عقيدة السلف - مقدمة أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة

ابن أبي زيد القيرواني

عقيدة السلف "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة" تُوفِّيَ سنة 386هـ -رحمه الله تعالى- لأحمد بن مُشَرَّف الأحسائي المالكي المتوفى سنة 1298هـ -رحمه الله تعالى- تقديم بكر بن عبد الله أبو زيد عن ابن أبي زيد, ورسالته, وعبث بعض المعاصرين بها

بسم الله الرحمن الرحيم ابن أبي زيد, عبد الله بن عبد الرحمن, ت 386هـ. عقيدة السلف/ لابن أبي زيد القيرواني؛ مراجعة بكر بن عبد الله أبو زيد. -ط1. -الرياض: دار العاصمة, 1414هـ/1994م. 72ص؛ 12×17سم. ردمك: × - 10 - 749 - 9960 1 - العقيدة الإسلامية. 2 - التوحيد. أ- أبو زيد, بكر بن عبد الله, مراجع ب- العنوان. رقم الإداع: 0901/ 14

عقيدة السلف "مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة"

المقدمة

المُقَدِّمَةُ الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ التَّوحِيد، والصَّلاة والسَّلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأَصحابه، ومن تبعهم بإِحسان إِلى يوم الدين. أَمَّا بعد: فإِن العلاَّمة أَبا محمد ابن أَبي زيد القيرواني (1): عبد الله بن أَبي زيد عبد الرحمن النَّفْزِي - بالزاي المعجمة- وقيل: النَّفْزَاوي، نسبة إلى قبيلة من قبائل إِفريقية البربرية.

_ (1) ترجمته - رحمه الله تعالى- مبسوطة في كتب التراجم والسير للمالكية وغيرهم كما في ترجمته المطولة في مقدمة تحقيق: الرسالة الفقهية. طبع دار الغرب 1406 هـ (ص/ 9 - 62)، وتحقيق كتاب "العمر" بالترجمة: رقم/ 176. وترجمته للشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أَمين عام مجمع الفقه الإِسلامي بجدة المنشورة في بعض الدوريات. فما ها هنا عن ابن أَبي زيد، ورسالته مُحصَّل مما هنالك.

وقيل: بل إِلى "نَفْزَة" من بلاد الأَندلس، القيرواني المالكي، المولود سنة 310 هـ، والمتوفى بها سنة 386 هـ على الصحيح عن "76" عاماً - رحمه الله تعالى- كان من وجوه أَهل العلم ورفعائهم، مَعْنِيّاً بلزوم السنة والأَثر، والرد على أَهل الأَهواء والبدع، وبخاصة العبيديين، والطرقية؛ ولهذا، ولعلمه، وصرعه، ونبوغه في المذهب المالكي لا سيما في كتابه العُجاب: "النَّوادر والزيادات"، والذي هو الآن قيد التحقيق في "تونس" - كان يُلَقَّبُ بمالك الصغير. وهو وطبقته آخر المتقدمين، وأَول المتأَخرين منهم. وكان - رحمه الله تعالى- عالماً، فقيهاً، ورعاً، كريماً، مُمَدَّحاً، ثرياً، عالي الهمة، سَرِيَّا. وحصلت له إِمامة المالكية بل أَهل السنة كافة في المغرب في زمانه. وكان عالي الإِسناد، معنياً بلقاء الشيوخ والأَخذ عنهم واستجازتهم غرباً، وشرقاً، لا سيما في رحلته الحجازية لأَداء فريضة حج بيت الله الحرام، ولهذا احْتَوَشَهُ الطلاب، وكثر عنه الآخذون، وصار طلب العلم وتعليمه: صنعته،

وتدريسه: حرفته، فشهد درسه الكبار، وتخرج به الأَقران، وأَلحق الأَحفاد بالأَجداد. وكان له في التأْليف رِيَادَةٌ، وفي صنعته عناية، وعلى عبارته حلاوة وطلاوة. وقد بلغت مؤلفاته نحو أَربعين مؤلفاً، في التفسير، والحديث، والفقه، والرد على المخالفين. وكان أَول مؤلفاته: "الرسالة" ولهذا قالوا: "هي باكورة السَّعْدِ، وزبدة المذهب"، وقد كتبها استجابة لرغبة بَلَدِيِّهِ، مُؤَدِّبِ الصِّبْيَةِ، ومعلمهم القرآن الكريم: أَبي محفوظ مُحْرَز بن خلف البكري التونسي المالكي، المولود سنة 340 هـ. والمتوفى سنة 413 هـ. وقيل: بل إِن الذي طلب منه تأْليفها هو: السَّبَائي: إِبراهيم بن محمد، فالله أَعلم. وهي أَول مختصر في مذهب المالكية. وهي أَيضاً: أَول كتاب طبع لابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- ولها طبعات كثيرة في: فاس، والقاهرة، وتونس،

ولندن، وباريس، إِذ ترجمت إِلى اللغتين: الِإنكليزية، والفرنسية. وهي تنتظم أَبواب الشريعة في: التوحيد، والفقه، والآداب، وقد حوت نحو أَربعة آلاف مسأَلة. وقد اعتمدها المالكية شرقاً وغرباً، وعكفوا عليها: دراسة، وتدريساً، وتلقيناً، وحفظاً، وشرحاً، ونظماً؛ حتى بلغت شروحها نحو ثلاثين، بل قال زَرُّوق، المتوفى سنة 899 هـ - رحمه الله تعالى- في شرحه لها: (1/ 3): "حتى لَقَدْ ذُكر أَنها منذ وجدت حتى الآن، يَخْرج لها في كل سنة شرح وتبيان". فتكون شروحها والبيانات عنها بالمئات حتى أَن علي ابن محمد بن خلف المُنُوفي المتوفى سنة 939 هـ له ستة شروح على الرسالة. ولشدة الحفاوة بها كتبت بالذهب، وبيعت أَول نسخة منها في حلقة شيخه بالِإجازة، شيخ المالكية ببغداد: أَبي بكر محمد بن عبد الله التميمي الأَبهَري، المُتوفَّى سنة

375 هـ -رحمه الله تعالى- بيعت بعشرين ديناراً ذهباً. ولشدة الحفاوة بها أَيضاً، كان أَخذ التلاميذ لها عن الأَشياخ بالِإسناد والاجازة إلى مؤلفها، وأَسانيدُها مثبتة في الأَثبات، والمشيخات، والفهارس حتى عصرنا. وكان أَول شروحها لتلميذه: أَبي بكر محمد بن مَوْهَب المقبري، المتوفى سنة 406 هـ -رحمه الله تعالى-. وقيل: بل أَول شارح لها هو: القاضي عبد الوَهَّاب بن نصر المالكي المتوفى سنة 422 هـ رحمه الله تعالى-. وقد بيعت أَول نسخة من شرحه لها بمائة مثقال ذهبا. وهذان الشرحان يلتقيان مع ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- على طريقة السلف كما يفيده نقل ابن القيم عنهما في: "اجتماع الجيوش الِإسلامية". وأمَّا جُل الشُّروح المطبوعة كشرح زَوُّوق، والعدوي، وابن ناجي، وابن غنيم، وغيرهم فهي على طريقة الخلف في شرح المقدمة، والله المستعان. وَلاَ يُسْتَنكَرُ هذا؛ فإِن المذهب ينتسب إِليه طوائف

مخالفون لصاحب المذهب في كثير من مسائل الاعتقاد، كما حصل في المنتسبين إِلى الأَئمة الأَربعة، ومن أَمثلة ذلك كتاب "الفقه الأَكبر" المنسوب إِلى أَبي حنيفة - رحمه الله تعالى- فقد شرحه أَبو منصور الماتريدي، وغيره فمشوا فيه على التأْويل. والله المستعان (1). وتناولها علماء آخرون بالنظم، منها نظم في تسعين بيتاً لمقدمة الرسالة في: "الاعتقاد" للشيخ أَحمد بن مشرف المالكي الأَحسائي، المتوفى سنة 1285هـ - رحمه الله تعالى-. طبعته جامعة الِإمام محمد بن سعود الِإسلامية عام 1396 هـ. ومن قَبْلُ أَفرد المقدمة الخَفَّافُ المالكي وغيره- رحم الله الجميع-. ومقدمة هذه الرسالة على وجازتها، حاوية لأَصول الاعتقاد في الإِسلام على طريقة سلف هذه الأُمة، وخيارها

_ (1) انظر: "شرح العقيدة الطحاوية": (ص/ 323). "مختصر العلو": (ص / 136 - 137).

من الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم: في بيان حقيقة الِإيمان وأَركانه الستة، وتقرير توحيد الله -سبحانه- في أَسمائه، وصفاته، كالاستواء، وإثباتها على حقيقتها، وتفويض كيفيتها، إِثباتاً من غير تفويض للحقيقة، ولا تشبيه، ولاتمثيل، ولا تعطيل. فرحم الله هذا الحبر رحمة واسعة، آمين. وقد رأَيتها في مطلع هذا العام 1414 هـ. منشورة مفردة باسم: "العقيدة الِإسلامية التي يُنَشَّاُ عليها الصِّغار" للِإمام ابن أَبي زيد القيرواني. وُلد سنة 310 هـ، وتُوفي سنة 386 - رحمه الله تعالى - اعتنى به: عبد الفتاح أَبو غدة. الناشر: مكتب المطبوعات الِإسلامية بحلب". فرأَيت هذا "المُعْتَنِي بِهَا" قد تناولها بقلم غير قلم ابن أَبي زيد، وبعقيدة تخالف عقيدته، فَوَظَّفَ التحريف بما سَوَّلَتْ له نَفْسُهُ في نَصِّ هذه العقيدة ومعناها فَفَتَح فيها ثُلَما، وَغَشَّاها من عقيدة التفويض والتحريف مَا غَشَّى، تفريطاً في الحق وهو بين يديه، وتعدياً على الخلق وهو بين

أَيديهم، فصار واجباً عَلَى مَنْ عَلِمَ: كشف تلك الدسائس. ودفع هذا التعدي البائس، نصرة لعقيدة أَهل السنة وأَهلها، وحماية لعقائدهم من دخولات المخالفين لها؛ وليحذر المسلمون من تسليم أَولادهم لمن يتمسح بمعتقدهم، وحقيقته استدراجهم إِلى فاسد مشربه، وفتح باب الأَهواء، والمُشَاقَّةِ في صُفُوفِهم، نعوذ بالله من الهوى وأَهله. وإليك البيان:

• توظيفه التحريف لنص مقدمة الرسالة

• توظيفه التحريف لنص مقدمة الرسالة: * رأَيت في إِخراجه للنص تصرفات في ذات النص بالحذف في موضعين: (ص 20، 23)، والتصرف بإِبدال كلمة بأُخرى في موضع واحد: (ص 25)، والزيادة من كيسه على النَّص في ستة مواضع: (ص 33، 38، 41، 41،41). تُعْلَمُ هذا بالمقابلة بين نص المقدمة الذي نقله وبين نَصِّ المقدمة في "الرسالة" ومع شروحها المطبوعة. وقد قابلت النص الذي طبعه: على نُسخ الرسالة مفردة، ومع شروحها المطبوعة الآتية، وهي: 1 - الرسالة الفقهية مع "غُرر المقالة" للمغراوي (ص/ 71 - 80). المحققة عام 1406 هـ طبع دار الغرب. 2 - رسالة القيرواني. طبع مكتبة الحلبي بمصر عام 1368 هـ: (ص/ 2 - 4). 3 - متن الرسالة. طبع مكتبة القاهرة: (ص 3 - 12). 4 - رسالة ابن أَبي زيد. طبع نيجريا: (ص 2 - 9).

5 - ، 6 - شرح زروق ومعه شرح ابن ناجي: (1/ 4 - 71). طبع مصر، عام 1332 هـ. 7 - ، 8 - شرح العدوي مع شرح المنوفي: (1/ 7 - 110). طبع دار الفكر. 9 - الفواكه الدواني. لابن غنيم: (1/ 2 - 129). 10 - الثمر الدواني. لصالح بن عبد السميع الأَزهري: (ص 3 - 20). 11 - تنوير المقالة للتتائي. (1/ 31 - 380). طبع عام 1409 هـ. 12 - كفاية الطالب الرباني. للمنوفي: (1/ 13 - 234). طُبع مفرداً عام 1407 هـ. بالمقابلة على متن مقدمة الرسالة في جميع هذه النُّسخ، وَجَدْتُ أَن جميع ما أَشرف إِلى مواضعه من تحريفاته بالحذف، أَو التغيير، أَو الزيادة، كلها تحريفات من عنده، وجميعها بالجملة تحمل نَفَساً مذهبياً، وعصبية خَلْفية. نَعَمْ تَوَرَّع في مقدمة الطبع فذكر أنه سيزيد ألفاظا؟؟

فَحَوَّل هذه العقيدة من انتظامها العقدي لفرائض الاعتقاد إِلى مذكرة فقهية في قالب اصطلاح مذهبه الفقهي، بإِقحامه ستة أَلفاظ في ستة مواضع من كلام ابن أَبي زيد في مقدمته، فهذه ست كذبات كذبها على ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- منها ألفاظ: "فرض وواجب ومطلوب"؟؟ وأُمور الاعتقاد تجري على سياق واحد بأَنها أَصل الدين وقاعدته. والفرض والواجب لا فرق بينهما عند جمهور الفقهاء منهم مالك - رحمه الله تعالى-، وابن أَبي زيد مالكي المذهب. والتفريق بينهما من مفردات مذهب الحنفية؛ إِذ الفرض عند الحنفية لما ثبت بدليل قطعي، والواجب لما ثبت بدليل ظني، و"المطلوب" ما تردد بينهما، فلماذا هذا؟ وعندئذٍ تعرف السِّرَّ في حذفه قول ابن أَبي زيد في فاتحة المقدمة: "فإِنك سأَلتني أَن أَكتب لك جملة مختصرة من واجب الديانة مما تنطق به الأَلسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن

من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها. وَجُمَل من أُصول الفقه وفنونه على مذهب الإِمام مالك ابن أَنس - رحمه الله - وطريقته ما سهل سبيل ما أَشكل من ذلك من تصير الراسخين، وبيان المتفقهين". فقد حذف ما تحته خط، وهو كلام ينتظم جميع ما سيذكره من أُمور الاعتقاد، والآداب، والأَحكام من أَنها على مذهب مالك وطريقته، وتفسير الراسخين، وبيان المتفقهين. وأَما التغيير فعند قول ابن أَبي زيد -رحمه الله تعالى-: "ولا يتفكرون في ماهية ذاتها": (ص 25)، بعد أَن حذف هذا الحلبي كلمة: "ماهية"- وفي بعض النسخ: "مائية"- وأَبدلها بكلمة: "حقيقة"- قال في التعليق: "أَي لا يعلم أَحد حقيقة ذات الله تبارك وتعالى ... ". فهذا ليس بياناً مُلاَقياً؛ فإِن مرتبة التفكير تسبق مرتبة العلم، فنفي "التفكير" في ذات الله، أَبلغ من نفي العلم فتأَمل.

فانظر إِلى هذا المكر: حَذْفٌ، وَزِيَادَة، وَتَغْيِيرٌ، وَتَدْلِيسٌ، وَفِرَارٌ مِن طَريقة السلف، وتلفيقٌ مرفوض شرعاًَ وَمَسْلَكاَ. ولا أَحب أَن أُطيل ببيان ذلك؛ لأَن سطوه هذا بالتحريف كافٍ في إِدانته، وسحب الثقة منه، يؤيده ما بعده: * ورأَيت أَن طَبْعَهُ النَّزَّاع إِلى التحريف، قَدْ أَعْمَلَهُ فيما نقله في تعليقاته: ففي التعليقة رقم/2 (1)، (ص/28 - 30) نقل عن القرطبي في تفسيره: (7/ 1) فزاد، ونقص، وَلَفَّق، وَتَصَرَّف بعبارات أُخر، كما يُعلم بالمقابلة. وفي التعليقة رقم/ 1، (ص/ 31 - 32) عن زَرُّوق: تلفيق ظاهر، كما يعلم بالمقابلة.

_ (1) في سياقه للآية الكريمة غلط مطبعي فليصحح.

• توظيفه التحريف لمعانيها بصرفها عن طريقة السلف

• توظيفه التحريف لمعانيها بصرفها عن طريقة السلف: * ورأَيته في تعليقاته على هذه المقدمة في التوحيد قد قلبها من عقيدة السَّلف إِلى عقيدة خلفية، تحمل: الِإرجاء، والتفويض، والتأْويل، وَحَمْلَ نصوص الصفات على المتشابه: فَحَوَّلَ الِإيمان، من حقيقته الشرعية: قول، واعتقاد، وعمل، إِلى عقيدة "الِإرجاء"؛ إِذ أَخرج "الأَعمال" عن حقيقة الِإيمان، ومسماه، وَلبَّس في العبارة كما في تعليقته رقم/2، (ص/24). وقد بينت ما في هذا القول الفاسد من الجناية على الإِسلام، وعلى المسلمين، وذلك في كتاب: "تحريف النصوص من مآخذ أَهل الأَهواء في الاستدلال". * وَحَوَّلَ ما قرره ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- من أَن الله -سبحانه- فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه، خلق الِإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه ... على العرش استوى، وعلى الملك احتوى ... ، حَوَّلَّهُ إِلى

عقيدة التفويض بثلاث تعليقات: التعليقة الأَولى: رقم/ 2، (ص/ 26)، والتعليقة الثانية: رقم/ 1، (ص 27)، والتعليقة الثالثة: رقم/1، (ص/31)، كلها تعليقات تدور على نفي ما نطق به الوحيان الشريفان من استواء الله -سبحانه- على عرشه، استواء حقيقياً يليق بجلاله من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل. وإِليك البيان: 1 - قال في التعليقة الأَولى: رقم/ 2، (ص/ 26): لفظة: "بذاته" لم ترد في الكتاب والسنة ولا في كلام الصحابة -رضي الله عنهم- قال الحافظ الذهبي في كتاب: "العلو": (ص/ 172) عند ذكرها في كلام ابن أَبي زيد هنا: (وقد نقموا على ابن أَبي زيد في قوله: "بذاته" فليته تركها). إِلى آخر ما نقله عن الذهبي -رحمه الله تعالى- في ذلك من كتابه: "سير أَعلام النبلاء" في موضعين منه. وهنا ينبغي أَن يقف المسلم على الحقائق الآتية:

* الحقيقة الأُولى: أَنه مازال أَمر المسلمين جارياً على الإِسلام والسنة من لدن الصحابة من المهاجرين والأَنصار -رضي الله عنهم- إِلى من بعدهم من التابعين لهم بإحسان ما تتابعوا، يؤمنون بصفات الله -تعالى- التي نَطَقَ بها الوحيان الشريفان، فَتُمَرُّ كما جاءت وتثبت على ظاهرها بأَلفاظها، وتثبت دلالة أَلفاظها على حقائقها، ومعانيها، وتعيين المراد منها على ما يليق باللهِ -تبارك وتعالى- وذلك كالقول في الذات سواء، مع تفويض الكيفية، ونفي الشبيه والمثال، والتنزيه عن التعطيل. وهذا مُوجَبُ النصوص، والعقول، وفِطَر الخلائق السليمة. وكانت الحال كذلك في صدر الأُمة في أُمور التوحيد كافة لا يشوبهم في ذلك شائبة. ولهذا لا ترى في هذه الحقبة الزمنية المباركة تآليف في تقرير التوحيد.

* الحقيقة الثانية: أَنه لما وقعت في الأُمة بذور البدع في الِإرجاء، والقدر، والتشيع، والتأْويل، والتفويض ... قابلها السلف عن قوس واحدة بالرد، والِإنكار، وصاحوا بهم من جميع الأَقطار، فتميزت جماعة المسلمين المنابذين لهذه الأَهواء باسم: السلف، وأَهل السنة، وأَهل السنة والجماعة، وأَهل الحديث. وانحازت الأَهواء في رؤوس أَصحابها يُعْرَفُونَ بأَلقابهم التي تفصلهم عن جماعة المسلمين: شيعة، رافضة، قدرية، مرجئة، مؤولة، مفوضة، جهمية، معتزلة، ماتريدية، أَشعرية ... * الحقيقة الثالثة: أَن القيام بهذا الواجب الِإيماني العظيم من أَهل السنة والجماعة في الرد على أَهل الأَهواء كِفَاحاً، أَوْجَدَ كذلك الرَّدَّ كتابة على كل مَن مَدَّ لسانه بباطل في مقامات التوحيد وأَصل الملة، فكتبوا الردود ودونوها، وأَبطلوا شبه المخالفين وزيفوها، وأَن نهاية صدورها من المخالفين، إِنما هو عن

هوى وتلاعب بالدين. فَرَدَّ عَلَى القدرية في القرن الثاني الأَئمة: مالك المتوفا سنة 179 هـ، وابن المبارك المتوفا سنة 181 هـ، وغيرهما- رحم الله الجميع-. وهكذا عَلَى بقية الفرق، ومؤلفاتهم فيها مشهورة، ومنها جملة مطبوعة. ولهذا فيكاد يكون أَول الكتب المؤلفة في التوحيد، هي في مجال الرد على المخالفين فحسب. * الحقيقة الرابعة: أَن أَهل السنة والجماعة حين يكتبون في بيان أَمر التوحيد، وتقريره، ابتداءً؛ لتلقين المسلمين المعتقد الحق، ودفع تلقينهم عقائد المخالفين- فإِنهم في تآليفهم هذه يقتصرون على أَلفاظ نصوص الوحيين الشريفين كما سَلَكَهُ شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في "العقيدة الواسطية" وغيرها. وقد يأْتي بعضهم ببعض هذه الأَلفاظ مثل "بائن من خلقه"، "بذاته"، "غير مخلوق" لزيادة البيان؛ ولما يشاهده

في عصره من ظهور المخالفين وانتشار مذاهبهم، فهو تقرير وَرَدٌّ على تلكم التوجهات العقدية المرفوضة بمقياس الشرع المطهر، يوضحه ما بعده: * الحقيقة الخامسة: أَن وجود الأَقوال الشنيعة من المخالفين في حق الله- تبارك وتعالى- المُعْلَنَةِ في مذاهبهم الباطلة: التأْويل، التفويض، التعطيل ... المخالفة لما نطق به الوحيان الشريفان في أُمور التوحيد والسنة، اضطرت علماء السلف الذين واجهوا هذه المذاهب، والأَقاويل الباطلة بِالرَّدِّ والِإبطال- إِلى البيان بأَلفاظ تفسيرية محدودة، هي من دلالة أَلفاظ نصوص الصفات على حقائقها ومعانيها لا تخرج عنها؛ هؤلاء المخالفين لما تجرؤا على الله فتفوهوا بالباطل وجب على أَهل الإِسلام الحق الجهر بالحق، والرد على الباطل جهرة بنصوص الوحيين، لفظاً ومعنى ودلالة بِتَعَابِيرَ عن حقائقها ومعانيها الحَقَّة لا تخرج عنها البتة، وانتشر ذلك بينهم دون أَن ينكره منهم أَحد.

وكان منها- مثلاً- أَلفاظ خمسة: "بذاتها"، "بائن من خلقه"، "حقيقة"، "في كل مكان بعلمه"، "غير مخلوق". فأَهل السنة يُثبتون: استواء الله على عرشه المجيد، كما أَثبته الله لنفسه. فلما نفى المخالفون "استواء الله على عرشه المجيد" وَلَجَأُوا إِلى أَضيق المسالك، فأَوَّلَهُ بَعْضٌ بالاستيلاء، وبعض بالتفويض، وبعض بالحلول، رد عليهم أَهل السنة بإِثبات استواء الله سبحانه على عرشه المجيد بذاته، وأَنه -سبحانه- بائن من خلقه، وأَنه استواء حقيقة. فأَي خروج عن مقتضى النص في هذه الأَلفاظ. بل نقول لهم بالِإلزام: أَين لفظ "الاستيلاء" في نصوص الوحيين؟ وقد بينت بعضاً من ذلك في حرف الباء من: "معجم المناهي اللفظية" استطراداً فيما لا ينهى عنه. وهذه الأَلفاظ انتشرف بين المسلمين: أَهل السنة والجماعة، ولم ينكرها منهم أَحد، وإليك البيان:

"1"- لفظ: "بذاته": أَما لفظ: "بذاته" فقال أَبو منصور السجزي المتوفى سنة 444 هـ رحمه الله تعالى (1): "أَئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد ابن زيد، والفضيل، وأَحمد، وإِسحاق متفقون على أَن الله فوق العرش بذاته، وأَن علمه بكل مكان" انتهى. وأَبو إِسماعيل الهروي المتوفى سنة 481 هـ - رحمه الله تعالى- لما صرح في كتبه بلفظ "الذات" قال (2): "ولم تزل أَئمة السَّلف تُصرِّح بذلك" انتهى. فهذان نقلان يفيدان إِطلاق هذا اللفظ لدى السلف من غير نكير. ومن أَفرادهم كما في "اجتماع الجيوش الِإسلامية"، و"مختصر العلو":

_ (1) "اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص/ 246). (2) "اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص/ 279).

1 - ابن أَبي شيبة: أَبو جعفر محمد بن عثمان العبسي الكوفي المتوفى سنة 297 هـ. 2 - أَبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310 هـ: "المختصر": (رقم 279). 3 - أَبو الحسن الأَشعري، ت 324 هـ: "اجتماع": (ص/ 281). 4 - أَبو سليمان الخطابي، ت 388 هـ: "اجتماع": (ص/ 281). 5 - ابن أَبي زيد القيرواني المالكي، ت 386 هـ: "اجتماع": (ص/ 150)، "المختصر" (رقم 279). 6 - أَبو عمرو الطلمنكي، ت 399 هـ: "اجتماع": (ص/142، 147، 281). 7 - أَبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، ت 403 هـ: "اجتماع": (ص/ 280، 281). 8 - محمد بن الحسن بن فورك، ت 406 هـ: "اجتماع": (ص/ 281).

9 - محمد بن موهب تلميذ ابن أَبي زيد، ت 406 هـ: "اجتماع": (ص / 187، 188)، "المختصر": (رقم 282). 10 - يحيى بن عمار السجزي، ت 422 هـ: "اجتماع": (279)، "المختصر": (رقم 319). 11 - عبد الوهاب بن نصر المالكي، ت 422 هـ: "اجتماع": (ص/ 164، 189، 280، 281)، "المختصر": (رقم 279). 12 - سعد بن علي الزنجاني الشافعي، ت 471 هـ: "اجتماع": (ص/ 197). 13 - أَبو إِسماعيل عبد الله الأَنصاري الهروي، ت 481 هـ: "اجتماع": (ص/ 279)، قال: "بذاته". وفي: "المختصر": (رقم 255)، قال: "على العرش بنفسه". 14 - إِسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي، ت 535 هـ: "اجتماع": (ص/ 180، 183).

15 - عبد القادر الجيلاني، ت 561 هـ: "اجتماع": (ص/ 276، 277). 16 - محمد بن فرج القرطبي، ت 671 هـ: "اجتماع": (ص/ 285). "2" - لفظ: "بائن من خلقه": وأَما لفظ: "بائن من خلقه" فقد عزاه أَبو نعيم الأَصبهاني المتوفى 430 هـ إِلى السلف فقال كما في: "مختصر العلو": (ص/ 261): "طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة واِجماع الأُمة ومما اعتقدوه أَن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة ... - إِلى أَن قال-: وأَن الأَحاديث التي ثبتت في العرش، واستواء الله عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف، ولا تمثيل، وأَن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أَرضه" انتهى مختصراً. قال الذهبي بعده: "فقد نقل هذا الِإمام الِإجماع على

هذا القول، ولله الحمد ... ". ونقله- أَيضاً- الِإمامان أَبو زرعة، وابن أَبي حاتم، قالا كما في: "اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص/ 233)، و"مختصر العلوم": (ص / 204، رقم / 253)، واللفظ عن "اجتماع الجيوش الِإسلامية": "أَدركنا العلماء في جميع الأَمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم الِإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق ... - إِلى أَن قال-: وأَن الله عزَّ وجلَّ على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف، أَحاط بكل شيء علماً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ... " انتهى مختصراً. وقال القرطبي محمد بن فرج المتوفى 671 هـ كما في: "اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص/ 281): "وقال جميع الفضلاء الأَخيار: إِن الله فوق عرشه كما أَخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع

خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات" انتهى. وحكاه البوشنجي المتوفى 242 هـ عن أَهل الأَمصار كما في "مختصر العلو": (ص / 225)، فقال: "هذا ما رأَينا عليه أَهل الأَمصار، وما دلَّت عليه مذاهبهم فيه، وإِيضاح منهاج العلماء وصفة السنة وأَهلها، أَن الله فوق السماء على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وسلطانه وقدرته بكل مكان" انتهى. ومن أَعلامهم كما في: "اجتماع الجيوش الِإسلامية"، و"مختصر العلو": 1 - عبد الله بن المبارك، ت 181 هـ: "اجتماع": (ص / 134، 214)، "المختصر": (رقم 67). 2 - هشام بن عبد الله الرازي، ت 221 هـ: " المختصر": (رقم 53). 3 - سُنيد بن داود، ت 226 هـ: "اجتماع": (ص / 235) "المختصر": (رقم 56).

4 - حماد بن هناد البوشنجي، ت 230 هـ: "اجتماع": (ص / 242)، "المختصر": (رقم 108). 5 - إِسحاق بن راهويه، ت 238 هـ: "المختصر": (رقم 67). 6 - أَحمد بن حنبل، ت 241 هـ: "اجتماع": (ص / 200، 201)، "المختصر": (رقم 66). 7 - يحيى بن معاذ الرازي، ت 258 هـ: "اجتماع": (ص / 270)، "المختصر": (رقم 79). 8 - أَبو زرعة الرازي، ت 264 هـ: "اجتماع": (ص / 233)، "المختصر": (رقم 77). 9 - المزني صاحب الشافعي، ت 264 هـ: "اجتماع": (ص / 168)، "المختصر": (رقم 74). 10 - أَبو حاتم الرازي، ت 277 هـ: "اجتماع": "المختصر": (رقم 77، 78). 0 7 (ص/ 233)، 11 - عثمان بن سعيد الدارمي، ت 280 هـ: "اجتماع": (ص/ 231).

12 - أَبو جعفر ابن أَبي شيبة، ت 297 هـ: "المختصر": (رقم 103). 13 - عبد الله بن أَبي جعفر الرازي، مات بعد المائتين: "اجتماع": (ص / 221)، "المختصر": (رقم 45). 14 - إِمام الأَئمة ابن خزيمة، ت 311 هـ: "اجتماع": (ص / 194)، "المختصر": (رقم 109). 15 - أَبو القاسم الطبراني، ت 360 هـ: "المختصر": (رقم 125). 16 - ابن بطة، ت 387 هـ: "المختصر": (رقم 133). 17 - محمد بن موهب، ت 406 هـ: "اجتماع": (ص / 188)، "المختصر": (رقم 164). 18 - معمر الأَصبهاني، ت 428 هـ: "اجتماع": (ص / 226)، "المختصر": (رقم 142). 19 - أبو نعيم الأصبهاني ت 430 هـ: "اجتماع": (279)، "المختصر": (رقم 141). 20 - شيخ الإِسلام أَبو عثمان الصابوني، ت 449 هـ:

"اجتماع": (رقم 247). 21 - أَبو إِسماعيل الأَنصاري الهروي، ت 481 هـ: "اجتماع": (ص 481)، "المختصر": (ص 158). 22 - نصر المقدسي، ت 490 هـ: "المختصر": (رقم 155). 23 - إِسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي، ت 535 هـ: "اجتماع": (ص / 180). "3"- لفظ: "حقيقة": وأَما لفظ: "حقيقة" فإِطلاق علماء السلف لها عند ذكر إِثبات كل صفة من صفات الله تعالى- وصف بها نفسه، أَو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أَكثر من أَن يحصر؛ وذلك لَمَّا تَفَوَّهَ أَهْلُ الأَهواء بمواقفهم المخالفة في الصفات بنفي حقائقها ومعانيها بين التفويض تارة، والتأْويل تارة، والتعطيل تارة، والتشبيه تارة، وقد قالت الجهمية والمعتزلة (1):

_ (1) "مختصر العلو": (ص / 264، رقم / 146).

"لا يجوز أَن يسمى الله بهذه الأَسماء على الحقيقة" حينئذٍ كَثُرَ على لسان السلف إِثبات صفات الله تعالى على الحقيقة، أَي: بالِإقرار والِإمرار بلا تأْويل ولا تفويض للمعنى ولا تكييف، ولا تشبيه مع التفويض للكيفية". ومجىء هذا اللفظ على لسان السلف أَكثر من أَن يحصر، ولينظر على سبيل المثال: "مختصر العلو": (ص / 263، 264، 268، 286)، و"اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص / 142، 189، 263، 280) وفيها قال القرطبي: "ولم ينكر أَحد من السلف الصالح أَنه استوى على العرش حقيقة" انتهى. "4"- لفظ: "في كل مكان بعلمه": وأَما قولهم: "في كل مكان بعلمه" فقد قال الِإمام مالك - رحمه الله تعالى- (1): "الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان".

_ (1) "التمهيد": (7/ 138)، "اجتماع الجيوش الِإسلامية": (ص / 141).

وهو تعبير جارٍ لدى أَئمة جماعة المسلمين في كتبهم كافة، وبخاصة عند إِثبات استواء الله- تعالى- على عرشه المجيد، وعند إِثبات معية العلم، ولم يخالفهم في ذلك أَحد يحتج به كما قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى- (1): "وعلماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأْويل، قالوا في تأْويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 4]: أَنه على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أَحد يحتج به" انتهى. "5" - لفظ: "غير مخلوق": * والمسلمون: أَهل السنة، يعتقدون ويثبتون أَن القرآن كلام الله -تبارك وتعالى- لا يزيدون على ذلك. فلما واجهت الجهمية الأُمةَ ببدعة القول بخلق القرآن وشايعهم المعتزلة على هذه المقولة الكفرية فقالوا عن القرآن:

_ (1) "التمهيد": (7/ 139)، وعنه في "مختصر العلو": (ص / 268)، و"اجتماع الجيوش الإِسلام": (ص/ 190).

"مخلوق". رد عليهم علماء السلف بالنفي والِإنكار فقالوا: "القرآن كلام الله غير مخلوق". وإِلى هذه الحقيقة أَشار الِإمام أَحمد - رحمه الله تعالى - كما في "مسائله" رواية أَبي داود عنه: (ص / 263 - 264)، إِذ سُئل عن الواقفة الذين لا يقولون في القرآن إِنه مخلوق أَو غير مخلوق، هل لهم رخصة أَن يقول الرجل: "كلام الله" ثم يسكت؟ قال: وَلمَ يسكت؟! لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا لأَي شيء لا يتكلمون (1). * الحقيقة السادسة: هذه خمسة أَلفاظ تداولها علماء السَّلف من غير نكير من بعضهم على بعض، وأَطلقوها في مواجهة أَهل الأَهواء لما نطقوا بالباطل. وقد ساق منها ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- ثلاثة أَلفاظ:

_ (1) بواسطة: "مقدمة مختصر العلو" للأَلباني: (ص / 19).

"بذاته"، "وهو في كل مكان بعلمه"، "القرآن كلام الله ليس بمخلوق" فاستنكر عليه الذهبي - رحمه الله تعالى- لفظة "بذاته". ونقل المعلق برقم / 2، (ص / 26)، استنكار الذهبي لها على ابن أَبي زيد المالكي، وعلى ابن الزاغوني الحنبلي المتوفى 527 هـ. ونريد في هذه الحقيقة بيان الفرق بين استنكار الذهبي لها وبين سياق المعلق لهذا الاستنكار، لنعلم أَن الفرق بين الاستنكارين كالفرق بين الرجلين. فالذهبي - رحمه الله تعالى- جارِ في الاعتقاد على طريقة أَهل السنة والجماعة، لا يشك في ذلك أَحد؛ ولهذا كان كتابه "العلو للعلي الغفار" شجى في حلوق المبتدعة من المؤولة، والمفوضة، والمعطلة، وغيرهم. فاستنكاره - رحمه الله تعالى- لِإطلاق بعض هذه الأَلفاظ لا يعني التأْثير بأَي وجه على سلامة معتقده في الِإثبات بلا تشبيه ولا تكييف، وإِنما يعني استنكار إِطلاقها في مقام التقرير، أَو لما يحصل لها من أَثر على بعض

النفوس، والقصد هداية الخلق إِلى الحق، والأَصل الوقوف عند لفظ النص. أَما سياق المعلق المذكور بقرينة تعاليقه الخلفية على هذه المقدمة، فهو يعني إِنكار "استواء الذات" والذي من لازمه أَن الله -تعالى- في كل مكان، فيؤول الأَمر إِلى ما فاهت به الجهمية والمعتزلة من قولهم: "إِن الله في كل مكان بذاته" تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وهذه الحيدة في هذا التعليق عن مذهب السلف، هي نظير الحيدة في تعليقته الثانية: رقم / 1، (ص / 27) على قول ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى-: "وهو في كل مكان بعلمه" إِذ قال المعلق: "يعني أَن عِلْمَ الله -تعالى- محيط بكل مكان لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء". فهذا كلام حق، والله -تعالى- يقول: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. لكن تعليقه من خَلَفِىّ على هذا الموضع، له معنى لدى الأَشعرية يعود

بالِإبطال على إِثبات استواء الله على عرشه بذاته، وأَنه في كل مكان بعلمه. وتعليقته هذه هي عين ما جرى عليه الأَشعرية في "شرح الرسالة"، كما في: "شرح زروق": (1/ 29)، والتتائي في: "تنوير المقالة": (1/ 186 - 187) وفيه: " ... قول من قال: إِن الباري -تعالى- بكل مكان بعلمه: باطل؛ لأَن من يعلم مكاناً لا يصح أَن يقال: هو في ذلك المكان بالعلم، وإِنما يقال: إِنه محيط بكل شيء قدرة، وعلماً، وأَن ما أَتى به المؤلف، هو مذهب المعتزلة ... " انتهى. وهذه مغالطة. فالمعتزلة يقولون: إِن الله تعالى في كل مكان بذاته، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. فانظر:- رعاك الله- خفاء مسالك المبتدعة، في صرف الحق وأَن لهم عبارات، وأَلفاظاً، وحيلاً، يُقََلِّبون فيها الأُمور. وأَن هذا المعلق أَتى بهذا التعليق على مشربه، فأَفسد

العقيدة من مكان بعيد. نعوذ باللهِ من الخذلان. وأَما تعليقته الثالثة: رقم / 1، (ص / 31) على قول ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى-: "على العرش استوى" فإِنه نقل كلام زروق في "شرح الرسالة": (1/ 24، 31)، وكلام زروق- تجاوز الله عنا وعنه - فيه تأْويل من بعد تفويض؛ إِذ فوض معنى الاستواء وَأَوَّلَ قول مالك - رحمه الله تعالى- المشهور عنه وعن غيره من السلف: "الاستواء معلوم ... " على أَن آيات الصفات من المتشابه الذي يُنزه عن المحال ولا يُتعرض لمعناه. وهذا حمل لكلام مالك على غير المراد منه، والناس كافة على خلافه، وشرح هذا يطول. وَهُنَا غَلِطَ زروق في قوله: "جاء ذكر الاستواء على العرش في ستة مواضع من كتاب الله تعالى"، وصوابه في: "سبعة مواضع ... " من سورة: الأَعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.

والمعلق لم ينقل أَيضاً كلامه بتمامه، بل بتر، وَلَفَّق، وَيَعلم هذا مَنْ قَابَل بين النقل والكتاب المنقول منه. والقول بالتفويض شَرٌّ من التأْويل، ومن نَسب التفويض إِلى أَنه قول السلف، وفي مقدمتهم الصحابة- رضي الله عنهم- فقد جَهِلَ مذهبهم، وَجَهَّلَهم، وكذب عليهم. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- (1): "إِن قول أَهل التفويض الذين يزعمون أَنهم متبعون للسنة والسلف مِن شَرِّ أَقوال أَهل البدع والِإلحاد" انتهى. وقال السفاريني - رحمه الله تعالى- مشيراً إِلى قبح مقالة التفويض (2): "فهذا الظن الفاسد، أَوجب تلك المقالة التي مضمونها، نبذ الإِسلام وراء الظهر، وقد كذبوا وأَفكوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف،

_ (1) "العقل والنقل": (1/ 118). (2) "مختصر شرح العقيدة": (1/ 21).

فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، والمجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم" انتهى. حينئذٍ يأْتي هذا السؤال وهو: لماذا عَلَّق على هذين اللفظين: "بذاته"، و"في كل مكان بعلمه" بما يلغيهما، وترك التعليق على لفظ "ليس بمخلوق" في قول ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى-: "وأَن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ... " مع أَن هذه اللفظة "ليس بمخلوق" هي كذلك ليست توقيفية بلفظها، كاللفظين المذكورين؟ والجواب: أَن الذي يقول بخلق القرآن هم الجهمية، والمعتزلة، وقد قام أَهل السنة والجماعة بواجب الرد عليهم، وكانت الأَشاعرة كذلك لا تقول بخلق القرآن، وكان منهم من يطلق هذه العبارة: "القران كلام الله غير مخلوق"، لكن لهم أَقوال غثة رخيصة تؤدي إِلى القول بخلق القران كما تجد بيانها في "شرح الطحاوية" وغيره. والله أَعلم. وَحَوَّلَ مَا قَرَّرَهُ ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- من أَن الله -سبحانه وتعالى - يجيء يوم القيامة حقيقة- إِلى حكايه

الخلاف بين المجيء حقيقة، وبين التأْويل بمجيء أَمره وقضائه، وذلك فيما نقله في التعليق رقم / 1، (ص / 37) عن كتاب: "صفوة البيان ... " للشيخ حسنين مخلوف - رحمه الله تعالى-: (ص / 804). وهو بهذا الِإخراج لمقدمة رسالة ابن أَبي زيد - رحمه الله تعالى- وبهذه التعليقات عليها، لَمْ يُبْق هذه "العقيدة الِإسلامية" على مبناها؛ لِمَا أَدخله من تحريفٍ: زيادة، ونقصاً، وتبديلاً. وَلَمْ يُبْقِها على مَعْنَاها، وَصَفَائِهَا، ونقاوتها، بَلْ نَكََثَها، وَحَوَّلَها إِلى عقيدة خلفية هُوَ عاضٌّ عليها، تَحْمِلُ: الِإرجاء، والتفويض، والتأْويل، ويرفضها سلف هذه الأُمة وخيارها من لدن الصحابة -رضي الله عنهم - فمن تبعهم بإِحسان، ومنهم إِمام أَهل السنة في زمانه، ابن أَبي زيد القيرواني - رحمه الله تعالى-. ففي هذا التحويل جِنَايَاتٌ عِدَّة على الحق، والخلق: جناية على ابن أَبي زيد فيما بذله ونصح به للمسلمين من بيان واجب الديانة في الاعتقاد.

وفي هذا التحويل: تَغْرِيرٌ بالمتعلمين وَغِشٌّ لأَولاد المسلمين. وفي هذا التحويل: نَفْثٌ لعقيدة التفويض، والتأْويل بواسطة كتب السلف، والتمسح بإِخراجها، وخدمتها، والتعليق عليها. وهذا الكيد المهين من الظلم، والفجور، والانطواء على حرقة من انتشار عقيدة السلف، وانحسار شباب الأمة عن تلكم العقائد الخلفية التي يرفضها: النص، والفطرة، والعقل. ومعلوم أَن أُمور الاعتقاد لا تقبل التذبذب، ولا التردد، ولا حكايته القولين، أَو الأَقوال، وإِنما الحق فيها واحد لا يتعدد، وليس وراءه إِلا الضلال. ومعلومٌ أَن أَهل الأَهواء قد وقفوا لنصوص الصفات بالمرصاد بالتأْويل تارة، وبالتفويض تارة، وبالتعطيل تارة، فإِذا لم يتم لهم شيء من ذلك لَجَأُوا إِلى الطعن في ثبوت السنن. والرجل يدور في تعليقاته بين التأْويل والتفويض.

وبالجملة فهذه تصرفات منه مشينة، مرفوضة بجميع معايير النقد عند السلف والخلف؟ وهو مُدَانٌ بِأَلَمِهِ مِنْ قَلَمِهِ؛ إِذ قال معلقاً على كلمة ابن خَلاَّدٍ - رحمه الله تعالى-: "الحَكُّ تُهْمَة" ما نصه (1): "انظر كيف تجب المحافظة على الأَمانة في الكلمة العلمية، وكيف كانوا يحترسون من التهمة أَن تتوجه إِليهم ولو بحك كلمة دخيلة على الكتاب، ولقد وجد في زماننا هذا طائفة من المحككين "المحققين" يتصرفون في بعض الكتب، فمنهم من يحذف من الكتاب، ومنهم من يزيد فيه، ومنهم من يغير فيه ويبدل كلاماً بكلام، إذا لم يعجبه، أَو جاء على غير مشربه أَو كان ذلك أَنفع له تجارةً ومالاً، كما وقع هذا من (محمد ومحمد ناصر وحَمَد وحامد ومحمود وبعض الناشرين الذين يظن بهم الأَمانة والدين) وأَمثالهم، فإِنا لله من ضياع الأَمانة في العلم! " انتهى.

_ (1) (ص / 31) من تعليقه على ما اسْتَلَّهُ من مقدمة الشيخ أَحمد شاكر لـ "جامع الترمذي"، وطبعه باسم: تصحيح الكتب ...

هذا كلام جميل هو منه محروم، لكنه "جَرْوَل" يهجو نَفْسَهُ، ويكفينا عن هذه الأَسماء: "مُعَلِّمُ المحككين: عبد الفتاح"، فقد فاق أَقرانه المحرفين بالتحريف، وَبَزَّ أَهل الزمان منهم بالتزييف. ولا أَدري كيف أَجمع بين تعليقه على كلمة ابن خلاد، واستجازته لنفسه، التقلب في ظلمات التحريف، مرتضياً هذا لِدِييهِ، وأَدبه، وخلقه؟ لكنها جادة المخالفين أَهل الزَّمَانَةِ والانقطاع، وَمَنْ سَطَا بالتأْويل، والتفويض على نصوص الوحيين الشريفين، فمن باب أَولى أَن يستغفل الناس فيتصرف في كلام المؤلفين. ويبقى تعليقه على كلمهَ ابن خلاد، زيادة في الحجة عليه، فإِنه قَدْ عَبَّ من كل أَبواب التحريف فزاد، ونقص، وغَيَّر، كل هذا خدمة لمشربه، وتلصصه بنشره هنا وهناك؟؟ وقد بَيَّنتُ أَن ديدنه التحريف فيما كتبته عن "تحريف النصوص". وتأَمل ماذا يصنع المشرب المنحرف بأَهله. فيا هذا: أَوَّلُ مَا يُفْقَدُ من الدين "الأَمانة".

وعندي أَنه لا يوثق بنقل هذا الرجل إِخراجاً أَو تعليقاً؛ لاختلال أَمانته، وفساد مشربه. من أَجل ذلك رأَيت تحرير هذا التقديم حاوياً لأُمور ثلاثة: الأَول: أَن ابن أَبي زيد -رحمه الله تعالى- قد أَلقى الله عليه من نوره، فهو صاحب عقيدة سلفية سُنَية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحديد، الآية: 28]. الثاني: أَن مقدمة رسالته في التوحيد، جارية على طريقة السلف ولزوم السنة والأَثر، مشرقة بالحق، وصحة المعتقد. الثالث: أَن إِخراج "مُعلم المحككين" لها، مدخولة بتحريفه لمبناها، وتحويله لمعناها: مُعَارَضَةَ منه للنور بالظلمة، وللصحة بالزمانة، وللحق الجلي بالشبهة الواهية. كل هذا نظير ما صنعه "قُدْوَتُهُ الكوثري" في "الأَسماء

والصفات" للبيهقي (1)، فإِنه حَوَّله وَحَرَّفَه إِلى حمل مذهب السلف على التفويض، وهذا من الظلم العظيم للصحابة الأَبرار من المهاجرين والأَنصار، ومن تبعهم بإِحسان، لكنه الهوى وفساد المشرب، والمهم أَن يعرف طلاب العلم أَن ما هنا جزء مما هنالك، نعوذ بالله من الهوى وأَهله. وهنا أَقول: وإننا في هذه الأَيام نشاهد: "كوثرية ولا مُعَلِّمِيَّ لها" نرى هؤلاء الأَصاغر، رابضين بين أَهل السنة، تمتد أَيديهم إِلى كتب أَعلامها، وَيَتَلَصَّصُون ساعة الغفلة فيها، فيصعدون على أَكتافها، ويتحرشون بهم بواسطتها، وينفثون ما لديهم من هوى وبدعة في حواشيها؛ لأَنهم لما رأَو أَن نشر كتب الخلف يقطع عليهم الطريق صارت النقلة بهذه"العقيدة التجار" إِلى التحشية على كتب السلف ليصلوا إِلى تَلْوِيث اعتقاد أَولاد المسلمين: "أَهل السنة" بتحريف تلكم الواسطة.

_ (1) انظر مقدمة الألباني- أثابه الله- لـ "مختصر العلو" للذهبي: (ص / 36 - 40).

والواجب أَمام هذا الرهط: الحجر على امتداد أَقلامهم إِلى كتب السلف، وهجر ما تعمله أَيديهم، والبعد عن نشره وتخريجه، وتواصي الكتبيين بعدم تسويقها، والِإنكار عليهم إِن فعلوا، وعدم تمكين كل صاحب هوى وبدعة من تعليم أَولاد المسلمين: الفقه في الدين. فَإِنَّ دَأَبَ أَهل الأَهواء هكذا إِن وجدوا غفلة من أَهل السنة صاحوا بهم، وتأَلبوا عليهم، وإِن تيقظ لهم أَهل السنة: خنسوا، وتشرذموا، كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى- فيهم (1): "طَبْل يَجْمَعُهُمْ، وَعَصاً تُفَرِّقُهُم". وبناءً على ما تقدم تبيانه وشرحه، فقد أَفردت هذه "المقدمة" في "التوحيد" من "رسالة ابن أَبي زيد القيرواني" ثم أَلحقتها بنظمها لابن مشرف، ولولا خوف الِإطالة لأَتبعت ذلك بمقدمة ابن أَبي زيد لكتابه "الجامع" والتي نقلها عنه ابن القيم - رحمه الله تعالى- في: "اجتماع الجيوش

_ (1) "الصواعق المرسلة": (1/ 356).

الِإسلامية" فهي أَبسط مما هنا، وفي غاية النفاسة، فَلْيُرجع لإِليها. وإِليك المقدمة نثراً (1)، ونظماً (2):

_ (1) عن النسخة المحققة طبع دار الغرب عام 1406 هـ. (2) عن طبعة جامعة الِإمام بالرياض عام 1396 هـ.

مقدمة ابن أبي زيد القيرواني

[مقدمة مؤلف الرسالة] مقدِّمة ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله تعالى- قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه: الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته، وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً، ونبه بآثار صنعته وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله، ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووفقوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم. أما بعد، أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة

مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها، وجل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك ابن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ما سهَّل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين، لما رغبت فيه من تعليم ذلك للوالدان كما تعلمهم حروف القرآن، ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك، لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه. واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة ليراضوا عليها وما عليهم أن تعتقده من الدين

قلوبهم وتعمل به جوارحهم؛ فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفي غضب الله، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر. وقد مثلت لك من ذلك ما ينتفعون -إن شاء الله- يحفظه، ويشرفون بعلمه، ويسعدون باعتقاده والعمل به، وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سنين، ويضربوا عليها لعشر، ويفرق بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسهم، وأنست بما يعملون به من ذلك جوارحهم. وقد فرض الله سبحانه على القلب عملاً من الاعتقادات وعلى الجوارح الظاهرة عملاً من الطاعات. وسأفصل لك ما شرطت لك ذكره باباً باباً ليقرب من فهم متعلميه إن شاء الله تعالى، وإياه نستخير وبه تستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات من ذلك الإيمانُ بالقلب، والنُّطقُ باللِّسان أنَّ الله إلَهٌ واحدٌ لا إله غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نَظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبة له، ولا شريكَ له. ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ، ولا لآخِرِيَّتِه انقضَاءٌ، لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون، ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ، يَعتَبِرُ المتفَكِّرونَ بآياته، ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ ذاتِه، ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض، ولا يِؤُودُه حفظُهما وهو العليُّ العَظيمُ. العالِمُ الخبيرُ، المُدَبِّرُ القَدِيرُ، السَّمِيعُ البصيرُ، العَلِيُّ الكَبيرُ، وَأنَّه فوقَ عَرشه المجيد بذاته، وهو في كلِّ مَكان بعِلمه. خَلَقَ الإنسانَ ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه، وهو أَقرَبُ إليهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ، وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعلَمُها، ولاَ حَبَّةٍ

في ظُلُمَات الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس إلاَّ في كتاب مُبين. على العَرشِ اسْتَوى، وعَلى المُلْكِ احْتَوى، وله الأسماء الحُسنى والصِّفاتُ العُلَى، لَم يَزَل بِجَميعِ صفاتِه وأسمائِه، تَعالى أن تكونَ صفاتُه مَخلوقَةً، وأسماؤُه مُحْدَثَةً. كلَّم موسى بكلامِه الَّذي هو صفةُ ذاتِه لا خَلْقٌ مِن خَلقِه، وَتَجَلَّى للجَبَل فصار دَكًّا مِن جلالِه، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، ليس بمخلُوقٍ فيَبِيدُ، ولا صفة لمخلوقٍ فَيَنْفَدُ. والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وكلُّ ذلك قَد قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا، ومقاديرُ الأمورِ بيدِه، ومَصدَرُها عن قضائِه. عَلِمَ كلَّ شيْءٍ قَبل كَونِه، فجَرَى على قَدَرِه، لا يَكون مِن عبادِه قَولٌ ولا عَمَلٌ إلاَّ وقدْ قَضَاهُ وسبق عِلْمُه به، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يُضِلُّ مَن يشاء فيَخْذُلُه بعدْلِه، ويَهدي مَن يَشاء فَيُوَفِّقُه بفضلِه، فكَلٌّ مُيَسَّرٌ بتَيْسيره إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَرِه، مِن شَقِيٍّ أو سعيدٍ. تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى، أو يكون خالقٌ لشيءٍ إلا هو رَبُّ العباد ورَبُّ

أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم، الباعثُ الرُّسُل إليهِم لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم. ثُمَّ خَتَمَ الرِّسالةَ والنَّذَارَةَ والنُّبُوَةَ بمحمَّد نَبيِّه صلى الله عليه وسلم، فجَعَلَه آخرَ المرْسَلين، بَشِيراً ونَذِيراً وداعياً إلى الله بإذنِه وسِرَاجاً منيراً. وأنزَلَ عَليه كتابَه الحَكِيمَ، وشَرَحَ به دينَه القَويمَ، وهَدَى به الصِّرَاطَ المستَقيمَ. وأنَّ السَّاعةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن يَموتُ، كما بدأَهم يعودون. وأنَّ اللهَ سبحانه وتعالَى ضاعَفَ لعباده المؤمنين الحسَنات، وصَفَحَ لهم بالتَّوبَة عن كبائرِ السيِّئات، وغَفَرَ لهم الصَّغائِرَ باجْتناب الكبائِر، وجَعَلَ مَن لَم يَتُبْ مِنَ الكبائر صَائراً إلى مَشيئَتِه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ومَن عاقَبَه اللهُ بنارِه أخرجه مِنها بإيمانِه، فأدخَلَه به جَنَّتَه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:8]، ويُخرِجُ منها بشفاعَة النَّبِيِّ صلى الله عليه

وسلم مَن شَفَعَ لَه مِن أهلِ الكبائِر مِن أمَّتِه. وأنَّ اللهَ سبحانه قد خَلَقَ الجَنَّةَ فأَعَدَّها دارَ خُلُود لأوليائِه، وأكرَمهم فيها بالنَّظر إلَى وَجْهِه الكريم، وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه بِما سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه. وخَلَق النَّارَ فأعَدَّها دَارَ خُلُود لِمَن كَفَرَ به، وألْحَدَ في آياتِه وكتُبه ورُسُلِه، وجَعَلَهم مَحجُوبِين عن رُؤيَتِه. وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامَةِ: {وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]؛ لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وعقُوبَتِها وثَوابِها، وتُوضَعُ الموازِينُ لَوَزْنِ أَعْمَالِ العِبَادِ: {فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك هم المُفلِحون} [الأعراف:8]، ويُؤْتَوْنَ صَحائِفهم بأعمَالِهم: فمَن أُوتِي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً، ومَن أُوتِي كتابَه ورَاء ظَهْرِه فأولئِك يَصْلَوْنَ سَعيراً. وأنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُه العبادُ بِقَدْرِ أعمالِهم، فناجُون مُتفاوِتُون في سُرعَة النَّجاةِ عليه مِن نار جَهَنَّم، وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فيها أعمالُهم.

والإيمانُ بِحَوْض رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَرِدُهُ أمَّتُهُ لاَ يَظْمَأُ مَن شَرب مِنه، ويُذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ. وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، وإخلاَصٌ بالقلب، وعَمَلٌ بالجوارِح، يَزيد بزيادَة الأعمالِ، ويَنقُصُ بنَقْصِها، فيكون فيها النَّقصُ وبها الزِّيادَة، ولا يَكْمُلُ قَولُ الإيمانِ إلاَّ بالعمل. ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلاَّ بنِيَّة، ولا قولٌ وعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلاَّ بمُوَافَقَة السُّنَّة. وأنَّه لا يَكفُرُ أَحدٌ بذَنب مِنْ أهْل القِبْلَة. وأنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ، وأرْواحُ أهْل السَّعادَةِ باقِيةٌ ناعِمةٌ إلى يوم يُبْعَثون، وأرواحُ أهلِ الشَّقاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إلى يَوم الدِّين. وأنَّ المؤمنِينَ يُفْتَنُونَ في قُبُورِهم ويُسْأَلُون، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. وأنَّ على العباد حَفَظَةً يَكتُبون أعمالَهم، ولا يَسقُطُ شيْءٌ مِن ذلك عَن عِلمِ ربِّهِم، وأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقْبِضُ

الأرواحَ بإذن ربِّه. وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمَنوا به، ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم. وَأفْضَلُ الصحابة: الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين. وأن لاَ يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحْسَن ذِكْرٍ، والإمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاس، أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج، ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب. والطَّاعَةُ لأئمَّة المسلمين مِن وُلاَة أمورِهم وعُلمائهم، واتِّباعُ السَّلَفِ الصَّالِح واقتفاءُ آثارِهم، والاستغفارُ لهم. وتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين، وتَركُ ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ. وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وأزواجِه وذريته، وسلَّم تَسليماً كثيراً.

نظم الأحسائى لمقدمة الرسالة نظمها الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المتوفى سنة (1285) هجرية

عقيدة ابن أبي زيد كما نظمها الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي

عقيدة ابن أبي زيد كما نظمها الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المالكي المتوفى ستة (1285) هـ الحمدُ لله حمداً ليس مُنْحَصرَا ... على أياديه ما يخفى وما ظهرَا ثم الصلاةُ وتسليمُ المهيمنِ ما ... هبَّ الصَّبَا فأدرَّ العارضَ المَطرَا على الذي شاد بنيانَ الهُدى فسَما ... وساد كلَّ الوَرَى فخراً وما افتخرَا نبيِّنا أحمد الهادي وعَتْرَته ... وصحبِه كلِّ مَن آوى ومَن نصرَا وبعدُ فالعلمُ لَم يظفر به أحدٌ ... إلاَّ سَمَا وبأسباب العُلَى ظفرَا لا سيما أصل علم الدِّين إنَّ به ... سعادةَ العبد والمَنْجَى إذا حُشرَا باب ما تعتقده القلوب وتنطق به الألسن من واجب أمور الديانات وأوَّلُ الفرض إيمانُ الفؤاد كذا ... نُطْقُ اللِّسانِ بما في الذِّكر قد سُطرَا أنَّ الإلهَ إلَهٌ واحدٌ صَمد ... فلا إله سوى مَن للأنام برَا ربُّ السموات والأرضين ليس لنا ... ربٌّ سواه تعالى مَن لنا فطَرَا وأنَّه مُوجدُ الأشياء أجمعِها ... بلا شريك ولا عَوْن ولا وُزَرَا وهو المُنَزَّه عن ولد وصاحبة ... ووالد وعن الأشباه والنُّظَرَا لا يبلغن كُنْهَ وصف الله واصفُه ... ولا يحيط به علماً مَن افتَكَرَا

وأنَّه أوَّل باق فليس له ... بدءٌ ولا منتهى سبحان من قدرَا حيٌّ عليمٌ قديرٌ والكلام له ... فردٌ سميعٌ بصيرٌ ما أراد جَرَى وأنَّ كرسيَّه والعرشَ قد وَسِعَا ... كلَّ السموات والأرضين إذ كبرَا ولم يزل فوق ذاك العرش خالقُنا ... بذاته فاسأل الوحيين والفِطَرَا إنَّ العلوَّ به الأخبارُ قد وَرَدَتْ ... عن الرَّسول فتابِع مَن رَوى وقرَا فالله حق على المُلك احتوى وعلى ... العرش استوى وعن التكييف كُن حَذِرَا والله بالعلم في كلِّ الأماكن لا ... يخفاه شيءٌ سميعٌ شاهدٌ ويَرَى وأنَّ أوصافَه ليست بمُحدَثة ... كذاك أسماؤه الحُسنى لِمَن ذكرَا وأن تنْزيلَه القرآنَ أجمعَه ... كلامُه غيرُ خلق أعجز البشَرَا وَحْيٌ تكلَّم مولانا القديمُ به ... ولم يزل من صفات الله مُعْتبَرَا يُتلَى ويُحمل حفظاً في الصدور كما ... بالخطِّ يُثبِتُه في الصُّحف مَن زَبَرَا وأنَّ موسى كليمُ الله كلَّمه ... إلَهُه فوق ذاك الطور إذ حضرَا فالله أسمعه مِن غير واسطة ... من وصفه كلمات تحتوي عِبَرَا حتى إذا هام سُكراً في محبَّته ... قال الكليم: إلَهي أسأل النَّظَرَا إليك. قال له الرحمن موعظة ... أنَّى ترانِي ونوري يُدهشُ البَصَرَا فانظر إلى الطور إن يثبت مكانته ... إذا رأى بعضَ أنواري فسوف ترَى

فصل فى الايمان بالقدر خيره وشره

حتى إذا ما تَجلَّى ذو الجلال له ... تصدَّع الطورُ من خَوف وما اصطبَرَا فصل فى الايمان بالقدر خيره وشره وبالقضاء وبالأقدار أجمعها ... إيمانُنا واجبٌ شرعاً كما ذكرَا فكلُّ شيء قضاه الله في أزَل ... طرًّا وفي لوحه المحفوظ قد سطرَا وكلُّ ما كان من همٍّ ومن فرَح ... ومن ضلال ومن شكران مَن شَكَرَا فإنَّه من قضاء الله قدَّره ... فلا تكن أنت مِمَّن ينكر القَدَرَا والله خالقُ أفعال العباد وما ... يجري عليهم فعن أمر الإلَه جَرَا ففي يديه مقادير الأمور وعن ... قضائه كلُّ شيء في الورى صَدَرَا فمَن هَدى فبمحض الفضل وفَّقه ... ومن أضلَّ بعدل منه قد كفرَا فليس في مُلكه شيءٌ يكون سوى ... ما شاءه الله نفعاً كان أو ضررَا فصل فى عذاب القبر وفتنته ولم تَمُت قطُّ من نفس وما قُتلت ... من قبل إكمالها الرِّزق الذي قُدرَا وكلُّ روح رسولُ الموت يَقبضُها ... بإذن مولاه إذ تستكمل العُمُرَا وكلُّ من مات مسئولٌ ومفتتنٌ ... من حين يوضَعُ مقبوراً ليُختبَرَا وأنَّ أرواحَ أصحاب السعادة في ... جنَّات عدن كطير يعلق الشَّجَرَا لكنَّما الشُّهَدا أحيا وأنفسهم ... في جوف طير حسان تُعجب النَّظَرَا

وأنَّها في جنان الخلد سارحةٌ ... من كلِّ ما تشتهي تجنِي بها الثَّمَرَا وأنَّ أرواح من يشقى معذَّبةٌ ... حتَّى تكون مع الجُثمان فِي سَقَرَا فصل فى البعث بعد الموت والجزاء وأنَّ نفخةَ إسرافيلَ ثانية ... في الصُّور حقٌّ فيحيى كلُّ مَن قُبرَا كما بدا خلقهم ربِّي يُعيدهمُ ... سبحان من أنشأ الأرواحَ والصُّوَرَا حتى إذا ما دعا للجمع صارخُه ... وكلُّ ميْتٍ من الأموات قد نُشرَا قال الإلَه: قِفوهم للسؤال لكي ... يقتصَّ مظلُومُهم مِمَّن له قَهَرَا فيوقَفون ألوفاً من سنينهمُ ... والشمسُ دانيةٌ والرَّشْحُ قد كثُرَا وجاء ربُّك والأملاكُ قاطبة ... لهم صفوفٌ أحاطت بالورى زُمَرَا وجيء يومئذ بالنار تسحبُها ... خزانها فأهالت كلَّ مَن نظَرَا لها زفيرٌ شديدٌ من تغيظها ... على العُصاة وترمي نحوهم شَرَرَا ويرسل الله صُحفَ الخلق حاويةً ... أعمالَهم كلَّ شيء جلَّ أو صغُرَا فمَن تلقَّته باليمنى صحيفتُه ... فهْو السَّعيد الذي بالفوز قد ظفرَا ومن يكن باليد اليسرى تناولُها ... دعا ثُبوراً وللنيران قد حُشرَا ووزنُ أعمالهم حقٌّ فإن ثقلت ... بالخير فاز وإن خفَّت فقد خسرَا وأنَّ بالمثل تُجزى السيِّئات كما ... يكون في الحسنات الضِّعف قد وفرَا

فصل فى الإيمان بالحوض

وكلُّ ذنب سوى الإشراكِ يغفرُه ... ربِّي لِمَن شا وليس الشركُ مُغتَفرَا وجنَّة الخُلد لا تفنى وساكنُها ... مخلَّدٌ ليس يخشى الموتَ والكبرَا أعدَّها اللهُ داراً للخلود لِمَن ... يخشى الإلَهَ وللنَّعماء قد شَكَرَا وينظرون إلى وجه الإلَه بها ... كما يرى الناسُ شمسَ الظهر والقمَرَا كذلك النارُ لا تفنى وساكنُها ... أعدَّها الله مولانا لِمَن كَفَرَا ولا يخلد فيها مَن يوَحِّدُه ... ولو بسفك دم المعصوم قد فَجَرَا وكم يُنجي إلَهي بالشفاعة مِنْ ... خير البريَّة من عاص بِها سجرَا فصل فى الإيمان بالحوض وأنَّ للمصطفى حوضاً مسافتُه ... ما بين صَنْعَا وبُصرَى هكذا ذكرَا أحلَى من العسل الصافي مذاقتُه ... وأنَّ كِيزَانَه مثلُ النجوم تُرَى ولم يَرِدْه سوى أتباع سُنَّته ... سيماهم: أن يُرى التَّحجيل والغُرَرَا وكم يُنحَّى ويُنفَى كلُّ مبتدع ... عن وِرْدِه ورجالٌ أحدثوا الغيَرَا وأن جسراً على النِّيران يَعبُرُه ... بسرعة مَن لمنهاجِ الهُدى عبَرَا وأنَّ إيْمَانَنا شرعاً حقيقتُه ... قصدٌ وقولٌ وفعلٌ للذي أمرَا وأنَّ معصيةَ الرحْمن تُنقصُه ... كما يزيد بطاعات الذي شَكَرَا وأنَّ طاعةَ أولي الأمر واجبةٌ ... من الهُداة نجوم العلم والأُمرَا

إلاَّ إذا أمروا يوماً بمعصية ... من المعاصي فيُلغى أمرهم هَدَرَا وأنَّ أفضلَ قرن للَّذين رأوا ... نبيَّنا وبهم دينُ الهُدى نُصرَا أعنِي الصحابةَ رُهبانٌ بليلهمُ ... وفي النهار لدى الهَيْجَا لُيوث شَرَى وخيرُهم مَن ولِي منهم خلافته ... والسَّبق في الفضل للصِّدِّيق معْ عُمَرَا والتابعون بإحسان لهم وكذ ... أتباع أتباعهم مِمَّن قفى الأثَرَا وواجبٌ ذِكرُ كلّ من صحابته ... بالخير والكفُّ عمَّا بينهم شَجَرَا فلا تَخُض في حروب بينهم وقعت ... عن اجتهاد وكنْ إن خُضتَ معتذِرَا والاقتداءُ بهم في الدِّين مفتَرَضٌ ... فاقتَد بهم واتَّبع الآثار والسُّوَرَا وتركُ ما أحدثه المُحدِثون فكم ... ضلالة تبعت والدِّين قد هُجِرَا إنَّ الهُدى ما هدى الهادي إليه وما ... به الكتاب كتاب الله قد أمَرَا فلا مراء وما في الدِّين من جدلِ ... وهل يُجادل إلاَّ كلُّ مَن كفرَا فهاك في مذهب الأسلاف قافيةً ... نظماً بديعاً وجيزَ اللَّفظ مختصرَا يحوي مهمّات باب في العقيدة من ... رسالة ابن أبي زيد الذي اشتَهَرَا والحمد لله مولانا ونسأله ... غفران ما قلَّ من ذنب وما كثرَا ثمَّ الصلاةُ على مَن عمَّ بعثته ... فأنذر الثَّقلَين الجنَّ والبَشَرَا ودينُه نَسَخ الأديانَ أجمَعَها ... وليس يُنْسَخُ ما دام الصَّفَا وحِرَا

محمد خير كلِّ العالَمين به ... ختم النبيِّين والرُّسل الكرام جَرَا وليس من بعده يوحَى إلى أحد ... ومن أجاز فحَلَّ قتلُه هَدَرَا والآلُ والصَّحبُ ما ناحت على فنَن ... وَرْقَا ومَا غرَّدت قُمْريّة سَحَرَا

§1/1