عقيدة الولاء والبراء - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

[1]

عقيدة الولاء والبراء [1] الولاء والبراء مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام ومقتضيات (لا إله إلا الله)، فلا يصح إيمان أحد إلا إذا والى أولياء الله، وعادى أعداء الله. وقد فرطت الأمة الإسلامية اليوم في هذا المبدأ الأصيل، فوالت أعداء الله، وتبرأت من أولياء الله؛ ولأجل ذلك أصابها الذل والهزيمة والخنوع لأعداء الله، وظهرت فيها مظاهر البعد والانحراف عن الإسلام، ولن تعود الأمة إلى سالف مجدها إلا إذا حققت كلمة التوحيد بكل مقتضياتها ومفاهيمها، ومن أعظمها وأجلها مفهوم الولاء والبراء.

تميز حقوق المسلمين فيما بينهم بالولاء الكامل

تميز حقوق المسلمين فيما بينهم بالولاء الكامل الحمد لله أحمده حمداً دائماً بلا فترة، وأشكره على نعمه التي لا تحصى كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ندخرها نجاة من عذاب الفترة، وسلاماً من العدو في العسرة واليسرة، نحمده على نعماه، ونصلي على عبده ورسوله محمد الذي اختاره واجتباه، وأحبه وارتضاه، وعظمه وكرمه، ورفعه على من سواه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه. أما بعد: فقد روى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده). هذا الحديث رواه أيضاً ابن ماجة والنسائي عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ فقال: لا، إلا ما في كتابي هذا. قال مسدد: فأخرج كتاباً، وقال أحمد: كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، وزاد في روايته: (من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). هذا الخبر رواه قيس بن عباد، وهو مخضرم، قال: (انطلقت أنا والأشتر) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، المعروف بـ الأشتر، أدرك الجاهلية، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه من تابعي أهل الكوفة، وشهد مع علي الجمل وصفين ومشاهده كلها، وولاه علي مصر، فلما كان بالقلزم شرب شربة عسل فمات. وقال العجلي في الأشتر: كوفي تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. قوله: (إلى علي) يعني: انصرف إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: هل أوصاك رسول الله صلى الله عليه وسلم (شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا) يعني: فهو عندي ليس عند غيري، قال مسدد: (فأخرج كتاباً) أي: أخرج علي كتاباً، وكان في هذا الكتاب ما خصه النبي صلى الله عليه وسلم به، وفي لفظ: (من قراب سيفه، فإذا فيه) يعني في هذا الكتاب، وهو الذي عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه (المسلمون تتكافأ دماؤهم) وفي لفظ: (المؤمنون تكافأ دماؤهم) بحذف إحدى التاءين. والتكافؤ: التماثل والتساوي، قال في شرح السنة: يريد به أن دماء المسلمين متساوية في القصاص، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والمرأة بالرجل، وإن كان المقتول شريفاً أو عالماً والقاتل وضيعاً أو جاهلاً، ولا يقتل به غير قاتله، وهذا على خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، كانوا لا يرضون في دم الشريف من دم قاتله الوضيع حتى يقتلوا عدة من قبيلة القاتل. قوله: (ويسعى بذمتهم) الذمة: هي الأمان، ومنه سمي المعاهد ذمياً؛ لأنه أمن على ماله ودمه بالجزية، (أدناهم) أي: أقلهم، فدخل كل وضيع بالنص، ودخل كل شريف بالفحوى، فإذا كان هذا في حق أدنى المسلمين منزلة فكيف بأشرفهم فمن باب الأولى أن تراعى ذمته. و (أدناهم) قيل: أقلهم عدداً وهو الواحد، أو أقلهم رتبة وهو العبد، والمعنى: إذا أعطى أدنى رجل من المسلمين أماناً فليس للباقين إخفاره، أو ليس لهم نقض عهده وأمانه، فلو أن واحداً من المسلمين أمن كافراً، حرم على عامة المسلمين دمه، وإن كان هذا المجير أدناهم وأقل المسلمين منزلة، مثل أن يكون عبداً، أو امرأة، أو عتيقاً، أو أجيراً تابعاً، أو نحو ذلك، فلا تخفر ذمته. وفي الجامع الصغير: (فيجير على أمتي أدناهم)، أي: أقلهم منزلة يكون ممن يجير. وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن ذمة المسلمين واحدة)، فإذا أمن واحد من المسلمين كافراً وأجاره؛ لزم باقي المسلمين أن يراعوا هذا العهد، وهذه الذمة، فلا يعتدي على هذا الذي أمنه أي واحد من المسلمين، حتى ولو كان وضيعاً أو عبداً أو حتى امرأة، ففي الحديث: (إن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وروى الشيخان عن أم هانئ رضي الله عنها في عام الفتح قالت: (قلت: يا رسول الله! زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ويجير عليهم أقصاهم) أي: إذا وجه الإمام سرية فأجاروا أحداً أجاره أيضاً الإمام. قوله: (ويرد سراياهم على قعدتهم) أو (يرد متسريهم على قاعدهم) القعيدة: هي الجيوش التي تخرج وتمضي في دار الحرب، فيبعثون سراياهم إلى العدو، فما غنمت يرد منه على القاعدين حصتهم؛ لأنهم كانوا ردءاً لهم، مثلاً: خرج الجيش الإسلامي خارج ديار الإسلام للحرب في ديار المشركين، فسرية جلست تكون ردءاً وحماية ووقاية للذين خرجوا، والأخرى خرجت لقتال الأعداء، فإذا غنم هؤلاء المجاهدون فيرد من الغنيمة على الذين كانوا ردءاً لهم؛ لأنهم خرجوا معهم، وكانوا يحمونهم. قال صلى الله عليه وسلم: (وهم يد على من سواهم) أي: أن المؤمنين يد واحدة على من سواهم من غير المؤمنين، وهذا كأنه دليل لما قبله من الأحكام؛ لأن المؤمنين يد على من سواهم، فهم متعاونون متناصرون، مجتمعون يداً واحدة على غيرهم من أرباب الملل والأديان، فلا يسع أحداً منهم أن يتقاعد ويتخاذل عن نصرة أخيه المسلم. ثم يمضي النبي صلى الله عليه وسلم في بيان هذا المعنى وتأكيده فيقول: (يرد مشدهم على مضعفهم) المشد: هو الذي دوابه شديدة قوية، والمضعف: هو الذي دوابه ضعاف، بمعنى: أن القوي من الغزاة يساعد الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة، كإنسان كان قوياً في جهاده وفي حربه، فإذا غنم غنيمة فإنه يرد منها على الضعيف الذي يضعف عما يستطيعه هو، فإذا كان الأقوياء والضعفاء في القتال لهم الغنيمة، فيصيرون كلهم فيها شركاء على السوية. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ومتسريهم على قاعدهم المتسري: هو الذي خرج من الجيش الذي مضى في السرية إلى قصد قتال العدو، وهم طائفة من الجيش يوجهون في الغزو، ويشترط في القاعد أن يكون قاعداً في الجيش الخارج للقتال، لا أن يكون مقيماً في دار الإسلام، بل يكون خرج معهم، لكنهم انقسموا إلى فريقين: فريق ذهب لقتال الأعداء، وفريق مكث يحميهم ويكون ردءاً لهم، وأيضاً هم يشتركون في الغنيمة. ثم قال: (ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (لعن الله من آوى محدثاً)، والمقصود بالحدث: الخيانة والجرم. قوله: (فعلى نفسه) أي: من جنى جناية كان مأخوذاً بها، ولا يؤخذ بجريمة غيره، (أو آوى محدثاً) أي: ضمه وحماه، وآوى الجاني من قتله، وحال بينه وبين أن يقام عليه الحد من القصاص أو غيره، فالإيواء: هو التقرير عليه والرضا به.

الولاء والبراء عصب كلمة التوحيد وأساسها

الولاء والبراء عصب كلمة التوحيد وأساسها من فضائل سورة (الكافرون) أنها براءة من الشرك؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ينام أن يختم أذكار النوم بقراءة هذه السورة، قال: (فإنها براءة من الشرك)، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم لطفه بخلقه، أن جعل هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات السماوية، وجعلها سبحانه وتعالى كاملة صافية نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك، وكتب تبارك اسمه وتعالى جده السعادة في الدارين لأتباع الرسالة، الذين قدروها حق قدرها، وقاموا بها على وفق ما أراد الله، وعلى هدي نبي الله صلى الله عليه وسلم، وسماهم أولياء الله وحزبه، وكتب عز وجل الشقاء والذلة على من حاد عن هذه الشريعة، وتنكب الصراط المستقيم، وسماهم أولياء الشيطان وجنده، وأصل هذه الرسالة وأصل الأصول في دين الإسلام هو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله. هذه الكلمة الطيبة التي يقول فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد. حقيقة هذه الكلمة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به ظاهراً وباطناً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وتنال الالتزام بهذا كله وتنال هذا التوحيد بالحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إلى ذلك هو تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. هذه الكلمة بكل مفاهيمها ومقتضياتها -أو بجل ذلك- قد غابت عن حس الناس اليوم إلا من رحم الله، ومن هذه المفاهيم الأساسية التي ترتبط بهذه الكلمة: مفهوم الولاء والبراء.

بعض مظاهر التفريط في مبدأ الولاء والبراء

بعض مظاهر التفريط في مبدأ الولاء والبراء من مظاهر الفساد الذي عاث في الأمة وغرقت فيه بعد أن تخلت عن مفهوم الولاء والبراء الأساسي لعقيدة التوحيد أن وقع كثير من المسلمين في محبة الكفار وتعظيمهم ونصرتهم على أولياء الله، وتنحية شريعة الله عن الحكم في الأرض، ورميها بالقشور والجمود، وعدم موافقة العقل والتقدم الحضاري. ومن هذه المظاهر أيضاً: استيراد القوانين الكافرة شرقية كانت أو غريبة، وإحلالها محل شريعة الله الغراء، وغمز كل مسلم يطالب بشرع الله بالتعفن والرجعية والتخلف والتطرف. ومن مظاهر هذا أيضاً: التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطعن في دواوينها الكريمة، والحط من قدر أولئك الرجال الأعلام الذين خدموا هذه السنة حتى وصلت إلينا. ومن ذلك أيضاً: أن قامت دعوات جاهلية جديدة تعتبر ردة في حياة المسلمين، مثل الدعوة إلى القومية العربية، أو الشورانية، أو الهندية، أو أي نوع من هذه القوميات الجاهلية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة. ومن ذلك أيضاً: إفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق وسائل التربية والتعليم، وسموم الغزو الفكري في المناهج الإعلامية والتربوية بكل أصنافها. أمام هذه الصور الكثيرة يحار المسلم حينما يتأمل في واقع المسلمين، وحينما ينظر في منابع الإسلام الصافية فيتساءل: لمن يكون ولاء المسلم؟ ولمن يكون عداؤه؟ ممن يتبرأ؟ ما حكم من يقع ويتورط في موالاة الكفار واتخاذهم أخداناً وأصحاباً ورفاقاً؟ وما حكم الإسلام في هذه المناهج الكفرية التي يروج لها المستغفلون أو الحاقدون ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وما هم إلا دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فحصل مسخ في تصورات المسلمين، حتى صار بعضهم يظن أن من أقر بتوحيد الربوبية وبأن هناك إلهاً، وأن مجرد الإيمان بوجود الله يكفي، ويسمون ذلك إيماناً، حتى إن أحدهم ترجم كتاباً ألفه بعض علماء العلوم الطبيعية وسماه: العلم يدعو إلى الإيمان؛ وأصل الكتاب: الإنسان لا يقوم وحده، وما في الكتاب إلا إثبات توحيد الربوبية، فكل عالم -مثلاً- في التشريح أو في النباتات أو في أي علم من العلوم الطبيعية، يحكي كيف توصل إلى معرفة وجود الله سبحانه وتعالى عن طريق آيات الله الكونية، وهذا اكتشاف للحقائق، الله سبحانه وتعالى وضعها في الآفاق وفي أنفسنا لنستدل بها على قدرته، ولنتدرج منها إلى الوصول إلى توحيد العبادة، فكما لا يخلق إلا الله إذاً لا يُعبد إلا الله، كما لا يرزق إلا الله إذاً لا يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فكثير من الناس يظن أن اليهودي أو النصراني لأنه مؤمن بوجود الله؛ فإنه بذلك يطلق عليه لفظ الإيمان. نقول: الله سبحانه وتعالى مع وجود جزئيات من الإيمان عند الكفار ومع ذلك قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]؛ مع أنهم قد يؤمنون باليوم الآخر، قد يؤمنون بالبعث والنشور، لكن الإيمان عبارة عن حقيقة كلية تتركب من أجزاء، وهذه الأجزاء مترابطة فيما بينها ومتشابكة بحيث لا ينفك أحدها عن الآخر، فإذا زال أحدها زال الجميع، ومن أجل ذلك يقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، مع أنه أتاهم رسول واحد، لكن الكفر برسول واحد يصح أن يطلق على من يتلفظ به أنه كافر بجميع الرسل، وكذلك النصارى لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم صاروا كالكافرين كفراً كلياً؛ لأنهم أيضاً لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فمن انهدم عنده جزء من هذه الحقيقة الكلية انهدمت حقيقة الإيمان كلها؛ ولذلك قال الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فالإنسان لا بد أن يفهم من لا إله إلا الله أنه: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فالمفهوم الذي يشيع عند كثير من المسلمين أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، هذا التوحيد كان موجوداً عند مشركي مكة، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله؛ لكن كانوا يشركون معه غيره في العبادة. فكون (لا إله إلا لله) فيها ولاء وبراء، وكون (لا إله إلا الله) معناها: توحيد الألوهية والعبادة، هذه معان كادت أن لا تخطر على كثير من الناس إلا من رحم الله. فالإنسان لا يستقيم له إسلام، ولا يصح له إسلام، ولو قال بالتوحيد ونفى الشرك عن نفسه، إلا بعداوة المشركين وموالاة المؤمنين، يقول الله سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعادة؛ كالنصرة والأنس والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك.

حال الأمة الإسلامية مع مبدأ الولاء والبراء

حال الأمة الإسلامية مع مبدأ الولاء والبراء لقد تغير لدى كثير من المسلمين في هذا الزمان مفهوم الولاء والبراء، وبعد عهدهم عن فهمه، ونوع هذا الجهل والتفريط في حق هذه الحقيقة لا يغير من هذه الحقيقة الناصعة شيئاً؛ لأن الولاء والبراء هما الصورة الفعلية التطبيقية الواقعية لعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو مفهوم ضخم في حفظ المسلم لمقدار ضخامة وعظمة هذه العقيدة، ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحقون الولاء، والبراء ممن يستحقون البراء، هذه القضية ليست تندرج -كما يحسب بعض الناس- في القضايا الجزئية أو الثانوية، ولكنها قضية إيمان وكفر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: إنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم -أي: حكم الولاء والبراء- بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده. أي: أنه لا يوجد حكم في القرآن بعد التوحيد وتحريم الشرك الذي هو ضد التوحيد، لا يوجد حكم أوضح وأقوى وأكثر أدلة من هذا الحكم، الذي هو موالاة المؤمنين ومعاداة المشركين. لقد قامت الأمة الإسلامية بقيادة البشرية دهراً طويلاً، حيث نشأت هذه العقيدة الغراء في ربوع المعمورة وأخرجت بالفعل الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟ لقد تقهقرت هذه الأمة إلى الوراء، بعد أن تركت الجهاد، وأخذت بأذناب البقر، حينما اشتغلوا بالزرع بمتاهات أمور الدنيا، وتراجعت بعد أن زهدت في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ثم تبعت الأمم الأخرى وصارت في ذيلها بعد أن ركنت إلى حياة الدعة والرفاهية والبذخ والمجون، ثم تبلبلت الأفكار بعد أن خلطت نبعها الصافي بالفلسفات الجاهلية والهرطقة البشرية، ثم دخلت هذه الأمة في طاعة الكافرين، واطمأنت إليهم، وطلبت صلاح دنياها بذهاب دينها؛ فخسرت الدنيا والآخرة، وموالاة الكفار هي منبع هذا الفساد والخسارة، كما قال الله عز وجل: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] يعني: إلا تراعوا حدود الولاء والبراء، {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].

أدلة الكتاب والسنة على أن الولاء والبراء من صميم عقيدة التوحيد

أدلة الكتاب والسنة على أن الولاء والبراء من صميم عقيدة التوحيد الولاء والبراء من أعظم لوازم ومقتضيات كلمة لا إله إلا الله، قال الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، ويقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32]. ويقول عز وجل مبيناً حقيقة أعداء الله من اليهود والنصارى ومن عداهم من المشركين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:89]، معلوم أن الإنسان أحياناً يكون إنساناً فاسداً، أو مستغرقاً في الشهوات والفساد وهو يعلم أن هذا فساد؛ لكن تجد الفاسد يحب أن يفسد غيره، فيكونون سواء في هذا الفساد، فتجده فاسداً في نفسه، ومفسداً لغيره حريصاً على إفساده، فهذا من مرض القلب، فالله سبحانه وتعالى الذي يطلع على قلوب هؤلاء الكفار، يخبر عما في قلوبهم فيقول: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. أما الأحاديث فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه وقال له: أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من كل كافر)، كان جرير ممن بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة خاصة على النصح لكل مسلم، وعلى أن يبرأ من كل كافر، حتى كان الرجل إذا أراد جرير أن يشتري منه شيئاً، أو باع له سلعة بسعر، وهو يرى أن السعر يستحق أكثر من ذلك، فيراجعه ويعطيه السعر الأغلى عملاً بهذا الحديث، حتى لو كان هو المشتري، فيزيد البائع لو علم أن السلعة تستحق أكثر من الثمن الذي طلبه البائع. وروى ابن أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك). إذاً هذه الأمور من أعظم ما تحصل به مرتبة ولاية الله سبحانه وتعالى: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً). قول ابن عباس رضي الله عنهما: (ووالى في الله) هذا بيان للازم المحبة في الله؛ لأنه بدأ بقوله: من أحب في الله وأبغض في الله، والتطبيق العملي للحب القلبي أن يوالي في الله وأن يعادي في الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه إشارة إلى أن مجرد الحب لا يكفي؛ بل لا بد مع ذلك الحب القلبي من الموالاة باطناً وظاهراً؛ لأن هذه هي لوازم المحبة، وهي النصرة والإكرام والاحترام وأن يكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً. وقوله: (وعادى في الله) هذا أيضاً لازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل والجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، وهذا إشارة من ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنه لا يكفي مجرد البغض؛ بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، كما قال الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. فالولاء في الله: هو محبة الله، ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم، والبراء هو بغض أعداء الله ومجاهدتهم، وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول: بأولياء الله، وسمى الفريق الثاني: أولياء الشيطان، فقال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76]. إن أعداء الله تعالى يريدون بكل ما أوتوا من قوة أن يقضوا على هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، فنجد الملحدين واليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم من أعداء الله يريدون تغيير عقيدة المسلمين وتجريد شخصيتهم؛ حتى ينفذ مخططهم في جعلهم حميراً للشعب المختار؛ لأن اليهود يعتقدون أن كل الأمم عندهم عبارة عن حمير خلقوا ليستخدمهم اليهود كالحمير؛ لأنهم شعب الله المختار -زعموا- كما نصت على ذلك بروتوكولات حكماء صهيون. لقد طارت الدعوات الملحدة والمشبوهة لتقضي على هذا الأصل الأصيل، فنادى قوم بالأخوة وبالإنسانية والمساواة، وأن الدين لله، والوطن ليس لله، ويعبرون عنه بقولهم: الدين لله والوطن للجميع، والله يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]. هذه الأدلة التي أسلفناها من الكتاب والسنة توضح أن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي: ألا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويوالي المؤمنين بأي مكان حلوا، ويعادي الكافرين ولو كانوا أقرب قريب.

مفهوم الولاء والبراء في اللغة والاصطلاح

مفهوم الولاء والبراء في اللغة والاصطلاح جاء في لسان العرب: يقول ابن الأعرابي: الموالاة: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه، فيقال: قد والاه، ووالى فلان فلاناً إذا أحبه. والمولى: اسم يطلق على معان كثيرة، منها الرب والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتِق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والنزيل، والصهر، والعبد، والمعتَق، والمنعم عليه. ويلاحظ في كل هذه المعاني أنها تقوم على النصرة والمحبة والولاية في النسب والنصرة والعتق. والموالاة: من والى القوم موالاة، قال الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كنت مولاه فـ علي مولاه): يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. والموالاة: ضد المعاداة، والولي: ضد العدو، يقول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]. قال ثعلب: كل من عبد شيئاً من دون الله فقد اتخذه ولياً، وقال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] أي: وليهم في نصرهم على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، وقيل: يتولى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم. والولي: القرب والدنو، والموالاة: المتابعة، والتولي يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38] يعني: تعرضوا، {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد:38]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] يعني: يتبعهم وينصرهم. أما البراء: فيقال: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] أي: إعذار وإنذار، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما دعاه عمر إلى العمل إلى أن يواليه فأبى أبو هريرة، فقال عمر: إن يوسف قد سأل العمل -أي: لما قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فقال أبو هريرة: إن يوسف مني بريء، وأنا منه براء، يعني: أنا بريء عن أن أكون مساوياً له في الحكم، وأن أقاس به، يعني: أنا أقل من أن أقاس بيوسف عليه السلام، فمعنى البراءة هنا: أنا بريء عن مساواته في الحكم وأن أقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة؛ لأنه مأمور بالإيمان به. والولاء بالمعنى الاصطلاحي: هو النصرة والمحبة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً، كما قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، فموالاة الكفار تعني: التقرب إليهم، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا. أما البراء بالمعنى الاصطلاحي: فهو البعد والخلاص والعداوة بعد الإنذار والإعذار، يقول شيخ الإسلام: الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا، أي: يقرب منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)، يعني: لأقرب رجل إلى الميت. فإذا كان ولي الله هو الموافق والمتابع له حين يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه؛ كان المعادي لوليه معادياً له، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، فمن عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فقد حاربه الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة).

العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بدأت يوم أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، من يومها قال الله عز وجل: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وقال عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]، فتكرر ذكر قصة آدم وإبليس في القرآن في سور كثيرة، في سورة البقرة والأعراف وغيرهما. وقد حذر الله عز وجل من اتباع إبليس اللعين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، وقال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، وقال عز وجل كاشفاً مخططه: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118]، وقال الله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:59 - 61]، فأي معصية أو شرك في الوجود إنما هو طاعة لإبليس؛ لأنه هو الذي يزينه وجنوده لعباد الله سبحانه وتعالى، فيوقعهم في الشرك وفي المعاصي. وما زلنا نقرأ في كتب التفاسير وكتب التوحيد أن هذا هو تفسير عبادة الشيطان، وما كان الإنسان يتخيل أنه فعلاً يوجد أناس يعبدون الشيطان حقيقة، حتى أخبرني من أهل الخبرة أخ حديث عهد بأمريكا، أنه يوجد في بعض البلاد في أمريكا فئة تعبد الشيطان، ويسمون أنفسهم (ديفن) و (ستيفر)، أي: عباد الشيطان، ويذكر هذا الأخ الفاضل أن معهم معابد مخصوصة لها سقوف يعبدون فيها الشيطان، ويأتي بعض المغفلين -للأسف- من أبناء المسلمين أو المحسوبين على المسلمين يسمعون تلك الأغاني الأمريكية الساخرة ويرددونها، مع أن فيها مقاطع من عبادة الشيطان! فهم مثل الببغباوات، يرددون ولا يفقهون ما يقولون، وهو فسق على فسق، وزيادة في الكفر، فأولئك يعبدون الشيطان حقيقة، وهناك معابد لعبادة الشيطان، ولا يستخفون بذلك، وهذا من أعجب ما نسمعه في هذه الأزمان! أما المشهد الأخير الذي يحكيه الله سبحانه الله وتعالى، وهو يقع بين الشيطان وعباده، فهو خطبة إبليس حينما يقف خطيباً يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، هذا الشرك لم يكن إلا مجرد أن دعاهم فاستجابوا له، كما جاء على لسانه، وكما يقولون: الأشياء تعود لأصلها، فأشباه إبليس يعودون إلى أصلهم وهو إبليس، والذي هو عدو آدم، وأولياء الرحمن وأتباع رسله يعودون إلى آدم.

استمرار العداوة مع الشيطان إلى يوم القيامة

استمرار العداوة مع الشيطان إلى يوم القيامة العداوة قائمة منذ اليوم الأول بين آدم وبين إبليس، فهذه الحرب وهذه العداوة قائمة لا تنقطع أبداً، وأي نوع من الأعداء يمكن أن تكسبه بمعاهدة أو بإحسان إليه، أو بأي شيء: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، إلا الشيطان فإنه لا يجدي معه إلا أن تتخذه عدواً: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] لا يجري معه أي شيء آخر، ولا يصلح معه أي حيلة ولا معاهدة ولا إحسان ولا أي شيء، سوى أن تتخذه عدواً كما قال الله عز وجل. أما أشباه إبليس وحزبه فيقول الله في شأنهم: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، وقال عز وجل أيضاً في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إلى آخر الآيات، وقال في المؤمنين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]. فالحرب والعداوة والتميز في الخصائص أمر قائم ومستمر بين الحزبين، حزب الرحمن وحزب الشيطان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. أولياء الشيطان بماذا أجابوا المرسلين؟ {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]، وقال: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:46]، أما المؤمنون: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]. ويقول ابن القيم: كل من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يتمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والفساد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه؛ فهو ولي الشيطان. انتهى كلامه. إن الحقائق والأدلة المسبقة تبين أن المؤمنين الذين هم أولياء الله لا يلتقون مع أعدائهم في منتصف الطريق بين الكفر والإسلام، أو أن يحيدوا يميناً وشمالاً؛ بل يقولون كما قال إمامهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، هذه هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يتلاقى المؤمنون أولياء الله مع غيرهم بأن يتنازلوا هم ويتراجعوا عن شركهم وكفرهم، ويحققوا معنى لا إله إلا الله، كما ذكرنا.

مظاهر الانحراف من مبدأ الولاء والبراء

مظاهر الانحراف من مبدأ الولاء والبراء فبعض الناس يبدءون مثل هذه البداية، لكن لا يستقيمون على هذا الطريق، فشياطين الإنس يزينون لهم كثيراً من السبل التي تحرفهم عن هذه الحقيقة الأصيلة من حقائق الإسلام، وهو الولاء والبراء.

التحالف مع الأحزاب العلمانية

التحالف مع الأحزاب العلمانية ومن ذلك أيضاً -وهو من أشد التلبيس على بعض الجماعات المنحرفة-: التحالف مع الأحزاب العلمانية، وكلمة (علمانية) أعتقد أنها كلمة مخفية جداً لأكثر الحقائق، ويترجمونها بتعبير أشد فيقولون: اللادينية؛ لكن هي في الحقيقة الكفر الصراح، والعلمانية تعني رفض الأديان، وفصل الدين عن الحياة، وجعل الدين عبارة عن قضية شخصية بين العبد وربه، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! فالعلمانية ما هي إلا كفر؛ بل هي أقصر الطرق الموصلة إلى الكفر، فهذا أيضاً من الضلال المبين والانحراف الخطير الذي شوش على عقيدة عوام المسلمين، وغير هذا الحد المتميز وهو موالاة المسلمين ومعاداة الكافرين، وقضى على هذا الأصل الأصيل من ملة إبراهيم عليه السلام: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة:4]، فكيف نضع أيدينا بأيدي حزب الوفد أو الأحرار أو غيرهم من أحزاب الشيطان؟! هل أعلنوا أن إحدى مطالبهم في الحياة هي نصرة دين الإسلام؟ A لا. إذاًً: هذه التحالفات هي من الجهل ومن السفاهة، ومن الانحراف في فهم أصل الإسلام الأصيل، ألا وهو عقيدة التوحيد ولوازمها من البراءة من المشركين وموالاة المؤمنين.

الدعوة إلى تقارب الأديان

الدعوة إلى تقارب الأديان لذلك نجد من يدعو إلى تقارب الأديان، وأن الأديان كلها شيء واحد، ومن يدعو إلى الأخوة الإنسانية، وعدم التعصب، ونحو هذه الدعوات المعروفة؛ بل بعض الناس من المسلمين الجهلة يتصورون ويدعون إلى أنه يمكن فعلاً أن يتوحد المسلمون مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى من أجل مواجهة الإلحاد! وكأن الذي هم عليه ليس بإلحاد؛ بل مع أن عبادة المسيح، وسب الله سبحانه وتعالى -كما عند اليهود- والتكذيب برسله وقتلهم، هذا من شر الإلحاد والكفر. فهذا من التلبيس، ولا يمكن أبداً أن يتلاقى المؤمنون مع الكافرين، فمحاولة الالتقاء هذا جهل بحقيقة هذا التوحيد، وبحقيقة الولاء والبراء التي هي أصل أصيل من أصول الإيمان، فلا يمكن أبداً أن يلتقي المؤمنون مع الكتابيين مثلاً من أجل محاربة الإلحاد؛ لأن الله أخبر عنهم فقال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، وقال عز وجل خبر صادق: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وأيضاً نحن لا نواليهم حتى يؤمنوا بالله وحده.

وجوب البراءة من المشركين وعداوتهم

وجوب البراءة من المشركين وعداوتهم لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغض، كما قال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا} [المجادلة:22] يعني: لا يمكن أن تجد قوماً {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]. إن هذه البراءة من المشركين هي القاسم المشترك بين كل الملل غير دين الإسلام، كل ما سوى الإسلام القاسم المشترك بينها: أننا نعاديهم في الله، ونتبرأ منهم ومن طريقتهم، مهما كانت أصنافهم من مشركين وكفار ومنافقين. فطبيعة المنهج الإسلامي تعكس طبيعة التعارض والتنافر الصريح بين منهجين في الحياة لا التقاء بينهما في صغيرة ولا كبيرة، فكما يصر المؤمنون على التمكين لدينهم في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ كذلك يصر الكفار على سحق المنهج الرباني الذي يهدد وجودهم ومنهاجهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، فليس للمشركين همٌّ ولا شغل إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم، وهم يبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. أما المشركون فقد أخبرنا الله عن دخيلة في قلوبهم، وعما في صدورهم، فقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، وقال عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، أما في أهل الكتاب فقال عز وجل مخبراً عما في قلوبهم تجاه المسلمين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] ما علة ذلك؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، القسيسون: هم العلماء، والرهبان: هم العباد. قوله: ((وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)) يعني: إذا سمعوا القرآن آمنوا به وتواضعوا للحق لما جاءهم، فهذا وصف فيمن أسلم ودخل في دين الإسلام، أما من أعرض عن القرآن من النصارى أو من غيرهم فإنه يدخل في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]. وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44]، وقال عز وجل: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119]. وقال في المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]، وقال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]، وقال أيضاً: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:7 - 8]. فجاء الرد الحاسم والحازم تجاه هذه المؤامرات من أعداء الله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، هذا أسلوب حصر وقصر للهدى فيما جاء به الله عز وجل، فما عداه ليس بهدى. فحقيقة العداوة هي اختلاف الدينين، وافتراق المنهجين: إما اتباع دين الله، أو اتباع ملة الكفر والطغيان. بعض الناس يتصور أن المسلمين قضيتهم فقط إقامة الحدود، فإذا استجاب الحكام لهذه المطالب، بأن تقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويرجم الزاني وهكذا، فإن القضية قد انتهت القضية ليست مساومة على بعض المطالب، القضية هي أنه لا بد أن يكون هناك إسلام لله سبحانه وتعالى، أن ينقاد كل الناس لله تعالى ولشرعه، وليس مجرد الأخذ بجزئيات من الشريعة والإعراض عنها من الجانب الآخر. فالقضية قضية إسلام لله، وليس الإسلام المقيد ببعض جزئيات الإسلام، وهذه المطالب لا شك أنها إسلامية، وواجبات من واجبات الأمة الإسلامية؛ لكن المشكلة أن هذه هي هدفنا في هذه الحياة، قد يجاملنا البعض بذكر آيات من القرآن أو يتبرك بها، أو يقيم بعض الحدود، فنرضى منه بذلك، كما يقولون: يركب الموجة لأن هذا يرضي الناس، وهذا كما نرى اليوم في بعض معارض الملابس يقول لك: هذه ملابس المحجبات، مع أنه حجاب نصفي، ليس هو الحجاب الذي أراده الله، بل هي كما يقولون: موضة إسلامية! يحاولون أن يصرفوا المرأة ويحرفوها عن الطريق الصحيح. فالقضية ليست قضية أحكام محددة، لكن القضية قضية شريعة في حالة إعراض عنها، ونبذ لها وراء ظهورهم، هذه هي القضية، فلا بد من إسلام لله سبحانه وتعالى بالمعنى الشامل للإسلام، وليس مجرد هذه الجزئيات، فلا نحصر همنا في أشياء محدودة، ولكن الأمر والقضية أوسع من ذلك وأكبر من ذلك، فإما دين الله واتباع شرعه، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أو دين باطل، واتباع الهوى والشهوات، والانضمام إلى حزب الشيطان، فعلى أولياء الرحمن أن يستعلوا بدينهم، وأن يعتزوا بهذا الدين فوق وطأة الباطل، فإنهم هم المنصورون، يقول الله عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].

تنبيهات تتعلق بمبدأ الولاء والبراء

تنبيهات تتعلق بمبدأ الولاء والبراء هنا بعض التنبيهات التي تتعلق بقضية الولاء والبراء، منها:

وجوب موالاة المؤمن لأخيه ولو ظلمه وأساء إليه

وجوب موالاة المؤمن لأخيه ولو ظلمه وأساء إليه الأمر الثاني: أن المؤمن يوالي أخاه المؤمن والمسلم حتى ولو ظلمه أخوه؛ لأن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، ولا يقضي على الأخوة الإسلامية، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ويقول الله عز وجل بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فمع وقوع الاقتتال أثبت الأخوة الإيمانية، فالقتال قد يكون فيه ظالماً ومظلوماً، ومع ذلك لا تنقطع الأخوة الإيمانية؛ لأنه ما زال في دائرة الإسلام والإيمان، فالمسلم الذي ظلمك لا تساوه بالكافر، حتى وإن أحسن إليك الكافر وعدل معك، فهذا الكافر ليس معه أعظم شعب الإيمان، وهو لا إله إلا الله، فهو منجس ومقذر بأقذر شيء في الوجود وهو الشرك، فهذا الكافر لا يستوي بالمسلم أبداً، حتى ولو تلبس المسلم ببعض المعاصي. ولكننا نجد بعض الناس المخذولين، الذين خذلهم الله ولم يوفقهم إلى هذا الفهم، يفضلون الكافر على المسلم لمجرد أن يصدر من المسلم معصية أو تقصير في جانب معين، وقد يخادعه الكافر في نوع من الإحسان بصورة أو بأخرى فيقول: انظر الكافر نفعني أفضل من المسلم، النصارى أحسن من المسلمين وهكذا!! فيخذل وينطق الشيطان على لسانه بهذه الكلمات العظيمة، فالمشرك ولو عدل معك وأحسن إليك فهو أعدى عدو للناس، يقول الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]، يعني: زكاة قلوبهم من هذا الشرك، لا يطهرون قلوبهم من الشرك، فالمشرك أقذر مخلوق في الوجود، حتى لو بدا جسده في أنظف صورة؛ لأنه نجس بأعظم شيء في الوجود: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، فينبغي الالتفات إلى هذا المعنى.

موالاة المؤمنين ومعاداتهم بحسب ما فيهم من الخير والشر

موالاة المؤمنين ومعاداتهم بحسب ما فيهم من الخير والشر أيضاً: إذا اجتمع في الرجل الواحد شر وخير، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، فهذا خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهو يستحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير، ويستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فقد يجتمع في الإنسان الواحد بعض موجبات الإكرام وبعض موجبات الإهانة. فالمسلم مثلاً قد تقطع يده بسبب سرقته؛ ولكنه مع ذلك يعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، والدليل على هذا المعنى وهو أن المسلم قد يحب من وجه ويبغض من وجه، يحب لإسلامه ويبغض لفسقه أو بدعته أو معصيته، حديث عبد الله بن حمار، الذي كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به كثيراً وقد شرب الخمر، فكان يقام عليه الحد، والمفروض أن الإنسان متى أقيم عليه الحد فلا يعير به ولا يشنع عليه، ولا يلام؛ لأن هذا الحد يطهره من المعصية، فلما أتي به يوماً قال رجل من الحاضرين: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).

البراءة من كل من حاد الله ورسوله

البراءة من كل من حاد الله ورسوله أولاً: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب إليه؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]. وقال عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [التوبة:71]. فهذا هو التنبيه الأول: أن المؤمن يتبرأ ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وجاء في تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث أن أول ما دخل الشر والنقص على بني إسرائيل: (أن الرجل منهم كان يلقى أخاه على ما يكره على معصية الله، فيقول: يا أخي! اتق الله ودع هذا؛ فإن هذا لا يحل لك، ثم يأتيه من الغد فيجده على نفس الحالة التي كان عليها بالأمس، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده)، يعني: بمذهب صيغة المبالغة، قال:) فيتمادى في مؤاكلته ومشاربته ومجالسته، ولا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه في سبيل الله، فمن أجل ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم كما ذكر في كتابه).

[2]

عقيدة الولاء والبراء [2] من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيجب محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين والمنافقين والبراءة منهم، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فإنه يحب من وجه ويبغض من آخر، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

البراءة من أهل البدع

البراءة من أهل البدع البراءة من أهل البدع تكون بعدم توقيرهم، وعدم الإنصات لهم، وعدم السماح لهم بنشر بدعتهم في الناس. عن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال له ابن سيرين: إما أن تقوم، وإما أن أقوم. وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـ أيوب: أكلمك بكلمة؟ قال: لا. ولا بنصف كلمة. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته، حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليه؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء. وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. وعن سعيد الثوري قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك أتجزع من الموت؟ قال: لا. ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه. وعن فضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه. وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، الحمد الله الذي أماته، هكذا قالوا. وعن محمد بن أسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك. وعن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. يعني: من أمن على إيمانه سلبه الله هذا الإيمان. وقال الأوزاعي: لا تمكنوا صاحب بدعة من جبل فيورث قلوبكم من فتنته ارتياباً. وعن أيوب قال: لقيني سعيد بن جبير فقال: ألم أرك مع طلق؟ قلت: بلى، فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للرجل المسلم إذا رأى من أخيه شيئاً يكرهه أن ينصحه. هذه بعض النصوص في ذم أهل البدع، وفي معاداتهم.

مراحل الولاء والبراء في الدين الإسلامي

مراحل الولاء والبراء في الدين الإسلامي لقد مر مبدأ الولاء والبراء بمراحل كثيرة في مكة وفي المدينة، نشير إليها باختصار: لقد أمر المسلمون في مكة بالكف عن المشركين، والصبر والإعراض عنهم، إلى أن انتهت هذه المرحلة بنزول سورة الكافرون: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] إلى آخر السورة التي هي براءة من الشرك. أما في العهد المدني فقد تمكنت موالاة المسلمين في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى كانوا يتوارثون، وتعرض المسلمون لكيد أهل الكتاب، وكيد المنافقين، فأمروا بالبراءة منهم وعداوتهم.

بعض مظاهر البراء من المشركين

بعض مظاهر البراء من المشركين لقد اتخذ الولاء والبراء مظاهر كثيرة، وسن القرآن العظيم مظاهر لهذا الأمر العظيم، فأما البراءة من المشركين، فقال الله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] إلى آخر الآيات المعروفة في سورة التوبة. من مظاهر البراء من المشركين: أن الله عز وجل منعهم من دخول المسجد الحرام فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بعد نزول هذه الآية أن يذهب وينادي: (ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). أيضاً من مظاهر البراءة من المشركين: منع نكاح المشركات، قال الله عز وجل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، وقال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]. أيضاً من مظاهر البراء من المشركين: منع المسلم من الإقامة في ديار الشرك بعد أن قامت دولة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يكون بين ظهراني المشركين). أيضاً بين القرآن البراءة من أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة، وهم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، فأمر القرآن بمفاصلتهم والبراءة منهم، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:70 - 71]، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98 - 99]، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:59 - 60]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68]. وقد يعتقد بعض المسلمين بأن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً، والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:73 - 75]، وقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]. أما المنافقون فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم علانيتهم، وأن يكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمره الله أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغهم بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم، أو أن يقف على قبورهم، وذكر أنه إذا استغفر لهم فلن يغفر الله لهم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، ويقول سبحانه وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]. وقال عز وجل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، وقال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:5 - 6]. ومن مظاهر الولاء والبراء أيضاً في المرحلة المدنية: قطع الموالاة بين المسلم وقريبه الكافر إذا كان محاداً لله ورسوله، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، إلى آخر الآية، قيل: نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه الجراح في يوم أحد، وفي أبي بكر حينما دعا ابنه للمبارزة في يوم بدر، وفي عمر حين قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حينما قاتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر، وقيل غير ذلك.

بعض مظاهر وصور الموالاة لأعداء الله

بعض مظاهر وصور الموالاة لأعداء الله أما صور الموالاة المحرمة ومظاهرها، فمنها: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أي: الشك في كفرهم، فمن أقبح صور الموالاة التي تهدد عقيدة المسلم، أن يشك في كفر الكافر، أي: لا يعتقد أنه كافر بهذا الشرك الذي ارتكبه، أو يشك في كفره، أو تصحيح المسلم لأي مظهر من مظاهرهم الكفرية. أيضاً من مظاهر ذلك: التولي العام، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياءً، أو الدخول في دينهم، يقول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]. يقول ابن جرير رحمه الله: من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين، فليس من الله في شيء، أو قد برئ من الله، وبرئ الله منه، لارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تجاروهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. يقول ابن حزم رحمه الله: قول الله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) إنما هو على ظاهره؛ لأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]. ومن صور الموالاة المحرمة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:101 - 102]، لما اتبعوا السحر، وتركوا كتاب الله، كما يفعله اليهود وكثير من المنتسبين إلى الإسلام، فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة، كإسناده أهل الباطل، واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل؛ كان له من العقاب والذم بحسب ذلك. ومن مظاهر الموالاة المحرمة مودتهم ومحبتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. ومن ذلك أيضاً: الركون إليهم، يقول الله عز وجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113]، يقول قتادة: يعني لا تودوهم ولا تطيعوهم. وقد خاطب الله عز وجل الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74 - 75]، فإذا كان هنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بمن هو دونه؟! ومن الموالاة المحرمة: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، يقول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، ومن أعظم ما يقع فيه المسلمون المداهنة والمجاملة على حساب إسلامهم، فأخذوا ينسلخون من دينهم شيئاً فشيئاً حتى لا يتهموا بالتعصب ولا بالتطرف، وحتى يرضى عنهم هؤلاء الكفار، الذين أخبر الله أنهم لن يرضوا حتى يترك المسلم دينه ويتنجس بكفرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) الحديث. ومن ذلك: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وأقرب شيء إلى الإنسان هو بطانة الملابس، فهي قريبة جداً من جسده، فكذلك الإنسان عندما يوالي هؤلاء الكفار، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، كان بعض المؤمنين يصافون المنافقين أي: يصير بينهم صفاء، ويواصلون رجلاً من اليهود، فنزلت هذه الآية تحذيراً من ذلك، وبطانة الرجل خاصته، تشبيهاً لها ببطانة الثوب التي تلي بطنه؛ لأنهم يستبطنون أمره، ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم، وقد بين الله العلة في النهي عن اتخاذهم بطانة فقال: ((لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)) أي: لا يفترون ولا يتركون جهدهم فيما يوردكم الشر والفساد، ثم إنهم ليرجون ما يشق عليك من الذل والهلاك. ومن الموالاة المحرمة: طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به، يقول عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. ومن ذلك: مجالستهم والركون إليهم وقت استهزائهم بآيات الله، ولذلك نهى الله عن مجالستهم فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، فإذا جالستموهم وهم يشتمون دين الله، أو يطعنون في فرائضه؛ فإنكم إذاً مثلهم، يعني: إن لم تقوموا عنهم في هذه الحال. ومن ذلك: توليتهم أمراً من أمور المسلمين، كالإمارة والكتابة وغيرها، بحيث يكونون رؤساء على المسلمين، ويكون لهم سلطان على ديار المسلمين، فإنهم لن يألوا المسلمين خبالاً وتآمراً عليهم، فالتولية شقيقة الولاية، لابد أن تؤدي إلى تمكين ونصرة، وتوليتهم فيه نوع من مناصرتهم ومحبتهم، وقد حسم الله الأمر أن من تولاهم فإنه منهم، فلا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. وهناك حادثة مشهورة وقعت أيام الملك الصالح إسماعيل، فقد كان في دولته رجل نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمكن منه، وكان قذاة في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين، وبلغ من أمره أنه وقع على رجل نصراني أسلم، فرده إلى دين النصرانية، وأخرجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنجة بأخبار المسلمين وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها، فكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وكانوا هم المقربين لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الأدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم! وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام، وحدث أن اجتمع في مجلس الملك الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مفاسد النصارى، فبسط لسانه في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، يعني: يقول الجاحد عليهم: الخيانة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منها في أهل الذمة، ويقول بعض العلماء حينما رأى في بعض مراحل التاريخ الإسلامي تمكنهم من المسلمين: بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام إلا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام ومن جملة كلامه أنه قال: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}. فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له: كيف يدري الحساب من جعل الوا حد رب الورى تعالى ثلاثة ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده؟! ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟! والمقصود أن من الموالاة، توليتهم والإعجاب بهم واستئمانهم، وقد خونهم الله، يقول عز وجل: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:7

نماذج وصور من عزة المسلمين بدينهم

نماذج وصور من عزة المسلمين بدينهم

اعتزاز ربعي بن عامر بدينه عند الفرس

اعتزاز ربعي بن عامر بدينه عند الفرس وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير -وهذا كله يبين ما هي مقاييس المسلمين وما هي مقاييس غيرهم- وأظهر اليواقيت واللالئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب رثة وفرس قصيرة، ولم يزل ربعي راكباً هذه الفرس حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

تدريس اللغة العربية للبعثات النصرانية رغم أنف الكنيسة

تدريس اللغة العربية للبعثات النصرانية رغم أنف الكنيسة حينما كانت البعثات الطلابية النصرانية تصل إلى ديار الإسلام وحواضره لتلقي العلم، وذلك رغم أنف أهل الكنيسة، ورجال الكنيسة، كان أقارب هؤلاء الطلاب ورجال الكنائس يبذلون كل جهدهم لوضع حواجز نفسية في نفوس هؤلاء الطلاب وعقولهم، حتى تحول دون تأثرهم بالإسلام وبخواص المسلمين إذا دخلوا بلادهم ليتلقوا العلوم التي تفوق فيها المسلمون آنذاك. ولقد بلغ من حرص الكنيسة على هذا أنها في ذلك الوقت أصدرت قراراً كنسياً تقول فيه: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدءون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية؛ لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، أي: أنهم كانوا يعدونها مفخرة، فكان الرجل إذا عاد إلى قومه يبدأ كلامه بالإنجليزية أو الألمانية أو غيرها، ثم يكمل باللغة العربية حتى يكون ذلك مدعاة للفخر أنه سافر إلى بلاد المسلمين، وتعلم من المسلمين، ونطق بلغة المسلمين، فأصدرت الكنيسة تقول: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدءون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك، فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان. هذا أيضاً من الملامح التي تدل إلى أي مدى وصلت عزة المسلمين وقوتهم حينما استمسكوا بالإسلام.

مسلم يرفض مصافحة موشي ديان وزير الدفاع اليهودي

مسلم يرفض مصافحة موشي ديان وزير الدفاع اليهودي كان موشى ديان وزير الدفاع اليهودي في بعض جولاته منذ زمن، فلقي مجموعة من الشباب المسلم في حي من أحياء قرية عربية مسلمة، فصافحهم بخبث وهدوء غادر، لكن واحداً من هؤلاء الشباب أبى أن يصافحه، وقال له: أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آت بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه)، فابتسم ديان الماكر وقال: حقاً سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً، ولكن إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل. وهذا القول يبين ويؤكد لنا هذه الحقيقة وهي: أن المسلمين ليس لهم عز، وليس لهم مخرج إلا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولن تتحقق فينا هذه النبوءة حتى نراجع ديننا، وهي الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الرواية الأخرى: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت).

عزة عمر بن الخطاب بدينه عند دخوله بيت المقدس

عزة عمر بن الخطاب بدينه عند دخوله بيت المقدس جاء في القصة المشهورة التي رواها الحاكم من طريق ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة -وهي تشبه البحيرة- وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك -أي: أهل بيت المقدس؛ لأنه كان ذاهباً ليستلم المدينة- فقال عمر الذي فتح بيت المقدس أول فتح قال: أوه! -وهذا اسم فعل بمعنى: أتوجع من هذه الكلمة- لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة! لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. ففي أي عصر من العصور، أو مكان من الأمكنة إذا أراد المسلمون أن يعيدوا عزهم بغير الإسلام لابد أن يذلوا، وهذه قاعدة مقررة، يقول: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. وفي رواية أخرى قال: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزة بغيره.

إسقاط الأعلام الأجنبية في عهد السلطان عبد المجيد

إسقاط الأعلام الأجنبية في عهد السلطان عبد المجيد في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في سنة ستين وثمانمائة وألف، حيث حدث أيضاً حادث في بيت المقدس حينما عين السلطان العثماني عبد المجيد والياً وأمره بتعمير القدس في سنة ستين وثمانمائة وألف من الميلاد، وهذا الوالي كان اسمه سالم باشا وكان هذا الوالي الذي عين من قبل السلطان قد أجاز لبعض الدول الأجنبية أن ترفع أعلامها على قنصلياتها في بيت المقدس؛ لأنها كانت قد حاربت في دولة تركيا ضد روسيا القيصرية، فقام الأهالي ضده، وهاجت الدنيا وماجت، وأجبروا هذا الوالي على العدول عن هذا القرار، فطويت الأعلام الأجنبية في القدس في الحال. هذه من الحوادث التي يذكرها التاريخ، ونتذكرها نحن اليوم حين نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه ثوبان رضي الله عنه: (توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). فهذا هو الداء، وهذا هو الدواء يصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه المهابة التي ردها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، وأعز بها دين الله عز وجل، لكن لما وقع هذا المرض في قلوب المسلمين، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، صاروا نهباً للأمم؛ لأن هذه الأمة لا عزة لها إلا بالإسلام، والعرب بدون الإسلام لابد أن يكونوا في مؤخرة الأمم، فلا يصلحهم إلا الإسلام، فأي حل غير الإسلام والعودة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن ينهضوا، وهذا أمر قطعي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فلا علاج إلا القرآن والسنة والإسلام كما أنزله الله عز وجل، وكما طبقته خير القرون من هذه الأمة. هذا الخير الذي تمثل في العزة الإسلامية التي بعثها صلاح الدين الأيوبي، والتي تبعث حتى اليوم في نفسية الأوروبيين الهلع والخوف والجبن من أن يعود المسلمون إلى إسلامهم؛ لأنهم حينئذ لن يكون لأعداء الإسلام أي طاقة يواجهون بها المسلمين إن عادوا إلى إسلامهم. فأخوف ما يخافون هو عودة المسلمين إلى الإسلام، فلابد من الأخذ بكل الأسباب التي تدمر هذا السبب من أسباب القوة، سواء بتشويش فهمهم للإسلام وتشويهه، أو بالقهر والجبروت والتسلط، أو غير ذلك من الأسباب التي نراها. وهذه الرهبة التي زالت من قلوب الأعداء من أمم اليوم، يكفي أن نستدل على خطرها عليهم بما نعلم عن الأمهات في إيطاليا، فإن الأمهات في إيطاليا إذا أرادت الأم أن ترعب ابنها أو تخيفه فتقول له: إذا لم تسكت سآتيك بـ صلاح الدين! حتى اليوم يخافون من ذكر صلاح الدين، ومن فهم صلاح الدين ومن منهج صلاح الدين رحمه الله تعالى الذي أدبهم وأعطاهم درساً لا ينسونه حتى اليوم. فالداء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم)، لماذا؟ لأننا نطلب العزة في غير الإسلام، (وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فالإسلام هو الطريق الصحيح لعودة هذه الأمة إلى سيرتها الأولى، وإلى عزتها، وإلى قوتها، وقد جاء أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب قبل أن يسلم، فقال بعض الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى). فمجرد أن قدموا ذكر أبي سفيان وهو لم يكن قد أسلم بعد، على ذكر صحابي مسلم جليل أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليهم ذلك: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى).

خطبة القاضي ابن الزكي بعد فتح بيت المقدس

خطبة القاضي ابن الزكي بعد فتح بيت المقدس أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:28]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]. {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، {َلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] ً، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74]، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36]. فالحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان إلى آخر الخطبة. وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البؤس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع. هذه خطبة الجمعة بعد فتح بيت المقدس، قال ابن كثير: ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، فلم يكن عين خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي من السلطان صلاح الدين الأيوبي وهو في قبة الصخرة، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات، فافتتح هذه الخطبة بقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها على هذا النسق الذي ذكرناه. هذه عودة إلى تاريخنا البعيد، رجعنا فيها أربعاً وعشرين وثمانمائة سنة إلى الوراء، وتوجهنا إلى أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، المسجد الذي لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السماوات، ثم عاد إليه، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر، والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم.

المحبة أصل الولاء

المحبة أصل الولاء ذكرنا من قبل أن أصل الولاء الحب، الولاء لا يأتي إلا ثمرة للحب، وأصل البراء البغض، والحب والبغض اللذان هما سبب الولاء والبراء من أعمال الجوارح ما يؤيد صدق ذلك الحب أو يكذبه، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، ويقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، وفي الحديث الآخر: (أنت مع من أحببت)، قال الحسن البصري رحمه الله: لا تغتر بقوله: المرء مع من أحب، يعني: لا يتعلق الإنسان بمحبة الصالحين وهو لا يعمل عملهم، بل يعمل نقيض عملهم، فيقول الحسن: لا تغتر بقوله: المرء مع من أحب إن من أحب قوماً اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على منهاجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقهم، وإن كنت مقصراً في العمل فإن ملاك الأمر أن تكون على استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الرديئة يحبون أنبياءهم وليسوا معهم؟! يعني اليهود يحبون موسى، والنصارى يحبون عيسى، ولكن عيسى وموسى بريئان منهم، ونحن أولى منهم، ونحن الذين قصدنا الله عز وجل بقوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، فالذين اتبعوا عيسى على الإسلام والتوحيد هم المسلمون، أو هم المسلمون في زمانه الذين آمنوا برسالته وصدقوا بنبوته ونصروه، أو هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. يقول: أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الرديئة يحبون أنبياءهم وليسوا معهم؟! لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار، كما أكثر المسلمين الذين يتغنون بمحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبعد ما يكونون عن سيرته ومنهاجه، فيكثرون من قولهم، يقولون: يا بختنا بالنبي، والنبي بريء منهم، فهم يواقعون البدع والمعاصي، وليس في حياتهم أي ملامح من ملامح النبي صلى الله عليه وسلم وهديه الذي هو خير الهدي، هؤلاء اليهود والنصارى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18]، فمجرد الدعوى: يا بختنا بالنبي، أو نحن نحب النبي، ومحبة النبي لا تكون إلا في الموالد والأغاني مما هو معلوم من أقوال الصوفية أو جهلة المسلمين، فليست هذه هي المحبة، لكن المحب من يطيع محبه، وعلامة المحبة الانقياد، والتشبه بالمحبوب ظاهراً وباطناً.

أقسام المحبة

أقسام المحبة المحبة التي هي أصل الموالاة لها أقسام: فهناك محبة شركية، محبة توقع صاحبها في الشرك، وقد دل عليها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]. فهذه هي محبة المشركين لأندادهم وآلهتهم وأصنامهم وأوليائهم، ولكن حال المؤمنين أنهم أشد حباً لله من محبة أصحاب الأوثان لأوثانهم، فهذه هي المحبة الشركية التي تناقض الإيمان من كل وجه. القسم الثاني من أقسام المحبة: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين. القسم الثالث: المحبة الطبيعية، كمحبة الإنسان لماله وولده وأهله، وهذه إذا لم تشغل عن طاعة الله عز وجل، ولم تعن على محارم الله فهي مباحة، مثل أن يحب الإنسان طعاماً معيناً زوجة أو ولداً أو أقارب أو نحو ذلك. القسم الرابع من أقسام المحبة: حب أهل التوحيد وحب المؤمنين، وبغض أهل الشرك والبراءة من الكافرين، هذه هي أوثق عرى الإيمان وأعلى مراتبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، ومن أحب الله عز وجل المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولابد أن يحب ما يحبه الله سبحانه وتعالى من جهاد أعدائه، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وقال عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، وقال عز وجل في صفة عباده الذين يحبهم ويحبونه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما صفاتهم؟ قال: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) أهل رقة ورأفة على من وافقهم في دينهم، وأهل غلظة وشدة على من خالفهم في عقيدتهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. وقال عز وجل في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)).

الآثار والملامح الدالة على المحبة والموالاة

الآثار والملامح الدالة على المحبة والموالاة المحبة يترتب عليها -كما ذكرنا- الموالاة والولاء، ويترتب عليها حقوق للمسلم على أخيه المسلم، فمن ذلك: المودة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)، فليس للكافر ولا للفاسق ولا للمبتدع من هذه المودة الكاملة نصيب. ومن ملامح هذه الموالاة: النصرة، مناصرة المسلم مهما كان جنسه أو لونه أو أرضه أو وطنه، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وقال صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، وحينما سأله الصحابة: ننصره مظلوماً فيكف ننصره ظالماً؟ فبين أن ذلك يكون بالأخذ على يديه إن كان ظالماً فإن ذلك هو نصرته. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)، والحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ثم شبك بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم). وحينما نتأمل البنيان نجد أن البنيان يبنى على أعمدة وأركان ونحوها، وأقوى أجزاء البنيان الأعمدة والأركان، ففيها القوي وفيها الضعيف، والأركان دائماً تكون أقوى، ثم الضعيف يتشابك بعضه مع البعض، فهذا يكون كالبنيان أي: كالحائط ليتقوى المؤمن في أمر دينه.

[3]

عقيدة الولاء والبراء [3] الهجرة من ديار الكفر والعصيان إلى ديار الطاعة والإسلام من ألزم وأوثق مقتضيات الولاء والبراء، فبها تتحقق محبة المؤمنين بمجاورتهم ونصرتهم، وكذلك بغض الكافرين بمفارقتهم وعدم تكثير سوادهم، وأعظم رابطة تجمع بين المسلمين هي رابطة الإسلام، وبها تنتفي بقية الروابط الأخرى من جنس، أو لون، أو عصبية جاهلية.

بعض أحكام الهجرة المتعلقة بالولاء والبراء

بعض أحكام الهجرة المتعلقة بالولاء والبراء

أحكام الهجرة باعتبار الدارين

أحكام الهجرة باعتبار الدارين الهجرة شرعاً هي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة الواجبة شرعاً إلى قيام الساعة، فلا يصح الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها آنفاً أو التي فيها أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ونحن الآن في زمان الفتن، والهجرة بلاشك واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحن في أوضاع ما مرت الأمة الإسلامية بمثلها من قبل، وبعض العلماء يرى أن تقسيم البلاد إلى دار كفر ودار إسلام، ما ينبغي أن يتواجد إلا عند وجود دار الإسلام، يعني: لا يوجد دار كفر حتى يوجد دار إسلام، وإن كان في هذا الكلام تفصيل، والمشكلة اليوم أن المسلم يقع في حيرة شديدة، لكن بلا شك أن الإقامة في بعض البلاد الإسلامية تكون الفتن فيها أقل من بلاد الكفر، والمسألة نسبية، فبالنسبة لغيرها من بلاد الكفر تكون الفتن فيها أقل من الفتن في غيرها، ويستطيع المسلم أن يحافظ على دينه وأن يسلم من الفتن الشائعة، وأن يقوم ببعض الشعائر والمظاهر الإسلامية، مع أن بعض هذه البلاد الإسلامية التي يمكن أن يهاجر إليها المسلم تجد فيها حكومات سائرة في طريق العلمانية، ورفض الإسلام، والتآمر عليه، حتى أنهم يمنعون من هاجر إلى هذه البلاد تديناً، ففي بعض البلاد المعروفة يستجلبون الكفار من كل بلاد الأرض حتى الهندوس، ويستعملونهم، ويستأمنونهم في الطب مثلاً على أعراض المسلمات، وفي البيوت تعمل الخادمات وأكثرهن من عباد البقر، ويفسدن في داخل بيوت المسلمين، لكن المسلم الذي يسافر إلى هذه البلاد مهاجراً تديناً بهذه الهجرة، سواءً إلى مكة أو المدينة، فربما إذا لم يكن له وضع قانوني معين يشحن مع السيارات إلى المطار ويطرد من تلك البلاد، وإن كانت هجرته تديناً، والمدينة ومكة هما دار إسلام إلى قيام الساعة، وهما أقل البلاد فتناً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يقف هؤلاء الطواغيت ليحولوا دون هجرة المسلمين إلى هذه البلاد التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الإيمان يأرز إلى المدينة أو إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل). وبعض إخواننا المسلمين من الأوربيين أو الأمريكيين بعدما يسلمون يذهبون إلى مكة والمدينة، ويقيمون فيها بنية أنه إذا خرج الدجال يحتمون بمكة والمدينة؛ كما ثبت في الحديث أنه لا يدخلهما المسيح الدجال، وهذه من فضائل مكة والمدينة. أيضاً: تأتي مشكلة من ناحية أخرى، وهي أن بعض حكومات البلاد المسلمة أصبحت وكأنها ارتدت عن الإسلام، فيؤذي الصالحين، لكن بعض ديار الكفر التي لم يدخلها الإسلام أصلاً مثل أغلب دول أوروبا وأميركا قد لا يؤذى المسلم فيها، فيفتن فتنة أخرى حيث يجد هناك من الحرية التي تجيزها نظم هذه البلاد ما لا يجده في بلاد المسلمين، فقد يفتتن بعض الناس بهذه الأشياء، ويتعامون عن كثير من الاعتبارات الأخرى، فلا يحسنون تقدير هذه الأمور. ولا شك أن المسلم إذا أقام في بلاد المسلمين يسلم من الفتن أكثر من البلاد الكافرة، لكنه قد لا يسلم من أن يطرد منها، وقد رأيت بعيني كثيراً من الأفغان أيام الانقلاب الشيوعي في أفغانستان يأوون إلى مكة والمدينة هرباً من الحكم الشيوعي الكافر هناك، لكنهم كانوا يعتقلون في السعودية ويطردون ويعادون إلى حكم الكفار الشيوعين في أفغانستان بالقوة! فكان بعض الناس منهم يتخلفون من العمرة أو الحج ويمكثون هناك، وهنا أذكر بعض أبيات شعر قرأتها لشاعر يحرض على مطاردة هؤلاء الأجانب، فيقول وهو يخاطب الناموسة: فيا ناموستي والصلح خير فأنت رفيقة من عهد هود أقيمي بيننا أهلاً وسهلاً ولكن للأذية لا تعودي عليك عليك بالغرباء علينا وسيبي الرادف الأصل السعودي يعني: يسلط الناموسة ويقول: نعمل اتفاق بأن تتركي السعودي الأصلي، وعليك بالغرباء علينا من هؤلاء الناس الذين يأوون إلى هذه البلاد، وكل هذا من مؤامرات أعداء الإسلام، حيث جعلوا الحدود السياسية والفواصل بين ديار المسلمين، ومزقونا كما تمزق قطعة الجبن، وكل حاكم أخذ جزءاً من بلاد المسلمين يصبغها بصبغته حتى لا تلتحم أمة المسلمين ثانية، بينما تجد الحدود في بعض البلاد الأوروبية ليست مثل هذا التقسيم، وإنما هي عبارة عن شارع، وفي وسطه صف واحد من الطوب يفصل بينهما، بحيث أن الإنسان إذا خطا بقدمه خطوة انتقل من بلد إلى بلد آخر، فهذه هي الحدود عندهم بمنتهى الحرية، وتجد السيارات تمر بين هذه البلاد والأخرى، وغابت الحدود السياسية هذه. لكن في بلاد المسلمين وضعوا الحواجز النفسية والحواجز المادية، وصنعوا المشاكل على الحدود حتى يحصل الاقتتال بين المسلمين كما هو معلوم من سياسة فرق تسد، حتى لا يلتئم شمل هذه الأمة، وكل هذا يحصل نتيجة النظم المعرضة عن الإسلام. نعود إلى الموضوع الذي نتحدث فيه، وهو أن المسلم الآن في فتنة بين هذين الأمرين، بين بعض البلاد الإسلامية التي إذا ذهب إليها يطرد منها إن لم يكن له وضع قانوني يمكنه من الإقامة مثلاً، ومع ذلك يظل مهدداً بالطرد في أي وقت، وإما أن يذهب إلى البلاد الأوروبية حيث الفتنة في دينه، وحيث الفساد المعلوم هناك، وحيث الفتنة أيضاً بمدى الحرية التي قد يتمتع بها ولا يجدها في ديار المسلمين. ومع ذلك إذا أنصف الإنسان وتأمل في أحوالنا مثلاً هنا في مصر، يجد أن أكثر الناس الذين يذهبون إلى البلاد الأوروبية أو إلى البلاد الأخرى العربية يغبطوننا على ما نحن فيه من العافية من الكثير من البلاء ولله الحمد، مع العناء الذي نعانيه هنا في بلادنا، ولكن يوجد كثير من الخير والبركة هنا في الشباب المسلم الملتزم، والدعوة التي تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، فهذا مما يطمئن الإنسان مادام أنه يستطيع أن يؤثر فيمن حوله، وينشط في سبيل هذه الدعوة، وفي ذلك خير كثير لمن كان يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.

العبادة في الهرج كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

العبادة في الهرج كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه معقل بن يسار رضي الله عنه: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) أخرجه مسلم والترمذي. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج) هو: الفتنة واختلاط أمور الناس، (كهجرة إلي) قال النووي رحمه الله: وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها -كما في مثل هذه الأزمان- ويشتغلون بالدنيا، ولا يتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى وذكره وطاعته إلا الأفراد القلائل من الناس. ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه الإمام أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد أن رجلاً قال له: يا أبا سليمان! اتق الله؛ فإن الفتن قد ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا. يعني: الفتن كان بينها وبين المسلمين باب وهو عمر، فإذا كسر هذا الباب جاءت الفتن كما هو معلوم في التاريخ، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكاناً لم ينزل به مثلما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد. وهذا الأثر ينطبق علينا في هذا الزمان، فالإنسان عندما يتأمل في أي مكان حوله لا يجد شبراً قد خلا من الفتنة، فقد تكون جالساً في بيتك، تعتزل الناس، فيدخلون عليك الموسيقى والتلفزيون والفيديو والأغاني إلى البيت، فتجد أنه ما خلا شبر من هذه الفتن! وقد جاء تفسير الهرج في بعض الأحاديث بأنه كثرة القتل وإراقة الدماء. قال المناوي رحمه الله: (كهجرة إلي) يعني: من يثبت على دينه في وقت الغربة، ووقت الفتنة التي تصرف الناس عن دينهم، وتعظيمه وإقامة حدوده، يقول: فمن صبر على ذلك فثوابه كأنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونال الثواب الكثير، أو يقال: الهجرة في الأول كانت قليلة لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة. يعني: إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو لم تكن أصلاً هناك دار إسلام، أو لم يستطع أن يهاجر من دار البدعة إلى دار السنة، أو من دار الظلم إلى دار العدل فعليه انتقال نفسي بأن يهجر المعاصي، ويهجر المحرمات، فينتقل من الفتنة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، ويهجر معاصي الله، وهذا أحد أقسام الهجرة التي تجب على كل مسلم.

التفصيل في حكم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام أو سلطان الكفر

التفصيل في حكم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام أو سلطان الكفر جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً) أخرجه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي وقد جاء يسأله عن الهجرة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحك) وهذه كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في مصيبة لا يستحقها. وقوله: (إن شأن الهجرة شديد) أي: إن القيام بحق الهجرة شديد، وفي لفظ مسلم: (إن شأن الهجرة لشديد) بالتوكيد باللام، أي: لا يقدر على الهجرة كل الناس، فهذه عبادة من أشق وأعظم العبادات، فلا يقدر عليها إلا القليل من الناس، ولا يقدر عليها كل الناس. ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى عمل دون ذلك يمكن أن يطيقه من الأعمال الصالحة، وهو أقل من الهجرة في تكاليفها، فقال: (فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟) يعني: تعطي الزكاة لمستحقيها، وتؤدي كذلك الواجبات الأخرى وفرائض الدين الواجبة عليك؟ (قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار) المقصود بالبحار هنا: القرى والمدن، أي: اعمل من وراء القرى والمدن، سواءً كنت مقيماً في بلدك أو غيرها من أقصى بلاد الإسلام، يعني: اسكن ما شئت من بلاد المسلمين، واسكن حيث شئت من البلاد التي تكون الغلبة فيها والعلو لأحكام الإسلام، والقرية تسمى البحرة لاتساعها؛ لأنها تشبه البحر في اتساعها. يعني: إن أديت الفرائض والواجبات، فاعمل في أي مكان شئت من القرى أو المدن حتى لو كانت في أقصى بلاد المسلمين. قال: (فإن الله لن يترك من عمل شيئاًَ) يعني: لن ينقصك من صواب عملك شيئاً. وهذا الحديث يشعر بأن المسلم الذي يؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ونفسه، لا بأس بعدم هجرته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاعمل من وراء البحار)؛ لأنه دله عن البديل عن الهجرة، وأنه ينال من عمله أجراً عظيماً، وقوله: (اعمل من وراء البحار) يعني: أي أعمال أخرى، من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أو غيرها من واجبات الدين، وهذا محله في البلد الذي لم يكن تحت حكم عدو الدين، أما إذا كان سيقعد في بلد يحكم فيه أعداء الإسلام، وستجري عليه أحكام الكفر؛ فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يستدل بهذا الحديث على أن عدم الهجرة لا بأس به كما هو ظاهر هذا الحديث؛ لأن المقصود به مكان يعلوه أحكام الإسلام وليس أحكام الكفر. أما من كان تحت سلطة الكفرة، بحيث يخاف على دينه وأهله وماله، فإن الهجرة لا تزال واجبة عليه إلى قيام الساعة، ولا حجة له في الحديث السابق، ولا حجة له أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن المعنى: لا تجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فمن مكث في مكة بعد الفتح فلا تجب عليه الهجرة إلى المدينة؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فانتفت العلة الموجبة للهجرة. وقيل: المقصود أن فضيلة الهجرة الكاملة فاتت بالفتح؛ لأن في الصحيحين عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: (انطلقت بـ أبي معبد -وهو شقيقه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مضت الهجرة لأهلها) يعني: فاز بالثواب الأكمل وحاز الغنيمة الكبرى من سبق بالهجرة قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فبقيت مزية الهجرة كما بقيت مزية الإنفاق كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، يعني: فضيلة الهجرة إلى المدينة لها منقبة عظيمة، ولها فضائل عظيمة، ولكن تلك المنزلة التي نالها المهاجرون والأنصار هي خاصة بالهجرة من مكة أو غيرها من البلاد إلى المدينة قبل الفتح، فهؤلاء الذين سبقوا بالأجر الأعظم من تلك الهجرة. فلا ينبغي للإنسان أن يستدل بمثل هذه الأحاديث على عدم وجوب الهجرة، وعلى أن الهجرة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم أو بفتح مكة، فإن المقصود بهذه الأحاديث أنه لا بأس بعدم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام، وليس لمن يعيش تحت سلطان الكفر. وقد روى البخاري أن عبيد بن عمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) أن حكم الإسلام اتسع وشمل البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلاهم حكم الله، وشريعة الإسلام، ولكن جهاد ونية، فإن الهجرة قد مضت لأهلها، فهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث حين كان المسلم مقيماً تحت حكم الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش ويقيم وسط الكفار، مستدلاً بمثل هذه الأحاديث على أنه لا هجرة بعد الفتح أو إن شأن الهجرة شديد، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! أين الهجرة إليك، حيث كنت أم إلى أرض معلومة، أم لقوم خاصة، أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟! قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة، قال: يعني أرضاً باليمامة)، وفي رواية له: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضرمة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) يعني: ما ارتفع علم الجهاد، وقام المسلمون بمقاتلة أعدائهم.

الارتباط الوثيق بين الهجرة وعقيدة الولاء والبراء

الارتباط الوثيق بين الهجرة وعقيدة الولاء والبراء الهجرة لها ارتباط وثيق بالولاء والبراء، وقد ذكرنا أن الولاء والبراء أمر قلبي من لوازم لا إله إلا الله، وهو ينعكس في واقع عملي، فهو التطبيق العملي للوازم لا إله إلا الله من محبة المؤمنين وبغض الكافرين، فالهجرة مرتبطة بالولاء والبراء، بل هي من أهم تكاليفهما، والحديث فيها متشعب، وقبل أن نتكلم عن حكم الإقامة في ديار الكفر لا بد أن نتحدث بالتفصيل عن معنى دار الكفر، ودار الإسلام، وهذا الأمر يحتاج لتفصيل شديد، وسيخرج بنا عن الموضوع، فنقتصر على التعاريف، وإن أتت فرصة أخرى نتكلم عن ذلك بالتفصيل.

حكم الإقامة في بلاد الكفر مع الرضا بما هم عليه من الكفر

حكم الإقامة في بلاد الكفر مع الرضا بما هم عليه من الكفر إقامة الإنسان في بلاد الكفار رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين وذمهم، أو يعاونهم على المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه؛ كفر ومن فعل ذلك فهو كافر عدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28]. قال ابن جرير: قد برئ من الله، وبرئ الله منه لارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)، وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من بنى بأرض المشركين فصنع نيروزهم حشر معهم).

بعض حقوق المسلم المترتبة على الموالاة والمناصرة

بعض حقوق المسلم المترتبة على الموالاة والمناصرة يجب على المسلم أن يقيم مع إخوانه المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته -أي: معيشته، فيحفظها ويضمها له- ويحوطه من ورائه) كالرداء والقميص، فالإنسان إذا ارتدى رداءً أو قميصاً فإنه يحوطه من ورائه، أي: أنه يحفظه ويصونه، ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً، ويعامله بالإحسان والنصيحة، وكل هذه النصوص الواردة من المحبة والمودة بين المؤمنين هي من مقتضيات الولاء والبراء، وتبين الحقوق التي تترتب على هذه المحبة، وأهمها المودة والنصرة، وهذه النصوص كلها تغنينا عن الاستدلال بالحديث الذي يكثر الاستدلال به من قبل كثير من الخطباء، وهو ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) رواه الطبراني في معجمه الصغير، وهو حديث ضعيف، ولا يصح الاحتجاج به، ولا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء الصباح أغنى عن المصباح، فالأدلة الصحيحة تغنينا عن الأدلة الضعيفة. أيضاً: يترتب على هذه الموالاة والمناصرة بعض الحقوق مثل: الزيارة والإكرام، والسلام، وحماية العرض، والمواساة بقدر المستطاع إلى آخر ما هو معلوم من حقوق المسلم على أخيه المسلم.

معنى دار الإسلام ودار الكفر

معنى دار الإسلام ودار الكفر دار الكفر هي التي يعلوها أحكام الكفر، ودار الإسلام هي التي يعلوها أحكام الإسلام، فالعبرة في تقسيم الدار إلى دار كفر ودار إسلام هو نوع الأحكام التي تعلو هذه الدار، وليس نوع السكان الذين يقطنون هذه الدار. مثلاً مصر عندما فتحها عمرو بن العاص كان أغلب أهلها أقباطاً، وكلمة قبطي معناها المصري القديم، وقد كانوا نصارى، فمصر دخلت تحت حكم الله سبحانه وتعالى، وطبق عليها قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، هذا هو حكم الله في هذه البلاد، فعلاها حكم الله، وليس معنى أن يعلو حكم الله سبحانه وتعالى على بلد أن ينقلب أهلها مسلمون، لكن المقصود أن يذعنوا ويخضعوا لحكم الله فيهم كما قال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فمعناه خضوعهم لحكم الله، ولشريعة الإسلام، حتى تكون كلمة الله هي العليا، فمصر من ذلك الوقت صارت دار إسلام، رغم أن أغلب سكانها لم يكونوا مسلمين، لكن هي دار إسلام؛ لأنه يعلوها أحكام الإسلام؛ لأن الحاكم لها هو خليفة المسلمين. كذلك يمكن أن توجد بلاد كل أهلها مسلمون، ولكن هي دار كفر، وذلك إذا تسلط عليها حاكم كافر، وأرغمهم على أن تعلوهم أحكام الكفر وشريعته، فتكون في هذه الحالة دار كفر وإن كان كل أهلها أو أغلب أهلها مسلمين.

حرمة إقامة المسلم بين ظهراني المشركين

حرمة إقامة المسلم بين ظهراني المشركين لما كان الإسلام هو دين العزة والقوة، فإنه قد أبى على معتنقيه أن يذلوا للكفار؛ ولذلك جاء المنع من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين؛ لأن إقامة المسلم بين الكفار تشعره بالوحدة والضعف، وتربي فيه روح الذلة والاستكانة، وقد تدعوه إلى المهادنة لهم ثم متابعتهم في باطلهم، والإسلام يريد من المسلم أن يمتنع قوة وعزة، وأن يكون متبوعاً لا تابعاً؛ فيكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله سبحانه وتعالى. لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه، ويعمل طبقاً لعقيدته دون أن يخشى فتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهاجر من هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام، فإن لم يفعل فالإسلام قد تبرأ منه مادام قادراً على الهجرة، ولا عذر له في ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97 - 99]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما). وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك -يعني: اجتمع معه في بلده- وسكن معه فإنه مثله). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها). وقال صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم). فالمقصود أن المسلم لا يقيم في دار حرب، وهي التي لا تعلوها أحكام الإسلام، لكن إن كانت دار إسلام تغلب عليها المسلمون، وجرى فيها حكم الإسلام، وإن كان كل أهلها غير مسلمين؛ فلا بأس أن يقيم المسلم بينهم، فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عماله على خيبر، وكل سكان خيبر كانوا من اليهود؛ لأنها كانت حينئذ دار إسلام.

مقتضيات الأخوة الإسلامية ودعائمها

مقتضيات الأخوة الإسلامية ودعائمها

الرابطة الحقة بين المسلمين هي: لا إله إلا الله

الرابطة الحقة بين المسلمين هي: لا إله إلا الله إن الرابطة الحقيقة التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة (لا إله إلا الله)، فهذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضاً، هذه الرابطة لا لتربط فقط بين المسلمين في الأرض، وبين بعضهم البعض، وإنما عطفت أهل السماء على أهل الأرض، وهم ملائكة حملة العرش، ومن حول العرش من الملائكة، فهم يستغفرون الله لبني آدم في الأرض، قال عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. فبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الرابطة: لا إله إلا الله، ربطت سبيل المؤمنين في الأرض، وبين الملائكة في السماء، وبين حملة العرش، فجعل العلة في هذا الدعاء قوله سبحانه وتعالى في حق الملائكة: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: فاغفر للذين آمنوا، فربط الإيمان بين أهل السماء وأهل الأرض، وهذه هي أعظم الروابط التي ربطت كل من في هذا الكون بعضه ببعض. ومما يوضح أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام، قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وقابل موقف أبي لهب من الإسلام وما نزل فيه من القرآن، وبغض النبي صلى الله عليه وسلم له لكفره وصده عن سبيل الله؛ بما لـ سلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء في حقه حديث: (سلمان منا أهل البيت)، وإن كان بعض العلماء يضعفون الحديث، ولقد أجاد من قال: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وأجمع العلماء على أن الرجل إن مات وليس له من الأقارب إلا ابن كافر فإنه لا يرثه، ويكون إرثه للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده من صلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل على أن الأخوة الإيمانية أقرب من الأخوة النسبية، هذه الأخوة التي لا يحدها الزمان والمكان، قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر المهاجرين وامتدحهم، ثم ذكر الأنصار وامتدحهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. إذاً: لا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة: لا إله إلا الله، فلا يجوز النداء بأي رابطة غيرها، ومن والى الكفار محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، فلما غاب هذا المعنى، وزال من قلوب المسلمين، ولم يعد الدين والإيمان هو الحد الذي يعتمده قلب المؤمن في موالاته للمؤمنين وعدائه للكافرين؛ اختلط الحابل بالنابل في موضوع الولاء والبراء، ووقع ما أخبر الله به: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].

نبذ الإسلام للحزبية والعصبية الجاهلية

نبذ الإسلام للحزبية والعصبية الجاهلية قال سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة:22] يعني: لا يمكن أن تجد مؤمناً حقق الإيمان، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فلا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء، والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك أخبر أنهم يعادونهم لو كانوا ممن يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، وقال: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، هذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء بأي رابطة غير الرابطة الإسلامية -كالرابطة القومية مثلاً- لا يجوز، وهو ممنوع بإجماع المسلمين، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار -يعني: ضربه على مؤخرته- فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! -يعني: يستنصر بالأنصار على أخيه- وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة). فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار! وقول هذا المهاجري: يا للمهاجرين! هو النداء بالقومية العصبية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) يقتضي وجوب ترك النداء بها، ويقتضي تحريم أن ينادي الإنسان بنداء الجاهلية، وبدعاوى الجاهلية؛ لأن قوله: (دعوها) أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب كما هو معلوم من الأصول كما قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، ودل هذا على أن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم معصية محرمة، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: (دعوها فإنها منتنة) حيث وصف هذا الأمر بالنتن، فالنداء بالقوميات أو العصبيات دعوة منتنة، فالدعاوى القومية أو العربية أو الفرعونية أو أي شيء من هذه الدعوات الجاهلية إنما هي دعاوى جاهلية منتنة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك هذه الألقاب التي أشرف الألقاب: المهاجرين والأنصار، وهي ممدوحة في القرآن أعظم المدح، وأخبر الله عز وجل أنه رضي عن المهاجرين والأنصار، وامتدحهم الله سبحانه وتعالى، وامتدحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته الشريفة في كثير من المواضع، فنهى عن هذه الألقاب التي هي من أشرف الألقاب إذا كان من باب الدعاوى الجاهلية أو في صورة عصبية. وكذلك الأمر بالنسبة لمسميات الجماعات الإسلامية في أي بلاد، وفي أي مكان، فأي اسم -حتى ولو كان اسماً شريفاً- إذا تحول من معناه البريء المشروع إلى الحزبية والعصبية، فإنه من دعوى الجاهلية التي أمرنا باجتنابها، فلو أن السلفيين مثلاً تنادوا باسم السلفية، وانطبق عليهم هذا المعنى الجاهلي البغيض، فيقال لهم: دعوها فإنها منتنة. وهكذا غيرهم من الجماعات الإسلامية إذا استخدموا هذه الألقاب في العصبية، أو خالفت الجماعة الشرع، أو قالت: من لم يكن معنا فهو علينا وينبغي أن نحاربه، فكل هذه دعاوى جاهلية ينبغي التنزه عنها، والبراءة منها ومن فعل أصحابها، لكن إذا استخدم اللفظ بمعنى صحيح، فلا حرج فيه، كما استخدم لقب المهاجرين والأنصار فيما بينهم، وهذا لا حرج فيه، لكن مهما شرف هذا اللفظ، حتى لو كان لقب المهاجرين والأنصار، لو صار سبباً لتعزيز الدعاوى الجاهلية التي تفصل عرى الإسلام، وتثير النزعات الجاهلية بين المسلمين؛ فيقال لأصحابها: دعوها فإنها منتنة. فدل هذا الحديث -وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة) - على تحريم التنادي بالعصبيات القومية أو القبلية أو غيرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالترك. وأيضاً دل على تحريم التنادي بهذه العصبيات؛ لأنه وصفها بالشيء المنتن، والله سبحانه وتعالى يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] و (الْخَبِيثَاتُ) من الصفات والأفعال (لِلْخَبِيثِينَ). ويقول سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، وأيضاً وصفها بأنها من دعوى الجاهلية، وقال في بعض الروايات: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟!)، فدعوى الجاهلية محرمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يدعو بدعوى الجاهلية، وفي رواية أخرى: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)، فهذا صريح في تحريم الدعاء بدعوى الجاهلية سواء الوثنية الفرعونية القومية وغير ذلك، وهذه الأدلة كلها تدل على التحريم الشديد لهذه النعرة العصبية. ومما يدل على تحريم الحزبية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، عزاء الجاهلية هو: التنادي بنداء الجاهلية، يعني يرفع دعوى الجاهلية: يا قبيلة فلان، يا أصحاب فلان تعصبوا وتحزبوا لمن كان من قبلكم -أي: من بلادكم- ضد الشخص الآخر، وهذا حتى ولو كان ظالماً، فإنهم يظاهرونه، فهذا هو التعزي بدعوى الجاهلية، وهو التنادي بألقاب الجاهلية، وبتحزبات الجاهلية. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه). يعني: قولوا له: اعضض هن أبيك، والمقصود العورة، وهذا من السب الشديد، وإنما استحقه لأنه أتى فعلاً شديداً، وهو التعزي بعزاء الجاهلية، وإحياء النعرات الجاهلية، قال: (ولا تكنوا) يعني: لا تستخدموا الكناية لهذا الترهيب، ولكن أعضوه بهن أبيه باللفظ الصريح عقوبة له على تجروئه على إحياء دعوى الجاهلية، وهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له. ومن هم رؤساء وزعماء هذه الدعوى الجاهلية؟ هم: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة ونظرائهم من رؤساء الكفرة؛ وذلك لأنهم تنادوا بهذه الدعوى القومية حينما {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]، {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، وأمثال ذلك من الأقوال التي تمسكوا فيها بما كان عليه الآباء وإن كانوا على ضلال مبين. ورفع هذه الدعوات أياً كان اسمها هي عبارة عن نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، حتى لو نادى من ذلك بروابط عصبية قومية مدارها على أن هذا من العرب فناصره وهذا من العجم فنعاديه مثلاً، والعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، كما قال الرازي: بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الحكمة في جعله بني آدم شعوباً وقبائل هو التعارف فيما بينهم، وليست لأن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] والمعنى: لتتعارفوا، حذفت إحدى التائين، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة. ونحن لا ننكر أن المسلم قد ينتفع بهذه الرابطة العصبية، لكن هو لا ينادي بها، كما في قوله تعالى: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وكما نصر النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب، وإنما كان دافعه إلى هذه المناصرة وجود الرابطة النسبية، وقال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91]. إذاً: قد ينتفع الإنسان بهذه الأمور وهذه الرابطة، ولكن لا ينادي بها في الدعوات الجاهلية. {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49].

الأخوة: أخوة الدين والعقيدة

الأخوة: أخوة الدين والعقيدة هذه الرابطة رابطة الأخوة في الإسلام هي التي تكون بين المسلمين، ويكون عليها الولاء والبراء، فقد بين الله سبحانه وتعالى أن الإسلام هو الذي يربط بين أفراد المجتمع الإسلامي دون غيره من الروابط؛ لأنه يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، يقول الشنقيطي رحمه الله: فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). ولذلك يذكر في القرآن الكريم النفس وليس المقصود نفسك أنت، لكن المقصود بها إخوانك المؤمنين، يقول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] يعني: لا تأكلوا أموال إخوانكم، فنسبها إليكم، فالله عز وجل يطلق النفس على الإخوة تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه كقوله تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84] يعني: ولا تخرجون إخوانكم، وكقوله سبحانه لبني إسرائيل: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] يعني: فليقتل بعضكم بعضاً، وهذه كفارة ما فعلوه، وقال عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم فعبر عن الإخوان بالأنفس. كذلك قوله عز وجل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يعني: على إخوانكم، فعبر عن الإخوان بالأنفس. وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] يعني: لا تلمزوا إخوانكم، على أصح التفسيرين. وقوله تعالى كما ذكرنا: ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ))، أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات. كذلك ثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وفي رواية: (من الخير) الدالة على أن هذه الرابطة، رابطة الإسلام هي الأصل بين المسلمين، وهذه الرابطة تتلاشى أمامها جميع الروابط النسبية والعصبية.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

إن أكرمكم عند الله أتقاكم الأدلة التي تبين أهمية الولاء والبراء وبعض حقوقها لا تفرق بين المسلم وأخيه المسلم، لا على أساس اللون، ولا الوطن، ولا اللغة، ولا الجنس، ولا غير ذلك؛ مصداقاً وامتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، لم يقل الله سبحانه وتعالى: إن أكرمكم عند الله أعظمكم نسباً، أو أكثركم مالاً، بل إن أكرمكم عند الله أتقاكم، كما قال بعض الشعراء: ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم وليس على عبد تقي نقيصة إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون)، لم يقل: أهل نسبي وأقاربي، وإنما قال: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)، نرى أحياناً بعض الناس يتغطرسون ويتكبرون على الناس بانتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه عظيم، لكن ينبغي الالتزام بسنته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، فأغلب الحكام الظلمة والمناوئين لدين الإسلام يفاخرون غيرهم بأنهم من بني هاشم، فهذا الملك الحسين بن طلال في الأردن يفخر بأنه من الهاشميين وأنه من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وإن سلم لهم أنهم من نسله، فحيث أنهم محاربون لدين الله، ويظاهرون أعداء الإسلام على المسلمين؛ فينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا)، وقوله: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين). فما أثر الانتساب إليه صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولا ينبغي لمن رزق هذا النسب أن يجعله عائقاً له عن التقوى، وسبباً لمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة، وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30 - 31]، فالحسنة إذا أتت من أشرف الناس نسباً كأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه فهي أحسن، والسيئة إذا صدرت من أهل بيت النبوة تكون أسوأ، فقد يبلغ اتباع الهوى لذلك النسب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال بعض الشعراء لشريف ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان سيء الأفعال: قال النبي مقال صدق لم يزل يحلو لدى الأسماع والأفواه إن فاتكم أصل امرئ ففعاله تنبيكم عن أصله المتناهي وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله يقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره، وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج يوماً من بيته -ذلك المولى الأسود العالم العابد من بيته- يقصد المسجد، فاتبعه خلق كثير يتبركون به، فلقيه الشريف وهو سكران، فكان الناس يطردونه عن طريقهم، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل؟! وأهان وأنت تعان؟! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده، وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف! بيضت باطني، وسودت باطنك، فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت، وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت، وأخذت سيرة أبيك، وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك. هذه هي مساواة الإسلام، هذا هو معنى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فهكذا يرتفع بالإسلام أقل الناس وأحقرهم إلى أعلى المقامات، وإلى أشرفها، ولا ينفع هذا الشريف وجود هذه النسبة، وهي شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لابد من التقوى كما بينا.

[4]

عقيدة الولاء والبراء [4] الولاء والبراء أحد قلاع التوحيد، وأحد أركان الإسلام التي يجب على كل مسلم أن يفهمها ويطبقها في عقيدته ومعاملاته مع من حوله، وقد ضرب السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم أروع المواقف البطولية في الولاء للإسلام وأهله، والبراءة من الكفر وأهله.

حكم إقامة المسلم في بلاد الكفار

حكم إقامة المسلم في بلاد الكفار حكم الإقامة في بلاد الكفار فيها تفصيل؛ فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقيم عندهم، ويرضى ما هم عليه من الكفر، ويعاونهم على المسلمين، فهذا كافر، قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)، وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: من نشأ في بلاد الأعاجم فصنع نوروزهم -يعني: اشترك في احتفالاتهم ومهرجانهم- وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور. فمن رضي بما هم عليه من الكفر، وانشغل بمدحهم وعيب المسلمين، وعاونهم على المسلمين فهذا كافر مرتد بهذا الفعل وهذه الموالاة. القسم الثاني: أن يكون همه لأجل مصلحة دنيوية من مال أو ولد أو بلاد وهو لا يظهر دينه مع قدرته على الهجرة، ولا يعينهم على المسلمين بنفس ولا مال ولا لسان، ولا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، فهذا لا يكفره العلماء لمجرد جلوسه ومكثه بين أظهرهم، ولكن يقولون: إن هذا قد عصى الله ورسوله بترك الهجرة، وإن كان مع ذلك يبغضهم في الباطن؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ظالمي أنفسهم) أي: بترك الهجرة، ثم قال: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية. وتجد العلماء لهم كلام شديد جداً يصل إلى التكفير في حق من يتجنس بجنسية هذه البلاد، وبعض الناس لغفلتهم عن الولاء والبراء، وعن العمل بلوازم لا إله إلا الله يأخذ جنسية بعض هذه البلاد الكافرة، ويعتبره مكسباً، وهو يدفع لقاء ذلك ثمناً من دينه، والإنسان إذا تجنس بهذه الجنسيات إذا لم يجند هو في جيوش هذه البلاد فأولاده سيصبحون من هذه البلاد، ويدخلون جيوشهم، ولابد أن يشتركوا معهم في حربهم إذا حاربوا المسلمين، ويصبحون يعاملون كأي مواطن من تلك البلاد، له حقوق وعليه واجبات تجاه هذه الدولة الكافرة، فلا ينبغي التساهل في أمر أخذ الجنسيات؛ لأن العلماء لهم كلام شديد يصل إلى تكفير من يتجنس بجنسيات هذه البلاد الكافرة. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين، يعني: أن بعض المسلمين ممن كانوا قادرين على الهجرة من مكة إلى المدينة بقوا في مكة وهم قادرون على الهجرة، فكان المشركون يظنون أنهم مثلهم من الكفار، فحينما خرجوا لمقاتلة المسلمين كانوا يخرجونهم معهم؛ لأنهم في الظاهر مع المشركين! يقول ابن عباس: إن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97] بأنهم لم يهاجروا. وقد سد الله سبحانه وتعالى باب الأعذار الواهية، فأي إنسان يعتذر عن الهجرة لا يخرج عذره عن هذه الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. فإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض، وأوجب الله عز وجل الهجرة منها، ولم يجعل محبتها عذراً في عدم مغادرتها حينما كانت الهجرة واجبة فكيف بغيرها من البلدان؟! القسم الثالث: ممن يكون في بلاد المشركين فهو من لا حرج عليه في الإقامة بين أظهرهم، وهم نوعان: النوع الأول: أن يكون مظهراً دينه، فيتبرأ منهم وما هم عليه، ويصرح لهم ببراءته منهم لأنهم ليسوا على حق، بل إنهم على باطل، وهذا هو إظهار الدين الذي لا تجب معه الهجرة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، فأمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأنه لا يعبد معبوداتهم، وأنهم على الشرك وليسوا على التوحيد، وأنه قد رضي بدينه الذي هو عليه، وبرأ من دينهم الذي هم عليه كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:104 - 105]. فمن قال مثل ذلك للمشركين لم تجب عليه الهجرة، وليس المراد بإظهار الدين أن يترك الإنسان يصلي ولا يقال له: اعبد الأوثان، إظهار الدين الذي يذكر العلماء أنه شرط في جواز الإقامة بين المشركين ليس مجرد أن يلتزم شعائر الإسلام من إقامة الصلاة مثلاً أو أنهم لا يجبرونه على عبادة الأوثان، فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم، ولا يكرهون الناس على أن يعبدوا الأوثان، بل المقصود بإظهار الدين هو التصريح للكفار بالعداوة، وإذا لم يحصل التصريح للمشركين بالبراءة منهم ومن دينهم لم يكن إظهار الدين حاصلاً. وإظهار الدين بهذا المعنى يرخص في عدم الهجرة من تلك البلاد. وهنا نذكر حادثة بئر معونة الحادثة المشهورة، فإنه لما قدم عامر بن مالك المشهور بملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، ولكنه لم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد! لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخشى عليهم أهل هذه البلاد) فقال له: أنا لهم جار، وتعهد أنه سوف يحميهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين رضي الله عنهم، وكان ذلك في شهر صفر على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فلما نزلوها بعثوا أحدهم -وهو حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب، بل عدا عليه وقتله، فلما طعن حرام بن ملحان بالرمح صاح وقال: فزت ورب الكعبة! ثم استنفر عامر بن الطفيل بني عامر يستعديهم على بقية الدعاة السبعين من الصحابة الذين خرجوا لدعوة هؤلاء في دار الكفر في بلادهم، فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لن نخفر عهد عامر بن مالك، فاستدعى عليهم قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه وانطلقوا فأحاطوا بالقوم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم فقتل المسلمين عن آخرهم، وكان من الدعاة رجلان بعيداً عنهم لم يشهدا هذه الوقعة الغادرة، أحدهما عمرو بن أمية الضمري، ولم يعرفا النبأ إلا فيما بعد، فأقبلا يقاتلان عن إخوانهما فقتل زميله معهم، وأفلت هو فرجع إلى المدينة. فمكث الرسول عليه الصلاة والسلام شهراً كاملاً يقنت ويدعو على قبائل سليم: رعل وذكوان وعصية. وفي هذا الحادث يقول الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة: لا يجوز للمسلم المقام في دار الكفر أو الحرب إن لم يمكنه إظهار دينه، ويسن له ذلك إن أمكنه إظهار دينه، والذي يدل عليه هذا المشهد من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان مقام المسلم في دار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك، فذلك من أنواع الجهاد التي تتعلق مسئوليته بالمسلمين كلهم على أساس فرض الكفاية الذي إن قام به البعض قياماً تاماً سقطت المسئولية عن الباقين وإلا اشتركوا كلهم في الإثم، وهذا الكلام أشار إليه صاحب مغني المحتاج في فقه الشافعي. فالقسم الذي لا حرج عليه في الإقامة بين أظهر المشركين هو الذي يقدر على إظهار دينه بالمعنى الذي أوضحناه. النوع الثاني: أن يقيم عندهم مستضعفاً فيجوز، وقد بين الله الاستضعاف في كتابه في قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]، وفي قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء:75]. يقول البغوي رحمه الله تعالى: إن الأسير المسلم عند الكفار إذا استطاع الخلاص منهم لم يحل له المقام بينهم، فإن حلفوه أنهم إذا تركوه لا يخرج إلى دار الإسلام فحلف؛ وجب عليه الخروج، ويمينه يمين مكره لا كفارة عليه فيها، وإن حلف لهم من غير أن يحلفوه فعليه الخروج إلى دار الإسلام، ويلزمه كفارة يمين. أما حكم السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ففي ذلك تفصيل: فإن كان ي

بعض مظاهر الولاء والبراء في الإسلام

بعض مظاهر الولاء والبراء في الإسلام نشير إلى بعض مظاهر الولاء والبراء كما بينها الشارع الشريف:

منع الكفار من الإقامة في الجزيرة العربية

منع الكفار من الإقامة في الجزيرة العربية من مظاهر الولاء والبراء: منع المشركين من الإقامة في بعض البلاد؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه، حتى إذا جئنا بيت المدارس قام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: يا معشر اليهود! أسلموا تسلموا فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد، فقال: أسلموا تسلموا، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم: ذلك أريد، ثم قالها الثالثة، فقال: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وقال أيضاً: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً). فبعض البلاد الإسلامية لا يجوز أن يدخلها هؤلاء المشركون، وهذا من مقتضيات الولاء والبراء.

حرمة مشاركة الكفار في أعيادهم

حرمة مشاركة الكفار في أعيادهم أيضاً: من مقتضيات الولاء والبراء: عدم مشاركتهم في أعيادهم، وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل كثير كما بيناه من قبل، وهو حكم مشاركة المسلمين الكفار في أعيادهم، وأن هذا لا يجوز؛ لأنه من الموالاة المحرمة، وأن المسلمين ليس لهم إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، وما زاد عن ذلك فهو من البدع إن كانت أعياداً في الدين أو من جملة هذه الدعوات الوطنية والقومية التي هي من الباطل ومن الزور، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، وهذه الأعياد الوطنية كلها ليست من الإسلام في شيء، بل ليس للمسلمين إلا عيدان وهما الفطر والأضحى.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله من لوازم الولاء والبراء جهاد الكفار، بمعنى مقاتلة أعداء الله سبحانه وتعالى بكل أنواع الجهاد المعروفة. فالجهاد من أعظم مظاهر الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين والمنافقين، بل هو ذروة سنام الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفهم الجهاد في الإسلام أمر مطلوب، ونجد أن تشويه هذا التصور لم يسلم منه كثير من خواص المسلمين في هذا الزمان، حتى إن بعض كبار الشيوخ يتكلم أن الإسلام يترك الحرية لكل صاحب عقيدة أن يدعو إليها في سلام وأمان وبلسانه في حرية مطلقة، وأكثر الناس يحتارون من مثل هذا الكلام من خواص المسلمين، ومن عالم يمثل مشيخة الأزهر ومع ذلك يقول هذا الكلام، ولعلها تأتي فرصة إن شاء الله لنوبخهم، فكثير من المنهزمين أمام أعداء الإسلام يحرفون حقائق الجهاد حتى يرضوا أسيادهم من غربيين، وحتى يتقربوا إليهم بعمليات البتر هذه، والله المستعان.

انقطاع التوارث والولاية والزواج بالمسلمة من الكافر

انقطاع التوارث والولاية والزواج بالمسلمة من الكافر من مظاهر الولاء والبراء: انقطاع التوارث بين المسلمين والكفار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين شتى). فالمسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، وهذا نوع من الاستعلاء، وليس كما عبر عنه بعض الشيوخ ليبين سماحة الإسلام فيقول: إن الإسلام سوى بين المسلم والكافر في الحرمان من الميراث! فيريد التزلف للمشركين بأن هذا نوع من العدل، والصواب أنه من الاستعلاء بحق، فالمسلم لو كان قريبه الكافر يملك مال قارون فهو يستعلي عن أن تكون بينه وبين هذا الكافر موالاة تفضي إلى أن يرثه، وليس المقصود بذلك أن الإسلام يساوي في الحرمان بين المسلم وبين الكافر في الميراث. أيضاً: انقطاع الموالاة، الكافر لا يصح أن يكون ولياً لابنته في عقد نكاحها، فتنقطع الموالاة في مثل هذا. أيضاً: المسلمة لا تتزوج كافراً بأي حال من الأحوال.

من قصص الصحابة في الولاء والبراء

من قصص الصحابة في الولاء والبراء نختم هذا البحث ببيان بعض المواقف العملية من قصص الصحابة رضي الله عنهم في الولاء والبراء، ونقدم بين يدي ذلك قول المقداد بن الأسود رضي الله عنه حينما قال: والله! لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية لا يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، ففرق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً، وقد فتح الله تعالى فقل قلبه بالإيمان، ويعلم أنه إن هلك دخل النار؛ فلا تقر عينه وهو يعلم أن خليله في النار، وإنها للتي قال الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك للصحابة رضي الله عنهم: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم -يعني: كأنهم معكم في هذا الجهاد- قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر)، فهذه موالاة ومناصرة للمسلمين حتى الذين لم يخرجوا معهم في الجهاد في غزوة تبوك، فيكنون للذين حبسهم العذر الموالاة القلبية والوجدانية كأنهم يسيرون معهم في كل واد وفي كل مكان، والمعذورون مع إخوانهم بالدعاء والمتابعة والارتباط القلبي، فذكر أنهم كأنهم معهم في مثل هذا الجهاد، وهذه من أعظم صور الموالاة.

قصة المرأة الدينارية

قصة المرأة الدينارية نختم بقصة المرأة الدينارية، أي: من بني دينار، هذه المرأة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وذويهم الذين كانوا مشتركين في المعركة، وهذه المرأة قد قتل أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نعوا لها ذلك لم تكترث كثيراً، بل كانت قلقة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا كلما يقولون لها: احتسبي عند الله أباك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقولون: احتسبي عند الله أخاك احتسبي عند الله ابنك احتسبي عند الله زوجك كانت في كل مرة تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: خيراً يا أم فلان! هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته سالماً قالت مشيرة إلى مصيبتها بفقد أبيها وزوجها وأخيها وابنها: كل مصيبة بعدك جلل، تعني: أنها تهون كل مصيبة بعد سلامة النبي صلى الله عليه وسلم!

قصة عثمان بن مظعون ومصعب بن عمير

قصة عثمان بن مظعون ومصعب بن عمير وكان عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه جوار الوليد بن المغيرة فرأى إخوانه المؤمنين يعذبون، فرد عليه جواره، ثم جلس في مجلس كان فيه الشاعر لبيد وكان ينشد شعراً ويقول: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال: صدقت، فأكمل البيت وقال: وكل نعيم لا محالة زائل قال: كذبت، فغضب لبيد وقال: يا معشر قريش! ما كان يؤذى جليسكم، فقالوا: هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فغضب عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقام، واشتجروا، وأتى ذلك الرجل فضربه على عينه حتى خضرها -يعني: اخضرت من الضربة-، فقال له الوليد بن المغيرة حينئذ: أما والله -يا ابن أخي- لقد كنت في ذمة منيعة، يعني: ما حملك على أن تخرج من ذمتي؟ فقال: أما والله إني لفي جوار من هو أعز منك في جوار الله عز وجل، وأنشد شعراً قال فيه: فإن تك عيني في رضا الرب نالها يدا ملحد في الدين ليس بمهتدي فقد عوض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعدِ فإني وإن قلتم غوي مضلل سفيه على دين الرسول محمدِ أريد بذاك الله والحق ديننا على رغم من يبغي علينا ويعتدي ومن ذلك ما هو معروف من قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وانتقاله من النعيم والترف إلى الزهد نصرة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قصة بلال وحبيب بن زيد

قصة بلال وحبيب بن زيد كان بلال رضي الله تعالى عنه يصبر على تعذيب المشركين له، حتى كانوا يضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحد أحد، ويقول: والله! لو أعلم كلمة أغيظ عليكم منها لقلتها. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال مسيلمة الكذاب له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك رضي الله تعالى عنه.

قصة أنس بن النضر

قصة أنس بن النضر كان أنس بن النضر رضي الله عنه قد غاب عن قتال بدر فقال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين؛ ولئن أشهدني الله قتالاً للمشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون -يعني: انهزموا- فقال: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني: أصحابه، اعتذر عنهم ولم يتبرأ منهم، وقال: وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني: المشركين، والمعنى أن المسلم يشرع لك أن تتبرأ من فعله إذا كان مخالفاً للشرع، لكن لا تتبرأ منه كلية، أما الكافر فالبراءة منه من كل الوجوه. ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتل حتى قتل، قال سعد: فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فوجد فيه بضع وثمانون ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه نزل قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

قصة خبيب بن عدي

قصة خبيب بن عدي ومن مظاهر الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين ما كان من خبيب بن عدي رضي الله عنه حينما اعتقله المشركون، فساقوه إلى مكة، ووضعوه أسيراً ل ابن أبي إيهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي كان قد قتل في غزوة بدر، ولما حددوا موعداً لقتله أخرجوه إلى التنعيم ليقتلوه، فقال: إن رأيتم أن تدعوني حتى أصلي ركعتين فافعلوا، فأذنوا له، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت الصلاة جزعاً من الموت لاستكثرت من الصلاة، ولما رفع على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك، فقال: والله! لا أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعاً، قالوا: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً، قالوا: أما واللات لئن لم تفعل لنقتلنك، قال: إن قتلي في الله قليل، وصرفوا وجهه لغير القبلة، فقال: أما صرفكم وجهي عن القبلة فإن الله تعالى يقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، ثم قال: اللهم إني لا أنظر إلا في وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فبلغه أنت السلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة فأخذته غيبة ثم قال: (هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام)، واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين بأيديهم الرماح وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر، فقال خبيب: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فأبلغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. ولما دعا هذه الدعوة كان بين هؤلاء المشركين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وحكيم بن حزام وجبير بن مطعم، ولم يكونوا قد أسلموا بعد، فلما سمعوه يدعو بهذه الدعوة؛ ألقى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بنفسه إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب، وهرب حكيم بن حزام، واختفى جبير بن مطعم، وعندما أخذت الرماح تمزق جسده استدار إلى الكعبة وقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته الذي ارتضى لنفسه ونبيه والمؤمنين، ثم استدار إلى القوم وأنشد: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني ميت ولكن حذاري حر نار ملفع وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ولست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه صلى الله عليه وآله وسلم.

قصة سعد بن أبي وقاص

قصة سعد بن أبي وقاص عندما أسلم سعد بن أبي وقاص امتنعت أمه عن الطعام والشراب حتى يرجع عن الإسلام، وقالت له: لن أذوق طعاماً حتى تموت فتعير بذلك أبد الدهر يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] وأمره بالبر بوالديه، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك؛ لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قصة عبد الله بن حذافة السهمي

قصة عبد الله بن حذافة السهمي من صور الموالاة ما كان من الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فإن الروم أسروا هذا الصحابي. فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر، وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت، فقال: إذن أقتلك، فقال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر -وفي رواية: ببقرة من نحاس فأحميت- وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر في هذا النحاس المصبوب المذاب، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه النصرانية بعد هذا الإرهاب فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فأخبروا الملك بأنه قد بكى، فطمع فيه، وظن أنه بكى خوفاً من هذا العذاب فلعله أن يتنصر، ودعاه فقال له: لم بكيت؟! قال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة فتموت في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله! وفي بعض الروايات أنه سجنه، ومنع عنه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟! فقال له: إنه قد حل لي -يعني: أصبح حلالاً؛ لأنه مضطر- ولكن لم أكن لأشمتك في، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، قال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، وأطلق جميع أسارى المسلمين، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.

قصة كعب بن مالك

قصة كعب بن مالك من مظاهر الولاء والبراء ما وقع في قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، فحينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يهجروا كعب بن مالك وصاحبيه؛ لتخلفهم عن غزوة تبوك، فلم يكلموهم، ولم يسلموا عليهم، ف كعب بن مالك هجره كل الناس حتى زوجته، يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟! فطفق الناس يشيرون إليه، يعني: هذا هو كعب بن مالك احتياطاً في تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الكلام معه، فلم يتكلموا، ولكن أشاروا فقط بدون الكلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الكلام معه، يقول: حتى إذا جاءني دفع إلي كتاباً من ملك غسان. انظروا إلى سرعة التجسس، فقد وصل إلى ملك غسان أن هؤلاء الثلاثة قد قاطعهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وشق ذلك عليهم مشقة شديدة، فقد استمرت المقاطعة لمدة خمسين يوماً. يقول: فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، فيممت بها التنور -الفرن- فسجرتها. أي: فأشعل النار في هذا الكتاب. وهذا أيضاً من أعظم مظاهر الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين رغم هذا الإغراء من عدو الله اللعين، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من علامات الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي

قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي من مظاهر الولاء والبراء ما كان من عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، يقول جابر بن عبد الله: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟! قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: دعوها فإنها منتنة) يعني: دعوى الجاهلية، فسمعها عبد الله بن أبي فأشعل نار الفتنة عندما سمع بهذا الحديث فقال: قد فعلوها! فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). فلما بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله! لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا). وقد ذكر عكرمة وغيره أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة من الغزو وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستل سيفه، وجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه المنافق قال له ابنه: وراءك! يعني: لم يسمح له بالمرور، فقال: ما لك ويلك؟! قال: والله! لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر الحديث يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يسير خلف أصحابه؛ لأن الناس كانوا يمرون ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد دخل بعد، فقال له: لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له بالدخول.

من قصص المتأخرين في الولاء والبراء

من قصص المتأخرين في الولاء والبراء من مواقف الولاء ما حكاه الأستاذ عبد الله عفيفي في بعض كتبه، يحكي قصة من القصص التي عاشها ورآها بنفسه يقول: في أصيل يوم من صيف سنة (1914م) كنت واقفاً في جمهور الواقفين في محطة طنطا أترقب القطار القادم من الإسكندرية لأركبه إلى القاهرة، لقد كان كل الواقفين في شغل في تلك الدقائق المعدودات في توديع وإشفاق وترقب وانتظار وحمل متاع، وكنت في شغل بصديق يجاذبني حديثاً شيقاً ممتعاً، وفي تلك اللحظات الفانية وبين ذلك الجمع المحتشد راع الناس صياح وأصوات، وتردد واضطراب ومسابة ومدافعة، ثم أسكتوا، فإذا فتاة في السابعة عشرة من عمرها يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساع من سعاة معتمد الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوروبي جاوز الستين، مكتئب مهموم، وهي تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما، أقبل القطار ثم وقف، فكاد كل ينسى بذلك الموقف موقفه وما حصل له، ثم أقعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم، كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يجمل معها الصبر، ولا يحمد منها الصمت، سألت الشيخ: ما خطبه؟ وما أمر الفتاة؟ فقال وقد أطرقه الدمع وقطع صوته الأسى: إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزت ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها وثغرها، ثم أخذت تقضي وقتها في صلاة وصيام وسجود، وكانت تدعى رون، فأبت إلا أن تسمى فاطمة، وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، وصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة والزهرة بالزهرة، ففجعت لهول ذلك الأمر، وقصدت أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها ولم يجد إلا ثباتاً وامتناعاً، وعزت على هذا القسيس شيبته، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الفتاة الخارجة عن دينها، وهنالك أمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم أبيها ليقذف بها بين جوانب الدير تسترد فيها دينها القديم، قلت: أو أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟ فزفر الرجل زفرة كادت تجزع لها قلبه وأحناء ضلوعه، ثم قال: لقد خدعت، وغلب أمر الحكومتين أمري، فما عساني أفعل؟! على أثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت: ما بالك يا فاطمة؟! وكأنها أنست مني ما لم تأنسه ممن حولها، فأجابتني بصوت يتعثر من الضنا: لنا جيرة مسلمون أذهب إليهم فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة، رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يقول وهو يلوح إلي بيده: اقتربي يا فاطمة. يقول: ولو أنك أبصرتها وهي تنطق باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لرأيت رعدة تمشي بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلى أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانها فتعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتم كلمتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها دماء منسكبة إلى ذلك الحد! وغشي الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار، فطلبت منه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله، تنفست الصعداء، وأمعنت بالبكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها: ومم تخافين وتفزعين؟! قالت: إنه سيؤمر بي إلى دير حيث ينهلون من السياط دمي، ولست من ذلك أخاف إلا أن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي، فقلت لها: يا فاطمة! أولا أدلك على خير من ذلك؟! قالت: أجل، قلت: إن حكم الإسلام على القلوب، فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين، وهنالك نظرت إلي نظرة ازدراء حتى خشيت على نفسي، ثم قالت: دون ذلك حز الأعناق، وتفصيل المفاصل. يعني: فإنني إن أطعت نفسي عصاني لساني، وكان ضلالاً ما توصلت به أنا وأبوها ومن حولها، يقول: كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة، فحيل دونها، ولم أعلم بعد ذلك شيئاًَ من أمر فاطمة؛ لأني لم أستطع أن أعلم، رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت بأولى سديدات الرأي الحر والإيمان الوثيق. قد أطلنا في هذه القضية لما ترون من أهميتها البالغة، وإن شاء الله نفرد الكلام عن السفر إلى الخارج، ونريد ممن لهم تجارب في هذا الأمر أن ينصحوا لنا؛ نظراً لأن كثيراً من الناس تعشش في عقله بعض هذه الأفكار، وصاروا ينظرون إلى هذا الجانب حسناً، ويتغافلون عن كثير من الفساد والضياع والانهيار الذي يلقاه من يذهب إلى بلاد الكفار وهو غير مسلح بالإيمان.

أهمية الحديث عن الولاء والبراء في الإسلام

أهمية الحديث عن الولاء والبراء في الإسلام قد أطلنا في هذه القضية لما ترون من أهميتها البالغة، وإن شاء الله نفرد الكلام عن السفر إلى الخارج، ونريد ممن لهم تجارب في هذا الأمر أن ينصحوا لنا؛ نظراً لأن كثيراً من الناس تعشش في عقله بعض هذه الأفكار، وصاروا ينظرون إلى هذا الجانب حسناً، ويتغافلون عن كثير من الفساد والضياع والانهيار الذي يلقاه من يذهب إلى بلاد الكفار وهو غير مسلح بالإيمان. قضية الولاء والبراء أحد قلاع التوحيد، وأحد أركان الإيمان التي يجب على كل مسلم أن يفهمها وأن يطبقها في عقيدته وفي معاملاته مع من حوله، وككل مسائل العقيدة تكون لها مساحة واسعة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتأكيد على معانيها وتوضيحها حتى لا يلتبس الأمر على أحد، فكل مسائل العقيدة موضحة مبينة في القرآن الكريم في غير موضع، وربما تكون آيات الأحكام معدودة ومعروفة مواطنها، وآيات العقيدة تنتشر في أكثر سور القرآن، ويتبين لنا بذلك أهمية الموضوع الذي تتناوله، ومن هذه القضايا قضية الولاء والبراء، من نوالي ومن نعادي، من نحب ومن نبغض، وسنبين بإذن الله تبارك وتعالى أهمية عقيدة الولاء والبراء من آيات الله سبحانه وتعالى ومن أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الولاء والبراء في نصوص السنة

الولاء والبراء في نصوص السنة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الولاء والبراء كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد بسند حسن عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (بايعه على أن ينصح لكل مسلم، وأن يبرأ من الكفار). وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله). وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لن يذوق عبد طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، وقال: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يذوق عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وأما عامة مؤاخاة الناس اليوم فقد صارت على أمر الدنيا، وذلك لا يغني عنهم شيئاً. فإذا كان على عهد ابن عباس قد صار أمر مؤاخاة الناس على أمر الدنيا فكيف بزماننا هذا؟! فلابد لنا أن نفهم هذه القضية، وأن نفهم معناها ونلتزم بها، ونعلم معالم الموالاة وصورها التي يجب على المسلم أن يفهمها وأن يلتزم بها.

الولاء والبراء في نصوص القرآن

الولاء والبراء في نصوص القرآن بين الله سبحانه وتعالى أن من يتخذ اليهود والنصارى وكذا من سواهم من الكفار أولياء فإنه منهم والعياذ بالله، ومقتضى ذلك أن من تولاهم فإنه يكون كافراً مثلهم والعياذ بالله، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وقال الله عز وجل في سورة آل عمران {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] أي: فالله عز وجل بريء منه، وهذا والعياذ بالله وعيد شديد على من اتخذ الكفار أولياء، {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، استثنى الله عز وجل التقاة، وسيأتي بيانها وما يجوز منها إن شاء الله. وقال الله سبحانه وتعالى في بيان لمن تكون هذه الموالاة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]. فانتماء المسلم واضح بين بهذه الآية الكريمة، فهو لا يقف تحت أي راية ولا يكون في أي حزب إلا حزب الله الذي بين الله صفته بقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ). وبين الله سبحانه وتعالى أن الإيمان لا يجتمع مع مودة الكافرين ولو كانوا من الأهل والإخوان والآباء والأمهات ومن سواهم من الأقارب، فقال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] أي: الذين عادوا من كفر بالله ومن حاد الله ورسوله ولو كانوا من الأهل والأبناء والإخوان هؤلاء كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أخبر سبحانه وتعالى برضاه عنهم فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]. وقال سبحانه وتعالى محذراً المؤمنين من مغبة اتخاذ أعدائه وأعدائهم أولياء، وعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة، ويكشف لهم ما في قلوب هؤلاء الأعداء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:1 - 4]. وقال عز وجل عن إمام الحنفاء إبراهيم الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]. قال المفسرون: هي كلمة لا إله إلا الله، فجعل الله سبحانه وتعالى تفسير كلمة التوحيد أنها البراءة من الشرك وأهله، وأنها تولي الله سبحانه وتعالى باتخاذه سبحانه وتعالى مولى لا مولى للمؤمنين سواه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. وبين الله عز وجل أن من اتخذ الكفار أولياء فإنه ملعون مسخوط عليه من الله سبحانه وتعالى فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81].

معنى الولاء

معنى الولاء كلمة الولاء تطلق على معان كثيرة كما ذكر أهل العلم من أهل اللغة، جاء في لسان العرب: الموالاة كما قال ابن الأعرابي: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، فيكون له في أحدهما هوى فيجاريه أو يحابيه، ووالى فلان فلاناً إذا أحبه، والمولى اسم يطلق على معان كثيرة منها الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف الذي معه حلف مع صاحبه والمتعاقد معه على النصرة والصهر والعدل والمعتق والمنعم عليهم. هذه معاني الموالاة، وهي تدور في مختلف صورها على معنى القرب، يقال: ولي فلان فلاناً إذا قرب منه أو إذا تابعه، وأهم معانيها الحب والنصرة، والله سبحانه وتعالى قد بين في غير موضع أن الحب لابد أن يكون لله سبحانه وتعالى وفي الله عز وجل كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب الحب في الله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار). فأول شيء في الموالاة الحب في الله سبحانه وتعالى والبغض في الله، فلابد للمؤمن أن يحب المؤمنين، وأن يحب الله عز وجل حب العبادة، وأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حباً في الله سبحانه وتعالى، فهذا الحب تابع وأثر من آثار حب المؤمن لربه عز وجل.

§1/1