علم أصول الفقه ط مكتبة الدعوة

عبد الوهاب خلاف

ـ[علم أصول الفقه]ـ المؤلف: عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ) الناشر: مكتبة الدعوة - شباب الأزهر (عن الطبعة الثامنة لدار القلم) الطبعة: الثامنة عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

_ نسقه وقام بفهرسته الباحث في القرآن والسنة: علي بن نايف الشحود

مقدمات

لمحة عن حياة المؤلف - ولد الفقيد في شهر مارس سنة 1888 ببلدة كفر الزيات. - التحق بالأزهر الشريف سنة 1900م بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد ((كتاتيب)) البلدة. - انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج فيها عام 1915م وعين مدرساً بها في نفس السنة. - اشترك في ثورة 1919م فبرزت خلالها مواهبه الخطابية والكتابية وترك المدرسة أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي. - عين قاضياً بالمحاكم الشرعية سنة1920م ثم نقل مديراً للمساجد بوزارة الأوقاف سنة 1924م وبقي بها حتى عين مفتشاً بالمحاكم الشرعية في منتصف سنة1931م. - انتدبته كلية حقوق جامعة القاهرة مدرساً بها في أوائل سنة 1934م وبقي أستاذاً لكرسي الشريعة الإسلامية حتى أحالته إلى المعاش سنة 1948م وقد ظلت تمد مدة خدمته حتى بداية عام 1955-1956م حيث أقعده المرض عن إلقاء المحاضرات. - زار كثيراً من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات، فكان سفيراً ناجحاً لمصر في كل مكان.

- انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن. - ترك للشريعة الإسلامية ثروة من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة وجلاء الأحكام، فله كتاب ((أصول الفقه)) ، وكتاب ((أحكام الأحوال الشخصية)) ، وشرح واف لقانوني ((الوقف والمواريث)) ، وكتاب فريد عن ((السياسة الشرعية)) ، أو السلطات الثلاث في الإسلام، وكتيب في تفسير القرآن الكريم بعنوان ((نور من الإسلام)) ، وهذا عدا ما دبجه من بحوث ومقالات كثيرة نشرها في مجلة القضاء الشرعي ومجلة الأحكام ومجلة لواء الإسلام ومجلتي الثقافة والرسالة. - ألقى مجموعة من الأحاديث من منبر الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات العلمية والدينية والاجتماعية وأخصها ((من قصص القرآن)) . - ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية، كما ألقى سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لعدة سنوات بدار الحكمة. وأخيراً طواه الموت وشيع جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير بمقابر الغفير صباح الجمعة 20/1/1956م، وتغمده الله برحمته.

افتتاحية الطبعة السابعة للشيخ محمد أبو زهرة

افتتاحية الطبعة السابعة للشيخ محمد أبو زهرة الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور" (الملك: 1، 2) ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا كتاب "علم أصول الفقه" للمرحوم الأستاذ الجليل الشيخ عبد الوهاب خلاف، نقدم أول طبعة له بعد أن انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى، ولقد ورد في الأثر النبوي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعوا له " وإن كتاب أصول الفقه الذي نقدمه لتلاميذه هو بلا ريب علم ينتفع به، فهو عمل مستمر له ثوابه إلى يوم القيامة. ولقد كنت قد اعتزمتُ أن أكتب كتابا في الأصول لطلبة الكلية ألتزم فيه المنهاج الذي رسمته لنفسي، ولكن ما إن أخذت الأهبة وبدأت أكتب حتى ساورتني فكرة، وهي أن أترك القلم لنعيد طبع كتاب المرحوم أستاذنا خلاف، وألحت علىّ هذه الفكرة فذاكرت فيها الصديقين الكريمين الأستاذ عبد الفتاح القاضي، والأستاذ على الخفيف، فاتفق ثلاثتنا على أن نعيد الطبع إحياء لذكرى الراحل الكريم. وها هي ذي طبعة الذكرى نقدمها لتلاميذ الفقيد الكريم، ولمحبي علمه، ولقد رأينا نحن الثلاثة أيضا أن تكون هذه الطبعة صورة صادقة لتفكير كاتب الكتاب فتكون الذكرى كاملة، ولذلك لم نتزيد على الكتاب بزيادة، ولم ننقص منه عبارة، ولم نعدل فيه رأيا ليقرأ القارئ في هذه الطبعة ما كتبه الأستاذ كما قرأه في

الطبعات السابقة فلا تتغير إلا فيما عساه يكون من تصحيف جرى في الطبع في النسخ السابقة. وإننا نحن الذين زاملنا الأستاذ وعاشرناه أكثر من عشرين سنة نحس أن فراغاً هائلاً قد تركه، وهكذا كل رجالات العلم الذين لهم كيان فكري مستقل قد اختصوا به، ومنهاج علمي لم يكونوا فيه مقلدين قد التزموه. رحمه الله وأثابه وجزاه عن العلم والأخلاق خيراً. محمد أبو زهرة 8 صفر سنة 1376 هـ -13 سبتمبر سنة 1959م

فاتحة طبعة سنة 1947 م للمؤلف

فاتحة طبعة سنة 1947 م للمؤلف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى رسل الله أجمعين ومن اعتصموا بحبلهم المتين. أما بعد.. فإن علم أصول الفقه لا يستغني عنه مجتهد في تبيينه النصوص وتفنينه فيما لا نص فيه، ولا قاض في فهمه مواد القانون حق فهمها، وتطبيقها التطبيق الذين يحقق العدل وما قصده الشارع بها، ولا فقيه في بحثه ودرسه وتحليله ومقارنته ومقابلته بين المذاهب والآراء. وأحمد الله الذي أمدني بمعونته وهدايته، فأخرجت كتابا في هذا العلم ذلل صعبه وقرب متناوله، ووفقني إلى أن أصوغ مسائله في قواعد كلية، وأن أورد أمثلتها التطبيقية من النصوص الشعرية ومن مواد القوانين الوضعية، وأن أقارن بين كثير من بحوثه وما يقابلها من بحوث علم أصول القوانين. وقد لقي كتابي والحمد لله من حسن القبول والتقدير مما شجعني على أن أعيد طبعه بعد أن أضفت إليه بحوثا جديدة، وزدته تهذيبا وتنقيحا وإيضاحا، وأسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه. القاهرة في: رجب سنة 1366 هـ -يوليو سنة 1947م

فاتحة طبعة سنة 1942 م

فاتحة طبعة سنة 1942 م الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله الذين بعثه الله بشريعة محكمة حنيفية سمحة، أساسها اليسر بالناس ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، وكانوا تماما لنوره، ودعاة إلى هداه. أما بعد.. فإن المجتهدين من أئمة المسلمين بذلوا أقصى جهودهم العقلية في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها، واستخرجوا من النصوص الشرعية وروحها ومعقولها كنوزاً تشريعية ثمينة، كفلت مصالح المسلمين على اختلاف أجناسهم وأقطارهم ونظمهم ومعاملاتهم، ولم تضق بحاجة من حاجاتهم، بل كان فيها تشريع لأقضيه لم تحدث، ووقائع فرضية، وهذه موسوعات الفقه آيات تنطق بما بذلوه من جهد وما كان حليفهم من توفيق. ولم يكتفوا بما استمدوه من أحكام، وما سنوه من قوانين، بل عنوا بوضع قواعد للاستمداد، وقوانين للاستنباط، وكونوا من مجموعة هذه القواعد علم أصول الفقه، وكأنهم رحمهم الله بصنيعهم هذا أشاروا إلى خلفهم إلى أن لا يركنوا إلى اجتهادهم، وأن يجتهدوا كما اجتهدوا، ويبنوا كما بنوا، فإن الأقضية تحدث والمصالح تتغير، ومصادر الشريعة معين لا ينضب، ومنهل عذب لك وارد، وفضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا كتابي في علم أصول الفقه قصدت به إحياء هذا العلم، وإلقاء الضوء على بحوثه، وراعيت في عبارته الإيجاز والإيضاح، وفي بحوثه وموضوعاته

الاقتصار على ما تمس إليه الحاجة في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها وفهم الأحكام القانونية من موادها، وعنيت بأن تكون الأمثلة التطبيقية للقواعد الأصولية من نصوص الشريعة ومن مواد القوانين الوضعية، وأشرت في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول التقنين الشرعي وأصول التقنين الوضعي، وقسمته إلى مقدمة وأربعة أقسام: فالمقدمة: في مقارنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه يتبين منها التعريف بهما، وموضوعهما والغاية من دارستهما، ونشأة كل منهما وتطوره ليكون الشروع في علم أصول الفقه على بصيرة به. والقسم الأول: في الأدلة التي تستمد منها الأحكام الشرعية، وفي هذا القسم تتجلى سعة المصادر التشريعية في الشريعة الإسلامية ومرونتها وخصوبتها وصلاحيتها للتقنين في كل عصر ولكل أمة. والقسم الثاني: في مباحث الأحكام الشرعية الأربعة، وفي هذا القسم تظهر أنواع ما شرع في الإسلام من الأحكام، ويتجلى عدل الله ورحمته في رفع الحرج عن المكلفين وإرادة اليسر بهم. والقسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي هذا القسم تظهر دقة اللغة العربية في دلالتها على المعاني ومهارة علماء التشريع الإسلامي في استثمارهم الأحكام من النصوص، وسبلهم القويمة في إزالة خفائها وفي تفسيرها وتأويلها. والقسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، وهذا هو لب العلم وروحه، وفيه يتجلى مقصد الشارع العام من تشريع الأحكام، وما أنعم الله به على عباده من رعاية مصالحهم.

وأسأل الله أن يتقبل كتابي هذا بقبول حسن، وأن يجعله خالصا لوجهه. عبد الوهاب خلاف القاهرة في: 10 رمضان سنة 1361 هـ 21 سبتمبر سنة 1942م

مقدمة (الفرق بين الفقه وعلم أصول الفقه)

مقدمة (الفرق بين الفقه وعلم أصول الفقه) في موازنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه من حيث التعريف بكل منهما، وبيان موضوعه، وغايته، ونشأته، وتطوره. التعريف: من المتفق عليه بين علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال سواء أكان من العبادات أم المعاملات أم الجرائم أم الأحوال الشخصية أم من أي نوع من أنواع العقود أو التصرفات له في الشريعة الإسلامية حكم، وهذه الأحكام بعضها بينتها نصوص وَرَدت في القرآن والسنة، وبعضها لم تبينها نصوص في القرآن أو السنة، ولكن أقامت الشريعة دلائل عليها ونصبت أمارات لها بحيث يستطيع المجتهد بواسطة تلك الدلائل والأمارات أن يصل إليها ويتبينها. ومن مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، المستفادة من النصوص فيما وردت فيه نصوص، والمستنبطة من الدلائل الشرعية الأخرى فيما لم ترد فيه نصوص تكون الفقه. فعلم الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية.

وقد ثبت للعلماء بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية للعملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس وأن أساس هذه الأدلة والمصدر الأول منها هو القرآن، ثم السنَّة التي فسّرت مجمله، وخصصت عامه، وقيدت مطلقه، وكانت تبياناً له وتماماً. ولهذا بحثوا في كل دليل من هذه الأدلة وفي البرهان على أنه حجة على الناس ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به وفي أنواعه الكلية، وفيما يدل على كل نوع منها من الأحكام الشرعية الكلية. وبحثوا أيضاً في الأحكام الشرعية الكلية التي تستفاد من تلك الأدلة وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من قواعد لغوية وتشريعية. وبحثوا أيضاً فيمن يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد، فبينوا الاجتهاد وشروطه والتقليد وحكمه. ومن مجموعة هذه القواعد والبحوث المتعلقة بالأدلة الشرعية من حيث دلالتها على الأحكام، وبالأحكام من حيث استفادتها من أدلتها ومما يتعلق بهذين من اللواحق والمتممات تكونت أصول الفقه. فعلم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أوهي مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. الموضوع: موضوع البحث في علم الفقه: هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية، فالفقيه يبحث في بيع المكلف وإجارته ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجّه وقتله وقذفه وسرقته وإقراره ووقفه لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال. وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه: فهو الدليل الشرعي الكلي من حيث

ما يثبت به من الأحكام الكلية، فالأصولي يبحث في القياس وحجيته، والعام وما يقيده، والأمر وما يدل عليه وهكذا.. وإيضاحاً لهذا أضرب المثل الآتي: القرآن هو الدليل الشرعي الأول على الأحكام، ونصوصه التشريعية لم ترد على حال واحدة، بل منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، ومنها ما ورد بصيغة العموم أو بصيغة الإطلاق، فصيغة الأمر، وصيغة النهي، وصيغة العموم، وصيغة الإطلاق، أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام، وهو القرآن. فالأصولي يبحث في كل نوع من هذه الأنواع ليتوصل إلى نوع الحكم الكلي الذي يدل عليه مستعيناً في بحثه باستقراء الأساليب العربية والاستعمالات الشرعية، فإذا وصل ببحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهي تدل على التحريم وصيغة العموم تدل على شمول جميع أفراد العام قطعاً، وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم مطلقاً، وضع القواعد الآتية: الأمر للإيجاب، النهي للتحريم، العام ينتظم جميع أفراده قطعاً المطلق يدل على الفرد الشائع بغير قيد. وهذه القواعد الكلية وغيرها مما يتوصل الأصولي ببحثه إلى وضعها يأخذها الفقيه قواعد مُسَلَّمَة ويطبقها على جزيئات الدليل الكلي ليتوصّل بها إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي، فيطبق قاعدة: الأمر للإيجاب على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة:1) ويحكم على الإيفاء بالعقود بأنه واجب. ويطبق قاعدة: النهي للتحريم، على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} (الحجرات:11) . ويحكم بأن سخرية قوم من قوم محرمة. ويطبق قاعدة: العام ينتظم جميع أفراده قطعاً: على قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: 23) ويحكم بأن كل أمّ مُحرّمة. ويطبق قاعدة: المطلق يدل على أي فرد على قوله تعالى في كفارة الظهار: {فتحرير رقبة} (المجادلة:3) ، ويحكم بأنه يجزئ في التفكير تحرير أية رقبة مسلمة أو غير مسلمة. ومن هذا يتبين الفرق بين الدليل الكلي والدليل الجزئي، وبين الحكم الكلي والحكم الجزئي. فالدليل الكلي هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزيئات مثل

الأمر والنهي والعام والمطلق والإجماع الصريح والإجماع السكوتي، والقياس المنصوص على علته والقياس المستنبطة علته، فالأمر كلي يندرج تحته جميع الصيغ التي وردت بصيغة النهي وهكذا، فالأمر دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة الأمر دليل جزئي، والنهي دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة النهي دليل جزئي. وأما الحكم الكلي فهو النوع العام من الأحكام الذي تندرج فيه عدة جزيئات مثل الإيجاب والتحريم والصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي يندرج فيه إيجاب الوفاء بالعقود وإيجاب الشهود في الزواج وإيجاب أي واجب، والتحريم حكم كلي يندرج فيه تحريم الزنى والسرقة وتحريم أي محرم، وهكذا الصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي، وإيجاب فعل معين حكم جزئي. والأصولي لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه الأحكام الجزئية، وإنما يبحث في الدليل الكلي وما يدل عليه من حكم كلي ليضع قواعد كلية لدلالة الأدلة كي يطبقها الفقيه على جزيئات الأدلة لاستثمار الحكم التفصيلي منها. والفقيه لا يبحث في الأدلة الكلية ولا فيما تدل عليه من أحكام كلية وإنما يبحث في الدليل الجزئي وما يدل عليه من حكم جزئي. الغاية المقصودة بهما: الغاية المقصودة من علم الفقه: هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم، فالفقه هو المرجع القاضي في قضائه، والمفتي في فتواه، ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أيّة أمّة، فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها على أفعال الناس وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه. وأما الغاية المقصودة من علم أصول الفقه: فهي تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية التي تدل عليها. فبقواعده وبحوثه تفهم النصوص الشرعية ويعرف ما تدل عليه من الأحكام ويعرف ما يزال به من خفاء الخَفي منها، وما يرجح منها عند تعارض بعضها ببعض. وبقواعده وبحوثه يستنبط الحكم بالقياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو

غيرها في الواقعة التي لم يرد نص بحكمها. وبقواعده وبحوثه يفهم ما استنبطه الأئمة المجتهدون حق فهمه، ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة، لأن فهم الحكم على وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف على دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليله، ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه فهو عماد الفقه المقارن. نشأة كل منها وتطوّره: نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام، لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن، ومن الأحكام التي صدرت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتوى في واقعة، أو قضاء في خصومة، أو جواباً عن سؤال. فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الأول مكونة من أحكام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومصدرها القرآن والسنة. وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوارئ لم تواجه المسلمين ولم تطرأ لهم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم. فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني مكونة من أحكام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة. وفي هذين الطورين لم تدوّن هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلاً من الواقع وما وقع من الحوادث، ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية ولم تُسَم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء. وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب، وواجهت المسلمين طوارئ ومشاكل وبحوث ونظريات وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع، وفتحت لهم أبواباً من البحث والنظر، فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية

وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية، وأضيفت إلى المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، وفتاوى المجتهدين واستنباطهم، ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين. وفي هذا العهد بُدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرغ عنها، وسمي رجالها الفقهاء وسمي العلم علم الفقه، ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا موطأ مالك بن أنس - رضي الله عنه -، فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى للصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين، ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه الكافي وشرحه السرخسي في كتابه المبسوط وهي مرجع فقه المذهب الحنفي، وأملى الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه (الأم) وهو عماد فقه المذهب الشافعي. أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري، لأنه في القرن الهجري الأول لم تدع حاجة إليه، فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحى به إليه ربه من القرآن، ولما يلهم به من السنن، وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلى أصول وقواعد يتوصل بها إلى الاستنباط والاجتهاد. وأصحابه كانوا يفتون ويقضون بالنصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية السليمة من غير حاجة إلى قواعد لغوية يهتدون بها على فهم النصوص، ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووقوفهم على أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وفهمهم مقاصد الشارع ومبادئ التشريع. ولكن لما اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب بغيرهم وتشافهوا وتكاتبوا ودخل في العربية كثير من المفردات والأساليب غير العربية، ولم تبق المَلَكَة اللّسانية على سلامتها، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص دعت الحاجة إلى وضع ضوابط وقواعد لغوية يقتدر بها على فهم النصوص كما

يفهمها العربي الذي وردت النصوص بلغته، كما دعت إلى وضع قواعد نحوية يقتدر بها على صحة النطق. وكذلك لما بعد العهد بفجر التشريع، واحتدم الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، واجترأ بعض ذوي الأهواء على الاحتجاج بما لا يحتج به، وإنكار بعض ما يحتج به، دعا كل هذا إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تَكوّن علم أصول الفقه. ولكنه بدأ صغيرا كما يوجد كل مولود أول نشأته ثم تدرج في النمو حتى بلغت أسفاره المئتين. بدأ منثورا مفرقا في خلال أحكام الفقه لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة وغيرهم كان يشير إلى دليل حكمه ووجه استدلاله به، وكل مخالف كان يحتج على مخالفة بوجوه من الحجج، وكل هذه الاستدلالات والاحتجاجات تنطوي على ضوابط أصولية. وأول من جمع هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سِفْر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه. وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عند عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدوّن في العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أنّ واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي - رضي الله عنه -. وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز.

وقد سلك علماء الكلام طريقا في التأليف في هذا العلم، وسلك علماء الحنفية طريقا آخر في التأليف فيه. فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد على ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها، ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة كتاب "المستصفى" لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505هـ، وكتاب "الأحكام" لأبي حسن الآمدي الشافعي سنة 631هـ، وكتاب "المنهاج" للبيضاوي الشافعي المتوفى سنة 685هـ، وأحسن شروحه شرح الإسنوي. وأما علماء الحنفية فتمتاز طريقتهم بأنهم وضعوا القواعد والبحوث الأصولية التي رأوا أن أئمتهم بنوا عليها اجتهادهم، فهم لا يثبتون قواعد وبحوثا نظرية، وإنما يثبتون قواعد عملية عنها أحكام أئمتهم، ورائدهم في تحقيق هذه القواعد والأحكام التي استنبطها أئمتهم بناء عليها لا مجرد البرهان النظري، ولهذا أكثروا في كتبهم من ذكر الفروع، وصاغوا في بعض الأحيان القواعد الأصولية على ما يتفق وهذه الفروع، فكانت وجهتهم استمداد أصول فقه أئمتهم من فروعهم. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريق أصول أبي زيد الدبوسي المتوفى سنة 430 هـ، وأصول فخر الإسلام البزدوي المتوفى سنة 483هـ، وكتاب المنار للحفاظ النسفي المتوفى سنة 790هـ، وأحسن شروحه: "مشكاة الأنوار". وقد سلك بعض العلماء في التأليف في هذا العلم طريقا جامعا بين الطريقتين السابقتين فعنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها، وعني كذلك بتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها بها. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على الطريقة المزدوجة كتاب

"بديع النظام" الجامع بين البزدوي والأحكام لمظفر الدين البغدادي الحنفي المتوفى سنة 694هـ، وكتاب "التوضيح " لصدر الشريعة، و"التحرير" للكمال بن الهمام، "وجمع الجوامع" لابن السبكي. ومن المؤلفات الحديثة الموجزة المفيدة في هذا العلم: كتاب " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" للإمام الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. وكتاب "أصول الفقه" للمرحوم الشيخ محمد الخضري بك، المتوفى سنة 1927م. وكتاب "تسهيل الوصول إلى علم الأصول" للمرحوم الشيخ محمد عبد الرحمن عيد المحلاوي المتوفى سنة 1920م. ونحمد الله الذي وفقنا إلى الإطلاع على الكثير من هذه الكتب وهدانا إلى هذه الخلاصة الوافية التي بينّا فيها مصادر التشريع الإسلامي أجلى بيان وكشفنا عن مرونتها وخصوبتها وسعتها، وبينّا فيها مباحث الأحكام بيانا قرب فهمها وجلى حكمة الشارع فيما شرعه، وصِغنا فيها البحوث اللغوية والتشريعية بصيغة القواعد ليسهل فهمها وتطبيقها، وراعينا في الأمثلة التطبيقية أن تكون من النصوص الشرعية ومن قوانيننا الوضعية ليعرف كيف ينتفع عملاً بهذا العلم، وأشرنا في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول الأحكام الشرعية وأصول القوانين الوضعية ليتبين أن مقصد الاثنين واحد وهو الوصول إلى فهم الأحكام من نصوصها فهما صحيحا، وتحقيق مقاصد الشارع مما شرعه، وتأمين نصوص القوانين من العبث بها. وأهم ما ألفت النظر إليه أن بحوث علم أصول الفقه وقواعده ليست بحوثا وقواعد تعبدية وإنما هي أدوات ووسائل يستعين بها المشرع على مراعاة المصلحة العامة والوقوف عند الحد الإلهي في تشريعه، ويستعين بها القاضي في تحري العدل في قضائه وتطبيق القانون على وجهه، فهي ليست خاصة بالنصوص الشرعية والأحكام الشرعية.

القسم الأول: في الأدلة الشرعية

تنبيه: تعريف العلم، وموضوعه، وغايته، ومنشؤه، ونسبته إلى سائر العلوم، وواضعه وحكم الشرع فيه، ومسائله، هذه كلها تسمى مبادئ العلم. وهي تكون للعلم صورة إجمالية تجعل من يشرع في دراسته ملمّاً به، ولهذا اعتاد المؤلفون أن يقدموا مؤلفهم في العلم بمقدمة في بيان مبادئه. وقد ألف كثير من العلماء رسائل خاصة في مبادئ العلوم ومنها رسالة مطبوعة صغيرة الحجم كبيرة الفائدة للمرحوم الشيخ على رجب الصالحي اسمها "تحقيق مبادئ العلوم الإحدى عشر". وابن خلدون في المقدمة كتب في القسم الأخير منها فصولا ممتعة في العلوم الشرعية واللغوية والعقلية، بين فيها تعريف كل علم ونشأته وتطوره. القسم الأول: في الأدلة الشرعية تعريف الدليل: الدليل معناه في اللغة العربية: الهادي إلى أي شيء حسي أو معنوي، خير أو شر، وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن. وأدلة الأحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد. وبعض الأصوليين عرّف الدليل بأنه: ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل. ولكن المشهور في اصطلاح الأصوليين أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم

شرعي عملي مطلقا، أي سواء أكان على سبيل القطع أم علي سبيل الظن، ولهذا قسّموا الدليل إلى قطعي الدلالة، وإلى ظني الدلالة. الأدلة الشرعية بالإجمال: ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، واتفقوا أيضاً على أنها مرتبة في الاستدلال بها هذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس. أي أنه إذا عرضت واقعة، نظر أولا في القرآن، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها، نظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها نظر هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور علي حكم فيها؟ فإن وجد أمضى، وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكمها بقياسها على ما ورد النص بحكمه. أما البرهان على الاستدلال بها: فهو قوله تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] فالأمر بإطاعة الله وإطاعة رسوله، أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بإطاعة أولي الأمر من المسلمين أمرٌ باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع، لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم، فالآية تدل على اتباع هذه الأربعة. وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب: فهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف

تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأي ولا آلو، (أي لا أقصر في اجتهادي) ، قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله"، وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم فقضي به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضي بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به، وكذلك كان يفعل عمر، وأقرّهما على هذا كبار الصحابة ورؤوس المسلمين ولم يعرف بينهم مخالف في هذا الترتيب. وتوجد أدلة أخرى عدا هذه الأدلة والأربعة لم يتفق جمهور المسلمين علي الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها، وأشهر هذه الأدلة المختلف في الاستدلال بها ستة: الاستحسان، والمصلحة المرسلة والاستصحاب، والعرف، ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا. فجملة الأدلة الشرعية عشرة: أربعة متفق من جمهور المسلمين على الاستدلال بها، وستة مختلف في الاستدلال بها، وهذا تفصيل البحث فيها جميعها.

الدليل الأول القرآن

مصادر التشريع الإسلامي الدليل الأول القرآن ... خواصه: القرآن هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله ودستورا للناس يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل، محفوظا من أي تغيير أو تبديل، مصداق قول الله سبحانه فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . فمن خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله، وأن ألفاظه العربية هي التي أنزلها الله على قلب رسوله، والرسول ما كان إلا تالياً لها ومبلغاً إياها، ويتفرع عن هذا ما يأتي: أما ألهم الله به رسوله من المعاني ولم ينزل عليه ألفاظها بل عبر الرسول بألفاظ من عنده عمّا ألهم به لا يعد من القرآن ولاتثبت له أحكام القرآن، وإنما هو من أحاديث الرسول، وكذلك الأحاديث القدسية وهي الأحاديث التي قالها الرسول فيما يرويه عن ربه لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكام القرآن فلا تكون في مرتبته في الحجية، ولا تصح الصلاة بها، ولا يتعبد بتلاوتها. ب تفسير سورة أو آية بألفاظ عربية مرادفة لألفاظ القرآن دالة على ما دلّت عليه ألفاظه لا يعد قرآناً مهما كان مطابقاً للمفسر في دلالته لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله. ت ترجمة سورة أو آية بلغة أجنبية غير عربية لا تعد قرآناً مهما روعي من دقة الترجمة وتمام مطابقتها للمترجم في دلالته، لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله. نعم لو كان تفسير القرآن أو ترجمته يتم بواسطة من يوثق بدينه وعلمه وأمانته وحذقه يسوغ أن يعتبر هذا التفسير أو هذه الترجمة بياناً لما دل عليه القرآن ومرجعاً لما جاء به، ولكن لا يعتبر هو القرآن ولا تثبت له أحكامه، فلا يحتج بصيغة عبارته وعموم لفظه وإطلاقه لأن ألفاظه وعباراته ليست ألفاظ القرآن ولا عباراته، ولا تصح الصلاة به ولا يتعبد بتلاوته.

ومن خواصه أنه منقول بالتواتر أي بطريق النقل الذي يفيد العلم والقطع بصحة الرواية، ويتفرع عن هذا بعض القراءات التي تروى بغير طريق التواتر كما يقال: (وقرأ بعض الصحابة كذا) لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكامه. حجيته: البرهان على أن القرآن حجة على الناس وأن أحكامه قانون واجب عليهم اتّباعه أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته. أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله.

معنى الإعجاز وأركانه: الإعجاز: معناه في اللغة العربية نسبة العجز إلى الغير وإثباته له، يقال أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء.. وأعجز القرآن الناس أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله. ولا يتحقق الإعجاز أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة: الأول: التحدي، أي طلب المباراة والمنازلة والمعارضة. والثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المباراة والمنازلة والمعارضة. والثالث: أن ينتفي المانع الذي يمنعه من هذه المباراة. فإذا ادعى رياضي أنه بطل نوع من أنواع الرياضة وأنكر عليه دعواه رياضي آخر، فتحدى مدعي البطولة من أنكر عليه وطلب منه أن يباريه أو أن يأتي بمن يباريه، وهذا المنكر مع شدة حرصه على إبطال دعوى هذا المدعي، ومع أنه ليس به أي مرض ولا له أي عذر يمنعه عن مباراته وعن الإتيان بمن يباريه لم يتقدم لمباراته ولم يأت بمن يباريه، فإن هذا اعتراف منه بالعجز وتسليم بالدعوى. والقرآن الكريم توافر فيه التحدي به، ووجد المقتضي لمن تحدوا به أن يعارضوه، وانتفى المانع لهم، ومع هذا لم يعارضوه ولم يأتوا بمثله. أما التحدي فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للناس إني رسول الله، وبرهاني على إني رسول الله، هذا القرآن الذي أتلوه عليكم لأنه أوحي إلى به من عند الله، فلما أنكروا عليه دعواه، قال لهم: إن كنتم في ريب من أنه من عند الله وتبادر إلى عقولكم أنه من صنع البشر فأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، وتحداهم وطلب منهم هذه المعارضة بلهجات واخزة وألفاظ قارعة وعبارات تهكمية تستفز العزيمة وتدعو إلى المباراة، وأقسم أنهم لا يأتون بمثله ولن يفعلوا، ولن يستجيبوا، ولن يأتوا بمثله. قال تعالى في سورة القصص: {قُُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا

أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} [القصص: 51،50] وقال تعالى في سورة الإسراء: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] وقال سبحانه في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] وقال في سورة البقرة: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24،23] وقال في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34،33] . وأما وجود المقتضى للمباراة والمعارضة عند من تحداهم فهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ادّعى أنه رسول الله وجاءهم بدين يبطل دينهم، وما وجدوا عليه آباءهم وسفه عقولهم وسخر من أوثانهم، واحتج على دعواه بأن القرآن من عند الله، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فما كان أحوجهم وأشد حرصهم على أن يأتوا بمثله، كله أو بعضه ليبطلوا أنه من عند الله وليدحضوا حجة محمد على أنه رسول الله، وبهذا ينصرون آلهتهم ويدافعون عن دينهم ويجتنبون ويلات الحروب. وأما انتفاء ما يمنعهم من معارضته، فلأن القرآن بلسان عربي، وألفاظه من أحرف العرب الهجائية، وعباراته على أسلوب العرب، وهم أهل البيان وفيهم ملوك الفصاحة، وقادة البلاغة، وميدان سباقهم مملوء بالشعراء والخطباء والفصحاء في مختلف فنون القول، هذا من الناحية اللفظية، وأما من الناحية المعنوية فقد نطقت أشعارهم وخطبهم وحكمهم ومناظرتهم بأنهم ناضجو العقول، ذوو بصر بالأمور وخبرة بالتجاريب، وقد دعاهم القرآن في تحديه لهم أن يستعينوا بمن شاءوا ليستكملوا ما ينقصهم ويتموا عدتهم وفيهم الكهان وأهل الكتاب. وأما من الناحية الزمنية، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة حتى يحتجوا بأن زمنهم لا يتسع للمعارضة بل مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، بين كل مجموعة وأخرى زمن فيه متسع للمعارضة والإتيان بمثلها لو كان في مقدورهم.

فلا ريب أن الله سبحانه بلسان رسوله في كثير من الآيات تحدى الناس أن يأتوا بمثل القرآن، وأنهم مع شدة حرصهم وتوافر دواعيهم إلى أن يأتوا بمثله، وانتفاء ما يمنعهم لم يأتوا بمثله، ولو جاءوا بمثله وعارضوه لنصروا آلهتهم، وأبطلوا حجة من سخر منهم وكفوا أنفسهم شر القتال والنضال والغزوات عدة سنين. فالتجاؤهم إلى المحاربة بدل المعارضة، وائتمارهم على قتل الرسول بدل ائتمارهم على الإتيان بمثل قرآنه اعتراف منهم بعجزهم عن معارضته، وتسليم أن هذا القرآن فوق مستوى البشر، ودليل على أنه من عند الله. وجوه إعجاز القرآن: ولكن لماذا عجزوا؟ وما وجوه الإعجاز؟ اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة وإنما أعجزهم من نواح متعددة، لفظية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضاً على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات. وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية تجلّت نواح من نواحي إعجازه، وقام البرهان على أنه من عند الله. وهذا ذكر بعض ما وصلت إليه العقول من نواحي الإعجاز: أولها: اتساق عباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته: تكوّن القرآن من ستة آلاف آية، وعبر عما قصد إلى التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتى، وطرق موضوعات متعددة اعتقادية وخلقية وتشريعية،

وقرر نظريات كثيرة، كونية واجتماعية ووجدانية، ولا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها وبعض، فليس أسلوب هذه الآية بليغاً وأسلوب الأخرى غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحاً، وذاك اللفظ غير فصيح، ولا تجد عبارة أرقى مستوى في بلاغتها من عبارة، بل كل عبارة مطابقة لمقتضى الحال الذي وردت من اجله، وكل لفظ في موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه. كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، أو حكماً يناقض حكماً، أو مبدأ يهدم مبدأ، أو غرضاً لا يتفق وآخر، فكما أنه لا اختلاف بين عباراته وألفاظه، لا اختلاف بين معانيه وأحكامه، ولا بين مبادئه ونظرياته، ولو كان صادراً من عند غير الله أفراداً أو جماعات ما سلم من اختلاف بعض عباراته وبعض، أو اختلاف بعض معانيه وبعض، لأن العقل الإنساني مهما نضج وكمل لا يمكنه أن يكون ستة آلاف آية في ثلاث وعشرين سنة لا تختلف آية منها عن أخرى في مستوى بلاغتها، ولا تعارض آية منها آية أخرى فيما اشتملت عليه. وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله في سورة النساء: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:82] . وما يوجد من اختلاف في الأسلوب بين بعض الآيات وبعض، أو اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة فليس منشؤه اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة وإنما منشؤه اختلاف موضوع الآيات، فإذا كان الموضوع تقنينا وتبيينا لعدّة المطلّقة أو نصيب الوارث من الإرث، أو مَصْرف الصدقات، أو غيرها من الأحكام فهذا لا مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان الموضوع تسفيها لعبادة الأوثان أو بيانا لفيضان الطوفان أو استدلالا على قدرة الله، أو تذكيراً بنعمه على عباده، أو تخويفا بشدائد اليوم الآخر، فهذه فيها مجال للأسلوب الخطابي ليس من البلاغة، لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولكل مقام مقال. وما يوجد من تعارض ظاهري بين ما دلت عليه بعض الآيات وما دلت عليه

أخرى فقد بين المفسرون أنه ليس تعارضا إلا فيما يظهر لغير المتأمل، وعند التأمل يتبين أنه لا تعارض، ومن أمثلة هذا قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] ، مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} [النساء: 78] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] ، مع الآيات الدالة على أن الله لا يأمر بالسوء والفحشاء، فكل ما ظاهرة التعارض من آيات القرآن فهو بعد البحث متفق متسق لا اختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. وثانيها: انطباق آياته على ما يكتشفه العلم من نظريات علمية: القرآن أنزلها الله على رسول ليكون حجة له ودستوراً للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية في خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وتذكير الناس بآلائه ونعمه، ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية ونواميس طبيعية كشف العلم الحديث في كل عصر براهينها، ودل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله لأن الناس ما كان لهم بها من علم، وما وصلوا إلى حقائقها وإنما كان استدلالهم بظواهرها، فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية وظهر أن آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله في سورة فصلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53،52] . ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة النمل في مقام الاستدلال على قدرته ولفت النظر إلى آثاره: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء

كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ، وقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20،19] ، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الأنبياء: 14:12] . وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس، وحجتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدل، والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظريات قديمة، ولكني لا أرى هذا الرأي لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم، وليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم النظرية على ذلك الوجه لا خطأ الآية نفسها، كما يفهم حكم من آية ويتبين خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ. وثالثها: إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب: أخبر القرآن عن وقوع حوادث في المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، كقوله تعالى: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم: 1: 4] وقوله سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . وقص بالقرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم تدل على أخبارها،

وهذا دليل على أنه من عند الله الذي لا تخفي عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله ِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . ورابعها: فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره: ليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وعباراته في مطابقتها لمقتضى الأحوال في أعلى مستوى بلاغي، ويتجلى هذا في تشبيهاته وأمثاله وحججه ومجادلاته وفي إثباته للعقائد الحقة وإفحامه للمبطلين وفي كل معنى عبر عنه وهدف رمي إليه، وحسبنا برهانا على هذا شهادة الخبراء من أعدائه واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه. والإمامان: الزمخشري في تفسيره الكشاف، وعبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة" تكفلا ببيان كثير من وجوه الفصاحة والبلاغة في آيات القرآن. وأما قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، فهذا يشعر به كل منصف ذي وجدان، وحسبنا برهانا على هذا أنه لا يمل سماعه ولا تبلي جدته، وقد قال الوليد بن المغير وهو ألد أعداء الرسول: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" والحق ما شهدت به الأعداء.

أنواع أحكامه أنواع الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم ثلاثة: الأول: أحكام اعتقادية: تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. والثاني: أحكام خلقية: تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلّى به من الفضائل وأن يتخلى عنه من الرذائل. والثالث: أحكام عملية، تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه. والأحكام العلمية في القرآن تنتظم نوعين: أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، وأحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات، وما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، وسواء أكانوا أفراداً أم أُمما أم جماعات. فأحكام ما عدا العبادات تسمى في الاصطلاح الشرعي أحكام المعاملات. وأما في اصطلاح العصر الحديث، فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتعلق به وما يقصد بها إلى الأنواع الآتية: 1- أحكام الأحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وآياتها في القرآن نحو 70.

2- والأحكام المنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة مداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق، وآياتها في القرآن نحو70. 3- والأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأُمّة، وآياتها في القرآن نحو 30. 4- وأحكام المرافعات: وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس، وآياتها في القرآن نحو 13. 5- والأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق وآياتها نحو 10. 6- والأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدول الإسلامية بغيرها من الدول في السلم وفي الحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وآياتها نحو 25. 7- والأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدول والأفراد، وآياتها نحو 10. ومن استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث لان أكثر أحام هذا النوع تعبدي ولا مجال للعق فيه ولا يتطور بتطور البيئات، وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية

والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئي أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بحكم جزئي فيه. دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن، هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول المعصوم إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل، لأن الرسول المعصوم كان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية بلغها أصحابه وتلاها عليهم وكتبها كتبة وحيه، وكتبها من كتب لنفسه من صحابته منهم عدد كثير وقرءوها في صلواتهم، وتعبدوا بتلاوتها في سائر أوقاتهم، محفوظة في صدور كثير من المسلمين، وقد جمع أبو بكر الصديق بواسطة زيد بن ثابت، وبعض الصحابة المعروفين بالحفظ والكتابة هذه المدونات وضم بعضها إلى بعض، مرتبة الترتيب الذي كان الرسول يتلوها به ويتلوها به أصحابه في حياتهم وصارت هذه المجموعة وما في صدور الحفاظ هي مرجع المسلمين في تلقي القرآن وروايته. وقام على حفظ هذه المجموعة أبو بكر في حياته، وخلفه في المحافظة عليها عمر، ثم تركها عمر عند بنته حفصة أم المؤمنين، وأخذها من حفصة عثمان في خلافته ونسخ منها بواسطة زيد بن ثابت نفسه، وعدد من كبار المهاجرين والأنصار عدة نسخ أرسلت إلى أمصار المسلمين. فأبو بكر حفظ كل ما دونت فيه آية أو آيات من القرآن حتى لا يضيع منه شيء، وعثمان جمع المسلمين على مجموعة واحدة من هذا المدون ونشره

بين المسلمين حتى لا يختلفوا في لفظ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفّاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون. وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وثمانين سنة يقرؤون جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أُمّة عن أُمّة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه، إذ قال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، ونص ظني الدلالة على حكمه. فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، ومثل قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فهذا قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل،، وكذا كل نصل دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاف محدد. وأما النص الظني الدلالة: فهو ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر، ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. ومثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه نص مشترك أو لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة، لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره.

الدليل الثاني السنة

الدليل الثاني السُّنَّة 1- تعريفها. 2- حجيتها. 3- نسبتها إلى القرآن. 4- أقسامها باعتبار سندها. 5- قطعيها وظنيها. تعريفها: السنة في الاصطلاح الشرعي: هي ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير. فالسنن القولية: هي أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في السائمة زكاة"، وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، وغير ذلك. والسنن الفعلية: هي أفعاله - صلى الله عليه وسلم - مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه مناسك الحج، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي. والسنن التقريرية: هي ما أقرّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه فيعتبر هذا الإقرار والموافقة عليه صادرا عن الرسول نفسه، مثل ما روي أن صحابيّين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فلما قصّا أمرهما على الرسول أقرّ كلاَ منهما

على ما فعل فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين". ومثل ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "بم تقضي؟ " قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد برأيي، فأقرّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". حجيتها: أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله، من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والإقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجّة على المسلمين، ومصدراً تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، وعلى أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانوناً واجب الإتباع. والبراهين على حجية السنة عديدة: أولها: نصوص القرآن: فإن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم أمر بطاعة رسوله طاعة له، وأمر المسلمين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله وإلى الرسول، ولم يجعل للمؤمن خياراً إذا قضى الله ورسوله أمراً، ونفي الإيمان عمن لم يطمئن إلى قضاء الرسول ولم يسلم له، وفي هذا كله برهان من الله على أن تشريع الرسول هو تشريع إلهي واجب اتّباعه. قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] ، وقال سبحانه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ

فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] ، فهذه الآيات تدل باجتماعها وتساندها دلالة قاطعة على أن الله يوجب اتباع الرسول فيما شرعه. وثانيهما: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته على وجوب اتباع سنته. فكانوا في حياته يمضون أحكامه ويمتثلون لأوامره ونواهيه وتحليله وتحريمه، ولا يفرقون في وجوب الاتباع بين حكم أوحى إليه في القرآن وحكم صدر عن الرسول نفسه. ولهذا قال معاذ بن جبل: " إن لم أجد في كتاب الله حكم ما أقضى به قضيت بسنة رسول الله ". وكانوا بعد وفاته إذا لم يجدوا في كتاب الله حكم ما نزل بهم رجعوا إلى سنة رسول الله. فأبو بكر كان إذا لم يحفظ في الواقعة سُنّة خرج فسأل المسلمين: هل فيكم من يحفظ في هذا الأمر سُنّة عن نبينا؟ .. كذلك كان يفعل عمر وغيره ممن تصدى للفتيا والقضاء من الصحابة، ومن سلك سبيلهم من تابعيهم وتابعي تابعيهم بحيث لم يعلم أن أحداً منهم يعتد به خالف فى أن سنة رسول الله إذا صح نقلها وجب اتباعها. وثالثهما: أن القرآن فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها ولا كيفية أدائها، فقال تعالى: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ". و" كتب عليكم الصيام ". " ولله على الناس حج البيت " 0 ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتى الزكاة ويؤدى الصوم والحج. وقد بين الرسول هذا الإجمال بسنته القولية والعملية، لأن الله سبحانه منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ". فلو لم تكن هذه السنن البيانية حجة على المسلمين، وقانوناً واجباً اتباعه ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن ولا اتباع أحكامه. وهذه السنن البيانية إنما وجب اتباعها من جهة أنها صادرة عن الرسول، ورويت عنه بطريق يفيد القطع بورودها عنه أو الظن الراجح بورودها. فكل سنة تشريعية صح صدورها عن الرسول فهي حجة واجبة الاتباع، سواء أكانت مبينة حكماً في القرآن أم منشئة حكماً

سكت عنه القرآن، لأنها كلها مصدرها المعصوم الذي منحه الله سلطة التبيين والتشريع. نسبتها إلى القرآن: أما نسبة السنة إلى القرآن، من جهة الاحتجاج بها والرجوع إليها لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي في المرتبة التالية له بحيث أن المجتهد لا يرجع إلى السنة للبحث عن واقعة إلا إذا لم يجد في القرآن حكم ما أراد معرفة حكمه، لأن القرآن أصل التشريع ومصدره الأول، فإذا نص على حكم اتبع، وإذا لم ينص على حكم الواقعة رجع إلى السنة فإن وجد فيها حكمه اتبع. وأما نسبة السنة إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من الأحكام فإنها لا تعدو واحدا من ثلاثة: 1- إما أن تكون سنة مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن، فيكون الحكم له مصدران وعليه دليلان: دليل مثبت من آي القرآن، ودليل مؤيد من سنة الرسول. ومن هذه الأحكام الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك من المأمورات والمنهيات التي دلت عليها آيات القرآن وأيدها سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقام الدليل عليها منهما. 2- إما أن تكون سنة مفصلِّة ومفسِّرة لما جاء في القرآن مجملا، أو مقيِّدة ما جاء فيه مطلقاً، أو مخصِّصَة ما جاء فيه عاماً، فيكون هذا التفسير أو التقييد أو التخصيص الذي وردت به السنة تبيينا للمراد، من الذي جاء في القرآن لأن الله سبحانه منح رسوله حق التبيين لنصوص القرآن بقوله عز شأنه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، ومن هذا السنن التي فصلت إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، ولم يفصل عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا مناسك الحج، والسنن العملية والقولية هي التي بينت هذا الإجمال؟ وكذلك أحل الله البيع وحرم الربا، والسنة هي التي بينت صحيح البيع وفاسدة، وأنواع الربا

المحرم. والله حرم الميتة، والسنة هي التي بينت المراد منها ما عدا ميتة البحر. وغير ذلك من السنن التي بينت المراد من مجمل القرآن ومطلقه وعامه، وتعتبر مكملة له وملحقة به. 3- وإما أن تكون سنة مثبِتَة ومنشِئَة حُكما سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتا بالنسبة ولا يدل عليه نص في القرآن. ومن هذا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور، وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وما جاء في الحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب"، وغير ذلك من الأحكام التي شرعت بالسنة وحدها ومصدرها إلهام الله لرسوله، أو اجتهاد الرسول نفسه. قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية: (لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة وجوه، أحدها: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب، فسنَّ رسول الله مثل ما نص الكتاب، والآخر: ما أنزل الله عز وجل فيه جملة فبيَّن عن الله معنى ما أراد، والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله مما ليس فيه نص كتاب) . ومما ينبغي التنبيه له: أن اجتهاد الرسول في التشريع أساسه القرآن، وما بثه في نفسه من روح التشريع ومبادئه، فهو يستند في تشريعه الأحكام إلى القياس على ما جاء في القرآن، أو إلى تطبيق المبادئ العامة لتشريع القرآن، فمرجع أحكام السنة إلى أحكام القرآن. وخلاصة ما قدمنا: أن الأحكام التي وردت في السنة: إما أحكام مقررة لأحكام القرآن، أو أحكام مبينه لها، أو أحكام سكت عنها القرآن مستمدة بالقياس على ما جاء فيه أو بتطبيق أصوله ومبادئه العامة، ومن هذا يتبين أنه لا يمكن أن يقع بين أحكام القرآن والسنة تخالف أو تعارض.

أقسامها باعتبار سندها: تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة، وسنة مشهورة، وسنة آحاد. فالسنة المتواترة: هي ما رواها عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب، لكثرتهم وأمانته واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته، جمع لا يتفقون على كذب، من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا، ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم الحج والآذان وغير ذلك من شعائر الإسلام التي تلقّاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة، أو السماع، جموع عن جموع، من غير اختلاف في عصر عن عصر، أو قطر عن قطر، وقل أن يوجد في السنن القولية حديث متواتر. والسنة المشهورة: هي ما رواها عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند، أو لطبقة فيه سمعوا من الرسول قوله أو شاهدوا فعله فرد أو فردان أو أفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموع التواتر، ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب أو عبد الله بن مسعود أو أبوبكر الصديق، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "بني الإسلام على خميس" وحديث "لا ضرر ولا ضرار". فالفرق بين السنة المتواترة والسنة المشهورة: أن السنة المتواترة كل حلقة في سلسلة سندها جمع التواتر من مبدأ التلقي عن الرسول إلى وصولها إلينا،

وأما السنة المشهورة فالحلقة الأولى في سندها ليست جمعاً من جموع التواتر بل الذي تلقاها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ جمع التواتر وسائر الحلقات جموع التواتر. وسنة الآحاد: هي ما رواها عن الرسول آحاد لم تبلغ جموع التواتر بأن رواها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوي مثله وهكذا حتى وصلت إلينا بسند طبقاته آحاد لا جموع التواتر، ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد. قطعيها وظنيها: أما من جهة الورود فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول، لأن تواتر النقل يفيد الجزم والقطع بصحة الخبرة كما قدمنا. والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي أو الصحابة الذين تلقوها عن الرسول لتواتر النقل عنهم، ولكنها ليست قطعية الورود عن الرسول، لأن أول من تلقى عنه ليس جمع التواتر، ولهذا جعلها فقهاء الحنفية في حكم السنة المتواترة، فيخصص بها عام القرآن ويقيد بها مطلقه لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي، والصحابي حجة وثقة في نقلة عن الرسول، فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد. وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول، لأن سندها لا يفيد القطع. وأما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه الأقسام الثلاثة قد تكون قطعية الدلالة، إذا كان نصها لا يحتمل تأويلا، وقد تكون ظنية الدلالة إذا كان نصها يحتمل التأويل. ومن المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص السنة من جهة القطعية والظنية، ينتج أن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الورود، ومنها ما هو قطعي الدلالة ومنها ما هو ظني الدلالة، وأما السنة فمنها ما هو قطعي الورود ومنها ما هو ظني الورود، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة وقد يكون ظني الدلالة.

وكل سنة من أقسام السنن الثلاثة المتواترة والمشهورة وسنن الآحاد؛ حجة واجب اتّباعها والعمل بها، أما المتواترة فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله، وأما المشهورة أو سنة الآحاد فلأنها وإن كانت ظنية الورود عن رسول الله إلا أن هذا الظن ترجح بما توافر في الرواة من العدالة وتمام الضبط والإتقان، ورجحان الظن كافٍ في وجوب العمل، لهذا يقضي القاضي بشهادة الشاهد وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به، وتصح الصلاة بالتحري في استقبال الكعبة وهي إنما تفيد غلبة الظن، وكثير من الأحكام مبنية على الظن الغالب، ولو التزم القطع واليقين في كل أمر عملي لنال الناس الحرج. ما ليس تشريعا من أقوال الرسول وأفعاله: ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين واجبا اتّباعه إذا صدر عنه بوصف أنه رسول الله وكان مقصودا به التشريع العام والإقتداء. وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولاً إليهم كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] . 1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام، وقعود ومشي، ونوم، وأكل وشرب، فليس تشريعا، لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني، ودلّ دليل على أن المقصود من فعله الإقتداء به، كان تشريعا بهذا الدليل. 2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية من اتِّجار، أو زراعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا، فليس تشريعا أيضا لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية، وتقديره الشخصي. ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين قال له بعض صحابته: أهذا منزلٌ أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"،

فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بيّنها للرسول. ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبِّرون النخل، أشار عليهم أن لا يؤبِّروا، فتركوا التأبير وتلف الثمر، فقال لهم: "أبّروا.. أنتم أعلم بأمور دنياكم". 3- وما صدر عن رسول الله ودلّ الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فليس تشريعاً عاماً: كتزوجه بأكثر من أربع زوجات، لأن قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] دلّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان. ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع فإثباته الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع، ولهذا روى البخاري ومسلم عن أمّ سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج عليهم، وقال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصوم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها". والخلاصة: أن ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاثة التي بيناها فهو من سنته ولكنه ليس تشريعا ولا قانونا واجبا اتّباعه، وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتّباعه. فالسنة إن أريد بها طريقة الرسول وما كان عليه في حياته، فهي كل ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، مقصود به التشريع واقتداء الناس به لاهتدائهم.

الدليل الثالث الإجماع

الدليل الثالث الإجماع 1-تعريفه 2-أركانه 3-حجيته 4-إمكان انعقاده 5-انعقاده فعلا 6-أنواعه تعريفه: الإجماع في اصطلاح الأصوليين: هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي في واقعة. فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها واتفقوا على حكم فيها سمي اتفاقهم إجماعا، واعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة، وإنما قيل في التعريف بعد وفاة الرسول، لأنه في حياة الرسول هو المرجح التشريعي وحده، فلا يتصور اختلاف في حكم شرعي ولا اتفاق إذ الاتفاق لا يتحقق إلا من عدد. أركانه: ورد في تعريف الإجماع أنه: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر على حكم شرعي، ومن هذا يؤخذ أن أركانه الإجماع التي لا ينعقد شرعا إلا بتحققها أربعة: الأول: أن يوجد في عصر وقوع الحادثة عدد من المجتهدين، لأن الاتفاق لا يتصور إلا في عدة آراء يوافق كل رأي منها سائرها، فلو خلا وقت من وجود عدد من المجتهدين، بأن لم يوجد فيه مجتهد أصلا أو وجد مجتهد واحد، لا ينعقد فيه شرعا إجماع، ومن هذا لا إجماع في عهد الرسول لأنه المجتهد وحده.

الثاني: أن يتفق على الحكم الشرعي في الواقعة جميع المجتهدين من المسلمين في وقت وقوعها، بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو اتفق على الحكم الشرعي في الواقعة مجتهدو الحرمين فقط، أو مجتهدو العراق فقط، أو مجتهدو الحجاز، أو مجتهدو آل البيت، أو مجتهدو أهل السنة دون مجتهدي الشيعة لا ينعقد بهذا الاتفاق الخاص إجماع، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة، ولا عبرة بغير المجتهدين. الثالث: أن يكون اتفاقهم بإبداء كل واحد منهم رأيه صريحا في الواقعة سواء كان إبداء الواحد منهم رأيه قولا بأن أفتى في الواقعة بفتوى، أو فعلا إن قضى فيها بقضاء، وسواء أبدى كل واحد منهم رأي على إنفراد وبعد جمع الآراء تبين اتفاقها، أم أبدوا آراءهم مجتمعين بأن جمع مجتهدو العالم الإسلامي في عصر حدوث الواقعة وعرضت عليهم، وبعد تبادلهم وجهات النظر اتفقوا جميعا على حكم واحد فيها. الرابع: أن يتحقق الاتفاق من جميع المجتهدين على الحكم، فلو اتفق أكثرهم لا ينعقد باتفاق الأكثر إجماعٌ مَهما قل عدد المخالفين وكثر عدد المتفقين لأنه ما دام قد وجد اختلاف وجد احتمال الصواب في جانب والخطأ في جانب، فلا يكون اتفاق الأكثر حجة شرعية قطعية ملزمة. حجيته: إذا تحققت أركان الإجماع الأربعة بأن أحصي في عصر من العصور بعد وفاة الرسول جميع من فيه من مجتهدي المسلمين على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطوائفهم، وعرضت عليهم واقعة لمعرفة حكمها الشرعي، وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول أو بالفعل مجتمعين أو منفردين، واتفقت آراؤهم جميعا على حكم واحد في هذه الواقعة- كان هذا الحكم المتفق عليه قانوناً شرعيا واجباً اتّباعه ولا يجوز مخالفته، وليس للمجتهدين في عصرٍ تالٍ

أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت فيها بهذا الإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا لنسخه. والبرهان على حجية الإجماع ما يأتي: أولا: أن الله سبحانه في القرآن كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأُولي الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا. وقد فسر بعض المفسرين على رأسهم ابن عباس أُولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسّرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه. فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون على حكم وجب اتّباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن، ولذا قال تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وتوعد سبحانه من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فقال عز شأنه {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ، فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول. ثانيا: أن الحكم الذي اتفقت عليه آراء جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية هو في الحقيقة حكم الأمة ممثلة في مجتهديها، وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول، وآثار عن الصحابة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أمتي على خطأ"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة"، وقوله: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، وذلك لأن اتفاق جميع هؤلاء المجتهدين على حكم واحد في الواقعة مع اختلاف أنظارهم والبيئات المحيطة بهم وتوافر عدة أسباب لاختلافهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعت كلمتهم وغلبت عوامل اختلافهم.

ثالثا: أن الإجماع على حكم شرعي لابد أن يكون قد بني على مستند شرعي لأن المجتهد الإسلامي له حدود لا يسوغ له أن يتعداها، وإذا لم يكن في اجتهاده نص فاجتهاده لا يتعدى تفهم النص ومعرفة ما يدل عليه، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهاده لا يتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نصف أو تطبيق قواعد الشريعة ومبادئها العامة، أو بالاستبدال بما أقامته الشريعة من دلائل كالاستحسان أو الاستصحاب، أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة، وإذا كان اجتهاد المجتهد لابد أن يستند إلى دليل شرعي، فاتفاق المجتهدين جميعا على حكم واحد في الواقعة دليل على وجود مستند شرعي، يدل قطعا على هذا الحكم، لأنه لو كان ما استندوا إليه دليلا ظنيا لاستحال عادة أن يصدر عنه اتفاق، لأن الظني محال حتما لاختلاف العقول. وكما يكون الإجماع على حكم في واقعة يكون على تأويل نَص أو تفسيره وعلى تعليل حكم النص وبيان الوصف المنوط به. إمكان انعقاده: قالت طائفة من العلماء منهم النظّام وبعض الشيعة: إن هذا الإجماع الذي تبيّنت أركانه لا يمكن انعقاده عادة، لأنه يتعذر تحقق أركانه، وذلك أنه لا يوجد مقياس يعرف به إذا كان الشخص بلغ مرتبة الاجتهاد أو لم يبلغها، ولا يوجد حكم يرجع إليه في الحكم بأن هذا مجتهد أو غير مجتهد، فمعرفة المجتهدين من غير المجتهدين متعذرة. ولو فرض أن أشخاص المجتهدين في العالم الإسلامي وقت حدوث الواقعة معروفون فالوقوف على آرائهم جميعا في الواقعة بطريق يفيد اليقين أو القريب منه متعذر، لأنهم متفرقون في قارات مختلفة، وفي بلاد متباعدة، ومختلفو الجنسية والتبعية فلا يتيسر سبيل إلى جمعهم وأخذ آرائهم مجتمعين، ولا إلى نقل رأي كل واحد منهم بطريق يوثق به. ولو فرض أن أشخاص المجتهدين عرفوا، وأمكن الوقوف على آرائهم بطريق يوثق به، فما الذي يكفل أن المجتهد الذي أبدى رأيه في الواقعة يبقى

مصرا عليه حتى تؤخذ آراء الباقين؟ ما الذي يمنع أن تعرض له شبهة فيرجع عن رأيه قبل أخذ آراء الباقين؟ والشرط لإنعقاد الإجماع أن يثبت اتفاق المجتهدين جميعا في وقت واحد على حكم واحد في واقعة. ومما يؤيد أن الاجتماع لا يمكن انعقاده: أنه لو انعقد كان لابد مستنداً إلى دليل، لأن المجتهد الشرعي لابد أن يستند في اجتهاده إلى دليل، والدليل الذي يستند عليه المجمعون إن كان دليلا قطعيا فمن المستحيل عادة أن يخفي، لأن المسلمين لا يخفي عليهم دليل شرعي قطعي حتى يحتاجوا معه إلى الرجوع إلى المجتهدين وإجماعهم، وإن كان دليلا ظنيا فمن المستحيل عادة أن يصدر عن الدليل الظني إجماع، لأن الدليل الظني لأبد أن يكون مثاراً للاختلاف. وقد نقل ابن حزم في كتابه "الأحكام" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله: سمعتُ أبي يقول: "وما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، ومن ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا - ما يدريه - ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا". وذهب جمهور العلماء: إلى أن الإجماع يمكن انعقاده عادة، وقالوا: إنما ذكره منكرو إمكانه لا يخرج عن أنه تشكيك في أمر واقع، وإن أظهر دليل على إمكان فعلا، وذكروا عدة أمثله لما ثبت انعقاد الإجماع عليه مثل: خلافة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدات السدس، وحجب ابن الإبن من الإرث بالإبن وغير ذلك من أحكام جزئية وكلية. والذي أراه الراجح: أن الإجماع بتعريفه وأركانه التي بيناها لا يمكن عادة انعقاده إذا وكل أمره إلى أفراد الأمم الإسلامية وشعوبها، ويمكن انعقاده إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستطيع أن تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها وآراءهم في أية واقعة، فإذا وقفت كل حكومة على آراء مجتهديها فى

واقعة ,واتفقت اراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الإسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة، كان هذا إجماعا، وكان الحكم المجتمع عليه حكما شرعيا واجبا اتّباعه على المسلمين جميعهم. انعقاده فعلا: هل انعقد الإجماع فعلا بهذا المعنى في عصر من العصور بعد وفاة الرسول؟ الجواب: لا، ومن رجع إلى الوقائع التي حكم فيها الصحابة، واعتبر حكمهم فيها بالإجماع يتبين أنه ما وقع إجماع بهذا المعنى، وأن ما وقع إنما كان اتفاقا من الحاضرين، ومن أولي العلم والرأي على حكم في الحادثة المعروضة، فهو في الحقيقة: حكم صادر عن شورى الجماعة لا عن رأي الفرد. فقد روي أن أبا بكر كان إذا ورد عليه الخصوم ولم يجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يقضي بينهم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر، ومما لا ريب فيه أن رؤوس الناس وخيارهم، لأنه كان منهم عدد كثير في مكة والشام واليمن وفي ميادين الجهاد، وما ورد أن أبا بكر أجّل الفصل في خصومة حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد، وكذلك كان يفعل عمر، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع، فهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد، وهو ما وجد إلا في عصر الصحابة، وفي بعض عصور الأمويين بالأندلس، حين كونوا في القرن الثاني الهجري جماعة من العلماء يستشارون في التشريع، وكثيرا ما يذكر في ترجمة بعض علماء الأندلس أنه كان من علماء الشورى. وأما بعد عهد الصحابة، فيما عدا هذه الفترة في الدولة الأموية بالأندلس فلم ينعقد إجماع، ولم يتحقق إجماع من أكثر المجتهدين لأجل تشريع، ولم يصدر التشريع عن الجماعة بل استقل كل فرد من المجتهدين في بلده وفي بيئته. وكان التشريع فرديا لا شوريا، وقد تتوافق الآراء وقد تتناقض، وأقصى ما يستطيع الفقيه أن يقوله: لا يُعلم في حكم هذه الواقعة خلاف.

أنواعه: أما الإجماع من جهة كيفية حصوله فهو نوعان: أحدهما: الإجماع الصحيح: وهو أن يتفق مجتهدو العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، أي أن كل مجتهد يصدر منه قول أو فعل يعبر صراحة عن رأيه. وثانيهما: الإجماع السكوتي: وهو أن يبدي بعض مجتهدي العصر رأيهم صراحة في الواقعة بفتوى أو قضاء، ويسكت باقيهم عن إبداء رأيهم فيها بموافقة ما أبدي فيها أو مخالفته. أما النوع الأول وهو الإجماع الصريح فهو الإجماع الحقيقي، وهو حجة شرعية في مذهب الجمهور. وأما النوع الثاني وهو الإجماع السكوتي فهو إجماع اعتباري، لأن الساكت لا جزم بأنه موافقة، فلا جزم بتحقيق الاتفاق وانعقاد الإجماع، ولهذا اختلف في حجيته، فذهب الجمهور إلى أنه ليس حجة، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض أفراد من المجتهدين. وذهب علماء الحنفية إلى أنه حجة إذا ثبت أن المجتهد الذي سكت عرضت عليه الحادثة وعرض عليه الرأي الذي أبدي فيها ومضت عليه فترة كافية للبحث وتكوين الرأي وسكت، ولم توجد شبهة في أنه سكت خوفاً أو ملقاً أو عياً أو استهزاء، لأن سكوت المجتهد في مقام الاستفتاء والبيان والتشريع بعد فترة البحث والدرس ومع انتفاء ما يمنعه من إبداء رأيه لو كان مخالفا، دليل على موافقته الرأي الذي أُبدي إذ لو كان مخالفا ما وسعه السكوت. والذي أراه الراجح: هو مذهب الجمهور؛ لأن الساكت من غير المجتهدين تحيط بسكوته عدة ظروف وملابسات منها النفسي ومنها غير النفسي، ولا يمكن استقصاء كل هذه الظروف والملابسات والجزم بأنه سكت موافقة ورضا بالرأي، فالساكت لا رأي له ولا ينسب إليه قول موافق أو مخالف، وأكثر ما وقع مما سمي إجماعا هو من الإجماع السكوتي.

الدليل الرابع القياس

وأما الإجماع من جهة أنه قطعي الدلالة على حكمه أو ظني، فهو نوعان أيضا: أحدهما: إجماع قطعي الدلالة على حكمه، وهو الإجماع الصريح: بمعنى أن حكمه مقطوع به ولا سبيل إلى الحكم في واقعته بخلافه، ولا مجال للاجتهاد في واقعة بعد انعقاد إجماع صريح على حكم شرعي فيها. وثانيهما: إجماع ظني الدلالة على حكمه وهو السكوتي بمعنى أن حكمه مظنون ظنا راجحا ولا يخرج الواقعة عن أن تكون مجالا للاجتهاد لأنه عبارة عن رأي جماعة من المجتهدين لا جميعهم. الدليل الرابع القياس 1- تعريفه 2- حجيته 3- أركانه: الأصل والفرع وحكم الأصل وعلة الحكم. تعريفه: القياس في اصطلاح الأصوليين: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. فإن دل نص على حكم واقعة، وعرفت علة هذا الحكم بطريق من الطرق التي تعرف بها علل الأحكام، ثم وجدت واقعة أخرى تساوي واقعة النص على علة تحقق علة الحكم فيها فإنها تسوي بواقعة النص في حكمها بناء على تساويهما في علته، لأن الحكم يوجد حيث توجد علته.

وهذه أمثلة من الأقيسة الشرعية والوضعية توضح هذا التعريف: 1-شرب الخمر: واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو التحريم الذي دلّ عليه قوله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 690] ، لعلة هي الإسكار، فكل نبيذ توجد فيه هذه العلة يسوي بالخمر في حكمه ويحرم شربه. 2- قتل الوارث مورّثه: واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو منع القاتل من الإرث الذي دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" لعله هي أن قتله فيه استعجال الشيء قبل أوانه فيرد عليه قصده ويعاقب بحرمانه، وقتل الموصى به له. 3-البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة: واقعة ثبت بالنصب حكمها وهو الكراهة التي دل عليها قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، لعله هي شغله عن الصلاة. والإجارة أو الرهن أو أية معاملات وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة توجد فيها هذه العلة، وهي شغلها عن الصلاة فتقاس بالبيع في حكمه وتكره وقت النداء للصلاة. 4-الورقة الموقع عليها بالإمضاء: واقعة ثبت بالنص حكمه وهو أنها حجة على الموقِّع الذي دل عليه نص القانون المدني، لعلة هي أن توقيع الموقع دالة علي شخصه، والورقة المبصومة بالإصبع توجد فيها هذه العلة فتقاس بالورقة الموقع عليها في حكمها وتكون حجة على باصمها. 5-السرقة بين الأصول والفروع وبين الزوجين لا تجوز محاكمة مرتكبها إلا بناء على طلب المجني عليه في قانون العقوبات، وقيس على السرقة النصب واغتصاب الأموال بالتهديد وإصدار شيك بدون رصيد وجرائم التبديد لعلاقة القرابة الزوجية فيها كلها.

ففي كل مثال من هذه الأمثلة سوِّيت واقعة لا نص على حكمها، بواقعة نص على حكمها في الحكم المنصوص عليها، بناء على تساويهما في علة هذا الحكم. وهذه التسوية بين الواقعتين في الحكم، بناء على تساويهما في علته هي القياس في اصطلاح الأصوليين. وقولهم تسوية واقعة بواقعة أو إلحاق واقعة بواقعة، أو تعديه الحكم من واقعة إلى واقعة، هي عبارات مترادفة مدلولها واحد ... حجيته: مذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعا، ويسع المكلف اتّباعه والعمل به، وهؤلاء يطلق عليهم: مثبتوا القياس. ومذهب النظامة والظاهرية وبعض فرق الشيعة أن القياس ليس حجة شرعية على الأحكام، وهؤلاء يطلق عليه: نفاة القياس. أدلة مثبتي القياس: استدل مثبتو القياس بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة وأفعالهم، وبالمعقول. 1- أما القرآن فأظهر ما استدلوا به من آياته ثلاث آيات: الأولى: قوله تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] . ووجه الاستدلال بهذه الآية، أن الله سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا واختلفوا في شيء، ليس لله ولا لرسوله ولا لأولي الأمر منهم فيه حكم، أن يردوه إلى الله

والرسول، ورده وإرجاعه إلى الله وإلى الرسول يشمل كل ما يصدق عليه أنه رد إليهما، ولا شك أن إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص لتساويهما في علة حكم النص؛ من رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول، لأن فيه متابعة لله ولرسوله في حكمه. والآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وموضع الاستدلال قوله سبحانه {فَاعْتَبِرُوا} ووجه الاستدلال أن الله سبحانه بعد أن قص ما كان من بني النضير الذين كفروا وبين ما حاق بهم {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} ، قال {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أي فقيسوا أنفسكم بهم لأنكم أناس مثلهم إن فعلتم مثل فعلهم حاق بكم مثل ما حاق بهم. وهذا يدل على أن سنة الله في كونه، أن نعمه ونقمه وجميع أحكامه هي نتائج لمقدمات أنتجتها، ومسببات لأسباب ترتبت عليها، وأنه حيث وجدت المقدمات نتجت عنها نتائجها، وحيث وجدت الأسباب ترتبت عليها مسبباتها، وما القياس إلا سير على هذا السنن الإلهي وترتيب المسبب على سببه في أي محل وجد فيه. وهذا هو الذي يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا} ، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 26] ، وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف: 111] ، فسواء فسر الاعتبار بالعبور أي المرور، أو فسِّر بالاتعاظ، فهو تقدير لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن ما جرى على النظير يجري على نظيره، ألا ترى أنه إذا فصل موظف من وظيفته لأنه ارتشى فقال الرئيس لإخوانه الموظفين: إن في هذا لعبرة لكم أو اعتبروا، لا يفهم من قوله إلا أنكم مثله، فإن فعلتم فعله عوقبتم عقابه. الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة يس: {ُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]

جوابا لمن قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ؟ [يس: 78] ، ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه استدل على ما أنكره منكرو البعث بالقياس، فإن الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أول مرة، لإقناع الجاحدين بأن من يقدر على بدء خلق الشيء وإنشائه أول مرة، قادر على أن يعيده بل هو أهون عليه، فهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجية القياس وصحة الاستدلال به. وهذه الآيات الدالة على حجية القياس أيدها في دلالتها أن الله سبحانه في عدة آيات من آيات الأحكام قرن الحكم بعلته مثل قوله سبحانه في المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، وقوله في إباحة التيمم: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] ، لأن في هذا إرشادا إلى أن الأحكام مبينة على المصالح ومرتبطة بالأسباب، وإشارة إلى أن الحكم يوجد مع سببه وما بني عليه. وأما السنة فأظهر ما استدلوا منها دليلان: الأول: حديث معاذ بن جبل أن رسول الله لما أراد أن يبعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله"، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله أقر معاذاً على أن يجتهد إذا لم يجد نصا يقضي به في الكتاب والسنة، والاجتهاد بذلك الجهد للوصول إلى الحكم، وهو يشمل القياس لأنه نوع من الاجتهاد والاستدلال والرسول لم يقره على نوع من الاستدلال دن نوع. والثاني: ما ثبت في صحاح السنة من أن رسول الله في كثير من الوقائع التي عرضت عليه ولم يوح إليه بحكمها استدل على حكمها بطريق القياس،

وفعل الرسول في هذا الأمر العام تشريع لأمته، ولم يقم دليل على اختصاصه به، فالقياس فيما لا نصل فيه من سنن الرسول، وللمسلمين به أسوة. ورد أن جارية خثعمية قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ينفعه ذلك؟ " قالت: نعم، فقال لها: "فدين الله أحق بالقضاء". وورد أن عمر سأل الرسول عن قبلة الصائم من غير إنزال، فقال له الرسول: "أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟ " قال عمر: قلت لا بأس بذلك، قال: "فمه"، أي اكتف بهذا. وورد أن رجلا من (فزارة) أنكر ولده لما جاءت به امرأته أسود، فقال له الرسول: "هل لك من إبل؟ " قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، قال: "فمن أين؟ " قال: لعله نزعة عرق، قال: "وهذا لعله نزعه عرق" وفي الجزء الأول من إعلام الموقعين أمثلة كثيرة لأقيسة الرسول. 3- وأما أفعال الصحابة وأقوالهم فهي ناطقة بأن القياس حجة شرعية، فقد كانوا يجتهدون في الوقائع التي لا نص فيها، ويقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص ويعتبرون النظير بنظيره. قاسوا الخلافة على إمامة الصلاة، وبايعوا أبا بكر بها وبيّنوا أساس القياس بقولهم: رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا. وقاسوا خليفة الرسول على الرسول، وحاربوا مانعي الزكاة الذين منعوها استناداً إلى أنها كان يأخذها الرسول، لأن صلاته سكن لهم لقوله عز شأنه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] .

قال عمر بن الخطاب في عهده إلى أبي موسى الأشعري: "ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس فيه قرآن ولا سنة، ثم قايس بين الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال ثم أعمد فيما ترى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق" وقال على بن أبي طالب: ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب، ولما روى ابن عباس أن الرسول نهاه عن بيع الطعام قبل أن يقبض، قال: "لا أحسب كل شيء إلا مثله" وقد نقل ابن القيم في الجزء الثاني من إعلام الموقعين ابتداء من صفحة (244) عدة فتاوى لأصحاب رسول الله أفتوا فيها باجتهادهم بطريق القياس، وما أنكر الرسول في حياته على من أجتهد من صحابته، وما أنكر بعض الصحابة على بعض اجتهاد الرأي وقياس الأشباه بالأشباه، فإنكار حجية القياس تخطئة لما سار عليه الصحابة في اجتهادهم وما قرروه بأفعالهم وأقوالهم. 4- وأما المعقول فأظهر أدلتهم منه ثلاثة: أولها: أن الله سبحانه ما شرع حكماً إلا لمصلحة، وأن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة التي لا نص فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة المصلحة قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، ولا يتفق وعدل الله وحكمته أن يحرم شرب الخمر لإسكاره محافظة على عقول عباده ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصية الخمر وهي الإسكار، لأن مآل هذه المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. وثانيها: أن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع والمصالح.

وثالثهما: أن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى عن شراب لأنه سام يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه اعتداء وظلما لغيره يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يعرف بين الناس اختلفا في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر ما دام لا فارق بينهما. بعض شبه نفاة القياس: * من أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبنى على الظن بأن علة حكم النص هي كذا والمبنى على الظن ظني، والله سبحانه نعي على من يتبعون الظن، وقال سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، فلا يصح الحكم بالقياس لأنه اتباع الظن. وهذه شبهة واهية، لأن المنهي عنه هو اتباع الظن في العقيدة، وأما في الأحكام العملية فأكثر أدلتها ظنية، ولو اعتبرت هذه الشبهة لا يعمل بالنصوص الظنية الدالة لأنه اتباع للظن، وهذا باطل بالاتفاق، لان أكثر النصوص ظنية الدلالة. *ومن أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبني على اختلاف الأنظار في تعليل الأحكام فهو مثار اختلاف الأحكام وتناقضها، والشرع الحكيم لا تناقض بين أحكامه. وهذه شبه أوهي من سابقتها لأن الاختلاف بناء على القياس ليس اختلاف في العقيدة أو في أصل من أصول الدين، وإنما هو اختلاف في أحكام جزئية عملية لا يؤدي الاختلاف فيها إلى أية مفسدة بل ربما كان رحمة بالناس وفيه مصلحتهم. * ومن أظهر شبههم عبارات نقلوها عن بعض الصحابة ذموا فيها الرأي والقول في الأحكام بالرأي، مثل قول عمر: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداد السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأظلوا".

هذه الآثار فوق أنها غير موثوق بها ليس المراد منها إنكار القياس أو الاحتجاج به، وإنما المراد منها النهي عن اتباع الهوى، والرأي الذي ليس له مرجع من النصوص. أركانه: كل قياس يتكون من أركان أربعة: الأصل: وهو ما ورد بحكمه نص، ويسمى: المقيس عليه، والمحمول عليه والمشبه به. والفرع: وهو ما لم يرد بحكمه نص، ويراد تسويته بالأصل في حكمه، ويسمى: المقيس، والمحمول عليه، والمشبه. وحكم الأصل: وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل، ويراد أن يكون حكما للفرد. والعلة: وهي الوصف الذي بنى عليه حكم الأصل وبناء على وجوده في الفرع يسوى بالأصل في حكمه. فشرب الخمر أصل لأنه ورد نص بحكمه وهو قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} الدال على تحريم شربه لعلة هي الإسكار، ونبيذ التمر فرع لأنه لم يرد نص بحكمه، وقد ساوى الخمر في أن كلا منهما مسكر، فسوى به في أن يحرم. والأشياء الستة: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح: أصل، لأنه ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة فيها إذا بيع كل واحد منها بجنسه، لعله هي أنها مقدرات مضبوط قدرها بالوزن أو الكيل مع اتحاد الجنس، والذرة والأرز والفول فرع لأنه لم يرد نص بحكمها، وقد ساوت الأشياء الواردة بالنص في أنها مقدرات فسويت بها في حكمها في حين المبادلة بجنسها.

أما الركنان الأوّلان من هذه الأركان الأربعة، وهما: الأصل والفرع، فهما واقعتان، أو محلان، أو أمران، أحدهما دل على حكمه نص، والآخر لم يدل على حكمه نص ويراد معرفة حكمه، ولا تشترط فيهما شروط سوى أن الأصل ثبت حكمه بنص والفرع لم يثبت حكمه بنص ولا إجماع، ولا يوجد فارق يمنع من تساويهما في الحكم. وأما الركن الثالث وهو حكم الأصل: فتشترط لتعديته إلى الفرع شروط، لأنه ليس كل حكم شرعي ثبت بالنص في واقعة يصح أن يعدَّى بواسطة القياس إلى واقعة أخرى؛ بل تشترط في الحكم الذي يعدَّى إلى الفرع بالقياس شروط: الأول: أن يكون حكما شرعيا عمليا ثبت بالنص: فأما الحكم الشرعي العملي الذي ثبت بالإجماع ففي تعديته بواسطة القياس رأيان: أحدهما: أنه لا يصح تعديته، وهذا هو الذي أرجحه لأن الإجماع كما هو مقرر لا يلتزم فيه أن يذكر مع الحكم المجمع عليه مستنده، ومن غير ذكر المستند لا سبيل إلى إدراك علة الحكم فلا يمكن القياس على الحكم المجمع عليه، وهذا على فرض وجود حكم أجمع عليه بمعنى الإجماع في اصطلاح الأصوليين. وثانيهما: أنه يصح تعديته، قال الشوكاني: وهذا أصح القولين. وأما الحكم الشرعي الذي ثبت بالقياس فلا يصح تعديته أصلا لأن الفرع إن كان يساوي ما ثبت فيه الحكم بالقياس في العلة فهو يساوي واقعة النص في نفس العلة ويكون المعدي بالقياس هو حكم النص، وإن كان لا يساويه في العلة فلا يصح أن يساويه في الحكم. وعلى هذا لا يصح أن يقال حرم نبيذ التفاح قياسا على نبيذ التمر الثابت حكمه بالقياس على الخمر، ويكون تحريمه بالقياس على الخمر لا على نبيذ التمر، وإن كان لا يساويه في الإسكار فلا يساويه في التحريم. الثاني: أن يكون حكم الأصل مما للعقل سبيل إلى إدراك علته، لأنه إذا

كان لا سبيل للعقل على إدراك علته لا يمكن أن يعدَّي بواسطة القياس لأن أساس القياس إدراك علة حكم الأصل، وإدراك تحققها في الفرع. وتوضيح هذا الشرط: أن الأحكام الشرعية العلمية جميعها إنما شرعت لمصالح الناس والعلل بنيت عليها، وما شرّع حكم منها عبثا لغير علة، غير أن الأحكام نوعان: أحكام استأثر الله بعلم عللها، ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل ليبلوا عبادة ويختبرهم، وهم يمتثلون وينفذون ولو لم يدركوا ما بني عليه الحكم من علة وتسمى هذه الأحكام: التعبدية، أو غير المعقول المعنى. ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفّارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث. وأحكام لم يستأثر الله بعلم عللها، بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى: الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تعدي من الأصل إلى غيره بواسطة القياس؛ سواء أكانت أحكاما مبتدأة أي ليست استثناء من أحكام كلية، كتحريم شرب الخمر الذي عدِّي بالقياس إلى شرب أي نبيذ مسكر، وتحريم الربا في القمح والشعير الذي عدِّي بالقياس إلى بيع الذرة والأرز، أم كانت أحكاما مستثناة من أحكام كلية كالترخيص في العرايا استثناء من بيع الجنس متفاضلاً، الذي عدي بالقياس إلى بيع العنب على الكرم بالزبيب. وبقاء الصوم مع أكل الصائم ناسيا استثناء من فساد الصوم بوصول غذاء إلى معدة الصائم الذي عدي بالقياس إلى أكل الصائم خطأ أو مكرها. وإلى بقاء الصلاة مع تكلم المصلي ناسيا، فالشريط لصحة تعديه حكم الأصل أن يكون معقول المعنى بلا فرق بين كونه حكما مبتدأ ليس استثناء من كونه حكم كلي وكونه حكما استثنائيا من حكم كلي، وأما إذا كان غير معقول المعنى فلا يصح تعديته سواء أكان حكما أصليا أم استثنائيا، وعلى هذا لا قياس في العبادات والحدود، وفروض الإرث وأعداد الركعات.

الثالث: أن يكون حكم الأصل غير مختص به، وأما إذا كان حكم الأصل مختصا به فلا يعدى بالقياس إلى غيره. ولا يكون حكم الأصل مختصا به في حالتين: الأولى: إذا كانت علة الحكم لا يتصور وجودها في غير الأصل، كقصر الصلاة للمسافر، فهذا حكم معقول المعنى لأن فيه دفع مشقة، ولكن علته السفر، والسفر لا يتصور وجوده في غير المسافة، وكذلك إباحة المسح على الخفين حكم معقول المعنى لأن فيه تيسير ورفع حرج، ولكن علته لبس الخفين ولا يتصور وجودها في غير لبسهما. والثانية: إذا دلّ دليل على تخصيص حكم الأصل به، مثل الأحكام التي دل الدليل على أنها مختصة بالرسول، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات، وتحرم الزواج بإحدى زوجاته بعد موته، ومثل الاكتفاء في القضاء بشهادة خزيمة بن ثابت وحده بقول الرسول: " من شهد له خزيمة فهو حسبه"، فإن النصوص التي وردت في القرآن والسنة دالة على أنه لا يباح التزوج بأكثر من أربع، وعلى أن المتوفى عنها زوجها بعض انقضاء عدتها يحل لها أن تتزوج، وعلى أن لابد في الشهادة من رجلين أو رجل وامرأتين، وهي أدلة على تخصيص الحكم بالرسول وبخزيمة. وأما الركن الرابع، وهو علة القياس؛ فهذا هو أهم الأركان لأن علة القياس هي أساسه، وبحوثها هي أهم بحوث القياس، وهي كثيرة نقتصر منها على أربعة: تعريفها، وشروطها، وأقسامها، ومسالكها. تعريف العلة: العلة: هي وصف في الأصل بني عليه حكمه ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع، فالإسكار وصف في الخمر بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في كل نبيذ مسكر، والاعتداء وصف في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في استئجار الإنسان على

استئجار أخيه، وهذا هو مراد الأصوليين بقولهم: العلة هي المعرف للحكم. وتسمى العلة: مناط الحكم، وسبب أمارته. ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين أن الله سبحانه ما شرع حكما إلا لمصلحة عبادة، وأن هذه المصلحة إما جلب نفع لهم، وإما دفع ضرر عنهم، فالباعث على تشريع أي حكم شرعي هو جلب منفعة للناس أو دفع ضرر عنهم، وهذا الباعث على تشريع الحكم هو الغاية المقصودة من تشريعه وهو حكمة الحكم، فإباحة الفطر للمريض في رمضان حكمته دفع المشقة عن المريض، واستحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر، وإيجاب القصاص من القاتل عمدا عدوانا حكمته حفظ حياة الناس، وإيجاب قطع يد السارق حكمته حفظ أموال الناس، وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فحكمه كل حكم شرعي تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة. وكان المتبادر أن يبني كل حكم على حكمته، وأن يرتبط وجوده بوجودها وعدمه بعدمها، لأنها هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولكن رُئي بالاستقراء أن الحكمة في تشريع بعض الأحكام قد تكون أمرا خفياً غير ظاهر، أي لا يجرك بحاسة من الحواس الظاهرة، فلا يمكن التحقق من وجوده ولا من عدم وجوده، ولا يمكن بناء الحكم عليه ولا ربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه، مثل إباحة المعاوضات التي حِكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فالحاجة أمر خفي، ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو لغير حاجة، ومثل ثبوت النسب بالزوجية الذي حكمته هو الاتصال الجنسي المفضي إلى حمل الزوجة من زوجها، وهذا أمر خفي لا يمكن الوقوف عليه. وقد تكون الحكمة أمراً تقديرياً أي أمرا غير منضبط، فلا ينضبط بناء الحكم عليه ولا ربطه به وجودا وعدما. مثال هذا: إباحة الفطر في رمضان للمريض، حكمتها دفع المشقة، وهذا أمر تقديري يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، فلو بني الحكم عليه لا ينضبط التكليف ولا يستقيم، وكذلك استحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر وهو أمر تقديري غير منضبط، فلأجل خفاء حكمة

التشريع في بعض الأحكام، وعدم انضباطها في بعضها، لزم اعتبار أمر آخر يكون ظاهرها أو منضبطا يبني عليه الحكم ويربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه ويكون مناسبا لحكمته، بمعنى أنه مظنة لها وأن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها؛ وهذا الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه لأنه مظنة لحكمته، ولأن بناء الحكم عليه من شانه أن يحققها، هو المراد بالعلة في اصطلاح الأصوليين، فالفرق بين حكمة الحكم وعلته هو أن حكمة الحكم هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقا أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم دفعها أو تقليلها. وأما علة الحكم فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه وربط به وجودا وعدما، لأن الشأن في بنائه عليه وربطه به أن يحقق حكمه تشريع الحكم، فقصر الصلاة الرباعية للمسافر حكمته التخفيف ودفع المشقة، وهذه الحكم أمر تقديري غير منضبط لا يمكن بناء الحكم عليه وجودا وعدما، فاعتبر الشارع السفر مناطا للحكم وهو أمر ظاهر منضبط وفي جعله مناطا للحكم مظنة تحقيق حكمته، لأن الشأن في السفر أنه توجد فيه بعض المشقات، فحكمة قصر الصلاة الرباعية للمسافر دفع المشقة عنه، وعلته السفر. واستحقاق الشفعة بالشركة أو الجوار حكمته دفع الضرر عن الشريك أو الجار، وهذه الحكمة أمر تقديري غير منضبط، فاعتبرت الشركة أو الجوار مناط الحكم لأن كلا منها أمر ظاهر منضبط، وفي جعله مناطا للحكم مظنة تحقيق حكمته إذ الشأن أن الضرر ينال الشريك أو الجار، فحكمة استحقاق الشفعة دفع الضرر وعلته الشركة أو الجوار. وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، وهذه الحكم أمر خفي، فاعتبرت صيغة العقد مناطا لحكمته لأنها أمر ظاهر منضبط وفي جعلها مناطا مظنة تحقيق الحكمة لأن الصيغة عنوان تراضي المتعاوضين

بالمعاوضة والشأن في تراضيهما بها أن يكون عن حاجاتهما إليها، فحكمة نقل الملكية في البديلين البيع أو الإجارة سد الحاجة، وعلته صيغة عقد البيع والإجارة. وعلى هذا فجميع الأحكام الشرعية تبني على عللها، أي ترتبط بها وجودا وعدما، لا على حكمها، ومعنى هذا أن الحكم الشرعي يوجد حيث توجد علته ولو تخلفت حكمته، وينتفي حيث تنتفي علته ولو وجدت حكمته، لأن الحكمة لخفائها في بعض الأحكام، ولعدم انضباطها في بعضها لا يمكن أن تكون أمارة على وجود الحكم أو عدمه، ولا يستقيم ميزان التكليف والتعامل إذا ربطت الأحكام بها. فالشارع الحكيم لما اعتبر لكل حكم علة هي أمر ظاهر منضبط، يظن تحقق الحكمة بربط الحكم به جعل مناط الأحكام عللها، ليستقيم التكليف وتنسق أحكام المعاملات ويعرف ما يترتب على الأسباب من مسببات. وتخلف الحكمة في بعض الجزئيات لا أثر له بإزاء استقامة التكاليف واطراد الأحكام، لهذا قرر الأصوليون أن الأحكام الشرعية تدور وجودا وعدما مع عللها لا مع حكمها. وبعبارة أخرى مناط الحكم الشرعي مظنته لا مئنته، فمن كان في رمضان على سفر يباح له الفطر لوجود علة إباحته وهي السف، وإن كان في سفرة لا يجد مشقة. ومن كان شريكا في العقار المبيع أو جارا له يستحق أخذه بالشفعة، لوجود علة استحقاقها وهي الشركة أو الجوار، وإن كان المشتري لا يخشى منه أي ضرر، ومن لم يكن شريكا في العقار المبيع ولا جارا له لا يستحق أخذه بالشفعة وإن كان لأي سبب من الأسباب يناله من شراء المشتري ضرر. ومن كان في رمضان غير مريض ولا مسافر لا يباح له الفطر وإن كان عاملا في محجر أو منجم ويجد من الصوم أقسى مشقة. ومن حصل على النهاية الصغرى في الامتحان نجح وإن لم يلم بالعلوم، ومن لم يحصل عليها لا ينجح وإن كان ملما بالعلوم. وما دام الحكم الشرعي يبني على علته لا على حكمته فعلى المجتهد حين

القياس ان يتحقق من تساوى الاصل والفرع فى العلة لا فى الحكمة وعلى القاضى أن يقضي بالحكم حيث توجد العلة بصرف النظر عن الحكمة، فإذا قضي بالشفعة لغير شريك ولا جار بناء على أنه يناله الضرر من شراء هذا المشتري فهو خاطئ، وإذا رفض الحكم استحقاق الشفعة لشريك أو جار بناء على أنه لا ضرر عليه من شراء هذا المشتري فهو خاطئ. ولكن في بعض الأحكام رُئي أن الحكم قد تخلف عن علته، فقد قرر الفقهاء أن بيع المكره باطل، فالعلة وهي صيغة العقد وجدت ولم يوجد الحكم وهو نقل الملكية، ونصت المادة 15 لسنة 1929م على أنه لا تسمع دعوى النسب عند الإنكار لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينهما وبين زوجات من حيث عقد العقد، فالزواج وجد ولم يوجد حكمه وهو ثبوت النسب. والقاصر إذا بلغ 21 سنة ودلَّت القرائن على أنه غير رشيد لا تنتهي الولاية عليه مع وجود علة انتهائها وهو بلوغه سن الرشد. والحقيقة أن هذه الأحكام وأمثالها لا منافاة بينها وبين ما تقدم، لأننا قدمنا أن العلل الظاهرة المنضبطة إنما تبني الأحكام عليها على أساس أنها مظان لحكمها، وأن المظنة أقيمت مقام المئنة. لكن إذا قام الدليل على نفي أن يكون هذا الظاهر المنضبط مظنة لحكمة الحكم فقد دل على أساس العلة ولم يبق علة، فالإكراه على البيع نفي أن تكون الصيغة مظنة التراض الذي هو دليل الحاجة؛ فالصيغة من المكره ليست علة، والزوجية التي ثبت فيها أن الزوجين لم يلتقيا من حيث العقد لم تبق مظنة لأن تكون الزوجة حملت من زوجها فليست علة لثبوت النسب، وبلوغ 21 سنة لم يبق مظنة لحسن التصرف المالي مع دلائل عدم الرشد. ومما ينبغي التنبيه له: أن بعض الأصوليين جعل العلة والسبب مترادفين ومعناهما واحدا، ولكن أكثرهم على غير هذا فعندهم كلُّ من العلة والسبب علامة على الحكم، وكل منهما بني الحكم عليه وربط به وجوداً وعدماً، وكل منهما للشارع حكمة في ربط الحكم به وبنائه عليه. ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط

مما تدركه عقولنا سمي الوصف: العلة، وسمي أيضا: السبب، وإن كانت مما لا تدركه عقولنا سمي السبب فقط ولا يسمى العلة. فالسفر لقصر الصلاة الرباعية علة وسبب، وأما غروب الشمس لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة الظهر، وشهود رمضان لإيجاب صومه، فكل من هذه سبب لا علة، فكل علة سبب، وليس كل سبب علة. شروط العلة: الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملا على عدة أوصاف وخواص، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لابد في الوصف الذي يعلل به حكم الأصل من أن تتوفر فيه جملة شروط. وهذه الشروط استمدها الأصوليين من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مراعاة تعريف العلة، ومن الغرض المقصود من التعليل وهو تعديه الحكم إلى الفرع. وبعض هذه الشروط اتفقت على اشتراطا كلمة الأصوليين، وبعضها لم تفق عليها كلمتهم، ونحن نقتصر على بيان الشروط المتفق عليها. شروط العلة المتفق عليها أربعة: أولها: أن تكون وصفا ظاهرا: ومعنى ظهوره أن يكون محسا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة، لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع فلابد أن تكون أمرا ظاهرا، يدرك بالحس في الخمر، ويتحقق بالحس من وجوده في نبيذ آخر مسكر، والقدر مع اتحاد الجنس اللذين يدركان بالحس في الأموال الربوية الستة، ويتحقق بالحس من وجودهما في مال آخر من المقدرات. لهذا لا يصح التعليل بأمر خفي لا يدرك بحاسة ظاهرة لأنه لا يمكن التحقق

من وجوده ولا عدمه فلا يعلل ثبوت النسب بحصول نطفة الزوج في رحم زوجته، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي عقد الزواج الصحيح. ولا يعلل نقل الملكية في البديلين بتراضي المتابعين بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول. ولا يعلل بلوغ الحلم بكمال العقل بل يعلل بمظنته الظاهرة، وهي بلوغ 15 سنة أو ظهور علامة من علامات البلوغ قبلها. وثانيها: أن يكون وصفا منضبطا: ومعنى انضباطه أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير، لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة مضبوطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها، كالقتل العمد العدوان من الوارث لمورثه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في قتل الموصى له للموصي، والاعتداء في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في استئجار الإنسان على استئجار أخيه. لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المرنة غير المضبوطة، التي تختلف اختلافا بينا باختلاف الظروف والأحوال والأفراد، فلا تعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض أو المسافر بدفع المشقة بل مظنتها وهو السفر أو المرض. وثالثها: أن تكون وصفا مناسباً: ومعنى مناسبته أن يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم، أي أن ربط الحكم به وجوداً وعدماً من شأنه أن يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر، لأن الباعث الحقيقي على تشريع الحكم والغاية المقصودة منه هو حكمته، ولو كانت الحكمة في جميع الأحكام ظاهرة مضبوطة لكانت هي علل الأحكام، لأنها هي الباعثة على تشريعها، ولكن لعدم ظهورها في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها، أقيمت مقامها أوصاف ظاهرة مضبوطة ملائمة ومناسبة لها. وما ساغ اعتبار هذه الأوصاف عللا للأحكام ولا أقيمت مقام حكمها إلا أنها مظنة لهذا الحكم،

فإذا لم تكن مناسبة ولا ملائمة لم تصلح علة للحكم. فالإسكار مناسب لتحريم الخمر لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول، والقتل العمد العدوان مناسب لإيجاب القصاص لأن في بناء القصاص عليه حفظ حياة الناس، والسرقة مناسبة لإيجاب قطع يد السارق والسارقة لأن في بناء القطع عليها حفظ أموال الناس. لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف غير المناسبة، وتسمى بالأوصاف الطردية أو الاتفاقية التي لا تعقل علاقة لها بالحكم، ولا بحكمته كلون الخمر، أو كون القاتل عمداً عدواناً مصري الجنس، أو كون السارق أسمر اللون، أو كون المفطر عمداً في رمضان أعرابيا. ولا يصح التعليل بأوصاف مناسبة بأصلها إذا طرأ عليها في بعض الجزئيات بمناسبتها، وجعلها قطعا غير مظنة لحكمة التشريع، فصيغة البيع من المكره لا تصح علة لنقل الملكية، وزوجية من ثبت عدم تلاقيهما من حين العقد لا تصل علة لثبوت النسب، وبلوغ من بلغ مجنوناً لا يصلح علة لزوال الولاية النفسية عنه، لأن البيع والزواج والبلوغ في هذه الجزئيات ليست مظنة ولا مناسبة. رابعها: أن لا تكون وصفا قاصرا على الأصل: ومعنى هذا أن تكون وصفا يمكن أن يتحقق في عدة أفراد ويوجد في غير الأصل، لأن الغرض المقصود من تعليل حكم الأصل تعديته إلى الفرع، فلو علل بعلة لا توجد في غير الأصل لا يمكن أن تكون أساسا للقياس. ولهذا لما عللت الأحكام التي هي من خصائص الرسول، بأنها لذات الرسول لم يصح فيها القياس، فلا يصح تعليل تحريم الخمر بأنها نبيذ العنب تخمر، ولا تعليل تحريم الربا في الأموال الربوية الستة بأنها ذهب أو فضة. وبعض الأصوليين خالف في اشتراط هذا الشرط في العلة. وينبغي أن لا يكون في اشتراط هذا الشرط خلاف، ما دام المقصود هو شروط العلة التي هي ركن القياس وأساسه، لأنه لا تكون العلة أساسا للقياس إلا إذا كانت متعدية أي أمراً غير خاص بالأصل ويمكن وجوده في غيره.

أقسام العلة: تقسيم العلة من ناحية اعتبار الشارع إياها وعدمه: قدمنا في بحث "شروط العامة" أنه ليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، وأنه لا يصح التعليل بوصف إلا إذا كان ظاهرا منضبطا مناسبا. وبينا أن المراد بمناسبة الوصف للحكم أن يكون مظنة لحكمته، بحيث يكون بناء الحكم عليه وربطه به من شأنه أن يحقق المصلحة التي شرع الحكم من أجلها. ونقرر هنا أنه للاحتياط يشترط أن يكون الوصف المناسب مع ظهوره وانضباطه قد اعتبره الشارع علة بأي نوعه من أنواع الاعتبار. ومن ناحية اعتبار الشارع للمناسب وعدم اعتباره إياه، قسّم الأصوليين الوصف المناسب إلى أقسام أربعة: المناسب المؤثر، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والمناسب الملغي. وبنوا الحصر في هذه الأقسام على أن الوصف المناسب إذا اعتبره الشارع بعينه علة لحكم بعينه فهو المناسب المؤثر، وإذا اعتبره الشارع علة بنوع آخر من أنواع الاعتبار الثلاثة التي سيأتي بيانها فهو المناسب الملائم، وإذا لم يعتبره الشارع بأي نوع من أنواع الاعتبار ولم يبغ اعتباره ولم يرتب حكما على وفقه، فهو المناسب المرسل، وإذا ألغي الشارع اعتباره فهو المناسب الملغي. وقد اتفقوا على صحة التعليل بالمناسب المؤثر وبالمناسب الملائم، وعلى عدم صحة التعليل بالمناسب الملغي، واختلفوا في صحة التعليل بالمناسب المرسل. وهذا بيان الأقسام الأربعة وأمثلتها: 1- المناسب المؤثر: هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكماً على وفقه، وثبت بالنص أو الإجماع بعينه علة للحكم، الذي رتب على وفقه، ومثاله قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، الحكم الثابت بهذا النصل هو إيجاب اعتزال النساء في المحيض، وقد رتب على أنه أذى، وصوغ النص صريح في أن علة هذا الحكم هو الأذى، فالأذى لإيجاب اعتزال النساء في المحيض وصف مناسب مؤثر. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" الحكم الثابت بهذا النص هو منع القاتل من إرث مورثه، وقد رتب

على أنه قاتل، وصوغ النص يؤمئ إلى أن علة هذا المنع هو القتل، لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بأن مصدر الاشتقاق هو العلة، فالقتل للمنع من الإرث وصف مناسب مؤثر. وقوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، الحكم الثابت بهذا النص: أن من لم يبلغ الحلم من اليتامى ثبت الولاية على ماله لوليه، وقد ثبت بالإجماع أن علة ثبوت الولاية المالية على الصغير صغره، فالصغر لثبوت الولاية المالية وصف مناسب مؤثر. فكل حكم شرعي رتب على وصف مناسب في محله ودل نص أو إجماع على أن هذا الوصف هو علة هذا الحكم، فهذا الوصف مناسب مؤثر، وهذا أعلى درجات اعتبار الوصف المناسب. 2- المناسب الملائم: هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وقفه، ولم يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لنفس الحكم الذي رتب على وفقه، ولكن ثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه عله لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه، أو اعتبار وصف من جنسه علة لهذا الحكم. فمتى كان الوصف المناسب معتبرا بنوع من هذه الأنواع الثلاثة للاعتبار كان التعليل به موافقا تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله، ولهذا يسمى المناسب الملائم أي الموافق تصرفات الشارع، وقد اتفق على صحة التعليل به وبناء القياس عليه. مثال الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: الصغر لثبوت الولاية للأب في تزويج الصغيرة، وذلك أنه ثبت بالنص ثبوت الولاية للأب في تزويج بنته البكر الصغيرة. فالحكم وهو ثبوت الولاية رتب على وفق البكارة والصغر، ولم يدل نص أو أإجماع على أن العلة لثبوت هذه الولاية البكارة أو الصغر، لكن ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة

للولاية على مال الصغيرة، والولاية على النفس هو ولاية التزاوج من جنس واحد، وهو الولاية. فكأن الشارع لما اعتبر الصغر علة للولاية على مال الصغيرة اعتبر الصغر علة للولاية عليها بأنواعها، ومن أنواع الولاية: الولاية على تزويجها. فعلة ثبوت الولاية للأب على تزويج البكر الصغيرة الصغر، وبما أن الصغر يتحقق في الثيب الصغيرة فتقاس على البكر الصغيرة وتثبت عليها ولاية التزويج، وتقاس عليها أيضا من في حكم الصغيرة وهي المجنونة والمعتوهة. ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفا من جنسه علة للحكم الذي رتب على وفقه: المطر لإباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد، وذلك أنه ثبت بالنص إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر. فالحكم وهو إباحة الجمع بين الصلاتين رتب على وفق حال المطر، ولم يدل نص ولا إجماع على أن المطر هو علة هذا الحكم، لكن دل نص آخر على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال السفر. وثبت بالإجماع أن علة إباحة الجمع السفر، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد، لأن كلا منهما عارض مظنة الحرج والمشقة، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو من جنسه علة لهذه الإباحة، فعلة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه حال الثلج والبرد. ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر وصفا من جنسه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: تكرر أوقات الصلوات في الليل والنهار لسقوط قضاء الصلاة عن الحائض. وذلك أنه ثبت بالنص أن الحائض في أثناء حيضها لا تصوم ولا تصلى، وأن عليها إذا طهرت أن تقضي الصوم دون الصلاة. فالحكم وهو سقوط قضاء الصلوات عنها لم يدل نص على علته، ولكن رُئي أن تكرر أوقات الصلوات ليلا ونهارا مظنة الحرج والمشقة في أدائها، والشارع اعتبر أشياء كثيرة هي مظان الحرج عللا لأحكام كثيرة هي رخص وتخفيف عن المكلف، كالمرض والسفر لإباحة الفطر في رمضان، والسفر لقصر الصلاة الرباعية، وعدم الماء للتيمم، ودفع الحاجة للسلم والعرايا، فكأن الشارع

اعتبر كل نوع من أنواع مظان الحرج علة لكل نوع من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وتكرر أوقات الصلوات من أنواع مظان الحرج، وسقوط قضائها عن الحائض من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وهذا النوع من أنواع الاعتبار يفسح المجال للتعليل بالأوصاف المناسبة، لأن كل وصف مناسب رتب الشارع الحكم على وفقه، لا يخلو من أن يكون أي وصف من جنسه اعتبره الشارع علة لحكم من جنس حكمه، وصحة التعليل بالمناسب بناء على اعتبار جنسه في جنس الحكم تفتح أبواب القياس بسعة، لأن مآل هذا: أن الشارع إذا اعتبر وصفا هو مظنة الحرج علة لحكم فيه تخفيف، صح اعتبار أي وصف آخر من مظان الحرج علة لأن حكم آخر فيه تخفيف. ولا يتصور أن يوجد وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يعتبره بأي نوع من أنواع الاعتبار السابقة بل لابد أن الشارع اعتبره ولو باعتبار جنسه علة لجنس حكمه. وعلى هذا فكل وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، فهو إما مؤثر، وإما ملائم. وأما ما سماه بعض الأصوليين بالمناسب الغريب، فال يتصور وجوده، لأنه عرّفوه بالوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يثبت اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، وقد بينا أنه مع السعة في اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم لا يوجد مناسب غريب، ولهذا لم يذكر صاحب جمع الجوامع المناسب الغريب، واقتصر على تقسيم المناسب إلى مؤثر وملائم ومرسل، وهذا الذي اخترناه. 3- المناسب المرسل: هو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكما على وفقه ولم يدل دليل شرعي على اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، ولا على إلغاء اعتباره. فهو مناسب أي يحقق مصلحة؛ ولكنه مرسل أي مطلق عن دليل اعتبار ودليل إلغاء، وهذا هو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين "المصلحة المرسلة". ومثاله: المصالح التي بنى عليها الصحابة تشريع وضع الخراج على الأرض الزراعية، وضرب النقود، وتدوين القرآن ونشره، وغير هذا من المصالح

التي شرعوا الأحكام بناء عليها، ولم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغاء اعتبارها. وهذا المناسب المرسل اختلف العلماء في تشريع الأحكام بناء عليه، فمنهم من نظر إلى ناحية أن الشارع لم يعتبره فقال: لا يبني عليه تشريع، ومنهم من نظر إلى أن الشارع لم يلغ اعتباره فقال: يبني عليه التشريع، وسيأتي بحثه مفصلا. 4- المناسب الملغي: وهو الوصف الذي يظهر أن في بناء الحكم عليه تحقيق مصلحة، ولم يرتب الشارع حكما على وفقه ودل الشارع بأي دليل على إلغاء اعتباره. مثل: تساوي الابن والبنت في القرابة لتساويهما في الإرث، ومثل إلزام المفطر عمداً في رمضان بعقوبة خاصة لردعه. وهذا لا يصح بناء تشريع عليه، وسيأتي بحثه مفصلا. مسالك العلة: المراد بمسالك العلة: الطرق التي يتوصل بها إلى معرفتها، وأشهر هذه المسالك ثلاثة: أولا: النص: فإذا دل نص القرآن أو السنة على أن علة الحكم هي هذا الوصل كان هذا الوصف علة بالنص ويسمى العلة المنصوص عليها وكان القياس بناء عليه هو في الحقيقة تطبيق للنص. ودلالة النص على أن الوصف علة قد تكون صراحة وقد تكون إيماء أي إشارة وتلويحا لا تصريحا. فالدلالة صراحة هي: دلالة لفظ في النص على العلية بوضعه اللغوي مثل ما إذا ورد في النص لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص، لا يحتمل غير الدلالة على العلية، فدلالة النص على علية الوصف صريحة قطعية كقوله تعالى في تعليله بعثه الرسل: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقوله في إيجاب أخذ خمس الفيء للفقراء والمساكين: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} [الحشر: 7] ، وكقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة، فكلوا وادخروا". وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص يحتمل الدلالة على غير العلية، فدلالة النص على عليه الوصف صريحة ظنية، مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، وقول الرسول في طهارة سؤر الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، وإنما كانت دلالة النص

على العلية ظنية في هذا الأمثلة لأن الألفاظ الدالة عليها فيها، وهي: اللام، والباء، والفاء، وإن كما تستعمل في التعليل في غيره، وإن كان التعليل هو الظاهر من معانيها في هذه النصوص. وأما دلالة النص على العلية إيماء أي إشارة وتنبيها، فهي مثل الدلالة المستفادة من ترتيب الحكم من الوصف واقترانه به، بحيث يتبادر من هذا الاقتران فهم عليه الوصف للحكم وإلا لم يكن للاقتران وجه، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، وقوله: "لا يرث القاتل"، وقوله: "للراجل سهم وللفارس سهمان"، وقوله للأعرابي لما قال له: "واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا"، "كفِّر" وكون الدلالة صراحة أو إيماء، قطعية أو ظنية، مدارها على وضع اللغة وسياق النص. ثانيا: الإجماع: فإذا اتفق المجتهدون في عصر من العصور على علية وصف لكم شرعي ثبتت عليه هذا الوصف للحكم بالإجماع، ومثال هذا إجماعهم على أن علة الولاية المالية على الصغيرة الصغر، وفي عدّ هذا مسلكاً نظر، لأن نفاة القياس لا يقيسون ولا يعللون فكيف ينعقد بدونهم إجماع.

ثالثا: السبر والتقسيم: السبر معناه الاختبار، ومنه المسبار. والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة في الأصل، وترديد العلة بينها بأن يقال العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف. فإذا ورد نص بحكم شرعي في واقعة ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم: بأن يصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، وتصلح لأن تكون العلة وصفا منها، ويختبرها وصفا وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف التي لا تصلح أن تكون علة، ويستبقي ما يصلح أن يكون علة، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأن هذا الوصف علة. مثلا: ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير: ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم بأن يقول: علة هذا الحكم إما كون الشعير مما يضبط قدره لأنه يضبط بالكيل، وإما كونه طعاما، وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كون طعاما لا يصلح علة، لأن التحريم ثابت في الذهب بالذهب وليس الذهب طعاما، وكونه قوتا لا يصلح أيضا لأن التحريم ثابت في الملح بالملح، وليس قوتا، فيتعين أن تكون العلة كونه مقدرا. وبناء على هذا؛ يقاس على ما ورد في النص كل المقدرات بالكيل أو الوزن، ففي مبادلتها بجنسها يحرم ربا الفضل والنسيئة. وكذا ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الصغيرة، ولم يدل نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية، فالمجتهد يردد العلية بين كوناه بكرا وكونها صغيرة، ويستبعد البكارة لأن الشارع ما اعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويستبقى الصغر لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال، وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر ويقيس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة بجامع الصغر. وكذا ورد النص بتحريم شرب الخمر ولم يدل نص على علة الحكم، فالمجتهد يردد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلا أو كونه مسكرا، ويستبعد الوصف الأول لأنه قاصر، والثاني لأنه طردي غير مناسب، ويستبقي الثالث فيحكم بأنه علة.

وخلاصة هذا المسلك: أن المجتهد عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علة منها، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة، بحيث لا يستبقي إلا وصفا ظاهرا منضبطا متعديا مناسبا معتبرا بنوع من أنواع الاعتبار. وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى تفاوت عقول المجتهدين، لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى المناسب وصفا آخر. فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس. والحنفية رأوا المناسب في تعليل ثبوت الولاية على البكر الصغيرة الصغر، والشافعية رأوه البكارة. وبعض علماء الأصول عد من مسالك العلة تنقيح المناط، والمراد بتنقيح المناط، هو تهذيب ما نيط به الحكم وبني عليه وهو علته. والحق أن تنقيح المناطق إنما يكون حيث دل النص على العلية من غير تعيين وصف بعينه علة، فهو ليس مسلكا للتواصل به إلى تعليل الحكم، لأن تعليل الحكم مستفاد من النص، وإنما هو مسلك لتهذيب وتخليص علة الحكم مما اقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية. ومثال هذا: ما ورد في السنة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: هلكت، فقال له الرسول: "ما صنعت؟ " فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا، فقال له الرسول: "كفِّر ... " الحديث، فهذا النص دل بالإيماء على أن علة إيجاب التكفير على الأعرابي ما وقع منه، ولكن هذا الذي وقع منه فيه ما لا مدخل له في العلية لإيجاب التكفير مثل كونه أعرابيا، وكونه واقع خصوص زوجته، وكونه واقع في نهار رمضان من تلك السنة بعينها. فالمجتهد يستبعد هذه الأوصاف لأنها لا مدخل لها في العلية، ويستخلص علة الوقاع عمدا في نهار رمضان، وعلى هذا تجب الكفارة على من أفطر عامدا في نهار رمضان بالجماع خاصة، وهذا مذهب الشافعي. وأما الحنفية فقالوا: إن مثل الجماع كل مفطر، وهذه المماثلة تفهم بالتبادر فتجب الكفارة على كل من أفطر عمدا في نهار رمضان بجماع أو بأكل أو بشرب أو غيرها فيكون المناط لإيجاب

الدليل الخامس الاستحسان

الكفارة عندهم بعد تهذيبه المفسد للصوم عمدا، فتهذيب العلة مما اقترن بها ومما لا مدخل له في العلية وهو تنقيح المناط. ومن هذا يتبين أن تنقيح المناط غير السبر والتقسيم؛ لأن تنقيح المناط يكون حيث دل نص على مناط الحكم، ولكنه غير مهذب ولا خالص من اقتران ما لا دخل له في العلية به. وأما السبر والتقسيم فيكونان حيث لا يجود نص أصلا على مناط الحكم، ويراد التوصل بهما إلى معرفة العلة لا إلى تهذيبها من غيرها. وأما النظر في استخراج العلة غير المنصوص عليها، ولا المجمع عليها بواسطة السبر والتقسيم، أو بأي مسلك من مسالك العلة فيسمى تخريج المناط. فهو استنباط علة لحكم شرعي ورد به النص ولم يرد نص بعلته ولم ينعقد إجماع على علته. وأما تحقيق المناط فهو النظر في تحقق العلة التي تثبت بالنص أو بالإجماع أو بأي مسلك في جزئية أو واقعة غير التي ورد فيها النص، كما إذا ورد النص بأن علة اعتزال النساء في المحيط هي الأذى فينظر في تحقيق الأذى في النفاس. وكما إذا ثبت أن علة تحريم شرب الخمر الإسكار فينظر في تحقيق الإسكار في نبيذ آخر. الدليل الخامس الاستحسان 1- تعريفه. 2- أنواعه 3- حجيته. 4- شبه من لا يحتجون به. تعريفه: الاستحسان في اللغة: عد الشيء حسنا، وفي اصطلاح الأصوليين: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجَّح لديه هذا العدول. فإذا عرضت واقعة ولم يرد نص بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفان إحداهما

ظاهرة تقتضي حكما والأخرى خفية تقتضي حكما آخر، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان. وكذلك إذا كان الحكم كليا، وقام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان. أنواعه: من تعريف الاستحسان شرعا يتبين أنه نوعان: أحدهما: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل. وثانيهما: استثناء جزئية من حكم كلي بدليل. ومن أمثلة النوع الأول: 1- نص فقهاء الحنفية على أن الواقف إذا وقف أرضا زراعية يدل حق المسيل وحق الشرب وحق المرور في الوقف تبعا بدون ذكرها استحسانا، والقياس أنها لا تدخل إلا بالنص عليها كالبيع. ووجه الاستحسان: أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليهم، ولا يكون الانتفاع بالأرض الزراعية إلا بالشرب والمسيل والطريق، فتدخل في الوقف بدون ذكرها لأن المقصود لا يتحقق إلا بها كالإجارة. فالقياس الظاهر إلحاق الوقف في هذا البيع، لأن كلا منهما إخراج ملك من مالكه. والقياس الخفي: إلحاق الوقف في هذا بالإجارة لأن كلا منهما مقصود به الانتفاع، فكما يدخل المسيل والشرب والطريق في إجارة الأطيان بدون ذكرها تدخل في وقف الأطيان بدون ذكرها. 2-نص فقهاء الحنفية على أنه إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه وادعى المشتري أنه تسعون يتحالفان استحسانا، والقياس أن لا يحلف البائع، لأن البائع يدعي الزيادة " وهي عشرة" والمشتري ينكرها، والبينة على من أدعى، واليمين على من أنكر،

فلا يمين على البائع. ووجه الاستحسان: أن البائع مدعٍ ظاهرا بالنسبة إلى الزيادة ومنكر حق المشتري في تسليم المبيع بعد دفع التسعين، والمشتري منكر ظاهرا الزيادة التي ادعاها البائع وهي العشرة ومدع حق تسلمه المبيع بعد دفع التسعين، فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان. فالقياس الظاهر: إلحاق هذه الواقعة بكل واقعة بين مدع ومنكر، فالبينة على من ادعى واليمن على من أنكر. والقياس الخفي: إلحاق الواقعة بكل واقعة بين متداعيين، كل واحد منهما يعتبر في آن واحد مدعيا ومنكرا فيتحالفان. 3- نص فقهاء الحنفية على أن سؤر سباع الطير كالنسر والغراب والصقر والبازي والحدأة والعقاب طاهر استحسانا نجس قياسا. وجه القياس: أنه سؤر حيوان محرم لحمه كسؤر سباع البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب، وحكم سؤر الحيوان تابع لحكم لحمه. ووجه الاستحسان: أن سباع الطير وإن كان محرماً لحمها إلا أن لعابها المتولد من لحمها لا يختلط بسؤرها، لأنها تشرب بمنقارها وهو عظيم طاهر، وأما سباع البهائم فتشرب بلسانها المختلط بلعابها فلهذا ينجس سؤرها. ففي كل مثال من هذه الأمثلة، تعارض في الواقعة قياسان أحدهما جلي متبادر فهمة، والآخر خفي دقيق فهمه، وقام للمجتهد دليل رجح القياس الخفي فعدل عن القياس الجلي فهذا العدول هو "الاستحسان" والدليل الذي بني عليه هو وجه الاستحسان. ومن أمثلة النوع الثاني: نهى الشارع عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسان في السلم والإجارة والمزارعة والمساقاة والاستصناع وهي كلها عقود، المعقود عليه

فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم. ونص الفقهاء على أن الأمين يضمن بموته مجهلاً لأن التجهل نوع من التعدي، واستثني استحسانا موت الأب أو الجد أو الوصي مجهلاً. ووجه الاستحسان: أن الأب والجد والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغير ويصر ما يحتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه في وجهه. ونصوا على أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، واستثنى استحسانا الأجير المشترك، فإنه يضمن إلا إذا كان هلاك ما عنده بقوة قاهرة؛ ووجه الاستحسان: تأمين المستأجرين. ونصوا على أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، واستثني استحسانا وقفه على نفسه مدة حياته، ووجه الاستحسان: أن وقفه على نفسه فيه تأمين عقاراته من الضياع، وهذا يتفق والغرض من الحجر عليه. ففي كل مثال من هذه الأمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل، وهذا هو الذي يسمى اصطلاحا الاستحسان. حجيته: من تعريف الاستحسان وبيان نوعية يتبين أنه في الحقيقة ليس مصدرا تشريعيا مستقلا، لأن أحكام النوع الأول من نوعية دليلها هو القياس الخفي الذي ترجح على القياس الجلي، بما اطمأن له قلب المجتهد من المرجحات، وهو وجه الاستحسان. وأحكام النوع الثاني من نوعه دليلها هو المصلحة، التي اقتضت استثناء الجزئية من الحكم الكلي، وهو الذي يعبر عنها بوجه الاستحسان. فمن احتجوا بالاستحسان وهم أكثر الحنفية دليلهم في حجيته: أن الاستدلال بالاستحسان إنما هو استدلال بقياس خفي، ترجح على قياس جلي أو هو ترجيح قياس على قياس يعارضه، بدليل يقتضي هذا الترجيح، أو استدلال بالمصلحة المرسلة على استثناء جزئي من حكم كلي، وكل هذا استدلال صحيح.

شبه من لا يحتجون به: أنكر فريق من المجتهدين الاستحسان واعتبروه استنباطاً للأحكام الشرعية بالهوى والتلذذ، وعلى رأس هذا الفريق الإمام الشافعي، فقد نقل عنه أنه قال: "من استحسن فقد شرع"، أي ابتدأ من عنده شرعا. وقرر في رسالته الأصولية أن "مثل من استحسن حكما مثل من اتجه في الصلاة إلى جهة استحسن أنها الكعبة، من غير أن يقوم له دليل من الأدلة التي أقامها الشارع لتعيين الاتجاه إلى الكعبة". وقرر فيها أيضا أن "الاستحسان تلذذ، ولو جاز الأخذ بالاستحسان في الدين جاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا". والظاهر لي أن الفريقين المختلفين في الاستحسان لم يتفقا في تحديد معناه، فالمحتجون به يريدون منه معنى غير الذي يريده من لا يحتجون به، ولو اتفقوا على تحديد معناه ما اختلفوا في الاحتياج به، لأن الاستحسان هو عند التحقيق عدول عن دليل ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول، وليس مجرد تشريع بالهوى. وكل قاض قد تنقدح في عقله في كثير من الوقائع مصلحة حقيقية، تقتضي العدول في هذه الجزئية عما يقضي به ظاهر القانون وما هذا إلا نوع من الاستحسان. ولهذا قال الإمام الشاطبي في الموافقات: من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تكل الأشياء المعروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى تفويت مصلحة من جهة أو جلب مفسدة كذلك.

الدليل السادس المصلحة المرسلة

الدليل السادس المصلحة المرسلة 1- تعريفها 2- أدلة من يحتجون بها. 3- شروط الاحتجاج بها 4- أظهر شبه من لا يحتجون بها تعريفها: المصلحة المرسلة أي المطلقة، في اصطلاح الأصوليين: المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها. وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء. ومثالها المصلحة التي شرّع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، أو غير ذلك من المصالح التي اقتضتها الضرورات، أو الحاجات أو التحسينات ولم تشرع أحكام لها، ولم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها. وتوضيح هذا التعريف: أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، وأن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس وتتطور باختلاف البيئات. وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة أخرى. فالمصالح التي شرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ودل على اعتبارها عللا لما شرعه، وتسمى في اصطلاح الأصوليين: المصالح المعتبرة من الشارع، مثل حفظ حياة الناس، شرع الشارع له إيجاب القصاص من القاتل العامد، وحفظ مالهم الذي شرع له حد السارق والسارقة، وحفظ عرضهم الذي شرع له حد القذف للزاني والزانية، فكل من القتل العمد، والسرقة، والقذف، والزنا، وصف

مناسب، أي أن تشريع الحكم بناء عليه يحقق مصلحة، وهو معتبر من الشارع لأن الشارع بني الحكم عليه، وهذا المناسب المعتبر من الشارع إما مناسب مؤثر، وإما مناسب ملائم على حسب نوع اعتبار الشارع له، ولا خلاف في التشريع بناء عليه كما قدمنا. وأما المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي، ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهذه تسمى المناسب المرسل أو بعبارة أخرى المصلحة المرسلة. مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغاءها، فهي مصالح مرسلة. أدلة من يحتجون بها: ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبني عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع قياس أو استحسان، يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة، ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها. ودليلهم على هذا أمران: أولهما: أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس. وثانيهما: أن من استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين؛ يتبين أنهم شرعوا أحكاما كثيرة لتحقيق مطلق المصلحة، لا لقيام شاهد باعتبارها. - فأبو بكر جمع الصحف المفرقة التي كان مدونا فيها القرآن، وحارب

مانعي الزكاة، واستخلف عمر بن الخطاب. - وعمر أمضى الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ووضع الخراج، ودون الدواوين، واتخذ السجون، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة. - وعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وورّث زوجة من طلق زوجته للفرار من إرثها. - وعلي حرق الغلاة من الشيعة الروافض. - والحنفية حجروا على المفتي الماجن، والطبيب الجاهر، والمكاري المفلس. - والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلا إلى إقراره. - والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد. وجميع هذه المصالح التي قصدوها بما شرعوه من الأحكام هي مصالح مرسلة، وقد شرعوا بناء عليها لأنها مصلحة، ولأنها دليل من الشارع على إلغائها، وما وقفوا عن التشريع لمصلحة حتى يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولهذا قال القرافي: "إن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار". وقال ابن عقيل: "السياسة كل فعل تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسة إلا بما نطق به الشرع، فقد غلط وغلّط الصحابة في شريعتهم" شروط الاحتجاج بها: من يحتجون بالمصلحة المرسلة احتاطوا للاحتجاج بها حتى لا تكون باب للتشريع بالهوى والتشهي، ولهذا اشترطوا في المصلحة المرسلة التي يبني عليه التشريع شروطا ثلاثة: أولها: أن تكون مصلحة حقيقة وليست مصلحة وهمية، والمراد بها أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا أو يدفع ضررا، وأما مجرد توهم أن التشريع يجلب نفعا، من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء على مصلحة وهمية، ومثال هذه المصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق تطليق زوجته، وجعل حق التطليق للقاضي فقط في جميع الحالات. ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية، والمراد بهذا أن

يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررا عنهم وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلا يشرع الحكم لأنه يحقق مصلحة خاصة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم، فلابد أن تكون لمنفعة جمهور الناس. ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع: فلا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن والبنت في الإرث، لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها نص القرآن، ولهذا كانت فتوى يحيى بن يحيى الليثي المالكي فقيه الأندلس، وتلميذ الإمام مالك بن أنس خاطئة؛ وذلك أن أحد ملوك الأندلس أفطر عمدا في رمضان، فأفتاه الإمام يحيى بأنه لا كفّارة لإفطاره إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وبنى فتواه على أن المصلحة تقتضي هذا إذ إن المقصود من الكفارة زجر المذنب وردعه حتى لا يعود إلى مثل ذنبه، ولا يردع هذا الملك إلا هذا، فأما إعتاقه رقبة فهذا يسير عليه ولا ردع فيه، فهذه الفتوى بينت على مصلحة ولكنها تعارض نصا، لأن النص صريح في أن كفارة من أفطر في رمضان عمدا إعتاق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، بلا تفريق بين ملك يفطر وفقير يفطر، فالمصلحة التي اعتبرها المفتي لإلزام الملك بالتكفير بصيام شهرين مصلحة خاصة ليست مرسلة بل هي ملغاة. ومن هذا يتبين أن المصلحة، وبعبارة أخرى الوصف المناسب إذا دل شاهد شرعي على اعتباره بنوع من أنواع الاعتبار، فهو المناسب المعتبر من الشارع، وهو إما المناسب المؤثر أو المناسب الملائم، وإذا دل شاهد شرعي على إلغاء اعتباره فهو المناسب الملغي، وإذا لم يدل شاهد شرعي على اعتباره ولا على إلغائه فهو المناسب المرسل وبعبارة أخرى المصلحة المرسلة. أظهر شبه من لا يحتجون بها: ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة التي لم يشهد شاهد شرعي باعتبارها ولا بإلغائها لا يبني عليها تشريع.

ودليلهم أمران: الأول: أن الشريعة راعت كل مصالح الناس بنصوصها وبما أرشدت إليه من القياس، والشارع لم يترك الناس سدى، ولم يهمل أية مصلحة من غير إرشاد إلى التشريع لها، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع باعتبارها، والمصلحة التي لا شاهد من الشارع باعتبارها ليست في الحقيقة مصلحة، وما هي إلا مصلحة وهمية ولا يصح بناء التشريع عليها. والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فيه فتح باب لأهواء ذوي الأهواء، من الولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فبعض هؤلاء قد يغلب عليهم الهوى والغرض فيتخيلون المفاسد مصالح، والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والبيئات ففتح باب التشريع لمطلق المصلحة فتح باب الشر. والظاهر لي: هو ترجيح بناء التشريع على المصلحة المرسلة، لأنه إذا لم يفتح هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله لا يؤيده الواقع، فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها. ومن خاف من العبث والظلم واتباع الهوى باسم المصلحة المطلقة، يدفع خوفه بأن المصلحة المطلقة لا يبني عليها تشريع إلاّ إذا توافرت فيها الشروط الثلاثة التي بينّاها، وهي أن تكون مصلحة عامة حقيقة لا تخالف نصا شرعياً ولا مبدأ شرعياً. قال ابن القيم: "من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا من ينافي شرع الله وأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضا".

الدليل السابع العرف

الدليل السابع العُرف 1- تعريفه 2- أنواعه 3- حكمه تعريفه: العُرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول، أو فعل، أو ترك، ويسمى العادة. وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة، فالعرف العملي: مثل تعارف الناس البيع بالتعاطي من غير صيغة لفظية. والعرف القولي: مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على أن لا يطلقوا لفظ اللحم على السمك. والعرف يتكون من تعارف الناس على اختلاف طبقاتهم عامتهم وخاصتهم بخلاف الإجماع فإنه يتكون من اتفاق المجتهدين خاصة، ولا دخل للعامة في تكوينه. 2- أنواعه: العرف نوعان: عرف صحيح، وعرف فاسد. فالعرف الصحيح: هو ما تعارفه الناس، ولا يخالف دليل شرعيا ولا يحل محرماً ولا يبطل واجباً، كتعارف الناس عقد الاستصناع، وتعارفهم تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر، وتعارفهم أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا إذا قبضت جزءا من مهرها، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من حلي وثياب هو هدية لا من المهر. وأما العرف الفاسد: هو ما تعارفه الناس ولكنه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب، مثل تعارف الناس كثيرا من المنكرات في الموالد والمآتم، وتعارفهم أكل الربا وعقود المقامرة. 3- حكمه: أما العرف الصحيح فيجب مراعاته في التشريع وفي القضاء، وعلى المجتهد مراعاة في تشريعه؛ وعلى القاضي مراعاته في قضائه؛ لأن ما

تعارفه الناس وما ساروا عليه صار من حاجاتهم ومتفقا ومصالحهم، فما دام لا يخالف الشرع وجبت مراعاته، والشارع راعي الصحيح من عرف العرب في التشريع، ففرض الدية على العاقلة، وشرط الكفاءة في الزواج واعتبر العصبية في الولاية والإرث. ولهذا قال العلماء: العادة شريعة محكمة، والعرف في الشرع له اعتبار، والإمام مالك بنى كثيرا من أحكامه على عمل أهل المدينة، وأبو حنيفة وأصحابه اختلفوا في أحكام بناء على اختلاف أعرافهم، والشافعي لما هبط إلى مصر غير بعض الأحكام التي كان قد ذهب إليها وهو في بغداد، لتغير العرف، ولهذا له مذهبان قديم وجديد. وفي فقه الحنفية أحكام كثيرة مبنية على العرف، منها إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما فالقول لمن يشهد له العرف، وإذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر فالحكم هو العرف، زمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث بناء على العرف، والمنقول يصح وقفه إذا جرى به العرف، والشرط في العقد يكون صحيحا إذا ورد به الشرع أو اقتضاه العقد أو جرى به العرف. وقد ألَّف العلامة المرحوم ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف"، ومن العبارات المشهورة: " المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص" وأما العرف الفاسد فلا تجب مراعاته لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي أو إبطال حكم شرعي، فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة كعقد ربوي، أو عقد فيه غرر وخطر، فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد، ولهذا لا يعتبر في القوانين الوضعية عرف يخالف الدستور أو النظام العام، وإنما ينظر في مثل هذا العقد من جهة أخرى، وهي أن هذا العقد هل يعد من ضرورات الناس أو حاجياتهم، بحيث إذا أبطل يختل نظام حياتهم أو ينالهم حرج أو ضيق أولا؟ فإن كان من ضرورياتهم أو حاجياتهم يباح لأن الضرورات تبيح المحظورات، والحاجات تنزل منزلتها في هذا، وإن لم يكن من ضرورياتهم ولا من حاجياتهم يحكم ببطلانه ولا عبرة لجريان العرف به.

الدليل الثامن الاستصحاب

والأحكام المبنية على العرف تتغير بتغيره زمانا ومكانا، لأن الفرع يتغير بتغير أصله، ولهذا يقول الفقهاء في مثل هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. والعرف عند التحقيق ليس دليلا شرعيا مستقلا: وهو في الغالب من مراعاة المصلحة المرسلة، وهو كما يراعي في تشريع الأحكام يراعي في تفسير النصوص، فيخصص به العام، ويقيد به المطلق. وقد يترك القياس بالعرف ولهذا صح عقد الاستصناع، لجريان العرف به وإن كان قياس لا يصح لأنه عقد على معدوم. الدليل الثامن الاستصحاب 1- تعريفه 2- حجيته تعريفه: الاستصحاب في اللغة: اعتبار المصاحبة، وفي اصطلاح الأصوليين: وهو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره. فإذا سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف، ولم يجد نصا في القرآن أو السنة ولا دليلا شرعيا يطلق على حكمه، حكم بإباحة هذا العقد أو التصرف بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعه، فما لم يقم دليل على تغيرها فالشيء على إباحته الأصلية. وإذا سئل المجتهد عن حكم حيوان أو جماد أو نبات أو أي طعام أو أي شراب أو عمل من الأعمال ولم يجد دليلا شرعيا على حكمه، حكم بإباحته، لأن الإباحة هي الأصل ولم يقم دليل على تغيره. وإنما كان الأصل في الأشياء الإباحة، لأن الله قال في كتابه الكريم:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وصرّح في عدة آيات بأنه سخر للناس ما في السموات وما في الأرض، ولا يكون ما في الأرض مخلوقا للناس ومسخراً لهم إلا إذا كان مباحا لهم، لأنه لو كان محظورا عليهم ما كان لهم. حجيته: الاستصحاب آخر دليل شرعي يلجأ إليه المجتهد لمعرفة حكم ما عرض له ولهذا قال الأصوليون: إنه آخر مدار الفتوى وهو الحكم على الشيء بما كان ثابتا له مادام لم يقم دليل يغيره. وهذا طريق في الاستدلال قد فطر عليه الناس وساروا عليه في جميع تصرفاتهم وأحكامهم. فمن عرف إنساناً حياً حكم بحياته وبني تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم له دليل على انتهائها. وهكذا كل من علم وجود أمر حكم بوجوده حتى يقوم الدليل على عدمه، ومن علم عدم أمر حكم بعدمه حتى يقوم الدليل على وجوده. وقد درج على هذا القضاء، فالملك الثابت لأي إنسان بسبب من أسباب الملك يعتبر قائما حتى يثبت ما يزيله. والحل الثابت للزوجية بعقد الزواج يعتبر قائما حتى يثبت ما يزيله. والذمة المشغولة بدين أو بأي التزام تعتبر مشغولة به حتى يثبت ما يخليها منه. والذمة البريئة من شغلها بدين أو التزام تعتبر بريئة حتى يثبت ما يشغلها. والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره. وعلى هذا الاستصحاب بنيت المادة (180) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ونصها: "تكفي الشهادة بالدين وإن لم يصرح ببقائه في ذمة المدين، وكذا الشهادة بالعين"، والمادة (181) منها ونصها: "تكفي الشهادة بالوصية أو الإيصاء وإن لم يصرح بإصرار الموصي إلى وقت الوفاة" وعلى الاستصحاب بنيت المبادئ الشرعية الآتية: - الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره. - الأصل في الأشياء الإباحة. - ما ثبت باليقين لا يزول بالشك. - الأصل في الإنسان البراءة.

الدليل التاسع شرع من قبلنا

والحق أن عد الاستصحاب نفسه دليلا على الحكم فيه تجوز، لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه. وقد قرر علماء الحنفية أن الاستصحاب حجة للدفع لا للإثبات، مرادهم بهذا أنه حجة على بقاء ما كان على ما كان، ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل يثبت هذا الذي يخالفه، وليس حجة لإثبات أمر غير ثابت، ويوضح هذا ما قرروه في المفقود وهو الغائب الذي لا يدري مكانه ولا تعلم حياته ولا وفاته، فهذا المفقود يحكم بأنه باستصحاب الحال التي عرف بها حتى يقوم دليل على وفاته، وهذا الاستصحاب الذي دل على حياته حجة تدفع بها دعوى وفاته والإرث منه وفسخ إجارته، وطلاق زوجته، ولكنه ليس حجة لإثبات إرثه من غيره لأن حياته الثابتة بالاستصحاب حياة اعتبارية لا حقيقة. الدليل التاسع: شرع من قبلنا إذا قص القرآن أو السنة الصحيحة حكما من الأحكام الشرعية، التي شرعها الله لمن سبقنا من الأمم، على ألسنة رسلهم ونص على أنها مكتوبة علينا، كما كانت مكتوبة عليهم، فلا خلاف في أنها شرع لنا وقانون واجب اتّباعه، بتقرير شرعنا لها، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] . وإذا قص القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حكما من هذه الأحكام، وقام الدليل الشرعي على نسخة ورفعه عنّا، فلا خلاف في أنه ليس شرعا لنا بالدليل الناسخ من شرعنا، مثل ما كان في شريعة موسى من أن العاصي لا يكفّر ذنبه إلا أن يقتل نفسه، ومن أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطره إلا قطع ما أصيب منه، وغير ذلك من الأحكام التي كانت إصراً حمله الذين من قبلنا ورفعه الله عنا.

الدليل العاشر مذهب الصحابي

وموضع الخلاف هو ما قصه علينا الله أو رسوله من أحكام الشرائع السابقة، ولم يرد في شرعنا ما يدل على أنه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع عنا ومنسوخ، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] . فقال جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية: أن يكون شرعاً لنا وعلينا اتّباعه وتطبيقه، مادام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه، لأنه من الأحكام الإلهية التي شرعها الله على ألسنة رسله، وقصه علينا ولم يدل الدليل على نسخها، فيجب على المكلفين اتّباعها. ولهذا استدل الحنفية على قتل المسلم بالذمي وقتل الرجل بالمرأة بإطلاق قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] . وقال بعض العلماء: إنه لا يكون شرعاً لنا لأن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرره. والحق هو المذهب الأول، لأن شريعتنا إنما نسخت من الشرائع السابقة ما يخالفها فقط، ولأن قص القرآن علينا حكماً شرعيا سابقا بدون نص على نسخه هو تشريع لنا ضمناً، لأنه حكم إلهي بلغه الرسول إلينا ولم يدل دليل على رفعه عنا، ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فما لم ينسخ حكما في أحدهما فهو مقرر له. الدليل العاشر مذهب الصحابي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم طول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى أن منهم من كان يدونها من سنن الرسول،

فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث أن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟ وخلاصة القول في هذا الموضوع: أنه لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقد يكون حجة على المسلمين، لأنه لابد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها: "لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل"، فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي. ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين، لأن اتفاقهم على حكم واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتّباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين. وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة. فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا، فهو لا يسوغ في القياس في الواقعة ما دام للصحابة في حكم الواقعة فيها بأي قول من أقوالهم. ولعل من وجهته أن اختلاف الصحابة في حكم الواقعة إلى قولين إجماع منهم على أنه لا ثالث، واختلافهم إلى ثلاثة أقوال إجماع منهم على أنه لا رابع، فالخروج من أقوالهم جميعا خروج عن إجماعهم.

القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

وظاهر كلام الإمام الشافعي أنه لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، ويسوغ مخالفة آرائهم جميعا، والاجتهاد في الاستنباط رأى آخر، لأنها مجموعة آراء اجتهادية فردية لغير معصومين، وكما جاز للصحابي أن يخالف الصحابي يجوز لمن بعدهما من المجتهدين أن يخالفهما، ولهذا قال الشافعي " لا يجوز الحكم أو الإفتاء إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب أو السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا ". القسم الثاني: في الأحكام الشرعية مباحث الأحكام في علم أصول الفقه أربعة: 1- الحاكم: وهو من صدر عنه الحكم. 2- والحكم: وهو ما صدر من الحاكم دالا على إرادته في فعل المكلف. 3- والمحكوم فيه: وهو فعل المكلف الذي تعلق الحكم به. 4- والمحكوم عليه: وهو المكلف الذي تعلق الحكم بفعله. 1- الحاكم: 1-من هو؟ 2- بم يعرف حكمه؟ لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحي بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا، واشتهر من أصولهم "لا حكم إلا لله"، وهذا

مصداق قوله سبحانه: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام: 57] . وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه، بحيث أن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟ فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله. ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة: 1- مذهب الأشاعرة: أتباع أبي الحسن الأشعري: وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بيّنا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فيكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله، ومطلوب لله فعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو عند الله، ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله. وأساس هذا المذهب: أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته أو طلب فعله، والقبح هو ما دل الشارع على أنه قبيح يطلبه تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحا، فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر. وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول وما شرعه الله، ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما

يجب عليه تركه. فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول ولا شرعه فه غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابا ولا عقابا. وأهل الفترة- وهم من عاشوا من بعد موت رسول وقبل مبعث رسول- غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد هذا المذهب قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} "الإسراء: 15". 2- مذهب المعتزلة: أتباع واصل بن عطاء: وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه، لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وله آثار تجعله ضارا أو نافعا، فيستطيع العقل بناء على صفات الفعل، وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول بمن نفعها أو ضررها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله. وأساس هذا المذهب: أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من ضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ما تدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح. وهذا المذهب يتفق وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل. وعلى هذا المذهب؛ فمن لم تبلغهم دعوة الرسل ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا، ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشرك على النعمة والصدق والوفاء والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن

ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم. 3- مذهب الماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل، وهو الراجح في رأيي؛ وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لايلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول، فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله. فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لابد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه. ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه، وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان، وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله، ولا يكون قبيحا إلا بطلب الله تركه. لأن هذا ظاهر البطلان، فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر وولو لم يرد بهذا شرع. وهذا الخلاف لا يترتب عليه اثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق، فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله.

2- الحكم

2- الحكم 1- تعريفه. 2- أنواعه. 3- أقسام كل نوع 1- تعريفه: الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، طلباً أو تخييراً، أو وضعاً. فقوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، هذا خطاب من الشارع متعلق بالإيفاء بالعقود طلبا لفعله. وقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ، هذا خطاب من الشارع متعلق بالسخرية طلبا لتركها. وقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، هذا خطاب من الشارع متعلق بأخذ الزوج بدلا من زوجته نظير تطليقها تخييرا فيه. وقول الرسول: "لا يرث القاتل" هذا خطاب من الشارع متعلق بالقتل وضعا له مانعا من الإرث. فنفس النص الصادر من الشارع الدال على طلب أو تخيير أو وضع هو الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، وهذا يوافق اصطلاح القضائيين الآن؛ فهم يريدون بالحكم نفس النص الذي يصدر من القاضي؛ ولهذا يقولون: منطق الحكم كذا يقولون: أجلت القضية للنطق بالحكم. وأما الحكم الشرعي في اصطلاح الفقهاء: فهو الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل، كالوجوب والحرمة والإباحة. فقوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، يقتضى وجوب الإيفاء بالعقود. فالنص نفسه هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، ووجوب الإيفاء هو الحكم في اصطلاح الفقهاء. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32] ، هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، وحرمة قربان الزنا هو الحكم في اصطلاح الفقهاء.

ولا يتوهّم متوهّم من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، بأن الحكم الشرعي خاص بالنصوص لأنها هي الخطاب من الشارع وأنه لا يشمل الأدلة الشرعية الأخرى من إجماع أو قياس أو غيرها لأن سائر الأدلة الشرعية غير النصوص عند التحقيق تعود إلى النصوص، فهو في الحقيقة خطاب من الشارع ولكنه غير مباشر، فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال المكلفين، طلبا أو تخييرا أو وضعا فهو حكم شرعي في اصطلاح الأصوليين. 2- أنواعه: من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين يؤخذ أنه ليس نوعا واحدا، لأنه إما أن يتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب، أو على جهة التخيير أو على جهة الوضع. وقد اصطلح علماء الأصول على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي، وعلى تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع بالحكم الوضعي، ولهذا قرروا أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، حكم وضعي. فالحكم التكليفي: هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفّه عن فعله أو تخييره بين فعل والكف عنه. فمثال ما اقتضى طلب فعل من المكلف قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، وقوله: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران 97] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود} [المائدة: 1] ، وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف أفعالا. ومثال ما اقتضى طلب الكف عن فعل، قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32] ، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف الكف عن أفعال. ومثال ما اقتضى تخيير المكلف بين فعل والكف عنه، قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة:3] ،. وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] ،

وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101] ، وغير ذلك من النصوص التي تقتضي تخيير المكلف بين فعل الشيء والكف عنه. وإنما سمي هذا النوع الحكم التكليفي لأنه يتضمن تكليف المكلف بفعل أو كف عن فعل أو تخييره بين فعل والكف عنه. ووجه التسمية ظاهر فيما طلب به من المكلف فعل أو الكف عنه. وأما ما خير به المكلف بين فعل والكف عنه فوجه تسميته تكليفياً غير ظاهر، لأنه لا تكليف فيه ولهذا قالوا: إن إطلاق الحكم التكليفي عليه من باب التغليب. وأما الحكم الوضعي: فهو ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء، أو شرطا له، أو مانعا منه. فمثال ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، اقتضى وضع إرادة إقامة الصلاة سببا في إيجاب الوضوء. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، اقتضى وضع السرقة سببا في إيجاب قطع يد السارق. وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلا فله سلبه"، اقتضى وضع قتل القتيل سببا في استحقاق سلبه، وغير ذلك من النصوص التي اقتضت وضع أسباب لمسببات. ومثال ما اقتضى وضع شيء شرطا لشيء، قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، اقتضى أن استطاعة السبيل إلى البيت شرط لإيجاب حجه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بشاهدين"، اقتضى أن حضور الشاهدين شرط لصحة الزواج. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا مهر أقل من عشرة دراهم"، اقتضى أن شرط تقدير المهر تقديرا صحيحا شرعا أن لا يقل عن عشرة دراهم. وغير ذلك من النصوص التي دلت على اشتراط شروط لإيجاب الفعل، أو لصحة العقد أو لأي مشروط. ومثال ما اقتضى جعل شيء مانعا من شيء، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل ميراث" اقتضى جعل قتل الوارث مورثه مانعا من إرثه.

وإنما سمي الحكم الوضعي، لأن مقتضاه وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من أحكام. ويؤخذ مما تقدم أن الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي من وجهين: أحدهما: أن الحكم التكليفي مقصود به طلب فعل من المكلف أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل شيء والكف عنه، وأما الحكم الوضعي فليس مقصودا به تكليف أو تخييراً، وإنما المقصود به بيان أن هذا الشيء سبب لهذا المسبب، أو أن هذا شرط لهذا المشروط، أو أن هذا مانع من هذا الحكم. وثانيهما: أن ما طلب فعله أو الكف عنه، أو خير بين فعله وتركه بمقتضى الحكم التكليفي لابد أن يكون مقدورا للمكلف، وفي استطاعته أن يفعله وأن يكف عنه لا تكليف إلا بمقدور، ولا تخيير إلا بين مقدور ومقدور. وأما ما جعل سببا أو شرطا أو مانعا، فقد يكون أمراً في مقدور المكلف بحيث إذا باشره ترتب عليه أثر، وقد يكون أمراً ليس في مقدور المكلف بحيث إذا وجد ترتب عليه أثره. فمما جعل سبباً وهو مقدور المكلف: صيغ العقود والتصرفات، وجميع الجرائم من جنايات وجنح ومخالفات، بحيث إذا باشر المكلف عقدا أو تصرفا ترتب عليه حكمه، وإذا ارتكب جريمة استحق عقوبتها. ومما جعل شرطا وهو مقدور المكلف: إحضار شاهدين في عقد الزواج لصحة العقد، وإبلاغ القدر المسمى مهرا إلى عشرة دراهم لصحة تسمية المهر، وتعيين الثمن والأجل في البيع لصحة العقد.

ومما جعل شرطا وهو غير مقدور للمكلف، بلوغ الحلم لانتهاء الولاية النفسية، وبلوغ الرشد لنفاذ عقود المفاوضات المالية وكذلك المانع منه ما هو مقدور للمكلف كقتل الوارث موروثه، ومنه ما هو مقدور ككون الموصى له وارثاً. وأحكام القوانين الوضعية كالأحكام الشرعية في أن منها ما هو أحكام تكليفية تقتضي تكليف المكلف بفعل أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه، ومنها ما هو أحكام وضعية تقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطا أو مانعا. ونظرة في مواد القانون المدني والتجاري أو قانون العقوبات أو الإجراءات الجنائية ترينا عدة أمثلة من النوعين، وهذه بعض أمثلة من القانون المدني في باب الإيجار: المادة 586- "يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعد المتفق عليها" حكم تكليفي اقتضى فعلا. المادة 571- "على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة". حكم تكليفي اقتضى كفا. المادة 593- "للمستأجر حق التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن، وذلك عن كل ما استأجره أو بعضه ما لم يقض الاتفاق بغير ذلك" حكم تكليفي اقتضى تخييراً. ومن اليسير التمثيل لأنواع الحكم الوضعي، لآن أكثر النصوص القانونية الوضعية تقتضي وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من آثار.

أقسام الحكم التكليفي

أقسام الحكم التكليفي ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة. *وذلك لأنه إذا اقتضى طلب فعل، فإن كل اقتضاؤه له على وجه التحتيم والإلزام فهو الإيجاب، وأثر الوجوب، والمطلوب فعله هو الواجب. *وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الندب؛ وأثره الندب، والمطلوب فعله هو المندوب. *وإذا اقتضى طلب كف عن فعل فإن كان اقتضاؤه على وجه التحتيم والإلزام فهو التحريم وأثر الحرمة، والمطلوب الكف عن فعله هو المحرم. *وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الكراهة، وأثره الكراهة، والمطلوب الكف عن فعله فهو المكروه. *وإذا اقتضى تخيير المكلف بين فعل شيء وتركه فهو الإباحة، وأثره الإباحة، والفعل الذي خير بين فعله وتركه هو المباح. فالمطلوب فعله قسمان: الواجب والمكروه. والمطلوب الكف عن فعله قسمان: المحرم والمكروه. والمخير بين فعله قسمان: المحرم والمكروه. والمخير بين فعله وتركه هو القسم الخامس وهو المباح. وسنفرد كل قسم من هذه الأقسام الخمسة ببيان. 1- الواجب تعريفه: الواجب شرعا: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما بأن اقتران طلبه بما يدل على تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دل على تحتيم فعله ترتيب العقوبة على تركه، أو آية قرينة شرعية أخرى. فالصيام واجب لأن الصيغة التي طلب بها دلت تحتيمه، إذ قال سبحانه:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، وإيتاء الزوجات مهورهن واجب، إذ قال سبحانه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وبر الوالدين، وغير ذلك من المأمورات التي وردت صيغة الأمر بها مطلقة، ودل على تحتيم فعلها ما ورد في عدة نصوص من استحقاق المكلف العقاب بتركها. فمتى طلب الشارع الفعل ودلت القرينة على أن طلبة على وجه التحتيم كان الفعل واجباً، سواء أكانت القرينة صيغة الطلب نفسها أم أمرا خارجيا. أقسامه: ينقسم الواجب إلى أربع تقسيمات باعتبارات مختلفة: التقسيم الأول: الواجب من جهة وقت أدائه؛ إما مؤقت وإما مطلق عن التوقيت: فالواجب المؤقت هو ما طلب الشارع فعله حتما في وقت معين كالصلوات الخمس؛ حدد لأداء كل صلاة منها وقتاً معيناً بحيث لا تجب قبله، ويأثم المكلف إن أخّ رها عنه بغير عذر. وكصوم رمضان لا يجب قبل الشهر ولا يؤدي بعده. وكذلك كل واجب عين الشارع وقتا لفعله. والواجب المطلق عن التوقيت: هو ما طلب الشارع فعله حتما ولم يعين وقتا لأدائه، كالكفارة الواجبة على من حلف يميناً وحنث، فليس لفعل هذا وقت معين، فإن شاء الحانث كفر بعد الحنث مباشرة وإن شاء كفّر بعد ذلك. وكالحج: واجب على من استطاع، وليس لأداء هذا الواجب عام معين.

والواجب المؤقت إذا فعله في وقته كاملا مستوفيا أركانه وشرائطه سمي فعله أداء، وإذا فعله في وقته غير كامل ثم أعاده في الوقت كاملا سمي فعله إعادة، ومن صلاة بعد وقته كانت صلاته قضاء. والواجب المؤقت إذا كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه وحده ويسع غيره من ج نسه سمي هذا الوقت موسَّعاً وظرفاً. وإن كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه ولا يسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت مضيَّقاً ومعياراً. فالأول كوقت صلاة الظهر مثلا، فهو وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صلاة أخرى، وللمكلف أن يؤدي الظهر في أي جزء منه، والثاني كشهر رمضان فهو مضيق لا يسع إلا صوم رمضان. وإذا كان وقته لا يسع غيره من جهة ويسعه من جهة أخرى سمي الوقت ذا الشبهين كالحج، لا يسع وقته وهو أشهر الحج غيره من جهة أن المكلف لا يؤدي في العام إلا حجا واحدا، ويسع غيره من جهة أن مناسك الحج لا تستغرق كل أشهره. ومما يتفرع على تقسيم الواجب المؤقت إلى واجب موسع وقته، وواجب مضيق وقته، وواجب وقته ذو شبهين: أن الواجب الموسع وقته يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين أدائه في وقته، لأنه إذا لم ينوه بالتعيين لا يتعين أنه أدى الواجب المعين إذا الوقت يسعه وغيره، فإذا صلى في وقت الظهر أربع ركعات فإنه نوى بها أداء واجب الظهر كان أداء له، وإذا لم ينو بها أداء واجب الظهر لم تكن صلاته أداء له، ولو نوى التطوع كانت صلاته تطوعا. وأما الواجب المضيق وقته فلا يجب على المكلف أن يعيّنه بالنية حين أدائه في وقته، لآن الوقت معيار له لا يسع غيره من جنسه فبمجرد النية ينصرف

ما نواه إلى الواجب، فإذا نوى في شهر رمضان الصيام مطلقا ولم يعين بالنية الصيام المفروض انصرف صيامه إلى الصيام المفروض، ولو نوى التطوع لم يكن صومه تطوعا بل كان المفروض، لأن الشهر لا يسع صوما غيره. وأما الواجب المؤقت بوقت ذي شبهين، فإذا أطلق المكلف النية انصرف إلى الواجب، لأن الظاهر من حال المكلف أنه يبدأ بما يجب عليه قبل أن يتطوع، فهو في هذا كالمضيق، وإذا نوى التطوع كان تطوعا لأنه صرح بنية ما يسعه الوقت، وبما يخالف الظاهر من حاله وهو في هذا كالموسع. ومما يتفرع عن تقسيم الواجب إلى موقت ومطلق عن التوقيت، أن الواجب المعين وقته يأثم المكلف بتأخيره عن وقته بغير عذر لأن الواجب المؤقت في الحقيقة واجبان فعل الواجب وفعله في وقته. فمن فعل الواجب بعد وقته فقد فعل أحد الواجبين وهو الفعل المطلوب، وترك الواجب الآخر وهو فعله في وقته، فيأثم بترك هذا الواجب بغير عذر. وأما الواجب المطلق عن التوقيت فليس له وقت معين لفعله، وللمكلف أن يفعله في أي وقت شاء ولا إثم عليه في أي وقت. التقسيم الثاني: ينقسم الواجب من جهة المطالب بأدائه إلى واجب عيني وواجب كفائي. فالواجب العيني: هو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر كالصلاة والزكاة والحج والوفاء بالعقود واجتناب الخمر والميسر. والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على الموتى،

وبناء المستشفيات، وإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، والطب، والصناعات التي يحتاج إليها الناس، والقضاء والإفتاء، ورد السلام، وأداء الشهادة. فهذه الواجبات مطلوب للشارع أن توجد في الأمة أيّاً كان من يفعلها، وليس المطلوب للشارع أن يقوم كل فرد أو فرد معين بفعلها؛ لأن المصلحة تتحقق بوجودها في بعض المكلفين ولا تتوقف على قيام كل مكلف بها. فالواجبات الكفائية المطالب بها مجموع أفراد الأمة، بحيث إن الأمة بمجموعها عليها أن تعمل على أن يؤدي الواجب الكفائي فيها، فالقادر بنفسه وماله على أداء الواجب الكفائي؛ عليه أن يقوم به، وغير القادر على أدائه بنفسه عليه أن يحث القادر ويحمله على القيام به؛ فإذا أدى الواجب سقط الإثم عنهم جميعا، وإذا أهمل أثموا جميعاً: أثم القادر لإهماله واجباً قدر على أدائه، وأثم غيره لإهماله حيث القادر وحمله على فعل الواجب المقدور له، وهذا مقتضى التضامن في أداء الواجب، فلو رأى جماعة غريقا يستغيث، وفيهم من يحسنون السباحة ويقدرون على إنقاذه، وفيهم من لا يحسنون السباحة ولا يقدرون على إنقاذه، فالواجب على من يحسنون السباحة أن يبذل بعضهم جهده في إنقاذه، وإذا لم يبادر من تلقاء نفسه إلى القيام بالواجب، فعلى الآخرين حثه وحمله على أداء واجبه، فإذا أدى الواجب فلا إثم على أحد، وإذا لم يؤد الواجب أثموا جميعا. وإذا تعيّن فرد لأداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه، فلو شهد الغريق الذي يستغيث شخص واحد يحسن السباحة، ولو لم يرد الحادثة إلا واحد ودعي للشهادة، ولو لم يوجد في البلد إلا طبيب واحد وتعين للإسعاف؛ فهؤلاء الذين تعينوا لأداء الواجب الكفائي، يكون الواجب بالنسبة إليهم عينا. التقسيم الثالث: ينقسم الواجب من جهة المقدار المطلوب منه إلى محدد وغير محدد. فالواجب المحدد: هو ما عين له الشارع مقدارا معلوما، بحيث لا تبرأ ذمة

المكلف من هذا الواجب إلا إذا أداه على ما عين الشارع؛ كالصلوات الخمس والزكاة والديون المالية، فكل فريضة من الصلوات الخمس مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بعدد ركعاتها وأركانها وشروطها، وزكاة كل مال واجبة فيه الزكاة مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بمقدارها في مصرفها. وكذلك ثمن المشترى وأجر المستأجر وكل واجب يجب مقدارا معلوما بحدود معينة، ومن نذر أن يتبرع بمبلغ معين لمشروع خيري فالواجب عليه بالنذر واجب محدد. والواجب غير المحدد: هو ما لم يعين الشارع مقداره بل طلبه من المكلف بغير تحديد، كالإنفاق في سبيل الله، والتعاون على البر، والتصدق على الفقراء إذا وجب بالنذر، وإطعام الجائع وإغاثة الملهوف وغير ذلك من الواجبات التي لم يحددها الشارع، لأن المقصود بها سد الحاجة، ومقدار ما تسد به الحاجة يختلف باختلاف الحاجات والمحتاجين والأحوال. ومما يتفرع على هذا التقسيم: أن الواجب المحدد يجب ديناً في الذمة، وتجوز المقاضاة به، وأن الواجب غير المحدد لا يجب ديناً في الذمة ولا تجوز المقاضاة به، لأن الذمة لا تشغل غلا بمعين والمقاضاة لا تكون إلا بمعين. ولهذا من رأى أن نفقة الزوجة الواجبة على زوجها، ونفقة القريب الواجبة على قريبه واجب غير محدد، لأنه لا يعرف مقداره، قال: إن ذمة الزوج أو القريب غير مشغولة به قبل القضاء أو الرضاء، وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إلا بعد القضاء أو الرضاء، وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إلا بعد القضاء أو الرضاء، وصحت المطالبة به. ومن رأى أنها من الواجب المحدد المقدر بحال الزوج أو بما يكفي للقريب، قال إنهما واجب محدد في الذمة فتصح المطالب به عن مدة قبل القضاء أو الرضاء لأن القضاء أظهر مقدار الواجب ولم يحدده. التقسيم الرابع: ينقسم الواجب إلى واجب معين، وواجب مخير.

2- المندوب

فالواجب المعين: ما طلبه الشارع بعينه كالصلاة والصيام، وثمن المشتري، وأجر المستأجر، ورد المغصوب، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بعينه. والواجب المخير: ما طلبه الشارع واحدا من أمور معينة، كأحد خصال الكفارة فإن الله أوجب على من حنث في يمينه أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة فالواجب أي واحد من هذه الأمور الثلاثة، والخيار للمكلف في تخصيص واحد بالفعل، وتبرأ ذمته من الواجب بأداء أي واحد. 2- المندوب تعريفه: المندوب هو ما طلب فعله من المكلف طلباً غير حتم، بأن كانت صيغة طلبه نفسها لا تدل على تحتيمه، أو اقترنت بطلبه قرائن تدل على عدم التحتيم، فإذا طلب الشارع الفعل بصيغة: "يسن كذا أو يندب كذا" كان المطلوب بهذه الصيغة مندوبا، وإذا طلبه بصيغة الأمر ودلت القرينة على أن الأمر للندب كان المطلوب مندوباً، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، فإن الأمر بكتابة الدين للندب لا للإيجاب بدليل القرينة التي في الآية نفسها، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، فإنها تشير إلى أن الدائن له أن يثق بمدينة ويأتمنه من غير كتابة الدين عليه، وكقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 32] ، فمكاتبة المالك عبده مندوبة بقرينة أن المالك حر التصرف في ملكه. فالمطلوب فعله إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه حتم ولازم، فهو الواجب مثل: كتب عليكم، وقضى ربك، وإن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه غير حتم فهو المندوب، مثل: ندب لكم، سن لكم، وإن كانت صيغة طلبه نفسها لا تدل على طلب حتم أو غير حتم، استدل بالقرائن على أن المطلوب واجب أو مندوب. وقد تكون القرينة نصا، وقد تكون ما يؤخذ

من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وقد تكون ترتيب العقوبة على ترك الفعل وعدم ترتيبها. ولهذا اشتهر تعريف الواجب بأنه ما استحق تاركه العقوبة، وتعريف المندوب بأنه ما لا يستحق تاركه العقوبة وقد يستحق العتاب. أقسامه: المندوب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مندوب مطلوب فعله على وجه التأكيد وهو لا يستحق تاركه العقاب، ولكن يستحق اللوم والعتاب. ومن هذا السنن والمندوبات التي تعد شرعاً مكملة للواجبات كالأذان وأداء الصلوات الخمس جماعة. ومنه كل ما واظب عليه الرسول في شؤونه الدينية ولم يتركه إلا مرة أو مرتين ليدل على عدم تحتيمه كالمضمضة في الوضوء، وقراءة سورة أو آية بعد الفاتحة في الصلاة. ويسمى هذا القسم السنة المؤكدة أو سنة الهدي: ومندوب مشروع فعله: وفاعله يثاب وتاركه لا يستحق عقابا ولا لوماً، ومن هذا ما لم يواظب الرسول على فعله بل فعله مرة أو أكثر وتركه. ومنه جميع التطوعات كالتصديق على الفقير أو صيام يوم الخميس من كل أسبوع أو صلاة ركعات زيادة عن الفرد وعن السنة المؤكدة. ويسمى هذا القسم السنة الزائدة أو النافلة. ومندوب زائد أي يعد من الكماليات للمكلف، ومن هذا الإقتداء بالرسول في أموره العادية التي تصدر عنه بصفته إنسانا كأن يأكل ويشرب ويمشي وينام ويلبس على الصفة التي كان يسير عليها الرسول، فإن الاقتداء في هذه الأمور وأمثالها كمالي، ويعد من محاسن المكلف لأنه يدل على حبه للرسول وفرط تعلقه به. ولكن من لم يتقد بالرسول في مثل هذه الأمور لا يعد مسيئا، لأن هذا ليست من تشريعه? - صلى الله عليه وسلم -. ويسمى هذا القسم مستحبا وأدباً وفضيلة.

3- المحرم

3- المُحرّم تعريفه: المحرم هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما، بأن تكون صيغة طلب الكف نفسها دالة على أنه حتم كقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] ، وقوله: {قل تعالو أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] ، وقوله: {لا يحل لكم} [النساء: 19] ، أو يكون النهي عن الفعل مقترنا بما يدل على أنه حتم مثل: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] أو يكن الأمر بالاجتناب مقترنا بذلك نحو: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] ، أو أن يترتب على الفعل عقوبة مثل: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] ، فقد يستفاد التحريم من صيغة خبرية تدل عليه، أو من صيغة طلبية هي نهي، أومن صيغة طلبية هي أمر بالاجتناب، فالقرينة تعيِّن أن الطلب للتحريم. أقسامه: المحرّم قسمان: محرّم أصالة لذاته: أي أنه فعل حكمه الشرعي التحريم من الابتداء، كالزنا والسرقة والصلاة بغير طهارة، وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة، وبيع الميتة، وغير ذلك مما حرم تحريما ذاتيا لما فيه من مفاسد ومضار، فالتحريم وارد ابتداء على ذات الفعل. ومحرم لعارض: أي أنه فعل حكمه الشرعي ابتداء الوجوب أو الندب أو الإباحة ولكن اقترن به عارض جعله محرما كالصلاة في ثوب مغصوب، والبيع الذي فيه غش، والزواج المقصود به مجرد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا، وصوم الوصال، والطلاق البدعي، وغير ذلك لما عرض له التحريم لعارض. فليس التحريم لذات الفعل ولكن لأمر خارجي، أي أن ذات الفعل لا مفسدة فيه ولا مضرة، ولكن عرض له واقترن به ما جعل فيه مفسدة أو مضرة.

4- المكروه

ومما يبني على هذا التقسيم أن المحرم أصالة غير مشروع أصلاً، فلا يصلح سببا شرعيا ولا تترتب أحكام شرعية عليه بل يكون باطلا، ولهذا كانت الصلاة بغير طهارة باطلة، وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة باطلا، وبيع الميتة باطلا، والباطل شرعا لا يترتب عليه حكم. وأما المحرّم لعارض فهو في ذاته مشروع فيصلح سبباً شرعياً وتترتب عليه آثاره، لأن التحريم عارض له وليس ذاتيا. ولهذا كانت الصلاة في ثوب مغصوب صحيحة ومجزئة وهو آثم للغصب. والبيع الذي فيه غش صحيح، والطلاق البدعي واقع، والعلة في هذا أن التحريم لعارض لا يقع به خلل في أصل السبب لا في وصفه ما دامت أركانه وشروطه مستوفاة. وأما التحريم الذاتي فهو يجعل الخلل في أصل السبب ووصفه بفقد ركن أن شرط من أركانه وشروطه فيخرج عن كونه مشروعا. 4- المكروه تعريفه: المكروه هو ما مطلب الشارع من المكلف الكف عن فعله طلبا غير حتم، بأن تكون الصيغة نفسها دالة على ذلك، كما إذا ورد أن الله كره لكم كذا، أو كان منهيا عنه، واقترن النهي بما يدل على أن النهي لكراهة لا للتحريم، مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، أو كان مأمورا باجتنابه ودلت القرينة على ذلك، مثل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فالمطلوب الكف عن فعله؛ إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه طلب حتم فهو المحرم، مثل: حرم عليكم كذا. وإن كانت الصيغة نفسها تدل على أن طلب غير حتم فهو المكروه، مثل: كره لكم كذا. وإن كانت الصيغة نهيا مطلقا، أو أمرا الاجتناب مطلقا، استدل بالقرائن على أن طلب حتم أو غير حتم. ومن القرائن ترتيب العقوبة على الفعل وعدم ترتيبها، ولهذا عرَّف بعض الأصوليين المحرم بأنه ما استحق فاعله العقوبة، والمكروه بأنه ما لا يستحق فاعله العقوبة، وقد يستحق اللوم.

5- المباح

5- المباح تعريفه: المباح هو ما خيَّر الشارعُ المكلََّف بين فعله وتركه، فلم يطلب الشارع أن يفعل المكلف هذا الفعل ولم يطلب أن يكف عنه. وتارة تثبت إباحة الفعل بالنص الشرعي على إباحته، كما نص الشارع على أنه لا إثم في الفعل، فيدل بهذا على إباحته كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وكقوله سبحانه: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} [البقرة: 235] ، وكما إذا أمر الشارع بفعل ودلت القرائن على أن الأمر للإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة: 2] ، وكقوله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، وكقوله: {وكلوا واشربوا} [البقرة: 187] . وتارة تثبت إباحة الفعل بالإباحة الأصلية، فإذا لم يرد من الشارع نصل على حكم العقد أو التصرف أو أي فعل، ولم يقم دليل شرعي آخر على حكم فيه: كان هذا العقد أو التصرف أو الفعل مباحا بالبراءة الأصلية لأن الأصل في الأشياء المباحة. هذه هي أقسام الحكم التكليفي الخمسة على ما ذهب إليه جمهور الأصوليين: وأما علماء الحنفية فقد قسموه إلى سبعة أقسام لا إلى خمسة، وذلك أنهم قالوا: " إن ما طلب الشارع فعله طلبا حتما إذا كان دليل طلبه قطعيا بأن كان آية قرآنية أو حديثا متواترا فهو الفرضِ، وإن كان دليل طلبه ظنيا بأن كان حديثا غير متواترا أو قياسا فهو الواجب. فإقامة الصلاة فرض لأنها طلبت طلبا حتما بدليل قطعي هو قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة: 43] ، وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة لأنها طلبت طلبا حتما، بدليل ظني هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وأما ما طلب فعله طلبا غير حتم فهو المندوب، وكذلك ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما إن كان دليله قطعيا كآية أو سنة متواترة فهو المحرم، وإن كان دليله ظنيا كسنة غير

متواترة فهو المكروه تحريما. فالزنا محرم لأنه طلب الكف عنه طلبا حتما بدلي لقطعي هو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32؟] . ولبس الرجال الحرير وتختمهم بالذهب مكروهان تحريما، لأنه طلب الكف عنهما طلبا حتما، بدليل ظني، هو قوله صلى الله عليه وسلم: "هذان حرام على رجال أمتي حلال لنسائهم"، وأما ما طلب الكف عنه طلبا غير حتم فهو المكروه تنزيها. فعند علماء الحنفية المطلوب فعله ثلاثة أقسام: الفرضِ، والواجب، والمندوب. والمطلوب الكف عنه ثلاثة أقسام: المحرم، والمكروه تحريما، والمكروه تحريما، والمكروه تنزيها. والقسم السابع: المباح. وقد قدمنا أن نصوص القرآن كلها قطعية الورود ولهذا يثبت بها عند الحنفية الفرض والتحريم والندب والكراهة، وأما السنة فما كان قطعي الورود منها وهو المتواتر وفي حكمه المشهور، فيثبت به أيضا ما يثبت بالقرآن. والفعل الواحد قد تعتريه هذه الأحكام كلها أو بعضها بحسب ما يلابسه، فمثلا: الزواج قد يكون فرضا على المسلم إذا قدر على المهر والنفقة وسائر واجبات الزوجية، وتيقن من حال نفسه أنه إذا لم يتزوج زنى، ويكون واجبا إذا قدر على ما ذكر وخاف أنه إذا لم يتزوج زنى، ويكون مندوبا إذا كان قادرا على واجبات الزوجية وكان في حال اعتدال لا يخاف أن يزني إذا لم يتزوج، ويكون محرما إذا تيقن أنه إذا تزوج يظلم زوجته ولا يقوم بحقوق الزوجية، ويكون مكروها تحريما إذا خاف ظلمها.

أقسام الحكم الوضعي

0 أقسام الحكم الوضعي ينقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام: لأنه ثبت بالاستقراء أنه إما أن يقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطاً، أو مانعاً، أو مسوغا الرخصة بدل العزيمة، أو صحيحاً، أو غير صحيح. 1- السبب تعريفه: السبب؛ هو ما جعله الشارع علامة على مسببه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه. فيلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، فهو أمر ظاهر منضبط، جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود المسبب، ومن عدمه عدمه. وقد قدمنا في مبحث العلة في القياس أن كل علة للحكم تسمى سببه، وليس كل سبب للحكم يسمى علته، وبينا الفرق بينهما أو أمثلتهما. أنواعه: قد يكون السبب سببا لحكم تكليفي؛ كالوقت جعله الشارع سببا لإيجاب إقامة الصلاة لقوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ، وكشهود رمضان جعله الشارع سبا لإيجاب صومه بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وملك النصاب النامي بمن مالك الزكاة جعل سببا لإيجاب إيتاء الزكاة، والسرقة جعلت سببا لإيجاب قطع يعد السارق، وشرك المشركة جعل سببا لتحريم زواج المسلم بها، والمرض جعل سببا لإباحة الفطر في رمضان، وأمثال ذلك. وقد يكون السبب سببا لإثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لإثبات الملك وإزالته، والعتق والوقف لإسقاطه، وعقد الزواج لإثبات الحل، والطلاق

2- الشرط

لإزالته، والقرابة والمصاهرة والولاء لاستحقاق الإرث، وإتلاف مال الغير لاستحقاق الضمان على المتلف، والشركة أو الملك لاستحقاق الشفعة. وقد يكون السبب فعلا للمكلف مقدورا له كقتله العمد سبب لوجوب القصاص منه، وعقدة البيع أو الزواج أو الإجارة أو غيرها أو أسباب لأحكامها، وملكه مقدار النصاب لوجوب الزكاة عليه، وقد يكون أمرا غير مقدور للمكلف وليس من أفعاله، كدخول الوقت لإيجاب الصلاة والقرابة للإرث والولاية، والصغر لثبوت الولاية على الصغير. وإذا وجد السبب سواء أكان من فعل المكلف أم لا، وتوافرت شروطه وانتفت موانعه، ترتب عليه مسببه حتما، سواء أكان مسببه حكما تكليفياً، أم إثبات ملك أو حل، أم إزالتهما، لأن المسبب لا يتخلف عن سببه شرعا، سواء أقصد من باشر السبب ترتب المسبب عليه أم لم يقصده، بل يترتب ولو قصد عدم ترتبه، فمن سافر في رمضان أبيح له الفطر، سواء أقصد إلى الإباحة أم لم يقصد إليها، ومن طلق زوته رجعيا ثبت له حق مراجعتها ولو قال لا رجعة لي، ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة زوجته ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة. لأن الشارع إذا وضع العقد أو التصرف سببا لحكم، ترتب الحكم على العقد بحكم الشرع، ولا يتوقف ترتبه على قصد المكلف؛ وليس للمكلف أن يحل هذا الارتباط الذي ربط به الشارع المسببات بأسبابها. 2- الشرط تعريفه: الشرط: هو ما يتوقف وجود الحكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم. والمراد وجوده الشرعي الذي يترتب عليه أثره. فالشرط أمر خارج عن حقيقة المشروط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده. فالزوجية شرط لإيقاع الطلاق، فإذا لم تود زوجية لم يوجد طلاق،

ولا يلزم من وجود الزوجية وجود الطلاق. والوضوء شرط لصحة إقامة الصلاة، فإذا لم يوجد وضوء لا تصح إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء إقامة الصلاة. ووجود الزواج الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على حضور الشاهدين وقت عقده، ووجود البيع الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على العلم بالبدلين، وهكذا كل ما شرط الشارع له شرطا لا يتحقق وجوده الشرعي إلا إذا وجدت شروطه، ويعتبر شرعا معدوما إذا فقدت شروطه ولكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط. والشروط الشرعية هي التي تكمل السبب وتجعل أثره يترتب عليه، فالقتل سبب لإيجاب القصاص ولكن بشرط أن يكون قتلا عمدا وعدوانا، وعقد الزواج سبب لملك المتعة، ولكن بشرط أن يحضره شاهدان، وهكذا كل عقد أو تصرف لا يترتب عليه أثره إلا إذا توافرت شروطه. والفرق بين ركن الشيء وشرطه، مع أن كلا منهما يتوقف وجود الحكم على وجوده: أن الركن جزء من حقيقة الشيء، وأما الشرط فهو أمر خار عن حقيقته وليس من أجزائه. فالركوع ركن الصلاة لأنه جزء من حقيقتها، والطهارة شرط الصلاة لأنها أمر خارج عن حقيقتها، وصيغة العقد والعاقدان ومحل العقد أركان العقد لأنها أجزاؤه، وحضور الشاهدين في الزواج، وتعيين البدلين في البيع، وتسليم الموهوب في الهبة، شروط لا أركان، لأنها ليست من أجزاء العقد، ومن أجل هذا كان للوقف أركان وشروط، وكذا للبيع وسائر العقود والتصرفات، وإذا حصل خلل في ركن من الأركان كان خللا في نفس العقد والتصرف، وإذا حصل خلل في شرط من الشروط كان خللا في وصفه أي في أمر خارج عن حقيقته. وقد يكون اشتراط الشرط بحكم الشارع، ويسمى الشرط الشرعي. وقد يكون اشتراط الشرط بتصرف المكلف ويسمى الشرط الجعلي. فمثال

3-المانع

الأول: جميع الشروط التي اشترطها الشارع في الزواج والبيع والهبة والوصية، والتي اشترطها لإيجاب الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، والتي اشترطها لإقامة الحدود ولغير ذلك. ومثال الثاني: الشروط التي يشترطها الزوج ليقع الطلاق على زوجته، والتي يشترطها المالك لعتق عبده، فإن تعليق الطلاق أو العتق على وجود شرط مقتضاه أنه يتوقف وجود الطلاق أو العتق على وجود الشرط ويلزم من عدمه عدمه، فصيغة الطلاق سبب يترتب عليه الطلاق، ولكن إذا توافر الشرط. وليس للمكلف أن يعلق أي عقد أو تصرف على أي شرط يريدهن بل لابد أن يكون الشرط غير مناف حكم العقد أو التصرف. وأما إذا كان الشرط منافيا حكم العقد فيبطل العقد، لأن الشرط مكمل للسبب فإذا نافى حكمه أبطل سببيته. مثال ذلك: العقود التي تفيد الملك التام أو الحل التام، كعقد البيع، وعقد الزواج حكمها الشرعي أن الأثر المترتب على كل واحد مها لا يتراخى عن صيغته، فإذا عقد المكلف بيعاً أو زواجاً، وعلق واحدا منهما على أن يوجد في المستقبل شرط شرطه، فإن مقتضى هذا الاشتراط أن لا يوجد أثر العقد إلا إذا وجد الشرط، وهذا ينافي مقتضى العقد، وهو أن حكمه لا يتراخى عنه، ولهذا بطل البيع المعلق على شرط، وكذلك الزواج المعلق على شرط، فالشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي. 3-المانع تعريفه: المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب، فقد يتحقق السبب الشرعي وتتوافر جميع شروطه ولكن يوجد مانع يمنع

4-الرخصة والعزيمة

ترتب الحكم عليه، كما إذا وجدت الزوجية الصحيحة أو القرابة ولكن منع ترتب الإرث على أحدهما كاختلاف الوارث مع المورث دينا، أو قتل الوارث مورثه، وكما إذا وجد القتل العمد العدوان ولكن منع من إيجاب القصاص به أن القاتل أبو المقتول. فالمانع في اصطلاح الأصوليين: هو أمر يوجد مع تحقق السبب وتوافر شروطه، ويمنع من ترتب المسبب على سببه، فقد الشرط لا يسمى مانعا في اصطلاحهم، وإن كان يمنع من ترتب المسبب على السبب. وقد يكون المانع مانعا من تحقق السبب الشرعي لا من ترتب حكمه عليه كالدين لمن ملك نصابا من أموال الزكاة، فإن دينه مانع من تحقق السبب لإيجاب الزكاة عليه، لأن مال المدين كأنه ليس مملوكا له ملكا تاما، نظرا لحقوق دائنيه، ولأن تخليص ذمته مما عليه من الدين أولى من مواساته الفقراء والمساكين بالزكاة، وهذا في الحقيقة مخل بما يشترط توافره في السبب الشرعي فهو من باب عدم توافر الشرط، لا من قبيل وجود المانع. 4-الرخصة والعزيمة تعريفهما: الرخصة هي ما شرعه الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أو هي ما شرع لعذر شاق في حالات خاصة، أو هي استباحة المحظور بدليل مع قيام دليل الحظر. وأما العزيمة فهي ما شرعه الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف. أنواع الرخص: من الرخص إباحة المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، فمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر أبيح له ترفيهاً عنه أن يتلفظ بها وقبله مطمئن بالإيمان. وكذا من أكره على أن يفطر في رمضان أو يتلف مال

غيره، أبيح له المحظور الذي أكره عليه ترفيهاً عنه. ومن اضطره الجوع الشديد أو الظمأ الشديد إلى أكل الميتة أو شرب الخمر أبيح له أكلها وشربها: قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وقال سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] . ومن الرخص إباحة ترك الواجب إذا وجد عذر يجعل أداءه شاقا على المكلف، فمن كان في رمضان مريضا أو على سفر أبيح له أن يفطر، ومن كان مسافرا أبيح له قصر الصلة الرباعية أي أداؤها ركعتين بدل أربع: قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقر: 184] ، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101] ومن الرخص: تصحيح بعض العقود الاستثنائية، التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لإنعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم، كعقد السلم فإنه بيع معدوم وقت العقد، ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجياتهم، ولذا جاء في الحديث: "نهي رسول الله عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم"، وكذلك الاستصناع والإجارة وعقد الوصية، فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة لانعقاد العقود وصحتها في العاقد والمعقود عليه لا تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدا لحاجة الناس ودفعا للحرج. ومن الرخص: نسخ الأحكام التي رفعها الله عنها وكانت من التكاليف الشاقة على الأمم قبلنا: وهي المشار إليها بقوله سبحانه: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب، وأداء ربع المال في الزكاة، وقتل النفس توبة من المعصية، وعدم وجواز الصلاة في غير المساجد- وتسمية هذه رخصاً فيها توسع- ومن هذه الأنواع يتبين أن ترخيص الشارع للتخفيف عن المكلفين تارة بإباحة المحرم للضرورة، أو بإباحة

ترك الواجب للعذر، أو باستثناء بعض العقود من الأحكام الكلية للحاجة، كلها ترجع عند التحقيق إلى إباحة المحظور للضرورة أو الحاجة. وعلماء الحنفية قسموا الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط، وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفية بكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما ولكن رخص في تركه تخفيفا وترفيها عن الكف، ومثلوا لهذا بمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، على إتلاف مال غيره، أو على الفطر برمضان. وقالوا إن النص المرخص لم يسقط حرمة التلفظ بكلمة الكفر عمن أكره عليه، ولكن استثنى من أكره من غضب الله عليه واستحقاقه العذاب، قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل: 106] ولكن يلاحظ أن الله قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3] ، وقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فقد استثنى المضطر من الإثم، كما استثنى المكره على التلفظ من الإثم واستحقاق العذاب. بل إن قوله سبحانه: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3] ، يشعر بأنه فعل محرماً ولكن الله لم يعاقبه عليه رحمة منه. وقالوا كذلك: لم يسقط الإكراه حرمة إتلاف مال الغير ولا حرمة الفطر في رمضان، بل الحرمة مع الإكراه ثابتة، وإنما المقصود بالإباحة الترفيه عن المكلف. ولبقاء هذه الحرمة قالوا: إن العمل بالعزيمة أولى وإن من تمسك بالعزيمة واحتمل ما كره عليه حتى مات، مات شهيدا. وأما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيا، بل إن الحال التي استوجبت الترخيص أسقطت حكم العزيمة، وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة ومثلوا لهذا بإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع والظمأ، وقصر الصلاة في السفر. فالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب الخمر سقطت حرمتهما عنه في حال اضطراره، لأن الله سبحانه بعد ان بين هذه المحرمات قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3] ، وهذا يقتضي رفع

التحريم ولو لم يأكل أو يشرب أثم. والمسافر سقطت عنه الأربع ولو صلى أربعا كانت الركعتان الأخيرتان نافلة وتطوعا لا من المفروض. والحق أن النصوص التي شرعت الرخص لا يدخل ظاهرها على هذا التفريق، فإن الله سبحانه قال: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فكل محرم عند الضرورة يباح بلا تفريق بين محرم ومحرم. والقول بأنه عند الإكراه على إفطار رمضان يكون حكم العزيمة، وهو فرض الصيام باقياً، وعند الاضطرار إلى أكل الميتة، أو شرب الخمر، لا يكون حكم العزيمة. وهو تحريمها باقيا، تفريق لا يظهر له وجه، لأن الإكراه نوع من الاضطرار؛ وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة، وكما قال سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] ، وصريح قوله سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101] ، أن القصر مباح ومقتضى أنه مباح أن الأخذ بالعزيمة وهو إتمام الصلاة أربعا مباح أيضا، فكيف يقال إن حكم العزيمة هنا غير قائم، وإن الرخصة في هذا رخصة إسقاط؟ فالذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها شرعت للترفيه والتخفيف عن المكلف بإباحة فعل المحرم، وأن حكم الحظر ودليله قائمان. ومعنى إباحة المحظور ترخيصا أنه لا إثم في فعله. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] ، فللمكلف أن يتبع الرخصة تخفيفا عن نفسه، وله أن يتبع العزيمة محتملا ما فيها من مشقة، إلا إذا كانت المشقة يناله من احتمالها ضرر، فإنه يجب عليه اتقاء الضرر وإتباع الرخصة لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ["البقرة: 195] ، وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، والله سبحانه يحب أن تتبع رخصة، كما يجب أن تؤتى عزائمه، لأنه سبحانه ما جعل على الناس في الدين من حرج. ومما قدمناه في تعريف الرخصة وبيان أنواعها يظهر الوجه في عدها من أقسام

5-الصحة والبطلان

الحكم الوضعي، لأن الحكم المشروع هو جعل الضرورة سببا في إباحة المحظور أو طروء العذر سبا في التخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس سبا في تصحيح بعض عقود المعاملات بينهم، فهو في الحقيقة وضع أسباب لمسببات. 5-الصحة والبطلان ما طلبه الشارع من المكلفين من أفعال، وما شرعه لهم من أسباب وشروط، إذا باشرها المكلف قد يحكم الشارع بصحتها، وقد يحكم بعدم صحتها. فإذا وجدت على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن تحققت أركانها وتوافرت شرائطها الشرعية، حكم الشارع بصحتها، وإن لم توجد على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن اختل ركن من أركانها أو شرط من شروطها حكم الشارع بعدم صحتها. ومعنى صحتها شرعا: ترتب آثارها الشرعية عليها. فإن كان الذي باشره المكلف فعلا واجبا عليه، كالصلاة والصيام والزكاة والحق وأداء المكلف مستكملا أركانه وشروطه سقط عنه الواجب، وبرئت ذمته منه، ولم يستحق تعزيزا في الدنيا واستحق المثوبة في الآخرة. وإن كان الذي باشره المكلف سببا شرعيا كالزواج والطلاق والبيع والهبة وسائر العقود والتصرفات، واستوفى المكلف أركانه وشرائطه الشرعية، وترتب على كل سبب أثره الشرعي الذي رتبه الشارع عليه من إثبات الحل أو إزالته، أو تبادل ملك البدلين أو الملك بغير عوض، أوغير ذلك من الآثار والحقوق التي تترتب على الأسباب الشرعية الصحيحة. وإن كان الذي باشره شرطا كالطهارة للصلاة، واستوفى المكلف شروطها وأركانها، أمكن تحقيق المشروط صحيحا.

ومعنى عدم صحتها عدم ترتب آثارها الشرعية عليها. فإن كان الذي باشره واجبا لا يسقط عنه ولا تبرأ ذمته منه. وإن كان سببا شرعيا لا يترتب عليه حكمه. وإن كان شرطا لا يوجد المشروط. وذلك لأن الشارع إنما رتب الآثار على أفعال وأسباب وشروط تتحقق كما طلبها وشرعها، فإذا لم تكن كذلك فلا اعتبار لها شرعا. ومن هذا البيان يؤخذ أن ما صدر عن المكلف من أفعال أو أسباب أو شروط ولم يتفق وما طلبه الشارع أو ما شرعه يكون غير صحيح شرعا، ولا يترتب عليه أثره، سواء كان عدم صحته لاختلال ركن من أركانه أو لفقد شرط من شروطه، وسواء أكان عبادة أو عقداً أو تصرفاً. وعلى هذا لا فرق بين باطل وفاسد، لا في العبادات ولا في المعاملات. فالصلاة الباطلة لا تسقط الواجب عن المكلف ولا تبرئ ذمته. والزواج الباطل كالزواج الفاسد لا يفيد ملك المتعة ولا يترتب عليه أثره. والبيع الباطل كالبيع الفاسد لا يفيد نقل المكل في البدلين ولا يترتب عليه حكم شرعي. وتكون القسمة ثنائية، أي أن الفعل أو العقد أو التصرف إما صحيح تترتب عليه آثاره، وإما غير صحيح لا يترتب عليه أثر شرعي، وهذا هو رأي الجمهور. وقال علماء الحنفية: إن القسمة ثنائية في العبادات، فهي إما صحيحة وإما غير صحيحة، ولا فرق بين باطل الصيام مثلاً وفاسده في أنه لا يترتب عليه أثره ولا يسقط الواجب، وعلى المكلف قضاؤه. وأما في العقود والتصرفات فالقسمة ثلاثية، لأن العقد غير الصحيح ينقسم إلى باطل وفاسد؛ فإن كان الخلل في أصل العقد أي في ركن من أركانه بأن كان في الصيغة أو العاقدين أو المعقود عليه، كان العقد باطلا لا يترتب عليه أثر شرعي، وإن كان الخلل في وصف من أوصاف العقد بأن كان في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، كان العقد فاسدا، وترتبت عليه بعض آثاره. وعلى هذا قالوا: إن بيع المجنون أوغير المميز أو بيع المعدوم باطل وأما البيع بثمن غير معلوم فهو فاسد. وإن زاوج غير المميز أو زواج إحدى المحرمات

3- المحكوم فيه

مع العلم بالحرمة باطل، وأما الزواج بغير شهود فهود فاسد. ولم يرتبوا على الباطل أثرا، ورتبوا على الفاسد المهر والعدة وأثبتوا النسب، وفي البيع الفاسد إذا رفع سب الفساد في المجلس بأن عيَّن الثمن أو الأجل ترتبت على العقد آثاره، وهو يفيد الملك بالقبض. ومما قدمنا بيانه من معنى الصحة ومعنى البطلان: يظهر الوجه في عدهما من الحكم الوضعي؛ لأن الصحة هي ترتب الآثار الشرعية على الأفعال والأسباب أو الشروط التي باشرها المكلف، والبطلان عدم ترتب شيء من تكلك الآثار، فالحكم بصحة البعض حكم بسببيته شرعا لأحكامه. 3- المحكوم فيه المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، الإيجاب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو: الإيفاد بالعقود فجعله واجبا. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، الندب المستفاد من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو كتاب الدين، فجعله مندوباً. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ} [الأنعام:151] ،التحريم المستفاد من هذا الخطاب تعلّق بفعل من أفعال المكلفين هو قتل النفس، فجعله محرّماً. وقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] ،الكراهة المستفادة من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إنفاق المال الخبيث فجعلته مكروهاً. وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، الخطاب تعلق بالمرض والسفر فجعل كلا منهما مبيحا للفطر.

فكل حكم من أحكام الشارع فهو لابد متعلق بفعل من أفعال المكلفين على جهة الطلب، أو التخيير، أو الوضع. ومن المقرر أنه لا تكليف إلا بفعل، أي أن حكم الشارع التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف. فإذا كان حكم الشارع إيجابا أو ندبا فالأمر واضح، لأن متعلق الإيجاب فعل الواجب على سبيل الحتم، ومتعلق الندب فعل المندوب لا على سبيل الحتم والإلزام، فالتكليف في الحالتين بفعل. وإذا كان الشارع تحريما أو كراهة فالمكلف به في الحالتين هو فعل أيضا، لأنه هو كف النفس عن فعل المحرم أو المكروه، فمعنى قولهم: "لا تكليف إلا بفعل"، أن الفعل يشمل الكف، أي المنع للنفس عن فعل. وبهذا تكون جميع الأوامر والنواهي متعلقة بأفعال المكلفين، ففي الأوامر: المكلف به: فعل المأمور به، وفي النواهي: هو الكف عن المنهي عنه. شرط صحة التكليف بالفعل: يشترط في الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثلاثة شروط: أولها: أن يكون معلوماً للمكلف علماً تاماً حتى يستطيع المكلف القيام به كما طلب منه، وعلى هذا فنصوص القرآن المجملة؛ أي التي لم يبين المراد منها، لا يصح تكليف المكلف بها إلا بعد أن يلحق بها بيان الرسول عليه الصلاة والسلام. فقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة: 43] ، لم يبين النص القرآني أركان الصلاة وشروطها وكيفية أدائها، فكيف يكلف بالصلاة من لا يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المجمل وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك الحج والصوم والزكاة وكل فعل تعلق به خطاب من الشارع مجمع لا يعلم مراد الشارع به، لا يصح التكليف به ولا مطالبة المكلفين بامتثاله إلا بعد

بيانه. ولهذا أعطى الله ورسوله سلطة التبيين بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وبيّن الرسول بسننه القولية والفعلية ما أجمل في القرآن، واتفق العلماء على أنه لا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وثانيها: أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف، وممن يجب على المكلف اتباع أحكامه لأنه بهذا العلم تتجه إرادته إلى امتثاله، وهذا هو السبب في أن أول بحث في أي دليل شرعي هو حجيته على المكلفين، أي أن الأحكام التي يدل عليها أحكام واجب على المكلفين تنفيذها. وهو السبب أيضا في أن كل قانون وضعي يتوجب بالديباجة الخاصة التي تدل على أن الحاكم أصدر القانون بناء على عرض مجلس الوزراء وموافقة البرلمان، ليعلم المكلفون أن القانون صادر ممن لهم سلطان التشريع، وممن يجب عليهم امتثال تكاليفهم؛ فيتجهوا للتنفيذ. ويلاحظ أن المراد بعلم المكلف بما كلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلا، فمتى بلغ الإنسان عاقلا قادرا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، اعتبر عالما بما كلف به، ونفذت عليه الأحكام وألزم بآثارها ولا يقبل منه الاعتذار بجهلها. ولهذا قال الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي، لأنه لو شرط لصحة التكلف علم المكلف فعلا بما كلف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام. وعلى هذا التقنين الوعي، فالناس يعتبرون عالمين بالقانون بتيسير إمكان علمهم به، وذلك بنشره بالطريق القانوني بعد إصداره. ولا اعتبار لأن كل فرد من المكلفين علم به فعلا أو لا، ولذا جاء في مادة (22) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية: "لا يقبل من أحد أن يدعي بجهله القانون". وكذلك المراد بعلم المكلف بأن تكليفه بما كلف به صادر ممن يجب عليه امتثال أحكامه، وإمكان علمه بهذا لا علمه به فعلا. فكل حكم شرعي يمكن للمكلف أن يعرف دليله، وأن يعرف أن دليله

حجة شرعية، على المكلفين إتباع ما يستمد منه، سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه. وثالثها: أن يكون الفعل المكلف به ممكنا، أو أن يكون في قدره المكلف أن يفعله أو أن يكف عنه. وتفرع عن هذا الشرط أمران: أحدهما: أنه لا يصح شرعيا التكليف بالمستحيل، سواء أكان مستحيلا لذاته أم مستحيلا لغيره. فالمستحيل لذاته أي المستحيل عقلا هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، مثل إيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد، على شخص واحد؛ أو الجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة في وقت واحد. والمستحيل لغيره، أو العادي، وما يتصور العقل وجوده ولكن ما جرت سنن الكون ولا العادة المطردة بوجود، كطير الإنسان في الهواء بغير طائرة ووجود زرع بغير بذرة، لأن ما لا يتصور وجوده عقلا أو عادة لا يمكن للمكلف فعله، وهو ليس في وسعه، والله لا يكلف نفسها إلا وسعها، وهو حكيم منزه عن العبث وعن التكليف بفعل ما لا سبيل إلى فعله. وعن هذا تفرع قول الأصوليين: "الشخص الواحد في الوقت الواحد بالشيء الواحد لا يؤمر وينهي"، لأن هذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهما فعل الشيء وتركه في وقت واحد من مكلف واحد. وثانيهما: أنه لا يصح شرعا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلا أو يكف غيره عن فعل، لأن فعل غيره أو كف غيره ليس ممكنا لو هو، وعلى هذا لا يكلف إنسان بأن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره عن السرقة. وكل ما يكلف به الإنسان مما يخص غيره هو النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا من فعله المقدور له. وكذلك لا يصح شرعا أن يكلف الإنسان بأمر من الأمور الجبلية للإنسان التي هي مسببات لأسباب طبيعية ولا كسب للإنسان فيها ولا اختيار، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والحب والبغض، والحزن والفرح، والخوف

حين وجود أسبابها، والهضم والتنفس، والطول والقصر، والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي فطر عليها الناس، ووجودها وعدمها خاضع لقوانين خلقية، وليس خاضعا لإدارة المكلف واختياره، فهي خارجة عن قدرته، وليست من الممكنات له. وإذا ورد في بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا بما ليس مقدورا للإنسان من هذه الأمور، فهو ليس على ظاهره، وبتحقيق النظر فيه يتبين أنه تكليف بما هو مقدور. مثلا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب" ظاهرة التكليف بالكف عن أمر طبيعي غير كسبي وهو الغضب عند وجود داعيته، ولكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الغضب، ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه، فالمراد: أضبط نفسك حين الغضب وكفها عن آثاره السيئة. وقوله عليه السلام: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" ظاهرة التكليف بأن يقتله غيره، ولكن حقيقته التكليف بأن لا يظلم ولا يبدأ بعدوان، فالمراد: لا تظلم. وقوله عليه السلام: "أحبوا الله لما أسدي عليكم من نعمه" ظاهره التكليف بالحب، ولكن حقيقته التكليف بالنظر في النعم التي أسداها الله إليك حتى تكونوا دائما ذاكرين شاكرين. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، ظاهرة تكليفهم الآن بأن يكونوا يسيروا في طريق يثبت إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم. وقوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو.

وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره. ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يستلزم أن تكون في الفعل أية مشقة على المكلف، لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا أو كونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلوا من نوع مشقة، لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة. غير أن المشقة نوعان: النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داوموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شؤونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله. والتكاليف الشرعية لا تخلو من مشقات من هذا النوع فيها صعوبة ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن دوام عليها ضرراً ولا أذى. والشارع ما قصد بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي لزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب علي تناوله من شفائه، فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه. فالصلاة والزكاة والصيام وسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف، ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لابد للإنسان منها لاستقامة حياته. والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله، كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أرد شفاءه. النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس ولا يمكن أن يداوموا على

احتمالها، لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم قيام الليل، والترهب، والصيام قائماً في الشمس، والحج ماشيا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر. فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها، لأن المقصد الأول رفع الضرر عن الناس، وفي التكليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شعر الله أحاكم الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الله الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء، أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحجات، إلا لدفع هذه المشقّات، فال يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها. فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله وعن الترهيب، وقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: "أتم صومك ولا تقم في الشمس". وقال "خذوا من الأعمال ما تطيقون"، و "القصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر وقال: "ليس من البر الصيام في السفر"، وقال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".

4- المحكوم عليه

4- المحكوم عليه المحكوم عليه: هو المكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعله. ويشترط في المكلف لصحة تكليفه شرعا شرطان: أحدهما: أن يكون قادرا على فهم دليل التكليف، بأن يكون في استطاعته أن يفهم النصوص القانونية التي يكلف بها من القرآن والسنة بنفسه أو بالواسطة، لأن من لم يستطيع فهم دليل التكليف لا يمكنه أن يمتثل ما كلف به ولا يتجه قصده إليه والقدرة على فهم أدلة التكليف إنما تتحقق بالعقل وبكون النصوص التي يكلف بها العقلاء في متناول عقولهم فهمها، لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال. ولما كان العقل أمرا خفيا لا يدرك بالحس الظاهر، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة للعقل وهو البلوغ، فمن بلغ الحلم من غير أن تظهر عليه أعراض خلل بقواه العقلية فقد توافرت فيه القدرة على أن يكلف. وعلى هذا لا يكلف المجنون ولا الصبي لعدم وجود العقل الذي هو وسيلة فهم دليل التكليف، ولا يكلف الغافل والنائم والسكران لأنهم في حال الغفلة أو النوم أو السكر ليس في استطاعتهم الفهم. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وقال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها". وأما إيجاب الزكاة والنفقة والضمان على الصبي والمجنون فليس تكليفا لهما، وإنما هو تكليف الولي عليهما بأداء الحق المالي المستحق في مالهما، كأداء ضريبة أطيانهما وأملاكهما. وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ

تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فليس تكليفا للسكارى حتى سكرهم بأن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليفا للسكارى حين سكرهم بأن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليف للمسلمين في حال صحوهم أن لا يشربوا الخمر إذا دنا وقت الصلاة حتى لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكأنه سبحانه قال: إذا دنا وقت الصلاة فلا تشربوا الخمر، وأما إيقاع طلاق السكران على مذهب الحنفية هو عقاب له على سكره، ولهذا شرطوا أن يكون جانياً بسكره بأن شرب محرما طائعا. وأما من لا يعرفون اللغة العربية ولا يستطيعون فهم أدلة التكليف الشرعية من القرآن والسنة، كاليابانيين والهنود والجاويين وغيرهم فهؤلاء لا يصح تكليفهم شرعاً إلا إذا تعلموا اللغة العربية واستطاعوا أن يفهموا نصوصا، أو ترجمت أدلة التكليف الشرعية إلى لغتهم، بحيث يستطيعون أن يجدوا كتابا دينيا بلغتهم يبين لهم ما يكلفهم به الإسلام، أو قامت طائفة بتعلم لغات هذه الأمم التي لا تعرف اللغة العربية ونشرت بينهم تعاليم الإسلام وأدلته التكليفية مخاطبة لهم بلغتهم، وهذا الطريق الثالث هو الطريق القويم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم حجة الوداع أشهد الله أنه بلغ رسالته، وأمر المسلمين أن يبلغ منهم الشاهد الغائب؛ والشاهد يشمل كل من اهتدى إلى الإسلام وعرف أحكامه، والغائب يشمل كل من لم يعرف لغة القرآن ولم يستطع فهم آياته. فأما إذا ترك هذا الغائب على حالة لا يعرف لغة القرآن ولا يستطيع أن يفهم دلائله، ولا ترجمت آياته إلى لغته، ولا قام أحد يعرف لغة القرآن بتعليمه ما يكلف به باللغة التي يفهمها؛ فهو شرعا غير مكلف، لأن الله لا يكلف نفسها إلا وسعها، ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] وثانيهما: أن يكون أهلا لما كلف به. والأهلية معنا ها في اللغة: الصلاحية، يقال فلان أهل للنظر على الوقف أي صالح له. وأما في اصطلاح الأصوليين فالأهلية تنقسم إلى قسمين: أهلية وجوب، وأهلية أداء. فأهلية الوجوب: هي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساسها الخاصة التي خلق الله عليها الإنسان واختصه بها من

بين أنواع الحيوان، وبها صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه الخاصة هي التي سماها الفقهاء الذمة، فالذمة هي الصفة الفطرية الإنسانية التي به ثبتت للإنسان حقوق قبل غيره، ووجبت عليه واجبات لغيره. وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية المكلف لأن تعتبر شرعا أقواله وأفعاله، بحيث إذا صدر منه عقد أو تصرف كان معتبرا شرعا وترتبت عليه أحكامه، وإذا صلى أو صام أو حج أو فعل أي واجب كان معتبرا شرعا ومسقطا عنه الواجب، وإذا جنى على غيره في نفس أو مال أو عرض أخذ بجنايته وعوقب عليها بدنيا ومالياً فأهلية الأداء هي المسئولية وأساسها في الإنسان التمييز بالعقل. حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب: الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب له حالتان اثنتان فقط: فقد تكون له أهلية وجوب ناقصة إذا صلح لأن تثبت له حقوق، لا لأن تجب عليه واجبات، أو العكس، ومثلوا للأول بالجنين في بطن أمه فإنه تثبت له حقوق لأنه يرث ويوصى له ويستحق في ربع الوقف ولكن لا تجب عليه لغيره واجبات، فأهلية الوجوب الثابتة له ناقصة، ومثلوا للثاني بالميت، إذا مات مدنيا فإنه تبقى عليه حقوق دائنيه، بل إن بعض الفقهاء اعتبر للميت بعد موته أهلية وجوب كاملة، إذا مات دائنا ومدنيا فتكون له حقوق على مدينيه، وعليه حقوق لدائنيه، وهذا كلام لا وجه له، والحق أن الموت قضى على خاصة

الإنسان، فليست له ذمة أو أهلية وجوب كاملة ولا ناقصة، وأما مطالبة مدينيه بما عليهم من الديون فلأنها صارت حقا للورثة، والورثة خلفوا مورثهم فيما كان له، وفيما كان عليه في حدود ما تركه، وبعبارة أخرى ورثوا ماله من ديون على غيره ن وآلت إليهم تركته مشغولة بديون لغيره. وقد تكون له أهلية وجوب كاملة إذا صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن تمييزه وبعد بلوغه، على أية حال كان في أي طور من أطوار حياته له أهلية وجوب كاملة. وكما قدمنا لا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب. حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء: الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء له حالات ثلاث: 1- قد يكون عديم الأهلية للأداء أصلا، أو فاقدها أصلا. وهذا هو الطفل في زمن طفولته، والمجنون في أي سن كان. فكل منهما لكون لا عقل له لا أهلية أداء له، ولك منهما لا تترتب عليه آثار شرعية على أقواله ولا على أفعاله، فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية الأمر إذا جنى أحدهما على نفس أو مال يؤاخذ ماليا لا بدنيا، فإن قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه، ولكنه لا يقتص منه، وهذا معنى قول الفقهاء: "عمد الطفل أو المجنون خطأ"، لأنه مادام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمد. 2- وقد يكون ناقص الأهلية للأداء: وهو المميز الذي لم يبلغ الحلم، وهذا يصدق على الصبي في دور التمييز قبل البلوغ، ويصدق على المعتوه، فإن المعتوه ليس مختل العقل ولا فاقده ولكنه ضعيف العقل ناقصة، فحكمه حكم الصبي المميز. وكل منهما لوجود وثوب أصل أهلية الأداء له بالتمييز تصح تصرفاته النافعة له

نفعا محضا، كقبوله الهبات والصدقات بدون إذن وليه. وأما تصرفاته الضارة له ضررا محضا، كتبرعاته، وإسقاطاته، فلا تصح أصلا ولو أجارها وليه، فهبته، ووصيته ووقفه وطلاقه وإعتاقه كل هذه باطلة ولا تلحقها إجازة وليه. وأما تصرفاته الدائرة بين النفع له والضرر به، فتصح منه ولكنها تكون موقوفة على إذن وليه بها، فإن جاز وليه العقد أو التصرف نفذ، وإن لم يجزه بطل. فصحة أصل هذه العقود والتصرفات من المميز أو المعتوه مبينة على ثبوت أصل أهلية الأداء له، وعلها موقوفة على إذن أولي مبنى على نقص هذه الأهلية، فإذا انضم إذن الولي أو إجازته إلى التصرف جبر هذا النقص فاعتبر العقد أو التصرف من ذي أهلية كاملة. 3- وقد يكون كامل الأهلية للأداء: وهو من بلغ الحلم عاقلا. فأهلية الأداء الكاملة تتحقق ببلوغ الإنسان عقالا. والأصل أن أهلية الأداء بالعقل ولكنها ربطت بالبلوغ لأن البلوغ مظنة العقل، والأحكام تربط بعلل ظاهرة منضبطة، فالبالغ سواء كان بلوغه بالسن أو بالعلامات يعتبر عاقلا وأهلا للأداء كامل الأهلية ما لم يوجد ما يدل على اختلال عقله أو أنقصه. عوارض الأهلية: قدّمنا أن أهلية الوجوب تثبت للإنسان، وأنه وهو جنين في بطن أمه تثبت له أهلية وجوب ناقصة، وبعد ولادته تثبت له أهلية

وجوب كاملة في طفولته وفي سن تمييزه وبعد بلوغه وفي نومه ويقظته وفي جنونه وإفاقته، وفي رشده وسفهه، وما دام حيا لا يعرض لهذه الأهلية ما يزيلها أو ينقصان. وأما أهلية الأداء فقد قدمنا أنها لا تثبت للإنسان وهو جنين قبل أن يولد، ولا هو طفل لم يبلغ السابعة، وأنه من سن التمييز أي بعد السابعة إلى سن البلوغ أي خمس عشرة سنة تثبت له أهلية أداء ناقصة، ولهذا تصح بعض تصرفاته ولا يصح بعضها، ويتوقف بعضها على إذن الولي أو إجازته. وإنه من سن بلوغه الحلم تثبت له أهلية أداء كاملة غير أن هذه الأهلية قد تعرض لها عوارض، منها ما هو عارض سماوي لا كسب للإنسان فيه ولا اختيار، كالجنون والعته والنسيان، ومنها ما هون عارض كسبي يقع بكسب الإنسان واختياره كالسكر والسفه والدين. وهذه العوارض التي تعرض لأهلية الأداء: *منها ما يعرض للإنسان فيزيل أهليته للأداء أصلا كالجنون والنوم والإغماء، فالمجنون والنائم والمغمي عليه ليس لواحد منهم أهلية أداء أصلا، ولا تترتب على تصرفاته آثارها الشرعية، وما وجب على المجنون بمقتضى أهليته للوجوب من واجبات مالية يؤديها عنه وليه، وما وجب على النائم والمغمى عليه بمقتضى أهليتهما للوجوب من واجبات بدنية أو مالية يؤديها كل منهما بعد يقظته أو إفاقته. *ومنها ما يعرض للإنسان فيقض أهليته للأداء ولا يزيلها كالعته، ولهذا صحت بعض تصرفات المعتوه دون بعضها كالصبي المميز. *ومنها ما يعرض للإنسان فلا يؤثّر في أهليته لا بإزالتها ولا بنقصها، ولكن يغير بعض أحكامه لاعتبارات ومصالح قضت بهذا التغيير، لا لفقد أهلية أو نقصها كالسفه، والغفلة، والدين، فكل من السفيه وذي الغفلة بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على مال كل منهما من الضياع، ومنعا من أن يكون كل منهما عالة على غيره حجر عليهما في التصرفات المالية فلا تصح معاوضة مالية

القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

منهما، ولا تبرعات مالية، لا لفقد أهليتهما، أو نقصها، ولكن محافظة على مالهما. *وكذلك المدين بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على دائنيه حجر عليه أن يتصرف في ماله بما يضر بحقوق الدائنين كالتبرعات. *فأهلية الأداء أساسها التمييز بالعقل، وأمارة العقل البلوغ، فمن بلغ عاقلا فأهليته للأداء كاملة. *وإذا طرأ عليه طارئ ذهب بعقله كالجنون، أو أضعفه كالعته، أو حال دون فهمه كالنوم والإغماء، فهذا الطارئ عارض له تأثير في أهلية الأداء بإزالتها أو بنقصها. *وإذا طرأ على الإنسان طارئ لم يذهب بعقله ولم يضعفه ولم يحل دون فهمه، فهذا الطارئ لا تأثير له في أهلية الأداء لا بإزالة ولا بنقص، وإن كان يقضي بتغير بعض الأحكام لمصالح اقتضت هذا التغير، كالسفه والغفلة والدين. ولهذا لا يرى الإمام أبو حنيفة الحجر بواحد من هذه الثلاثة، لأنه لا تأثير لواحد منها في أهلية الإنسان، ويرى أن المصالح التي تترتب على الحجر بها لا توازن بالضرر الذي يلحق الإنسان من الحجر عليه واعتباره غير أهل. القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية تمهيد: نصوص القرآن والسنة باللغة العربية، وفهم الأحكام منها إنما يكون فهما صحيحا إذا روعي فيه مقتضى الأساليب في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها، وما تدل علية ألفاظها مفردة ومركبة. ولهذا عني علماء أصول الفقه الإسلامي، باستقراء الأساليب العربية وعباراتها ومفرداتها، واستمدوا من هذا الاستقرار ومما قرره علماء هذه اللغة قواعد وضوابط، يتوصل بمراعاتها إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية فهما صحيحاً، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت من النصوص الشرعية فهما صحيحا، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، ويتوصل بها أيضا إلى إيضاح ما فيه

خفاء من النصوص، ورفع ما قد يظهر بينها من تعارض، وتأويل على تأويله، وغير هذا مما يتعلق باستفادة الأحكام من نصوصها. وهذه القواعد والضوابط لغوية مستمدة من استقراء الأساليب العربية ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليست لها صبغة دينية، فهي قواعد لفهم العبارات فهما صحيحا، ولهذا يتوصل بها أيضا إلى فهم مواد أي قانون وضع باللغة العربية، لأن مواد القوانين الوضعية المصوغة باللغة العربية، هي مثل النصوص الشرعية في أنها جميعها عبارات عربية مكونة من مفردات عربية ومصوغة في الأسلوب العربي، ففهم المعاني الأحكام منها يجب أن يسلك فيه السبيل العربي في فهم العبارات والمفردات والأساليب. وليس من السائغ قانونا ولا عقلا أن يسن الشارع قانونا من القوانين بلغة، ويتطلب من الأمة أن تفهم ألفاظ مواده وعباراتها، على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى، لأن شرط صحة التكليف بالقانون قدرة المكلفين به على فهمه. ولهذا يوضع القانون في الأمة بلسانها، وبلغة جمهور أفرادها، ليكون في استطاعتهم فهم الأحكام منه بأساليب الفهم في لغتهم. ولا يكون القانون حجة على الأمة إذا وضع بغير لغتها أو كان طريق فهمه غير طريق فهم اللغة التي وضع بها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] . وعلى هذا فالقواعد والضوابط التي قررها علماء أصول الفقه الإسلامي في طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم من الصيغ، وفيما يدل على العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمل التأويل وفي أن الغبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي أن العطف يقتضي المغايرة، وأن الأمر المطلق يقتضي الإيجاب، وغير ذلك من ضوابط فهم النصوص واستثمار الأحكام منها؛ كما تراعي في فهم النصوص الشرعية، تراعي في فهم نصوص القانون المدني والتجاري وقانون المرافعات والعقوبات وغيرها من قوانين الدولة الموضوعة باللغة العربية طبقا للمادة (149) من الدستور "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".

ولا يقال إن بعض هذه القوانين معربة عن أصل فرنسي ن وواضع هذا الأصل ما عرف أساليب اللغة العربية في الفهم، ولا قصد أن تفهم مواده على وفقها، لأنها نقول إن القانون الذي كلفنا به صيغ باللغة العربية واعتبر صادرا عمن يفهم الأساليب العربية، ولا يستقيم التكليف به إلا إذا قصد فهمه على وفق أساليب اللغة التي صيغ بها، ولا عبرة بأساليب اللغة التي نقل عنها، وعلى هذا إذا تعارض النص العربي واصله الفرنسي، ولم يمكن التوفيق بينهما يعمل بمقتضى النص العربي، لأن الناس لا يكلفون إلا بما يفهمون وهو ما نشر بينهم. نعم إذا كان النص العربي يحتمل ن يفهم على وجهين، وألفاظه تحتمل الدلالة على معنيين، ساغ الاستدلال بالأصل الفرنسي على ترجيح أحد المعنيين واختيار أحد الوجهين، كما يستدل على هذا بأية قرينة. وإذا كان في أصول القانون الوضعي أو في العرف التجاري اصطلاح خاص بدلالة بعض الأساليب على أحكام أو بدلالة بعض الألفاظ على معان، أو بإزالة بعض أنواع الخفاء بطرق خاصة، يتبع في فهم مواد القانون ما يقضي به الاصطلاح والعرف القانونيان، لا ما تقضي به الأوضاع اللغوية. ولهذا قرر علماء أصول الفقه أن الألفاظ التي استعملت في معان عرفية شرعية، كالصلاة والزكاة والطلاق تفهم في النصوص بمعانيها العرفية لا بمعانيها

القاعدة الأولى في طريق دلالة النص

اللغوية، لأن المقنن يراعي في تعبيره عرفه الخاص، فإذا لم يكن له عرف خاص يراعي العرف اللغوي العام. القاعدة الأولى في طريق دلالة النص "النص الشرعي- أو القانوني - يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه، لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه". "وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة". المعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النص الشرعي، أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة، وليست دلالته قاصرة على ما يفهم من عبارته وحروفه، بل هو قد يدل أيضا على معان تفهم من إشارته ومن دلالته ومن اقتضائه، وكل ما يفهم منه من المعاني بأي طريق من هذه الطرق يكون من مدلولات النص ويكون النص دليلا وحجة عليه، ويجب العمل به، لأن المكلف بنص قانوني مكلف بأن يعمل بكل ما يدل عليه هذا النص، بأي طريق من طرق الدلالة المقررة لغة. وإذا عمل بمدلول النص من بعض الوجوه. ولهذا قال الأصوليون: يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص وما تدل عليه روحه ومعقولة، وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض. أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة: فهو بيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة، وأمثلته من نصوص القوانين الشرعية والوضعية.

1- عبارة النص: المراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وجملة. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلول عبارة النص " ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص". فدلالة العبارة: هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها. سواء أكان مقصودا من سياقها أصالة أو مقصودا تبعا. وأمثلة هذا لا تحصى، لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شعري أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكون، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعا. قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منها مقصود من سياقه، أحدهما: أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما: أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم. فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصلاة، لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والثاني: مقصود من السياق تبعا، لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين، ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة، لقال: وليس البيع مثل الربا. وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] . يفهم من عبارة هذا النص ثلاث معان: إباحة زواج ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد للزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف

الجور وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة، لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى. فالله سبحانه نبههم إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم وبين عدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم ألا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع أو واحدة هو الواجب على من يخاف الجور، وهو المقصود أصالة من سياق الآية. وهذا استتبع بيان إباحة الزواج، فإباحة الزواج مقصود تبعا لا أصالة، والمقصود أصالة: قصر عدد الزوجات على أربع، أو واحدة. ولو اقتصر على الدلالة على المعنى المقصود من السياق لقال: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا على عدد الزوجات لا يزيد على أربع، فإن خفتم ألا تعدلوا بين العدد منهم فاقتصروا على واحدة. 2- إشارة النص: المراد بما يفهم من إشارة النص المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه ولا يقصد من سياقه ولكنه معنى لازم للمعنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام. ولكنه معنى إلتزامياً وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة. وقد يكون وجه التلازم ظاهرا، وقد يكون خفيا، ولهذا قالوا: إن ما يشير غليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر ومزيد تفكير، وقد يفهم بأدنى تأمل. فدلالة الإشارة هي دلالة النص عن معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه؛ يحتاج فهمه إلى فضل تأمل أو أدناه، حسب ظهور وجه التلازم وخفائه. مثال هذا قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ،

يفهم من عبارة من عبارة هذا النصل أن نفقة الوالدات من رزق وكسوة، واجبة على الآباء، لأن هذا هو المتبادر من ألفاظه، المقصود من سياقه. ويفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لولده عليه،لأن أولاده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الولد لأبيه قرشيا لأن ولده له لغيره. وأن الأب له عند احتياج أن يتملك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حاجته لأن ولده له، فمال ولده له، وإنما فهمت هذه الأحكام من إشارة النص، لأن في ألفاظ النص نسبة المولود لأبيه بحرف اللام الذي يفيد الاختصاص "أنت ومالك لأبيك"، ومن لوازم هذا الاختصاص ثبوت هذه الأحكام، فهي أحكام لازمة لمعنى مفهوم من عبارة النصل وغير مقصودة من سياقه، ولذا كان فهمها من إشارته لا من عبارته. مثال آخر: قوله تعالى في بيان من لهم نصيب في الفيء: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الحشر: 8] ، يفهم من عبارة هذا النص استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيبا من الفيء، ويفهم إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم، لأن النص عبّر عنهم بلفظ الفقراء، ووصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا يكون أموالهم باقية على ملكهم. فهذا حكم لازم لمعن لفظ في النص، ويغر مقصود من سياق النص. مثال ثالث: قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاد طائفة من الأمة تمثلها وتستشار في أمرها لأن تنفيذ الأمر ومشاورة الأمة يستلزم ذلك. مثال رابع: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ

فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] ، يفهم منه بطريق الإشارة إيجاب أهل الذكر في الأمة. مثال من قانون العقوبات. المادة (274) : "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ الحكم برضائه معاشرتها" هذه المادة تدل بعبارتها على عقوبة الزوجة التي ثبت زناها، وعلى أن للزوج الحق في وقف تنفيذ هذه العقوبة، وتدل بإشارتها على أن زنا الزوجة ليس جناية على المجتمع في نظر الشارع المصري، وإنما هو جناية على الزوج، وهذا لازم لإثبات حق إسقاط عقوبته للزوج، إذ لو كان جناية على المجتمع كالسرقة ما ثبت لأحد حق إسقاط عقوبته. مثال من القانون المدني - الملغي- مادة (155) : "يجب على الفروع وأزواجهم مادامت الزوجية قائمة أن ينفقوا على الأصول وأزواجهم" ومادة (156) : كذلك يجب على الأصول القيام بالنفقة على فروعهم، وأزواج الفروع، والأزواج أيضا ملزمون بالنفقة على بعضهم" ومادة (157) : تقدير النفقات يكون بمراعاة لوازم من تفرض لهم ويسر من تفرض عليهم، وعلى كل حال يلزم دفع النفقات شهرا بشره مقدما" يفهم من عبارة كل مادة من هذه المواد حكم موضعي من أحكام النفقات، ويفهم منها بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأنه يلزم من النص عليها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى لازم لورود هذه المواد في القانون، وغير مقصود من سياق المواد فهو مفهوم بطريق الإشارة. وكثير من النصوص القانونية الوضعية تدل عبارتها على أحكام، وتشير إلى أحكام، وهذا ما يعبر عنه رجال القانون بقولهم: النص صريح في كذا، ويؤخذ منه بطريق الإشارة كذا.

ويجب الاحتياط في الاستدلال بطريق الإشارة وقصره على ما يكون لازما لمعنى من معاني النص لزوما لا انفكاك له، لأن هذا هو الذي يكون النص دالا عليه، وإذ الدال على الملزوم دال على لازمه. أما تحميل النص معاني بعيدة لا تلازم بينهما وبين معنى فيه بزعم أنها إشارية فهذا شطط في فهم النصوص، وليس هو المراد بدلالة إشارة النص. 3- دلالة النص: المراد بما يفهم من دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقوله، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعه لعله بني عليها هذا الحم، ووجدت واقعة أخرى، تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها، وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس، فإنه يفهم لغة أن النص يتناول الواقعين، وأن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه الموافق له في العلة، سواء كان مساويا أم أولى. مثال هذا قوله تعالى في شأن الوالدين: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، تدل عبارة هذا النص على نهي الولد أن يقول لوالديه " أُفٍّ "؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما. وتوجد أنواع أخرى أشد إيذاء وإيلاما من التأفف كالضرب والشتم، فيبادر إلى الفهم أنهما يتناولهما النهي، وتكون محرمة بالنص الذي حرم بالتأفف، لأن المتبادر لغة من النهي عن التأفف النهي عما هو أكثر إيذاء للوالدين بالأولى، فهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق. مثال آخر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء: 10] يفهم من عبارة هذا النص تحريم أكل الأوصياء أموال اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف، لأن هذه الأشياء تساوى أكلها ظلما في أن كلا

منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، فيكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما؛ محرما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق. فالفرق بين دلالة النص وبين القياس أن مساواة المفهوم الموافق النص تفهم بمجرد فهم اللغة من غير توقف على اجتهاد واستنباط، وأما مساواة المقيس للمقيس عليه، فلا تفهم بمجرد فهم اللغة، بل لابد من اجتهاد في استنباط العلة في حكم المقيس عليه، وفي معرفة تحققها في المقيس. مثال من القانون المدني الملغي: نصت المادة (370) على أنه "لا يكلف المؤجر يعمل أي مرمة كانت إلا إذا اشترط في العقد إلزامه ذلك"، يفهم من دلالة هذا النص أنه لا يكلف المؤجر بإنشاء حجرة مثلا، لأن هذا أولى من عمل المرمة في تحقق علة المنع من التكليف به، وهي التراضي على المعقود عليه بحالة وقت العقد. مثال من قانون العقوبات: نصت المادة (274) على أن "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحسب مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت". يفهم من دلالة هذا النص أن للزوج أن يطلب وقف السير في دعوة الزنا قبل الحكم فيها، لأن من ملك وقف تنفيذ الحكم بعد صدوره ملك بالأولى وقف إجراءات الدعوة بشأنه. ونصت المادة (237) " على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين (234) ، (236) " يفهم من دلالة هذا النص أنه لو ضربها هي ومن يزني بها ضربا أحدث عاهة مستديمة تعتبر جريمة جنحة لا جناية، لان هذا أولى بالقتل من التخفيف. وجاء في حكم محكمة بني سويف الابتدائية الصادر في 9 ديسمبر سنة 1922 (رقم 213 ص 243، ص 4 مجلة المحاماة) : "إن التي أدت بالشارع إلى سن قانون تشكيل اللجان لتخفيض إيجار الأطيان الزراعية إنما هو غلو المؤجرين في تقدير الإيجار نظرا لارتفاع أسعار القطن وأسعار سائر الحاصلات من حبوب

وغيرها، وما دامت هذه هي العلة التي اقتضت التخفيض في السنة التي زرعت فيها الأطيان قطنا لأنها تقضي من باب أولى التخفيض أيضا في السنة التي تزرع فيها الأطيان قطنا وزرعت حبوبا" وهذا الطريق، أي طريق الدلالة، كما يسمى دلالة النص يسمى القياس الجلي لظهور فهم المساواة أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له، ويسمى حكمه مفهوم الموافقة أي المفهوم الذي وافق المنطوق في حكمه بناء على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة. ويسمى فحوى الخطاب أي روحه وما يعقل منه، لأن كل نص دل على حكم في محل العلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة بتبادر الفهم، أوتكون العلة أكثر توافراً فيه. 4- اقتضاء النص: المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعني الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه. مثال هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسيانها أو مكرها عليه، وهذا معنى غير مطابق للواقع لأن الفعل إذا وقع لا يرفع، فصحة معنى هذه العبارة تقتضي تقدير ما تصح به، فيقدر هنا: رفع عن أمتي إثم الخطأ؛ فالإثم محذوف اقتضى تقديره صحة معنى النص، فيعتبر من مدلولات النص اقتضاء. ومثال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ... } [النساء: 23] ، أي زواجهن، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، أي أكلها والانتفاع بها،

لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف فيقدر المقتضى في كل نص بما يناسبه. ومثال هذا: من عبارات الواقفين قول الواقفين: جعلت الشروط العشرة لمن يكون ناظرا على وقفي، فإن هذا يدل اقتضاء على جعلها لنفسه، لأنه لا يملك أن يجعلها لغيره إلا إذا كانت له، فثبوت الشروط العشرة لناظر وقفه بعبارة نصه وثبوتها لنفسه باقتضائه. ومن هذا قول إنسان لآخر يملك عبدا: "اعتق عبدك عني بألف"، فإن هذا يدل بمقتضاه على شراء عبده منه؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاء. ومن هذا التفصيل يثبت ما قدمنه في الإجمال، وهو أن كل معنى فهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربع يكون من مدلولات النص، ويكون النص حجة عليه، لأن المعنى المأخوذ من عباراته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من إشارته هو المعنى اللازم لمعنى عبارته لزوما لا

ينفك، فهو مدلوله بطرق الالتزام، والمعنى المأخوذ من دلالته هو المعنى الذي تدل عليه روحه ومعقوله، والمفهوم اقتضاء هو معنى ضروري اقتضى تقديره صدق عبارة النص أو استقامة معناه. وطريق العبارة أقوى دلالة من طريق الإشارة لأن الأول يدل على معنى متبادر فهمه مقصود بالسياق، والثاني يدل على معنى لازم غير مقصود بالسياق، وكل منهما أقوى من طريق الدلالة، لأن كلا منهما منطوق النص ومدلوله بصيغته وألفاظه، ولكن طريق الدلالة مفهوم النص ومدلوله بروحه ومعقوله. ولهذا التفاوت يرجح عند التعارض المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ويرجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة. مثال التعارض بين المفهوم بالعبارة والمفهوم بالإشارة من النصوص الشرعية: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، مع قوله سبحانه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] ، تدل الآية الأولى بعبارتها على وجوب القصاص من القاتل، وتدل الآية الثانية بإشارتها على أن القاتل العامد لا يقتص منه، لأن في اقتصارها على أن جزاءه جهنم إشارة إلى هذا، إذ يلزم من هذا الاقتصار في مقام البيان أنه لا تجب عليه عقوبة أخرى، ولكن رجح مدلول العبارة على مدلول الإشارة ووجب القصاص. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة" مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في تعليل نقصان الدين في النساء:"تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلي"، فإن الحديث الأول يدل بعبارته على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام، والحديث الثاني يدل بإشارته على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشرة يوما، لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض خمسة عشر يوما لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض نصف شره حتى يتحقق أنها في نصف عمرها لا تصلي، فلما تعارض المفهوم من عبارة النص الأول، والمفهوم من إشارة النص الثاني، رجح المفهوم من العبارة وهو تقدير أكثر مدة الحيض بعشرة أيام.

القاعدة الثانية في مفهوم المخالفة

ومثال هذا من القانون المدني الملغي مواد النفقات الواردة في المواد (155، 157، 158) : تدل بطريق الإشارة على اختصاص المحاكم الأهلية بالفصل في قضايا هذه النفقات، لأن هذا يلزم من النص عليها في قانونها، والمادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية الملغاة التي جاء فيها أن ليس لهذه المحاكم أن تنظر في الأنكحة وما يتعلق بها من قضايا المهر والنفقة، تدل بطريق العبارة على عدم اختصاص المحاكم الوطنية بقضايا النفقة. فلما تعارض المفهوم بطريق إشارة الأولى، والمفهوم بطريق عبارة الثانية، رجح المفهوم بطريق العبارة، فلا اختصاص للمحاكم الوطنية بمواد النفقات. ومثال التعارض بين المفهوم بالإشارة والمفهوم بالدلالة من النصوص الشرعية: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، يؤخذ منه بطريق الدلالة من قتل مؤمنا متعمدا عليه ِأن يحرر رقبة مؤمنة، لأنه أولى من القاتل خطأ بهذا التكفير عن جريمته، لأن تحرير الرقبة كفارة للقاتل عن ذنبه، والعامد أولى أن يكفر عن ذنبه من الخاطئ، وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] ، يؤخذ منه بطريق الإشارة أنه لا يجب عليه تحرير رقبة لأن الآية تشير إلى أنه لا كفارة لذنبه في الدنيا، إذا جعلت جزاؤه خلوده في جهنم لا غير، فلما تعارضا رجحت الإشارة على الدلالة، فلا يجب على القاتل عمدا تحرير رقبة. القاعدة الثانية في مفهوم المخالفة ... "النص الشرعي لا دلالة له على حكم في مفهوم المخالفة" إذ دل النص الشرعي على حكم في محل مقيدا بقيد، بأن كان موصوفا بوصف أو مشروطا بشرط أو مغيّاً بغاية أو محددا بعدد، يكون حكم النص في المحل الذي تحقق فيه القيد هو منطوق النص، وأما حكم المحل الذي انتفى عنه القيد فهو مفهومه المخالف.

والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النص الشرعي لا دلالة له على حكم ما في المفهوم المخالف لمنطوقه، لأنه ليس من مدلولاته بطريق من طرق الدلالة الأربع، بل يعرف حكم المفهوم المخالف المسكوت عنه بأي دليل آخر من الأدلة الشرعية التي منها الإباحة الأصلية. فقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] ، منطوقة تحريم الدم المسفوح، وأما تحليل الدم غير المسفوح فهو مفهوم مخالف لمنطوقه ولا دلالة لهذه الآية عليه، بل يعرف بالإباحة الأصلية أو بأي دليل شرعي، مثل قول الرسول: "أحلت لكم ميتتان ودمّان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". وقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] منطوقة أن من لم يستطع زواج الحائر يباح له أن يتزوج الإمام المؤمنات، وأما من استطاع زواج الحرائر فلا دلالة لهذه الآية على حكمه، وكذلك الإماء غير المؤمنات لا دلالة لهذه الآية على حكم فيهن. أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فيقتضى بيان أنواع مفهوم المخالفة، لأن هذا المفهوم يتنوع بحسب القيد الذي قيد به منطوق النص إلى خمسة أنواع: 1- مفهوم الوصف: كقوله تعالى في بيان المحرمات: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء: 23] ، مفهوم المخالفة حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعا، وكقول الرسول: "في السائمة زكاة" مفهوم المخالفة المعلوفة التي ليست سائمة، وكقوله: "من باع نخلة مؤبّرة فثمرتها للبائع" 2- مفهوم الغاية: كقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، مفهوم المخالفة إذا تزوجت المطلقة ثلاثا زوجا غير مطلقها، وقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، مفهوم المخالفة إذا تبين الأبيض من الأسود من الفجر.

3- مفهوم الشرط: كقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنّ} [الطلاق: 6] ، مفهوم المخالفة إن كن لسن أولات حمل، وكقوله تعالى: [فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [النساء: 4] ، مفهوم المخالفة إذا لم تطب نفس الزوجة عن شيء من مهرها. 4- مفهوم العدد: كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثمانين، وكقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] ، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثلاثة. 5- مفهوم اللقب: كقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] مفهوم المخالفة غير محمد، وكقول الرسول: "في البر صدقة": مفهوم المخالفة غير البر، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، مفهوم المخالفة غير الأمهات. وقد اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في صورة، وعلى الاحتجاج به في صورة، واختلفوا في الاحتجاج به في صورة. 1- فأما ما اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيه فهو مفهوم اللقب، والمراد باللقب اللفظ الجامد الذي ورد في النص أسما وعلما على الذات المسند إليها الحكم المذكور فيه. ففي حديث: "في البر صدقة" لفظ البر اسم للحب المعروف الذي أوجبت فيه زكاة. ولا يفهم لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً أن ذكر البر احترازاً عما عداه من الحبوب، ولا أنّ ذكر الغنم احتراز عما عداها من السوائم، ولا أن إيجاب صدقة في البر يفهم منه أن لا صدقة في الشعير والذرة وغيرها من الحبوب، ولا أن إيجاب زكاة في الغنم يفهم منه أن لا زكاة في الإبل والبقر وغيرهما. فلهذا اتفق الأصوليين على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة في اللقب، لأنه لا يقصد بذكره تقييد ولا تخصيص ولا احتراز عما عداه. ولا فرق في هذا بين النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية، وعقود

الناس وتصرفاتهم وسائر أقوالهم. فمحمد رسول الله لا يفهم منها أن غير محمد ليس رسول الله، ودين المتوفي يؤدي من تركته لا يفهم منه أن غير دينه كنفقة تجهيزه ووصايا النافذة لا تؤدي إلى تركته، والبيع ينقل الملكية لا يفهم منه أن غير البيع لا ينقله، وأن بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه غير باطل. ولهذا قال الشوكاني: "والقائل بمفهوم المخالفة في اللقب لا يجد حجة لغوية ولا عقلية ولا شرعية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لا يفهم من قوله أنه لم ير غيره. وأما إذا دلت القرينة على العمل في جزئية خاصة فما ذلك إلا للقرينة". 2-وأما ما اتفقوا على الاحتياج بمفهوم الوصف، أو الشروط، أو العدد، أو الغاية، في غير النصوص الشرعية، أي في عقود المتعاقدين وتصرفاتهم، وأقوال الناس وعبارات المؤلفين، ومصطلحات الفقهاء. فقول الواقف: جعلت ربع وقفي من بعدي لأقاربي الفقراء، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأقاربه الفقراء، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاق أقاربه غير الفقراء، ونصه حجة على الحكمين. وقول الواقف: جعلت ثمن ريع وقفي من بعدي لأرملتي إذا لم تتزوج، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأرملته إذا لم تتزوج، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاقها إذا تزوجت، ونصه حجة على الحكمين. وهكذا كل عبارة من أي عاقد أو متصرف أو مؤلف أو أي قائل، إذا قيدت بوصف أو شرط أو حددت بعدد أو غاية، تكون حجة على ثبوت الحكم الوارد بها حيث يوجد ما قيدت به، وعلى نفيه حيث ينتفي، لأن عرف الناس واصطلاحاتهم في النفس والتعبير على هذا؛ ولو لم يفهم النفي والإثبات كان التقييد في عرفهم عبثاً، إلا إذا قرينة على أن القيد ليس للتخصيص. 3- وأما الصورة التي اختلف الأصوليون في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيها فهي مفهوم المخالفة في الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد في النصوص الشرعية خاصة. فذهب جمهور الأصوليين إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة؛ إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدد بغاية أو عدد، يكون

حجة على ثبوت حكمه في الواقعة التي وردت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، ويكون حجة على ثبوت نقيض حكمه في الواقعة التي وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد الذي ذكر فيه. ويسمى حكمه الأول منطوقة، ويسمى حكمه الثاني مفهومه المخالف. فالتحريم للدم المسفوح والتحليل للدم غير المسفوح، كل منهما مدلوله قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] ، وذهب الأصوليون من الحنفية؛ إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة، إذا قيد بوصف أو شرط بشرط، أو حدد بغاية أو عدد، لا يكون حجة إلا على حكمه في واقعته، التي ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، وأما الواقعة التي انتقى عنها ما ور د فيه من قيد، فلا يكون حجة على حكم فيها، بل يكون النص ساكتا عن بيان حكمها، فيبحث عن حكمها بأي دليل من الأدلة الشرعية التي منها أن الأصل في الأشياء الإباحة. استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بعده أدلة، أظهرها اثنان: الأول: أن المتبادر إلى الفهم من أساليب العرب وعرفهم في استعمال عباراتهم؛ أن تقييد الحكم بوصف أو شرط، أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد، وعلى نفيه حيث ينتفي. فمن قال: مطل الغنى ظلم، يفهم من قوله أن الفقير ليس كذلك، ومن قال: هبب ابنك ساعة إذا نجح، يفهم منه لا تهبه إذا لم ينجح. ولهذا لما رأى عمر أنهم يقصرون الصلاة في السفر ولا خوف من من فتنة الكفار لهم، تعجب من هذا وسأل الرسول: ما بالنا نقصر الصلاة في الأمن؟ فقال الرسول "صدقة تصدق الله بها عليم فاقبلوا صدقته"، ومنشأ هذا التعجب أن عمر فهم من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101] ، أنهم إن لم يخافوا الفتنه

لا يقصرون، وهذا هو مفهوم المخالفة، والرسول في جوابه لم يخطئه في فهمه، وإنما دل على أن الله وسع عليهم ورخص لهم في حال الأمن أيضا. والثاني: أن القيود التي ترد في النصوص، لابد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية أو عدد عبثا. وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد. والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد. ولا فرق في هذا بين النص الشرعي وغيره من عبارات الناس، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف أو الشرط أو الشرط أو غيرهما، ليس للقيد بل لغرض آخر مثل التفخيم أو المدح أو الذم أو الجري على الغالب، فلا يحتج بمفهوم المخالفة له. واستدل الأصوليين من الحنفية على مذهبهم بعدة أدلة، أظهرها اثنان: الأول: إنه ليس مطردا في الأساليب العربية أن تقييد الحكم بوصف أو شرط أو تحديد، بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد وعلى نفيه حيث ينتفي. وكثيرا ما ترد العبارة مقيدة، ويتردد السامع في فهم حكم ما في انتفى فيه القيد، ويسأل المتكلم عنه ولا يستنكر عليه السؤال. فمن قال: إذا سألك صباحا فاقض حاجته، لا ينكر على سامعه إذا استفهم عمن سأله مساء. وإذا كانت الدلالة على نفي الحكم حيث ينتفي القيد غير مقطوع بها، فلا يكون النص الشرعي حجة عليه لأن النصوص الشرعية يجب الاحتياط في الاحتجاج بها، ولا تكون حجة بمجرد الاحتمال. والثاني: أن كثيرا من النصوص الشرعية التي دلت على أحكام وقيدت بقيود، لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التي فيها القيد، وللواقعة التي انتقى عنها. فالصلاة في السفر تقصر عن خاف المصلون فتنة الذين كفروا وإن لم يخافوا، مع أن النص شرط القصر بهذا الشرط: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101] . والربيبة تحرم على زوج أمها إذا كانت في حجره، وإذا لم تكن في حجره، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف:

{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23] . فالاحتياط في فهم النص الشرعي يوجب أن لا يحتج به على نفي الحكم إذا انتفى القيد. وكثير من النصوص، بعد أن ذكرت الحكم المقيد، نصت على مفهوم المخالفة له، مثل قوله تعالى: {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة: 222] ، وهذا دليل على أنه غير مفهوم قطعا من النص السابق، وإلا ما ذكره ثانيا. ويظهر أثر هذا الخلاف في مثل قوله تعالى في توريث بنات المتوفي: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ، مع قول الرسول لأخي سعد بن الربيع: "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجة الثمن وما بقى فهو لك"، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة للآية، وهو أن الواحدة والاثنتين لا يرثن الثلثين، وبين منطوق هذا الحديث الذي ورث البنتين الثلثين، ويرجح المنطوق. وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية توريث البنات. وفي مثل قوله تعالى في قصر الصلاة في السفر: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101] . مع قصر الرسول الصلاة في السفر حال الآمن وعدم خوف فتنة الذين كفروا، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة ومنطوق الحديث، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض. والذي نستخلصه من المقارنة والمقابلة بين أدلة الطرفين: أن النص الشرعي حجة على مفهم المخالفة للوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد، ولكن بعد البحث وإمعان النظر والتحقق من أن القيد الوارد في النص، إنما ورد للتخصيص والاحتراز به عما عداه، ولم يرد لحكمة أخرى، ولم يعارض هذا المفهوم بمنطوق نص آخر. وأما إذا دلت القرينة على أن القيد ليس للتخصيص ولا للاحتراز، بل ورد جريا على الغالب مثل {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء: 23] أو لمجرد تفخيم الأمر

مثل قول الرسول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج"، أو لآية حكمه أخرى يدل عليها سياق النص أو حكمه التشريع، فلا يكون النص حجة على مفهوم المخالفة فيه. هذا الاحتياط كما تجب مراعاة في النصوص الشرعية، تجب مراعاة في نصوص القوانين الوضعية. ولهذا قررت محكمة النقض في 30 مايو سنة 1935 أن وسائل الإثبات الواردة في مادة (229) من القانون المدني ليست واردة على سبيل الحصر، فلا تكون حجة على أن ما عداها ليست وسيلة للإثبات. وعلى هذا إذا قدمت ورقة في قضية وتناولتها المرافعة بالجلسة، فهذا كاف في إثبات تاريخ الورقة المقدمة في الجلسة. أمثلة لأنواع المفاهيم من النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية: مفهوم الوصف: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] والمادة 466 ق م: "إذا باع شخص شيئا معينا بالذات وهو لا يملكه جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع". مفهوم الشرط: قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء:4] والمادة 486 ق م: "إذا حكم المشتري إبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية" مفهوم العدد: "يسقط الحق في إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال ثلاث سنوات" والمادة 76 من الدستور الملغي: "مدة عضوية النائب خمس سنوات"

القاعدة الثالثة في الواضح الدلالة ومراتبه

مفهوم الغاية: قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وفي كثير من القوانين هذا النص: يعمل بهذا القانون إلى أن يصدر ما يخالفه. القاعدة الثالثة في الواضح الدلالة ومراتبه الواضح الدلالة من النصوص: هو ما دلّ على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي. فإن كان يحتمل التأويل والمراد منه ليس هو المقصود أصالة من سياقه، سمّى الظاهر؛ وإن كان يحتمل التأويل والمراد منه هو المقصود أصلاة من سياقه، سمّي النص؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ويقبل حكمه النسخ، سمّي المفسر؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ولا يقبل حكمه، سمّي المحكم. وكل نصّ واضح الدلالة يجب العمل بما هو واضح الدلالة عليه، ولا يصح تأويل ما يحتمل التأويل منه إلا بدليل. هذا القاعدة والقاعدة الرابعة الآتية، خاصتان ببيان الواضح الدلالة من النصوص الشرعية، وغير الواضح الدلالة منها، وبيان مراتب وضوح الواضح، ومراتب خفاء غير الواضح، وما يزال به هذا الخفاء. وأساس التفريق بين الواضح وغير والواضح هو: دلالة النص بنفسه على المراد منه من غير توقف على أمر خارجي أو توقفه على أمر خارجي، فما فهم المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي فهو الواضح الدلالة، وما لم يفهم المراد منه إلا بأمر خارجي فهو غير الواضح الدلالة. وأساس التفاوت في مراتب الوضوح هو: احتمال التأويل وعدم احتماله، فما

فهم معناه من نفس صيغته ولا يحتمل أن يفهم منه معنى غيره، أوضح دلالة مما فهم معنى منه ويحتمل أن يفهم منه معنى غيره. وأساس التفاوت في مراتب الخفاء هو القدرة على إزالة الخفاء وعدمها، فما في دلالته خفاء، ولا سبيل إلى إزالة خفائه إلا بالرجوع إلى مصدره وهو الشارع، أخفى مما في دلالته خفاء، والطريق ممهدة لإزالة خفائه بالبحث والاجتهاد. وقد قسم علماء الأصول الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم: وهي في وضوح دلالتها على هذا الترتيب. فالمحكم أوضحها دلالة، ويليه المفسر، ثم النص، ثم الظاهر، وتظهر ثمرة هذا التفاوت عند التعارض. 1- الظاهر: الظاهر في اصطلاح الأصوليين هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف فهم المراد منه على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق، ويحتمل التأويل. فمتى كان المراد يفهم من الكلام من غير حاجة إلى قرينة، ولم يكن المقصود الأصلي من سياقه، يعتبر الكلام ظاهرا فيه. فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ظاهر في إحلال كل بين وتحريم كل ربا؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظي "أحلّ وحرّم" من غير حاجة إلى قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية، لأن الآية كما قدمنا مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع والربا ردا على الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] لا بيان حكميهما. وقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 4] ، ظاهر في إباحة نكاح ما حل من النساء لأن هذا

معنى يتبادر فهمه من لفظ، فانكحوا ما طاب لكم منهن من غير توقف على قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن المقصود أصالة من سياقها هو قصير العدد على أربع أو واحدة كما قدمنا. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] ظاهر في وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية، وليس هو المقصود أصالة من سياقه، لأن المقصود أصالة من سياقه هو: ما آتاكم الرسول من الفيء حين قسمته فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ظاهر في حكم ميتة البحر، لأن ليس المقصود أصالة من السياق، إذ السؤال خاص بماء البحر. وحكم الظاهر: أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره، لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل. وحكم الظاهر: أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره، لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل. وأنه يحتمل التأويل أي صرفه عن ظاهره وإرادة معنى آخر منه، فإن كان الظاهر عاماً يحتمل أن يخصص، وإن كان مطلقاً أن يقيد، وإن كان حقيقة يحتمل أن يراد به معنى مجازي، وغير ذلك من وجوه التأويل. وأنه يقبل النسخ، أي أن حكمه الظاهر منه يصح في عهد الرسالة وفي زمن التشريع، وأن ينسخ ويشرع حكم بدله متى كان من الأحكام الفرعية الجزئية التي تتغير بتغير المصالح وتقبل النسخ. 2-النص: النص في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ويحتمل التأويل. فمتى كان المراد متبادراً فهمه من اللفظ، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، وكان هو المقصود أصالة من السياق، يعتبر اللفظ نصاً عليه. فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] نص على نفي المماثلة بين البيع والربا، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه.

وقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء:4] نص على قصر أقصى عدد الزوجات على أربع، لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] نص على وجوب طاعة الرسول في قسمة الفئ إعطاءً ومنعاً لأنه المقصود من سياقه. وحكمه حكم الظاهر، فيجب العمل بما هو نص عليه، ويحتمل أن يؤول أي يراد منعه غير ما هو نص عليه، ويقبل النسخ على ما بينا فى الظاهر. ولهذا أخذ من قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم ... } [النساء:4] ، إباحة الزواج وقصر العدد على أربع أو واحدة. فكل من الظاهر والنص واضح ألدلاله على معناه، أي لا يتوقف فهم المراد من كل منهما على أمر خارجي، ويجب العمل بما وضحت دلاله عليه إذا ما وجد ما يقضي هذا التأويل. والتأويل معناه في اللغة: بيان ما يؤول إليه المر، وقال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، ومنه المال. ومعناه في اصطلاح الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ومن المقرر أن الأصل عدم صرف اللفظ ظاهره، وأن تأويله أي صرفه عن ظاهره، ولا يكون صحيحاً إلا إذا بني على دليل شرعي من نص أو قياس، أو روح التشريع أو مبادئه العامة، وإذا لم يبن التأويل على دليل شرعي صحيح بل بني على الأهواء والأغراض والانتصار لبعض الآراء، كان تأويلاً غير صحيح، وكان عبثاً بالقانون ونصوصه، وكذلك إذا عارض التأويل نصاً صريحاً، أو كان تأويلاً إلى ما لا يحتمله اللفظ. من أمثلة التأويل الصحيح: تخصيص عموم البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ

اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ، بالأحاديث التي نهت عن بيع الغرر، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وهذا من تأويل الظاهر، لأن الآية كما قدمنا، نص ظاهر في إحلال كل بيع ونص في المماثلة. وتخصيص عموم المطلقات في قوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق:4] . وتقييد الدم المطلق في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} [المائدة:3] ، بقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام:145] . وهكذا من كل تخصيص أو تقييد، قضى به التوفيق بين نصوص القرآن والسنة. وكذلك تأويل الشاة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في كل أربعين شاة شاة)) ، والصاع من تمر في حديث المصرة: ((من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار بين أن يمسكها وبين أن يردها وصاعا من تمر)) ، فإن ظاهر الحديث الأول أنه لا يجزئ في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزئ قيمتها، وظاهر الحديث الثاني أنه إذا رد المشتري الشاة المصراة لا يجزئ في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر. وهذا الظاهر، تقتضي حكمة التشريع والأصول العامة في التضمين تأويله وصرفه عن ظاهره، وإرادة معنى آخر يتفق معهما، لأن الغرض من إيجاب الشاة زكاة للأربعين دفع حاجة الفقراء، وقد تكون دفع حاجة الفقير بقيمة الشاة أكثر توافراً، فيراد بالشاة شاة، أو ما يعادلها من كل مال متقوم، ولأن الغرض من إيجاب صاع من تمر هو تعويض البائع عما أتلفه من لبن شاته. وقد يتراضيان على التعويض بقيمة اللبن، أو بأي تعويض آخر غير الصاع من التمر، والمقصود هو مثل ما أتلف أو قيمته، وهذا هو الأصل العام شرعاً في ضمان المتلفات. وكذلك تأويل الثلث للأم بثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين في إحدى المسألتين الغراوين، منعاً من زيادة نصيبها في الإرث عن نصيب الأب. ومن أمثلة ذلك في القانون الجنائي: لفظ الليل في جعله جريمة السرقة وفي جريمة إتلاف المزروعات ظرفاً مشدداً، فإذا أخذ بظاهر النص أريد بالليل من

غروب الشمس، إلى شروقها، ولكن هذا ربما لا يتفق وحكمة الشارع في جعل الليل ظرفاً مشدداً، لأن الغرض تشديد العقوبة على من يغتنم الظلام فرصة لارتكاب جريمته، فيراد بالليل إذا خيم الظلام، وربما لا يكون ذلك أثر غروب الشمس مباشرة. ومن التأويل الذي هو موضع نظر: تأويل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، بإرادة عشرة مساكين أو مسكيناً واحد عشر مرات. وقوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} (المجادلة:4) ، بإرادة ستين مسكيناً أو مسكيناً واحد ستين مرة. وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] بإرادة الهبة، أي إذا وهب أحدكم هبة فليعوض الواهب خيراً منها أو مثلها. وإغلاق باب التأويل كله والأخذ بالظاهر دائماً، كما هو مذهب الظاهرية، قد يؤدي إلى البعد عن روح التشريع والخروج عن أصوله العامة، وإظهار النصوص متخالفة. وفتح باب التأويل على مصراعيه بدون حذر واحتياط، قد يؤدي إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الأهواء، والحق هو في احتمال التأويل الصحيح وهو ما دل عليه دليل من نص أو قياس أو أصول عامة، ولا يأباه اللفظ بل يحتمل الدلالة عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، ولم يعارض نصاً صريحاً. 4- المفسر في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفسه على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل. فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ، فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاً، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة:36] ، فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص، وكثير من مواد العقوبات التي حددت العقوبات

على جرائم معينة، ومواد القانون المدني التي حصرت أنواعاً من الديون أو الحقوق أو فصلت أحكاماً تفصيلاً لا احتمال معه للتأويل. ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة، وألحقت من الشارع بيان تفسيري قطعي أزال إجمالها، وفصلها حيى صارت مفسرة لا تحتمل التأويل، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وكقوله {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، وكقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، فالصلاة والزكاة والحج والربا، كل هذه ألفاظ مجملة لها معان شرعية لم تفصل بنفس صيغة الآية. وقد فصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - معانيها بأفعاله وأقواله، فصلى وقال: ((صلي كما رأيتموني أصلي)) ، وحج وقال: ((خذوا عني مناسككم)) ، وحصل الزكاة وفصل الربا المحرم. وهكذا كل مجمل في القرآن، مكملً له مادام قطعياً، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الحديث: التفسير التشريعي، أي الذي مصدره الشارع نفسه، فإن الرسول أعطاه الله سلطة التفسير والتفصيل بقوله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وحكم المفسر: أنه يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره، ويقبل حكمه النسخ إذا كان مما بيناه في الظاهر، أي حكماً فرعياً يقبل التبديل. فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه، لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراًح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءاً مكملاً للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل المراد منه هو كذا لا غير. ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلاً منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا ليحتمل أن يراد غيره.

4- المحكم: لمحكم في إصلاح الأصوليين: هو ما دل على معناه الذي لا يقبل إبطالاً ولا تبديلاً بنفسه دلاله واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، فهو لا يحتمل التأويل أو إرادة معنى آخر غير ما ظهر منه، لأنه مفصل ومفسر تفسيراً لا مجال معه للتأويل، ولا يقبل النسخ في عهد الرسالة وفترة التنزيل ولا بعدها، لأن الحكم المستفاد منه، إما حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه، أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبر الوالدين، والعدل، أو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأييد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة)) . وحكمه أنه يجب قطعاً العمل به، ولا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا لا يقبل النسخ، لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخاً، ولا إبطالاً، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية، تملك إبطال ما جاء به أو تبديله، وسيأتي توضيح هذا في مبحث النسخ. وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، ويظهر اثر هذا التفاوت عند التعارض. فإذا تعارض ظاهر ونص يرجح النص، لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق، ولاشك في أن المقصود أصالة يتبادر إلى الفهم قبل غيره.

القاعدة الرابعة في غير الواضح الدلالة ومراتبه

فلهذا كانت دلالة النص أوضح من دلالة الظاهر، ولهذا يرجح الخاص على العام عند التعارض، لأن الخاص مقصود أصالة بالحكم، فاللفظ نص فيه، وهو في العام غير مقصود أصالة بل في ضمن أفراد. ومثال هذا قوله تعالى بعد عد المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، مع قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] . فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج خامسة لأنها مما وراء ذلكم، والآية الثانية نص في قصر إباحة الزواج على أربع، فلما تعارضا رجح النص لقوته في وضوح دلالته، وحرم زواج ما زاد على أربع. وإذا تعارض نص ومفسر يرجح المفسر، لأنه أوضح دلالة من النص من جهة أن تفسيره جعله غير محتمل للتأويل وجعل المراد منه متعيناً. ومثال هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المستحاضة تتوضأ لكل صلاة)) ، مع قوله: ((المستحاضة تتوضأ وقت كل صلاة)) ، فالأول: نص في إيجاب الوضوء لكل صلاة، لأنه يفهم من لفظه ومقصود من سياقه، والثاني مفسر لا يحتمل تأويلاً، لأن الأول يحتمل إيجاب الوضوء لكل صلاة ولو في وقت واحد، أو لوقت كل صلاة، ولو أدى في الوقت عدة صلوات، ولكن الثاني قطع هذا الاحتمال، فيرجح، وصار الحكم الشرعي هو إيجاب الوضوء للوقت وتصلي فيه ما شاءت من الفرائض والنوافل. القاعدة الرابعة في غير الواضح الدلالة ومراتبه ((غير الواضح الدلالة من النصوص وهو ما يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي، إن كان يزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا

بالاستفسار من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه أصلاً فهو المتشابه) قدمنا في القاعدة الثالثة أن مراتب الواضح الدلالة تتفاوت في وضوحها، وبينا في تلك القاعدة أقسام الواضح الدلالة، ونبين في هذه القاعدة أقسام الواضح الدلالة ومراتب خفائه وما يزال به الخفاء. وقد قسم الأصوليون غير الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام أيضا: الخفي والمشكل، والمجمل، والمتشابه. 1- الخفي: المراد بالخفي في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي يدل معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى البعض من الأفراد. ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو يكون له اسم خاص، فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفياً بالنسبة إلى الفرد، لأن تناوله له يفهم من نفس اللفظ، بل لابد له من أمر خارجي. مثال ذلك: لفظ السارق معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله. ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال (الطرّار) فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارق الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه جرأة المسارقة، ولذا سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أولا يصدق عليه فيعاقب تعزيزاً؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقاً وجوب قطع يده من طريق دلالة النص، لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافراً فيه. وكالنباش، فإنه أخذ مال غير مرغوب فيه عادة من قبور الموتى، كأكفانهم

وثيابهم، فهو يغاير السارق من جهة أنه لا يأخذ مملوكاً من حرز، ولذا سمي باسم خاص به، فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أو لا يصدق فيعاقب تعزيزاً؟! وقد ثبت للشافعي وأبي يوسف أنه سارق فتقطع يده، وثبت لسائر أئمة الحنفية أنه غير سارق فيعاقب تعزيزاً بما يردعه ولا تقطع يده، لأن أخذه مالاً غير مرغوب فيه ولا مملوك لأحد، ومن غير حرز، شبهة يسقط الحد. وكذا لفظ القاتل في حديث ((لا يرث القاتل)) ، هل يتناول القاتل خطأ أو بالتسبب أو لا يتناوله؟ والبائع إذا أخذ من المشتري نقوداً على أن يأخذ منها ثمن البيع ويرد الباقي فاختفى، هل يصدق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة؟ وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفياً بالنسبة إلى الأفراد. وأمثلة هذا في القوانين الشرعية والوضعية كثيرة، ومن أظهرها بعض الجرائم التي يشتبه في أنها جناية أو جنحة، أي في انطباق أحد اللفظين عليها. والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله. فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق من طرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين. ولذلك جعل بعضهم النباش سارقاً ولم يجعله آخرون، ومرجعهم في اجتهادهم لإزالة هذا الخفاء هو علة الحكم، وحكمته، وما ورد في هذا الشأن من النصوص، فقد تكون العلة أكثر توافراً في هذا الفرد، وربما لا تكون متحققة فيه، وقد يدل على حكمه نص آخر يتناوله بوضوح. 2- المشكل: المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لابد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث. فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من اشتباه في انطباق

معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن نفس اللفظ لكونه موضوعاً لغة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر. وقد ينشأ الإشكال في النص من لفظ مشترك فيه، فإن اللفظ المشترك موضوع لغة لأكثر من معنى واحد، ليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلابد من قرينة خارجية تعينه، كلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228] ، فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعينين هو المراد في الآية؟ وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاث أطهار؟ ذهب الشافعي وبعض المجتهدين إلى أن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار ولا الحيضات. وذهبت الحنفية وفريق آخر من المجتهدين لإلى أن القرء في الآية هو الحيض والقرينة: أولاً: حكمة تشريع العدة، فإن الحكمة في إيجاب العدة على المطلقة يعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر. وثانياً: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] ، فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض. وثالثاً: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان)) ، فالتصريح بأن عدة الأمة بالحيض بيان للمراد بالقرء في اعتداد الحرة، أما تأنيث اسم العدد فلمراعاة تذكير لفظ المعدود وهو القرء. وقد ينسأ الإشكال في النصوص بعضها ببعض، أي يكون كل نص حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. ومثال قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ

حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النشاء:79] ، مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} [النساء:78] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف:28] ، مع قوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] ، وسائر النصوص ظاهرها التعارض. والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتواصل بالقرائن والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، كما تبين من اجتهاد المجتهدين تعيين المراد بلفظ القرء في للآية واختلاف وجهة نظرهم في هذا التعيين. وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلاً صحيحاً يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا الدليل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع. 3- المجمل: لمراد بالمجمل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا يوجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض. فمن مجمل الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاصة، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والربا، وغير هذا من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعياً خاصاً لا معناه اللغوي. فإذا ورد لفظ منها في نص شرعي كان مجملاً حتى يفسره الشارع نفسه. ولذا جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة وبيان أركانها وشروطها وهيئاتها، وقال الرسول ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وكذلك فسر الزكاة والصيام والحج والربا وكل ما جاء مجملاً في نصوص القرآن. ومن المجمل اللفظ الغريب الذي فسره النص نفسه بمعنى خاص، كلفظ القارعة في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ {1} مَا الْقَارِعَةُ {2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ {3} يَوْمَ يَكُونُ

النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ {4} } [القارعة:1:4] ، ولفظ الهلوع في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً {21} } [المعارج:19:21] . ومن المجمل في نصوص القوانين الوضعية كلمة ((أصل الأوقاف)) الواردة بالمادة (16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن الشارع أراد بها معنى أجمله ولم يفصله، ولذا ظل السنين العديدة مثار الخلاف بين الهيئات القضائية في مصر حتى فصلها الشارع المصري بعض التفاصيل في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة الصادرة في سنة 1927 ونصها: ((كذلك لا تخص المحاكم المختلطة بالمنازعات المتعلقة مباشرة أو بالواسطة بأصل الوقف أو بصحته أو بتفسير أو تطبيق بعض شروطه أو بتعيين النظار وعزلهم)) . وكلمة الأحوال الشخصية الواردة في عبارة: ((وغير ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية في المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية)) ، فإن المراد منها مجمل فسره الشارع المصري أخيراً في المادة 2 من القانون رقم 91 سنة 1938م لتي بينت المراد من الأحوال الشخصية. وكلمات ضبط الإشهادات وكتابة سنداتها وتسجيلها الواردة في المادة 363 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ولهذا فسر الشارع كل كلمة منها بمادة. *فكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه بسبب وضعه لغة لأكثر من معنى إذا حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه فهو المشكل. * وكل لفظ لا يفهم منه المراد بنفسه إذا لم تحف به قرائن يتوصل بها إلى فهم المراد منه فهو المجمل. فسبب إجمال اللفظ إنا كونه من المشترك الذي لا تحف به قرينة تعين أحد معانيه، أو إرادة الشارع منه معنى خاصاً غير معناه اللغوي، أو غرابة اللفظ وغموض المراد منه. والمجمل بأي سبب من هذه الأسباب الثلاثة لا سبيل إلى بيانه وإزالة إجماله

وتفسير المراد منه إل بالرجوع إلى الشارع الذي أجمله، لأنه هو الذي أبهم مراده ولم يدل عليه لا بصيغة لفظية ولا بقرائن خارجية، فإليه يرجع في بيان ما أبهمه. وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل ولكنه بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل، وفتح الطريق للبحث والاجتهاد لإزالة إشكاله، ولم يتوقف بيانه على الرجوع إلى الشارع، لأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للبيان بالتأمل والاجتهاد. ومثال ذلك الربا، ورد في القرآن مجملاً وبينه الرسول بحديث الأموال الربوية الستة، ولكن هذا البيان ليس وافياً لأنه لم يحضر الربا فيها، وبهذا فتح الباب لبيان مت يكون فيه الربا قياسا على ما ورد في الحديث. ولفظ أصل الوقوف ورد في القانون مجملاً، وبينه الشارع في الفقرة 2 من المادة 28 المشكل، وفتح الطريق لبيانه بالاجتهاد. 4- المتشابه: المراد بالمتشابه في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه، ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره. والمتشابه بهذا المعنى ليس في النصوص منه شئ، فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام لفظ متشابه لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما يوجد في مواضع أخرى من النصوص مثل الحروف المقطعة في أوائل بعض السور: {الم} [البقرة:1] ، {ص} [ص:1] ، {حم} [غافر:1] ، ومثل الآيات التي ظاهرها أن الله يشبه خلقه في أن له يداً وعيناً ومكاناً، مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ

رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] ، فالحروف الهجائية المقطعة في أوائل بعض السور لا تدل بنفسها على المراد منها، ولم يفسر الله ما أراده منها فهو أعلم بمراده. وكذلك الآيات الموهم ظاهرها تشبيه الخالق بخلقه لا يمكن أن يفهم منها معنى ألفاظها اللغوية، لأن الله سبحانه منزه عن اليد والعين والمكان وكل ما يشبه خلقه، فليس كمثله شئ وهو السميع البصير، ولم يبين الشارع ما أراد منها فهو أعلم بمراده. هذا هو رأي السلف في معنى المتشابه، فهم يفوضون إلى الله علمه ويؤمنون به ولا يبحثون تأويله. وأما رأي الخلف في أن هذه الآيات ظاهرها مستحيل، لأن الله لا يد له ولا عين ولا مكان، ويراد به معنى يحتمله اللفظ ولو بطريق المجاز، وليس فيه تشبيه الخالق بخلقه. فقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، تأويله: قدرة الله فوق قدرتهم، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] ، واصنع الفلك برعايتنا وإحاطتنا، وقوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة:7] ، وتأويله: أنه سبحانه مع كل من يتناجون بعلمه وإحاطته وهكذا. ومنشأ هذا الخلاف اختلافهم في قوله تعالى في شأن المتشابهات: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، فمن جعل الوقف على لفظ الجلالة قال لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فنؤمن به ونفوض علمه له ولا نبحث في تأويله، ومن جعل الوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ، قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، فهم يعلمون تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ، ويتفق وتنزيه الخالق عن مشابهة خلقه. والذي يظهر لي أنه الحق: هو تفسير المتشابهات في القرآن بالمتشابهات أي المحتملات التي يكون احتمالها مجالاً للاختلاف في تأويلها، وهي تقابل المحكمات التي أحكمت عباراتها وحفظت من الاشتباه واحتمال التأويل. فعلى هذا ليس في القرآن ما لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما فيه ألفاظ تدل على المراد منها بنفسها من غير اشتباه ولا احتمال للتأويل والاختلاف، وفيه ألفاظ تدل على

القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

معنى ويحتمل أن يراد منها غيره، وهذه مجال البحث والاجتهاد لإزالة الاحتمال وتعيين المراد، وفيه ألفاظ لا تدل على المراد منها بنفسها ولكن أحاطها الشارع بقرائن أو ألحقها ببيان يفسر ما أراد منها، لأن الله انزل القرآن للتدبر والذكر فكيف يكون في آياته ما لا سبيل إلى فهمه مطلقاً؟! والمقطعات في أوائل بعض السور ذكرت للدلالة على أن القرآن الذي أعجز الناس هو مكون من حروفهم وليس من حروف أخرى غريبة عنهم، ولهذا يرى أن أكثر السور المبدوءة بهذه المقطعات فيها ذكر الكتاب بعد سرد هذه الحروف. القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته ((إذا ورد في النص الشرعي لفظ المشترك، فإن كان مشتركاً بين معنى لغوى ومعنى اصطلاحي شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، ولا يصلح أن يراد بالمشترك مهنياه أو معانيه معاً)) هذه القاعدة الخامسة والقاعدتان السادسة والسابعة الآتيتان خاصة ببيان الألفاظ الثلاثة التي ترد كثيراً في النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وهي اللفظ المشترك، واللفظ العام، واللفظ الخاص، وبيان ما يدل عليه كل واحد منهما إذا ورد في النص. والفرق الجوهري بين هذه الألفاظ الثلاثة من حيث المغنى: أن المشترك لفظ وضع لمعان متعددة بأوضاع متعددة: كلفظ السنة وضع للهجرية وللميلادية، ولفظ اليد اليمنى واليسرى، ولفظ القرش للعشرة مليمات والخمسة. وإن العام لفظ وضع لمعنى واحد، وهذا المعنى الواحد يتحقق في أفراد كثيرين غير محصورين في اللفظ وإن كانوا في الواقع محصورين، أي أنه بحسب

وضعه اللغوي لا يدل على عدد محصور من هذه الأفراد، وإنما يدل على شمول جميع هذه الأفراد كلفظ الطلبة يدل على معنى يتحقق في أفراد غير محصورين ويشملهم جميعاً. وإن الخاص لفظ لمعنى يتحقق في فرد واحد أو أفراد محصورين كلفظ محمد أو الطالب، أو الطلاب العسرة، أو مائة أو ألف. فالاشتراك يتحقق بتعدد المعاني التي وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة. والعموم يتحقق بدلالة اللفظ على شمول جميع الأفراد التي يصدق عليها من غير حصر. والخصوص يتحقق بدلالة اللفظ على الفرد أو الأفراد المحصورين التي يصدق عليها من غير شمول. فاللفظ المشترك، وهو ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، يدل على ما وضع له على سبيل البدل، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك، كلفظ العين وضع في اللغة للباصرة، ولعين الماء النابع، وللجلوس. ولفظ القرء وضع في اللغة للطهر، وللحيض. ولفظ السنة، ولفظ اليد. وأسباب وجود الألفاظ المشتركة في اللغة كثيرة، وأهمها اختلاف القبائل في استعمال الألفاظ للدلالة على معان، فبعض القبائل تطلق اليد على الذراع كله، وأخرى تطلق اليد على الساعد والكف، وأخرى تطلقها على الكف خاصة، فنقلة اللغة يقررون أن اليد في اللغة العربية لفظ مشترك بين المعاني الثلاثة. ومنها أن يوضع اللفظ على سبيل الحقيقة لمعنى، ثم يستعمل في غير ما وضع له مجازاً، ثم يشتهر استعمال هذا اللفظ في المعنى المجازي حتى يتناسى أنه مجازي، فيقرر علماء اللغة أن اللفظ موضوع لهذا ولهذا: كلفظ السيارة، ولفظ الدراجة، ولفظ المسرة. ومنها أن يوضع اللفظ لمعنى ثم يوضح اصطلاح شرعي أو قانوني لمعنى آخر، كلفظ الصلاة أو لفظ الدفع. وأيا كان سبب وقوع الاشتراك في الألفاظ لفة فإن الألفاظ المشتركة بين معينين أو أكثر ليست قليلة في اللغة، وواردة في النصوص الشرعية من آي القرآن وأحاديث الرسول، وهي كما قدمنا

من باب المشكل ما دامت توجد قرائن يتوصل بها إلى ترجيح أحد المعاني، وعلى المجتهد أن يزيل إشكالها ويعين المراد من كل لفظ منها 'ذا ورد في نص شرعي. والمشترك قد يكون اسماً كما مثلنا، أو فعلاً كصيغة الأمر للإيجاب وللندب، أو حرفا مثل الواو للعطف وللحال. فإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركاً بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي. فلفظ الصلاة وضع لغة للدعاء، ووضع شرعاً للعبادة المخصوصة، ففي قوله تعالى: {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} [الأنعام:72] ، يراد منه معناه الشرعي وهو العبادة المخصوصة لا معناه اللغوي وهو الدعاء. ولفظ الطلاق وضع لغة لحل أي قيد، ووضع شرعاً لحل قيد الزوجية الصحيحة، ففي قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] ، يراد منه معناه الشرعي لا اللغوي. وهكذا كل لفظ مشترك بين معنى لغوي ومعنى شرعي إذا ورد في نص شرعي، فمراد الشارع منه معناه الذي وضعه له، لأنه لما نقل هذا اللفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى الخاص الذي استعمله فيه، كان اللفظ في لسان الشارع الدلالة على ما وضعه الشارع له. وكذلك في نصوص القوانين الوضعية إذا كان اللفظ الوارد في النص له معنيان: معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح القانوني، وجب أن يراد به معناه القانوني لا اللغوي لسبب الذي بيناه، فلفظ الدفع ولفظ الحلول وغيرهما، يراد بها المعنى القانوني لا المعنى اللغوي، وكذا لفظ الضبط، ولفظ التسجيل. وإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركاً بين عدة معان لغوية، وجب الاجتهاد لتعيين المعنى المراد منها، لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد أن يستدل بالقرائن والأمارات والأدلة على تعيين هذا المراد. فلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228] ، مشترك بين الطهر والحيض، وقد بينا في الكلام على المشكل ما استدل به

بعض المجتهدين على أن المراد به الطهر، وما استدل به آخرون على أن المراد به الحيض. ولفظ اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [النساء:38] ، مشترك بين الزراع (من رؤوس الأصابع إلى المناكب) ، وبين الكف والساعد (من رؤوس الأصابع إلى المرافق) ، وبين الكف (من رؤوس الأصابع إلى الرسغين) ، وبين اليمنى واليسرى، وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العلمية على تعيين المراد منها في الآية، وهو المعنى الأخير أي من رؤوس الأصابع إلى الرسغين في اليمنى. ولفظ الكلالة في قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ} [النساء:12] ، يطلق لغة على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا بوالد من المخلفين، وعلى القرابة من جهة غير الولد والوالد. وقد استدل جمهور المجتهدين باستقرار آيات التوريث على تعيين أن المراد في الآية هو المعنى الأول. ولفظ الواو في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] ، ومشترك، يستعمل للعطف ويستعمل للحال، فإن أريد به هنا الحال كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه، والحال أنه فسق، أي ذكر عليه حين ذبحه اسم غير الله، وإن أريد به العطف كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقاً، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير الله أم لم يذكر. والمجتهدون انقسموا في تعيين المراد منها في الآية إلى رأيين، ولكل وجهة. ولا يصح أن يراد باللفظ معنيان أو أكثر من معانيه معا، بحيث يكون الحكم الذي ورد في النص متعلقً وقت واحد بأكثر من معنى، لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحد من معانيه، ووضعه لمعان متعددة إنما هو على سبيل البدل، أي أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك. فأما دلالته على هذا وذاك في وقت واحد، فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة

القاعدةالسادسة في العام ودلالته

ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء في الآية الطهر والحيض معاً، بحيث أن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاثة حيضات، لأن اللفظ لا يدل على هذا بأي طريق من طرق الدلالة. وكذلك الحال في نصوص القوانين الوضعية إذا ورد فيها لفظ مشترك بين عدة معان لغوية، ولم يبين الشارع المعنى الذي أراده منه، وجب الاجتهاد في تعيين المعنى، إما بواسطة نصوص أخرى في القانون، وإما بالرجوع إلى قواعد التشريع، ولا يصح أن يراد من لفظ مشترك في نص أكثر من معنى واحد، لأن اللفظ المشترك ما وضع إلا لمعنى واحد ولكنه دائر بين اثنين أو أكثر. القاعدةالسادسة في العام ودلالته إذا ورد في النص الشرعي لفظ عام ولم يقم دليل على تخصيصه، وجب حمله على عمومه وإثبات الحكم لجميع أفراده قطعاً، فإن قام دليل على تخصيصه وجب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص. وإثبات الحكم لهذه الأفراد ظنا لا قطعاً. ولا يخصص عام إلا بدليل يساويه أو يرجحه في القطعية أو الظنية. تعريف العام: العام: هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد، التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها، فلفظ ((كل عقد)) في قول الفقهاء: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية العاقدين، لفظ عام يدل على شمول كل ما يصدق عليه أنه من غير عقد من غير حصر في عقد معين أو عقود معينة. ولفظ ((من ألقى)) في حديث: ((من ألقى سلاحه فهو آمن)) ، لفظ عام يدل على استغراق كل فرد من غير سلاحه من غير حصر في فرد معين أو أفراد معينين.

ومن هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ لأنه دلالة اللفظ على استغراقه لجميع أفراده. وأن اللفظ إذا دل على فرد واحد كرجل، أو اثنين كرجلين، أو كمية محصورة من الأفراد كرجال ورهط ومائة وألف، فليس من ألفاظ العموم. وأن الفرق بين العام والمطلق، هو أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده، وأما المطلق فيدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد. فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه من الأفراد، والمطلق لا يتناول دفعة واحدة إلا فرداً شائعاً من الأفراد. وهذا هو المراد بقول الأصوليين: ((عموم العام شمولي، وعمومي المطلق بدلي)) . ألفاظ العموم: باستقرار المفردات والعبارات في اللغة العربية دل على أن الألفاظ التي تدل بوضعها اللغوي على العموم والاستغراق لجميع أفرادها هي: 1-لفظ كل، ولفظ جميع: ((كل راع مسئول عن رعيته)) ، {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] ، ((كل خطأ يحدث ضرراً بالغير يلزم فاعله بالتعويض)) . 2- المفرد المعرف بأل تعريف الجنس: {الزانية والزاني} [النور:2] ، {السارق والسارقة} [المائدة:38] ، {واحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275] ، ((البيع ينقل الملكية)) ، لأن الجنس يتحقق في كل فرد من أفراده لا في فرد خاص أو أفراد مخصوصين. 3- الجمع المعرف بأل تعريف الجنس: {والمطلقات يتربصن000} [البقرة:228] ، {والمحصنات من النساء} [النساء:24] ، والجمع المعرف بالإضافة: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103] ، {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] . 4- الأسماء الموصولة: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4] ، {واللأئي يئسن من المحيض} [الطلاق:4] , {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24] .

5- أسماء الشرط: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] . 6- النكرة في سياق النفي أي النكرة المنفية: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ((لا هجرة بعد الفتح)) ، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:233] . فلكل لفظ من هذه الألفاظ موضوع في اللغة وضعاً حقيقياً للدلالة على استغراق جميع أفراده، وإذا استعمل في غير هذا الاستغراق كان استعمالاً مجازياً، لابد له من قرينة تدل عليه وتصرفه عن المعنى الحقيقي. دلالة العام: لم يختلف الأصوليين في أن كل لفظ من ألفاظ العموم التي بيناها موضوع لغة لاستغراق جميع ما يصدق عليه من الأفراد، ولا أنه إذا ورد في نص شرعي دل على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الأفراد، إلا إذا قام دليل تخصيص على الحكم ببعضها. وإنما اختلفوا في صفة دلالة العام الذي لم يخصص على استغراقه لجميع أفراد، هل هي دلالة قطعية أو دلالة ظنية. فذهب فريق منهم وفيهم الشافعية إلى أن العام الذي لم يخصص ظاهر العموم لا قطعي فيه، فهو ظني الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص كان ظني الدلالة أيضاً على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فهو ظني الدلالة قبل التخصيص وبعده. ويترتب على هذا أنه يصح تخصيص العام بالدليل الظني مطلقاً، سواء كان أول تخصيص أو ثاني تخصيص، لأن الظني يخصص بالظني، وانه لا يتحقق التعارض بين الدليلين أن يكونا قطعيين أو ظنيين، بل يعمل بالخاص فيما دل عليه، ويعمل بالعام فيما عداه. وحجتهم على ما ذهبوا إليه أن استقرار النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا وخُصِّص، وعلى أن العام

الذي بقي على عمومه نادر جداً، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته. وإذا كان هذا الشأن والكثير فهو بناء على عام الكثير الغالب محتمل للتخصيص، وعلى هذا فالعام المطلق عن دليل يخصصه ظاهر في العموم لا قطعي فيه. وذهب فريق منهم وفيهم الحنفية إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهراً في دلالته على ما بقي بعد التخصيص، أي ظني الدلالة عليه. ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع الأفراد، وإذا خصص صار ظني الدلالة على ما بقي من أفراده بعد التخصيص. ويترتب على هذا أنه أن يصح العام أول تخصيص بدليل ظني، لأن الظني لا يخصص القطعي، وأنه يصح أن يخصص ثانياً وثالثاً بدليل ظني، لأنه بعد التخصيص الأول صار ظنياً، والظني يخصص الظني، وأنه يتحقق التعارض بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص القطعي لأنهما قطعيان. وحجتهم على ما ذهبوا إليه ((أن اللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما يصدق عليه معناه من الأفراد)) . واللفظ حين إطلاقه يدل على معناه الحقيقي قطعاً، فالعام المطلق عن قرينة تخصصه يدل على العموم قطعاً، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل، ولهذا استدل الصحابة والتابعون والأئمة والمجتهدون بعموم الألفاظ العامة التي وردت في النصوص مطلقة عن التخصيص، واستنكروا تخصيصها من غير دليل، فإذا خصص العام بدليل دل هذا على صرفه عن متناه الحقيقي وهو العموم، واستعماله معنى مجازي وهو الخصوص، وصار محتملاً لتخصيص ثان قياسياً على التخصيص الأول، لأن علة التخصيص الأول قد تتحقق في أفراد أخرى. ولهذا صار العام الذي خصص ظني الدلالة على ما بقي بعد التخصيص.

والذي يظهر لي بعد المقارنة بين أدلة الفريقين وأمثلتهما وشواهدهما أنه ليس بين رأييهما اختلاف جوهري من الناحية العلمية، لأنه لا خلاف بينهما في أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم على تخصيصه دليل، ولا في العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذي لم يقم دليل على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم، ما أرادوا بكونه قطعي الدلالة أنه لا يحتمل التخصيص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه ل يخصص إلا بدليل والقائلون بأنه ظني الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه يخصص بالدليل. أنواع العام: وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام: 1- عام يراد به قطعاً العموم، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كالعام في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ، ففي كل واحدة من هاتين الآيتين، تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص. 2- وعام يراد به قطعاً الخصوص، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراد، مثل قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، فالناس في هذا النص عام، ومراد به خصوص المكلفين لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ} [التوبة:120] ، فأهل المدينة والأعراب في هذا النص لفظان عامان مراد بكل منهما خصوص القادرين، لأن العقل لا يقضي بخروج العجزة، فهذا عام مراد به الخصوص، ولا يحتمل أن يراد به العموم.

3- عام مخصوص، وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم، مطلقه عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص، وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] . قال الشوكاني في التفريق بين العام الذي يراد به الخصوص، والعام المخصوص: العام الذي يراد به الخصوص هو العام الذي صاحبته حين النطق به قرينة دالة على انه مراد به الخصوص لا العموم، مثل خطابات التكليف العامة، فالمراد بالعام فيها خصوص من هم أهل للتكليف لاقتضاء العقل إخراج من ليسوا مكلفين، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] ، فالمراد كل شئ مما يقبل التدمير. وأما العام المخصوص فهو الذي لم تصحبه قرينة دالة على أنه مراد به بعض أفراده، وهذا ظاهر في دلالته على العموم حتى يقوم دليل على تخصيصه. تخصيص العام: تخصيص العام في اصطلاح الأصوليين: هو تبيين أن مراد الشارع من العام ابتداء بعض أفراده لا جميعها، أو هو تبيين أن الحكم المتعلق بالعام هو من ابتداء تشريعه حكم لبعض أفراده. فحديث: ((لا قطع في اقل من ربع دينار)) ، تخصيص للعام في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، لأنه تبيين لأن حكم القطع ما شرع لكل سارق وسارقة، وحديث: ((ليس للقاتل ميراث)) تخصيص لعموم الوارث في آيات المواريث، لأنه تبيين لأن حكم الإرث ما شرع لكل قريب. أما إذا شرع الحكم ابتداء متعلقاً بكل أفراد العام، ثم قضت المصلحة بقصر الحكم على بعض أفراده، وقام الدليل على هذا القصر فلا يسمى هذا في اصطلاح الأصوليين تخصيصاً، وإنما يسمى نسخاً جزئياً، لأنه إبطال العمل بحكم

العام بالنسبة لبعض أفراده. فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النورك6] ، هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ، لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عاماً، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته. ودل على هذا حديث ابن مسعود قال: كنا جلوس في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل أنصاري فقال يا رسول الله، أرأيتم الرجل يجد من زوجته رجلاً، فإن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟ ثم قال ((اللهم افتح)) ، فنزلت آية اللعان في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم000} [النور:6] ، الآيات. ومن هذا ينتج أن التخصيص في اصطلاح الأصوليين لابد أن يكون بدليل مقارن للتشريع العام، لأنه بهذا المقارنة يتبين أن المراد ابتداء من العام بعض أفراده، وأما إذا كان متأخراً عنه فهو نسخ جزئي له. دليل التخصيص: ودليل التخصيص قد يكون غير مستقل لفظاً عن نص العام بأن يكون متصلاً به كالجزء منه. وقد يكون مستقلاً عن نص العام، ومنفصلاً عنه. ومن أظهر الأدلة المتصلة غير المستقلة: الاستثناء، والشرط، والوصف، والغاية. فالاستثناء كقوله تعالى في آية المداينة، بعد أن أمر بكتابة الدين المؤجل: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} [البقرة:282] والشرط كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101] . والوصف كقوله تعالى: {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء:23] والغاية كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] .

ومن أظهر أدلة التخصيص المستقلة المنفصلة: العقل، والعرف، والنص، وحكمة التشريع. فمن التخصيص بالعقل، ما بيناه من قبل من تخصيص الناس في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، بمن عدا فاقدي الأهلية من الصبيان والمجانين، وتخصيص العام في كل خطاب تكليفي بمن هم أهل للتكليف، وتخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب القادرين على الجهاد مع الرسول، لأن العقل يقضي بأن يوجه الخطاب إلى من هم أهل له، وأن يخص الذي يقتضيه العقل، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية. ومن التخصيص بالعرف، تخصيص الوالدات في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، بمن عدا الوالدة الرفيعة القدر، التي ليس من عادة مثلها أن تلزم بإرضاع ولدها، كما ذهب إلى هذا الإمام مالك. وتخصيص الطعام في حديث نهي رسول الله عن بيع الطعام بجنسه متفاضلاً بالطعام الذي كان متعارفاً إطلاق لفظ الطعام عليه وقت التشريع. وتخصيص كل شئ في قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] ، بكل شئ قابل للتدمير. وبعض الأصوليين يعتبر دليل التخصيص في المثال الأخير الحس، وبعضهم يعتبره العقل والنتيجة واحدة، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فكثيراً ما يخصص العرف بعض الألفاظ العامة في مواد القانون، وكثيراً ما يخصص العرف التجاري بعض النصوص العامة في صيغ العقود. ومن التخصيص بالنص، ما أشرنا إليه من قبل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى في المطلقات قبل الدخول: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ، الذي خصص عموم قوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228] . ولا خلاف بين الأصوليين، في أنه يجوز تخصيص عام القرآن بالقرآن وبالسنة المتواترة، لأن نصوص القرآن والسنة المتواترة قطعية الثبوت، فيخصص

بعضها بعضاً، وأما تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة، فذهب جمهور الأصوليين إلى أنه سائغ، واحتجوا بوقوعه والاتفاق على العمل به، فحديث ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) ، خصص عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدةك3] ، وحديث: ((ليس للقاتل ميراث)) خصص عموم الوارث في آيات المواريث، وحديث الرجم خصص عموم الزاني والزانية، وحديث ((لا قطع في أقل من ربع دينار)) خصص عموم السارق والسارقة، وحديث ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) خصص عموم {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24] . ودعوى تواتر بعض هذه الأحاديث أو شهرتها لا يقوم عليها دليل، وهذا المذهب هو السديد، والذين منعوا تخصيص عام الكتاب بالسنة غير المتواترة يصطدمون بعدة تخصيصات نبوية، لا سبيل لهم إلى إنكارها، ولا إلى تأويلها، ولا إلى إثبات تواترها. وتخصيص نصوص في القوانين الوضعية لنصوص فيها كثير. فمن ذلك المادة 164 من القانون المدني، التي تجعل التمييز مناط المسؤولية عن العمل غير المشروع وتعويض ما ينجم عنه من ضرر، وقد خصت بفقرتها الثانية إذ تقرر انه إذا وقع الضرر من شخص عديم التمييز ولم يكن من يسال عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول، فغنه يجوز للقاضي إلزام من وقع منه الضرر بتعويض عادل. العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناء عليه، سواء كان السبب سؤالاً أم واقعة حدثت. لأن الواجب على الناس إتباعه، هو ما ورد به نص الشارع، وقد ورد نص الشارع بصيغة العموم فيجب العمل بعمومه، ولا يعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناء عليها، لأن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات، إلى التعبير بصيغة العموم قرينة على عدم اعتباره تلك الخصوصيات. روي أن قوماً قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر، ولو توضأنا بما معنا من الماء خشينا العطش، أنتوضأ بماء البحر؟ فقال الرسول: ((هو الطهور ماؤه

الحل ميتته)) ، فهذه الصيغة العامة ـ هو الطهور ماؤه ـ تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر كل أنواع الطهور في حال الضرورة والاختيار. فيجب العمل بعمومها، ولا عبرة بكون السؤال ورد خاصاً عن التوضؤ، ولا بكون السائلين سألوا عن حال ضرورتهم من الماء خشية العطش. وروى أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال الرسول لعم البنتين: ((أعط البنتين الثلثين وللزوجة الثمن، وما بقي فهو لك)) ، فهذا الحديث يدل على أن لبنتي المتوفى الثلثين، ولا اعتبار لكونهما لا مال لهما أو لكون أبيهما قتل في احد. وروى انه - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال: ((أيما إهاب دبغ فقد طهر)) ، فكل جلد دبغ صار طاهراً ولا اعتبار لخصوص جلد الشاة. قال الآمدي في الإحكام: أكثر العموميات وردت على أسباب خاصة. فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان، وآية الظهار نزلت في حق مسلمة بن صخر، وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية، إلى غير ذلك. والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير، فدل ذلك على أن السبب غير مسقط للعموم. نعم إذا ورد جواباً غير مستقل بنفسه عن السؤال بأن كان الجواب نعم، أولا، أو ما في معنى أحدهما، فمثال ما روي أن رسول الله سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: ((أينقص الرطب إذا يبس؟)) قالوا: نعم، قال: ((فلا إذا)) ، وأما في خصوصه فمثاله قول الرسول لأبي بردة وقد سأله عن الأضحية بجزعة من المعز: ((تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك)) ، فما دام الجواب الشرعي عن السؤال ورد تابعاً للسؤال في عمومه وخصوصه، وكان السؤال معاد في الجواب. وأما الجواب المستقل إذا ورد عاماً فهو عام ولا عبرة بخصوصيات سببه، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فمادة تحديد سن الزواج عامة، ولا عبرة

القاعدة السابعة في الخاص ودلالته

بخصوصيات الواقعة، أو الوقائع التي كانت سبب قي تشريعها. والمواد التي منعت سماع دعوى الزواج أو الطلاق أو النفقة في بعض الحالات عامة، ولا عبرة بخصوصيات الوقائع التي كانت سبباً في تشريعها. والمادة 115 من الدستور التي كانت التجديد النصفي كل خمس سنوات عامة، ولا عبرة بخصوصيات السبب الذي بني عليه تشريعها، لأن السبب كما قال الشافعي لا يصنع شيئاً، إنما تصنع الألفاظ. ويلاحظ الفرق بين حكمة تشريع النص وبين ما ورد النص بناء عليه من سؤال أو واقعة، فإن حكمة تشريع العام قد تخصصه بلا خلاف، وأما ما ورد النص بناء عليه فهو المراد بقولهم: لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ. القاعدة السابعة في الخاص ودلالته إذا ورد في النص خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعاً، ما لم يقم دليل على تأويله وإرادة معنى آخر منه، فإن ورد مطلقاً أفاد ثبوت الحكم على الإطلاق ما لم يوجد دليل يقيده، وإن ورد على صيغة الأمر أفاد لإيجاب المأمور به ما لم يوجد دليل يصرفه عن الإيجاب، وإن ورد على صيغة النهي أفاد تحريم المنهي عنه ما لم يوجد دليل يصرفه عن التحريم اللفظ الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد، أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد ولا تدل على استغراق جميع الأفراد. وقد يرد اللفظ الخاص مطلقاً من أي قيد، وقد يرد مقيداً بقيد، وقد يكون على صيغة طلب الفعل، مثل: ((اتق الله)) ، وقد يكون على صيغة النهي عن الفعل، مثل: ((ولا تجسسوا)) ، فيندرج في الخاص المطلق، والمقيد والأمر والنهي.

وحكم الخاص على وجه الإجمال: أنه إذا ورد نص شرعي دل دلالة قطعية على معناه الخاص الذي وضع له حقيقة، وثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن. فالحكم المستفاد من قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، هو وجوب إطعام عشرة مساكين، ولا تحتمل العشرة نقصاً ولا زيادة. والحكم المستفاد من حديث: ((في كل أربعين شاة شاة)) هو تقدير النصاب الذي تجب الزكاة فيه من الغنم بأربعين، وتقدير الواجب بشاة بلا احتمال زيادة أو نقص في هذا أو ذاك. ولكن إذا قام دليل يقضي تأويل هذا الخاص، أي إرادة معنى آخر منه يحتمل على ما اقتضاه الدليل. ومثال هذا ما قدمناه في تأويل علماء الحنفية الشاة في الحديث السابق بما يعم الشاة وقيمتها، وتأويلهم الصاع من تمر أو شعير في صدقة الفطر بما يعم الصاع وقيمته، وتأويلهم الصاع من تمر في حديث المصراة بما يشمله ويشمل أي عوض يماثل المتلف. فإذا ورد الخاص مطلقاً حمل على إطلاقه، وإذا ورد مقيداً حمل على تقييده. والفرق بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد: أن المطلق هو ما دل على فرد غير مقيد لفظاً بأي قيد، مثل: مصري، ورجل، وطائر، والمقيّد هو ما دل على فرد مقيد لفظاً بأي قيد، مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض. فالمطلق يفهم على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده، فإن قام الدليل على تقييده كان هذا الدليل صارفاً له عن إطلاقه ومبيناً المراد منه. ففي قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] ، الوصية مطلقة قيدت بالحديث، الذي دل على انه لا وصية بأكثر من الثلث، فصار المراد في الآية الوصية التي في حدود ثلث التركة. وإذا ورد اللفظ مطلقاً في نص شرعي، وورد هو نفسه مقيداً في نص آخر، إن كان موضوع النصين واحداً بأن كان الحكم الوارد فيهما متحداً، والسبب

الذي بني عليه الحكم متحداً، حمل المطلق على المقيد، أي: كان المراد من المطلق هو المقيد لأنه مع اتحاد الحكم والسبب، لا يتصور الاختلاف بالإطلاق والتقييد، فيكون المطلق مقيداً بقيد المقيد. مثال هذا: قوله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ 000} [المائدة:3] الدم هنا مطلق القيد. وقوله تعالى في سورة الأنعام: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] ، الدم هنا مقيد بالمسفوح، فالمراد بالدم في آية المائدة الدم المسفوح المنصوص على تحريمه في آية الأنعام، لأن الحكم في الآيتين واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم فيهما واحد وهو كونه دماً، فلو كان الدم محرم مطلق الدم خلا القيد وهو ((مسفوحاً)) من الفائدة. أما إذا اختلف النصاب في الحكم، أو في السبب، أو فيهما معاً، فلا يحتمل المطلق على المقيد بل يعمل بالمطلق على إطلاقه في موضعه، وبالمقيد على قيده في موضعه، لأن اختلاف الحكم أو السبب أو أحدهما قد يكون هو علة الاختلاف إطلاقاً وتقييداً. وهذا مذهب الحنفية وأكثر المالكية، وأما إذا اختلفا في السبب واتحد في الحكم فيحمل المطلق على المقيد. مثال النصين المختلفين حكماً مع اتحاد السبب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [الأنعام:6] ، وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة:6] ، والسبب في الآيتين واحد وهو التطهير لإقامة الصلاة، والحكم في الأول وجوب الغسل وفي الثانية وجوب المسح، ومثله قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} [النساء:23] ، وقوله {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء:23] . ومثال النصين المتحدين حكما المختلفين سبباً، قوله تعالى في كفارة القتل

خطأ: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، وقوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] . وقوله في شهود المداينة: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة:282] . وقوله في شهود المراجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] . ففي الآيتين الحكم واحد وهو وجوب تحرير رقبة، والسبب في الوجوب مختلف لأنه في إحداهما المداينة، والثانية المراجعة. فلا يعتبر المقيد بياناً ويحمل المطلق عليه إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا اتحد موضوعهما حكماً وسبباً. وأما إذا اختلف حكماً، أو سبباً، أو اختلفا حكماً وسبباً، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يفهم المطلق في موضعه على إطلاقه، ويفهم المقيد في موضعه على قيده، لأن اختلاف الحكم قد يكون سبباً في الاختلاف بالإطلاق والتقييد، أي أنه لما كان الحكم في آية الوضوء وجوب غسل الأيدي، أطلقها ولم يقيدها بكونها إلى المرافق، لأن التيمم رخصة شرعت للتخفيف عند عدم وجود الماء، فيناسبه التخفيف أيضاَ في إطلاق اليد فيجزئ كل ما يصدق عليه لفظ يد، وكذلك الحال إذا اختلف السبب فقد يكون القتل خطأ اقتضى تقييد الرقبة بالإيمان تشديداً للعقوبة، وإرادة المظاهر العودة لم يقتض هذا التشديد فيجزئ تحرير أية رقبة. صيغة الأمر: وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة الأمر أو صيغة الخبر الذي في معنى الأمر أفاد الإيجاب، أي طلب الفعل المأمور به أو المخبر

عنه على وجه الإلزام. فقوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، أفاد إيجاب قطع يد السارق والسارقة، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] ، أفاد إيجاب تربص المطلقة ثلاث قروء. واللفظ عند إطلاقه يدل على معناه الحقيقي الذي وضع له، ولا يصرف معناه الحقيقي غلا بقرينة، فإن وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب إلى معنى آخر فهم منها ما دلت عليه القرينة كالإباحة في قوله: {كلوا واشربوا} [البقرة:187] ، والندب في قوله: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ 0000} على قوله: {.... مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ، والتهديد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] ، والتعجيز في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة:23] ، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرائن. وإذا لم توجد قرينة اقتضى الأمر الإيجاب. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر مشترك بين عدة معان ولابد من قرينة لتعيين احد معانيه شأن كل مشترك، فهو موضوع لمعان متعددة. وصيغة الأمر لا تدل لغة على أكثر من طلب إيجاد الفعل المأمور به، ولا تدل على طلب تكرير الفعل المأمور به، ولا على وجوب فعله فوراً، فالتكرير أو المبادرة بالفعل لا تدل الصيغة عند إطلاقها على واحد منهما، لأن المقصود الآمر هو حصول المأمور به، وهذا المقصود يتحقق بوقوعه مرة في أي وقت، فإن وجدت قرينة تدل على التكرير كان هذا التكرير مستفاداً من القرينة لا من الصيغة. وكذلك إن وجدت قرينة تدل على المبادرة، ففي قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، استفيد تكرير طلب الصيام من تعليق الأمر به بشرط متكرر وهو شهود الشهر، كأنه قال: فكلما شهد أحدكم الشهر أحدكم الشهر وجب عليه الصيام، وكذا في قوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] . وفي الواجبات المحددة بأوقات استفيدت المبادرة من تحديد وقت للواجب يفوت بانتهائه. وفي الأوامر بالخيرات استفيدت المبادرة من قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران:123] ، وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] .

صيغة النهي: وإذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة النهي أو صيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم، أي طلب الكف عن المنهي عنه على وجه الإلزام والختم. فقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] ، أفاد تحريم زواج المسلم بالمشركات، وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة:229] ، أفاد تحريم أخذ عوض من المطلقات، لأن صيغة النهي على الرأي الراجح، موضوعة لغة للدلالة على التحريم فيفهم منها عند الإطلاق. وإذا وجدت قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، فهم منها ما دلت عليه القرينة، كالدعاء في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، والكراهة في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [البقرة:101] .وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة النهي من باب المشترك هي كالأمر والخلاف فيهما واحد. والنهي يقتضي طلب الكف دائماً وفوراً، لأنه لا يتحقق المطلوب وهو الكف ألا إذا كان دائماً، بمعنى انه كلما دعت المكلف نفسه إلى فعل المنهي عنه كفها، فالتكرير ضروري لتحقق الامتثال في النهي، وكذلك المبادرة لأن النهي عن الفعل إنما هو تحريمه لتلاقي ما فيه من مضار، وهذا واجب في الحال, لأن من نهي عن شئ إذا فعله ولو مرة في أي وقت لا يتحقق أنه امتثل، فتكرير الكف وكونه على الفور من مقتضيات النهي، فصيغة النهي المطلق تقتضي الفور والتكرير، وصيغة الأمر المطلق لا تقتضي فوراً ولا تكريراً.

القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية هذه القواعد التشريعية استمدها علماء أصول الفقه الإسلامي من استقراء الأحكام الشرعية، ومن استقراء عللها وحكمها التشريعية، ومن النصوص التي قررت مبادئ تشريعية عامة وأصولً تشريعية كلية، وكما تجب مراعاتها في استنباط الأحكام من النصوص تجب مراعاتها في استنباط الأحكام فيما لا نص فيه، ليكون التشريع محققاً ما قصد به موصلاً إلى تحقيق مصالح الناس والعدل بينهم: القاعدة الأولى في المقصد العام من التشريع ((والمقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم. فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس. ولا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي وتحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري)) . هذه القاعدة الأولى بيَّنت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية، سواء أكانت تكليفية أم وضعية، وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها، ومعرفة المقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.

لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، لأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع. لأن كثيراً من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية بنصوصه وروحه ومعقوله. وكذلك نصوص الأحكام التشريعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام، وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو الفعلية. فالمقصد العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى وأما الوقائع الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبينة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح السنة. ومنطوق هذه القاعدة: أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، لأن مصالح الناس في هذه الحياة تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسيناتهم فقد تحققت مصالحهم. والشارع الإسلامي شرع أحكاماً في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكماً لتحقيقه وحفظه،

وما شرع حكماً إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكماً إلا لتحقيق مصالح الناس وما أهمل مصلحة اقتضاها حال الناس لم يشرع لها حكماً. أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة: فهو الحس والمشاهدة، لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحته من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلاً: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقيه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في جبل، والحاجي أن يكون المسكن مما تسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد والمجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد تحقق لهم ما يكفل مصالحهم. أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة وحفظه فهو: استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام. وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعاً بالضروري والحاجي والتحسيني. فأما الضروري: فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى، والمفاسد. والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء: الدين والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فحظ كل واحد منهما ضروري للناس.

وأما الأمر الحاجي: فهو ما تحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشتاق التكليف، وأعباء الحياة، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى، كما إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق. والأمور الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع إلى رفع الحرج عنهم، والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق التكليف، وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش. وأما التحسيني: فهو ما تقتضيه المروءة والآداب وسير الأمور على أقدام منهاج، وإذا فقد لا تختل حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فقد هذا الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة. والأمور التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج. ما الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟ الأمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشاء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، وبهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم. فالدين هو مجوع العقائد والعبادات والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده وإقامته: إيجاب الإيمان وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، وهي: شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإيقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسائر العقائد، وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها، إقامة الدين ووتثبيته في القلوب باتباع الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه، وتأمين الدعوة إليه من الاعتداء

عليها وعلى القائمين بها، ومن وضع عقبات في سبيلها. وشرع لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه: أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة غليه، ومن يفتن متديناً ليرجع عن دينه، وعقوبة من يرتد عن دينه، وعقوبة من يبتدع ويحدث في الدين ما ليس منه، أو يحرف أحكامه عن مواضعها، والحجر على المفتي الماجن الذي يحل المحرم. النفس: شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء. وشرع لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها. وشرع لحفظ العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشتريها أو يتناول أي مخدر. وشرع لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القاذف. شرع الإسلام لتحصيله وكسبه: إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات والتجارة والمضاربة. وشرع لحفظه وحمايته: تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره، والحجر على السفيه وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا. وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات. فمن هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاماً في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده وبحفظه وحمايته. وقد دل على هذا القصد بما قرنه ببعض هذه الأحكام من العلل والحكم التشريعية، كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة:193] ، وقوله في إيجاب القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ، وقوله سبحانه: {لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعليل النهي عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه: ((أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه)) ، إلى غير ذلك من العلل

التي تدل على قصد الشارع حماية الدين والأنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس. ما الذي شرعه الإسلام للأمور الحاجية للناس؟ الأمور الحاجية للناس، كما قدمنا ترجع إلى ما يرفع الحرج عنهم، ويخفف عليهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات والمبادلات، وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج، واليسر بالناس. ففي العبادات، شرع الرخص ترفيهاً وتخفيفاً عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم، فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو على سفر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، ولصلاة قاعداً لمن عجز عن القيام، وأباح التيمم لمن لم يجد الماء، والصلاة في السفينة ولو كان الاتجاه لغير القبلة، وغير ذلك من الرخص التي شرعت لرفع الحرج عن الناس في عباداتهم. وفي المعاملات، شرع كثيراً من أنواع العقود والتصرفات التي تقتضيها حاجات الناس، كأنواع البيوع والإيجارات والشركات والمضاربات ورخص في عقود لا تنطبق على القياس، وعلى القواعد العامة في العقود، كالسلم وبيع الوفاء والاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجتهم. وشرع الطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة،

وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق، وجعل الحاجات مثل الضروريات في إباحة المحظورات. وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيضاً عن القاتل خطأ، ودرأ الحدود بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل. وقد دل على ما قصده بهذه الأحكام من التخفيف ورفع الحرج بما قرنه ببعضها من العلل والحكم التشريعية، وكقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] ، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وقوله: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بالحنيفة السمحة)) . ما الذي شرعه الإسلام للأمور التحسينية للناس؟ الأمور التحسينية للناس ـ كما قدمنا ـ ترجع إلى كل ما يحمل حالهم ويجعلها على وفاق ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات أحكاماً تقصد إلى هذا التحسين والتجميل وتعود الناس أحسن العادات، وترشدهم إلى أحسن المناهج وأقومها. ففي العبادات شرع الطهارة للبدن، والثوب، والمكان، وستر العورة، والاحتراز عن النجاسات، والاستنزاه من البول. وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، وإلى التطوع بالصدقة والصلاة والصيام، وفي كل عبادة شرع مع أركانها وشروطها آداباً لها، ترجع إلى تعويد الناس أحسن العادات. وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، وعن تلقي الركبان، وعن التسعير، وغير ذلك مما يجعل معاملات الناس على أحسن منهاج. وفي العقوبات، يحرم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء، ونهى عن

المثلة والغدر، وقتل الأعزل، وإحراق ميت أو حي. وفي أبواب الأخلاق وأمهات الفضائل، قرر الإسلام ما يهذب الفرد والمجتمع ويسير بالناس في أقوم السبل. وقد دل سبحانه على قصده هذا التحسين والتجميل بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالى: {َلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] ، وقول لرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيب لا قبل إلا طيبا)) . فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم الشرعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجيتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم. وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشاطبي في أول الجزء الثاني من كتاب ((الموافقات)) في إثبات هذا بما لا مزيد عليه، وبعد أن أتى بأمثلة عديدة من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه: ((إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من كل أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه، ويؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس)) . وقد اقتضت حكمة الشارع الإسلامي وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاماً تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد. ففي الضروريات لما شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإظهار شعائره والاجتماع عليها. ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، شرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه

من غير أن يثير العداوة والبغضاء، لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما قد يؤدي على سفك الدماء وإلى نقيض المقصود من القصاص. ولما حرم الزنا لحفظ العرض حرم الخلوة بالأجنبية سداً للذريعة. ولما حرم الخمر حفظاً للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر. وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجباً، وكل ما يؤدي إلى المحظور ومحظوراً، وحذر من كثير من المباحات وقيد كثيراً من المطلقات، وخصص كثيراً من المطلقات، وخصص كثير من العمومات سداً للذرائع. ولما شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين تكميلاً للوفاق وحسن المعاشرة، فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه. وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع وإيجارات وشركات ومضاربات، كملها بالنهي عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران العقد به من شروط وما لا يصح، وغير ذلك مما يقصد به أن تكون المعاملات فيها سر حاجة الناس من غير أن تثير الخصومات والأحقاد. وفي التحسينيات لما شرط ندب فيها عدة أشياء تكلمها، ولما ندب إلى التطوع جعل الشروع فيه موجباً له، حيى لا يعتاد المكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه، ولما ندب إلى الإنفاق ندب أن يكون الإنفاق من طيب الكسب. فمن حقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، يتبين أن المقصود من كل حكم شرع فيها: حفظ ضروري للناس، أو حاجي لهم، أو تحسيني، أو مكمل لما يحفظ واحداً منها. ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها: مما قدمنا في بيان المراد من الضروري والحاجي والتحسيني يتبين أن الضروريات أهم هذه المقاصد لأنها على فقدها اختلال نظام الحياة، وشيوع الفوضى بين الناس وضياع مصالحهم. وتليها الحاجيات، لأنه يترتب على فقدها

وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات التي قد تنوء بهم، وتليها التحسينيات، لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا وقوع الناس في الحرج، ولكن يترتب على فقدها خروج الناس على مقتضى الكمال الإنساني والمروءة وما تستحسنه العقول السليمة. وعلى هذا: فالأحكام الشرعية التي شرعت لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة، وتليها الأحكام التي شرعت لتوفير الحاجيات، ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل، وتعتبر الأحكام التي شرعت للتحسينيات كالمكملة التي شرعت للحاجيات. وتعتبر الأحكام التي شرعت للحاجيات كالمكملة للتي شرعت لحفظ الضروريات. فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي، لأن المكمل لا يراعى إذا كان في مراعاته 'خلال بما هو مكمل له، ولذا أبيح كشف العورة إذا اقتضى هذا علاج أو عملية جراحية، لأن ستر العورة تحسيني، والعلاج ضروري. وأبيح تناول النجس إذا كان دواء أو اضطر إليه، لأن الاحتراز عن النجاسات تحسيني، والمداواة ودفع الضروريات ضروري. وكذلك أبيح بيع المعدوم في السلم والاستصناع، واغتفرت الجهالة في المزرعة والمساقاة وبيع الغائب، لأن حاجة الناس قضت بأن تراعى هذه التحسينات. ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري، ولهذا تجب الفرائض والواجبات على المكلفين الذين ليسوا في حال تبيح الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به، وإذ كل تكليف فيه إلزام بما فيه كلفة ومشقة، فلو روعي أن لا تنال المكلف أية مشقة لأهملت عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها، لن كل ما أمر به المكلف أو نهى عنه لحفظ الضروريات لا يخلو امتثاله من مشقة عليه، ولكن احتملت هذه المشقة في سبيل حفظ الضروريات للمكلفين. وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها إلا

إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه. ولهذا أوجب الجهاد حفظاً للدين وإن كان فيه تضحية النفس، لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس، وأبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد، لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل. وإذا أكره على إتلاف مال غيره، أبيح له أن يقي نفسه الهلاك بإتلاف مال غيره. فهذه الأحكام فيها إهمال حكم ضروري مراعاة لحكم ضروري أهم منه. فقد ثبت بالبرهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من الأحكام، لا تعدو حفظ واحد من الثلاثة أو ما يكمله، وأن هذه المقاصد مرتبة في مراعاتها حسب أهميتها، وعلى ترتيبها رتبت الأحكام التي شرعت لتحقيقها. وعلى هذه القاعدة الأصولية التشريعية الأولى، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، والمبادئ الشرعية الخاصة برفع الحرج، وعن كل مبدأ من هذه المبادئ تفرغت عدة فروع واستنبطت جملة أحكام. وهذه بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع عن كل مبدأ منها: 1- الضر يزال شرعا: من فروعه: ثبوت حق الشفعة للشريك أو الجار، وثبوت الخيار للمشتري في رد المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر على القسمة إذا امتنع الشريك، ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض، وقتل الضار من الحيوان، وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات. 2- الضرر لا يزال بالضرر: من فروعه: لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، ولا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر. 3- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: من فروعه: يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم، وتقطع يد السارق لتأمين الناس على أموالهم، ويهدم

الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، ويحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، يباع مال المدين جبراً عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه، تسعير أثمان الحاجيات إذا غلا أربابها في أثمانها، يباع الطعام جبراً على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع عن بيعه، يمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة. 4- يرتكب أخف الضررين اتقاء لأرشدهما: من فروعه: يحبس الزوج إذا ماطل في القيام بنفقة زوجته، ويحبس القريب إذا امتنع عن الإنفاق على قريبه، تطلق الزوجة للضرر وللإعسار، إذا اضطر المريض إلى تناول الميتة أو مال الغير تناوله، إذا عجز مريد الصلاة عن التطهير أو استقبال القبلة صلى كما قدر، لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة. 5- دفع المضار مقدم على جلب المنافع، ولذا جاء في الحديث: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) ، ومن فروعه: يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره، ويكره للصائم أن يبالغ في المضمضة أو الاستنشاق. 6- الضرورات تبيح المحظورات: من فروعه: من اضطر إلى مخمصة إلى ميتة أو دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله، من لم يستطيع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به، من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير إذنه. 7- الضرورات تقدر بقدرها: من فروعه: ليس للمضطر أن يتناول من المحرم إلا قدر ما يسد الرمق، ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الاحتراز منه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها، فالتيمم يبطل إذا تيسر التطهير بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل زواله.

وهذا بيان المبادئ الخاصة برفع الحرج وأمثلة مما يتفرع عنها: 1- المشقة تجلب التيسير: من فروعها: جميع الرخص التي شرعها الله ترفيهاً وتخفيفاً عنة المكلف لسبب من الأسباب التي تقتضي هذا التخفيف. وهذه الأسباب بالاستقراء سبعة: السفر: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وسقوط الجمعة، والجماعة، والتيمم. المرض: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، التيمم، والصلاة قاعداً، وتناول المحرم للعلاج. الإكراه: ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وترك الواجب، وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب الخمر. النسيان: ومن أجله رفع الإثم عمن ارتكب معصية ناسياً، ولم يبطل صوم من أكل في نهار رمضان أو شرب ناساً، ولم تحرم ذبيحة من ترك التسمية عليها عند ذبحها ناسياً. الجهل: ومن أجله ساغ رد المبيع بالعيب لمن اشتراه جاهلاً بعيبه، وساغ فسخ الزواج بالعيب لمن تزوج جاهلاً به، واغتفر التناقض في دعوى النسب للجهل، وكذلك اغتفر التناقض للوراث والوصي وناظر الوقف للجهل. عموم البلوى: ومن أجله عفي عن رشاش النجاسات من طين الشوارع وغيره مما لا يمكن الاحتراز عنه، وعفي عن الغبن اليسير في المعاوضات. النقص: ومن فروعه: رفع التكليف عن فاقد الأهلية كالطفل والمجنون، ورفع بعض الواجبات عن الأرقاء وعن النساء، ولذا لا تجب عليهن الجمعة ولا الجماعة، ولا الجهاد. 2- الحرج شرعاً مرفوع: من فروعه: فبول شهادة النساء وحدهن فيما لا

القاعدة الثانية فيما هو حق الله، وما هو حق المكلف

يطلع عليه الرجال من عيوب النساء وشؤونهن، والاكتفاء بغلبة الظن دون التزام الجزم والقطع في استقبال القبلة وطهارة المكان والماء والقضاء والشهادة، ومن فروعه: ما قرروه من انه إذا ضاق الأمر اتسع. 3- الحاجات تنزل منزله الضرورات في إباحة المحظورات: ومن فروعه: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجة الناس. ومما يتفرع على هذا المبدأ حكم كثير من عقود المعاملات وضروب الشركات التي تحدث بين الناس وتقتضيها تجارتهم، فإنه إذا قام البرهان الصحيح، ودل الاستقراء التام على أن نوعاً من هذه العقود والتصرفات صار حاجياً للناس بحيث ينالهم الحرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع من التعامل، أبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه ولو كان محظوراً لما فيه من الربا أو شبهته، بناء على أن الحاجيات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات. قال صاحب الأشباه والنظائر: ((ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا مصر، وقد سموه بيع الأمانة 000 وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح)) . القاعدة الثانية فيما هو حق الله، وما هو حق المكلف ((أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، إن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فحكمها حق خالص لله وليس للمكلف فيه خيار، وتنفيذه لولي الأمر. وإن كان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص للمكلف وله في تنفيذه الخيار. وإن كان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف

معاً، ومصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو حق خالص لله، وإن كانت مصلحة المكلف فيها أظهر، فحق المكلف فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف)) . القاعدة التشريعية الأولى تضمنت أن أحكام الإسلام بوجه عام إنما قصد بها تحقيق مصالح الناس، وهذه القاعدة التشريعية الثانية تضمنت أن المصلحة التي قصد بتشريع الحكم تحقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع، وقد تكون مصلحة خاصة للفرد، وقد تكون مصلحة لهما معاً. المراد بما هو حق الله ما هو حق المجتمع وشرع حكمه للمصلحة العامة لا لمصلحة فرد خاص، فلكونه من النظام العام، ولم يقصد به نفع فرد بخصوصه نسب إلى رب الناس جميعهم، وسمي حق الله. المراد بما هو حق المكلف ما هو حق الفرد، وشرع حكمه لمصلحته خاصة، وقد ثبت بالاستقراء أن أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، منها ما هو حق خالص لله، ومنها ما هو حق خالص للمكلف، ومنها ما اجتمع فيه الحقان، حق الله غالب، ومنها ما اجتمع فيه الحقّان، وحق المكلف غالب. فأما ما هو حق خالص لله فهو منحصر بالاستقراء فيما يأتي: 1- العبادات المحضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، فأن هذه العبادات وأسسها مقصود بها إقامة الدين وهو ضروري لنظام المجتمع، وحكمة تشريع كل عبادة منها على أنها لمصلحة عامة ى لمصلحة المكلف وحده. 2- العبادات التي فيها معنى المؤونة كصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله بالصدقة للفقراء والمساكين، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى الضريبة على النفس، لبقائها وحفظها، وهذا مرادهم بأن فيها معنى المؤونة، ولهذا لا تجب على الإنسان عن نفسه فقط، بل تجب عليه عن نفسه

وعمن يعولهم منن هم في ولايته، كابنه الصغير وخادمه. ولو كانت عبادة محضة ما وجبت على الإنسان إلا على نفسه، وكان ينبغي أن تعد الزكاة من هذا النوع من الأول وهو العبادات المحضة، لأن الزكاة عبادة فيها معنى الضريبة على المال لبقائه وحفظه، ولهذا تجب على رأي جمهور المجتهدين في مال فاقد الأهلية كالصبي، والمجنون، ولو كانت عبادة محضة ما وجبت إلا على البالغ العاقل. 3- الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية، سواء أكانت عشرية أم خراجية، وسواء أكان المفروض على الأرض العشرية العشر أم نصف العشر، والمفروض على الأرض الخراجية خراج وظيفة أم خراج مقاسمة، فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في المصالح العامة التي يقتضيها بقاء الأرض في يد أربابها واستثمارها كإصلاح طرق الري والصرف، وإقامة الجسور، وتمهيد الطرق وحمايتها من العدوان عليها، ومعونة الفقراء، والمساكين، وغير ذلك مما تستوجبه المصلحة العامة والتأمين الاجتماعي. وقد أطلق الأصوليين على ضريبة الأرض العشرية أنها مؤونة فيها معنى العبادة، وعلى ضريبة الأرض الخراجية أنها مؤونة فيها معنى العقوبة. أما العلة في أن كلاً منهما مؤونة فظاهرة، لن مؤونة الشئ ما به بقاؤه، وهذه الضريبة بها الأرض في أيدي أهلها مستثمرة غير معتدى عليها. وأما العلة في أن ضريبة الأرض العشرية فيها معنى العبادة فظاهرة أيضاً، لأن زكاة الخارج من الأرض تصرف مصارف الزكاة. وأما العلة في أن ضريبة الأرض الخراجية فيها معنى العقوبة فغير ظاهرة، لأن الخراج ضريبة وضعها عمر بن الخطاب على الأرض الزراعية التي استبقيت في أيدي غير المسلمين ليصرفها في المصالح العامة نظير الضريبة التي فرضها الله على الأرض التي في أيدي المسلمين لصرفها في المصالح العامة. والآراء التي تبودلت بين عمر وكبار الصحابة في وضع هذه الضريبة لا يؤخذ منها أن فيها معنى العقوبة. 4- الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد، وفيما يوجد في باطن الأرض من

الكنوز والمعادن، فإن الشارع جعل أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وخمسها لمصالح عامة بينها الله في القرآن بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] ، وجعل أربعة أخماس ما يوجد من المعادن والكنوز للواجد، وخمسة لمصالح عامة بينها. 5- أنواع من العقوبات الكاملة وهي، حد الزنا، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً فهي لمصلحة المجتمع كله. 6- نوع من العقوبات القاصرة، وهو حرمان القاتل من الإرث فهو عقوبة قاصرة، لأنه عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني، أو غرم مالي، وهو حق الله لأنه ليس فيه نفع للمقتول. 7- وعقوبات فيها معنى العبادة، كالكفارة لمن حنث في يمينه، والكفارة لمن أفطر في رمضان عمداً، والكفارة لمن قتل خطأ أو ظاهر زوجته، فهي عقوبة لأنها وجبت جزاء على معصية، ولهذا سميت كفارة، أي ستارة للإثم، وفيها معنى العبادة لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم، أو صدقة، أو تحرير رقبة. فهذه الأنواع كلها حق خالص لله، وتشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، وليس للمكلف الخيرة فيها، وليس له إسقاطها، لأن المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه، ولا يملك أن يسقط صلاة أو صوماً أو حجاً أو زكاة أو صدقة واجبة، أو ضريبة مفروضة، أو عقوبة من هذه العقوبات لأنها ليست حقه. وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله: تضمين من أتلف المال بمثله أو قيمته، هو حق خالص لصاحب المال عن شاء ضمن وإن شاء ترك، وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن، واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع أثبت هذه الحقوق لأربابها، وهم لهم الخيرة إن شاءوا استوفوا حقوقهم، وإن شاءوا

أسقطوها، ونزلوا عنها، لأن لكل مكلف الحق في أن يتصرف في حق نفسه، وهذه ليست من المصالح العامة. وأما ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه غالب: فهو حد القذف، لأنه من جهة أنه صيانة لأغراض الناس، ومنع من التعادي والتقاتل يحقق مصلحة عامة، فيكون من حق الله، ومن جهة أنه دفع للعار عن المحصنة التي قذفت وإعلان لشرفها وحصانتها يحقق مصلحة خاصة بها فيكون من حق الفرد، ولكن الجهة الأولى أظهر في العقوبة، فلهذا كان حق الله غالباً فيها، فليس للمقذوفة أن تسقط الحد عن قاذفها لأنها لا تملك إسقاط حد غلب حق الله فيه، وليس لها أن تقيم الحد بنفسها لأن الحدود التي هي حق خالص لله أو يغلب فيها حق الله لا يقيمها إلا الحكومة، وليس للمجني عليه أن يقيمها بنفسه. وأما ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف فيه غالب: فهو القصاص من القاتل العامد، فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم يحقق مصلحة عامة، ومن جهة أن فيه شفاء صدور أولياء المقتول، وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل يحقق مصلحة خاصة، ولكن الجهة الثانية غلبت، ولهذا كان حق المكلف غالباً معه، ولو جاز لولي المقتول أن يعفو فلا يقتص منه، ولا يقتص من القاتل ألا بناء على طلب ولي المقتول. ومن هذا يؤخذ أن العقوبات المقدرة في القرآن وهي الحدود الشرعية الخمسة، منها ما هو حق خالص لله، وهي حد الزنا، وحد السرقة، وحد السعي في الأرض فساداً بالخروج على الجماعة، ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب فيه، وهو حد قذف المحصنات. وفي هذين لا يملك المجني عليه العفو عن الجاني، ولا يملك أن يتولى عقابه بنفسه، لأن حق الله خالصاً أو غالباً لا يملك المكلف إسقاطه، والمنوط باستيفائه الإمام العام ((الحكومة)) . ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق المكلف غالب فيه، وهو القصاص، فللمجني عليه أن يعفوا عن القاتل، وإذا حكم على القاتل بالقصاص كان له أن يتولى تنفيذ الحكم، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] . ومما تقدم يتبين أمران: أولهما: أن كل حدّ من الحدود الشرعية فيه حق لله، أي للمجتمع، ولكن هذا الحق قد يكون خالصاً، وقد يكون معه حق للفرد، إما راجحاً وأما مرجوحاً. وثانيهما: أن الشريعة الإسلامية تفترق والنظرية الجنائية في قوانيننا الوضعية في عقوبة القصاص من القاتل العامد، وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها. ففي عقوبة القصاص من القاتل العامد: الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة فيها حق للمجني عليه وهو ولي المقتول، وفيها حق الله أي المجتمع، وجعلت حق المجني عليه أرجح، ورتبت على أن فيها حقاً راجحاً للمجني عليه أنها جعلت الحق له في رفع الدعوى بطلب الحكم بالقصاص، وجعلت له الحق إذا حكم بالقصاص أن يعفو، وأن يتولى التنفيذ. ورتبت على أن فيها حقاً لله وأن للحكومة في حال عفو المجني عليه أن تعاقب الجاني بما تراه رادعاً له ولغيره، لأن نزول أحد صاحبي الحق عن حقه لا يسقط حق الآخر. وأما القوانين الوضعية فقد جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على القاتل من اختصاص النيابة العمومية، ولا يملك المجني عليه عفواً ولا مباشرة تنفيذ، وحق العفو ومباشرة التنفيذ هو لولي الأمر العام. وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها: الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً لله أي للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على الزانية من اختصاص النيابة العمومية، وتنفيذ الحكم من اختصاص السلطة التنفيذية، ولا يملك زوجها ولا أي فرد غيره وقف إجراءات الدعوى عليها، ولا وقف تنفيذ الحكم عليها بعد صدوره. وأما في القوانين الوضعية، فلا ترفع الدعوى إلا بشكوى

القاعدة الثالثة فيما يسوغ الاجتهاد فيه

من زوجها، وله أن يوقف إجراءات الدعوى عليها، وإذا حكم عليها، فله أن يوقف تنفيذ الحكم برضاه بمعاشرتها. القاعدة الثالثة فيما يسوغ الاجتهاد فيه ((لا مساغَ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي)) الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين: هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية. فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب لأن ينفذ فيها ما دل عليه النص، لأنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث وبذل جهد. وما دام قطعي الدلالة فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد. وعلى هذا فآيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة، وتحتمل تأويلاً يجب تطبيقها، ولا مجال للاجتهاد في الوقائع التي تطبق فيها، ففي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، لا مجال للاجتهاد في عدد الجلدات. وكذلك في كل عقوبة أو كفارة مقدرة. وفي قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، بعد أن فسرت السنة العلمية المراد من الصلاة أو الزكاة، لا مجال للاجتهاد في تعرف المراد من أحدهما. فما دام النص صريحاً مفسراً بصيغة أو بما ألحقه الشارع به من تفسير وبيان، فلا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه. ومثل هذه الآيات القرآنية المفسرة السنن المتواترة المفسرة، كحديث الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها ومقدار الواجب فيه. أما إذا كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظني الورود

والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال، لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول، ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل. فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العلمية. فإن أداة اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، واجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام وما يطبق فيه من الوقائع، لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد. وقد يكون عاماً، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون على صيغة الأمر والنهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره. وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاماً، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق. وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلاً ففيها مجال متسع للاجتهاد، لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة. فالخلاصة: أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلاً، وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي. وعلى هذا أصول التيقين الوضعي، فقد جاء كتاب أصول القوانين: الأصل، أنه ما دام القانون صريحاً فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، لبناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل، لأن مرجع ذلك إلى المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.

وجاء في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه: ((إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل)) . فمادام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضي به. الأهلية للاجتهاد: بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلاً للاجتهاد. يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة: الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليبها كسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الاطلاع على لآدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر غيرهما، لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة وفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات. الثاني: أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت على هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسوراً له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة. وآيات الأحكام في القرآن ليست كثيرة، وقد خصها بعض المفسرين بتفسير خاص. ومن الممكن أن تجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع في مجموعة واحدة إلى كل الآيات القرآنية التي تضمنت أحكاماً في الطلاق، وكل الآيات التي تضمنت أحكاماً في الزواج، وفي الإرث، وفي العقوبات، وفي المعاملات، وفي غير ذلك من أنواع أحكام القرآن.

ومن الميسور أن يذكر مع كل آية ما ورد في الصحاح من سبب نزولها، وما ورد من الأحاديث التي فيها تبيين لمجملها، وما ورد من الآثار في تفسيرها، وبهذا تكون المجموعة القانونية في القرآن ميسوراً الرجوع إليها عند الحاجة، وميسوراً مقارنة مواد الموضوع الواحد بعضها ببعض، وفهم كل مادة على ضوء سائر مواد موضوعها لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومن الخطأ أن تفهم آية منه على أنها وحدة مستقلة. الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية. ولقد أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حيى كفوا من جاء بعدهم مؤونة البحث في الأسانيد، وصار معروفاً في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف. وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أعمال البيع أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها، ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام، وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي. ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا ((كتاب نيل الأوطار)) للإمام الشوكاني. الرابع: أن يعرف وجوه القياس، وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيراً بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيراً أيضاً بمصالح الناس وعرفهم، وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا ل

م يجد في القياس سبيلاً إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلاً أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه. ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة: أحدهما: أن الاجتهاد لا يتجزأ: أي انه لا يتصور أن يكون العالم مجتهداً في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهد في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات، لأن الاجتهاد كما يؤخذ مما قدمناه أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور المدينات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادراً على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا. ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبني عليه تشريعه. وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص باباً دون باب من أبواب الأحكام، وفهمها حق فهمها لا يتم غلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ أو تعليلاً تقرر في أحكام البيع. فلا يكون مجتهداً إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح. وثانيها: أن المجتهد مأجور، إن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكماً، ونصب لكل حكم دليل يدل عليه، وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه، فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها، واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، فهو مأجور على

هذا الاجتهاد وواجب عليه ان يعمل فى قضائه وافتائه بما أداه اليه اجتهاده لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح، والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده، لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجباً أتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذين ليست لهم ملكة الاجتهاد واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين ويقلدهم مصداق قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] ثالثها: أن الاجتهاد لا ينقض بمثله: فلو مجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالف في اجتهاده أن ينقض حكمه، لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر، لأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى أن لا يستقر حكم وإلى أن لا تكون للشئ المحكوم به قوة، وفي هذا مشقة وحرج. وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء، ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولاً، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه غليه اجتهاده الثاني، وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها ولم ينقض حكمه، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: ((لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)) .

القاعدة الرابعة في نسخ الحكم

القاعدة الرابعة في نسخ الحكم ((لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حياته، فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح نسخ بعض الأحكام التي وردت فيهما ببعض نصوصها نسخاً كليا، أو نسخاً جزئيا)) . النسخ في اصطلاح الأصوليين: هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمناً، إبطالاً كلياً أو إبطالاً جزئياً لمصلحة اقتضيته، أو إظهار دليل لاحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق. حكمته: وهذا النسخ وقع في التشريع الإلهي، ويقع في كل تشريع وضعي، لأن المقصود من كل تشريع سواء أكان إلهيا أم وضعيا تحقيق مصالح الناس. ومصالح الناس قد تتغير بتغير أحوالهم. والحكم قد يشرع لتحقيق مصالح اقتضتها أسباب، فإذا زالت هذه الأسباب فلا مصلحة في بقاء الحكم. كما ورد أن وفوداً من المسلمين وفدوا على المدينة في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين أخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الادخار، وقال عليه السلام: ((إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروا)) ، ولأن عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع لهم بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه، وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل. كما وقع في حكم الخمر، فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تحريمها في ابتداء التشريع، ولكن بين سبحانه أن فيها إثماً كبيراً، ومنافع للناس، وأن أثمها أكبر من نفعها، وكان هذا تهيئة وتمهيداً إلى تحريمها، لن الذي ضرره أكبر من نفعه يجدر بالعقل أن يجتنبه، ثم أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكان هذا تمهيداً ثانياً لتحريمها واجتنابها، لأن أوقات الصلاة متعددة ومتفرقة، فلا يأمن

المسلمون إذا شربوها أن يدخل عليهم وقت الصلاة وهم سكارى. ثم بعد ذلك جاء النص الصريح على أنها رجس من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها. وكذلك نظام التوريث، بقي فترة في بدء الإسلام على ما كان عليه عند العرب في جاهليتهم، ثم أخذ الإسلام في تعديله بالتدريج، فنسخ أولاً الإرث بالتبني، ثم نسخ الإرث بالتحالف والتآخي، ثم شرعت للتوريث أحكام مفصلة، هدمت الأسس الجائزة التي كان عليها أهل الجاهلية في نظام توريثهم. أنواعه: قد يكون النسخ صريحاً، وقد يكون ضمنياً. فالنسخ الصريح أن ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ومثال ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66،65] . وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الحياة الآخرة)) ، وقوله عليه السلام: ((إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لجل الدفة ألا فادخروا)) . وهذا النسخ الصريح هو الكثير في التشريع الوضعي فإن القوانين التي تصدر معدلة لقوانين سابقة، ينص فيها صراحة على النصوص الملغاة في تلك القوانين السابقة أو على إلغاء كل حكم في قانون سابق مخالف ما نص عليه في هذا القانون، كما نص الأمر الملكي بدستور سنة 1930 صراحة على إلغاء دستور سنة 1923، وكما نص قانون التسجيل صراحة على إلغاء نصوص القانون المدني. وأما النسخ الضمني فهو أن لا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ولكن يشرع حكماً معارضاً حكمه السابق، ولا يمكن التوفيق بين الحكمين غلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر اللاحق ناسخاً للسابق ضمناً.

وهذا النسخ الضمني هو الكثير في التشريع الإلهي، فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180] ، يدل على ذلك أن المالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه من تركته بالمعروف. وقوله تعالى في آية التوريث: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ 000} [النساء:11] ، يدل على أن الله قسم تركة كل مالك بين ورثته حسبما اقتضت حكمته، ولم يعد التقسيم حقاً للمورث نفسهن وهذا الحكم يعارض الأول، فهو ناسخ له على رأي الجمهور، ولذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نزلت آية المواريث: ((إن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) . ومثاله في التشريع الوضعي: الأمر الملكي الصادر بدستور سنة 1923 فإنه تضمن أحكاماً كثيرة تخالف الحكام الدستورية السابقة عليه، ولم ينص صراحة على إلغائها فاعتبر ناسخاً لها ضمناً، وقانون العقوبات الجديد لم ينص صراحة على إلغاء ما خالف أحكامه من قوانين العقوبات السابقة، فاعتبر ناسخاً لها ضمناً. ويرى بعض رجال التشريع الاكتفاء بهذا النسخ الضمني، والاستغناء عن التصريح بالنسخ، لأنه تأكيد في مقام لا يقتضي التأكيد، فإن تشريع الشارع حكماً معارضاً لحكم شرعه من قبل ولا يمكن الجمع بينهما هو عدول من الشارع عن حكمه السابق، وإبطال له من غير حاجة إلى التصريح بأنه عدل عنه أو أبطله, وقد يكون النسخ كليا، وقد يكون جزئيا: فالنسخ الكلي أن يبطل الشارع حكماً شرعه من قبل إبطالاً كلياً بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المكلفين، كما أبطل إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بتشريع أحكام التوريث ومنع الوصية للوارث، وكما أبطل اعتداد المتوفى عنها زوجها حولاً باعتدادها أربعة أشهر وعشراً، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] ، ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] .

والنسخ الجزئي أن يشرع الحكم عاماً شاملاً كل فرد من أفراد المكلفين، ثم يلغى هذا الحكم بالنسبة لبعض الأفراد، أو يشرع الحكم مطلقاً ثم يلغى بالنسبة لبعض الحالات. فالنص الناسخ لا يبطل العمل بالحكم الأول أصلاً، ولكن يبطله بالنسبة لبعض الأفراد أو بعض الحالات. مثال ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ، يدل على أن قاذف المحصنة الذي لم يقم بينة على ما قذف به يجلد ثمانين جلدة، سواء كان زوجها أم غيره. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *000} [النور:6] ،يدل على أن القذف إذا كان الزوج لا يجلد بل يتلاعن وزوجته. فالنص الثاني نسخ حكم جلد القذف بالنسبة على الأزواج فقط. وإنما يكون نسخاً جزئياً إذا شرع أولاً حكم العام على عمومه، أو المطلق على إطلاقه، ثم بعد ذلك بفترة حكم لبعض أفراده، أو بقيد. وأما إذا ورد العام في القانون وورد في القانون نفسه تخصيص بعض أفراده بحكم يكون هذا التخصيص بياناً للمراد من العام لا نسخاً، وكذلك يكون التقييد بياناً للمراد من المطلق لا نسخاً. وهذا معنى قول الأصوليين إخراج بعض أفراد العام من حكمه، أو تقييد المطلق بقيد إذا كان بدليل مقارن تشريع حكم العام أو المطلق، ويعتبر بياناً للمراد العام أو المطلق بمنزلة الاستثناء ولا يعتبر نسخاً. والحكام الشرعية وغن كانت شرعت تدريجياً في اثنين وعشرين سنة وشهور، ولكن بعد وفاة الرسول واستقرار التشريع، صارت في حق المسلمين قانوناً واحداَ، فالخاص منه بيان للعام، والمقيد بيان للمطلق، من غير نظر إلى أن هذه الآية بعد هذه الآية في التلاوة، أو في سورة بعد السورة التي فيها الآية، إلا ما نص عليه من ناسخ ومنسوخ. وقد يكون النسخ بتشريع حكم بدل حكم كما نسخ إيجاب الوصية للوالدين

والأقربين، بتقسيم الإرث، وكما نسخ الاتجاه على بيت المقدس في الصلاة بالاتجاه إلى الكعبة، وكما نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها بالتربص حولاً، باعتدادها بالتربص أربعة شهور وعشرة أيام، وقد يكون النسخ بمجرد إلغاء الحكم كنسخ زواج المتعة. وكما يجوز أن يكون الحكم الذي شرع مساوياً الحكم الذي نسخ، أو أخف منه على المكلفين، ويجوز أن يكون اشق منه عليهم، لأن هذا الإلغاء والتبديل إنما قضت به مصالح المكلفين، وقد تقضي مصلحتهم حكماً اشق عليهم من المنسوخ، فتحريم الخمر والميسر اشق عليهم من إباحتهما، ولكن قصد به المصلحة، وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، المراد بالخير ما يكون أصلح للمكلفين، سواء كان أشق عليهم أم مساوياً أم أخف، هذا إذا كان المراد آيات القرآن في قوله تعالى: {ما ننسخ من آية} [البقرة:106] . ما يقبل النسخ وما لا يقبله: ليس كل نص ورد في القرآن أو السنة، يقبل في عهد الرسول أن ينسخه نص لاحق، بل من النصوص نصوص محكمات لا تقبل النسخ أصلاً وهي: أولاً: النصوص التي تضمنت أحكاماً أساسية لا تختلف باختلاف أحوال الناس ولا تختلف حسناً وقبحاً باختلاف التقدير، كالنصوص التي تضمنت إيجاب الإيمان بالله، ورسله وكتبه واليوم الآخر، وسائر أصول العقائد والعبادات، كالنصوص التي قررت أمهات الفضائل من بر الوالدين، والصدق، والعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون قبيحاً في أية حال وعلى أي تقدير، كالنصوص التي دلت على أسس الرذائل من الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وعقوق الوالدين، والكذب والظلم، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون حسناً في أي حال. ومن أمثلة هذا النوع في القوانين الوضعية: المادتان 158،156 من الدستور، فهما لا تقبلان النسخ. ثانياً: النصوص التي تضمنت أحكاماً، ودلت بصيغتها على تأيدها، لأن

تأييدها يقتضي عدم نسخها، كقوله تعالى في بيان حكم قاذفي المحصنات: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] ، فإن لفظ أبداً يدل على أن هذا حكم دائم لا يزول، وكقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة)) ، فإنه كونه ماضياً إلى يوم القيامة يدل على أنه باق ما بقيت الدنيا. وثالثاً: النصوص التي دلت على وقائع وقعت وأخبرت عن حادثات كانت، كقوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6،5] ، وكقول الرسول: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) ، لأن نسخ النص الخبري تكذيب لمن أخبر به والكذب محال على الشارع. فهذه الأنواع الثلاثة من النصوص التي لا تقبل النسخ، وما عاداها يقبله في بدء التشريع، أي في حياة الرسول لا فيما بعده. ما يكون به نسخ: الأصل العام أن النص لا ينسخه إلا نص في قوته أو أقوى منه. وعلى هذا فنصوص القرآن قد ينسخ بعضها بعضاً، وقد تنسخ بالسنة المتواترة لأنها كلها قطعية وفي قوة واحدة. ونصوص السنة غير المتواترة قد ينسخ بعضها بعضاً لأنها في قوة واحدة، وقد تنسخ بنصوص القرآن والسنة المتواترة لأنها أقوى منها. فالنص القرآني الذي دل على اعتداد التوفي عنها زوجها بحول، نسخ بالنص القرآني الذي دل على اعتدادها بأربعة أشهر وعشرة أيام. والنص القرآني الذي دل على تحريم كل ميتة، خصص بالسنة العلمية المتواترة التي دلت على إباحة ميتة البحر والتي أكدها الرسول بقوله: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)) . والنص القرآني الذي دل على وجوب تنفيذ أية وصية، قيد بالسنة العلمية التي

منعت نفاذ الوصية بأكثر من الثلث وأكدها الرسول بقوله في حديث معاذ: ((الثلث والثلث كثير)) . وفي السنة النهي عن زيارة القبور ثم إباحتها، والنهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحته، وغير ذلك. وعلى هذا لا ينسخ نص قرآني أو سنة متواترة بسنة غير متواترة أو بقياس، لن الأقوى لا ينسخ بما هو أقل منه قوة، ومن أجل هذا تقرر انه لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول، لأنه بعد وفاة الرسول انقطع ورود النصوص واستقراء الأحكام، فلا يمكن أن ينسخ النص بقياس أو اجتهاد. وما يكون به النسخ في القوانين الوضعية هو على هذا الأصل، فلا ينسخ النص القانوني إلا نص قانوني في قوته أو أقوى منه. فنصوص القانون الدستوري لا ينسخها إلا نصوص قانون دستوري. ونصوص القوانين التشريعية الرئيسية تنسخها قوانين السلطة التشريعية الرئيسية، لأنها في قوتها، وتنسخها نصوص القانون الدستوري لأنها أقوى منها. ونصوص القوانين التشريعية الفرعية تنسخها قوانين السلطات التشريعية الرئيسية، ونصوص القانون الدستوري. ويؤخذ مما قدمناه أن: النص لا ينسخه إلا نص، وأن النص لا يتصور أن ينسخه الإجماع، لأن النص إذا كان قطعياً لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافة أصلاً، وإن كان ظنياً لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافته إلا مستنداً إلى نص، فيكون النص الذي استند إليه الإجماع هو الناسخ. والحكم الثابت بالقياس لا ينسخ بمثله، لأن المجتهد إذا استنبط حكماً في واقعة بطريق القياس ثم استنبط بالقياس هو أو مجتهد آخر في مثل هذه الواقعة حكماً يخالف الأول، فإن هذا ليس نسخاً للحكم الأول، وإنما هو إظهار لبطلان

القاعدة الخامسة في التعارض والترجيح

الدليل الأول أي لخطأ القياس السابق. والقياس لا ينسخ حكماً شرعياً ثابتاً بالنص أو الإجماع، لأنه ليس في مرتبتهما، فالقياس لا ينسخ حكمه ولا ينسخ حكماً. القاعدة الخامسة في التعارض والترجيح ((إذا تعارض النصان ظاهراً وجب البحث والاجتهاد في الجمع والتوفيق بينهما بطريق صحيح من طرق الجمع والتوفيق، فإن لم يمكن وجب البحث والاجتهاد في ترجيح أحدهما بطريق من طرق الترجيح، فإن لم يمكن هذا ولا ذاك وعلم تاريخ ورودهما كان اللاحق منهما ناسخاً للسابق، وإن لم يعلم تاريخ ورودهما توقف عن العمل بهما. وإذا تعارض قياسان أو دليلان من غير النصوص ولم يمكن ترجيح احدهما، عدل عن الاستدلال بهما)) . التعارض بين الأمرين معناه في اللغة العربية: اعتراض كل واحد منها الآخر. والتعارض بين الدليلين الشرعيين معناه في اصطلاح الأصوليين: اقتضاء كل واحد منهما في وقت واحد حكماً في الواقعة يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها. مثلاً: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] ، هذا النص يقتضي بعمومه، أن كل من توفى عنها زوجها تنقضي عدتها بأربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكانت حاملاً أم غير حامل. وقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، هذا النص يقتضي بعمومه أن كل حامل تنقضي عدتها بوضع حملها، سواء كانت متوفى عنها زوجها أم مطلقة.

فمن توفى عنها زوجها وهي حامل، واقعة يقتضي النص الأول أن تنقضي عدتها بتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، ويقتضي النص الثاني أن تنقضي عدتها بوضع حملها، فالنصان متعارضان في هذه الواقعة. ولا يتحقق التعارض بين دليلين شرعيين إلا إذا كانا في قوة واحدة، أما إذا كان احد الدليلين أقوى من الآخر، فإنه يتبع الحكم الذي يقتضيه الدليل الأقوى ولا يتلف لخلافه الذي يقتضيه الدليل الآخر. وعلى هذا يتحقق التعارض بين نص قطعي وبين نص ظني، ولا يتحقق التعارض بين نص وبين إجماع أو قياس، ولا بين إجماع وبين قياس. ويمكن بين آيتين أو حدثين متواترين أو بين آية وحديث متواتر، أو حدثين غير متواترين أو بين قياسين. ومما ينبغي التنبيه له: انه لا يوجد تعارض حقيقي بين آيتين أو بين حديثين صحيحين أو بين آية وحديث صحيح، وإذا بدا تعارض بين نصين من هذه النصوص فإنما هو تعارض ظاهري فقط بحسب ما يبدو لعقولنا، وليس بتعارض حقيقي، لأن الشارع الواحد الحكيم لا يمكن أن يصدر عنه نفسه دليل آخر يقتضي في الواقعة نفسها حكماً خلافة في الوقت الواحد. فإن وجد نصان ظاهرهما التعارض وجب الاجتهاد في صرفهما عن هذا الظاهر، والوقوف على حقيقة المراد منهما تنزيهاً للشارع العليم الحكيم عن التناقض في تشريعه، فإن أمكن إزالة التعارض الظاهري بين النصين بالجمع والتوفيق بينهما، جمع بينهما وعمل بهما، وكان هذا بياناً لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما. مثال1: قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180] . وقوله تعالى في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

الأُنثَيَيْنِ 000} [النساء:11] ، على آخر آية المواريث. الآية الأولى توجب على المورث إذا قارب الموت أن يوصي من تركته لوالديه وأقاربه بالمعروف، والآية الثانية توجب لكل واحد من الوالدين والأولاد والأقربين حقاً من التركة بوصية الله لا بوصية المورث. فهما متعارضان ظاهراً. ويمكن التوفيق بينهما بأن يراد في آية سورة البقرة الوالدان والأقربون الذين منع من إرثهم مانع كاختلاف الدين. مثال 2: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] . وقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . ويمكن التوفيق بينهما بان الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين، فإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، تربصت حتى تتم أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن أمضت أربعة أشهر وعشرة أيام قبل أن تضع حملها تربصت حتى تضع حملها. ومن طرق الجمع والتوفيق: تأويل أحد النصين أي صرفه عن ظاهره، وبهذا لا يعارض النص الآخر. ومن طرق الجمع والتوفيق: اعتبار أحد النصين مخصصاً لعموم الآخر، أو مقيداً لإطلاقه، فيعمل بالخاص في موضعه وبالعام فيما عداه، ويعمل بالمقيد في موضعه وبالمطلق فيما عداه. وأن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين، نظر في ترجيح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، فإذا أظهر البحث رجحان أحدهما على الآخر عمل بما اقتضاه الدليل الأرجح، وكان هذا تبييناً، لأن النصين غير متساويين في المرتبة. وقد يكون الترجيح من جهة الدلالة فيرجح المدلول عليه بعبارة النص على المدلول عليه بإشارة النص. ويرجح المفسر على الظاهر أو النص، وتقدمت عدة أمثلة لهذا التعارض والترجيح. وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بطريق الترجيح، نظر في تاريخ صدورهما عن الشارع، فإذا علم أن أحدهما سابق كان

المتأخر منهما ناسخ للسابق فيعمل به، ويعلم هذا من الرجوع على أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، وجمع الأمثلة التي قدمناها في نسخ بعض الآيات لأحكام بعض آيات أخرى، ثابت فيها أن الناسخ لاحق في وروده للمنسوخ. وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين ولا ترجيح أحدهما على الآخر، ولم يعلم تاريخ ورودها، نوقف عن الاستدلال بهما، ونظر في الاستدلال على حكم الواقعة التي فيها التعارض بدليل غيرهما كأنها واقعة لا نص فيها. وهذه صورة فرضية لا وجود لها. وإن كان التعارض بين دليلين شرعيين ليسا نصين، كالتعارض بين قياسين، فهذا قد يكون تعارضاً حقيقياً، لأنه قد يكون أحد القياسين خطأ، فإن أمكن ترجيح أحد القياسين على الآخر عمل به. ومن طرق ترجيح أحد القياسين على الآخر أن تكون علة أحدهما منصوصاً عليها، وعلة الآخر مستنبطة، أو تكون علة أحدهما مستنبطة بطريق إشارة النص، وعلة الآخر مستنبطة بطريق المناسبة. ومجال الأصوليين في طرق التوفيق أو الترجيح بين النصوص والأقيسة المتعارضة ذو سعة، ومن طرق الترجيح طرق موضوعية قرروا فيها مبادئ ترجيحية عامة، مثل قولهم: إذا تعارض المحرم والمبيح، رجح المحرم. وقولهم: إذا تعارض المانع والمقتضى، قدم المانع. والله يوفق من يريد الحق، ويهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.

§1/1