الدنيا ونعيمها، يأكلون كما تأكل الأنعام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} 2. وكما منع الإسلام الإفراط في تحقيق الحاجات الحسية، منع أيضا الإفراط في التعبد والتنطع فيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" 3، وروي عن أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن التبتل" 4، وأوضح دليل صريح على هذا نهيه -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من أصحابه اعتزموا مواصلة العبادة وترك كل شيء ما عداه، فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" 5. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قلت: نعم، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا" 6. أما الاعتدال في ميدان العمل فإنه ضروري أيضا؛ ذلك أن الإرهاق في العمل يؤدي إلى الإضرار بالصحة، فالإرهاق في العمل العقلي مثلا يؤدي إلى الجنون، كما أن الإرهاق في الأعمال الجسمية الأخرى يؤدي إلى الاختلال في

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ11، كتاب الأطعمة ص 456. 2 سورة محمد: 12. 3 صحيح مسلم جـ4 ص 205 كتاب العلم. 4 صحيح المستدرك جـ2 ص 159، كتاب النكاح، فتح الباري جـ11 ص 11. 5 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول جـ2، كتاب النكاح، ص 287. 6 فتح الباري بشرح البخاري، كتاب الصوم، جـ5 ص 121.

وظائف الأعضاء وإلى الأمراض الفسيولوجية؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المنبتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى" 1، "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" 2، وقال: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" 3، وقال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا" 4. من هذا كله نرى أن الإسلام يأمر بالاعتدال في تحقيق المطالب، ويأمر أيضًا بالعدالة في إعطاء كل ذي حق حقه، وبالاعتدال والعدالة في الأعمال كلها، حتى تتحقق الصحة الكاملة، وتنتظم أمور الدنيا، والسعادة تتبع الاعتدال أو العدالة في كل الأمور، كما يقول أفلاطون، فيقول في جمهوريته: "إن العدالة لا تتناول مظاهر أداء الإنسان لعمله الخاص فحسب وإنما تتناول البواطن التي تخص الرجل نفسه ومصالحه الخارجية بحيث لا يسمح الرجل العادل لعناصره المتعددة أن تعمل عملًا غير عملها، ولا للطبائع المميزة في نفسه أن يتدخل بعضها في بعض"5. يبقى بعد هذا كله العنصر الأخير والهام لتحقيق السعادة في رأي الإسلام وهو: تحديد الغاية الكبرى للإنسان في هذه الحياة، وأن يكون تحقيق هذه مقرونًا بتحقيق السعادة الكاملة، وهذه الغاية هي الفوز برضا الخالق والدخول في دار الرضوان، دار السعادة الأبدية؛ وذلك بعد الانتقال من هذه الحياة الدنيا. إن ربط الإنسان مصيره بالسعادة له دور كبير في إحساسه بالسعادة في

_ 1 مسند الإمام أحمد عن أنس -رضي الله عنه -كشف الخفاء جـ1 ص 300. 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير جـ1 ص 3. 3 الجامع الصغير جـ1 ص 116. 4 هداية الباري في ترتيب أحاديث البخاري جـ1 ص 110. 5 جمهورية أفلاطون ص 81، أفلاطون، ترجمة نظلة الحكيم.

مختلف الظروف مهما تكبد في سبيلها من عناء ومشقة؛ لأن السعادة أمل الإنسان دائما، إن عاجلا أو آجلا، وهذا الأمل هو الذي يبعث في نفس الإنسان الاطمئنان والرضا، لذا قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} 1، هذه الجنة تنعم فيها تلك الوجوه التي تحقق غايتها من وجودها، تنعم بنعم لم ترها أعين ولم تسمع بها آذان ولا خطرت على قلب بشر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 2، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} 3. وفيها {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} 4. وقد روي عن الرسول أنه: "ينادي منادٍ في أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا" 5، تلك هي السعادة الحقيقية الأبدية {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} 6، وذلك هو الفوز الأكبر، والمصير السعيد لسعي الإنسان، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ

_ 1 الفجر: 27-30. 2 الغاشية: 8-16. 3 سورة محمد: 15. 4 الرحمن: 56-58. 5 التاج جـ 5 ص 422. 6 هوج: 108.

أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. من هذا كله نرى أن الإسلام قد حدد للإنسان عقيدة سليمة وغاية سعيدة، ثم حدد له نمطا سلوكيا في الحياة تتسق فيه العقيدة مع الغاية، وينسجم مع قوانين الحياة والدوافع الأساسية للطبيعة البشرية، وسوف يتبين هذا بصورة أوضح في الموضوعات الآتية، ثم إن هناك أمرا وهو أن الإسلام قرر أن من يسير في هذه الحياة وفقا لهذا النمط السلوكي الذي حدده هذا الدين سوف يسعد في هذه الحياة أيضا، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 2. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 3، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 4، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سعادة المرء حسن الخلق، ومن شقاوته سوء الخلق" 5. ويمكن أن نستخلص من هذا كله أن هدف الأخلاق في الإسلام هو السعادة، وماهية هذه السعادة في نظره تختلف من حيث الزمان والمكان، ومن حياة إلى أخرى فالسعادة في الحياة الدنيا ليست هي سعادة الحياة الأخرى، وإن الإسلام يستهدف تحقيق السعادة في الآخرة أكثر مما يستهدفها في الدنيا، ثم إن السعادة التي استهدفها أو أرادها لا تقتصر على جانب واحد، بل تشمل -كما رأينا- الجانب الروحي والعقلي والنفسي والحسي معا.

_ 1 التوبة: 72. 2 النور: 55. 3 الليل: 5-7. 4 الطلاق: 2-3. 5 منتخب كنز العمال على هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص12.

وكلما كان هناك اتساق بين هذه الجوانب زاد نطاق السعادة كمًّا وكيفًا، ولكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن الأخلاق في نظر الإسلام، وإن كانت ترمي إلى تحقيق السعادة للإنسان فإن هذا الهدف هدف الأخلاق لا هدف الذات الفاعلة، فإن هذه الذات ينبغي ألا ينحصر في تحقيق المرء السعادة لنفسه أو لغيره وإنما ينبغي أن يكون هدفه الأول هو الله وحده، إنه يجب أن يقوم بالأعمال الأخلاقية؛ لأنه مأمور بها من قبل خالقه، وأن يقصد بها وجهه لا وجه أحد ولا وجه السعادة أو تحقيق السعادة، هذا القصد الخالص لوجه الله من السلوك في هذه الحياة هو العبادة الخالصة التي جعلها الله الغاية من خلق الإنسان، مصداق ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 2، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له" 3، وكما قلنا: إذا أخلص الإنسان حياته كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 4، وإذا أسلم الإنسان بهذه الصورة يعد كل سلوكه عبادة يؤجر مقابل كل ما يصاب به في الحياة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يصاب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" 5، وهذا يقتضي أن يكون صبورا لنيل الثواب، كما يكون صبورًا لمكاسب الدنيا. وسيأتي تفصيل هذه النقطة الأخيرة بصورة أوضح في الباب الثالث من هذا الكتاب.

_ 1 الذاريات: 56. 2 الرعد: 22. 3 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 1353، وفي رواية "إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه"، الجامع الصغير جـ1ص74. 4 سورة الأنعام: 162-163. 5 هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري جـ1 ص 123.

الفصل الثالث: مجالات الأخلاق

الفصل الثالث: مجالات الأخلاق مدخل ... الفصل الثالث: مجالات الأخلاق إن تحديدنا السابق لمفهوم الأخلاق وغايتها يساعدنا في تحديد مجالها هنا، وسوف يغنينا عن كثير من التفصيلات الجزئية، ذلك أن تحديد مفهوم الأخلاق يؤثر في تحديد غايتها، وهذا بدوره يؤثر في تحديد مجالها؛ لأن الغاية ترسم بالطبع الطريقة التي يمكن أن تؤدي إليها، كما تحدد المجالات التي تحقق فيها.

الاتجاهات العامة في مجالات الأخلاق

أولاً: الاتجاهات العامة في مجالات الأخلاق: من هنا نجد أن كل اتجاه في تحديد الغاية الأخلاقية قد عني ببيان السلوك المناسب لتحقيقها والمجال الذي يدور فيه هذا السلوك، فالاتجاه المادي في الأخلاق وغايتها يهتم بالسلوك الذي يحقق منافع مادية ينبغي استخدامها بالطريقة التي تحقق اللذة أو السعادة حسب وجهة نظره في فهمها، والاتجاه الروحي يهتم بالسلوك الذي يحقق مكاسب معنوية، ويطهر النفس من النوازع الشريرة. والاتجاه العقلي يهتم بالسلوك الذي يحقق مكاسب عقلية من كشف الحقائق وتنظيم السلوك والحياة وفقا لهذه الحقائق. فمجال الاتجاه الأول هو: الطبيعة المادية، ومجال الاتجاه الثاني هو: الجانب النفسي والروحي في الطبيعة الإنسانية، ومجال الاتجاه الثالث هو: الحقائق كما تتكشف للعقل أو كما تتراءى له. وإذن فالشيء الذي يوجه السلوك في الاتجاه الأول هو: المنافع، وفي الثاني هو: الدوافع الروحية، وفي الثالث هو: متطلبات الطبيعة المدركة في الإنسان أو القوة العاقلة.

مجالات الأخلاق في الإسلام

ثانيا: مجالات الأخلاق في الإسلام: كما ألمحنا إليه سابقا فهو مجال الحياة كلها؛ لأن الأخلاق إذا كانت نمطا للعمل وللسلوك في الحياة فإن عمل الإنسان لمساعدة الآخرين أخلاق، وعمله لكسب قوته وقوت من يعوله أخلاق وإيمانه بالله وعبادته له أخلاق؛ لأنه بر كما جاء في الآية التي ذكرناها، بل لا يتحقق البر دون الإيمان والعبادة، والبر هو الأخلاق والأخلاق هي البر، والأعمال العلمية سواء كانت للتكامل الذاتي أو لخدمة الحياة الإنسانية -أخلاق- ثم إن معاملة الإنسان للكائنات الحية الأخرى بالرفق أخلاق، وإيذاءه لها ليس بأخلاق، كذلك تحمله أعباء الحياة والصبر على ما يصيبه من المصائب فيها أخلاق أيضا. وإذن فإن كل سلوك إنساني يحقق الخير والبر للذات الفاعلة أو لغيرها يعد أخلاقا، طالما كانت الذات الفاعلة تريد بسلوكها هذا عمل الخير لوجه الله قبل كل شيء، ومصداق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" 1، ثم إن هناك مبادئ أخلاقية عامة مثل الصدق والأمانة والإخلاص وإتقان العمل لا بد من مراعاتها في جميع الأقوال والأفعال. ولم يكتف الإسلام بإضفاء الصفة الأخلاقية على نوع السلوك ذي الطابع النفعي والضروري للحياة فحسب، بل أضفى تلك الصفة على كل سلوك ولو لم يتسم بصفة النفع أو الضرورة؛ لأن الأخلاق في نظر الإسلام لا تحمل معنى النفع فحسب، بل تحمل إلى جانب ذلك المعنى التحسيني والجمالي والإرادة والخيرة.

_ 1 رياض الصالحين، باب الصبر ص25 للإمام النووي، وجاء في صحيح مسلم حديث بهذا المعنى، انظر صحيح مسلم جـ 4 كتاب البر والصلة باب 14. - جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير الجزري جـ 9 ص 396.

ومن ثم فلم يكن هدفه تحقيق النفع للإنسان فقط، بل تحقيق الحياة الأدبية له، التي تمتاز بها حياة الإنسان على حياة الحيوان، ومن هنا نرى الإسلام يحاول أن يطبع كل سلوك صادر من الإنسان بالطابع الأدبي، بصرف النظر عن مكان هذا السلوك وزمانه، وبصرف النظر عن صلته بالناس الآخرين، ولهذا نرى الإسلام يأمر بالأدب في المأكل والمشرب والملبس والمجلس والمشي والتحدث ومعاشرة الناس، ففي المأكل أمر -مثلا- أن يبدأ الإنسان بالبسملة، وأن يأكل بيمينه ومما يليه، فقد روي عن أبي سلمة -رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله، وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَة* فقال لي رسول الله: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" 1، وقال في الشرب: "إذا شرب أحدكم فليشرب في ثلاثة أنفاس يحمد الله في كل منها"، وفي الملبس أمر بالتستر والاحتشام، ولو في السر حتى ولو في الحمام، فقال الرسول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار" 2؛ لأن الحياء جزء هام في الأدب الإسلامي، بل إنه جزء من الإيمان كما جاء من الرسول، فإنه قال: "فإن الحياء من الإيمان" 3، وليس الحياء من الناس فحسب بل من الله والملائكة، ولهذا كان أمره بالتستر ولو في الخلاء الذي لا يراه فيه أحد من الناس، والاستحياء من الله له دور هام في تجنب المعاصي، ولهذا قال الرسول: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" 4. وفي المجلس أمر مثلا بالجلوس المتواضع الرزين، فقد روي عن الشريد بن

_ * وهي ما تشبع خمسة ونحوها، وهي أكبر من القصعة. 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ11، كتاب الأطعمة، ص 451. 2 التاج جـ5، كتاب الأدب ص 243. 3 شعب الإيمان للبيهقي, الحديث الرابع والخمسون ص 997. 4 مختصر شعب الإيمان للبيهقي، باب الحياء، ص 98.

سويد قال: مر بي رسول الله وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي، فقال: "أتقعد قعدة المغضوب عليهم" 1، أي: القعود المتكبر، وروي عن أحد الصحابة أنه قال: أصابني رسول الله نائما في المسجد على بطني فركضني برجله، وقال: "ما لك ولهذا النوم، هذه نومة يبغضها الله" 2، "وكان نائما مضجعا على وجهه"، وفي المشي أمر بالاقتصاد والتواضع، فقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} 3، وقال أيضا: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 4. وعند الكلام أمر مثلا بعدم رفع الصوت، وعدم التكلف أو التشدق في الكلام، فقال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 5، وقال الرسول: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها" 6. وعند معاشرة الناس دعا بصفة خاصة إلى مراعاة الشعور والإحساس الأدبيين لدى الآخرين في الحركات، فدعا مثلا إلى بسط الوجه عند المقابلة، ونهى عن تصعير الخد فقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} 7، وقال الرسول: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق" 8

_ 1 التاج جـ5 كتاب الأدب ص 266. 2 ابن ماجه جـ2 ص 1227. 3 لقمان: 18-19. 4 الإسراء: 37-39. 5 لقمان: 19. 6 التاج جـ5، كتاب الأدب ص 285. 7 لقمان: 18. 8 تفسير ابن كثير، جاء في صدد تفسير قوله تعالى: {لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} جـ3 ص 449.

ودعا إلى عدم التناجي بين الاثنين دون الثالث، فقال الرسول: "إذا كنتم ثلاثا فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما" 1. كما دعا إلى احترام كل إنسان بما يليق به من التقدير حسب دينه وعلمه ومنزلته بين الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنزلوا الناس منازلهم من الخير والشر" 2. كما دعا إلى الظهور بالمظهر الجميل أمام الناس، فقد روي أن رجلا جاء إلى الرسول ثائر الرأس، فأشار إليه بإصلاح شعره، وجاء آخر وشعره جمة وأشار بقصه، ثم قال: "هذا أحسن"3، وعندما سأله رجل هل من الكبر أن يكون ثوب الإنسان حسنا ونعله حسنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" 4. وكان ينصح دائما بتحسين الهندام وتجميل الظاهر وتطهير الثياب5. ولم يفرض الإسلام المبادئ الأخلاقية على سلوك الإنسان الظاهري فقط، بل فرضها أيضا على السلوك الباطني؛ لأن الحياة قسمان: قسم منها ظاهر محسوس والآخر باطن غير محسوس، وأهمية الأخير لا تقل عن أهمية الأول، بل إن مظاهر الأول ما هي إلا انعكاس للأخير، ولهذا كانت الأخلاق الإسلامية مركزة على الحياة الباطنة في الدرجة الأولى؛ لأنها إذا صلحت واستقامت صلحت الأخرى واستقامت، وصلاح هذه وتلك واستقامتها هما الطريق إلى السعادة

_ 1 التاج جـ5، كتاب الأدب ص 266. 2 المصدر نفسه، كتاب الأدب ص 256، كشف الخفاء جـ1 ص 241. 3 أ- مسند الإمام أحمد جـ4 ص 180، ب، المستدرك على الصحيحين جـ4 ص 186. 4 التاج جـ5، كتاب البر والأخلاق ص32. 5 المستدرك على الصحيحين جـ4 ص 186.

الإنسانية، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" 1. ويجمع بين الأمرين قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 2. ومن هنا دعا الإسلام إلى تجميل الباطن وتحسينه، فدعا إلى حسن الظن بالخالق كما دعا إلى حسن الظن بالمخلوق أو الناس بصفة خاصة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "حسن الظن من حسن العبادة" 3، وقال راويًا عن ربه: "أنا عند ظن عبدي بي إن خيرا فخير، وإن شرا فشر" 4، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 5، ثم دعا إلى الفأل ونهى عن التشاؤم والتطير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة ويعجبني الفأل الصالح أو الكلمة الحسنة" 6؛ لأن التشاؤم والتطير وسوء الظن من العوامل التي تؤدي إلى الكآبة والقلق وعدم راحة البال. ثم إلى جانب دعوته نهى عن الأمور التي تجعل الحياة النفسية ظلاما قاتما، وتزيل عنها كل البشاشة والبهجة كالتباغض والتحاسد والحقد وما إلى ذلك من الرذائل النفسية، ولهذا قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا" 7، وقد عد بعض علماء النفس هذه الرذائل الأخلاقية من الأمراض النفسية والاجتماعية.

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ1، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه ص 134. 2 الأعراف: 33. 3 التاج جـ5، كتاب البر والأخلاق، ص72. 4 الجامع الصغير جـ1 حرف الألف ص 77. 5 الحجرات: 12. 6 التاج جـ3، كتاب الطب، ص 221. 7 رياض الصالحين، كتاب الأمور المنهي عنها، ص 558.

ثم دعا إلى المحبة؛ لأنها تضفي على حياة الناس البهجة والنشاط والفاعلية، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله"، قالوا يا رسول الله تخبرنا ما هم، قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" 1. ومن التوجيهات الخلقية للحياة الداخلية:القناعة والرضا، القناعة بما في يدك وعدم التطلع لما في أيدي الناس؛ لأن الغنى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" 2؛ لأن النفس بغير القناعة لا تشبع بالمال والعرض ولو ملكت الدنيا، وما دام المرء لم يشبع فإنه يشعر بالضيق والكآبة كأنه لا يملك شيئا، إذن ليس هناك وسيلة لإشباع النفس إلا امتلاك القناعة، ثم رضى المرء بما هو فيه له دور كبير في طمأنينة الحياة الداخلية؛ لأن عدم الرضا يؤدي إلى التبرم والضجر، وكما أن الرضا وسيلة لتهدئة النفس من الملمات والمصائب التي لا مخرج منها، فهو وسيلة أيضا للشعور بالغنى إذا رضي الإنسان بما في يده، ولهذا قال الرسول: "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" 3.

_ 1 التاج جـ 5، كتاب البر والأخلاق، ص 83. 2 المصدر نفسه، كتاب الزهد والرقائق، ص 166، صحيح مسلم جـ2 ص 326. 3 المصدر نفسه ص 167.

ووسيلة امتلاك الشعور بالرضا هي: أن ينظر الإنسان في المال والصحة إلى من هو دونه، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" 1. ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن في الأخلاق الإسلامية دعوة إلى الاتكال والتكاسل والدعة وإسقاط الهمم العالية، إذ أن هناك فرقا في التنافس بين ميدان وآخر. ففي ميدان الصحة والمال لا ينبغي التنافس والتباهي، بينما الأمر ممدوح في ميدان الفضائل الإنسانية ومكارم الأخلاق، فالمبدأ المذكور في حديث الرسول السابق ضروري لترضية النفس وتهدئتها، ولا يمنع ذلك من السعي إلى معالى الأمور مثل: الأعمال العلمية وعمل الخيرات ومكارم الأخلاق التي يمدح فيها الناس {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ،2 وفي ذلك فليتقدم من يشاء، وفيه قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} 3. ومن تلك التوجيهات أيضا دعوته إلى جعل الإرادة العاقلة الخيرة مسيطرة على أعمال النفس ونزعاتها وأهوائها، هذه الإرادة هي التي ينبغي أن تحكم قوى النفس ونزعاتها الأخرى مثل: قوة الغضب وقوة الشهوة، ومثل نزعة الانتقام والشح والأنانية. ومن هنا نرى الإسلام يدعو إلى تحكم الإرادة في هذه القوى، فدعا إلى

_ 1 المصدر نفسه ص 166. 2 المطففين: 26. 3 المدثر: 37.

التحكم في الغضب، فقال الرسول: "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" 1، ودعا إلى التحكم في الشهوة، فقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} 2، كما أمر بالتغلب على نزعة الانتقام وذلك بكظم الغيظ والعفو، وعلى نزعة الأثرة وذلك بالإنفاق على الفقراء في السراء والضراء، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3. وليس معنى سيادة الإرادة الخيرة الوقوف أمام نزعات الهوى والشر والقوى الأخرى في النفس فحسب، بل إن معناها أيضا استخدام هذه القوى وتسخيرها في سبيل تحقيق الخير، إن هذه الإرادة إذا سيطرت تصبح روحا توحي دائما بالخير، وتدفع الإنسان باستمرار إلى تحقيق الخير للناس بكل ما يستطيع، ومن ثم تصبح قوة موجهة نحو الخير ونورا يضيء جوانب النفس المظلمة، ثم يفيض منها فيستفيد منه الناس. عند ذلك يشعر الإنسان بأنه خيِّر، وذلك هو سبيل السعادة والطمأنينة النفسية، ولقد أدرك تلك الحقائق كثير من علماء النفس، فيقول مثلا الدكتور فيكتور بوشيه4: "إن السعادة الحقة في أن تكون راضيا عن كل شيء، وألا ترى من الأشياء إلا أجمل جوانبها، وألا تسيء بالقول إلى أحد من الناس، وألا تكره أي شخص أو تحسده على ما آتاه الله من فضله وأن تتقبل

_ 1 صحيح مسلم جـ4، كتاب البر والآدب، باب 30 حديث 106 ص 2014. 2 النازعات: 40-41 3 آل عمران: 134. 4 طريق السعادة للدكتور فيكتور بوشيه ص134.

الأحداث في غير سخط أو تبرم، وأن تبدو على الدوام باسم الثغر، وأن تسعى بجهدك إلى أن تنشر البهجة والسرور من حولك"1. ومن هذا كله نرى أن الإسلام قد جاء بمبادئ وجَّه بها النفوس البشرية إلى ما فيه سعادتها، وشفى ما فيها من أمراض هي سبب شقائها وتعاستها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} 2، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 3. وأخيرا يتبين لنا بوضوح أن الأخلاق الإسلامية تحاول إخضاع كل سلوك، ما ظهر منه وما بطن لروح الأخلاق التي جاء بها، وهي تستهدف من وراء ذلك صلاح الإنسان وسعادته في هذه الحياة، وإذا كان الأمر كذلك فإن مجال الأخلاق هو هذه الحياة كلها من حيث هي موضوع الأخلاق وغايتها معا؛ لأن من الأعمال الباطنية هي النيات والغايات، وهي إما تكون خيرة أو شريرة، والأعمال الظاهرة إما تكون خيرة أو شريرة، حسنة أو سيئة، نافعة أو ضارة، وعلى هذا الأساس فإن كل سلوك إما أن تدخل في الأخلاق الحسنة أو تدخل في الأخلاق السيئة من هذه المنطلقات، ولهذا يمكن القول بكل تأكيد: إن كل سلوك مجال أخلاقي وميدان من ميادينها.

_ 1 طريق السعادة للدكتور فيكتور بوشيه ص 134. 2 يونس: 57. 3 طه: 123.

الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية

الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية مدخل ... الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية إذا أردنا إبراز هذه النقطة قلنا: إن الأخلاق أمر لا غنى عنه؛ لأنها شرط في دوام الحياة الاجتماعية وتقدمها وتقدم الحضارة، وهي ضرورية أيضا لتحقيق السعادة للإنسان، وهذا أمر شديد الوضوح في الإسلام، وهي ضرورية باعتبارها علما من العلوم، وكل علم لازم للإنسان بدرجة أقل أو أكثر، وقبل أن نشرح النقطة السابقة يجدر بنا أن نبدأ بشرح هذه النقطة الأخيرة؛ لأن الأمر يطرح أمامنا سؤالا وهو: هل يمكن وصف الأخلاق بأنها علم؟ وما علاقته بالعلوم الأخرى؟

مدى علمية الأخلاق

أولاً: مدى علمية الأخلاق كنا تكلمنا عن الأخلاق باعتباره علما من العلوم، ونتكلم هنا عن مدى علميته وصلته بالعلوم الأخرى لتحديد أهمية هذا العلم. نحن نعرف أن العلم نظام من القوانين التي تجمعها صفة مشتركة مميزة، تخص ظاهرة من الظواهر الكونية أو مجموعة من هذه الظواهر، فعلم الجيولوجيا مثلا يبحث عن ظاهرة تركيب المواد الطبيعية في الأرض، والقوانين التي بموجبها يتم هذا التركيب، وتتكون هذه المادة أو تلك، وعلم الأحياء يبحث عن ظاهرة الحياة، والقوانين الخاصة بها، من حيث نشأة الحياة وتطورها من الناحية الإيجابية والسلبية، وهناك علوم أخرى تبحث عن الأشياء غير المرئية كعلم المنطق الذي يبحث في ظاهرة التفكير وقوانينها الخاصة بها، وهكذا فكل علم من

العلوم يخص ظاهرة معينة من هذا الوجود. ولننظر الآن إلى الأخلاق عم تبحث؟ لقد ذكرنا سابقا أن موضوع الأخلاق هو السلوك الإنساني، وعرفنا علم الأخلاق بأنه علم الخير والشر1. وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع من زاوية الوضعية العلمية نجد فيه عنصرين بازرين: عنصر السلوك العملي الموضوعي، وعنصرا معياريا، وهو مفهوم "ينبغي". وكان هذا سببا لاختلاف المفكرين في موضوعية الأخلاق أو عدم موضوعيتها، وما يتبع ذلك من علمانية الأخلاق أو عدم علمانيتها. الحقيقة أن هذا الموضوع من الموضوعات المعقدة في الدراسات الأخلاقية، وأسباب ذلك ترجع إلى أن الأخلاق لها صلة بالعلوم وقوانينها، كما أن لها صلة بالأديان والعادات والقوانين الاجتماعية، ثم تعقد الظواهر الأخلاقية بصفة خاصة. وربما تتجلى لنا في هذه الحقيقة بصورة أوضح إذا درسنا طبيعة القوانين الأخلاقية وصلتها بالقوانين الطبيعية، وبالقوانين المنطقية الرياضية، ثم القوانين الوضعية باعتبار أن كل مجموعة من هذه القوانين تمتاز بصفات خاصة بها تختلف عن الأخرى. فالقوانين الطبيعية تكشف عن العلاقات بين الأشياء أو الظواهر، وقد تكون هذه العلاقات سببية، وهي الخاصة بالتغيرات التي تحدث بين ظاهرتين، بحيث يؤدي التغير في خواص إحداهما إلى تغير في الأخرى باطراد، مع اعتبار إحداهما مقدمة للأخرى.

_ 1 اختلف الدارسون في تعريف علم الأخلاق في الأقوال الآتية: 1- علم العادات 2- علم الواجبات 3- علم الإنسان 4- علم الخير والشر 5- علم دراسة الفضائل "العقيدة والأخلاق ص188".

وقد تكون تلك العلاقة وظيفية بمعنى أن يوجد ترابط بين ظاهرتين من حيث التواجد والتغير معا، دون أن تعد إحدهما سببا أو مقدمة والأخرى نتيجة. وأخيرًا قد تكون تلك العلاقة مجرد اقتران في الوجود دون أن تكون إحداهما سببا أو شرطا لأخرى، واطراد العلاقة أو القانون في العلاقات الوظيفية أكثر منه في العلاقة السببية وعلاقة الاقتران، إذ إن هاتين الأخيرتين تقبلان الاستثناء دون الأولى. أما القوانين الرياضية فهي: قوانين عقلية تعبر عن العلاقات المجردة التي يستنبطها العقل من خواص الأعداد والسطوح أو الأشكال التي يبتكرها؟ والفرق بين القانونين الرياضي والطبيعي هو أن الأول لا يربط السبب بالنتيجة، كما هو الشأن في الثاني، وإنما يربط كمين يعادل أحدهما الآخر1. وهناك فرق آخر وهو أن القوانين الرياضية ضرورة تصورية وواقعية أي عقلية وتجريبية معا، بينما القوانين الطبيعية ضرورة واقعية فقط، مثال ذلك إذا اجتمع قدر معين من الأكسجين بمقدار معين من الأيدروجين فإنه بالضرورة يتكون منه ماء، فهذا التركيب يخضع للتجربة ولا يخضع للمنطق، وبالتالي فهو ضرورة تجريبية وليس ضرورة عقلية. والصفة المشتركة بين القوانين الطبيعية والرياضية أنها مطردة، ولهذا يجب أن تراعى وتطاع في كل الأزمنة والأمكنة2. وأما القوانين الوضعية أو المدنية فهي قوانين قد سنها المشرع المدني ليحدد

_ 1 المنطق الحديث ومناهج البحث، الدكتور محمود قاسم، ص194، 200 - 201. 2 الفلسفة الأدبية أو علم الأخلاق، حنا أسعد، ص1وما بعدها.

بها سلوك الشعب نحو حكومته، وسلوك الحكومة نحو الشعب، أو الأفراد بعضهم تجاه بعض فيما يتعاقدون عليه، ولها صفتان مخالفتان لصفات القوانين الطبيعية والرياضية: الأولى أنها قوانين عملية تقرر ما ينبغي عمله وليس ما هو حاصل بالطبع، فهي إذن آمرة فقط، والثانية أنها اصطناعية أي: وضعية؛ لأنها لم تصدر عن طبيعة الاشياء، ولهذا فهي ليست ثابتة بل تتغير وتتعدل باختلاف الأزمنة والأمكنة وباختلاف الواضعين. أما القانون الأخلاقي فيشترك مع هذه القوانين المدنية والمنطقية والطبيعية، فاشتراكه مع القوانين الأولى في الصفة الآمرية، أي: أنها تأمر بالفعل وليست مجرد صيغة تعبر عن واقع، واشتراكه مع الثانية في أنه معقول يأمر به العقل، فهو لذلك ضرورة عقلية، واشتراكه مع الثالثة في أنه يصدر عن طبيعة الإنسان ويعتمد على قوانين الحياة، فهو لذلك يشبه القانون الطبيعي الذي يعبر عن طبيعة معينة، ويتميز القانون الأخلاقي عن هذه القوانين بأنه ليس صارمًا كالقوانين الطبيعية المجبرة على الخضوع لسلطانها، بل إنه يعطي الحرية للإنسان في أن يخضع له أو يخالفه، وإن كان يعاقب المخالف بطريقة أو بأخرى1. وهناك جانب آخر مشترك بين العلم والأخلاق وهو الكشف عن الخير والشر، وتزيد الأخلاق في البحث عن وسائل الإلزام بالخير والابتعاد عن الشر. هذه المناقشة أفادتنا في بيان العنصر الموضوعي في القوانين الأخلاقية، وما لهذه القوانين من صفات تتميز بها عن غيرها وصفات أخرى تشترك فيها مع غيرها.

_ 1 الفلسفة الأدبية أو علم الأخلاق، حنا أسعد، ص5 وما بعدها.

أما الجانب المعياري أو غير الموضوعي في نظر الوضعية العلمية، فإنه لا زال يحتاج إلى مناقشة وتوضيح، الحقيقة أن تعريف الأخلاق بأنها الصورة التي ينبغي أن يكون عليها السلوك الإنساني أمر فيه غموض، ذلك أن الأخلاق من حيث السلوك ظاهرة مادية حية؛ لأن هذا السلوك صادر من كائن حي لدوافع معينة بيولوجية أو سيكولوجية، ولكن من حيث إنه سلوك كما ينبغي أن يكون فإنه ليس ظاهرة مادية وليس في إمكاننا إرجاعه -من هذه الزاوية- إلى أحد القوانين البيولوجية أو الفسيولوجية أو السيكولوجية أو الطبيعية الإنسانية عموما، أن كلمة "ينبغي" تفيد المعيار، وهذا المعيار عنصر هام في مفهوم الأخلاق؛ لأن الأخلاق بدونه تكون سلوكا لا يتميز عن سلوك الحيوان، ولأنه هو الذي يدفع الإنسان إلى تكييف سلوكه وفقا لمفهومه، لكن ما حقيقة هذا المفهوم المعياري أو العنصر المعياري في الأخلاق ومن أين جاء إليها ومن أين أخذ هذه السلطة التي بها يفرض نفسه علينا؟ الحقيقة أن تحديد ذلك ليس أمرا سهلا، إذ إنه يعد من أصعب الأمور في التفكير الأخلاقي، إنه ليس أمرا موضوعيا نقسيه بالمقاييس الموضوعية، ولهذا فإن تحديده من الناحية العقلية الصرفة صعب للغاية؛ لأن هذا التحديد يخضع للاتجاهات الفلسفية -كما ذكرنا- ومن هنا نجد الاختلافات الكثيرة بين الفلاسفة في هذه النقطة بالذات، ثم إن تحديده يتوقف على الدراسات الأخرى، مثل دراسة الطبيعة الإنسانية، وإذا كانت هذه الدراسة قد تقدمت بصورة مذهلة من الناحية البيولوجية فإنها تعتبر في مؤخرة الدراسات من الناحية السيكولوجية، والعنصر المعياري يتوقف على هذه الدراسة الأخيرة كما يتوقف على الدراسات

الفلسفية والدينية والاجتماعية1، ولهذا فإن هذا الجانب من الأخلاق لا زال غامضا، مفتقدا للتحديد ومتزعزعا غير ثابت على أسس متينة. غير أن هذا وذاك لا يدلان على عدم وجود معيار موضوعي ثابت في ذاته، ومهما يكن من أمر وضع هذا المعيار فإنه موجود كفكرة عامة من غير تحديد في أذهان الناس من قديم الزمان إلى يومنا هذا، فمن قديم الزمان يعمل الناس تحت الواجب وما ينبغي، وإن كانوا لم يستطيعوا حتى اليوم تحديد هذا المفهوم المعياري وبالرغم من غموض هذا المفهوم وعموميته فإنه يساعد على التقدم في الحياة الحضارية والاجتماعية. ومهما يكن أمر هذا الخلاف في موضوعية الأخلاق أو عدم موضوعية جانب منها على الأقل، وما يتبع ذلك من خلاف في علمانية الأخلاق أو عدم علمانيتها، فإن الأمر في نظري هو: أن الأخلاق علم يدرس ظاهرة السلوك الإنساني من حيث منابعه ودوافعه وغاياته، ويحدد القيم والقواعد العملية التي يجب مراعاتها في السلوك أيا كان لون هذا السلوك أو شكله، كما يدرس وسائل الإلزام والالتزام بالسلوك الخيِّر ووسائل الابتعاد عن السلوك الشر. من هنا يدخل في الدراسات الأخلاقية دراسة الطبيعة البشرية من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والسيكولوجية من حيث صلتها بالسلوك، وتدخل كذلك الدراسات الدينية والاجتماعية من حيث إنها دافعة إلى السلوك الخيِّر، ومفهوم العلم -كما يقول الدكتور توفيق الطويل- لم يعد ضيقا يشمل الدراسات القائمة على أساس الاستقراء فقط كما كان في عصر أوجست كونت،

_ 1 علم العادات الأخلاقية، ليفي بريل، الفصل الثاني.

بل إن معناه اتسع فأصبح شاملا كل دراسة منهجية منظمة ترمي إلى معرفة الحقائق وتفسيرها في ضوء منهج استقرائي أو استباطي أو نحوه، وبهذا دخلت في نطاقه دراسات جديدة لا تعتمد على التجربة والملاحظة1، ومن ضمن هذه الدراسات في رأيه الدراسات الأخلاقية غير أنه ينبغي أن نلاحظ دائما أن طبيعة الدراسة الأخلاقية تختلف عن طبيعة الدراسات الأخرى وخاصة العلوم الطبيعية؛ لأنها تخضع لقوانين خاصة بها، ولهذا يقول "ليفي بريل": "إن الظواهر الأخلاقية تخضع لقوانين خاصة بها كالظواهر الطبيعية الأخرى، وإن كان هناك اختلاف بين طبيعة هذه الظواهر وتلك"2، ولهذا من الخطأ تقويم علمانية الأخلاق من زاوية العلوم الطبيعية أو أن نفسر الحياة الخلقية أو الظواهر الخلقية بالطريقة نفسها التي نفسر بها الصفات الجيولوجية؛ لأن وظيفة الأخلاق تختلف عن وظيفة العلوم الطبيعية، إذ إن وظيفة الأولى الكشف والتقويم والتوجيه والإلزام، ولهذا كانت أهمية علم الأخلاق أكثر من أي علم آخر. وستظهر هذه الحقيقة في الموضوعات الآتية بصورة واضحة، وقد أدرك أفلاطون هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، حيث قال: "ليست المعرفة وإن احتوت جميع العلوم هي التي تخلق السعادة وتجلب الرفاهية ولكن الذي يخلقها فرع واحد لا أكثر من فروع المعرفة هوعلم الخير والشر"3.

_ 1 الفلسفة الأخلاقية للدكتور توفيق الطويل، ص 261. 2 الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ليفي بريل. ت. الدكتور محمود قاسم. 3 التربية لعالم حائر ص 33.

مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء

مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء ... ثانيا: مكانة الأخلاق وأهميتها في إطار التفكير العلمي بعد ذلك ننتقل إلى شرح نقطة أخرى وعدنا ببيانها في مقدمة هذا القسم وهي: ضرورة الأخلاق لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها وتقدم الحضارة، وقد قلنا: إن ضرورة دراسة الأخلاق لا ترجع إلى أنها علم كبقية العلوم بقدر ما ترجع إلى أنها من ألزم العلوم للحياة الإنسانية، فهي تميز بين سلوكين أحدهما يحقق الخير، ويقود ثانيهما إلى الشر، ثم تبين كيف يمكن أن يسلك الإنسان طريق الخير وأن يتجنب طريق الشر، إذ قد يعلم المرء الخير ولكنه لا يدري كيف ينتهي إليه، ويعرف الشر في سلوك ما ويعجز عن تجنبه. ومن ثم ندرك أن للأخلاق وظيفتين هامتين: أولاهما المعرفة والثانية التربية، ولا شك أن الإنسان بقدر ما يحتاج إلى المعرفة يحتاج بالقدر نفسه إلى التربية، وتشترك المعرفة والتربية في أنهما لا تتمان دون جهد أو معاناة، وتستغرقان فترة من الزمن قد تطول أو تقصر، كذلك ترمي المعرفة والتربية إلى غاية واحدة وهي: كمال الإنسان الذي لا يتحقق إلا بالجمع بين هذين الأمرين. والأخلاق تحقق للإنسان تقدمين: أحدهما حضاري والآخر تقدم اجتماعي، وكلا التقدمين لا يمكن أن يتم إلا باتباع الطريقتين السابقتين: طريق المعرفة وطريق التربية، فالمعرفة تبني الحضارة وتقدم للإنسان اكتشافات علمية وذهنية، والتربية تساعده على توحيد ذاته وبناء شخصية قوية تيسران له تحقيق الخيرات للإنسانية، ولا يبالي المرء في سبيل ذلك ما يعانيه من جهد، وما يصادفه في طريقه من العوامل المعوقة، سواء كان مصدر هذه العوامل راجعا إلى الظروف الداخلية أو الظروف الخارجية.

ومهما يكن من وجود انفصال ظاهري بين التقدمين إلا أنهما في الحقيقة متصلان أشد الاتصال، ذلك أن هناك جانبين للتقدم الاجتماعي: أحدهما معنوى وهو يتمثل في أساليب التعامل الاجتماعي مثل العدالة والمساواة والتعاون والأمانة والإخلاص والصدق والعفة والاحترام للحقوق المادية والأدبية، والنزاهة والإخاء والمحبة والمودة، وما إلى ذلك. وأما الجانب الآخر فهو مادي وهو يتمثل في الابتكارات العلمية والإنتاجات الصناعية، والتقدم المعماري والفني، وكل ذلك يحقق الخير للإنسان، ويعد عملا خيِّرا طالما كان يهدف إلى هذا الخير الإنساني فهو أخلاق؛ لأن الأخلاق تدعو إلى الخير وتكشف للإنسان طريق الخير ووسائله. وليس هناك علم آخر يمكن أن يحقق هذا، ذلك أن قوانين العلوم الأخرى -كما أشرنا إليها- عبارة عن صيغ تقريرية، بينما نرى القوانين الأخلاقية بالإضافة إلى هذه الصفة تتسم بأنها قوانين تأمر وتوجه، وتحمل في نفسها قداسة وسلطة في نفوس الناس، وبذلك تدفعهم إلى السير نحو اتجاه معين في الحياة هو اتجاه التقدم في بناء الأفراد وبناء المجتمع، ثم بناء الحضارة على أسس أخلاقية وعلمية صحيحة. وهذه الأمور التي تحققها الأخلاق هي وسيلة إلى تحقيق السعادة في مختلف مستوياتها؛ لأن السعادة تعد نتيجة للتكامل، ونعني به التكامل في بناء الذات عن طريق إقامة الوحدة والاتساق بين الميول المختلفة وتوجيهها وجهة صحيحة في الحياة، ولا بد من وجود الوحدة كذلك في ذات المجتمع وهي ضرورة لازمة في بناء الفرد وفي بناء المجتمع، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان متكاملا

بذاته إذا كان المجتمع يعيش فيه مفككا ومتشتتا فاسدا، ولا يمكن أن يشعر الفرد بالسعادة المطلوبة مهما كان بناؤه الشخصي سليما، طالما كان المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعا مريضا، هذا إلى أنه لا بد من تحقيق التكامل في متطلبات الإنسان المادية، ويتم ذلك عن طريق التقدم العلمي؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الرخاء والرفاهية والحضارة. هذا التكامل القائم على تلك الأركان الثلاثة هو الذي يؤدي إلى السعادة بكل ما تتضمن هذه الكلمة من معنى. والأخلاق -بناء على هذا التقرير- هي الطريق إلى السعادة سواء كانت هذا السعادة الهدف المباشر للأخلاق أم لم تكن، فإذا كانت للأخلاق هذه الأهمية فلماذا لم تحظ بما كان ينبغي لها من دراسة وبحث، وإذا كان لها هذا الدور الاجتماعي والحضاري فلماذا اختلف المفكرون في الأخلاق ذلك الاختلاف الطويل العريض، وذهبوا فيها مذاهب متعددة؟ السبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم إعطاء كثير من الدارسين تلك الأهمية للأخلاق، كما أن طبيعة الدراسات الأخلاقية ووجود العنصر الذاتي فيها يستلزم ذلك. ويمكن حصر خلافات هؤلاء في ثلاثة جوانب: الجانب الفلسفي وجانب المادة الخلقية، والجانب التطبيقي1. فالاختلاف وقع أكثر ما وقع في الجانب الفلسفي، والسبب في ذلك محاولة كل فلسفة إخضاع فلسفة الأخلاق لاتجاهها الخاص، وهناك كثرة من هذه

_ 1 وقد حصر ليفي بريل نقطة الخلاف على الجانب النظري بعد أن قسَّم الأخلاق إلى نظري وعملي. انظر الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية ص90.

الاتجاهات الخاصة. أما جانب المادة الأخلاقية فهو على مستويين: الأول مستوى الأصول الأخلاقية وهو عبارة عن القوانين أو المبادئ الأخلاقية العامة التي أثبتت صحتها التجربة الإنسانية، وهي لذلك ثابتة ومتفق عليها مثل: خيرية الصدق والأمانة واحترام الحقوق والعهود، وشرية الكذب والخيانة، والتعدي على الحقوق، والثاني مستوى الفروع، وهي قد تكون موضع خلاف بين المذاهب والحضارات، وهذه الفروع المختلف فيها ليست من الأخلاق في حقيقة الأمر، وإنما هي ترجع إلى بعض العادات الاجتماعية والتقاليد الدينية التي اختلطت مع الفروع الأخلاقية المختلفة، وهي التي تميز أخلاق الشعوب بعض التميز عن أخلاقيات الشعوب الأخرى، فنجد للهنود مثلا أخلاقيات خاصة وللصينين كذلك. ومن ثم كان لذلك الدور الكبير في الاختلاف في التطبيق العملي، وهو الجانب الأخير من الأخلاق الذي أشرنا إليه سابقا، والسبب في ذلك الاختلاف هو محاولة إخضاع هذا التطبيق للفلسفات والأديان والمبادئ السياسية والاجتماعية الخاصة لكل ملة أو مجتمع، فلو أننا سألنا مثلا أي إنسان في الشرق أو في الغرب هل القتل والسرقة والكذب خير أن شر؟ لأجاب أنه شر، ولكنه في بعض الحالات العملية يبيح هذا وذاك، وهذه الحالات تختلف عن الحالات التي يبيحها إنسان آخر ينتمي إلى مجتمع آخر، وهكذا نجد أن الاتجاهات والفلسفات والعادات هي التي تشوه حقائق الأخلاق، وتجعلها مثار خلاف في موضوعيتها، وذلك بالرغم من اتفاق الأديان السماوية، وكبار الفلاسفة والعلماء في الأخلاق الأساسية، وبيان ضرورتها للحياة.

مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام

ثالثا: مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام: إن أهمية الأخلاق للحياة الإنسانية في نظر الإسلام أكثر من أهمية العلوم الأخرى، ولذلك جعل الأخلاق مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فيعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} 1، {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} 2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 3، ويكافئ الأبرار الصالحين بالجنة ويعاقب الفجار والأشرار بالنار يوم القيامة {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 4، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"، وسأل رجل مرة الرسول، أي المسلمين خير؟ فقال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" 6، وقد قرن الله تعالى بر الوالدين والشكر لهما بالشكر له وبعبادته فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 7، وعد عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأكبر الكبائر"، قالوا: نعم، قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقتل النفس" 8.

_ 1 يونس: 13. 2 الأحقاف: 35. 3 هود: 117. 4 الانفطار: 13-14. 5 رياض الصالحين، باب حسن الخلق ص 273، والمتفيهق: المتكبر. 6 صحيح مسلم جـ2، باب بيان تفاضل الإسلام ص10. 7 لقمان: 14. 8 صحيح مسلم باب أكبر الكبائر، ص82-83.

ولم يجعل هذه الأهمية للعلم، إذ لا يعاقب الله الإنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه جاهل بل يعاقب العالم غير المتخلق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل -وفي رواية"بالعالم"- يوم القيامة فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه" 1. لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن الإسلام يفضل الجاهل على العالم بصفة عامة، إذ لا شك في أن العالم المتخلق أفضل من الجاهل المتخلق، لهذا قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 3. ولا شك في أن الجاهل المتخلق أفضل من العالم الفاسد؛ ذلك أن العالم الفاسد أكثر فتكا بالمجتمع من الجاهل الفاسد، إذ إن ضرر الثاني محدود لا يتجاوز حدود أفراد معينين، أما العالم الفاسد فإنه يستطيع أن يفسد المجتمع بأسره بل المجتمعات بأسرها، ولهذا اعتبر الرسول العالم الفاسد أشر الناس، وبيَّن أن هلاك الأمة يكون بسبب العلماء الفاسدين فقال: "شرار الناس شرار العلماء في الناس" 4، وقال أيضا: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" 5. من هنا نرى أن الإسلام أخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية، سواء كان في ميدان البحث أو في ميدان نشر العلم وتقديمه للناس واستعمالاته، مثل

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي جـ 18 ص 118، كتاب الزهد. 2 المجادلة: 11. 3 سورة الزمر: 9. 4 الجامع الصغير جـ2 ص39. 5 سنن الترمذي جـ3 ص 342، كتاب الفتن.

مبدأ الإخلاص والإتقان والأمانة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما لغير الله أو أرد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" 1، وقال: "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتى، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه" 2، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} 3، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" 4، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 5. والسبب في اهتمام الإسلام بالأخلاق هذا الاهتمام كله هو أن الأخلاق أمر لا بد منه؛ لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المادية والمعنوية، وذلك حق لا يماري فيه من يتأمل المبادئ الأخلاقية ومدى ضرورتها للحياة الإنسانية، ولنتصور حياة مجتمع ماذا يحدث فيها لو أهملت المبادئ الأخلاقية، وسادت فيها الخيانة والفسق والكذب والغش والسرقة وسفك الدماء والتعدي على الحرمات والحقوق وزالت كل المعاني الإنسانية في علاقات الناس، من المحبة والمودة والنزاهة والتعاون والتراحم والإخلاص، فهل من الممكن أن تدوم الحياة الاجتماعية في هذه الحالة؟! لا شك في أن الحياة عندئذ تتحول إلى جحيم لا يطاق، ويتحول الناس إلى وحوش ضارية أكثر من وحوش الغاب، ويشقون شقاء ما بعده شقاء؛ لأن الإنسان بحكم طبيعة خلقته بحاجة إلى الغير، وفي طبيعته نزعة التسلط والتجبر والتكبر

_ 1 التاج جـ1، كتاب العلم، ص74. 2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص73. 3 الإسراء: 36. 4 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 67. 5 آل عمران: 187.

والأنانية والانتقام، فإذا استخدم هذه القوى في الفساد أهلك الحرث والنسل، وصدق الله العظيم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} 1، ولهذا فإن الإنسان بحاجة إلى نظام خلقي يحقق له حاجته الاجتماعية، ويقف أمام ميوله ونزعاته الشريرة، ويوجهه إلى استخدام قواه في ميادين يعود نفعها على نفسه وعلى غيره بالخير؛ ولهذا أمر بالتعاون الاجتماعي في تحقيق الخيرات، ونهى عن التعاون في الإثم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2، ونهى عن القتل بكل شدة حتى قتل الإنسان نفسه؛ لأن القتل في نظره تعدٍّ على الحياة، ثم إنه لا يعتبره تعديا على حياة فرد وإنما يعتبره تعديا على حياة الناس كافة، قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} 3؛ لأن التعدي على الجزء يعد تعديا على الكل، وكذلك إنقاذ الجزء يعد إنقاذا للكل. ولم يحرم القتل فقط بل حرم أيضا كل الأمور التي قد تؤدي إلى القتل، وذلك حماية للحياة؛ ولذا نراه ينهى عن إثارة الفتنة بأي شكل من الأشكال؛ لأن الفتنة أحيانا لا تؤدي إلى قتل فرد فحسب بل تؤدي إلى تقتيل وإراقة دماء الكثيرين، ومن ثم اعتبر الفتنة أشد من القتل وأكبر منه؛ ولهذا قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 4، وفي آية أخرى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 5، وللوقوف أمام إراقة الدماء قرر الإسلام أن من قتل غيره عمدا يقتل، وهذا زجر رادع عن التشبث بالقتل؛ لأن الشخص الذي يقدم على القتل إذا عرف أنه سيقتل بدل هذا القتل ولا يفتدي نفسه بأي شيء آخر

_ 1 البقرة: 205. 2 المائدة: 2. 3 المائدة: 32. 4 البقرة: 217. 5 البقرة: 191.

يدرك عندئذ أنه بذلك يقتل نفسه فيرتدع عن الإقدام عليه؛ ولهذا قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 1، والقصاص يقتضي إجراء الضرر في المعتدي بالقدر الذي أجراه في المعتدى عليه، والسر في ذلك هو الحد من نزعة الانتقام وإيقاف الفتن؛ لأن الإِنسان إذا اعتدي عليه ولحق به من جراء ذلك ضرر يحاول أن يعتدي أكثر مما اعتدي عليه، وأن يلحق ضررًا بالمعتدي أكثر مما لحق به، وذلك تكبرا وتجبرا، فإذا اعتدى عليه واحد من قوم يتعدى على القوم كله، وإذا أريق من دمه يريق دم المعتدي كله، وإذا قتل واحد من قومه يحاول قتل قوم القاتل، وبذلك تستحيل الحياة، والقصاص يحفظ الحياة، وصدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 2. ثم إن الإسلام دعا إلى العفو وهو فضيلة أخلاقية هامة في الحياة؛ إذ إن العفو يؤدي إلى إزالة الأضغان والأحقاد وينقذ حياة الناس؛ ولهذا حبب الإسلام إلى الناس العفو والصفح حتى في القصاص {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 3، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، ولم يدع الإسلام إلى العفو فحسب بل دعا أيضا إلى معاملة السيئة بالحسنة؛ لأنها أكبر عامل خلق المودة بين الناس؛ ذلك أن الإنسان المسيء عندما يرى الإحسان ممن أساء إليه يزيد تقديره

_ 1 المائدة: 45. 2 البقرة: 179. 3 الشورى: 40. 4 البقرة: 178.

لذلك الإنسان ويَكْبُر إعجابه به، ثم يلين قلبه ويتحول عما في نفسه إلى مودة له، ومن ثم ينظر إلى الإساءة بالبشاعة والقبح؛ ولهذا قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، وإذا تذكرنا هنا موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع المسيئين إليه أدركنا تماما أثر العفو في جمع الناس وتأليفهم في الحياة العملية وتقديرهم للإنسان الذي يعفو ويصفح عن الناس، ونحن نعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- طرد وشرد وأبعد عن أهله في مكة، وغادر مكة بعد مؤامرة دبرت لقتله لا لأنه أساء إلى الناس أو قتلهم وإنما؛ لأنه كان يدعو إلى الفضيلة وإلى طريق الحق، ولما عاد إلى مكة يوم الفتح قاهرا ظافرا بجيشه الجرار قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" 2، وبمثل هذه المواقف الكريمة جمع الرسول الناس حوله وألف بين الناس، ولو كان فظا غليظا لما استطاع إلى ذلك سبيلا، وصدق الله العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 4. ومن المبادئ الأخلاقية شديدة الصلة بالحياة الصبر، فالصبر طاقة تزيد الإنسان قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة الصعاب وشدائد الحياة، والصبر أنواع: منها الصبر على المصائب والصبر على أداء الواجبات والصبر على الشهوات والأهواء، ويطول بنا المقام لو تكلمنا على كل واحد بالتفصيل، ولهذا فالأنسب أن نختار النوع الأول باعتباره أهم نوع يتصل بموضوعنا، ومن أهم عنصر في

_ 1 فصلت: 34. 2 سيرة النبي لابن هشام جـ4 ص 870. 3 القلم: 4. 4 آل عمران: 159.

الإسلام يسلح الإنسان بالصبر هو عنصر الإيمان، الذي يعد أساسا في الأخلاق الإسلامية، والإيمان بالله واستمداد العون منه وانتظار الثواب منه على الصبر على المصائب باعتبارها امتحانا منه أو تكفيرا للسيئات، فالإيمان يهون على الإنسان تلك المصائب؛ ولهذا كان الرسول يدعو الله ويقول: "وأسألك من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا" 1، والصبر على البلايا من الأمور العظيمة، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} 3 وجزاء الصبر عظيم غير مقدر ويعطي الصابر أجرا بغير حساب، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4، والصبر وسيلة النجاح في الحياة والوصول إلى المقاصد؛ لأنه قوة يحقق بها الإنسان أعمالا فوق طاقته الطبيعية، قال تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 5، وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 6، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، وقد تظهر قيمة فضيلة الصبر بصورة أكثر وضوحا عندما نتصور مصير غير الصابرين عند الشدائد والمصائب في الحياة، إذ إننا نراهم يصابون فيها بأمراض مختلفة وخاصة الشلل والذبحة الصدرية والخلل العقلي وقد يؤدي الأمر بهم إلى الانتحار، فالجزع لا يؤدي إلى الفشل في الحياة وعدم إنجاح المقاصد فحسب بل إلى انعدام الحياة وزوالها؛ ولهذا قال الرسول: "ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" 8، ولما كان الصبر يجعل

_ 1 التاج جـ5 ص 120، كتاب الأذكار والأدعية. 2 لقمان: 17. 3 محمد: 31. 4 الزمر: 10. 5 الأنفال: 65. 6 البقرة: 249. 7 السجدة: 24. 8 التاج جـ5، كتاب البر والأخلاق، ص51.

الإنسان يتحمل صعوبات الحياة ببسالة وشجاعة، وعدم الصبر يؤدي إلى حياة ضيقة مظلمة، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الصبر ضياء" 1؛ لأنه يضيء الحياة أمام المرء؛ لأن الإسلام لا يتحقق إلا بأمرين: أولهما الإيمان فيما يجب الإيمان به، وثانيهما العمل بمقتضى ذلك الإيمان والعمل يعتمد على الصبر، ولهذا فمن شأن المسلم أن يكون صابرا مهما كانت المصائب فاجعة، ومن شأن الكافر أن يكون هلوعا جزوعا تهلكه المصائب؛ ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق " وفي رواية الكافر وفي أخرى الفاجر " كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة" 2، هنا نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعبر تعبيرا دقيقا بطريق التشبيه عن حالة المؤمن عند المصائب وحالة الكافر، فالأول يكون كالزرع الرطب ينحني عندما تهب الرياح ولا ينكسر ثم يعتدل عند زوالها، بينما الثاني يكون كشجرة الأرزة لا تساعد طبيعتها على الانحناء ومن ثم تنكسر عندما تأتي الرياح الشديدة عليها وتنهار أمامها. وهكذا نجد الإسلام يزود الإنسان بالطاقة الحيوية التي تمكنه من أن يحيا حياة طبيعية في أحرج الظروف، كما يستطيع بها أن يحيا حياة أبدية في الآخرة؛ ولهذا سمى الإسلام دعوته الحياة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 3، وكذلك {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} 4. ومن أهم المبادئ الأخلاقية المتصلة بدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها مبدأ

_ 1 جامع الترمذي، كتاب الدعوات، جـ5 ص 177. 2 فتح الباري بشرح البخاري ج12، كتاب المرض، ص 210. 3 الأنفال: 24. 4 الأنفال: 42.

العدالة ومفهوم العدالة في الإسلام هو إعطاء كل ذي حق حقه، وفي نظر الإسلام أن لله على الإنسان حقوقا، كما أن لنفسه ولغيره عليه حقوقا، مصداق ذلك ما جاء في الحديث: "إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فاعطِ كل ذي حق حقه" 1. وحق الله على الأنسان هو الاعتراف بربوبيته وما يترتب عليه من الشكر والعبادة له، وحقوق النفس على الإنسان هي تحقيق متطلباتها الضرورية، وقد شرحنا ذلك كله في الموضوعات السابقة، وأما حقوق الغير على الإنسان فهي تتمثل بصورة عامة في احترام حقوقهم الطبيعية المادية منها والأدبية في تنفيذ العهود المبرمة، ثم عدم استغلال أي إنسان أو اتخاذه غرضا، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذن أحدا من خلق الله غرضا فيجعلك الله غرضا" 2، وقال عندما سألوه بعد ما ذكر كيف أن الله غفر للرجل الذي سقى الكلب العطشان، يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ فقال: "نعم في كل كبد رطبة أجر" 3، هنا نجد المبدأ الإسلامي أكثر سموا وشمولا مما دعا إليه "كانط" عندما قال: "عامل الإنسانية بوصفها غاية في ذاتها ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"4، بينما الإسلام يدعو إلى عدم اتخاذ أي مخلوق وسيلة حتى الحيوانات، وتبعا لذلك قرر الإسلام الحقوق على الإنسان لغيره، ولقد حدد الرسول أهم حقوق الإنسان التي يجب مراعاتها وهي حق المال والعرض والكرامة الإنسانية فقال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، التقوي ها هنا بحسب

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ4، كتاب الصوم، ص208 حديث 1967. 2 فيض القدير جـ6 ص 388. 3صحيح مسلم جـ4 ص 1761 كتاب السلام. 4 تأسيس فيتافيزيقا الأخلاق ص 73.

امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" 1. ثم إن الإسلام لم يكتفِ بتقرير الحقوق والواجبات نحو الغير بل دعا إلى تجاوز حدود الواجبات في المعاملة الخيرة، واعتبر كل عمل وكل إحسان إلى الغير صدقة حتى التبسم في وجوه الآخرين، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" 2، وجاء في رواية أخرى "والكلمة الطيبة صدقة" 3، بل أكثر من هذا فقد عد الإسلام كل إحسان إلى أي مخلوق حي صدقة، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "في كل ذات كبد رطبة أجر" 4، ولهذا كله قال: "كل معروف صدقة" 5. والعدالة أنواع: عدالة الحاكم وعدالة الفرد العادي، فالحاكم عليه أن يبحث عن الحقوق الضائعة ويعطيها أهلها ويأخذ من الظالم ويعطي المظلوم حقه، ثم عليه أن يكافئ الناس على حسب أعمالهم وجهودهم، وهذا هو عدل الحاكم بين الناس، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 6، وأن يحكم بما أنزل الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 7، وفي آية أخرى وصف هؤلاء الذين لا يحكمون بما أنزل الله بالكفر وفي الثالثة بالظلم8.

_ 1 رياض الصالحين، باب تحريم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم، ص 121. 2 تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي جـ6 باب ما جاء في صنائع المعروف ص89، انظر صحيح مسلم جـ 2 ص 697 تجد كثيرا من الأحاديث من هذا القبيل. 3 رياض الصالحين، باب بيان كثرة طرق الخير، ص71. 4 المرجع نفسه ص 73. 5 الجامع الصغير جـ2، ص 94. 6 النساء: 58. 7 المائدة: 47. 8 انظر سورة المائدة: 44-45.

وأما عدالة الفرد العادي فهي إعطاء ما لغيره عليه، وأن يقول الحق إذا حكم أو طلب منه الشهادة أو أراد الإصلاح {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2، والعدالة تقتضي الأمانة والنزاهة والإخلاص {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 3، {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} 4، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} 5. وهكذا يأمر الله بالعدالة كل إنسان في فعله وقوله بحسب مسئوليته ومجال إدارته {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 6، وذلك كله لتسود العدالة المجتمع كله، ولا شك في أن كل إنسان إذا طبق العدالة في نفسه وفي غيره، وإذا نفذ الحاكم العدالة بالسلطة فلا بد من أن تسود العدالة حياة المجتمع. وسيادة العدالة حياة المجتمع تؤدي إلى سيادة الأمن والمحبة والمودة والاستقرار والنشاط العملي والفكري في حياة المجتمع، وهذا بدوره يؤدي إلى ازدهار الحياة المدنية، وانعدام العدالة يؤدي إلى انتشار الرعب والحقد والاضطرابات والتناحر وقلة الإنتاج، يقول الماوردي: "إن العدل الشامل يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من

_ 1 الأنعام: 152. 2 المائدة: 8. 3 البقرة: 283. 4 البقرة: 282. 5 المائدة: 8. 6 النحل: 90.

الجور"1, ولهذا أمر الله بالعدالة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. ولقد بين ابن خلدون كيف أن ضياع العدالة وانتشار الجور والظلم يؤديان إلى فساد الحياة وخراب العمران, فيقول: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها, لما يرون حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم, وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب.. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال فإذا قعد الناس عن المعاش كسدت أسواق العمران وانقضت الأحوال وذعر الناس في الآفاق.. في طلب الرزق فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة، ومن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأِعمال وتسخير الرعايا بغير حق, وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات, وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران وفساد الدولة، التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليها بأبخس الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع"3. ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن الأخلاق تؤدي إلى أمرين هامين في الحياة، أولهما: دوام الحياة، دوام الحياة الاجتماعية وتماسكها، وثانيهما: تقدم الحضارة من الناحية العلمية والعمرانية, غير أن معالجتها لهذا الجانب

_ 1 أدب الدنيا والدين للماوردي ص 115. 2 المائدة: 8. 3 مقدمة ابن خلدون فصل 43 ص 240 طبع 1930م.

الثاني لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن تركيزنا كان منصبا على الجانب الأول، والآن نعالج هذا الجانب الأخير، وإذا نظرنا إلى المبادئ الأخلاقية وجدنا هناك مبادئ شديدة الصلة بهذا الجانب الأخير، ولنأخذ مثلا العنصر الأول في تقدم الحضارة وهو العلم, فنجد الإسلام يهتم بالعلم ويدعو الناس إلى الجد في طلبه, ويرفع شأن العلماء ويحثهم على نشر العلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" 2, وبيَّن أن الأثر العلمي الذي يتركه الإنسان في حياته سوف ينال ثواب جهوده بعد مماته ما بقي هذا الأثر فقال: "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" 3, كما بيَّن أن الإنسان الذي يعمل بعلمه وهديه سينال أجرا مثل أجر العامل, قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه, لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا" 4, وقد وردت نصوص كثيرة في الإسلام تأمر الآباء بتعليم أبنائهم وبناتهم حتى تعليم خادمهم وتحسين أدبهم؛ وذلك لينتشر العلم والفضيلة في المجتمع الإسلامي, فالعلم وسيلة لتحقيق الخير وإزالة الشر وذلك وظيفة الأخلاق. ولهذا شجع الإسلام طلاب العلم, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما صنع" 5, ودعا إلى البحث عن العلم والاغتراب من أجله, قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي

_ 1 الزمر: 9. 2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص75. 3 المصدر نفسه ص 75. 4 المصدر نفسه ص 75. 5 رياض الصالحين، كتاب العلم، ص 488.

الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1، كما أمر باحترام طلاب العلم وإكرامهم, وخاصة الذين اغتربوا من أجل العلم, قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" 2. ولا شك أن الإنسان إذا رأى من الناس تقديرهم جهوده العلمية, وإذا علم أن له ثوابا عند الله لآثاره العلمية يناله بعد موته فإنه يشجعه على أعمال علمية عظيمة, وهذا بدوره يؤدي إلى ازدهار العلم وتقدمه، ومن ثم تكون النتيجة تقدم الحضارة؛ لأن العلم أساس الحضارة, وروح أخلاقية العلم تؤدي إلى الخير. كما نجد في الإسلام توجيهات أخلاقية أخرى تؤدي إلى التقدم الاقتصادي, فنحن نعرف أن التقدم الاقتصادي يتم عن ثلاثة طرق: الزراعة والصناعة ثم التجارة، ونجد الإسلام يدعو إلى الاهتمام بكل هذا, فنراه مثلا يدعو إلى الزراعة, ويعتبر كل نفع يأتي منه للإنسان أو للحيوان صدقة للزارع, فقال الرسول: "لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة" 3، ونراه أيضا يدعو إلى الاختراع الذي يأتي منه الخير للناس في أي ميدان من الميادين, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها, ولا ينقص من أجورهم شيء" 4, وسيأتي حديث يقول الرسول فيه: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به".

_ 1 التوبة: 122. 2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 73. 3 صحيح مسلم جـ10، كتاب المساقاة والمزارعة، ص 214. 4 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 76.

وأما فيما يتعلق بالتجارة فنجد نصوصا كثيرة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1, والقرآن يحث على أن تكون التجارة عن التراضي لا عن الغصب والاستغلال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2؛ لأن التجارة المستغلة لا تؤدي إلى رفاهية الحياة الاجتماعية, بل إلى التناحر والتطاحن وإلى الحروب التي رأينا ويلاتها, ولا زالت الشعوب تعاني منها, وقد نهى الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- الإنسان عن أن يكون عالة على غيره, وأمره بالاكتساب بعمل يده فقال: "لأن يأحذ أحدكم أَحْبُلَهُ ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه, خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" 3, وكذلك فيما يتعلق بالتعمير والعمران فقد دعا الإسلام إلى إحياء الأراضي الميتة وفتح الآبار والبحث عن المعادن وبناء المساجد والعمارات للمساكين والفقراء, وجعل لمن يكافح في هذا الميدان مكافأة, وقد ورد في ذلك كله نصوص كثيرة منها ما ورد في إحياء الخراب والأراضي الميتة, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق" 4, وفي حفر الآبار جاء في حديث ما معناه من حفر بئرا أو اشتراه وجعله للمسلمين فله الجنة أو يبدله الله خيرا منه في الجنة5, وقال

_ 1 الجمعة: 9-10. 2 النساء: 29. 3 رياض الصالحين, باب الحث على الأكل من عمل يده ص 244. 4 فتح الباري -كتاب المزارعة، باب إحياء الأرض جـ5 ص 416. 5 التاج جـ2 ص246, وانظر كذلك فتح الباري بشرح البخاري جـ6 ص 336 كتاب الوصية.

الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" 1, وفيما يتعلق بالبناء فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" 2, وقال أيضا: "من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة" 3. ولقد سبق أن ذكرنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سعادة المرء المسكن الصالح" , كما شجع الإسلام على إقامة المشروعات مثل بناء المسكن وإصلاح الأراضي وحفر الآبار ثم وقفها للفقراء والمساكين"4, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره....، أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته" 5, ولهذا قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" 6. وهكذا نجد أن التوجيهات الأخلاقية في الإسلام كلها بنَّاءة, تأمر بالتعمير والإصلاح, ثم إن هناك مبدأ أخلاقيا طلب الاسلام تطبيقه في كل عمل وهو: مبدأ إتقان العمل فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يحب الله العامل إذا عمل أن يحسن" , وفي رواية "أن يتقن" , وأن يلاحظ دائما أن الله والناس سيرى عمله، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 8, وإتقان العمل هو أن يبذل الإنسان قصارى جهده ليتم العمل في أتم وأكمل صورة، ثم إن إتقان العمل والصنع من صفات الله الفعلية كما جاء في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ

_ 1 سنن أبي داود جـ3 ص 178, كتاب الخراج والإمارة. 2 صحيح مسلم جـ4 ص 2287. 3 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ3 ص 324, كتاب الزهد والرقائق. 4 سنن ابن ماجه جـ1 مقدمة ص 88 رقم الحديث 242. 5 المرجع السابق جـ1 ص 88 رقم الحديث 242. 6 سنن أبي داود جـ3 ص 177, كتاب الخراج والإمارة. 7 الجامع الصغير جـ2 فصل الياء ص 205، وفي رواية أن يتقن, انظر كشف الخفاء جـ1 ص 285. التوبة: 105.

تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} 1, وهذا من صفات الكمال, وينبغي للإنسان أن يسعى ليتشبه بصفات الكمال في أي ميدان من ميادين العمل في العلم والصناعة والتجارة وما إلى ذلك, ولا شك أن هذا السعي وراء الكمال في العمل يؤدي إلى تقدم الحضارة, فإذا سعى أهل العلم للإتقان في العمل تقدم العلم، وإذا سعى أهل الصناعة لإتقان الصناعة تقدمت الصناعة, ولو سعى الموظفون لآداء أعمالهم في أكمل صورة لانتظمت أمور الدولة, ولو أتقن المعلمون التعليم وأتقن المتعلمون التعلم لتقدم العلم. وهكذا نجد أن الأخلاق الإسلامية تدفع بطبيعتها إلى الكمال والتكامل في البناء الاجتماعي الذي يقوم على توطيد العلاقات الإنسانية بين الناس على أساس الإيمان والإخلاص, ثم إلى التكامل في ميدان العمل والصناعة والمعرفة, وكلا التكاملين ضرورة لا بد منها لإيجاد حياة إنسانية سعيدة, من أجل ذلك كله كان الإسلام ضياء ونورا يضيء أمام الإنسان ويهديه إلى طريق السعادة, وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2, ولهذا كان منهاج الإسلام في الحياة هدى الله, فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 3. وعلى ذلك لو عملت الأمة بروح الأخلاق الإسلامية لأصبحت أرقى الأمم وأسعدها من جميع النوحي؛ لأنها تدعو كل فرد إلى أن يكون إنسانا خيرا عالما فاضلا, ولا يمكن أن تتقدم أمة إلا بذلك, ولذلك كانت الأخلاق الإسلامية ضرورة وغاية في الأهمية لدفعها الناس إلى الأفضل والأكمل.

_ 1 النمل: 88. 2 الأعراف: 157. 3 طه: 123.

الباب الثاني: أسس الأخلاق في نظر الإسلام

الباب الثاني: أسس الأخلاق في نظر الإسلام الفصل الأول: الأساس الغيبي والاعتقادي أركان الأساس الاعتقادي الركن الأول ... الباب الثاني: أسس الأخلاق في نظر الإسلام الفصل الأول: الأساس الغيبي والاعتقادي أولا: أركان الأساس الاعتقادي. الركن الأول: الإيمان بوجود الله الذي خلق الكون وخلق الإنسان وخلق الموت والحياة وهو يعلم كل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل, حتى إنه ليعلم ما يدور في خلجات الأنفس من النيات الخيرة والشريرة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 1.

_ 1 ق: 16.

الركن الثاني

الركن الثاني ... الثاني: أن الله منذ أن خلق الإنسان فوق هذا الكوكب عرفه بنفسه, وعرفه طريق الخير والشر, والحق والباطل, برسالات أوحي بها إلى من اختارهم من الناس كما شاء، قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى, الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى, وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 2، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ, وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ, وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 3 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 4، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5، فمن أصلح نفسه واتبع الهدى أفلح وإلا خاب وخسر {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا, فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا, قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6. ثم إن الله خلق في الإنسان قدرة لإدراك تلك الحقائق, ونصب دلائل على جميع ذلك في هذه الطبيعة, يدركها من يتأمل فيها ويبحث عنها في ثنايا هذا

_ 2 الأعلى: 1-3. 3 البلد: 8-10. 4 هود: 49. 5 الشورى: 52. 6 الشمس: 7-10.

الوجود بوحي الله وبوحي من عقله, قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1, وبناء على ذلك كلفهم باتباع الحق والخير واجتناب الباطل والشر, كما بيَّن واجبات الإنسان نحو خالقه ونحو المخلوقات الأخرى من الإنس وغير الإنس وبيَّن المحرمات التي يجب اجتنابها, وكل ذلك تابع للتفرقة بين الحق والباطل من جهة وللتفرقة بين الخير والشر من جهة أخرى.

_ 1 فصلت: 53.

الركن الثالث

أما الركن الثالث: فهو وجود الحياة بعد الموت وهذه الحياة أما نعيم أو جحيم, فالأولى يكافأ بها من اتبع الحق وفعل الخير واجتنب الشر والمحرمات في هذه الدنيا, والثانية يجازى بها من اتبع الباطل وفعل الشر؛ فالنعيم لمن استقام في هذه الحياة والجحيم لمن انحرف فيها, وهذه وتلك تكون بعد حساب دقيق يقوم به الخالق العليم, يحاسب فيه كل إنسان بما عمل من خير أو شر صغيرا كان عمله أم كبيرا, وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 2 , {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} 3, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 4. إذن فهذه الحياة ميدان عمل واختبار للإنسان لمن يريد الخير ولمن يريد الشر {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 5 إنه ابتلاء فعلا لمن يريد اتباع مناهج الله في الحياة, ولمن يريد الانحراف عنه, وتلك الحياة الأخرى مكافأة وجزءا لعمل الإنسان في هذه الحياة من خير أو شر.

_ 2 يس: 12. 3 الإسراء: 13. 4 الزلزلة: 7-8. 5 الملك: 2.

أهمية الأساس الاعتقادي

ثاينا: أهمية الأساس الاعتقادي وهذا الأساس بهذا المفهوم في غاية الأهمية في الاتجاه الأخلاقي في الإسلام, ذلك أنه يعتبر السند الذي يعتمد عليه في إقامة النظام الخلقي وفي عملية الالتزام به، فبدون هذا الأساس تفقد الأخلاق قدسيتها وعظم تأثيرها في الإنسان, ولا يمكن أن تطبق الأخلاق تطبيقا عمليا دقيقا في السر والعلن إلا إذا اتخذ هذا الأساس في قلوب البشر مكانا, وآمنوا به إيمانا صادقا, ويقول "فرويل" هنا: "إن الإيمان يجعل الإنسان يعيش ساكنا قويا في كل الأحوال وظروف هذه الحياة, وعن طريق التعليم الديني يمكن أن يعرف الإنسان واجباته والقيام بأدائها". وليس هذا أساسا للسلوك الأخلاقي فقط بل أساس للحياة, إذ لا معنى للحياة -في الحقيقة- دون وجود هذا الأساس ودون الاعتماد عليه. والذي يقرأ كتاب الوجوديين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يرى كم يعانون من الاضطراب النفسي والقلق في أعماق قلوبهم, وخاصة كتاباتهم في التفكير الأخلاقي وهم يحاولون أن يبرروا ذلك كله بإسناده إلى الطبيعة أو إلى طبيعة الحياة, والحقيقة أنه ليس من الطبيعة, بدليل أننا لا نجد هذه الظاهرة عند غيرهم بصورة عامة, ولعل ذلك من طبيعة عدم الإيمان إذ إن في طبيعة الحياة الإنسانية جانبا لا يملؤه إلا الإيمان, فوجود هذا الفراغ في حياة هؤلاء هو السبب في إحساسهم بالنقص والقلق والاضطراب في الحياة, وذلك الإحساس هو الذي يدفعهم في بعض الظروف المحرجة إلى محاولة التخلص من هذه الحياة, وذلك إما بالانتحار وإما بالتردي في حياة السُّكْر، وهذا قضاء على الحياة بطريق غير

_ 1 التربية الأخلاقية، أبادير حكيم, ص 104-105.

مباشر، ومما يؤيد صدق ما ندعي أن أولئك الذين يقضون على حياتهم لا يفعلون ذلك لضيق معيشتهم أو لفقد صحتهم, بل إننا نجد منهم من هم أغنى الناس, لا ينقصهم مال ولا جاه ولا أي متعة من متع الحياة، وإنما ينقصهم في الحقيقة الطمأنينة الداخلية التي يكونها الإيمان أو العقيدة السلمية, ولا أقول هذا إن افتقاد عامل العقيدة هو السبب الوحيد في الانتحار، وإنما أقول إنه من أهم الأسباب، ومن مميزات تلك العقيدة أنها تضفي على القوانين الأخلاقية قداسة تسمو بها على أن تكون مجرد نظام وضعي يحدد علاقة الناس فيما بينهم لتحقيق مصلحة فردية أو اجتماعية لرغبات الأفراد أو المجتمعات. فهناك إذن فروق واضحة بين القوانين الأخلاقية والقوانين الوضعية, ويمكن تلخيص تلك الفروق في النقط الآتية: فالأولى: قدسية القوانين الأخلاقية. ويؤدي ذلك إلى أمرين أولهما: تعظيم هذه القوانين وإجلالها, ومن ثم تكون لها سلطة تتحكم بها في حياة الإنسان وتصرفاته في السر والعلن، وثانيهما: إن هذه القوانين الأخلاقية تؤثر في الإنسان عمليا من الناحية الإيجابية او السلبية نتيجة تطبيقها أو عدم تطبيقها, فيكون أثر التطبيق الإحساس بالسرور والانشراح في أعماق النفس الإنسانية, ويكون أثر عدم تطبيقها الإحساس بالوخز والضيق والكآبة، وذلك بصرف النظر عن ملاحظة الناس لهذه الأفعال أو تلك؛ لأن ذلك الإحساس بالقدسية يجعل من نفسه رقيبا داخليا على تصرفات الإنسان, ولا يرتبط ذلك التطبيق للقوانين الأخلاقية بالمنفعة أو بالمظهر الاجتماعي فحسب شأن القوانين الوضعية، بل يتربط إلى جانب ذلك بظاهرة أعمق من ذلك وهي الإحساس

بالواجب وبراحة الضمير. النقطة الثانية: أن هذه القوانين الأخلاقية تحقق للإنسان السعادة في الحياة؛ لأنها تجمع بين المنافع المادية والمعنوية, أما القوانين المدنية فلا تراعي كل ذلك كما أنها لا تدفع الإنسان إلى ذلك دفعا كالقوانين الأخلاقية القائمة على هذا الأساس الاعتقادي. النقطة الثالثة: أن القوانين الأخلاقية من حيث الأصول عامة وثابتة, وهي تتجاوز حدود القوانين الوضعية من هذه الناحية ومن ناحية التأثير والتطبيق. النقطة الرابعة: أنها هي التي تصبغ حياة الإنسان بصبغتها, وتكيفها بروحها وغايتها وفلسفتها, بينما القوانين الوضعية يحددها المجتمع أو بعض أفراده وذلك وفقا لرغبتهم في الحياة وفهمهم لها، ومن ثم تظهر روح المجتمع في قوانينه بينما تظهر روح الأخلاق الدينية في حياة المجتمع إذا ما كان يسير المجتمع وفقا لتوجيهات هذه الأخلاق لا وفقا لتوجيهات رغباته ومنفعته. ومجمل القول إن العقيدة -أساسا للأخلاق- تلعب أكبر دور في الحياة الأخلاقية من حيث إنها أكبر دافع يدفع الإنسان إلى الأعمال الإيجابية الخيرة, وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى والشهوات، ومن حيث إنها المصدر الرئيسي للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية, وهذا بدوره هو المنبع الوحيد الذي يستقي منه الضمير الأدبي حياته الوجدانية. ولقد اعترف الدكتور ألكسيس كارل بهذه الحقيقة, وبيَّن أن العقيدة تضيف على الأخلاق فعالية لا توجد في الأخلاق المدنية, فيقول: "فالفكرة المجردة لا تصبح عاملا فعالا إلا إذا تضمنت عنصرا دينيا, وهذا هو السبب في أن

الأخلاق الدينية أقوى من الأخلاق المدنية إلى حد تستحيل معه المقارنة, ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية"1, ويرى "باستا لوتزي" أن حياة الإنسان الأدبية ونموه في الفضيلة يتوقف على إحياء الإيمان بالله في فؤاده", ويرى "أفلاطون" أن الإنسان بغير الإيمان بالله يضل في الحياة3. وبقدر تدعيم الأخلاق بالعقيدة وتأسيسها عليها تقوم الأخلاق على أرض صلبة، وبقدر تنمية الإيمان في نفوس الأجيال بالعقيدة والأخلاق معا نستطيع تقوية دافع الالتزام بالقيم الأخلاقية, والتضحية من أجلها, وتكون النتيجة عكس ذلك إذا أهملنا هذا التدعيم والتنمية.

_ 1 تأملات في سلوك الإنسان، د. الكسيس كارل ت. د. محمد القصاص، بمراجعة د. محمود قاسم, ص 140. 2 التربية الأخلاقية أبادير حكيم، ص 118-119. 3 مقدمة كتاب السياسة لأرسطو, ص20.

الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي

الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي أساس الاعتدال بين الواقعية والمثالية ... الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي أولاً: أساس الاعتدال بين الواقعية والمثالية إذا كان الإسلام قد دعا إلى المثالية والسمو الروحي وذم الذين أخلدوا إلى الأرض وشهواتها، فإن دعوته إلى المثالية لم تكن متطرفة كبعض الدعوات الروحية الأخرى, التي كانت تدعو الإنسان إلى محاربة الطبيعة وعدم الاستسلام لضغط وقائع الحياة مهما كانت طبيعتها وشدتها؛ لأن السمو الروحي وخلاص الإنسان من آلام هذه الحياة إنما تتم -في نظرها- بمحاربة الطبيعة والتسامي على واقعها؛ ولأن السعادة لا تتم للإنسان إلا بهذه الطريقة. كذلك لم يكن الإسلام متطرفا في دعوته إلى الحياة مع الطبيعة, كالطبيعيين الذين دعوا إلى الإخلاد إلى الأرض والحياة مع الطبيعة, والطاعة لدواعيها ومتطلباتها وعدم الاهتمام بما فوق الطبيعة وفوق الحياة الواقعة الملموسة؛ لأن الحياة مع الطبيعة -في نظرهم- هي الحياة السليمة التي تؤدي بالإنسان إلى السعادة. بل كان اتجاه الإسلام نحو الطبيعة في إقامة نظامه الخلقي اتجاها معتدلا, وحقيقة هذا الاتجاه المعتدل تظهر إذا وضحنا الموقفين اللذين وقفهما الإسلام من الطبيعة: ففي الموقف الأول دعا إلى الاستعلاء على الطبيعة وعدم الاستسلام لها؛ لأن الإسلام طلب من الإنسان أن يكون سيدًا على الطبيعة, وسيدا على نفسه في الحياة، وذلك لا يكون إلا بتسخير قوانينها وتكييف مادتها في صورة تؤدي إلى عمران الأرض والسمو بالحياة وفقا إلى الرتبة التي أراد الله من الإنسان أن يرقى إليها في هذه الأرض بعد أن أنشأه فيها؛ لذا قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ

الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 1. ولا يستطيع أن يكون سيدا على نفسه إلا بضبط ميوله ورغباته وحاجاته الأولية وتوجيهها وفقا للمثل العليا التي رسمها أمام الإنسان والتي تدعو إلى عدم اتباع الهوى والشهوات, وتدعو إلى التقرب إلى الله بالتسامي الروحي. وفي الموقف الثاني دعا إلى مهادنة الطبيعة والواقع مراعاة قوانينها وعدم الاصطدام معها؛ لأن الحياة مع مخالفة الطبيعة بهذه الصورة لا يمكن أن تستمر ولا بد من أن يبوء نظام الحياة القائم على هذا الوضع بالفشل.

_ 1 سورة هود: 61.

مراعاة قوانين الطبيعة والحياة

ثانيا: مراعاة قوانين الطبيعة والحياة: ومراعاة الطبيعة والواقع تتم عن طريق اتخاذ قواعد السلوك وفقا للقوانين الأساسية للحياة البشرية2، ولقد حصر الدكتور "آلكسيس كارل" هذه القوانين في ثلاثة قوانين أساسية عامة، وهي: قانون المحافظة على الحياة وقانون تكاثر النوع، وأخيرا قانون الارتقاء العقلي والروحي3. ويدخل في القانون الأول أن كل سلوك من شأنه أن يحافظ على الحياة وينميها -أي حياة المرء لنفسه أو لغيره- يعد سلوكا أخلاقيا, وكل سلوك من شأنه أن يضاد الحياة أو يعوقها بصورة من الصور يعد سلوكا غير أخلاقي, ومن هنا حرم أخلاقيا القتل واستغلال الناس للمصالح الشخصية وإعاقة أعمال الناس.

_ 2 فيرى ووردان الفرق بين القوانين الطبيعية والقوانين الأخلاقية أن الأولى تنصب على الأشياء الواقعة في الزمان والمكان, وصدقها معناه: أنها متحققة بالعقل, أما الثانية فتنصب على الحياة الشخصية, وصدقها أنها تعبر عن مثال من المثل العليا "فلسفة المحدثين والمعاصرين ص 76". 3 تأملات في سلوك الإنسان ص 47.

أيضا التهديدات وإخافة الناس, وحرم التحاسد والتباغض؛ لأن كل ذلك يعوق الحياة من الناحية العملية والنفسية، ومن ثم أوجب الإسلام احترام حقوق الناس في دمائم وأموالهم وأعراضهم وإحساساتهم الأدبية, وحض على الأعمال التي تنظم الحياة وتنميها مثل: السعي لخير الناس وبث المحبة والمودة والسرور والبهجة في نفوسهم, وقد ذكرنا نصوصا في الباب السابق تشير إلى كل هذه الجوانب. وفيما يتعلق بالقانون الثاني يعتبر السلوك الذي يؤدي إلى إبقاء النوع وتحسينه سلوكا أخلاقيا راقيا، ومن هنا شرع الزواج وكرهت الرهبنة, وهنا يقول تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} 1 وروي أن الرسول قد نهى عن الرهبانية2, كما استحسن اختيار الزوجة من السلالة السليمة عقلا وجسما؛ وذلك لتحسين النسل فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم" وقال أيضا ما معناه "فلينظر أحدكم أين يضع كريمته"4, وبيَّن الرسول أن على الآباء أن يختاروا لبناتهم أزواجا صالحين, وإلا سيؤدي الأمر إلى فساد كبير فقال: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" 5, ولقد أثبت الدكتور "الكسيس كارل" كيف أن سوء الخلق ينتشر عن طريق الزواج ويؤثر في الذرية تأثيرا سيئا من الناحية البيولوجية والسيكولوجية والسلوكية فقال: "نحن نعرف اليوم أن

_ 1 الحديد: 27. 2 الجامع الترمذي جـ2 ص 273 باب النكاح. فتح الباري جـ11 ص 19 كتاب النكاح. 3 الجامع الصغير جـ1 ص 30، المستدرك على الصحيحين جـ2 ص 163، النكاح. 4 السنن الكبرى للبيهقي جـ7 ص 82. 5 جامع الترمذي جـ2 ص 274.

الزواج بين أولاد الأشقياء أو السكيرين أو المصابين بالزهري أو حاملي العيوب العقلية الوراثية يعتبر جريمة جديرة بالعقاب, وينبغي لنا ألا ننسى في هذا الصدد أسرة روك الأمريكية حين تم الزواج بين شخصين من أرباب السوابق فظهر من بين سلالتهما 339 عاهرا و181 سكيرا و170 معوزا و118 مجرما و86 من أصحاب بيوت الدعارة", وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس" 2. وهذه الحقيقة كانت معروفة لدى الناس، وقد أشار إليها القرآن في قضية مريم: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً, يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} 3، غير أنه ما كان يعرفه الناس هو أن سوء خلق الوالدين يؤثر في الأبناء عن طريق التقليد فحسب، لكن العلم يثبت اليوم أنه يؤثر أيضا عن طريق الخلايا الملقحة، ثم إن الإسلام حرم كل سلوك من شأنه أن يعوق استمرار التناسل؛ لأنه يعد منعا لاستمرار النوع, ولهذا منع الإجهاض وعدَّه جريمة، سواء كان من قبل الأم أو من قبل غيرها, وقد اتفق العلماء على أن المُجْهِض عليه أن يدفع دية الغرة5, ومنع أيضا الاختصاء؛ لأنه يعد عائقا دائما أمام استمرار النوع. والدليل على ذلك ما روي عن بعض الصحابة, قالوا: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس لنا شيء, فقلنا: ألا نستخصي, فنهانا عن ذلك ثم رخص

_ 1 تأملات في سلوك الإنسان ص 87. 2 منتخب كنز العمال في هامش مستند الإمام أحمد جـ 6 ص 394. 3 مريم آية: 27-28. 4 المغني لابن قدامة جـ8 ص 389-405.

لنا أن ننكح المرأة بالثوب1 ثم قرأ علينا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2, فالإسلام يعد الخروج على القوانين الطبيعية والأخلاقية تعديا وخروجا عن جادة الحياة المستقيمة. ومن واجبنا أن نعرض هنا لمشكلة اجتماعية عامة تكتسح العالم كله ألا وهي مشكلة تحديد النسل, ونبين حكم الإسلام فيه من الوجه الأخلاقية, لقد عرضنا فيما سبق أن غريزة التناسل قانون من قوانين دوام حياة النوع واستمراره, وكما بينا أن الإسلام يحرم كل سلوك يضاد هذا القانون, ويحول دون استمرار التناسل, وهذا أمر قاطع في الإسلام لا يقبل المناقشة بصفة عامة. أما الحد من كثرة التناسل بطريقة من الطرق دون الإسقاط أو الإجهاض فأمر ورد فيه نصوص متعددة, مما يجعلنا لا نستطيع البت فيه من هذه الجهة بتحريمه بصفة عامة لكل فرد وفي جميع الظروف والأحوال, لكن نستطيع معالجته عن طريق دراسته في ضوء قوانين الحياة من حيث مخالفته أو موافقته لها, والنتائج التي تترتب على ذلك من مضرة أو منفعة ومن خير أو شر. ونستطيع أن نحكم عليه من وجهة نظر الأخلاق الإسلامية, بناء على دوافع هذا السلوك وأهدافه, وبناء على ما يترتب على فعله من مصلحة أو مضرة على الأفراد أو المجتمع إن عاجلا أو آجلا. وإذا بحثنا عن دوافعه وأهدافه وجدنا أنها تكاد تنحصر في أحد الأمور الآتية:

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ11 ص 19-20. 2 المائدة: 87.

الأمر الأول: التخلص من الضائقة الاقتصادية أو الخشية من ضيق الرزق. والأمر الثاني: تجنب الضرر الذي قد يلحق بالأولاد, أو بأحد الأبوين أو كليهما أيًّا كان لون هذا الضرر. والأمر الثالث: المحافظة على جمال المرأة وحسن التمتع بها. بأحد هذه الأمور أو بأجمعها يتذرع المتحمسون لتحديد النسل, ولننظر مدى صدق هذه الدعاوى, وهل ما يترتب عليه هو هذه الغاية المرجوة؟ وهل ذلك هو الوسيلة الوحيدة أو أحسنها للوصول إلى تلك الغاية أو الغايات؟ ولنبدأ بالأمر الأول: الذي هو الدافع الأساسي الذي تتذرع به تلك الدعوات على مستوى المجتمعات، إذ يقولون إن تجاوز نسبة المواليد نسبة الإنتاج الصناعي والغذائي أمر يدعو إلى الخطر في المستقبل, وهو أساس المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها المجتمعات الفقيرة المتخلفة من الناحية الاقتصادية. وهذا الادعاء صحيح عقلا وواقعا, ويمكن حل هذه المشكلة عن طريق تحديد النسل, ولكن هذا الحل سلبي وليس إيجابيا, والحل السلبي ليس حلا أخلاقيا, إذ إنه يوحي بالضعف والعجز ويثير في النفس الخمول والكسل, أو إن مثل هذا الحل يتولد من هذه الأسباب أو الإيحاءات الأخلاقية السلبية, ومثل هذا الحل يترتب عليه غالبا نتائج سلبية, تتولد عنها مشكلات أكثر تعقيدا من المشكلة نفسها، ومن الأمثلة لذلك أن بعض الدول الأوربية رأت قلة نسبة المواليد عن نسبة الوفيات, وترتب على ذلك قلة الأيدى العاملة وكثرة نسبة العجزة, كما أدى الأمر أخيرا إلى قلة عدد السكان عما كان عليه عند قيام الدعوة؛ لأن تحديد كمية العدد المناسب عن طريق تحديد النسل أمر يكاد يكون مستحيلا،

الأمر الذي دعاها إلى القيام بحملات ضد تحديده, ودعوة المواطنين إلى إنجاب ذرية أكثر, ووعدت تلك الدول بمكافآت لأمهات ينجبن أولادا أكثر, كما أعفت الأسر الكبيرة عن بعض الضرائب وأعطتها بعض الامتيازات, وبالرغم من ذلك فإن بعض هذه الدول لا تزال تعاني من نقص السكان, وتستدعي الأيدي العاملة من الدول الأخرى مثل: ألمانيا والسويد وفرنسا, ولهذا جاء في إحدى الجرائد الألمانية الناطقة باسم الحكومة "أن نسبة المواليد في وطننا إذا ظلت تهبط هكذا فعسى أن يأتي علينا يوم يكون فيه الألماني شعبا عقيما؛ ولإصلاح هذا الوضع المخيف أصدرت الحكومة النازية قانونا بمنع تعميم منع الحمل وترويج طرقه"1, وقال أحد وزراء السويد في المجلس النيابي: "إن الشعب السويدي إذا كان لا يريد لنفسه الانتحار فعليه أن يتخذ التدابير المؤثرة لمقاومة انخفاض نسبة المواليد في وطنه", وفي إيطاليا جاء تصريح باسم الحكومة "أن حكومة "موسيليني" بذلت جل اهتمامها لزيادة السكان برفع نسبة المواليد في بلادها بعد سنة 1933 فهي لهذا الغرض نهت عن ترويج منع الحمل, وأصدرت قانونا يحظر نشر الكتب والوسائل والمقالات عن معلوماته ووسائله، وهي -لترغيب الناس في الزواج والتناسل- اتخذت الخطوات اللازمة"2, وهناك تصريحات كثيرة من هذا القبيل في كثير من الدول التي أدت فيها حركة تحديد النسل إلى انخفاض السكان بدرجة خطيرة. ثم إن قلة السكان ليست وسيلة الرفاهية من وجهة النظر العلمية؛ ذلك أننا نجد هناك دولة مثل اليابان بالرغم من التضخم السكاني وبالرغم من قلة

_ 1 حركة تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي ص 56 - 57. 2 حركة تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي ص 56 - 57.

الموارد الطبيعية والمساحة الأرضية بالنسبة لسكانها, بالرغم من هذا كله تتوافر فيها الامكانات الاقتصادية؛ لأنها تعمل بالأساليب العلمية في مختلف المجالات, وعلى العكس من ذلك تمامًا نجد هناك دولاً كالسودان مثلا بالرغم من توافر الإمكانات الطبيعية, وقلة سكانها, يسود فيها التخلف الاقتصادي والفقر والتأخر؛ لأنها لم تتخذ العلم وسيلة للتقدم الاقتصادي, فالعلم يخرج الحب من الحجر ويضاعف الإنتاج أضعافا مضاعفة، هذا رأي العلم والواقع في هذه النقطة. ولننظر إلى رأي الإسلام: إن فكرة تحديد النسل ليست فكرة جديدة, بل كانت موجودة أبان ظهور الإسلام, فقد كان العرب أو بعض الأفراد يقوم بتحديد النسل؛ وذلك بإحدى وسيلتين: الأولى: قتل الأولاد في بطن الأمهات أو بعد الولادة. وثانيتهما: بالعزل, وقد أنكر الإسلام الوسيلة الأولى إنكارا قاطعا, وندد بالفاعلين وأوعدهم بالعقاب الأليم, فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} 1, وقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 2, وهكذا يرتكب هؤلاء السفاهة بقتل أولادهم خوفا من الفقر من غير علم أسباب الرزق, ويظنون أن تقليل العدد هو سبب الرخاء, يزين ذلك لهم شياطينهم, ويقولون: إن الأرض سوف تضيق من كثرة السكان في المستقبل {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمُ بِالْفَحْشَاءِ} 3، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} 4، وذلك عين الحرام

_ 1 الإسراء: 31. 2 الأنعام: 140. 3 البقرة: 268. 4 الأنعام: 137.

في رأي الإسلام قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 1. أما الوسيلة الثانية التي كانوا يتخذونها لتحديد النسل فهي العزل, وقد سألوا الرسول عن حكم العزل, وكان الرسول يفتي في ذلك بناء على الأسباب التي كان يعلل بها كل سائل, جاءه رجل يوما يسأله ويقول: "إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل, فقال: "أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها" 2, وقال آخرون يوما: "أصبنا سبيا فكنا نعزل, فسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " أو إنكم تفعلون؟ قالها ثلاثا: ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة" 3, وسئل في مناسبة أخرى عنه فقال: "ذلك الوأد الخفي" 4, وجاء في رواية أن الرسول قال ذلك موافقة على رأي اليهود, وكان لا يكذب أهل الكتاب بما يقولون, إلا إذا نزل عليه وحي يخالف ذلك, وفي هذا الصدد قال في حديث آخر عندما جاءه جماعة من الصحابة, وسألوه عن مدى صدق اليهود في قولهم في العزل "إن تلك الموؤدة الصغرى", فقال الرسول: "كذبت اليهود, لو أراد الله خلقه لم تستطع رده" 5. وسبب تكذيب اليهود كما يقول "ابن القيم" إن العزل لا يتصور فيه الحمل أصلا, وهم جعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد, فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء

_ 1 الأنعام: 151. 2 شرح العسقلاني على صحيح البخاري جـ11، ص 218 كتاب النكاح. 3 فتح الباري بشرح البخاري جـ11 كتاب النكاح ص 218. 4 شرح العسقلاني على صحيح البخاري جـ 11 كتاب النكاح ص 220. 5 شرح العسقلاني على صحيح البخاري جـ 11 كتاب النكاح ص 220.

الله خلقه"1, لكن هذا التكذيب منصب في عد العزل وأدا, وكيف يعد وأدا ولم يخلق شيء في الرحم، وسئل "ابن عباس" عن العزل فقال: ذلك الوأد الأصغر, فلما سمع "علي" أنكره عليه, وقال: لا يكون الوأد الأصغر إلا بعد الطور السابع في الخلق في الرحم"2, إذن يمكن أن يقال على الإجهاض الوأد الأصغر، لكن لا ينبغي أن يفهم من عدم عد الرسول ذلك الوأد الأصغر أو الخفي أنه يدعو إلى ذلك, بل الأمر على عكس ذلك فإنه يفهم من النصوص الواردة أفضلية ترك العزل كما جاء في نص آخر, حين سئل النبي فقال: "لا عليكم أن تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" 3, وهنا يرى "الغزالي" أن النصوص الواردة أفادت النهي, فهي على سبيل التنزيه لا على التحريم, وليس في فعله حرام وإن كان في تركه فضيلة4, وهو يقسم بوجه عام عمل العزل بحسب باعثه إلى خمسة أقسام, الأول: بقصد استبقاء الملك بترك العتاق، الثانية: استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع واستبقاء حياتها، الثالثة: الخوف من كثرة الحرج مع كثرة العيال, والاحتراز من الحاجة إلى مزيد من التعب والجهد؛ لأن قلة الحرج معين على الدين، وإذا كان الكمال في التوكل والثفة بضمان الله بناء على قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} لكنه لا جرم من السقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل لمن لم يقدر عليه. الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، الخامسة: أن تمتنع المرأة عن الولادة لتقززها وترفعها منها.

_ 1 شرح العسقلاني على صحيح البخاري جـ11 كتاب النكاح ص 221. 2 إحياء علوم الدين جـ2، كتاب النكاح، ص 52. 3 تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول جـ4 ص 342. 4 إحياء علوم جـ2، باب النكاح ص 53.

ويرى الغزالي أن العزل لهذين السببين الأخيرين مخالفة للسنة ونية فاسدة لا تتفق مع الإسلام, بينما لا يرى الحرمة في ذلك للأسباب الأولى1. لكن لا نعدم هناك آراء أخرى في هذا الموضوع بعضها يحرم إطلاقا وبعضها الآخر يجيزه إطلاقا وبعضها يحله إذا رضيت المرأة ويحرمه إذا لم ترضَ2. على أي حال هذه آراء العلماء, وسوف نقدم رأينا بوجه عام بعد معالجة الأمور التي ذكرناها سابقا. والآن بقيت نقطة أخرى في الدافع الاقتصادي في تحديد النسل وهي: أن الإسلام يراعي مدى أهمية الاقتصاد في تكوين الأسرة؛ ولذلك نراه يدعو إلى تكوين الأسرة لمن يملك الإمكانات لذلك؛ لأن توافر الإمكانات المالية له دوره في حياة الأطفال؛ ولذلك لا يدعو الإسلام إلى الزواج مبدئيا لمن لا يملك هذه الإمكانات, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, ومن لم يستطع فعليه الصوم فإنه له وجاء" 3, فعلى المقدم على الزواج أن يعلم أن هناك تكاليف يجب أن يقوم بها لزوجته ولأولاده, فلا يصح أن يقدم على هذا الأمر وهو لا يملك شيئا أو يملك ما لا يكفي, فقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 4, وقال الرسول لهند إمرأة أبي سفيان: "خذي من مال زوجك ما يكفيك ولولدك بالمعروف" 5, إذن فالمقدم على الزواج يشترط أن يكون

_ 1 إحياء علوم الدين جـ2، باب النكاح ص 53. 2 إحياء علوم الدين جـ2، باب النكاح ص 51. 3 فتح الباري بشرح البخاري جـ11 كتاب النكاح, ص8. 4 سورة البقرة:223. 5 فتح الباري بشرح البخاري جـ7, كتاب النفقات.

قادرًا على القيام بنفقات الأولاد, وإذا كان قادرًا على ذلك فلا يصح تحديد النسل، ثم إن للتحديد بالطرق المعروفة حاليًا أضرارًا من جهات مختلفة, كما لا يصح تقييم كل سلوك إنساني من وجهة النظر الاقتصادية وحدها. أما فيما يتصل بالدافع الثاني لتحديد النسل, وهو: الأضرار الناتجة عن الولادة فنقول: إن الضرر هنا نوعان: فالأول: هو الضرر المادي كأن يضر الحمل الأم لسبب من الأسباب أو يضر مولودًا سابقًا, ولا مانع في هذه الحالة من التحديد؛ لأن الضرر يزال لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1, وهذا مبدأ هام في الإسلام, كما أن المرض حالة استثنائية, وهو لذلك يدخل في القانون الاستثنائي الذي سيأتي تفصيله عند الكلام عن الأساس الخامس في هذا الباب. والنوع الثاني من الضرر: الضرر الأدبي كأن يشعر الوالدان بالعار من المولود لأمر ما كما كان العرب يشعرون بالمعرة من الأنثى وكانوا يئدون البنات وهن أحياء بعد الميلاد، والإسلام لا يعتد بمثل هذه المضرة بل إنه يعتبر المولود ذكرا كان أو أنثى زينة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2, وأمر بالتسوية بينهما, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من كان له أنثى فلم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الحنة" 3. أما الدافع الثالث والأخير لتحديد النسل فهو: من أجل المحافظة على صحة المرأة وجمالها وحسن التمتع بها, إذ إن معظم النساء يرين أن الولادة ترهقهن وتقضي على جمالهن وتضيع عليهن فرص التمتع في ميادين اللهو والمتعة.

_ 1 الجامع الصغير جـ2 حرف "لا" ص 198. 2 الكهف: 46. 3 التاج جـ5 ص 8, كتاب البر والأخلاق.

وهذه الظاهرة أكثر وضوحا في البلاد المتقدمة حضاريا منها في البلاد المتأخرة, وهنا يقول الكاتب الفرنسي "بول بيريو": "إن الأزواج والزوجات الذين يحاولون الحد من نسلهم في فرنسا -قد علمنا بعد الاستفسار- أن قليلا منهم يحاولونه بناء على قلة المال وكثرة الأولاد لديهم، وإنما الأسباب الحقيقية التي تبعث عليه أكثرهم هي تحسين الوضع المالي ورفع مستوى المعيشة والاحتراس من الخطر أن تتوزع الثروة المجموعة إلى قطع صغيرة متعددة وبذل الاهتمام الكلي بتعليم الولد الوحيد تعليما عاليا, وإعداده للمستقبل الرائع, والاحتفاظ بجمال الزوجة ورشاقتها ونضارتها إزاء متاعب الحمل وشواغل رعاية الأطفال الكثيرين ورضاعتهم, والضن بحرية النفس في التفرج والمرح والاستجمام, والحيلولة دون أن تصبح الزوجة فيما إذا أنجبت عدة أطفال منهمكة بتربيتهم, فيتعكر صفو الحياة الزوجية, وتقل فيها فرصة الاستمتاع بمباهج الحياة وملاهيها"1. لكن هل الولادة تضر المرأة عادة بصورة مستمرة, وتحديد النسل ينفعها ويحافظ على جمالها, كما يدعون أو يتصورون؟ الحقيقة أن وسائل تحديد النسل قد كثرت اليوم وأهمها الإجهاض، ثم الحبوب والحواجز، ولنستمع إلى رأي المتخصصين في هذه المجالات. فيما يتعلق بالإجهاض يقول الدكتور "تانسنج فريديك": "تنتج عن الإجهاض ثلاثة أضرار, يتعرض لها النسل الإنساني: 1- يهلك عدد غير معلوم من الأفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة.

_ 1 حركة تحديد النسل ص9.

2- ويذهب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض. 3- وبالإجهاض تحْدُث في المرأة مؤثرات مرضية, لا يستهان بعددها وتجرح فيها إمكانات التوليد في المستقبل على صورة مفزعة جدا1. وفيما يتعلق باستعمال الحبوب والحواجز المانعة تقول الدكتورة "ميري شارليب": "إن وسائل تحديد النسل سواء كانت الحبوب أو العقاقير أو الحواجز وغيرها, وإن كانت المرأة لا تتعرض لضرر فوري ظاهر باستخدامها, لكنها إذا ظلت تستخدمها لمدة من الزمن فلا بد أن يصيبها الانهيار العصبي قبل أن تبلغ سن الكهولة, ومن النتائج اللازمة لاستخدام هذه الوسائل التبرم والتمرد والقلق والنزق والأرق وتوتر الأعصاب وتشويش الفكر وهجوم الأحزان وضعف القلب ونقض الدورة الدموية وشلل اليدين والرجلين والتهاب الجسد واضطراب العادة الشهرية"2. ويبين الدكتور "أزوالد شواز" سبب ذلك فيقول: "إن كل غريزة عضوية ينبغي أن تؤدي وظيفتها الخاصة بها وإلا تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعددة, والتناسل في المرأة غريزة عضوية وفطرة فيها، فإذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة, وعلى خلاف هذا عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا أو بهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه"3.

_ 1 حركة تحديد النسل ص82. 2 المصدر نفسه ص 77. 3 حركة تحديد النسل ص71.

وإلى جانب ذلك فإن استعمال حبوب منع الحمل يسبب أعراضا مرضية أخرى مثل قرحة المعدة وما إلى ذلك، ولننظر الآن إلى النتائج التي تترتب على تحديد النسل بهذه الطرق: من أهم النتائج التي يحصيها القائمون بالشئون الاجتماعية في الدول التي طبقت نظام تحديد النسل وراجت فيها طرقه ما يلي: 1- انتشار الفوضى الجنسية أو الزنا, والأمراض الخبيثة الناشئة عن ذلك, والسبب في انتشار الفاحشة هو زوال الخوف من عار مجيء المولود غير الشرعي, ففيما يتعلق بانتشار الفاحشة يقول الدكتور "سوركن": إن نسبة العلاقات غير الشرعية في أمريكا قد وصلت إلى 50% كما وصلت حوادث الإجهاض فيها إلى ما يقرب 100.000 حالة سنويا، وذلك بالرغم من انتشار الأدوية المانعة للحمل. وفيما يتعلق بانتشار الأمراض الخبيثة من جراء ذلك يقول الدكتور "توماس باران" عن مرض الزهري مثلا في أمريكا "إنه أفتك وأضر بمائة مرة من مرض فالج الأطفال, وإن خطره في أمريكا مثل خطر السرطان والتهاب الرئة, حتى إن واحدا من كل أربعة أشخاص إنما يذهب ضحية الموت بسبب الزهري مباشرة أو غير مباشرة"1. 2- زيادة نسبة الجرائم: وذلك بسبب انتشار الزنا, وبسبب مجيء الأولاد غير الشرعيين, وقد أثبت تقرير كنزي أن نسبة الأولاد الحرام في أمريكا وصلت إلى 5:1, وأثبت علماء النفس أن معظم المجرمين والجانحين في العالم يكونون من أولاد الحرام وممن عاشوا في ملاجئ الأطفال, وفي أجواء بعيدة عن عاطفة

_ 1 المصدر نفسه ص 28.

الآباء وذلك لانهيار العلاقات الزوجية لمجون أحدهما أو كليهما1، ونتيجة لهذا وذاك فقد زادت نسبة الجرائم وخاصة جرائم الأحداث, فقد جاء في تقرير الشرطة الأمريكية أنه قد سجل في سنة واحدة 2.530.00 خريجة2. 3- كثرة الطلاق والفراق: وهذه نتيجة طبيعية للأسباب السابقة, وهي اتخاذ الزواج مجرد متعة جنسية, وعدم وجود الطفل بين الزوجين يشعرهما بضعف الرابطة القائمة بينهما، فيمكن قطع تلك الرابطة لأوهي الأسباب، ثم إن محاولة تحديد النسل تنشأ عن الأخلاق الأنانية؛ لأن القائم بتلك المحاولة إنما يقوم بها بدافع إيثار مصلحته الذاتية على مصلحة الغير، والأنانية من أسباب انهيار العلاقات الزوجية, وفي هذا الصدد يقول "بارنيس": "إن الأزواج والزوجات الذين يطالبون بالطلاق ثلثاهم ممن لا يرزقون طفلا قط, وخمسهم ممن رزقوا طفلا واحدا"3. 4- ومن المشكلات الاجتماعية التي نجمت عن تحديد النسل في أوربا عدم التوازن الطبقي؛ وذلك نتيجة نجاح هذه الحركة في الطبقة المثقفة العالية وذوي الدخل الكبير, وإخفاقها نسبيا في الطبقة العادية الفقيرة, هنا يقول "برتراند رسل": "إن في بلدنا طبقات يقل أفرادها, وطبقات أخرى يتزايد أفرادها, أما الطبقات التي يقل أفرادها فهي طبقات المثقفين, وأما الطبقات التي يتزايد أفرادها فهي طبقات العمال والفقراء والأغبياء والجبناء والجامدين، والطبقات التي يتضاءل حجمها يوما فيوما فإن المنقرضين منها بأكبر سرعة هم الذي

_ 1 المصدر نفسه ص 27. 2 المصدر نفسه ص31. 3 مجالات علم النفس للدكتور مصطفى فهمي ص90.

مستواهم الفكري والذكائي أعلى من غيرهم والنتيجة المحتومة لكل هذا أن كل جيل من أجيالنا يخرج منه أصلح ما يكون فيه من العناصر الذكية والمثقفة, وهو سائر نحو العقم بطريق صناعي إزاء الذين يكتب لهم البقاء على الأقل"1. إذن بعد كل هذا نستطيع أن نحكم على تحديد النسل بأنه فعل ضار, بحسب الواقع والتجربة, وكل سلوك ضار بحياة الإنسان فهو سلوك غير أخلاقي هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإننا إذا قسنا دوافعه ونتائجه بالمعيار الأخلاقي نجدهما غير أخلاقيين أيضا؛ ذلك أن دوافعه ترجع أساسا إلى الشعور بالعجز واليأس عن كسب أرزاق الأولاد أو الضن ببذل المال والجهد للغير, والحرص على المنفعة الذاتية أو السعي المستميت وراء اللذات الشهوانية، وكل هذه الدوافع والغايات ترجع في الأساس إلى روح سلبية لا تتلاءم مع روح الأخلاق الإيجابية البناءة, ومن ناحية النتائح المترتبة على ذلك نرى أنها غير أخلاقية؛ لأنها تؤدي إلى انتشار الفاحشة والأمراض الخبيثة والجرائم المختلفة, وما يؤدي إلى حرام فهو حرام، وأخيرا يؤدي إلى تعقيدات اجتماعية طبقية وغير طبقية, وهي أمور غير أخلاقية أو هو فساد خلقي بمعنى الكلمة يخالف روح الأخلاق الإسلامية التي تدعو دائما إلى الإيثار وبذل الجهد والتضحية من أجل الغير, وتجنب كل سلوك ضار للفرد والمجتمع، كما يخالف قوانين الحياة كما بينا، لكن ينبغي أن نستثني من ذلك الحكم الأخلاقي على تحديد النسل في بعض الحالات الضرورية, التي تدعو إليها أسباب مبررة مثل المرض المعدي الذي يصاب به أحد الأبوين أو كلاهما ويؤثر في الذرية أو ينتقل إليها أو أن يكون الحمل يضر الأم لعرض أو

_ 1 مبادئ الإنشاء الاجتماعي لرسل, انظر حركة تحديد النسل ص16.

مرض أو إذا كان ضارا بمولود سابق. على أن هذه حالات فردية وليست جماعية, وحق الاستثناء مكفول لكل فرد في الحالات الضرورية في كل الميادين الأخلاقية, إذ إن الضرورات تبيح المحظورات, ولقد قرر المؤتمر الإسلامي الثاني المنعقد في القاهرة سنة 1965 الذي كان يضم العلماء المسلمين من العالم الإسلامي، فيما يتعلق بتحديد النسل: "أن الإسلام رغب في زيادة النسل, وإذا كان هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقا لما تقتضيه الضرورة وتقدير هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه, لكن لا يصح شرعا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه"1. وأما فيما يتعلق بالقانون الثالث والأخير وهو قانون الارتقاء العقلي والروحي, فهو قانون من قوانين حياة الإنسان الواقعية, يمثل جزءا هاما في حياته, وبه تتميز حياته عن حياة الحيوان، ويدخل في هذا القانون جميع الحواس المعنوية للإنسان, مثل: الحاسة العقلية والقدسية والأدبية والدينية والجمالية، ويمكن أن نقسم هذه الحواس بحسب النوع الإدراكي إلى عقلي وعاطفي, فالأول: يعتمد على الذكاء, والثاني: يعتمد على الشعور والإحساس العاطفي، ويجب أن ندرك أن ضرورة العاطفة لحياة الإنسان لا تقل عن ضرورة الذكاء, بل قد تزيد في بعض النواحي, ذلك أن الذكاء يدرك فقط, والعاطفة تدرك وتدفع الإنسان إلى السلوك وفقا لإدراكاتها, ثم إنها هي التي تضفي على حياة الإنسان معنى, وهي التي تجعل الإنسان يعيش في عالم أوسع من هذا العالم المحسوس، ومن هنا يقول الدكتور "الكسيس كارل": "إن العاطفة تدرك الحقيقة الواقعة بصورة أكثر مباشرة

_ 1 انظر قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر سنة 1965.

مما يستطيعه الذكاء, فالذكاء ينظر إلى الحياة من خارجها, أما العاطفة فعلى العكس من ذلك تستقر في داخل الحياة, فضروب النشاط غير العقلية للروح -أعني بالعاطفة الحاسة الخلقية والحاسة الجمالية وحاسة التقديس- هي التي تجلب لنا القوة والبهجة, وهي التي تهب الفرد قدرة الخروج من نطاق نفسه والاتصال بالآخرين وحبهم والتضحية بنفسه من أجلهم"1, ثم يقول أيضا: "والفضل في انطلاق الروح خارج العالم المادي يرجع بوجه خاص إلى ضروب نشاطنا غير العقلي, وهذه الخاصية التي تجعل الذات المادية العقلية توجد في آن واحد داخل العالم المادي، وداخل عالم آخر, بعيد عن متناول العقل والعلم في الوقت الحاضر على الأقل، وتجعل من الكائن البشري شيئا يختلف عن جميع الأشياء التي توجد على وجه الأرض"2. إذا كان الأمر كذلك فواقع الإنسان غير واقع الحيوان من بعض الوجوه, فواقع الإنسان في الحياة هو: جميع القوانين المتصلة بطبيعته سواء أكانت هذه القوانين بيولوجية أم نفسية أم روحية، وصلة ذلك كله بالعالم المادي والمعنوي، ولا تكون حياة الإنسان واقعية إلا إذا كانت منظمة على أساس تلك القوانين جميعا. والأخلاق الأسلامية -كما رأينا في الموضوعات السابقة وكما سنرى في الموضوعات اللاحقة- تعتمد في تنظيمها الخلقي لحياة الإنسان على تلك القوانين مجتمعة، ومن الأدلة البارزة على ذلك أن الإسلام لم يكلف الإنسان فوق

_ 1 تأملات في سلوك الإنسان ص 161. 2 تأملات في سلوك الإنسان ص 163.

ما تطيقه طبيعته في أي مجال من مجالات العمل الأخلاقي, ولم يدفع الإنسان إلى التصادم مع قوانين الحياة حتى لا يهلك نفسه, فقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1، وأخيرا راعى واقع الإنسان في تنظيمه لحياة الإنسان بين مختلف القوانين المتصلة بالحياة, وهي التي تقوم عليها حياة الإنسان, وهذه الحقائق سوف تتجلى بصورة أوضح في الموضوعات اللاحقة بعد دراسة الطبيعة الإنسانية التي تعتبر الأساس الهام للأخلاق الإسلامية. فإذا عرفنا مدى اتفاق الأخلاق الإسلامية مع طبيعة قوانين الحياة وتلائمها مع واقع الإنسان في هذه الحياة يجب أن ننتقل إلى دراسة الطبيعة الإنسانية لنعرف مدى مراعاة هذه الأخلاق هذه الطبيعة أو كيف تتلاءم قوانين هذه الأخلاق مع قوانين الطبيعة البشرية.

_ 1 البقرة: 195, وهناك نصوص أخرى سنذكرها عند معالجة هذا الموضوع.

الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية

الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية مدخل ... الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية هذا الأساس هام في الدراسات الأخلاقية وذلك لوجود ارتباط وثيق بين السلوك وطبيعة الإنسان, ولتوقف نجاح النظام الأخلاقي على مدى انسجامه مع واقع هذه الطبيعة, ثم إن هذه الدراسة هنا سوف تساعدنا على معالجة كثير من القضايا الأخلاقية التي نتعرض لها فيما بعد. مثل: تقييم الأخلاق وبيان خصائصها ودور هذه الطبيعة في السلوك الأخلاقي1. تلك هي الدواعي التي جعلتني أقدم دراسة الطبيعة الإنسانية لمعالجة تلك الموضوعات في ضوئها ولبيان مدى اعتماد الأخلاق الإسلامية على أسس واقعية وعلمية.

_ 1 يهاجم هنا جون ديوي على فصل الأخلاق عن الواقع وعن الطبيعة الإنسانية "الطبيعية البشرية" ص 30-31.

رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية

أولا: رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية: وينبغي أن نعترف مبدئيا أن معرفة حقيقة الطبيعة الإنسانية وصلتها بتلك الحقائق الأخلاقية من أصعب الأمور، وقد حار العلماء والفلاسفة في أمر هذه الطبيعة, وأسباب ذلك عديدة منها: أن هذه الطبيعة شديدة التعقيد, ومن هنا يقول الأستاذ "فيليب فينكس" "ففي الواقع لا يوجد شيء مثل الإنسان محير مثير؛ لأنه في الحقيقة صنع صنعا عجيبا مخيفا"1. ومن تلك الأسباب أن المناهج التي اتبعت في دراستها كانت مناهج غير

_ 1 فلسفة التربية: فيليب فينكس, د. محمد لبيب النجيحي ص 697.

سليمة من بعض الوجوه, لغلبة النزعة الفلسفية عليها، ولاقتصار كل منهج على جانب معين منها في دراستها، بناء على الفلسفة التي يتبعها. فالاتجاه المادي مثلا يرى أن حقيقة الإنسان ليست إلا ظاهرة مادية شديدة التعقيد مركبة من المواد الكيميائية المختلفة, نشأت بسبب تطور المادة الأولية1؛ والاتجاه العقلي أو الروحي يرى أن الإنسان ظاهرة عقلية لا جسمية, فالوجود الجسمي ليس له حقيقة مستقلة ولكنه نتاج للعقل, أي: أن الجسم مشتق من العقل عكس الاتجاه الأول2, والاتجاه الثالث يرى أن الإنسان مادة وروح معا3. فبناء على الاتجاه الأول تكون الطبيعة الإنسانية طبيعة حيوانية، وإذا كان هناك فارق فإنما هو في الدرجة لا في النوع، أي: في درجة التعقيد فقط. وبناء على ذلك يجب تفسير طبيعة الإنسان ودراستها عن طريق الطبيعة الحيوانية باعتبارها طبيعة أبسط من طبيعة الإنسان, ومعنى ذلك أن هذا الاتجاه يسير على منهج دراسة الأعقد عن طريق الأبسط, وتفسير الطبيعة المعقدة بالطبيعة البسيطة من نوعها. وأما الاتجاه الثاني فيرى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة متفردة ليست امتدادا أو استمرارا للطبيعة الحيوانية وليست من نوع هذه الطبيعة الأرضية بوجه عام، وبناء على ذلك يجب دراسة هذه الطبيعة مستقلة عن الدراسات الطبيعية الأخرى، ولا يصح تفسيرها على غرار الطبائع البسيطة الأخرى لأنه يرى أن دراستها وتفسيرها على غرار الطبائع الأخرى يهدم جوهر الإنسان ويفقد حقيقته

_ 1 المصدر نفسه ص 199. 2 فلسفة التربية: فيليب فينكس, ت. د. محمد لبيب النجيحي ص 704. 3 المصدر نفسه ص 704 وانظر كذلك فلسفة التربية للدكتور لبيب النجيحي ص 704.

المتميزة. وأما الاتجاه الثالث فينتهج منهجا متوسطا بين المنهجين السابقين في دراسة هذه الطبيعة وتفسيرها؛ لأنه يرى من ناحية استمرار الإنسان مع بقية الطبيعة ومن ناحية أخرى يرى عدم إمكان تفسير مميزات الإنسان في كليتها على أساس مبادئ فسيولوجية أو طبيعية بالرغم من وجود بعض تلك المميزات أو الخصائص في الحيوانات الدنيا بدرجات بسيطة أو أقل مما هو في الإنسان؛ ولذلك لا ينبغي أن نغفل دراسة الطبيعة المادية في الإنسان على غرار الدراسات الطبيعية, وذلك إلى جانب دراسة الجانب المعنوي دراسة خاصة1. وهكذا نجد مدى أثر الاتجاهات الفلسفية في طبيعة تصور الطبيعة الإنسانية, واتخاذ مناهج لدراستها وتفسيرها. وبالرغم من تزايد الاهتمام بدراسة الطبيعة الإنسانية للكشف عن حقيقتها بالطرق والأساليب الحديثة منذ أن تقدمت وسائل البحث وتنوعت المناهج فإن هناك جوانب عديدة من الطبيعة الإنسانية لا تزال غامضة وغير مكشوفة, ولقد قرر هذا الدكتور "ألكسيس كارل" في كتابه "الإنسان هذا المجهول" فقال: "حقا إن الإنسانية قد بذلت جهودا جبارة كي تعرف نفسها، ومع أننا نملك كنوز الملاحظات التي جمعها العلماء والفلاسفة والشعراء والمتصوفة فنحن لا ندرك غير جوانب من هذا الإنسان, وأجزاء منه, بل إن هذه الأجزاء ليست سوى نتاج طرائقنا في البحث, ليس كل منا غير مَوْكِب من الأشباح تسير وسطها الحقيقة التي لا يمكن معرفتها, الواقع إن جهلنا مطبق.. فأكثر الأسئلة التي يطرحها من

_ 1 المرجع السابق لفيليب هـ. فينكس ص 698.

يدرس أفراد الإنسان بقيت دون إجابة, ولا تزال مناطق شاسعة من عالمنا الداخلي غير معلومة, ثم ذكر كثيرا من هذه الجوانب قائلا: "كيف تتوافق جزئيات المواد الكيميائية فيما بينها لتكوين الأعضاء المعقدة الانتقالية للخلايا؟ وكيف تحدد المورثات التي تحتوي عليها نواة البويضة المخصبة مميزات الفرد الذي ينبثق من هذه البويضة؟ وما هي العلاقة التي تربط بين الشعور والخلايا المخية؟ وإلى أي حد يمكن أن يتغير الكائن الحي بفعل الإرادة؟ وكيف تؤثر حالة الأعضاء في النفس وما هي العلاقة التي توجد بين نمو الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء وبين نمو النشاط الروحي والعقلي؟ وما هي الأهمية النسبية لأوجه النشاط الفكري والخلقي والفني والصوفي؟ " ثم يقول: "هكذا يمكن أن يوجه عدد كبير من الأسئلة الأخرى عن الموضوعات التي تعنينا, وستبقى هذ الأسئلة بدون جواب هي الأخرى، من المؤكد تماما أن الجهد الذي بذلته كافة العلوم التي تبحث في الإنسان قد ظل ناقصا, وأن معرفتنا لأنفسنا ما زالت جد ناقصة"1. ولعل السر الغامض يكتنف اليوم الجانب السيكولوجي من الطبيعة الإنسانية أكثر مما يكتنف الجانب البيولوجي, ويمكن أن نحدد ذلك الغموض في الجانب السيكولوجي بأنه هو: خفاء حقيقة النفس والروح والعقل, ثم مدى صلة ذلك بالتكوين البيولوجي ومظاهر السلوك المادية، والسر في ذلك عدم استطاعة العلم الحديث أن يغوص فيه لاستعصائه على الخضوع لمناهج العلم الحديثة ومقاييسه الموضوعية؛ ولذلك عدل علماء النفس المحدثين عن البحث في جوهر النفس إلى البحث عن مظاهر السلوك النفسي المادي؛ لأنه يخضع لتلك المقاييس الموضوعية؛ ونتيجة لذلك تقدم علم النفس في جانبه السلوكي تقدما مذهلا

_ 1 الإنسان هذا المجهول. د. ألكسيس كارل, ترجمة د. أنطوان العبيدي ص 23.

ويقدر ذلك من يدرس هذا العلم بأجهزته الحديثة، هنا يقول "سكينر": "إن مهمة علم النفس أن يبحث عن النظام الذي تسير وفقا له الظاهرة النفسية"1, ويقول الدكتور "عبد العزيز القوصي" بعد أن استعرض تاريخ علم النفس: "إن علم النفس كان يبحث أولًا في الروح, ثم صار يبحث في العقل, وانتقل بعد ذلك إلى الشعور, وأخيرا صار موضع بحثه هو السلوك الخارجي", ويقول "وودورث" عبارة فكهة: "إن علم النفس عند أول ظهوره زهقت روحه ثم خرج عقله ثم زال شعوره, ولم يبق منه إلا المظهر الخارجي وهو السلوك"2,ويقول الأستاذ "ت. ج. أندروز" تأييدا لرأي "أ. ج. يورنج": "إن علم النفس استقر إلى محاولة تأويل القدرات الوظيفية للإنسان ووصفها"3, وهذا حق يقتنع به من يقارن بين الدراسات النفسية القديمة والحديثة, إذ إن الدراسات القديمة كانت منصبة بصفة خاصة على جوهر النفس وخلودها ووحدتها, والصلة بينها وبين الجسم والأدلة على ذلك4. بينما الدراسات الحديثة تتركز أساسا على مظاهر الأداء في ميادين الحياة المختلفة, ومن هنا تفرع علم النفس إلى فروع كثيرة جدا, مثل: علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التربوي والصناعي والمهني والطبي والجنائي وما إلى ذلك5, وكل فرع من هذه الفروع له فروع كثيرة أخرى لا نستطيع أن نحصيها هنا. تلك هي الاتجاهات العامة النظرية والدراسية في الطبيعة الإنسانية, ولننتقل

_ 1 التعلم أسسه مناهجه نظرياته: الدكتور أحمد زكي صالح ص 300. 2 علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية: الدكتور عبد العزيز القوصي ص 25. 3 مناهج البحث في علم النفس. ت. ج. أندورز. أشرف على ترجمته الدكتور يوسف مراد جـ1 ص 12. 4 وكنموذج لهذا كتاب: في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام. الدكتور محمود قاسم. 5 مجالات علم النفس للدكتور مصطفى فهمي، وانظر كذلك كتاب: علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية عبد العزيز القوصي.

الآن إلى الاتجاه الإسلامي.

رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية

رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية مدخل ... ثانيا: رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية: إذا كانت دراسة الطبيعة البشرية وجدت الاهتمام الكبير عند الفلاسفة والعلماء غير المسلمين فإنها وجدت أيضا الاهتمام نفسه من الدارسين المسلمين, غير أن المعوقات التي أشرنا إليها حالت دون كشف حقيقة هذه الطبيعة. وكما اقترنت هذه المعوقات بدراسات أولئك اقترنت أيضا بدراسات هؤلاء, ولم يؤثر ذلك في طبيعة تلك الدراسات بصفة عامة, بل أثر كذلك في طبيعة الدراسات الإسلامية التي كان بعضها يستهدف -على الأقل- بيان رأي الإسلام في هذه الطبيعة, لكن اتباع أصحابها اتجاهات ومناهج مختلفة, وتأثرهم بآراء الآخرين واتجاهاتهم أو اعتمادهم على آرائهم الشخصية السابقة على البحث والدراسة, ثم محاولتهم فرضها على الإسلام, كل ذلك كان سببا لعدم وصولهم إلى نتائج مرضية. ولا نعدم أن نجد لديهم جهودا مخلصة, ولكن يجب أن نشير هنا إلى خطأ منهجي وقعوا فيه كما ذكرنا في المقدمة وهو: أن بعضهم كان يستخلص رأيا معينا من نص واحد, ثم يحاول تفسير رأي الإسلام كله في هذا الموضوع في ضوء ذلك الرأي المستنبط من النص الواحد, ونتج عن ذلك تصوير جزء من الحقيقة أو جانب منها فقط. وعندما سرت على الطريقة التي ذكرتها في المقدمة في هذا الموضوع, وجمعت جميع النصوص المتعلقة بالطبيعة الإنسانية وجدتها قد تحدثت عن ثلاث نواحٍ منها:

الأولى: طبيعة خلق الإنسان والأطوار التي مر بها. الثانية: الطباع الدفينة والمركبة في هذه الطبيعة. الثالثة: الخصائص العامة للإنسان التي نتجت عن طبيعة التكوين بهذه الصورة. أ- أما بالنسبة لطبيعة الخلق فقد ذكر الله سبحانه أنه خلق الإنسان أطوار: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً, وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} 1, وكان أول طور هذا الخلق أن بدأ به من الأرض فأخرج الإنسان من هذه الأرض كما أخرج النبات {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} 2, ولقد شرح الرسول كيف بدأ هذا الخلق فقال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحسن والخبيث والطيب وبين ذلك" 3, وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} 4, ثم اختلط بالماء فأصبح الماء عنصرا في تكوين الإنسان {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 5, {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 6, فأصبح التراب بذلك طينا, ومن هنا قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} 7, بعد ذلك استخلص من الطين خلاصته {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} 8, ثم مكثت هذه السلالة حتى أصبحت طينا لازيا {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} 9, ثم بعد ذلك صب هذا الطين اللازب في قالب معين وصوره في

_ 1 نوح: 13-14. 2 نوح: 17. 3 الجامع الصغير جـ1 فصل الألف ص 70. 4 الروم: 20. 5 النور: 45. 6 الأنبياء: 30. 7 السجدة: 7. 8 المؤمنون: 12. 9 الصافات: 11.

صورة إنسان ثم تركه حتى يبس وأصبح صلصالا يرن كالفخار {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 1, ويذكر القرطبي أنه لما كان جسدا من غير روح مرت الملائكة به فلما رأته فزعت منه, وكان إبليس أشد منهم فزعا, وكان يضربه لما كان جسدا قبل نفخ الروح فيه، فكان يصوت كالجسد كما يصوت الفخار وكان يقول للملائكة أرأيتم هذا الذي لا يشبه واحدا من الخلائق2, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه, فجعل إبليس يطوف به, فلما عرف أنه أجوف عرف أنه لا يتمالك" 3. وبعد أن سواه وصوره بتلك الصورة نفخ فيه الروح وأمر الملائكة بالسجود له {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4, {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} 5, وبعد خلق آدم بالأطوار السابقة خلق حواء زوجته من نفسه {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 6, وجاء في الحديث أن الله خلق حواء من ضلع آدم: "إن المرأة خلقت من ضلع, وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه, فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء" 7. وعن طريق التزاوج بين آدم وحواء جاءت ذريته {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 8.

_ 1 الحجر:26. 2 تفسير القرطبي جـ1 ص285. 3 شرح العسقلاني للبخاري جـ7، باب خلق آدم ص171. 4 الحجر: 29. 5 الأعراف: 11. 6 الأعراف: 189. 7 فتح الباري بشرح البخاري جـ7 باب خلق آدم وذريته ص177. 8 الأعراف: 189.

وبهذه الطريقة تناسل بنو آدم وكثروا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} 1. هنا ننتقل إلى أطوار أخرى في الخلق, وهي أطوار خلق الطفل من التزاوج, فنجد أن خلق الطفل يبدأ بتلقيح الحيوان المنوي من الرجل بالبويضة من المرأة في داخل الرحم {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ, ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 2. وقد ذكر القرآن هنا ثلاثة أطوار: طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} 3, وجاءت هذه الأطوار في آية أخرى بلفظ آخر, فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ, ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ, ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4. وإذا نظرنا إلى رأي الأطباء في أطوار خلق الجنين, نجدهم يقسمونها تقسيمات مختلفة, لكن أغلب التقسيمات تتجه إلى اتجاهين: الأول: تقسيمها بناء على المدة الزمنية، والثاني: بناء على التطورات في النمو والخلق، وفي التقسيم الأول منهم من يقسمها بالأسابيع ومنهم من يقسمها بالشهور، وفي

_ 1 النساء: 1. 2 السجدة: 7-8. 3 الحج: 5. 4 المؤمنون: 12-14.

التقسم الثاني منهم من يقسمها بناء على الأشكال التي يأخذها الجنين, ومنهم من يقسمها بناء على أهم مراحل النمو المتميزة، وفي هذا التقسيم الأخير يمر الطفل بثلاث مراحل وأطوار هامة: طور الخلية الملقحة وانقسامها, ويسميها بعضهم مرحلة التوتة؛ لأنه يأخذ شكل التوتة في آخر المرحلة، ثم طور العلقة؛ لأن هذا الطور يبدأ بتعلق الخلية بجدار الرحم، والطور الثالث طور التخلق, وهو الطور الذي يبدأ فيه ظهور الأعضاء والأجهزة المختلفة, وهذا الطور ينتهي بالولادة1. وبعض الأطباء يقسم تلك الأطوار إلى طور العلقة وطور المضغة ثم طور التخلق على أساس يبدأ طور العلقة من تعلق الحيوان المنوي بالبويضة2. ولو أننا أردنا المقارنة بين الأطوار المذكورة في القرآن والأطوار التي حددها الأطباء لوجدنا اختلافا في بعض التقسيمات, وشيئا من الاتفاق في بعض التقسيمات الأخرى, وربما كان أقرب تقسيم طبي يتفق مع القرآن هو هذا التقسيم الأخير الذي يبدأ ببداية مراحل النمو المتميزة, وينبغي أن ننبه هنا إلى أن هذه التقسيمات لا تناقض بعضها البعض من حيث الحقيقة إذ إنه من الممكن أن نقسم أي حقيقة بتقسيمات مختلفة, أو أن نسمي تقسيمات معينة بأسماء مختلفة حسب الغرض الذي يُؤْثِرُ هذا التقسيم أو ذاك. أما الأطباء فيقولون: إن المرحلة الأولى من التلقيح إلى الغوص في جدار

_ 1 انظر المراجع الآتية: أتكوين الجنين: الدكتور شفيق عبد الملك ص 120. ب جسم الإنسان: برنارد جلمسر. ت. د صلاح الدين سلام ص 14-15. جـ سيكولوجية الطفولة والمراهقة: الدكتور مصطفى فهمي ص 36. د تفسير سورة العلق: جمال الدين عباد ص 98. 2 القرآن والطب ص 49: دكتور محمد وصفي.

الرحم تأخذ ثلاثة أسابيع, والمرحلة الثانية تبدأ ببداية الأسبوع الرابع تقريبا وتنتهي بنهاية الأسبوع الثامن، والمرحلة الثالثة تبدأ من نهاية الأسبوع الثامن إلى الولادة, وهنا تقسيم زمني آخر إلا أنه لا يتفق بأي حال مع التقسيم الزمني كما ورد في بعض الأحاديث, على أي حال فإننا نلاحظ وجود التضارب بين أحاديث الباب وعدم إمكان ترجيح بعضها على بعض، وكما قلنا في المقدمة إننا لسنا ملزمين بكل ما ورد من الأحاديث في الأمور الطبية, لكل هذا نقصر اعتمادنا على الآيات في هذه النقطة. إذًا لنعد إلى وجه المقارنة بين ما ورد من الأطوار في القرآن وبين ما جاء في الطب قلنا: إنه ليس هناك خلاف حقيقي بين القرآن والطب في هذه النقطة, وخاصة أن عرض القرآن للأطوار جاء عاما, وهو قد ورد في صدد الاستدلال على وجود الله وقدرته الفائقة, ومن هنا نرى أن القرآن أشار إلى بداية أطوار هامة, هي التي يكمن فيها السر الغامض في خلق الجنين, وإذا عرضنا بإيجاز تلك الأطوار التي أشار إليها القرآن وجدنا ألغازا في سر الخلق والقدرة الفائقة, فالطور الأول عبر عنه القرآن بأنه طور النطفة: نطفة الأب والأم أو خليتهما ثم النطفة المكونة منهما أو الخلية الملقحة التي تتكون نتيجة اتحاد الخليتين معا, والسر العجيب هنا يكمن في خلقه الخلية ثم في طريقة اتحاد الخليتين وأخيرا في تكون خلية ونموها من الخليتين السابقتين، ويقول الأطباء هنا: إن تكون الجنين يبدأ من الخلية البشرية المخصبة التي تحتوى على 48 كروموزوما "صبغية" وكل كرموزوم يحوي عددا لا يحصى من الجينات: "أي الأمشاج" التي ترجع إليها خصائص الأطفال فيما بعد, والتي تكمن فيها العوامل الوراثية, وهذه الخلية

البشرية تختلف في تكوينها عن الخلية الحيوانية, فمثلا تتكون خلية الخيول من 65 كروموزوما بينما تتكون خلية الكلاب من 52 كروموزما, والصبغيات الثماني والأربعون التي تتكون منها الخلية البشرية يأتي نصفها من خلية الرجل والنصف الآخر من خلية المرأة، وعن طريق تزاوج كل صبغية من صبغيات المرأة بعد الإخصاب في بوق الرحم تكتمل الخلية البشرية الأولى, وبعد ذلك تبدأ هذه الخلية تنقسم على نفسها, وذلك عن طريق انقسام كل صبغيتين مزدوجتين إلى نصفين, وبذلك يصبح عدد الصبغيات 96 صبغية في الخليتين ثم ينقسم كل واحد منهما إلى قسمين وهكذا يستمر هذا الانقسام, والخلية في حالة الانقسام تمر من البوق إلى الرحم حتى تلتصق في جدار الرحم وتتعلق به، وعند وصولها إلى هذه المرحلة تأخذ شكل ثمرة التوت، ويقولون: إن هذه المسيرة تأخذ أسبوعا على وجه التقريب وبعد التصاقها في جدار الرحم لا تستطيع أن تتحرك كما كانت تتحرك بحرية في قرارها في الرحم1. وعند علوقها في جدار الرحم تنتهي المرحلة الأولى وتبدأ مرحلة العلقة. وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى مخالفة المفسرين في تفسيرهم للعلقة بأنها: دم جامد إذ إننا لا نجد في أي مرحلة من مراحل تكوين الجنين أنه يأخذ أو يتحول إلى دم مجمد أو كتلة من الدم كما يقولون2, واللغة تسعفنا في هذا فإن مفهوم العلقة لغويا أمران: أحدهما الدم الجامد, وثانيهما التعلق, ونحن لنا الحق أن نفسر بل الواجب أن نفسر في ضوء المكتشفات العلمية طالما تساعدنا في ذلك اللغة.

_ 1 جسم الإنسان ص 14-95، تكوين الجنين ص 72-98. 2 القرآن والطب: دكتور محمد وصفي, دار الكتب الحديثة, ص 43.

كما فسروا هم في ضوء معلوماتهم وثقافتهم, وعلى حسب ما فهموا من اللغة. ومعلوم أن الثقافة تؤثر في الفهم وتؤثر في ترجيح أحد المعاني اللغوية على الآخرى. وهذه المحاولة الجديدة لتفسير الآيات واجبة علينا؛ لأننا نجد أعداء الإسلام يتخذون تلك التفسيرات الخاطئة شاهدا ضد الإسلام, ونقطة ضعف فيه بل إنهم يقولون: إن القرآن يقول كلاما باطلا, ويستشهدون على ذلك بتلك التفسيرات الباطلة؛ لأن مكونات الدم غير مكونات الخلية, ولا يمكن أن يتحول أحدهما إلى الآخر. ومهما يكن من أمر فإن العلقة بداية مرحلة جديدة في تكوين الجنين؛ لأن الخلية التوتية "وسميت توتية لشبهها بالتوت" في هذه المرحلة تأخذ شكل الكرة, وتبدأ الخلايا المكونة لها تتحلل إلى مادة سائلة تعمل على فصل بعضها عن بعض, وهنا يبدأ يتكون الجسم الإنساني من مجموع تلك الخلايا الباقية التي لا تدخل في ذلك التكوين إلى غلاف وقائي مملوء بالمواد السائلة لحماية الجنين, ويتصل جزء من هذا الغلاف بالرحم, وهو وسيلة لتغذية الجنين من الأم أولا وللتخلص من المواد التالفة ثانيا, ثم يتحول شكل الجنين بعد ذلك إلى شكل البيضة, ويسمونها أحيانا البويضة, غير أنه لا تظهر فيه علامات الأعضاء بعد, وربما إلى هذا أشار القرآن بالمضغة؛ لأنه بقدر ما يمضغ ولأن شكله كأنه قطعة لحم, وفي بداية المرحلة التالية يبدأ بروز الأعضاء, ثم يأخذ الجنين صورة الطفل, إلا أن هذه التقسيمات غير فاصلة كما يقول الأطباء وإنما هي أطوار أو معالم بارزة في تكوين كل جنين, هذه الأطوار تلفت الأنظار بصفة خاصة وتدعو الإنسان إلى الدهشة إذ إن أمر الخلية أو النطفة -بتعبير القرآن- أمر عجيب في خلقته ثم طريقة اتحاد الخليتين وتكوين خلية واحدة منهما ثم انقسامها بنفسها ومسيرتها في حالة

الانقسام من البوق إلى جدار الرحم والتصاقها في جدار الرحم وتغذيتها من الأم, ثم تحولها بعد ذلك قطعة جرثومية أو مضغة, وأعجب من هذا كله خلق الطفل من قطعة لحم، ولا يزال العلماء يتعجبون من سر هذا الخلق, ويتفكرون في تلك العوامل التي تلعب تلك الأدوار لتقوم تلك الخلايا بتلك الوظائف الغريبة؛ ولهذا فقد اتخذ القرآن تلك التحولات العجيبة في تكوين الجنين آية يستدل بها على تلك القدرة الخالقة الفائقة؛ ولذلك اعتبر كل طور خلقا جديدا, قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 1. تلك هي مجمل مراحل خلق الطفل في بطن أمه، وهناك أطوار أخرى بعد الولادة وهي: مرحلة الطفولة ثم المراهقة والشباب ثم مرحلة الرشد وأخيرا مرحلة الشيخوخة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} 2, ثم هناك مرحلة ثالثة وأخيرة في أطوار خلق الإنسان وهي البعث بعد الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 3, وهكذا يعرض لنا القرآن أطوار خلق الإنسان من مبدئه في الدنيا إلى منتهاه في الآخرة. ولنا أن نسأل: هل حصل التطور في خلق الإنسان من ناحية الحجم والشكل كما تدعي ذلك النظرية الداروينية؟ لقد أجاب الرسول على هذا السؤال عندما سئل فقال: "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا, فكل يدخل الجنة على صورة آدم, فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن" 4.

_ 1 الزمر: 6. 2 الحج: 5. 3 المؤمنون: 15-16. 4 فتح الباري بشرح البخاري جـ7، باب خلق آدم ص 175.

هذا الحديث يفيد حصول التطور في الحجم, ولكنه لا يفيد حصول التطور في الصورة, أو أن الإنسان تطور من حيوانات أخرى كما تدعي نظرية التطور, بل يؤكد الحديث أن صورة الإنسان اليوم هي الصورة نفسها التي خلق عليها, وأنه سيدخل الجنة بالصورة نفسها، ولقد نفى الرسول تطور الإنسان من الحيوان عندما دارت مناقشة بين الصحابة حول هذا الموضوع فقال: "إن الله لم يجعل للمسخ نسلا ولا عقبا وكانت القردة والخنازير قبل ذلك" 1, وقال: "إن الله خلق آدم على صورته" 2. أما حصول التطور في الحجم: في الطول والقصر وفي الضخامة والضمور وفي القوة والضغف وفي التكوين الجسمي, فقد حصل في تاريخ حياة الإنسان أو في بعض الأجناس, وقد أشار إلى ذلك الحديث السابق وتحدث عنه القرآن عندما ذكر أو تحدث عن بعض الأمم البائدة مثل ما ورد في قصة عاد قوم هود قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ, إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ, الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} 3, {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ, وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4, {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 5, {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ, سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 6، فهذه الآيات تدل على أن قوم عاد قد أوتوا بسطة في القوة والجسد.

_ 1 صحيح مسلم جـ16، كتاب القدر ص 214. 2 فتح الباري بشرح البخاري جـ13، باب الاستئذان ص 238. 3 الفجر: 6-8. 4 الأعراف: 65-69. 5 فصلت: 15. الحاقة: 6-7.

وورد في القرآن أن الله مسخ من الإنسان قردة وخنازير {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ, فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 1، {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} يقول ابن عباس: "إن أولئك قوم من اليهود, لما اعتدوا على ما حُرِّم عليهم أصبحوا في ديارهم قردة, ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام, ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل, وقد جعلهم الله قردة عبرة للناس الآخرين"3، يقول ابن كثير ردا على القائلين بأن المسخ كان معنويا لا صوريا: "بل الصحيح أنه معنوي وصوري معا"4, ونرى أن كلام ابن عباس وابن كثير وما ورد في الآية لا يتناقض مع قول الرسول سابقا, إذ إن الرسول نفى أن يكون للمسخ نسل أو عقب ولكنه لم ينف وقوع المسخ, وقد ذهب بعض الباحثين من علماء الغرب إلى أن القردة قد تحولت من الإنسان وأن أحد علماء الألمان قد أثبت ذلك في الحفريات في جنوب إفريقية5. على أي حال مهما كانت صورة التطور في خلق الإنسان فإنه يختلف عن نظرية التطور الداروينية, ولا تكون النظرية الإسلامية خاطئة؛ لأنها تخالف نظرية داروين كما يتوهمه بعض الناس؛ لأن نظرية داروين التطورية لم تثبت صحتها بعد, بل إن هناك براهين لكبار علماء الغرب على بطلان نظريته أو عدم ثبوتها علميا, وأجدني هنا مضطرا إلى تناول هذه النظرية من الجوانب التي يقتضيها هذا البحث

_ 1 البقرة: 65-66. 2 المائدة: 60. 3 تفسير ابن كثير, انظر تفسير الآية السابقة في البقرة جـ1 ص 105. 4 المرجع السابق جـ1 ص 106. 5 فلسفة النشوء والارتقاء: أرنست هيكل. ت. حسن حسين ص 61, وانظر كذلك مقدمة المترجم للمرجع نفسه.

حتى لا يوجه إلينا أننا نقول كلاما من غير دليل1.

_ 1 عالجت هذه النظرية في بحث خاص معالجة مفصلة تحت عنوان: نظرية التطور الداروينية في الميزان.

بطلان نظرية داروين علميا

بطلان نظرية داروين علميا: وإذا درسنا القائلين بالتطور نجدهم طائفتين: إحداهما تقول بالتطور العام في كل الموجودات في الكون بما يشتمل عليه من مادة وقوة وكائنات حية. وثانيتهما: تقول بالتطور الخاص وتقصره على الكائنات العضوية التي تشتمل على النبات والحيوان والإنسان, وداروين من هذه الطائفة الأخيرة والقائلون بالتطور أيا كان نوعه تواجههم مشكلة الخلق والخالق والقوى المسيرة لهذا التطور في العالم من داخله أو خارجه. وإزاء هذه المشكلة ينقسم هؤلاء إلى طائفتين: طائفة ترجع الأسباب البعيدة في نشأة التطور إلى خالق حكيم, حيث يقولون: "إن القوة التي تصدر عنها آثار التطور في الكون كله منذ بدايته لا بد من أن تكون فوق الطبيعة, وفوق الكون كله، تضع فيه ما تشاء من النظم والنواميس التي يتم التطور على أساسها، وهؤلاء يختلفون فيما بينهم: فمنهم من يقولون: إن الخلية الأولى هي التي خلقت فقط, وهذا مذهب لامارك, ومنهم من يقولون إن كل نوع خلق خلقا خاصا له, وطائفة لا ترجع أسباب ذلك إلى خالق, وهؤلاء يختلفون فيما بينهم: فمنهم من يقولون إن التطور يرجع إلى طبيعة المادة التي لا تفسير لها, إلا أنها وجدت هكذا, وأن التطور من طبيعتها أو من ضرورتها فالضرورة هي كل التفسير الذي يقدمونه علة للتطور. ومنهم من يقولون: إن التطور المادي والحيوي ناشئان عن طريق التولد

الذاتي والحياة نشأت عن الجماد عن طريق التولد الذاتي1. وأما إيمان أصحاب نظرية التطور الداروينية بالخالق ففيما يتعلق بداروين كان مؤمنا في أوائل حياته, وأصبح شاكا في آخريات حياته إلا أن شكه ليس ناتجا عن نطريته كما يقول هو بنفسه: "بأن مذهبه لا يقتضي من العقل أن ينفي وجود الله ,ولا أن يمس عقائد المؤمنين بوجوده, وأن الإيمان بأية ديانة من الديانات لا يتوقف على الفصل في قضية التطور إلى الرفض أو إلى القبول"2, وأما موقف "رسل لاس" و"لامارك" شريكي داروين في تأسيس نظريته فكانا يؤمنان بالخالق, وبأنه السبب في تطور الخلق..3 وهكذا نجد أن الأمر عكس ما يتصوره بعض الناس من أن كل القائلين بنظرية التطور لا يؤمنون بوجود الخالق, وأن هذه النظرية تقتضي عدم الإيمان به. وأما فيما يتعلق بصلب النظرية الداروينية وتقويمها تقويما علميا فقد نقدها كبار رجال العلم والفكر من حيث الأسس التي تقوم عليها ومن حيث الأدلة التي يستدل بها على صحتها, ولا أريد هنا سرد جميع هذه الانتقادات الموجهة إليها لكي لا يطول بنا المقام, ولكن أريد نقدها من زاوية من أهم الزوايا التي نريد بها إثبات وجودها والتي تتصل بموضوعنا هنا وهي طبيعة خلق الإنسان.

_ 1 تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية: للويس ماسينيون, المحاضرة الخامسة عشر, الكتاب مخطوط في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة برقم 2296. - انظر كذلك الإنسان في القرآن للأستاذ عباس محمود العقاد ص 80. 2 المرجع السابق للعقاد ص 139. 3 فصل المقال في فلسفة النشوء والارتقاء, أرنست هيكل, ترجمة حسن حسين ص 61، وانظر كذلك المرجع السابق للعقاد ص 141.

فالإنسان في رأي هؤلاء آخر حلقة من حلقات تطور الكائنات الحية, ولهذا فهو أرقى كائن حي أو هو أرقى حيوان، وللاستدلال على ذلك يعقدون المقارنة بينه وبين القردة العليا مثل: الشمبانزي والغوريلا لوجود التشابه بينهما باعتبار القرد آخر سلم التطور الحيواني قبل الإنسان, والمقارنة بين القردة العليا والإنسان يمكن أن نقسمها إلى قسمين: الأول في الجانب الجسمي, والثاني في الجانب السيكولوجي أو الروحي، وسوف أركز معالجتي على هذا الجانب الأخير؛ لأنني أرى أن تمايز الإنسان من حيث كونه نوعا مستقلا عن الحيوان يظهر أكثر وضوحا عند المقارنة بهذا الجانب الأخير1. إن الفارق الروحي بين الإنسان والقرد هو أهم فارق, وهو يعد حلقة من أهم الحلقات المفقودة، وأكبر فجوة من الفجوات التي لم تستطع الآثار والدراسات الحديثة أن تكملها أو تملأها حتى الآن، ولم يستطع علماء الأحياء أن يؤكدوا وجود أصل حيواني لروح الإنسان2, ثم إن داروين نفسه اعترف بوجود ثغرات واسعة في نظريته تنتظر من يسد خلتها3, كما اعترف بأنه يتكلم عن الأطوار التي تؤثر في جسد الإنسان ولا شأن له بما عدا ذلك من الملكات الروحية التي يقررها له الدين4. والملكات الروحية أو النفسية في الإنسان كما يقررها علماء النفس والتربية هي: الإدراك والتذكر والخيال والشعور واللاشعور والتوقع والإحساس

_ 1 عالج الأستاذ العقاد بإفاضة الجانب الجسمي في كتابه "الإنسان في القرآن" 2 معالم تاريخ الإنسانية جـ1 ص 33. 3 المصدر نفسه جـ1 ص 64. 4 الإنسان في القرآن ص 89.

الخلقي والأدبي1. والإدراك قد يكون عن طريق المحسوس أو عن طريق الرموز أو يكون من غير واسطة كالحدس مثلا, فالإدراك عن طريق الرموز والحدس خاصان بالإنسان, فالقرد لا يستطيع أن يفهم مثلا من العلم أنه رمز الوطن ولا يستطيع أن يفهم معنى الكتابة أو يفك الرموز الأثرية، قد يفهم القرد بالتعلم عن طريق بعض الإشارات الرمزية لبعض الأمور المحددة, ولكن ذلك لا يمكن أن يقاس بفهم الإنسان، ومن هنا نجد للإنسان ثقافة وليست للقردة أية ثقافة؛ وذلك لأن الثقافة عبارة عن رموز للمفاهيم المختلفة، والإدراك عن طريق الأقيسة المنطقية التي يستخدمها الإنسان لا نجد له مثيلا لدى القرد، لذا من حقنا أن نقول هنا: إن ما نجد لدى الإنسان من آفاق الإدراك لا نجد حتى عشرها لدى القرد. وكذلك التذكر الذي هو إعادة الماضي إلى الحاضر والحياة بالماضي في الحاضر, والذاكرة قسمان: عضوي مثل تذكر ألم حادثة أو لذة طعام, ومعنوى وهو: القدرة على عكس الماضي وتصوره في الحاضر والحياة به كما في الماضي, وهذه الذاكرة الأخيرة يتميز بها الإنسان، ويدخل في ضمن الذاكرة الشعورية واللاشعورية, ومن قدرة الإنسان إدراك الشعورية من اللاشعورية وإخضاع الأخيرة للأولى، وإذا كانت اللاشعورية يمكن أن توجد في القرد فلا يوجد عنده التمييز بين الأمرين, ولا توجد عنده القدرة على توجيه سلوكه اللاشعوري بالشعوري2. أما فيما يتعلق بالخيال فهو كذلك يتيح للإنسان أن يحيا في عالم أوسع

_ 1 فلسفة التربية: فيليب هـ. فينكس، ترجمة الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 712. 2 المرجع السابق فيليب فينكس ص 712 وما بعدها.

من عالم الواقع حيث يستطيع عن طريق الخيال أن يخلق عالما يجمع فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل. وكذلك التوقع وهو إدخال المستقبل في الحاضر وتكييف الحاضر بناء على التوقعات في المستقبل، ويدخل هنا الأهداف ووضعها, والعمل من أجل تحقيقها أو تكييف الحياة وفقا لها، ثم العمل بالمثل العليا والسمو بها على مستوى الحياة الغريزية, وكلها من مميزات الإنسان, إلى جانب هذا هناك مميزات هامة تجعل الإنسان مخلوقا مميزا من جميع الحيوانات، فمنها الحضارة ومنها السمو بالذات على الواقع وعلى ضرورات الحياة الغريزية وتوجيهها وفقا لأفكار تتجاوز حدود كينونته كمخلوق مادي أو حيواني، إنه صغير من حيث الحجم كالحيوان لكنه يتعالى على حجمه وعلى جميع الحيوانات ويعيش في عالم أوسع وأكبر من عالم الحيوانات؛ لأنه عالم بنفسه أوسع من العالم المحسوس أمام عينيه, ويبحث عن شيء وراء ذلك, يبحث عن موجود سبب لوجوده ولوجود عالمه, وأين نجد هذا التفكير الديني وهذا الشعور الديني لدى القرد؟!. ومنها أيضا الروح والحياة التي يحياها كل إنسان عندما يعود إلى نفسه ويتأمل في نفسه وفي هذا الكون، فهو في هذه الحالة يشعر أنه يعيش في حياة فوق مستوى الحياة المادية، وهذا شاهد صدق على وجود الروح التي تميز الإنسان تماما عن الحيوان. من أجل هذا كله فقد نقد كبار العلماء والمفكرين نظرية داروين وخاصة فيما يتعلق بتطور الإنسان عن الحيوان وهذا "والاس" من القائلين بالتطور يقرر أن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان ولا بد من القول بخلقه

رأسا وهذا "شابمان بنشر" من علماء التشريح يقول: "إنه لا احتمال لتسلسل الإنسان من القردة كما نعرفها؛ لأن القردة منفردة بتركيب خاص يستحيل تشريحيا أن يتطور منه تركيب الإنسان"2, وقال "هكسلي": "إنه لا ريب في أن الذين يعتقدون الارتقاء يجهلون أنه نتيجة مقدمات "مثل التولد الذاتي والتنازع للبقاء والانتخاب الطبيعي" لم يسلم بها, ومن المحقق عندي أنه لا بد من تغيير مذهب داروين 3, ولهذا قالوا: "إن مذهب داروين فرضي محض, ولو تمسك به بعض العلماء؛ لأن العقل وهو آلة التمييز لا يمكن أن يفهم شيئا متصلا وهو النشوء بواسطة شيء منفصل وهو الاختلاف بين الأنواع.. فإن كان معقول متميز وكل متميز محدود وكل محدود معدود منفصل، وإذا كان التباين جاء نتيجة التغير أو جاء بالانتخاب الطبيعي الذي يثبت به التغيرات المفيدة, لكن إذا كان الأمر كذلك فإنه لا توجد فائدة للحيوان في أولى درجات التغير التدريجي وكيف يثبت الانتخاب ويكون كإرادة عاقلة لها غاية"4, ويقول الدكتور "جوستاف جوليه": "إن مذهب لامارك ومذهب داروين يستويان في القصور, فإنهما لا يفسران التحول من الحياة الهوائية, فكيف استطاع الحيوان الزاحف وهو سلف العصفور أن يناسب البيئة التي ليست له, ولا يمكن أن تكون له إلا بعد أن يتحول من قبل أن تكون له أجنحة نافعة، وكيف تصل الدودة شيئا فشيئا إلى إيجاد أجنحة لجسمها تصلح له حياة هوائية. ثم يقول: "يكفي لإبطال النظريات الداروينية أن يتأمل الإنسان حشرة

_ 1 الإنسان في القرآن للعقاد ص 224. 2 المرجع السابق للعقاد ص 93. 3 المصدر السابق للعقاد ص 124. 4 المحاضرة الخامسة عشرة من كتاب لويس ماسينيون السابق الذكر.

الشرنقة فإنها ظهرت في أقدم عصور الحياة الأرضية, وثبتت أنواعها في جميع الأحوال, فهي تناقض ما ذهبوا إليه من التحولات المستمرة البطيئة, وتناقض التطور بفعل الفواعل الخارجية، فإنها تنقلب داخل الشرنقة من حال الدودية إلى حشرة طائرة ولا تأثير لشيء عليها من الخارج, كما أن الهوة عميقة بين الحال الأولى وهي الدودية, والحال الثانية وهي حال الحشرة"1. بعد هذا النقد لنظرية داروين التطورية في خلق الإنسان من زوايا مختلفة نستمر في مواصلة عرض الطبيعة البشرية في نظر الإسلام, وإتمام هذا العرض سوف يكون مزيدا من النقد لتصور تلك النظرية للطبيعة البشرية. 2- الطبائع الدفينة والمركبة في الطبيعة الإنسانية. شرحنا نظرية خلق الإنسان في الإسلام من مبدأ خلق الإنسان الأول وزوجه, وكيف خلق الناس منهما وتكاثروا فيما بعد، ثم أهم الحقائق التي دخلت في تركيب الإنسان, ويمكن تلخيصها في تكوينين رئيسيين: الأول تكوين أرضي مادي ويتمثل في التراب والماء أو ما يتركب منهما, وهو الطين وقد نتج عن ذلك التكوين البيولوجي للإنسان, وظهرت منه الحاجات المادية الأولية والصفات التابعة لها كما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه. والثاني تكوين سماوي روحي ويتمثل في التكوين السيكولوجي أو الجانب المعنوي للإنسان، ونتج عن هذا التكوين دوافع وصفات معينة خاصة بالطبيعة الإنسانية, وقبل بيان تلك الدوافع والصفات أرى ضرورة تحليل تكوين هذا الجانب المعنوي في الإنسان.

_ 1 فصل المقال في فلسفة النشوء والارتقاء ص 45.

وإذا تأملنا الآيات والأحاديث الواردة فيه والتي تعبر عن هذا الجانب وجدنا أنها تتحدث عن أربعة أمور وهي: النفس والروح والقلب والعقل، وتصف كل واحد منها بعدة أوصاف، لكن هل لكل واحد من هذه الأمور حقيقة بذاتها وصفات تابعة لها خاصة بها، أو أنها وظائف وصفات مختلفة لحقيقة روحية واحدة، ثم إذا كانت مستقلة فما مدى صلتها بالتكوين البيولوجي والفسيولوجي للإنسان؟ لو أننا نظرنا إلى آراء الفلاسفة في هذا الموضوع لوجدنا فيها ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يمثله سقراط وأفلاطون والمتصوفون1 عموما، وهو بوجه عام يرى أن النفس جوهر روحي مستقل عن الجسم, وهي واحدة ولها قوى ووظائف مختلفة, والاتجاه الثاني: يمثله أرسطو ومن تبعه من علماء النفس، ويرى هذا الاتجاه عموما أن النفس صورة منطبعة مع الجسم لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ لأنه لا وجود لها إلا مع الجسم2, فبناء على هذا الاتجاه ليس هناك تكوين بيولوجي وسيكولوجي مستقل كل منهما عن الآخر، بل الإنسان في الحقيقة وحدة يتكامل فيها جسمه وروحه, أما الاتجاه الثالث فيحاول التوفيق بين الاتجاهين السابقين، ويمثله الفلاسفة المسلمون من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد، وإذا كان بينهم من اختلاف فهو من حيث الدرجة لا من حيث النوع أي: في درجة الميل نحو الاتجاه الأول أو الثاني، وأكثرهم إخلاصا لهذا التوفيق هو الفارابي وابن سينا حيث إنهما عرَّفا النفس كما عرفها أرسطو من حيث الصيغة "بأنها صورة لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة"3, ومن حيث التفسير قالوا كالاتجاه الأول: بأنها جوهر مستقل عن الجسم.

_ 1 محي الدين بن عربي وليبنتر ص 285. 2 الدكتور محمود قاسم: في النفس والعقل ص 69 طـ3. 3 الدكتور محمود قاسم: دراسات في الفلسفة الإسلامية ص 30 طـ1.

وباختصار فإن هذا الاتجاه يرى أن النفس كمال للجسم وجوهر مستقل في الوقت نفسه، ولا أقول: إن كل هذه المحاولات كانت خاضعة كلية للرغبة في التوفيق بين الفلسفتين, بل أقول: إنه إلى جانب تأثير هذه الرغبة كان للإسلام تأثير أيضا في هذه المحاولة، ذلك أن الإسلام يقر أيضا بوجود الجانبين في كيان الإنسان عموماًَ. ومن هنا نجد الغزالي مثلا يعرِّف كل ما جاء به الإسلام من نصوص متعلقة بالجانب الروحي مثل: النفس والروح والعقل والقلب, بتعريفين: تعريف مادي وتعريف معنوي, ويحاول أن يجد لذلك سندا من النصوص الإسلامية فيعرِّف الروح -مثلا- "بأنها جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني, فينشر بواسطة العروق ضوارب إلى سائر الجسم، وجريانه في البدن يضاهي النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت, فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به, والمعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان"1, والنفس أيضا لها معنيان: أحدهما أنه يراد بها المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان. والمعنى الثاني هو اللطيفة التي ذكرناها والتي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها, فإذا سكنت أصبحت النفس المطمئنة, وإذا دافعت النفس الشهوانية واعترضت عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها في تقصيرها في عبادة مولاه. "وأما القلب فيطلق على معنيين أيضا: أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها

_ 1 إحياء علوم الدين جـ3 ص 3.

بهذا القلب الجسماني تعلق, وتلك هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب, ولها علاقة مع القلب الجسماني, وتعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات"1. "وأما العقل فله معنيان أيضا أحدهما أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب, والثاني أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب, أعني تلك اللطيفة.. ", ثم يقول الغزالي: "فإذن قد انكشف لك أن هذه الأسماء موجودة وهي القلب الجسماني والروح الجسمانية والنفس الشهوانية والعلوم, فهذه أربعة معانٍ يطلق عليها الألفاظ الأربعة, ومعنى خامس وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها"2. والآن لنرجع إلى رأي الإسلام في تلك الحقائق الروحية في الطبيعة الإنسانية, وقد قلنا: إن الآيات والاحاديث قد تحدثت عن أربعة أمور في الطبيعة الروحية والسيكولوجية. أما النفس فقد ذكر الله تعالى أنه خلق الناس من نفس واحدة, وقد وصف هذه النفس بعدة أوصاف: منها النفس المطمئنة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ, ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً, فَادْخُلِي فِي عِبَادِي, وَادْخُلِي جَنَّتِي} ووصفها مرى أخرى

_ 1 الإحياء جـ3 ص3 "الضمائر في النص مضطربة". 2 إحياء علوم جـ3-4. 3 الفجر: 30.

بالنفس الموسوسة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} 1, ومرة ثالثة بالنفس اللوامة {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} 2, ومرة رابعة بالنفس الأمارة بالسوء {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} 3. وهذه الآيات كلها تفيد أن النفس واحدة, لكن لها حالات وصفات متعددة, وترتيب الآيات بهذه الصورة يؤكد هذه الفكرة. فالنفس في حالتها الفطرية الطبيعية المستقيمة على منهج الله تكون مطمئنة ومستقرة, ولكن في بعض الحالات تأتيها خطرات الخروج على هذه الحالة, وتوسوس للإنسان بالشر، فإذا خضع الإنسان لهذه الوسوسة وعقد العزم على ارتكاب الشر أو ارتكبه فعلا، فإنها تستفيق من الغفلة وتلوم نفسها, فإذا استمرت في هذا الخضوع تنسى ربها وتصبح أمارة بالسوء، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة اتخذت إلهها هواها, فلا تستطيع بعد ذلك فكاكا إلا برحمة من الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 4, ولقد عبر القرآن أحيانا بالنفس عن الذات المشخصة لا عن أمر معنوي, فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} 5. ومن حقائق التكوين المعنوى في الإنسان التي تحدث عنها الإسلام: الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 6, {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ, ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} 7, {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 8, وإذا كنا لا نستطيع إدراك حقيقة هذه

_ 1 ق: 16. 2 القيامة: 2. 3 يوسف: 53. 4 الفرقان: 43. 5 البقرة: 72. 6 الإسراء: 85. 7 السجدة: 7-9. 8 الحجر: 29.

الروح لقلة علمنا كما قال تعالى، فإننا نستطيع أن ندرك مغزى ما يوحي به تركيبها في طبيعتنا من دلالات أخلاقية, وهي وجود شيء معنوي سماوي قدسي الذي يجعلنا نميل فطريا إلى السمو والاستعلاء على الوجود المادي الأرضي, كما يوحي بالمساواة الإنسانية بين الناس حيث إن خلقتهم واحدة، ثم يوحي أخيرا بقيمة الإنسان وقدسيته. وأما القلب فكل الآيات التي وردت في حق القلب قد عبرت عن معناه الروحي فقط لا عن معناه المادي الذي ورد في الحديث، ومصداق ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ, إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1, {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 2, {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} 4, {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 5, أما الحديث الذي ورد فيه معنى القلب المادي والمعنوي فهو قول الرسول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" 6. مما سبق نستخلص عدة صفات للقلب وهي: السلامة والإنابة والغلظة والتفقه والزيغ، ووُصف في نصوص أخرى بالقسوة والعمى والرأفة والاطمئنان والتقوى والتعقل.

_ 1 الشعراء: 88-89. 2 آل عمران: 159. 3 الأعراف: 179. 4 البقرة: 88. 5 آل عمران: 7. 6 فتح الباري جـ1، كتاب الإيمان باب فضل من يستبرئ لدينه صـ 134.

وأما العقل فقد اختلف الفلاسفة في حقيقة العقل, فقسمه أرسطو إلى ثلاثة أقسام: الأول العقل الهيولاني أو بالقوة: وهو الجزء المستعد من النفس لقبول معاني الأشياء, والثاني العقل بالفعل أو العقل المستفاد، وهو ما يحصل للعالم حين يستطيع أن ينتقل إلى الفعل بنفسه أي: عند مباشرة العقل المدركات. الثالث العقل الفعال: وهو المرتبة التي يصل إليها العقل عندما يدرك تلك المعاني وينتزعها فعلا من المدركات الخارجية الحسية1. وقسمه الفارابي إلى أربعة أقسام: الأول هو ما قاله أرسطو في المعنى الأول, والثاني العقل بالفعل الذي قال به أرسطو أيضاً، والثالث العقل المستفاد وهو الثاني نفسه عندما يتحد بالصورة العقلية وتصبح هذه الصورة صورة له, والرابع العقل الفعال وهو مقارن للنفس موجود في أقرب الأفلاك إلينا وهو فلك القمر الذي تفيض منه المعقولات على النفس والعقل2. وقسم ابن سينا معاني العقل تقسيماً مشابها لتقسيم الفارابي3. وقسمه الغزالي إلى قسمين: أحدهما يراد به العلم بالحقائق, وثانيهما تلك اللطيفة المدركة من القلب4. تلك هي نظرة القدماء إلى العقل وقواه أو قدراته، ولننظر الآن إلى رأي المحدثين من علماء النفس في العقل وقدراته. يغلب على تعبيرات المحدثين التعبير عن العقل بالذكاء أو القدرات العقلية, وهم يختلفون اختلافاً كبيراً في

_ 1 كتاب النفس لأرسطو طـ 1. ت. د. أحمد فؤاد الأهواني ص 108. 3 في النفس والعقل: الدكتور محمود قاسم ص 203. 3 المرجع السابق نفسه ص 211. 4 إحياء علوم الدين جـ 3 ص 4.

ماهيته وقدراته. فقد عرفه "سبيرمان" مثلاً بأنه: القدرة على إدراك العلاقات, بسيطة كانت أم صعبة خفية1، وعرفه "ركس نايت" بأنه: القدرة على اكتشاف الصفات الملائمة للأشياء أو الأفكار وعلاقات بعضها ببعض, وعرفه "ثورندايك" بأنه: القدرة على مجرد تكوين ترابطات، واقترح ثلاثة مستويات للذكاء: وهي الذكاء المجرد والذكاء الاجتماعي والذكاء الميكانيكي، ويتضمن النوع الأول استعمال جميع الرموز اللغوية والأرقام وغيرها، والذكاء الاجتماعي هو القدرة على تفهم الناس ومسايرتهم، والفرق بينهما أن الأول موروث بينما الثاني يرجع غالباً إلى الاكتساب، أما الذكاء الميكانيكي فهو السمة التي تنمو خلال ما يمنح للفرد من فرص تعليمية نتيجة لميوله, وذلك على أساس من الذكاء الفطري. وعرفه "فريمان" بأنه القدرة على التعلم، وذكر له أربعة أنماط: الأول هو تكيف الفرد بالبيئة الكلية المحيطة به, أو ببعض نواحيها, الثاني أنه القدرة على التعلم, الثالث أنه التفكير المجرد, الرابع أنه القدرة الكلية لدى الفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي والتعامل المجدي مع البيئة2, ويرى "إدوارد كلاباريد" أن الذكاء هو القدرة على المعرفة, والقدرة على التكيف مع الواقع3. وقد استقر مفهوم الذكاء أخيراً على يدي "ثيرستون" على أنه: قدرة القدرات وموهبة المواهب والمحصلة العامة، لجميع القدرات العقلية المعرفية الأولية4

_ 1 سيكولوجية الفروق الفردية: الدكتور يوسف الشيخ. 2 سيكولوجية الفروق الفردية: الدكتور يوسف الشيخ ص 103. 3 التربية الوظيفية تأليف إدوارد كلابارد, ترجمة الدكتور محمود قاسم ص 134. 4 الذكاء: الدكتور فؤاد البهي السيد, ص 248.

ويمكن إجمال رأي المحدثين دون دخول في كثرة من التفاصيل التي توجد في كتب علم النفس الحديث, بأن الذكاء أو القدرة العقلية لها صفات منها: الإدراك بوجه عام واستيعاب المعلومات وحفظها والعمل بمقتضى هذا الإدراك وتلك المعلومات وهذه الناحية أميل إلى الحكمة؛ لأن الحكمة هي العمل بالعلم كما تقتضي الأحوال والمواقف. أما رأي الإسلام في العقل فقد جاءت نصوص متعددة تعبر كلها عن أن العقل قوة مدركة في الإنسان خلقها الله فيه ليكون مسئولا عن أعماله؛ ولهذا بين الله تعالى أن سبب الانحراف والضلال هو عدم العمل بمقتضى العقل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1, وقال تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} 2, {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3, {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 4, {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 5, {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 6, {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 7, وأهم ما يمكن أن نستخلصه من هذه النصوص وغيرها فيما يتعلق بالعقل هو أن العقل قوة مدركة غريزية موجودة في الإنسان، وأنه يستعمل بمعنيين: الأول الإدراك، والثاني العمل بمقتضى الإدراك, وهو العقل العملي أو الحكمة.

_ 1 الملك: 10. 2 البقرة: 75. 3 البقرة: 44. 4 العنكبوت: 43. 5 الحج: 46. 6 الأنفال: 22. 7 يس:62.

والآن بعد عرض تلك الحقائق في الطبيعة الإنسانية يبدو لي وجود فروق واضحة بين هذه الحقائق, وتبدو تلك الفروق جلية في أن ما يدركه الإنسان بقلبه لا يدركه بعقله، وما يدركه بعقله قد لا يدركه بقلبه, إذن هناك خصوصية لإدراك كل من العقل والقلب؛ ولهذا قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 1، إذن رؤية القلب غير إدراك العقل, ودليل هذا الفرق تجريبي وليس دليلاً منطقيا، فالإنسان أحياناً قد يشعر بحقيقة في نفسه ولا يجد لها دليلاً منطقياً وبالعكس قد يجد دليلاً منطقياً على فكرة ولا يقتنع به قلباً2, ثم إن التفريق ضروري للتمييز بين النفس الحيوانية التي يشترك فيها الإنسان باعتبارها قوام الحياة وبين الروح الإنسانية التي هي نفخة من روح الله, والتي بها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان3. ويؤيد وجهة نظرنا هنا ما يقول الدكتور "محمد كمال جعفر" تعبيراً عن رأي المتصوفة، فالصوفية يصرون على وجود تمييز حاسم بين النفس والروح، ولا يقف الصوفية عند حد التصنيف بين النفس والروح, بل يتعدون ذلك إلى آرائهم في القلب الإنساني الذي لا يعنون به هذه المضغة الصنوبرية, بل يعنون به مركز النشاط العاطفي والروحي والفكري بمعنى خاص4.

_ 1 النجم: 11. 2 يقول بسكال بعد أن فرق بين العقل والقلب كوسيلتين للمعرفة قال بعد ذلك: "فما نعرفه بالقلب لا ندركه بالعقل, وما نبرهن عليه لا نراه ولا نلمسه" انظر بسكال، دكتور نجيب بلدوي، ص 135. 3 يعرف ابن عربي إدراك القلب ويقول: "هو حال يفجأ العبد في قلبه فإن قام نفسين فصاعداً كان شرباً", دراسات في الفلسفة الإسلامية. د. محمود قاسم طـ 3 ص 297. 4 التصوف طريقة وتجربة ومذهبا: الدكتور محمد كمال جعفر ص 98.

وفيما يتعلق بصلة الجانب السيكولوجي بالجانب البيولوجي في تركيب الإنسان أو تكوينه ذكرنا حديثاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- يوضح مدى هذه الصلة, وهو حديث القلب "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله" 1, هنا نجد الارتباط بين الجانبين، وجاء في حديث آخر كيف كانت الروح سبباً لحركة الجسم، فقد روى سعيد بن جبير عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما دخل الروح في عيني آدم -عليه السلام- نظر في ثمار الجنة فلما دخل جوفه اشتهى الطعام فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة" 2, ويرى ابن عربي أن الجسد ضرورة للنفس لتعكس العالم فهو وسيلة لذلك في يد النفس, ولكل روح جسد مصور مسوي معدل يشاكلها ويجانسها مزاجياً، وإذا كانت النفس تتجانس مع طريقة تركيب الجسم فإنها تظهر بصورته هنا، ويشرح رأيه أستاذي قائلاً: "وإذا تفاضلت النفوس فيما بينها فإنما ذلك بسبب تفاضل الأمزجة فيما بينها, وحقيقة التفاضل بين أفراد البشر إنما ترجع إلى الصورة التي شاء الله أن يركب فيها كل واحد منهم، وأن الله قد جعل الإنسان وعقله بحكم مزاج جسده, فإن النفس لا تدرك شيئاً إلا بواسطة هذه القوى التي ركب الله في هذه النشأة، فهي للنفس كالآلة فإن كانت مستقيمة على الوزن الصحيح ظهر حسن الصنعة بها, ويشبه العلاقة بينهما من حيث التأثير والتأثر بانعكاس الضوء على قطعة من الزجاج، فكما أن الضوء يتشكل باختلاف لون الزجاج من أخضر وأزرق وأصفر وما إلى ذلك، فكذلك النفس تتشكل بحسب أمزجة الأجسام المختلفة بين الناس، وإن كانت هذه النفس واحدة في أصلها, وإذا كانت النفس

_ 1 فتح الباري جـ 1 كتاب الإيمان ص 136, انظر حديث من ساء خلقه ص 264. 2 البداية والنهاية لابن كثير جـ 1 ص 86, انظر رأي ابن سينا: علم الأخلاق ص 197.

هي التي تدير الجسم وتبعث فيه الحياة والحركة، فإن الجسم لا يقبل من هذا التأثير إلا بقدر استعداده الطبيعي، ومن جهة أخرى فإن للأجسام تأثيراً في النفوس "فمنهم الذكي والبليد بحسب مزاج الهيكل الجسمي, فالأمر عجيب بينهما فكل واحد منهما مؤثر فيما هو مؤثر فيه"1. ومجمل القول يرى ابن عربي أن النفس وقواها المختلفة واحدة من حيث أصلها لكن هذه القوى لا تظهر لدى الناس بصورة واحدة بل تظهر بحسب اختلاف أجسامهم وأمزجتهم واختلاف الأجهزة المركبة في الجسم ومدى استعدادها لإظهار أو عكس قوى النفس المختلفة. ثم إن علماء علم النفس المحدثين قد أثبتوا بالطرق التجريبية وجود صلة ما بين العمليات العقلية المختلفة ومراكز تشريحية في المخ, بحيث إن إصابة أي خلل في أحد هذه المراكز يؤثر في العملية العقلية التي تعتمد عليه, ولكن العلماء حتى الآن لم يتفقوا على مدى هذه الصلة, هل هذه الصلة صلة التوازي مثلاً، أي: أن عناصر الدماغ وخلايا القشرة الدماغية تفرز الفكر كما تفرز الكبد السكر، وأن شتى الصور والمعاني التي تتوارد في الذهن ليست سوى تنشيط للآثار التي تركتها التجارب الحسية في الخلايا العصبية؟ والحقيقة أن الذي يدرس الآراء المختلفة في هذا الموضوع ثم يتأمل في تلك العمليات العقلية الجبارة لا يستطيع أن يرجعها جميعاً إلى عمليات آلية فسيولوجية قائمة على آليات الجهاز المخي؛ لأننا نشعر بالإنتاج أكثر من الطاقة الفسيولوجية أو أكثر من وظائف آلية لجهاز

_ 1 مقال عن طبيعة النفس لدى ليبنتس وابن عربي, الدكتور محمود قاسم, مجلة حوليات دار العلوم عام 1971م، انظر إلى كتاب محي الدين بن عربي وليبنتر ص 282-283.

مخي. ومن هنا يقول الدكتور "يوسف مراد": "ليست الحياة العقلية كلها نتيجة ترابطات ميكانيكية بين عناصر ووحدات مميزة مثل الإحساسات والصور الحسية والحركية, إن الارتباط يقوم بدور كبير في تكوين الآليات الجديدة في المجال الحسي والحركي ولكن العمليات العقلية العليا من إدراك وتذكر وتفكير، وخاصة عمليات الحكم والاستدلال، لا يمكن تفسيرها على أساس ارتباطي بحت، بل تتطلب نشاطاً عقلياً يفوق في طبيعته وتعقده النشاط الآلي، فهو نشاط إبداعي يستخدم الآليات المكتسبة كوسائل الإبداع والكشف دون أن يخضع لها أو يتقيد بها. ولا يمكن إرجاع عمليات الحكم والاستدلال إلى مجرد الارتباطات بين الصور الذهنية, وحتى التذكر ليس مجرد استرجاع الصور كما هي بل هو في صميمة عملية تمييز واختيار"1. وهذه الفكرة تتفق أو تكاد تتفق مع ما ذهب إليه "هنري برجسون" في رده على القائلين بوجود التوازي بين عملية الشعور وعملية المخ الآلي فيقول: "وماذا تقول لنا التجربة؟ في الواقع إنها تبين أن حياة النفس -وإن شئت فقل حياة الشعور- مرتبطة بحياة الجسم, وإن ثمة تضامناً بينهما ولا شيء غير ذلك، ولكن ثمة من ينكر هذه الحقيقة إلا أنه شتان بين أن نقرر ذلك وبين أن نقول إن الدماغي معادل العقلي, وأن في الإمكان أن نقرأ في الدماغ كل ما يجري في الشعور المقابل، إن الثوب الذي علق على مسمار متضامن مع هذا المسمار فإذا وقع المسمار وقع هو معه وإذا اهتز اهتز وإذا كان رأس المسمار حاداً جداً تمزق الثوب، ولكن ليس ينتج عن هذا أن كل جزء من أجزاء الثوب ولا أن المسمار

_ 1 مبادئ علم النفس العام: الدكتور يوسف مراد ص 306.

معادل للثوب؛ ولا أن المسمار والثوب شيء واحد, نعم إن الشعور معلق بدماغ ولكن ليس ينتج عن هذا أبداً أن الدماغ يرسم كل تفصيل الشعور ولا أن الشعور وظيفة للدماغ، وكل ما تسمح لنا المشاهدة والتجربة بتقريره هو أن ثمة علاقة بين الدماغ والشعور"1. 3- والآن فلننتقل إلى النقطة الثالثة والأخيرة في الطبيعة الإنسانية وهي طبيعة الخصائص الإنسانية العامة التي جاءت نتيجة تكوين الإنسان من تلك الحقائق المادية والروحية معاً. نحن نعرف أن الكل ليس مجرد مجموع أجزائه بل قد تكون هناك صفة أو صفات زائدة تنشأ عن تركيب أجزاء معينة, فالماء مثلاً يتركب من الأيدروجين والأكسوجين وبالرغم من ذلك فهو في شكله وخصائصه العامة مختلف عن مجموع خصائص هاتين المادتين, ولو حللناه إلى مادتين يفقد شخصيته ولا يبقى ماء. وكذلك الشخصية الإنسانية فإنها متركبة من المادة والروح معاً ولهذا ففيها الصفات الأرضية والسماوية وفيها أيضاً صفات ثالثة ناتجة عن ذلك التركيب الخاص, وهذا التركيب أعجب ما يكون إذ به يتحقق التنسيق بين القوى المادية والروحية, وإلى ذلك التنسيق ترجع الخصائص الإنسانية التي تميز بها الإنسان عن الكائنات الروحية الخالصة والكائنات الحيوانية الأخرى. ولهذا فقد لفت الله نظر الإنسان إلى ذلك التركيب العجيب وإلى ذلك الصنع البديع في خلقه ليقدر تلك القدرة الخالقة والصورة المبدعة التي صورها الله

_ 1 الطاقة الروحية: لهنري برجسون. ت. سامي الدروبي ص 29.

على أحسن وأتم صورة {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ, الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ, فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 1. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 2, وفكرة كون الإنسان أكبر من مجموع أجزائه لها أهمية كبيرة في مجالات التربية وفي مجال تصور الإنسان والتعبير عنه بصورة متكاملة، وهي فكرة انتهت إليها الدراسات الحديثة فيقول مثلا الدكتور "محمد لبيب النجيحي": "ننهي بحثنا للنظريات المختلفة للطبيعة الإنسانية والمفاهيم التي حاول كثير من الفلاسفة أن يوردوها للطبيعة الإنسانية متعللين بأسباب مختلفة حقيقية أو غير حقيقية, ننهي هذا بنظرة إلى الطبيعة الإنسانية تعتمد على التكامل.. نظرة كلية تتسع لتشمل جميع العوامل المكونة لها؛ وذلك نظراً لظهور أفكار واتجاهات جديدة وكشوف عملية أدت إلى أن تختلف النظرة العلمية إلى الطبيعة الإنسانية اختلافاً أدى إلى تطبيقات جديدة في التربية.. لأن هذه الطبيعة كل متكامل لا يتكون من جسم مضاف إليه عقل ولكن الطبيعة الإنسانية أبعد من ذلك, فالكل أكبر من مجموع أجزائه، أي: أن الطبيعة الإنسانية هي أكثر من مجرد إحساسات جسمية وتكوينات عقلية"3. إذن من الخطأ أن ننظر إلى الإنسان -عندما نحاول أن نصور طبيعته- على أنه مجموعة من التركيبات المادية والإحساسات الحيوية أو أنه مجموعة من التكوينات المعنوية أو الروحية بل علينا أن ننظر إليه كشخصية تتكامل فيها

_ 1 الانفطار: 8. 2 غافر: 64. 3 مقدمة في فلسفة التربية: الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 246 - 252.

الجوانب المادية والمعنوية، ونتيجة لذلك يتميز بصفات خاصة به، لا نجدها لدى غيره من الكائنات. ومن هنا يقول الدكتور "الكسيس كارل": "إن الإنسان كل لا يتجزأ شديد التعقيد ومن المستحيل إيجاد فكرة مبسطة عنه.. فالإنسان الذي يعرفه الأخصائيون ليس الإنسان المحسوس أو الإنسان الحقيقي إنما هو رسم تخطيطي يتكون من التخطيطات التي تسفر عنها الطرائق الفنية لكل علم من العلوم، إنه في آن واحد الجثة التي يفحصها علماء التشريح، والشعور الذي يراقبه علماء النفس وأساتذة الحياة الروحية، والشخصية التي تتكشف لكل واحد منا عندما يتأمل ذاته، إنه المواد الكيميائية التي تكون الأنسجة البدنية وأمزجة الجسم، إنه المجتمع الهائل من الخلايا والسوائل الغذائية التي يدرس علماء الفسيولوجيا قوانين اتحادها، إنه تلك المجموعة من الأعضاء والشعور التي تدوم زمناً والتي يحاول علماء الصحة والمربون توجيهها صوب كامل نموها، إنه ذلك الكائن الذي لا بد أن يتغذى بلا انقطاع حتى يمكن أن تعمل الآلات التي هو عبد لها, وهو إلى جانب هذا الشاعر والبطل والقديس، إنه ليس فقط الكائن المعقد أشد التعقيد الذي يحلله العلماء بوسائلهم الفنية الخاصة، بل هو أيضاً جماع ميول البشرية وتهيؤاتها ورغباتها"1. من هنا نجد النصوص الإسلامية الواردة في هذه الطبيعة والتي تعبر عن تلك الصفات الناتجة عن ذلك التركيب تبدو وكأن بينها تناقضاً ولكن من هذا التناقض تظهر الصفات الإنسانية أو الخلقية ويتضح ذلك جلياً إذا درسنا

_ 1 الإنسان هذا المجهول: الكسيس كارل ص 21.

النصوص المتعلقة بذلك. ولنذكر بعض هذه النصوص لتكون أساساً لدراستنا ثم علينا أن نستخلص هذه الفكرة ونوضحها، وهذه النصوص تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول يوضح الصفات الأرضية للإنسان، والثانية الصفات السماوية، والثالثة الصفات الناتجة عن اجتماع العنصرين السابقين. من الصفات الخاصة بالقسم الأول الإخلاد إلى الأرض والالتصاق بالأمور المادية الحسية {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 1، {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 2, أولئك كالأنعام؛ لأنهم هائمون على متع الأرض ولذاتها، فأغفلهم ذلك عما وراء الطبيعة المحسوسة فلا يتأملون ولا ينظرون إلى غير الأرض, وكأن وجوههم قد شدت إليها بحبال فلا يستطيعون الالتفات إلى الأعلى، فقد استهوتهم مراعي الأرض كما استهوت الأنعام. ولكنهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام لا تستطيع ذلك بحكم الطبيعة. ومنها الشره والتعجل لإشباع الدوافع الغريزية؛ ولهذا قال تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 3، {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولًا} 4، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} 5. ويدخل في هذا القسم كل الصفات الحيوانية والدوافع المادية الأولية مثل التناكح والتناسل والأكل والشرب وما إلى ذلك من الصفات؛ ولهذا فقد شبه الله تعالى الذين ينغمسون في هذه الحياة الحسية بالأنعام, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

_ 1 الأعراف: 176. 2 الأعراف: 179. 3 الأنبياء: 37. 4 الإسراء: 11. 5 ص: 16.

يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} 1، وجاء في آية أخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 2. أما الصفات الناتجة عن وجود العنصر السماوي أو العنصر الإلهي فهي: الدافع الأخلاقي والأدبي والبحث عن المعرفة والاستعلاء على الطبيعة الحيوانية والتسامي الروحي والتعبد لله أو التدين والحكمة والتفاضل بالإحسان إلى آخره. ويبين الله تعالى أن الذين يتحلون بتلك الصفات هم العقلاء وأصحاب الألباب، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ, الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3. وأما النوع الثالث: من الصفات فهي ناتجة عن اجتماع العنصر الأرضي والسماوي وهي ثلاثة أقسام: صفات شيطانية، وملائكية وصفات خاصة بالإنسان. أما الصفات الشيطانية فتنشأ إذا تسلطت على الإنسان الدوافع الغريزية البهيمية واستخدمت في سبيل تحقيق مطالبها العناصر الروحية مثل: قوة الإدراك والتمييز والتعقل، فيستخدمها لجلب الخيرات لنفسه أو لرفع مكانته وذلك بالأساليب الماكرة الخادعة, وأنواع الحيل الدقيقة الشيطانية التي لا يمكن أن يستخدمها الحيوان الخالي من تلك المواهب العقلية. ولهذا فمتى نكل بعدوه استطاع أن ينكل أشد من الوحوش، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ, وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ

_ 1 محمد: 12. 2 الأعراف: 179. 3 آل عمران: 191.

الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} 1، وإذا أراد أن يفرض سطوته وخيلاءه أصبح كالإله العزيز الجبار المتكبر فيستعبد الناس ويذيقهم ألوان الذل والهوان كما فعل فرعون، وصدق الله العظيم إذ قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2، وإذا أراد أن يوقع بعدوه يستطيع إيقاعه بأخبث الطرق والحيل الشيطانية؛ ولهذا سماهم الله بشياطين الإنس, قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} 3؛ لأنه يتبع في ذلك خطوات الشيطان {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} , وبين الرسول أن الإنسان إنما يتبع خطوات الشيطان إذا استولت عليه غرائز الشهوة المادية, وأن الشيطان يتخذ تلك الغرائز وسيلة الإغراء فقال: "لا تلجوا على المغيبات " اللائي غاب أزواجهن" فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" 5. أما الصفات الملائكية فتنشأ إذا تسلطت على الإنسان العناصر العلوية والروحية واستخدمت عناصره الأخرى في سبيل تحقيق مطالبها مثل: الحكمة ومعرفة الله والخضوع لحكمه وحب الخير والاستعداد للآخرة, فهو في هذه الحالة يسخر إمكاناته المادية ودوافعه الحيوانية في سبيل جلب الخيرات للناس والعمل من أجل رفع مستواهم المادي والمعنوي, ولا يبالي في سبيل ذلك ما يعانيه من النصب والتعب، فمن هنا تنشأ جميع الفضائل الأخلاقية والأفعال الإنسانية. وقد سمى الله هذه الطائفة من الناس بعباد الرحمن؛ لأنهم خرجوا من عبودية

_ 1 البقرة: 205-206. 2 القصص: 4. 3 الأنعام: 112. 4 البقرة: 208. 5 جامع الترمذي جـ 2 ص 319.

الشهوات ودواعي الهوى واتباع خطوات الشيطان إلى عبودية الرحمن واتباع طريقه فقال تعالى في وصف هؤلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً, وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً, وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً, وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً, وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً, وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً, أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} 1, وقال الرسول: "كونوا ربانيين حلماء فقهاء علماء" 2. وأما القسم الثالث من الصفات فهي التي تعتبر من خصائص الطبيعة الإنسانية، منها: كثرة الجدل والخصومة: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 3, {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 4، ومنها كثرة النكران للنعمة والإحسان {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} , ومنها التضرع إلى الله عند الملمات, والبطر والطغيان عند الرخاء وتوافر النعم {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِما} 6، {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى, أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} , وهو يئوس إذا نزعت من يده النعمة, وشحيح إذا أصابه الخير, وهلوع إذا مسه الشر, ومنوع إذا مسه الخير {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} 8، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 9.

_ 1 الفرقان: 63 - 75. 2 فتح الباري بشرح البخاري جـ 1 ص 170 كتاب العلم. 3 الكهف: 54. 4 النحل: 4. 5 العاديات: 3. 6 يونس: 12. 7 العلق: 7. 8 هود: 9. 9 المعارج: 19-20-21.

ومنها الطمع المستمر في الحصول على مزيد من الخيرات {لا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} 1، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 2. ومنها أن يريد ويخضع سلوكه لإرادته, فهو ليس كالحيوان محكوماً بقوانين الغرائز بل إنه يمكن أن يخالف هذه الغرائز إذا أراد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وافياً، وقد رسمت خريطة للدوافع الفطرية في كتاب آخر، انظر: معالم بناء نظرية التربية الإسلامية ص 57. نستخلص من هذا كله أن الطبيعة الإنسانية طبيعة متعددة الخصائص والدوافع والميول, ويرجع بعض ذلك إلى التكوين المادي وبعضه الآخر إلى التكوين النفسي والروحي والعقلي، وبعضه إلى العلاقة القائمة بينهما، وبعضه إلى الكيان الكلي للإنسان، فهو أمشاج من هذا كله {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً, إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراًً} 3، فالنطفة التي خلق منها الإنسان فيها عناصر مختلفة من العناصر الوراثية المنبثة في الجينات والكروموزمات الموجودة في الخلية التي توجد فيها عناصر الشخصية الإنسانية بالقوة كما توجد الشجرة الكبيرة بالقوة في البذرة الصغيرة، ولا أقصد من هذا أن أفعال الإنسان مكنونة في نفسه كذلك؛ إذ إن هناك فرقا بين الصفات الطبيعية للإنسان وبين أفعاله, والهدف من خلقه بهذه الصورة -كما تشير الآية- هو الابتلاء إذ وضع الله أمامه سبيلين: سبيل الخير وفيه استعداد لهذا السبيل، وسبيل الشر وفيه استعداد للسير فيه أيضاً {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 4, أي: طريق الخير وطريق الشر, وقد أمر باتباع الأول واجتناب

_ 1 فصلت: 49. 2 العاديات: 7. 3 الإنسان: 2 - 3. 4 البلد: 10.

الثاني، وهو عند اتباع هذا الطريق أو ذاك يعلم أنه خير أم شر {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا, فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 1, وفلاحه مرهون باتباع طريق الخير {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. وميزة الإنسان هنا على الحيوان أنه ليس محكوماً بفطرته البيولوجية, بل إنه يستطيع أن يتسامى على هذه الفطرة فيستطيع أن يكف عن الأكل والشرب بالرغم من حاجته إليهما ووجودهما أمامه حتى الموت, وهو في الوقت نفسه ليس كالملائكة محكوماً عليه باتباع الخير وليس كإبليس مدفوعاً إلى اتباع الشر بل فيه القدرة على أن يكون كالحيوان, لا يسير إلا بناء على ما تدفعه دوافعه وغرائزه المادية، ويستطيع أن يكون كملك كريم لا يتبع إلا الخير ويستطيع أن يكون شيطاناً مارداً يفسق ويلحق الضرر بالناس ويسوقهم إلى المهالك والعصيان ويملأ الأرض ظلماً وطغياناً وفساداً. ثم يستطيع أن يتأله فيكون كالإله العزيز الجبار المتكبر يجعل الناس يعظمونه ويقدسونه ويعبدونه، وعندما ننظر إلى تاريخ الإنسانية نجد أنماطاً من الناس من هذا النوع وذاك. هنا نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعبر عن هذه الحقيقة عندما يقول: "إن للشيطان لَمَّة بابن آدم -في قلبه- وللمَلَك لَمَّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا

_ 1- الشمس: 7. 2- الشمس: 10.

قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} " 1. وإذا كان هذا شأن الطبيعة الإنسانية فهل يصح بعد ذلك أن نقول كما قال بعض الفلاسفة- إنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة على الإطلاق؟. الحقيقة أنه ليس من الحق أن نصف هذه الطبيعة بالخير أو بالشر, ذلك أن ما أثبتنا فيها من دواع تعتبر استعدادات للقيام بتلك الأعمال التي أشرنا إليها أو أنها تعتبر قوى مختلفة للقيام بأعمال مختلفة، والقوة في حد ذاتها لا يصح وصفها بالخير أو بالشر مادام يمكن استخدامها في الخير والشر، شأنها شأن أي شيء يصلح استعماله في الخير والشر معاً, إذن الخيرية والشرية هنا الاستخدام والاستعمال، فإذا استعملتها في الخير تكون خيراً وإذا استعملتها في الشر تكون شريراً, وليس أي دافع من الدوافع التي ذكرناها يعتبر شراً حتى دافع التملك والتقاتل والجنس، ذلك أن الأول دافع إلى العمل للكسب والثاني وسيلة للدفاع عن الحق والثالث وسيلة لاستمرار النوع, أما الشر فيأتي نتيجة استخدامها في غير مواضعها ومن غير قيد أو شرط، والخير هو استعمالها في وجوهها التي خلقت من أجلها, والأخلاق السليمة أو الخيرة تدعو إلى استخدام هذه الدوافع الفطرية في وجهتها الطبيعية التي خلقت من أجلها أو تلك التي حددها الخالق كما عرفنا من قبل. فالإسلام إذ يحدد هذه الوجوه الخيرة لاستخدام هذه الدوافع الفطرية بقيود وشروط معينة يدعو إلى تطبيق الفطرة, وهو لذلك دين الفطرة.

_ 1 الجامع الصحيح للترمذي جـ 4 ص 288 -كتاب أبواب التفسير- حديث غريب لم يعرف مرفوعا إلا من هذا الوجه.

والآن نرى أنفسنا أمام موضوع هام وهو موضوع الفطرة، وفطرية الدين الإسلامي تعني أنه من صميم الطبيعة البشرية؛ ولأن هذا الموضوع شديد الصلة بالأخلاق. أرى من الواجب دراسته بشيء من التفصيل لنستطيع أن نحدد في هذه النقطة علاقة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق عن طريق تحديد معاني الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع بالذات. لقد بين الله تعالى أن الإسلام دين الفطرة فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقبل تحديد معنى الفطرة في الآية، يجب تحديد معناها لدى علماء علم النفس: يتردد معنى الفطرة عندهم بين ثلاثة معانٍ: وهي الغريزة والدافع والميل2, فالغريزة عند "مكدوجل" هي استعداد نفسي عضوي فطرياً كان أم موروثاً يجعل صاحبه يتخذ موقفاً محدداً إيجابياً أو سلبياً إزاء موضوعات معينة بعد إدراكه لها مباشرة3, أما كلمة الدافع فلها معانٍ عدة لدى علم النفس، لكن يمكننا أن نعرفها تعريفاً عاملاً شاملا، على النحو الآتي: الدافع هو كل ما يدفع الإنسان إلى القيام بسلوك معين أو تغير معين في داخل الكائن الحي أو سلوكه إزاء مواقف معينة. وسواء أكان هذا الدافع نابعاً من داخل الكائن الحي أم من بيئته, فهو بهذا المعنى يشمل كل الدوافع مثل: الحاجات والحوافز والرغبات والميول4. وبناء على ذلك: الفطرة معناها الغريزة بالمعنى السابق أو الدافع الأولي أو

_ 1 الروم: 30. 2 مجالات علم النفس. الدكتور مصطفى فهمي ص 10. 3 مقدمة لعلم النفس الاجتماعي. د. مصطفى سويف ص 197 طـ 2. 4 علم النفس التربوي. الدكتور أحمد زكي صالح ص 681، وانظر كذلك مقدمة لعلم النفس الاجتماعي للدكتور مصطفى سويف ص 15.

ميول طبيعية نحو أفعال معينة, ويمكن وضع ذلك في صيغة تجمعها وهي أن الفطرة بصفة عامة ميول طبيعية يولد الإنسان مزوداً بها, وتدفعه إلى اتخاذ مواقف إيجابية أو سلبية إزاء الأشياء, وفطرية التدين هو الميل الطبيعي لاتخاذ دين معين، أو هي كما عرفه الجرجاني في التعريفات "الجبلة المتهيئة لقبول الدين". ولقد أثبت بعض علماء علم النفس والاجتماع فطرية التدين بالمعنى السابق, ومن بينهم "وليم مكدوجل" الذي عده من الغرائز التي حددها ووضع لها قائمة1. وكما أثبت الدكتور "آلكسيس كارل" وجود الغريزة الدينية في طبيعة التكوين البيولوجي في الإنسان وأرجعها إلى إفراز الغدة الدرقية "النيروسكين" في الأوعية الدموية فإذا كفت الغدة عن صب ذلك الإفراز في الأوعية الدموية لم يعد هناك ذكاء أو حاسة شر أو حاسة جمال أو حاسة دينية2، إذن فطرية الدين لها جانب سيكولوجي وجانب بيولوجي معاً، وإذا كان الشعور الديني فطرة في الإنسان فالتدين سلوك فطري وعدم التدين انحراف عن الفطرة, وينبغي أن نشير هنا إلى نقطة مهمة وهي: أن الغرائز أو الدوافع الفطرية تتفاوت فيما بينها من إنسان إلى آخر من حيث القوة والضعف وقد تضعف أو تنمو بالممارسة أو الإهمال أو طغيان غريزة على أخرى3. وبذلك قد لا يبقى لها أثر في سلوك الإنسان وإن كان لا يزول من الوجود تماماً ومن ثم يمكن أن يسلك الإنسان سلوكا مخالفاً لتلك الدوافع الفطرية لدوافع أخرى فطرية أو غير فطرية. والدليل على وجود تلك العاطفة أو الفطرة الدينية في الإنسان مانراه في

_ 1 المصدر السابق للدكتور مصطفى سويف ص 198. 2 تأملات في سلوك الإنسان ص 29. 3 المصدر السابق للدكتور مصطفى سويف ص 27 مبادئ علم النفس العام ص 45.

تاريخ الإنسانية عموماً منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا. فما من أمة إلا وقد اتخذت لنفسها إلها أو آلهة وعبدتها وإن كانت باطلة، هنا يقول الفيلسوف "بسكال": "إن طبيعة الإنسان أن يؤمن فإذا لم تتقدم له أهداف صائبة سديدة ركز حولها إيمانه وحبه، تحول إلى عبادة أهداف خاطئة فاسدة"1. أما ظهور بعض الثورات على هذه الظاهرة أو خروجها عليها، بقصد أو بغير قصد من بعض الشعوب أو من بعض الطوائف في فترة من فترات التاريخ فذلك ليس دليلاً أبداً على انعدام هذه الفطرة أو عدم وجودها في الإنسان مبدئياً، إن السبب في ذلك قد يكون فساد صورة التعبد الشائعة فيها أو بطلان المعبود عقلياً وعلمياً، وقد يكون السبب في فساد الجماعة الخارجة؛ لأن الإنسان قد يفرط أحياناً في جانب من حياته أو ينمي طبيعة معينة من طبائعه بكثرة الاهتمام بها فتؤدي هذه الحالة أو تلك إلى تناسي أو تجاهل الجانب الآخر من طبيعته وحياته الفطرية, ويقول هنا "سير رتشارد لفنجستون": "لقد جبل الإنسان على أن يهتدى بدين يرى في مبادئه الخلاص والاطمئنان, وإذا هجر الأوروبيون الدين اتخذوا لهم من دون الله أبطالاً وأنبياء"2. ومن الممكن أن تكون ظاهرة اتخاذ المعبودات الباطلة دليلا من أدلة وجود هذه الفطرة الدافعة في الإنسان؛ لأنها قد دفعته إلى عبادة هذه المعبودات ولو كانت باطلة عند عدم وجود ما هو أصح منها وأحق بالعبادة في نظره وإلا فما الذي دفعه إلى عبادة الأحجار والأشجار والأبقار وغيرها، وهي كلها في الحقيقة لا تنفع شيئاً ولا تضر {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ, أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} 3, أنا

_ 1 مجلة التربية الحديثة الصادرة من الجامعة الأمريكية مجلد 21 ص 154. 2 المرجع السابق. 3 الشعراء: 72 - 73.

لا أجد مبرراً إلا هذه القوة الدافعة التي دفعت هؤلاء إلى القول بأنه لا بد من أن يكون لهذا الكون خالق ينفع ويضر ويتصرف فيه حسب مشيئته, فهم تحت سطوة هذه القوة قد أضفوا على بعض الأشياء أو على كائن من الكائنات الصفة الإلهية لسبب من الأسباب اختلفت في تحديده مذاهب الباحثين عن نشأة الديانات1 مثل: المذهب الطبيعي الذي نشأ نتيجة الظواهر الطبيعية المثيرة التي أدت إلى الاعتقاد بوجود قدرة مدبرة وراءها ومذهب "ما قبل المادة الحية أو المانا أو مذهب المادة الحية الذي نشأ عن الاعتقاد بوجود قوة مسيطرة في العالم وتستمد الأحياء روحها منها" ثم الروحية التي تعتقد بوجود عالم أرواح لا بد من ترضيتها بالقرابين ليكون الإنسان بعيداً من غضبها ويأمن من شرها، ثم التوتمية التي نشأت نتيجة تمجيد الإنسان لبعض المخلوقات2, وإذا كان كل مذهب من هذه المذاهب يدعي أن أمراً من تلك الأمور هو السبب الأول في نشأتها فإنه في نظري يمكن أن يعتبر ذلك تفسيراً لنشأة تلك العبادات الباطلة عن تلك الدافعية الفطرية في ظروف وملابسات خاصة. والدليل على صحة ما ذهب إليه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" 3, وقال أيضاً راويا عن ربه: "إني خلقت عبادي حنفاء

_ 1 يقول تيلور: "إن الخير المحض "الله" لم يدع قلوبنا غفلاً من آية تدل عليه من أجل ذلك نشعر بالافتقار إلى مصدر ما نتلمس عبادته". 2 مبادئ علم الاجتماع الديني 215. روجيه باستيد، ت. د. محمود قاسم، انظر كذلك الاجتماع الديني. أحمد الخشاب، 101. 3 صحيح مسلم جـ 4: كتاب القدر 46 باب معنى كل مولود يولد على الفطرة, ومعنى جمعاء أي: مجمعة الأعضاء, وجدعاء أي: مقطوعة الأذن أو الأعضاء.

كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما حللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً"1, وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ, أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 2. تلك هي الأدلة على وجود فطرة أو غريزة دينية في الطبيعة الإنسانية وأولى بنا أن نفسر تلك الفطرة في ضوء النصوص السابقة بأنها استعداد أو قوة دافعة لمعرفة الخالق وتقديسه وللتمييز بين ما هو خير وما هو شر من السلوك، ثم إن ما جاء به الإسلام من المبادئ تتلاءم مع هذه الفطرة؛ ولذا فإذا كان الإسلام يدعو الناس إلى تطبيق مبادئه فإنه إنما يدعو بذلك إلى تطبيق ما فطروا عليه أو ما خلق في طبيعتهم من دافع إليها. وينتج عن هذا التفسير الأمور الآتية: 1- إنه لا ينبغي أن يفهم من فطرية الإسلام انطباع جميع قواعده وأحكامه في طبيعة الإنسان؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأفادت أن المعرفة بالدين أمر يولد الإنسان مزوداً بها, وهذا فهم يخالف صريح الآية3, مفادها أن الإنسان عند الولادة لا يعلم أي شيء، حتى النبي قبل البعثة ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، صحيح كان يتعبد في غار حراء قبل البعثة كان ذلك بدافع فطرية الدين وبما بقي في القوم من آثار دين إبراهيم.

_ 1 التاج جـ 5، كتاب البر والأخلاق ص 77. 2 الأعراف: 172-173. 3 انظر سورة النحل آية: 9.

وهذا يؤكد ما قال "الجرجاني" في تعريف الفطرة بأنها: الجبلة المتهيئة لقبول الدين, وهذه الجبلة تقبل التوجيه إلى أي دين. وبناء على هذه الفكرة فالإشهاد في الآية السابقة لم يحصل بالفعل بمعنى الإشهاد الحسي الذي نعرفه وإنما حصل بالقوة، إذ إن وضع الله في الإنسان تلك الدافعية لتأليهه واعترافه بالربوبية يعتبر بمنزلة الإشهاد الحسي وإلا لحصل التناقض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} 1, ولأدى الأمر إلى مسئولية الأطفال وخاصة أطفال الكفار عن الإيمان بالله وعن الإسلام أيضاً, ثم إن الإسلام لو كانت متطبعاً في الإنسان لعرف الناس الإسلام في جميع البقاع، والواقع خلاف ذلك، والدليل على ذلك أيضاً أن الإسلام لم يجعل الأطفال والناس الذين لم تبلغ إليهم دعوة الإسلام مسئولين عنه, فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 2. من هذا كله نضطر إلى تفسير فطرة الإسلام في الطبيعة البشرية بالقوة؛ لأن القوة يمكن أن تظهر بالفعل في صور مختلفة, فمثلاً القوة المدركة المخلوقة للاعتراف بوجود إله في الكون من غير تحديد الذات الإلهية في صورة مشخصة مع صفاتها الكاملة قد يؤدي إلى أن يصوره الإنسان في أشياء معينة أو يضفي عليه صفات معينة وكذلك قد يخلق صوراً معينة من العبادات لله وهذا ما حصل بالفعل، ومن هنا كان إرسال الرسل ضرورياً لتعريف الناس الله بصفاته الكاملة وتحديد صورة العبادة وصورة نظام الحياة عموماً بناء على روح هذا الدين، فلو لم يأت الرسول ولم يحدد أركان العبادات وشروطها وطريقة أدائها بجميع هيئاتها

_ 1 النحل: 78. 2 الإسراء: 15.

فهل كان من الممكن أن يحددها الناس أو يعثروا عليها عن طريق البحث العقلي، وكيف يعرف الإنسان أن صلاة المغرب مثلا ثلاث ركعات فرضاً وركعتان سنة؟ وأن صلاة الصبح ركعتان فرضا؟ وهكذا تحديد الصلوات في الأوقات الخمسة. نعم إن مجرد الاعتراف بوجود خالق لهذا الكون موجود في الإنسان كقوة معقول جداً؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1, من هنا نبه الله المشركين إلى أن انحراف آبائهم لا يبرر مسلكهم؛ لأنهم ينبغي أن يتفكروا بفطرتهم السليمة المخلوقة فيهم بعيداً عن التقليد وتمويهات آبائهم. 2- إن هذه الفطرة ليست خاصة بمعرفة الله وتوحيده فحسب، وإنما هي متعلقة بالإسلام عموماً باعتباره معياراً جاء ليبين للناس ما هو خير وما هو شر. والإنسان فيه استعداد وقوة لتمييز الخير من الشر, فمن هنا نجد الملاءمة والمساندة والتعاون على الاستقامة في السلوك بين ما في الطبيعة الإنسانية وبين ما جاء به الإسلام. وهذا الجانب من الفطرة الدينية في الإسلام استوحيناه من النصوص السابقة, ومما سنورده في الفصل الخاص بالمعايير الأخلاقية سنذكر هناك بعض النصوص نثبت بها وجود قوة فطرية في الإنسان أودعها الله فيه ليميز بها بين الخير والشر أو بين الطيب والخبيث، منها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن

_ 1 العنكبوت: 61.

أفتاك الناس" 1. من هذا كله نستخلص أن الإنسان في نظر الإسلام مخلوق أريد له منذ البداية أن يكون بهذه الصورة المتميزة التي هو عليها الآن، وذلك لغاية دينية وأخلاقية في جوهرها, وهو مركب تركيباً عجيباً، في خلقته من الحقائق المتعددة المتباينة المطالب, وقد نتجت عن ذلك خصائص وصفات مختلفة خاصة به. وطبيعة الإنسان هذه ثابتة من حيث الأساس كقوى واستعدادات مختلفة، متغيرة ومتطورة من حيث تقبل التوجيه والتنمية نحو الخير والشر, إذن فالخير والشر من حيث المفهوم العملي ليسا متأصلين في هذه الطبيعة، بل إنها قابلة لهذا أو ذاك التوجيه والتربية وهذا هو دور الأخلاق، أي: أن الحاسة الأخلاقية واستعداداتها فطرية, أما شكلية الأخلاق فهي مكتسبة.

_ 1 مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 4 ص 228.

صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق

ثالثاً: صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق وإذا كنا قد بينا بقدر الإمكان المفهوم الإسلامي للفطرة أو لجوهر الطبيعة الإنسانية فلننظر إلى صلتها بالأخلاق, ويقتضينا الأمر بيان هذه الصلة من ناحيتين: الأولى مدى المواءمة بينهما, والثانية هذه الطبيعة كمصدر للأخلاق. 1- أما من الناحية الأولى فقد عرفنا من دراستنا السابقة أن الطبيعة الإنسانية فيها دوافع ورغبات وميول متعددة ومختلفة ناتجة من الحقائق الأساسية المكونة لها. وعندما ندرس موقف الإسلام في النظام الخلقي من هذه الطبيعة لا نستطيع أن نحكم حكماً واحداً على هذا الموقف بأنه إيجابي أو سلبي بصفة مطلقة؛ وذلك لأنه يقف مع بعض الميول والرغبات موقفا مناهضا مثل: نزعة الأثرة والطمع الزائد

في الدنيا ونزعة الاستعلاء على الناس بالتكبر والتجبر وغير ذلك, ويقف مع بعض الميول والرغبات الأخرى موقفاً إيجابياً مثل: النزعات الإنسانية والتحلي بالفضائل العقلية والروحية, كما أنه يحدد أحياناً تحقيق مطالب هذه الطبيعة الأولية ويوجهها إلى حيث ينبغي أن تتجه, ثم ينسق أخيراً بين عناصر هذه الطبيعة ومتطلباتها لتكوين شخصية إنسانية متكاملة تتجه إلى غاية واحدة. ونستطيع أن نجد سنداً لما نقوله هنا في كثير من النصوص فنجد مثلاً نصوصاً تدعو إلى كبح جماح النفس وتدعوها إلى العفو عند المقدرة والإنفاق عند الحاجة والمخمصة، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء" 2, كذلك نجد نصوصاً تدعو إلى عدم الغضب عند وجود الدواعي وإلى أن يملك الإنسان نفسه إذا غضب, فقد روي أن الرسول قال لرجل يطلب النصيحة منه: "لا تغضب فردده قوله لا تغضب مراراً وقال ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" 3. وهناك نصوص تدعو إلى التمتع بطيبات الحياة وهي من حاجات الإنسان البيولوجية وإلى التزين وهي من حاجات الإنسان السيكولوجية بشرط ألا يكون في ذلك إسراف, وألا يكون مجمع همهم ومبلغ هدفهم في هذه الحياة فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ

_ 1 آل عمران: 134. 2 التاج جـ 5. كتاب البر والأخلاق ص 48. 3 المرجع السابق ص 47 - 48.

الْمُسْرِفِينَ, قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1. وهناك نصوص أخرى تدعو إلى البحث عن المعرفة؛ لأن هذا البحث ميل طبيعي في الإنسان وفي ذلك إشباع حاجة روحية عقلية؛ ولهذا قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 2، وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} , وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها" 4, ومن أهم الصلات التي أقامها الإسلام بين الطبيعة الإنسانية وبين النظام الخلقي أنه أقام هذا النظام على أسباب إمكانات هذه الطبيعة فلم يكلفها بما لا تطيق ولا بما تطيقه بشق الأنفس {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 5, {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 6, كما أنه لم يحرم أي دافع من الدوافع الأساسية من تحقيق مطالبه وإشباع حاجاته7 غاية ما هنالك أنه قد اشترط أن يتم ذلك في حدود وقيود معينة هادفة إلى تحقيق سعادة الإنسان وكماله. فالأخلاق الإسلامية إذن هي محاولة لإقامة تنسيق بين قوى الطبيعة

_ 1 الأعراف: 31 - 32. 2 يونس: 101. 3 الزمر: 9. 4 سنن ابن ماجه جـ 2 ص 282. 5 البقرة: 286. 6 البقرة: 184. 7 يقول الإمام الشاطبي هنا: "فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطالب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ولكن يطلب قهر النفس عن جنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل فإذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه", انظر كتاب الموافقات في أصول الأحكام جـ 1 ص 76 - 77.

الإنسانية نفسها من ناحية ثم بينها وبين السلوك الإنساني من ناحية أخرى, كما أنها عملية تهذيب وتربية لهذه الطبيعة ثم عملية توجيه الإنسان إلى السلوك اللائق به في الحياة كأفضل مخلوق في الأرض من أجل رسالة معينة1 خلقت من أجله هذه الدنيا لتحقيق تلك الرسالة فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ, وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} , وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 3. 2- أما الناحية الثانية لصلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق فهي أنها مصدر له أو منبع للأخلاق، وقبل أن أبين رأي الإسلام في هذه النقطة ينبغي أن أشير إلى آراء الفلاسفة فيها بصفة عامة لنعرف أين يقع رأي الإسلام. للفلاسفة ثلاث اتجاهات عامة: الاتجاه الأول: يرى أن منبع الأخلاق هو طبيعة الإنسان نفسه سواء أكانت هذه النشأة عن طبيعته الغريزية أم عقله أم حدس ضميره، وهذا هو اتجاه الحدسيين والعقليين. والاتجاه الثاني: يرى أن الأخلاق نشأت عن تجربة الإنسان أو أن تجربة

_ 1- هنا يقرر بعض علماء التربية ويقولون: "فالتكوين الخلقي مناقض لطبيعة الإنسان وملائم لطبيعته معاً فهو مناقض دوما لطبيعته الواقعية وملائم لطبيعته المثالية أو جوهره المثالي "التربية العامة" رونيه أوبير ص 488. 2 إبراهيم: 32 - 34. 3 الإسراء: 70.

الإنسان في الحياة هي منبع الأخلاق, إذ إن الإنسان قد اهتدى إلى قوانين الأخلاق بعد تجارب طويلة في الحياة كما اهتدى إلى المعارف الأخرى بالطريقة نفسها1، وهذا هو اتجاه التجريبيين. والاتجاه الثالث: يرى أن مصدر الأخلاق الوحي فإن الله أراد أن يكون نظام حياة الناس على هذا النحو ثم أوحى به إلى رسل البشر وطلب من الناس تطبيقه في الحياة، وهذا هو اتجاه المتدينين بصفة عامة. أما رأي الإسلام في هذا الموضوع فيمكننا استخلاصه من دراستنا السابقة, فلقد قلنا إن قيم الأخلاق وقوانينها بصورة كلية موحاة من قبل الخالق إلى الإنسان منذ أن بدأ الإنسان الأول حياته فوق هذا الكوكب, وتتابعت الرسالات الإلهية إلى الناس عن طريق الرسل جيلا بعد جيل يتسع نطاقها ومحتواها كلما زادت رقعة العلاقات الاجتماعية وزاد نضج العقلية الإنسانية حتى اكتملت صورة النظام الأخلاقي برسالة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء، وكانت الوصايا الهامة التي نادى بها كل رسول تمثل دستور النظام الأخلاقي {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2. ثم إنا قررنا أيضاً ملاءمة القوانين الأخلاقية للقوانين الطبيعية, ثم مراعاة القوانين الأخلاقية قوانين الطبيعة البشرية ومن أهم ما قررنا وجود فطرة الحاسة

_ 1- المشكلة الأخلاقية والفلاسفة. أندريه كرسون ص 6-19-53. -منبعا الأخلاق والدين. هنري برجسون. -الفلسفة الخلقية. الدكتور توفيق الطويل - 168. 2- الشورى: 13.

الأخلاقية في هذه الطبيعة، وسنقرر فيما بعد كيف يتدخل الإنسان بقصده ونيته في إضفاء قيمة على السلوك الأخلاقي إلى جانب قيمته الذاتية. وننتهي من هذا إلى أن قوانين الأخلاق تعتمد على قوانين الطبيعة وعلى قوانين الحياة الإنسانية ثم على جهد الإنسان بذاته أو روحه، ولكن هذا الاعتماد لم يكن خضوعاً لتلك الطبيعة بقدر ما كان تكييفاً وتحويراً لها, فالسلوك الصادر من الإنسان يعتبر مادة الأخلاق وتكييفه وفقاً للمبادئ الأخلاقية يعتبر صورة الأخلاق، إذن فالأخلاق قالب للحياة الإنسانية الطبيعية والحياة بقوانينها الطبيعية مادتها. 3- أن الحاسة الأدبية والاستعدادات الأخلاقية فطرية في الإنسان، فهي تقبل التغيير والتوجيه والتنمية والتزكية بحسب قوة التربية الأسرية والاجتماعية, وتذبل وتضعف بإهمالها ودسها في الفساد والفجور. 4- أن الأخلاق الإسلامية تراعي استعدادات الإنسان الطبيعية من حيث إنها مستطاعة ومن حيث إنها ليست ضد الطبيعة؛ لأنها كما رأينا عند الحديث عن الدوافع والغرائز لا تحرمها من حاجاتها الأساسية وإنما تحققها في ضوء الآداب والقيم الأخلاقية الإسلامية. 5- أنها توجه كل الدوافع الفطرية والمكتسبة إلى أهداف أخلاقية سامية وخيرة لتحويلها إلى طاقات خيرة في حياة الفرد والجماعة. 6- أن الإنسان أصلاً مخلوق مكرم ولم يتحول ولم يتطور من حيوان, وهو منذ أن خلق على هذه الصورة التي هو عليها حتى الآن، وهذا يقتضي معاملة الإنسان بالتكريم والاحترام بصرف النظر عن جنسه ولونه؛ لأنهم أصلا أبناء آدم.

الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية

الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية مدخل ... الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية من بين النتائج الهامة التي قررناها والتي تتصل بموضوع دراستنا هنا أن نظام الأخلاق قوالب صورية وصيغ في صورة قوانين آمرة، وأن مادتها هي السلوك وقوانين الحياة الطبيعية، وأن دور الأخلاق هو تكييف ذلك السلوك عن طريق إقامة التنسيق بين القوانين الأخلاقية والقوانين الطبيعية, ولقد قررنا وجود الإرادة في الطبيعة الإنسانية ووعدنا بمعالجتها وبيان طبيعتها في موضعها, والآن قد جاء موضعها, وسنركز هنا على النقط الآتية: هل الإنسان حر في إرادته واختياره؟ وإذا كان له حرية الاختيار فهل له حرية التنفيذ؟.

الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإنسان

الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإنسان الاتجاه الجبري ... أولاً: الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإنسان. وفي هذا المقام نجد عدة اتجاهات عامة وأهمها الاتجاهات الآتية: 1- الاتجاه الجبري: وهذا الاتجاه ينقسم إلى قسمين رئيسيين: الأول الجبرية الغيبية والثاني الجبرية الطبيعية، فالأول يرى أن الإنسان مجرد من حرية الإرادة وحرية الفعل، بل إن إرادة الإنسان بيد الخالق يتصرف فيه كما يشاء كالريشة في مهب الريح، وهذا ما ذهب إلى الجبرية من المتكلمين المسلمين. والثاني: يذهب إلى أن الإنسان مجبور أمام القوانين الطبيعية: قوانين الطبيعة البشرية والطبيعة الكونية، ومن أنصار هذا المذهب "فولتير" الذي يقول: "إننا عجلات في آلة كبرى, وعقولنا تفكر كما لو كانت حرة"1، ومنهم أيضاً "سبنسر" الذي يقول: "إننا مجبورون على

_ 1 مشكلة الحرية، الدكتور زكريا إبراهيم ص 55.

السير في الطريق الذي رسمته لنا الطبيعة فإننا لا نسير إلا في الطريق الذي نحبه ولكننا لم نحب نحن هذا الطريق, ولكن الطبيعة هي التي جعلتنا نحبه وهي التي تجبرنا على السير فيه"1، ومنهم "شوبنهور" و "هوبز". فالأول يرى أن الحرية ذات طابع ميتافيزيقي ولا توجد في نطاق العالم الطبيعي ويجعل الإرادة تابعة لطبيعتنا, ويرى الثاني أن الإرادة أقوى رغبة تابعة للدوافع الأولية2. ومهما يكن من اختلاف بين الفريقين، فإن هذا الاتجاه في عمومه يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها.

_ 1 مشكلة الحرية، الدكتور زكريا إبراهيم، ص 55 وما بعدها. 2 المرجع السابق.

اتجاه حرية الإرادة

2- اتجاه حرية الإرادة: من أنصار هذا الاتجاه "أرسطو" الذي يبني الأخلاق على حرية الإرادة, وهو يفرق بين العمل الإرادي وغير الإرادي, فالأول تكون فيه علة داخلية للفعل مثل: تردد الإنسان بين عملين يستطيع القيام بهما ولكن إذا قام بأحدهما يفوت عليه الآخر؛ ولهذا فترجيح أحدهما على الآخر في هذه الحالة يعتبر عملاً إرادياً. والثاني تكون علته خارجية مثل: وقوع الإنسان لزوال الحجر من تحت رجليه أو لأي دافع قسري آخر. كذلك يفرق بين عمل بلا إرادة وعمل ضد الإرادة, فالأول هي الأعمال القسرية, والثاني هو العمل ضد ترجيح الإرادة كأن يختار الإنسان عملاً من بين الأعمال ثم يعمل عملاً آخر غير الذي اختاره، ثم يفرق "أرسطو" بين العمل بسبب الجهل وبين العمل ضد الإرادة، فالأول لا يعقبه الندم، والثاني يعقبه الندم بعد

فعله، ويعتبر كل عمل أخلاقي عملاً شراً, والإنسان في حد ذاته لا يريد الشر ولكن إذا أدى عمله إلى الشر بسبب اعتسافه أو بسبب جهله ما ينبغي أن يفعله الإنسان العاقل يعد من هذه الجهة قد أراد الشر1. ومن أنصار هذا الاتجاه المعتزلة الذين قالوا بحرية الإنسان في الإرادة والتصرف, وفرقوا بين إرادة الله وإرادة العبد، فالعبد قد يريد خلاف ما يريده الله, وإذا كان علم الله شاملاً لإرادة العبد إلا أن علمه لا يؤثر فيها، ومن هنا قالوا إن سبب الشر في حياة الإنسان هو الإنسان نفسه2 ويقولون: "إن الله يخلق في العبد قدرة وإرادة ثم العبد يخلق فعله بقدرته التابعة لمشيئته"3. ومن أنصار هذا الاتجاه "بارتلمي" الذي يرى أن علم الأخلاق هو ميدان الحرية4. ومن أنصار هذا الاتجاه أيضاً الفيلسوف الألماني "كانط" فهو يرى أن الإنسان حر في إرادته ولا تخضع هذه الإرادة إلا للقانون الذي تضعه لنفسها بنفسها ولا تخرج عنه؛ لأن شعورها بأنها هي التي وضعته لنفسها هو أساس الإحساس الداخلي بالواجب الذي يدفع الإرادة الإنسانية إلى السلوك الأخلاقي لا لهدف نفعي؛ بل لأنه مطابق للقانون العقلي؛ ولهذا فهو يعتبر مبدأ حرية الإرادة أو الاستقلال الذاتي المبدأ الأوحد في الأخلاق, فالحرية عنده هي الخاصة الجوهرية التي تتميز بها الإرادة الإنسانية في حين أن الضرورات هي التي تملي على الكائنات غير العاقلة سلوكها, فالحرية هي علة الأفعال الأخلاقية.

_ 1 أرسطو، علم الأخلاق جـ 1 ص 269 وما بعدها. 2 شيخ الإسلام مصطفى صبري: موقف البشر تحت سلطان القدر ص 55. 3 اللمعة ص 52 للشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي المذاري, تحقيق. محمد زاهد الكوثري. 4 مقدمة بارنملي لكتاب السياسة لأرسطو ص 6.

أما الضرورة فهي العلة في حدوث الظواهر الطبيعية غير أن هذه الحرية في رأيه ليست متحررة تماماً عن القوانين, بل هناك قوانين خاصة بها كما أن للطبيعة قوانين خاصة بها, وهذه القوانين مخلوقة للطبيعة وتلك مخلوقة للإرادة الحرة. إلا أن الأولى لم تخلق قوانينها لنفسها، والأمر في ذلك على خلاف قوانين الإرادة الحرة, ومن هنا يفرق بين الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة وإن كانت هي نفسها, فهي من حيث إنها تخلق القوانين الأخلاقية تعد إرادة حرة ومن حيث إنها ألزمت نفسها بالخضوع لهذه القوانين التي خلقتها بنفسها فهي من هذه الجهة إرادة خاضعة, ويرى أن دليل هذه الحرية ليس التجربة؛ لأن وجودها سابق للتجربة أي: أن دليلها قبلي؛ لأن كل كائن لا يمكن أن يفعل فعلاً إلا بتأثير فكرة الحرية, وقد يبدو هنا في تفكيره أن الشعور بالحرية أساس بالإحساس بالخضوع لهذه القوانين, وأن هذا الإحساس أساس الإحساس بالحرية، وكأن هناك دوراً يجيب على ذلك "كانظ" فيقول: "إن الحرية والتشريع اللذين تضعهما الإرادة لنفسها كلاهما في واقع الأمر ضرب من الاستقلال الذاتي ويحل أحدهما محل الآخر تبعاً لذلك، وهذا هو السبب في أننا لا نستطيع أن نستعين بأحدهما لتفسير الآخر وبيان الأساس الذي يبنى عليه", ويقول أيضاً: "إن الإنسان باعتباره عضواً في عالم الحس خاضع لقوانين الطبيعة, ويدرك هذه القوانين عن طريق الحواس وهو باعتباره عضواً في عالم المعقول خاضع لقوانين هذا العالم يدرك قوانينه عن طريق العقل، وإحساسه بالحرية يؤدي إلى الشعور بالاستقلال الذاتي وهذا الشعور بالاستقلال الذاتي يدل على أن وجود القانون الأخلاقي أساس للشعور بالحرية، وإلا فإننا حين نتصور أنفسنا ملتزمين بالواجب نعتبر أعضاء في عالم المعقول كما نعد

أنفسنا في الوقت نفسه أعضاء في العالم المحسوس1. ويدخل في هذا الاتجاه أيضاً بصفة عامة اتجاه الماتريدية مع وجود فروق بينهم وبين غيرهم في بعض النواحي، فهم يقولون: إن الله خلق في الإنسان قدرة وأن الإنسان له حرية استخدام هذه القدرة في الخير أو الشر، ونتيجة استخدامه لهذه القوة في أحد الضربين يتحمل مسئولية عمله أو كسبه القائم على اختياره لهذا العمل أو ذاك، غير أنهم يقرنون قدرة الله مع قدرة العبد على التنفيذ أي: تنفيذ العمل المختار، على أي حال فإنهم يعترفون بوجود حرية الإرادة في الإنسان, ويقول صاحب اللمعة معبراً عن رأي جمهور الماتريدية: "إن المؤثر في أصل الفعل قدرته تعالى وفي وصفه قدرة العبد ففيما إذا ضرب زيد يتيماً تأديباً أو ظلما فأصل الفعل وهو الحركة المشتركة بين الضربين مخلوق بقدرته تعالى, وكون الضرب طاعة وحسناً في الأول ومعصية وقبيحاً في الثاني حاصل بتأثير قدرة العبد وهذا التأثير هو الكسب"2.

_ 1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص 76-116 أمانويل كانط. ترجمة عبد الغفار مكاوي. 2 اللمعة للشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي المذاري ص 48, تحقيق محمد زاهد الكوثري.

اتجاه الوسط بين الاتجاهين السابقين

3- اتجاه الوسط بين الاتجاهين السابقين: من أنصار هذا الاتجاه ابن "مسكويه" فهو يقول: "إن وجود الجوهر الإنساني متعلق بقدرة فاعله وخالقه, وأما تجويد جوهره فمفوض إلى الإنسان وهو متعلق بإرادته"1. ومن أهم المذاهب التي تمثل هذا الاتجاه من الناحية الميتافيزيقية مذهب الأشاعرة، ويمكن أن نقول إن الأشاعرة يقسمون الحرية فيعطون نصفها للإنسان

_ 1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص 39.

ويحرمونه من النصف الآخر، ذلك أنهم يعطون للإنسان حرية الإرادة ولا يعطون له حرية التنفيذ, فالعبد له أن يختار وليس أن ينفذ أي: له قدرة الاختيار وليست له قدرة على تنفيذ المختار, أما التنفيذ فإن الله هو الذي يخلق الفعل الذي يختاره العبد, ويعبر صاحب اللمعة عن اتجاههم قائلاً: "إن للعبد إرادة وقدرة تتعلقان بفعله لا على وجه التأثير"1. ويمكننا أن ندخل في هذا الاتجاه الوسطي رأي الإمام "الغزالي" فهو عندما يتكلم عن الأسباب والمسببات وأثر العبد في أفعاله وأثر الرب في أفعال عباده يتخذ موقفاً وسطاً بين الجبر والاختيار، ويقسم الأسباب مبدئياً بين ما هو مقدور للعبد وغير مقدور له. فهناك أسباب ليست في قدرة العبد العمل بها، وأسباب أخرى مقدورة له. فالأول كأسباب السموات والأرض أو خلقهما وأسباب خلق الحيوانات, والثاني كأسباب إيجاد الصناعات والنظم والمجاهدات وما إلى ذلك، يقول: "الأمور الموجودة تنقسم إلى ما لا يرتبط حصولها بقدرة العباد أصلاً كالسماء والأرض والكواكب والحيوان والنبات وغيرها، وإلى ما لا يرتبط حصوله إلا بقدرة العباد، وهي التي ترجع إلى أعمال العباد كالصناعات، والسياسات والعبادات والمجاهدات"2. وأما فيما يتعلق بأثر العبد في أفعاله في الأعمال التي يمكن أن يكون له أثر فيها، وأثر الرب في أفعال عباده هذه، فيرى أن للعبد أثراً في أفعاله كما أن للرب أثراً في أفعال عباده، وعن طريق هذه الفكرة يفسر الآيات التي تسند

_ 1 اللمعة ص 47. 2 الإمام الغزالي: المقصد الأسنى ص 46.

الأفعال أحياناً إلى الله وأحياناً أخرى إلى العباد فهو يشرح رأيه كالآتي: "فإن قلت فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد لا فاعل إلا الله ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون الله فاعلا وإن كان الله فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا، ومفعول بين الفاعلين غير مفهوم، فأقول نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض كما يقال: قتل الأمير فلاناً, ويقال: قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى والله -عز وجل- فاعل بمعنى آخر, فمعنى كون الله فاعلاً أنه المخترع الموجد, ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت فيه القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط, وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المختَرَعِ بالمختَرِعِ, وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلا له كيفما كان الأمر. كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً؛ لأن القتل ارتبط بقدرتيهما ولكن على وجهين مختلفين؛ فلذلك سمى فعلا لهما ارتباط، فكذلك ارتباط المقدورات بالمقدرتين ولأجل توافق ذلك وتطابقه ينسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} , ثم قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} , وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ, أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 1. وبذلك يجمع "الغزالي" بين الجبر والاختيار في أفعال العباد بل تغلب عليه

_ 1 إحياء علوم الدين جـ 4 ص 256.

النزعة الجبرية عندما يتعمق في الخلق والإيجاد كما يفهم هذا بوضوح من المثال الآتي الذي يضربه لبيان فكرته، فيقول: "لو أراد الإنسان أن يجز رقبة نفسه لم يملكه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما تنفذ الإرادة؛ لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس بكون الفعل موافقاً وقتل نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد؛ لأنه تردد بين شر الشرين فإن تراجع له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف عنه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه؛ لأن داعية الإرادة مسخرة للقدرة والكل مقدور بالضرورة فيه من حيث لا يدري, فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن يكون منه فكلا ولا. فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً، فإذن هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض وفعل الله اختيار محض وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار1. إذن خلاصة رأيه أن للعبد أثراً في أفعاله وللرب أيضاً أثراً في أفعال عبده؛ لأنه الخالق، ولأنه موجد القدرة في عبده الذي يؤثر في أفعاله, فالعبد له اختيار وتأثير باعتباره محل قدرة الله، فمن هنا يبدو أنه مجبور من جهة مختار من جهة

_ 1 إحياء علوم الدين جـ 4 ص 254.

أخرى، وتسمى المنزلة بين المنزلتين "الجبر والاختيار". كما يمكن أن ندخل في هذا الاتجاه رأي "ابن رشد" فهو نفسه وضع رأيه وسط الاتجاهين السابقين بعد أن استعرض رأي الاتجاهين السابقين وأدلتهما قال: "فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع وفي المعقول نفسه؟ قلنا الظاهر من مقصد الشارع ليس هو تفريق هذين الاعتقادين وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة، وذلك أنه يظهر أن الله تعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضدادها, لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا لموافاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج وزوال العائق عنها كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعاً"1. وفي صدد هذه الدراسات الفلسفية في الإرادة لا أريد أن يفوتنا نوع آخر من الدراسات في الإرادة قامت بها المدارس السيكولوجية الحديثة، فأود هنا إعطاء فكرة عن آرائهم المختلفة وطريقتهم في دراستهم للإرادة. الإرادة في نظر المدارس السيكوولوجية الحديثة: إن المدارس السيكولوجية تختلف في موضوع الإرادة كالمدارس الفلسفية, فقوم من السيكولوجيين يرون أن موضوع الإرادة ينبغي أن يعالج من الناحية الميتافيزيقية، كموضوع الوجود والعدم، وقوم منهم يرى أنه ينبغي أن يعالج من الناحية البيولوجية، وقوم ثالث يرى أنه من اختصاص علم الاجتماع، إذ لا بد من وجود أنظمة وزواجر اجتماعية للحكم على أن هذا السلوك إرادي أم غير إرادي.

_ 1 منهاج الأدلة في عقائد الملة: ابن رشد، تحقيق الدكتور محمود قاسم ط 2 ص 226.

وأما الذين يدخلون هذا الموضوع في الدراسات السيكولوجية فيختلفون أيضاً في وجود حرية الإرادة, فمنهم من يقول: إن الإرادة لا تعدو أن تكون مجرد الاختيار والعزم دون التنفيذ، ومنهم من يرى أن حرية الإرادة لا تتم إلا بالتنفيذ1، لكن التربويين يرى بعضهم وجود حرية الإرادة في الإنسان؛ لأنها أساس التربية والتعليم وأساس النمو والتكامل الإنساني2. والقائلون بالإرادة الحرة يحددونها من حيث المظهر ومن حيث تكويناتها ثم من حيث الوظيفة. أما من حيث المظهر فلها مظهران للسلوك الإرادي فأولهما الكف أو المنع أي: الامتناع عن عمل ما أو الوقوف ضد ميول ودوافع معينة, والمظهر الثاني هو الانتباه والسير نحو اتجاه معين وهو ينطوي على عمليتين هما: عملية الكف أولاً ثم عملية التركيز في اتجاه معين دون غيره من الاتجاهات. ومن ناحية المكونات يحددونها من ثلاث نواحٍ: الأولى الناحية البيولوجية, والثانية الناحية السيكولوجية، والثالثة الناحية الاجتماعية؛ لأن الناحية البيولوجية تعتبر بواعث أولية للسلوك، والناحية السيكولوجية تقوم بدور الاختيار من بين تلك البواعث وتحقيقه في الوجود الخارجي، والناحية الاجتماعية تقوم بدور تكييف عملية تنفيذ الاختيار وفقاً للقيمة الأخلاقية والعادات الاجتماعية. وأهم وظيفة للإرادة في حياة الإنسان هي اختيار أعمال معينة من بين

_ 1 مبادئ علم النفس العام: الدكتور يوسف مراد ص 241. 2 فلسفة التربية: فيليب هـ. فينكس، ترجمة الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 412.

الأعمال ثم تنفيذها، وبناء على كل هذا يعرفون حرية الإرادة من الناحية السيكولوجية كالآتي: الإرادة هي العملية النفسية التي ترمي إلى تكييف الاستجابة التي كان قد أدى الصراع القائم بين مجموعتين من الميول إلى إرجائها وذلك بترجيح كافة الميول التي تبدو في نظر الشخص أنها أسمى من غيرها"1, ويمكن إدخال بعض آراء السيكولوجيين في الاتجاه الأول وبعضها الآخر في الثاني وبعضها في الثالث.

_ 1 مبادئ علم النفس العام، د. يوسف مراد ص 343.

رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية

رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية مدخل ... ثانياً: رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية: وإذا بحثنا عن رأي الإسلام في هذا الموضوع وجدنا فيه نصوصاً مختلفة المفاهيم "في الظاهر" يمكن أن نؤيد بها كل اتجاه وكل مذهب من المذاهب السابقة, لو أردنا أن نكون مذهبين: فنجد هناك مثلاً نصوصاً تؤيد "بظاهرها" الاتجاه الأول القائل بالجبرية مثل النصوص الآتية: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 2، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} 4، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 5، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 6، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 7، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

_ 1 آل عمران: 6. 2 الأعراف: 155. 3 الإنسان: 30. 4 الرعد: 11. 5 الإسراء: 16. 6 البقرة: 353. 7 الأنعام: 125.

تُحْشَرُونَ} 1. ونجد كذلك نصوصاً تؤيد الاتجاه الثاني القائل بحرية الإرادة، مثل النصوص الآتية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 2، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 3، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} 4. وأخيراً نجد نصوصاً تؤيد الاتجاه الثالث وهو التوسط بين الاتجاهين السابقين منها هذه النصوص الآتية: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً, إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً, وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً, يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 5، {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} 6. وهناك نصوص أخرى كثيرة من هذا القبيل وسنذكر مزيدا منها عندما نعالج هذه الموضوعات المعالجة التفصيلية. والآن إذا تأملنا في هذه النصوص المتعلقة بالاتجاهات الثلاثة السابقة يبدو لنا لأول وهلة كأن بينها تعارضاً وتناقضاً وغموضاً وقد يصبح هذا التعارض والغموض حقيقة إذا نظرنا إليها من زاوية ضيقة أو إذا أردنا أن نعالجها في

_ 1 الأنفال: 24. 2 الكهف: 27. 3 الأنعام: 148. 4 آل عمران: 145. 5 الإنسان: 28 - 31. 6 الأعراف: 156.

ضوء مذهب فكري معين, ولكن إذا عالجناها من زاوية الفلسفة الإسلامية عموماً يزول هذا التعارض وينجلي هذا الغموض وينفسح مجال كل فكرة وتتحدد حدودها، ومن ثم نستطيع أن نفسر كل آية دون أن يتعارض معناها مع معاني النصوص الأخرى1. ويمكن تحديد فلسفة الإسلام في هذه القضية الكبرى عن طريق تحديد النقط الآتية: 1- قررنا في نهاية الفصل السابق أن الله خلق السماء وخلق الأرض وخلق الإنسان وخلق قوانين السماء وقوانين الأرض وقوانين الطبيعة الإنسانية ووضع نظام الأخلاق وفقاً لهذه القوانين الطبيعية ووفقاً لهدف هذا الخلق بوجه عام وخلق الإنسان بوجه خاص. إذن لهذا الخلق غاية لا بد من أن تتحقق بتمام الغاية والانتهاء إلى ذلك المصير. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 2، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 3 {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 4. فبناء على غايته في الخلق خلق الخلق وقدره تقديراً ينتهي إلى غايته {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 5، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 6، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى, وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 7.

_ 1 هنا يقول لي أستاذ: إن ابن رشد قد سبقك إلى هذه الفكرة. 2 سورة المؤمنون: 115. 3 الأنعام: 72 - 73. 4 الأحزاب: 38. 5 القمر: 49. 6 الفرقان: 2. 7 الأعلى: 2 - 3.

إذن بناء على غايته في الخلق خلق الخلق وعلم أن ما خلق ينتهي إلى ما قدر وبناء على علمه، لهذا وذاك قدر ما سيكون عليه الخلق وقضى ثم كتب ما قدر وقضى. من هذا نفهم وجود جبرية في العالم تتمثل أولاً في مصير الإنسان, فإنه لا بد من أن يموت مثلاً, ولا بد من أن يحيا مرة أخرى, وتتمثل أيضاً في أنه مقيد بإطار معين من أطر جبرية الكون من حيث إنه مقيد بالقوانين الطبيعية عموماً وبقوانين الطبيعة البشرية خصوصاً. ومن ثم جاءت النصوص التي تثبت المشيئة المطلقة والحرية لإرادة الله. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؛ لأن مشيئته الكلية قد سبقت الوجود أولا ولا بد من أن تتحقق ثانياً, وإذا عبر عما سيكون عليه الأمر مستقبلاً عبر عن علمه تعالى بما سيكون عليه؛ لأنه يعلم حاضر الشيء ومستقبله، ولا يمكن أن يتغير علمه ولا يمكن أن يغير أيضاً ما كتب بناء على هذا العلم ولهذا قال الرسول: "جف القلم على علم الله تعالى" 1؛ لأن العلم هو معرفة الأسباب وما تؤدي إليه، وإذا كان الله خلق الأسباب فيعلم مقدماً نتائج الأسباب، ويعُدُّ "ابن رشد" تلك الأسباب وما تؤدي إليه هي القضاء والقدر؛ لأن الأسباب لا تتخلف عن نتائجها ويسمى العلم بتلك الأسباب العلم بالغيب فيقول: "ولما كانت الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود لا تخل في ذلك بحسب ما قدرها بارئها عليه، وكانت إرادتنا وأفعالنا لا تتم ولا توجد إلا بموافقة الأسباب التي من خارج فوجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود أعني أنها توجد

_ 1 التاج جـ 5، كتاب الزهد والرقائق ص 193.

في أوقات محدودة ومقدار محدود. وإنما كان ذلك واجبا؛ لأن أفعالنا تكون سبباً عن تلك الأسباب التي من خارج، وكل مسبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة، فهو ضرورة، محدودة مقدرة. وليس يُلقَى هذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط, بل وبينها وبين الأسباب التي خلقها الله تعالى في داخل أبداننا. والنظام المحدود في الأسباب الداخلة والخارجة، أعني التي لا تخل هو القضاء والقدر الذي كتبه الله تعالى على عباده وهو اللوح المحفوظ، وعلم الله تعالى بهذه الأسباب وبما يلزم عنها هو العلة في وجود هذه الأسباب ولذلك كانت هذه الأسباب لا يحيط بمعرفتها إلا الله وحده ولذلك كان هو العالم بالغيب وحده على الحقيقة كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} , وإنما كانت معرفة الأسباب هي العلم بالغيب؛ لأن الغيب هو معرفة وجود الموجود في المستقبل أو لا وجوده"1. إلا أن هذه الكتابة بناء على العلم لا تدل على حتمية السلوك المعين للفرد؛ لأن التقدير بناء على العلم لا بناء على الجبر، فإن الإنسان البصير قد يرى أعمى يسير نحو هاوية فيستطيع أن يعرف مصير هذا الأعمى، ولو أنه كتب هذا المصير وقضى بأنه سيقع ووقع ما كتب فلا يكون بذلك قد أجبره على الوقوع، إذن سلوك الإنسان بالنسبة إليه سلوك حر مبني على اختياره, وهو بالنسبة إلى الله حتمي وقضاء وقدر؛ لأنه علم وقدر وقضى. 2- تتحدد حرية الإنسان بموقفه من قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق: فهو مأمور بتطبيق قوانين الأخلاق أدبياً وخاضع لتطبيق قوانين الطبيعة واقعياً.

_ 1 مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد. تحقيق الدكتور محمود قاسم ص 277 ط 2.

ولكنه يملك القدرة والاستعداد للخروج على القانونين، وذلك بناء على إحساسه بحرية الاختيار في داخل نفسه وشعوره بالقدرة على تنفيذ ما اختاره، وهذا الإحساس بالحرية والقدرة ليس مجرد وهم بل حقيقة يصدقها الواقع وهو خروجه على هذا وذاك في بعض الأحيان، فلو كان مجبوراً بالطبيعة كالحيوان لما خرج عليهما ولو كان مجبوراً بقانون الله الأخلاقي كالملائكة لما خرج عليه أيضاً. وبناء على هذه الحرية أصبح مسئولاً أمام الله ومطالباً بالسير على منهاج الله وطريقه الذي رسمه له، فلو كان مجبوراً على السير في طريق معين وليست له القدرة على الخروج عليه لكان عبثاً من الله أن ينزل الوحي ويطالبه بالسير على هداه، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ ولهذا فإن كل الآيات التي ذكرناها تثبت الحرية أو إرادة الاختيار للإنسان تعبر عن حرية الإنسان في إرادته وتصرفه في إطار معين، وقد أعطيت للإنسان إرادة الاختيار والقدرة على تنفيذ ما اختاره لاختباره وامتحانه: هل يسير على طريقه ومنهاجه الذي رسمه له أو يخرج عليه فيه؛ ولهذا قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1, وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 2، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 3. 3- إن هناك أعمالاً تتدخل فيها إرادة الإنسان وقدرته مع إرادة الله وقدرته، فتدخل إرادة الإنسان يبدأ من نيته لعمل ما إيجابياً أو سلبياً وتدخل إرادة الله يبدأ بتوجيهه وتوفيقه إلى حيث تتجه نيته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 4، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 5، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

_ 1 سورة الملك: 2. 2 محمد: 31. 3 آل عمران: 142. 4. العنكبوت: 69. 5 الصف: 5.

فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 1، {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ, لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 2, {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} 4، {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: يضل من يشاء الضلالة ويهدي من يشاء الإنابة. كما يتدخل الله في عمل الإنسان بناء على أخلاقه من صلاح وفساد {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 5، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 6، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى, وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى, وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى, وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 7، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} . وأخيراً يتدخل الله في عمل العبد بناء على عمله به وما يكون عليه مستقبله {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 8، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 9، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} 10، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} 11، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} 12، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} 13.

_ 1 البقرة: 10. 2 التوبة: 46. 3 الرعد: 11. 4 محمد: 29. 5 الأعراف: 146. 6 غافر: 28. 7 الليل: 5 - 10. 8 الأنفال: 23. 9 الفتح: 19. 10 البقرة: 26. 11 محمد: 17. 12 الكهف: 13 - 14. 13 مريم: 76.

والآن على ضوء هذه الفكرة نستطيع أن ندرك حقيقة مغزي الآيات التي تجمع بين الجبرية والحرية أو بين المشيئة الإلهية وحرية الاختيار للإنسان. 4- هناك إرادة إلهية جبرية أو قهرية وإرادة إلهية أخرى اختيارية، فهو يستعمل أحياناً الأولى وأحياناً أخرى الثانية بحسب ما يقتضي عدله وحكمته فبالأولى تجبر الناس على عمل معين قهراً كما قهر قوماً على أخذ ما أتى به رسولهم {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} 2. ولقد سبق أن بينا أن الله لا يريد سوءاً بقوم إلا إذا ساءت نياتهم سواء أظهروها أو أخفوها، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} , حقاً إن الله لو أراد ألا تقع فتنة من البداية لما وقعت ولما خلق في الإنسان دوافع أو استعداداً للفتنة ولخلقهم كالملائكة يؤمنون بالله ويفعلون ما يؤمرون {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4, ولو شاء أن يقهر كل الناس على الإيمان لفعل {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 5. ولكن الله لم يرد أن يقهر الناس على كل ما يريد أن يفعلوه وإن أراد منهم أن يفعلوه، لكن هذه إرادة الاختيار لا إرادة القهر والجبر، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} 6.

_ 1 الأعراف: 171. 2 الرعد: 11. 3 البقرة: 253. 4 يونس: 99. 5 الشعراء: 4. 6 الرعد: 31.

وهكذا فإن الله لم يرد أن تكون إرادة الجبر قاعدة عامة في تنفيذ كل شيء وتوجيه الناس إلى أعمالهم. سواء كان الجبر الداخلي أو الجبر الخارجي بل أراد أن تكون إرادة الاختيار هي الأساس في شئون حياة الإنسان إذ إنه نصب له دلائل الخير والشر وبين له طريق الهدى والضلال وعاقبتهما في الدنيا والآخرة وخلق فيه قوة البصيرة والإدراك والتمييز ليستطيع بها التفرقة بين ما يضره وما ينفعه إن عاجلاً أو اجلاً، ولهذا اقتضت إرادته ألا يقهر الناس بعد ذلك على أحد الطريقين بل اقتضت حكمته أن يبين للناس أنه يحاسبهم ثواباً أو عقاباً على اختيارهم لأحد الطريقين، وهذا الثواب أو العقاب قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، ولكن الحساب العادل والجزاء الوافي سيكون في الآخرة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} 2، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} 3. لا يلزم من إرادة الاختيار عند الإنسان عجزه سبحانه وتعالى عن تنفيذ مراده، بل إن هذا يعتبر تنفيذاً لمراده؛ لأنه أراد هذا فكان ما أراد. ولا يلزم أيضاً أنه بذلك أراد الشر؛ لأنه ترك حرية للإنسان أن يفعل الخير والشر مع خلق القدرة فيه لهذا وذاك، وإذا كان هذا يعتبر إرادة الشر من جهة فإن إرادة الشر هنا ليست من الله لنفسه ولا للإنسان بل من الإنسان للإنسان {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 4، فإن الله قد خلق

_ 1 يونس: 23. 2 الإسراء: 15. 3 الإسراء: 13. 4 يونس: 44.

العالم بما يناسب الإنسان وخلق فيه كل ما يحتاج إليه بحكم خلقته وطبيعته, وهنا يقول ابن عربي: "واعلم أن الإنسان فيه مناسب من كل شيء في العالم فيضاف كل مناسب إلى مناسبه بأظهر وجوهه"1. وعلى الإنسان إذن أن يتصرف بما يناسبه ويوافقه ولا يخالف نظام الطبيعة الذي خلق مناسباً له حتى لا يصيبه الشر ولكن نتيجة جهله حينا وتصرفاته الخاطئة واصطدامه بالقوانين الطبيعية والأخلاقية يصيبه الشر، فالشر إذن منه وإليه. وأخيراً لا يلزم من علمه تعالى أن الإنسان سيرتكب الشر، أنه بذلك أراد الشر بل إن علمه هذا لا يعتبر إرادة. فإنني عندما أضع أسئلة للامتحان مثلاً أعلم أن هناك من الممتحنين من يرسب في الامتحان ولكنني بذلك لم أرد رسوب أي إنسان ولا يرجع سبب سقوطه إلي بل يرجع إلى نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الله فإنه عندما أعطى للإنسان حرية الاختيار لم يرد من أي إنسان أن يفعل الشر بل أراد أن يتبع الخير {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، {وَتِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} 3، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 4، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 5. ثم إن الله بإرادة الاختيار هذه قد أراد للإنسان حرية, وبهذه الحرية أراد له الكرامة لكن هل نستطيع أن نقرر من هذا أن للإنسان مطلق الحرية؟.

_ 1 ذخائر الأخلاق، ابن عربي ص 95. 2 البقرة: 185. 3 آل عمران: 108. 4 الفرقان: 62-63. 5 المائدة: 6.

الحقيقة عندما نلفت نظرنا إلى تقريراتنا السابقة نجد هناك حرية وهناك جبرية ولكن من الجبرية والحرية درجات ولكل منهما بناء على ذلك مجالات, ولنذكر أولا درجاتهما؛ لأن كلا منهما مرتبط بالآخر ثم نقرر التقرير النهائي. أما درجات الجبرية فهي ثلاثة:

الدرجة الأولى جبرية مطلقة

الدرجة الأولى جبرية مطلقة: وهي ميتافيزيقية وطبيعية في الوقت نفسه وهي آخر الحد من القهرية لا يمكن للإنسان أن يفلت منها أو أن يخرق حدها مثل حتمية الموت المقضي على كل إنسان فكل إنسان لا بد من أن يموت ولا يستطيع إنقاذ نفسه، وكذلك البعث فكل إنسان مجبور أن يبعث بعد الموت، إن هذا قضاء سابق لا بد من أن ينتهي إليه بحكم القضاء السابق وبحكم طبيعة الخلقة. وهنا يقول "الخيام" في رباعياته تعبيراً عن الجبرية الأولى "جئت إلى هذه الحياة من غير إرادة وسأنتقل عنها أيضاً من غير إرادة ولا أدري كيف جئت وكيف أنتقل"1. وهذه الجبرية تعتبر ميتافيزيقية من حيث إنها قضاء سابق على وجود الإنسان وتعتبر كذلك حتمية طبيعية من حيث إنها تتم بواسطة القوانين الطبيعية التي لا تتخلف.

_ 1 رباعيات الخيام: ترجمة أحمد رامي ص 72, 95 ط 2.

الدرجة الثانية جبرية طبيعية

الدرجة الثانية جبرية طبيعية: وهي أقل صرامة من الأولى إذ من الممكن تعدي حدودها وقوانينها إلى حين بشكل من الأشكال مثل حاجة الإنسان الطبيعية إلى التغذية فكل إنسان لا بد من أن يتغذى بالأكل والشرب ليحيا، فإذا امتنع عن التغذية كلية فسيموت بعد حين لكن للإنسان قدرة على أن يمتنع حتى الموت ويقضي على نفسه، هنا نجد للإنسان مجالاً لحرية الإرادة إذ إن الإنسان

يستطيع أن يختار أحد الأمرين وينفذ اختياره بين إدامة الحياة بالتغذية والقضاء عليها بالكف عنها, وليست له هذه الحرية والقدرة في الجبرية الأولى. وليست قوانين الطبيعة من الناحية الحتمية في درجة واحدة إذ إن بعضها أقل صرامة أو حتمية مما ذكرنا مثل غريزة الأمومة والأبوة وغريزة الجنس إذ من الممكن مخالفة هذه القوانين باستمرار الحياة مع تحمل الأضرار الناتجة عنها.

الدرجة الثالثة جبرية القوانين الأخلاقية

الدرجة الثالثة جبرية القوانين الأخلاقية ... الدرجة الثالثة أو القسم الثالث من الجبرية هي جبرية القوانين الأخلاقية: وهذه القوانين تستمد سلطتها وجبريتها من ثلاث جهات: الأولى من جهة اتصالها بالقوانين الطبيعية والثانية من جهة اتصالها بالأمر الإلهي والثالثة من جهة اتصالها بالعرف والعادات الاجتماعية أي السلطة الاجتماعية. وأما درجات الحرية فهي تتحدد بالدرجات الجبرية السابقة إذ لا حرية أمام الدرجة الأولى من الجبرية كما قلنا والحرية موجودة أمام الدرجة الثانية ولكنها صعبة وضيقة للغاية، وخاصة أن الأمر متوقف -إزاء بعض القوانين الطبيعية- على حرية الاختيار بين الحياة أو عدم الحياة ولكنها على أية حال ممكنة ومتعلقة بإرادة الإنسان أما نطاق الحرية أمام النوع الثاني من قوانين الطبيعة مثل الاتصال الجنسي كقانون طبيعي فمجال الحرية هنا أوسع، إذ من الممكن أن يحيا الإنسان بدون تطبيقه لهذا القانون وغيره من القوانين التي من هذا القبيل, لكن درجة سعادة الحياة أو شقاوتها تقاس بمدى تكييف الإنسان حياته مع تلك القوانين بصورة عامة فإن مخالفة تلك القوانين في الحياة نتيجتها الشقاء ونهايتها الموت المحتم. أما الحرية أمام الدرجة الثالثة من الجبرية وهي جبرية القوانين الأخلاقية

فهي متفاوتة، وكما أن درجات القوانين الطبيعية متفاوتة فكذلك درجات القوانين الأخلاقية متفاوتة من حيث الجبرية ومن حيث الحرية أيضاً يقاس ذلك بمدى إلزامية كل قانون ثم بمدى الإحساس الأدبي أو الضمير الأدبي الذي يتمتع به كل فرد. وسيأتي تفصيل هذه النقطة في موضوع الإلزام الأخلاقي القادم, على أي حال فإنه كلما تصاعدت أو قويت درجات الجبر في الناحية الأولى كلما قلت درجات الحرية في الناحية الثانية.

خلاصة الدراسة

خلاصة الدراسة: والآن بالنظرة العامة إلى ما سبق نستطيع أن نستخلص أسس الحرية الأخلاقية في النقط الآتية: الأساس الأول: وجود حرية الإرادة في الإنسان وقد تختلف درجة هذه الحرية من ميدان إلى آخر ومن مجال إلى آخر في الحياة العامة. الأساس الثاني: وجود القدرة والاستعداد لتطبيق حرية الإرادة. الأساس الثالث: وجود الحرية إزاء تطبيق القوانين الأخلاقية ولكن بدرجات متفاوتة. الأساس الرابع: إن حرية الإنسان العملية ليست حرية مطلقة إذ إن هذه الحرية تحدها القوانين الطبيعية والميتافيزية والسيكولوجية والاجتماعية. ومسئولية الإنسان الأخلاقية تقدر وتحدد بمدى ما أتيح من القدرة على الأعمال الأخلاقية، وسيأتي مستويات الإلزام الأخلاقي والمسئولية الأخلاقية بحسب الاستطاعة والقدرة والأهمية للمبادئ الأخلاقية.

الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي

الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي مدخل ... الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي قبل بيان رأي الإسلام في معنى الإلزام الأخلاقي ينبغي أن أشير إلى تحديد هذا المعنى ومصادره في الفلسفات الأخلاقية. من النتائج الهامة التي وصلنا إليها في موضوع الحرية السابق وجود حرية أخلاقية ووجود سلطة أو جبرية أخلاقية، والجبرية المقصودة هنا ليست الجبرية القهرية التي تحدثنا عنها وإنما الجبرية التي نقصدها هي التي يمكن للإنسان أن يخالف دواعيها بشكل من أشكال المخالفة وهذا ما نقصده من الإلزام الأخلاقي. وتحديد معنى الإلزام له قيمة؛ ذلك أنه لا معنى للمسئولية الأخلاقية بدون وجود الحرية الأخلاقية, كما أن قيمة السلوك الأخلاقي تظهر بصورة أكثر وضوحاً عندما ينفذ هذا السلوك عن حرية واختيار وإرادة أخلاقية خيرة. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن تكون هناك حرية تجاه الإلزام، وتفضيل السلوك الأخلاقي على السلوك غير الأخلاقي هو الالتزام الأخلاقي، وكما يكون الالتزام عن دافع خارجي يكون أيضاً عن دافع داخلي. وأيا كان الأمر كذلك فلا بد من وجود إلزام والتزام في العمل الأخلاقي، ودرجة الالتزام مبنية على درجة الإلزام من حيث القوة والضعف ومن ثم من حيث التمسك بالمبادئ الأخلاقية وعدم التمسك بها. ولما كان من أهم خصائص الأخلاق القويمة مدى ما فيها من قوة تدفع الناس إلى العمل بها كان الإلزام إذن من أهم الأسس التي يقوم عليها صرح بناء

الأخلاق، ومعرفة مدى الإلزام تستدعي معرفة مصادر الإلزام، إذن متى أردنا أن نقدر مدى ما في الأخلاق الإسلامية من إلزام ينبغي أن نبحث عن مصادره.

الاتجاهات المختلفة في الالزام الأخلاقي

أولاً: الاتجاهات المختلفة في الإلزام الأخلاقي: وبفحص هذه الاتجاهات نجد اتجاهين رئيسيين: الأول يرجع سلطة الإلزام إلى مصادر خارجية, ويختلف أنصار هذا الاتجاه في مصدر هذه السلطة: فمنهم من يرى أنه الجماعة أمثال: "أوجست كونت" و "دوركايم" و "ليفي بريل" ومن ذهب مذهبهم1، ومنهم من يرى أنه الدين كما يراها رجال اللاهوت أمثال "أمبروز" و "القديس أوغسطين" و "توما الأكويني"2. والاتجاه الثاني يعيدها إلى ذات الإنسان, وأنصار هذا الاتجاه يختلفون أيضاً، فمنهم من يرى أنها العقل أمثال "صمويل كلارك" و "ولاستون" ومن ذهب مذهبهما، ومنهم من يرى أنها الوجدان أو الحاسة الخلقية أمثال "هاتشيسون" و "آدم سميث" و "جان جاك روسو"3، ومنهم من يرى أنها دافع المنفعة فالإنسان بطبيعته يسعى إلى ما يلذه ويتجنب ما يؤلمه, وقد وجد الإنسان عن طريق التجربة أنها تحقق له السعادة وتبعده عن التعاسة، ولهذا فالدافع الأساسي بالمنفعة الذي يتكون عنده عن طريق التجربة4.

_ 1 الفلسفة الخلقية: د. توفيق الطويل. الأخلاق وعلم العادات: ليفي بريل. التربية الأخلاقية: دور كايم. 2 الفلسفة الخلقية: د. توفيق الطويل. والمجمل في تاريخ علم الأخلاق: الدكتور هـ. سدجويك. 3 المصدر نفسه: للدكتور توفيق الطويل ص 158. 4 المصدر نفسه: 192.

رأي الإسلام في الإلزام الأخلاقي

ثانياً: رأي الإسلام في الإلزام الأخلاقي: خلق الله الإنسان ووضع النظام الأخلاقي وهو الذي يعلم الظاهر والباطن والسر والعلن {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 1، وهو يراقب الناس في سلوكهم وأعمالهم {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} 2، وأنه يسجل كل شيء {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 3، {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 4، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 5، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} 6. وجعل الإسلام سلطة الجماعة ملزمة في الدرجة الثانية وبناء على ذلك اعتبر المجتمع مسئولاً عن انحراف الأفراد؛ لأن فساد بعض الأفراد قد يؤدي إلى فساد المجتمع كله يوماً ما، ولهذا قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 7؛ ولهذا أمر الجماعة بعقاب المنحرفين {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} 8 وبالإضافة إلى العقوبة السابقة أم بإسقاط قيمتهم الأدبية فلا تقبل شهادتهم ولا يوثق بكلامهم {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} 9. ولهذا قرر مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبر القيام بذلك من عزائم الأمور {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 10.

_ 1 الأعلى: 7. 2 الفجر: 14. 3 يس: 12. 4 آل عمران: 76. 5 الأعراف: 85. 6 النحل: 105. 7 الأنفال: 25. 8 النور: 2. 9 النور: 4. 10 لقمان: 17.

إن إعطاء سلطة الإلزام للجماعة من الأهمية بمكان، ذلك أن من الناس من يكون وازعهم الإيماني ضعيفاً فلا يخافون من الله خوفهم من الناس، فلو أنهم تركوا وشأنهم لبثوا الفساد في المجتمع، ثم إن هذا الإلزام محسوس مادي يناسب جميع الناس، وإن كان السلوك الأخلاقي الذي يتم تحت سلطان إلزام الجماعة أقل قيمة من السلوك الذي يتم بدافع الإيمان بالله تعالى، ومهما يكن من أمر فمن الأهمية بمكان أن تطبق الجماعة قوانينها، ومسئولية الجماعة عن انحراف الأفراد ترجع في أساسها إلى عدم إنكارها السلوك المنحرف مع إمكان إنكارها إذ إن هذا إن دل على شيء فإنما يدل رضاها لوقوعه، ولهذا متى زاد الفساد في المجتمع فإن الله ينزل عليه البلاء الذي يعم الفاسدين وغير الفاسدين والعصاة وغير العصاة؛ لأن غير العصاة يعدون عصاة؛ لأنهم رضوا بالفساد والعصيان وإن كان مقدار مسئوليتهم أقل من مسئولية أولئك. وإلى جانب اعتداد الإسلام بالجماعة مصدراً للإلزام الأخلاقي يعتد أيضاً بالعقل والإدراك؛ لأن الإنسان عندما يدرك -عادة- أن عاقبة فعله ستكون أليمة فإنه يتجنبه وإذا كانت سارة فإنه يفعله. كذلك إذا رأى خيراً من سلوك التزم به أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فإنه يتركه، ولما كانت الأخلاق وسيلة الخير في الدنيا والآخرة في حين أن التجرد منها وسيلة لشر، فإن العاقل يلتزم بها عقلا؛ ولهذا سيقول أهل النار يوم القيامة {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1.

_ 1 الملك: 10.

ومن مصادر الإلزام في رأي الإسلام الضمير الخلقي؛ لأن الإسلام -كما بينا- فيه حاسة أخلاقية يميز بها ما هو حسن وجميل من سلوك مما هو قبيح وضار، ومن ثم تطمئن النفس إلى السلوك الجميل وتقشعر من السلوك القبيح، ومن ثم يدفعه إلى الالتزام بالأول والابتعاد عن الثاني مصداق ذلك قول الرسول: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس" 1، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 3. ثم يعتد الإسلام أخيراً بالدوافع النفعية عاملاً من عوامل الإلزام والالتزام بالقيم الأخلاقية؛ لأن الإنسان بطبيعته يحب الخير والنفع لنفسه والبد منه لحاجته الأساسية إليه, ومن هنا يشوق الناس إلى الأعمال الصالحات ويعدهم بالمكافآت الجزيلة عليها في الدنيا والآخرة وينذر المسيئين من عاقبة سيئاتهم {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} 4، {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 5، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 6, وهكذا نجد كثيراً من النصوص التي تستميل القلوب وتدفعها إلى الأخلاق الطيبة، وسوف نذكر مزيداً منها في موضوع الجزاء الأخلاقي.

_ 1 مسند الإمام أحمد جـ 4 ص 228، صحيح مسلم جـ 4. ك 45. ح15. 2 ق: 37. 3 الزمر: 23. 4 الجاثية: 21. 5 الحج: 50. 6 النور: 55.

ومن هذا كله نتبين أن الإسلام لا يكتفي بعامل واحد للإلزام بل يستخدم عوامل متعددة, وهذا أمر يناسب سيكولوجية الفروق الفردية بين الناس، نظراً إلى أن هؤلاء ليسوا سواء في درجة التأثر بتلك الدوافع إلى السلوك ولما لم تكن الأعمال الأخلاقية كلها في مستوى واحد من القيمة، ولما كانت قيمة الشيء تعد أحد الدوافع للالتزام به فمن الواجب أن نبحث هنا عن مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته.

مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته

ثالثا: مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته: إن مجالات الالتزام الأخلاقي هي مجالات الخير كله فإن الإنسان ملزم بعمل الخير وتجنب الشر في كل وقت وفي كل مكان، غير أن الخيرات كثيرة فلا يستطيع الإنسان عمل الخيرات كلها طولاً وعرضاً، إذ إن قدراته محدودة وزمنه كذلك محدود فلا بد إذن من أن تكون هناك درجات في الإلزام ومراتب في الأعمال الأخلاقية حتى لا يقف الإنسان موقف الحيرة في فعل بعضها وترك بعضها الآخر وخاصة إذا كان هناك تعارض وإذا أدى فعل بعضها إلى ترك بعضها الآخر، لذا نرى أن الإسلام رتب الأعمال الأخلاقية إلى لازم وألزم فألزمها فرض العين ثم فرض الكفاية ثم الواجب ثم السنة المؤكدة ثم السنة غير المؤكدة ثم النوافل وأخيراً الكماليات. كذلك رتب المحرمات أو الشرور إلى كبائر وصغائر ثم المكروهات وخلاف الأولى. ثم قسمها من جهة أخرى من حيث الواجبات المحدودة وغير المحدودة والمؤقتة وغير المؤقتة. وحدد مسافة بين الخير والشر لا هي خير ولا هي شر وهي المباحات وأحد طرفيها متصل بالخير والآخر متصل بالشر وأمر الناس بالاتجاه نحو الخير والابتعاد عن الشر؛ لأن الذي يرتع حول حدود الشيء يوشك أن يقع فيه، فقد شبه الرسول موقف الإنسان من حدود المحرمات بموقف الراعي الذي يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يتجاوز حدوده إذا اقترب منها فقال: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه" 1. وقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2، والحقيقة أن معالجة

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ 1 كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه ص 134. 2 فتح الباري بشرح البخاري جـ 5 كتاب البيوع، باب تفسير المشبَّهات ص 195.

الإسلام لهذه النقطة معالجة قيمة. ذلك أنه أنقذ الإنسان من الحيرة من الناحية التشريعية ومن الناحية العملية كذلك لم يدع إلى الالتزام ببعض الخيرات وعدم الالتزام بالبعض الآخر بل إن الخيرات كلها لازمة في رأيه، لكن لما كانت هذه الخيرات غير متناهية من حيث أنواعها ومن حيث درجاتها، ولما كان الناس يختلفون من حيث القدرات والإمكانات المادية والمعنوية والميول والرغبات فقد حدد الأعمال الخلقية من ناحية نوعية الأعمال التي تلزم في الدرجة الأولى، والتي تكون مشتركة بين جميع المكلفين وعلى أساسها تميز بين الإنسان الأخلاقي واللا أخلاقي، فهي أولا المعيار الأول لوزن الناس ثم إنها تتلاءم مع جميع الناس وهي الواجبات العينية من الناحية الإيجابية والكبائر من الناحية السلبية. ثم يلي ذلك في كل ناحية المراتب التي ذكرناها سابقاً. وهذه من ميزات الأخلاق الإسلامية التي تتميز بها على الأخلاق الفلسفية فإنني ما رأيت فلسفة أخلاقية قد نظمت وبينت الأعمال الأخلاقية وموضوعات الخير الأخلاقي ودرجات الالتزام بها كما بينها وفصلها الإسلام. هذه من الناحية العَرْضِية وأما من الناحية الطولية فإن الإسلام قد فتح أمام الراغبين في الازدياد من الخيرات من نوع هذه الأعمال المقررة المفروضة، بل دعا إلى التسابق في الخيرات والفضيلة في الأعمال والمعاملات والتنافس فيها، ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 1، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} 2، فالأفضل مثلاً أن يواصل المؤمن الإنفاق على الفقراء والمؤسسات الخيرية بعد دفع

_ 1 البقرة: 148. 2 المطففين: 26.

القدر المفروض عليه من الزكاة، وهذه هي الفضيلة بمعنى الكلمة، أما الزكاة فهي ضريبة لا بد منها ولا يدل آداؤها على حبه للفضيلة والإحسان إذا اقتصر عليها مع إمكانه أن يزيد فيها. وإن كانت درجة المسئولية والجزاء تختلف فيما بينهم، غير أن هذه الأعمال الفاضلة مشروطة أيضاً بأن لا تؤدي مواصلتها إلى إهمال الواجبات الأخرى وأن لا تؤدي كذلك إلى نقض قوانين الحياة، فمثلاً لا ينبغي أن ينفق الإنسان جميع ماله وبالتالي لا يجد مأكلاً ولا مأوى؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 1، وكذلك لا يجوز للإنسان أن ينقطع للصوم حتى يترك الكسب أو حتى يموت، كذلك لا ينبغي أن تكون مواصلته لفضيلة ما تجعله يهمل الواجبات الأخرى؛ ولذا نهى الرسول بعض الذين عزموا على مواصلة بعض العبادات مثل: الصلاة والصوم، فقال الرسول لعبد الله بن عمرو بن العاص لما علم أنه يواصل العبادة: "صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزورك عليك حقاً" 2. إذن نجد في الأعمال الأخلاقية الإيجابية ثلاث مراتب تحدها. الأولى: هي الحد الأدنى من الواجب وهو الذي يجب أن يقوم به كل واحد. والمرتبة الثانية: هي مساحة مفتوحة لكل واحد للمسابقة في الازدياد منها. والمرتبة الثالثة: هي الحد الأقصى الذي ينهى الإنسان عن تجاوزه بمخالفة قوانين الحياة الضرورية.

_ 1 الإسراء: 29. 2 فتح الباري بشرح البخاري جـ 5 ص 124، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم.

خصائص الالزام الأخلاقي في الإسلام

خصائص الالزام الأخلاقي في الإسلام مدخل ... رابعاً: خصائص الإلزام الأخلاقي في الإسلام: ويمتاز الإلزام الأخلاقي في الإسلام بخصائص هامة لا توجد بمثل هذا الوضوح في الفلسفات الأخلاقية الأخرى وهي:

الإلزام بقدر الاستطاعة

1- الإلزام بقدر الاستطاعة: إن الإسلام قد راعى استطاعة الإنسان في إلزامه بالقوانين الأخلاقية، ولهذا لم يكلفه فوق طاقته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 1، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} 2، وهذا المبدأ كما تقتضيه الأخلاق السليمة تقتضيه كذلك العدالة الإلهية، إذ لا يمكن أن تكون الأخلاق صالحة للتطبيق إلا بهذا الشرط، وليس من العدالة كذلك تكليف المرء ما لا يطيق, بل هو ظلم والله تعالى قد وصف نفسه بالعدالة ونفى عن نفسه الظلم {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة} 3، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 4، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 5.

_ 1 البقرة: 286. 2 التغابن: 16. 3 النساء: 40. 4 يونس: 44. 5 الأنعام: 115.

سهولة التطبيق

2- سهولة التطبيق: وليست الأخلاق الإسلامية متوافقة مع قدرات الناس واستطاعتهم فحسب بل إنها أسهل مما يطيقونه {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 1, {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} 2. نرى من هاتين الآيتين أن الله لم يعفنا فقط مما لا طاقة لنا به بل أعفانا مما نطيقه بشق الأنفس؛ لأنه تعالى لم يضع نظامه لنا ليحرجنا ويضعنا في عسر وضيق من الحياة، بل أراد هدايتنا وتيسير السبل أمامنا للوصول إلى حياة سعيدة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ

_ 1 البقرة: 184. 2 البقرة: 286. 3 الحج: 78.

الْعُسْر} 1، وكان الله قادراً أن يكلفنا فوق طاقتنا ولكنه لم يفعل2 ذلك رحمة بخلقه؛ لأنه لم ينزل رسالاته إلا رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3. وهنا تظهر حكمة الله البالغة في وضعه النظام بهذه الصورة، إذ إنه لو كلفنا بما نطيقه بشق الأنفس لما أمكن مسايرته إلى الأبد، فلدوام نظام معين في الحياة العملية وليبقى صالحاً زماناً ومكاناً لا ينبغي أن يستنفد تطبيقه طاقة الإنسان كلها؛ لأن بذل آخر الطاقة بصفة مستمرة لا بد من أن يؤدي إلى الإرهاق والحياة لا تطاق بإرهاق مستمر، ومن ثم فلا بد من أن يبوء مثل ذلك النظام بالفشل. وهنا تظهر ميزة رسالة الإسلام من هذه الناحية على الرسالات السابقة حيث إنه لم تأتِ بقوانين استثنائية قاهرة كعقاب إلهي، على الأمة كلها كما حدث في الرسالات السابقة التي تحدث عنها القرآن {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} 4, وقال أيضاً: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ, الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 5، وقال أيضاً: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} 6، ونقول: إن الإصر وتشديد الأحكام في

_ 1 البقرة: 185. 2 La Morale Du Koran Dr. M.A.Draz p.31. 3 الأنبياء: 107. 4 البقرة: 286. 5 الأعراف: 156-157. 6 النساء: 160.

الرسالات السابقة كانت حالة استثنائية؛ لأن رسالات الله كلها في جوهرها واحدة وتهدف إلى غاية واحدة, مصداق ذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1، وكان الأمر يقتضي ألا يكون في الإسلام شيء من تلك القوانين الاستثنائية؛ لأنه خاتم الرسالات من جهة؛ ولأنه عام لكل الأمم فكان العدل الإلهي لا يقتضي عقاب الأمم الأخرى بظلم بعضها، ثم وجود مثل تلك القوانين في الإسلام لا تجعله صالحاً للتطبيق لكل الناس في كل زمان ومكان، وكما تمتاز رسالة الإسلام على الرسالات الأخرى تمتاز كذلك على بعض الفلسفات الأخرى كالفلسفة الأخلاقية البرهمية والكانطية- مثلاً- التي تتسم بالقسوة وعدم مراعاة الطبيعة الإنسانية في الظروف المختلفة.

_ 1 الشورى: 13.

مراعاة الحالات الاستثنائية

3- مراعاة الحالات الاستثنائية: تظهر هذه المراعاة في تخفيف الإسلام عن المكلفين بعض التكاليف أو إعفائهم منها في بعض الظروف والحالات المحرجة الطارئة؛ فنرى مثلاً أنه قد خفف عن المسافر في الصلاة وسمح له بتأخير الصيام في شهر الصوم وبأداء الصلاة على الراحلة. ونرى كذلك أنه قد أعفى العجزة والضعفاء من الجهاد {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 1، ونرى أيضاً أنه أباح أحياناً استبدال الالتزام بالتزام آخر عند الضرورة، فإذا لم يجد المرء ماء مثلا يتيمم حتى إنه أباح المحرم عند الضرورات فللجائع إذا خاف على نفسه الموت من الجوع أن يأكل من مال الغير جبرا إذا امتنع عن إطعامه بالرضا، وله

_ 1 الفتح: 17.

أن يقاتل المستسقي إذا امتنع عن سقايته. بل أكثر من هذا وذاك، فقد سمح للمسلم أن يكفر بلسانه إذا أكره عليه ولا يضر ذلك إذا بقى قلبه مطمئناً بالإيمان {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1؛ لأن الإسلام لا يهتم بالظاهر اهتمامه بالباطن؛ ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 2، كما أباح الإسلام الكذب في المعاملة في بعض الحالات الضرورية، إذا كان ذلك يؤدي إلى الخير العام أو ينقذ نفس الإنسان البريء من الإهدار، فقد روي عن الرسول أنه قال: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً" 3. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال: رجل كَذَبَ على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين المسلمين ليصلح بينهما" 4, ولا ينبغي أن يفهم من جواز الكذب بين الزوجين جواز الخدعة وكتمان الخيانة، وإلا كان الكذب وسيلة للشر وسبباً لزوال الثقة بين الطرفين، وبذلك يخرج عن الحدود المشروعة. ولقد فهم بعض الناس ذلك الفهم وسأل الرسول متعجباً: "أكذب امرأتي يا رسول الله؟ فقال الرسول: "لا خير في الكذب" 5, وقال آخر: يا رسول الله أعدها وأقول لها؟ فقال: "لا جناح عليك" 6, وقال أيضاً: "تحروا الصدق وإن

_ 1 النحل: 106. 2 التاج جـ 1، كتاب النية والإخلاص ص 55. 3 صحيح مسلم جـ 16، كتاب البر والصلة والآداب، ص 157. 4 جامع الأصول من أحاديث الرسول، ابن الأثير جـ 11 ص 239. 5 موطأ الإمام مالك جـ 2 ص 233. 6 المصدر السابق.

رأيتم فيه هلكة فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة" 1. هنا نجد أن الرسول قد حدد ما يجوز من الكذب بين الزوجين وهو ليس الإخبار بما يخالف الحقيقة فيما مضى وإنما هو التودد وبذل الوعود لتحقيقها في المستقبل عند تيسر الأمور عندما تطلب منه أموراً وهو غير قادر على تحقيقها وتنفيذها. أو يقول لها إنه يحبها كثيراً إذا اتهمته بأنه لا يحبها. وإذا أباح هذا فليس معنى ذلك أنه يشجع عليه ولهذا قال: لا جناح عليك, هذا من وجهة ومن وجهة أخرى ينبغي ألا يقول شيئاً من هذا القبيل إلا عند الضرورة التي لا يجد المرء مفراً منها. ولا يكون الإنسان بذلك كذاباً؛ لأن الكذاب هو الذي يتخذ الكذب وسيلة لتحقيق مآربه وهذا غير مباح إطلاقاً، ولهذا قيل للرسول: "أيكون المؤمن جباناً؟ فقال نعم، فقيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال نعم، فقيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال لا" 2. كما لا يسمى الإنسان الذي يسرق طعاماً مرة ليأكل في حالة المخمصة سارقاً؛ فالسارق هو الذي يتخذ السرقة وسيلة للمعيشة. والكذب في حالة الإصلاح بين الناس قاصر على الكلمات الطيبة التي يسندها إلى أحد الطرفين المتنازعين أو كليهما، إذ من شأنها أن تؤلف بين قلوبهم وتزيل الضغائن منها وكذلك في الحرب إذا كان الكذب يؤدي إلى إنقاذ الجيش أو إنقاذ نفسه ولا يمكن بغير ذلك، ومع ذلك فمثل هذا الكذب رخصة وليس عزيمة

_ 1 الجامع الصغير جـ 1 ص 129. 2 موطأ الإمام مالك جـ 2 ص 233.

وهو سلوك استثنائي لحالات ضرورية وفي هذه النقطة توجد بعض الأمور التي تحتاج إلى توضيح وهي: الأمر الأول: إن هذه الحالات الاستثنائية من القواعد الأخلاقية العامة لا تعتبر جزءاً من الأخلاق وإنما هي ضرورة والضرورات تبيح المحظورات كما قال الأصوليون، ولهذا لا ينبغي اتخاذها وسائل لبلوغ المآرب وتحقيق الأهداف كلما وجد المرء شيئاً من القسر في استخدام الطرق الأخلاقية السليمة متذرعاً في ذلك بالصعوبة، وإلا فشا الكذب وزالت الثقة في المعاملات، ولهذا يجب الاقتصار على ما اقتصر عليه الإسلام، وأن يكون ذلك مشروطاً بعدم إمكان تحقيقه إلا بذلك، إذ إن القاعدة الأساسية في الأخلاق الإسلامية هي تحقيق الخير عن طريق الخير، لا عن طريق الشر، فالعمل الأخلاقي لا يأخذ موضعه من الأخلاق إلا إذا تم بطريق أخلاقي، والضرورات تقدر بقدرها كما تقرر الشريعة. هذا الحل من الإسلام لمشكلة الاستثناء من القاعدة الأخلاقية بتلك الصورة يعتبر حلا وسطاً في التفكير الأخلاقي، ذلك أن الإنسان قد يقع في مأزق ليس له فيه مخرج بطريق أخلاقي؛ لأن الشر قد أحاط به ولا حيلة له بدفعه عن طريق الخير فالقاعدة الأساسية هي دفعه بالخير {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، وفي هذه الحالة أباح الإسلام دفع الشر بالشر ودفع الشر يعتبر خيراً فقد أبيح هنا عمل الخير بطريق الشر في حالة ما إذا كان الإنسان مضطراً إلى هذا العمل، فهذه قاعدة ولكن ليست قاعدة أساسية وإنما استثنائية، والحرب في الإسلام مبنية على هذه القاعدة؛ لأن قتل الإنسان شر

_ 1 فصلت: 34.

ولكن إذا هاجمه الأخير لقتله دون جريرة تستحق القتل ولم يستطع دفعه بطريق سلمي فقد أعطى له حق قتاله لدفع الشر، لا لجلب الخير وإن كان هذا يعتبر خيراً من جهة أخرى. وهكذا نجد أن الغاية قد تبرر الوسيلة لكن هذه القاعدة استثنائية أيضاً، فالقاعدة الأخلاقية الأساسية هي التوفيق بين الوسيلة والغاية في الخيرية. وإذا ألقينا الآن نظرة عابرة على الاتجاهات الأخلاقية في هذه النقطة بالذات وجدنا فيها اتجاهين: أولهما لا يبيح الاستثناء في القاعدة الأخلاقية على أي حال ولو أدى التمسك بالأخلاق إلى هلاك إنسان بريء وهو اتجاه "كانط" المثالي, وثانيهما يعتبر الأهداف والغايات هي الأساس وإنها تبرر الوسيلة فكل وسيلة تحققها تعد عملا أخلاقيا وهو الاتجاه النفعي في الأخلاق بصفة عامة, والاتجاه الشيوعي بصفة خاصة1. أما الإسلام فلم يقف مع الاتجاه الأول على طول الخط ولا مع الاتجاه الثاني كذلك غير أنه يجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة وهي أن الإسلام إذا أباح التلفظ بالكفر أو الخروج على قاعدة الصدق بالكذب فهذا يعتبر رخصة وليس عزيمة. والإنسان إذا تمسك بالعزيمة مع وجود الرخصة يعتبر هذا فضيلة منه ولا يكون آثماً إذا تمسك بالرخصة، وقد روي أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهبوا بهما إلى مسيلمة فقال: لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم, قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فخلى عنه وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع فعذبه

_ 1 المذاهب الأخلاقية جـ 2 ص 19 وما بعدها.

وضرب عنقه فجاء هذا إلى النبي فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، فقال: أما صاحبك فقد أخذ بالثقة، " وفي رواية: فقد مضى على إيمانه،" وأما أنت فقد أخذت بالرخصة, علام أنت عليه الساعة؟ قال: أشهد أنك رسول الله، قال: "أنت على ما أنت عليه "1، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 2، وقال أيضاً: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3، وقال أيضاً: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 4, وكما يفهم من نص الآيات السابقة أن الاستثناء لم يسقط حرمة المحظورات وإنما وعد الله بأنه لن يؤاخذه على ارتكابه. لذا قال الفقهاء: إذا تمسك بالعزيمة حتى الموت فإنه يموت شهيداً5؛ لأن الله نفى الجناح عن التمسك بالرخصة ولم يشجع عليها فقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} 6، وإذا كان العلماء قد اختلفوا بين الإتمام وبين الاقتصار في الصلاة من حيث الأفضلية بناء على قول الرسول عن الرخصة: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 7، وقوله أيضاً: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" 8، وبناء على الآيات السابقة9 فإن الأمر يختلف بين الواجبات الأخلاقية بالنسبة إلى الله وواجبات الناس نحوه. وبالنسبة إلى الناس، ثم بين نوعي الواجبات في كلا الطرفين. فالأمر بالنسبة إلى العقيدة يختلف عنه بالنسبة إلى الصلاة مثلا ثم يختلف أخيراً بالنسبة إلى التعامل

_ 1 الدر المنثور للإمام السيوطي جـ 4 ص 132 والإصابة في تمييز الصحابة جـ ص 306. 2 البقرة: 173. 3 المائدة: 3. 4 الأنعام: 119. 5 علم أصول الفقه ص 141. 6 النساء: 101. 7 صحيح مسلم جـ 5 كتاب صلاة المسافر ص 196. 8 الجامع الصغير جـ 1 ص 76. 9 المغني جـ 1 ص 220.

الاجتماعي، فأحياناً يكون التمسك بالرخصة فضيلة إذا كان في ذلك إيثار في حق الغير، ولهذا ينبغي أن يقدر هنا بين ما يبذله الإنسان في سبيل التمسك بالقيمة وبين القيمة نفسها: فالمحافظة على النفس أغلى من المحافظة على المال، فليس من الأفضل إضاعة النفس في سبيل المحافظة على حرمة مال الغير، فإذا رأى الإنسان مثلا أنه سوف يموت إذا لم يسرق ولم يأكل من مال الغير فلا شك أن التعدي على حرمة المال هنا أهون من التعدي على حرمة النفس، ولهذا قال الأصوليون: ارتكاب أهون الشرين أولى إذا كان لا مناص من ارتكاب أحدهما. الأمر الثاني: إن الإسلام راعى في هذه الاستثناءات الفروق الفردية بين الناس في مختلف الظروف، إذ إن بعض الناس قد لا يستطيع تحمل تلك المواقف الحرجة الشديدة تحت وطأة الخوف أو الجوع أو العاطفة فيقدم على ارتكاب الحرام, وكل إنسان يعمل حسب استطاعته وهو يعرف نفسه عند الإقدام على الرخصة مدى اضطراره إليها {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ, وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 1، وإن الله سيحاسبه بناء على معرفته بنفسه في حالة الاضطرار، ولهذا لا يحق للناس أن يرتكبوا المحرمات لمجرد بعض الصعوبات التي يستشعرونها إزاء القيام بالأعمال الأخلاقية، ولا تنفع معاذيرهم؛ لأن الله يعلم مدى اضطرارهم، ومن هنا كان على المرء أن يوفق بين ظاهره وباطنه، فلا يقدم على أعمال لا يوافق عليها ضميره الباطني ولو حاول أن يلقي المعاذير على الضرورة2، وقد قال

_ 1 القيامة: 14. 2 يعرف الإمام الشاطبي حد الضرورة فيقول: "إنه إذا كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه.. في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد" الموافقات جـ 2 ص 87.

الرسول -صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" 1. الأمر الثالث: إن مراعاة الإسلام لهذه الأمور تدل على مرونة التشريع الإسلامي وتضفي عليه صفة صلاحيته لكل الناس في مختلف الظروف والحالات وفي مختلف الأزمنة والأمكنة؛ لأن هذه القوة القاهرة التي تكره الناس أو بعضهم على الخروج على القوانين الأخلاقية، قد ترجع إلى اختلاف طبائع الناس أو إلى الطبيعة نفسها أو إلى تطور الحياة أو إلى الظروف الطارئة, فعن طريق قانون الاستثناء نستطيع أن نواجه تلك الظروف ونحل كثيراً من المشكلات الطارئة من حين إلى آخر، ولكن يجب ألا تبقى هذه التطبيقات العملية لقاعدة الاستثناء العامة قوانين جوهرية في صميم المبادئ الأخلاقية, ثم إن مراعاة الإسلام للحالات الاستثنائية تعتمد على مراعاته لوقائع الحياة الطارئة إذ إننا نجد حتى في التشريعات الوضعية مبدأ الأحوال العرفية، فللحاكم أن يتخذ تدابير وقوانين في تلك الأحوال على حسب الوقائع والحالات الطارئة طبقاً لمقتضى الأحوال، ولكن ما يتخذه من القرارات والتدابير لا يغير قانوناً طبيعياً أو قانوناً أساسياً ولا يعتمد عليه في الظروف الطبيعية ولا يندرج في ضمن القوانين الأساسية, إذن قانون الاستثناء في الإسلام مبني على أساس مراعاته للحالات الطارئة, كمبدأ الأحكام العرفية في القانون الدولي، هنا يقول الإمام الشاطبي: إن العزيمة مصلحة كلية عالمية والرخصة مصلحة شخصية جزئية وقتية، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية2، ثم إن الرخصة ارتكاب أمر غير مشروع أو حرام ولا يكون ارتكاب حرام لضرورة عملاً أخلاقياً ولا يمكن أن يعد

_ 1 كشف الخفاء جـ 1 ص 136 حديث 345 مسند الإمام أحمد جـ 4 ص 228. 2 الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي جـ 1 ص 220.

مبدأ أخلاقياً في النظام الأخلاقي.

قوة الإلزام

4- قوة الإلزام: عرفنا فيما سبق عناصر الإلزام وقسمناها إلى قسمين: الأول يرجع إلى العناصر الخارجية مثل الوحي والمجتمع وقوانين الطبيعة، والثاني يرجع إلى العناصر الداخلية ويشمل العقل والضمير الخلقي، هذه العناصر مجتمعة تشكل أقوى سلطة إلزامية في الأخلاق الإسلامية.. هذا إلى أن الإسلام قد ضاعف هذه القوة بما وعد به من الجزاء الجزيل للتمسك بالقيم الأخلاقية والعقاب الشديد للمنحرف والمستهتر, ثم إنه وجَّه الإنسان بصورة مستمرة نحو التسامي بإثارة الدوافع والاستعدادات المغروسة في الطبيعة البشرية لتتغلب العناصر الإنسانية الطيبة على الغرائز الحيوانية الجامحة. وبذلك يكون الإسلام قد اعتمد في إلزامه الأخلاقي على جميع العناصر التي يمكن أن تكون عامل إلزام بصورة من الصور بخلاف المذاهب الأخلاقية الأخرى، فإن كل مذهب منها اعتمد على عنصر أو عنصرين فقط مثل النفع والشرف وما إلى ذلك. ثم إن الاعتماد على عدة عناصر في الإلزام والالتزام يتناسب مع سيكولوجية الفروق الفردية في الطبيعة البشرية؛ لأن الناس عادة يختلفون في الالتزام بعناصر الإلزام المختلفة, فمنهم من يلتزم بالعنصر الديني أكثر من العنصر الاجتماعي والآخر بالعكس، والثالث بالعنصر العقلي، والرابع بالحاسة الخلقية، وهكذا.. وذلك كله نتيجة للعوامل الوراثية والاجتماعية والتربوية.

ومن أهم النقط التي عالجها الإسلام في هذا الموضوع بيانه درجات الإلزام بحسب اختلاف درجات القيم الأخلاقية فما كان أكثر أهمية ينبغي الالتزام به أكثر وأشد، وقد جاء ذلك في الإسلام مفصلاً ومحدداً وموضحاً.

الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية

الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية مدخل ... الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية تعد هذه المسألة نتيجة طبيعية للمسألة السابقة، ذلك أن مدى المسئولية يتحدد بمدى الإلزام والالتزام، فالصفات والخصائص هناك تؤثر في الصفات والخصائص هنا؛ لأن الإلزام والالتزام يسبقان على المسئولية من حيث الوجود، والمسئولية مبنية عليهما معاً، لكن لما كانت معرفة السابق لا تكفي لمعرفة اللاحق- وإن كان من الممكن التنبؤ عن طريقها ببعض معالمه العامة- فإنه يلزم علينا هنا أن ندرس المسئولية الأخلاقية دراسة مفصلة وتحديد مجالاتها تحديداً كاملاً.

تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية

أولا: تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية ويتطلب تحديد المسئولية من جميع الجوانب القيام أولاً بتحديد معناها ثم بيان الأساس الذي تقوم عليه ثم مجالات المسئولية ومراتبها. أما معناها فهو تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية الإيجابية والسلبية أمام الله في الدرجة الأولى وأمام ضميره في الدرجة الثانية وأمام المجتمع في الدرجة الثالثة, وسوف يتضح ما أقصده من هذا التعريف بالتحديد خلال عرضي لجوانب هذا الموضوع بصورة متكاملة. أما الأساس الذي تقوم عليه المسئولية فهو أهلية الشخص المسئول للقيام بالمسئوليات التي يتحملها ويلتزم بها سواء كان بإلزام أم بالتزام: وهذا يقتضي توافر الشروط الآتية في الشخص المسئول وهي: أن يكون واعياً لطبيعة ذاته ولسلوكه وأهدافه ونتائج تصرفاته مما يعود على نفسه أو على غيره من نفع أو ضرر إن عاجلاً أو آجلاً، وأن تكون له حرية الإرادة والاختيار والتصرف فيما يختاره، وأن يكون مستطيعاً للقيام بمسئولياته.

وهذه الشروط مجتمعة تعد أساس المسئولية ولا يمكن الاستغناء عن أي واحد منها؛ ذلك أن المسئول إذا لم يكن واعياً بذاته ومقاصده من أفعاله وما سينجم عنها فلا معنى لجعله مسئولا عن تصرفاته؛ ولهذا لم يجعل الإسلام الحيوانات مسئولة، ولم يجعل كذلك الأطفال الصغار مسئولين عن تصرفاتهم، كذلك متى لم يكن المرء حراً في إرادته واختياره وتصرفاته فلا معنى عندئذ لجعله مسئولا عن أعماله. ومن الظلم تكليف إنسان بأعمال لا يستطيع تحمل أعبائها والقيام بها، وإذا كانت هذه الشروط كلها ضرورية فهي ضرورية أيضاً من حيث اتصال بعضها ببعض، فإنه لا يعقل أن يحاسب كائن عن عمل لا يستطيع اختيار غيره أو يستطيع الاختيار ولكنه لا يستطيع تنفيذ ما يختاره أو كان لا يعرف طبيعة الأعمال المختارة أهي خير أم شر وأنه مطالب بالخير ومنهي عن الشر. لكن هل تتوافر هذه الشروط في الكائنات الأرضية جميعاً؟ إنها لا تتوافر إلا في الإنسان، وإذا كان بعض الباحثين يدعي وجود هذه الشروط إلى حد ما لدى بعض الحيوانات الراقية مثل الشمبانزي مثلاً، إلا أنه مهما ادعى هؤلاء وجود التشابه بينه وبين الإنسان في بعض الظواهر السلوكية، فإن هناك مسافة واسعة بينهما لا يمكن أن يملؤها ببعض درجات السلوك المتشابهة، كذلك لا يستطيعون أن يقربوا بينهما عن طريق نظرية التطور أو تفسير سلوك الأعقد بالأبسط أو المخلوق المعقد بالمخلوق الساذج, وأظن أننا لا نحتاج الآن إلى الاستدلال على توافر تلك الشروط في الكائن الإنساني بعد أن بينا في الموضوعات السابقة وجود الوعي والعقل وحرية الإرادة والاختيار، والاستطاعة لتنفيذ الاختيارات فيه.

إذن فما نقوله هنا ليس مجرد دعوى لتبرير المسئولية الأخلاقية التي تحملها الإنسان بإلزام والتزام وعن جدارة {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 1، وهذه الآية توجهنا إلى فهم طبيعة التفكير الأخلاقي في الإسلام وطبيعة موقف الإنسان من الأخلاق، لذا يجدر بنا أن نقف عندها وقفة قصيرة لإبراز أهم ما تحمل من المفاهيم الهامة, فمن هذه المفاهيم: مفهوم الأمانة الذي حددته الآية السابقة لها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 2، فالأمانة إذن هي الصدق في الكلام، والعمل الصالح الخير وأن يتم هذا وذاك بروح الطاعة والتقوى لله. إذن المراد من الأمانة باختصار الأخلاق؛ لأن الأخلاق ليست أكثر -في مجملها- من الصدق في الأقوال كلها والعمل الصالح في السلوك كله. وأن يكون كل ذلك بروح الطاعة لله وعلى أنه مكلف بها من قبله تعالى, والمراد من السموات والأرض والجبال هو أهلها، مثل: "واسأل القرية" والمراد من الحمل قبول القيام بهذه التكاليف وعدم الخروج عليها ثم تحمل مسئولياتها في الحالتين معا, وسبب إشفاق أهل السموات والأرض هو المسئوليات الكبيرة التي تترتب على قبول هذه الأمانة والعذاب الشديد الذي يعاقب به من يخونها ولا يؤديها، أما الإنسان لعدم خوفه من تجرع الظلم {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 3، ولقلة علمه بكل ما يترتب على مخالفته للأمانة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 4، وعدم خوفه من تعدي حدود معرفته وارتياده ميادين الجهل لكل

_ 1 الأحزاب: 72. 2 الأحزاب: 70-71. 3 إبراهيم: 34. 4 الإسراء: 85.

هذه الصفات الطبيعية فيه قبل هذه الأمانة الثقيلة بشجاعة, وإن كانت هذه الشجاعة ناتجة عن ضعف الشعور بالخوف من عواقب الخيانة وعن جهله بها؛ لأن الجاهل أشجع من العالم كما يقولون, وقد قدر الله للإنسان هذه الشجاعة وجعله خليفته في الأرض لتنفيذ هذه الأمانة في نفسه وفي غيره {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1, {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2. ولما أعلن الله هذا النبأ للملائكة تعجبوا كيف يجعل الله هذا المخلوق الذي سيخون الأمانة ويملأ الأرض فساداً وظلماً خليفة له، ولم يخلف الملائكة وهي أعلم من الإنسان وأكثر تقديساً وتعبداً ولا يفسقون ولا يظلمون {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3, ولكن الله كان يعلم أن من الناس من يصبح أفضل من الملائكة بالعلم والعبادة، وأن الإنسان بالرغم من الشهوات الجامحة التي ركبت فيه فإن له قدرة على معرفة الله، وعبادته كالملائكة، وأن من الناس من يصبح كالشيطان المارد يفسد ويفسق ويملأ الأرض ظلماً وعدواناً؛ وذلك كله ليجزي أولئك ويعاقب هؤلاء؛ ولهذا قال تعالى عقب تحمل الإنسان للأمانة: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 4. وبعد تحديد معنى المسئولية وأساسها وشروط الكائن المسئول ننتقل إلى تحديد مجالها وأبعادها.

_ 1 ص: 26. 2 يونس: 14. 3 البقرة: 30. 4 الأحزاب: 73.

مجال المسئولية وأقسامها وأبعادها

ثانياً: مجال المسئولية وأقسامها وأبعادها أما مجال المسئولية فالحياة كلها مجال المسئولية, والمسئولية عموماً تنقسم إلى قسمين: مسئولية فردية وأخرى غيرية أو اجتماعية. أما المسئولية الأولى فلها مجالان: المجال الداخلي والمجال الخارجي الظاهري. فالأول مسئولية الإرادة والقصد والتصميم، فليس من الضروري العمل المادي الظاهر ليكون الإنسان مسئولاً، بل إن العزم على فعل شيء كافٍ لتحمل مسئوليته إن خيراً فخير وإن شراً فشر {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1, ولهذا فمن عزم على فعل شيء ثم لم يستطع تنفيذه لمانع خارجي أو لجهله بطريق التنفيذ يكون كأنه قد نفذه بالفعل2، وكذلك إذا ترك فعلا بالإرادة، فإذا ترك مثلا ارتكاب الحرام لدافع أو لعزم خوفاً من الله وإطاعة أمره يكتب له حسنة وبعد ذلك له عملاً خيراً؛ لأن الترك فعل أيضاً؛ فالفعل إما يكون إيجاباً وإما سلباً. مصداق ذلك قول الرسول راوياً عن ربه: "إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات, ثم بين ذلك فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة فإن همَّ بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله سيئة واحدة" 3

_ 1 البقرة: 284. 2 يرى ابن عربي هنا بوجه عام أن من ترك سيئة يكتب له حسنة بصرف النظر عن سبب الترك مع أن النصوص توحي بأنه إذا تخلى عنها لا لعجز ولا لوجه الله لا تكتب وإذا تركها لله تكتب حسنة أما إذا تركها لعدم استطاعته للتنفيذ تكتب سيئة، وهذا موضوع الآية السابقة. انظر ابن عربي وليبنتز ص 98 للدكتور محمود قاسم. 3 فتح الباري بشرح البخاري جـ 14 همَّ بحسنة أو سيئة ص 106.

وقال أيضاً راوياً عن ربه: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة, وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة" 1 فإن قوله وإن تركها من أجلي دليل لما نقول. ولكن لا يجب أن نفهم من هذا الذي أراد السيئة وأصر عليها ولم يستطع تنفيذها لمانع ما أنه يعفى من المسئولية، فهناك فرق بين نية لم تحصل محاولة لتنفيذها، ونية حصلت محاولة ولم تنجح ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى مسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" 2, وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} 3، والإثم الباطن هو النية على فعل الجريمة. ولا يدخل في نطاق هذه المسئولية ما يقع في قلب الإنسان من خطرات الخير ووساوس الشر، أو بتعبير آخر حديث النفس؛ ولهذا قال الرسول عندما أسرع الصحابة بعد سماع الآية السابقة إليه وقالوا: أنكون مسئولين حتى عن وسوسة النفس: "إن الله تجاوز عن أمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم" 4, ونزل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 5؛ لأن الإنسان لا يستطيع دفع هذه الوساوس ولا تدخل في نطاق الإرادة.

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري جـ 17، كتاب التوحيد ص 246. 2 فتح الباري جـ 14 كتاب الرقاق، باب من همَّ بحسنة أو بسيئة ص 110. 3 الأعراف: 33. 4 فتح الباري جـ 14، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان ص 357. 5 البقرة 286.

ونرى هنا أن الإسلام يختلف في نظرته إلى المسئولية عن كثير من المذاهب الأخلاقية وعن نظرة القوانين الوضعية ذلك أن نظرة هذه المذاهب والقوانين لا تجعل مجال الإرادة الداخلية ما لم تنفذ في العمل الخارجي مجال المسئولية إطلاقاً. كما تختلف عن نظرة بعض الأديان السابقة على الإسلام التي كانت تعتبر الإنسان مسئولا عما تتحدث به نفسه كما يفهم ذلك من آخر الآية السابقة {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} 1. أما المجال الظاهري للمسئولية فهو السلوك المادي المحسوس سواء أكان كاملاً أو فعلا بشرط أن يكون ناتجاً عن قصد واختيار {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} 2, وفي آية أخرى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} 3، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" 4.. وبناء على ذلك فلا يكون الإنسان مسئولا عن سلوكه الناتج عن إكراه واضطرار، {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5, {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 6، وكذلك السلوك الناتج عن الخطأ والنسيان {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 7، ويدخل في هذا المجال أيضاً سلوك النائم والمجنون والصبي فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر" 8. وفي رواية أخرى: "وعن الصبي حتى يحتلم"، وفي رواية ثالثة: "حتى يشب" 9.

_ 1 البقرة: 286. 2 المائدة: 89. 3 البقرة: 225. 4 فتح الباري بشرح البخاري جـ 1، بدء الوحي ص 13. 5 النور: 33. 6 البقرة: 173. 7 البقرة: 286. 8 سنن أبي داود، كتاب الحدود جـ 4 ص 197. 9 المستدرك على الصحيحين جـ 4 ص 489 كتاب الحدود.

أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية

ثالثاً: أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية: ثم إن السلوك المسئول عنه له بعدان: البعد المادي، والبعد النفسي أو الوجداني. ففي البعد الأول ننظر إلى مدى ما يترتب على السلوك فعلاً كان أو كلاماً من نفع أو ضرر ومن آثار تتبعه وتنشأ عنه مهما طال الزمن؛ لأن الفعل يصبح كائناً موجوداً أو مولوداً للإنسان قد يعيش أكثر من صاحبه، ومن هنا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" 1, وقال أيضاً: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" 2، وقال "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" 3، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 4، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل ينعش بلسانه حقاً فيعمل به من بعده إلا جرى عليه أجره يوم القيامة ثم وفاه الله أجره يوم القيامة" 5.

_ 1 صحيح مسلم، جـ 16، باب من سن في الإسلام سنة حسنة ص 226. 2 صحيح مسلم، جـ 16، المرجع نفسه والصفحة 227. 3 صحيح مسلم، جـ 11، باب الوصية ص 85. 4 يس: 12. 5 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 145.

وفي البعد الثاني ننظر في قياس المسئولية إلى مدى ما يتخذ الفعل من القداسة أو البشاعة في أعماق قلوب الناس، فالقتل مثلا أبشع من السرقة والتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن الإسلام أقدس من التضحية بالمال من أجل الغرض نفسه، ثم إن العمل نفسه يتغير بحسب الصورة التي يتم فيها، فالقتل عن طريق تقطيع الأجزاء أبشع من القتل ضرباً بالرصاص، والحرق بالنار أبشع من الطعن بالسكين، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" 1, ونهى الرسول -صلى الله عليه وسلم: "عن القتل بالنار والقتل بالمُثْلَة" 2, أياً كان المقتول إنساناً أم حيواناً, وكذلك الاستشهاد بعد القيام بأعمال بطولية من ثبات وشجاعة في أشد الأزمات أكثر قداسة من مجرد الاستشهاد دون أي إبداء لأعمال بطولية وهكذا. وهكذا قسم الإسلام الأعمال الأخلاقية بحسب المسئوليات, فقسم الواجبات إلى واجب عيني وكفائي ومندوب, وقسم المنهيات إلى كبائر وصغائر وإلى محرم ومكروه، فقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 3 نرى إذن: ليست المسئولية كلها في درجة واحدة لا من حيث النفع والضرر ولا من حيث ما يثير في النفوس من تقبل واشمئزاز ولا من حيث الموضوعات التي تتعلق بها أو التي تترتب عليها من خير أو شر على مر الزمان.

_ 1 التاج جـ 3، فصل القصاص 8. 2 المرجع السابق جـ 4 كتاب الجهاد ص 373-374. فقال الرسول: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلاناً بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإذا أخذتموهما فاقتلوهما" هداية الباري إلى ترتيب البخاري جـ 1 ص 232. 3 النساء: 31.

ومن ثم نستطيع تحديد مجال المسئوليات الفردية بوجه عام بأن الحياة كلها مجال المسئوليات الأخلاقية، والإنسان مسئول فيها عن كل تصميم وسلوك صادر عن قصد واختيار يتصل بحسن أو قبح وبخير أو بشر سواء كان إيجابياً أو سلبياً. وكل فرد تتوافر فيه شروط المسئولية مسئول عن سلوكه في إطار مجاله الشخصي وفي إطار مجاله الوظيفي, ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راعٍ ومسئول عن رعيته والرجل راعٍ على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" 1، ولقد حدد الرسول عما يسأل عنه الإنسان فقال: "لا تزال قدما ابن آدم يوم القيامة عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم" 2, هذا هو مجال الفرد عن نفسه وسلوكه درجة ونوعا. أما القسم الثاني من المسئولية وهو المسئولية عن سلوك الغير ففي هذه النقطة شيء من التعقيد والغموض وقد يبدو لبعض الناس أنه أمر غير عادل، وقد يبدو أيضاً أن هذا الأمر يتعارض مع بعض المبادئ الأخرى التي تقرر مسئولية الإنسان عن نفسه فقط, ولهذا يحتاج هذا الموضوع إلى شيء من التأمل والفحص حتى ينجلي الغموض ويزول التعارض. وإذا نظرنا إلى الاتجاهات الأخلاقية والقانونية في هذه المسألة وجدنا اتجاهين بارزين أحدهما: اتجاه فردي يرى أن الفرد ليس مسئولاً إلا عن سلوكه

_ 1 فتح الباري بشرح البخاري، كتاب النكاح، باب المرأة رعية في بيت زوجها دار الفكر جـ 9 ص 299. 2 جامع الأصول من أحاديث الرسول، ابن الأثير جـ 12 ص 436 دار الفكر 1403 جـ 10 ص 436.

الخاص، وثانيهما اتجاه جماعي يرى مسئولية الجماعة عن سلوك الأفراد ومسئولية الفرد عن سلوك غيره، وبالرغم من هذا الاختلاف بين الاتجاهين من الوجهة النظرية عموماً، فبينهما بعض التقارب من الوجهة العملية وفي بعض الأمور الجزئية، ذلك أن الاتجاه الأول بالرغم من دعواه الفردية فإنه من الوجهة العملية قد قرر المسئولية الغيرية في بعض الجرائم مثل جريمة القتل في بعض الحالات والظروف الخاصة. كما أن الاتجاه الثاني بالرغم من دعواه الجماعية في المسئولية فإنه لا يجعل الجماعة مسئولة عن كل سلوك الفرد بل يقصرها على بعض الأفعال والجرائم1. وأما عن وجهة نظر الإسلام فإنا نجد نصوصاً تقرر المسئولية الفردية بصورة مطلقة كأن الفرد مسئول عن نفسه فقط، فقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 3، لكن نجد أيضاً نصوصا تقرر مسئولية الفرد عن سلوك غيره، من هذه النصوص قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 5، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم -بعد ما تلا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 6: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد

_ 1 المسئولية والجزاء ص 61، الدكتور علي عبد الواحد وافي. 2 الأنعام: 164. 3 المائدة: 105. 4 الأنفال: 25. 5 لقمان: 17. 6 المائدة: 78.

الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" 1، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"، وقال أيضاً: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" 2، وسألت زينب بنت جحش النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: "نعم إذا كثر الخبث" 3، وقال أيضا: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" 4, وقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 5, وقد حدد الرسول إنكار المنكر بالقلب بمقاطعة الفاسق بعدم التسليم عليه وعدم التعامل معه كما فعل مع الذين تخلفوا عن الحرب6 وقال: "تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وأَلْقَوْهم بوجوه مكفهرة والتمسوا رضا الله بسخطهم وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم" 7.

_ 1 رياض الصالحين، باب الأمر بالمعروف ص 104. 2 المصدر نفسه ص 99. 3 المصدر نفسه ص 99. 4 رياض الصالحين، باب الأمر بالمعروف ص 101. 5 صحيح مسلم جـ 1 ص 69، كتاب الإيمان ج 49. 6 انظر آية التوبة: 118 وكتاب الأدب المفرد للبخاري ص 263. 7 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 146.

فإذا تأملنا في هذه النصوص وغيرها التي تثبت مسئولية الإنسان عن الغير وجدنا أن هذه المسئولية باعتبار جزائها المترتب عليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أقسام المسئولية بحسب جزاءاتها

رابعاً: أقسام المسئولية بحسب جزاءاتها: القسم الأول: يعاقب المسئول في الدنيا فقط، وذلك إذا ترك مقاومة الفساد لا رغبة في انتشاره ولكن لضعفه أو لعجزه عن المقاومة والعقاب, في هذه الحالة إما أن يرجع إلى العقاب الطبيعي؛ لأن انتشار الفساد في المجتمع لا بد من أن يصيبه إذا عم وانتشر ولا بد من أن يرى الضرر من انتشاره، ولهذا قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع أن تغير على الخاصة، فإذا لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة" 2, وإما أن يرجع إلى العقاب الإلهي فإن الله إذا رأى انتشار الفساد في أمة يعاقب هذه الأمة ويعم عقابه الصالحين أيضاً، عقاباً على تركهم مقاومة الفساد، أما إذا كانوا عاجزين عن المقاومة تماماً فلا يعاقبون في الآخرة، مصداق ذلك قول الرسول: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" 3، وللصالح أجر ما أصابه في الدنيا, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إذا خفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة" 4، وقال: "إذا ظهر السوء فلم ينهوا عنه أنزل الله بهم بأسه, قيل: وإن كان فيهم الصالحون, قال: نعم, يصيبهم ما أصابهم ثم يصيرون إلى مغفرة الله ورحمته" 5.

_ 1 الأنفال: 25. 2 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 146. 3 التاج جـ 5، كتاب الفتن ص 301 "وفي رواية ثم يبعثهم الله على نياتهم". 4 التاج جـ 5، كتاب الزهد والرقاق، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 224. 5 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 149.

الثاني: يعاقب المسئول في الدنيا والآخرة، وذلك إذا توانى عن مقاومة الفساد لإرادته الفساد، وإن لم يكن مريداً للفساد وتوانى عن المقاومة لكسل أو لعدم الاهتمام، فالأول يعاقب لسوء نيته من جهة ولتركه أمر الله في مقاومة الفساد من جهة أخرى، وأما الثاني فلتركه الواجب وهو مقاومة الفساد؛ لأنه أمر إلهي وهو واجب هام من الواجبات الأخلاقية الإسلامية، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا" 1، وقال أيضاً: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها" 2. الثالث: تعتبر مسؤولية فردية من جهة ومسئولية غيرية من جهة أخرى وهي المسئولية الناتجة عن إضلال الإنسان غيره بآرائه وتوجيهاته فيتبع الآخر آراءه وطريقته فهو المسئول في هذه الحالة عن إضلاله كسلوك ناتج عن نفسه ومسئول أيضاً عن حياة الآخر وكل عمل قام به هذا الآخر نتيجة تأثره بالأول، فالأول مسئول في هذه الحالة عن ذنوب الآخر كمسئولية الآخر عن هذه الذنوب ولكن مسئولية كل واحد من جهة أخرى، فالأول يتحمل تبعة إضلاله والآخر يتحمل تبعة اتباعه الضلال وفعله الجرائم، ومن هنا قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} 3. وتحمل الإنسان مسئولية سلوك الغير في هذا الإطار ليس فيها أي غرابة

_ 1 التاج نفس الجزء والباب للمرجع السابق ص 224. 2 التاج المرجع نفسه ص 224. 3 النحل: 25.

في التفكير الأخلاقي؛ ذلك أن الإنسان ليس مسئولا فقط عن فعل الشر، بل هو مسئول أيضاً عن دفع الشر؛ لأن هدف الأخلاق تحقيق السعادة، والسعادة لا تتحقق إلا بإنقاذ الإنسان من الشر أولا ثم تحقيق الخيرات له ثانياً, وإنقاذ الإنسان من الشر لا يتم إلا بالكف عن الشر ودفع الشر، ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المبادئ الهامة للغاية في التفكير الأخلاقي في الإسلام، ثم إن هناك مسئولية أخرى لا يمكن يتحملها الإنسان، وهي أن يتحمل وزر الآخر بالقصد أو بالكلام كما قال الكفار للمؤمنين: اكفروا بمحمد فإننا نحمل عنكم وزر الكفر، ولهذا نزل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. كما أن المسلم إذا دعا الكافر إلى الإسلام فلم يؤمن ودعا المنحرف إلى الاستقامة فلم يستقم فلا يكون مسئولا عندئذ عن كفر الكافر ولا عن ضلال المنحرف، ولهذا قال تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 2، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ, لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} 3. لكن ينبغي أن نفرق هنا بين مسئولية المسلم عن ضلال الكافر وكفره، وبين مسئوليته عن فساد المسلم وانحرافه، فالمسئولية إزاء الكفر قاصرة على الدعوة والإرشاد فقط وليس عليه إكراههم على الإيمان {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4. أما المسئولية إزاء فساد المسلم والمجتمع الإسلامي فالأمر يختلف؛ ذلك أن المسئولية هنا لا تقتصر على مجرد الدعوة والإرشاد بل تشمل أيضاً مقاومة

_ 1 الأنعام: 164. 2 المائدة: 105. 3 الغاشية: 21 - 22. 4 يونس: 99.

الفاسد وتغيير المنكر بكل الوسائل الممكنة والمشروعة فيجب أن يستخدم كل ما يملك من وسائل التغيير أما إذا كان لا يملك شيئاً فيجب أن تكون المقاومة بالقلب وذلك بمقاطعة المنحرف وعدم التعامل معه بأي صورة من صور التعامل, وهذا هو الإنكار بالقلب الذي جاء في الحديث وهو أضعف الإيمان. بعد هذا العرض لفكرة المسئولية في الإسلام, يبدو لي أن ذلك الغموض والتعارض قد زالا عن وجه تلك النصوص تماماً. ونستخلص من ذلك أن الإنسان كائن مسئول قد تحمل مسئولية سلوكه الإرادي عن جدارة وأهلية وهذه المسئولية لها مستويات ودرجات تختلف بحسب اختلاف الأعمال والصورة التي تتم بها وبحسب الآثار المترتبة عليها من الناحيتين المادية والنفسية، ومسئولية الإنسان لا تقتصر على عمله النفسي والسلوكي، بل تتعداهما إلى مسئولية عن عمل غيره في إطار وحدود معينة, كما أن مسئوليته ليست قاصرة على المسئولية الدنيوية من حيث المكافأة والجزاء بل إن المسئولية الأساسية هي المسئولية الأخروية التي ينال فيها نتيجة مسئوليته بصورة عادلة.

الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي

الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي مدخل ... الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي إذا كانت المسئولية هي نتيجة طبيعية للإلزام، فإن الجزاء نتيجة طبيعية لها، والجزاء من حيث إنه أساس أخلاقي له أهمية الأسس الأخرى، بل إن أهميته مزدوجة فهو مهم باعتباره دافعاً إلى التمسك بالقيم الأخلاقية، وهو مهم أن العدالة تقتضيه؛ لأنها تفرق بين إنسان يبني وآخر يهدم، بين إنسان يخدم الناس وآخر يقتل الناس، فالجزاء يقتضي العدالة والعدالة تقتضي الجزاء وهما يجعلان للأخلاق معنى وقيمة، وبدونهما تفقد الأخلاق معناها فتصبح أمراً لا قيمة له.

أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام

أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام مدخل ... أولاً: أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام والجزاء الأخلاقي أنواع: منها الجزاء الإلهي والوجداني والطبيعي والاجتماعي، وسنتكلم عن كل واحد منها بالتفصيل. وهنا أحب الإشارة إلى نقطة وهي أننا بتقسيمنا هذا لا ندعي وجود حدود طبيعية حاسمة بين هذه الأنواع بل نرى بينها بعض الصلات المشتركة.

الجزاء الإلهي

1- الجزاء الإلهي: ينقسم هذا الجزاء بحسب النوع إلى ثواب وعقاب فالثواب في حالة الاستقامة والعقاب في حالة الانحراف. وينقسم بحسب الوقت إلى دنيوي وأخروي وبحسب درجة المسئولية إلى قلة وكثرة، وإلى قطعي وغير قطعي. هذه الأمور بوجه عام واضحة، وإذا كان هناك أمر يحتاج إلى الشرح فهو هذا التقسيم الأخير وهو الجزاء القطعي وغير القطعي وهنا أتعرض للنقط الأخرى،

ومعالجة هذه النقطة الأخيرة سوف تضطرني إلى التعرض للمذاهب الكلامية إلا أنني -لما لم أكن مقلداً لمذهب معين منها- فسوف أقتصر على بيان رأيي، خوف الإطالة بذكر آراء هذه المذاهب ومناقشتها. ولا يهمني بعد ذلك أن يوافق رأيي مذهباً ما أم يخالفه، وقد أتفق مع مذهب في نقطة وأختلف معه في أخرى دون قصد مبيت للمخالفة. فمن حيث الإثابة فقد قطع الله على نفسه بإثابة المحسن على إحسانه قليلا كان إحسانه أم كثيراً، ووعد الله حق لا يتخلف {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1، {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} 2، ولا يكتفي بإثابة المحسن بقدر إحسانه بل يضاعفه إلى ما شاء الله {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. أما عقاب المسيء ففيه تفصيل؛ لأن هناك ذنوباً لا بد من أن يعاقب عليها صاحبها مثل: الكفر والإشراك بالله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 4، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5. ولا يغفر الله كذلك إذا كانت الإساءة إلى العباد؛ لأن هذا حق الناس لا حق الله في الدرجة الأولى، ولا يغفر الله ما للناس على الناس ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 الروم: 6. 2 الزمر: 20. 3 البقرة: 261. 4 محمد: 34. 5 النساء: 48.

: "من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" 1، وقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} 2. وهناك مساوئ ترك الله غفرانها لمشيئته مثل: الكبائر في حق الله؛ لأنها دون الشرك إلا أن هذا ليس وعداً، ويدخل هذا في قوله تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 3، وهذه الآية مخصصة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وبناء على ذلك فلا يدخل الشرك في ضمن هذه الذنوب. وهناك ذنوب صغيرة يسميها القرآن أحياناً بالسيئات وأحياناً أخرى بالصغائر وثالثة بالعصيان ورابعة باللمم، لقد وعد الله بغفرانها إذا تجنب صاحبها الكبائر فقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} 5. وأخيراً هناك مسيء لا بد من أن يعاقب بناء على وعيده تعالى وهو الإنسان الذي قد أحاطت به خطيئاته بسبب استمراره على تعدي حدود الله وارتكابه كبائر الذنوب والفواحش مع عدم التوبة توبة نصوحاً أو تاب عندما احتضر، وقد سماهم القرآن وأمثالهم بالفجار {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ, وَإِنَّ الْفُجَّارَ

_ 1 التاج جـ 5 أعظم الظلم وأضراره الخلق ص 20. 2 إبراهيم: 42. 3 الزمر: 53. 4 النساء: 31. 5 النجم: 32.

لَفِي جَحِيمٍ} 1، {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار} 2، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3، وإن كانت هذه الآية الأخيرة قد نزلت في حق اليهود فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مصداق ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 4، ولا يخالف غفران الله بعض الذنوب قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 5؛ لأنه يعبر عن حالة الحساب في الآخرة فهناك حساب لكل عمل ولو كان مقدار ذرة، أما إذا غفر في هذه الحياة فلا يدخل في نطاق الحساب في الآخرة. وبعد فهل غفران الله لبعض ذنوب المؤمنين أو كلها لأسباب داعية بناء على وعده بذلك يعتبر إخلافاً لوعده أو لوعيده وتبديلاً لكلامه كما يدعى بعض المتكلمين؟. فقد رأينا المواضيع التي أوعد الله فيها بالعقاب والتي وعد فيها بالغفران والتي ترك فيها لنفسه حرية الاختيار بين عقاب إن لم يصدر من العبد ما يسبب الغفران، وبين الغفران إن صدر منه أسبابه. وبناء على ذلك فليس هناك إخلاف للوعد ولا للوعيد بل كل ما فيها تنفيذ لما وعد ولما أوعد, وأخيراً تنفيذ لمشيئته المختارة, وبناء على ذلك فالجدال الطويل العريض الذي دار بين المتكلمين قد دار في فراغ لا على مادة حقيقية.

_ 1 الانفطار: 13-14. 2 ص: 28. 3 البقرة: 81. 4 النساء: 18. 5 الزلزلة: 7-8.

وفي ختام بيان الجزاء الأخروي نرى ضرورة التعرض لمسألة متصلة به وهي مدة الجزاء الأخروي, سواء كان نعيما أو عذاباً, لقد بين الله تعالى تلك المدة عندما ذكر جزاء السعداء والأشقياء فقال: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ, فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ, خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ, وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 1، وبيَّن الله تعالى أن الذين يخلدون في العذاب الكفار {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2، وأن الذين يخلدون في النعيم هم المؤمنون الصالحون فقال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا, جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 3، أما المؤمن المجرم الذي يرتكب الكبائر فإنه في مشيئة الله إن شاء غفر له إذا تاب قبل موته وإلا عذبه بقدر ما يستحق من العذاب ولا يخلد في النار كالكفار؛ لأن رحمة الله تشمله لاعترافه بربوبيته ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" 4، وهذا الحديث يخصص ما ورد من الآيات التي تنص بخلود أهل الكبائر, مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 5.

_ 1 هود: 105-108. 2 البقرة: 217. 3 طه: 75 - 76. 4 التاج جـ 1، كتاب الإيمان ص 31. 5 النساء: 14.

وقد بينا سابقاً أن الله يمكن أن يغفر كل ذنب إلا ذنب الكفر والإشراك به، إذن يتبين لنا مما سبق أن هناك أمرين مقطوعاً بهما وهما أن الداخلين في الجنة يخلدون فيها وأن الكفار يخلدون في النار، لكن العلماء اختلفوا في خلود أهل النار وخاصة خلود الكفار أو دوام عذابهم إلى مالا نهاية, فمنهم من تأخذهم الرأفة مثل ابن عربي وغيره1 فيحاول إنقاذهم ومنهم من تأخذهم القسوة فيحاول إخلاد الكفار حتى أصحاب الكبائر في النار مثل: الخوارج والمعتزلة2، وكل يحاول تأييد وجهة نظره بالأدلة العقلية والنقلية لكن في كلا الاستدلالين تغلبه إحدى النزعتين ويؤدي الأمر إلى الاقتصار على الأدلة المؤيدة لنزعته, ولو استعرضنا آراء هؤلاء وأدلتهم لطال بنا المقام ولهذا أرى أنه من الأولى أن اقتصر على بيان رأيي. بعد أن استعرضت تلك النصوص الواردة في هذا الموضوع ودراستها دراسة مستقلة من غير أن أخضع لاتجاه معين، وجدت نصوصاً محكمة الدلالة واضحة المعنى وهي تؤيد الخلود, وقد قال الأصوليون إنه إذا ورد في قضية نص أو نصوص محكمة، ونصوص أخرى متشابهة نحكم بالمحكمة ونترك المتشابهة3 عملاً بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 4. ولا أريد هنا الإكثار من الآيات المحكمة التي تنص على الخلود مثل

_ 1 تفسير المنار جـ 8 ص 70. 2 انظر الآراء المختلفة في تفسير المنار جـ 8 ص 70 وما بعدها. والأصول الخمسة ص 666. 3 انظر كتاب الموافقات للإمام الشاطبي جـ 3 ص 68. 4 آل عمران: 7.

{خَالِدِينَ فِيهَا} , {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} , {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} , {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} , فما ذكرته من النصوص حتى الآن يكفي في نظري. وإنما أريد إزالة الشبهات والغموض أو أقلل منها؛ لأنها كانت سبباً للحيرة وللتأويلات البعيدة, فمن أسباب الشبهة ورود الاستثناء مباشرة بعد بيان خلود أهل النار. قالوا: إن وجود الاستثناء يدل على عدم أبدية النار أو عدم أبدية عذاب الكفار مع أن صيغة الاستثناء لا تفيد معنى الاستثناء دائماً, وكذلك صيغة المشيئة لا تفيد الاحتمال دائماً مثل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، وقد علم أنهم سيدخلونه, ولهذا قال القرطبي: إن الاستثناء في آية الفتح السابقة لا يوصف بمتصل ولا بمنقطع1، وفسر تلك الآية كالآتي "إنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها". ويقول إن مثله كمثل قولك: "أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره وأنت مقيم على ذلك الفعل"2. ثم إننا إذا أخذنا وجود الاستثناء دليلا لانتهاء النار بعد أحقاب، فيجب أن نقول بانتهاء الجنة أيضاً؛ لأن الاستثناء نفسه ورد أيضاً بعد ذكر خلود أهل الجنة مباشرة كما جاء في آية الفتح السابقة. ومن تلك الأسباب أيضاً منطق التفكير الخاطئ وهو أنهم يقولون: كيف يقع ذلك الخلود في النار لمجرد إنكار هؤلاء وجود الله وإذا كان تعذيبهم مدة تساوي مدة حياتهم في الدنيا فكيف يمكن أن يدخل في العدل الإلهي تعذيبهم

_ 1 القرطبي جـ 9 ص 10، طبعة دار الكاتب العربي. 2 نفس المرجع ص 100.

إلى الأبد فالعذاب أكثر من الذنب وقد وصف الله نفسه بالعدالة, وبناء على ذلك يحاولون تأويل الآيات والنصوص الواردة في هذا الموضوع ويحاولون تأييد تأويلاتهم بآية الرحمة ويقولون: إن الله تعالى وصف نفسه بالرحمة الشاملة لجميع خلقه بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} ، مع أنهم ينسون بقية الآية وهي قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} 1، إن رحمة الله تشمل كل من اعترف بربوبيته أما الذين لم يعترفوا به خالقاً ورباً وأنكروا وجوده بتاتاً فكيف ينتظرون الرحمة من الخالق المعدوم في نظرهم وإذا حرمهم هذا الخالق من رحمته فهل يمكن أن يوصف بأنه ظالم؟ فالخالق في نظرهم معدوم ورحمته كذلك معدومة لا ينالونها أبداً ماداموا في دار الجزاء أو الحياة الأخرى؛ لأن تلك الحياة مقابل لهذه الحياة ولا ينبغي أن ينتظروا الرحمة والنعمة ممن لم يعترفوا بوجوده. ومن أسباب الحيرة والتشابه: اعتمادهم على بعض أقوال الصحابة وآرائهم الخاصة في خروج الكفار من النار, وبالرغم من وجود خلاف في صحة إسناد تلك الأقوال فإنهم يؤيدون آرائهم بأقوالهم. ولنفرض صحة إسناد تلك الآراء إليهم فإن أقوال الصحابة لا تؤخذ بها إذا تعارضت مع النصوص القطعية؛ لأنها ظنية2 والنصوص الأخرى من الآيات والأحاديث قطعية كالآيات التي ذكرناها، وكقول الرسول عندما دعا قومه إلى الإسلام: "والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما

_ 1 الأعراف: 156. 2 يقول الأصوليون هنا: "إذا خالف الدليل الظني دليلاً قطعياً وجب رده", انظر الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي جـ 3 ص 9.

تعملون ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً" 1, وقال أيضاً: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" 2. تبقى بعد ذلك نقطة أخيرة وهي معنى الخلود يقول بعضهم: إن معناه مدة حياة الدنيا؛ لأن الله وصف الخلود بدوام السماء والأرض وهذا تعبير عن مدة حياة الدنيا، ويقول بعضهم الآخر إن المراد دوام سموات وأرض الجنة والنار، ودوام السموات والأرض تعبير يستعمل في اللغة العربية لإفادة الدوام والأبدية، وبناء عليه فالجنة والنار أبديتان3. لكن الخلود قد يفيد معنى الدوام على نوع من الحياة وقد جاء هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 4، كما يفيد معنى الخلود البقاء مدة الحياة جاء هذا المعنى في قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} 5، وقوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ, يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} 6. ومن كل ما سبق يبدو لي أن معنى خلود الكفار في النار وخلود أهل الجنة في الجنة هو مدة دوام حياة الجنة والنار أو مدة دوام الجزاء وهي الحياة الأخرى. لكن لا نستطيع أن نحدد مدة هذه الحياة عن طريق النصوص الواردة- في هذا الشأن- تحديداً زمنياً؛ لأن الآخرة لا تقاس بالدنيا، ولا نستطيع أن نؤكد عن

_ 1 الكامل لابن الأثير جـ 2 ص 27. 2 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ 3 ص 292، كتاب الجنة. 3 تفسير القرطبي جـ 9 ص 100. 4 الأعراف: 176. 5 الشعراء: 129. 6 الهمزة: 2-3.

طريق النصوص أن لتلك الحياة نهاية أو لا نهاية لها، أو أن هناك حياة أخرى بعد تلك الحياة؛ لأنه لا توجد هناك نصوص صريحة في هذا الشأن, لكن لا نستبعد أن تكون لتلك الحياة نهاية؛ لأن الله تعالى ترك لنفسه المشيئة بعد ذكر الخلود, وهذا يمكن أن يفيد أنه إذا أراد أن يمد مدة تلك الحياة إلى ما يشاء أو أن ينهيها أو يبدلها بعد انتهاء مدتها له أن يفعل؛ لأنه فعال لما يريد قادر على كل شيء وأنه إذا قال: كن فيكون. لكن لا يحق لنا القول بأن للنار نهاية وليست للجنة نهاية؛ لأننا إذا قلنا: إن المراد من الاستثناء هنا معناه الحقيقي فإنه قد ورد في كلا الطرفين، كما أن معنى التأبيد قد ورد كذلك في كلا الطرفين أو الحياتين مثل قوله تعالى في حق أهل النار: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 1، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً, إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 2، وقال تعالى في حياة أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 3، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4، ثم إن كلمة التأبيد لا تدل دائماً على اللا نهاية في الزمن بلا تدل أحياناً على نهاية زمن ما والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} 5، {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} 6، فإنها تدل هنا على عدم وجود الهداية إلى نهاية حياتهم الدنيا، إذن لا يحق لهؤلاء أن يجعلوا للنار أو لأهلها نهاية دون الجنة وأهلها، فذلك ترجيح بلا مرجح. والآن في ضوء هذه الفكرة نستطيع تفسير جميع النصوص الواردة في هذا

_ 1 الجن: 23. 2 النساء: 168-169. 3 النساء: 57. 4 التغابن: 9. 5 الكهف: 35. 6 الكهف: 20.

الشأن تفسيرا يخضع للمنطق واللغة، فنقول مثلا في تفسير قوله تعالى في حق أهل النار: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} , لا يخرجون من النار مدة دوام النار أو حياة الآخرة وكذلك أهل الجنة فهم خالدون فيها مدة دوام الحياة الآخرة أو مدة دوام دار الجزاء دون القول بانتهاء إحدى الدارين أو كليهما؛ لأن الأمر في ذلك متروك لله يفعل في ملكه ما يشاء وهو على ذلك لقدير. وما يهمنا هنا هو أن نعرف أن هناك دارا للجزاء يجازى فيها كل واحد بما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الدنيا، وأن الكافر يجازى أسوأ الجزاء مدة دوام دار الجزاء تلك، وكذلك المؤمن الصالح يجازى أحسن الجزاء مدة دوام دار النعيم أو الجنة أو بتعبير آخر فكل واحد منهما خالد في داره أو جزائه ما دامت الجنة والنار. هذا فيما يتعلق بالجزاء الأخروي، لكن جزاء الله لا يقتصر على الآخرة بل يكون في الدنيا أيضا وإن كان الأول هو الجزاء الكامل القطعي، أما الأخير فإنه قد يكون مكافأة للمحسنين {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} 2، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم} 3، وقد يكون عقابا للمسيء {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} 4، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي

_ 1 الأعراف: 96. 2 النحل: 97. 3 الفتح: 18. 4 نوح: 25.

الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} 1, {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. وقد يكون عقابا على عدم مقاومة الفساد وقد بيناه في المسئولية: كيف أن الله يعاقب الذين يرون الفساد ولا يقاومونه ... فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يكون في قومه يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا" 3. ولقد كانت سنة الله في الذين خلوا أنهم كانوا إذا فسدوا أهلكهم الله، ولقد ضرب لهذه الألوان من الإهلاك والعذاب أمثلة مختلفة منها قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} 4, {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} 5, {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ, وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} 6. {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} 7، {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين} 8.

_ 1 القصص: 76-81. 2 النمل: 52. 3 التاج جـ5 كتاب الزهد والرقائق 224. 4 الكهف: 59. 5 الأنفال: 54. 6 الحاقة: 5-6. 7 الأنعام: 6. 8 الدخان: 37.

الجزاء الوجداني

2- الجزاء الوجداني: وأما الجزاء الوجداني فهو تلك الحركة الشعورية التي نحس بها في أعماق قلوبنا بالفرح أو التأنيب بعد كل فعل مباشرة نعتقد أنه فعل حسن أو قبيح. هذا الشعور أو الإحساس المتحرك الذي يجيش في نفوسنا يختلف درجة من فرد إلى آخر بحسب الاستعداد الفطري أو الوراثي والتربية الأخلاقية وصفاء الضمير ونظافته وإيمانه بموافقة ذلك العمل لإرادة الله أو مخالفته لها. ولعل هذا هو المعنى الذي أشار إليه الرسول عندما عرَّف البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" 1, وفي رواية أخرى: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس" , وفي رواية ثالثة: "البر ما انشرح له صدرك والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس" 2. فالوجدان أو الضمير يعتبر محكمة عدل مباشرة لا تحتاج إلى شاهد ولا قاضٍ يخبرك بخيرية الفعل أو شريته قبل الفعل ويجزيك بالسرور إن كان فعلا حسنا وبالوخز والألم إن كان شرا. إن قيمة هذا الجزاء أكثر تأثيرا من قيمة الجزاء المادي؛ لأن هذا الأخير وقتي وقد يصيب ويخطئ وقد يكون مكافئا للعمل أو لا يكون، أما الأول فهو مصيب مستمر؛ ولهذا قال علماء علم النفس: إن المجرمين تحت عقاب مستمر وإن نجوا

_ 1 صحيح مسلم جـ4 ص198 كتاب البر والصلة والآداب جـ15. 2 مسند الإمام أحمد جـ4 ص 228.

من العقاب القانوني أو انتهوا منه.. يقول الدكتور "عادل العوا": "أما عذاب الوجدان أو وخز الضمير وتأنيبه فهو ألم معنوي ينتج عن تصور شر وقع والإنسان مسئول عنه إنه هو الذكرى التي تعض قلب المجرم ولا تفارقه ليل نهار"1، وهذا حق، ذلك أن المجرم لا يخلو من إحدى الحالتين الآتيتين؛ لأنه إما أنه لم تتكشف جريمته بعد أو عرفت لدى الآخرين. ففي الحالة الأولى تعتريه ثلاث حالات وجدانية مؤلمة: الأولى حالة الخوف والقلق المستمرين من انكشاف الجريمة، ولهذا فهم يتحرجون عادة من الحديث حول الموضوعات التي ارتكبوا فيها الجرائم والآثام خوفا من الانكشاف, وصدق الله العظيم إذ قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 2. والحالة الثانية هي تأنيب ضمير مستمر وإحساس بذنب يخدش وجدان المجرم وشعوره باشمئزاز من نفسه وذاته وهنا تعتري هؤلاء دائما حالات نفسية كئيبة لا تنفرج سريرتهم ولا سيما في حالات التذكر لتلك الجرائم التي ارتكبوها. يقول هنا سقراط: "إن من كان مجرما ولم يعاقب على جرائمه يكون أشقى الناس والمجرم دائما أشقى من ضحيته"3, "وإن أسعد الناس إذن هو ذلك الذي تخلو نفسه من الضرر "أي: الجرم"؛ لأن ضرر النفس كما قلنا: هو أقبح الضرر"4. والحالة الثالثة: إنه يفقد أهليته الاجتماعية من حب ومودة ... إلخ في شعوره الخاص وإن لم يفقدها في المجتمع، ذلك أنه يشعر عندما توجه إليه

_ 1 الوجدان. دكتور عادل العوا ص57. 2 محمد: 30. 3 محاورة جورجياس ص 83. 4 المرجع السابق ص 81.

تقديرات الناس إنه لم يعد ذلك الشخص الذي يستحق تلك التقديرات، وكأن ما يناله من تقدير لا يوجه إليه ومن ثم يفقد ذلك الإحساس الطيب بخيرية شخصيته في نفسه الذي كان يحس به من قبل ويصبح غريبا بين أهله وأحبابه في داخل شعوره الباطني. ومن هنا يقول الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" عندما يصف نفسية المجرم وشعوره الباطني عندما يحاول إخفاء جريمته: "فالمجرم في محاولته إخفاء جريمته حتى يقضي على كل معرفة يمكن أن تتطرق إلى نفس إنسان كأنه يحاول أن يبطل الجرم نفسه, وبعد أن يظفر المجرم بإخفاء جريمته عن الناس لا يستطيع أن يخفيها عن نفسه، فهو ما زال يعرف أنه مجرم ومعرفته هنا تنأى به عن المجتمع شيئا فشيئا بعد أن كان يرجو أن يظل فيه بمحو آثار الجريمة، إنه يعرف أن الاحترام الذي كان يوجه إليه الآن إنما يوجه إلى شخصه السابق الذي لم يعد موجودا ويعرف أن المجتمع لا يخاطبه هو بل يخاطب شخصا آخر غيره. إنه يعرف من هو فيعيش بين الناس وهو أكثر عزلة مما لو كان يحيا في جزيرة خالية؛ لأنه في عزلته يحمل معه صورة المجتمع الذي تحف به وتسنده، أما الآن فقد انقطع عن المجتمع وعن صورته معا"1, وقد عبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن عذاب الوجدان وبيَّن كيف أنه يؤدي إلى سقم الجسم فقال: "من ساء خلقه عذب نفسه ومن كثر همه سقم بدنه"2 , وقال أيضا: "من شقاوة ابن آدم سوء الخلق" 3. هذا في حالة إخفاء الجريمة أما في حالة انكشاف الجريمة فتستمر معه

_ 1 منبعا الأخلاق والدين ص 27 هنري برجسون. 2 منتخب كنز العمال على هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 258. 3 المرجع السابق جـ1 ص 258.

الحالتان الأخيرتان وهي تأنيب الضمير وشعوره بفقد شخصيته في المجتمع، وأكثر من ذلك فإنه يفقد شخصيته عندئذ في المجتمع ظاهرا وباطنا ولا يجد ذلك التقدير والاحترام الموجهين إليه من الناس, وبذلك يصبح غريبا بين أهله وعشريته ويقول "فيلون الإسكندري": "وربما بدا مظهر الشرير مبتسما مسرورا لكنه في قرارة نفسه يشعر بالفزع من العقاب الذي ينتظره والذي بيَّنه له الضمير"1. وبخلاف هذه الحالات حالة إنسان لم يرتكب الجرائم والآثام، فإن صفاء وجدانه يجعله يشعر بالابتسامة الدخلية ويشعر في قرارة نفسه بطريقة لاشعورية وبصفة دائمة بالخيرية والسرور المستمر، ومن ثم يؤثر هذا وذاك في سماته الشخصية الظاهرية. وشتان بين الوجدانين وبين الشخصيتين المجرمة والشخصية الخيرة. وصدق الله العظيم إذ قال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} 2، فإن الإنسان إذا كان مجرما فاسدا فاجرا يظهر ذلك في سيماه ووجهه, فيصبح وجهه مظلما قاتما واجما عبوسا، وإذا كان خيرا يصبح وجهه باسما ناضرا، وصدق الله العظيم إذ يقول في وصف هؤلاء وأولئك {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ, وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} , وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم} 4, كما يعرف الصالحون بسيماهم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود} 5.

_ 1 الآراء الدينية والفلسفية، فيلون الإسكندراني، ص380. 2 الفتح: 29. 3 يونس: 26- 27. 4 الرحمن: 41. 5 الفتح: 29.

هذه السمة تظهر في الدنيا كما تظهر يوم القيامة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ, ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ, وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ, تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} 1، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلدا بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر" 2, وهذه حقيقة يؤيدها علماء النفس أيضا، وقد بدأت الدراسات في علم الإجرام للتعرف على المجرمين من سيماهم.

_ 1 عبس: 38-41. 2 تفسير ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُم} جـ3 ص180.

الجزاء الطبيعي

3- الجزاء الطبيعي: بيَّنا فيما سبق صلة الأخلاق بالقوانين الطبيعية وأشرنا من حين إلى آخر إلى أن الخارج على النظام الخلقي سينال جزاءه من الطبيعة نفسها. وقد يرجع هذا الجزاء إلى قوانين الطبيعة نفسها مثل: الإصابة بالأمراض بسبب مخالفة القوانين الأخلاقية كالإصابة بالأمراض السرية بسبب ارتكاب جريمة الزنا والأمراض التي تصيب بسبب مخالفة قانون النظافة أو تناول المسكرات. وتجاوز حد قانون الاعتدال في العمل يؤدي إلى الإصابة بالإرهاق النفسي والعصبي ويكون هذا سببا للإصابة بالأمراض المختلفة كما يؤدي إلى الفشل في الحياة عموما؛ ولهذا كان الرسول ينهى عن الإفراط في أي عمل حتى في العبادة فقال لمن يقوم الليل ويواصل الصوم: "فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك، لعينك حق ولنفسك حق ولأهلك حق قم ونم وصم وأفطر" 1. وقد يرجع الجزاء إلى قوانين الطبيعة الاجتماعية فمخالفة قانون الصدق يؤدي إلى زوال الثقة بالأشخاص والتعامل الاجتماعي, وزوال الثقة هذا يؤدي إلى

_ 1 صحيح مسلم كتاب الصيام حديث 188 جـ2 ص816.

انعدام الاطمئنان في الحياة الاجتماعية ولا خير في حياة بدون اطمئنان، كذلك الأمر لو تعدى الناس قانون حرمة النفس الإنسانية وتفشت جريمة القتل, فالأمر لا يؤدي هنا إلى زوال الحياة المطمئنة فحسب بل يؤدي إلى زوال الحياة بزوال الناس. وهكذا نجد أن زوال الأخلاق يؤدي بوجه عام إلى زوال الحياة وأكبر جزاء على مخالفة الأخلاق هو انعدام هذه الحياة من تلك الوجوه. ويكون الأمر على خلاف ذلك متى روعيت القوانين الأخلاقية, فالطبيعة تجازي الناس عند ذلك بالحياة السعيدة التي يسودها الاطمئنان والرخاء والمحبة؛ لأن قوانين الأخلاق عموما هي قوانين الحياة التي تضفي عليها الصفة الإلزامية والقداسة, فالأخلاق تأمر بالجدية في العمل والإخلاص، وتجنب الاصطدام بقوانين الطبيعة واحترام حقوق الناس الطبيعية والعمل من أجل خدمة الإنسانية وهي كلها قوام الحياة السعيدة الدائمة. وهنا نجد الإسلام قد ربط قوانينه الأخلاقية بالقوانين الطبيعية فنهى عن كل شيء يضر فعله بالطبيعة وأمر كل شيء ينفع فعله بالطبيعة, وقد أوضحنا هذا في فصل سابق1. 4- الجزاء الاجتماعي: وهذا الجزاء نوعان: النوع الأول هو الجزاء المادي وهو ما يقرره المجتمع من عقاب للمنحرف ومكافأة للمستقيم الصالح.

_ 1 ارجع إلى الفصل الثاني من الباب الثاني.

الجزاء الاجتماعي

4- الجزاء الاجتماعي: وهذا الجزاء نوعان: النوع الأول هو الجزاء المادي وهو ما يقرره المجتمع من عقاب للمنحرف ومكافأة للمستقيم الصالح.

وقد قرر الإسلام عقوبات مختلفة بحسب الجرائم المرتكبة, وأعطى حق تنفيذ العقوبة للمجتمع منها عقوبة الزنا مثلا, فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِين} 1، وقد طلب شهود جماعة هذا العقاب ليكون أوقع في نفس المجرم {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. وهكذا نرى أن العقاب حق المجتمع من جهة وحق الله من جهة أخرى، فحق المجتمع باعتبار المجرم قد تعدى على حرمات المجتمع؛ ولأن ضرر الجريمة لاحق بالمجتمع، والجريمة مرض في جسم المجتمع، فإذا لم يعالجه المجتمع فسينتشر فيه يوما بعد يوم حتى إذا عمه ذلك يستعصي على العلاج ويكون سببا لهلاك الجميع وهو يعتبر حق الله من جهة؛ لأن المجرم قد تعدى بجريمته حدود الله وعصى أوامره, فلله أن يجازيه في الدنيا والآخرة. أما النوع الثاني من الجزاء فهو الجزاء الأدبي وهو عدم الاعتداد بشخصية الفاسق وعدم الثقة به، ولهذا لا تقبل شهادته {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4, وهذا الجزاء ليس أمرا سهلا ذلك أن الفاسق يفقد بذلك شخصيته

_ 1 النور: 2. 2 المائدة: 38. 3 المائدة: 33. 4 النور: 4.

الأدبية في المجتمع إنسانا يعتمد عليه ويوثق به، زد على ذلك أنه لا يجد الاحترام والقبول من الناس وهذا أمر صعب على النفس الإنسانية وخاصة على الذين يتمتعون بالإحساس الأدبي الرفيع وبالمكانة الاجتماعية. وليس هذا قاصرا على الشهادة بل يشمل تولي الوظائف وإسناد المهام إليه أيضا. وبمقابل إسقاط القيمة الأدبية للفاسقين أمر الإسلام برفع القيمة الأدبية للصالحين ورفع درجاتهم بحسب درجة أخلاقهم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أنزلوا الناس منازلهم من الخير والشر" 1، وقال: "إن الهدى الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" 2، ثم دعا الإسلام إلى مصاحبة ذوي الأخلاق الحسنة ومجانبة ذوي الأخلاق السيئة فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة" 3, وقد أوصى الرسول بعدم التسليم على فاسق4, وقاطع الرسول صلته عن الذين تخلفوا عن الحرب حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت5, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وأَلْقَوْهم بوجوه مكفهرة والتمسوا رضا الله بسخطهم وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم" 6.

_ 1 كشف الخفاء جـ1 ص 249 حديث 229. 2 التاج جـ5، باب الهدى الصالح 66. 3 التاج، باب مجالسة الصالحين ص82. 4 كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ص 263 باب لا يسلم على فاسق حديث 1017-1020. 5 وقد وصف الله حالتهم النفسية بعد المقاطعةبقوله: {الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} التوبة: 118. 6 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص146.

خصائص الجزاءات الأخلاقية الإسلامية

ثانيا: خصائص الجزاءات الأخلاقية الإسلامية وأخيرا يمكننا أن نستخلص الخصائص الأخلاقية الإسلامية المتعلقة بالجزاء في النقط الآتية: 1- إن الإسلام ربط الأخلاق بالجزاء ربطا لا انفصام له, سواء كان هذا الجزاء عاجلا أو آجلا، فالجزاء نتيجة تنتجها الأخلاق كما تنتج الشجرة الثمرة. وربط الأخلاق بالجزاء أمر ضروري؛ لأنه يزيد قيمة الأخلاق كما تزيد قيمة الشجرة ثمرتها. وبذلك اختلفت الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق الكانطية التي لا تربط الأخلاق بالجزاء والمكافأة, والأخلاق من غير جزاء ومكافأة جافة لا طعم فيها أو قليلة الفائدة وناقصة القيمة. 2- إن الإسلام راعى في الجزاء الأخلاقي الطبيعة الإنسانية، فللإنسان جانب مادي وجانب معنوي في طبيعته، وقد راعى الإسلام الجانبين معا عندما قرر للسلوك الأخلاقي الجزاء المادي والمعنوي أيضا. 3- ربط الإسلام مصير الإنسان من حيث السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا والآخرة بالعمل الأخلاقي، فنتيجة الأخلاق الحسنة السعادة في الحياتين ونتيجة الأخلاق السيئة الشقاوة والتعاسة في الدارين معا. وبذلك تميزت الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق النفعية أيضا إذ إن هذه الأخيرة ربطت الأخلاق بالمنافع المادية الدنيوية وجعلتها وسيلة لها فحسب, كما تميزت عن الأخلاق الكانطية التي لا تربط الأخلاق بالجزاء إطلاقا؛ لأنها ترى أن

الأخلاق يجب أن تطبق بصرف النظر عما يترتب عليها من جزاء، أو مكافأة فإن مثل هذه الأخلاق إن تصلح لفئة خاصة أمثال "كانط" فإنها لا تصلح لجميع الفئات، والأخلاق الإسلامية جاءت لجميع الفئات مراعية لجميع النفوس ولجميع الفروق الفردية. 4- إن ربط القيم الأخلاقية بالجزاءات المتنوعة له قيمة تربوية لتنشئة الصغار والكبار ولنجاح التربية الأخلاقية في المراحل التعليمية المختلفة. ذلك أن معرفة الناشئ بتلك الأنواع من الجزاءات المترتبة على السلوكيات الأخلاقية تعد من أقوى الحوافز والدوافع القوية إلى الالتزام الدائم بالقيم الأخلاقية، ذلك أنه بقدر ما يعرف الإنسان قيمة الشيء يلتزم به وبقدر ما يعرف العواقب الوخيمة لسلوكيات سيئة يتجنبها، وهذا وذلك يدفعانه إلى مزيد من التضحية من أجل التمسك بالقيم في هذه الحياة. 5- إن الإسلام أكثر الجزاءات الأخلاقية لدفع الناس بالقوة إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية وذلك يدل على اهتمام الإسلام بتلك القيم في بناء الفرد والمجتمع والأمة. وقد عبر الشاعر عن هذا الاهتمام بدقة عندما قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبوا أخلاقهم ذهبت أي: إذا زالت أخلاق الأمة زالت الأمة.

الباب الثالث: القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام

الباب الثالث: القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام الفصل الأول: المعايير الأخلاقية مدخل ... الباب الثالث: القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام الفصل الأول: المعايير الأخلاقية سنعالج في هذا الفصل المعايير الأخلاقية التي نستطيع أن نميز بها بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي وتقييم1 الأخلاق بصورة عامة.

_ 1 نستخدم هنا كلمة تقييم بمعنى بيان قيمة الأخلاق لا بمعنى التقويم.

الاتجاهات الفكرية في المعايير الأخلاقية

الاتجاهات الفكرية في المعايير الأخلاقية مدخل ... أولا: الاتجاهات الفكرية في المعايير الأخلاقية: ولعل مشكلة المعايير تعد من أعقد المشكلات في التفكير الأخلاقي، وإذا رجعنا إلى الدراسات الفلسفية لنرى الحلول التي قدمتها، والمعايير التي حددتها، وجدنا فيها اتجاهين عامين ورأينا كل اتجاه يتضمن عدة آراء معيارية لحل هذه المشكلة وتحديد هذا الحل.

الاتجاه الأول: الاتجاه الخارجي

الاتجاه الأول: الاتجاه الخارجي: وهو بوجه عام يقيس الأعمال الأخلاقية بالمعايير الخارجية التي لا تمت إلى باطن الإنسان بصلة, وقد انقسم أنصار هذا الاتجاه إلى مذاهب مختلفة فمنها: المذهب البراجماتي الأمريكي الذي يقيس الأعمال الأخلاقية بمدى ما يقدم من نفع أو نجاح عملي, ماديا أو معنويا، وسواء أكان هذا النفع خاصا بالفرد أم بالمجتمع, وكلما عاد النفع إلى أكبر قدر ممكن من الناس زادت درجة أخلاقية الفعل النافع1, وهذا الاتجاه بوجه عام يقيس الأعمال بآثارها ونتائجها، ومنها مذهب الوسطية الذي قال به "أرسطو", فالعمل الأخلاقي هو العمل الذي يكون وسطا بين فعلين كلاهما رذيلة, فالشجاعة مثلا وسط بين الجبن والتهور,

_ 1 الفلسفة الخلقية. د. توفيق الطويل، ص 273.

والسخاء وسط بين الإسراف والبخل، والحلم وسط بين الشراسة والفتور وهكذا1، ولقد أخذ بهذا الرأي معظم المفكرين الإسلاميين الذين درسوا الأخلاق. غير أننا نلاحظ أن هذا المعيار لا يمكن أن يكون عاما بحيث ينطبق على جميع الأعمال الأخلاقية؛ لأننا نجد أعمالا أخلاقية ليست وسطا لأعمال أخرى مثل: الصدق له مقابل واحد وهو الكذب وكذلك الحق والباطل إذن ليس من الضروري أن تكون كل فضيلة وسطا بين فعلين كلاهما رذيلة, على أن "أرسطو" قد أدرك عدم شمول هذا المعيار لجميع الأفعال الأخلاقية، ولهذا استثنى منه الأفعال التي لا وسط لها مثل: الحسد والصدق والزنا وما إلى ذلك من الأمور2. ومنها مذهب التكيف البيئي الذي نادى به "اسبنسر", ويرى أن المعيار الأخلاقي هو التوافق مع البيئة، فكلما كان الفعل أكثر اتفاقا مع البيئة كان أكثر أخلاقية؛ لأن التوافق خير وعدم التوافق شر، فالأول ينتج اللذة والسرور, والثاني ينتج الألم والشقاء3. ومنها المذهب الواقعي والتجريبي الذي يرى أن معيار العمل الأخلاقي هو التجربة فهي التي تميز بين العمل الأخلاقي وغير الأخلاقي، أي: أننا لكي نعرف أن هذا العمل أو ذاك أخلاقي أو غير أخلاقي، نجربه عمليا، فإذا جلب لنا نفعا ماديا أو معنويا فهو أخلاقي، وإذا جلب لنا ألما حسيا أو معنويا فهو غير أخلاقي4.

_ 1 علم الأخلاق لأرسطو جـ1 ص247 وما بعدها. 2 المرجع السابق، ص 247 وما بعدها. 3 الفلسفة الخلقية ص 235. 4 المرجع نفسه ص 165.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الداخلي الباطني

الاتجاه الثاني: الاتجاه الداخلي الباطني: ويرجع المعيار في هذا الاتجاه إلى قوة داخلية فطرية في الإنسان بها يميز بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي، وتأخذ تلك القوة المميزة أسماء مختلفة عند أهلها وإن اتفقوا في مضمونها، فمنهم من يقول: إنها الحدس, فهو قوة فطرية يميز بها الإنسان بين الخير والشر، ومنهم من يقول: إنها الضمير، فالضمير مرآة عمل الإنسان ينعكس عليها خيره وشره، وعمل الضمير لا يقتصر على الإنباء بأخلاقية العمل أو عدم أخلاقيته عند الإقدام عليه أو البعد عنه فحسب، بل إنه يجازي الإنسان على فعله في كلتا الحالتين بالسرور في الحالة الأولى والتأنيب في الحالة الثانية1. ومنها المذهب العقلي ويرى أن العقل هو القدرة الإداركية الوحيدة التي تميز بين الخير والشر في السلوك، وتمتد جذور هذا المذهب إلى فلاسفة الإغريق الأخلاقيين أمثال "سقراط" و"أفلاطون", ونجده أيضا لدى المعتزلة من المتكلمين المسلمين، ويمثله بصورة أكمل في أوائل القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني "كانط", وقد جمع في مذهبه بين الإرادة الخيرة بذاتها والعقل, فيقول مثلا: "لا يوجد شيء يمكن عده خيرا على وجه الإطلاق دون قيد إلا شيئا واحدا وهو الإرادة الخيرة"2, من ناحية العقل فإنه غير قادر على قيادة الإرادة قيادة رشيدة دائما, ووظيفة العقل هي أن يؤثر على الإرادة عن طريق بعث إرادة خيرة في ذاتها، ومن أجل هذا كان وجود العقل ضرورة وإذا بلغ العقل هدفه أحس

_ 1 الفلسفة الخلقية ص301، 310, د. توفيق الطويل. 2 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص17, كانط.

بالرضا، ومعيار الإرادة الخيرة عنده هو أن تصدر عن تصورات العقل المطابقة للقوانين الخيرة الموضوعية ولم تتدخل الميول والنزعات والرغبات المادية الغرضية في صدور الفعل1. إذن فهو يرى ضرورة مطابقة الإرادة الخيرة للقوانين العقلية المطلقة العامة، ونحن نعرف القانون العقلي الأخلاقي عنده وهو أنه إذا طبق عمليا لا يناقض نفسه من جهة ويصح جعله قانونا عاما لكل الناس من جهة أخرى، فمتى أراد الإنسان أن يعرف مثلا بمعيار "كانط" هل الانتحار عمل أخلاقي أو لا؟ فيمكن أن يجعله قانونا عاما للناس، فإذا صح أن يطبقه كل الناس دون أن يناقض نفسه يصح أن يكون عملا أخلاقيا, ولكن من البداهة أن العقل يحكم أن الانتحار ليس عملا أخلاقيا؛ لأنه لو طبقه الناس على أنفسهم لانتحروا جميعا, وعندئذ لا يبقى القانون ولا يبقى له مجال للتطبيق. وأهم قواعد الأخلاق العقلية العامة عند "كانط" ثلاث: الأولى قاعدة التعميم ونصها: "لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في الوقت نفسه من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما"2. الثانية القاعدة الغائية ونصها: "افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"3.

_ 1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص17-22. 2 المرجع السابق. 3 المرجع نفسه ص61، 73، 77.

وهدف هذه القاعدة هو احترام الذات الإنسانية وعدم اتخاذها وسيلة لأي غرض. القاعدة الثالثة هي قاعدة الحرية: أي حرية الإرادة واستقلالها عن جميع الرغبات بحيث لا تخضع إلا للعقل وتعد القانون الأخلاقي إراديا من الذات الإنسانية. ونعني بأن الإنسان إذا أطاع هذا القانون فإنه يطيع ما وضعه بنفسه عن حرية واختيار. ثم إن الإنسان إذا أطاع قانون غيره فمعنى ذلك أنه أصبح وسيلة ومجبورا على تحقيق غاية، من هنا جاءت القاعدة الثالثة، ونصها: "إن إرادة كل كائن عاقل من حيث هي إرادة تضع تشريعا كليا عاما", ثم يقول: "وهكذا نجد أن الإرادة لا تخضع للقانون وحده, بل إن خضوعها له ينبغي أن ينظر إليه في الوقت نفسه من حيث هي مشروعة للقانون"1، لكن قاعدة التعميم لا تصلح أن تكون معيارا عاما لكل الناس؛ إذ إن هناك بعض الناس المنحرفين ممن يرضون أن يكون سلوكهم المنحرف قانونا عاما للناس بل يسعون إلى هذا: فالإباحيون مثلا يرضون أن تكون الإباحية قانونا عاما، وأعضاء جمعية العراة يرضون أن يكون التعري قانونا عاما للناس. تلك هي آراء الفلاسفة فما رأي الإسلام حتى يمكن أن نعقد مقارنة بينه وبين المذاهب الفلسفية؟

_ 1 تأسيس ميتافزيقا الأخلاق، مترجم، الدكتور عبد القادر المكاوي ص61. 73. 77.

المعايير الأخلاقية في الإسلام

المعايير الأخلاقية في الإسلام مدخل ... ثانيا: المعايير الأخلاقية في الإسلام لا بد من دراسة تفصيلية لرأي الإسلام في هذا الموضوع حتى نحدده تحديدا كاملا. وإذا بحثنا عن المعايير الأخلاقية في الإسلام وجدنا أنه قد وضع عدة معايير لا معيار واحدا، وهي بوجه عام تنقسم إلى قسمين: المعايير الموضوعية الخارجية والمعايير الذاتية الداخلية.

المعايير الأخلاقية الموضوعية

أ- المعايير الأخلاقية الموضوعية: وهي عبارة عن تلك المبادئ الأخلاقية التي جاء بها الإسلام والتي تحدد بصفة عامة إرادة الله فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان في هذه الحياة سواء كان هذا السلوك متعلقا بصلته مع الغير أو بالنفس،وهذه المبادئ متمثلة في القرآن والسنة بصورة قانونية أو تشريعية, وعلى هذا الأساس يعد كلاهما معيارا وضعيا واحدا، ولقد وضع الله هذا المعيار أمام الإنسان ليكون منارا لطريق السعادة يميز به بين الخير والشر في السلوك وبين الحق والباطل في الرأي والهدى من الضلال، والنور من الظلام في هذه الحياة {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين} 1, {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 2، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" 3. غير أن تحديد الإسلام لسلوك الإنسان لم يكن على مستوى واحد في مختلف الميادين، فهناك مجال قد حدد فيه السلوك بدقة من حركات وسكنات وذلك فيما يتصل بتحديد علاقة الإنسان بربه ولهذا جاءت صورة العبادات مرسومة بطريق لم يبق فيها مجال للاجتهاد أو إعمال العقل والفكر؛ لأنه مجال

_ 1 المائدة: 15. 2 إبراهيم: 1. 3 التاج: جـ1 ص47.

طاعة الله وعبادته، فهو حدد صورة عبادته وطريقة تقديسه بالطريقة التي أراد أن يعبد ويقدس بها. ولست أدعي هنا أن العبادات لا تخضع لمنطق العقل بصورة عامة ولكني أدعي أنها لا تخضع لهذا المنطق في تفصيلاتها العملية والزمانية، وإذا كان هناك مجال لتدخل الإنسان هنا فهو في مجال النية ودرجة الإخلاص في هذه العباة أو تلك. وقد ذهب الغزالي وابن عربي قريبا من هذا في هذه النقطة. فيقول الغزالي في صدد بيان مجال العقل: "فإن العقلاء بأجمعهم معترفون بأن العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت، ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات ولا سيما على سبيل التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائع, بل أقروا بجملتهم أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها أمور لا عن طريق التعرف بالأسباب العقلية", ولهذا يعود فيقول: "ولقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة. أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق لا عن سر إلهي فيها"1, ويقول ابن عربي: "إن كل عمل لا يظهر له الشارع من وجهته تعليلا فهو تعبد، فتكون العبادة في كل عمل غير معلل أظهر منها في العمل المعلل فإن العمل إذا علل ربما أقام العبد إليه حكمة تلك العلة وإذا لم يعلل لا يقيمه إلى ذلك العمل إلا العبادة المحضة". وهناك مجال آخر أقل تحديدا من المجال السابق وهو مجال التعامل الاجتماعي، فليس هنا تحديد زمني وحركي للسلوك كالأول، وكما أنه ليس

_ 1 دراسات في الفلسفة الإسلامية للدكتور محمود قاسم ط 3 ص 80-81 "الرأي منقول عن المقصد الأسنى". 2 المرجع نفسه نص من الفتوحات المكية جـ3 ص537.

هناك سلوك غير خاضع لمنطق العقل، بل نجد قواعد عامة كمعايير عامة في التعامل الاجتماعي وفيما يلي أهمها: 1- مقتضى الإيمان بالله بأن يضع الإنسان نفسه موضع غيره عند التعامل معه، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 1, وقد ربط الإسلام بين العقيدة والأخلاق ربطا لا انفصام له. 2- الإخلاص: يجب الإخلاص لوجه الله عند العمل ومعاملة الغير؛ لأن الله يجازي على عمله بمقدار إخلاصه له, ويجب أن يشعر في معاملته للناس أن يعامل الله؛ لأنه مطالب من قبله وأن ينتظر جزاء عمله منه لا من غيره. هذه النقطة ذات أهمية كبرى في التعامل الاجتماعي؛ لأن انتظار الجزاء من الناس على حسن المعاملة يعد صفقة تجارية؛ ولهذا فإن بعض الناس يكفرون بالمعاملة الطيبة إذا لم يحصلوا على نظير لها أو لم يأخذوا مقابلها. وقد دعا الإسلام إلى الإخلاص لله في المعاملة لا الجزاء والشكر، وما دام الله هو الذي يجازيهم على إحسانهم، وقد ضرب الله مثلا للعمل المخلص الذي ينبغي أن يكون نموذجا ومثالا على عمل بعض المخلصين فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً, إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً, إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً, فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً, وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} 2.

_ 1 فتح الباري جـ1 ص63. 2 الإنسان: 8-12.

ولقد وعد الله الذين يعملون الصالحات مخلصين له في صالح أعمالهم يكافئهم ويجازيهم لا في الآخرة فقط بل في الدنيا أيضا فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى, وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى, وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى, وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2. 3- الصدق في القول والعمل: وهو مطابقة التعبير للحقيقة أيا كان لون التعبير بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة وما إلى ذلك فإذا كان التعبير عن الذات وجب أن يكون مطابقا لما يدور في النفس وإن كان التعبير عن أمر خارجي وجب أن يكون مطابقا له دون زيادة أو نقصان. لأن المبالغة زيادة والزيادة كذب والنقصان إجحاف وبخس، وهو كذب أيضا، والصدق وسيلة النجاح في الحياة الفردية والاجتماعية، لذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "تحروا الصدق وإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة واجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة" 3. كما أن الكذب يؤدي إلى الفجور والهلاك في الدنيا فإنه يؤدي أيضا إلى النار في الآخرة، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" 4، وقال أيضا: "دع ما يريبك إلى

_ 1 النحل: 97. 2 الليل: 5-10. 3 جامع الصغير جـ1 ص126. 4 هداية الباري إلى ترتيب صحيح البخاري جـ1 ص168.

ما لا يربيك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة" 1. 4- المحافظة على العهود والأمانات والوفاء بالوعد: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 2، وقال أيضا: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} 3، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" 4, وقال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} 5. 5- الأمر بالخير وهو المعروف والنهي عن الشر وهو المنكر: هذا المبدأ من أهم المبادئ في الأخلاق الإسلامية كما بيناه في موضوع المسئولية الأخلاقية، ويكفي هنا أن نشير إلى حديث سبق أن شبه فيه الرسول الحياة الاجتماعية بحياة الجماعة في السفينة بالبحر وعمل المنكر بخرق بعض الناس السفينة فإن أخذ على أيديهم نجوا جميعا وإلا هلكوا جميعا. 6- السعي للتسامي والحصول على أشرف الأمور وأعلاها. لا للتكبر ولا للتعالي على الناس ولكن للوصول إلى حياة كريمة فاضلة عزيزة ولهذا قال الرسول: "إن الله تعالى يحب لكم معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها" 6، وقال: "اليد العليا خير من اليد السفلى" 7, وقال: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه" 8, وبيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أعلى

_ 1 المرجع السابق، رياض الصالحين ص39. 2 النساء: 58. 3 الإسراء: 34. 4 رياض الصالحين، ص106. 5 البقرة: 283. 6 الجامع الصغير جـ1 ص75. 7 رياض الصالحين، باب الكرم والجود والإنفاق ص245. فتح الباري جـ14 ص 36. كتاب الرقاق. 8 رياض الصالحين ص 244. وجاء في صحيح مسلم بلفظ آخر جـ2 ص 721.

المنازل في حياة المرء أن يكون صاحب مال ينفقه في سبيل الخير وصاحب علم يقضي به بين الناس ويعلمهم فقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" 1. وهذه كلها تؤدي إلى التقدم في الحياة الاجتماعية. 7- التعاون على الخير وعدم التعاون على الشر: قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2. 8- المساواة والعدالة: إن الإسلام ينظر إلى الناس نظرة مساواة من حيث أصل الخلقة فليس هناك جنس يفضل على جنس آخر في الخلقة بل إن الناس يتساوون في الكرامة من حيث إنهم جميعا بنوا آدم. ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 3, وإذا كان هناك تفاضل فيما بينهم فإنما هو يرجع في الأصل إلى الأعمال الفاضلة التي يكتسبونها بجهودهم المشرفة؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان" 5, وقال أيضا لأبي ذر: "انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله" 6.

_ 1 المرجع نفسه ص 245. 2 المائدة: 2. 3 الإسراء: 70. 4 الحجرات: 13. 5 تفسير ابن كثير رواية أحمد جـ4 ص 217 "الجعل حشرة في الماء". 6 تفسير ابن كثير رواية حذيفة جـ4 ص 217.

وهذه المساواة تقتضي العدالة في المعاملة، فلا ينبغي أن يرجح فرد على آخر في التكريم والتقدير وفي الوظائف على أساس الجنس أو اللون بل على أساس الاستحقاق بالأعمال الفاضلة والكفاءات المكتسبة. والعدالة هي إعطاء كل ذي حق حقه الطبيعي والكسبي. قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} 1، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 2، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} 3. 9- التسابق والمسارعة إلى الخيرات والفضيلة ومقابلة الإساءة بالإحسان: إن الإسلام لا يأمر بأداء الحقوق والواجبات فقط بل يدعو أيضا إلى التسابق إلى أعمال الخيرات والفضائل المختلفة من التعاون والإحسان والإنفاق والمواساة وما إلى ذلك من الفضائل، ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} 4، وقال أيضا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 5, {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} , {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 6, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة, قال: أرأيت إن لم يجد, قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق, قال: أرأيت إن لم يستطع, قال: يأمر بالمعروف أو الخير, قال: أرأيت إن لم يفعل, قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة" 7, وفي رواية "تعدل بين

_ 1 المائدة: 8. 2 النساء: 58. 3 النحل: 90. 4 البقرة: 148. 5 فضلت: 34. 6 البقرة: 237، 178، 219. 7 رياض الصالحين، باب بيان كثرة طرق الخير ص 77.

الاثنين والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" 1. 10- إتقان الأعمال كما ينبغي ويجب: وهذا المبدأ لا ترجع أهميته فقط إلى التعامل الاجتماعي بل ترجع إلى التقدم العلمي والحضاري فلا تنتظم أمور الجماعة إلا بإتقان كل واحد عمله كما ينبغي، ولا تتقدم الحضارة والعلم إلا إذا بذل العلماء والعاملون في مختلف الميادين أقصى جهدهم لإتقان أعمالهم، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يحب الله العامل إذا عمل أن يحسن" 2, وقد اعتبر الإسلام الإتقان من الإحسان حتى في العبادة، فقال الرسول عندما سئل ما الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 3, وهذا المبدأ يتطلب من كل إنسان أن يقوم نفسه بعد العمل من حيث إنه هل قام بالواجب كما ينبغي؟ ويجب إذا وجد قصورا عليه إكماله. 11- الاعتدال والتوسط في الأمور التي يقبل الإفراد والتفريط لذا قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 4, إن الاعتدال يساعد على الاستمرار في العمل. 12- اتباع السلوك الخير وتجنب السلوك الشر وهذا هو أهم معيار جامع مانع للسلوك الأخلاقي في نظر الإسلام وأصدق دليل على ذلك قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 5.

_ 1 رياض الصالحين، المرجع نفسه ص 71. 2 الجامع الصغير جـ2 ص205 "حرف الياءِ" وجاء في كشف الخفاء أن يتقن جـ1 ص285. 3 البخاري جـ1، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإحسان ص128. 4 الأعراف: 31، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} الفرقان: 67، وقال أيضا: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} الإسراء: 29. 5 آل عمران: 114.

والآن إذا دققنا النظر في هذه القواعد السلوكية وجدنا فيها موجهات عامة توجه الفرد في داخل الإطار الاجتماعي توجيها معينا لا تقيد حركات الأفراد وصورة أفعالهم لا من حيث الكيف ولكنها تقيده بتوجيه أخلاقي عام من حيث عدم الإضرار بالغير والعمل من أجل الغير بروح الإخلاص والمحبة والإسراع إلى الخيرات والتسابق فيها، وترك الشرور بجميع أشكالها وألوانها. ثم هناك ميدان آخر تكون فيه حرية السلوك أكثر وضوحا من الميدان الاجتماعي وهو ميدان العمل للمكاسب الشخصية كالبحث العلمي والعمل الزراعي وما أشبه ذلك فهو مقيد هنا بقاعدتين فحسب: قاعدة عدم الكسب عن طريق ارتكاب المحرمات وقاعدة عدم الإضرار بالغير. إذًا يمكننا أن نقسم هذا المعيار الخارجي من هذه الناحية إلى ثلاثة فروع: الأول معيار التخلق مع الله, والثاني معيار التخلق مع الناس, والثالث معيار التخلق في ميدان العمل في الطبيعة عموما، ويدخل في هذا التخلق مع الكائنات الأخرى بصفة عامة. من هذا يتبين لنا أن هناك مجالات واسعة أطلق الإسلام فيها حرية السلوك والتصرف داخل إطار مفهوم كلمة "ينبغي" ولكن مفهوم "ينبغي" واسع في بعض المجالات وضيق في بعض المجالات الأخرى، فمن هنا نحتاج إلى معيار آخر يساعدنا على معرفة أخلاقية كل سلوك وكل حركة من سلوكنا. ومن جهة أخرى، فإن السلوك الخاضع للصور الأخلاقية الخارجية لا يعد سلوكا أخلاقيا بمعنى الكلمة ما لم يخضع للمعيار الأخلاقي الداخلي.

المعايير الأخلاقية الذاتية أو الداخلية

ب- المعايير الأخلاقية الذاتية أو الداخلية: كنا قد بينا أن للإنسان قوتين للتمييز بين الخير والشر وهما القوة العاقلة والقوة القلبية الوجدانية أو الروحية1، وهما من المعايير الداخلية وقد اعتد بهما الإسلام لوزن الأعمال الأخلاقية إلى جانب المعيار الخارجي الذي هو المبادئ التشريعية والأخلاقية التي جاء بها الإسلام ووضعها في صورة قوانين لنظام الحياة. أما المعيار الأول هو: المعيار العقلي فهو الذي يختص بالتمييز بين الحق والباطل، والحق خير والباطل شر. فيظهر دور العقل باعتباره معيارا لوزن الأعمال الأخلاقية وتمييز أخلاقيتها من عدم أخلاقيتها. وقد أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- معيارية العقل عندما أرسل معاذ بن جبل قاضيا إلى اليمن فقال له: "كيف تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي، قال الرسول عندئذ: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله" 2. وروي أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما تستفسر عن جواز أداء الحج عن أمها فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها, أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" 3. وليست السنة هي التي أجازت القياس واستعملته فحسب بل إن القرآن

_ 1 ص: 126. 2 التاج جـ3، فصل الاجتهاد ص 66. 3 التاج جـ 2، يقضي الحج عن الميت ص110.

نفسه استخدم القياس العقل، وقد استشهد العلماء على ذلك ببعض الآيات فمن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1. فلقد ترك الله لنا أن نستنبط عن طريق القياس العقلي. إننا إذا فعلنا فعل اليهود فسوف يلحق بنا ما لحقهم بعينه؛ لأننا نحن أيضا بشر مثلهم, وسنة الله في الكون ماضية بأسبابها، ولقد بين الله في موضع آخر أن أحكامه جارية بالأسباب {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً, فَأَتْبَعَ سَبَبا} 2، فالظواهر تابعة لأسبابها ولهذا وجهنا الله إلى مراعاة الأسباب بقوله {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} . ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ, قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 3. فقد استدل الله على ما أنكره المنكر بالقياس وذلك بقياس الآخر على الأول وهو أن الذي أنشأه أول مرة من العدم لا يعجز عن إنشائه وإعادته مرة أخرى. والإعادة أسهل من الإيجاد. ومن هذا النوع أيضا قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 4. ولنا أن نسأل: هل المعيار العقلي هو الأساس لقياس السلوك الأخلاقي أو

_ 1 الحشر: 2. 2 الكهف:84-85. 3 يس: 78-79. 4 سورة ق: 15.

الشرع، وهل من الممكن قياس جميع القيم الأخلاقية بالمعيار العقلي وحده دون الاستعانة بالشرع وبالمعايير الأخرى؟ نحن نعرف الخلاف الكبير في هذه النقطة بين المعتزلة وأهل السنة. فالأولون اعتبروا المعيار العقلي هو الأساس، في حين أن الشرع جاء تأييدا للعقل. وأما الآخرون فقالوا: إن الشرع هو الأساس مع اعترافهم بأن العقل كذلك أحد المعايير الأخلاقية. وسنعود إلى هذه المسألة في الفصل القادم. حيث إننا نواصل الآن بيان المعايير الداخلية. المعيار الثاني: المعيار الوجداني أو الضمير الأخلاقي. أشرنا من قبل إلى هذا المعيار وقلنا: إنه قوة فطرية تجعل المرء يشعر بالرضا إذا سلك طريق الخير وبالندم إذا سلك طريق الشر واستدللنا بقول الرسول: "استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس" , وفي رواية "البر ما انشرح له صدرك" 1, وفي رواية: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" 2. وقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 3. هذا دليل نقلي، وهناك دليل واقعي وهو أننا نحس في قرارة نفوسنا بهذه الحقيقة قبل الفعل وبعده. نعم قد يختلف الناس في درجة الإحساس بناء على سيكولوجية الفروق الفردية الناتجة عن طبيعة التكوين الجسمي والنفسي وعن

_ 1 مسند الإمام أحمد جـ4 ص227-228. 2 صحيح مسلم جـ4، ص1980. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 3 الجامع الصغير، جـ2 فصل الدال ص15.

العوامل الوراثية والبيئية والتربوية. وقد يزول هذا الإحساس في بعض النواحي الخلقية لسبب من الأسباب الخارجية السابقة كما قد يصبح البصير أعمى لعوامل خارجية، ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1. فعمى القلب أو الوجدان كعمى البصر في عدم أداء وظيفته. ولا ينبغي أن يفهم من فطرية الحاسة الخلقية أن جميع المبادئ الأخلاقية منقوشة في الضمير والوجدان، بل إنها مجرد قوة مستعدة للتمييز بين الخير والشر والطيب والخبيث، وإنما تنقش فيها الطيبات والخبائث عن طريق التربية والمجتمع, فما تقدمه أيديولوجية المجتمع إلى الإنسان أو الفرد أنه طيب أو خبيث، وتلقنه من صغره ويتربى عليه ينقش في ضميره أنه طيب أو خبيث, ومن هنا نجد الاختلاف في وجدانات الناس وضمائرهم في بعض النواحي الخلقية بحسب الأيديولوجية الاجتماعية التي يتبعونها أو التي نشأوا فيها. وهناك فرق بين معيار العقل ومعيار الوجدان من حيث التمييز والتأثير والتأثر. أما من حيث التمييز فالعقل يميز بالتأمل والتفكير أما الوجدان فإنه يميز من غير تفكير وروية، ولهذا عبر الله عن هذا الإدراك بالرؤية {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 2, وأما من حيث التأثير فتأثير العقل غير مباشر وأما الوجدان فتأثيره مباشر. أما من ناحية التأثر فالعقل لايتأثر وإنما يؤثر، وأما الوجدان فيؤثر ويتأثر، ومن هنا نجد الوخز والتأنيب في الوجدان إذا فعلنا عملا لا ينبغي فعله وانشراحا وسرورا إذا فعلنا عملا ينبغي فعله. وقد توجه إلينا ضروب من النقد في هذا الصدد لهذه التفرقة، لكن لا بأس

_ 1 الحج: 46. 2 النجم: 11.

ما دامت هذه التفرقة لا تقوم على قواعد موضوعية بقدر ما تقوم على قواعد تجريبية ذاتية، ذلك أن هذه الحاسة الأخلاقية مهما كانت موجودة في كل إنسان بالفطرة فإنه يزيد أو ينقص بحسب اختلاف الناس وهذا الاختلاف يرجع أساسا إلى سيكولوجية الفروق الفردية التي هي بدورها ترجع إلى الوراثة والتربية العامة والتجربة العلمية. المعيار الثالث: النية والإرادة والغاية الخيرة: يجدر بنا قبل بيان دور هذا المعيار الأخلاقي أن نحدد بعض المصطلحات التي تستعمل عادة في هذا الصدد فمنها الباعث: وحقيقة الباعث أنه اندفاع داخلي نحو الأشياء والأفعال، وقد يكون المثير له العوامل البيولوجية والفسيولوجية الداخلية أو العوامل الأيديولوجية الاجتماعية الخارجية ومهما كان من أمر عامل الباعث فإنه غالبا يتم تحت إثارة أو ضغط أحد العوامل السابقة لا تحت نور العقل والفكر، ولهذا فإن قيمة الباعث في المعيار الأخلاقي لا أهمية لها كأهمية النية والإرادة والغاية الخيرة. ومنها النية: وهي كما عرفها بعض العلماء "قصد الشيء وعزم القلب عليه"1. وقسموها إلى قسمين: القصد وهو إرادة الفعل حالا, والعزم وهو إرادة الفعل مستقبلا، وقالوا إن النية والإرادة شيء واحد أو أن الإرادة يشملهما، وبناء على هذا فالقصد والعزم جزء من الإرادة وتطلق الإرادة على كل واحد منهما من إطلاق الكل على الجزء كإطلاق النية2. ثم إن الإرادة أو النية قد تنصب على

_ 1 نهاية الأحكام في بيان ما للنية من الأحكام ص7. 2 المرجع السابق ص8.

الفعل ذاته وقد تنصب على شيء خارج عنه أي: على النتيجة أوالغاية منه. أما الغاية فهي آخر ما يهدف إليه الإنسان من وراء فعله، إذن الغاية هي الهدف البعيد أو الغرض البعيد من الفعل، وإذن الغاية والإرادة قد تشتركان في هذا المعنى، فهناك عموم وخصوص من وجه بينهما، وقياس العمل الخلقي مرتبط بالمعنيين معا، ذلك أن المعنى الأول ضروري؛ لأن من ضروريات العمل أن يكون مقصودا مرادا حتى يدخل في مجال المسئولية الأخلاقية، والمعنى الثاني ضروري أيضا لتحديد درجات المسئولية والجزاء في العمل الأخلاقي. فالغاية تضفي على العمل حسنا أو قبحا بحسب نوعها من حيث الخير والشر. دور النية والغاية في السلوك الأخلاقي: فدور النية والغاية في السلوك الأخلاقي هام إذ لا يكفي أن يكون السلوك مطابقا للقانون الأخلاقي من حيث الصورة الخارجية بل لا بد للسلوك الأخلاقي من شكل ومضمون أو مادة وروح، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1، وقد بينا في المسئولية أن مجالها قسمان: ظاهري وباطني، ظاهرها الفعل المادي، وباطنها النية والغاية، فمن نوى نية حسنة فله أجر العمل بها وإن لم يستطع إلى ذلك سبيلا، وكذلك من نوى نية سيئة فعليه وزر العمل بها إذا حالت بينه وبين تنفيذها عوامل خارجية. والنية الحسنة تجعل الأعمال المباحة عبادة يثاب فاعلها عليها؛ فإذا نوى عند الأكل أنه إنما يأكل لأداء واجباته في الحياة يثاب عليها، حتى إتيان الرجل امرأته؛ فإذا نوى عند

_ 1 صحيح البخاري جـ1، فصل بدء الوحي ص13.

ذلك أنه بذلك يؤدي أمرًا إليها فيثاب كأنه قد فعل خيرا، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 1؛ لأن في ذلك إدخال السرور للطرف الآخر، ومن يكسب لينفق على أهله ففيه أجر، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك" 2. ولكن هل الإرادة الخيرة تجعل الأعمال كلها خيرة ولو كانت شرا، والإرادة السيئة تجعل الأعمال كلها قبيحة ولو كانت حسنة؟ الحقيقة أن النية ليست كل شيء في العمل الأخلاقي وإنما هي ركن فيه، فالعمل الأخلاقي له كيان مادي ومعنوي، ولهذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 3. والأول يتمثل في الفعل, والثاني في النية والإرادة الحسنة، وهذه الإرادة الخيرة لا تجعل الفعل السيئ حسنا أو خيرا أو الفعل غير الأخلاقي أخلاقيا كما أن الضوء المسلط على الوجه القبيح لا يجعله جميلا. أما كون النية الحسنة تجعل الأعمال العادية المباحة حسنة وعبادة؛ فذلك لأن هذه الأعمال ليست قبيحة ولا حسنة في ذاتها فهي لذلك لا تعتبر صورة حسنة ولا قبيحة ولكن تسلط النية الحسنة عليها يحسن من منظرها كما أن الضوء يحسن شيئا ما من منظر شيء لا هو حسن ولا هو قبيح. ولكن لا يكون الحسن الناتج هنا كالحسن الناتج عن

_ 1 رياض الصالحين، باب بيان كثرة طرق الخير ص71. 2 فتح الباري جـ6 ص296 كتاب النفقة. 3 صحيح مسلم جـ4 ص 1987، كتاب البر والأخلاق.

منظر حسن تتسلط الأضواء عليه. ولهذا يقل مقدار الثواب الذي يناله الإنسان من العمل المباح العادي بالنية الحسنة عن مقدار الثواب الذي يناله من الواجب الأخلاقي بالنية نفسها، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث قدسي: "إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء، أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" 1. إن النية الخيرة لا تحول فعلا شريرا في ذاته إلى فعل خير، بل تحول الفعل الذي ليس شرا في ذاته إلى درجة من الخيرية لا الخيرة الكاملة. ولكن ماذا تكون النتيجة إذا أخطأت النية الخيرة الصورة الأخلاقية: الجواب المنطقي هو أن يأخذ نصف أجر ما لو أصابت الصورة؛ لأنه وجد أحد الركنين فقط ولم يوجد الركن الثاني، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" 2. ولنتصور الآن عكس القضية وهو أنه لو طبق الصورة الأخلاقية دون روحها هنا تفصيل: ففي الأمور التي لا تشترط النية فيها لا ينال صاحبها الثواب إذا عملها بدون النية مثل ترك الشرور والمحرمات لا لوجه الله بل اتباعا للعادة أو

_ 1 الأحاديث القدسية جـ1 ص81. 2 فتح الباري جـ17، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد الحاكم فأخطأ ص 83.

خوفا من الجماعة. أما الأمور التي تشترط النية فيها مثل الصوم فلا يعتد به بدونها إطلاقا؛ لأن الصوم قد يكون للعبادة وقد يكون لعلاج طبي فالنية هنا هي التي تميز بين ما هو عبادة وبين ما هو غير عبادة1. وعلى العموم فالنية والغاية مناط المسئولية والعقاب والجزاء الإلهي، غير أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا أن المتمسك بالقيم الأخلاقية عموما بدون النية والإخلاص لله يحرم من الجزاء الطبيعي للقوانين الأخلاقية نفسها، إذ إننا بينا وجود جزاءات عدة للقوانين الأخلاقية وخاصة فيما يتعلق بالقوانين المبنية على القوانين الطبيعية. وعلينا أن نعرض لهذه المسألة الهامة وهي إذا كانت الغاية تؤدي دورا هاما في التفكير الأخلاقي الإسلامي وأنه لا يعتد بالقوانين الأخلاقية إلا من حيث غاياتها فمعنى ذلك أن الأخلاق وسيلة لغيرها وليست غاية في ذاتها أي: أنها ليست مقدسة وأنها قد تتغير من حين إلى آخر؛ لأن الوسائل عادة تتغير. الحقيقة أن هذه مشكلة التفكير الأخلاقي عموما، ولقد اختلف فيها الفلاسفة وذهبوا فيها مذاهب شتى. نشير إليها قبل أن نحدد موقف الإسلام من تلك المشكلة بعينها: الاتجاه الأول: يرى أن الأخلاق غاية في ذاتها وإذا أصبحت وسيلة فلا تبقى أخلاقا. وهذا ما ذهب إليه "كانط" ومن يرى رأيه، فالذي يجعل الأخلاق وسيلة ينبغي أن يقول مثلا: "علي أن أحافظ على الأخلاق إذا أردت أن أحافظ

_ 1 الأشباه والنظائر ص 12 للإمام السيوطي.

على شرفي، أما الذي يجعل الأخلاق غاية ينبغي أن يقول: علي أن أحافظ على الأخلاق ولو لم يجلب عدم المحافظة أي عار وأي نفع؛ لأنها واجب بصرف النظر عما يترتب عليها"1. وبناء على هذه الفكرة لا تتغير الأخلاق ولا تتبدل وتكون لها قدسيتها الدائمة، فلو كانت وسيلة لتغيرت من حين إلى آخر وفقا لأهواء الناس ومصالحهم ولجاز مخالفة قوانينها عندما تقتضي المصلحة العامة أو الخاصة وعندئذ لا تبقى للأخلاق قدسية ولا سلطان دائم بل تخرج الأخلاق عن كينونتها أخلاقا، وقيما ثابتة. الاتجاه الثاني: يرى أن الأخلاق وسيلة لا غاية وأنها يصح أن تتغير وتتطور وفقا لمصالح الناس أو مصلحة المجتمعات وهذا الاتجاه هو الاتجاه النفعي عموما. الاتجاه الثالث: يوفق بين الاتجاهين السابقين عن طريق التوحيد بين الوسيلة والغاية فهو يعتبر الأخلاق مبدئيا وسيلة عامة لتوجيه سلوك الإنسان في الحياة وتحقيق مطالبه فيها ويعتبرها في الوقت نفسه غاية؛ إذ لا توجد لغاية أخلاقية سوى وسيلة واحدة تخصها ولا توجد منفصلة عنها؛ ولأن الوسيلة والغاية لا تنفك إحداهما عن الأخرى. هذا إلى أن الفصل بين الوسيلة والغاية يؤدي ضرورة إلى فكرة "أن الغاية تبرر الوسيلة" فتترتب على ذلك شرور وفساد في الحياة الاجتماعية، ولهذا لا يصح إطلاقا أن نفصل بين الوسائل والغايات في النظرية الأخلاقية ولا أن نحدد

_ 1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص92.

أي هدف أخلاقي قبل معرفة الوسيلة الضرورية لتحقيقه وإلا كان ذلك على حساب هدف أو أهداف أخلاقية أخرى. أي: لتحقيق هدف ما قد يضحي المرء بأهداف أخرى. فمثلا قد ينقذ الرجل ماله على حساب شرفه أو شرف وطنه وقد يعمل المرء من أجل تحقيق هدفه على حساب مصلحة أصدقائه، فهو لجلب الخير لنفسه ارتكب شرا في حق غيره وهذا مخالف للأخلاق، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي "جون ديوي"1.

_ 1 النظرية الأخلاقية عند جون ديوي ومدى صلاحيتها للتربية العصرية ص61-63، الدكتور محمد لبيب النجيحي، مخطوط بمكتبة كلية التربية.

وجهة نظر الاسلام

وجهة نظر الإسلام: وإذا نظرنا إلى الإسلام في هذه النقطة وجدناه يفرق بين مجال الدنيا ومجال الآخرة. والإسلام نفسه من حيث إنه نظام حياة للإنسان جاء لتحقيق غاية في هذه الحياة، فقد جاء ليحقق للإنسان حياة منظمة متناسقة من شأنها أن تؤدي إلى السعادة لا في هذه الدنيا فحسب بل في الحياة الأخرى أيضا، فالإسلام- إذن- من هذه الزاوية وسيلة لا غاية في ذاته ولكنه يعتبر غاية في نفسه باعتباره غاية لعمل الإنسان ولا سيما فيما يتعلق بالتخلق مع الله، فإذا لم يكن أساس أعمال الإنسان الإخلاص الكامل للإسلام بصرف النظر عما يترتب على التمسك به من النفع في الدنيا والآخرة فلا تعتبر هذه الأعمال أخلاقية ولا تجد قبولا عند الله ومن ثم فلا تستحق جزاء منه. بل الإمام الشاطبي يقول: "إن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها"1. ولهذا قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ

_ 1 الموافقات للإمام الشاطبي جـ1 ص156.

الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2, {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} 3، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا من خلص لوجهه" 4. وهكذا نجد الغاية نفسها تكون وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى, وهذه حقيقة يحس بها كل منا في حياته اليومية فنحن نتخذ في حياتنا الجارية أهدافا ونتخذ لها وسائل حتى إذا ما حققناها نتطلع إلى أهداف أخرى أسمى منها ولكن لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الأهداف التي هي أدنى منها، وهكذا تتسلسل الأهداف والغايات فكل غاية وسيلة بالنسبة إلى أعلاها وغاية بالنسبة إلى أدناها، فمتعلم الدين مثلا يقصد من تعلمه أن يكون تدينه مقبولا عند الله ويقصد من ذلك أن ينال رضا الله ويقصد من الآخر الدخول في جنته. إذن لا نستطيع القول بأن الأخلاق وسيلة وغاية بوجه عام ونصدر حكما عاما في هذا الشأن فيما إذا أردنا أن يكون حكمنا مطابقا للحقائق الواقعية، ولكن هل معنى هذا أن الأخلاق متغيرة وغير ثابتة تتطور بتطور الزمان والحياة وتزول الأخلاقيات وتأتي أخرى مكانها؟ وهل مؤدى ذلك أن الأخلاق لا تحمل قداسة وإلزاما عاما؟ لا ينبغي أن يفهم أولا من قولنا: إن غاية الأخلاق لها مراتب وأن أدناها وسيلة لأسماها، وأسماها غاية لأدناها - إننا نذهب إلى أن عدم ثابت المبادئ

_ 1 الزمر: 2-3. 2 البينة: 5. 3 النساء: 146. 4 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص130.

الأخلاقية والاستدلال على أن كل وحدة مستقلة بنفسها، بل ينبغي أن يفهم أنها في الحقيقة وحدة متكاملة ولها مراتب ومستويات مختلفة القيمة وفي التطبيق العملي. فالإحسان مثلا بصفة عامة مبدأ أخلاقي ولكن الإحسان له درجات من حيث التطبيق، فالإحسان إلى واحد ليس كالإحسان إلى مجموعة، فتزيد درجاته بحسب عدد المحسن إليه ومن حيث نوع الإحسان. ثم من حيث النية والغاية: فاتخاذ الغاية من الإحسان مجرد مساعدة الإنسان فحسب غير الإحسان الذي يتخذ منه نيل الجزاء من الله وهو غير ذلك إذا قصد وجه الله فحسب مثلا فاتخاذ الإحسان وسيلة لهذه الغايات ثم اتخاذ بعضها وسيلة لأخرى لا يدل على أن الإحسان من حيث كونه مبدأ أخلاقيا متغير بل هو ثابت في الواقع بين المجتمعات البشرية من قديم الزمان إلى يومنا هذا بالرغم من اعتباره وسيلة لهذه الأغراض كلها، نعم إن القيمة الفعلية تزيد أو تنقص بحسب الغايات التي تتخذ من ورائها، ولكن مفهوم تلك القيمة مبدأ أخلاقيا مفهوم مقدس في أذهان الناس وإن تفاوتت من إنسان إلى آخر درجة هذا التقديس والتقدير لسبب من الأسباب الاجتماعية. إذن لا يدل كون الأخلاق وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى أنها متغيرة ولا تحمل تقديسا وتقديرا في نفوس الناس. يقول جان جاك روسو: "إن مبادئ الأخلاق واحدة في كل مكان ومبادئ الخير والشر هي بعينها حيثما ذهبت"1. ثم نتساءل فنقول هل يصح لنا أن نتخذ أي وسيلة للوصول إلى أي غاية

_ 1 إميل ص 213. ويقول بارتلمي: "إن علم الأخلاق بمعتقداته الأساسية لم تتغير", علم الأخلاق لأرسطو جـ1، ص 165.

أخلاقية أو أن نتخذ أي مبدأ أخلاقي وسيلة لأي غاية أخلاقية؟ إن الإسلام لم يبح اتخاذ أية وسيلة لأية غاية أخلاقية بل اشترط أن تكون الوسائل أخلاقية كالغايات تماما فالغاية في نظر الإسلام لا تبرر الوسيلة، ولهذا قال الأصوليون: الغاية لا تبرر الوسيلة، واتخذوا ذلك قاعدة تشريعية. والدليل على صدق ما ندعي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فالآية ترسم لنا طريقين للفلاح أو طريقا واحدا له جانبان: الأول تقوى الله بترك المحرمات والثاني التقرب إليه بالوسائل، وهي أداء الواجبات والتمسك بالقيم الأخلاقية ولا يمكن التقرب إليه بالمحرمات وإلا لما حرم المحرمات ولما نهى عنها، ولو نوى مرتكبها وجه الله والتقرب إليه. ومن هنا جاء في الحديث القدسي الذي سبق ذكره بأن أحب الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله هي الواجبات ثم الأمور المشروعة دون المحرمات ثم إن الله تعالى نفسه قد اعتبر الواجبات الأخلاقية وسيلة للتقرب إليه إذ هي وسائل والغاية كسب رضوان الله وكسب رضوان الله وسيلة للفوز بالسعادة في الآخرة. غير أنه قد يعترض على هذه الفكرة بأن الإسلام قد أباح في مواضع كثيرة اتخاذ بعض الوسائل اللا أخلاقية مثل: قتال الكفار والمعتدين والكذب لإنقاذ النفس من الهلاك. حقا إن هذا قد يحدث ولكننا بينا فيما سبق أن ذلك استثناء والاستثناء لا يعتبر قاعدة أخلاقية أو مبدأ دستوريا. وهذا الاستثناء من قبيل دفع الشر بشيء لا يمكن دفعه إلا به2 وليس الهدف من ذلك جلب المصلحة وإنما

_ 1 المائدة: 35. 2 انظر صفحة "245"من هذا البحث.

هو حماية ما جاءت به الأخلاق لحمايته وهو حفظ الحياة وحفظ العقيدة عن طريق إزالة الفساد. إذن نحن نلتجئ أحيانا اضطرارا إلى حفظ الأخلاق بلا أخلاق عندما لا نملك غير ذلك. فنحن هنا مضطرون والمضطر لا يسأل عما اضطر إليه، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1. وأما الأساس في الأخلاق الإسلامية فهو دفع الشر بالخير والإساءة بالحسنى ولهذا قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 2. وإذا لم نستطع أن ندفعه بالأخلاق ندفعه باللا أخلاق وغايتنا هو الأخلاق ولكن هل بالغاية الأخلاقية يصبح الفعل اللا أخلاقي أخلاقيا؟ وهل من الممكن أن يصبح القبيح أو الشر في ذاته حسنا وخيرا بعامل خارجي؟ لأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سألوه: أو يأتي الخير بالشر؟: "الخير لا يأتي إلا بالخير" 3، أما الشر فقد يأتي بأشر منه. الواقع أن الحقائق لا تتغير من حيث الجوهر، ولكن يتغير تقييمها من الناحية المادية والمعنوية بحسب الظروف، فالذهب مثلا لا يمكن أن يكون حديدا ولا العكس والحق لا يكون باطلا والباطل لا يكون حقا. ولكن قيمة الذهب تتغير من الناحية المادية والنفسية، وقد يفقد قيمته في بعض الظروف فلا ينظر إليه إلا على أنه معدن لا أكثر ولا أقل, ولكن الذهب فيما عدا هذه الظروف يحتفظ بقيمته بشكل من الأشكال. وكذلك الأمور الأخلاقية فإراقة دم إنسان قبيح؛ لأنه إعدام موجود ذي قيمة ولكن إذا أصبح وجود الشيء فاسدا في كيان جماعة فإزالة هذا

_ 1 البقرة: 173. 2 فصلت: 34. 3 فتح الباري بشرح البخاري جـ6 ص389، كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، انظر كذلك المرجع نفسه جـ 11 ص243، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا.

الوجود يعتبر خيرا من هذه الزاوية ومن هنا شرع إعدام الجاني، ثم إن إعدام الجاني في نظر المجني عليه غيره في نظر إنسان لم يصل إليه جرمه. وقد يضطر الطبيب إلى قطع أحد أعضاء الجسم إذا كان مريضا ويؤدي وجوده إلى فساد الجسم كله. إذن نحن نضحي في هذه الحالات الاستثنائية بقليل من القيمة في سبيل الحفاظ على القيم بناء على قاعدة ارتكاب أهون الشرين إذا لم نجد مفرا من ارتكاب أحدهما. كما أن غايتنا فيها دفع الشر لا جلب المنفعة؛ لأن دفع الشر أولى من جلب المنفعة حسب القاعدة الأصولية. من هذا كله نقرر أن الأخلاق وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى وقيمة الغاية تؤثر في قيمة العمل الأخلاقي، وكلما كانت الغاية أسمى وأشرف كان السلوك الأخلاقي أكثر قيمة، ولكن الغائية في السلوك الأخلاقي لا تفيد عدم موضوعية المبادئ الأخلاقية، ولا تفيد كذلك عدم وجود قدسية للأخلاق. ثم إن الأخلاق لها مادة وروح وهناك تفاوت في قيمة الصور الأخلاقية وفي قيمة روح هذه الصور من حيث التقييم الموضوعي والذاتي، وإذا كان الأمر كذلك فإن القيمة المعنوية للأخلاق تأتي من نية فاعلها وغايتها. ولذا كان للنية والغاية من حيث كونها معيارا أخلاقيا دور كبير في السلوك الأخلاقي من حيث إضفاء القيمة وبيان درجاتها. غير أن معيارية الغاية تختلف عن معيارية العقل والوجدان إذ إن الأَولى من حيث إضفاء القيمة، والثانية مقياسا لتمييز السلوك الأخلاقي من اللا أخلاقي يعرف بها الذات الفاعلة عندما يقوم نفسه بنفسه في ضوء نياته.

خلاصة المعايير الأخلاقية الإسلامية

ثالثا: خلاصة المعايير الأخلاقية الإسلامية والآن في نهاية المطاف في الحديث عن المعايير يمكن تلخيصها بعد تفصيلها في أهم المعايير الآتية: 1- حسن النية والغاية والإرادة الخيرة. 2- الحاسة الأخلاقية أو حاسة الضمير أو الإحساس الوجداني. وذلك يظهر عند الإقدام على الفعل أو بعد الانتهاء منه الشعور بخيرية الفعل أو شريته والشعور بالطمأنينة والفرح في حالة الخيرية والشعور بالذنب وتأنيب الضمير وعذاب الوجدان في حالة شريته. 3- تمييز العقل بين الخير والشر والحسن والقبيح بناء على الأصول الأخلاقية وهي الحكمة والعفة والعدالة والشجاعة والوسطية أو الاعتدال. 4- حسن السلوك المتفق مع القواعد والمبادئ الأخلاقية المذكورة. 5- أن يعامل الإنسان الآخرين بما يجب أن تعامل به نفسه. 6- صلاحية العمل لأن يكون قانونا عاما للناس، أي إذا أردت أن تعرف ما إذا كان عمل ما أخلاقيا أولًا اجعله فرضا نظاما عاما للناس فإذا طبقه الجميع هل يؤدي إلى الخير أم إلى الشر في حياة الناس أو في الحياة الاجتماعية. 7- إتقان الأعمال كما ينبغي ويجب، وذلك سواء كان العمل لنفسه أو لغيره، وأن يقوم نفسه في عمله إذا وجد تقصيرا عليه أن يعمل لتلافي القصور. 8- تقويم السلوك في ضوء ما يترتب عليه من خير أو شر أو نفع أو ضر وذلك في ضوء التجارب العلمية أو الشخصية وفي ضوء روح الأصول الأخلاقية وقواعدها ومبادئها التي ذكرنا بعضها.

الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية

الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية مدخل ... الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية سبق أن أشرت إلى بعض القيم الأخلاقية عند بعض المناسبات ولكنني رأيت أن تلك الإشارات لا يمكن أن تكفي في دراسة هذا الموضوع المهم المعقد، إذ لا بد من تفصيل القول فيه وإبراز حقيقته بصورة واضحة. وأهم صعوبة كنت أشعر بها إزاء بيان هذه الحقيقة كانت مسألة المعايير التي نستطيع استخدامها لتحديد هذه القيم، ولهذا سبقت بدراسة تلك المعايير لتذليل تلك الصعوبة عن طريق تعريف تلك المعايير التقويمية الأخلاقية. ولكي أعرض هذا الموضوع بصورة متكاملة رأيت دراسته من النواحي الآتية: الأولى: تحديد حقيقة القيم الأخلاقية ومستوياتها وأنواعها. الثانية: تحديد موضوعية هذه القيم. الثالثة: أهمية هذه القيم في الحياة العملية. 1- فمن الناحية الأولى يكاد يتفق الأخلاقيون على أن القيمة العليا للأخلاق هي الخير ويقابلها الشر، إلا أن هذا الاتفاق كان في اللفظ أكثر من كونه في المضمون, فقد اختلفوا في ماهية الخير والشر. وكان يسود هذا الاختلاف اتجاهان متميزان: اتجاه مادي وآخر روحي، ويرجع أصل الاختلاف هنا إلى الاختلاف في فهم طبيعة الوجود، ومعايير تقويم الموجودات، ومنبع الأخلاق وكان اختلافهم في منبع الأخلاق يدور حول مسألة: أهي تنبع من الأرض أم تنزل

من السماء، أهي صورة عقلية أم حقيقة واقعية. ولا أريد الرجوع لدراسة فلسفة هذين الاتجاهين، فقد أشرت إلى معالم فلسفتهما خلال الموضوعات السابقة إشارة مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى. ثم إن معالجة هاتين الفلسفتين من جميع النواحي على النحو الذي أشرنا إليه يبتعد بنا عن منهج هذا الكتاب؛ ولهذا فالأفضل لنا أن نرجع إلى دراسة ما وعدنا بدراسته: أي تحديد مفهوم القيمة وحقيقتها حتى نستطيع تقويم الأخلاق بوجه عام وتحديد حقيقة الخير والشر بوجه خاص. وسأعرض هذين الأمرين خارج إطار الإسلام أولًا ثم في إطار الإسلام ثانيا.

تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام

تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام مدخل ... أولا: تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام: لو استقرأنا الآراء التي قدمت لتحديد مفهوم القيمة لطال بنا المقام ولخرجنا عن منهجنا المرسوم, ولكن من الممكن أن نعرضها في صورة اتجاهات عامة. فلقد عالجها الأستاذ "ريمون رويه" معالجة مفصلة1 ألخصها في خمس اتجاهات عامة هي:

_ 1 فلسفة القيم، ريمون رويه. ت. الدكتور عادل العوا ص123 وما بعدها.

الاتجاه الطبيعي

1- الاتجاه الطبيعي: يفسر هذا الاتجاه عموما القيمة باللذة والألم، فاللذة مرغوبة بالطبيعة وكل مرغوب بالطبيعة لذيذ، والألم مكروه بالطبيعة وكل مكروه بالطبيعة مؤلم، وكل لذيذ خير وكل مؤلم شر، والخير والشر من الأمور الحسية المادية المدركة بالطبيعة الإنسانية: فكل شيء ينزع الإنسان نحوه ويميل إليه ويرغب فيه بالطبيعة ويشتهيه هو خير، وكل شيء يكرهه ويأنف منه بالطبيعة هو شر، والإنسان

لا يشتهي الأشياء؛ لأنه يحكم عليها بالصلاح أو يأنف منها؛ لأنه يحكم عليها بالطلاح. بل إنه يحكم عليها بالصلاح؛ لأنه يشتهيها ويحكم عليها بالطلاح؛ لأنه يأنف منها بالطبيعة. وكان من أنصار هذا الاتجاه "بنتام" و "هوبز" و "سبينوزا" وكلهم يزعمون إمكان قياس القيمة قياسا ماديا وكميا.

اتجاه الطبيعة النفسية الفاعلة

2- اتجاه الطبيعة النفسية الفاعلة: ويرى هذا الاتجاه أن القيمة ليست صفة خاصة بحقيقة الأشياء بل هي نابعة من الفاعلية النفسية سواء أكانت هذه الفاعلية اهتماما أم رغبة أم ميلا أم تعاطفا أم تحسينا أم تقبيحا. إذن مسألة القيمة مسألة ذاتية فردية وإرادية، فكل ما يوائم الرغبات النفسية الإرادية الفردية يعتبر خيرا بالنسبة إلى صاحب هذه الإرادة أو تلك. وتأثير الأشياء في إرادتنا ونفسيتنا بالمواءمة أو بالمنافاة يدل على وجود علاقة بين طبيعة الأشياء وطبيعة نفسيتنا، وإذا كانت هذه العلاقة موضوعية من ناحية التأثير، فإنها ذاتية من ناحية التأثر، ذلك أن الناس يختلفون من هذه الناحية الأخيرة اختلافا كبيرا. وبالإجمال فإن القيمة لا ترجع بالكلية إلى الأشياء ذاتها وإنما ترجع إلى النفس الفاعلة ذاتها أيضا، فالنفس الفاعلة هي التي تضفي على الأشياء والأفعال والأفكار قيمة بحسب اهتمامها بها وانفعالها معها. وبحسب ما تحس فيها من خير أو شر. ونفع أو ضر ومن إحساس سار أو مؤلم. وقد ذهب إلى هذا الاتجاه "شوبنهور" و "نيتشه" وأصحاب المذهب البراجماتي مثل "جون ديوي".

والفرق بين الاتجاهين الأسبقين أن الأول يرجع القيم إلى قيمة مادية موضوعية. فالعلاقة بين الكائن الحي والقيمة علاقة حسية يمكن قياسها قياسا موضوعيا كميا. بينما يرجع الثاني إلى عملية نفسية ذاتية إلى جانب موضوعية والعلاقة بين القيمة والعملية النفسية فيها جانب موضوعي وجانب آخر ذاتي ولهذا لا يمكن قياسها قياسا موضوعيا آليا كميا.

_ 1 Marburg 2 Brunchviug

الاتجاه العقلي أو فاعلية الفكر الفردي

3- الاتجاه العقلي أو فاعلية الفكر الفردي: يرى هذا الاتجاه بصفة عامة أن القيمة هي التي تتلاءم مع العقل وتوافقه وأن العقل والقيمة شيء واحد، وإذا كان الأمر قاصرا على مجرد العقل لم يكن بد من التفرقة على أساسه، فالمعيار هو العقل والقيمة خاضعة له؛ لأن القيمة تحدد بناء على المعيار. ولا ينبغي العمل بمقتضى العقل لغرض الوصول إلى الخير بل يجب السير عليه بصرف النظر عن الغاية الخيرية إلا أن الخير لما كان متحدا مع الفعل أو أنه تابع وملازم له فالعمل وفقا للعقل يولد الخير بالطبيعة. وإذا كانت قيمة الأخلاق تقاس بالإرادة الخيرة فإن الإرادة الخيرة تقاس بمدى موافقتها للعقل؛ ذلك أن الأخلاق تعتبر قيمة عقلية ولذا كانت القوانين الأخلاقية خاضعة للعقل كالقوانين الفكرية، وكما أن هذه القوانين الأخيرة ثابتة فكذلك القوانين الأولى. وينبغي ألا يفهم من هذا أن العقل ظاهرة طبيعية بل ينبغي أن يفهم من حيث إنه متعالٍ على الطبيعة؛ لأنه فكر يحكم على الطبيعة، فالعقل إذن ليس خاضعا للطبيعة مقهورا بها بل هو متحكم فيها ومقوم لها، وقد ذهب إلى هذا الاتجاه "كانط" وأتباعه من بعده مثل "ماربوغ"1 "وبرنشفيك"2.

_ 1 Marburg 2 Brunchviug

الاتجاه الواقعي

4- الاتجاه الواقعي: يرى أنصار هذا الاتجاه أن القيمة صفة مستقلة عن الطبيعة وعن الذات الفاعلة فهي تقع وراء الحوادث الطبيعية ووراء الذوات الفاعلة وهي في الوقت نفسه تفرض نفسها على الذوات الفاعلة "إذن فهي ليست نسبية -كما يدعي من ذهب إلى ذلك- بل إن لها وجودا مطلقا كأي وجود آخر ولها قوانين مستقلة بنفسها كقوانين الطبيعة لا تتغير ولا تتبدل، وإذا كان الأمر كذلك فالإنسان لا يخلقها بعقله أو بإرادته، وإنما يجدها موجودة بين الموجودات، ولكن وجودها متعالٍ على الموجودات الأخرى، وإن كان معايشا أو ملازما معها فهو بذلك وجود واقعي من جهة ومثالي من جهة أخرى، وينضوي تحت لواء هذا الاتجاه آراء مختلفة بعضها يميل إلى الجهة الأولى وبعضها الآخر يميل إلى الجهة الثانية بينما يلتزم بعضها بموقف الوسط، ومن أهم أنصار هذا الاتجاه "مور"، "ورسل"، "وشيلر"1.

_ 1 المرجع السابق لريمون رويه ص 188 وما بعدها.

اشتراك الذات الفاعلة مع الواقع الراهن

5- اشتراك الذات الفاعلة مع الواقع الراهن والمثل الأعلى: ويرى هذا الاتجاه أن القيمة نظام العمل أو طراز الشروع، ولا تتحقق هذه القيمة إلا بوجود ذات عاملة وموضوع تعمل فيه الذات ولا بد أخيرا من مثل أعلى نلاحظه أثناء العمل، فعن طريق اشتراك العوامل الثلاثة تتكون القيمة، وإذا فقدت هذه العوامل أو بعضها فقدت القيمة؛ لأنها هي هذه العوامل مجتمعة ولا تنفصل عنها أو بتعبير آخر إن القيمة هي علاقة التركيب بين الفاعل والمفعول والموجود، وهذه العلاقة ليست علاقة اختيارية بل إنها إلزامية؛ ذلك

أن الإنسان مجذوب ومشدود إلى الواقع الوجودي يجذبه إليه العقل والخير أو العقل الخير، ومن أنصار هذا الاتجاه "لوسين", و"لافيل"1. وبعد، لو نظرنا إلى هذا الاتجاهات السابقة لوجدنا أن مرجع القيم في الاتجاه الأول هو الطبيعة الفاعلة، وفي الثاني طبيعة النفس الفاعلة، وفي الثالث العقل الفاعل، وفي الرابع واقع القيم نفسه، وفي الأخير فاعلية الفاعل مع الوجود والمعقول. هذا التناول من حيث تحديد مرجع القيمة لا يكفي لتحديد مفهوم القيمة عموما؛ لأن القيمة ليست وحدة واحدة بل هي متنوعة ولها مستويات مختلفة، وإذا لم يكن هذا التنوع من حيث الأصل فهي متنوعة على الأقل من حيث الفروع والأشكال؛ فإن المهتمين بتحديد القيمة ذهبوا في هذه النقطة خاصة إلى مذهبين متعارضين: فمنهم من ذهب إلى عدم التقسيم لصعوبة تقسيمها وتحديد أقسامها, ومنهم من ذهب إلى تقسيمها وقالوا: إنه وإن لم تكن قاعدة يمكن تصنيفها على أساسها بدقة، فإن التصنيف على أي حال خير من عدمه؛ لأنه يساعدنا على دراسة مفهومها وتناولها بالدراسة من جميع أطرافها.

_ 1 فلسفة القيم، المرجع السابق لريمون رويه ص200 وما بعدها.

تصنيف القيم

تصنيف القيم: وبناء على هذه الفكرة صنفوا القيم إلى أنواع وإن لم يتفقوا على أنواع معينة، فقسمها بعضهم إلى قيم أصلية وقيم مشتقة، وقسمها آخرون إلى قيم ذاتية وقيم ذرائعية، ومنهم من قسمها إلى القيم - الغايات, القيم - الوسائل ومنهم من قسمها إلى قيم الحق والخير والجمال.

ومن أشهر التقسيمات التي اشتهرت في مجال دراسة القيم الاجتماعية تصنيف "سترنج" وهو كالآتي: القيم النظرية، الاقتصادية، الجمالية، الاجتماعية، السياسية، الدينية. وفي مجال تحديد مستوياتها، رتبوها كالآتي: 1- القيم الإلزامية وتشمل الأوامر والنواهي وهي القيم المقدسة التي يجب الالتزام بها والمحافظة عليها والتي يعاقب الخارج عليها عقابا صارما. 2- القيم التفضيلية وهي القيم التي تشجع الجماعة أفرادها للقيام بها وتكافئ عليها لكنها لا ترقى إلى مكانة الأولى التي تتطلب لتاركها عقابا صارما مثل النجاح في الحياة وضروب المجاملات الأخرى بين الناس. 3- القيم المثالية: وهي التي يحسن تحقيقها بصورة كاملة وقد تؤثر تأثيرا قويا في توجيه سلوك الفرد "مثل مقابلة الإساءة بالإحسان"1. وهناك تقسيم آخر لمستويات القيم وهو التقسيم الآتي: 1- المستوى الأدنى: مستوى القيم الملائم وغير الملائم والمنافي. 2 - مستوى القيم الحيوية وتشمل القيم: المتميز والمبتذل والنبيل. 3- مستوى القيم الروحية: وتضم القيم البديعية الجمالية والحقوقية والعقلية. 4- مستوى القيم الدينية: وهي تتصل بالله وعلاقة الناس به وهي تهيمن

_ 1 قيمنا الاجتماعية وأثرها في تكوين الشخصية. انظر فصل أنواع القيم. الدكتور نجيب إسكندر إبراهيم وغيره.

على سائر القيم "لأنها هي أساسها كلها"1. وهذه المستويات لا تنفصل بعضها عن بعض بحدود حاسمة بل يتداخل أحيانا بعضها في بعض، وقد يتحول مستوى قيمة إلى مستوى آخر من حيث درجة الالتزام بها، وقد يتم هذا التحول من النوع الأول إلى الثالث أو الثاني أو من النوع الثالث إلى الأول والثاني وهكذا. وقد تفقد قيمتها بمرور الزمان وتتحول إلى مجرد عادة. كما قد ينشأ صراع بين القيم فتنتصر بعض القيم وتهزم بعضها الأخرى. وذلك نتيجة الصراع الاجتماعي بين المجتمعات أحيانا وبين الطبقات في داخل المجتمع الواحد نفسه، ونتيجة صراع بين القيم الدينية والاقتصادية ومن ثم نستطيع أن نحدد أهم ما قيل في مفهوم القيمة في المفاهيم الآتية: أحدها: أن القيمة منفعة وفائدة والشيء القيم هو الشيء المفيد والنافع. ثانيها: أن القيمة هي الاهتمام والشيء القيم هو الشيء المهتم به. ثالثها: أن نظام القيم متأصل في طبيعة الإنسان، والإنسان يندفع بالطبيعة لتحقيقه في الواقع إذن فهو في التقويم يحوله من القوة إلى الفعل وإلى الوجود المادي. رابعها: هي علم السلوك التفضيلي، فالإنسان يبحث دائما عن أفضل أو بتعبير آخر القيمة هي طراز الشروع المفضل في ميادين الحياة المختلفة. خامسها: هي الأفكار الاعتقادية الانفعالية النفسية المتعلقة بفائدة الأشياء في حياة المجتمع2.

_ 1 القيم الأخلاقية ص 182 الدكتور عادل العوا "التقسيم لشلر". 2 القيم والعادات الاجتماعية. فوزية دياب، ص 30.

وسادسها: هي ضرب من النظام موجود في الوجود يميل إليه الإنسان بالطبيعة في القيم الإيجابية وينفر منه في القيم السلبية1. بعد تحديد مفهوم القيمة بصفة عامة في الاتجاهات الفلسفية المختلفة نستطيع تحديد القيمة الأخلاقية في إطار مفهوم القيمة عموما. إن قيمة الأخلاق في أساسها هي قيمة الأفعال أو السلوك لا قيمة الأشياء والأفكار، وليس أي سلوك، وإنما سلوك إنسان راشد يبتغي غاية من سلوكه. وحقيقة هذه القيمة هي الخير وحقيقة الخير -كما رأينا- اختلفت فيها وجهات النظر، وقد فسرها كل اتجاه بما يتناسب مع فلسفته في القيمة عموما، وقد عرضنا هذه الاتجاهات ولا داعي لعرضها لتفسير القيمة الأخلاقية من جديد.

_ 1 القيم الأخلاقية، الدكتور عادل العوا ص 38.

تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام

ثانيا: تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام: عرفنا مفهوم الأخلاق في نظر الإسلام بصفة عامة بأنه علم الخير والشر والحسن والقبيح والطيب والخبيث. وقد رأينا أن للسلوك الأخلاقي جانبين الجانب الشكلي المادي والجانب الباطني المعنوي. ويتمثل الأول في القوانين الأخلاقية المرسومة من قبل الشرع, ويتمثل الثاني في الإرادة والغاية والنية الخيرة ولا بد من تطابق الظاهر والباطن حتى يكون السلوك الأخلاقي كاملا، وحتى تتحقق القيمة المنوطة به، فقيمة الأخلاق مرتبطة بهذه القيمة المادية والقيمة المعنوية لارتباط السلوك الأخلاقي بهما معا. غير أن ارتباطه بالقيمة المعنوية أكبر؛ لأن هذه القيمة هي التي تضفي

علي السلوك الصفة الأخلاقية، أما السلوك بغير الصفة الأخلاقية فيعد سلوكا عاديا لا يقاس بمعايير الأخلاق. فمثلا لو ساعد رجل آخر وهو يقصد من وراء ذلك مقابلا فإن هذا السلوك لا يدخل في مجال العمل الأخلاقي بالرغم من توافر صورة الأخلاق فيه؛ لأنه يعد صفقة تجارية تتم في إطار الأخلاق ظاهريا. فالغاية الأخلاقية تحمل قيمة الأخلاق وهي بدورها تحمل قيمة الشخص. والفعل الأخلاقي للإنسان شبيه بأن يكون وليدا له. فكما أن الوليد يتأثر بكثير من خصائص أمه عندما يحيا في بطنها. ويظهر هذا الأثر في شخصيته بعد الميلاد. كذلك الفعل تتكون بنيته الأولى في ضمير الفاعل من حيث الخيرية والشرية والصلاح والطلاح. لكن كيف تؤثر الغاية في قيمة الفعل الأخلاقي مع أنها أمر خارج عن الفعل أو هي غير الفعل ثم من أين جاءت القيمة إلي الغاية؟. لنجيب عن ذلك نضرب المثل الآتي: هب أن رجلا ألف كتابا كعمل علمي خلقي, فمن الضروري أن تكون له غاية, قد تكون غايته كسب مال أو شرف أو إفادة الناس؛ لذات الفضيلة لا لشيء آخر. ولو سألنا الناس عن أشرف هذه الغايات لاختاروا الأخيرة بدون شك, ولكن لماذا يختارون الأخيرة؟ هل لأن النفع يعود عليهم؟ إذ النفع موجود على أي حال, إذن فالترجيح هنا مبني على الغاية لا على ذات الفعل. ولا يدل هذا على عدم إعطاء أية قيمة لهذا العمل كعمل نافع بناء. ولكن المسألة مسألة التفضيل، وهو مبني علي القيمة المتزايدة وهذه القيمة وليدة الغاية ولكن من أين جاءت هذه القيمة إلى هذه الغاية. لا شك أنها جاءت من الخير العام الذي يستهدفه من عمله أي: من الإيثار. ولكن من أين

جاءت القيمة إلي الإيثار, لا شك أنها جاءت من فكرة الفضيلة، ولكن من أين جاءت القيمة إلي هذه الفكرة لا شك أنها جاءت من الإنسانية؛ لأنه عمل إنسان يستهدف غاية إنسانية, ولكن فكرة الإنسانية أيضا تستمد قيمتها من شعور الإنسان بالقيمة المثالية للسلوك. هذه الغاية قيمة؛ لأنها موافقة للمثل العليا أو القيمة العليا. ولكن ما زلنا نحتاج إلى سؤال متسلسل من نوع الأسئلة السابقة وهو من أين جاءت القيمة إلي المثل العليا؟ وما المثل العليا في حقيقتها؟ إن الفلاسفة الذين قالوا: إن القيم الأخلاقية نازلة من المثل العليا أو أن الأخلاق تستمد قيمتها من المثل العليا حاولوا تحديد ماهية هذه المثل, ولكنهم لم يستطيعوا تحديدها وبيان حقيقتها. أما الإسلام فقد بينها بأنها ضرب من النظام المتعالي على الواقع يستمد قيمته من إرادة الله ومن الإنسان والوجود المادى, وهذه المثالية للقيمة معطاة قد أخذت مكانها في فطرة الإنسان باسم الحاسة الخلقية والشعور الخلقي وتحت دافعية هذا الإحساس أو ذلك الشعور يحاول الإنسان التسامي به إلي ذلك المثال وتقليده وفي ضوئهما يميز بين العمل الأخلاقي واللا أخلاقي وبين درجات القيمة الأخلاقية للأفعال الإنسانية. إذن الغاية تستمد من إرادة الله. وعندما يريد الإنسان من سلوكه ما أراد الله منه أن يريده فإنه يكون قد اتحدت الإرادتان أو الغايتان إرادة الإنسان وإرادة الله. ولقد حدد الإسلام غاية الأخلاق التي ينبغي أن يتم العمل الخلقي في ظلها بأن يريد الإنسان من عمله وجه الله وأن يعمل لأن هذا العمل إرادة الله منه لا أكثر ولا أقل, ولهذا قال تعالى

: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 1, {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2, {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً, إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 3, ونرى في هذه الآيات بالإضافة إلى جعل الله غاية الأخلاق ابتغاء وجهه فإنه قد ربط بين هذه الغاية وبين خيرية الأخلاق والجزاء في الآخرة. ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن ليس للسلوك الأخلاقي أية قيمة بدون الغاية الأخلاقية إذ إن له قيمة أيضا لكن قيمته ناقصة ولا ينال ثوابه في الآخرة وإنما ينال ثوابه الطبيعي في الدنيا؛ لأن الله يكافئ من يعمل من أجله, ومن كان يعمل للناس أو للدنيا ينال مكافأة عمله من الناس أو من الدنيا. ولا نصيب له منه في الآخرة ولهذا قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ, أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4, وقال تعالي: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} 5. وروي عن ابن عباس في معنى الآية: "من كان من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الأخرة نزد له في حرثه أي: في حسناته, ومن كان من الفجار يريد

_ 1 الرعد: 22. 2 الروم: 38. 3 الإنسان: 8-9. 4 هود: 15-16. 5 الشورى: 20.

بعمله الحسن الدنيا نؤته منها", وقال قتادة: "إن الله يعطى مَن نيته الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ولا يعطي علي نية الدنيا إلا الدنيا"1, لكن إذا قلنا: إن للأخلاق قيمة فلنا أن نسأل ما ماهيتها؟ وما مميزاتها بالنسبة إلي القيم الأخرى؟ نحن نعلم أن هناك قيما كثيرة: قيم الأشياء والحق والخير والجمال وقد عبر الفلاسفة عن قيم الأخلاق بالخير وذهبوا في تفسير الخير مذاهب شتى. فما مذهب الإسلام في حقيقة هذه القيمة؟ عندما ندرس هذه الحقيقة في الإسلام نجد أنه قد عبر عنها أحيانا بالخير وأحيانا بالقيمة, وإن كان استعماله للفظ الأول أكثر من الأخير, إلا أن إبدال لفظ بلفظ آخر قد لا يزيد الأمر وضوحا, لبيان حقيقة هذا الخير أو تلك القيمة في الإسلام ينبغي أن ندرسها في المجالات التي استعمل فيها حتى نستطيع تحديد حقيقة هذه القيمة ومقارنتها بالقيم الأخرى. وإذا نظرنا إلي المجالات التي استعمل فيها لفظ الخير وجدنا أنه استعمل في المجالات الآتية: وعبر عنها بألفاظ مختلفة مثل: البر والحكمة ورفعة المكانة الأدبية بين الناس وما إلي ذلك ويمكن تلخيصها في المجالات الآتية: مجال المعرفة والحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 2, ومعروف أن الحكمة باختصار هي القول السديد والعمل المفيد ومعرفة أسرار الموجودات والعمل بمقتضى العلم, فهي بذلك تجمع بين القيمة الفكرية والعملية أو بين العلم والعمل بموجبه.

_ 1 القرطبي جـ16 ص 18-19. 2 سورة البقرة: 269.

- مجال العقيدة والإيمان بالله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} 1؛ لأن الإيمان بالله كما هو خير بنفسه فإنه يؤدي كذلك إلي الخير. - مجال الصلاح والتقوى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} 2, {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 3. - مجال المال والمساعدة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4. - مجال الشخصية الإنسانية: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 5, {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 7, وقال الرسول -صلي الله عليه وسلم: "إن من أخيركم أحسنكم أخلاقا" 6. - مجال كسب رضوان الله في الآخرة: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 8, {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} 9. أما لفظ القيمة فقد استعملت في المجالات الآتية: - مجال الدين والعبادة الخالصة لله تعالي: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 10, {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 11.

_ 1 آل عمران:110. 2 الحج: 30. 3 الأعراف: 26. 4 البقرة: 272. 5 القصص: 26. 6 التاج جـ5 ص 63. 7 المجادلة: 11. 8 فصلت: 40. 9 التوبة: 109. 10 البينة: 5. 11 يوسف: 40.

- مجال الأحكام والقضاء: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً, فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 1, ولقد بين الله أن في تلك الصحف أحكاما قيمة صدرت من الله إلي العباد. - مجال هداية الناس بالكتاب الكريم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا, قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} 2. - في مجال وصف الإسلام بالطريق المستقيم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. - مجال وصف الإسلام كله دينا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4, {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} 5. يتبين لنا من هذا العرض لاستعمالات كلمة الخير والقيمة أن الأولى تستعمل لجميع الخصال الحميدة والأفعال الأخلاقية النبيلة وما تؤدي إليه هذه وتلك من المنافع والفوائد لصالح الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة ويعبر بها بصفة عامة عن القيم السلوكية والشخصية والفكرية والمادية. أما كلمة القيمة فقد استعملت بصفة عامة في قيمة الإسلام أحكاما ومبادئ سليمة وهادية ومرشدة للناس في هذه الحياة.

_ 1 البينة: 2-3. 2 الكهف: 1-2. 3 الأنعام: 161. 4 الروم: 30. 5 الروم: 43.

إذن مجال استعمال كلمة الخير أعم من القيمة. وفي تستعمل في الدلالة علي الأخلاق وكل ما يتصل بالأخلاق من الشخصية والقيم المادية والفكرية. ذلك أن الشخصية الخيرة منبع الأفعال الخيرة عادة كما قلنا وذكرنا حديث الرسول الذي يشبه فيه الإنسان الصالح ببائع المسك والإنسان الفاجر بنافخ الكير1. إذ إن الإنسان الخير تصدر منه دائما أعمال خيرة ينتفع بها الناس كما تصدر من بائع المسك دائما رائحة طيبة يستفيد منها الناس, والإنسان الشرير مصدر للأفعال الشريرة تؤذي من يقترب منه كنافخ الكير الذي تصدر منه دائما رائحة كريهة وشرر يحرق ثوب من يقترب منه. وكذلك الحكمة وهي أساس التصرف الأخلاقي السليم بل إن الأخلاق نفسها حكمة والمتخلق يكون حكيما. وكذلك المال فلولا قيمة المال لما كانت هناك قيمة لمبدأ الإنفاق. فبقدر ما يبذل المرء من الأموال القيمة للمحتاجين بقدر ما يكون لهذا السلوك الأخلاقي من قيمة. هذا إلي أن القيم الأخلاقية يفضل بعضها على بعض أو تزيد درجة قيمة بعضها على بعض, وقد يرجع هذا أحيانا إلي الظروف والملابسات التي يتم فيها العمل الأخلاقي؛ فالعمل الأخلاقي في ظرف معين من الإنفاق في ظرف الرخاء غيره في حال الضيق, ومساعدة إنسان في حال احتمال أن يجد مساعدة من الآخرين غيرها في حال فقد هذه المساعدة وإن كان مقدار المساعدة ونوعها واحدا في كلتا

_ 1 حديث سبق ذكره في الجزاء الأخلاقي في هذا الكتاب: انظر فهرس الأحاديث.

الحالتين؛ ولهذا مدح الله الذين يطعمون الناس وهم في حاجة إلي هذا الطعام {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} 1, {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2. وقد يرجع هذ التفاضل أحيانا أخرى إلى نوع العمل الأخلاقي, فالواجب مثلا أفضل من النافلة, قال تعالى في حديث قدسي "وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه" إلي آخر الحديث3, والعمل المستمر خير من المنقطع ولهذا قال الرسول -صلي الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" 4, ولما سئلت عائشة عن عمل الرسول فقالت: "كان عمله ديمة"5, "وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته"6. وهكذا نجد أن القيم الأخلاقية متصلة بقيم الحقائق الأخرى مادية كانت أم معنوية وذلك بالإضافة إلي قيمتها الذاتية الخاصة بها. ولكن هل هذا المفهوم للقيمة الأخلاقية يدل على عدم موضوعية هذه القيم؟ هذا هو ما سنعرض له مباشرة الآن وهو الموضوع الثاني من هذه الدراسة. 2- مدى موضوعية القيم الأخلاقية؟ أشرنا إلى هذه النقطة فيما سبق وعرضنا آراء الفلاسفة فيها والآن نلخصها في اتجاهين عامين, ثم نعالج رأي الإسلام.

_ 1 الإنسان: 8. 2 الحشر: 9. 3 جامع الأصول في أحاديث الرسول. ابن الأثير الجزري. دار الفكر1403هـ جـ9 ص542. 4 فتح الباري، باب القصد والمداومة على العمل جـ14 ص 78، كتاب الرقائق. 5 المرجع السابق جـ 14 ص 79، كتاب الرقائق. 6 صحيح مسلم جـ1 ص 541.

الاتجاه الأول: ذهب إلى أن مسألة القيم الأخلاقية مسألة نسبية تخضع للعقائد والعادات الاجتماعية المختلفة وأن الناس هم الذين يخلعون عن الأخلاق قيما من عند أنفسهم ولهذا فهي ليست حقيقة متأصلة فيها. والاتجاه الثاني: ذهب إلى أن القيم الأخلاقية قيم موضوعية نابعة من ذاتها كامنة في طبيعتها ودور الإنسان ليس إلا إخراجها وإداركها. ولو ذهبنا نستقرئ أراء المفكرين الإسلاميين في هذا الموضوع لوجدنا أنهم انقسموا فيه إلي اتجاهين أيضا كالفلاسفة. الاتجاه الأول: اتجاه أهل السنة والثاني اتجاه المعتزلة. أما الأول: فيرى وجود ثلاثة أنواع من الأحكام تتصف بصفة الحسن والقبح أو بالخير والشر فالنوع الأول كل سلوك يلائم الطبع فهو حسن وما ينافره الطبع فهو قبيح مثل إنقاذ الغرقى واتهام الأبرياء. والنوع الثاني كل وصف يدل علي الكمال فهو حسن وكل وصف يدل على النقص فهو قبيح مثل العلم والجهل. والنوع الثالث: كل ما أمر به الشرع حسن وكل ما نهى عنه قبيح. والأمران الأولان عقليان والثالث شرعي: أي أن الأولين قيمتهما في ذاتهما والثالث قيمته جاءت من الشريعة1. ولكن هل معنى كونهما عقليين أن الثواب والعقاب مترتبان عليهما طبقا لقوانين الطبيعة؟ الجواب لا, فالثواب والعقاب متوقفان علي الشرع, فكونهما أمرين عقليين شيء وكونهما يستحقان

_ 1 شرح التلويح على شرح التوضيح للتنقيح جـ 1 ص 172 لسعد الدين التفتازاني.

الثواب والعقاب شيء أخر, وأقصد بالثواب الثواب من الله أما الثواب الطبيعي فملازمهما باستمرار. أما الأمر الثالث من الحسن والقبح اللذان لا يعلمان إلا بالشرع فليس معنى هذا أن العقل لا يدركه بل الحقيقة في هذه النقطة أن أمورا داخلة في النوع الثالث تدرك بالعقل مثل وجود الله وما يتصف به من الصفات الإيجابية أو السلبية, وهناك أيضا بعض الأوامر والنواهي التي يدرك حسنهما وقبحهما بالعقل وبالطبيعة المتلائمة والمتنافرة, ولكن بالرغم من هذا فإن معيار ثبوت الأحكام بالوجوب أو بالنهي بالحل أو الحرمة هو الشرع فإنها ثابتة بالشرع لا بالعقل. إذن الشرع هو المعيار العام في ثبوت الأحكام في هذا المجال الثالث وتعلق الثواب والعقاب عموما. ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1, فلو أن الأحكام ثبتت بالعقل لما توقف العذاب على إرسال الرسول ولكان إرسال الرسل عبثا من غير داعٍ. ومن تلك الأدلة قوله تعالي: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 2, {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3, "وإذا كان الأمر حسنا بالعقل فإنه يصبح أحسن بالأمر الشرعي ويجزي الله بالعمل الأحسن لا بالحسن"4. وأما الاتجاه الثاني وهو اتجاه المعتزلة فقد عرف القبيح "بأنه الفعل الذي إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه" كما أن ترك منع

_ 1 الاسراء: 15. 2 النور: 38. 3 العنكبوت: 7. 4 شرح تنقيح الفصول في الأصول ص41. شرح التلويح على التوضيح للتنقيح جـ1 ص 172.

الواجب من وجوده فهو قبيح أيضا, وعرفوا الواجب بأنه "هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه"1. وكل واجب حسن في نظرهم وليس كل الحسن واجبا2؛ لأن من الحسن الإحسان وهو أيضا منفعة تسدى إلي الغير بقصد الإحسان إليه وليس كل إحسان واجبا. وأساس الواجب والحسن والقبح في نظرهم العقل فالحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل؛ لأن الحسن والقبح واضحان يدركهما الإنسان بالبداهة لموافقة الأول للطبع ومنافاة الثاني له سواء كان الأمر متعلقا بالأشياء ذاتها أو صفاتها أو متعلقا بالأحكام, والأحكام الشرعية مبنية على الحسن والقبيح العقليين فهي ثابتة بالعقل قبل الشرع, والشرع جاء مؤكدا لما علمه العقل بالضرورة كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع؛ لأنه قد يكون في الصدق ضرر وفي الكذب نفع ومع ذلك يرجح حسن الصدق على نفع الكذب وهذا موضع النظر أي: يحتاج إلي التفكير والتأمل وقد يرجح العكس, وقد يأتي الشرع مظهرا لما لا يعلمه العقل ضرورة ولا نظرا كعدد ركعات الصلوات الخمس ووقوع رمضان في شهر معين فإن العقل لا يعلم حسن مثل هذه الأمور وما فيها من مصلحة وفي عكسها من مفسدة فالشرع أظهر للعقل وجود الحسن ووجه المصلحة والمفسدة. لذا قرروا أن الثواب والعقاب عقليان أصلا فإثابة المحسن حسن وعقابه قبيح, وعقاب المسيء حسن وتركه أو الإحسان إليه قبيح, فإن ذلك مقتضى

_ 5 شرح الأصول الخمسة ص: 39-41. 6 المصدر نفسه: ص 76.

الحكمة وإلا ضاعت الحكمة في أفعال الله ولكانت أفعاله عبثا ولعبا وهذا يناقض قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1. والآن إذا قارنا بين الاتجاهين وجدنا أن أهم نقط الخلاف هي النقط الآتية: الأولى: أن الحسن والقبح في الأحكام الشرعية مبنيان على أمر الإله ونهيه والناس مكلفون بها بالرسالة في نظر الاتجاه الأول والأمر على خلاف ذلك في نظر الاتجاه الثاني. إذ إن تلك الأمور مبنية على الحكم العقلي والناس مكلفون بها بالعقل لا بالرسالة. الثانية: أن الثواب والعقاب وكثيرا من الأمور المغيبات ثابتة بالشرع في الاتجاه الأول وبالعقل في الاتجاه الثاني. الثالثة: أن الشرع منشئ في جميع الأحكام في الاتجاه الأول وهو مؤكد أو كاشف في الاتجاه الثاني. ونحن في الواقع لا يهمنا اتفاق هؤلاء أو اختلافهم وإنما تهمنا حقيقة الموضوع التي نبحث عنها ولا تدل هذه الاختلافات أو تلك على نسبية القيم كما يستدل بذلك بعضهم؛ لأن رجال الفكر عادة يختلفون في كل موضوع اختلافا كليا أو جزئيا؛ وذلك لاختلافهم في درجات الإدراك, وزاوية النظر التي ينظرون منها ولاختلافهم في الحاسة الخلقية والنضج الخلقي والتجارب الشخصية. وأخيرا فإن هذه الاختلافات قد ترجع إلي التطبيقات العملية, فهم قد

_ 1 المؤمنون: 115.

يتفقون في قيمة من القيم من الوجهة النظرية، ولكن عند التطبيق يتخذون وسائل مختلفة ومن ثم يختلفون في الوصول إلى النتيجة أو رؤية الحقيقة من جميع أطرافها ومن ثم يختلفون في تقييم هذه الحقيقة أو تلك. ولكن أين الحقيقة الآن إذا كانت هي التي تهمنا أهي مع الاتجاه الأول أم مع الاتجاه الثاني؟ في رأيي وحسبما هدتني إليه دراستي حتي الآن يبدو لي أن الحقيقة ليست بأكملها في جانب هؤلاء أو جانب أولئك, ذلك أن موضوعية القيم الأخلاقية متميزة تماما عن موضوعية العلوم الأخرى إذا نظرنا إليها من زاوية الموضوعية العلمية المتعارفة, وهي ليست مسألة شرعية تستمد قيمتها من الوحي فحسب بل إننا نجد فيها خصائص مشتركة بينها وبين مختلف القيم الأخرى كالقيم الطبيعية والإنسانية والسماوية والاجتماعية والعلمية. إذن لا نستطيع أن نقول: إن قيمتها عقلية صرفة, كما يقول المعتزلة والموضوعيون من الفلاسفة, كذلك لا نقول: إنها شرعية تستمد قيمتها من الوحي فقط كما يقول أهل السنة, وخاصة الأشاعرة؛ لأن القول بالقيمة العقلية البحتة لا بد من أن يؤيد بأحد الدليلين على الأقل أحدهما الاستدلال الاستقرائي ولكن لا يمكن تطبيق هذا على جميع الأمور الجزئية وخاصة بعض الجزئيات الخاصة بصلة الفرد بالله. والاستدلال الثاني هو الاستدلال الاستنباطي, ولكن نعجز عن طريق هذا الاستدلال عن تفسير جميع المظاهر الأخلاقية تفسيرا عقليا موضوعيا. كما أنهم عجزوا عن ذلك هم أنفسهم. ولكن هل معنى هذا أننا لا نستطيع قياس هذه

القيم؟ لا ينبغي أن يستنبط من العجز عن قياس حقيقة ما بمعيار معين أننا نعجز عن قياسها بمعيار آخر بل إن الشيء الواحد المعين يمكن أن يقاس بمعايير مختلفة متى كانت له خواص مختلفة. والقيم الأخلاقية من هذا النوع لها خواص متعددة عقلية علمية موضوعية ونفسية وإنسانية وسماوية إلهية. ولهذا نستطيع قياس القيم الأخلاقية من زواياها القيمية المختلفة, بثلاثة معايير عامة: معيار سماوي مستمد من الوحي وهو الرسالة أو الشرع, ومعيار أرضي علمي تجريبي, وأخيرا معيار إنساني وتدخل فيه الحاسة الخلقية والإحساس الجمالي والوجداني في الطبيعة الإنسانية ولقد اعتد الإسلام بهذه المعايير كلها كما رأينا. إذن للقيم الأخلاقية جوانب متعددة: ففيها الموضوعية وفيها غير الموضوعية إذا نظرنا إليها من زاوية الموضوعية واللا موضوعية التقليدية, ولا ينقص من قيمة الأخلاق أنه لا يمكن تقويمها بالمعيار الموضوعي التقليدي؛ لأن المعيار السماوي معيار أيضا. والمعيار الإنساني معيار كذلك كالمعيار التجريبي العلمي, ومن هذه الزاوية تعد القيم الأخلاقية كلها موضوعية ولكن بمعنى آخر, ثم إن وجود القيم السماوية والأرضية والإنسانية في القيم الأخلاقية تدل على عظمة القيم الأخلاقية وعظيم قدرها. 3- القيم الأخلاقية في الحياة العملية. ذهب بعض الفلاسفة أمثال "شوبنهاور" إلى التفرقة بين القيمة النظرية والقيمة العملية للأخلاق تبعا للتفرقة بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية.

وقد أدت هذه التفرقة أخيرا إلى فكرة أن معرفة الأخلاق نظريا لا تقتضي تطبيقها عمليا1. وذهب بعض الفلاسفة الآخرين أمثال "سقراط" إلى عدم التفرقة بين النظرية والتطبيق2. والحقيقة كما تبدو في هذا الخلاف أنه إن صحت التفرقة من زاوية الدراسة النظرية فلا تصح من زاوية دراسة القيمة, ذلك أن القيمة المتكاملة للأخلاق لا تظهر بوضوح إلا عند الجمع بين الجانبين؛ لأن قيمة الأخلاق حقيقة واحدة لها جانبان: جانب نظري يدرك عن طريق النظر والتأمل العقلي, وجانب وجداني شعوري نفعي يدرك عن طريق التطبيق العملي, والإحساس بالأول يختلف نوعا ما عن الإحساس بالثاني. ولا غموض في هذا التقييم للقيمة الأخلاقية, لأنه لا بأس في تقييم أية حقيقة من زوايا مختلفة بل هذا واجب إذا أردنا تقييم أية حقيقة أن نقيس قيمتها بموازين ومقاييس مختلفة إذا كانت لها قيم متعددة. ويمكن أن نعبر عن هذا التكامل بالحكمة الأخلاقية؛ لأن الحكمة هي الجمع بين فضيلة النظر وفضيلة العمل, إذ إن الإنسان مهما اقتنع بقيمة الفكرة عقليا فإن القيمة التي يحس بها بعد العمل بها في أعماق نفسه لا يمكن أن يكون كإحساسه بالأول, ولكن قد يتحول هذا الإحساس الأخير إلى مجرد نشوة حسية إذا لم يعتمد على اقتناع نظري أو لم يقم على أساس دافع عقلي. إذن قيمة الأخلاق تعد ناقصة إذا اقتصرنا في تقييمها على المقياس النظري, كذلك تعد ناقصة إذا اكتفينا بالمقياس الحسي العملي لتقييمها؛ لأن كلا منهما يمثل نصف

_ 1 المشكلة الخلقية ص 44. 2 المرجع نفسه ص 47.

القيمة وباجتماعهما تكتمل القيمة الحقيقية للأخلاق, ولكن المعرفة النظرية للأخلاق لا تستوجب التطبيق العملي كما يدعي "سقراط", ذلك أننا نعرف في حياتنا قيمة أشياء كثيرة ولكن بالرغم من ذلك نتكاسل عن تنفيذها أو العمل بمقتضاها, نعم إن المعرفة بقيمة الشيء عامل مشوق ودافع إلى العمل به ولكن ليس كل ما نتشوق إليه نفعله بالضرورة. والنتيجة التي ننتهي إليها من هذا كله هي أننا إذا أردنا أن نتذوق قيمة الأخلاق تذوقا حقيقيا فعلينا أن نجمع بين القيمتين, إذ إن قيمة الأخلاق تختلف عن غيرها كقيمة نوعية مستقلة تمتاز بما يجتمع في كيانها القيمة العقلية والوجدانية والحسية, ولهذا فقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجمع بين الأمرين عندما قال: "عليك بالعلم فإن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق أبوه واللين أخوه والصبر أمير جنوده" 1.

_ 1 الجامع الصغير جـ2 ص 62.

أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية

أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية الأولى: المعرفة والإبداع والاختراع وإتقان العمل ... ثالثا: أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية: وتظهر حقيقة القيمة العملية للأخلاق في النتائج العملية الآتية: الأولى: المعرفة والإبداع والاختراع وإتقان العمل: قد يبدو لأول وهلة أن هذه النتيجة غريبة على التطبيق العملي للأخلاق. لكن عندما نمعن النظر في فلسفة مفهوم "ينبغي" في التفكير الأخلاقي نجد تلك النتيجة طبيعية للتطبيق العملي للأخلاق؛ إذ إن هذا المفهوم يدعو إلى أمرين, أولهما: البحث عن العمل الأخلاقي المثالي الذي ينبغي تنفيذه, وثانيهما: البحث عن الطريقة المثالية التي ينبغي أن يتم التنفيذ بها, والبحث الأول يؤدي إلى المعرفة أو الكشف عن حقائق جديدة. والبحث الثاني يؤدي إلى

الكشف عن مناهج وأساليب فنية للتطبيقات العملية. وهذه المثالية في البحث عن أنفع عمل الناس وأفضل طريقة لتحقيق الأعمال هي فكرة ملازمة للإنسان الأخلاقي؛ إذ إنه كلما يحقق عملا في ضوء هذه الفكرة يعود ليسأل نفسه: هل ما حققته هو العمل المثالي الذي ينبغي تحقيقه؟ وهل يمكن تحقيقه بصورة أكثر مثالية من الصور السابقة؟ وهل هناك أكثر نفعا من السابق وما السبيل إلى ذلك؟ وهكذا كلما حقق عملا مثاليا يبحث عن عمل أكثر مثالية كريمة يبحث عن حياة أكثر مثالية وسموا؛ وذلك تطبيقا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرفها ويكره سفسافها" 1, وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرنا فيما سبق2, ولا شك أن ذلك كله سوف يؤدي إلى الإبداع والإتقان في العمل والأداء والكشف عن حقائق جديدة واختراع وسائل لأداء أعمال عظيمة إلى جانب أن الأخلاق تدعو إلى السعي إلى الأفضل واختيار البديل الأولى في كل الأمور وكل ذلك وسيلة للتقدم الحضاري. ومن ذلك تظهر فائدة مفهوم المعيارية أو المثالية في التفكير الأخلاقي, ولا يحق لهؤلاء الذين يهاجمون التفكير الأخلاقي بدعوة أنه غير علمي؛ لأنه لا يخضع للمعايير العلمية الموضوعية. ويقولون: إن الأخلاق المعيارية غير محددة وإن مفهوم "ينبغي" مفهوم غامض غير محدد. والحقيقة -كما تتبين مما سبق- أن عدم محدودية مفهوم المثالي أو "ينبغي" هو من أهم مميزات هذا التفكير؛ لأنه هو الذي يدفع الإنسان إلى البحث الدائم عن الأعمال الأخلاقية المثالية وهو الذي يدفع الإنسان إلى السمو والرفعة باستمرار وإلى الأفضل.

_ 1 الجامع الصغير جـ 1 ص 75. 2 راجع موضوع المعايير الخارجية في الإسلام وقد سبق ذكره.

الثانية: توجيه الذات الإنسانية وتوحيدها

الثانية: توجيه الذات الإنسانية وتوحيدها: عرفنا فيما مضى أن طريق الخير هو الطريق السوي وهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه. وأن الأخلاق الإسلامية توجه الإنسان إلى هذا الطريق وتدعوه إليه؛ لأنه طريق الفلاح والنجاح في هذه الحياة قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وعرفنا أيضا عندما درسنا الطبيعة الإنسانية وجود دوافع ونوازع مختلفة فيها تتصارع هذه الدوافع والنوازع فيما بينها وكل واحد يدفع الإنسان إلى تحقيق رغبته بدون قيد أو شرط وبينا أيضا أن في الإنسان لمة الملك تدعو إلى فعل الخيرات وفيه أيضا لمة الشيطان تدعو إلى اتباع الهوى وإشباع الغرائز الشهوية ولو ترك كل قوة من هذه القوى والنزاعات وفي ذلك شقاء للإنسان ويقول علماء النفس: إن الصراع النفسي في داخل الذات من أهم أسباب الأمراض النفسية وتعاسة الإنسان في الحياة فقالوا: "الأساس الأول في تكوين العقد هو الكبت نتيجة الصراع"2, وقالوا: إن توحيد الذات هو وسيلة السعادة وهو وسيلة القضاء على القلق والصراع والخوف3, وقالوا أيضا: إنه لازدياد سعادة شخص لا يجوز أن نزيد فقط من مجموع لذاته وإنما نعمل أيضا على تحسين شخصيته وتقويتها وانسجام عناصرها وتوحيد وجهتها4, ولهذا يرى بعض علماء التربية الأخلاقية: "الغرض من التربية هو تكوين شخصيات قوية متماسكة".5

_ 1 الأنعام: 153. 2 أسس الصحة النفسية للدكتور عبد العزيز القوصي ط 5 ص 133. 3 علم النفس: أسسه وتطبيقاته التربوية، الدكتور عبد العزيز القوصي ط 7 ص 298. 4 المرجع نفسه ص 300. 5 علم النفس: أسسه وتطبيقاته التربوية، الدكتور عبد العزيز القوصي ط 7 ص 300.

والأخلاق الإسلامية بصفة خاصة تجعل المرء يتغلب على نوازع النفس المختلفة وتجعله كذلك يسلك طريقا واحدا هو طريق الخير قاصدا الوصول إلى الكمال الإنساني ولذلك يكون الشخص الأخلاقي قوي الإرادة متوحد الذات يسير في طريق واحد ويسعى لتحقيق غاية واحدة. أما الشخص غير الأخلاقي فتنتابه النوازع المختلفة وتتشتت ذاته بين الاتجاهات المختلفة ويصبح أخيرا ضحية الصراع النفسي وشتان بين هذا الشخص وذاك, وصدق الله العظيم إذ قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1, وقال أيضا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 الملك: 22. 2 الزمر: 29.

الثالثة: اكتساب تنمية القيمة الإنسانية

الثالثة: اكتساب تنمية القيمة الإنسانية: تزيد قيمة الإنسان بقدر عمله بالمبادئ الأخلاقية؛ لأن الأخلاق من أهم مميزات السلوك الإنساني ومميزات الإنسان عن سائر الحيوان والإنسان يقاس بالإنسانية ولا تقاس الإنسانية بالإنسان. نعم إن للإنسان كرامة مدئية معطاة له من قبل الخالق منذ أن خلقه مصداق ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 1, وهذا التكريم ليس بتسخير أمور له لم تسخر لغيره فحسب, بل هناك تكريم في خلقه إذ خلقه في أحسن صورة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 2, وركب فيه من القوى والإمكانات مثل قوة الإدراك والتمييز وغيرها من القوى التي يمتاز بها {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ, الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ

_ 1 الإسراء: 70. 2 غافر: 64.

فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 1, ثم بما تحمل من المسئوليات الأخلاقية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} 2, وكانت الأمانة أن يميز الحق من الباطل والخير من الشر وأن يعرف للحق حقه ويتبع الخير ويتجنب الشر في هذه الحياة, وبتحمل تلك المسئولية أصبح خليفة الله في أرضه لأداء الأمانة يحكم بمقتضى المسئولية ويأمرالناس باتباع الحق واتباع طريق الخير {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ, وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ, أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3, لكن إذا خان الإنسان تلك الأمانة وألبس الحق بالباطل واتبع طريق الشر بدل الخير وأزال عن نفسه تلك الكرامة ارتد إلى أسفل المخلوقات {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ, ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌغَيْرُمَمْنُونٍ} 4, أما الذين يؤدون تلك الأمانة فيحتفظون بتلك الكرامة, ولهذا استثنى الله أولئك الذين يحترمون إنسانيتهم وكراماتهم فيعطون لله حقه, ويتبعون طريق الخير. وبذلك يكتسب المؤمنون الصالحون العزة والكرامة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 5, ومن كان يريد لنفسه الكرامة والعزة فليتقرب إلى صاحب العزة ومعطي الكرامة وليتبع طريقه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 6, وإن الله يرفع كل ذي فضل على قدر فضله ويؤتي أجره بقدر ما يعمل من الخيرات قال

_ 1 الانفطار: 6-8. 2 الأحزاب: 72. 3 البقرة: 42- 44. 4 التين: 4-6. 5 المنافقون: 8. 6 فاطر: 10.

تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1, {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} 2, ولا يمكن أن يستوي الإنسان الذي يعمل بالمبادئ الأخلاقية والذي لا يعمل بها، ولا يستوي الذي يعمل الخير والذي يعمل الشر قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} 3, وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4, {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ, وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 5, ثم إن الإنسان الذي يعمل بمقتضى القيم الأخلاقية لا تزيد قيمته ودرجته وجزاؤه عند الله فحسب بل تزيد قيمته الإنسانية بين الناس فيكون له الشرف والمكانة الأدبية في المجتمع, فيجد القبول والاهتمام به والمودة والتقدير من الناس فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 6, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض، وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض" 7, وروي عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن" , تلك هي القيمة الأدبية التي ينالها الإنسان المتخلق في البيئة الاجتماعية التي يحيا فيها, ولا شك أن تلك القيمة لا تقدر بثمن لمن يقدرها ويعرف قيمتها, ثم إن الأدب زينة الإنسان وبقدر ما يتأدب مع الناس يوثق به ويعتمد عليه ويسند إليه المهام.

_ 1 الأنعام: 132. 2 هود: 3. 3 المائدة: 100. 4 ص: 28. 5 الانفطار: 13-14. 6 مريم: 96. 7 التاج جـ 5 ص 79. 8 المرجع نفسه.

الرابعة: القيمة المادية

الرابعة: القيمة المادية: عندما نعيد النظر إلى ما كتبناه في الباب الأول نجد أن التطبيقات العملية للقيم الأخلاقية تؤدي إلى كثير من المنافع أو القيم المادية, ولا أريد هنا إعادة ما كتبت في هذا المجال، ولكن أريد أن أستخلص مما كتبت قيمتين مهمتين لكل مجتمع في الحياة العملية: وهما القيمة الاقتصادية والقيمة الصحية. أما القيمة الاقتصادية فيغفلها الاقتصاديون ويخطئون عندما لا ينظرون إلى الأخلاق من هذه الزاوية ولا يهتمون بها, ذلك أن الأخلاق تدعو إلى عدم الإسراف والتبذير, وإلى الجد في العمل وإتقانه, وإلى العمل من أجل الناس سواء أكان ذلك بالمساعدات المختلفة أم باختراع العلوم والآلات الصناعية التي تؤدي إلى نفع الناس عامة, وقضاء حوائجهم أو حل مشكلاتهم, ومن جهة أخرى نراها تدعو إلى عدم الغش والاختلاس, مما يضر اقتصاديات الأفراد والمجتمع عموما. وباختصار القول تظهر قيمة الأخلاق الاقتصادية في ناحيتين: في ناحية الإنتاج إذ الأخلاق تدعو إلي المثابرة وإلى مزيد من الإنتاج, وإلى اختراع ما يفيد المجتمع ويحل مشكلته, وفي ناحية الإنفاق, إذ إنها تدعو إلى عدم الإسراف وعدم الإنفاق إلا فيما يجب الإنفاق فيه. ولا ينمو الاقتصاد إلا بهاتين الطريقتين: كثرة الإنتاج والاقتصاد في المصروفات. ثم إن الإنسان المتخلق يجد ما يسد حاجته عند الملمات؛ لأن الناس يقدرونه ويردون إليه عند ذلك مثل إحسانه إليهم أو يعطونه دينا لثقتهم به, وهناك قيمة اجتماعية ينالها الإنسان المتخلق. أما القيمة الصحية فإننا عرفنا أيضا أنها تدعو إلى الابتعاد عن جميع الأمور والأفعال التي تضر الصحة مثل المخدرات والقذارة والفاحشة وكثرة الأكل

والتنطع والتطرف في أي عمل, كما تدعو إلى الابتعاد عن الأماكن الموبوءة وعن الاتصال بالناس المصابين بالأمراض الخبيثة المعدية, ومراعاة النظافة: نظافة الظاهر والباطن والبيئة, وكل هذه الأمور من أسس الصحة ولا يمكن أن يحتفظ الإنسان بصحته إلا بتطبيق تلك المبادئ الأخلاقية عمليا. هذا إلى أن للأخلاق قيمة عملية أخرى وهي أنها تدعو إلى أن يكون الإنسان نشيطا مجدا فعلا يكسب رزقه بشرف وأمانة وتدعو -إلى جانب ذلك- إلى الجلد والصبر والثقة بالنفس وقوة الإرادة, والسعي لمزيد من الإنتاج لمزيد من الإنفاق والخير وكل ذلك يؤدي إلى تحمل أعباء الحياة بالصبر والشجاعة دون التبرم والضجر, وهذا يؤدي بدوره إلى منافع وقيم مادية في مجالات الحياة المختلفة.

الخامسة: القيمة المعنوية

الخامسة: القيمة المعنوية: إن أهم قيمة معنوية يؤدي إليها التطبيق العملي للمبادئ الأخلاقية هي الإحساس الدائم بالسرور والطمأنينة القلبية والشعور بخيرية الذات وخيرية المصير ويمكن أن نعبر عن هذه الحقيقة بأنها الإحساس بالسعادة الروحية. وهذه الحقيقة نتيجة طبيعية للتطبيق العملي للأخلاق, ذلك أن الإنسان عندما يعمل بمقتضى عقيدته فيؤدي الواجبات كما ينبغي أداؤه، ويتجنب المحرمات ويوجه طاقاته نحو الأهداف السامية ويحققها خطوة خطوة وجزءا جزاء. يشعر عندئذ بأنه إنسان خير قوي الإرادة سائر في طريق خير نحو غاية خيرة, ولا يعوق إحساسه هذا ما يلاقي أحيانا في هذا السبيل من معوقات أو مشقات. بل يزيد إحساسه بالسعادة؛ لأنه عندئذ يشعر أنه يكافح من أجل خير نفسه وخير الإنسانية إذ إن

الإنسان الخير لا بد من أن يعمل لخير الإنسانية, يضاف إلى هذا ما يجد من التقدير الأدبي من الناس وهو سائر في هذا الطريق. إن هذا العمل بهذا الإحساس هو سبيل السعادة الروحية التي تلازمه باستمرار, أما الانهماك في الملذات على حاسب الأخلاق فليس وسيلة السعادة بل هو وسيلة الشقاء ذلك أن الإنسان المنحرف يشعر دائما بالدناءة وتأنيب الضمير, وهذا سبب لإحساسه بالقلق والشقاوة. وهذه الحقيقة يدركها من يصغي عن قرب إلى أنين قلوب أولئك الذين انحرفوا عن الطريق السوي. ومن يقرأ كتاباتهم وأشعارهم. ولا ننكر أيضا ما يعبرون به عن ملذاتهم الوقتية, إلا أن ما يعانونه من الشقاء النفسي والعذاب الروحي يساوي أضعاف ما يتمتعون به من اللذات أمام لذة الفضيلة إن صح هذا التعبير فهي دائمة لا تنقطع. وهكذا نجد أن الأخلاق طريق الإنسانية ومن يخرج عن هذا الطريق تعاقبه الإنسانية: الإنسانية المكنونة في ضمير كل فرد أخلاقي ومن سار فيها تكافئه بالسعادة الروحية، وهي أغلى قيمة تهدف الأخلاق لتحقيقها للإنسانية. وبعد هذا لنا أن نسأل ما الهدف من الأخلاق, الفرد أم المجتمع, وما قيمة الفرد وما قيمة المجتمع في الاتجاه الأخلاقي في الإسلام؟ هذه النقطة جديرة بالمعالجة؛ لأنها تؤثر تأثيرا كبيرا في النظام الخلقي للحياة, ولهذا فهي تحتاج إلى معالجة مفصلة خاصة. وهذا ما سنحاوله في الفصل التالي.

الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع

الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع أهم الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع ... الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع أولا: أهم الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع: هناك اتجاهات في تنظيم الحياة الاجتماعية وفقا للقيم الأخلاقية, أحدهما يجعل الصدارة للمجتمع والآخر يجعلها للفرد. والاتجاه الأول يرى أن يعيش الفرد من أجل المجتمع, وعليه أن يخضع لإرادة الجماعة خضوعا تاما في رأيها وغايتها, وإذا كانت له حرية النقد فذلك في مجال التطبيق لا في مجال النظرية, وإذا كانت له حرية العمل فذلك للبحث عن أنفع أسلوب لأداء أكبر قدر ممكن من العمل لكن ينبغي أن يتم ذلك في إطار الواجبات العامة التي تفرضها الجماعة على الأفراد, لتحقيق مصلحة للجماعة أولا. ولا قيمة للأفراد إلا باعتبارهم أداة خدمة وإنتاج للجماعة؛ لأن الفرد لم يوجد إلا من أجل هذه الغاية. أما الاتجاه الثاني فيعترف للفرد بقيمته وحريته ومسئوليته, إذ لم ينشأ النظام الاجتماعى إلا لتحقيق مصالح الأفراد عن طريق الحرية وإزالة العوائق بين الأفراد. فقيمة المجتمع إذن مرهونة بقيمة أفراده ولهذا يجب مراعاة مصلحة الأفراد واحترامهم ولا ينبغي اتخاذهم أداة طيعة أو وسائل للإنتاج الجماعي1. وأما من الناحية الأخلاقية فيرى أصحاب الاتجاه الأول النزعة الاجتماعية نزعة فطرية في الطبيعة الإنسانية فالفرد يميل إلى الاجتماع بطبيعته2.

_ 1 التربية المقارنة, الدكتور وهيب سمعان, ص 49-55. 2 فلسفة أوجست كونت. ليفي بريل. ترجمة الدكتور محمود قاسم والدكتور السيد محمد بدوي, ص 326.

ولذا فالإيثار والغيرية في السلوك الأخلاقي ينبعان من فطرة الإنسان, إذن فالأخلاق فطرية في الإنسان وعلى الإنسان والمجتمع أن ينميا هذا الدافع الفطري1. وأما أصحاب الاتجاه الثاني فيرون أن الأثرة والأنانية غريزة في طبيعة الإنسان فهو لا يسعى إلا وراء منفعته الخاصة, وإذا سلك أحيانا السلوك الاجتماعي الغيري مثل العدالة والإحسان والتعاون؛ فذلك لأنه يريد تحقيق مصالحه الخاصة2؛ ولأنه يرى أنه لا يستطيع أن يعيش إلا بالتعاون مع الناس.

_ 1 المشكلة الأخلاقية. أندريه كرسون. ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود وغيره, ص 93. 2 المرجع نفسه ص 91 وانظر كذلك مقدمة لعلم النفس الاجتماعي. الدكتور مصطفى سويف جـ2 ص 37، مقدمة في فلسفة التربية. الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 277.

اتجاه الإسلام في الموضوع

ثانيا: اتجاه الإسلام في الموضوع: إن الإسلام بنى نظامه الخلقي على أساس نظرته إلى قيمة الفرد وقيمة المجتمع معا. وقد رأينا فيما سبق أن الأخلاق تكتسب بعض قيمتها من قيمة الذات الإنسانية الفاعلة وهذه الأخيرة إما تكون فطرية وإما إضافية ونريد بالقيمة الفطرية تلك الكرامة الطبيعية التي أعطاه الله إياها منذ أن خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 3, ونريد بالقيمة الإضافية تلك التي يكتسبها الإنسان عن طريق ممارسته للفضيلة, مثل الإيمان بالله والإحسان إلى الناس والتعلم وما إلى ذلك4

_ 1 الإسراء: 70. 2 ويقسم الدكتور محمد عبد الله دراز الكرامة الإنسانية إلى ثلاثة أقسام فيقول: "إن الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصية الإنسانية كرامة مثلثة: كرامة هي عصمة وحماية, وكرامة هي عزة وسيادة , وكرامة هي استحقاق وجدارة: كرامة يستغلها الإنسان من طبيعته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وكرامة تتغذى من عقيدته. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وكرامة يتوجهها بعمله وسيرته {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} , {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . انظر: نظرات في الإسلام ص 97.

ولذا قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1, وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة" 2, ولا شك أن العلم يكتسب بالجهد الفردي, وكذلك الفضيلة، والقيمة التي ترجع إلي الإرادة وهي الإرادة الخيرة أو مدى إخلاص الإنسان في عمله الأخلاقي. وكلما زاد إخلاص الفرد وقيمته الذاتية زادت قيمة عمله الأخلاقي كما يفهم ذلك من الحديث السابق وكما يحس به كل منا في حياته العملية. ولنضرب لذلك مثلا بالرجل الذي رأى إنسانا قد أقعده ثقل حمله من مواصلة السير إلى حيث يريد وبقي جالسا على قارعة الطريق. فلو أنه حمله عنه أو حمله إلى آخر، فمتى كان هذا المساعد عالما فاضلا من كبار القوم فإن تقديرنا لعمله سيكون أكثر من تقديرنا لهذا العمل الذي كان من إنسان عادي مع أن العمل في كلتا الحالتين واحد. إذن للفرد قيمة وتزيد قيمة عمله بحسب قيمة شخصيته وإرادته للخير وهذا قد بيناه، كما بينا أن هناك حاسة أخلاقية تدفع المرء إلى السلوك الأخلاقي وتميز بينه وبين غيره. إذن الأخلاق ليست سلوكا مجردا يصنع يتخذه المرء وسيلة لقضاء مآربة النفعية، كما يدعي ذلك أنصار المذهب الأناني. وأما فيما يخص قيمة المجتمع فنرى أنها حصيلة لجمع القيم الفردية التي تستقل كل قيمة فردية منها بذاتها ونسبة تلك القيمة الكلية شبيهة بنسبة حصيلة الخزينة إلى كل درهم تحتوي عليه. ثم إن الإسلام يخلع على تلك القيمة الاجتماعية الكلية طابعه الخاص. فقد عرفنا أن الإسلام اهتم بالحياة الاجتماعية عندما دعا إلى الحياة مع الناس ونهى عن العزلة بدليل أنه فضل العبادة مع

_ 1 المجادلة:11. 2 الجامع الصغير جـ 2 ص 75.

الجماعة على عبادة المنفرد فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا" 1, وقال: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة" 2. وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه" 3, وقال أيضا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا" 4. وقالوا يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم؟ فقال: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" 5. لكنه لا ينبغي أن يفهم من هذا وجوب الطاعة لهم ولو أمروا بمعصية إذ نهى الرسول عن ذلك فقال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 6. لكن للمرء أن يلجأ إلى العزلة في الظروف الاستثنائية كأن يعم الفساد في المجتمع ويعجز المرء عن مقاومته مع الخوف على النفس من أن يصيبها هذا الفساد، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" 7. وقال أيضا: "تكون فتن القائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليستعذ" 8.

_ 1 رياض الصالحين. فضل صلاة الجماعة ص 406. 2 التاج جـ 5، باب الانضمام إلى الجماعة ص 308. 3 التاج جـ 5 ص 308. 4 فتح الباري جـ 13 ص 57. 5 التاج جـ 5 ص 308. 6 فتح الباري جـ 16، كتاب الأحكام باب السمع والطاعة ص 240. 7 رياض الصالحين، باب العزلة من فساد الناس ص 265. 8 صحيح مسلم جـ 18 ص 8، كتاب الفتن.

أما في غير هذه الظروف الاستثنائية فيجب الاختلاط؛ لأن الاختلاط فضيلة إنسانية وهو ضرورة لتكامل الإنسان وتفادي كثير من الأضرار الناتجة عن العزلة ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" 1. وقال: "المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس" 2. وقد ذكر الغزالي كثيرا من فوائد المخالطة منها التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس والتجارب، وذكر كثيرا من مضار العزلة النفسية والخلقية فيقول مثلا: "إن الإنسان بالمخالطة يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة.. فالصبي إذا اعتزل بقي غرا جاهلا3.. وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم ينشرح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحاكيها. فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثل دُمَّل ممتلئ بالصديد والمُدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن معه من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه واعتقد فقده. ولكنه لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الاسترسال، فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق

_ 1 التاج جـ 5 ص 51. 2 كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ 2 ص 408. 3 ينبغي أن ننبه هنا إلى أن الاختلاط يجب أن يكون مع أصحاب الخلق وخاصة بالنسبة إلى الأولاد؛ لأن الاختلاط بالناس الفاسدين من أهم أسباب الفساد الخلقي.

الذميمة إنما تنفجر من خبائثه إذا حرك"1. ويقول أيضا: "إن المخالطة ارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفوس وقهرا للشهوات وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه"2. ولم يكن الغزالي هو وحده الذي تكلم عن مضار العزلة، بل هناك علماء النفس الذين هاجموا العزلة وتكلموا عن مضارها. فهذا "هورني" يرجع أحد أسباب القلق في الحياة إلى العزلة3 وهذا "دور كايم" يرجع أحد أسباب الانتحار إلى انقطاع ارتباط الفرد عن المجتمع4 ويرجع "وليم مكدوجل" بعض العيوب الخلقية إلى العزلة ويقول: إن المعاشرة والاجتماع وسيلة للقضاء على مثل هذه العيوب5. ولهذا كان الإسلام حكيما عندما ربط الفرد بالمجتمع ربطا كربط العضو بالجسم فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 6. وتشويقا إلى الاجتماع وتنفيرا من العزلة والافتراق قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ, وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا

_ 1 إحياء علوم الدين جـ 2 ص241. 2 المرجع نفسه جـ 2 ص238. 3 الصحة النفسية. الدكتور مصطفى فهمي ط2 ص 191. 4 المصدر نفسه ص54. 5 الأخلاق والسلوك في الحياة. وليم مكدوجل. ترجمة جبران سليم إبراهيم ص 211. 6 صحيح مسلم بشرح النووي، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، جـ 16 ص 139.

مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة فعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمتي إلا على هدى" 2. من هذا كله يتبين لنا أن قيمة الجماعة أعظم من قيمة الفرد من حيث إنها مجموع القيم من جهة ومجموع العقول من جهة أخرى، ثم إن المجتمع ضرورة للفرد إذ إنه بحاجة إليه من الناحية النفسية ومن ناحية القوة. ولكن هل معنى هذا أن الفرد مجرد وسيلة لتحقيق أغراض الجماعة، أو أن قيمته ينبغى أن تقاس بمدى ما يحقق من هذه الأغراض ويسعى لها؟ الحقيقة أن الإسلام ينظر إلى الفرد باعتباره عضوا مستقلا في المجتمع، له كرامة وحرية ومسئولية. زد على هذا أن مسئوليته لا تقتصر على نفسه بل تتعدى إلى المجتمع أيضا. ولا يصح أن يُتَّخذ الإنسان وسيلة لمآرب أخرى؛ لأنه غاية في ذاته ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة: "يا أبا هريرة إذا استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فافعل تكن من المقربين ولا تتخذن أحدا من خلق الله غرضا فيجعلك غرضا لشرر جهنم يوم القيامة" 3. كذلك لم يجعل المجتمع مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الفردية ولهذا لا يصح استغلال المجتمع لتحقيق المنافع الشخصية أو الأغراض الأنانية.

_ 1 آل عمران: 103، 105. 2 مسند الإمام أحمد عن أبي ذر وانظر كذلك تحفة الأحوذي بشرح الجامع الترمذي جـ6 ص387. 3 فيض القدير جـ6 ص 388.

إذن فلكل من الفرد والمجتمع شخصية وكرامة مستقلة ولكن هناك ارتباط بينهما من ناحية أخرى وهي أن السلوك الأخلاقي لا يمكن أن يتصور إلا بوجود طرفين: أحدهما مبدؤه والآخر منتهاه، وأحدهما معطٍ والآخر آخذ، أحدهما قاصد فاعل والآخر مقصود مفعول له، فمثلا الإنسان الذي يريد فعل الخير لا يمكن أن يريد الفعل نفسه وإنما يريد إيصال نفع بسببه إلى الآخر، إذن الغاية من الفعل ليس الفعل ذاته، وإنما ذات شخص آخر سواء كان الفاعل فردا أو جماعة، إذن لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر من الناحية السلوكية حتى إن عمل الإنسان لنفسه يمكن أن ننظر إليه من زاوية اجتماعية؛ لأنه عضو في المجتمع وكل عمل يعود عليه نفع أو ضرر يتردد صداه في المجتمع. إذن فمن العسير أن نضع حدودا حاسمة بين ما نسميه الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية، ولا يمكن تصور ذلك إلا من ناحية واحدة وهي ناحية الغاية الأخلاقية، فإذا اتخذت الذات الفاعلة الغاية من سلوكها تحقيق أمر لنفسها دون مراعاة الغير عند اتخاذ الغاية وعند اتخاذ الوسائل لتحقيق تلك الغاية. وإذا خرج هذا السلوك من الأخلاق من حيث الظاهر لكن من حيث الواقع تبقى هناك صلة، ذلك أنه ما من عمل يقوم به الإنسان لنفسه إلا وكان لغيره منه نصيب إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ولنضرب لذلك مثلا بالرجل السكير فالسكير لا يستطيع الاحتجاج بأنه حر في أن يحقق لنفسه ضربا من المنفعة، إذ إن عمله يعود على نفسه وعلى ذريته وعلى المجتمع بالضرر، وكل سلوك ضار بصاحبه ضار بغيره ولو بطريق غير مباشر، هذه حقيقة يدركها من يدرسها دراسة علمية واعية. من هذا كله نستطيع أن نحكم بأن كل سلوك وكل عمل له صفة أخلاقية

فردية واجتماعية معا، وذلك بصرف النظر عن سمته الغالبة وعما يتراءى للناس من مظهره الخارجي. لكن هل النظام الأخلاقي في الإسلام يراعي مصلحة الفرد أو مصلحة الجماعة من الناحية التشريعية؟ ليس من الممكن أن نؤكد بصفة عامة أنها أخلاق فردية فحسب أو أخلاق اجتماعية.

أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية

أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية النوع الأول: ينزع منزعاً فردياً ... ثالثا: أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية: نستطيع أن نفرق بين ثلاثة أنواع متميزة من الأخلاق في هذا المجال في إطار أخلاقي في الإسلام. النوع الأول: ينزع منزعا فرديا: رأينا أن السلوك لا يوصف بأنه أخلاقي إلا إذا كان يتسم بالغيرية، ولو كان الهدف منه الذات الفاعلة نفسها. وبقدر ما تجرد من الأنانية واتسم بالغيرية كانت الصفة الأخلاقية فيه أبرز وأوضح. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يصح لنا أن نصف السلوك الفردي الذي يدور حول الذات الفردية وحدها بأنه سلوك أخلاقي؟ وكيف نجمع الفردية الأنانية والغيرية في آن واحد؟ هذا يمكن جمعه وتصوره من الناحية النظرية والعملية معا، ولتجسيد هذه الفكرة يمكن أن نضرب لذلك مثلا بالشخص المنتحر فهو من ناحية فاعل ومن ناحية أخرى مفعول، ومن الناحية الغائية أصبحت الذات الفاعلة نفسها وسيلة وغاية في الوقت نفسه، إذ يمكن أن نتصور الذات فردين من هذه الزاوية لوجود الطرفين في السلوك مع الغاية، ونستطيع تقويم أي سلوك من هذا القبيل بالمعايير الأخلاقية: فالانتحار هنا فعل شر وغير أخلاقي؛ لأنه فعل هدام وليس بناء وهو يهدف إلى هدم شيء قيم هو إنسان ثم إنه يصدر بنية إعدام قيمة.

ثم إن النفوس في نظر الإسلام متساوية من حيث الأصل وهي ملك الله فلا يحق لأحد أن يتصرف فيها، ولو في نفسه كما يشاء، بالإهمال، أو الإهدار ولهذا فالإنسان يلقى عقابا من الله على إهدار نفسه كما يعاقب على إهدار نفس غيره، لذا حرم الانتحار فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 1. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا حز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة" 2. هذا من ناحية الإضرار بالنفس بقصد أو بغير قصد، أو من زاوية النظر إلى العمل الفردي الشخصي غير الأخلاقي، ولننظر إلى العمل الشخصي النافع أو الأخلاقي ولنضرب لذلك مثلا بشخص آخر يعتني بصحته ويهدف من وراء ذلك إلى القيام بأعمال يعود نفعها على نفسه وعلى غيره، فالاعتناء بالصحة عمل شخصي ولكنه عمل بناء بصرف النظر عن غايته، وكما أنه مفيد نافع لذاته فهو مفيد لغيره أيضا؛ لأن الناس الآخرين ينتفعون من صحته وأعماله بطريق غير مباشر وإن لم يكن قد قصد ذلك، هذا إلى أنه متى قصد منه خدمة الناس اعتبر هذا العمل أخلاقيا من ناحيتين معا: من ناحية المظهر ومن ناحية المعنى؛ لأنه يهدف إلى دوام قيمة من ناحية، وإيصال قيم إلى الآخرين من ناحية أخرى ولهذا قد عد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمل الإنسان الخير لنفسه عملا أخلاقيا فقال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" 3.

_ 1 النساء: 29. 2 التاج، باب أظلم الناس من يظلم نفسه، جـ 5 ص 23. 3 صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي جـ 2 ص 692.

بل إن الإسلام عد كل عمل إيجابي بناء، ولو كان من الأعمال العادية عملا أخلاقيا خيرا، ما دام يتم ذلك بنية الخير، بل إن إشباع المرء لحاجاته الأولية يعد خيرا بتلك النية الخيرة. نخلص من هذا كله إلى أن عمل الإنسان لنفسه على اعتبار أنه فرد من المجتمع له قيمة أخلاقية؛ لأنه مكلف برعاية هذه النفس وحفظها وهذا يعد عملا أخلاقيا واجتماعيا من ناحيتين: الأولى أنه بذلك يؤدي واجبا إلهيا. والثانية أنه بذلك يضع حجرا سليما في بناء المجتمع؛ لأن سلامة هذا المجتمع متوقفة أيضا على سلامة أفراده ولهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- دقيقا للغاية عندما شبه في الحديث السابق المجتمع بالجسد الواحد، والأفراد بالأعضاء1. إذن عمل الإنسان الشخصي يدخل من هذه الزاوية في إطار الأخلاق الفردية، وإن لم يخلُ في الوقت نفسه من صبغة اجتماعية.

_ 1 انظر ص 361.

النوع الثاني: ينزع منزعا اجتماعيا

النوع الثاني: ينزع منزعا اجتماعيا: وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول، وهو الأعمال التي يقوم بها مجموعة من الناس بقصد تحقيق غايات تتصل بهم أو بغيرهم وهذا النوع من الأخلاق منه واجب ومنه ما ليس واجبا فالدفاع عن الدين والوطن ضد الاعتداءات الخارجية واجب اجتماعي وليس المسئول عنه هنا فرد معين أو طائفة معينة بل المسئول كل المجتمع وكل فرد قادر على الدفاع ولهذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} .1

_ 1 التوبة: 36.

وكذلك قتال العابثين بأمن المجتمع ونظامه سواء كانت هذه الجماعة الخارجة من المسلمين أو غير المسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. ويصبح هذا الواجب عينيا في كلتا الحالتين إذا لم يتم إلا بمشاركة الجميع، ويدخل في هذا القسم كل تعاون جماعي في سبيل الخير إذا كان عمله يحتاج إلى هذا التعاون {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . أما القسم الثاني: فهو كل الأعمال التي يقوم بها المرء من أجل الغير بإرادة مخلصة لإيصال الخير إلى الغير، وهذا الشرط الأخير هو الفيصل الحاسم بين السلوك الفردي والاجتماعي بين السلوك العادي والسلوك الفاضل. أو السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي. ذلك أنه لو قصد من إيصال هذا الخير مقابلا -أيا كانت صورته- المَنَّ أو التظاهر.. إلخ فإن هذه العملية لا تعد عملية أخلاقية وإنما تعد -كما قلنا- صفقة تجارية, والإ فما الفرق بين تاجر يعطي البضاعة ويطلب بدلها نقدا أو تعويضا وبين هذا الإنسان الذي يريد مقابل عمله شيئا آخر بل قد يكون ضرر هذا أكثر بالنسبة للغير؛ لأنه ربما كان هذا يريد من مساعدته مقابلا أكثر مما يستحق عمله فهو بذلك يكون مرابيا؛ لأن إرادة الربا ربا أيضا. ومن هنا نرى أن كثيرا من الهدايا والمساعدات تجلب الخصومة والفرقة بين

_ 1 المائدة: 33. 2 المائدة: 2.

الناس؛ لأن هؤلاء عندما لا يحصلون على رغباتهم يلومون أولئك ويمنون عليهم, ولهذا كله قد منع الإسلام اتخاذ الأخلاق مآرب شخصية ووسائل تجارية، فقال تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 1, ووعد بمكافأة الذين لا يبتغون من وراء أعمالهم الخيرة المقابل أو المن فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 2. ومتى أردنا تقويم الأخلاقين الفردية والاجتماعية وجدنا أن الثانية أكثر التصاقا بالتفكير الأخلاقي من الأولى، من حيث المفهوم ومن حيث الغاية أيضا ذلك أن المقصود من الأولى خير الفرد في الدرجة الأولى بخلاف الثانية إذ المقصود منه خير المجموع في الدرجة الأولى، كما أن الأولى مهما كانت غايتها خيرة فإنها أكثر تعرضا للتهمة بالأنانية، ثم إن خير المجموع أفضل من خير الفرد بصفة عامة؛ لأن الفرد وخيره يعتبر قيمة واحدة بالنسبة إلى الجماعة التي هي مجموع قيم الأفراد ولهذا فإن الثانية ينبغي أن ترجح منطقيا في التنظيم الأخلاقي للحياة الإنسانية وإن كان لا يقتضي ذلك بصفة عامة إهدار قيمة الفرد في سبيل خير المجموع، وجعله مجرد وسيلة في يد الجماعة لتحقيق النفع لها؟ وينبغي أن نفرق هنا بين حالتين: حالة الضرورة وحالة الحرية، فإذا اقتضى الأمر في الحالة الأولى إهدار قيمة الفرد أو مصلحته من أجل إنقاذ قيمة الجماعة ومصالحها فلا مانع من ذلك بل هو واجب ولهذا يجب التضحية بالنفس في سبيل الدفاع عن الدين والوطن ضد الاعتداء الخارجي أو الداخلي ويجب ترجيح مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد إذا كانت مصلحته تعوق تحقيق مصلحة الجماعة.

_ 1 البقرة: 264. 2 البقرة: 262.

فمثلا إذا كان فتح الطريق يقتضي هدم بيت واحد من الناس فليهدم ويعوض إذا كانت الجماعة قادرة على التعويض، ولا يحق كذلك للفرد احتجاز واستملاك المنافع العامة1, ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن من حق مجموعة من الناس إذا اقتضت مصحلتهم المادية قتل إنسان وأخذ ماله، هذا شيء وما نقوله شيء آخر. وفي الحالة الثانية؛ يفضل العمل من أجل الجماعة على العمل من أجل فرد واحد, فلا شك إن إيثار الغير على النفس في الخيرات من أجل الفضيلة هو عين الفضيلة وهو عين الأخلاق ولهذا مدح الله الإيثار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ولا ينبغي أن يفهم هنا تعارض بين هذه الآية وبين قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- السابق: "ابدأ بنفسك في الإنفاق" إذ إن الحديث في حالة الضرورة فيما إذا كان الإيثار فيه هلاك لنفسه فالإنسان قد يعطي ما لديه من القوت وهو قوام حياته ولا يأكل منه حتي يمرض أو يموت وذلك إيثارا للفضيلة، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 3؛ لأن الحفاظ على الحياة فضيلة أيضا كما بينا ولأن قيمة النفس أغلى من قيمة الإنفاق في مثل هذه الحالة. إذن مهما يكن من تعارض بين الفردية والغيرية في الظاهر

_ 1 المغني لابن قدامة جـ 5 ص486. 2 الحشر: 9. 3 الإسراء: 29.

فلا بد من الاعتراف بهما معا في الحياة العملية مع التنسيق بينهما. حقا إن التنسيق بينهما من الصعوبة بمكان ولكن التنسيق أمر لا مفر منه, ولقد استطاع الإسلام تحقيق ذلك التنسيق وذلك بإعطاء كل منهما قيمة مع ترجيح الغيرية بالجبر أحيانا والاختيار أحيانا أخرى ومع ترجيح الأنانية أيضا في الحالات ثم ترك حرية الترجيح لأحد الأمرين إلى ضمير الفرد في بعض الحالات في الحياة العامة. وخلاصة القول: إن الإسلام اعتبر الفرد الحجر الأساس في المسئولية: مسئوليته عن نفسه ومسئوليته عن غيره وقد حدد له حقوقا وفرض عليه واجبات وترك له مجالا لحرية العمل يكافأ إن عمله ولا يعاقب إن تركه. وأخيرا فإن المرء متى أدى واجباته الأخلاقية نحو نفسه أو غيره بروح من الإخلاص فإن سلوكه يعد سلوكا أخلاقيا، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" 1, وقال أيضا: "على كل مسلم صدقة, قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق, قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف, قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير, قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة" 2.

_ 1 صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق جـ 18، ص125. 2 صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة ص 94.

النوع الثالث: أخلاقيات الحاكم المسلم

النوع الثالث: أخلاقيات الحاكم المسلم قد يبدو هذا التقسيم غريبا لأول وهلة ولا سيما إذا نظرنا إليه من زاوية

الأخلاق التقليدية الشائعة غير أن من يتأمل في النصوص الإسلامية ويتحقق في فحص التفكير الأخلاقي في الإسلام يجد ذلك حقيقة ويجد فيه حكمة. وإذا نظرنا إلى هذا النوع من الأخلاق من الزاوية الفردية والاجتماعية وجدناه وسطا بينهما، ذلك أن الحاكم من حيث إنه فرد من المجتمع ينبغي أن يتصف بما يتصف به أي فرد ومن حيث إنه يمثل جماعة فينبغي أن يكون رمزا مثاليا لإرادة وأخلاقية هذه الجماعة في شخصيتها وفي تنفيذ قوانينها، ونتيجة لذلك فقد تحمل مسئوليات تتجاوز حدود مسئوليات أي فرد آخر وأصبح هناك فرق بين عمله وبين عمل غيره ومن ثم اقتضى الأمر الالتزام ببعض الأخلاقيات الخاصة به بصفته حاكما ولا أقصد من الحاكم رئيس الدولة فحسب، بل أقصد أيضا كل من يتولى وظيفة اجتماعية تتصل بتحمل مسئوليات تتجاوز حدود مسئوليات الفرد العادي، ومن ثم كان عليه أن يتصف ببعض أخلاقيات خاصة, وأهم هذه الأخلاقيات ما يلي: 1- فضيلة العدالة في الحكم1: العدالة فضيلة في مجال الحكم وقصاص في مجال المعاملة، والعادل ممدوح في المجال الأول وليس بممدوح ولا بمذموم في المجال الثاني والحاكم مطالب بالعدالة وملزم بها بينما غير الحاكم مخير بين أخذ حقه كاملا بالتساوي وبين التجاوز عنه أو عن بعض حقه وإذا عفا يكون فاضلا وإن لم يعف لا يكون فاضلا ولا يكون كذلك ظالما: ذلك أن الإسلام قد حدد موقفه في ثلاث تصرفات أخلاقية في

_ 1 عالج الدكتور محمد عبد الله دراز هذه النقطة باستفاضة في كتاب: في الدين والأخلاق والقومية ص27 وكتابه الآخر نظرات في القرآن ص67 ومعالجتي لهذه النقطة في ضوء فكره في هذين المرجعين السابقين.

التعامل الاجتماعي، فالأولى الأثرة: وهي مذمومة عموما إلا فيما يتعلق باسترداد الحقوق؛ لأن الأمر إذا كان متعلقا بالمال فاسترداد المرء لأكثر من حقه ظلم لأنه يعتبر غصبا أو ربا, والثانية: الإيثار وهو التجاوز عن حقه أو بعضه وهذا فضيلة؛ لأنه صدقة، والثالثة: العدالة وهي أن يأخذ حقه دون زيادة أو نقصان وهذا ليس بفضيلة ولا برذيلة، ولهذا ذم الله السلوك الأخلاقي الأول وأشاد بالثاني وسكت عن الثالث في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ, وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ, إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. ونجد الروح نفسها في آية الربا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ, وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2, وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. هذا دليل نقلي والدليل العقلي يقتضي أيضا ألا يكون في العدالة فضيلة وقيمة أخلاقية في هذا المجال؛ لأنه لم يفعل شيئا سوى أن أخذ حقه كاملا، فالفضيلة تأتي من الإيثار وليس في ذلك إيثار ولا عمل من أجل الغير اللهم إلا

_ 1 الشورى: 40-42. 2 البقرة: 278-279. 3 البقرة: 178.

أنه اعتدل في معاملته لغيره فلم يظلم ولم يتعد حدود حقه في مظلمته، أما العدالة في ميدان الحكم فقد جاء الثناء على العادل ووعد الله له بالمكافأة الجزيلة في الآخرة؛ لأن العدالة هنا منتهى الأخلاق وعدمها منتهى الظلم، وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة تدعو الحكام إليها وتشوقهم وتحرضهم عليها وتنذرهم من الخروج على العدالة بالعقاب والعذاب الأليم، من هذه النصوص قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1, {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2, {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 3. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره العدل فله النار" 4, وقال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة الله ... " 5. وقال: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال" 6. وهكذا نجد الفرق بين المقامين مقام الحكم ومقام المعاملة العادية، ولقد فرق الدكتور "محمد عبد الله دراز" أيضا بين المقامين فقال: "فمقام الحكم هو مجال العدل الدقيق الصارم ومقام المعاملة هو مجال العفو والمسامحة والمكارمة والمجاملة"7.

_ 1 النحل: 90. 2 المائدة: 8. 3: المائدة: 42. 4 التاج جـ 3، ص 58، الله مع القاضي العادل. 5 التاج جـ 5، العدل أساس الملك ص 76. 6 المرجع السابق ص 77. 7 في الدين والأخلاق والقومية. د. محمد عبد الله دراز, ص33.

هذا فيما يتعلق بالحاكم بصفة الحاكم في مجال الحكم والقضاء، ولكن الأمر يختلف فيما يتعلق بحقوقه الخاصة في مجال التعامل الاجتماعي فالتجاوز عن حقه هنا يعتبر فضيلة بل أكبر من فضيلة تسامح أي إنسان؛ لأنه بالرغم من سلطته ونفوذه يتخلى عن حقوقه ويتسامح فيها، فالعفو عند المقدرة أكثر فضيلة منه عند العجز. والفرق بين المجالين أن الحقوق في المجال الأول حقوق الناس وهو مكلف برد الحقوق إلى أصحابها وليس له حق في التجاوز عنها بالمحاباة لقرابة أو شفاعة أو لمركز، ولهذا فلم يقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- شفاعة أسامة بن زيد في إقامة الحد على المرأة المخزومية التي سرقت قائلا: "أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1. وأما الحقوق في المجال الثاني فمن حقه التصرف فيها كما يشاء بالاسترداد أو بالعفو. وهكذا نجد أن أخلاقية العدالة تختلف من الحاكم إلى غيره من حيث الفضيلة ومن حيث المسئولية أيضا. 2- ومن أخلاقيات الحاكم المسلم أيضا عدم قبوله الهدية ممن يشمل عليه حكمه وسلطانه؛ لأن قبول الهدية يكون موضع سوء الظن من الناس لمحاباة الحاكم للمهدي، ولأن الإهداء إلى الحاكم يكون غالبا مصحوبا بالغرضية ويفيد الرشوة ثم إن الحاكم الذي يقبل الهدية يتأثر غالبا بالميل إلى الذي أهداه في القضايا والخصومات، ولهذا منع الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبول ولاته وعماله الهدايا عندما حدث أن

_ 1 صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي جـ 3 ص 1315.

أحد عماله قدم بصدقات جهة من الجهات وقال للرسول: هذا لكم وهذا لي قد أهدي لي فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعَر" 1, وقال بعض العلماء: إنها لسحت وأن ما أخذ عليه رده إلى مهديه فإن تعذر فإلى بيت المال2. 3- لقد جاء في أدب القاضي صفات كثيرة خاصة به ينبغي أن يتحلى بها في مجلسه ومعاشرته مع الناس ونذكر منها: كراهة مباشرته البيع والشراء, وألا تخل تصرفاته العامة مع الناس بالوقار والرزانة والنزاهة، ومن أدبه أن يسوي بين الخصوم في المقابلة ولو كان أحدهم عدوه، في الالتفات واللحظ والخطاب والدخول عليه والإنصات وما إلى ذلك3. 4- خاصية المسئولية الأخلاقية للحاكم. إجبار المحكومين على تطبيق الأخلاق. لقد بينا في المسئولية مدى مسئولية الفرد عن سلوك الغير ولكن هناك فرقا بين تلك المسئولية الغيرية للشخص العادي وبين مسئولية الحاكم عنها، ذلك أن الفرد العادي لا يستطيع إجبار الناس على تطبيق المبادئ الأخلاقية في الحياة العامة؛ لأنه لا يملك هذه السلطة بخلاف الحاكم فإنه مالكها وقد خوله هذا المجتمع فلا يكون له العذر بالعجز وإذا لم يطبق ذلك لعدم إيمانه بهذه المبادئ يكون كافرا

_ 1 صحيح مسلم جـ 13، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال ص 219. 2 المغني لابن قدامة جـ 10، كتاب القضاء ص 162. 3 المرجع السابق ص 163-165.

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1؛ لأن الآية السابقة قد وصفتهم بالكفر لعدم إيمانهم بتلك المبادئ. وإذا ترك ذلك إهمالا أو ظلما فيكون ظالما {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2, ومعلوم أن هذه الآية قد نزلت بعد آية القصاص وإذا لم يطبق القصاص يظلم الناس بعضهم بعضا ويتعدون أكثر مما يتعدى عليهم وينتشر الثأر وهذا ظلم والسكوت على الظلم ظلم أيضا والقصاص يمنع الظلم؛ لأنه يمنع تجاوز الحدود في القود، ولهذا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3, وإذا أراد انتشار الفساد من عدم تنفيذ ذلك يكون فاسقا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4؛ لأن إرادة الفساد فسق {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 5, والدليل على صدق ما نذهب إليه سياق هذه الألفاظ نفسها فهي تعبير عما يدور في نفوس أولئك الحكام الذين لا يطبقون تلك المبادئ لوجود إحدى هذه الحالات الثلاث وإلا فما الذي يمنعهم من تطبيق ذلك مع وجود إمكانات في أيديهم. ولا ينبغي أن يفهم من الحاكم هنا -رئيس الدولة فقط- بل المقصود كل رئيس جماعة أو إدارة أو مؤسسة أو رب أسرة فكل واحد مسئول عن أخلاق مؤسسته أو إدارته أو بيته والسكوت على اللا أخلاقية مع قدرته على منعها يدل على اللا أخلاقية, ثم إن الفرد العادي غير مسئول عن البحث عن مواضع الفساد لإزالته وإنما هو مسئول فقط بحسب قدرته التي ذكرناها عن فساد يراه ولم ينكره

_ 1 المائدة: 44. 2 المائدة: 45. 3 البقرة: 179. 4 المائدة: 47. 5 النور: 19.

أما الحاكم فمسئول عن فساد المجتمع ومواضع الفساد فيه أيضا. ولهذا فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث المسئولية -الذي ذكرناه في المسئولية- كل صاحب أمر وسلطة مسئول عمن ينفذ عليه أمره وسلطانه اعتبارا من الأمير إلى رب الأسرة وقال عمر بن الخطاب: "والله لو أن ناقة انتكست في أصقاع العراق لكنت مسئولا عنها" لعدم تمهيده الطريق للمسافرين. فمسئولية الحاكم أكبر وأوسع نطاقا من مسئولية أي فرد آخر وأن جزاءه كذلك أكبر ولهذا قال الر سول -صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" 1, وقال أيضا: "من من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة" 2. والآن بعد هذه المعالجة لهذا الموضوع ننتهي إلى أن الإسلام يعتمد في تنظيمه الأخلاقي للحياة الاجتماعية على فلسفته الأساسية في قيمة الفرد والمجتمع والسلوك الأخلاقي نفسه. فالفرد له طبيعته وشخصيته المستقلة ومن ثم له قيمة مستقلة أيضا وبناء على هذه الفكرة ينبغي احترام متطلباته الطبيعية عن طريق إتاحة الفرص لتحقيقها ومن ضمن متطلباته أن يعيش في مجتمع من جنسه وذلك ضرورة وفطرة. ولكن الحياة في المجتمع تتطلب نظاما أو أخلاقا؛ إذ لو تركت الحرية للفرد لتحقيق رغباته فيها فقد يستغل المجتمع لتحقيق مآربه وحاجياته ويتخذ المجتمع وسيلة وغرضا، وهذا النظام ينبغي ألا يسمح باستغلال الآخرين والإضرار

_ 1 التاج جـ 5، كتاب البر والأخلاق، باب أعظم الظلم ص 22. 2 المرجع نفسه ص22.

بهم في سبيل مصلحة الأفراد. ولكن ينبغي كذلك ألا يسمح للجماعة باستغلال أفرادها باتخاذهم وسائل لتحقيق أغراض وتسخيرهم لذلك إذ في ذلك إهدار لقيمة الإنسان ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1. إذن ينبغي أن تقوم هذه العلاقة بين الفرد والمجتمع على مبادئ أخلاقية من شأنها أن تمنع الاستغلال والتسخير من أحد الطرفين للآخر ومن شأنها أن تؤدي إلي التنسيق بين المتطلبات الاجتماعية والفردية وتؤدي في الوقت نفسه إلى حياة مستقرة آمنة مطمئنة، هذا ومن الضروري أن تكون هناك سلطة تنفيذية لتنفيذ هذا النظام لإرغام الناس على احترامه، وهذه السلطة يجب أن تخضع بدورها لمبادئ أخلاقية حتى لا تستغل نفوذها وتصبح مجتمعا مستغلا داخل المجتمع الكبير فيعيش على حساب المجتمع حياة مترفة باستعباد أفراده واستغلالهم لنفسه، إذن لا بد من أن تكون هناك أخلاقية خاصة للحكام تمنعهم من الاستغلال والسطو وتلزمهم بتنفيذ ذلك النظام لتأمين الحياة الاجتماعية. وهكذا فعل الإسلام لقد راعى هذه الأمور كلها في نظامه الخلقي وحدد أخلاقية الفرد وأخلاقية المجتمع ثم أخلاقية الحكام ووفقا لهذه الفلسفة الأخلاقية وضع نظامه التشريعي في شئون الحياة في المجالات المختلفة.

_ 1 الحديث الثاني والثلاثون من الأربعين النووية.

خاتمة أهم النتائج والتوصيات

خاتمة أهم النتائج والتوصيات مدخل ... خاتمة أهم النتائج والتوصيات خلال دراستنا للموضوعات السابقة خرجنا ببعض النتائج الهامة وهذه النتائج مجتمعة تبرز بصفة عامة خصائص الأخلاق الإسلامية، ولا أريد هنا عرض جميع تلك النتائج عرضا مفصلا بل أرى الاقتصار على خلاصة ما هو ضروري. وفيما يلي نذكر تلك النتائج الهامة:

أهم النتائج

أولا: أهم النتائج: 1- توسيع الإسلام نطاق مفهوم الأخلاق وميدان العمل بها، وإعطاؤه الأهمية الكبرى لها: فمن حيث المفهوم يدخل في نطاق الأخلاق كل سلوك إرادي صادر من إنسان راشد من حيث الخير والشر والحسن والقبح، ليس السلوك هو الفعل الظاهر فحسب بل إن عمل القلب من النية والإرادة والاعتقاد يدخل في السلوك وتترتب عليه المسئولية والجزاء كما تترتب على الفعل المادي الظاهر إلا ما استثنى منه، سواء كان هذا السلوك ينظم علاقة الفرد بنفسه أو بالناس أفرادا وجماعات أو بالكائنات الحية الأخرى. ومن هنا تصبح الحياة كلها ميدانا للعمل الأخلاقي ذلك أنه ما من عمل إلا ويكون له صلة مباشرة أو غير مباشرة بجهة أو أكثر من الجهات المذكورة. وبناء على ذلك لا بد من أن يخضع هذا السلوك لنظام ولمعيار يتحدد بحسب العلاقة بين الذات الفاعلة وبين الطرف الآخر الذي له صلة بها من حيث العمل ومن حيث الغاية أو من حيث العملية والغاية القصدية. والإسلام في كل ذلك لم يكن خياليا في التنظيم الأخلاقي لسلوك الأفراد.

والجماعات بل كان عمليا حيث إن هذا التنظيم يتسق تمام الاتساق مع قوانين الحياة والطبيعة فهو قد امتاز بذلك كله على بعض الأخلاقيات الفلسفية مثل الأخلاق المادية الوضعية والأخلاق الكانطية والأرسطية التي تحصر الأخلاق على العلاقة بين الإنسان والإنسان فقط1، ويمتاز كذلك على بعض الأخلاق الدينية القديمة التي تقصر الأخلاق على ما بين الإنسان وبين الله. ويمتاز أخيرا على الأخلاق الاجتماعية التي تقصر الأخلاق على العلاقات الاجتماعية بين الفرد والمجتمع2. وهكذا نرى أن الأخلاق الإسلامية قد جمعت بين الأخلاق الفلسفية والدينية والاجتماعية معا. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- صادقا عندما قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 3, وصدقه الله تعالى عندما قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4.

_ 1 علم الأخلاق لأرسطو، مقدمة بارتلمي ص 128-134. 2 التربية الأخلاقية. دور كايم، جـ 8-9. 3 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 132. 4 القلم: 4.

آصالة الأسس التي أقام عليها الإسلام نظامه الأخلاقي

2- أصالة الأسس التي أقام عليها الإسلام نظامه الأخلاقي: لقد أقام الإسلام صرح الأخلاق على أسس لا غنى عنها، ولننظر إلى مدى ضرورة كل واحد من الأسس السابقة، فقد كان الأساس الميتافيزيقي والاعتقادي ضروريا للأخلاق؛ لأنه يوجه الإنسان إلى طريق الحق في التفكير وطريق الخير في السلوك؛ ولأنه يعد أقوى إلزام للإنسان باتباع هذا الطريق أو ذاك.

وضرورة الأساس الواقعي والعلمي تظهر في أمرين أولها: أن مراعاة الواقع وقوانين الطبيعة الكونية عامة شرط أساسي حتى تكون الأخلاق واقعية، وصالحة للتطبيق العملي في ظروف وأزمان مختلفة. وثانيهما: أن هذا الأساس الواقعي دافع إلى الالتزام بالأخلاق على أساس أنها أسلم طريق يحقق المطالب الأساسية للإنسان ويوجهه إلى حياة فاضلة تتناسب مع مكانته ومركزه في الكون. ولا يخفى علينا أيضا مدى ضرورة الأساس القائم على مراعاة الطبيعة الإنسانية لدوام النظام الأخلاقي، ذلك أن أي نظام لا يراعي هذه الطبيعة من حيث متطلباتها الضرورية وإمكاناتها العملية فلا بد من أن يكون منبوذا ومنافيا لهذه الطبيعة ولا بد من أن يبوء بالفشل أخيرا. والنظام الأخلاقي في الإسلام لم يكتفِ -كما رأينا- بمراعاة تلك الطبيعة من حيث حاجاتها وإمكاناتها بل وجهها نحو أفضل وأسمى حياة, فيها سعادتها وفلاحها في العاجل والآجل. وكذلك لا يمكن الاستغناء عن أساس الإلزام والالتزام، وخاصة إذا كان هذا الأساس قد جمع جميع عناصر الإلزام وكان مراعيا في ذلك طبيعة الإنسان وكرامته. أما أساس الحرية والمسئولية فيحتمه التفكير الأخلاقي من ناحية، ووضع الإنسان أمام خالقه من ناحية ثانية ثم تحمل الإنسان مسئولياته بنفسه عن جدراة وقبوله لأداء تلك الأمانة الأخلاقية عن اختيار وحرية، وتوافر هذه الأمور مجتمعة في هذين الأساسين يوحي إلى الإنسان بالشجاعة الأدبية لتحمل

مسئولياته والقيام بواجباته الأخلاقية خير قيام؛ لأنه قادر حر يستطيع القيام بها. وأما أساس الجزاء فهو الذي يعطي للأخلاق -في الحقيقة- قيمة ومعنى إذ بدونه تصبح الأخلاق سلوكا جافا لا يقوم على عدل ولا يجذب الناس إلى العمل به والجزاء بقدر ما يكون عاما ومتنوعا بقدر ما يضفي على الأخلاق قيمة ومعنى وثراء. ولهذا نرى أن الإسلام قد نوع الجزاء الأخلاقي وربط سعادة الإنسان وفلاحه به، وقد شرحنا أصالة كل تلك الأسس وما أتى به الإسلام فيها من جديد وما أكمل فيها من نقص، بحيث يمكننا القول عندما نقارنها بغيرها: إن الإسلام قد فاق الأخلاقيات الأخرى في هذه النقطة أيضا، من حيث تنوع وتعدد الأسس التي أقام عليها بناءه الأخلاقي ومن حيث الخصائص التي أضفاها على كل واحد منها.

وضع الإسلام معايير متعددة لقياس الأخلاق ولبيان قيمتها

3- وضع الإسلام معايير متعددة لقياس الأخلاق ولبيان قيمتها: إن الإسلام لم يكتفِ بوضع معيار واحد لقياس العمل الأخلاقي كما فعلت كل أخلاقية أخرى إذ وضعت لنفسها معيارا واحدا, بل إنه نوَّع المعايير وقد بينا أهمها من قبل، وهي الشرع والعقل ثم الإرادة والغاية والضمير الأخلاقي, ولكن قد يرد هنا سؤال وهو هل تعدد المعايير يعد ميزة؟ الجواب على ذلك أنه إذا كان اختلاف المعايير يؤدي إلى قياس القيمة من عدة وجوه أو يساعد الناس على قياس السلوك الأخلاقي بوضوح فلا شك أنه يعد

ميزة في هذه الحالة, أما إذا كان اختلافها يؤدي إلى اختلاف الناس في التقويم الأخلاقي، فلا شك أنه في هذه الحالة لا يعتبر ميزة، ولكن مهما كان الأمر فإن ذلك لا يدل على أن الشيء ليس له إلا قيمة واحدة, بل إنه قد يكون لشيء واحد عدة قيم، ولنضرب لذلك مثلا معدن الذهب فإن له قيمة موضوعية اتفق عليها جميع الناس في جميع البقاع ولكن هذه القيمة قد تختلف بالزيادة أو النقصان بحسب التشكيل والتصنيع والوضع والزمان وباختلاف الناس المقيمين. فالصراف مثلا ينظر إليه باعتبار أنه نقد يروج في جميع البلاد وتزيد قيمته في نظر الصانع والفنان، وتزيد على هذا وذاك في نظر المُهْدَى إليه إذ كان قد قدم إليه كرمز للتفوق العلمي أو الأدبي من رئيس دولة، وهكذا توجد معايير مختلفة لقياس قيمة هذا الشيء فهناك معيار موضوعي مشترك وهناك معيار فني وهناك أخيرا معيار رمزي. وتختلف قيمته باختلاف المعيار. وكذلك السلوك الأخلاقي له قيمة لدى جميع الناس ولكن هذه القيمة تختلف باختلاف معاييرهم فمنهم من يقيسها بالمعيار العقلي والآخر يقيسها بالمعيار الجمالي والأخير بالمعيار النفعي وما إلى ذلك، وكل يعطي له قيمة بحسب معياره وتزيد هذه القيمة في نظر إنسان يقيسها بجميع تلك المعايير. كما أن اعتداد الإسلام بالعقل معيارا للأخلاق يدل على أن الأخلاق ليست أمرا تعبديا ومسألة ميتافيزيقية بحتة كما يدعي البعض.

تقويم الإسلام للأخلاق تقويما متكاملا

4- تقويم الإسلام للأخلاق تقويما متكاملا إن الأخلاق تكتسب قيمتها في نظر الإسلام من أربعة روافد: الأول: القيمة الإلهية باعتبارها وحيا إلهيا وإرادة إلهية وكل ما يوافق إرادة الله يكون له قيمة وقداسة عند المؤمن. الثاني: القيمة الإنسانية: لأن الإنسان له قيمة والأخلاق من الناحية العملية فعل إنساني ولأن إرادة الإنسان وغايته تلعبان دورا هاما في قيمة الفعل الأخلاقي بل تعتبران روح السلوك الأخلاقي. ولقد حددنا أن الإرادة والغاية الأخلاقية لا بد من أن تكونا أخلاقيتين وهنا ينبغي أن نفرق بين الغاية الفعلية والغاية القصدية، فالأولى هي نتيجة الفعل الأخلاقي التي ينتهي إليها الفعل، وأما الثانية فهي ما ينبغي أن يقصده الفاعل عند الفعل وهو وجه الله، ولا ينبغي أن يقصد الإنسان فقط النتيجة العملية أو الفائدة المادية التي تترتب على العمل الأخلاقي، سواء أكانت من الله أو من الناس أم ما ينبع من الفعل نفسه، وإلا فالأخلاق تتحول عندئذ إلى صفقة تجارية أو وسيلة نفعية. الثالث: القيمة المادية: لأن الأخلاق مهما كانت بعيدة عن المادة من حيث المصدر والغاية فإنها متصلة بالمادة ويترتب عليها جزاء مادي ومعنوي ولقد وعد الله المتمسكين بالمبادئ الأخلاقية بالجزاء المادي عاجلا أو آجلا. الرابع: القيمة النظرية: فالحق والباطل قيمتان، الأول خير والثاني شر. والأول علم، والثاني جهل. والأخلاق هدفها الخير أو جلب الخير ولهذا فإن

مبادئها مبنية على الحق وعلى العلم وتدعو إلى الحق وإلى العلم وتنهى عن الباطل والجهل، ثم إن الأخلاق سلوك جميل والجمال له قيمة في نظر الإنسان. إذن قيمة الأخلاق في الاتجاه الإسلامي قيمة عظيمة تجمع بين قيم السماء والأرض ولهذا فقد اهتم الإسلام كل الاهتمام بالأخلاق، ويدعو الناس إليها دائما؛ لأن سعادة المرء مرهونة بها في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى أيضا.

الاتجاه الأخلاقي في الإسلام يجمع وينسق بين الفردية والاجتماعية

5- الاتجاه الأخلاقي في الإسلام يجمع وينسق بين الفردية والاجتماعية: قد قرر الإسلام للإنسانية حقوقا بصورة لا نجد لها مثيلا في أي نظام من النظم الحالية فهو أولا أعطى قيمة للفرد أو قرر له قيمة إنسانية كما أعطى له حرية لممارسة حقوقه الطبيعية فردا إنسانيا في إطار الأخلاق ثم جعله مسئولا عن تصرفاته أمام الله وأمام ضميره ومجتمعه. وكذلك أعطى قيمة للمجتمع وقرر حقوقا له بناء على تلك القيمة ثم أقام التنسيق بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع بحيث لا يطغى أحدهما على حق الآخر. وبذلك لم يجعل الفرد مجرد وسيلة في يد المجتمع أو آلة تقاس قيمتها بقيمة إنتاجها. كما فعلت بعض النظم الاجتماعية. ومن جانب آخر لم يجعل المجمتع مجرد وسيلة في يد الأفراد ولم يعطِ الفرد حرية كاملة بحيث يمكن أن يستغل بها المجتمع لصالحه الخاص بل جعل لكل منهما شخصية مستقلة لها كرامتها وحقوقها ثم ربط بين كرامة الفرد وكرامة المجتمع وبين حقوقهما بحيث لا ينفصل أحدهما عن الآخر استقلالا كاملا بل يجد

الفرد مصلحته في المجتمع كما يجد المجتمع مصلحته في أفراده وكرامته في كرامتهم. وبناء على هذا فقد رسم الإسلام الأخلاق للفرد والمجتمع وأقام التنسيق بين الأخلاقية الفردية والأخلاقية الاجتماعية. ثم إنه لم يعتبر هذا النظام الأخلاقي مجرد فرض أي نظام مفروض عليه من الخارج لا يتفق مع استعدادته الفطرية كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين الاجتماعيين أو الأخلاقيين، بل اعتبر أنه نظام طبيعي يتلاءم مع استعدادات الفرد الطبيعية وميوله الفطرية وأنه نظام لا بديل له للحياة الإنسانية الكريمة.

التقاء التفكير الأخلاقي والديني في الاتجاه الإسلامي

6- التقاء التفكير الأخلاقي والديني في الاتجاه الإسلامي: قد رأينا أن الأخلاق عبارة عن سلوك صادر من الإنسان الراشد يبدأ بنية ويهدف إلى تحقيق غاية خيرة، تقتضيها المثل العليا المرسومة للإنسان من قبل خالقه وفقا لطبيعته وغايته، أو غاية خالقه من خلقه. وبهذا المفهوم ارتبطت الأخلاق بالميتافيزيقا من جهة وبالطبيعة الإنسانية من جهة أخرى ثم بمركز الإنسان في هذا الوجود من جهة ثالثة. ومن ثم يدخل في الأخلاق عنصر إلهي يتمثل في الأمر والجزاء عليه، وعنصر إنساني. ولا غرابة في هذا؛ لأن الأخلاق في نظر الإسلام نظام إلهي إنساني معا يجمع بين نظام اعتقادي معيارا للتمييز بين الحق والباطل في النظر. ونظام حياة معيارا للتمييز بين الخير والشر في السلوك. وبناء على ذلك فالأخلاق لا تكون سليمة ملزمة إلا إذا جمعت بين صحة النظر للتمييز بين الحق

والباطل في الحقائق وصحة السلوك وفقا لذلك التمييز بين الخير والشر في الحياة والخير تابع دائما للحق، والشر كذلك تابع للباطل، ولذا فلا بد من أن تبنى صحة النظر ونظام الحياة الخيرة على نظام الاعتقاد الحق. وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن تصور العمل النافع للخير بدون التصور النظري الصحيح، إذن لا بد من الجمع بين النظر والعمل إذا أريد العمل الناجح النافع. وتبين من هذا اتفاق معيار الحق والباطل ومعيار الخير والشر في الأخلاق والإسلام معا، وتبعا لهذا الاتفاق اتفق المعياران أيضا في النظر إلى القيم بوجه عام والقيم الأخلاقية بوجه خاص، ذلك أن القيم ومعيارها نابعان من فكرتي الخير والشر وهما بدورهما نابعان من الحق والباطل بمعناهما الأوسع والأعم. وقيمة الحق في نظر الإسلام هي قيمة الحق نفسها في نظر الأخلاق؛ لأن كلا منهما يبني أسسه على الحق ويأمر باتباعه لتحقيق الخير الإنساني فالخير نتيجة طبيعية لاتباع الحق، والشر نتيجة طبيعية لاتباع الباطل. وهكذا التقى الإسلام والأخلاق في الغاية والهدف، وهو تحقيق الخير الإنساني في هذه الحياة، وزاد الإسلام على التفكير الأخلاقي البحت استهداف تحقيق ذلك الخير في الآخرة أيضا.

قدرة الأخلاق الإسلامية على مسايرة تطور الحياة وأشكالها المختلفة

7- قدرة الأخلاق الإسلامية على مسايرة تطور الحياة وأشكالها المختلفة وذلك أن الإسلام أسس بناءه الأخلاقي على دعائم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان من ناحية، ويمكن تطبيقها على أشكال مختلفة من الحياة من ناحية أخرى

فمن الناحية الأولى بينا كيف أن الإسلام ربط بين القوانين الأخلاقية والقوانين الطبيعية العامة وقوانين الطبيعة البشرية الخاصة وأقام بناء الأخلاق على أساسها. كما أقام الإلزام الأخلاقي على ما فطر عليه الإنسان من وجدان أدبي وعلى مراقبة الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ويراه أينما كان في السر والعلن ويعلم ما يخفي وما يبدي، ثم لم يكتفِ بهذا وذاك بل ربط الأخلاق بمصلحة الإنسان حيث فرض الجزاء الجزيل مكافأة لمن يتخلق، كما توعد بالعقاب كل من ينحرف ويضل. ولا شك في أن هذه الأمور ثابتة ومن ثم لا بد من أن يكتب الثبات والدوام لهذه القوانين الأخلاقية. ومن الناحية الثانية جعل الإسلام النظام الأخلاقي أساسا للتكيف بالحياة كيفما كانت في أي زمان في ضوء مبادئها، ذلك أنه اهتم أولا بروح الأخلاق أكثر مما اهتم بشكلها فمن ناحية الشكل لم يقيد كل حركات الإنسان وأفعاله فيما يتعلق بأمور الحياة التي تتطور بتطور الزمان، بل زود الإنسان بمبادئ عامة توجهه إلى تنظيم الحياة تنظيما يخضع لروح تلك المبادئ، ولما كانت هذه المبادئ تسير مع الواقع الإنساني في الحياة ولم يكن في تطبيقها إحراج بل تراعي استطاعة الإنسان وطبيعته، كانت الأخلاق الإسلامية من هذه الناحية قابلة للتطبيق في ظروف وأزمان مختلفة. زد على هذا أن الإسلام زود الإنسان بمعايير أخلاقية يستطيع بها تقويم سلوكه وحركاته ومعرفة ما إذا كان هذا السلوك أخلاقيا أم لا. وأخيرا لم تكن الأخلاق الإسلامية جافة وسلوكا روتينيا لا تمت بصلة إلى القيم، بل إنها جامعة للقيم المادية والمعنوية ومن ثم كانت سعادة الإنسان مرهونة

بهذه الأخلاق. كل هذه الأمور هي التي تضفي على الأخلاق الإسلامية قدرة على مسايرة تطور الحياة الإنسانية في أزمانها وأشكالها المختلفة. وقد يعترض هنا بأن هناك مشكلات في حياتنا المعاصرة لا نستطيع إخضاعها للأخلاق الإسلامية، الحقيقة إن هذه المشكلات يمكن إخضاعها لهذه الأخلاق من حيث طبيعتها ولكن الصعوبة آتية من حيث إنها وجدت في نظام لم يقم أصلا على أسس هذه الأخلاق.

الأخلاق الإسلامية أكمل وأصلح أخلاق للحياة الإنسانية

8- الأخلاق الإسلامية أكمل وأصلح أخلاق للحياة الإنسانية لا يرجع هذا التكامل وتلك الصلاحية للأخلاق الإسلامية إلى قدرتها على مسايرة تطور الحياة فحسب، بل إنها قد بلغت من التكامل والصلاحية حدا مثاليا، ذلك أنها تحتضن جميع الفضائل الإنسانية والأعمال الخيرة لصالح الفرد والمجتمع. وتنفر عن جميع الرذائل والشرور ثم إنها لا تكتفي بمجرد تبصير طريق الخير وطريق الشر للإنسان بل تستخدم جميع وسائل الإلزام باتباع طريق الخير, وتستخدم جميع الوسائل لإبعاد الإنسان عن طريق الشر، ليس ما نقوله مجرد ادعاء بل هو حقيقة عبرنا عن بعض جوانبها الموضوعية خلال الفصول السابقة، كما أنها تحارب العنصرية التي تمزق الكيان الاجتماعي البشري. فقد وجدنا في ميدان احترام الإنسان كيف أن هذه الأخلاق تجعل لكل إنسان كرامة بصرف النظر عن لونه وجنسه واتجاهاته الخاصة، وبناء على ذلك

تدعو إلى احترام جميع الحقوق الطبيعية للإنسان، بل أكثر من هذا فإنها تدعو إلى تحقيق تلك الحقوق للناس أو تيسير السبل إلى ذلك لمن يعجز عن الوصول إليها، ومن ثم يعد من يخدم الناس خير الناس، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس" 1, كما تدعو إلى المحبة والمودة والإخاء والمساواة بين الناس. وفي ميدان المعاملة تدعو إلى احترام العقود وأداء الأمانة والنزاهة والصدق في القول، وتنهى عن الاستغلال والمماطلة والغش والكذب والخداع والخيانة.. وما إلى ذلك من الصفات الذميمة. وفي ميدان السياسة والحكم، تدعو هذه الأخلاق الكريمة إلى احترام العهود والمواثيق المبرمة وإلى الحكم بالعدل والمساواة والعمل من أجل رفع مستوى الأمة, وتنهى عن الغدر والمحاباة والمفاجأة بالعدوان والتسلط والتجبر وما إلى ذلك من الصفات القبيحة، وفي ميدان الاقتصاد تدعو إلى العمل الجاد والإتقان والإبداع والابتكار من ناحية، ثم التقشف والقناعة وعدم التبذير والإسراف من ناحية أخرى. وفي ميدان العلم تدعو إلى التعلم والتعليم والتربية واستخدام العلم في خدمة الإنسانية. كما تنفر عن الجهل وعن عدم العمل بالعلم أو بمقتضى العلم. وهكذا كان الإسلام دين الحق والهدى وجاء بأكمل الأخلاق وأصلحها وأهداها ليظهر بذلك على الأديان والفلسفات الأخرى وكان ذلك نعمة من الله على هذه الأمة بل على الإنسانية كلها. وصدق الله العظيم إذ قال: {هُوَ الَّذِي

_ 1 الجامع الصغير جـ 2 ص9.

أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} 1, وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2. وبعد.. فهذا ما استطعت تقديمه في هذا البحث ولست أدعي أن ما قدمته هو كل ما في الأخلاق الإسلامية بل أصرح وأقول: إن ما قدمته ليس إلا جانبا واحدا منها وهو الجانب الأساسي فقط في صورة موجزة مركزة أساسا على بيان خط علم الأخلاق الإسلامية وأهمية هذا العلم، وما عرضت في هذا السبيل من المبادئ والصور العملية للأخلاق الإسلامية إن هي إلا أمثلة لتوضيح الفكرة والاستدلال على صدق الدعوى، لا تمثل أو لا تصور هيكل الأخلاق الإسلامية من جميع أبعادها، وإن كنت أحاول باستمرار إعطاء أمثلة والاستدلال من جوانب الأخلاق الإسلامية المختلفة لمحاولة إبراز الجوانب القيمة المتميزة لعلم الأخلاق الإسلامية. أما بالنسبة إلى الأخلاق الإسلامية عموما فأعتبر هذه الدراسة الأساس العلمي لدراسات واسعة النطاق، ذلك أن هناك جوانب كبيرة وهامة لا بد من أن تدرس دراسة جادة على أساس المنهج الذي عرضته في المقدمة، من تلك الجوانب: الجانب النظامي والجانب التربوي، ثم مقارنة هذه الجوانب بأخلاق الديانات والفلسفات الأخرى. وكل هذه الدراسات جديرة بالبحث ذلك أن الأخلاق في نظري من أهم الدراسات اللازمة لحياة الإنسان العملية.

_ 1 الفتح: 28. 2 المائدة: 3.

ولهذا ينبغي أن تسترعي هذه النقطة نظر الباحثين والمسئولين عن الإصلاح الاجتماعي، ثم الإداريين والتربويين على حد سواء لإعطاء الاهتمام الأكبر لهذه الدراسات عن طريق تجنيد الكفاءات العالية لبذل أقصى الجهود الممكنة لإعطاء هذه الدراسات حقها من الدراسة والبحث إذ إنها تعد قوام حياتنا الفردية والاجتماعية وأساس التقدم الاجتماعي والحضاري، فلا معنى للحياة الإنسانية بدون الأخلاق، بل لا يمكن التقدم في الحياة الباطنية والظاهرية والمادية والمعنوية. وإني لأرجو من الله أن أكون قد وفقت في هذه الدراسة وما قدمت فيها من أراء، وأن يوفقني فيما أنوي القيام به من دراسات في المستقبل أكثر عمقا ونضجا في تلك الموضوعات التي تحتاج إلى الدراسة والبحث المتواصلين، كما أرجو أن يوفق المسئولين والباحثين الآخرين إلى الاهتمام بتلك الحقائق واتخاذ التدابير اللازمة التي تتناسب معها.

أهم التوصيات

أهم التوصيات مدخل ... ثانيا: أهم التوصيات: هذه التوصيات موجهة إلى أهم المؤسسات المسئولة عن تعاليم الأخلاق وتربية الأجيال عليها، وهي المسئولة أيضًا عن ظاهرة انتشار الانحلال الخلقي في الأجيال والشباب، وتلك المؤسسات هي الأسرة والإعلام والمدرسة ومراكز البحوث. وعلى هذا الأساس أصنف التوصيات على النحو الآتي:

التوصيات الموجهة إلى الأسرة

أ- التوصيات الموجهة إلى الأسرة: باعتبار الأسرة المدرسة الأولى التي تربى في عشها كل طفل وباعتبار أن النقص التربوي الأسري قد لا يمكن تعويضه فيما بعد؛ لأن كل طفل قد لا يدخل المدرسة ولأن المدرسة لها دور والأسرة لها دور؛ أوصي الأسرة بالاهتمام بالأخلاق تعليمًا وتربية.

التوصيات الموجهة إلى الإعلام

ب- التوصيات الموجهة إلى الإعلام: وذلك باعتبار الإعلام مدرسة المجتمع التي تعلم الأطفال والأجيال في كل مكان في الشارع والبيوت ويمكث الأجيال أمام مؤثراتها أكثر مما يعيشون في المدرسة، ولهذا فمهما اهتمت المدرسة بالأخلاق؛ فإن الإعلام إذا كان اهتماماته نقيض ذلك فإنها سوف تهدم ما تبث المدرسة والمجتمع معًا من القيم في نفوس الأجيال. ولهذا كله أوصي الإعلاميين باعتبارهم معلمي الأجيال بطريق مباشر أو غير مباشر أم يجعلوا الإعلام بإذاعته وتلفازه وصحافته وأفلامه يلقن درسًا في الأخلاق وفي التربية الأخلاقية؛ لأنها تخاطب كل فرد في البيئة والمدرسة والشارع.

التوصيات الموجهة إلى المدرسة

التوصيات الموجهة إلى المدرسة مدخل ... جـ- التوصيات الموجهة إلى المدرسة: وذلك باعتبارها المكان المخصص للتعليم الأكاديمي الذي يعلم كل شيء بنظام كل المعلومات والخبرات والقيم الضرورية للأفراد والجماعات. بكل خصائصها ودقائقها وحقائقها. وبهذا الاعتبار لا يمكن التخلي عن المدرسة في تعليم الأخلاق وقيمها وتربية الأجيال وتنشئتهم عليها. وبهذه المناسبة أوصي -عند تعليم الأخلاق الإسلامية وقيمها- بالعمل الجاد لتحقيق الأهداف الآتية:

الأهداف العامة لتعليم علم الأخلاق

الأهداف العامة لتعليم علم الأخلاق: 1- بيان حقائق القيم الأخلاقية الإسلامية ومبادئها وميادينها. 2- التبصير بشمولية روح الأخلاق الإسلامية على كل تصرفات وسلوكيات الناس الفردية والاجتماعية. 3- إبراز أهمية وقيمة القيم الأخلاقية الإسلامية من الناحية العلمية والاجتماعية والإنسانية والحضارية المادية والمعنوية. 4- إظهار خصائص ومميزات القيم الإسلامية بالنسبة إلى الأخلاقيات البشرية الوضعية. 5- وضع المعايير الأخلاقية الإسلامية أمام المتعلمين ليستطيعوا توجيه سلوكهم وتقويم السلوكيات في ضوئها.

6- تكوين القناعة بثبات القيم الأخلاقية الإسلامية, وأنها ليست خاضعة للتغيرات الاجتماعية؛ بل إن التغيير والتكوين الاجتماعي يجب أن يخضع لهذه القيم. 7- تكوين الإيمان بالعلاقات الثابتة والمتينة بين العقيدة الإسلامية والقيم الأخلاقية الإسلامية. 8- الإشعار بأن تعليم الأخلاق لا يعني مجرد توصيل المعلومات الأخلاقية إلى الأذهان فقط، بل يعني الإشعار بالمسئولية الأخلاقية بتطهير النفوس وتزكيتها من الرذائل والشرور وتحليتها بالفضائل ومكارم الأخلاق. 9- تكوين الشعور بالمحبة للفضائل والكراهية والنفور من الرذائل والشرور. 10- تنمية الميول نحو العمل بالقيم الأخلاقية والدعوة إليها ما استطاع المعلم إلى ذلك سبيلًا.

التوصيات الموجهة إلى مراكز البحوث

د- التوصيات الموجهة إلى مراكز البحوث: يجب اهتمام هذه المراكز بالبحوث الأخلاقية الإسلامية على المستويات الآتية: 1- إخراج سلسلة بحوث تحت عنوان علم الأخلاق الإسلامية لكل سنة من السنوات الدراسية لكل مرحلة من المراحل التعليمية على غرار مقررات العلوم الإسلامية فيها، على أساس أنها سوف تكون من المقررات المدرسية في المستقبل. 2- إخراج سلسلة كتب تحت عنوان التربية الأخلاقية لكل مرحلة من المراحل التعليمية. 3- إخراج سلسلة كتب أخلاقية لتوعية الشباب والناشئين والأسر بالأخلاق الإسلامية وتكون السلسلة على مستويات متدرجة. وفي الختام ادعو الله قائلًا: اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه إنك أنت الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

مصادر ومراجع الكتاب

مصادر ومراجع الكتاب 1- القرآن الكريم. أ 2- إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، محمد خليل الخطيب، مطبعة الشعراوي بطنطا، مصر. 3- الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية، محمد المدني، مطبعة المعارف العثمانية، ط2، حيدر آباد. 4- الاجتماع الديني- د.أحمد الخشاب، مكتبة القاهرة الحديثة، ط2، 1964م. 5- الأحاديث القدسية، جزءان، لجنة القرآن والحديث، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1970م. 6- الإحكام في أصول الأحكام- 4 أجزاء، الإمام سيف الدين أبي الحسن علي الآمدي، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر، القاهرة، 1967م. 7- إحياء علوم الدين- أبي حامد الغزالي، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني, القاهرة, 1961م. 8- الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع- د. سيد محمد البدوي, دار المعارف القاهرة, 1967م. 9- الأخلاق عند الغزالي- د. زكي مبارك، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1968م.

10- الأخلاق في الإسلام من أحاديث الرسول ومن فتاوى ابن تيمية، محمود علي قراعة، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1964م. 11- الأخلاق في الفلسفة الحديثة - أندريه كرسون، ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود وغيره، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1949م. 12- الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية - ليفي بريل, ترجمة د. محمود قاسم, مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، "د. ت". 13- الأخلاق "باللغة الفرنسية" DR.,A, Draz-La Moral Du Koran.Almaarif- le Caire-1950 14- أخلاقهم وأخلاقنا - ليون تروتسكي، ترجمة سمير عبده، دار الشرق للطباعة والنشر، القاهرة 1969م. 15- الأخلاق والسلوك في الحياة - وليم مكدوجل, ترجمة جبران سليم إبراهيم, مكتبة مصر، القاهرة, 1961م. 16- آدب الدنيا والدين - أبي الحسن الماوردي، مطبعة صبيح وأولاده، القاهرة, سنة 1954م. 17- الآراء الدينية والفلسفية -فيلون الإسكندري- إميل بريهيه، ترجمة د. يوسف موسى، مصطفى البابي الحلبي, ط 1, القاهرة, 1954م. 18- إرادة الاعتقاد - وليم جيمس, ترجمة محمود حب الله, عيسى البابي الحلبي, الطبعة الأولى, القاهرة, "د. ت". 19- الأربعين أربعين, يوسف النبهاني, مطبعة صيدا بيروت 1329هـ. 20- أساس الأخلاق - إبراهيم رفعت, مطبعة العالم, ط 1, إستنبول "د. ت".

21- أساس البلاغة للزمخشري، دار الشعب، القاهرة، 1960م. 22- الاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار، محمد زاهد الكوثري، دار الأنوار، القاهرة، 1951م. 23- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - أبو الأعلى المودودي، ترجمة محمد عاصم الحداد، دار الفكر، بيروت "د. ت". 24- أسس الصحة النفسية - د. عبد العزيز القوصي، مكتبة النهضة المصرية، ط5، القاهرة، 1956م. 25- أسس الفلسفة - د. توفيق الطويل، دار النهضة العربية، ط 5، القاهرة، 1967م. 26- الأسفار المقدسة - د. علي عبد الواحد وافي، مكتبة نهضة مصر، ط1، القاهرة، 1964م. 27- الأشباه والنظائر - الإمام جلال الدين السيوطي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1959م. 28- أصول الأخلاق - ي. ديني، ترجمة إبراهيم رمزي، مطبعة الرسالة, القاهرة. 29- آفاق القيم - دالف بارتن بيري، ترجمة عبد المحسن عاطف سلام، النهضة المصرية، القاهرة، 1968. 30- الإنسان - جان روستان، ترجمة محمد عبد الرحمن مرحبا، منشورات عويدات، بيروت، 1965م. 31- الإنسان في القرآن -عباس محمود العقاد- دار الكتاب العربي، بيروت

1969م. 32- الإنسان هذا المجهول - د. أليكسس كارل، ترجمة أنطوان العبيدي، دار الكتاب المصري، القاهرة، د. ت. 33- الإنسان والأخلاق والمجتمع - جون كارل فولجل، ترجمة الدكتور سعد الغزالي وغيره، دار الفكر العربي، القاهرة، 1966م. 34- أوضح التفاسير - ابن الخطيب, المطبعة المصرية، الطبعة السابعة, القاهرة. ب 35- البراغماتيزم أو الذارئعية - يعقوب فام، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. 36- بستان الأخبار- مختصر نيل الأوطار، الشيخ فيصل بن عبد العزيز, المطبعة السلفية، القاهرة، د. ت. 37- بسكال. بقلم نجيب بلدوي، دار المعارف، ط1 القاهرة. ت 38- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، 5 أجزاء، الشيخ منصور علي ناصف، مطبعة عيسى الحلبي, القاهرة، 1961م. 39- تاريخ الأخلاق - د. يوسف موسى، مطبعة صبيح، ط 3, القاهرة, 1953م. 40- تاريخ الاصطلاحات الفلسفية - لويس ماسنيون، مخطوط بمكتبة المعهد الفرنسي بالقاهرة برقم:/22960/. 41- تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق - أما نوئيل كانط، ترجمة الدكتور عبد الغفار المكاوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م.

42- تأملات في سلوك الإنسان - د. أليكسيس كارل، ترجمة د. محمد القصاص، مكتبة مصر، القاهرة "د. ت". 43- تجديد في الفلسفة - جون ديوي، ترجمة أمين مرسي، الأنجلو المصرية, القاهرة، "د. ت". 44- تحديد النسل- أبو الأعلى المودودي، دار الفكر، بيروت، 1965م. 45- تذكرة الموضوعات، محمد طاهر بن علي الهندي الفتني، ناشر أمين دمج بيروت. 46- التربية الأخلاقية - إميل دور كهايم، ترجمة الدكتور سيد محمد بدوي, مكتبة مصر، القاهرة، "د. ت". 47- التربية العامة - رونيه أوبير، ترجمة الدكتور عبد الله عبد الدايم، دار العلم للملايين، بيروت 1967م. 48- التربية لعالم جائر، سير ريتشارد لفنجستون، ترجمة وديع الضبع، مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, 1948م. 49- التربية الوظيفية - إدوارد كلاباريد، ترجمة الدكتور محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، القاهرة "د. ت". 50- الترغيب والترهيب من الحديث، 4 أجزاء, زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، طبعة صبيح، القاهرة, 1352م. 51- التصوف طريقة وتجربة ومذهبًا - د. محمد كمال جعفر، دار الكتب الجامعية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1970م.

52- التطور الخالق - هنري برجسون، ترجمة د. محمود قاسم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1960م. 53- التعرف لمذهب أهل التصوف - أبو بكر محمد الكلاباذي، تقديم وتحقيق د. عبد الحليم محمود، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1960م. 54- التعلم: أسسه, مناهجه، نظرياته - د. أحمد زكي صالح، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة "د. ت". 55- تفسير ابن باديس - الإمام عبد الحميد بن باديس، دار العلم بالجزائر، الطبعة الأولى، الجزائر "د. ت". 56- تفسير ابن كثير - 4 أجزاء, الإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، طبعة عيسى البابي الحلبي, ط1, القاهرة "د. ت". 57- تفسير سورة العلق - جمال الدين عياد, مطبعة دار العروبة, القاهرة, 1961م. 58- التفسير العلمي للآيات الكونية - حنفي أحمد, دار المعارف, القاهرة. 59- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" 20جزءًا أبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، طبعة دار الكاتب العربي، ط 3, القاهرة, 1967م. 60- التفسير الكبير - 33 جزءًا, الإمام الفخر الرازي، المطبعة المصرية, القاهرة، 1933هـ. 61- تفسير المنار - 12 جزءًا, الأستاذ رشيد رضا، مطبعة المنار بمصر, القاهرة، 1353هـ. 62- تفسير النسفي - 4 أجزاء, الإمام أحمد بن عبد الله النسفي, مطبعة

صبيح وأولاده ط1، القاهرة "د. ت". 63- تكوين الجنين - د. شفيق عبد الملك، المطبعة التجارية الحديثة، ط 2, القاهرة، 1967م. 64- تلخيص الخطابة، ابن رشد، تقديم وتحقيق عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1960م. 65- تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق - ابن مسكويه، مطبعة صبيح وأولاده, القاهرة، 1959م. 66- تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول، 4 أجزاء، عبد الرحمن البديع الشيباني الزبيدي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. ج 67- جامع الأصول من أحاديث الرسول، 12 جزءًا، ابن الأثير، المطبعة المحمدية، الطبعة الأولى، القاهرة, "د. ت". 68- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي، مطبعة النعمان, ط1، النجف. 69- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير- جزءان، الإمام جلال الدين السيوطي، الناشر عبد الحميد أحمد حنفي, الطبعة الأولى، القاهرة 1954م. 70- الجرائم الخلقية - صالح مصطفى، دار المعارف، ط1, القاهرة, 1962م. 71- جسم الإنسان - برنارد جلمسر، ترجمة د. صلاح الدين سلامة، دار المعارف، ط2, القاهرة "د. ت". 72- جمهورية أفلاطون - أفلاطون, ترجمة نظلة الحكيم، دار المعارف بمصر، ط2, القاهرة "د. ت".

ح 73- حجة الله البالغة - أحمد الدهلوي، دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 74- حقوق الإنسان في الإسلام - د. عبد الواحد وافي، مكتبة نهضة مصر للطبع والنشر، ط4، القاهرة، 1967م. 75- الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية - د. محمود حب الله، عيسى البابي الحلبي، ط1, القاهرة، 1948. خ 76- الخلق الكامل - محمد أحمد جاد المولى بك، مطبعة صبيح، ط2, القاهرة، 1965م. 77- خلق المسلم - محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، ط7، 1964م. د 78- دراسة الإنسان - رالف المستون، ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة المصرية، صيدا, بيروت 1964م. 79- دراسات في الفلسفة الإسلامية - د. محمود قاسم، دار المعارف، ط3, القاهرة، 1970م. 80- الدر المنثور "تفسير القرآن بالمنثور" 6 أجزاء, الإمام السيوطي, المطبعة الميمنية بمصر، القاهرة، 1306هـ. 81- الدستور القرآني في شئون الحياة - محمد عزة دروزة، عيسى البابي الحلبي، القاهرة, 1956م. 82- الدين - د. محمد عبد الله دراز، مطبعة السعادة، القاهرة، 1969م.

ذ 83- ذخائر الأعلاق في ترجمان الأشواق - محي الدين بن عربي "د. م", القاهرة 1968م. 84- الذريعة إلى مكارم الشريعة - أبي القاسم الراغب الأصفهاني، المطبعة الشرقية، مصر، 1324هـ. 85- الذكاء - د. فؤاد البهي السيد، دار الفكر العربي ط2, القاهرة، 1969م. ر 86- راموز الأحاديث - أحمد ضياء الدين الكمشخانوي، مطبعة ومكتبة الصنائع. 87- رباعيان الخيام - عمر الخيام، ترجمة أحمد رامي, مطبعة الفؤاد، ط2, القاهرة. 88- رسالة الأخلاق - ابن حزم الأندلسي، دار الثقافة العربية للطباعة، القاهرة. 89- رسالة في الأخلاق - محمد الخطيب الإدكاوي الشافعي، مخطوط بدار الكتب برقم 1384، القاهرة. 90- الرسائل في الأخلاق - دريكات، ترجمه إلى التركية محمد قرصان, مطبعة وزارة التربية والتعليم، إستنبول. 91- رسائل في الحكمة والطبيعيات - ابن سينا، مطبعة الجوائب، إستنبول 1298هـ. 92- الرسالة القشيرية - أبي القاسم عبد الكريم القشيري، مطبعة صبيح, القاهرة، 1966م. 93- رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، الإمام النووي، دار الكتاب العربي، بيروت "د. ت".

س 94- سنن الترمذي "الجامع الصحيح" 5 أجزاء، الإمام أبي عيسى محمد الترمذي، مطبعة المدني، القاهرة، 1964م. 95- سنن ابن ماجه، جزءان، الإمام محمد بن ماجه القزويني، المطبعة العلمية بمصر، 1313هـ. 96- سنن النسائي - 8 أجزاء, الإمام النسائي، طبعة مصطفى البابي الحلبي, القاهرة، 1964م. 97- السياسة - أرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد, دار الكتب المصرية, القاهرة، سنة 1947م. 98- سيرة ابن هشام، 4أجزاء, أبو محمد عبد الملك بن هشام, مطبعة صبيح وأولاده, القاهرة, 1963م. 99- سيكولوجية الضمير - محمد كامل النحاس، دار الفكر العربي, القاهرة. 100- سيكولوجية الفروق الفردية - د. يوسف محمود الشيخ، دار النهضة العربية, القاهرة, 1964م. ش 101- شرح الأصول الخمسة - القاضي عبد الجبار بن أحمد، تحقيق وتقديم د. عبد الكريم عثمان, مكتبة وهبة، القاهرة، 1965م. 102- شرح الباجوري على جوهرة التوحيد - إبراهيم الباجوري، مطبعة صبيح وأولاده، القاهرة، 1954م.

103- شرح التلويح على التوضيح - جزءان، سعد الدين مسعود التفتازاني، مطبعة صبيح وأولاده، القاهرة. 104- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول - جزءان الإمام شهاب الدين القرافي، المطبعة الخيرية، القاهرة. 105- شرح نور اليقين في السيرة النبوية - الشيخ محمد الخضري، دار الزهراء للتأليف، حلب. 106- شمائل الرسول - ابن كثير، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1967م. ص 107- صحيح البخاري "متن" 9أجزاء، الإمام أبي عبد الله البخاري, مطبعة صبيح وأولاده، القاهرة. 108- صحيح مسلم - بشرح النووي، 18 جزءا الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى المعروف بالنووي، المطبعة المصرية، وصحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت "د. ت". ط 109- الطاقة الروحية - هنري برجسون، ترجمة سامي الدروبي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1963م. 110- الطب الروحي- عبد الرحمن بن الجوزي "أبي الفرج" مطبعة الترقي، دمشق، 1248هـ. 111- طريق السعادة - د. فكتور بوشة، دار الفكر العربي، القاهرة.

ع 112- العقيدة والأخلاق - د. محمد بيصار، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1968م. 113- علاقة العلم بالأخلاق - أحمد فهمي العمروسي، مطبعة المعاهد, مصر 1922م. 114- علم الأخلاق -إلى نيقوماخوس- أرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة, 1934م. 115- علم الأخلاق "باللغة التركية" وزارة الأوقاف، أنقرة، 1341هـ. 116- علم الأخلاق "باللغة التركية": M. Rahmi Balaban Ilim Ahiak Iman Yenimatbaa- Ankara. 117- علم أصول الفقه - عبد الوهاب خلاف، مطبعة النصر، مصر، ط7, 1959م. 118- علم النفس، أسسه وتطبيقاته التربوية - د. عبد العزيز القوصي، مكتبة النهضة المصرية، ط7, القاهرة، 1970م. 119- علم النفس التربوي، د- أحمد زكي صالح، مكتبة النهضة المصرية, القاهرة "د. ت". 120- علم النفس والأخلاق - ج10, هافيلد، ترجمة محمد عبد الحميد أبو العزم, مكتبة مصر, القاهرة.

ف 121- فتح الباري بشرح البخاري - 16 جزءًا، شهاب الدين أبي الفضل العسقلاني المعروف بابن حجر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة, 1959م. 122- الفتوحات المكية - محي الدين بن عرببي، مطبعة بولاق، القاهرة, 1876م. 123- الفروق - 4 أجزاء, الإمام شهاب الدين القرافي, مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1345هـ. 124- فصل المقال في فلسفة النشوء والارتقاء - أرنست هيكل، ترجمة حسن حسين، مطبعة الشباب، القاهرة, 1924م. 125- فصوص الحكم - محي الدين بن عربي - المطبعة الميمنية، القاهرة، 1968م. 126- فلسفة الأخلاق في الإسلام - د. يوسف موسى، مطبعة الرسالة، ط2, القاهرة, 1945م. 127- الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي- د. أحمد محمود صبحي, مطبعة دار المعارف، القاهرة، 1969م. 128- الفلسفة الأدبية أو علم الأخلاق - حنا أسعد وهبي، مطبعة المؤيد، ط1. 129- فلسفة أوجست كونت، ليبفي بريل، ترجمة د. محمود قاسم، الأنجلو المصرية، ط2, القاهرة. 130- فلسفة التربية - فيليب. هـ. فينكس. ترجمة د. محمد لبيب

النجيحي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965م. 131- الفلسفة الخلقية - د. توفيق الطويل، دار النهضة العربية, القاهرة, 1967م. 132- الفلسفة القرآنية - عباس محمود العقاد، دار الهلال، القاهرة. 133- في التصوف الإسلامي وتاريخه - رينولد. أ. نيكلسون، ترجمة أبو العلا عفيفي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1956م. 134- في الدين والأخلاق القومية - د. محمد عبد الله دراز، دار الكاتب العربي، القاهرة, 1963م. 135- في الدين المقارن - د. كمال جعفر، دار الكتب الجامعية، القاهرة, 1970م. 136- فيض القدير- بشرح الجامع الصغير، 5أجزاء، محمد عبد الرءوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1938م. 137- في الفلسفة والأخلاق - د. محمد كمال جعفر، دار الكتب الجامعية, القاهرة، 1968م. 138- في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام - د. محمود قاسم, مكتبة الأنجلو ط3, القاهرة "د. ت". ق 139- القاموس المحيط - 4 أجزاء, مجد الدين محمد الفيروز أبادي, مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة, 1952م. 140- القانون والأخلاق - محمد البهي، وزارة الأوقاف، القاهرة.

141- القرآن والطبائع النفسية، علي محمد حسن العماري، المجلس الأعلي للشئون الإسلامية، القاهرة، 1966م. 142- القرآن والعلم الحديث - عبد الرزاق نوفل، دار الجيل للطباعة، القاهرة. 143- القرآن والفلسفة - د. يوسف موسى، دار المعارف, القاهرة، 1966م. 144- القرآن: محاولة لفهم عصري، دار الشرق، بيروت 1970م. 145- قصص الأنبياء - عبد الوهاب نجار، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر, القاهرة, 1966م. 146- قصة الإيمان -نديم الجسر- دار الأندلس ط2، بيروت، 1963م. 147- القيم الأخلاقية - د. عادل العوا، مطبعة جامعة دمشق "د. ت". 148- قيمنا الاجتماعية وأثرها في تكوين الشخصية - د. نجيب إسكندر, مكتبة النهضة المصرية، القاهرة, 1962م. 149- القيم والعادات الاجتماعية - فوزية دياب، دار الكتاب العربي, القاهرة. ك 150- الكامل في التاريخ - 9 أجزاء، ابن الأثير، دار صادر، بيروت، 1965م. 151- كتاب الأخلاق - أحمد أمين، النهضة المصرية، ط9, القاهرة, 1967م. 152- كتاب الأدب المفرد - الإمام البخاري، مطبعة أفيست، مدينة طشقند, 1970م.

153- كتاب الأربعين النووية - الإمام النووي، مكتبة الجمهورية المصرية. 154- كتاب سبيل السعادة - يوسف الدجوي، مطبعة السماح ط 2، 1929م. 155- الكتاب المقدس "العهد القديم والعهد الجديد" مطبعة عنتر بالقاهرة, 1963م. 156- كتاب النفس، أرسطو، ترجمة د. أحمد فؤاد الأهواني، عيسى البابي الحلبي، ط1, القاهرة، 1949م. 157- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس جزءان, إسماعيل محمد العجلوني، مكتبة القدسي، القاهرة، 1351هـ. 158- كلمات في مبادئ الأخلاق - د. محمد عبد الله دراز، المطبعة العالمية القاهرة، 1953. ل 159- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعية - جزءان, الإمام السيوطي, المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة. 160- لسان العرب - 20 جزءًا، محمد بن بكر بن منظور، دار الكاتب العربي الطبعة الأولى، القاهرة. 161- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي, عيسى البابي الحلبي، القاهرة.

م 162- مبادئ الاجتماع الديني - روجيه باستيد، ترجمة د. محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. 163- مبادئ الأخلاق - د. ماهر كامل، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1962. 164- مبادئ علم النفس العام - د. يوسف مراد، دار المعارف ط 5، القاهرة 1966م. 165- المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة - برتراند راسل، ترجمة عبد الكريم أحمد، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1960م. 166- المجمل في تاريخ الأخلاق - د. هـ. سد جويك، ترجمة د. توفيق الطويل, دار نشر الثقافة بالإسكندرية، 1949م. 167- محاضرات في الفلسفة الإسلامية - د. يحيى هويدي، مكتبة النهضة المصرية، ط1, القاهرة، 1966م. 168- محمد المثل الكامل- محمد أحمد جاد المولى بك، مطبعة صبيح وأولاده ط 6 القاهرة, 1968م. 169- مختارات من روائع الأدب العربي - د. عبد السلام سرحان، مطبعة الفجالة الجديدة, ط1، القاهرة. 170- مختصر شعب الإيمان، أبي بكر أحمد البيهقي - المكتبة المحمودية التجارية، القاهرة. 171- مدخل إلى علم الأخلاق - ولتر لمبان، ترجمة إنعام المفتي، المكتبة العصرية، صيدا, بيروت 1967م.

172- المدخل إلى الفلسفة - أزفلد كولبه، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة. 173- المذاهب الأخلاقية - د. عادل العوا، مطبعة جامعة دمشق، ط 2, 1963م. 174-مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق - د. توفيق الطويل, مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, 1953م. 175- مراحل الفكر الأخلاقي - د. نجيب بدوي، دار المعارف، ط 1, القاهرة 1961م. 176- المسئولية في الإسلام - د. محمد عبد الله دراز، المكتب الفني للنشر, القاهرة, 1960م. 177- المسئولية والجزاء - د. عبد الواحد وافي، مكتبة نهضة مصر، ط3, القاهرة، 1963م. 178- المستدرك على الصحيحين - للحاكم النيسابوري، الناشر مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض، 1968م. 179- مسند أحمد بن حنبل - 6 أجزاء، أحمد بن حنبل، المطبعة الميمنية بمصر الطبعة الأولى، القاهرة "د. ت". 180- المشكلة الأخلاقية والفلاسفة - أندريه كرسون، ترجمة د. عبد الحليم محمود وغيره، دار إحياء الكتاب العربي، القاهرة، 1952م. 181- مشكلة الإنسان - د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر ط1, القاهرة، 1969م.

182- مشكلة الحرية - د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، ط2, القاهرة، 1963م. 183- المشكلة الخلقية - د. زكريا إبراهيم, مكتبة مصر، ط1, القاهرة, 1969م. 184- المشكلة الخلقية والفكر المعاصر - د. بارودي، ترجمة د. محمد غلاب, الأنجلو المصرية، ط2, القاهرة. 185- معارج القدوس - أبي حامد الغزالي، مكتبة الجندي، القاهرة. 186- معالم تاريخ الإنسانية - هـ. ج. ولز, ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد لجنة التأليف والترجمة، القاهرة, 1967م. 187- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث, الدكتور ا، ي، ونسنك وغيره، مطبعة بريك في مدينة ليدن، ط1. 188- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن - محمد فؤاد عبد الباقي، دار الشعب, القاهرة. 189- المغني - 10 أجزاء، أبي عبد الله بن قدامة، مطبعة الإمام, ط1, القاهرة. 190- مفتاح كنوز السنة - تأليف الدكتور أ.ي. فنسنك، ترجمة محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة المنار بمصر, ط1. 191- مقارنة الأديان - 3 أجزاء، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, 1966م. 192- المقاصد الحسنة - الإمام الحافظ السخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة.

193- مقالة عن نزعة التفاؤل بين ليبنتز وابن عربي - د. محمود قاسم, مجلة الفكر المعاصر، القاهرة، يناير1970م. 194- مقال في الإنسان - د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة, 1969م. 195- مقال عن طبيعة النفس عند ليبنتز وابن عربي - د. محمود قاسم. 196- مقدمة ابن خلدون - عبد الرحمن بن خلدون، المطبعة الأزهرية، القاهرة 1930م. 197- مقدمة في علم النفس الاجتماعي - د. شارل بلوندل، ترجمة د. محمود قاسم، الأنجلو المصرية, ط2، القاهرة. 198- مقدمة في فلسفة التربية - د. محمد لبيب النجيحي، الأنجلو المصرية, ط1, القاهرة، 1963م. 199- مقدمة لعلم النفس الاجتماعي - د. مصطفى سويف، الأنجلو المصرية, ط2، القاهرة، 1966م. 200- المقصد الأسني - أبي حامد الغزالي، شركة الطباعة الفنية المتحدة. 201- مقياس الأخلاق "باللغة التركية" مصطفى ذهني، مطبعة العالم, استنبول 1315هـ. 202- مكارم الأخلاق - رضي الدين الطبرسي، ط1, مكتبة القاهرة بالأزهر. 203- الملل والنحل - جزءان، أبي الفتح محمد الشهرستاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1967م.

204- من أخلاق النبي - د. أحمد الحوفي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ط1, القاهرة. 205- مناهج الأدلة في عقائد الملة - ابن رشد، تقديم وتحقيق د. محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة, 1964م. 206- مناهج البحث في علم النفس - ت. ج. أندروز، ترجم بإشراف د. يوسف مراد، دار المعارف, القاهرة، 1967م. 207- منبعا الأخلاق والدين - هنري برجسون، ترجمة سامي الدروبي, دار الفكر العربي، 1963م. 208- المنطق الحديث ومناهج البحث - د. محمود قاسم، مكتبة الأنجلو المصرية, ط3، القاهرة. 209- منهاج الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث - مقداد يالجن, المطبعة المصرية ومكتبتها، ط1, القاهرة، 1969م. 210- الموافقات في أصول الأحكام - 4 أجزاء، الإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، مكتبة صبيح وأولاده، ط1، القاهرة. 211- الموسوعة الفلسفية المختصرة - ترجمة عن الإنكليزي بإشراف د. نجيب محفوظ، مطبعة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م. 212- موطأ الإمام مالك - جزءان، الإمام أنس بن مالك، المطبعة الشرفية, القاهرة، 1320هـ. 212- ميزان العمل - أبي حامد الغزالي، مطبعة صبيح وأولاده، القاهرة، 1963م.

ن 214- نظام الإسلام في الحياة - أبو الأعلى المودودي، ترجمة محمد عاصم الحداد، دار الفكر بيروت. 215- نظرات في الإسلام - د. محمد عبد الله دراز، المكتب الفني للنشر، ط1، القاهرة، 1958م. 216- النظرية الأخلاقية عند جون ديوي ومدى صلاحيتها للتربية المصرية - د. محمد لبيب النجيحي، رسالة مخطوطة في مكتبة كلية التربية برقم45540. 217- نفوس مطمئنة - د. عبد الكريم دهنية، دار القومية للطباعة والنشر, القاهرة, 1966م. 218- نماذج من الفلسفة السياسية - د. محمد فتحي الشنيطي، مكتبة القاهرة الحديثة، 1961م. 219- نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام - أحمد محمد الحسيني، المطبعة الأميرية، ط1، القاهرة. هـ 220- هل يمكن قيام أخلاق وجودية - عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953م.

و221- الواجبات الأخلاقية والوطنية - د. عبد المجيد عباس، مطبعة العناني، ط1، بغداد. 222- الوجدان - د. عادل العوا، مطبعة جامعة دمشق، 1969م. تمت قائمة المصادر والمراجع

الفهارس

الفهارس فهرس أطراف الحديث ... فهرس أطراف الأحاديث "أ" ابدأ بنفسك: ص365 هامش3. أتقعد قعدة المعضوب عليهم: ص88 هامش1. اثنان خير من واحد: ص362 هامش2. أحب الأعمال إلى الله أدومها: ص339 هامش4. إذا أنزل الله بقوم عذابًا: ص264 هامش3. إذا التقى مسلمان بسيفيهما: ص257 هامش2. إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة: ص257 هامش1. إذا حكم الحاكم فاجتهد: ص313 هامش2. إذا خفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها: ص264 هامش4. إذا خطب إليكم من ترضون دينه: ص132 هامش5. إذا سمعتم بالطاعون بأرض: ص71 هامش4. إذا صار أهل الجنة إلى الجنة: ص276 هامش2. إذا عملت الخطيئة في أرض: 265 هامش2. إذا كثر الخبث: ص263 هامش3. إذا كنتم ثلاثًا فلا يتناجى اثنان: ص89 هامش1.

إذا لم تستح فاصنع ما شئت: ص87 هامش4. إذا مات ابن آدم انقطع عمله: ص118 هامش3. اذهبوا فأنتم الطلقاء: ص111 هامش2. أرأيتم لو وضعها في حرام: ص312 هامش1. ارض بما قسم الله لك: ص91 هامش3. استفت قلبك: ص202 هامش1، وص308 هامش1. اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا: ص359 هامش5. أشار إليه بإصلاح شعره: ص89 هامش3. أصبنا سبيًا فكنا نعزل: ص138 هامش3. أفضل الأعمال إيمان بالله "مضمون الحديث": ص50 هامش7. اقضوا الله فالله أحق بالوفاء: ص306 هامش 3. أكله مع المجذوم: ص71 هامش8. أكمل المؤمنين إيمانًا: ص50 هامش1. ألا أخبركم بأكبر الكبائر: ص106 هامش8. ألا وإن في الجسد مضغة: ص90 هامش1. الإسلام حسن الخلق: ص49 هامش1. البر حسن الخلق: ص280 هامش1، ص308 هامش2.

البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس: ص308 هامش1. البر ما انشرح له صدرك: ص308 هامش1. الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله: ص 306 هامش2. الحلال بيِّن والحرام بيِّن: ص237 هامش1. الدين حسن الخلق: ص48 هامش3. السمع والطاعة على المرء المسلم: ص359 هامش6. الصبر ضياء: ص113 هامش1. الطهور شطر الإيمان: ص71 هامش2. المسلم من سلم المسلمون من لسانه: ص106 هامش6. المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم: ص360 هامش1. المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه: ص55 هامش3. المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف: ص360 هامش2. اليد العليا خير من اليد السفلى: ص301 هامش7. أما صاحبك فقد أخذ بالثقة: ص247 هامش1. أما والله إني لأخشاكم لله: ص80 هامش5. إن أحسن الناس خلقًا أحسنهم دينًا: ص48 - 49 هامش1. إن الله إذا أحب عبدًا قال: إني أحب فلانًا فأحبوه: ص352 هامش7.

إن الله تجاوز عن أمتي عما وسوست أنفسها: ص257 هامش4. إن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين: ص67 هامش2. إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض: ص156 هامش3. إن الله خلق آدم على صورته: ص164 هامش2. إن الله كتب الحسنات والسيئات: ص256 هامش3. إن الله كتب الإحسان: ص260 هامش1. إن الله لا يعذب العامة: ص264 هامش2. إن الله لم يجعل للمسخ نسلًا: ص162 هامش1. إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له: ص84 هامش3. إن الله يعطي من نيته الآخرة: ص 335 هامش 1. إن الله يبغض البليغ المتشدق: ص88 هامش6. إن الله يحب الرفق في الأمر كله: ص53 هامش 5. إن الله يحب أن تؤدى رخصه: ص 247 هامش8. إن الله جميل يحب الجمال: ص 89 هامش4. إن الله نظيف يحب النظافة: ص71 هامش1. إن الله لا ينظر إلى صوركم: ص312 هامش3. إن الله يحب لكم معالي الأمور: ص301 هامش6.

إن الله يحب إذا عمل العمل أن يتقنه: ص121 هامش7. إن الدين متين: ص 81 هامش 2. إن الدين يسر: ص81 هامش4. إن الحياء من الإيمان: ص87 هامش3. الخير لا يأتي إلا بالخير: ص320 هامش3. إن الصدق يهدي إلى البر: ص229 هامش4. أنا عند ظن عبدي بي: ص90 هامش4. إن المرآة خلقت من ضلع: ص157 هامش 7. إن امرأة دخلت النار في هرة: ص53 هامش1. إن المؤمن يأكل في معًى واحد: ص80 هامش1. إن المنبت لا أرضًا قطع: ص81 هامش1. إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم: ص118 هامش5. أنتم أعلم بأمور دنياكم: ص20 هامش1. إن رجالًا يأتونكم من أقطار الأراضين: ص119 هامش2. أنزلوا الناس منازلهم من الخير والشر: ص 287 هامش 1. انظروا إلى من هو أسفل منكم: ص92 هامش1. إن فلانة تكثر من صلاتها وصيامها: ص52 هامش1.

إنك إن فعلت ذلك هجمت عينك: ص284 هامش3. إنكم لا تسعون الناس بأموالكم: ص88 هامش8. إن للشيطان لمة بابن آدم: ص194 هامش1. إن لربك عليك حقًا: ص 114 هامش1. إن من عباد الله لأناسًا ماهم بأنبياء: ص 91 هامش1. إنما أنا بشر: ص21 هامش1. إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق: ص381 هامش3. إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق: ص48 هامش1. إنما مثل الجليس الصالح والسوء: ص287 هامش3. إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى: ص311 هامش1. إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق: ص381 هامش3. إنما أخاف على أمتي الأئمة: ص107 هامش5. إن من أخيركم أحسنكم أخلاقًا: ص336 هامش6. إن مما يلحق المؤمن من عمله علمًا علمه: ص 121 هامش5. إني خلقت عبادي حنفاء كلهم: ص198-199 هامش1. أهل الجنة ثلاثة: ص373 هامش6. أهذا منزل أنزلكه الله: ص20 هامش2.

إياكم والغلو في الدين: ص81 هامش3. آية المنافق ثلاث: ص301 هامش4. أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم: ص374 هامش1. "ب" البر ما اطمأن إليه القلب: ص201 - 202 هامش1, 308 هامش1. البر حسن الخلق: ص 280 هامش1. البر ما انشرح له صدرك: ص308 هامش1. بشروا ولا تنفروا: ص70 هامش1. "ت" تبسمك في وجه أخيك صدقة: ص115 هامش2. تحروا الصدق: ص243 - 244 هامش1. تحروا الصدق: 300 هامش3. تخيروا لنطفكم: ص132 هامش3. تقربوا إلى الله ببعض أهل المعاصي: ص263 هامش7. تركت فيكم أمرين: ص296 هامش3. تكون فتن يكون النائم فيها خير من اليقظان: ص359 هامش 8.

"ث" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: ص68 هامش1. ثلاث خصال من سعادة المرء: ص75 هامش6. "ج" جاء رجل وشعره جمة فأشار بقصه: ص89 هامش3. "ح" حسن الخلق خلق الله الأعظم: ص49 هامش3. حسن الظن من حسن العبادة: ص90 هامش 3. الحكمة ضالة المؤمن: ص204 هامش4. الحلال بيِّن والحرام بيِّن: ص237 هامش1. الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله: ص306 هامش2. "خ" خذي من مال زوجك ما يكفيك: ص140 هامش5. خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا: ص163 هامش4. خمروا الطعام والشراب: ص71 هامش3. خير الناس أنفعهم للناس: ص391 هامش1.

"د" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك: ص 308 هامش 3. دع ما يريبك فإن الصدقة طمأنينة: ص300، 301 هامش1. الدين حسن الخلق: ص48 هامش 3. "ذ" ذلك الوأد الخفي: ص138 هامش4. "ر" رفع القلم عن ثلاث: ص258 هامش8. "س" سبعة يظلهم الله في ظله: ص 373 هامش5. سوء الخلق شؤم: ص70 هامش5. "ش" شرار الناس شرار العلماء: ص107 هامش4. "ص" صدقة تصدق الله بها: ص247 هامش7. صلاة الرجل في جماعة تضعف: ص359 هامش1. صم وأفطر ونم: ص239 هامش2.

"ط" الطهور شطر الإيمان: ص71 هامش2. "ع" عجبًا لأمر المؤمن: ص364 هامش1. عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير: ص86 هامش1. عليكم بالجماعة: ص359 هامش2. عليك بالرفق: ص53 هامش4. عليك بالعلم؛ فإن العلم خليل المؤمن: ص347 هامش1. على كل مسلم صدقة: ص 303 هامش7،370 هامش 2. "ف" فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا: ص84 هامش3، 317 هامش4. فإن حق الله على العباد: ص52 هامش3. فإنك إذا فعلت هجمت عينك: ص284 هامش3. وفر من المجذوم: ص71 هامش5. فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة: ص358 هامش2. فقال اعزل عنها إن شئت: ص138 هامش2. فلينظر أحدكم أين يضع كريمته: ص132 هامش4.

في كل ذات كبد رطبة أجر: ص 114 هامش3، 115 هامش4. "ق" قال: كيف تقضي: ص 306 هامش2. قال: هي في النار: ص 52 هامش1. قيل لرسول الله أرأيت الرجل يعمل من الخير: ص352 هامش 8. "ك" كان خلقه القرآن: ص 48 هامش4. كان عمله ديمة: ص339 هامش5. كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح: ص364 هامش2. كان ينصح بتحسين الهندام: ص89 هامش 5. الكذب كله على ابن آدم إلا: ص243 هامش4. كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم تستطع رده: ص 138 هامش5. كلا والله لتأمرن بالمعروف: ص262 - 263 هامش1. كل معروف صدقة: ص115 هامش5. كلكم بنو آدم: ص302 هامش5. كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: ص 261 هامش1. كل مولود يولد على الفطرة "ورد بلفظ ما من مولود إلا يولد": ص198 هامش3.

كل مسلم على المسلم حرام دمه: ص114- 115 هامش1. كل معروف صدقة: ص115 هامش 5. والكلمة الطيبة صدقة: ص115 هامش3. كنا نغزو. . قلنا: ألا نستخصي: ص133- 134 هامش1. كنت غلامًا في حجر رسول الله: ص87 هامش1. كونوا ربانيين حلماء: ص191 هامش2. "ل" لا إيمان لمن لا أمانة له: ص50 هامش6. لأن يحتطب أحدكم حزمة: ص301 هامش8. لأن يأخذ أحدكم أحبلة: ص120 هامش3. لا تباغضوا ولا تحاسدوا: ص90 هامش 7. لا تزال قدما ابن آدم: ص261 هامش2. لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان: ص190 هامش 5. لا تتخذن أحدًا غرضًا: ص114 هامش2. لا تقتلوا أولادكم سرًا فإن الغيلة: ص20 هامش4. لا جناح عليك: ص243 هامش 6. لا تقتلوا أولادكم سرًا فإن الغيلة: ص20 هامش2. لا حسد إلا في اثنتين: ص118 هامش2. لا خير في الكذب: ص 243 هامش5.

لا ضرر ولا ضرار: ص378 هامش1. لا ضرر ولا ضرار: ص141 هامش1. لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل: ص70 هامش4. لا عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة إلا كائنة: ص139 هامش3. لتأمرن بالمعروف: ص263 هامش2. لقد هممت أن أنهى عن الغيلة: ص20 هامش3. لما خلق الله آدم تركه ما شاء: ص157 هامش3. لو كانت الدنيا تعادل جناح بعوضة: ص77 هامش1. لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه: ص50 هامش2. ليس الشديد بالصرعة: ص93 هامش1. ليس الكذب الذي يصلح بين الناس: ص243 هامش3. ليس الغنى عن كثرة العرض: ص91 هامش2. لا يغرس المسلم غرسًا: ص 119 هامش3. لا يكن أحدكم إمعة لا يورد ممرض على مصح: ص71 هامش 6. "م" ما أعطي أحد خيرًا من الصبر: ص112 هامش 8. ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله: ص 284 هامش 2. ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم: ص375 هامش 1.

ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى: ص 339 هامش 3. ما من أمير يلي أمر المسلمين: ص377 هامش 2. ما من عبد يسترعيه الله رعية: ص377 هامش1. ما من مولود إلا ويولد على الفطرة: ص198 هامش3. ما من نسمة كائنة: ص138 هامش3. ما من رجل يكون في قومه يعمل بعمل فيهم بالمعاصي: ص 279 هامش3. ما يصاب المسلم من نصب إلا كان له أجر: ص 84 هامش 5. إنما مثل الجليس الصالح والسوء: ص287 هامش 3. مثل المؤمن كالخامة: ص113 هامش2. مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم: ص361 هامش 6. مثل القائم في حدود الله: ص263 هامش 4. مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا: ص48 هامش2. المسلم من سلم: ص55 هامش 3. من أحيا أرضًا: ص121 هامش 1. من استطاع منكم الباءة فليتزوج: ص140 هامش 3. من أعمر أرضًا ليست لأحد: ص120 هامش 4. من أفتى بغير علم: ص108 هامش 2. من بنى مسجدًا: ص121 هامش 2 - 3.

من تعلم العلم لغير الله: ص108 هامش 1. من حفر بئرًا أو اشتراه: ص120 هامش 5. من دعا إلى هدى: ص118 هامش 4. من رأى منكم منكرًا فليغيره: ص263 هامش5. من ساء خلقه عذب نفسه: ص282 هامش2. من سئل عن علم فكتمه: ص108 هامش4. من سبق إلى ما لم يسبق إليه: ص121 هامش6. من سن في الإسلام سنة: ص119 هامش4. من سعادة ابن آدم ثلاثة: ص75 هامش5. من سعادة المرء حسن الخلق: ص83 هامش5. من ساء خلقه عذب نفسه: ص282 هامش2. من شقاوة ابن آدم سوء الخلق: ص282 هامش3. من طلب قضاء المسلمين: ص372 هامش4. من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب: ص69 -70 هامش1. من غشنا فليس منا: ص55 هامش4. من فارق الجماعة: ص358 هامش3. من فجع هذه بولدها: ص53 هامش2.

من كانت له مظلمة: ص270 هامش1. من كان له أنثى فلم يهنها: ص141 هامش3. من كان يؤمن بالله فلا يدخل الحمام بغير: ص87 هامش 2. من كان يؤمن بالله ... فلا يؤذِ جاره: ص50 هامش3. من كظم غيظًا: ص203 هامش2. من لم يدع قول الزور والعمل به: ص51 هامش2. المسلم إذا كان مخالطًا: ص360 هامش1. المؤمن إلف مألوف: ص360 هامش2. المؤمن للمؤمن كالبنيان: ص359 هامش4. "ن" نعم حجي عنها: ص305 هامش3. نهى عن التبتل: ص80 هامش4. نهى عن الرهبانية والتبتل: ص132 هامش2. نهى عن القتل بالنار: ص260 هامش2. "هـ" هذه نومة يبغضها الله أو يكرهها: ص88 هامش2. هلك المتنطعون: ص80 هامش3.

"و" والكلمة الطيبة صدقة: ص115 هامش3. والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف: ص263 هامش2. وإنك مهما أنفقت: ص312 هامش2. وفر من المجذوم فرارك من الأسد: ص71 هامش5. ولا تتخذ أحدًا غرضًا: ص148 هامش2. "ي" يا أبا هريرة إذا استطعت أن تلقى الله: ص362 هامش3. يا معشر الشباب من استطاع: ص140 هامش3. يا غلام سم الله وكل بيمينك: ص87 هامش1. يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار: ص106- 107 هامش1. يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار: ص80 هامش6. يحب الله العامل إذا عمل أن يحسن: ص121 هامش7. ينادي منادي أهل الجنة: ص82 هامش5. يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم: ص359 هامش7.

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام "أ" أبا دير حكيم: 126. الشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي: 210، 212. ابن الأثير: 261. ابن خلدون: 117. ابن رشد: 216، 220، 222. ابن سينا: 16، 32، 178، 182. ابن عباس "عبد الله": 165. ابن عربي"محي الدين": 22، 60، 173، 182، 227، 256، 297. ابن قدامة: 133. ابن مسكويه: 18، 25، 43، 44، 62، 212. ابن ودعان: 22. أبو بكر محمد الكلاباذي: 44. أبو الأعلى المودودي: 136. أبو علي الروذباري: 45. أبو سعيد الخدري: 22.

أبو هريرة: 22. أبيقور: 64. أحمد الخشاب: 198. أحمد رامي: 228. أحمد زكي صالح: 154، 195. آدم سميث: 40، 232. إدوارد كلاباريد: 179. أرستبوس: 37، 64، 64. أرسطو: 36، 49، 62، 63، 173، 178، 209، 291، 292، 317. أزفله كولبه: 43. أرنست هيكل: 165، 167. أفلاطون: 36، 66، 81، 101، 173. أكثم بن صيفي: 56. إليكسيس كارل: 187، 73، 74، 79، 128، 152، 153، 187. أمين مرسي قنديل: 58. إندروز "ت. ج": 153. أندريه كرسون: 206، 356.

أوجست كونت: 232، 355. "ب" بارتلمي: 317، 380. باسكال: 181، 197. برنارد جسملر: 159. برنشفيك: 325. برجسون "هنري": 185، 206، 282. بستالوتزي: 129. بطلر: 42. بنتام: 38. بوذا "سيكاموني": 58. "ت" التستري: 44. توفيق الطويل: 36، 37، 38، 39، 63، 56، 100، 206، 232، 291، 292. توماس الإكويني: 232. تيلور: 198.

"ت" ثرستون: 179. "ج" الجرجاني: 30. جميل صليبا "دكتور": 30، 32. جوستاف جوليه: 171. جون ديوي: 36، 38، 58، 150، 315. جون كارل فلوجل: 42. جون روسكين:41. "ح" الحافظ العراقي: 48، 67. حنا أسعد: 97، 98. "د" داروين: 166، 167، 171، 172. "ر" ركس نايت: 179. روجيه باستيد: 198.

روسكين: 41. روسو: 40، 41، 232، 317. رونيه أوبير: 205. ريمون رويه: 323، 226، 227. رسل "برتراند": 146، 167. "ز" زكريا إبراهيم "دكتور": 63، 208، 209. زيد بن رفاعة: 22. "س" سبنسر: 65، 208، 292. سبيرمان: 179. سبينوزا: 324. سد جويك: 232. سقراط: 36، 43، 293، 345. سعد الدين التفتازاني: 339. سعد الشيرازي: 54. سكينر: 153.

سير رتشارد لفنجستون: 197. السيد محمد بدوي "دكتور": 355. السيوطي: 247,313,22. "ش" شابمان بنشر: 171. الشاطبي: 54، 55، 248، 249، 273، 275، 315. شفيق عبد الملك "دكتور": 159. الشهرستاني: 61. شوبنهاور: 41، 209، 324. شيلر: 326. "ص" صالح عبد العزيز "دكتور": 39. صمويل كلارك: 232. "ع" عادل العوا "دكتور": 41، 42، 58، 323، 329، 330. عباس محمود العقاد: 168، 171. عبد العزيز القوصي "دكتور": 154, 348.

عبد السلام سرحان "دكتور": 56. عبد القادر المكاوي: 295. عبد الله بن عمرو بن العاص: 239. علي بن أبي طالب: 22. علي عبد الواحد وافي "دكتور": 61، 262. عمر الخيام: 228. "غ" الإمام الغزالي: 18، 22، 25, 31، 46، 47، 174، 175، 178، 213، 214. "ف" فؤاد البهي السيد "دكتور": 179. الفتني "محمد طاهر بن علي الهندي": 22. الفارابي: 16، 178. فروبل: 126. فريمان: 179. فنيلون الإسكندري: 283. فوزية دياب: 329.

فولتير: 41، 208. فيكتور بوشيه "دكتور": 93، 94. "ق" قتادة: 334. القرطبي: 49، 274، 276، 334. القشيري: 44، 60. "ك" كانط "أمانوئيل": 36، 52، 58، 114، 210، 211، 212، 294، 313، 325. كلاباريد "ادوارد": 179. "ل" لافيل: 327. لامارك: 167. لسلي ستيفن: 65. لطفي السيد: 62. لويس ماسنيون: 167، 171. لوسين: 327. ليبنيتز: 68، 256، 183. ليفي بريل: 35، 100، 101، 104.

ماربورغ: 325. الماوردي: 116. محمد أمين المصري "دكتور": 68. محمد بيصار "دكتور": 96. محمد زاهد الكوثري: 210. محمد عبد الله دراز "دكتور": 52، 241، 356، 370، 372. محمد فؤاد عبد الباقي: 373. محمد كمال جعفر: 60، 61، 181، 355. محمود قاسم "دكتور": 16، 35، 97، 101، 140، 154، 173، 178، 179، 183، 198، 216، 222، 297، 355. محمد لبيب النجيحي "دكتور": 151، 169، 186، 217، 315، 356. محمد وصفي "دكتور": 159. مسيلمة الكذاب: 246. مصطفى سويف "دكتور": 195، 196، 356. مصطفى صبري "شيح الإسلام": 210. مصطفى فهمي "دكتور": 154، 159، 195، 360.

مصطفى نجيب محمود "دكتور": 42. مور: 326. "ن" نجيب إسكندر إبراهيم "دكتور": 328. نيتشه: 324. "هـ" هاتشيسون: 40، 232. هكسلي: 171. هويز: 37، 209. هورني: 360. "و" وليم ماكدوكل: 41، 360. وهيب سمعان: 356. وود وورث: 154. "ي" يوسف الشيخ "دكتور": 179. يوسف مراد: 154، 184، 217، 218.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة مقدمة عامة 1 المنهج وتطبيقه 14 الباب الأول علم الأخلاق الإسلامية: غايته. مجالاته. مدى ضرورته 29 الفصل الأول: تحديد مفهوم علم الأخلاق الإسلامية 30 أولًا: تحديد مفهوم العلم 30 ثانيًا: تحديد مفهوم كلمة الأخلاق عمومًا 32 ثالثًا: مفهوم علم الأخلاق الإسلامية 47 الفصل الثاني: غاية الأخلاق 58 أولًا: الاتجاهات العامة في غاية الأخلاق 58 أ- الاتجاه الروحي 59 ب- الاتجاه العقلي 62 ج- الاتجاه المادي 64 ثانيًا: اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق 65

الفصل الثالث: مجالات الأخلاق 85 أولًا: الاتجاهات العامة في مجالات الأخلاق 85 ثانيًا: مجالات الأخلاق في الإسلام 86 الفصل الرابع: مدى ضرورة علم الأخلاق للحياة الإنسانية 95 أولًا: مدى علمية الأخلاق 95 ثانًيا: مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء 102 ثالثًا: مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام 106 الباب الثاني أسس الأخلاق في نظر الإسلام 123 الفصل الأول: الأساس الميتافيزيقي والاعتقادي 124 أولًا: أركان الأساس الاعتقادي 124 ثانيًا: أهمية الأساس الاعتقادي 126 الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي 130 أولًا: أساس الاعتدال بين الواقعية والمثالية 130 ثانيًا: مراعاة قوانين الطبيعة والحياة 131 الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية 150 أولًا: رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية 150

ثانيًا: رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية 155 ثالثًا: صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق 202 الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية 208 أولًا: الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإرادة 208 ثانيًا: رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية 218 الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي 231 أولًا: الاتجاهات المختلفة في الإلزام الأخلاقي 232 ثانيًا: رأي الإسلام في الإلزام الأخلاقي 232 ثالثًا: مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته 237 رابعًا: خصائص الإلزام الأخلاقي في الإسلام 240 الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية 252 أولًا: تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية 252 ثانيًا: مجالات المسئولية وأقسامها وأبعادها 256 ثالثًا: أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية 259 رابعًا: أقسام المسئولية بحسب جزاءاتها 264 الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي 268 أولًا: أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام 268

1- الجزاء الإلهي 268 2- الجزاء الوجداني 280 3- الجزاء الطبيعي 284 4- الجزاء الاجتماعي 285 ثانيًا: خصائص الجزاءات الأخلاقية الإسلامية 288 الباب الثالث القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام 291 الفصل الأول: المعايير الأخلاقية 292 أولًا: الاتجاهات العامة في المعايير الأخلاقية 292 ثانيًا: المعايير الأخلاقية في الإسلام 297 أ- المعايير الأخلاقية الموضوعية 297 ب- المعايير الأخلاقية الذاتية 306 ثالثًا: خلاصة المعايير الأخلاقية الإسلامية 322 الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية 323 أولًا: تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام 324 ثانيًا: تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام 331 ثالثًا: أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية 347

الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع 356 أولًا: أهم الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع 356 ثانيًا: اتجاه الإسلام في الموضوع 357 ثالثًا: أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية 364 الخاتمة: أهم النتائج والتوصيات 379 أولًا: أهم النتائج 380 ثانيًا: أهم التوصيات 394 مصادر ومراجع الكتاب 397 فهرس أطراف الأحاديث 420 فهرس الأعلام 437 فهرس الموضوعات 447

كتب أخرى للمؤلف 1- منهاج الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث، المطبعة المصرية ومكتبتها، القاهرة، 1969م. 2- البيت الإسلامي كما ينبغي أن يكون، القاهرة، دار الهلال، 1972م. 3- الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، القاهرة، مكتبة الخانجي 1973م. 4- التربية الأخلاقية الإسلامية، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1977م. 5- قيمة الإيمان والأخلاق في الحياة العملية "باللغة التركية" إسطنبول، 1980م. IMAN VE AHLAKIN HAYATi DEGERLERi.HiKMET YAYINLARI. iSTANBUL.1980. 6- علم النفس التربوي في الإسلام. "بالاشتراك" الرياض، دار المريخ, 1401هـ. 7- دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإنسانية بيروت، دار الشروق، 1403هـ. 8- توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي، الرياض، دار المريخ، 1402هـ. 9- فلسفة الحياة الروحية، الرياض، دار عالم الكتب، ط "2"، 1409هـ. 10- موسوعة التربية الإسلامية، الجزء الأول بعنوان: جوانب التربية

الإسلامية الأساسية، بيروت، مؤسسة دار الريحاني، 1406هـ. 11- موسوعة التربية الإسلامية، الجزء الثاني بعنوان: أهداف التربية الإسلامية وغايتها، الرياض، دار الهدى، 1406هـ. 12- التربية الإسلامية ودورها في مكافحة الجريمة، الرياض، مطابع الفرزدق، 1408هـ. 13- الطريق إلى العبقرية، دار الهدى، الرياض، 1407هـ. 14- طريق السعادة، مطبعة البكيرية، الرياض، 1407هـ. 15- بناء البيت السعيد في ضوء الإسلام، دار المريخ، الرياض, 1408هـ. 16- الشعوب الإسلامية ووسائل التقريب بينها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إدارة الثقافة والنشر، الرياض، 1408هـ. 17- منابع مشكلات الأمة الإسلامية والعالم المعاصر، ودور التربية الإسلامية وقيمها في معالجتها، دار عالم الكتب، الرياض، 1411هـ. 18- دليل التأصيل الإسلامي للتربية، "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمادة البحث العلمي", الرياض 1411هـ. 19- دور جامعات العالم الإسلامي في مواجهة التحديات المعاصرة, دار عالم الكتب، الرياض 1411هـ. 20- معالم بناء نظرية التربية الإسلامية، دار عالم الكتب، الرياض 1411هـ. 21- معالم منهج التجديد في الفلسفة الإسلامية، دار عالم الكتب، الرياض.

كتب تحت الطبع 22- الرحلات العلمية من الشرق والغرب رحلة الدكتور مقدار يالجن، رحلاته ومحاوراته وتجاربه العلمية وذكرياته ومرئياته في المشكلات العالمية، دار عالم الكتب. 23- توجيه المعلم إلى معالم طريق تعليم العلوم الإسلامية، دار عالم الكتب، الرياض. 24- أسرار التفوق العلمي وعوامله الأساسية "باللغة التركية غير منشور". 25- أفكارنا الأساسية معالم طريقنا "باللغة التركية غير منشور". كتب تحت الإنجاز: 27- علم التربية الإسلامية. 28- أساسيات التربية الإسلامية. 29- أساسيات التوجيه الإسلامي للعلوم. 30- مشكلات الحركات الإسلامية المعاصرة وطرق معالجتها. 31- منهج البحث في التربية الإسلامية. 32- موسوعة التربية الإسلامية. 33- موسوعة الأخلاق الإسلامية. 34- سلسلة تربيتنا. 35- سلسلة دليل التأصيل الإسلامي للتربية.

§1/1