عقيدة أهل السنة في الصحابة لناصر بن علي

ناصر بن علي عائض حسن الشيخ

الجزء الأول

الجزء الأول الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن ... الباب الأول الثناء في القرآن والسنة على الصحابة وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الثناء عليهم عموماً في القرآن والسنة وأقوال السلف. الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة رضي الله عنهم. الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة. الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. الفصل الأول الثناء عليهم عموماً في الكتاب والسنة وأقوال السلف الفصل الأول الثناء عليهم عموماً في الكتاب والسنة وأقوال السلف وفيه مباحث: المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن. المبحث الثاني: الثناء عليهم في السنة. المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف. المبحث الأول الثناء عليهم في القرآن إن أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة رضي الله عنهم الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص الكل يثبتونه ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وصاغهم أعظم صياغة ليكونوا وزراء لنبيه عليه الصلاة والسلام، وليحملوا رسالته من بعده، ويبلغوها إلى جميع الناس في هذه المعمورة ولقد أثنى الله عليهم في كتاب الكريم على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها: 1- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1 هذه الآية الكريمة وجه الله تعالى فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية من أولها إلى أن تقوم الساعة وهذا الخطاب يتضمن أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، والوسط في الآية بمعنى الخيار والأجود ولكن أولوية الدخول في هذا الخطاب إنما هو لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بقية الأمة الإسلامية إذ هم أول من وجه إليهم هذا الخطاب في هذه الآية وهم الموجودون حين نزوله. قال العلامة ابن جرير الطبري مبيناً معنى هذه الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما جاءكم

_ 1ـ سورة البقرة آية / 143.

به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطاً ... والوسط في كلام العرب الخيار يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه وهو وسط في قومه وواسط ... وأرى أن الله تعالى ذكره: إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ... إلى أن قال: القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} والشهداء جمع شهيد: فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي" أ. هـ1 وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلاً قال: هذا حديث حسن صحيح2 وفي التنزيل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} 3 أي: أعدلهم وخيرهم ... ولما كان الوسط

_ 1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/8.6. 2ـ سنن الترمذي 4/275. 3ـ سورة القلم آية / 28.

مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي: في المحشر للأنبياء على أممهم.1 وقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت فيقول نعم يا رب، فتسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول: من شهودك فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . 2 وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} : "يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي أخيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه أي: أشرفهم نسباً ... ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .3 وقال السفاريني4 رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن 2/153-154. 2ـ صحيح البخاري 4/268. 3ـ تفسير القرآن العظيم 1/335، والآية رقم 78 من سورة الحج. 4ـ هو محمد بن أحمد من سالم السفاريني شمس الدين أبو العون عالم الحديث والأصول والأدب ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ثمان وثمانين مائة وألف هجرية، انظر: ترجمته في الأعلام للزركلي 6/240.

أُمَّةً وَسَطاً} الآية أي: أمة خياراً عدولاً فإن هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم. أ. هـ1 فإذن معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى كما جعل قبلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير القبل وجعلها متوسطة بين المشرق والمغرب كذلك جعلهم خير الأمم وسطاً بين الغلو والتقصير فلم يغلوا غلو النصارى حيث وصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام بالألوهية، ولم يقصروا تقصير اليهود حيث وصفوه بأنه ولد زنا فأخبر ـ سبحانه ـ بما أنعم به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من تفضيله لها بالعدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة، وعلى هذا فلا ريب ولا شك في أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أحق من كل أحد من أمته عليه الصلاة والسلام بهاتين الصفتين ألا وهما: العدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة بأن الرسل قد بلغوا أممهم ما أنزل الله إليهم من الرسالات السماوية. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2 وفي هذه الآية الكريمة بين الله تعالى أنه جعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وذلك بسبب ما اتصفت به من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استقر في قلوبهم من الإيمان بالله والصحابة رضي الله عنهم هم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب وحاز قصب السبق في هذه الخيرية بلا نزاع لأنهم أول من خوطب بهذه الآية الكريمة قال الزجاج3 وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر

_ 1ـ لوامع الأنوار البهية 2/384. 2ـ سورة آل عمران آية / 110. 3ـ هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة ولد ببغداد سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 1/49-50، تاريخ بغداد 6/89.

أمته.1 وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذه الآية: "وهذا اللفظ وإن كان عاماً فالمراد به الخاص وقيل هو وارد في الصحابة".أ. هـ2 وقال السفاريني رحمه الله تعالى: " {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3 وهذا خطاب للموجودين حينئذ" أ. هـ4 وأخرج الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام".5 وقال العلامة ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وعن السدي: أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال أنتم

_ 1ـ معاني القرآن للزجاج 1/467، زاد المسير 1/438-439. 2ـ الكفاية ص/ 94. 3ـ سورة البقرة آية/ 143. 4ـ لوامع الأنوار البهية 2/377. 5ـ صحيح البخاري 3/113.

فكنا كلنا ولكن قال "كنتم" في خاصية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وعنه رضي الله عنه أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة1 سيئة فقرأ هذه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها. وقال الضحاك في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. وقال آخرون: معنى ذلك كنتم خير أمة أخرجت للناس إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم ـ جل ثناؤه ـ بها فكان تأويل ذلك عندهم كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله. وبعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية قال: "وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ثم ساق بإسناده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله". 2 فابن جرير رحمه الله تعالى رجح حمل الآية على عموم الأمة وأيد العموم

_ 1ـ قال الأصمعي: الرعة الهدي وحسن الهيئة، أو سوء الهيئة يقال: قوم حسنة رعتهم أي: شأنهم وأمرهم وأدبهم وأصله من الورع وهو الكف عن القبيح. أ. هـ لسان العرب 8/388، وانظر: النهاية في غريب الحديث 5/175. 2ـ جامع البيان 4/43-45.

بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهذا الحديث عند الترمذي1 وابن ماجه2 والحاكم3 بلفظ: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله". قال الحافظ في الفتح وله شاهد مرسل عن قتادة عن الطبري4 رجاله ثقات وفي حديث علي عند أحمد5 بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... وجعلت أمتي خير الأمم". 6 وممن حمل الآية على العموم في جميع الأمة الحافظ ابن كثير فإنه قال بعد ذكره لأقوال المفسرين: "والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: أخياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أ. هـ7 وعلى هذا فمن أراد أن يوسم بسمة الخيرية التي وسم بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهد لهم رب العالمين بها في الآية السابقة التي نحن بصدد الحديث عنها فليتحل بصفاتهم وأخلاقهم ويتبع المنهج الذي التزموه وساروا عليه. قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الثابتة في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم: "فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فمن اتصف من هذه الأمة

_ 1ـ سنن الترمذي 4/294. 2ـ سنن ابن ماجه 2/1433. 3ـ المستدرك 4/84 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 4ـ جامع البيان 4/45. 5ـ المسند 1/98. 6ـ الفتح 8/225. 7ـ تفسير القرآن العظيم 2/89 والآية رقم 143 من سورة البقرة.

بهذه الصفات دخل معهم في المدح: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2 هذه الآية الكريمة، الخطاب فيها موجه لعباده المؤمنين إلى أن تقوم الساعة وهي تتضمن وعداً من الله ـ عز وجل ـ لهذه الأمة وهذا الوعد هو أن من ارتد عن دين الإسلام فإنه يأتي ـ سبحانه ـ بقوم ينصرون هذا الدين وبين ـ سبحانه ـ أنه يحبهم ويحبونه وأن فيهم رقة وليناً لإخوانهم المؤمنين، كما أنهم متصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله من كفر بهذا الدين ولا يخافون في الحق من لوم اللائم، وهذه الصفات الطيبة وإن كانت عامة في جميع المؤمنين إلا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم ـ الصديق أبو بكر ـ هم أقعد وأحق وأولى بهذه الصفات من كل مؤمن يأتي بعدهم فهم أول من يتناوله الخطاب ويدخل فيه دخولاً أولياً. قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر؛ إما في اليهودية أو النصرانية، أو غير ذلك من صنوف الكفر فلن يضر الله شيئاً وسيأتي الله بقوم

_ 1ـ المصدر السابق 2/98 والآية رقم 79 من سورة المائدة. 2ـ سورة المائدة آية / 54.

يحبهم ويحبونه يقول: فسوف يجيئ الله بدلاً منهم بالمؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده ... إلى أن قال: ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وروى بإسناده إلى الحسن البصري في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. وقال آخرون: يعني بذلك قوماً من أهل اليمن، وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري: عبد الله بن قيس ثم روى بإسناده إلى عياض بن غنم الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال: هم قوم هذا. وقال آخرون: بل هم أهل اليمن جميعاً. وذكر بإسناده إلى مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أناس من أهل اليمن وقال آخرون: هم الأنصار. وروى بإسناده إلى السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: إنهم الأنصار.1 وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

_ 1ـ جامع البيان 6/282-285، زاد المسير 2/381-382، تفسير البغوي على حاشية الخازن 2/54.

آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية. قال: "يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1 ... وذكر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إنها نزلت في الولاة من قريش. وعن الحسن البصري: أنها نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر. وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة ثم من السكون ... إلى أن قال: وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.2 وكل ما تقدم من تنوع سبب نزول الآية في أنها نزلت في الأشعريين، أو في أحياء من أهل اليمن، أو في الولاة من قريش، أو في الأنصار فإن ذلك لا ينافي عموم الآية فالآية عامة في كل مؤمن يحب الله ويحبه، ويوالي فيه، ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك وأقدمهم وأسبقهم إليه وهو أول من تناولته الآية رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين، ومما يؤيد هذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ـ

_ 1ـ سورة محمد آية / 38. 2ـ تفسير القرآن العظيم 2/595

عز وجل ـ" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم علي منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله ـ عز وجل ـ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.1 هذا وفي الآية السابقة دلالة واضحة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ إذ أنهم جاهدوا في الله ـ عز وجل ـ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا المرتدين وسائر الكفرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومن المقطوع به أن الصفات المذكورة في الآية المتقدمة متوفرة فيهم ومنطبقة عليهم رضي الله عنهم أجمعين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2 الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات للصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان سواء لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس

_ 1ـ صحيح البخاري 1/343، صحيح مسلم 1/51-52. 2ـ سورة الأنفال آية / 72-74.

والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم ونصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام لمقاتلة أعداء الدين، ثم بين ـ سبحانه ـ الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله: {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: في النصرة والمساعدة. وهذا مما يؤكد قطع المولاة بينه وبين الكفار والآية الأخيرة من الآيات السابقة أخبر تعالى عنهم بحقيقة الإيمان وأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن وجدت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الدائم الأبدي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص، ولا يسأم ولا يمل لتنوعه وحسنه. قال العلامة ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} الآية: ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ... وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في قسمها إلا ما حضروا فيه القتال. أ. هـ1 قال أبو عبد الله القرطبي عند قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الآية: "حقاً" مصدر أي: حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: ثواب عظيم. أ. هـ2 والمقصود أن الآيات المتقدمة اشتملت على الثناء الحسن على عموم الصحابة

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 3/351-352. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/58

من مهاجرين وأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. هذه الآية الكريمة اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان حيث أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه بما أكرمهم الله به من جنات النعيم والنعيم المقيم فيها الذي لا يفنى ولا يبيد، فقد خسر نفسه بعد هذا من ملأ قلبه ببغضهم واستعمل لسانه في سبهم والوقيعة فيهم كالطائفة المخذولة من الرافضة التي عميت عن ثناء الله عليهم في كتابه العزيز بمثل هذا الثناء وغيره فأخذوا يعادونهم ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله وهذا يدل على أن قلوبهم انتكست وعقولهم فسدت وإلا فأين هم من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟. وقد عصم الله أهل السنة والجماعة مما وقع فيه الرافضة فلم يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكراً، أو يطعنوا فيهم طعناً، فلم يقولوا في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال. قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وفي هذه الآية المباركة ثناء آخر من الله تعالى على النبي الكريم وصحبه الأكرمين من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه وإحسانه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة ولهذا قال: {الَّذِينَ

_ 1ـ سورة التوبة آية / 100. 2ـ سورة التوبة آية / 117.

اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة تبوك وكانت في حر شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف فاستعانوا الله تعالى وقاموا بذلك {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: تنقلب قلوبهم ويميلوا إلى الدعة والسكون ولكن الله ثبتهم وقواهم1 رضوان الله عليهم أجمعين وأعظم بها من منقبة لأولئك الصفوة حيث شملهم الله تعالى بالتوبة عليهم ومن تاب الله عليه تحققت سعادته في الدار الآخرة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: من تاب الله عليه لم يعذبه أبداً.2 قال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص: "وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم".3 قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} .4 الوعد بالاستخلاف في هذه الآية عام يدخل تحته كل من تولى وظيفة من

_ 1ـ انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي 3/145. 2ـ ذكره البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل 3/129. على حاشية الخازن. 3ـ أحكام القرآن للجصاص 3/160. 4ـ سورة النور آية / 55.

وظائف المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن بشرط أن تتوفر الصفتان المذكورتان في الآية وهما: الإيمان والعمل الصالح فتشمل الخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله والخطاب في الآية موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه فيندرج تحت هذا العموم جميع الصحابة والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يدخلون فيه قبل كل من اتصف بالصفتين ممن جاء بعدهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: موضّحاً لمعنى آية النور هذه والآية التي ختمت بها سورة الفتح: "فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجراً عظيماً والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 وبدلهم بعد خوفهم أمناً لهم منه المغفرة والأجر العظيم، وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم أجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف وتمكن الدين بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ... وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا، وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان

_ 1ـ سورة المائدة جزء من الآية رقم / 3.

والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولاً ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين، فإن قيل: لم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} ولم يقل وعدهم كلهم قيل: كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ولم يقل وعدكم و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس".1 وقال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي: أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكماً فيهم وقد فعله ـ تبارك وتعالى ـ وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر واسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلمَّ شعث الأمة وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبه خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفاً منها وقتلوا خلقاً من أهلها وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله ـ عز وجل ـ واختار له ما عنده من الكرامة ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً

_ 1ـ منهاج السنة 1/157.

لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ... ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" 1. قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . 2 قال العلامة ابن جرير الطبري: " ... الذين اصطفاهم يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركون به الجاحدين نبوة نبيه". ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه. ثم قال: حدثنا علي بن سهل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 5/119-120، والحديث رواه مسلم في صحيحه 4/2215 من حديث ثوبان رضي الله عنه. 2ـ سورة النمل آية / 59.

لعبد الله بن المبارك أرأيت قول الله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} من هؤلاء فحدثني عن سفيان الثوري قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.1 وأما العلامة ابن كثير فقد ذكر في قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قولين: أحدهما: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم أنبياؤه ورسله الكرام. الثانية: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. ثم قال جامعاً بين القولين: ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. أ.هـ2 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 3. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

_ 1ـ جامع البيان 20/2. 2ـ تفسير القرآن العظيم 5/245. 3ـ سورة فاطر آية / 32-35.

يلونهم" 1، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله. أ. هـ2 وقال السفاريني رحمه الله تعالى: وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أ. هـ3 قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4. فالصحابة رضي الله عنهم داخلون في هذا الثناء على هذا الصنف الذي يجيء بالصدق ويصدق به فهم الأئمة الصادقون في أقوالهم المصدقون بالحق إذا جاءهم وكل صادق بعدهم فهو إنما يأتم بهم في صدقه وتصديقه ابتاعاً لهم واقتداء بهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فيها ثناء على الصحابة رضي الله عنهم حيث قال: "وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو الكذب به والصحابة ... هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء، وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيباً بالحق من المنتسبين إلى التشيع. أ.هـ5. والحال كما قال رحمه الله تعالى فإن الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم أزكى الأمة وأطهرها فهم الصادقون فيما يقولون وهم في أولية الأمة تصديقاً للحق لما جاءهم فرضي الله عنهم أجمعين، وعلى من يبغضهم ويعاديهم اللعنة إلى

_ 1ـ صحيح البخاري 3/287 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. 2ـ منهاج السنة 1/156. 3ـ لوامع الأنوار البهية 2/384. 4ـ سورة الزمر آية 33-35. 5ـ منهاج السنة 1/156.

يوم الدين. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1. هذه الآية تضمنت ذكر منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فذكر تعالى أن من صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين ـ سبحانه ـ أن آثار ذلك يظهر على وجوههم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والسيماء اللعلامة. وقد قيل المراد بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة قاله الحسن وسعيد بن جبير وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن "وعن مجاهد أيضاً: هو الخشوع والتواضع".2 وهذه الأقوال لا منافاة بينها إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الحسن الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور.3 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم

_ 1ـ سورة الفتح آية / 29. 2ـ جامع البيان 26/110-111، تفسير ابن كثير 6/364، الجامع لأحكام القرآن 16/293-294. 3ـ انظر: جامع البيان للطبري 26/112.

وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحوارين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله ـ تبارك وتعالى ـ بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال ـ سبحانه ـ ههنا {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال {وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه {فَآزَرَهُ} أي: شدَّه وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} أي: شبَّ وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: "لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ... ثم قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} من هذه لبيان الجنس {مَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم {وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل الفردوس مأواهم وقد فعل1. "وفي قوله ـ سبحانه ـ في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل لهم".2

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 6/365. 2ـ "قبس من هدى الإسلام" لشيخنا عبد المحسن العباد ص/ 86.

وأما قوله تعالى في ختام الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فهذا وعد من الله لجميع الصحابة بالجنة وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة إذ هذا الوعد عام لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: "ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضواناً والسيماء في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم"أ. هـ1 11- قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2. وفي هذه الآية الكريمة بين ـ تعالى ـ أنه حبب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين وذلك لكي يكونوا أهلاً لشرف الصحبة فأعدهم الله ذلك الإعداد الرفيع فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين كما نطقت به هذه الآية. قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله

_ 1ـ منهاج السنة 1/158. 2ـ سورة الحجرات آية / 7.

صلى الله عليه وسلم واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب فإن الله يخبره أخباركم ويعرفه أنباءكم ويقومه على الصواب في أموره وقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم {لَعَنِتُّمْ} يقول: لنالكم عنت يعني الشدة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين فنالكم من الله بذلك عنت {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} بالله ورسوله فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم وقوله: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} بالله {وَالْفُسُوقَ} يعني الكذب {وَالْعِصْيَانَ} يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضييع ما أمر الله به {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} يقول: هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق"أ. هـ1. وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال ـ تبارك وتعالى ـ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ

_ 1ـ جامع البيان 26/125-126

أَنْفُسِهِمْ} 1. ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ... وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم ... {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى: {أَنْفُسِهِمْ} 1. ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ... وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم ... {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم"أ. هـ2. قال الشوكاني رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} "أي: جعله أحب الأشياء إليكم، أو محبوباً لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة"3. 12- قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4. فالذين آمنوا في هذه الآية لفظ عام يطلق على كل مؤمن آمن بالله بقلبه ولسانه وجوارحه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في هذا اللفظ العام دخولا أولياً قبل كل أحد آمن بعدهم، والآية فيها تعريض بمن حل به الخزي من أهل الكفر، كما تضمنت التنويه بشأن المؤمنين الذين حفظهم الله بتوفيقه من مثل حال الكافرين فكانت عاقبتهم أن أمنهم الله من خزيه، ولا يأمن من خزيه في يوم القيامة إلا من مات على كمال الإيمان وحقائق الإحسان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة من مات على ذلك، فلقد ماتوا رضي الله عنهم وهم على خير حال

_ 1ـ سورة الأحزاب آية /6. 2ـ تفسير ابن كثير 6/374. 3ـ فتح القدير 5/60. 4ـ سورة التحريم آية/ 8.

وسيكون يوم القيامة في مقدمة المؤمنين الذين يتم الله لهم نورهم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ليس أحد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره فذلك قوله ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} 1 وقال أبو الفرج بن الجوزي: " {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق، فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهم يقولون {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} " 2. فالآيات التي قدمنا ذكرها كلها نصوص واضحة الدلالة وصريحة في مناقب الصحابة رضي الله عنهم على وجه الجملة، والآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة جداً ومجمل القول في هذا أن كل صيغة عموم فيها الثناء على عباد الله المؤمنين، أو فيها وعد لهم بدخول الجنة أو تبشير لهم بذلك من الله تعالى فإنها تشملهم ويدخلون فيها فيها قبل كل أحد دخولا أولياً ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3. ومثل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ

_ 1ـ جامع البيان 28/169. 2ـ زاد المسير 8/324. 3ـ سورة المؤمنون آية /1-11

النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} 1. ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2. والآيات من هذا القبيل في القرآن كثيرة جداً ومن الصعوبة استقصاؤها3 وكلها وردت بصيغة العموم وأول من تتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الأمة المحمدية ذلكم هو الثناء في الآيات القرآنية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه العموم ولنأت إلى ما جاء في بيان فضلهم من السنة على وجه عام.

_ 1ـ سورة المطففين آية /18-28. 2ـ سورة البينة آية / 7-8. 3ـ حتى أن بعضهم أفردها ببحوث ورسائل مستقلة مثل كتاب إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ـ محمد العربي بن التباني، ومثل منزلة الصحابة في القرآن ـ محمد صلاح الصاوي ومثل ـ صحابة رسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة تأليف ـ عيادة أيوب الكبيسي وغيرها من البحوث والرسائل في هذا الموضوع.

المبحث الثاني: الثناء عليهم في السنة

المبحث الثاني الثناء عليهم في السنة لقد ورد الثناء في السنة النبوية على الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام في أحاديث كثيرة مستفيضة ومتواترة منها الصحيح ومنها الحسن ومن ذلك ما يلي: 1- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه "قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: "ما زلتم هاهنا؟ " قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: "أحسنتم" أو "أصبتم" قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" 1 قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي مبيناً معنى هذا الحديث: "ويشبه أن يكون معنى هذا الخبر أن الله ـ جل وعلا ـ جعل النجوم علامة لبقاء السماء وأمنة لها عن الفناء فإذا غارت واضمحلت أتى السماء الفناء الذي كتب عليها وجعل الله ـ جل وعلا ـ المصطفى أمنة أصحابه من وقوع الفتن فلما قبضه الله ـ جل وعلا ـ إلى جنته أتى أصحابه الفتن التي أوعدوا وجعل الله أصحابه أمنة أمته من ظهور الجور فيها، فإذا مضى أصحابه أتاهم ما يوعدون من

_ 1ـ صحيح مسلم 4/196.

ظهور غير الحق من الجور والأباطيل"أ. هـ1. وقال النووي: "ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت وقوله صلى الله عليه وسلم: " وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون" أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقد وقع كل ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم"2. فهذا الحديث تضمن فضيلة الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام كما اشتمل على بيان منزلتهم ومكانتهم العالية في الأمة، وأنهم في الأمة بمنزلة النجوم من السماء. 2- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يغزو فئام3 من الناس فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم: فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم" 4. فلله ما أعظم هذا التكريم الذي حظي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي

_ 1ـ الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين أبي الحسن علي بن بلبان بن عبد الله الفارسي 9/186. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/83. 3ـ الفئام: الجماعة الكثيرة، النهاية في غريب الحديث 3/406. 4ـ صحيح البخاري 2/287، صحيح مسلم 4/1962، واللفظ لمسلم.

ما كان ولم يكن لأحد سواهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالحديث تضمن فضيلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. قال الإمام النووي: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم"أ. هـ1. 3- وروى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته".2 4- روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا قال: "ثم يخلف قوم يحبون السمانة3 ويشهدون قبل أن يستشهدوا4. 5- وروى الشيخان من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة.5 6- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "القرن

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/83، وانظر: عمدة القارئ للعيني 14/180. 2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1963 واللفظ لمسلم. 3ـ المراد بالسمن هنا كثرة اللحم ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم وليس معناه أن يتمحضوا سماناً والمذموم منه من يستكسبه بالمأكول والمشروب الزائد على المعتاد. 4ـ صحيح مسلم 4/1963-1964. 5ـ صحيح البخاري 2/287، صحيح مسلم 4/1964.

الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث" 1. فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة وقاطعة على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خير القرون المفضلة وأكرمها على الله ـ تعالى ـ. قال الإمام النووي: "اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه"2. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: "خير أمتي قرني" أي: أهل قرني والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل ويطلق القرن على مدة من الزمان واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور ... والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وبعثت من خير قرون بني آدم" 3 وفي رواية بريدة عند أحمد "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم" 4. وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين. وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمال أهل كل زمان والله أعلم واتفقوا أن آخر من كان

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1965. 2ـ شرح النووي 16/84. 3ـ صحيح البخاري 2/272 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 4ـ مسند أحمد 5/357.

من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهر البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشوا الكذب" ظهوراً بيناً حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان قوله: "ثم الذين يلونهم" أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين، واقتضى أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البر1 والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية. ثم استرسل الحافظ في ذكر أدلة ابن عبد البر على أن الأفضلية بالنسبة إلى المجموع لا إلى الأفراد مع ذكر ما يرد عليها من الاعتراضات ومن الأدلة التي ذكرها ما يلي: 1) قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره" وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة2 ... وأجاب عنه النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى بن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير

_ 1ـ وقول ابن عبد البر ليس على إطلاقه في حق جميع الصحابة فإنه استثنى أهل بدر والحديبية انظر: فتح الباري 7/7. 2ـ سنن الترمذي 4/229، المسند 3/143

وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني" والله أعلم. 2) ما رواه ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير ـ ثلاثاً ـ ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها". 3) روى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعة: "تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال بل منكم" 1 وهو شاهد لحديث "مثل أمتي مثل المطر". 4) واحتج بحديث عمر رفعه: "أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني" الحديث أخرجه الطيالسي وغيره لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه. 5) روى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" وإسناده حسن وقد صححه الحاكم.2 6) احتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم قال فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء". 3 وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن

_ 1ـ سنن أبي داود 2/437، سنن الترمذي 4/323. 2ـ المسند 4/106، سنن الدارمي 2/308. 3ـ صحيح مسلم 1/130.

مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم، ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهاً على أن حديث: "للعامل منهم أجر خمسين منكم" لا يدل على أفضيلة غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضاً: فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم"1. والراجح من القولين ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أفضلية الصحابة إنما هو باعتبار الأفراد وليس بالنسبة إلى المجموع إذ الصحبة لا يعدلها شيء ولمشاهدتهم النبي صلى الله عليه وسلم وذبهم عنه ونصرة دين الإسلام وحرصهم على ضبط الوحي الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغهم إياه إلى من بعدهم ولأن ما هنا خصلة من أعمال الخير إلا سبقوا إليها ويكون لهم أجرها وأجر من عمل بها بعدهم إلى

_ 1ـ فتح الباري 7/6-7.

يوم القيامة وبهذا برز فضلهم على من بعدهم ومن قبلهم من الأمم سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 7) ومما جاء في الثناء عليهم من السنة ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".1وعند الإمام مسلم بلفظ كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". 2 " فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة فما أبعد الثرى من الثريا بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".3 قال أبو محمد بن حزم في شرحه لهذا الحديث: "فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله تعالى بعد ذلك قال الله ـ تعالى ـ: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 4 وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم

_ 1ـ صحيح البخاري 2/292. 2ـ صحيح مسلم 4/1967. 3ـ قبس من هدي الإسلام لشيخنا عبد المحسن العباد ص/ 92. 4ـ سورة الحديد آية/ 10.

أجمعين".1 وقال حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: "والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم".أ. هـ2 وقال القاضي عياض: " ... وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته وذلك معدوم بعده وكذا جهادهم وسائر طاعتهم وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"أ. هـ3 وقد نقل الحافظ ابن حجر عن البيضاوي في شرح الحديث المتقدم أنه قال: "معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهباً من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية" قال الحافظ: "وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال

_ 1ـ ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/177 لسعيد الأفغاني. 2ـ معالم السنن 4/308. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.

كان قبل فتح مكة عظيماً لشدة لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بع ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم"أ. هـ1. فالذي يستفاد من كلام هؤلاء الأئمة الذين قدمنا نقولهم أن الصحابة لا يدركهم أحد في فضلهم وعملهم ورضي الله عنهم أجمعين بل إن القليل من عملهم لا يوازيه عمل غيرهم مهما بلغ من الكثرة ومهما صاحبه من إخلاص وصدق ويقين وإيمان وذلك فضله تعالى يؤتيه من يشاء. روى ابن بطة بالإسناد الصحيح كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة " وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره".2 وروى أبو داود بإسناده إلى سعيد بن زيد رضي الله عنه أنه قال بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة "لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح"3 فسعيد بن زيد رضي الله عنه يريد بهذا عموم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 8) ومن الأحاديث الدالة على فضلهم وعلو منزلتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر من رآه وآمن به واتبعه وصدقه أن له طوبى والصحابة رضي الله عنهم حازوا قصب السبق في هذا على كل أحد أتى بعدهم فقد روى البزار والطبراني من حديث أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنديان4 مذحجيان5 حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج

_ 1ـ فتح الباري 7/34، وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/413. 2ـ منهاج السنة 1/154. 3ـ سنن أبي داود 2/516. 4ـ كندة: بالكسر مخلاف كندة باليمن اسم لقبيلة. معجم البلدان 4/482. 5ـ مذحج: قبيلة من قبائل العرب وهم: ولد أدد بن زيد بن يشجب مرة أنظر: معجم البلدان 5/88.

قال: فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال يا رسول الله أرأيت من رآك وآمن بك واتبعك وصدقك ماذا له قال: "طوبى له" قال فمسح على يده وانصرف، ثم أتاه الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك ماذا له، قال: "طوبى له ثم طوبى له". 1 وقد أخبر تعالى أن طوبى من نصيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2 وقد اختلف علماء السلف في المراد "بطوبى" فقد أخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى ابن عباس أنها: شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها، أغصانها من وراء سور الجنة".3 قال ابن كثير: "وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث ابن سمي وأبي إسحاق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار غصن منها".4 وقيل: إن "طوبى" اسم من أسماء الجنة: وعلى هذا يكون المعنى الجنة لهم.5 والمراد بها والله أعلم في هذا الحديث المتقدم أنها "الجنة". 9) دعا عليه الصلاة والسلام لسامعي سنته ومبلغيها بالنضرة والرحمة، والصحابة رضي الله عنهم يدخلون في هذه الدعوة المباركة الميمونة دخولاً أولياً لأنهم هم الذين سمعوا سنته مباشرة ودون واسطة ووعوها وأدوها إلى من بعدهم وهذه خصيصة لهم رضي الله عنهم تميزوا بها دون غيرهم، فرضوان الله عليهم

_ 1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/18 وقال: إسناده حسن وذكره الحافظ في الإصابة 4/127. 2ـ سورة الرعد آية/29. 3ـ جامع البيان 13/147. 4ـ تفسير القرآن العظيم 4/89. 5ـ انظر: جامع البيان 13/146، وتفسير ابن كثير 4/89.

أجمعين، وتلك الدعوة التي كان لهم فيها الحظ الأوفر والنصيب الأكبر هي قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" 1 وفي لفظ آخر "رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من له من سامع".2 قال الخطابي رحمه الله تعالى: " معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة".أ. هـ3 وقال ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث" ... ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه، والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره".أ. هـ4 وقال الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب ": ومعناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن فيكون تقديره: جمله الله وزينه وقيل غير ذلك ".5 وقال أبو بكر بن العربي: "والنضرة هي النعمة والبهاء يكون على الوجه".أ. هـ6

_ 1ـ سنن أبي داود 2/289 من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. 2ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في "الإحسان بترتيب ابن حبان" 1/226 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وانظر: سنن ابن ماجه 2/1316، والمسند 1/437، سنن الدارمي 1/75 وهذا الحديث قد أفرده شيخنا عبد المحسن بن حمد العباد بدراسة مستقلة اشتملت على بيان طرقه، وألفاظه ودراسة الحديث من حيث الدراية وبين أن هذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أربعة وعشرون صحابياً، خرجه سبعة وثلاثون إماماً خرج في أكثر من خمسة وأربعين كتاباً، وبلغت طرقه سبعة وخمسين طريقاً، ومائة طريق. انظر: كتاب دراسة حديث " نضر الله امرءا سمع مقالتي" رواية ودراية للشيخ عبد المحسن العباد ص/227. 3ـ معالم السنن 4/187، وانظر: جامع الأصول لابن الأثير 9/118. 4ـ النهاية 5/71. 5ـ الترغيب والترهيب 1/108. 6ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 10/124.

وقال الملا علي القاري في كتابه "المرقاة": " والمعنى خصه الله بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته عن القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمه في الآخرة حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة ثم قيل إنه إخبار يعني جعله ذا نضرة وقيل: دعاء له بالنضرة وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة وقيل: المراد ههنا النضرة من حيث الجاه والقدر كما جاء اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه أي: ذوي الأقدار من الناس ثم قال القاري: لا مانع من الجميع والإخبار أولى من الدعاء.."أ. هـ1 " وما ذكره القاري من اعتبار سائر المعاني التي فسر بها لفظ النضارة وعدم تخصيصه بواحد منها حسن وجيه ويكون المراد بالنضارة بالحديث جمله الله وزينه بما يظهر على وجهه من البهاء والحسن وأوصله الله إلى نضرة الجنة ونعيمها وكذا النضرة من حيث الجاه والقدر ويكون اختلاف الأقوال في ذلك وتفسير الحديث ببعض هذه المعاني من قبيل اختلاف التضاد فإن من فسره بواحد منها لا ينفي كون غيره مراداً وإنما هو من قبيل تفسير الشيء بما يوضحه كالتفسير بالمثال"أ. هـ2 وتلك الدعوة التي قدمنا شرحها بما يوضح المراد منها بأقوال أهل العلم كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها القسط الأكبر والحظ الأوفر لأنهم هم الذين تلقوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما المصدران اللذان اشتملا على الهدى والنور، والصحابة رضي الله عنهم هم الذين تلقوا هذا الخير وهذا النور وهذا الهدى وأدوه إلى من بعدهم فكل إنسان يأتي بعدهم فلهم عليه منة، ولهم عليه فضل لأن هذا الهدى وهذا الخير الذي حصل لم يحصل إلا بواسطتهم رضي الله عنهم فكل من استفاد منه فلهم مثل أجره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إذ أنه

_ 1ـ المرقاة شرح المشكاة 1/236. 2ـ انظر: كتاب "دراسة حديث نضر الله امرءا سمع مقالتي رواية ودراية" ص/184-185.

قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" 1 وقبلهم رضي الله عنهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه الذي جاء بهذا الخير وهذا الهدى فكل من اهتدى، وكل من استفاد وكل من دخل في دين الله وعمل صالحاً فإن الله يثيب نبيه صلى الله عليه وسلم بمثل ما يثيب به ذلك العامل من غير أن ينقص من أجر العامل شيء لأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي دعا الناس إلى هذا الهدى فله مثل أجور كل من استفاد خيراً بسببه، والصحابة رضي الله عنهم هم الصلة الوثيقة التي تربط المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم فهم الذين جمعوا القرآن وهم الذين حفظوه وهم الذين أوصلوه إلى من بعدهم وهم الذين تلقوا السنة وأدوها إلى من بعدهم فصار لهم الثواب الجزيل والأجر العظيم، ولقد شرفهم الله في الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعة سيد الأولين والآخرين كما شرفهم بسماعهم كلامه من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين فالذي يطعن في أولئك الأخيار، وأولئك الأسلاف فقد عمد إلى قطع الصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك ضلالاً وخذلاناً والعياذ بالله تعالى. والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة وشهيرة بل متواترة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر بعض الأحاديث المتقدم ذكرها: "وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة"أ. هـ2 وهو كما قال رحمه الله تعالى بل إن القادح في الكتاب والسنة لا حظ له في الإسلام وهذا حال الرافضة فإنهم طعنوا في الكتاب والسنة عن طريق القدح في الصحابة رضي الله عنهم إذ هم نقلة هذا الدين إلى من بعدهم،

_ 1ـ رواه مسلم في صحيحه 4/2060 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2ـ مجموع الفتاوى 4/430.

والطعن في الصحابة أيضاً: طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين1 والذي يعتقد هذا هو من أبخس الناس حظاً في الدنيا والآخرة، وقد تبنى هذا المعتقد الفاسد الشيعة والخوارج، "فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا علياً والحسن والحسين وعمار بن ياسر، والخوارج يفضلون أنفسهم ـ وهم شر خلق الله وكلاب النار ـ على عثمان ـ وعلي وطلحة والزبير ـ ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسوله"2 عليه الصلاة والسلام في أن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة الأمة المحمدية وسادتها على الإطلاق، ولنأت الآن ما جاء من ذكر بعض الثناء عليهم رضي الله عنهم في كلام السلف.

_ 1ـ مجموع الفتاوى 4/429. 2ـ انظر: "ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة" ص/178.

المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف

المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف ... المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف لقد كثر الثناء في كلام السلف على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بما امتازوا به من الصفات الطيبة، والسيرة الحسنة، والأخلاق المشرقة، والأعمال الصالحة، التي جعلتهم أهلاً لأن يكونوا أصحاباً ووزراء لخير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والثناء الوارد عن السلف منه ما يتعلق بهم على وجه العموم ومنه ما يكون باعتبار الأفراد والذي نريد ذكره في هذا المبحث من هذا الثناء هو ما يتعلق بهم على وجه العموم كما لا أقتصر هنا على الثناء الوارد على الصحابة ممن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم وغيرهم من أئمة الدين، بل أذكر حتى الثناء الوارد منهم بعضهم على بعض إن وجد وكان على سبيل العموم ومن ذلك ما يلي: 1- قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله ـ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ـ خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه

_ 1ـ سورة الفتح آية/29

وظهرت آلاء الله، واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العلياء، وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية، والأرواح الطاهرة العالية فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"أ. هـ1 فهذه الصفات التي وصفهم بها عبد الله بن عباس كلها مناقب وثناء حسن يذكرون به في الآخرين وقد كانوا رضي الله عنهم كما وصفهم، فقد خصهم الله وشرفهم بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وآثروه بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معالم الدين الإسلامي الحنيف، ونصحوا للأمة واجتهدوا في نشر الإسلام وتثبيت دعائمة حتى استقر في الأرض وأذل الله بهم الشرك وأهله وأزيلت رؤوسه، ومحيت دعائمه وأعلى الله بهم كلمته، ودحر بهم كلمة الباطل، وبذلك كانت نفوسهم زكية وأرواحهم طاهرة فكانوا أولياءً لله في هذه الحياة الدنيا فرضوان الله عليهم أجمعين. 2- روى أبو نعيم الأصبهاني: بإسناده إلى أبي أراكة قال: صلى عليّ الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة ثم قال: لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم مثل ركب المعزي قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين. وقال أيضاً رضي الله عنه: "أولئك مصابيح الهدى يكشف الله بهم كل فتنة مظلمة سيدخلهم الله في رحمة منه، ليس أولئك بالمذاييع2 البذر ولا الجفاة

_ 1ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/75. 2ـ هو جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه وقيل أراد الذين يشيعون الفواحش النهاية 2/174.

المرائين"1.فأمير المؤمنين علي رضي الله عنه مدحهم بهذه الصفات الطيبة التي كانت شعارهم فقد بين أنهم كانوا مجتهدين في عبادة ربهم كانوا يكثرون من النوافل في جوف الليل لأن اصفرار الوجوه وظهور السيماء فيها كان نتيجة إكثارهم من السهر والسجود لله ـ جل وعلا ـ ووصفهم بأنهم كانوا يبيتون تالين لكتاب الله، وكانوا إذا تليت عليهم آيات الله بكوا وكانوا أعلام هدى، ولقوة بصيرتهم ومعرفتهم أحكام الله، وما أوجب عليهم من العبادات والطاعات كشف الله عنهم الفتن المضلة، فكانوا من أهل رحمته التي لا يفوز بها إلا أهل الإخلاص، وقد كانوا رضي الله عنهم في مقدمة أولياء الله المؤمنين وعباده المتقين فرضي الله عنهم أجمعين. 3- وروى أبو نعيم الأصبهاني: بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا على الهدي المستقيم".2 4- وروى الإمام أحمد في المسند بإسناده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء".3 وروى ابن بطة ـ كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ بإسناده إلى

_ 1ـ حلية الأولياء 1/76-77، وابن كثير في البداية والنهاية 8/7. 2ـ حلية الأولياء 1/305-306، وذكره البغوي عن ابن مسعود 1/214. 3ـ المسند 1/379، شرح السنة للبغوي 1/214-215.

عبد الله بن مسعود أنه قال: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".1 "فقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسير ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف"أ. هـ2 "فأحق الأمة بإصابة الصواب أبرها قلوباً وأعمقها علوماً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً، من غير شك ولا ارتياب فكل خير وإصابة وحكمة، وعلم ومعارف ومكارم، إنما عرفت لدينا ووصلت إلينا من الرعيل الأول والسرب الذي عليه المعول، فهم الذين نقلوا العلوم والمعارف عن ينبوع الهدى ومنبع الاهتداء"3 فرضي الله عنهم أجمعين. 5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى الحسن أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرَّ الرعاء الحطمة" فإياك أن تكون منهم فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة4 أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم".5

_ 1ـ منهاج السنة 1/166. 2ـ منهاج السنة 1/166. 3ـ انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/380. 4ـ النخالة: هي نخالة الدقيق والمراد: قشوره، والنخالة والحفالة والحثالة بمعنى واحد، شرح النووي 12/216. 5ـ صحيح مسلم 3/1461.

فقول عائذ بن عمرو رضي الله عنه: "وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم" "هذا من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة".1فالصحابة رضي الله عنهم كانوا في غاية التحلي بالصفات الطيبة التي زكت بها نفوسهم وطهرت بها قلوبهم، وعلت بها مكانتهم فكانوا صفوة الأمة وأعلاها وأكملها فطرة وأصفاها أذهاناً وبذلك كان مجتمعهم مجتمع الطهر والنقاء والصفاء رضوان الله عليهم أجمعين. وقد أثنى عليهم التابعون بذكر محاسنهم، وما قدموه من الأعمال الصالحة التي ينبغي لمن جاء بعدهم الاقتداء بهم فيها ومن ذلك ما يلي: 6- قال السيوطي وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أريد الفتن؟ فقال إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت: له وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2 أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك قال أبو صخر: لكأني لم

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/216. 2ـ سورة التوبة آية/100.

أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب".1 7- ما رواه أبو نعيم بإسناده إلى الحسن البصري ... أن بعض القوم قال له: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستفادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم واستخفوا بسخط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا ولم يجاوزوا حكم الله ـ تعالى ـ في القرآن شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم".2 8- روى الإمام أحمد بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال: "أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه".3 9- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "قال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني4، أنه قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً

_ 1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/272. 2ـ حلية الأولياء 2/150. 3ـ المسند 3/134. 4ـ هو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري، أبو بكر سيد فقهاء عصره تابعي من حفاظ الحديث كان ثبتاً ثقة ولد سنة ست وستين، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 1/297، حلية الألياء 3/3، اللباب 2/108، الأعلام 1/382.

فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق".1 10- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده: إلى بقية بن الوليد قال: "قال لي الأوزاعي2 يا بقية: العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجيء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعلم، يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير ولا أحداً من أمتك، وإذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه".3 11- وروى بإسناده إلى قتادة رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.4 12- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعيد بن المسيب أنه سئل عن شيء فقال: "اختلف فيه أصحاب رسول الله ولا أرى لي معهم قولاً قال ابن وضاح5: هذا هو الحق: قال أبو عمر: معناه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم"6. تلك هي أقوال بعض التابعين في الصحابة عموماً وكما هي واضحة فإنها

_ 1ـ البداية والنهاية 8/13. 2ـ هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع، كان إماماً في الفقه والزهد ثقة، جليل، ولد سنة ثمان وثمانين وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 6/638، وفيات الأعيان 3/127-128، حلية الأولياء 6/135، سير أعلام النبلاء 7/107-134. 3ـ جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله 2/36. 4ـ جامع بيان العلم 2/36 والآية رقم 6 من سورة سبأ. 5ـ هو: محمد بن وضاح بن يزيع، أبو عبد الله مولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام محدث من أهل قرطبة، ولد سنة تسع وتسعين ومائة وتوفي سنة ست وثمانين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في بغية الملتمس ص/123، لسان الميزان 5/416، والأعلام 7/358. 6ـ جامع بيان العلم وفضله 2/36.

تضمنت الثناء عليهم رضي الله عنهم بما قدموه من الأعمال الصالحة وبما لهم من شرف الصحبة، وبما بذلوه للإسلام من النصرة والجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه الحق فقد بذلوا أنفسهم حين استنصرهم، وضحوا بأموالهم حين استقرضهم، ولم يخافوا في الله لومة لائم، وآثروا آخرتهم على دنياهم، فالتابعون رحمهم الله أثنوا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستحقون، فلم يذكروهم إلا بخير، وشهدوا لهم بالعلم وبينوا أن ما لم يأت عن طريقهم فليس بعلم، ولم يعدلوا بهم أحداً، وآمنوا بما لهم من الفضائل وسلموا بها لهم واعتقدوا ذلك اعتقاداً جازماً فرحمة الله عليهم ورضي عن صحابة رسول الله أجمعين. وكما جاء الثناء على الصحابة عموماً من التابعين كذلك أثنى عليهم غيرهم من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ممن جاء بعدهم من أئمة العلم ومن ذلك ما يلي: نقل الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي: مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به لرب العالمين ومن ضمن ذلك ما كانوا يعتقدونه في الصحابة عموماً فقال: في عقيدته المشهورة: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".1 قال شارح الطحاوية: "فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود النصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى وقيل

_ 1ـ العقيدة الطحاوية مع شرحها ص/528.

للنصارى: من خير أهل ملتكم قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم قالوا: أصحاب محمد. لم يستثنوا إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة"1. 14- وقال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: "من يبغض أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية2. وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 3، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقد أصابته الآية".أ. هـ4 15- وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: "وقد أثنى الله ـ تبارك وتعالى ـ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول

_ 1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/531-532. 2ـ سورة الحشر آية/7-10. 3ـ سورة الفتح آية/29. 4ـ شرح السنة للبغوي 1/229.

ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله"أ. هـ1. 16- وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته: "ومن السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين والكف عن ذكر ما شجر بيهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم أو تنقصه أو طعن عليهم، أو عرّض بعيبهم أو عاب أحداً منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة وخير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا ينقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفوا عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع"أ. هـ2. 17- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: سألت أبا أسامة3 أيما كان أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لا نعدل بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحداً"4. وقال ابن أبي حاتم5 رحمه الله تعالى: "فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/442- 443، أعلام الموقعين 1/80. 2ـ طبقات الحنابلة 1/30، كتاب السنة للإمام أحمد ص/17. 3ـ هو أبو أسامة: حماد بن أسامة بن زيد القرشي مولاهم أبو أسامة الكوفي، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 3/2. 4ـ جامع بيان العلم وفضله 2/227. 5ـ هو عبد الرحمن بن محمد أبي حاتم بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرزاي أبو محمد كان =

فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله ـ عز وجل ـ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله ـ عز وجل ـ وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهمم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله ـ عز وجل ـ بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة فقال ـ عز وجل ـ في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 1 ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ـ عز ذكره ـ قوله {وَسَطاً} قال: "عدلاً" فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة، وندب الله ـ عز وجل ـ إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 2 ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ في أخبار كثيرة ووجدناه يخاطب أصحابه فيها منها أن دعا لهم فقال: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره" 3 وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج" 5،

_ = رحمه الله من أئمة التفسير والحديث، ولد سنة أربعين ومائتين وتوفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 3/829، وطبقات الحنابلة 2/55، سير أعلام النبلاء 13/263-269. 1ـ سورة البقرة آية/143. 2ـ سورة النساء آية/115. 3ـ سنن أبي داود 2/289، سنن ابن ماجه 2/1316، سنن الدارمي 1/74، مسند أحمد 1/437. 4ـ عند البخاري بلفظ: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وعند مسلم بدون لفظة "منكم" صحيح البخاري مع الفتح 1/199، صحيح مسلم 3/1306. 5ـ عند البخاري بلفظ: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" الحديث من رواية =

ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكموا بحكم الله ـ عز وجل ـ وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله ـ عز وجل ـ رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"أ. هـ1. 19- وقال ابن أبي زيد2 القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم حسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب"أ. هـ3. 20- وقال أبو عثمان4 الصابوني: "ويرون ـ أي أهل السنة ـ الكف

_ = عبد الله بن عمر رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 6/496. 1ـ مقدمة الجرح والتعديل 1/7-8. 2ـ هو عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد النفزي القيرواني أبو محمد فقيه من أعيان القيروان كان إمام المالكية في عصره قال الذهبي: كان على أصول السلف في الأصول لا يدري الكلام ولا يتأول، ولد سنة عشر وثلاثمائة وتوفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة، انظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/10، الديباج المذهب 1/427-430، شجرة النور الزكية 1/96. 3ـ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/22-23. 4ـ هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني: مقدم أهل الحديث في بلاد خراسان، لقبه أهل السنة فيها "شيخ الإسلام" كان رحمه الله فصيح اللهجة واسع العلم عارفاً بالحديث والتفسير، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة، انظر: ترجمته في الكامل لابن الأثير 9/638، تهذيب تاريخ دمشق 3/27-33، البداية والنهاية 12/83.

عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما تضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والمولاة لكافتهم"1. 21- ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: عن أبي المظفر2 السمعاني أنه قال في كتابه "الاصطلام": "التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة"أ. هـ3. 22- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4 وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما لا

_ 1ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث. الرسالة السادسة، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129. 2ـ اسمه منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد المروزي السمعاني التميمي من علماء التفسير والحديث، ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة وتوفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ترجمته في سير أعلام النبلاء 19/114، اللباب 2/138-139، طبقات المفسرين للداوودي 2/339. 3ـ فتح الباري 4/365. 4ـ سورة الحشر آية/10.

يكون لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المدّ من أحدهم إذا تصدق به كان من جيل أحد ذهباً ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الآيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منّ الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم آخر الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله"أ. هـ1. 23- قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً فضل الصحابة عموماً على غيرهم ممن جاء بعدهم وذاكراً الصفات التي أهلتهم لذلك عند كلامه على ذكر أنواع الرأي المحمود: "النوع الأول: رأى أفقه الأمة، وأبر الأمة قلوباً وأعمقهم وأقلهم تكلفاً وأصحهم قصوداً وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول، فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته، والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم. والمقصود أن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم وكيف يساويهم؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته ... وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا

_ 1ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/142-151.

خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا وساطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضاً طرياً لم يشبه إشكال، ولم يشبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس"1. 24- قال يحيى أن أبي بكر العامري2 رحمه الله تعالى: "وينبغي لكل صين متدين مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر، والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم، وتسليم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه فهم أعلم بالحال والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وطريقة العارفين الاعتذار عن المعائب وطريقة المنافقين تتبع المثالب، وإذا كان اللازم من طريقة الدين ستر عورات عامة المسلمين فكيف الظن بصحابة خاتم النبيين! مع اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي" 3. وقوله: "من حسن إسلام تركه ما لا يعنيه" 4. هذه طريقة صلاحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف"5. 25- وقال السفاريني رحمه الله تعالى: "ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن الصحابة الكرام هم الذين حازوا قصبات السبق واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق، فالسعيد من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى

_ 1ـ إعلام الموقعين 1/79-82. 2ـ هو يحيى بن أبي بكر بن محمد بن يحيى العامري الحرضي مؤرخ، وله علم بمفردات الطب، كان محدث اليمن وشيخها في عصره ولد سنة ستة عشر وثمانمائة وتوفي ثلاث وتسعين وثمانمائة هجرية. ترجمته في: الضوء اللامح للسخاوي 10/324، البدر الطالع للشوكاني 2/327، كشف الظنون 1/937، فهرست الفهارس للكتاني 2/445-446، الأعلام 9/168. 3ـ رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/1967-1978. 4ـ رواه الترمذي في سننه 3/382، ورواه ابن ماجه أيضاً في سننه 2/1315-1316، وكلاهما من حديث أبي هريرة. 5ـ الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ص/300-301.

منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم، ولم يتحقق بتحقيقهم فأي خطة رشد لم يستولوا عليها، وأي خطة خير لم يسبقوا إليها تالله لقد وردوا ينبوع الحياة عذباً صافياً زلالاً ووطدوا قواعد الدين، والمعروف فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً فتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان، وبذل النفوس النفيسة في مرضاة الرحيم الرحمن، فلا معروف إلا ما عنهم عرف، ولا برهان إلا ما بعلومهم كشف، ولا سبيل نجاة إلا ما سلكوا، ولا خير سعادة إلا ما حققوه وحكوه فرضوان الله تعالى عليهم أجمعين"أ. هـ1. فهذه خمسة وعشرون نقلاً عما قدمنا ذكرهم من أهل العلم بينوا فيها ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهم هذا الذي قدمنا ذكره هو محمدة لهم ولمن تكلم به من بعدهم فأولئك الأسلاف دائماً كلامهم يذكر ويثنى عليهم به ويترحم عليهم بسببه لكونهم قاموا بما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهم الذي تقدم ذكره هو اللائق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإن في الحقيقة لم يضرهم وإنما يضر نفسه وذلك بأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم قدموا على ما قدموا وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، والكلام فيهم بما يليق بهم فإنه لا ينقصهم بل يزيدهم رفعة في درجاتهم، وزيادة في حسناتهم، فإن المتكلم فيهم يكون كلامه فيهم بغير حق، ومتكلم فيهم إذا كانت له حسنات فإنهم يأخذون من حسناته ويكون ذلك رفعة في درجاتهم وإن لم يكن له حسنات فإنه كما قيل لا يضر السحاب نبح الكلاب. والذي أخلص إليه من تلكم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام السلف الذي تقدم في بيان فضل الصحابة على وجه العموم أنه يجب على كل مسلم أن ينقاد لما دل على إثبات فضلهم رضي الله عنهم ويسلم لهم بذلك ويعتقد اعتقاداً

_ 1ـ لوامع الأنوار البهية 2/379-380.

جازماً أنهم خير القرون، وأفضل الأمة بعد النبيين1 ومن يسلم لهم بذلك أو يشك فيه فليتدارك نفسه ويتوب إلى الله لأن مقتضى ذلك تكذيب خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب الله ورسوله لا حظ له في الإسلام.

_ 1ـ انظر: كتاب ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/171، الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/64، وانظر: لوامع الأنوار البهية 2/377.

الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم

الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين ... المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين السبق: هو التقدم إما في الصفة أو في الزمان، أو في المكان فالتقدم في الصفة: يكون لمن سبق إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر واتخذ ما ينفق قربات عند الله ـ عز وجل ـ. والتقدم في الزمن: يكون لمن تقدم في أوان قبل أوانه. والتقدم في المكان: يكون لمن تبوأ دار النصرة واتخذها بدلا عن موضع الهجرة وأفضل هذه الوجوه هو السبق في الصفات1. قال الراغب2 الأصبهاني: "أصل السبق التقدم في السير نحو {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} 3.... ويستعار السبق: لإحراز الفضل والتبريز وعلى ذلك {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} 4 أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة نحو قوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 5 "أ. هـ.6 ومما يدل على أن السبق بالصفات هو الأفضل قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض

_ 1ـ انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/1002، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/237. 2ـ هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصبهاني ـ المعروف بالراغب ـ من أهل أصبهان سكن بغداد واشتهر، توفي سنة اثنتي وخمسمائة هجرية، انظر: ترجمته في: كشف الظنون 1/36، وله ترجمة في أول كتابه المفردات في غريب القرأن وانظر: الأعلام 2/279، معجم المؤلفين 4/59. 3ـ سورة النازعات آية/4. 4ـ سورة الواقعة آية/10. 5ـ سورة المؤمنون آية/61. 6ـ المفردات في غريب القرآن ص/222.

عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً، والنصارى بعد غد" 1. والمراد باليوم المذكور في الحديث هو يوم الجمعة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم التي كانت قبلنا وإن سبقونا في الزمن إلا أننا سبقناهم بتحصيل الفضل العظيم من الله ـ عز وجل ـ، والصحابة رضوان الله عليهم حسب تقدمهم في السبق إلى الإيمان والهجرة والنصرة كانوا على درجات متفاوتة في الفضل والحصول على كثرة الثواب وعظمه، وذلك بحسب مبادرتهم إلى الدخول في دين الله ـ تعالى ـ ولقد جاء الثناء على السابقين الأولين منهم في كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وقبل أن نذكر ما جاء من ذلك الثناء نبين المراد بالسابقين الأولين، كما بين ذلك أهل العلم. فقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين الأولين على أقوال ستة، وهذا الاختلاف مبني على بيان المراد من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 2، وتلك الأقوال كما يلي: القول الأول: إنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة. قال قتادة: " {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير3. القول الثاني: إنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وهي الحديبية قاله الشعبي.

_ 1ـ صحيح البخاري 1/157، صحيح مسلم 2/586، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2ـ سورة التوبة آية/100. 3ـ جامع البيان 11/8.

القول الثالث: إنهم أهل بدر قاله عطاء بن أبي رباح. القول الرابع: إنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته. القول الخامس: إنهم السابقون بالموت والشهادة سبقوا إلى ثواب الله تعالى قاله الماوردي1. القول السادس: إنهم الذين أسلموا قبل الهجرة2. قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: "واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول جابر وبه قال مجاهد وابن إسحاق أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال بعضهم: أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي. وقال بعضهم: أول من أسلم زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة وابن الزبير، وكان إسحاق بن إبراهيم الخنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة. قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله وكان رجلاً محبباً سهلاً وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان

_ 1ـ هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي من العلماء الباحثين، ومن أصحاب التصانيف الكثيرة ولد في البصرة سنة أربع وستين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمسين وأربعمائة، انظر: ترجمته في تاريخ بغداد 12/102، شذرات الذهب 3/285-286، البداية والنهاية 12/87، وانظر: قوله في تفسيره 2/160. 2ـ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3/490-491.

فيها وكان تاجراً ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام1. وأما السابقون الأول من الأنصار: فهم أهل بيعة العقبة الأولى وكان عددهم ستة نفر وفي بعض الروايات أنهم ثمانية حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً2 وأهل بيعة العقبة الثانية كانوا سبعين رجلاً وامرأتين والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع الاثنى عشر الذين قدموا عليه من العام المقبل بعد النفر الستة، أو الثمانية كما في بعض الروايات ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين3. تلك هي أقوال العلماء في المراد بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بقي أن نعرف هنا القول الراجح من تلك الأقوال الستة المتقدمة، فالقول الراجح هو ما قرره شيخ الإسلام حيث قال بعد ذكره لقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "وهذه الآية نص

_ 1ـ معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 3/113-114، وانظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/309-318، أعلام النبوة للماوردي ص/283-284. 2ـ دلائل النبوة للبيهقي 2/434، البداية والنهاية لابن كثير 3/163-164. 3ـ انظر: الطبقات لابن سعد 1/219-223، السيرة النبوية لابن هشام 1/429-451، وتاريخ الأمم والملوك 1/354-365، الكامل 2/95-101، دلائل النبوة للبيهقي 2/430-457، الدر في اختصار المغازي والسير ص/38-44، البداية والنهاية 3/163-181، تفسير البيضاوي ص/266، تفسير الألوسي المسمى روح المعاني 11/7-8. 4ـ سورة الحديد آية/10.

في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 1 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئاً فشئاً وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة، ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب وليس مثل هذا ما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع أولى بمن يجعله خيراً من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان لأنه قد كان غائباً قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته. أ.هـ2.

_ 1ـ سورة التوبة آية/100. 2ـ منهاج السنة 1/154-155، وانظر: شرح الطحاوية ص/530.

فالقول الراجح في المراد بالسابقين الأولين هو هذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيده ما يلي: 1- ما رواه مسلم بإسناده إلى أبي سعيد قال: "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: "لا تسبوا أصحابي" يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان. فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء ... والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كانوا قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين2. 2- ما رواه مسلم أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ3 لقيه أهل الأجناد4 أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء5 قد وقع

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1967. 2ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/529-530. 3ـ سرغ: قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز "شرح النووي" 14/208، وانظر النهابة في غريب الحديث 2/361. 4ـ المراد بالأجناد هنا مدن الشام الخمس: وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين "شرح النووي" 14/208. 5ـ الوباء: المراد به هنا: الطاعون: انظر: النهابة في غريب الحديث 5/144.

بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا. فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس أني مصبح1 على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ... الحديث2. فعمر رضي الله عنه رتبهم في هذا الحديث حسب فضائلهم فبدأ أولاً بالسابقين الأولين من مهاجرين وأنصار وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وإلى مهاجرة "الفتح" وهم الذين أسلموا عام الفتح وهاجروا بعده فحصل لهم اسم الهجرة دون فضيلتها3. وبهذين الحديثين السابقين تبين أن القول الراجح من المراد بالسابقين الأولين هم الذين: أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، ويدخل فيهم أهل بيعة الرضوان جميعاً الذين بلغ عددهم أكثر من ألف وأربعمائة كما تقدم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين وأولئك السابقون الأولون كانوا فريقين فريق المهاجرين، وفريق الأنصار، وسأذكر الآن طرفاً من فضائل كل فريق من الكتاب والسنة، وأبدأ بفريق المهاجرين لأن أهل السنة والجماعة يقدمون المهاجرين على

_ 1ـ مصبح على ظهر: أني مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع إلى وطني فأصبحوا عليه وتأهبوا له "شرح النووي" 14/210. 2ـ صحيح مسلم 4/1740. 3ـ انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 14/209.

الأنصار ويفضلونهم من وجوه: أولها: أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب. وثانيها: أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً، وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه وهذه الحال ما حصلت للأنصار. وثالثها: أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ولم يحصل ذلك للأنصار. ورابعها: أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه الصلاة والسلام إنما حصل من المهاجرين، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"1. فوجب أن يكون المقتدي أقل مرتبة من المقتدى به فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة ولهذا نجد القرآن الكريم كلما تعرض لذكر المهاجرين والأنصار قدم المهاجرين على الأنصار2. وإلى ما جاء في فضل المهاجرين الأولين رضي الله عنهم وقبل أن نذكر طائفة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي وردت في بيان فضل المهاجرين نسبق ذلك ببيان المراد "بالهجرة" فنقول: أصل الهجرة: الترك والمراد ترك الوطن3 والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:

_ 1ـ رواه أحمد في المسند 4/353، من حديث جرير بن عبد الله عن أبيه. 2ـ التفسير الكبير للفخر الرازي 15/209. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/54-55، وانظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 5/304، لسان العرب 5/250 وما بعدها.

الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً1. ولقد ورد الثناء في كثير من الآيات القرآنية على المهاجرين الذين تركوا دورهم ومنازلهم كراهة البقاء بين المشركين وفي سلطانهم حيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم فهاجروا إلى بلد الإيمان الذي يأمنون فيه على أنفسهم من فتنة المشركين وليستعدوا لجهاد المشركين لنصرة دين الله ورسوله وليدخلوا المشركين في دين الله حتى يلتزموا بما يرضيه ـ سبحانه وتعالى ـ فمن الثناء الذي جاء في حق السابقين من المهاجرين من الآيات القرآنية ما يلي: 1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فهذه الآية الكريمة تضمنت مدح المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وأنهم هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه ... وحاربوا في دين الله ليدخلوا أهل الكفر فيه وفيما يرضي الرب ـ جل وعلا ـ ثم وصفهم في ختام الآية أنهم يطمعون في رحمة الله إياهم لكي يدخلوا الجنة بفضله ـ سبحانه ـ ثم بين ـ تعالى ـ أنه ساتر ذنوب عباده بعفوه عنها متفضل عليهم برحمته التي وسعت كل شيء3.

_ 1ـ فتح الباري 1/16، وانظر بصائر ذوي التمييز للفيروزأبادي 5/305. 2ـ سورة البقرة آية/218. 3ـ جامع البيان 2/355، وانظر: تفسير البغوي على حاشية الخازن 1/174.

قال قتادة ـ رحمه الله تعالى ـ: "أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحق الثناء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب1 وقد أخبر تعالى أنه جعل جزاء الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا تكفير سيئاتهم وإدخالهم جنات تجري تحتها الأنهار. 2- قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 2. وهذه الآية الكريمة فيها بيان لفضل أولئك المهاجرين من الصحابة ذكوراً وإناثاً الذين تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان، والخلان والجيران بعد أن ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ولهذا قال: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3. وهذا من أعلى المقامات أن يقاتل ـ العبد ـ في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب 4 مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ " قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل

_ 1ـ جامع البيان 2/356، الدر المنثور للسيوطي 1/605. 2ـ سورة آل عمران آية/195. 3ـ سورة الممتحنة آية/1. 4ـ المحتسب: هو المخلص لله تعالى.

عليه السلام قال لي ذلك" 1 ولهذا قال تعالى: {لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقوله: {ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً2 وهذا النعيم المذكور يتنعم به المؤمنون في الجنة وفي صدارتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. 3- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. هذه الآية الكريمة اشتملت على ثناء رفيع وفضل عظيم للسابقين الأولين من المهاجرين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهذا الفضل الذي تضمنته هذه الآية هو أن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه وهيأ لهم جنات تجري تحتها الأنهار وقضى لهم بالخلود الأبدي الذي لا يعتريه فناء أو زوال إنه لفوز أيما فوز إنه المقام الرفيع الذي لا يصل إلى درجتهم فيه إنسان أتى بعدهم. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: عند هذه الآية الآنفة الذكر يقول تعالى ذكره والذين سبقوا الناس أولى إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلب رضا الله ... {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابسين فيها أبداً

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1501 من حديث أبي قتادة. 2ـ انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/182. 3ـ سورة التوبة آية/100.

لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ذلك الفوز العظيم"أ. هـ1. وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: "قوله ـ عز وجل ـ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم، {وَالأَنْصَارِ} أي: ومن الأنصار هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} قيل: بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم بالإيمان والهجرة، أو النصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء2: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء، وقال أبو صخر حميد بن زياد3: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأردت الفتن ـ فقال: جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم فقلت من أين تقول هذا، فقال اقرأ قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} إلى أن قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط"أ. هـ4. وقال العلامة ابن كثير: عند قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الآية "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم ... فيا ويل من أبغضهم، أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما

_ 1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 11/6، 9. 2ـ هو عطاء بن أسلم بن صفوان تابعي من أجلاء الفقهاء ولد في جند باليمن ونشأ بمكة فكان مفتي أهلها ومحدثهم، ولد سنة سبعة وعشرين وتوفي سنة أربعة عشرة ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/98، تهذيب التهذيب 7/199-203، صفوة الصفوة 2/211. 3ـ هو حميد بن زياد أبو صخر بن أبي المخارق الخراط صاحب العباء مدني سكن مصر ... صدوق يهم من السادسة، توفي سنة 89، التقريب 1/202، التهذيب 3/41. 4ـ تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 3/114.

سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدئون وهؤلاء هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون"أ. هـ1. 4- قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. في هذه الآيات شهادة من الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا بالله وهاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم ـ سبحانه ـ برحمة منه ورضوان، وبالنعيم المقيم الأبدي الذي لا يبيد ولا يفنى وهذا من أعظم البشارات، ومن أسمى الغايات التي يرجوها المؤمنون من ربهم ـ جل وعلا ـ. وقد جاء في سبب النزول ما رواه مسلم بإسناده إلى النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 3/444-445. 2ـ التوبة آية / 19-22.

قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله ـ عز وجل ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية إلى آخرها1. وهذا السبب وإن كان خاصاً فالعبرة فيه بعموم اللفظ فهي في جميع الصحابة الذين اتصفوا بالصفات المذكورة التي هي: الإيمان والهجرة والجهاد وقد تميزوا رضي الله عنهم بسعادة الدارين وقد أكد ـ سبحانه ـ فوزهم بقوله ـ جل وعلا ـ {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ} والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه والخبر الذي بشرهم به هو قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} وهذا من أعظم البشارات وأعلاها. 5- قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2. وهذه الآية فيها الثناء على المهاجرين الذين فارقوا قومهم وديارهم، وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم، وكانت هجرتهم بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله ظلماً وعدواناً، ثم وعدهم الله بأن يسكنهم في الدنيا مسكناً صالحاً يرضونه مع ما ينتظرهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل في دار النعيم. روى ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون وقال قتادة رحمه الله تعالى: "هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق بهم طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1499، وأحمد في المسند 4/269. 2ـ سورة النحل آية/41.

هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين، وقال عامر بن شراحيل الشعبي: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال: المدينة1. وقال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية المتقدمة: " يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله، وجزائه، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعفر بن أبي طالب بن عم الرسول، وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة، وقيل: الرزق الطيب قال مجاهد: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع فإنهم مكنّ الله لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حكاماً وكل منهم للمتقين إماماً وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: مما أعطيناهم في الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ولهذا قال: هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ثم قرأ هذه الآية: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أ. هـ2.

_ 1ـ جامع البيان 14/106-107، وانظر: الدر المنثور للسيوطي 5/131. 2ـ تفسير القرآن العظيم 4/196.

6- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله وهم المهاجرون الأولون"2. وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنه: السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة. وقال عكرمة3: السابقون إلى الإسلام وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين دليله قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} وقال الربيع بن أنس: السابقون إلى إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى"4 وكل هذه الأوصاف منطبقة على السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المسارعون لفعل كل خير لا يمكن أن يسبقهم فيه أحد جاء بعدهم فهم السابقون إلى الهجرة، والسابقون إلى الإسلام، وإلى الصلاة إلى القبلتين، وإلى إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل عمل يقرب إلى الجنة ويباعد عن النار. 7- وقال تعالى منوهاً بفضل المنفقين والمقاتلين لأعداء الله من قبل الفتح من السابقين الأولين: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ

_ 1ـ سورة الواقعة آية/10-11. 2ـ جامع البيان 27/170. 3ـ هو عكرمة بن عبد الله البربري المدني أبو عبد الله مولى عبد الله بن عباس تابعي كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، ولد سنة خمس وعشرين وتوفي سنة خمس ومائة هجرية تهذيب التهذيب 7/263، حلية الأولياء 3/326، وميزان الاعتدال 3/93. 4ـ معالم التنزيل على حاشية الخازن 7/13.

الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1. فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة وأعلى منزلة ممن أنفق بعد ذلك ثم وعد ـ سبحانه ـ الجميع بعد ذلك بالحسنى: أي: المنفقين قبل الفتح وبعده وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء والحسنى هي الجنة. وقد اختلف المفسرون في المقصود: "بالفتح" في هذه الآية: فقال بعضهم: معناه لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكة وهاجر. وقال مجاهد2: في قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} قال: آمن فأنفق يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر. وقال آخرون: عنى بالفتح فتح مكة، وبالنفقة: النفقة في جهاد المشركين قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى كانت النفقة والقتال من قبل الفتح "فتح مكة" أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك. وقال آخرون: عنى بالفتح في هذا الموضع صلح الحديبية. والقائلون بهذا استدلوا عليه بما أخرجه ابن جرير الطبري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم يا رسول الله أقريش هم؟ قال: لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً" فقلنا: هم خير منا يا رسول الله فقال: لو كان

_ 1ـ سورة الحديد آية/10. 2ـ هو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي مفسر من أهل مكة أخذ التفسير عن ابن عباس قرأه عليه ثلاث مرات، ولد سنة إحدى وعشرين وتوفي سنة أربعة ومائة هجرية، انظر: ترجمته في طبقات ابن سعد 5/466، حلية الأولياء 3/279، سير أعلام النبلاء 4/449-457.

لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الآية " وهذا القول رجحه ابن جرير مستدلاً بهذا الحديث. وقال رحمه الله تعالى عند قوله ـ عز وجل ـ في الآية: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} : يقول تعالى ذكره: "هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك وقاتلوا وقوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله وقتالهم أعداءه"أ. هـ1. وقال أبو محمد بن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2، فثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار لأنهم مخاطبون بالآية السابقة، فإن قيل التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك وكذلك التقييد بالإحسان في الآية التي تقدمت قريباً وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3 الآية يخرج من لم يتصف بذلك وهي من أصرح ما وردت في المقصود ولهذا قال المازري4 في شرح البرهان: "لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله عليه وسلم يوماً أو زاره لماما أو اجتمع به لغرض

_ 1ـ جامع البيان 27/219-221. 2ـ سورة الأنبياء آية /101. 3ـ سورة التوبة آية/100. 4ـ هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري أبو عبد الله، محدث من علماء المالكية نسبته إلى مازر بجزيرة صقلية، ولد سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة، انظر ترجمته في: العبر 2/451، شذرات الذهب 4/114، الأعلام 7/164.

وانصرف عن كثب وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" انتهى. وعقب الحافظ ابن حجر على هذا القول فقوله: والجواب عن ذلك أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة وأما كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء"أ. هـ1. وقال عماد الدين بن محمد الطبري المعروف "بالكياالهراسي" عند قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} : عنى به فتح الحديبية ودلّ به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين أو لكثرة المحنة به لقلة المسلمين وكثرة الكفار وهو مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} 2. 8- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3. وهذه الآية تضمنت الثناء على المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وتركوا أموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، ورغبة في نصرة الله ورسوله، وشهد الله لهم بالصدق في ختام هذه الآية، وأكرم بها من شهادة فإن فيها تزكية لهم من رب العالمين. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله

_ 1ـ الإصابة 1/19. 2ـ أحكام القرآن للكيا الهراسي 4/401، والآية رقم 117 من سورة التوبة. 3ـ سورة الحشر آية/8.

ورضوانه: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين"أ. هـ1. وفي كل ما تقدم من الآيات القرآنية دلالات واضحات على فضل السابقين الأولين من المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، وكما دل القرآن على فضلهم كذلك دلت السنة على أن السابقين الأولين من المهاجرين لهم قدم صدق عند ربهم وفضل عظيم ينالونه جزاء نصرتهم دين الإسلام وقد وردت مناقبهم في أحاديث كثيرة ومنها ما يلي: 1- من مناقبهم الواردة في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الهجرة سبب من أسباب المغفرة فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن ومنعة "قال حصن كان لدوس في الجاهلية" فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص2 له فقطع بها براجمه3 فشخبت4 يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطياً يديه فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل: لي لن نصلح ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر" 5.

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 6/605. 2ـ مشاقص: قال في النهاية: المشقص نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض 2/490. 3ـ براجمه: الواحدة برجمة بالضم وهي: العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ. النهاية 1/113. 4ـ فتشخبت: الشخب السيلان. النهاية 2/450 والمراد سال دمه حتى مات. 5ـ صحيح مسلم 1/108-109، المسند 3/370-371، ورواه الحاكم في المستدرك 4/76 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه رحمه الله تعالى فقد أخرجه مسلم كما ترى.

1- ومن مناقبهم التي وردت في السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أن فقراء المهاجرين هم أول من يعبر الصراط إلى الجنة وأنهم يدخلونها قبل الأغنياء بأربعين سنة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله حدثه قال: قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر1 من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي" فقال اليهودي: جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينفعك شيء إذا حدثتك؟ " قال: أسمع بأذني فنكت2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: " سل" فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلمة دون الجسر"3 قال: فمن أول الناس إجازة4 قال: "فقراء المهاجرين" قال فما تحفتهم5 حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد النون"6 قال: فما غذاؤهم على أثرها قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا" 7 قال: صدقت. الحديث8. وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى

_ 1ـ الحبر: هو العالم، النهاية في غريب الحديث 1/228 2ـ النكت: هو الضرب في الأرض بعود أو حديدة أو غير ذلك، انظر: النهاية 5/113. 3ـ الجسر: هو الشيء المتخذ للعبور عليه. انظر النهاية 1/272، والمراد هنا الصراط. 4ـ الإجازة: هنا بمعنى العبور والجواز. 5ـ التحفة: طرفة الفاكهة، والجمع التحف ثم تستعمل في غير الفاكهة. النهاية 1/182. 6ـ قال في النهاية: كبد كل شيء وسطه 4/139، والمراد بالنون الحوت. 7ـ السلسبيل: اسم للعين وقال مجاهد وغيره هي شديدة الجري انظر: جامع البيان 29/218. 8ـ صحيح مسلم 1/252.

الجنة بأربعين خريفاً". 1 3- ومن مناقبهم الدالة على عظيم شأنهم وعلو قدرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المهاجرين الأولين فازوا بفضل الهجرة، وظفروا بالأجر العظيم، والثواب الجزيل. روى الإمام البخاري بإسناده إلى مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة قال: "ذهب أهل الهجرة بما فيها". 2 4- ومن الأحاديث الواردة في بيان عظم شأن المهاجرين الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الهجرة فيها عبء شديد ولا يصبر على ذلك إلا من وفقه الله، وقد وفق الله لتحمل ذلك والصبر عليه أولئك الأتقياء الأخيار من صحابة رسول الله صل الذين خرجوا من مكة ومن جاء من بلد آخر مخاجراً إلى الله ورسوله وظفر بشرف الصحبة فقد روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن أعرابيا سأل رسول الله عن الهجرة فقال: "ويحك إن شأن الهجرة لشديد فهل لك من إبل؟ قال: نعم قال: "فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم قال: "فاعمل من وراء البحار 3، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً". 4 والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه فخاف عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى لها ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئاً"أ. هـ5.

_ 1ـ صحيح مسلم 4/2285. 2ـ صحيح البخاري 3/65. 3ـ المراد: بالبحار هنا: القرى والعرب تسمي المدن والقرى البحار والقرية البحيرة أنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/100. 4ـ صحيح البخاري 1/252، صحيح مسلم 3/1488. 5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/9.

5- ومن مناقب المهاجرين الأولين أنه صلى الله عليه وسلم وصى بهم وبأبنائهم من بعدهم خيراً فقد روى الطبراني في الأوسط والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قالوا: يا رسول الله أوصنا قال: أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا عدل" قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط والبزار، إلا أنه قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبنائهم من بعدهم" ورجاله ثقات1 وقد بين أهل العلم أن المراد: بالصرف التوبة وقيل النافلة. والمراد بالعدل: الفدية، وقيل: الفريضة2 فالذي لم يحفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه المهاجرين باعتقاد ما يجب لهم من المحبة والاحترام والاعتراف بفضلهم وسابقتهم فإنه على حالة خطيرة ويكون مآله إلى شر والعياذ بالله، ومن الذي يرضى لنفسه بعدم قبول فريضته ونافلته؟ اللهم إلا من رضي لها في الدنيا بالخذلان وفي الآخرة بنهاية الخسران أعاذنا الله من ذلك. وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الهجرة لا يعدلها شيء في الثواب. فقد روى الإمام النسائي بإسناده إلى كثير بن مرة أن أبا فاطمة حدثه أنه قال: يا رسول الله حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها".3 ولما في الهجرة من الفضل العظيم، والثواب الجزيل حرص عليه الصلاة والسلام على عدم انقطاع الهجرة للمهاجرين من الصحابة ولذلك دعا الله ـ عز وجل ـ أن يتم هجرتهم كما في حديث سعد بن أبي وقاص عندما مرض في حجة الوداع وفيه: "..أنه قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال: "إنك

_ 1ـ مجمع الزوائد 10/17. 2ـ انظر: النهاية في غريب الحديث 3/190، المفردات في غريب القرآن ص/326. 3ـ سنن النسائي 7/145.

لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون. اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ... ". الحديث.1 فهذا الحديث اشتمل على منقبة للمهاجرين من مكة إلى المدينة وغيرها حيث دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعاء عاماً ومعنى: أمض لأصحابي هجرتهم أي: أتمها ولا تبطلها ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية".2 وقال العيني: " اللهم أمض" بقطع الهمزة يقال: أمضيت الأمر أي: أنفذته أي: تممها لهم ولا تنقصها عليهم فيرجعون عن المدينة قوله: "ولا تردهم على أعقابهم" أي: بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية فيخيب قصدهم ويسوء حالهم ويقال: لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه رجع على عقبيه وحار ومنه الحديث: "أعوذ بك من الحور بعد الكور ".3 والحاصل مما تقدم من الآيات والأحاديث الواردة في فضل السابقين من المهاجرين أنها اشتملت على مناقب عالية، وعلى مدح عظيم لأولئك المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله لنصرة دين الإسلام الحنيف فرضي الله عنهم أجمعين ولنأت الآن إلى ما ورد من الثناء في القرآن الكريم والسنة المطهرة على الفريق الثاني من السابقين وهم أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان من الأوس والخزرج، وقبل أن أذكر ما جاء من الثناء عليهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أبين معنى كلمة "الأنصار"

_ 1ـ صحيح البخاري 1/225، صحيح مسلم 3/1250-1251 واللفظ له. 2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 11/76. 3ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري 8/90 والحديث رواه ابن ماجه 2/1279، ورواه الترمذي في سننه 5/161، ورواه الإمام أحمد في مسنده 5/28، وعند مسلم في صحيحه 2/979 بلفظ: والحور بعد الكون "الكلمة الثانية بالنون".

فالأنصار: جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف واللام فيه للعهد أي: أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد الأوس والخزرج وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة بقاف مضمومة وياء تحتانية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار ذلك علماً عليهم وأطلق أيضاً: على أولادهم وحلفائهم ومواليهم وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم1. وقد كثر الثناء على الأنصار في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة فمن الثناء عليهم في الكتاب العزيز ما يلي: 1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2. 2- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3. ففي هاتين الآيتين وصف الله الأنصار بأنهم آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين، وأنهم نصروه عليه الصلاة والسلام بقتالهم معه أهل الكفر والضلال وبين الله تعالى أن الأنصار والمهاجرين بعضهم أولياء بعض فالنصرة والمساعدة، ثم ختم الله الآيتين بحكم يشمل المهاجرين والأنصار وهو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فقد حكم الله لهم بأنهم أهل الإيمان بالله ورسوله حقاً وأن لهم ستراً من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها

_ 1ـ فتح الباري 1/63. 2ـ سورة الأنفال آية/72. 3ـ سورة الأنفال آية/74.

وأن لهم في الجنة مطعماً ومشرباً هنياً كريماً لا يتغير في أجوافهم فيصير نجواً ولكنه يصير رشحاً كرشح المسك".1 قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: {وَالَّذِينَ آوَوْا} "نبي الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه أي: أسكنوهم منازلهم {وَنَصَرُوا} أي: نصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ". دون أقربائهم قيل: في العون والنصرة، وقال ابن عباس في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا وصار ذلك منسوخاً بقوله ـ عز وجل ـ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أ. هـ2. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآيتين السابقتين: "ختم الله ـ سبحانه ـ هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به وسمى ـ سبحانه ـ المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله وإيجاباً لداعيه {وَالَّذِينَ آوَوْا} هم الأنصار والإشارة بقوله {أُولَئِكَ} إشارة إلى الموصول الأول والآخر3 ... إلى أن قال: ثم بين ـ سبحانه ـ حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} أي: الكاملون في الإيمان وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وراد في إيجاب الموالاة والنصرة ثم أخبر ـ سبحانه ـ أن لهم منه مغفرة لذنوبهم في الآخرة ولهم رزق كريم خالص عن الكدر طيب مستلذ".أ. هـ4.

_ 1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 10/56-57. 2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 3/44 والآية رقم 75 من سورة الأنفال. 3ـ فتح القدير 2/329. 4ـ فتح القدير 2/329.

فالآيايتان المتقدمتان اشتملتا على إثبات منقبتين عظيمتين للأنصار رضي الله عنهم وهاتان المنقبتان الإيواء والنصرة فلقد آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه من المهاجرين، ونصروا دين الله ورسوله بمقاتلة جيوش الكفر والشرك والضلال ليدخلوهم في دين الإسلام الحق الذي ارتضاه الله لعباده ديناً. 3- أثنى الله عليهم بسبقهم إلى الإسلام مع إخوانهم المهاجرين رضي الله عنهم حيث قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. فالمراد بالأنصار في هذه الآية هم الذين تبوؤوا الدار والإيمان وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون2 فقد بين ـ تعالى ـ في هذه الآية أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضاء مطلقا، ورضاه ـ سبحانه ـ أكبر من نعيم الجنة ثم بين تعالى أن مصيرهم هو دخول الجنة التي تجري تحتها الأنهار الجارية التي تساق إلى سقي الجنان والحدائق الزاهرة، وأنهم خالدون في الجنة لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا أنهم مهما تمنوا من نعيم أدركوه ومتى ما أرادوه وجدوه {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي حصل لهم فيه كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح ونعيم للقلوب وشهوة للأبدان واندفع عنهم كل محذور3 فهذا النعيم في مقدمة من يظفر به السابقون الأولون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مهاجرين وأنصار فهذه الآية اشتملت على منقبة عظيمة للسابقين من الأنصار رضي الله عنهم وتلك المنقبة هي سبقهم إلى الإسلام، وفوزهم برضى الملك العلام، ودخولهم ما أعد الله لهم من الجنان

_ 1ـ سورة التوبة آية/100. 2ـ انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/886، والجامع لأحكام القرآن 8/56. 3ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/136.

4- قال تعالى في ثنائه عليهم بالأخلاق الفاضلة النبيلة التي اتسموا بها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. فهذه الآية اشتملت على الثناء الحسن على أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان بحبهم لإخوانهم المهاجرين، وطهارة أنفسهم من الحسد لهم على منَّ الله به عليهم من شرف الهجرة وإيثارهم لهم على أنفسهم بمواساتهم لهم بأموالهم ثم بين تعالى في ختام الآية أن فلاحهم واقع ومتحقق لا محالة. قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} يقول: اتخذوا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فابتنوها منازل والإيمان" بالله ورسوله {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} : يحبون من ترك منزله وانتقل إليهم من غيرهم وعنى بذلك الأنصار يحبون المهاجرين ... ثم روى بإسناده إلى قتادة أنه قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يقول: مما أعطوا إخوانهم هذا الحي من الأنصار أسلموا في ديارهم فابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك، وهاتان الطائفتان الأوليان من هذه الآية أخذتا بفضلهما، ومضتا على مهلهما وأثبت الله حظهما في الفيء". وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه قال: في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قال: هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين " إلى أن قال: وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يقول جل ثناؤه: ولا يجد الذين

_ 1ـ سورة الحشر آية/9.

تبوؤوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدروهم حاجة يعني حسداً مما أوتوا يعني مما أوتي المهاجرون من الفيء وذلك لما ذكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا رجلين1. من الأنصار أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ... وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم".2. وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سبب نزول لقوله تعالى في الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فقد روى بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يضم ـ أو يضيف ـ هذا؟ " فقال رجل3 من الأنصار: أنا فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك وأصحبي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله الليلة ـ أو عجب ـ من فعالكما" فأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. قال العلامة ابن جرير مبيناً معنى قوله تعالى في ختام الآية السابقة {وَمَنْ

_ 1ـ الرجلان هما: سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة. جامع البيان 28/41. 2ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 28/40-42. 3ـ هذا الرجل هو أبو طلحة كما في صحيح مسلم 3/1625، وانظر فتح الباري 7/12. 4ـ صحيح البخاري 3/199، وانظر جامع البيان 28/43.

يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يقول تعالى ذكره: من وقاه الله شح نفسه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المخلدون في الجنة والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال. أ.هـ1. وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} وهم الأنصار تبوؤوا الدار توطنوا الدار أي: المدينة اتخذوها دار الهجرة والإيمان {مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ونظم الآية {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حزازة وغيظاً وحسداً {مِمَّا أُوتُوا} أي: مما أعطي المهاجرين دونهم من الفيء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط منها الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم".2 وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية السابقة وما تضمنته من فضل للأنصار قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم وقوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم ... وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي: ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من

_ 1ـ جامع البيان 20/43. 2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 7/52-53.

المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة ... وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح"أ. هـ1. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية قال: "لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المراد بالدار المدينة وهي دار الهجرة ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة أي: تمكنوا منها تمكناً شديداً والتبوء في الأصل إنما يكون للمكان ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه ... ومعنى {مِنْ قَبْلِهِمْ} من قبل هجرة المهاجرين ... لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين والموصول مبتدأ وخبره {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً وغيظاً وحزازة {مِمَّا أُوتُوا} أي: مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم بذلك ... {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: حاجة وفقر والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفرج التي تكون فيه وقيل: إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر فالخصاصة الانفراد بالحاجة"2. فهذه الآية اشتملت على مناقب للأنصار رضي الله عنهم وتلك المناقب هي ما تحلوا به من الأمور الطيبة من كونهم صادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ويحبون إخوانهم المهاجرين الذين تركوا ديارهم وهجروا قومهم ولا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرين من الفيء "وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا رجلين من الأنصار أعطاهما

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 6/605-608. 2ـ فتح القدير للشوكاني 5/200 وما بعدها، وانظر: جامع البيان للطبري 28/44، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/329.

لفقرهما"1. وكذلك آثروا المهاجرين بإعطائهم من أموالهم ولو كان بهم حاجة وفاقة فوقوا شح أنفسهم فكتب الله لهم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة ذلك هو الثناء على الأنصار في الآيات القرآنية وأما الثناء عليهم في السنة المطهرة فقد ورد في كثير من الأحاديث النبوية ومن ذلك ما يلي: 1- روى الإمام البخاري من حديث غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله قال: بل سمانا الله كنا ندخل على أنس فيحدثنا مناقب الأنصار ومشاهدهم ويقبل علي أو على رجل من الأزد فيقول فعل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا".2 هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للأنصار رضي الله عنهم إذ تسميتهم بهذا الاسم تسمية إسلامية سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج3. 2- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: قالت الأنصار: يوم فتح مكة ـ وأعطى قريشاً ـ: والله إن هذا لهو العجب أن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الأنصار، قال فقال: "ما الذي بلغني عنكم؟ " وكانوا لا يكذبون فقالوا: هو الذي بلغك قال: "أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فقال أبو هريرة ما ظلم ـ بأبي وأمي ـ آووه ونصروه

_ 1ـ جامع البيان للطبري 28/41. 2ـ صحيح البخاري 2/309. 3ـ فتح الباري 7/110.

أو كلمة أخرى.1 وروى أيضاً رحمه الله تعالى: من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال: "لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ " كلما قال شيئاً قالوا: ألله ورسوله أمن قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: كلما قال شيئاً قالوا: ألله ورسوله أمن قال: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار2 والناس دثار3 إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" 4. هذا الحديث المروي عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد بن عاصم: اشتمل على مناقب للأنصار رضي الله عنهم حظوا بها وتميزوا بها عن غيرهم وتلك المناقب هي: 1- تشريفهم بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وسكناه بينهم وهذه منقبة عظيمة رفعت من قدرهم وزادت من شرفهم دون سائر الناس ولو لم يحصل ذلك لما كان بينهم وبين غيرهم من الناس فرق. 2- إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه لا يفارق صحبتهم ولا يتحول عنهم فيه منقبة وفضيلة ظاهرة لهم رضي الله عنهم.

_ 1ـ هذا الحديث والذي قبله في صحيح البخاري 2/309. 2ـ شعار: الشعار الثوب الذي يلي الجسد ـ الفتح 8/52، وانظر: النهاية لابن الأثير 2/480. 3ـ دثار: الدثار الثوب الذي فوق الشعار ـ النهاية لابن الأثير 2/480، الفتح 8/52. 4ـ صحيح البخاري 3/69.

3- بين عليه الصلاة والسلام في الحديث الثالث أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألصق الناس به وأقرب إليه من غيرهم رضي الله عنهم. وقول أنس رضي الله عنه: إن الأنصار رضي الله عنهم قالوا: "والله إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم" وقوله في الحديث الآخر: "فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" فهذا القول حصل من أناس منهم حديثة أسنانهم للحديث الآخر الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه وفيه: "أنهم قالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم وأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم1 ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال فقهاء الأنصار أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم" الحديث2. وفيما تقدم دلالة على أن من طلب حقه من الدنيا لا يعتب عليه وفعل بعض الأنصار ذلك لا ينقص قدرهم ولا ينزل من مكانتهم العالية فلهم رضي الله عنهم مناقب رفيعة قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: عند شرحه لقول أبي هريرة في الحديث المتقدم بعد قوله عليه الصلاة والسلام: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فقال أبو هريرة: ما ظلم بابي وأمي ـ "أي: ما تعدى في القول المذكور ولا أعطاهم فوق حقهم ثم بين ذلك بقوله: "آووه ونصروه": قوله: "أو كلمة أخرى" لعل المراد وواسوه وواسوا أصحابه بأموالهم وقوله "لسلكت في وادي الأنصار" أراد حسن موافقتهم له لما شاهده من حسن

_ 1ـ قبة من أدم: أي: في خيمة من جلد. 2ـ صحيح البخاري 3/69-70.

الجوار والوفاء بالعهد وليس المراد بأنه يصير تابعاً لهم بل هو المتبوع المطاع المفترض الطاعة على كل مؤمن"1. ونقل الحافظ رحمه الله تعالى عن الخطابي أنه قال بعد قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتقدم "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبدليها ونسبة الإنسان تقع على وجوه منها الولادة والبلادية والاعتقادية والصناعية ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعاً وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه فلم يبق إلا القسمان الأخيران وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً أي: لولا النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي: "معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها فمنعت من ذلك وهي أعلى وأشرف فلا تتبدل بغيرها، وقيل: معناه لكنت من الأنصار في الأحكام والعداد، وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار ولم يرد ظاهر النسب أصلاً"أ. هـ2. وقال صديق حسن خان عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فيه إشارة إلى ترجيح الأنصار بحسن الجوار والوفاء بالعهد لا وجوب متابعته صلى الله عليه وسلم إياهم إذ هو صلى الله عليه وسلم المتبوع المطاع لا التابع المطيع فما أكثر تواضعه صلى الله عليه وسلم"أ. هـ3. وقال أبو بكر بن العربي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو سلك الناس وادياً أو شعباً

_ 1ـ فتح الباري 7/112. 2ـ فتح الباري 8/51. 3ـ عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري 4/532.

لسلكت وادي الأنصار وشعبها" أخبر أنه لا يفارق صحبتهم ولا يزال دارتهم"أ. هـ1. وقال الإمام النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "لسلكت شعب الأنصار" قال الخليل: هو ما انفرج بين جبلين، وقال ابن السكيت2: هو الطريق في الجبل وفيه فضيلة الأنصار ورجحانهم"أ. هـ3. وقال أيضاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار شعار والناس دثار" معنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس وهذا من مناقبهم الظاهرة وفضائلهم الباهرة"أ. هـ4. ومن خلال أقوال العلماء المتقدمة التي سقناها لبيان معنى الحديث المروي عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد بن عاصم: تبين أنه اشتمل على مناقب عظيمة للأنصار لما تضمنه من الثناء البالغ عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وحسن أدبهم رضي الله عنهم في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم لا عن شيوخهم وكهولهم ولقد آثروا الآخرة على الدنيا، فقد زهدت نفوسهم عن حطام الدنيا الفاني ورضوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ومغنماً كما في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: "أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا"5.

_ 1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 13/266. 2ـ هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف بن السكيت إمام في اللغة والأدب أصله من خوزستان بين البصرة وفارس، ولد سنة ست وثمانين ومائة وتوفي سنة أربعة وأربعين ومائتين، انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/273، وفيات الأعيان 6/390، هدية العارفين 2/536، الأعلام 9/255. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/152. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/152. 5ـ صحيح مسلم 2/734 من حديث أنس رضي الله عنه.

3- ومن مناقبهم رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم من أحب الناس إليه، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيان ونساء مقبلين من عرس فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم ممثلاً1 فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ" يعني الأنصار2. وعند الإمام البخاري: فقال "اللهم أنتم من أحب الناس إليّ" قالها ثلاث مرار3. وروى الإمام مسلم أيضاً بإسناده إلى أنس قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفسي بيدي إنكم لأحب الناس إليّ" ثلاث مرات4. وعند الإمام البخاري رحمه الله تعالى بلفظ: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيدي إنكم أحب الناس إليّ مرتين"5. فكونه عليه الصلاة والسلام بين أن الأنصار رضي الله عنهم من أحب الناس إليه وأقسم بمن نفسه بيده وهو الله ـ عز وجل ـ على ذلك لهو من أعظم مناقبهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهكذا يجب على المسلم أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله ـ يعني البخاري في صحيحه ـ: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إليّ" هو على طريق الإجمال، أي: مجموعكم أحب إليّ من مجموع غيركم فلا يعارض قوله في الحديث: في

_ 1ـ أي: مكلفاً نفسه ذلك ـ انظر فتح الباري 7/114. 2ـ صحيح مسلم 4/1948. 3ـ صحيح البخاري 2/310. 4ـ صحيح مسلم 4/1949. 5ـ صحيح البخاري 2/310.

جواب من أحب الناس إليك؟ قال: أبو بكر" الحديث1. 4- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: سرعة امتثالهم أمر الله ورسوله وتعجيل مواساة إخوانهم المهاجرين، فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال: "لا"، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة قالوا: سمعنا وأطعنا.2 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: "المؤونة" أي: العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها قال المهلب: إنما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره أن يخرج شيء من عقار الأنصار عنهم فلما فهم الأنصار ذلك جمعوا بين المصلحتين امتثال ما أمرهم به وتعجيل مواساة إخوانهم المهاجرين فسألوهم أن يساعدوهم في العمل ويشركوهم في الثمر وفيه: "فضيلة ظاهرة للأنصار"أ. هـ3. 5- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم من جملة من تولاهم الله ورسوله، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله موالي دون الناس والله ورسوله مولاه". وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله" 4. فكونهم رضي الله عنهم ممن تولاهم الله ورسوله فهو من أعظم المناقب وأعلى المراتب، وهذا من علامة السعادة الأبدية التي ينالها عباد الله وأولياؤه الصالحون. ومعنى الحديث: "إني وليهم والمتكفل بهم وبمصالحهم وهم مواليه أي:

_ 1ـ فتح الباري 7/114. 2ـ صحيح البخاري 2/46. 3ـ فتح الباري 5/8-9، 7/113. 4ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1954.

ناصروه والمختصون به"أ. هـ1. 6- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم وثق بهم واعتمدهم في أموره وأوصى من بعده أن يقبلوا من محسنهم ويتجاوزوا عن مسيئهم، فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "مرّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: "ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" 2. وعند الإمام مسلم بلفظ: " إن الأنصار كرشي وعيبتي وإن الناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم" 3. فقد جعلهم عليه الصلاة والسلام جماعته وموضع سره وأمانته في قوله: "كرشي وعيبتي" قال النووي في شرحه لقوله عليه الصلاة والسلام: "الأنصار كرشي وعيبتي": قال العلماء: معناه: جماعتي وخاصتي الذي أثق بهم وأعتمدهم في أموره. قال الخطابي: ضرب مثلاً بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة وعاء معروف أكبر من المخلاة يحفظ الإنسان فيها ثيابه وفاخر متاعه ويصونها ضربها مثلاً لأنهم أهل سره وخفي أحواله صلى الله عليه وسلم "فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم" وفي بعض الأصول: "عن سيئتهم" والمراد بذلك فيما سوى الحدود"أ. هـ4.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/74. 2ـ صحيح البخاري 2/312. 3ـ صحيح مسلم 4/1949. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/68-69.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: "ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم" أي: الذي كانوا يجلسونه معه وكان ذلك في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخشوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه فبكوا حزناً على فوات ذلك ... قوله: "أوصيكم بالأنصار" استنبط منه بعض الأئمة أن الخلافة لا تكون في الأنصار لأن من فيهم الخلافة يوصون ولا يوصى بهم ولا دلالة فيه إذ لا مانع من ذلك قوله: "كرشي وعيبتي" أي: بطانتي وخاصتي قال القزاز: ضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه ويقال: لفلان كرش منثورة أي: عيال كثيرة، والعيبة ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده يريد أنه موضع سره وأمانته قال ابن دريد: هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يسبق إليه، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة مستودع الثياب والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنية والظاهرية والأول أولى وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه قوله: "وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم" ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يأووا النبي صلى الله عليه وسلم وينصروه على أن لهم الجنة فوفوا بذلك"أ. هـ1. 7- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخيرية دورهم رضي الله عنهم ولكن هذه الخيرية ما ثبتت لهذه الدور إلا بعد ثبوتها لأهلها الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروا دين الإسلام ورفعوا رايته فرضوان الله أجمعين. روى الشيخان بإسنادهما إلى أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير دور الأنصار بني النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير" فقال سعد: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا فقيل: قد فضلكم على كثير"2.

_ 1ـ فتح الباري 7/121- 122. 2ـ صحيح البخاري 2/311، صحيح مسلم 4/1949.

وروى البخاري بإسناده إلى أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم عبد النجار، ثم عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير" فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبا أسيد: ألم تر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خيَّر الأنصار فجعلنا أخيراً؟ فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخراً فقال: "أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار" 1. وعند مسلم: "وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ابن أخيه سهل فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أوليس حسبك أن تكون رابع أربع فرجع وقال: الله ورسول أعلم وأمر بحماره فحل عنه"2. فلله ما أعظم هذه المنقبة وما أعظم هذا الفضل لهؤلاء الأخيار الذين زكت نفوسهم وطابت أعمالهم حتى شملت الخيرية دورهم، وهذه المفاضلة بين هذه الدور حصلت حسب سبق أهلها للدخول في الإسلام. قال النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار بنو النجار" الحديث أي: خير قبائلهم وكانت كل قبيلة منها تسكن محلة فتسمى تلك المحلة دار بني فلان، ولهذا جاء في كثير من الروايات بنو فلان من غير ذكر الدار. قال العلماء: وتفضيلهم على قدر سبقهم إلى الإسلام ومآثرهم فيه، وفي هذا دليل لجواز تفضيل القبائل والأشخاص بغير مجازفة ولا هوى ولا يكون هذا غيبة"أ. هـ3. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله" خير دور الأنصار ... وفي

_ 1ـ صحيح البخاري 2/311. 2ـ صحيح مسلم 4/1950. 3ـ شرح النووي 16/69.

كل دور الأنصار خير "الأولى بمعنى أفضل والثانية اسم أي: الفضل حاصل في جميع الأنصار وإن تفاوتت مراتبه"1. وقد جاء في رواية البخاري المتقدمة أن سعداً أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا أخيراً فقال: "أوليس بحسبكم 2 أن تكونوا من الخيار" وفي رواية مسلم أيضاً المتقدمة أنه رجع وقال: الله ورسوله أعلم، وقال بحمار فحل عنه فالحديثان متعارضان، على هذا ولا بد من الجمع بينهما: وقد جمع الحافظ ابن حجر بين هاتين الروايتين فقال: "يمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة، ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة ولهذا قال له ابن أخيه في الأول: "أترد على رسول الله أمره" إلى أن قال: قوله: "من الخيار أي: الأفاضل لأنهم بالنسبة إلى من دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله ونحو ذلك"أ. هـ3. 8- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله لهم بأن يصلحهم، ويكرمهم ويغفر لهم وجمع في ذلك الدعاء بينهم وبين إخوانهم المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، وتارة أفردهم بالدعاء بالمغفرة لهم ولأبنائهم، وأبناء أبنائهم، كما استغفر لهم ولذراريهم ومواليهم. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيش الآخرة فاصلح الأنصار والمهاجرة"

_ 1ـ فتح الباري 7/116. 2ـ أي: كافيكم. 3ـ فتح الباري 7/117.

وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الأنصار يوم الخندق تقول: نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما حيينا أبداً فأجابهم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة". وروى بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتادنا1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار"2. ففي هذه الأحاديث جمع عليه الصلاة والسلام بينهم وبين إخوانهم المهاجرين في هذه الدعوات المباركات التي هي الصلاح، والإكرام والمغفرة، وأما إفرادهم بالدعاء لهم بالمغفرة والاستغفار فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن أبي طلحة أن أنساً حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار قال: وأحسبه قال: "ولذراري الأنصار ولموالي الأنصار" لا أشك فيه3. 9- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه ملازم لهم وأن محياه محياهم ومماته مماتهم فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه في "فتح مكة" وفيه أن أبا سفيان قال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش4 لا قريش بعد اليوم ثم قال: من دخل دار

_ 1ـ أكتادنا: جمع كتد وهو جمع العنق والصلب ـ هدي الساري ص/178. 2ـ هذه الأحاديث في صحيح البخاري 2/311-312. 3ـ هذان الحديثان في صحيح مسلم 4/1948. 4ـ خضراء قريش: قال في النهاية "دماؤهم وسوادهم" 2/42، شرح النووي 12/127.

أبي سفيان فهو آمن" فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته قالوا: قد كان ذاك قال: كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم والمحيا محياكم والممات مماتكم" فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" ... الحديث1. فقوله صلى الله عليه وسلم: "هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم" معناه: إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى بل أنا ملازم لكم المحيا محياكم والممات مماتكم أي: لا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم.. فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصاً عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك وتهدينا الصراط المستقيم كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وهذا معنى قولهم: ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بك أي: شحاً بك أن تفارقنا ويختص بك غيرنا وكان بكاؤهم فرحاً بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحى منه"3. فلله ما أعظمها من منقبة وما أسماه من مدح وثناء لطائفة الأنصار رضي الله عنهم الذين ظفروا وفازوا بإيواء ونصر خير البرية ولذلك فازوا بتصديقهم ومعذرتهم من الله ورسوله فيما قالوه فرضي الله عنهم وأرضاهم وهنأهم بما آتاهم. 10- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: إيثارهم الدار الآخرة على الدار الفانية

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1406. 2ـ سورة الشورى آية/52. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/129.

فقد روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادهما إلى أنس قال: شق على الأنصار النواضح1 فاجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يكري2 لهم نهراً سيحاً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحباً بالأنصار والله لا تسألوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه ولا أسأل الله لكم شيئاً إلا أعطانيه" فقال بعضهم لبعض: اغتنموها واطلبوا المغفرة فقالوا: يا رسول الله ادع الله لنا بالمغفرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار" 3. فهذا الحديث فيه بيان أن الأنصار عزموا على أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم نهراً جارياً يحفرونه ويخرجون طينه، فلما قال لهم: لا تسألوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه" عدلوا عن طلب النهر واغتنموا الفرصة وطلبوا المغفرة لأن النهر من متاع الدنيا الفانية والمغفرة فيها متاع الآخرة الباقية فآثروا ما يبقى على ما يفنى وهذا من قوة إيمانهم وزهدهم في الدنيا رضي الله عنهم وأرضاهم4 وفي هذا منقبة عظيمة وفضيلة كريمة للأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم. 11- ومن مناقبهم رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن جزاءهم على إيوائهم إياه ونصرهم له ووفائهم بما بايعوه عليه من الأمور التي فيها عز الإسلام والمسلمين الجنة التي عرضها السموات والأرض. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة5...........

_ 1ـ النضح نقل الماء من الآبار على النواضح أي: الإبل لسقي الزرع. انظر النهاية في غريب الحديث 5/69. 2ـ من كريت الأرض وكروتها إذا حفرتها. انظر: النهاية في غريب الحديث 4/169. 3ـ المسند 3/139، المستدرك 4/80 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار بنحوه.. وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح 10/40. 4ـ انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد 22/172. 5ـ مجنة: اسم سوق للعرب كان في الجاهلية ... وكانت مجنة بمر الظهران قرب جبل يقال له الأصفر وهو بأسفل على قدر بريد منها. معجم البلدان لياقوت الحموي 5/58-59.

وعكاظ1 ومنازلهم من منى من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه حتى إن الرجل ليرحل من مصر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له احذر غلام قريش لا يفتنك ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله ـ عز وجل ـ يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام فبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فوعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: "بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنه قال: رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن يعضكم السيف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم وعلى قتل خياركم ومفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر عند الله ـ عز وجل ـ فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البعية ولا نستقيلها قال: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا ليعطينا بذلك

_ 1ـ عكاظ: اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية قال: الأصعمي: عكاظ في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له: الأثيداء، معجم البلدان 4/142.

الجنة"1. فهذا الحديث اشتمل على فضيلة عظيمة للأنصار رضي الله تعالى عنهم فلقد وفوا بايعوا عليه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام حتى انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعلت راية التوحيد واندحر الشرك وأهله فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فرضي الله عنهم وأرضاهم وهنأهم بما آتاهم، والأحاديث الواردة في فضائلهم ومناقبهم كثيرة وحسبنا هنا ما تقدم ذكره من مناقبهم العامة رضي الله عنهم التي شملت السابقين منهم إلى الإسلام ومن أسلم بعدهم منهم رضي الله عنهم وهناك مناقب كثيرة تخص أفراداً منهم بأعيانهم محلها كتب السنة والأحاديث التي أسلفناها هنا اشتملت على مناقب عالية يذكرون بها في الدنيا ذكراً حسناً ويثني عليهم بها في الآخرين إلى يوم القيامة وهذا حاصل من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، أما أعداؤهم من الرافضة فإنهم لا يؤمنون بفضائلهم لا العامة منها ولا الخاصة، ولا يذكرونهم بالذكر الحسن، وإنما يذكرونهم بالذكر السيء من السباب والشتائم ورميهم بالكفر، وهذا ناشيء من عمى البصيرة والخذلان الذي حل بهم أعاذنا الله من ذلك.

_ 1ـ المستدرك 2/625، ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر

المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر1 إن الصحابة الذين شهدوا موقعة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين اختارهم رب العالمين واصطفاهم فجعل لهم ميزة تميزوا بها على غيرهم من عباد الله المؤمنين إذ أن معركة بدر تعتبر من أعظم المعارك التي انتصر فيها الإسلام على الكفر وأهله، وبسببها انتشر ضوء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، ثم إلى خارجها، وبسببها أضيئت الطريق أمام الدعاة إلى الله لتحقيق العبودية لله ـ سبحانه وتعالى ـ ونبذ جميع المعبودات التي تعبد من دون الله نتيجة اتباع الهوى والتقليد الأعمى، وكل من شارك من الصحابة في وقعة بدر كانت له المكانة اللائقة بالثناء الحسن في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة، فأهل بدر هم النجوم التي أضاءت تاريخ الإسلام حتى أصبح يقال لأحدهم: فلان بدري، وشهد بدراً وكفى بهذه المنقبة شرفاً وتعظيماً لهم في هذه الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكفى بذلك أجراً وإحساناً عند رب العالمين في الحياة الآخرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلقد أعطاهم ذلك ربهم ـ تبارك وتعالى ـ وفضلهم على كثير من عباده تفضيلاً، وكانت هذه الغزوة المباركة في السنة الثانية من الهجرة2 وقد كان عدد المشركين الذين جاءوا من مكة لإطفاء نور الله ألفاً وفي

_ 1ـ قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ببدر" هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال: بدر اسم البئر التي سميت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها الفتح 7/285، وانظر معجم البلدان 1/375. 2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 2/12، وتاريخ الأمم والملوك 2/418، الكامل لابن الأثير 2/116، البداية والنهاية 3/258، زاد المعاد 3/171.

رواية أنهم خمسون وتسعمائة1، وأما عدد الفئة المؤمنة التي تصدت لمشركي قريش فقد كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه" الحديث2. وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو أن عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً"3. قال ابن جرير: "وأما عامة السلف فإنهم قالوا: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا"4 والبضع هذا تفسير ما جاء في رواية صحيح مسلم المتقدمة أنه "تسعة عشر رجلا" وهذه الفئة المؤمنة جاء الثناء عليهم في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة. ففي الكتاب العزيز شهد الله لهم بإخلاص نياتهم في الجهاد في سبيل الله ومن أجل ذلك أكرمهم الله ـ تعالى ـ بالنصر على أعداء الله من أهل الكفر والضلال، وما ذلك إلا لفضلهم عند الله ـ جل وعلا ـ وأن لهم كرامة ومكانة ومنزلة رفيعة عنده ـ تبارك وتعالى ـ كما شهد الله لهم بحقيقة الإيمان. فالآيات التي أثنى الله عليهم بما ذكر هي: 1- قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} 5.

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/15، وانظر: البداية والنهاية 3/284. 2ـ صحيح مسلم 3/1384. 3ـ سنن أبي داود 2/72. 4ـ تاريخ الأمم والملوك 2/432. 5ـ سورة آل عمران آية/13.

هذه الآية تشير إلى اللقاء الذي وقع بين المسلمين وبين المشركين يوم بدر، وفيها ثناء من الله ـ تعالى ـ على أهل بدر بخلوص نياتهم في الجهاد يوم بدر وأنهم ما قاتلوا يومذاك حمية ولا شجاعة ولا لترى أمكانهم، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فأيدهم الله بنصره وأكرم بها من منقبة وأكرم به من موقف عظيم يذكرون به في الدنيا والآخرة وجدير بهذا الموقف العظيم أنه موضع للتفكر والاتعاظ والاعتبار لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله عند قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} الآية: "يعني بذلك ـ جل ثناؤه ـ قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون ... والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين، رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركو قريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه وهم رسول الله وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم مشركو قريش. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار. وقال عكرمة في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} قال: قريش يوم بدر. وقال مجاهد: ذلك يوم بدر التقى المسلمون والكفار"1. ومن خلال أقوال أئمة التفسير تبين أن الآية اشتملت على المدح والثناء على الفئة المؤمنة من البدريين، كما أنها أيضاً تضمنت التهديد لليهود الذين كانوا

_ 1ـ جامع البيان 3/193-194.

في المدينة حينذاك، فقد أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً1 لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا فأنزل الله ـ عز وجل ـ في ذلك من قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أ. هـ2. فكأنه يقول لهم: يا معشر يهود لا يغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد فليس هذا سبيل النصر والغلب فالحوادث التي تجري في هذا الكون أعظم دليل على فساد ما تدعون انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا، فئة قليلة من المؤمنين عددها ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ولم يكن معها من القوة إلا سبعون بعيراً يعتقبونها وفرسان فقط3 ولما كانت تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين التي كان عددها ألف رجل ومعها من القوة مائتا فرس يقودونها4 وفي هذا عبرة أيما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى وهي قوة الله التي يؤيد بها الفئة المؤمنة القليلة، فتغلب الفئة المشركة الكثيرة بإذنه ـ تعالى ـ وقال ابن جرير مبيناً معنى قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . وتأويل الكلام قد كان

_ 1ـ قال في النهاية: الأغمار جمع ـ غمر ـ بالضم ـ وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور 3/385. 2ـ جامع البيان 3/192، وتفسير البغوي على حاشية الخازن 1/272، وتفسير ابن كثير 2/14. 3ـ السير لابن هشام 1/613، زاد المعاد 3/171، البداية والنهاية 3/285، وانظر: مسند الإمام أحمد 1/411 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، المستدرك للحاكم 3/20. 4ـ البداية والنهاية 3/284.

لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا: إحداهما: تقاتل في سبيل الله. وأخرى: كافرة يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر والله يقوي بنصره من يشاء ـ وقال جل ثناؤه ـ إن في ذلك يعني فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها على الفئة الكافرة مع كثرة عددها لعبرة يعني: لمتفكراً ومتعظاً لمن عقل وأدرك فأبصر الحق"أ. هـ1. 2- وأما الشهادة من الله تعالى للبدريين بحقيقة الإيمان ففي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} فيها إخبار من المولى ـ جل وعلا ـ بحقيقة إيمانهم فلقد أخبر ـ سبحانه ـ نبيه عليه الصلاة والسلام أنه قواه وأعانه بنصره يوم بدر، كما أيده وأعانه بالمؤمنين، والمؤمنون الذين أيده بهم هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا موقعة بدر المباركة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما أيده في حياته بالصحابة"أ. هـ3. وقال مقاتل: في بيان معنى الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال: قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر4. وقال ابن جرير: عند الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : "يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} يعني:

_ 1ـ جامع البيان 3/198، وانظر: تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/273، وانظر تفسير القرآن العظيم 2/15. 2ـ سورة الأنفال آية/62-63. 3ـ منهاج السنة 1/156. 4ـ زاد المسير 3/376.

بالأنصار1. وقال أبو عبد الله القرطبي: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قواك بنصره يريد يوم بدر {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير نزلت في الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته إلا أن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكان أشد خلق الله حمية فألف الله بالإيمان بينهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب"أ. هـ2. فالآية اشتملت على الثناء بالإيمان الحقيقي على أهل بدر من الفريقين من مهاجرين وأنصار الذين حضروا تلك الغزوة وأيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم. 3- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. وفي هذه الآية مدح الله ـ تعالى ـ المتبعين لنبيه صلى الله عليه وسلم بصفة الإيمان التي هي أعلى صفات الكمال وفي مقدمة هؤلاء الفئة المؤمنة من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً. قال ابن جرير عند هذه الآية: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله يقول لهم جل ثناؤه ناهضوا عدوكم فإن الله كافيكم أمركم ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم فإن الله مؤيدكم بنصره"4.

_ 1ـ جامع البيان 10/35. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/42. 3ـ سورة الأنفال آية/64. 4ـ جامع البيان 10/37.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} أي: الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم"أ. هـ1. وقد نقل القرطبي رحمه الله تعالى: عن ابن الكلبي أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.2 وعلى هذا يكون المراد بالذين اتبعوه هم البدريون الذين كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً كما تقدم. 4- قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3. فالمقصود بالمؤمنين في هذه الآية هم الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا معه أعداء دينه من كفار قريش فلقد شهد الله لهم في هذه الآية بأنهم مؤمنون وأكرم بها من شهادة صادرة عمن يعلم السر وأخفى فهو ـ سبحانه ـ علم حقيقة أنفسهم وما انطوت عليه من تحقيق الإيمان الصادق، فأخبر ـ سبحانه ـ بما استقر في نفوسهم الزكية من حقيقة الإيمان والبلاء الحسن الذي أبلى به أولئك المؤمنون هو ما أنعم الله به عليهم من الظفر بأعدائهم وغنيمتهم ما معهم، وإثبات ما لهم من الأجر على أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك هو البلاء الحسن. ذكر ابن جرير رحمه الله تعالى عن ابن إسحاق أنه قال في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} أي: ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته"أ. هـ4.

_ 1ـ منهاج السنة 1/156، وانظر: زاد المعاد 1/35-36. 2ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/43. 3ـ سورة الأنفال آية/17. 4ـ جامع البيان 9/206.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : "فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصحابته"أ. هـ1. وروى ابن جرير الطبري: بإسناده إلى محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي أنهما قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 2. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو، فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينيه، وشغلوا بالتراب في أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 3. فالآية اشتملت على مدح أهل بدر والثناء عليهم بصفة الإيمان التي هي من أعلى صفات الكمال التي يسعى لتحقيقها عباد الله المؤمنون بكل ما يمكنهم من العمل الصالح. 5- قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} 4. 6- وقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى

_ 1ـ مدارج السالكين 3/426. 2ـ جامع البيان 9/205 وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بسند رجاله رجال الصحيح انظر: مجمع الزوائد 6/84. 3ـ زاد المعاد 3/82. 4ـ سورة آل عمران آية/124.

قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1. فقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} شهادة قاطعة يقينية على إثبات إيمان أهل بدر رضي الله عنهم وكفى بهذه الشهادة شرفاً ورفعة لأولئك البدريين الأطهار إذ هي شهادة صادرة من رب السموات والأرض وما بينهما الذي يعلم الأمور على حقائقها وما هي عليه. قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند الآية: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} "بك من أصحابك: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} وذلك يوم بدر"أ. هـ2. وقد بين الله في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية أن المطر الذي أنزله على أرض بدر كان لهم فيه أربع فوائد هي: 1. تطهيرهم حسياً بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس وشرعياً بالغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث الأصغر. 2. إذهاب رجس الشيطان عنهم ووسوسته. 3. الربط على قلوبهم، أي: توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. 4. تثبيت أقدامهم ذلك أن المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على مناجزة أعدائه من المشركين4.

_ 1ـ سورة الأنفال آية/11-12. 2ـ جامع البيان 4/76./ 3ـ سورة القصص آية/10. 4ـ انظر: جامع البيان الطبري 9/194، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/175، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7/373، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/289.

وفي هذه الفوائد الأربع تكريم لأولئك البدريين رضوان الله عليهم أجمعين. وأما قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1. وهذه الآية مع ما دلت عليه من إثبات إيمان أهل بدر كذلك دلت صراحة على مشاركة الملائكة في قتال أعداء الدين من كفار قريش. وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسوط الفارس يقول: أقدم حيزوم2 فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء السادسة ... " الحديث3. وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجل من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري4. وروى أيضاً رحمه الله تعالى: بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... قال: جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح5 من أحسن الناس

_ 1ـ سورة الأنفال آية/12. 2ـ قال في النهاية "حيزوم" جاء في التفسير أنه اسم فرس جبريل عليه السلام 1/467. 3ـ صحيح مسلم 3/1384-1385. 4ـ المسند 5/450، وابن هشام في السيرة 1/633. 5ـ قال ابن الأثير: الأجلح من الناس الذي انحسر الشعر عن جانبيه رأسه 1/284.

وجهاً على فرس أبلق1 ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، قال: "أسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم"2. فهذه الأحاديث صرحت بمشاركة الملائكة في قتال المشركين يوم بدر قال العلامة ابن القيم: "وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم"أ. هـ3. وإمداد الله ـ تعالى ـ لهم بالملائكة لم يكن دفعة واحدة بل كان بالتدريج "قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال"4. وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى الحكمة في قتال الملائكة مع الصحابة في بدر فقال: قال الشيخ تقي الدين السبكي: "سألت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله ـ تعالى ـ في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم".5 وفيما قدمنا من الآيات القرآنية إثبات لفضل تلك الفئة المؤمنة من البدريين وكما ثبت فضلهم بنص القرآن الكريم كذلك ورد في إثبات فضلهم الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة ومنها ما يلي:

_ 1ـ قال في اللسان البلق: الدابة، والبلق سواد وبياض وكذلك البلقة: بالضم ـ 10/25. 2ـ المسند 1/117. 3ـ زاد المعاد 3/183. 4ـ فتح الباري 7/33، وانظر: جمع قتادة بين الآيتين في جامع البيان 4/78. 5ـ فتح الباري 7/313.

1- روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير، وكلنا فارس، قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ1 فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين" فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها، فلتمسنا فلم نر كتاباً فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حاجزتها، وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك" قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ولا تقولوا له إلا خيراً" فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.2. فلله ما أعظم هذا التكريم لتلك الفئة المؤمنة من البدريين، وما أعظم فضلها عند المولى ـ سبحانه وتعالى ـ. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "ووقع الخبر بألفاظ منها: "فقد غفرت لكم" ومنها: "فقد وجبت لكم الجنة" ومنها: "لعل الله اطلع" لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع، ثم قال: وقد استشكل قوله: "اعملوا ما شئتم" فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف

_ 1ـ روضة خاخ: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة شرح النووي على صحيح مسلم 16/55، وانظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 2/335. 2ـ صحيح البخاري 3/7، صحيح مسلم 4/1941.

عقد الشرع وأجيب: بأنه إخبار عن الماضي ـ أي: كل عمل كان لكم فهو مغفور ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقل بلفظ الماضي ولقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكراً عليه ما قال في أمر حاطب وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، وقيل: إن صيغة الأمر في قوله: "اعملوا" للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي: كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور.. وقيل: إن المراد ذنوبهم تقل إذا وقعت مغفورة. وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم. وفيه نظر ظاهر لقصة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر في أيام عمر وحده ... واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها والله أعلم1. وقال النووي: قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد وأقامه عمر على بعضهم قال: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً" أ. هـ2. وقال المناوي شارحاً لهذا الحديث: "اعملوا ما شئتم أن تعملوا فإني غفرت لكم ذنوبكم أي: سترتها فلا أؤاخذكم بها لبذلكم مهجكم في الله ونصر دينه والمراد إظهار العناية بهم وإعلاء رتبتهم والتنويه بإكرامهم والإعلام بتشريفهم وإعظامهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحب افعل ما شئت أو هو

_ 1ـ الفتح 7/305-306، وانظر: رسالته في الخصال المكفرة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/258. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/56-57.

على ظاهره والخطاب لقوم منهم على أنهم لا يقارفون بعد بدر ذنباً وإن قارفوه لم يصروا بل يوفقون لتوبة نصوح فليس فيه تخييرهم فيما شاءوا وإلا لما كان أكابرهم بعد ذلك أشد خوفاً وحذراً مما كانوا قبله"أ. هـ1. 2- روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" 2. هذا الحديث فيه شهادة لحاطب بدخول الجنة رغم أنه كان يريد أن يعلم قريشاً بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أن فيه التصريح بعدم دخول النار لمن شهد بدراً والحديبية. 3- وروى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعدون أهل بدر فيكم قال: "من أفضل المسلمين" ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"3. وهذا الحديث تضمن بيان درجة أهل بدر ويبين أن لهم درجة كبيرة، ومنزلة عظيمة عند الله ـ جل وعلا ـ فقد نالوا ذلك الفضل وتلك المنزلة بسبب ما قدموه في هذه الحياة الدنيا من جهد في نصرة الإسلام، وقمع عبدة الأصنام وما وقر في قلوبهخم الطيبة من حقيقة الإيمان فكون الملائكة تقاس بهم فإن ذلك من أعظم الأدلة على علو قدرهم وارتفاع درجتهم عند الله ـ تعالى ـ فرضوان الله عليهم أجمعين.

_ 1ـ شرح الجامع الصغير 2/212. 2ـ صحيح مسلم 4/1942. 3ـ صحيح البخاري 3/10.

4- وروى البخاري رحمه الله بإسناده أيضاً إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصيب ـ حارثة ـ1 يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: "ويحك ـ أو هبلت ـ أو جنة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس" 2. ورواه بلفظ آخر بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب3 فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 4. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره حديث حارثة هذا: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في بحيحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس ـ التي هي أعلا الجنان، وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة ـ أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً"أ. هـ5. 5- وجاء في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار عمي فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع إليه قومه فتغيب رجل

_ 1ـ ستأتي ترجمته في ص/710 من هذه الرسالة. 2ـ صحيح البخاري 3/7. 3ـ هو الذي: لا يعلم راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء دون قصد من راميه. فتح الباري 6/27. 4ـ صحيح البخاري 2/139. 5ـ البداية والنهاية 3/361.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل فلان" فذكره بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد شهد بدرا" قالوا: نعم ولكنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1. 6- وفيه أيضاً: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا يدخل النار من من شهد بدراً إن شاء الله" 2. 7- وروى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: كلم طلحة بن عبيد الله عامر بن فهيرة بشيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلاً يا طلحة فإنه قد شهد بدراً كما شهدت وخيركم خيركم لمواليه" ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه3. 8- ومن مناقب أهل بدر التي دلت على علو شأنهم، ورفعة مكانتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم كتيبة الإيمان وعصابة الإسلام التي كان لها السبق في نصر دين الإسلام وإعلاء كلمته، وأن جهادهم في موقعة بدر كان من أعظم الأسباب في أن يعبد الله وحده لا شريك له على وجه الأرض. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" 4. ذلك هو الثناء في الكتاب والسنة على تلك الفئة المؤمنة من البدريين الفضلاء فقد أوضح الله ورسوله مكانتهم أتم وضوح فقد كانوا في القمة من الكمال وما حصل لهم ذلك إلا باستجابتهم لربهم ـ تبارك وتعالى ـ على الوجه

_ 1ـ مجمع الزوائد 9/160 ثم قال الهيثمي رواه أبو داود وابن ماجه باختصار كثير في الأوسط وإسناده حسن. 2ـ المصدر السابق 9/161 وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير خداش بن عياش وهو ثقة. 3ـ المستدرك 4/77 وأقره الذهبي. 4ـ صحيح مسلم 3/1384.

المطلوب في امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولذلك كان جزاؤهم أن وفقهم الله لصالح الأعمال في الدنيا، وفازوا بالجنة في الأخرى والذي أخلص إليه مما تقدم أن الله تعالى أثنى على أهل بدر ثناء حسناً وبين النبي صلى الله عليه وسلم مكانتهم وفضلهم في كثير من الأحاديث وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم، فقد بين عليه الصلاة والسلام أنهم مغفور لهم، وأن من شهد بدراً لا يدخل النار وذلك نتيجة لما وقر في قلوبهم من الإيمان الذي ظهرت براهينه في أعمالهم وبسبب ذلك نصرهم الله على عدوهم في موقعة بدر رغم قلة عددهم وعدتهم، ففتح الله عليهم وأخذ أئمة الكفر وشفى صدورهم رضي الله عنهم في أعداء الله وأعداء رسوله والمؤمنين. قال العلامة ابن القيم: "ثم ارتحل ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بعد انتهاء معركة بدر مؤيداً منصوراً قرير العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانم"1. فكان هذا اليوم يوم سعد وفوز للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان يوم نحس وشؤم على الكافرين والمنافقين وذلك لاختلاف الأعمال. قال العلامة ابن القيم: "فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة كما كان يوم بدر، يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين"2.

_ 1ـ زاد المعاد 3/188. 2ـ مفتاح دار السعادة 2/194، وانظر: التفسير القيم لابن القيم ص/430.

المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد

المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد1 قد جاء الثناء في كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على تلك الفئة المؤمنة من الصحابة رضي الله عنهم الذين حضروا موقعة أحد بغية نصرة دين الله ـ تعالى ـ ونصرة سيد الخلق المبعوث بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده الله لعباده ديناً وكانت موقعة أحد في نصف شوال في السنة الثالثة للهجرة أول نهار السبت2 وفي فتح الباري لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لسبع، وقيل لثمان، وقيل لتسع"3. وذلك "لما قتل الله أشراف قريش ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ... أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والخلفاء والأحابيش وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له عينين ... واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي، وكان هو الرأي فبادر جماعة من

_ 1ـ قال السهيلي: سمي أحداً لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك أ. هـ الروض الأنف 5/448 وبهذا قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/11، وانظر: فتح الباري 7/376-378، لوامع البهية 2/367، وأحد جبل معروف يقع شمال المدينة. 2ـ تاريخ الأمم والملوك 2/499، جامع البيان 4/70، تفسير البغوي مع الخازن 1/344، الكامل في التاريخ 2/150.148، البداية والنهاية 4/11، تفسير القرآن العظيم 2/104. 3ـ فتح الباري 7/346.

فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" 1 فخرج عليه الصلاة والسلام في ألف من الصحابة بيوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد رجع عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس2 وقال: أطاعهم وعصانا، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتعبه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكننا لا نرى أنه يكون قتال قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه3 وهكذا أخرج الله المنافقين مع رئيسهم من بين المؤمنين حقاً الذين هم أهل لتخليد ذكراهم بالثناء الجميل في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة ويذكرون بهذا الثناء الطيب على مر الأيام والليالي إلى يوم القيامة وكان عددهم رضي الله عنهم سبعمائة فيهم خمسون فارساً4 ولقد جاء الثناء عليهم في القرآن في غير ما آية: 1- قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ

_ 1ـ انظر: مسند الإمام أحمد 13/351، والحاكم 2/128-129 ووافقه الذهبي على تصحيحه، سنن الدارمي 2/129. 2ـ زاد المعاد لابن القيم 3/192-194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/63-64. 3ـ السيرة النبوية لابن هشام 2/64. 4ـ زاد المعاد 3/194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/65، البداية والنهاية 4/15.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله ـ تعالى ـ لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد. وقد اختلف السلف رحمهم الله تعالى في المراد بهذه الآية: فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحد. قال حبر الأمة عبد الله بن عباس في قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} قال: هو يوم أحد. وقال قتادة: ذلك يوم أحد غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوء المؤمنين وبهذا القول قال مجاهد والربيع بن أنس والسدي وابن إسحاق. وقال بعضهم: عنى بذلك يوم الأحزاب. وهذا القول ذهب إليه مجاهد في رواية عنه والحسن ومقاتل والكلبي وفي رواية عن الحسن أيضاً أنه يوم بدر. وأرجحها هو ما ذهب إليه الجمهور وهو المراد من ذلك يوم أحد. لأن الله تعالى قال في الآية التي بعدها: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ولا خلاف بين أهل التفسير أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب"2. قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس وقتادة والسدي وغير واحد3.

_ 1ـ سورة آل عمران آية/121. 2ـ انظر جامع البيان للطبري 4/69-70، زاد المسير 1/499، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/184. 3ـ تفسير القرآن العظيم 2/104.

فالآية اشتملت على منقبة عظيمة لجميع الصحابة الذين حضروا موقعة أحد بغية نصر دين الإسلام وإذلال الشرك وخفض رايته بالجهاد في سبيل الله وتلك المنقبة التي تضمنتها الآية هي إخبار الله جل وعلا بثبوت حقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم الطاهرة النقية رضي الله عنهم أجمعين. 2- وقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1. هذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم على الطائفتين اللتين همتا بالفشل وهاتان الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة كانتا في يوم أحد جناحي معسكر الإيمان، والهم الذي همت به هاتان الطائفتان هو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك حين انصرف ابن أبي بثلث الناس، وهذا الهمّ الذي حصل لهما لم يكن عن شك في الإسلام، أو نفاق حاشاهم من ذلك وإنما كان نتيجة عارض الضعف وشيء من الجبن عن لقاء العدو، ولكن الله تعالى تدارك الطائفتين بالعصمة، مما كانا قد هما به فقويت عزائمهم وثبتوا على الرشد ومضوا لقتال أهل الشرك تحت راية الإسلام مع سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. والثناء الذي حظيت به هاتان الطائفتان هو أن الآية ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى وفي هذا من الشرف العظيم لهاتين الطائفتين ما لا يعلمه إلا الله فقد روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بنو سلمة وبنو حارثة وما نحب أنها لم تنزل لقول الله ـ عز وجل ـ: {وَلِيُّهُمَا} 2. حق لجابر رضي الله عنه أن يُسَر ويفرح بالتنويه بهذه المنقبة العظيمة لأن ولاية الله لا يظفر بها إلا المؤمنون والصالحون من عباده قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3.

_ 1ـ سورة آل عمران آية/122. 2ـ صحيح البخاري 3/113، صحيح مسلم 4/1948. 3ـ سورة البقرة آية/257.

وقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى شارحاً لحديث جابر: "قوله: نزلت هذه الآية فينا أي في قومه بني سلمة وهم من الخزرج وفي أقاربهم بني حارثة وهم الأوس" وقوله: وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَلِيُّهُمَا} أي: وإن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم لكن في آخرها غاية الشرف لهم قال ابن إسحاق: قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي: الدافع عنهما ما هموا به من الفشل لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم"2. فالآية تضمنت منقبة عظيمة للطائفتين اللتين هما بنو سلمة وبنو حارثة حيث صرحت الآية بولاية الله لهما وحفظها مما كانا قد هما به وهو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يوم أحد وأن ذلك الهم لم يخرجهما من ولاية الله لهما. 3- وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3. هذه الآية تحمل في طياتها الثناء على أهل أحد وهذا الثناء هو صدق الله لهم ما وعدهم به من النصر على أعدائهم، وعفوه تعالى عنهم لما وقع من بعضهم من فشل وتنازع في أمر الحرب وإرادة الحياة الدنيا وبين تعالى أن ذلك من فضله على أولئك الصفوة رضي الله عنهم كما تضمنت الثناء على بعضهم بإرادتهم الآخرة قبل الدنيا والثناء عليهم جميعاً بتحقيقهم الإيمان الذي هو ينبوع كل خير والدافع إلى كل بر وإلى كل ما يحقق للإنسان السعادة

_ 1ـ سورة الأعراف آية/196. 2ـ فتح الباري 7/357. 3ـ سورة آل عمران آية/152.

في دنياه وآخرته، وقد يخطر على بال إنسان فيقول: إن الله ـ جل وعلا ـ قد أخبر أن في أهل أحد من يريد الدنيا وذلك بقوله في الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} ويجاب عن هذا أن ذلك لا يقدح في حقيقة إيمانهم دل على هذا تمام الآية فقد أخبر ـ تعالى ـ أنه قد عفا عنهم وبين أن ذلك العفو كان فضلا منه تعالى تفضل به عليهم بسبب إيمانهم قال تعالى في ختام الآية: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذا من تمام نعمه ـ جل وعلا ـ على عباده المؤمنين حيث نصرهم أولا في وقعة أحد، ثم عفا عن المخطئين بترك مقاعدهم التي أمرهم الرسول بلزومها وعدم تركها ثانياً لأنه تعالى دو الفضل والطول والإحسان1 روى ابن جرير بإسناده إلى ابن إسحاق أنه قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يقول: وكذلك منَّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدباً وموعظة فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم لما أصابوا من معصيته رحمة لهم وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان"أ. هـ2. 4- قال تعالى مادحاً أهل أحد عندما ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعقب جيش الشرك الذي جاء إلى أحد بقيادة أبي سفيان بعد انتهاء معركة أحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 3. هذه الآيات اشتملت على مدح عظيم للصحابة رضي الله عنهم الذين

_ 1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/132-134، تفسير البغوي على الخازن 1/363، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/237، تفسير القرآن العظيم 2/127، تفسير روح المعاني للألوسي 4/90. 2ـ جامع البيان 4/132. 3ـ سورة آل عمران آية/172-174.

حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم واقعة أحد فقد مدحهم الله ـ تعالى ـ بالاستجابة لله والرسول حينما ندبهم صلى الله عليه وسلم لتعقب أبي سفيان في اليوم الثاني من غزوة أحد وقد أجابوا الدعوة ولبوا النداء وأتوا بالمطلوب منهم على أكمل وجه واتقوا عاقبة تقصيرهم على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم، وقد وعد تعالى المحسنين المتقين منهم بالثواب العظيم وقد فعلوا رضي الله عنهم ما وعدهم الثواب عليه، كما أثنى عليهم ـ تبارك وتعالى ـ بقوة الإيمان وزيادته والصبر على البلاء وتفويضهم كل الأمور باللجأ إلى الله تعالى، كما أخبر ـ تعالى ـ أنه أكرمهم بأن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم وأطاعوا رسولهم وفازوا بالأجر الكريم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى، كما أثنى عليهم تعالى، بأنهم اتبعوا في كل ما أوتوا من قول أو قول أو فعل رضى الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر، وعنه نهى، وقد بين ـ تعالى ـ أنه تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجراءة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم وقد اتفق العلماء أن المراد بالذين استجابوا لله والرسول في قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا معه صلى الله عليه وسلم وقعة أحد، قال العلامة ابن جرير رحمه الله تعالى بعد قوله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجراح والكلوم، وإنما عنى الله ـ تعالى ـ ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معهم من مشركي قريش منصرفهم من أحد وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم"1.

_ 1ـ جامع البيان 4/176.

وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ثم ساق بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: "يا ابن أختي كان أبواك منهم: ـ الزبير وأبو بكر ـ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب في أثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"1. فالإمام البخاري بين لنا سبب نزول الآية وأنها تتعلق بأحد وأن الذين خرجوا لطلب العدو بلغوا سبعين رجلاً منهم أبو بكر والزبير بن العوام وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى ابن عباس أن منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبا عبيدة بن الجراح"2. وذكر القرطبي: "أنه نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من المؤمنين"أ. هـ3. فالآية اشتملت على المدح والثناء على الصحابة من أهل أحد بالاستجابة والطاعة لله ـ جل وعلا ـ في جميع أوامره وطاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة يرجون من ورائها ثواب الله ـ تعالى ـ ولم يمنعهم من ذلك ما بهم من جروج وكلوم أصابتهم في سبيل الله يوم أحد بل خرجوا إلى حمراء الأسد ممتثلين لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم، متلذذين بتلك الطاعة التي أنستهم كل ألم وكل أذى أصابهم في ذات الله وزادهم ذلك قوة وجراءة واستعداداً لمواجهة أهل الشرك وقتالهم حتى يدخلوا في دين الله الحق، ولقد أحسنوا رضي الله عنهم في الإجابة إلى الغزو واتقوا معصية الرسول والتخلف عنه فأكرمهم الله ـ عز وجل ـ بالثواب الجزيل العظيم وهو الجنة، رضي الله عنهم وأرضاهم وأكرمنا بفضله معهم.

_ 1ـ صحيح البخاري 3/126. 2ـ جامع البيان 4/177. 3ـ الجامع لأحكام القرآن 4/277.

وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} هذه الآية أيضاً: فيها إخبار بأن "هذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأولى ـ في هذه الآية ـ هم قوم كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد، والناس الثانية هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد وقوله: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرة إليكم لحربكم {فَاخْشَوْهُمْ} فاحذروهم واتقوا لقاءهم فإنه لا طاقة لكم بهم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي: فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقيناً إلى يقينهم، وتصديقاً لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله، وتوكلا عليه إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: كفانا الله وهو نعم المولى لمن وليه وكفله ... فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ووثقوا به وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم"1. هذه صفة أهل الإيمان والتقوى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث "توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به"2 فالآية تضمنت ثناء الله عليهم بقيلهم {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وأن تخويف الناس لهم بكثرة عددهم وقوة عدتهم زادهم تصديقاً ويقيناً في دينهم وإقامة على نصرتهم لدين الإسلام معتمدين على الله عز وجل

_ 1ـ جامع البيان 4/178-179، وانظر تفسير البغوي على الخازن 1/378. 2ـ تفسير القرآن العظيم 2/161.

في كل الأمور وبهذه الصفات الطيبة كانوا أصفى خلق الله وخيرتهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما قوله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ففيها أيضاً: ثناء جميل وإكرام عظيم للذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح فقد أكرمهم الله بأن رجعوا سالمين من حمراء الأسد فلم يلقوا عدواً بحيث كفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس الذين كفروا بقذف الخوف والرعب في قلوبهم، ثم أثنى عليهم باتباعهم رضوان الله الذي هو مناط كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة فاتبعوا أمر الله وابتعدوا عن نهيه واتبعوا رسوله حين ندبهم للخروج ولذلك تفضل الله عليهم بالتوفيق والسداد فيما فعلوا وظفروا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لاتباعهم ما يرضي الله ورسوله1. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عليهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} مما أضمر لهم عدوهم"2. 5- أثنى الله تبارك وتعالى ثناء حسناً على الشهداء والذين لحقوا بالرفيق الأعلى يوم أحد وهم مقاتلون في سبيل الله تعالى وفاء منهم بصدق ما عاهدوا الله تعالى عليه وقد جاء الثناء عليهم بالذكر الحسن في أربع آيات من الكتاب العزيز قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ

_ 1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/183، وانظر تفسير البغوي على حاشية الخازن 1/380، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 3/318، وفتح القدير للشوكاني 1/400، تفسير روح المعاني 4/129. 2ـ تفسير القرآن العظيم 2/163.

خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2. هذه الآيات بين الله ـ تعالى ـ فيها مكانة الشهداء وعلو درجتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وفرحون بما آتاهم الله من الكرامة والفضل، وأنهم يسبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بما أنعم الله به عليهم من فضل وأنه لا خوف عليهم ولا حزن لأن الدار التي انتقلوا إليها هي دار الحياء والفرح لا حزن ولا نغص في عيشها، وقد كان عدد هؤلاء الشهداء الذين استشهدوا في أحد سبعين شهيداً كما في صحيح البخاري3. رحمه الله تعالى منهم ست من المهاجرين منهم سيد الشهداء حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وثقف بن عمرو وهذا يوافق ما رواه أبو عبد الله الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة فمثلوا بهم وفيهم حمزة ... الحديث4. فقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} هذه الآية تضمنت النهي عن ظن الموت بالشهداء فدلت على أنهم أحياء عند ربهم يرزقون والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا تحسبنهم يا محمد أمواتاً لا يحسون شيئاً ولا يلتذون ولا يتنعمون فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كراماتي وفضلي، حبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي"5.

_ 1ـ سورة آل عمران آية/169-171. 2ـ سورة الأحزاب آية/23. 3ـ صحيح البخاري 3/26. 4ـ المستدرك 2/359 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 5ـ جامع البيان 4/170، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/268-274، وانظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ص/155- القسم الأول، وانظر فتح القدير للشوكاني 1/399.

قال الحافظ ابن كثير: بعد الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية: "يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار"أ. هـ1. فالآية دلت على فضيلة عظيمة للشهداء وهي أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عند الله تعالى. وأما قوله تعالى: {فَرِ حِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذه الآية اشتملت على تكريم عظيم لأولئك الشهداء وهم أنهم فرحون بما أعطاهم الله من الصواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم، ويفرحون ويسرون بإخوانهم الذين تركوهم أحياء في الحياة الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا ماتوا في سبيل الله لحقوا بهم ونالوا من الكرامة مثل ما نالوا فهم بذلك مستبشرون. وبين تعالى: "أنه لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله وأيقنوا برضاه عنهم فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها الحظ الذي صاروا إليه وادعى الزلفى"2. وهذا من أعظم التكريم الذي يكرم الله به من يشاء من عباده الذين بذلوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه الحنيف. وأما قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن الشهداء يستبشرون بما رزقوا من النعيم والفضل وهذا الاستبشار في هذه الآية كان لأنفسهم، وأما الاستبشار الأول الذي في الآية المتقدمة قبل هذه فإنه كان لغيرهم من إخوانهم

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 2/153. 2ـ جامع البيان 4/174، وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 1/502، الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399، أضواء البيان 1/262.

المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وختم الله هذه الآية بالإخبار بأنه ـ تعالى ـ كما لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين. قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول: ـ جل ثناؤه ـ: {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كراماته عند ورودهم عليه {وَفَضْلٍ} يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أعدائه.... ومعنى قوله: {لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله ... ثم روى بإسناده إلى محمد بن إسحاق في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية قال: سروا ـ لما عاينوا أن وفاء الموعود وعظيم الثواب1. فالآية اشتملت على التنويه باستبشار شهداء أحد بمغفرة الله تعالى لهم وفضله عليهم حين قدموا على ربهم ـ تبارك وتعالى ـ. وأما قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} هذه الآية هي الآية الرابعة التي سيقت في الثناء على شهداء أحد فقد بين ـ تعالى ـ فيها أن من الصحابة الذين حضروا غزوة أحد رجالا قاموا بما عاهدوا الله تعالى عليه ووفوا بما نذروا به فصبروا على الجهاد حتى استشهدوا في سبيل الله ـ تعالى ـ من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ومنهم من بقي بعد أولئك الشهداء وهم ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصرة وكانوا على عهدهم فلم يغيروه، أو يبدلوه رضي الله عنهم حتى لقوا ربهم ـ تبارك وتعالى ـ ورضي الله عنهم أجمعين. قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالله

_ 1ـ جامع البيان 4/175-176، تفسير القرآن العظيم 2/157، وانظر في معنى الآية أيضاً: الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399.

ورسوله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء وحين البأس {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان أنذره لله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير ذلك من المواطن {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده والنصر من الله والظفر على عدوه، والنحب: النذر في كلام العرب وللنحب أيضاً: في كلامهم وجوه غير ذلك منها الموت ... وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييراً كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} والقائلون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أ. هـ1. فالآية تضمنت الثناء والمدح على شهداء أحد بتحقيقهم الإيمان الكامل والثناء عليهم بالصدق والوفاء فما عرف منهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم، وكل الآيات المتقدمة بين الله ـ تعالى فيها أن ما حصل يوم أحد كان ابتلاء ليتميز أهل النفاق من أهل الإيمان الصادق وبين ـ سبحانه ـ أن من لم ينهزم في موقعة أحد فقتل له الكرامة، وذلك أن الشهداء أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. ذلك هو الثناء في القرآن على أهل أحد. أما الأحاديث التي وردت في السنة المطهرة فكثيرة وفيها بيان فضلهم رضي الله عنهم، وبيان منزلتهم منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص ومن ذلك ما يلي: 1. روى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله ـ عز وجل ـ أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم،

_ 1ـ جامع البيان 21/145-147، تفسير القرآن العظيم 5/438، فتح القدير للشوكاني 4/271-272.

قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله ـ عز وجل ـ: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله ـ عز وجل ـ هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} "1. 2. وأخرج الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} 2. 3. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى مسروق قال: سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك ثلاثة مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا" 3. هذه الأحاديث المتقدمة فيها بيان إكرام الله تعالى للشهداء على وجه الخصوص فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فقال لهم الله هل تشتهون شيئاً" ... الخ

_ 1ـ المسند 1/265-266، سنن أبي داود 2/14، ابن هشام في السيرة 2/119، وابن جرير في جامع البيان 4/171، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 4/218، والحاكم في مستدركه 2/288 وص/297 وقال في الموضعين صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي والحديث عند مسلم كما هو هنا بمعناه والآيات المشار إليها في الحديث رقم 169-171 من سورة آل عمران. 2ـ المستدرك 2/387. 3ـ صحيح مسلم 2/1502.

الحديث" هذا فيه مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر ثم رغبهم في سؤال الزيادة فلم يجدوا مزيداً على ما أعطاهم فسألوه حين رأوه وأنه لا بد من سؤال أن يرجع أرواحهم إلى أجسادهم ليجاهدوا ويبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى ويستلذوا بالقتل في سبيله"1. 4. وروى الإمام الترمذي بإسناده إلى طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالي أراك منكسراً؟ " قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا وديناً قال: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك" قال: بلى يا رسول الله قال: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجابه وأحيا أباك فكلمه كفاحاً 2 فقال: تمن علي أعطيك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون" قال: وأنزلت هذه الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم ورواه علي بن عبد الله المديني وغير واحد من كبار أهل الحديث هكذا عن موسى بن إبراهيم وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر شيئاً من هذا"3. قال الزرقاني شارحاً لقوله في الحديث: "ما كلم الله أحداً قط يعني لم يكلم أحداً غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى عليه الصلاة والسلام وموسى عليه السلام، أو المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق"أ. هـ4. وأخرج ابن جرير بإسناده إلى أنس أن سبب نزول الآية قتلى بئر معونة. وقال العلامة الشوكاني: "وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/33. 2ـ كفاحاً: أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول النهاية 4/185. 3ـ سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 8/360، الرد على الجهمية للدارمي ص/86. 4ـ شرح المواهب اللدنية 2/53.

كل شهيد"أ. هـ1. 5. ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى جابر بن عبد الله يقول: لما كان يوم أحد جيء بأبي2 مسجى وقد مثل به قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: "من هذه" فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: "ولم تبكي فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" وفي رواية أنه قال: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه" 3. قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً هذا التكريم والمنقبة التي نالها والد جابر بن عبد الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" قال القاضي: "ويحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل الله ورضاه عنه وما أعد له من الكرامة عليه ازدحموا عليه إكراماً له وفرحاً به أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه ... وقال عند قوله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله" معناه سواء بكيت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله أي: فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره فلا ينبغي البكاء على مثل هذا وفي هذا تسلية لها"أ. هـ4. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأو" في قوله "تبكين أو لا تبكين"

_ 1ـ فتح القدير 1/401. 2ـ اسمه عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي السلمي أسلم قديماً وكان من النقباء وشهد العقبة ثم بدراً، وقتل يوم أحد قتله أسامة الأعور وقيل سفيان بن عبد شمس أبو الأعور قال الواقدي: صل عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة وهذا فيه نظر لأنه نقل إلى المدينة ولم يكن يعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعادوه بعد أمر الرسول بإعادة الشهداء فصلى عليه معهم ـ انظر الاستيعاب 2/331، الإصابة 2/341، مغازي الواقدي 1/266. 3ـ صحيح البخاري 1/224وص/216، صحيح مسلم 4/1917-1918. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/25-26.

للتخيير ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه"1 وقال أيضاً: في موضع آخر: "ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح له بما صار إليه"أ. هـ2. 6. وفي الصحيحن من حديث أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس: كما نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .. إلى آخر الآية3. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر رضي الله عنه وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين كما تضمن المدح والثناء لأهل أحد عموماً بصدقهم فيما عاهدوا الله عليه، والمراد بالمعاهدة المذكورة هي المشار لها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} 4 وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد وهذا قول ابن إسحاق. وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤووه

_ 1ـ فتح الباري 3/116. 2ـ المصدر السابق 3/163. 3ـ صحيح البخاري 2/138، صحيح مسلم 3/1512. 4ـ سورة الأحزاب آية/15.

وينصروه ويمنعوه والأول أولى"1 فلقد عاهدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ ووفوا بالعهد ولو كان في ذلك مشقة على أنفسهم، وبذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله طلباً للشهادة التي ثمنها الجنة التي عرضها السماوات والأرض. فرضي الله عنهم أجمعين. ذلك هو الثناء في القرآن الكريم والسنة المطهرة على أولئك الأبرار من أهل أحد وذلك هو مصير شهداء أحد الذي صاروا إليه فقد تبوءوا الدرجات العالية بسبب ما قدموه من بذل أنفسهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى ونصرة دينه وتلك المناقب الرفيعة التي نوهت بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يجب على العبد الإيمان والتسليم بها لأولئك الأطهار رضي الله عنهم أجمعين. ونسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

_ 1ـ فتح الباري 6/22-23.

المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان

المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان لقد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البيعة المباركة الميمونة المشهورة "بيعة الرضوان" وكانت هذه البيعة بمكان يسمى "الحديبية"1 في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف بين علماء المغازي والسير2 وقد اختلفت الروايات الصحيحة في عددهم رضي الله عنهم فقد روى الشيخان من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان أصحاب الشجرة3 ألفاً وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين"4. ورويا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"5.

_ 1ـ قال ياقوت الحموي: "هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع تحتها" معجم البلدان 2/229 وكذا قال الحافظ ابن حجر: "هي بئر سمي بها المكان"أ. هـ. فتح الباري 5/334 وقال الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى: "الحديبية بئر كانت الشجرة بالقرب من البئر ثم إن الشجرة فقدت بعد ذلك فلم توجد وقالوا إن السيول ذهبت بها فقال سعيد بن المسيب سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول قد طلبناها غير مرة فلم نجدها فأما ما يذكره عوام الحجيج أنها شجرة بين منى ومكة فإنه خطأ فاحش"أ. هـ. معرفة علوم الحديث ص/23-24. 2ـ انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/208، دلائل النبوة للبيهقي 4/91، تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/619، الكامل لابن الأثير 2/200، المجموع شرح المهذب للنووي 7/78، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص/140، البداية والنهاية 4/185، فتح الباري 7/440. 3ـ الشجرة: هي السمرة التي حصلت البيعة تحتها، انظر: صحيح مسلم 3/1483. 4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485. 5ـ صحيح البخاري 3/43، صحيح مسلم 3/1484.

ورويا أيضاً: من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة1 فتوضأ فجهش2 الناس نحوه فقال: "ما لكم"؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور3 بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأ وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة"4. فهذه الروايات الثلاث هي أصح ما ورد في بيان عدد أصحاب بيعة الرضوان ولا إشكال فيها من حيث صحتها وإنما الإشكال من حيث العدد المذكورة فيها من ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة إلى خمس عشرة مائة ولا يمكن ردها بحال من الأحوال وقد حاول العلماء الجمع بينها وقد سلكوا تجاهها طريقين. الطريق الأول: طريق الترجيح، وقد مال إلى هذا الطريق الإمام البيهقي والحافظ ابن القيم رحمهما الله تعالى. فأما البيهقي فإنه أورد رواية التحديد بألف وأربعمائة المروية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثم قال: وهذه الرواية أصح فلذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين عنه"أ. هـ5. وأما العلامة ابن القيم فإنه ذكر رواية ألف وأربعمائة وقال عقبها: "والقلب إلى هذا أميل"6. الطريق الثاني: طريق الجمع وقد ذهب إلى هذا الإمام النووي والحافظ ابن حجر رحمهما الله.

_ 1ـ الركوة: إنا صغير يشرب فيه الماء والجمع ركاء. النهاية 2/261. 2ـ الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الأنسان ويلجأ إليه. النهاية 1/322. 3ـ يثور: ينبع بقوة وشدة النهاية 1/228. 4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1484. 5ـ دلائل النبوة للبيهقي 4/98. 6ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 3/288.

فأما الإمام النووي فقد قال عقب الروايات الثلاث المتقدم ذكرها: "ويمكن أن يجمع بينهما بأنهم كانوا أربعمائة وكسر فمن قال: أربعمائة لم يعتبر الكسر ومن قال خمسمائة اعتبره، ومن قال ألف وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد أو لغير ذلك"أ. هـ1. وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فإنه ذكر كلام النووي وزاد عليه حيث قال: بعد ذكره للروايات الثلاث السابقة: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة فمن قال ألفاً وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفاً وأربعمائة ألغاه ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر، أما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألف وثلاثمائة، فيمكن حمله على ما اطلع عليه هو، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة والزيادة عليه من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم"أ. هـ2. والذي يظهر والله أعلم أن طريقة الجمع بين النصوص أولى من ترجيح بعضها على بعض لأن الروايات كلها صحيحة في العدد المذكور وينبغي الأخذ بما قاله الحافظ ابن حجر لأن توجيهه للنصوص ممكن وظاهر. وأصحاب الحديبة الذين هم أهل بيعة الرضوان ورد في فضلهم نصوص محكمة كثيرة من الآيات القرآن والأحاديث النبوية ومنها ما يلي: 1- قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ3 فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/2. 2ـ فتح الباري 7/440. 3ـ قال ابن جرير بعد أن ذكر عدة أقوال في معنى السكينة: "وأولى هذه الأقوال بالصواب بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح: ما تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعلية من قول القائل سكن فلان إلى كذا وكذا إذا اطمأن إليه وهدأت

إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1. في هذه الآية شهادة لهم بحقيقة الإيمان الكامل وإكرامهم بإنزال السكون والطمأنينة في قلوبهم إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الحق الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليزدادوا بتصديقهم بما حدد الله من الفرائض التي ألزمهموها التي لم تكن لهم لازمة {إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ثم أخبر تعالى أنه له جنود السموات والأرض ينتقم بهم ممن يشاء من أعداء وختم الآية بأنه ـ سبحانه ـ لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملون حكيماً في تدبيره"2. قال ابن كثير: "يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه الرحمة وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب"أ. هـ3. فالآية تضمنت مدحاً عظيماً وثناء بالغاً على أهل بيعة الرضوان حيث أكرمهم الله بإنزال السكينة في قلوبهم فكان ذلك من ذلك من أسباب زيادة الإيمان فيها كما تضمنت الشهادة لهم من الله بالإيمان الكامل وتحقيق شرائعه وذلك أنهم رضي الله عنهم كلما ورد عليهم أمر أو نهي آمنوا به وعملوا بمقتضاه طائعين خاضعين لحكم الله رب العالمين.

_ = عنده نفسه فهو يسكن سكوناً وسكينة، مثل قولك: عزم فلان هذا الأمر عزماً وعزيمة وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية جامع البيان 2/613، وانظر: النهاية 2/384-385، واللسان 13/213. 1ـ سورة الفتح آية/4. 2ـ انظر: جامع البيان 26/71-72. 3ـ تفسير القرآن العظيم 6/330، وانظر تفسير البغوي مع الخازن 6/158، فتح القدير للشوكاني 5/45.

2- وقال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 1. هذه الآية فيها وعيد من الله تعالى لأهل بيعة الرضوان خصوصاً ولجميع المؤمنين والمؤمنات عموماً بدخول جنات تجري من تحتها الأنهار وأنهم يخلدون فيها لا يحولون ولا يزولون عنها وأنه تعالى يكفر عنهم سيئاتهم بمعنى أنه يغطيها ولا يظهرها وختم تعالى الآية ببيان أن إدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم فوز عظيم لا يقادر قدره لأنه منتهى غاية ما يتطلع إليه المؤمنون الصادقون الذين في مقدمتهم أولئك الصفوة أصحاب بيعة الرضوان. روى البخار بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2. وعند الترمذي وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفيه عن مجمع3 بن جارية4.

_ 1ـ سورة الفتح آية/5. 2ـ صحيح البخاري 3/44. 3ـ مجمع بن جارية بن عامر الأنصاري الأوسي المدني صحابي مات في خلافة معاوية التقريب 2/230، الإصابة 3/346. 4ـ سنن الترمذي 5/61-62، المسند 3/122.

فهذا الحديث بين الفضيلة التي تضمنتها الآية التي سيقت قبله لأصحابه بيعة الرضوان. قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} كقوله ـ جل وعلا ـ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 1 الآية أ. هـ2. فأي فوز وأي فلاح أعظم من تكفير الذنوب والخطايا ودخول الجنة ورؤية الله ـ عز وجل ـ فيها إنه لمن أعظم التكريم ومن أعلا النعيم الذي فاز به أهل بيعة الرضوان. 3- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 3. وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعة له وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4 فمبايعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة لله ـ جل وعلا ـ. قال العلامة ابن القيم: "وتأمل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فلما كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويضرب بيده

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 6/330. 2ـ المصدر نفسه 6/330. 3ـ سورة الفتح آية/10. 4ـ سورة النساء آية/80.

على أيديهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم"أ. هـ1 ومعنى قوله في الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"2. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان ... ثم روى بإسناده إلى قتادة رحمه الله تعالى: {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} قال: هي الجنة"أ. هـ3. 4- وقال تعالى مخبراً برضاه عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 4. فقد أخبر تعالى أنه رضي الله عن أولئك الصفوة الأخيار من أهل بيعة الرضوان ومن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً فلله ما أعظم هذا التكريم الذي ناله أهل بيعة الرضوان، وما أعلاها من منقبة ومعنى الآية {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} يعني: بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة

_ 1ـ مختصر الصواعق المرسلة 2/172. 2ـ انظر: تفسير القرآن العظيم 6/331، تفسير روح المعاني 26/97. 3ـ جامع البيان 26/76، وانظر: تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/160. 4ـ سورة الفتح آية/18-19.

قريش الحرب وعلى أن لا يفروا، ولا يولوهم الدبر، تحت الشجرة وكانت بيعتهم إياه هنالك تحت الشجرة سمرة {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة من صدق النية والوفاء بما يبايعونك عليه والصبر معك {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه من دينهم وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر، وأما قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثاب الله هؤلاء الذي بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السكينة عليهم وإثابته إياهم فتحاً قريباً وهو ما أجرى الله ـ عز وجل ـ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة. ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ولهذا قال الله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1. قال أحمد بن عليّ الجصاص بعد قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم فهم قوم بأعيانهم ... فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء الله إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أ. هـ2.

_ 1ـ جامع البيان 26/85-86، تفسير القرآن العظيم 6/341، وانظر تفسير البغوي على الخازن 6/163، زاد المسير 7/434-435، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/278، فتح القدير للشوكاني 5/51. 2ـ أحكام القرآن للجصاص 3/394 والآية رقم 35/من سورة النساء.

والسبب الذي كانت من أجله بيعة الرضوان ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: "والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليعلم قريشاً أنه إنما جاء معتمراً لا محارباً، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان، وقيل: بل جاء الخبر بأن عثمان قتل فكان ذلك سبب البيعة"أ. هـ1 وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة الذين كانوا معه بالحديبية لما أشيع أن عثمان قد قتل ولم يتخلف عن تلك البيعة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت بطن بعيره2. وقد سئل الصحابة رضي الله عنهم على أي شيء كانت بيعتهم؟ فكانت الإجابة بما يلي: 1- أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال: على الموت3. وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت فقال لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم4. 2- وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما بأنهم بايعوا على عدم الفرار. روى الإمام مسلم بإسناده إلى معقل بن يسار قال: لقد رأيتني

_ 1ـ فتح الباري 7/59، ص/448، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/315، تاريخ الأمم والملوك 2/631، دلائل النبوة البيهقي 4/134، البداية والنهاية لابن كثير 4/189، الجامع لأحكام القرآن 16/276. 2ـ صحيح مسلم 3/83. 3ـ صحيح البخاري 3/44. 4ـ صحيح البخاري 3/44، صحيح مسلم 3/1486.

يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربع عشرة مائة قال: "لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على ألا نفر"1. وروى أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت"2. فهذه الأحاديث أوضحت لنا الشيء الذي بايع عليه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلا أن بعضها تفيد أن البيعة كانت على الموت وبعضها يفيد أنهم بايعوا على عدم الفرار، فقد يحس القارئ أن بين هذه الروايات اختلافاً في الشيء الذي كانت البيعة عليه والواقع أنه لا اختلاف بينها. فقد قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: "قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: "لا نزال بين يديك حتى نقتل، وبايعه آخرون فقالوا لا نفر"3. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا وليس المراد أن يقع الموت ولا بد"4. تلك هي البيعة التي استحق بها أصحاب الحديبية رضوان الله تعالى والثناء عليهم بما وقر في قلوبهم من الإيمان والوفاء والصدق وقد رتب تعالى على رضاه عنهم وعلمه بما في قلوبهم ما أنعم به عليهم من سكينة وفتح ومغانم فقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1485. 2ـ صحيح مسلم 3/1483. 3ـ سنن الترمذي 3/76. 4ـ فتح الباري 6/118، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 13/3.

5- أخبر تعالى عن أهل بيعة الرضوان أنه ألزمهم كلمة التقوى التي هي كلمة التوحيد وأنهم كانوا أحق بها وأهلها، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 1. فلقد بين تعالى في هذه الآية أنه ألزم الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى وأكثر المفسرين على أن المراد بكلمة التقوى هي "لا إله إلا الله" وبين أنهم أحق بها من كفار قريش وأنهم كانوا أهلها في علم الله لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير2 ذلك هو الثناء في القرآن على الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان الحديبية وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك ما يلي: 1- روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة3. هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما ... وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليّ على عثمان لأن علياً كان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة وكان عثمان حينئذ غائباً ـ وهذا التمسك باطل ـ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه4 فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل

_ 1ـ سورة الفتح آية/26. 2ـ انظر: جامع البيان 26/103-106، تفسير البغوي على الخازن 6/177، تفسير ابن كثير 6/347. 3ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485. 4ـ انظر: صحيح البخاري 2/297.

بعضهم على بعض"1. 2- روى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله: فانتهرها فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله ـ عز وجل ـ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 2. قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً ... وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك وأما قول حفصة بلى وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون"أ. هـ3. 3- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" 4. هذا الحديث تضمن فضيلة أهل بدر والحديبية وفضيلة حاطب لكونه منهم رضي الله عنهم أجمعين.

_ 1ـ فتح الباري 7/443. 2ـ صحيح مسلم 4/1942، والآيتان رقم/71-72 من سورة مريم. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/58. 4ـ صحيح مسلم 4/1942.

4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية نثية 1 المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" قال: فكان أول من يصعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له"2. وهذا الحديث تضمن فضيلة عظيمة لأصحاب الحديبية رضي الله عنهم وتلك الفضيلة مغفرة الله لهم وأكرم بها من فضيلة منحهم إياها الرب ـ جل وعلا ـ لإخلاصهم في طاعتهم واستجابتهم لله والرسول بالسمع والطاعة. 5- روى الإمام أحمد بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن فروخ أن أبا سعيد حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك قال: " أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم" 3. فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن من يأتي بعد أهل بيعة الرضوان لا يمكن أن يدركهم في فضلهم، ولا في فضل عملهم مهما بلغ من الإخلاص وصدق النية والتحري في عمل الصالحات فلقد فازوا فوزاً عظيماً رضي الله عنهم وأرضاهم ولقد شمل فضل أهل بيعة الرضوان الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان غائباً في المهمة التي بعثه بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة. 6- فقد روى البخاري بإسناده إلى عثمان بن موهب قال: "جاء رجل

_ 1ـ ثنية المرار: مهبط الحديبية والمرار: بقلة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت عنه مشافرها، معجم البلدان 5/92، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/126. 2ـ صحيح مسلم 4/2144-2145. 3ـ مسند الإمام أحمد 3/26، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي 3/36.

من أهل مصر وحج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم: قال: الله أكبر قال ابن عمر: تعالى أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز من عثمان ببطن مكة لبعثه مكانه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان" فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك"1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه ولذلك كبر مستحسناً لما أجابه ابن عمر قوله "قال ابن عمر: تعال أبين لك" كأن ابن عمر فهم منه مراده لما كبر وإلا لو فهم ذلك من أول سؤاله لقرن العذر بالجواب وحاصله أنه عابه بثلاثة أشياء فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فالبعفو وأما التخلف فبالأمر وقد حصل له مقصود من شهد من ترتب الأمرين الدنيوي وهو السهم والأخروي وهو الأجر، وأما البيعة فكان مأذوناً له في ذلك أيضاً: ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لعثمان من يده كما ثبت ذلك أيضاً: عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة فأجابه عثمان بمثل ما أجاب

_ 1ـ صحيح البخاري 2/297.

به ابن عمر قال في هذه: فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني إلى أن قال: قوله: "فقال له ابن عمر اذهب بها الآن معك" أي: أقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان، وقال الطيبي: قال له ابن عمر تهكماً به أي: توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعدما بينت لك"أ. هـ 1. تلك هي مناقب أصحاب بيعة الرضوان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا رضي الله عنهم من أكمل البشرية إيماناً وعلماً وطاعة لله ورسوله ولذلك شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير أهل الأرض، وأنهم مغفور لهم، كما شهد لهم عليه الصلاة والسلام هم وإخوانهم البدريون بالجنة والنجاة من النار. نسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

_ 1 ـ فتح الباري 7/59.

الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة

الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ... المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ينبغي للمسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو صديق هذه الأمة المحمدية وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب وأم الصديق أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بنت عم أبيه وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو، وهما صحابيان رضوان الله عليهما أجمعين1. لقب بالصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ وروى الطبراني من حديث عليّ: "أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق"2. وقيل: كان ابتداء تسميته بالصديق صبيحة الإسراء فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق"3.

_ 1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/169، السيرة النبوية لابن هشام 1/249، الإصابة في تمييز الصحابة 2/333- 335، فتح الباري 7/9، وانظر: صفة الصفوة 1/235، حلية الأولياء 1/28، تذكرة الحفاظ 1/2، لوامح الأنوار البهية 2/311. 2ـ فتح الباري 7/2 ثم قال: "ورجاله ثقات". 3ـ المستدرك 3/62 ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات وكانت الراية معه يوم تبوك وحج بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي سنة تسع وكان خليفتة من بعده ولقبه المسملون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم1 وقد دل على أنه أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أما دلالة الكتاب فمن ذلك ما يلي: 1- قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} 2. أجمع المسلمون على أن المراد بالصاحب المذكور في الآية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه"3. أخرج ابن عساكر عن سفيان ابن عيينة قال: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر وحده فإنه خرج من المعاتبة ثم قرأ: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} 4. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وإنما عنى الله ـ جل ثناؤه ـ بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار: النقب العظيم يكون في الجبل {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} يقول: إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: {لا تَحْزَنْ} وذلك أنه خاف من الطلب أن

_ 1ـ الإصابة 2/333 وانظر أعلام النبوة للماوردي ص/284-285، تهذيب الأسماء واللغات 2/184. 2ـ سورة التوبة آية / 20. 3ـ الإصابة 2/335، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/48، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 10/154، شرح كتاب الفقه الأكبر لملا علي القاري ص/101. 4ـ الدر المنثور للسيوطي 4/199، وكتابه تاريخ الخلفاء ص/50.

يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن لأن الله معنا، والله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا"أ. هـ1. وقال الحافظ ابن كثير: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي: عام الهجرة لما هم المشركون بقتله، أو حبسه، أو نفيه فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 2 ... ولهذا قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: تأييده ونصره عليه أي: على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل: على أبي بكر وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه السكينة وهذا لا ينافي تجدد السكينة خاصة بتلك الحال"أ. هـ3. وقال أبو بكر بن العربي: بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وهذه مرتبة عظمى وفضيلة شماء لم يكن لبشر أن يخبر عن الله ـ سبحانه ـ أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر، كما أنه قال: مخبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أ. هـ4. فالآية دلت دلالة واضحة على فضل أبي بكر رضي الله عنه حيث جعله الله ثاني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وما ذلك إلا لأن الصديق بلغ النهاية في الفضل رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ جامع البيان 10/136، وانظر تفسير البغوي على حاشية الخازن 3/81. 2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854. 3ـ تفسير ابن كثير 3/402، وانظر تفسير البغوي على الخازن 3/81-82. 4ـ أحكام القرآن لابن العربي 2/951.

2- وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1. روى ابن جرير بإسناده إلى علي رضي الله عنه في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} قال: محمد صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} قال: أبو بكر رضي الله عنه2. وهذه الآية أيضاً تضمنت فضيلة عظيمة ومنقبة عالية لأبي بكر رضي الله عنه وهي أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة من مكة إلى المدينة وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه عليه الصلاة والسلام. 3- قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 3. ذهب كثير من المفسرين منهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعبد الله ابن عمر ومجاهد والضحاك إلى أن المراد بصالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما4. 4- وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 5. أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قال: الجنة6. وقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن هذه الآية نزلت في أبي بكر

_ 1ـ سورة الزمر آية/ 34. 2ـ جامع البيان 24/3، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 7/228. 3ـ سورة التحريم آية/4. 4ـ جامع البيان 28/162-163، الجامع لأحكام القرآن 18/192، تفسير ابن كثير 7/56، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/223-224. 5ـ سورة الليل آية/5-7. 6ـ الدر المنثور 8/535.

رضي الله عنه فقد روى بإسناده إلى عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له ابوه: أي بني أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك، ويمنعونك ويدفعون عنك قال: أي أبت إنما أريد ما عند الله، قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 1. 5- وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2. هذه الآيات ذكر الكثير من المفسرين أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وهذه الآيات فيها إخبار من الله تعالى أنه سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى الموضح بقوله: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي: يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي: ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً، فهو يعطي في مقابلة ذلك، وإنما دفعه ذلك {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} أي: طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات، ثم ختم ـ تعالى ـ الآيات بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات3. قال الحافظ ابن كثير: "وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه دخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى

_ 1ـ جامع البيان 30/221، والمستدرك للحاكم 2/525-526. 2ـ سورة الليل آية/17-21. 3ـ تفسير ابن كثير 7/310.

وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالا لأمواله في طاعة موالاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود: وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ولهذا قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 1. تلك هي بعض آيات القرآن الكريم الدالة على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام. وأما الأحاديث الدالة على أفضيلته رضي الله عنه فكثيرة جداً ومنها ما يلي: 1- روى الشيخان في صحيحهما من حديث أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 2. هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه وتلك المنقبة أنه رضي الله عنه كان ثاني اثنين ثالثهما رب العالمين. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها هذا اللفظ ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 7/310-311. 2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854 واللفظ له.

ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك"أ. هـ1. 2- روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله" قال: فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً2 غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر" 3. وعند مسلم: "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" 4. وهذا الحديث فيه فضيلة لأبي بكر حيث كان أعلم الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يقول عليه الصلاة والسلام فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه المراد بالعبد المخير وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم فبكى حزناً على فراقه وانقطاع الوحي وغير ذلك من الخير المستمر الذي حصل ببعثته عليه الصلاة والسلام للناس كافة على وجه الأرض. قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أمنّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر" قال العلماء: معناه أكثرهم جوداً وسماحة لنا بنفسه وماله وليس هو المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة لأنه أذى مبطل للثواب ولأن المنة لله ولرسوله

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/150. 2ـ قال في النهاية: "الخلة بالضم: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه والخليل: الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول، وإنما قال ذلك لأن خلته كانت مقصورة على حب الله ـ تعالى ـ فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة وهذه حال شريفة لا ينالها أحد بكسب واجتهاد في الطباع غالبة، وإنما يخص الله بها من يشاء من عباده مثل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه" أهـ 2/72. 3ـ صحيح البخاري 2/288-289، صحيح مسلم 4/1854. 4ـ صحيح مسلم 4/1855.

صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره"أ. هـ1. وقال القرطبي: "هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها يؤيده قوله في رواية ابن عباس: "ليس أحد أمن عليّ" والله أعلم2. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" الخوخة: ـ بفتح الخاء ـ وهي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ونحوه. وفي هذا فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه"3. 3- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي" وفي رواية قال: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل" 4. وعند مسلم من حديث ابن مسعود: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله ـ عز وجل ـ صاحبكم خليلاً" 5. ففي هذا الحديث على اختلاف ألفاظه فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه لو صلح له أن يتخذ أحداً من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر دون سواه، وأنه رضي الله عنه كان متأهلا لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لولا المانع المذكور في الحديث. فهذه منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه لم يشاركه فيها أحد.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/150 وانظر فتح الباري 1/559. 2ـ ذكره عنه الحافظ في"الفتح" 1/559. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/151-152، فتح الباري 7/14. 4ـ صحيح البخاري 2/289. 5ـ صحيح مسلم 4/1855.

قال الحافظ عند قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبل هذا: "ولكن أخوة الإسلام ومودته" أي: حاصلة ووقع في حديث ابن عباس ولكن أخوة الإسلام أفضل ـ وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء بلفظ "ولكن خلة الإسلام أفضل" وفيه إشكال فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل المراد أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة لأن رجحان أبي بكر عرف من غير ذلك وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره والله أعلم"أ. هـ1. 4- وروى الشيخان من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" فقلت من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت ثم من؟ قال: " ثم عمر بن الخطاب" فعد رجالاً2. هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم وفيه دلالة بينة لأهل السنة في تفضيل أبي بكر، ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين"3. فكون أبي بكر أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه له فضلاً كثيراً وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. 5- ورويا أيضاً: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة

_ 1ـ فتح الباري 7/13. 2ـ صحيح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1857- 1858. 3ـ انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/153-154.

فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث" قال الناس ـ سبحان الله ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما" 1. وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أنهما يؤمنان بذلك ولم يكونا في القوم عند حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. قال الإمام النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن به وأبو بكر وعمر" قال العلماء: "إنما قال ذلك: ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان الله وكمال قدرته ففيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما"أ. هـ2. وقال الحافظ: "ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما"أ. هـ3. 6- روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنهما وهو حديث السقيفة الطويل وفيه أن أبا بكر قال للأنصار: "ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساناً، فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس ... الحديث"4. فعمر رضي الله عنه بين بأن الصديق أفضل الناس وخيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قدموه في الخلافة لأنه الأحق والأفضل.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1458. 2ـ شرح النووي 15/156. 3ـ فتح الباري 7/27. 4ـ صحيح البخاري 2/291.

7- وروى أيضاً: بإسناده إلى محمد بن الحنيفية قال: قلت: لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: عمر وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.1 قال الحافظ: "قوله وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" في رواية محمد بن سوقة "ثم عجلت للحداثة فقلت: ثم أنتم يا أبت فقال: أبوك رجل من المسلمين" زاد في رواية الحسن بن محمد "لي ما لهم وعليّ ما عليهم" وهذا قاله عليّ تواضعاً مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان: وأما خشية محمد بن الحنفية أن يقول عثمان فلأن محمداً كان يعتقد أن أباه أفضل فخشي أن علياً يقول عثمان على سبيل التواضع منه والهضم لنفسه فيضطرب حال اعتقاده ولا سيما وهو في سنن الحداثة كما أشار إليه في الرواية المذكورة"2. 8- وروى البزار ـ كما في مجمع الزوائد ـ عن شقيق قال: قيل لعلي ألا تستخلف قال ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف عليكم وإن يرد الله ـ تبارك وتعالى ـ بالناس خيراً فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"3. 9- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أنه قال لأبي جحيفة: يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها قال: قلت: بلى ولم أكن أرى أن أحداً أفضل منه قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر وبعدهما آخر ثالث ولم يسمه4. فقد صرح الإمام عليّ رضي الله عنه بأن الصديق خير الناس وأفضلهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/291. 2ـ فتح الباري 7/33. 3ـ مجمع الزوائد 9/47 ثم قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن الحارث وهو ثقة. 4ـ مسند الإمام أحمد 1/106.

10- وروى البخاري بإسناده إلى عمار بن ياسر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر"1. وهذا الحديث تضمن منقبة عظيمة وفضيلة خاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث لم يسبقه أحد من الرجال الأحرار للدخول في الإسلام فدل هذا على أنه أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم. 11- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم"2. هذا الحديث دل على أن أفضلية أبي بكر كانت ثابتة في أيامه عليه الصلاة والسلام وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ رحمه الله تعالى: "قوله: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: نقول: فلان خير من فلان" وفي رواية عبيد الله بن عمر في مناقب عثمان "كنا لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم"3 وقوله: "لا نعدل بأبي بكر" أي: لا نجعل له مثلاً ... ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمر: "كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان"4 زاد الطبراني في رواية "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره" ... وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل النسة"5.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/289. 2ـ صحيح البخاري 2/289. 3ـ المصدر نفسه 2/297. 4ـ سنن أبي داود 2/511. 5ـ فتح الباري 7/16.

وقال أبو سليمان الخطابي بعد حديث ابن عمر: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم فيه، وكان عليّ رضوان الله عليه في زمان رسول الله حديث السن ولم يرد ابن عمر الإزراء بعلي ـ رضي الله عنه ـ ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة"أ. هـ1. فقول ابن عمر: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم" لا يلزم منه أنهم تركوا التفاضل حينذاك ولا يلزم منه أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل علي على من سواه"2. فالحديث دل على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة: 12- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم فقد غامر فسلم" وقال: يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً" ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر3 حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" مرتين فما أوذي بعدها4. هذا

_ 1ـ معالم السنن 4/302. 2ـ انظر: فتح الباري 7/17. 3ـ قال في النهاية 4/342: "فتمعر وجهه" أي: تغير وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون"أهـ. 4ـ صحيح البخاري 2/289-290.

الحديث فيه بيان فضل أبي بكر، فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على الفاروق رضي الله عنه حين حصل بينه وبين الصديق شيء فشعر الصديق أنه المخطئ على عمر فطلب من الصديق أن يعفو عنه ويغفر له فأبى عليه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما حصل فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الفاروق ندم على عدم مغفرته للصديق فأخذ في البحث عنه فلم يجده في منزله فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده عنده فما أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد رأى تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضباً حتى أشفق الصديق من ذلك لئلا يصيب الفاروق من ذلك شيء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي بدأ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضله ومناقبه ومنزلته عنده فقال لهم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي" مرتين فما أوذي بعدها لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه لأبي بكر رضي الله عنه. قال الحافظ: "وفي الحديث من الفوائد فضل أبي بكر على جميع الصحابة وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه وفيه جواز مدح المرء في وجهه ومحله إذا أمن عليه الافتتان والاغترار"أ. هـ1. 13- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:" فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرء إلا دخل الجنة" 2. هذا الحديث اشتمل على فضائل ظاهرة للصديق رضي الله عنه، فإنه كان سباقاً إلى فعل الخيرات التي تقرب العبد من الجنة وتزحزحه من النار. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً" قال أبو بكر أنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم

_ 1ـ فتح الباري 7/26. 2ـ صحيح مسلم 4/1857.

"ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة" قال القاضي معناه: "دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال وإلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى"1. 14- وروى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء " قال موسى: فقلت لسالم: أذكر عبد الله "من جر إزاره" قال: "لم أسمعه إلا ثوبه"2 هذا الحديث تضمن فضيلة لأبي بكر وهو قوله له صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" حيث شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بما ينافي ما يكره رضي الله عنه وأرضاه. 15- وروى أيضاً: بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" 3 دل هذا الحديث على منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه وهي "وصديق" فقد لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب الشريف ومنزلة الصديقين بينها الله تعالى بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 4. فقد بين تعالى أن الصديقين في المرتبة الثانية بعد الأنبياء وفي مقدمتهم الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه. 16- وروى أيضاً: بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من

_ 1ـ شرح النووي 15/156. 2ـ صحيح البخاري 2/290. 3ـ صحيح البخاري 2/293. 4ـ سورة النساء آية/69.

خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب1. فهذا الحديث تضمن فضيلة الشيخين معاً والغرض منه دلالته على منقبة لأبي بكر الصديق وهي فضيلة على عمر وغيره لأنه كان المقدم عند النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في ذكره عنده عليه الصلاة والسلام. 17- وروى البخاري أيضاً: بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقلت: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج ووجه ههنا فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها2 وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فأقبلت حتى قلت: لأبي بكر ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يريد أخاه يأت به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله فسلمت

_ 1ـ صحيح البخاري 2/293. 2ـ القف: قال في النهاية 4/91: "قف البئر: هو الدكة التي تجعل حولها وأصل القف ما غلظ من الأرض وارتفع".

عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به فجاء إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فجئته فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر قال شريك: قال سعيد بن المسيب فأولتها قبورهم"1. هذا الحديث فيه التصريح بفضل الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ودل على أن أبا بكر أفضلهم لسبقه بالبشارة بالجنة ولجلوسه على يمين المصطفى عليه الصلاة والسلام. 18- وروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب ـ يعني الجنة ـ يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان " فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" 2. هذا الحديث دل على فضيلة ومنقبة عالية للصديق رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" ورجاء النبي صلى الله عليه وسلم واقع محقق

_ 1ـ صحيح البخاري 2/292. 2ـ المصدر نفسه 2/290.

وفي هذا دلالة واضحة على فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة ابن القيم موضحاً منقبة الصديق في هذا الحديث: "لما سمت همة الصديق إلى تكميل مراتب الإيمان وطمعت نفسه أن يدعى من تلك الأبواب كلها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحصل ذلك لأحد من الناس ليسعى في العمل الذي ينال به ذلك فخبره بحصوله وبشره بأنه من أهله وكأنه قال: هل تكمل لأحد هذه المراتب فيدعى يوم القيامة من أبوابها كلها؟ فلله ما أعلى هذه الهمة وأكبر هذه النفس"أ. هـ1. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قوله: "فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة" زاد في الصيام "فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها" وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه ... قوله: "وأرجو أن تكون منهم" قال العلماء: الرجاء من الله ومن نبيه واقع وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه "قال: أجل وأنت هو يا أبا بكر"أ. هـ2. 19- ومن مناقبه رضي الله عنه ما تميز به فوق ما حازه من الفضائل الكثيرة قيامه بالدعوة إلى الله تعالى في بداية الإسلام في وقت لم يجرؤ فيه أحد سواه على الدعوة وقد أسلم على يديه كثير من الصحابة رضي الله عنهم وكان لهم قدم صدق في الإسلام ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله،

_ 1ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص/75-76. 2ـ فتح الباري 7/28-29.

والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين1. وبعد أن تولى الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سعى جاهداً في إرساء العقيدة الإسلامية في نفوس الناس وعقد الألوية لمحاربة المرتدين وإرجاعهم إلى دين الإسلام حيث ارتد كثير من الناس عن هذا الدين الحنيف، وبعضهم أراد أن يمنع الزكاة، والبعض الآخر ادعى النبوة فعمت فتنة الردة كثيراً من البلاد2. روى البيهقي رحمه الله بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة ثم قيل له: مه يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب3 قبض النبي صل قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام4. فقد وفق الله الصديق أن وقف موقفاً عظيماً يذكر به في الآخرين أمام تلك الردة التي عمت معظم البلاد وأصر إلا على قتالهم حتى يرجعوا إلى الإسلام وكان منفرداً بهذا الرأي حتى شرح الله صدر الفاروق لذلك وعرف أنه الحق فبارك الله خطاه حتى رفع راية التوحيد في كل البلاد التي مرض أهلها بالردة،

_ 1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/259. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/249 وما بعدها وانظر: الكامل لابن الأثير 2/342، البداية والنهاية 6/350. 3ـ ذي خشب: واد على مسيرة ليلة من المدينة "معجم البلدان" 2/372. 4ـ الاعتقاد للبيهقي ص/174-175.

ثم شرع بعد ذلك في نشر الإسلام في البلدان التي لم يصلها نور الإسلام وسعادته حتى لقي ربه تبارك وتعالى. 20- ومما تميز به عن غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو بالسنح1 فأصاب الناس الذهول والحيرة والاضطراب أما الصديق فقد رزقه الله قوة النفس والثبات فكان أصبر الصحابة وأثبتهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء: "فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2 وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3 قال فنشج الناس يبكون ... " الحديث4. وما إن سمع الصحابة رضي الله عنهم هذه الخطبة من صديق هذه الأمة إلا ورجعوا إلى الرشد والصواب وانكشف ما بهم من الحيرة والذهول ولذلك كان أفضلهم على الإطلاق. تلك هي طائفة من الأحاديث التي اشتملت على المناقب التي دلت على أن الصديق حاز الأفضلية على سائر الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما دلالة الإجماع على أفضلية الصديق رضي الله عنه:

_ 1ـ السنح: إحدى محال المدينة كان بها منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان بين السنح ومنزل النبي صلى الله عليه وسلم قدر ميل "انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي" 3/265. 2ـ سورة الزمر آية/30. 3ـ سورة آل عمران آية/144. 4ـ صحيح البخاري 2/291.

فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ ثم سائر العشرة ثم باقي أهل بدر، ثم باقي أهل أحد، ثم باقي أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة هكذا إجماع أهل الحق، فأبو بكر أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم لا ينازع في ذلك إلا زائغ1 وقد نقل الإجماع على أن أفضل الناس بعد الأنبياء هو أبو بكر الصديق جماعة من أهل العلم منهم: - أبو طالب العشاري2 والإمام الشافعي والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر والبيهقي: فقد روى أبو طالب العشاري بإسناده إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وطعن على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم3. - وقال الإمام الشافعي فيما رواه عنه البيهقي بإسناده: "ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة وإنما اختلف من اختلف منهم في عليّ وعثمان ونحن لا نخطئ واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا"4. - وقال الحافظ ابن حجر: "ونقل البيهقي في "الاعتقاد" بسنده إلى

_ 1ـ انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/312، أصول الدين لأبي منصور البغدادي ص/304، الفرق بين الفرق ص/359، تاريخ الخلفاء ص/44. 2ـ هو محمد بن علي بن الفتح المعروف بابن العشاري روى عن الدارقطني وطبقته وهو فقيه حنبلي، ولد سنة ستين وثلاثمائة، وتوفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة " انظر ترجمته في طبقات الحنابلة" 2/191-194، شذرات الذهب 3/289. 3ـ فضائل أبي بكر للعشاري ص/8. 4ـ كتاب الاعتقاد ص/192.

أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم عليّ"1. - وقال النووي رحمه الله تعالى: "اتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر"2. - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"3. - وقال ابن حجر الهيثمي: "واعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر رضي الله عنهما"4. - وهؤلاء الأعلام الذين نقلوا هذا الإجماع إنما هو بناء على ما قاله أئمة أهل السنة والجماعة فقد قال الإمام أبو حنيفة كما في شرح "الفقه الأكبر": ونقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين"أ. هـ5. - وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: لما سأله الرشيد عن منزلة الشيخين من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته ـ ثم قال ـ وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم يقضي بأنهما أحق من غيرهما وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم"6 ومعلوم أن أبا بكر كانت منزلته

_ 1ـ فتح الباري 7/17 وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/192. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/148. 3ـ الوصية الكبرى ص/32. 4ـ الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص/57. 5ـ ص/108. 6ـ مجموع الفتاوى 4/403.

عند النبي صلى الله عليه وسلم أعلا منزلة وكان أفضل الصحابة وكان الصحابة يعتقدون أنه خير الناس والنبي يعلم ذلك ويقرهم عليه كما تقدم قريباً في حديث ابن عمر. - وروى الإمام البيهقي مسنداً إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: "أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم". وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "اضطر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فلم يجدوا تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر من أجل ذلك استعملوه على رقاب الناس"1. وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: "وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون"2. - وقال عبدوس بن مالك العطار: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق"3. - وقال أبو الحسن الأشعري مبيناً مذهب أهل السنة وعقيدتهم في السلف: "ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله ـ سبحانه ـ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ... ويقدمون أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم4. وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: "وأفضل أمته صلى الله عليه وسلم: أبو بكر

_ 1ـ هذان القولان أوردهما عن الشافعي الإمام البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" 1/433-434. 2ـ طبقات الحنابلة 1/30. 3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 1/160. 4ـ مقالات الإسلاميين 1/348.

الصديق ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم"1. - وقال الإمام الذهبي: "أفضل الأمة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤنسه في الغار وصديقه الأكبر ... عبد الله بن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي"أ. هـ2. - وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام أبو بكر عبد الله بن عثمان أبو قحافة التيمي، ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين"أ. هـ3. تلك هي عقيدة أهل السنة والجماعة في أبي بكر الصديق "وهي الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم وأعظمهم منزلة عند الله ـ عز وجل ـ بعد النبيين والمرسلين أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة رضي الله عنه"4. وهذا هو المذهب الحق الذي يلزم كل مسلم أن يعتقده ويلتزمه ويتمسك به. وبالله التوفيق.

_ 1ـ لمعة الاعتقاد ص/25. 2ـ تذكرة الحفاظ 1/2. 3ـ الباعث الحثيث ص/183. 4ـ انظر: كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة" لعبيد لله محمد بن بطة العكبري" ص/257، شرح الطحاوية ص/528.

المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... المبحث الثاني: فضل عمر الفاروق رضي الله عنه إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. ونسبه رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة1. وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وبإسلامه رضي الله عنه ظهر دين الإسلام وعلت كلمة الإيمان وكان عند البعثة النبوية شديداً على المسلمين، ولما دخل في الإسلام كان إسلامه فتحاً على المسلمين وفرجاً لهم من الضيق2. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن كان إسلام عمر لفتحاً، وهجرته لنصراً، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى ودعونا فصلينا"3.

_ 1ـ الطبقات الكبرى 3/265، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/195، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/5، الإصابة 2/511، فتح الباري 7/44، وانظر مجمع الزوائد 9/60، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/108، لوامع الأنوار البهية 2/317. 2ـ الإصابة 2/511. 3ـ انظر الطبقات لابن سعد 3/270، مجمع الزوائد 9/62 ثم قال الهيثمي: رواه الطبراني وفي رواية

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب"1. وقد حقق الله فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له قبل أن يسلم أن يعز به الإسلام فقد روى الترمذي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال: وكان أحبهما إليه عمر2. وأخرج ابن سعد بسند حسن عن سعيد بن المسيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب، أو أبا جهل بن هشام قال: "اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك" فشد دينه بعمر بن الخطاب3. وكان يكنى رضي الله عنه بأبي حفص. قال الحافظ: أما كنيته فجاء في السيرة لابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها وكانت حفصة أكبر أولاده، وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق. فقيل: أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه عن طريق ابن عباس عن عمر ورواه ابن سعد من حديث عائشة4. وقيل: أهل الكتاب أخرجه ابن سعد عن الزهري5 وقيل: جبريل رواه البغوي6. وأحسنها وأقربها أن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بالفاروق لما رواه ابن سعد بإسناده إلى أبي عمرو ذكوان قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق؟ قالت: النبي

_ = ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين "ورجاله رجال الصحيح"، الإصابة 2/511 بمعناه. 1ـ مجمع الزوائد 9/63 ثم قال عقبه الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. 2ـ سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 10/167-168 ثم قال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر. 3ـ الطبقات الكبرى 3/367، وانظر الإصابة 2/511-512. 4ـ الطبقات الكبرى 3/271. 5ـ المصدر السابق 3/270. 6ـ فتح الباري 7/44.

عليه السلام1. فهو رضي الله عنه الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدث الملهم الصادق الظن وهو سيد هذه الأمة بعد الصديق، والخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة المحمدية "اتفق العلماء على أنه شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه ومنها: 1- ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار. 2- ورويا أيضاً: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً" فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله"3. هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤيته قصراً في الجنة للفاروق رضي الله عنه وهذا يدل على تكريمه وعلو منزلته رضي الله عنه.

_ 1ـ الطبقات الكبرى 13/271. 2ـ تاريخ عمر لابن الجوزي ص/108. 3ـ صحيح البخاري 2/293، صحيح مسلم 4/1862-1863.

قال ابن بطال: "فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه قال: وبكاء عمر يحتمل أن يكون سروراً، ويحتمل أن يكون تشوقاً أو خشوعاً ... " وقال الحافظ: "وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة وفيه فضيلة ظاهرة لعمر"أ. هـ1. 3- وروى البخاري بإسناده إلى حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم شربت ـ يعني اللبن ـ حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري أو أظفاري، ثم ناولت عمر" فقالوا: فما أولته قال: "العلم"2. "وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة ـ ومنقبة لعمر رضي الله عنه ـ وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره ... والمراد بالعلم ـ في الحديث ـ سياسة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انتشاراً3. وبهذا اتضحت المنقبة التي اشتمل عليها الحديث للفاروق رضي الله عنه.

_ 1ـ فتح الباري 7/75. 2ـ صحيح البخاري 2/294، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه 4/1859. 3ـ انظر: فتح الباري 7/46.

4- وروى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا على وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي على عمر وعليه قميص اجتره" قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدين" 1. هذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه وهي قوله: "وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره" إلخ الحديث. قال الحافظ: "السائل عن ذلك أبو بكر ... وقد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصديق والجواب عنه تخصيص أبي بكر من عموم قوله عرض على الناس فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر وأن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبع فلعله كان كذلك إلا أن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها والله أعلم"أ. هـ2. 5- ورويا أيضاً: من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً 3 قط إلا

_ 1ـ صحيح البخاري 2/295، صحيح مسلم 4/1859. 2ـ فتح الباري 7/51. 3ـ الفج: الطريق الواسع ويطلق أيضاً على المكان المنخرق بين الجبلين النهاية 3/412، شرح النووي 15/165.

سلك فجاً آخر" 1. هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه منه. قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: "إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه" وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض. وقال النووي: "هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل ما يحبه الشيطان" قال الحافظ: "والأول أولى"2. 6- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر"3. هذا الحديث تضمن منقبة جليلة لعمر رضي الله عنه لما كان من القوة والجلد في أمر الله قال الحافظ: "وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود: "كان إسلام

_ 1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1863-1864. 2ـ فتح الباري 7/47-48، شرح النووي 15/165-167. 3ـ صحيح البخاري 2/294.

عمر عزاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر"1. 7- روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب 2 فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له 3، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن" 4. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً ... الحديث ومعنى: "استحالت" صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأما "العبقري" فهو السيد وقيل: الذي ليس فوقه شيء ومعنى "ضرب الناس بعطن" أي أرووا إبلهم ثم آووها إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح وهذا المنام رآه النبي صلى الله عليه وسلم مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام رغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة ولما حصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لطولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين

_ 1ـ فتح الباري 7/48. 2ـ القليب: هي البئر غير المطوية، شرح النووي 15/158. 3ـ والله يغفر له: هذه العبارة ليس فيها تنقيص لأبي بكر ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة "انظر شرح النووي على صحيح مسلم" 15/161، فتح الباري 7/39. 4ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1862.

وكثرت الفتوحات والغنائم ... ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه " أي: لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " حتى ضرب الناس بعطن" قال القاضي عياض: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر "وضرب الناس بعطن" لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما"1. 8- وروى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر.2. هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد "بالمحدث". فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة ... بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس"3. قال الحافظ: "والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات"4.

_ 1ـ انظر: شرح النووي 15/161-162. 2ـ صحيح البخاري 2/295، ورواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها 4/1864. 3ـ فتح الباري 7/50 وانظر: شرح النووي 15/166. 4ـ فتح الباري 7/51.

وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علماً وإيماناً من عمر ... وإن كان عمر ـ رضي الله عنه ـ محدثاً كما جاء في الحديث الصحيح ... فهو رضي الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولكن مزية الصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول وعلماً وإيماناً بما جاء به، درجته فوق درجته فلهذا كان الصديق أفضل الأمة صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو معلم لعمر ومؤدب للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب كما كان أبو بكر معلماً لعمر ومؤدباً له حيث قال له: فأخبرك أنك تدخله هذا العام؟ قال: لا قال: إنك آتيه ومطوف. فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعى في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به، فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون، بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صادق لا بد أن يقع ما أخبر به ويتحقق"1. وقال العلامة ابن القيم: "ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة

_ 1ـ دقائق التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محمد السيد الجليند 4/306-307.

البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير"1. 9- وروى أبو عبد الله الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه والإمام أحمد في المسند بإسنادهم إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" 2 هذا الحديث فيه إبانة لفضل الفاروق رضي الله عنه حيث جعل الله تعالى فيه من أوصاف الأنبياء وخلال المرسلين ما يجعله لأن يكون أهلاً للنبوة لو كان هناك نبوة بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى ختم النبوة بمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة. 10- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم3. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تؤخذ من قول أنس بن مالك فإنه قرن الصديق وعمر بالنبي صلى الله عليه وسلم في العمل ولا يعني هذا أن أنساً رضي الله عنه يريد أن يكون في درجة النبي صلى الله عليه وسلم فالدرجات متفاوتة وإنما يريد ويرجو أن يكون في الجنة دار الثواب وبعيداً عن دار العقاب وكل مؤمن يحبهم يرجو ذلك من الله تعالى. 11- ومن أجل مناقبه رضي الله عنه وأعظمها موافقته للقرآن في وقائع

_ 1ـ مفتاح دار السعادة 1/255. 2ـ المستدرك 3/85 وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 10/173، المسند 4/154 وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي وقال عقبه: "حسن" وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 327. 3ـ صحيح البخاري 2/295.

متعددة بمعنى أنه كان يرى الرأي فيتنزل القرآن موافقاً لما رآه رضي الله عنه وأرضاه. فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وآية الحجاب قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب1 واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت الآية2. وعند مسلم بلفظ: "وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر"3. ووجه موافقته في أسارى بدر أنه لما جيء بهم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس فيهم فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله أضرب أعناقهم فأعرض عنه فقام أبو بكر فقال: نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فعفا عنهم فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ 4 فِي الأَرْضِ} إلخ الآيات الثلاث وكانت موافقة لرأي عمر رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى عمر رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال: فدعي عمر

_ 1ـ هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية رقم/53 من سورة الأحزاب. 2ـ صحيح البخاري مع الفتح 1/504. 3ـ صحيح مسلم 4/1865. 4ـ انظر جامع البيان للطبري 10/43-44، تفسير ابن كثير 3/345، لباب النقول في أسباب النزول ص/114.

رضي الله عنه فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في المائدة فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فلما بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: فقال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا"1. وروى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله" فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} "وسأزيد على سبعين" قال: إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله ـ عز وجل ـ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 2. فهذه الموافقات كلها مناقب عالية للفاروق رضي الله عنه فقد رأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه في الغيرة: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} 3. فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن

_ 1ـ المسند 1/53، سنن أبي داود 2/291، المستدرك للحاكم 4/143 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ صحيح البخاري مع الفتح 8/333، صحيح مسلم 4/1865 والآيتان في الحديث من سورة التوبة 80، 84. 3ـ سورة التحريم آية/4.

بموافقته، وقد رأى تحريم الخمر فكان يقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى عدم الصلاة على عبد الله بن أبي فإنه فلما توفي ابن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فكانت موافقة لما كان يراه عمر من عدم الصلاة على رأس النفاق فلله ما أعظم هذا الفضل وما أعلا هذه المكانة التي تبوأها الفاروق رضي الله عنه فلقد رزقه الله السداد في الرأي والإصابة في القول فهو رضي الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو الذي أعز الله به دين الإسلام فرضي الله عنه وأرضاه. 12- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه شهيد وتحقق إخباره عليه الصلاة والسلام فقد مات شهيداً على يد الظالم أبي لؤلؤة المجوسي فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ومعه أبي بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه برجله وقال: "اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان" 1. وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدـ"2. قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "ولقد أفاد هذا الحديث فائدة عظيمة وهي أن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير شهداء كلهم وأن أبا بكر صديق ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي عظيم وقد جمعت هؤلاء الشهداء الشهادة وإن اختلفت أسبابها وتباينت وجوهها ولكن لفهم شرف هذه الصحبة واجتماعهم جملة

_ 1ـ صحيح البخاري 2/294-295. 2ـ سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 10/186-187.

وأبان جليل مقدارهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم للجبل بالهدوء والسكون لأجل شرف من عليه فيا معشر الطالبين لعلم الدين أبعد هذا بيان لمن كان له قلب فما لكم تدخلون بينهم وتتكلمون فيما وقع لهم، وترجحون وتقدمون وتؤخرون وتحبون وتبغضون كأنكم لا تعلمون مقاديركم ولا تلزمون مواضعكم حتى تترقوا بالجهل والفضول إلى عثمان وعلي وطلحة والزبير فتتكلمون بالحمية وتتعصبون {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} 1 وقد رجف الجبل بالنبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وقد رجف بهؤلاء الأعيان، وقد كان ذلك بمكة وبحراء وقد كان بالمدينة وأحد وأنبأنا الله بالفضل مرتين وأكده وعضد مقدارهم ومهده في جبلين"أ. هـ2. 13- ومن مناقبه العظيمة رضي الله عنه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فعمر رضي الله عنه من أهل الجنة قطعاً. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت له فإذا هو عمر فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: "افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فإذا عثمان فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحمد الله ثم قال: الله المستعان3. 14- ومن مناقبه الحميدة رضي الله عنه ما جاء من الثناء عليه من فضلاء الصحابة حياً وميتاً ورضا الجميع عنه ومن ذلك: ما روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه:

_ 1ـ سورة الطور آية/15. 2ـ عارضة الأحوذي 13/153-154. 3ـ صحيح البخاري 2/296.

يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله ـ تعالى ـ منّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله ـ جل ذكره ـ منّ به عليّ. وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع1 الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله ـ عز وجل ـ قبل أن أراه"2. وفي هذا بيان فضل عظيم لعمر رضي الله عنه يؤخذ من قول ابن عباس: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن له بهذا فضلاً عظيماً حيث إنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارقه وهو عنه راض وكذلك كان مع أبي بكر وبقية الصحابة جميعاً ومع ما كان عليه من هذه السيرة الحسنة فإنه رضي الله عنه لحق بالرفيق الأعلى والخوف غالب عليه من خشية التقصير في حقوق الرعية وهكذا المؤمن كامل الإيمان يجمع بين الخوف والإحسان. وروى الشيخان من حديث ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه3 الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني4 إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر

_ 1ـ طلاع الأرض: أي ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسبل "النهاية في غريب الحديث" 3/133. 2ـ صحيح البخاري 2/295-296. 3ـ فتكنفه الناس: أي أحاطوا به من جانبيه "انظر النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/205. 4ـ فلم يرعني: أي: لم يفزعني والمراد أنه رآه يغتة "فتح الباري" 7/48.

ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما1. هذا الحديث دل على فضيلة أبي بكر وعمر وشهادة علي لهما وحسن ثنائه عليهما وصدق ما كان يظنه بعمر قبل وفاته رضي الله عنهم أجمعين. تلك طائفة من الأحاديث النبوية والآثار التي تضمنت مناقب عالية للفاروق وكلها أدلة قطعية يقينية دلت على أن الفاروف أفضل الناس بعد أبي بكر الصديق وهو ما تعتقده الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وهو ما يجب على المسلم اعتقاده في ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1858-1859.

المبحث الثالث: فضل ذي النورين "عثمان بن عفان رضي الله عنه"

المبحث الثالث: فضل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه مما هو معلوم عند جمهور أهل السنة والجماعة أن أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر يكنى أبا عمرو ويقال أبا عبد الله1 يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت فالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء2 وأمه رضي الله عنها أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب وهي شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إنهما ولدا توأما ... فكان ابن بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن خال والدته وقد أسلمت أمه رضي الله عنه وماتت على الإسلام ولها صحبة رضي الله عنها وأما والده فإنه مات في الجاهلية3. فعثمان رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم وكان رضي الله عنه من السابقين

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/53 وما بعدها، المستدرك للحاكم 3/96، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/419-420، الكامل لابن الأثير 3/184، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/69-84، البداية والنهاية لابن كثير 7/217، الإصابة لابن حجر رحمه الله تعالى 2/455، فتح الباري 7/54، مجمع الزوائد 9/79، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/147. 2ـ فتح الباري 7/54. 3ـ نفس المصدر 7/55، الإصابة 4/222.

الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره فيها، فهو معدود فيمن شهدها فلما توفيت زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم ولذلك لقب بذي النورين لأنه تزوج ابنتي نبي واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه، وشهد الخندق والحديبية وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر، وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك وجهز جيش العسرة، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض وصحب أبا بكر فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض، وصحب الفاروق فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض، وكان رضي الله عنه ممن جمع بين العلم والعمل، والصيام والتهجد والإتقان والجهاد في سبيل الله وصلة الأرحام، وكان من الصادقين القائمين الصائمين المنفقين في سبيل الله تعالى1. فهو رضي الله عنه أفضل الناس بعد الشيخين رضي الله عنهما وهذا هو معتقد الجمهور من أهل السنة والجماعة قال إسحاق بن راهوية رحمه الله تعالى: "لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعد أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من عليّ"2. وقد ذهب بعض أهل السنة من أهل الكوفة إلى تفضيل عليّ على عثمان رضي الله عنهما وذهب بعض أهل المدينة إلى التوقف في أمرهما رضي الله عنهما،

_ 1ـ انظر تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي 1/8-10، البداية والنهاية 7/217-219، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/328-334. 2ـ جامع بيان العلم وفضله لابن البر 2/226.

ثم ذكر أهل العلم رجوع هؤلاء جميعاً إلى مذهب جمهور أهل السنة والجماعة القائل بتقديم عثمان على عليّ رضي الله عنهما وصار القول واحداً في أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة: قال الإمام النووي: "وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم عليّ على عثمان والصحيح المشهور تقديم عثمان"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن سفيان الثوري، وطائفة من أهل الكوفة رجحوا علياً على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعليّ، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على عليّ، كما هو مذهب سائر الأئمة، كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام2. وقال الحافظ ابن كثير: "والعجب أنه قد ذهب بعض أهل الكوفة من أهل السنة إلى تقديم عليّ على عثمان ويحكى عن سفيان الثورة لكن يقال: إنه رجع عنه ونقل مثله عن وكيع بن الجراح ونصره ابن خزيمة والخطابي وهو ضعيف مردود"3. وذكر أبو منصور البغدادي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة والحسين بن الفضل البجلي أنهما يقولان بتفضيل عليّ رضي الله عنه على عثمان"4. ونقول إن هذا القول ضعيف مردود لمخالفته ما أطبق عليه أهل السنة والجماعة من تقديم عثمان على عليّ رضي الله عنهما.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/148. 2ـ مجموع الفتاوى 4/526. 3ـ الباعث الحثيث ص/183. 4ـ أصول الدين لأبي منصور البغدادي ص/304.

وقال أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني: "اختلف قوم من أهل بغداد فقال قوم: عثمان أفضل وقال قوم: عليّ أفضل فتحاكموا إليّ فأمسكت وقلت: الإمساك خير، ثم لم أر لديني السكوت وقلت للذي استفتاني: ارجع إليهم وقل لهم: أبو الحسن يقول: عثمان أفضل من عليّ باتفاق جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قول أهل السنة وهو أول عقد يحل في الرفض. قال الذهبي: قلت ليس تفضيل عليّ برفض ولا هو ببدعة بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين فكل من عثمان وعليّ ذو فضل وسابقة وجهاد وهما متقاربان في العلم والجلالة ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام عليّ وإليه نذهب"1. وقال غير واحد من العلماء كأيوب السختياني والدارقطني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار"2. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح"3. وإذ قد تبين لنا أن بعض أهل السنة القائلين بتقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما والقائلين بالتوقف في أمرهما قد رجعوا إلى قول الجمهور منهم من القول بتقديم عثمان على عليّ في الفضل تبين أن هذه المسألة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة ولا عبرة بعد ذلك بأي قول يخالف هذا المعتقد الصحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وسائر أئمة السنة على تقديم

_ 1ـ سير أعلام النبلاء 16/457. 2ـ ذكره شيخ الإسلام في كتابه منهاج السنة 1/166، 4/202، مجموع الفتاوى 4/428، البداية والنهاية 8/13. 3ـ البداية والنهاية 8/13، الباعث الحثيث ص/183.

عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار، وأمَّا ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر، أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديماً عاماً وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي"1. وقد وردت أحاديث كثيرة في السنة تضمنت ذكر فضائله رضي الله عنه وبعضها دل على أنه أفضل الخلق بعد الشيخين رضي الله عنهما ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الإمام البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"2. هذا الحديث دل على أن عثمان رضي الله عنه أفضل الناس بعد أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وقد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم، ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص ويؤيده ما رواه البزار عن ابن مسعود قال كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب: رجاله موثقون: وهو محمول على أن ذلك قاله ابن مسعود بعد قتل عمر وقد حمل أحمد حديث ابن عمر على ما يتعلق بالترتيب في التفضيل واحتج في التربيع بعلي بحديث سفينة مرفوعاً الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً

_ 1ـ منهاج السنة 1/166. 2ـ صحيح البخاري 2/297.

"أخرجه أصحاب السنن1 وصححه ابن حبان وغيره وقال الكرماني: لا حجة في قوله: كنا نترك لأن الأصوليين اختلفوا في صيغة كنا نفعل لا في صيغة كنا لا نفعل لتصور تقرير الرسول في الأول دون الثاني وعلى تقدير أن يكون حجة فما هو من العمليات حتى يكفي فيه الظن ولو سلمنا فقد عارضه ما هو أقوى منه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد أن ذلك كان في بعض أزمنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع ذلك أن يظهر بعد ذلك لهم ... والله أعلم"2. 2- وروى الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط فجاء رجل يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه" فإذا عثمان بن عفان"3. هذا الحديث تضمن فضيلة هؤلاء الثلاثة المذكورين وهم أبو بكر وعمر وعثمان "وأنهم من أهل الجنة ـ كما تضمن ـ فضيلة لأبي موسى وفيه دلالة على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخبار بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى"4. وروى البخاري بإسناده إلى أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر أشرف عليهم، وقال أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة" فحفرتها

_ 1ـ انظر سنن أبي داود 2/515، سنن الترمذي 3/341. 2ـ فتح الباري 7/58. 3ـ صحيح البخاري 2/296، صحيح مسلم 4/1867. 4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/170-171.

ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزته قال: فصدقوه بما قال"1. هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين لذي النورين رضي الله عنه شراؤه رضي الله عنه بئر رومة وتجهيزه جيش العسرة الذي خرج لغزوة تبوك وقد أخبر الذي لا ينطق عن الهوى أن جزاءه على ذلك أن يكون من أصحاب الجنة، وهاتان المنقبتان من أعلا مناقبه رضي الله عنه. وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن ابن بطال أنه قال عند هذا الحديث: هذا وهم من بعض رواته والمعروف أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها قال الحافظ: هو المشهور في الروايات فقد أخرجه الترمذي من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق فقال فيه: "هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن"2 لكن لا يتعين الوهم فقد روى البغوي في "الصحابة" من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة وكان يبيع منها القربة بمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تبيعنيها بعين في الجنة" فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له قال: "نعم" قال: قد جعلتها للمسلمين "وإن كانت أولا عيناً فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئراً ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه"3. 4- روى الترمذي رحمه الله بإسناده إلى ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي؟ قال: فجيء بهما كأنهما جملان، أو كأنهما حماران قال فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه "فتح الباري" 5/406-407. 2ـ سنن الترمذي 5/288. 3ـ فتح الباري 5/407-408.

ماء يستعذب غير بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة"؟ فاشتريتها من صلب مالي وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال فركضه برجله فقال: "اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" قالوا: اللهم نعم، قال: الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثاً" ثم قال الترمذي رحمه الله عقب الحديث "هذا حديث حسن قد روي من غير وجه عن عثمان"1. وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى روايات توضح مقدار المال الذي اشترى به عثمان رضي الله عنه بئر رومة والبقعة التي زيدت في توسعة المسجد أما بالنسبة لمقدار المال الذي اشترى به بئر رومة فقد أورد رواية أنه اشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم وهي من رواية بشير الأسلمي التي أخرجها البغوي في كتابه "الصحابة" وأنها كانت لرجل من بني غفار وقد تقدم ذكرها قريباً. وأما مقدار المال الذي اشترى به البقعة التي زيدت في المسجد فقال: "وزاد النسائي من رواية الأحنف بن قيس عن عثمان أنه اشتراها بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفاً"2.

_ 1ـ سنن الترمذي 5/290-291. 2ـ فتح الباري 5/408.

5- روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حباب السلمي قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها1 وأقتابها2 في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه ما على عثمان ما عمل بعد هذه" 3. 6- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الرحمن بن سمرة قال: "جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم" يرددها مراراً"4. قال العلامة ابن القيم ذاكراً صفة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك: "ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملات في سبيل الله فحمل رجال واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عيناً"5. فشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة في شرائه بئر رومة وتحبيسها على المسلمين

_ 1ـ جمع حلس: وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب. النهاية 1/423. 2ـ القتب: إكاف البعير، وقيل: هو الإكاف الصغير الذي على قدر سنام البعير "لسان العرب" 1/661، النهاية 4/11. 3ـ سنن الترمذي 5/289. 4ـ المسند 5/63، والترمذي في سنن 5/289، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". 5ـ زاد المعاد 3/527.

غنيهم وفقيرهم، وزيادته في المسجد، وتجهيزه جيش العسرة مع قوله صلى الله عليه وسلم "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" كل هذه الخصال المذكورة من أعظم مناقبه رضي الله عنه وقد ذكرها يوم كان محصوراً في داره من قبل الزائغين الذين خرجوا عليه بغية الفساد في الأرض وصدقه بها كبار الصحابة وفضلاؤهم الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم مثل سعد بن أبي وقاص وعلي والزبير وطلحة رضي الله عنهم أجمعين. 7- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه، أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه ـ قال محمد ـ ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت: عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش1 له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" 2. هذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وبيان أنه جليل القدر حتى عند الملائكة. كما دل الحديث أيضاً: على أن الحياء صفة حميدة، من صفات الملائكة. 8- وروى مسلم أيضاً: بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن

_ 1ـ قال ابن الأثير في النهاية 5/264 يقال هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرح به واستبشر وارتاح له وخف. 2ـ صحيح مسلم 4/1896.

على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط1 عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فقضيت إليه حاجتي ثم انصرف فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته" 2. وهذا الحديث كالذي قبله فيه بيان مكانة عثمان عند النبي صلى الله عليه وسلم وثناؤه عليه بأنه حيي وأنه عليه الصلاة والسلام اهتم بدخوله عليه واحتفل به وبين لعائشة رضي الله عنها العلة في ذلك. 9- وروى البخاري بإسناده إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة قلت إن لي إليك حاجة وهي نصيحة لك. قال: يا أيها المرء منك قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك فانصرفت فرجعت إليهما إذ جاء رسول عثمان فأتيته فقال ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله ـ سبحانه ـ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهاجرت الهجرتين وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لا ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها قال: أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين ـ كما قلت ـ وصحبت

_ 1ـ المرط: هو كساء وربما كان من خز أو غيره "النهابة لابن الأثير" 4/319. 2ـ صحيح مسلم 4/1866-1876.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثله ثم عمر مثله، ثم استخلفت أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله ثم دعا علياً فأمره أن يجلده فجلده ثمانين"1. هذا الحديث اشتمل على مناقب ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وهي أنه كان ممن استجاب لله والرسول وآمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق الإيمان، وهاجر الهجرتين وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته ومات عليه الصلاة والسلام وهو عنه راض، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر كذلك وتوفيا رضي الله عنهما وهما عنه راضيان، ولما طلب منه إقامة الحد على أخيه الوليد فما أن ثبت لديه ما يوجب ذلك إلا وأمر علياً بإقامة الحد عليه وهذا فيه دلالة على مراعاته للحق والأخذ به عند ظهوره وفي هذا منقبة من مناقبه رضي الله عنه. 10- روى الإمام أحمد بإسناده إلى سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان رضي الله عنه من القصر وهو محصور فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء2 إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: "اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وأنا معه فانتشد له رجال قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة قال: "هذه يدي وهذه يد عثمان ـ رضي الله عنه" فبايع لي فانتشد له رجال"3. هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين لذي النورين رضي الله عنه: الأولى: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت شهيداً وقد كان ذلك فإنه رضي الله عنه قتل شهيداً على أيدي الخارجين عليه ظلماً وعدواناً.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/296-297. 2ـ حراء: جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال وهو جبل معروف "انظر معجم البلدان لياقوت الحموي" 2/233. 3ـ المسند 1/59.

الثانية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع عنه بيده الشريفة بيعة الرضوان حيث إنه كان مبعوثاً من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لإبلاغ أهل مكة أنه عليه الصلاة والسلام جاء معتمراً لا محارباً، وهاتان المنقبتان دلتا على علو مكانته وعظيم فضله رضي الله عنه وأرضاه. 11- ومن مناقبه رضي الله عنه إجماع الصحابة على خيريته رضي الله عنه وأفضليته بعد الشيخين فإنه لما بويع لم يبق في الشورى إلا هو وعلي والحكم عبد الرحمن بن عوف وبقي عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار فإنهم كانوا بالمدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته حتى قال عبد الرحمن: إن لي ثلاثاً ما اغتمضت بنوم وبعد هذا كله وبعد أخذ المواثيق منهما على أن يبايع من بايعه أعلن النتيجة بعد هذا الاستفتاء وهي قوله: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار"1. فدل هذا الإجماع على أنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا إجماع منهم على تقديمهم لعثمان على عليّ2 ولما سأل رجل عبد الله بن المبارك أيهما أفضل عليّ أو عثمان قال: "قد كفانا ذاك عبد الرحمن بن عوف"3 وقال عبد الله بن مسعود: "أمرنا خير من بقي ولم نأل"4 ولهذا قال أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني: "من قدم

_ 1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/193-194، وانظر البداية 7/158-161. 2ـ مجموع الفتاوى 4/428. 3ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ورقة/57. 4ـ مجمع الزوائد 9/88 وقال ابن حجر الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.

علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار"1 وقد بين معنى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "لو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم"2. 12- ومن مناقبه الكبار وحسناته العظيمة أنه جمع الناس على مصحف واحد وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره وربما خطأ الآخر أو كفره فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف. فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن

_ 1ـ مجموع الفتاوى 4/428. 2ـ منهاج السنة 2/207.

الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً وإلى الكوفة بآخر وأرسل إلى مكة مصحفاً وإلى اليمن مثله وأقر بالمدينة مصحفاً ويقال لهذه المصاحف الأئمة"1. وبهذا العمل الجليل يعتبر عثمان رضي الله عنه من عباد الله الصالحين الذين أيد الله بهم دينه وحفظ بهم كتابه رضي الله عنه وأرضاه. 13- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون مستمراً على الهدى المستقيم عند حلول الفتنة، وهذه منقبة عظيمة له رضي الله عنه. فقد روى الحاكم بإسناده إلى مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقربها فمر به رجل مقنع2 في ثوب فقال: "هذا يومئذ على الهدى" فقمت إليه فإذا هو عثمان رضي الله عنه فأقبلت بوجهه فقلت: هو هذا قال: "نعم" 3. 14- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة بالالتفاف حوله عند نزول الفتنة والاختلاف وفي هذا تنبيه إلى أن عثمان رضي الله عنه ممن أسعدهم الله ووفقهم لسلوك طريقه المستقيم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة واختلاف، أو اختلاف وفتنة" قال: قلنا يا رسول الله فما تأمرنا قال: "عليكم بالأمير وأصحابه" وأشار إلى عثمان"4. 15- ومن مناقبه الرفيعة رضي الله عنه وفاؤه رضي الله عنه بما عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وإصباره نفسه على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه رضي الله عنه

_ 1ـ البداية والنهاية 7/235-236. 2ـ جاء في لسان العرب: "ورجل مقنع بالتشديد أي: عليه بيضة ومغفر. والمقنع: المغطي رأسه"أهـ 8/301. 3ـ المستدرك 3/102 ثم قال عقبة: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 4ـ المصدر السابق 3/99 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

لما جاءه الخوارج الذين خرجوا عليه من الأمصار وجاءوا إلى المدينة وحصروه في داره رضي الله عنه فوق أربعين يوماً وكان عددهم كما قال ابن العربي: أربعة آلاف وكلهم يريد قتله وكان عدد الذين لا يريدون قتله أربعين ألفاً"1 وكان باستطاعته رضي الله عنه أن يأمر بالدفاع عنه وقد عرض عليه كثير من فضلاء الصحابة أن يأذن لهم في قتال هؤلاء المارقين وطردهم عنه ولكنه أبى رضي الله عنه خشية من أن يسفك دم بسببه، وناشد من كان معه في داره من الصحابة أن يخرجوا عنه ولما خرجوا تسلق عليه أولئك الأخلاط الظلمة داره وأحرقوا الباب ودخلوا عليه وقتلوه ورضي أن يكون عبد الله المقتول لا عبد الله القاتل وفاءا بعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا لي أو ليت عندي رجلاً من أصحابي " قالت: قلت: أبو بكر قال: "لا" قلت: عمر قال: "لا" قلت: ابن عمك عليّ قال: "لا" قلت: فعثمان قال: "نعم" قالت: فجاء عثمان فقال: "قومي" قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير قال: فلما كان يوم الدار قلنا ألا نقاتل قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ أمراً فأنا صابر نفسي عليه"2. تلك طائفة من الأحاديث والآثار التي دلت على فضل عثمان رضي الله عنه وفي بعضها دلالة على تقديمه بعد الشيخين وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي ينبغي أن تحل في قلب المسلم الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.

_ 1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 14/156-157 2ـ المستدرك 3/99. ثم قال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

المبحث الرابع: فضل أبي السبطين على رضي الله عنه

المبحث الرابع: فضل أبي السبطين علي رضي الله عنه أجمع أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر أن أبا السبطين أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين واسمه رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ويكنى بأبي تراب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشمياً وقد أسلمت وهاجرت. وعليّ رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض وكان رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بالاقتداء بهم، وكان ممن سبق إلى الإسلام لم يتلعثم، وتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها، وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً والحديبية وسائر المشاهد غير تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فيها على المدينة وأبلى ببدر وأحد وبالخندق وبخيبر بلاءاً عظيماً، وأغنى في تلك المشاهد وقام فيها المقام الكريم وكان لواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة، وجاهد في الله حق جهاده ونهض بأعباء العلم والعمل والفتيا رضي الله عنه وأرضاه. وكان رضي الله عنه من جملة من غسل النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وولي دفنه"1.

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/19، استيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/26-67، البداية والنهاية 7/242، وما بعدها، الإصابة في تمييز الصحابة 2/501-503، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/153، الكامل لابن الأثير 3/396، مجمع الزوائد 9/100، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/166. لوامع الأنوار البهية 2/334.

ولقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة التي دلت على فضله رضي الله عنه ومنها: 1- ما رواه الشيخان من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فبات الناس يدكون1 ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: "أين علي بن أبي طالب" فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال عليّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 2. وفي رواية أخرى عند مسلم من حديث أبي هريرة: " ... قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب فأعطاه إياها"3. هذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه وهي قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" ومعنى أن علياً يحب الله ورسوله أراد بذلك وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفي هذا الحديث تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4 فكأنه أشار إلى أن علياً تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

_ 1ـ يدركون: أي: يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه "النهاية في غيريب الحديث" 2/140. 2ـ صحيح البخاري 2/299-330، صحيح مسلم 4/1882. 3ـ صحيح مسلم 4/1872. 4ـ سورة آل عمران آية/31.

اتصف بصفة محبة الله له"1. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: قوله: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله: "فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك"2. ومعنى قول عمر رضي الله عنه: "فتساورت لها" معناه تطاولت لها أي: حرصت عليها وأظهرت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني. وقوله: رضي الله عنه "فما أحببت الإمارة إلا يومئذ" إنما كانت محبته لها لما دلت عليه هذه الإمارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتهما له والفتح على يديه3. 2- وروى الشيخان من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعداً فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر فقال: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته؟ فوضع أصبعه على أذنيه فقال: نعم وإلا فاستكتا4. وهذا الحديث فيه فضيلة عظمى لعل رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" حيث بين عليه الصلاة والسلام منزلة علي منه ومكانته العظيمة عنده عليه الصلاة والسلام. ونقل الإمام النووي عن القاضي عياض أنه قال: "هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقاً لعلي وأنه وصى له بها قال: ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد

_ 1ـ فتح الباري 7/72. 2ـ تيسير العزيز الحميد ص/107. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/176-177. 4ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1870 واللفظ لمسلم.

بعضهم فكفر علياً لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم وهؤلاء أسخف مذهباً وأفسد عقلاً من أن يرد قولهم أو يناظر وقال: ولا شك في كفر من قال هذا لأن من كفر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة وهدم الإسلام وأما من عدا هؤلاء الغلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك فأما الإمامية وبعض المعتزلة فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره لا كفار وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة لجواز تقديم المفضول عندهم وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم بل فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعلي حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل توفي في حياة موسى وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة والله أعلم1. 3- وروى الشيخان من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال: "أين ابن عمك؟ " قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو؟ " فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب قم أبا تراب" 2. في هذا الحديث منقبة ظاهرة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبيان علو منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام مشى إلى عليّ رضي الله عنه ودخل المسجد ومسح التراب عن ظهره واسترضاه تلطفاً به لأنه كان وقع بينه

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/174. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/535، صحيح مسلم 4/1874.

وبين فاطمة شيء فخرج إلى المسجد واضطجع فيه وكناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي تراب وكانت هذه التسمية أحب شيء إليه رضي الله عنه. 4- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل محبته من علامة الإيمان وجعل بغضه علامة للنفاق. فقد روى مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"1 ففي هذا منقبة ظاهرة لأبي الحسن رضي الله عنه "وهذا جارٍ باطراد في أعيان الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغناء في الدين قال القرطبي في المفهم: وأما الحروب الواقعة بينه فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد والله أعلم"2. 5- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال: على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: "ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين وتحمدا ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم" 3. فهذا الحديث تضمن منقبة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وتلك المنقبة

_ 1ـ صحيح مسلم 1/106. 2ـ فتح الباري 1/63. 3ـ صحيح البخاري 2/300.

هي دخول النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما في فراشهما وأمره لعلي بلزوم مكانه بعد أن هم بالقيام وهذا يدل على أن لأبي الحسن رضي الله عنه منزلة عظيمة عند المصطفى صلى الله عليه وسلم. 6- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان فذكر عن محاسن عمله قال: لعل ذاك يسوءك قال: نعم قال: فأرغم الله بأنفك، ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله قال هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لعل ذاك يسوءك قال: أجل قال: فأرغم الله بأنفك قال: انطلق فاجهد عليّ جهدك"1. وهذا الأثر عن ابن عمر تضمن فضل عليّ رضي الله عنه حيث مدحه بأوصافه الحميدة التي دلت على مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه. 7- وروى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني وأنا منك" 2. ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه. 8- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فتطاولنا لها فقال: "ادعوا لي علياً" فأتي به أرمد فبصق

_ 1ـ المصدر السابق 2/300. 2ـ صحيح البخاري مع الفتح 5/303-304.

في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} 1 دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" 2. هذا الحديث تضمن مناقب ظاهرة وفضائل عالية لأبي السبطين علي رضي الله عنه وأرضاه. وقال النووي رحمه الله تعالى: قوله: "إن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص ما منعك أن تسب أبا تراب" قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك فإن كان تورعاً وإجلالاً له فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار وأنكر3 عليهم فسأله هذا السؤال قالوا: ويحتمل تأويلا آخر معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ"4. 9- ومن مناقبه الدالة على فضله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بتثبيت لسانه وهداية صدره للحق حتى كان مدة حياته لم يشك في قضاء بعد ذلك. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله إني رجل شاب وأنه يرد علي من القضاء ما لا علم لي به قال فوضع يده على صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه" فما

_ 1ـ سورة آل عمران آية/61. 2ـ صحيح مسلم 4/1871. 3ـ لعلها أو أنكر عليهم حتى يستقيم الكلام. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/175-176.

شككت في القضاء أو في قضاء بعد1. 10- ومن مناقبه رضي الله عنه شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالخشونة في ذات الله وفي سبيل الله. فقد روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: شكى علي بن أبي طالب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فينا خطيباً فسمعته يقول: "أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشن في ذات الله وفي سبيل الله" 2. 11- ومن مناقبه العظيمة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الحاكم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأة فذبحت لنا شاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن رجل من أهل الجنة فدخل أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة فدخل أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة" فدخل عمر رضي الله عنه، ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة اللهم إن شئت فاجعله علياً" قال: فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه3. 12- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب وولديها الحسن والحسين أنهم يكونون معه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في مكان واحد فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة رضي الله عنها فقال "إني وإياك وهذا النائم ـ يعني علياً ـ وهما ـ يعني الحسن والحسين ـ لفي مكان واحد يوم القيامة" 4. ففي هذا بيان منقبة لعلي رضي الله عنه وأرضاه. وقد كثر الثناء عليه رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين

_ 1ـ المستدرك 3/135 وقال عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 2ـ نفس المصدر 3/134 وقال عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ المستدرك 3/136 وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4ـ المستدرك 3/137 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

لهم بإحسان بما وجد فيه من الخصال الحميدة وبما حصل له من المناقب الرفيعة التي استحق أن يكون بها من خير البشر. فقد شهد له الفاروق رضي الله عنه بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم التحق بالرفيق الأعلى وهو عنه راض كما شهد له بحل المعضلات. 1- فقد قال رضي الله عنه عندما قيل له: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ـ أو الرهط ـ الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن1. فقد أخبر الفاروق رضي الله عنه بأن أبا الحسن كان في مقدمة من مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. 2- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن2. 3- روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: "أقرؤنا أبي وأقضانا علي"3. فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد لأبي الحسن بحل المشكلات وبالبراعة في القضاء وإتقانه. 4- وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: "كان ابن عباس يقول: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به"4. 5- وروى ابن أبي شيبة في كتابه "المصنف"5 بإسناده إلى عطية بن سعد قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وهو شيخ كبير وقد سقط حاجباه.

_ 1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه "فتح الباري" 7/61. 2ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة 3/39. 3ـ صحيح البخاري 3/99، وابن ماجه في سننه 1/55، وأحمد في المسند 5/113. 4ـ الإصابة 2/502. 5ـ 12/82.

على عينيه فقلت: أخبرنا عن علي بن أبي طالب قال: فرفع حاجبيه بيديه ثم قال: "ذاك من خير البشر". وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى جرى بن كليب العامري قال: لما سار علي إلى صفين كرهت القتال فأتيت المدينة فدخلت على ميمونة بنت الحارث فقالت: ممن أنت قلت: من أهل الكوفة قالت: من أيهم قلت: من بني عامر قالت: رحباً على رحب وقرباً على قرب تجيء ما جاء بك قال: قلت: سار علي إلى صفين وكرهت القتال فجئنا إلى هاهنا قالت: أكنت بايعته؟ قلت: نعم قالت: فارجع إليه فكن معه فوالله ما ضل ولا ضل به"1. فهذا ثناء من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها على أبي السبطين رضي الله عنه من أنه سالك طريق الحق ولن يحيد عنه إلى الضلال بحال وهذه منقبة وفضيلة له رضي الله عنه. 6- وروى ابن أبي شيبة في كتابه "المصنف"2 بإسناده إلى أبي هارون قال: كنت مع ابن عمر جالساً إذ جاءنا نافع بن الأزرق فقام على رأسه فقال: والله إني لأبغض علياً قال: فرفع إليه ابن عمر رأسه فقال: أبغضك الله تبغض رجلا سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها". ولقد شهد له معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالعلم والفضل والسبق والخيرية، وأقر له بفضائله ومناقبه كلها. 7- قال ابن كثير: وقال جرير: عن مغيرة قال: لما جاء نعي علي بن أبي طالب إلى معاوية وهو نائم مع امرأته فاختة بنت قرطة في يوم صائف جلس وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وجعل يبكي فقالت: له فاختة أنت بالأمس تطعن عليه واليوم تبكي عليه فقال: ويحك إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله

_ 1ـ المستدرك 3/141 وصححه وأقره الذهبي وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/81. 2ـ 12/82.

وسوابقه وخيره"1. 8- قال ابن عبد البر: "وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام فقال له: دعني عنك"2. هذا موفق معاوية بن أبي سفيان من أبي السبطين علي رضي الله عنه فإنه بكى عليه عندما بلغه نبأ قتله وأثنى عليه بصفاته الحميدة من الحلم والعلم والفضل والسابقة والخيرية، واعترف له بمناقبه كلها ولم يمنعه من ذلك ما حصل بينهما من الحروب ولم يجد الغل محلا في قلب معاوية لأبي الحسن رضي الله عنهما فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزع الله من قلوبهم الغل، فكانوا إخواناً متحابين ومهما حصل بينهم من خلاف فإن ذلك لم يؤد بهم إلى إنكار فضائل بعضهم بعضاً فهل يدكر بهذا من جاء بعدهم من الرافضة الذين يقدحون فيهم ولا حامل لهم على ذلك إلا بغضهم وغلهم المقيت ومعاداتهم الخبيثة للسابقين الأولين الخيرة البررة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين وأخزى من في قلبه غل عليهم إلى يوم الدين. 9- سئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان علي والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا بالملومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ذلك علي بن أبي طالب يا لكع3.

_ 1ـ البداية والنهاية 7/16. 2ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة 3/44-45. 3ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/47.

تلك طائفة من الأحاديث والآثار التي تضمنت فضل رابع الخلفاء الراشدين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفضائله رضي الله عنه كثيرة جداً وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه"1. وكل ما تقدم ذكره من فضائله رضي الله عنه كلها فيها الرد على النواصب الذين يتبرئون منه ولا يتولونه كما تتضمن الرد على الخوارج الذين كفروه وكلتا الفرقتين ضالتان في اعتقادهما فيه رضي الله عنه وأرضاه وقد ولد له الرافضة مناقب موضوعة هو غني عنها2. والذي أخلص إليه في هذا الفصل أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يرتبون الخلفاء الأربعة في الفضل فيعتقدون أن أفضل الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في صدد عرضه الأقوال في أفضلية الأربعة الخلفاء فقال: "ومنهم من يقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وذلك قول أهل الجماعة والأثر من رواة الحديث وجمهور الأمة"3. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة ـ أهل بيعة الرضوان ـ ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم"4.

_ 1ـ المستدرك 3/107. 2ـ انظر: الإصابة 2/501. 3ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/206. 4ـ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية رسالة رقم 1 ص/10.

المبحث الخامس: فضل الستة بقية العشرة

المبحث الخامس: فضل السته بقية العشرة بينّا فيما سبق في المباحث الأربعة المتقدمة فضل أربعة من العشرة المبشرين بالجنة وهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وأبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين أمرنا بالاهتداء بهديهم والسير على طريقته رضي الله عنهم وفي هذا المبحث أبين فضل من بقي من العشرة الذين يلون الخلفاء الراشدين في الفضل وعددهم ستة وهم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعيد بن زيد. وإلى بيان فضل كل واحد من هؤلاء الستة رضي الله عنهم:- 1) طلحة بن عبيد الله: هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي1 "يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة وعدد ما بينهم من الآباء سواء"2 وأمه رضي الله عنه الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي3 أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة4 وطلحة رضي الله عنه أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، وأحد الثمانية

_ 1ـ الإصابة 2/220، وانظر الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/210. 2ـ فتح الباري 7/82. 3ـ الإصابة 2/220. 4ـ المصدر السابق 4/337، وانظر فتح الباري 7/82.

الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان رضي الله عنه عند وقعة بدر قد وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن زيد يتجسسان خبر العير قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى بدر فلم يرجعا إلا وقد فرغ من موقعة بدر وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما"1. وقال الواقدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر2 فخروجهما لجس الأخبار يعتبر في صالح المعركة وهو نوع من المشاركة فيها. وشهد طلحة رضي الله عنه أحداً وما بعدها من المشاهد وقد أبلى في غزوة أحد بلاء حسناً فقد وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه3. وفضائله رضي الله عنه كثيرة مشهورة ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد4. هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة خص بها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وهي أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد لما أراد بعض المشركين

_ 1ـ انظر المستدرك للحاكم 3/369، ص/438، وانظر الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري 4/256. 2ـ مغازي الواقدي 1/19، المستدرك للحاكم 3/369. 3ـ انظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/210-216، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/220، وانظر الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/245 وما بعدها، وانظر المستدرك للحاكم 3/368-369. 4ـ صحيح البخاري 3/23.

أن يضربه فاتقى طلحة الضربة بيده حتى أصابها شلل والشلل بطلان في اليد أو في الرجل من آفة تعتريها فالحديث فيه بيان فضيلة عظيمة لطلحة رضي الله عنه وأرضاه. 2- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد عن حديثهما1. وهذا الحديث أيضاً: تضمن منقبة ظاهرة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله من حديث إنه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الناس عنه يوم أحد والمراد بقوله في الحديث: "في بعض تلك الأيام" يوم أحد. 3- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى الزبير رضي الله عنه قال: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أوجب طلحة" 2. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة" أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده3. 4- وروى أبو نعيم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة4. وهذا مدح وثناء عظيم من صديق هذه الأمة وشهادة صادقة لأبي محمد

_ 1ـ المصدر السابق 2/302-303. 2ـ سنن الترمذي 5/307 ثم قال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب". 3ـ انظر تحفة الأحوذي 5/341. 4ـ حلية الأولياء 1/87.

طلحة بن عبيد الله بثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد التي أبلى فيها بلاء حسناً وكان موقفه عظيماً في عزوة أحد يذكر به في الآخرين رضي الله عنه وأرضاه. 5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طلحة ممن قضى نحبه ووفى لله بما نذره على نفسه من القتال في سبيله ونصرة دينه. فقد روى الترمذي بإسناده إلى موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" 1. وروى أيضاً: بإسناده إلى موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لأعرابي جاهل سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون هم على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عمن قضى نحبه" قال الأعرابي: أنا يا رسول الله قال: "هذا ممن قضى نحبه" 2. هذان الحديثان فيهما بيان فضل طلحة بن عبيد الله حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة ممن قضى نحبه وكان طلحة ضمن جماعة كعثمان بن عفان ومصعب وسعيد وغيرهم نذروا إذا لقوا حرباً ثبتوا حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده حتى شلت يده ووقى بها النبي صلى الله عليه وسلم3 رضي الله عنه وأرضاه. قال أبو بكر بن العربي أثناء ذكره لمسائل اشتمل عليها الحديث قال رحمه الله تعالى:

_ 1ـ سنن الترمذي 5/308 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث معاوية إلا من هذا الوجه". 2ـ سنن الترمذي 5/308-309 وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن يونس بن بكير وقد رواه غير واحد من كبار أهل الحديث عن أبي كريب بهذا الحديث وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذا عن أبي كريب ووضعه في كتاب الفوائد"أهـ. 3ـ انظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 9/63-64.

الرابعة: إلا أن قوماً تحققت عاقبتهم وأخبر الله تعالى عن حسن مآلهم وإن كانوا لم يوافوا بعد، فلهم شرف الحالة بذلك وعلو المنزلة وطلحة منهم. الخامسة: وكان ذلك له والله أعلم بوقايته بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى شلت يمينه فقدمته يداه إلى الجنة وتقدمه إليها وتعلق بسبب عظيم لا ينقطع منها"1. 7- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفياض لسعة عطائه وكثرة إنفاقه في وجوه الخير. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزوراً وحفر بئراً يوم ذي قرد2 فأطعمهم وسقاهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة الفياض" فسمي طلحة الفياض3. 8- وروى أيضاً بإسناده إلى طلحة رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده سفرجلة فرماها إلي أو قال: ألقاها إلي وقال: "دونكها أبا محمد فإنها تجم4 الفؤاد" 5. وفي هذا منقبة ظاهرة لطلحة رضي الله عنه وأرضاه. 9- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يموت شهيداً. فقد روى مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي

_ 1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 12/82-83. 2ـ قال في النهاية: 4/37 "ذي قرد بفتح القاف والراء: ماء على ليلتين من المدينة بينهما وبين خيبر"أهـ. وهو موضع غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، سببها إغارة عيينة بن حصن الفزاري في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيها رجل من بني غفار وامرأة له فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح "انظرالسيرة النبوية لابن هشام 2/281، تاريخ الطبري 2/596. 3ـ المستدرك 3/374 ثم قال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. 4ـ تجم الفؤاد: "أي تريحه وقيل تجمعه وتكمل صلاحه ونشاطه " أهـ.النهاية في غريب الحديث 1/301. 5ـ المستدرك 3/370 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

أو صديق أو شهيد" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم"1. قال النووي رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها إخباره أن هؤلاء شهداء وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء فإن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم قتلوا ظلماً شهداء، فقتل الثلاثة مشهور وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة البصرة منصرفاً تاركاً للقتال وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركاً للقتال فأصابه سهم فقتله وقد ثبت أن من قتل ظلماً فهو شهيد والمراد شهداء في أحكام الآخرة وعظم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وفيه بيان فضيلة هؤلاء2. 6- ومن مناقبه الرفيعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب ذكر طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض"3. 7- ومما يدل على عظم مكانته وعلو منزلته أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ضمن جماعة من فضلاء الصحابة. فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" ثم قال: وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا4.

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1880. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/190. 3ـ صحيح البخاري 2/302. 4ـ سنن الترمذي 5/311 وانظر سنن أبي داود 2/516، سنن ابن ماجه 1/48.

ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة رضي الله عنه حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة وأكرم بها من شهادة فإنها تضمنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة، ذلك هو الصحابي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وتلك طائفة من الأحاديث التي دلت على عظيم قدره وعلو منزلته رضي الله عنه وأرضاه.

2) الزبير بن العوام: هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي1 يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وعدد ما بينهما من الآباء سواء2 وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى3. قال عروة بن الزبير: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبداً. وقال أيضاً: "أسلم الزبير وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين معاً ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. فهو رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفضائله رضي الله عنه كثيرة مشهورة ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير بن العوام" 5. وعند مسلم بلفظ: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواري الزبير" 6.

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/100، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 1/560، الإصابة 1/526. 2ـ فتح الباري 7/80. 3ـ انظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/560-560، الإصابة 1/526-528. 4ـ المستدرك للحاكم 3/360، وانظر طبقات ابن سعد 3/102. 5ـ صحيح البخاري 2/302. 6ـ صحيح مسلم 4/1879.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وحواري الزبير" أي: خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام أي: خلصائه وأنصاره وأصله من التحوير: التبييض قيل: إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي: يبيضونها ... قال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب"1. فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا2. وقال عبد الله بن عباس: هو حواري النبي صلى الله عليه وسلم وسمى الحواريون لبياض ثيابهم3. وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: "فإن قلت: "الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم قال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتيني بخبر القوم فقال: أنا وهكذا مرة ثالثة ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره"4. 2- من مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه. روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ " فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "فداك

_ 1ـ النهاية لابن الأثير 1/457-458. 2ـ رواه بن سعد في الطبقات الكبرى 3/106، وذكره الحافظ في الإصابة 1/527. 3ـ صحيح البخاري 2/302. 4ـ عمدة القاريء 16/223, وانظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/547.

أبي وأمي"1. وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير رضي الله عنه حيث فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبويه "وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعلمه واعتبار بأمره وذلك لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه أو أعز أهله له"2. 3- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ممن استجاب لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد. فقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب في إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"3. فلقد أثنى الله على الذين استجابوا لله والرسول وأخبر أن جزاء المحسنين المتقين منهم أجر عظيم، وكان الزبير بن العوام واحداً من هؤلاء رضي الله عنهم. 4- وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن هشام عن أبيه قال كانت على الزبير عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير" 4. وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة للزبير رضي الله عنه دلت على عظيم قدره وعلو منزلته فكون الملائكة الذين أنزلهم الله لنصر المسلمين في موقعة بدر كانوا على صورته فإن ذلك دليل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/302. 2ـ من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري 5/578، تحفة الأحوذي 10/246. 3ـ صحيح البخاري 3/26، صحيح مسلم 4/1881. 4ـ الطبقات الكبرى 3/103.

5- وروى البخاري بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: "أصاب عثمان بن عفان رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف قال: وقالوه؟ قال: نعم قال: ومن؟ فسكت فدخل عليه رجل آخر أحسبه الحارث فقال: استخلف فقال عثمان: وقالوا؟ فقال: نعم قال: ومن هو؟ فسكت فلعلهم قالوا: إنه الزبير؟ قال: نعم قال: والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى قال: "أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثاً"1. ففي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد له ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالخبرية وأنه كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الداودي: "يحتمل أن يكون المراد من الخيرية في شيء مخصوص كحسن الخلق وإن حمل على ظاهره ففيه ما يبين أن قول ابن عمر: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" لم يرد به جميع الصحابة فإن بعضهم قد وقع منه تفضيل بعضهم على بعض وهو عثمان في حق الزبير" وقد تعقب الحافظ رحمه الله هذا الاحتمال الذي قاله الداودي بقوله: "قلت: قول ابن عمر قيده بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض ما وقع منهم بعد ذلك"2. 6- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان شجاعاً مقداماً في ساحة القتال. فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم وقعة اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير3.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/302. 2ـ فتح الباري 7/81. 3ـ صحيح البخاري 2/302.

وفي هذا بيان فضيلة للزبير رضي الله عنه تضمنها قول الصحابة له يوم اليرموك" ألا تشد فنشد معك.. إلخ" فإنه كان شجاعاً مقداماً موفقاً في تسديد الضربات لجيوش الشرك. ولقد أبلى رضي الله عنه في يوم اليرموك وفي جميع الغزوات التي غزاها بلاء حسناً. فقد روى الترمذي بإسناده إلى هشام بن عروة قال: "أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذلك في فرجه"1. 7- ومن أعظم مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة ... " الحديث2. 8- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يموت شهيداً فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" 3. فلقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة وحصلت له كما أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام " فإنه لما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعاً إلى المدينة فمر بقوم الأحنف بن قيس وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا

_ 1ـ سنن الترمذي 5/310-311 ثم قال عقبه: "هذا حديث حسن غريب من حديث حماد بن زيد". 2ـ المصدر السابق 5/311. 3ـ صحيح مسلم 4/1880.

كر راجعاً إلى بيته من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز في طائفة من غواة بني تميم ... فأدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع ـ قريب من البصرة ـ وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله ... ولما قتله اجتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار وفي رواية: أن علياً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار" ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير1 "وكان قتله رضي الله عنه يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين"2 ذلك هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم قدره وعلو شأنه رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ البداية والنهاية 7/272-273، وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنه قال عندما قيل له: إن قاتل الزبير على الباب، قال: ليدخل قاتل ابن صفية النار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل نبي حواري وإن حواري الزبير بن العوام " المسند 1/103. 2ـ انظر الطبقات لابن سعد 3/110-113، الاستيعاب لابن عبد البر على الإصابة 1/564، البداية والنهاية 7/273، الإصابة 1/527.

3) عبد الرحمن بن عوف: هو أبو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري كان اسمه في الجاهلية ـ عبد عمرو ـ وقيل عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة1. "شهد رضي الله عنه بدراً والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام"2 "وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توفي وهو عنهم راض وأسند رفقته أمرهم إليه حتى بايع عثمان"3 "أسلم قديماً قبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها"4. "وأمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعثه إلى بني كلب، وأرخى له عذبة بين كتفيه لتكون أمارة عليه للإمارة"5. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة وقد وردت طائفة من الأحاديث الصحيحة بذكر مناقبه رضي الله عنه ومنها: 1- روى الإمام مسلم بإسناده إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أن المغيرة بن شعبة أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط6 فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله

_ 1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/124، المستدرك 3/306، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/385، البداية والنهاية 7/178، الإصابة 2/408. 2ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة 4305-306، وانظر البداية والنهابة 7/178. 3ـ الإصابة 2/408. 4ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/124، المستدرك للحاكم 3/309. 5ـ البداية والنهاية 7/178. 6ـ الغائط: هو المكان المنخفض من الأرض "النهاية لابن الأثير" 3/395، وانظر "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 3/79.

صلى الله عليه وسلم إليّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه، ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: "أحسنتم" أو قال: " أصبتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها"1. فصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من صلاة الفجر دلت على منقبة عظيمة له لا تبارى رضي الله عنه وأرضاه. 2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 2. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي" يعني عبد الرحمن ونحوه الذين هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد بن الوليد"3 فالحديث تضمن منقبة رفيعة لعبد الرحمن بن عوف حيث كان ممن شرف بالسبق إلى الإسلام.

_ 1ـ صحيح مسلم 1/317-318. 2ـ المصدر السابق 4/1967-1968. 3ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/529.

3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسمه من عبد عمرو إلى عبد الرحمن. روى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد عمرو فسمعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن"1. 4- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له أن يسقيه من سلسبيل الجنة. فقد روى الحاكم أيضاً بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: "إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادق البار اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة" 2. وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن حدثه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت لي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: "أمركن مما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون"، ثم قالت: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة. وكان عبد الرحمن بن عوف قد وصلهن بمال فبيع بأربعين ألفاً"3. ففي هذين الحديثين فضيلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. 5- ومن أجل مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي رحمه الله بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة.." الحديث4. فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الرحمن أحد أهل الجنة جعلنا الله منهم بفضله ومنه آمين.

_ 1ـ المستدرك 3/306 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 2ـ المستدرك 3/311 ثم قال: "فقد صح الحديث عن عائشة وأم سلمة ووافقه الذهبي". 3ـ المصدر السابق 3/312 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4ـ سنن الترمذي 5/311.

6- ومن مناقبه العظيمة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: "أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: "اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" قيل: ومن هم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل فمن العاشر قال أنا"1. فالحديث تضمن منقبة عالية لعبد الرحمن وهي أنه سيموت شهيداً ولا يعارض هذا وفاته رضي الله عنه على فراشه فلا بد من التسليم والإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بد هناك من سبب ثبتت له به الشهادة ليكون تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم لم نعلمه نحن. ذلك هو عبد الرحمن بن عوف الذي قضى حياته كلها في طاعة ربه حتى في اللحظة الأخيرة ـ التي كان فيها في مرض موته فقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها حتى عثمان وعلي وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت زيفها2. وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل وأعتق خلقاً من مماليكه، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص ودفن بالبقيع3 سنة إحدى وثلاثين وقيل: سنة اثنتين وهو الأشهر"4.

_ 1ـ المسند 1/187، سنن أبي داود 2/515، سنن الترمذي 5/315، وسنن ابن ماجه 1/48. 2ـ انظر المستدرك للحاكم 3/308. 3ـ البداية والنهاية 7/180. 4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/390، الإصابة 2/409-410.

4) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري1 "ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وعدد ما بينهما من الآباء متقارب وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم"2 وهو رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. أسلم قديماً وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارساً شجاعاً من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظماً جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر وقد استنابه على الكوفة وهو الذي بناها، وهو الذي فتح المدائن3، وكانت بين يديه وقعة جلولاء4 وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ثم ولاه عثمان بعده، ثم عزله عنها وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة مشهوراً بذلك5، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة وردت بها الأحاديث الصحيحة ومنها: 1- روى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد6. 2- وروى مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له

_ 1ـ البداية والنهاية 8/78، الإصابة 2/30. 2ـ فتح الباري 7/84. 3ـ انظر: تاريخ الطبري 4/8-16، الكامل لابن الأثير 2/511، البداية والنهاية 7/71-76. 4ـ انظر تاريخ الطبري 4/24-25، الكامل لابن الأثير 2/519، البداية والنهاية 7/77-79. 5ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/137-149، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/18-25، البداية والنهاية 8/78-84، الإصابة 2/30-32. 6ـ صحيح البخاري 2/303.

أبويه يوم أحد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه". 3- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد قال: سمعت علياً يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد: "ارم فداك أبي وأمي" 1. هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لسعد رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه وهذه التفدية فيها دلالة على أنه عظيم المنزلة جليل القدر عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيضحي بنفسه أو أعز أهله له. وقول علي رضي الله عنه: "ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك" يفيد الحصر ولكن هذا الحصر فيه نظر لأنه تقدم معنا قريباً أنه عليه الصلاة والسلام جمع أبويه يوم الخندق للزبير بن العوام رضي الله عنه ويجمع بين الحديثين "بأن علياً رضي الله عنه لم يطلع على ذلك ومراده بذلك تقييده بيوم أحد والله أعلم"2. 4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: "من هذا" قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك" قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ثم نام"3.

_ 1ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1876-1877. 2ـ فتح الباري 7/84، عمدة القاريء 16/228. 3ـ صحيح مسلم 4/1875.

هذا الحديث تضمن منقبة لسعد رضي الله عنه وأنه من الصالحين وأكرم بها من منقبة إذ الصالحون يتولاهم رب العالمين كما قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1 ولقد حظي رضي الله عنه بمفخرة عظيمة وهي حراسة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه له عليه الصلاة والسلام "وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2 لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته وهذا الحديث مصرح بأن هذه الحراسة كانت أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان"3. 5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله تعالى أنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى سعد رضي الله عنه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} وفيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 4 قال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت أعطنيه، قال فشد لي صوته: "رده من حيث أخذته" قال: فأنزل الله ـ عز وجل ـ

_ 1ـ سورة الأعراف آية/196. 2ـ سورة المائدة آية/67. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/183. 4ـ سورة لقمان آية/15.

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 1 قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزاً قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعالى نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله ـ عز وجل ـ فيّ يعني نفسه شأن الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} 2. فهذا الحديث تضمن بيان فضيلة سعد حيث نزلت في شأنه تلك الآيات القرآنية المشار إليها في هذا الحديث. 6- ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أثنى عليه وأخبر أنه من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. فقد جاء في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله ـ عز وجل ـ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 3. 7- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أسلم قديماً. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد قال: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام.

_ 1ـ سورة الأنفال آية/1. 2ـ صحيح مسلم 4/1877-1878، والآية رقم 90 من سورة لمائدة. 3ـ المصدر السابق 4/1878 والآية رقم 52 من سورة الأنعام.

وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام1. فقوله رضي الله عنه: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام فيه منقبة عظيمة له "وأراد بذلك أنه ثالث من أسلم أولا وأراد بالاثنين أبا بكر وخديجة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر والظاهر أنه أراد الرجال الأحرار "فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب2 أنه سابع سبعة في الإسلام " وقد قدمنا في فضل الصديق من حديث عمار بن ياسر "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر فهؤلاء ستة ويكون هو السابع بهذا الاعتبار أو قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه فبهذا الاعتبار قال: وأنا ثلث الإسلام ... وقوله رضي الله عنه: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه" ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله وهذا فيه إشكال لأنه قد أسلم قبله جماعة ولكن يحمل هذا على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ وقد روى ابن مندة في "المعرفة" من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه وهذا لا إشكال فيه لأنه لا مانع أن لا يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم ولا ينافي هذا إسلام جماعة قبل يوم إسلامه وقوله: "ولقد مكثت.. إلخ هذا أيضاً على مقتضى اطلاعه"3. 8- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أول من رمى بسهمه في سبيل الله لمجاهدة أعداء الله وإعلاء كلمة الله. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى في سبيل الله وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1ـ هذان الحديثان في صحيح البخاري 2/303. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/18. 3ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/184-185، فتح الباري 7/84، المرقاة شرح المشكاة 5/579.

وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط.." الحديث1. في هذا بيان فضيلة سعد رضي الله عنه حيث إنه كان أول رام بسهمه في سبيل الله "وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة فكان سعد أول من رمى"2. 9- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له بأن يكون مجاب الدعوة فحقق الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت دعوته مستجابة رضي الله عنه جاء في مجمع الزوائد عن عامر ـ يعني الشعبي ـ قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أجبت الدعوة قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم وارعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد " رواه الطبراني وإسناده حسن. وفيه أيضاً: عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: "اللهم استجب له إذا دعاك" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح3. 10- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في

_ 1ـ صحيح البخاري 2/303. 2ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/591، الإصابة 2/30، فتح الباري 7/84. 3ـ هذان الحديثان في مجمع الزوائد 9/153.

الجنة ... " الحديث1. 11- ومن مناقبه رضي الله عنه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من الشهداء فقد روى مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكن الحراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم "2. فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد مع أنه لم يمت في معركة وإنما توفي بقصره بالعقيق سنة إحدى وخمسين وقيل ست وقيل ثمان والثاني أشهر.3 قال النووي: وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء فقال القاضي: إنما سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة4 قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة رضي الله عنه وعنهم أجمعين5 ذلك هو سعد بن أبي وقاص وتلك طائفة من فضائله العظيمة رضي الله عنه.

_ 1ـ سنن الترمذي 5/311. 2ـ صحيح مسلم 4/1880. 3ـ الإصابة 2/31. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/190. 5ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية" 8/84.

5) أبو عبيدة بن الجراح: هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال: وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة1. وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام "وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم"2. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعدها وهو الذي انتزع حلقتي المغفرة من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيتاه بسبب ذلك وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الناس3 ومناقبه رضي الله عنه تضمنتها أحاديث صحيحة مشهورة منها: 1- ما رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أميناً وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح" 4. هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة رضي الله عنه "والأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها فأشعر بقدر زائد فيها على غيره كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك"5.

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/409، المستدرك للحاكم 3/262، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/2، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/301، الإصابة 2/243. 2ـ المستدرك 3/266، الإصابة 2/243. 3ـ المستدرك 3/266، الإصابة 2/243. 4ـ صحيح البخاري 2/305، صحيح مسلم 4/1881. 5ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/191-192، فتح الباري 7/93، عمدة القاريء =

وروى البخاري بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأهل نجران: "لأبعثن عليكم ـ يعني ـ أميناً حق أمين" فأشرف أصحابه فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه1. وروى مسلم بإسناده إلى أنس أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة". وروى أيضاً: بإسناده إلى حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً فقال: "لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين" قال: فاستشرف لها الناس"2. إنها لمنقبة عظيمة خص بها أبو عبيدة رضي الله عنه حق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتطلعوا لها "وكان تطلعهم رضي الله عنهم إلى الولاية ورغبتهم فيها حرصاً منهم على أن يكون أحدهم هو الأمين الموعود في الحديث لا حرصاً على الولاية من حيث هي"3. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله لأهل نجران هم أهل بلد قريب من اليمن وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وسماهم4 ... ووقع في حديث أنس عند مسلم "أن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام فأخذ بيد أبي عبيدة وقال: "هذا أمين هذه الأمة" فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران بقوله: "أهل اليمن" لقرب نجران من اليمن وإلا فهما

_ = 16/238، تحفة الأحوذي 10/260. 1ـ صحيح البخاري 2/305. 2ـ هذان الحديثان في صحيح مسلم 4/1881-1882. 3ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/192، فتح الباري 7/94، عمدة القاريء 16/239. 4ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/412.

واقعتان والأول أرجح"أ. هـ1. 2- ومن مناقبه العالية رضي الله عنه أنه كان أحد من يصلح للخلافة، وأحد الناس الذين كانوا أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. روى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"2. وهذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة وهي اعتقادها رضي الله عنها أنه صالح للخلافة وأنه أهل لها رضي الله عنه وأرضاه. وروى الترمذي وابن ماجه بإسناديهما إلى عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم من؟ فسكتت"3. وفي هذا بيان فضيلة لأبي عبيدة وهي أنه كان أحد الذين هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن الفاروق رضي الله عنه كان يكره مخالفته فيما يراه وأنه كان جليل القدر عنده. فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم فاختلفوا فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك

_ 1ـ فتح الباري 7/93-94. 2ـ صحيح مسلم 4/1856. 3ـ سنن الترمذي 5/317، سنن ابن ماجه 1/38.

قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ... إلخ الحديث1. قال الحافظ رحمه الله تعالى: "وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر"2. 4- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قرنه في المدح بالشيخين. روى الترمذي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح" ثم قال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل3. في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي عبيدة حيث قرنه عليه الصلاة والسلام في المدح والثناء عليه مع أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم جميعاً. 5- ومن مناقبه العالية الرفيعة شهادة المصطفى عليه الصلاة والسلام له بالجنة ضمن جماعة من الصحابة كما تقدم في حديث العشرة المبشرين بالجنة، وهو ما رواه الترمذي وغيره بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" 4. 6- ومن مناقبه رضي الله عنه أن وفاته كانت شهادة في سبيل الله فقد مات بالطاعون الذي حصل بأرض الشام زمن الفاروق رضي الله عنه وقد

_ 1ـ صحيح البخاري 4/14-15، صحيح مسلم 4/1740-1741. 2ـ الإصابة 2/244. 3ـ سنن الترمذي 5/317. 4ـ المصدر السابق 5/311.

أخبر عليه الصلاة والسلام أن من كانت وفاته بسبب هذا الداء فإنه شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد وقد جمع الله لأبي عبيدة بين هذين الوصفين. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تعدون الشهيد فيكم" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذا لقليل" قالوا: فمن هم يا رسول الله قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد" قال ابن مقسم: "أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد "1 "وهذه الموتات إنما كانت شهادة بتفضيل الله تعالى بسبب شهدتها وكثرة ألمها"2. قال النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم ... والشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا وهم هؤلاء المذكورون هنا وشهيد في الدنيا دون الآخرة وهو من غل في الغنيمة أو قتل مدبراً"3. "وقد اتفق العلماء على أن أبا عبيدة مات في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة"4. ولما دفن رضي الله عنه خطب الناس معاذ بن جبل خطبة بين فيها الكثير من فضائل أبي عبيدة. وقد ذكر أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: لما طعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صل فصلى معاذ بالناس ثم مات أبو عبيدة

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1521. 2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 13/63. 3ـ المصدر السابق. 4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/3، الإصابة 2/245.

ابن الجراح فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإن عبداً لله يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل غمزاً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه رحمه الله ثم اصحروا1 للصلاة عليه فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلاً أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين"2. فهذا الثناء من معاذ رضي الله عنه كله تضمن بيان فضائل لأبي عبيدة بن الجراح ذلك هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ أي: اخرجوا. 2ـ المستدرك 3/263-264.

6) سعيد بن زيد: هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي كان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل أحد الحنفاء الذين طلبوا دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم وكان يقول لقومه: يا معشر قريش والله لا آكل ما ذبح لغير الله، والله ما أحد على دين إبراهيم غيري"1. وأم سعيد بن زيد فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية كانت من السابقين إلى الإسلام وهو ابن عم عمر بن الخطاب وصهره كانت تحته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب وكانت أخته عاتكة بنت زيد بن عمرو تحت عمر بن الخطاب وكان سعيد بن زيد من السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قبل عمر بن الخطاب هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة قال عروة والزهري وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدراً لأنه قد كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابي بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك ولم يتول بعده ولاية وما زال كذلك حتى مات"2. وقد وردت بعض الأحاديث المتعدد المصرحة بفضله رضي الله عنه ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي

_ 1ـ أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب انظر: الإصابة 2/4 "حاشية". 2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/372، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/2-8، البداية والنهاية 8/62، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/337، الإصابة 2/44.

على الإسلام قبل أن يسلم عمر ولو أن أحداً أرفض1 للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض2. ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لسعيد رضي الله عنه وهي أنه كان ممن حظي بشرف السبق إلى الإسلام وأن إسلامه كان قبل إسلام الفاروق رضي الله عنه إذ أنه بين أن صنع عمر هذا به كان قبل أن يسلم. قال أبو عبد الله الحاكم: "أسلم سعيد بن زيد بن عمرو قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها الناس إلى الإسلام"3. 2- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة مع جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حميد أن سعيد بن زيد حدثه في نفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشرة في الجنة أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسعد ابن أبي وقاص" قال: فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة" 4. 30- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: "أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: "اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي

_ 1ـ أي: زال من مكانه. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/176. 3ـ المستدرك 3/438. 4ـ سنن الترمذي 5/312 وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في المسند 1/187، وأبو داود في سننه 2/515، وأخرجه ابن ماجه في سننه 1/48.

أو صديق أو شهيد" قيل: ومن هم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل: فمن العاشر قال: أنا" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"1 ففي هذا فضيلة عظيمة لسعيد بن زيد رضي الله عنه حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة وإن مات على فراشه فهو شهيد لخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بذلك. وكانت وفاته رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقد غسله سعد وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة"2. قال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه: "ويكفي سعيد بن زيد أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه شهد أحداً وما بعده من المشاهد كلها وصار من جملة أهل بدر بما ضربه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من السهم والأجر"أ. هـ3. ذلك هو سعيد بن زيد وتلك طائفة من مناقبه وبه رضي الله عنه نختم فضل العشرة المبشرين بالجنة الذين قدمنا فضائلهم التي دلت على مكانتهم وعلو منزلتهم، فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهم من أهل الجنة بأعيانهم كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وكلهم رضي الله عنهم من قريش الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا إلى الله ورسوله وتركوا ديارهم وأموالهم بغية نصرة دين الإسلام ورفع رايته.

_ 1ـ سنن الترمذي 5/315، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/187، وأبو داود في سننه 2/515، وابن ماجه 1/48 والحاكم في المستدرك 3/316-317، وأبو نعيم في الحلية 1/95، الطبقات لابن سعد 3/383. 2ـ البداية والنهابة 8/62 وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/384-385. 3ـ در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ص/257.

الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: المراد بأهل البيت ... المبحث الأول: المراد بأهل البيت لقد بين علماء العربية وأئمة الدين معنى هذه الكلمة المركبة من المضاف والمضاف إليه بياناً شافياً أوضحوا فيه أن أول من يدخل في هذه الكلمة أزواجه رضي الله عنهن جميعاً خلافاً للرافضة الذين يزعمون أن المراد من أهل البيت هم أربعة فقط علي وفاطمة والحسن والحسين1 وأخرجوا منهم كل من سواهم وحصرهم أهل البيت في هؤلاء الأربعة مخالف لما قرره أئمة اللغة في المراد "بأهل البيت" بل مخالف للكتاب والسنة ولما قاله أئمة الدين فقد جاء في مقاييس اللغة لابن فارس أن الخليل بن أحمد قال: "أهل الرجل زوجه، والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الإسلام من يدين به"2. وقال الراغب الأصفهاني: "أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب وتعورف في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت لقوله ـ عز وجل ـ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 3 وعبر بأهل الرجل عن امرأته، وأهل الإسلام الذين يجمعهم ... إلى أن قال: وتأهل الرجل إذا تزوج ومنه قيل: أهلك الله في الجنة أي: زوجك فيها وجعل

_ 1ـ تفسير القمي 2/193، تفسير الكاشاني 2/351-352. 2ـ مقاييس اللغة 1/150. 3ـ سورة الأحزاب آية/33.

لك فيها أهلاً يجمعك وإياهم"1. وجاء في لسان العرب لابن منظور: "وأهل المذهب: من يدين به، وأهل الإسلام من يدين به وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره أعني علياً عليه السلام، وقيل: نساء النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى أن قال: والتأهل: التزوج، والآهل الذي له زوجة وعيال، والعزب الذي لا زوجة له ... وآل الرجل أهله وآل الله ورسوله أولياؤه"2. وجاء في تاج العروس: "والأهل للمذهب من يدين به ويعتقده والأهل للرجل زوجته ويدخل فيه أولاده وبه فسر قوله تعالى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} 3 أي: زوجته وأهله والأهل للنبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله عنه أو نساؤه وقيل: أهله الرجال الذين هم آله ويدخل فيه الأحفاد والذريات ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} 4 وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ} 5 وقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} 6 وإن أهل كل نبي أمته وأهل ملته ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} 7. وجاء في المصباح المنير8: أهل الشخص هم ذوو قرابته وقد أطلق على أهل بيته وعلى الأتباع.

_ 1ـ المفردات في غريب القرآن ص/29. 2ـ لسان العرب 11/29-30. 3ـ سورة القصص آية/29. 4ـ سورة طه آية/132. 5ـ سورة الأحزاب آية/33. 6ـ سورة هود آية/73. 7ـ تاج العروس 7/217 والآية رقم/55 من سورة مريم. 8ـ 1/29.

فهذه النصوص المتقدم ذكرها عن أئمة اللغة أوضحت المراد بكلمة "أهل البيت" وأنها تطلق أصلاً على الأزواج خاصة، ثم تستعمل في الأولاد والأقارب وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في غير ما آية: قال تعالى في سياق قصة خليل الله إبراهيم لما جاءته رسل الله بالبشرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} 1 فالمراد بأهل البيت في هذه الآية هي زوجة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. وقال تعالى في سياق موسى عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} 2 فالمراد بالأهل في هذه الآية هي امرأته لأنه لم يكن مع موسى غيرها. وقد وردت لفظة "أهل البيت" في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 3. فمن له أدنى إلمام بكتاب الله تعالى يفهم من هاتين الآيتين أن المراد "بأهل البيت" هن أزواجه عليه الصلاة والسلام لأن صدر الآية "وقرن" وما قبلها وما بعدها من الآيات لم يخاطب بها إلا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.

_ 1ـ سورة هود آية/71-73. 2ـ سورة القصص آية/29. 3ـ سورة الأحزاب آية/33-34.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: "والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم وإنما قال: "ويطهركم" لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام"أ. هـ1. وقال العلامة ابن القيم بعد أن ساق الآيات التي وجه فيها الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في "سورة الأحزاب"2 قال: "فدخلن في أهل البيت لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن فلا يجوز إخراجهن من شيء منه والله أعلم"أ. هـ3. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح ... إلى أن قال: "ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي: واعلمن بما ينزل الله ـ تبارك وتعالى ـ على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة قاله قتادة وغير واحد: واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة وأحظاهن بهذه الغنيمة وأخصهن من هذه الرحمة العميمة فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن 14/183. 2ـ سورة الأحزاب آية/30-34. 3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/117.

فراش امرأة سواها كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه قال بعض العلماء رحمهم الله: لأنه لم يتزوج بكراً سواها ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها فناسب أن تخصص بهذه المزية وأن تفرد بهذه المرتبة العلية ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث "وأهل بيتي أحق" 1. ولقد بين صلى الله عليه وسلم المراد "بأهل البيت" وأن المقصود أولا بذلك هن أزواجه عليه الصلاة والسلام فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك في قصة زواجه عليه الصلاة والسلام بزينب بنت جحش وفيه أنه خرج فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله" فقالت: وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ... الحديث2. فقد بين عليه الصلاة والسلام بهذا أن نساءه داخلات في أهل بيته فلا ينازع في ذلك إلا من طبع قلبه على القدح في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صفوة هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد ذكر العلامة ابن القيم العلامة ابن القيم أن الأئمة اختلفوا في تحديد المراد "بآل البيت" على أقوال: قال رحمه الله: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال:

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 5/452، 458 وقوله: "كما تقدم في الحديث "وأهل بيتي أحق" يشير إلى حديث رواه أحمد في المسند 4/107 عن أبي عمار قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي قالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخلا فأدنا علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساء ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق". 2ـ صحيح البخاري 3/177.

فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه. الثاني: أنهم بنو هاشم خاصة وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ورواية عن أحمد رحمه الله واختيار ابن القاسم صاحب مالك. الثالث: أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب فيدخل فيهم بنو المطلب وبنو أمية وبنو نوفل ومن فوقهم إلى بني غالب وهو اختيار أشهب من أصحاب مالك ... إلى أن قال: وهذا القول في الآل أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي رحمه الله وأحمد والأكثيرين وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي. القول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة حكاه ابن عبد البر في التمهيد: قال في "باب عبد الله بن أبي بكر في شرح حديث أبي حميد الساعدي: استدل قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة لقوله في حديث مالك عن نعيم المجمر وفي حديث مالك: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"1 وفي هذا الحديث يعني حديث أبي حميد: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته"2 قالوا: فهذا يفسر ذلك الحديث ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته. القول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة. حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله. القول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الآتقياء من أمته حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.

_ 1ـ الموطأ 1/165. 2ـ المصدر السابق 1/166.

ولما فرغ رحمه الله من عرض أدلة كل قول وبين ما فيها من الصحيح والضعيف قال مرجحاً: "والصحيح هو القول الأول ويليه القول الثاني. وأما الثالث والرابع فضعيفان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد" 1 وقوله: " إنما يأكل آل محمد من هذا المال"2 وقوله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" 3 وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه ولا يجوز العدول عن ذلك وأما تنصيصه على الأزواج والذرية فلا يدل على اختصاص الآل بهم بل هو حجة على عدم الاختصاص بهم لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم" 4 فجمع بين الأزواج والذرية والأهل وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحق من دخل فيه.5 وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: "وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قالوا: والمراد من البيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته لقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وأيضاً: السياق في الزوجات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 6.

_ 1ـ صحيح مسلم 3/753، المسند 4/166. 2ـ صحيح البخاري 2/301، صحيح مسلم 3/1380. 3ـ صحيح البخاري 4/123، صحيح مسلم 4/2281 واللفظ لمسلم. 4ـ سنن أبي داود 1/225. 5ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/112-119. 6ـ فتح القدير للشوكاني 4/278.

وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري: قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: "اعلم أنه قد جاء في أهل البيت بمعنى من حرم الصدقة عليهم وهم بنو هاشم فيشمل آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث فإن كل هؤلاء يحرم عليهم الصدقة وقد جاء بمعنى أهله صلى الله عليه وسلم شاملاً لأزواجه المطهرات، وإخراج نسائه صلى الله عليه وسلم من أهل البيت في قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من أن الخطاب معهن سباقاً وسياقاً فإخراجهن مما وقع في البين يخرج الكلام عن الاتساق والانتظام. قال الرازي: إنها شاملة لنسائه صلى الله عليه وسلم لأن سياق الآية ينادي على ذلك فإخراجهن عن ذلك وتخصيصه بغيرهن غير صحيح والوجه في تذكير الخطاب في قوله: ليذهب عنكم ويطهركم باعتبار لفظ الأهل، أو لتغليب الرجال على النساء ولو أنث الخطاب لكان مخصوصاً بهن ولا بد من القول بالتغليب على أي تقدير كان وإلا لخرجت فاطمة رضي الله عنها وهي داخلة في أهل البيت بالاتفاق1. والذي أخلص إليه مما تقدم أن أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو ما يلزم المسلم اعتقاده إذ المراد بأهل البيت أصلاً وحقيقة أزواجه عليه الصلاة والسلام ويدخل في أهل بيته أولاده وأعمامه وأبناؤهم.

_ 1ـ تحفة الأحوذي 10/287، وانظر التفسير الكبير للرازي 25/209.

المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموما وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا

المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً لقد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً على سبيل العموم في غير ما آية وحديث، وكما قدمنا في المبحث الذي قبل هذا أن أزواجه داخلات في أهل بيته دخولاً أولياً وقد وردت آيات قرآنية في مدحهن عموماً. أوضح الله تعالى فيها أنهن في مرتبة علية ومنزلة رفيعة. 1- قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1. هذه الآية الكريمة اشتملت على فضيلة عظيمة ومنقبة رفيعة لجميع أزواجه عليه الصلاة والسلام وهي أنه تعالى: أوجب لهن حكم الأمومة على كل مؤمن مع ما لهن من شرف الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي رحمه الله تعالى: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات"2. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع"3. 2- ومن مناقبهن العظيمة التي سجلها لهن القرآن العظيم أنهن اخترن الله

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/6. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 14/123. 3ـ تفسير القرآن العظيم 5/425.

ورسوله والدار الآخرة إيثاراً منهن لذلك على الدنيا وزينتها فأعد الله لهن على ذلك ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 1. "هذا أمر من الله ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن: الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة"2. وقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: "إن الله ـ جل ثناؤه ـ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْراً عَظِيماً} " قالت: فقلت: ففي أي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"3. ففي هذا بيان فضيلة عظيمة ومنزلة عالية لأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي هن أول ما يتناولهن لفظ "أهل البيت". 3- ومن مناقبهن العامة رضي الله عنهن جميعاً أن الله تعالى أخبر عباده أن ثوابهن على الطاعة والعمل الصالح مثلاً أجر غيرهن. قال تعالى: {وَمَنْ

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/28-29. 2ـ تفسير القرآن العظيم 5/447. 3ـ صحيح البخاري 3/175.

يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} 1 فقد أخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية أن التي تطيع الله ورسوله منهن وتعمل بما أمر الله به فإنه ـ تعالى ـ يعطيها ثواب عملها مثلي ثواب عمل غيرها من سائر نساء الناس وأعد لها في الآخرة عيشاً هنيئاً في الجنة. قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: {وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي: مثل أجر غيرها قال مقاتل: مكان كل حسنة عشرين حسنة"2. وقال الحافظ ابن كثير: عند قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي: في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش"3. وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "قوله: {أَجْراً عَظِيماً} المعنى: أعطاهن الله بذلك ثواباً متكاثر الكيفية والكمية في الدنيا والآخرة وذلك بين في قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} وزيادة رزق كريم معد لهن، أما ثوابهن في الآخرة فكونهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في درجته في الجنة ولا غاية بعدها ولا مزية فوقها، وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن، فإن الثواب والنعيم على قدر المنزلة وأما في الدنيا فبثلاثة أوجه: أحدها: أنه جعلهن أمهات المؤمنين تعظيماً لحقهن، وتأكيداً لحرمتهن وتشريفاً لمنزلتهن. الثاني: أنه حظر عليه طلاقهن ومنعه من الاستبدال بهن فقال: {لا يَحِلُّ

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/31. 2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 5/212. 3ـ تفسير القرآن العظيم 5/450.

لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} 1. والحكمة أنهن لما لم يخترن عليه غيره أمر بمكافأتهن في التمسك بنكاحهن. الثالث: أن من قذفهن حد حدين كما قال مسروق والصحيح أنه حد واحد2 فالآية تضمنت بيان منزلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وشرفهن على سائر نساء الناس. 4- ومن مناقبهن العامة التي شرفهن بها رب العالمين وأخبر بها عباده في كتابه العزيز أنهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف وعلو المنزلة. قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} 3. فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يلحقهن أحد من نساء الناس في الشرف والفضل كما بين أن هذا الفضل إنما يتم لهن بشرط التقوى لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن4. قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في بيان معنى الآية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات. أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي5. وقال أبو بكر بن العربي: قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} يعني: في الفضل والشرف فإنهن وإن كن من الآدميات فلسن كإحداهن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من البشر جبلة، فليس منهم فضيلة ومنزلة، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات، فإن من يقتدى به، وترفع منزلته على المنازل جدير بأن يرتفع

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/52. 2ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1533. 3ـ سورة الأحزاب آية/32. 4ـ انظر الجامع لأحكام القرآن 14/177. 5ـ تفسير البغري على حاشية تفسير الخازن 5/212.

فعله على الأفعال ويربو حاله على الأحوال"أ. هـ1. قال الحافظ ابن كثير: عند قوله تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} قال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله ـ عز وجل ـ كما أمرهن فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة"2. 5- ومن المناقب العامة لأزواجه عليه الصلاة والسلام التي نوه الله بذكرها في كتابه العزيز ما امتن به عليهن من تلاوة آياته، وما نزل من الوحي عليه عليه الصلاة والسلام في بيوتهن وهذه منقبة كبيرة ومفخرة عظيمة لهن رضي الله عنهن جميعاً قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 3 ففي هذه الآية الكريمة خطاب لأمهات المؤمنين بأن يتذكرن نعمة الله عليهن بأن جعلهن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة فما عليهن إلا أن يشكرنه تعالى ويحمدنه على ذلك وقد فعلن ذلك رضي الله عنهن وأرضاهن. قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "وعنى بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} واذكرن ما يقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة ويعني: بالحكمة ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله ولم ينزل به قرآن وذلك السنة ... وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يقول تعالى ذكره: إن الله كان ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة، خبيراً بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً"4.

_ 1ـ أحكام القرآن القرآن لابن العربي 3/1534-1535. 2ـ تفسير القرآن العظيم 5/451. 3ـ سورة الأحزاب آية/34. 4ـ جامع البيان 22/9.

وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أي: بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة بخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك1. فالآية تضمنت مكانة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن جميعاً حيث شرفهن الله بتلاوة آيات الله والحكمة في مساكنهن وذلك دليل على أنهن جليلات القدر رفيعات المنزلة. 6- ومن المناقب العامة التي شرف الله بها الصحابة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إخباره تعالى أنه طهرهم من الرجس تطهيراً، ونوه بذلك في محكم كتابه الكريم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 2. هذه الآية شاملة لجميع أهل بيته عليه الصلاة والسلام من الصحابة ذكوراً وإناثاً ولا يخرج عنها فرد منهم وكلهم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً وقد اختلف المفسرون في معنى "الرجس" على أربعة أقوال: فقيل: الإثم. وقيل: الشرك. وقيل: الشيطان. وقيل: الأفعال الخبيثة والأخلاق الذميمة، فالأفعال الخبيثة: كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأخلاق الذميمة: كالشح والبخل والحسد وقطع الرحم3. وقال البغوي رحمه الله تعالى: "أراد بالرجس: الإثم الذي نهى الله النساء عنه قال مقاتل: وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضاً وقال

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 5/459. 2ـ سورة الأحزاب آية/33. 3ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1537، زاد المسير لابن الجوزي 6/381.

قتادة: يعني السوء وقال مجاهد: الرجس الشك وأراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس"1. فإذهاب الرجس شامل لزوجاته عليه الصلاة والسلام وغيرهن من أهل بيته من الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، فلقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً. فالآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً. أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق الآية، ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله. وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث المصرحة بأنهم من أهل بيته ومن تلك الأحاديث ما رواه مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط2 مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن ابن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 3. قال القرطبي: "فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج"4. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن آية التطهير من الرجس شاملة لأزواجه ولعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً فقد قال رحمه الله تعالى:

_ 1ـ معالم التنزيل على تفسير الخازن 5/212. 2ـ المرط: كساء يكون من صوف وربما كان من خز أو غيره "النهاية في غريب الحديث" 4/319. 3ـ صحيح مسلم 4/1883. 4ـ الجامع لأحكام القرآن 14/184.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهي راً 1 وسنته تفسر كتاب الله وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه فلما قال: "هؤلاء أهل بيتي" مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس إلحافاً" 2. بين بذلك: أن هذا مختص بكمال المسكنة بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه المسكنة لوجود من يعطيه أحياناً مع أنه مسكين أيضاً: ويقال: هذا هو العالم وهذا هو العدو وهذا هو المسلم لمن كمل فيه ذلك وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه. ونظير هذا في الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: ـ"مسجدي هذا" 3 يعني مسجد المدينة مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 4 يقتضي أنه مسجد قباء فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟؟ " فقالوا: لأننا نستنجي

_ 1ـ المسند 6/292، سنن الترمذي 5/30-31. 2ـ صحيح البخاري 3/109، 2/258، سنن أبي داود 1/379، سنن النسائي 6/85-86. 3ـ صحيح مسلم 3/1015 ونصه هكذا: "هو مسجدكم هذا". 4ـ سورة التوبة آية/ 108.

بالماء1 لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء، وإن كان كل منها مؤسساً على التقوى وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قباء كل سب راكباً وماشياً فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ثم يقوم بقباء يوم السبت وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى ولما بين ـ سبحانه ـ أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيراً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به وهم: علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوها بمجرد حولهم وقوتهم إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه، وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح: أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن حتى مات عنهن ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله ـ سبحانه ـ وتعالى فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده. ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور والوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال: "إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين"2. فإذن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} شاملة لزوجاته عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين وغيرهن من قرابته وأهل بيته من الصحابة فمن جعل الآية خاصة

_ 1ـ انظر الحديث في مسند أحمد 3/422، وسنن ابن ماجه 1/128. 2ـ حقوق آل البيت لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/25-28.

بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله"1. ولقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضل أهل البيت عموماً ومنها: 1- روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار" 2. 2- وروى مسلم بإسناده إلى يزيد بن حيان قال: "انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال: كل هؤلاء حرم الصدقة قال: نعم". وفي رواية أخرى عن يزيد بن حيان قال: دخلنا عليه فقلنا له: لقد رأيت

_ 1ـ انظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 9/67. 2ـ المستدرك 3/150 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي في تلخيصه وأورده في سير أعلام النبلاء 2/123.

خيراً لقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت خلفه وساق الحديث غير أنه قال " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله ـ عز وجل ـ هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة" وفيه فقلنا: من أهل بيته نساؤه قال: لا وايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده"1. قال ابن كثير: "هكذا وقع في هذه الرواية والأولى أولى والأخذ بها أحرى وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث ... إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط بل هم مع آله وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها"أ. هـ2. وقال النووي مبيناً وجه الجمع بين الروايتين: "فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: نساؤه لسن من أهل بيته فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمر باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلا ووعظ في حقوقهم وذكر فنساؤه داخلات في هذا كله ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله: "نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة فاتفقت الروايتان"أ. هـ3. وقال القرطبي موضحاً كيفية القيام بوصية النبي صلى الله عليه وسلم تجاه أهل بيته فقال: "وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأنهم جزء منه فإنهم أصوله التي

_ 1ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1873-1874. 2ـ تفسير القرآن العظيم 5/457-458. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/180-181.

نشأ عنها وفروعه نشأوا عنه كما قال: "فاطمة بضعة مني ... " 1. فحديث زيد بن أرقم المتقدم تضمن فضيلة أهل بيته عليه الصلاة والسلام من الصحابة حيث قرن الوصية بهم مع وصيته بالالتزام والتمسك بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، فجعله عليه الصلاة والسلام أهل بيته ثقلا دليل واضح على عظم حقهم وارتفاع شأنهم وعلو منزلتهم. ومعنى: التمسك بالكتاب امتثال ما أمر الله به فيه واجتناب ما نهى عنه قولا وعملاً ومعنى التمسك ـ بأهل بيته ـ محبتهم والمحافظة على حرمتهم والعمل بروايتهم الصحيحة والاهتداء بهديهم وسيرتهم إذا لم يكن في ذلك مخالفة للدين2. 3- وروى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد المطلب إني سألت الله لكم ثلاثاً أن يثبت قائمكم وأن يهدي ضالكم وأن يعلم جاهلكم وسألت الله أن يجعلكم جوداء نجداء رحماء فلو أن رجلاً صفن3 بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار"4. هذا الحديث تضمن ثلاث مناقب لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهي واضحة كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما تضمن الحديث أن مبغضهم من أهل النار والعياذ بالله فالواجب على المسلم أن يحبهم ويبعد نفسه عن بغضهم. 4- حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على حبهم وجعل محبتهم دليلاً على محبته عليه الصلاة والسلام فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني

_ 1ـ ذكره عنه المناوي في كتابه "فيض القدير" 3/14-15. 2ـ انظر تحفة الأحوذي 10/288، وانظر فيض القدير للمناوي 3/15. 3ـ صفن: أي قائم انظر "النهاية في غريب الحديث" 3/39. 4ـ المستدرك 3/148-149 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي" 1. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وأحبوا أهل بيتي لحبي" أي: إنما تحبونهم لأني أحببتهم بحب الله تعالى لهم وقد يكون أمراً بحبهم لأن محبتهم لهم تصديق لمحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم2. وقد فهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته حق فهمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث دعا الناس إلى إكرامهم واحترامهم ومحبتهم. 5- فقد روى البخاري بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "أرقبوا محمداً في أهل بيته"3. هذا خطاب من الصديق رضي الله عنه ووصية منه لكافة أمة محمد ببيت النبوة "والمراقبة للشيء المحافظة عليه ومعنى قول الصديق احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم"4. قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى "ارقبوا" راعوه واحترموه وأكرموه"5. 6- وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: " ... والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي6. ففي قول الصديق هذا بيان فضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم والحث على إكرامهم واحترامهم ولقد بين رضي الله عنه بقوله هذا والذي قبله ما يجب أن يكون المسلم

_ 1ـ المصدر السابق 3/150 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ فيض القدير للمناوي 1/178. 3ـ صحيح البخاري 2/302. 4ـ انظر فتح الباري 7/79، عمدة القاريء 16/222-223. 5ـ رياض الصالحين ص/171. 6ـ صحيح البخاري 2/301.

عليه من الاعتقاد السليم تجاه أهل البيت رضي الله عنهم من حيث مراعاتهم وإكرامهم واحترامهم ومحبتهم فالواجب على كل مسلم أن يسلم بما أثبته الله تعالى من الفضل العام لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقدرهم حق قدرهم ويكن لهم الاحترام والتوقير والإكرام والإعظام وأن يحفظ فيهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم حيث وصى بمراعاتهم والإحسان إليهم ويبتعد عما يكون سبباً في الإساءة إليهم وأن يعلم أن محبتهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم وبغضهم ذنب عظيم يجب على المسلم ألا يكون في قلبه محل لذلك وكذلك سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم

المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم ... 1) إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم معنا في الفصل الثالث من هذا الباب ذكر فضائل أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا المبحث أذكر الفضل الوارد في حق غيره من أهل البيت الذكور رضي الله عنهم أجمعين. ولنبدأ هنا بذكر إبراهيم ابن المصطفى عليه الصلاة والسلام. ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وأمه مارية القبطية التي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقس صاحب الإسكندرية ولما ولد بشر النبي صلى الله عليه وسلم به أبو رافع مولاه فوهب له عبداً ومات طفلاً قبل الفطام1. وقد وردت أحاديث كثيرة فيها بيان فضله وسرور النبي صلى الله عليه وسلم به ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم" 2. 2- وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي3 المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن وكان ظئره4 قينا5 فيأخذه فيقبله ثم يرجع قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني وأنه مات في الثدي 6 وإن له..................................................

_ 1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 1/134-135، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/23-27، زاد لمعاد 1/103-104، أسد الغابة 1/38-40. 2ـ صحيح مسلم 4/1807. 3ـ عوالي المدينة: هي القرى التي عند المدينة "شرح النووي" 15/76. 4ـ ظئره: أي زوج مرضعته. 5ـ قينا: أي حداد والقين: هو الحداد والصائغ "النهاية لابن الأثير" 4/135. 6ـ معناه مات: وهو في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيه بلبن الثدي "شرح النووي" 15/76.

لظئرين 1 تكملان رضاعه 2 في الجنة" 3. 3- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له مرضعاً في الجنة" 4. 4- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لإبراهيم مرضع في الجنة" 5. 5- وروى محمد بن سعد في الطبقات6 بإسناده إلى البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن له مرضعاً في الجنة". ومعنى هذه الأحاديث أن له مرضعاً في الجنة تكمل إرضاعه لأن لما مات كان ابن ستة عشر شهراً، أو ثمانية عشر شهراً على اختلاف الروايتين7. فيرضع بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن "وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته فيدخل الجنة متصلاً بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم "8. 6- وروى البخاري بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لابن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيراً، ولو قضى أن يكون

_ 1ـ قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: "فيه ذكر ابنه إبراهيم عليه السلام فقال: إن له طئراً في الجنة "الظئر: المرضع غير ولدها، ويقع على الذكر والأنثى"أهـ 3/154. 2ـ تكملان رضاعه "أي: تتمانه سنتين" شرح النووي على صحيح مسلم 15/76. 3ـ صحيح مسلم 4/1808. 4ـ صحيح البخاري 4/80. 5ـ المسند 4/284. 6ـ 1/139. 7ـ فتح الباري 10/579، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/76. 8ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/76.

بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده1. قال الحافظ هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى ومثل هذا لا يقال بالرأي وقد توارد عليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن له مرضعاً في الجنة لو عاش لكان صديقاً نبياً ولأعتقت أخواله القبط" 2. وروى أحمد وابن منده من طريق السدي: "سألت أنساً كم بلغ إبراهيم؟ قال: كان قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء". ولفظ أحمد لو عاش إبراهيم ابن النبي لكان صديقاً نبياً3 فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل وجسارة في الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل4، ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين فرواه عن غيرهم ممن تأخر عنهم فقال ذلك وقد استنكر قبله ابن عبد البر في الاستيعاب الحديث المذكور فقال: هذا لا أدري ما هو وقد ولد لنوح من ليس بنبي وكما يلد غير النبي نبياً فكذا يجوز عكسه5 حتى نسب

_ 1ـ صحيح البخاري 4/80. 2ـ سنن ابن ماجه 1/484 وقد تكلم أهل العلم في سند هذا الحديث من جهة إبراهيم بن عثمان فقد قال البخاري: سكتوا عنه وقال يحيى بن معين: ليس بثقة وقال النسائي والدوالابي: متروك الحديث وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث سكتوا عنه وتركوا حديثه، وقال الجوزجاني: ساقط وقال صالح جزره: ضعيف لا يكتب حديثه. "التهذيت" 1/144. 3ـ المسند 3/281. 4ـ تهذيب الأسماء واللغات 1/103. 5ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/27.

قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية1. ولما مات إبراهيم رضي الله عنه حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزناً عظيماً حتى ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام بالدمع عليه فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم" ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف فانطلق يأتيه واتبعته فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره قد امتلأ البيت دخاناً فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول: فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه2 بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزنون" 3. والذي أخلص إليه مما تقدم في الأحاديث أنها اشتملت على بيان فضل إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته عند المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة.

_ 1ـ فتح الباري 10/579. 2ـ أي: يجود بها. ومعناه: وهو في النزع. 3ـ صحيح مسلم 4/1807-18508.

2) الحسن بن علي رضي الله عنه: هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن بنته فاطمة الزهراء وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه وسماه حسناً، وهو أكبر ولد أبويه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً حتى كان يقبل زبيبته1 وهو وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه، وربما جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيقره على ذلك ويطيل السجود من أجله وربما صعد إلى المنبر2 "وكانت فاته رضي الله عنه سنة خمسين من الهجرة بالمدنية النبوية"3. وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان مناقبه رضي الله عنه منها ما وردت فيه منقبة خاصة به، ومنها ما فيه منقبة مشتركة بينه وبين أخيه الحسين وكذلك الحسين رضي الله عنه وردت له مناقب انفرد بها ومناقب أخرى اشترك فيها مع أخيه الحسن وسأبدأ بذكر طائفة من المناقب التي انفرد بها: كل واحد منهما، ثم أعقب ذلك بذكر طائفة من المناقب التي اشتركا فيها معاً رضي الله عنهما، فمن المناقب التي انفرد بها الحسن رضي الله عنه: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن4. وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه قال سمعت النبي

_ 1ـ زبيبته: الزبيبة زبدة ترى في شدق الإنسان إذا أكثر الكلام، وقيل: قرحة سوداء تظهر على الجبين، انظر لسان العرب 1/445. 2ـ البداية والنهاية 8/36، وانظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/368-377، صفة الصفوة 1/758-76، حلية الأولياء 2/35، الإصابة 1/327-330، سير أعلام النبلاء 3/245. 3ـ صفة الصفوة 1/762، الإصابة 1/330، فتح الباري 7/95. 4ـ صحيح البخاري 2/305.

صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبة ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1. هذا الحديث فيه منقبة للحسن رضي الله عنه فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد. قال ابن الأثير: "قيل أراد به الحليم لأنه قال في تمامه: " وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 2. وجاء في تحفة الأحوذي: "فيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة وهو مشتق من السؤدد وقيل السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس: أي الأشخاص الكثيرة ولعل الله أن يصلح به بين فئتين تثنية فئة وهي الفرقة"3. ووصفه عليه الصلاة والسلام للفئتين بالعظيمتين كما في رواية عند البخاري4 "لأن المسلمين كانوا يومئذ فرقتين فرقة مع الحسن رضي الله عنه وفرقة مع معاوية وهذه معجزة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذا فوقع مثل ما أخبر، وأصل القضية أن علي بن أبي طالب لما ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي يوم الجمعة وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين من الهجرة وبويع لابنه الحسن بالخلافة في شهر رمضان من هذه السنة وأقام الحسن أياماً مفكراً في أمره ثم رأى اختلاف الناس فرقة من جهته وفرقة من جهة معاوية ولا يستقيم الأمر، ورأى النظر في إصلاح المسلمين وحقن دمائهم أولى من النظر في حقه سلم الخلافة لمعاوية في الخامس من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وقيل من ربيع الآخر وقيل في غرة جمادى الأولى وكانت خلافته ستة أشهر إلا أياماً وسمي هذا العام عام الجماعة وهذا الذي أخبر به النبي

_ 1ـ صحيح البخاري 2/306. 2ـ النهاية في غريب الحديث 3/417. 3ـ تحفة الأحوذي 10/277. 4ـ صحيح البخاري 2/114.

صلى الله عليه وسلم "لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين" 1. "فالحديث فيه علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة2. 3- وروى الشيخان في صحيحهما عن البراء بن عازب قال: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه" 3. 4- وروى البخاري بإسناده إلى أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن ويقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما" 4. 5- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال: "أثم لكع أثم لكع" يعني "حسناً" فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا5 "فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه"6. هذه الثلاثة الأحاديث فيها بيان لفضل الحسن بن علي كما تضمنت الحث على حبه رضي الله عنه وأرضاه. 6- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: لم

_ 1ـ عمدة القاري 13/282، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/158، الكامل 3/404، سير أعلام النبلاء 3/144-145، معالم السنن 4/311. 2ـ فتح الباري 13/66. 3ـ صحيح البخاري 2/306، صحيح مسلم 4/1883. 4ـ صحيح البخاري 2/306. 5ـ سخاباً: جمعه سخب وهو قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان، النهاية في غريب الحديث 2/349. 6ـ صحيح مسلم 4/1882-1883.

يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي1. 7- وروى أيضاً بإسناده إلى عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه وحمل الحسن وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي وعلي يضحك2. فكونه رضي الله عنه شبه جده عليه الصلاة والسلام في الخلق منقبة عظيمة له وفضيلة ظاهرة. 8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقى الحسن بن علي فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بطنك فاكشف الموضع الذي قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله قال: وكشف فقبله"3. فتقبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام لأبي محمد الحسن بن علي رضي الله عنهما منقبة عظيمة، وفضيلة ظاهرة، ولذلك حرص أبو هريرة على أن يقبله في الموضع الذي قبله فيه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهار هذه المنقبة العظيمة. 9- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: كنا مع أبي هريرة فجاء الحسن بن علي بن أبي طالب علينا فسلم فرددنا عليه السلام ولم يعلم به أبو هريرة فقلنا له يا أبا هريرة هذا الحسن بن علي قد سلم علينا فلحقه وقال: وعليك السلام يا سيدي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيد"4. فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحسن سيد مفخرة عظيمة وميزة شريفة له رضي الله عنه وأرضاه. 10- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ما يصنع رأيت الحسن في

_ 1ـ صحيح البخاري 2/306. 2ـ المصدر السابق. 3ـ المستدرك 3/168، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 4ـ المصدر السابق 3/169 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل أصابعه في لحية النبي والنبي صلى الله عليه وسلم يدخل لسانه في فمه ثم قال: "اللهم إني أحبه فأحبه" 1. 11- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى معاوية رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه أو قال شفتيه ـ يعني الحسن بن علي ـ وإنه لن يعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. فإدخاله عليه الصلاة والسلام لسانه في فم الحسن رضي الله عنه ومص لسانه وإخباره بأنه يحبه ودعا الله تعالى أن يحبه منقبة عظيمة تدل على علو شأنه وبيان مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان الحسن رضي الله عنه مكرماً معززاً عند الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين ولوا أمر الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير: "وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه، وكذلك عمر بن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أبيه أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما وقد كان الحسن بن علي يوم الدار وعثمان بن عفان محصور عنده ومعه السيف متقلداً به يحاجف عن عثمان، فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييباً لقلب علي، وخوفاً عليه رضي الله عنهم وكان علي يكرم الحسن إكراماً زائداً ويعظمه ويبجله وقد قال له يوماً: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟ فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيباً وعلي يسمع فأدى خطبة بليغة فصيحة فلما انصرف جعل علي يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ

_ 1ـ المستدرك 3/169 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ المسند مع الفتح الرباني 23/167 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/177 وقال أحمد ورجاله رجال الصحيح.

سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعيم عليه، وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما رضي الله عنهما وأرضاهما. وكان ابن الزبير يقول: "والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي. وقال غيره: كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلاه يذكر الله حتى يرتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله"2 تلك طائفة من مناقب الحسن بن علي التي انفرد بها رضي الله عنه وكلها تدل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ سورة آل عمران آية/ 34. 2ـ البداية والنهاية 8/40.

3) الحسين بن علي رضي الله عنه: هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي السبط الشهيد بكربلاء، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء وريحانته من الدنيا، عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيراً، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان وصحب أباه وروى عنه، وكان معظماً موقراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولده سنة أربع للهجرة، ومات رضي الله عنه قتلاً في يوم عاشوراء من شهر الله المحرم سنة إحدى وستين هجرية1 بكربلاء من أرض العراق وذلك لما مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه واستخلف من بعده ابنه يزيد قام أهل الكوفة بمكاتبة الحسين بن علي رضي الله عنه وذكروا له أنهم في طاعته فخرج إليهم الحسين فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، وقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس فجهز إليه ابن زياد عسكراً فقاتلوه رضي الله عنه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته2. وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان مناقبه التي اختص بها وتفرد بها ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين عليه السلام فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنة شيئاً فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة3.

_ 1ـ البداية والنهاية لابن كثير 8/162-163 وانظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/377-383، سير أعلام النبلاء 3/280-321، الإصابة لابن حجر 1/331-334، أسد الغابة 2/18-22. 2ـ فتح الباري 7/95، تحفة الأحوذي 10/272. 3ـ صحيح البخاري 2/306.

2- وفي رواية أخرى عن أنس قال لما أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان أحسبه قال جميلاً فقلت: والله لأسوءنك إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم1 حيث يقع قضيبك قال فانقبض2. 3- وروى الطبراني كما في البداية والنهاية لابن كثير عن زيد بن أرقم أنه قال لابن زياد وهو ينكت بقضيبه بين ثنيتي الحسين "ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما"3. هذه الثلاثة الأحاديث فيها بيان فضل الحسين رضي الله عنه فقد كان رضي الله عنه أشبه أهل البيت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في حق الحسن "أنه لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي فيحصل التعارض ولكن الحافظ ابن حجر جمع بيهما فقال رحمه الله: "ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع في رواية الزهري في حياة الحسن لأنه يومئذ كان أشد شبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من أخيه الحسين وأما ما وقع في رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك كما هو ظاهر من سياقه أو المراد عن فضل الحسين عليه في الشبه من عدا الحسن ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبهاً في بعض أعضائه. فقد روى الترمذي وابن حبان من طريق هانيء بن هانيء عن علي قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الرأس إلى الصدر والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما أسفل من ذلك4 ووقع في رواية عبد الأعلى عن معمر عند الإسماعيلي وفي رواية الزهري هذه وكان أشبههم وجهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤيد حديث علي هذا والله

_ 1ـ يلثم: أي يقبل. 2ـ مجمع الزوائد 9/195 ثم قال: رواه البزار والطبراني بأسانيد ورجاله وثقوا. 3ـ البداية والنهاية 8/206. 4ـ سنن الترمذي 5/325.

أعلم"1. 4- وروى الحاكم بإسناده إلى يعلى العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعوا له قال: فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم وحسين مع الغلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هاهنا مرة وهاهنا مرة فجعل رسول الله يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه يقبله فقال: "حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط" 2. جاء في تحفة الأحوذي: قال القاضي: "كأنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم فخصه بالذكر وبين أنهما كالشيء الواحد في وجوب المحبة وحرمة التعرض والمحاربة، وأكد ذلك بقول: "أحب الله من أحب حسيناً" فإن محبته محبة الرسول ومحبة الرسول محبة الله3. فالحديث اشتمل على منقبة عالية للحسين رضي الله عنه وأرضاه. 5- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد فأخذ بيدي واتكأ علي فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع قال: وما كلمني فطاف ونظر ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى وقال لي: "ادع لي لكاع" فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجرة ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه في فيه ويقول: "اللهم إني أحبه فأحبه" 4.

_ 1ـ فتح الباري 7/97، وانظر البداية والنهاية 8/206. 2ـ المستدرك 3/177 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ تحفة الأحوذي 10/279. 4ـ المستدرك 3/178 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

6- وروى أبو يعلى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن علي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله1. تلك طائفة من الأحاديث التي تضمنت ذكر فضل الحسين بن علي رضي الله عنه منفرداً وقد وردت أحاديث كثيرة تضمنت ذكر مناقب مشتركة بين الحسن والحسين رضي الله عنهما ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر وقد سأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتاي من الدنيا" 2. ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة للحسن والحسين رضي الله عنهما حيث شبههما عليه الصلاة والسلام بالريحان الذي له رائحة زكية، وشبههما النبي صلى الله عليه وسلم بالريحان لأن الولد يشم ويقبل وقد جاء من حديث أنس عند الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول لفاطمة أمهما رضي الله عنها: "ادعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه" 3. قال الكرماني: شارحاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "هما ريحانتاي من الدنيا" الريحان الرزق أو المشموم وتعقبه العيني بقوله: "لا وجه هنا أن يكون بمعنى الرزق على ما لا يخفى"4 والأمر كما قرره العيني.

_ 1ـ أورده الهيثمي في المجمع 9/187 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعد، وقيل ابن سعيد وهو ثقة. 2ـ صحيح البخاري 2/306. 3ـ سنن الترمذي 5/327 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح". 4ـ عمدة القاري 16/243.

2- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم1 هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما. فقال: "نعم من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني" 2. 3- وروى أيضاً بإسناده إلى علي بن أبي طالب قال: لما ولدت فاطمة الحسن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قال: قلت: سميته حرباً قال: "بل هو حسن" فلما ولدت الحسين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قال: قلت: سميته حرباً فقال: "بل هو حسين"، ثم لما ولدت الثالث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أروني ابني ما سميتموه" قلت: سمتيه حرباً قال: "بل هو محسن" 3. فتسميته المصطفى عليه الصلاة والسلام لهما بالحسنين منقبة وفضيلة لهما رضي الله عنهما. 4- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر حسناً وحسيناً فقال: "اللهم إني أحبهما فأحبهما"4. هذا الحديث والحديثان المتقدمان عليه فيها بيان واضح من النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الحسن والحسين رضي الله عنهما كما تضمنت حث الأمة جميعاً على حبهما وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهما حب له عليه الصلاة والسلام وبغضهما بغض له صلى الله عليه وسلم ومن حل في قلبه بغض الرسول كان من الخاسرين. 5- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال:

_ 1ـ يلثم: أي يقبل فاه. 2ـ المستدرك 3/166 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ المستدرك 3/165 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4ـ سنن الترمذي 5/327 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما" 1. هذا الحديث اشتمل على منقبتين عظيمتين للحسنين رضي الله عنهما: الأولى: شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالجنة. الثانية: إخباره عليه الصلاة والسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة وهذا يعني: "أنهما أفضل من مات شاباً في سبيل الله من أصحاب الجنة ولم يرد به سن الشباب لأنهما ماتا وقد كهلا بل ما يفعله الشباب من المروءة كما يقال: فلان فتى وإن كان شيخاً يشير إلى قوته وفتوته أو أنهما سيدا أهل الجنة سوى الأنبياء والخلفاء الراشدين وذلك لأن أهل الجنة كلهم في سن واحد وهو الشباب وليس فيهم شيخ ولا كهل. قال الطيبي: "ويمكن أن يراد هما الآن سيدا شباب من هم من أهل الجنة من شبان هذا الزمان"2. 6- روى الإمام مسلم بإسناده إلى إياس عن أبيه قال: لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه وهذا خلفه"3. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة للحسن والحسين رضي الله عنهما وهذه الفضيلة هي إركابه عليه الصلاة والسلام إياهما حيث جعل أحدهما أمامه والآخر خلفه على بغلته الشهباء. 7- وروى أيضاً بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال:

_ 1ـ المستدرك 3/167 ثم قال: هذا حديث صحيح بهذه الزيادة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ انظر تحفة الأحوذي 10/273، عارضة الأحوذي لابن العربي 13/192. 3ـ صحيح مسلم 4/1883.

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1. وهذا الحديث اشتمل على ذكر فضيلة لعلي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين وتلك المنقبة هي إدخاله إياهم عليه الصلاة والسلام في الكساء الذي كان يرتديه، ثم أخبر أنهم من أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً. قال النووي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قيل: هو الشك. وقيل: العذاب. وقيل: الإثم قال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من عمل2. 8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعاً رفيقاً فإذا عاد عادا فلما صلى جعل واحداً هاهنا وواحداً هاهنا فجئته فقلت: يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما قال: "لا" فبرقت برقة فقال: "إلحقا بأمكما" فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا3. وهذا الحديث فيه إظهار فضل الحسن والحسين وبيان منزلتهما وعظم شأنهما. 9- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه اليمنى فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة أطالها قال أبي فرفعت رأسي من بين الناس فإذا رسول الله

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1883. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/195. 3ـ المستدرك 3/167 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

صلى الله عليه وسلم ساجد وإذا الغلام راكب على ظهره فعدت فسجدت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها أفشيء أمرت به أو كان يوحى إليك؟ قال: "كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" 1. 10- وروى الترمذي بإسناده إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما" 2. ومن مناقبهما التي أكرمهما الله بها أنهما ماتا شهيدين وهذا من إكرام الله ـ تعالى ـ لهما تكميلاً لكرامتهما ورفعا لدرجاتهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة والأشقياء وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام ... ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، رفعاً لدرجته ومنزلته عند الله وتبليغاً له منازل الشهداء وإلحاقاً له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما لأنهما ولدا في عز الإسلام وتربيا في حجور المؤمنين فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة أحدهما مسموماً3

_ 1ـ المستدرك 3/165-166 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 2ـ سنن الترمذي في شرحه تحفة الأحوذي 10/273-274 وقال: هذا حديث حسن غريب. 3ـ انظر الكامل لابن الأثير 3/460، البداية والنهاية 8/46، فتح الباري 7/95.

والآخر مقتولاً1 لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالهما إلا أهل البلاء"أ. هـ2. فأهل السنة يعتقدون أن الحسين رضي الله عنه قتل مظلوماً وقتله كذلك فيه تكريم له ورفع لدرجته عند الله ـ عز وجل ـ كما يعتقدون أن قتله من أعظم المصائب التي وقعت في الإسلام وهم يلتزمون عند المصائب ما شرعه الله لهم من الاسترجاع وإن تقادم عهد المصيبة أما أعداء الصحابة والزاعمون أنهم شيعة أهل البيت فإنهم يعملون بخلاف ما أمرهم الله به فلا يسترجعون عند المصيبة وإنما يعملون المآتم في المصائب ويتخذون أوقاتها مآتم باستمرار وهذا ليس من دين الإسلام وهو: "أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السابقين الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم وقد شهد مقتل علي أهل بيته، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته وقد مرت على ذلك سنون، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثون مأتماً ولا نياحة، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة"3. وهذا ما عليه الفرقة الناجية التي تعمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي قلوبهم ممتلئة بحب أصحاب نبيه وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين وكل ما تقدم ذكره من مناقب للحسن والحسين على سبيل الانفراد أو على سبيل الاشتراك بينهما كلها دلت على أنهما جليلا القدر عظيما المكانة فعلى المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهما من أهل الفضل ومن صفوة الأمة المحمدية رضي الله عنهما وأرضاهما.

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/400-467، الكامل لابن الأثير 4/46-93، البداية والنهاية 8/186-220. 2ـ حقوق آل البيت ص/44-45، مجموع الفتاوى 4/511. 3ـ حقوق آل البيت ص/46.

4) حمزة بن عبد المطلب: هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب الإمام البطل الضرغام أبو عمارة وأبو يعلى القرشي الهاشمي المكي ثم المدني البدري الشهيد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب وهو أسد الله وأسد رسوله، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل بأربع كان من فرسان قريش وسادتها وصناديدها المعدودين أسلم في السنة الثانية من البعثة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً وأبلى فيها بلاء حسناً واستشهد في معركة أحد في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة وسماه المصطفى عليه الصلاة والسلام سيد الشهداء وحزن عليه حزناً شديداً فرضي الله عنه وأرضاه"1. وقد وردت أحاديث كثيرة فيها ذكر مناقبه التي دلت على عظيم شأنه، وجليل قدره، وعلى أنه ذو مكانة عالية في الدنيا والآخرة ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه محمد بن سعد في كتابه الطبقات2 بإسناده إلى يزيد بن رومان قال: أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لحمزة بن عبد المطلب بعثة سرية في ثلاثين راكباً حتى بلغوا قريباً من سيف البحر يعترض لعير قريش وهي منحدرة إلى مكة قد جاءت من الشام وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب فانصرف ولم يكن بينهم قتال. ففي هذا منقبة عظيمة تشرف بها حمزة رضي الله عنه وهي أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة كان لعمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/8-19، الجرح والتعديل 3/212، صفة الصفوة 1/370-377، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/270-276، أسد الغابة 2/46-50، تهذيب الأسماء واللغات 1/168-169، سير أعلام النبلاء 1/171-184، الإصابة 1/353. 2ـ 3/9، المستدرك 3/187.

وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجله ويكرمه ويقدره ويظهر له أنه ذو مكانة عنده. 2- فقد روى الحاكم بإسناده إلى علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال: جاء علي وحمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد اغتسلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعتما؟ " قال أحدهما: يا رسول الله سترته بالثوب وقال الآخر: فجعلت مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو فعلتما غير ذلك لسترتكما" 1. ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لحمزة وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما. 3- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسماً أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 2. إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة"3. 4- وروى الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في الذين برزوا يوم بدر حمزة بن عبد المطلب وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قال علي: وأنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة"4. فهذان الحديثان تضمنا ذكر فضيلة ظاهرة لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ المراد بالذين اختصموا في الله ـ سبحانه ـ هم حزب الله، وحزب الشيطان، فحزب الله كان في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، وأما حزب الشيطان فهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة، وابنه الوليد فنصر الله حزبه، وخذل حزب الشيطان، فحمزة رضي الله عنه كان في مقدمة الذين برزوا يوم بدر

_ 1ـ المستدرك 3/193، ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ سورة الحج آية/ 19. 3ـ صحيح مسلم 4/2323. 4ـ المستدرك 3/386-387 ثم قال: لقد صح الحديث بهذه الروايات عن علي كما صح عن أبي ذر الغفاري وإن لم يخرجاه ووافقه الذهبي.

لضرب المشركين بغية إعلاء كلمة الله ونصر الدين الحنيف. 5- وروى الحاكم أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حمزة حين فاء الناس من القتال قال: فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرة وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء لأبي سفيان وأصحابه وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء من انهزامهم فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فلما رأى جبهته بكى ولما رأى ما مثل به شهق ثم قال: "ألا كفن" فقال رجل من الأنصار فرمى بثوب قال جابر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة"1. 6- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص قال: كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أسد الله2. وهذان الحديثان فيهما بيان منقبتين عظيمتين لحمزة رضي الله عنه وتلك المنقبتان هما: الأولى: قوة عزيمته وشجاعته الصارمة في مواطن القتال ضد أولياء الشيطان من المشركين والكافرين حتى أنه أطلق عليه أنه أسد الله وأسد رسوله. الثانية: التي تفرد بها وامتاز بها عن غيره إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام بأنه سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة. 7- ومن مناقبه الشريفة رضي الله عنه أنه جاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أنه في يوم أحد مثل به المشركون مثلة لم تكن لأحد سواه وذلك من شدة غيظ المشركين وحقدهم عليه إذ أنه واجههم في يوم بدر ويوم أحد مواجهة الشجاع المقدام فكانوا لا يطيقون الوقوف أمامه في ساعة القتال فإنه ما وقف

_ 1ـ المستدرك 3/199 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ المستدرك 3/194 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

أمامه فارس إلا كان كأمس الذاهب ولما استشهد في أحد على يد وحشي لم يكن عن مواجهة وإنما كمن له تحت الصخرة فرماه بحربته1 ولما سقط على الأرض شهيداً فعل به المشركون ما فعلوا من التجديع والتمثيل، فقد روى الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بحمزة يوم أحد وقد جدع ومثل به وقال: "لولا أن صفية تجد لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع" فكفنه في نمرة2. فهذا التجديع والمثلة التي حصلت لحمزة رضي الله عنه كانت في ذات الله ـ عز وجل ـ ولذلك أكرمه الله بأن كان سيد الشهداء. 8- وروى الحاكم بإسناده أيضاً: إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 3 وهذا الحديث فيه بيان ما أكرم الله به حمزة وإخوانه الذين استشهدوا معه في موقعة أحد حيث جعلهم الله أحياء يرزقون عنده في الجنة ففي هذا منقبة عظيمة لشهداء أحد الذين في مقدمتهم سيد الشهداء حمزة رضي الله عن الجميع وأرضاهم وجعل الجنة مثواهم. تلك طائفة من الأحاديث التي جاء التنويه فيها بفضل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد دلت على أنه عظيم القدر عالي المكانة في الدنيا والآخرة رضي الله عنه وأرضاه

_ 1ـ انظر صحيح البخاري مع شرح فتح الباري 7/367. 2ـ المستدرك 3/196 ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 3ـ المصدر السابق 2/387 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وانظر المصنف لابن أبي شيبة 12/107، فضائل الصحابة للنسائي ص/92، الدر المنثور للسيوطي 2/371.

5) العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: هو أبو الفضل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه نتيلة بنت جناب بن كلب ـ ولد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وهو من سادة قريش في الجاهلية والإسلام، وجد الخلفاء العباسيين، وكانت إليه في الجاهلية السقاية وعمارة المسجد الحرام، حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدرا مع الكفار مكرهاً فأسر، ثم افتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، وأسلم وكتم إسلامه وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، وهاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة، وثبت يوم حنين، وكان عظيم المكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم يعترف له بسداد الرأي، وكان الفاروق رضي الله عنه يستسقي به إذا قحطوا، توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين للهجرة ودفن بالبقيع رضي الله عنه وأرضاه1. وقد وردت في بيان مناقبه أحاديث كثيرة كلها دلت على أنه عظيم المقام جليل القدر ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه أبو القاسم الطبراني بإسناده إلى أبي رافع رضي الله عنه أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم2. فلقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأعتق أبا رافع لما بشره بإسلامه ففيه منقبة ظاهرة للعباس. وروى الترمذي وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العباس

_ 1ـ طبقات ابن سعد 4/5-33، الجرح والتعديل 6/210، المستدرك 3/321، الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/94-101، صفة الصفوة 1/506-510، مجمع الزوائد 9/268، تهذيب التهذيب 5/214-215، الإصابة 2/263، أسد الغابة 3/109-112. 2ـ أورده الهيثمي في المجمع 9/268، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

مني وأنا منه" 1. جاء في تحفة الأحوذي: قوله: "العباس مني وأنا منه" قال: في المرقاة: "أي من أقاربي، أو من أهل بيتي أو متصل بي"أ. هـ2. 3- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان سباقاً لأداء ما أوجب الله عليه من الفرائض فقد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له بأداء زكاته قبل أن يحل وقتها. فقد روى الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أن العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك "3. 4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي علي ومثلها معها" ثم قال: " يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" 4. 5- وروى الإمام أحمد وغيره إلى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب "أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً وأنا عنده فقال: "ما أغضبك؟ " قال: يا رسول الله مالنا ولقريش اذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة؟ وإذا لقونا بغير ذلك قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله"

_ 1ـ سنن الترمذي 5/317 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، المستدرك 3/325 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/24. 2ـ تحفة الأحوذي 10/265. 3ـ المستدرك 3/332 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4ـ صحيح مسلم 4/676-677.

ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه" 1. هذه الأحاديث الثلاثة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة فيها فضل العباس بن عبد المطلب ومكانته منه عليه الصلاة والسلام. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "الصنو: المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد يريد أن أصل العباس وأصل أبي واحد وهو مثل أبي أو مثلي وجمعه صنوان"2. وعلى هذا فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وأن عم الرجل صنو أبيه" أي: مثله يعني أصلهما واحد فتعظيمه كتعظيمه وإيذاءه كإيذائه". 6- ومن مناقبه العظيمة التي اختص بها وشرف بها رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجله إجلال الولد والده ويبالغ في إكرامه. فقد روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجل العباس إجلال الولد والده خاصة خص الله العباس بها من بين الناس"3. 7- وروى الحاكم أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان العباس بالمدينة فطلبت الأنصار ثوباً يلبسونه فلم يجدوا قميصاً يصلح عليه إلا قميص عبد الله بن أبيّ فكسوه إياه قال جابر: وكان العباس أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإنما أخرج كرهاً فحمل إلى المدينة فكساه عبد الله بن أبي قميصه فلذلك كفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه مكافأة لما فعل بالعباس4.

_ 1ـ المسند 4/165 والترمذي في سننه 5/317-318 وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم في المستدرك 3/333. 2ـ النهاية في غريب الحديث 3/57. 3ـ المستدرك 3/324-325 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4ـ المستدرك 3/330-331 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

وهذا الحديث فيه بيان فضيلة ظاهرة للعباس رضي الله عنه بإكرام النبي صلى الله عليه وسلم له حيث أعطى ثوبه عليه الصلاة والسلام كفناً لعبد الله بن أبي مكافأة له على إعطائه قميصاً للعباس حين كان أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. 8- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفاً فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه لا قبلها ولا بعدها فأمر بها ونثرت على حصير ونودي بالصلاة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل على المال قائماً فجاء الناس وجعل يعطيهم وما كان يومئذ عدد ولا وزن وما كان إلا قبضاً فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ولم يكن لعقيل مال أعطني من هذا المال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ" فحثى في خميصة كانت عليه ثم يذهب ينصرف فلم يستطع رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ارفع علي فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أما أحد ما وعد الله فقد أنجز لي ولا أدري الأخرى" {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع بالمغفرة 1. في هذا الحديث فضيلة ظاهرة للعباس رضي الله عنه وهي أنه عليه الصلاة والسلام كان يحبه حباً شديداً فقد أعطى المصطفى عليه الصلاة والسلام الصحابة من مال البحرين بيده ولما جاء العباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ لنفسه بيده. 9- ومن مناقبه العظيمة التي رفعت من شأنه وعلت من مكانته ثبوته الصادق حين حمى الوطيس وفر الناس يوم حنين. فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى العباس رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه

_ 1ـ المستدرك 3/329-330 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب السمرة" فقال عباس: "وكان رجلاً صيتاً" فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حين حمي الوطيس" قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب محمد" قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً"1. هذا الحديث اشتمل على بيان منقبة عظيمة لأبي الفضل رضي الله عنه حيث أنه وقف موقف الشجاع المقدام لحرب المشركين من أجل إعلاء كلمة الحق ونصرة دين الإسلام فلقد ثبت في وقعة حنين من أول المعركة إلى آخرها مع المصطفى صلى الله عليه وسلم ولذلك فصل المعركة وما دار فيها تفصيلاً كاملاً رضي الله عنه وأرضاه. 10- لقد بين الفاروق رضي الله عنه للأمة عامة فضل العباس بن عبد المطلب ومكانته من سيد الخلق ووضح ذلك وضوحاً كاملاً. فقد روى البخاري إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك

_ 1ـ صحيح مسلم مع شرح النووي 12/113-117.

بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيسقون"1. ففي هذا الأثر عن الفاروق رضي الله عنه بيان لفضل العباس بن عبد المطلب، كما تضمن أيضاً فضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه. والمراد بتوسل عمر رضي الله عنه بالعباس بدعائه لا بذاته إذ التوسل بدعاء أهل الصلاح والفضل نوع من أنواع التوسل المشروع. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فأسقنا الغيث فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس"2. تلك طائفة من الأحاديث التي تضمنت مناقب عالية للعباس رضي الله عنه وكلها دلت على أنه عظيم المقام جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/494. 2ـ فتح الباري 2/497.

6) عبد الله بن عباس رضي الله عنه: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حبر هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له: الحبر والبحر، وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، وعن جماعة من الصحابة وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله رضي الله عنه وأرضاه، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وهو ولد الخلفاء العباسيين هاجر مع أبيه قبل الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة فشهد الفتح وحنيناً والطائف عام ثمان، وقيل كان في سنة تسع وصحب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال والأفعال والأحوال وأخذ عن الصحابة علماً عظيماً ومع الفهم الثاقب والبلاغة والفصاحة، والجمال والملاحة والأصالة والبيان وكانت وفاته رضي الله عنه سنة ثمان وستين بالطائف رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه1. وقد وردت في بيان فضله أحاديث كثيرة صحيحة عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوآ قال: "من صنع هذا؟ " فأخبر فقال: "اللهم فقه في الدين" 2.

_ 1ـ البداية والنهاية 8/317-318، وانظر أنساب الأشراف 3/27، كتاب المعرفة والتاريخ 1/241، الجرح والتعديل 5/116، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/342، أسد الغابة 3/192، حلية الأولياء 1/314-328، صفة الصفوة 1/746-758، تهذيب التهذيب 5/276، الإصابة 2/322-326. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 1/244.

هذه الدعوة النبوية فيها منقبة ظاهرة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهي دعاؤه عليه الصلاة والسلام له بالفقه في الدين. قال ابن المنير: "مناسبة الدعاء لابن عباس للتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاث أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئاً. فرأى الثاني أوفق لأن في الأول تعرضاً للاطلاع والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء والثاني أسهلها ففعله يدل على ذكائه فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع وكذا كان1. 2- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم علمه الكتاب" 2. وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لابن عباس رضي الله عنه وهي ضم النبي صلى الله عليه وسلم إياه ودعوته له أن يعلمه الله الكتاب. "والمراد بالكتاب القرآن لأن العرف الشرعي عليه والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه"3. 3- وروى مسلم بإسناده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء فوضعت له وضوء فلما خرج قال: من وضع هذا" في رواية زهير: قالوا وفي رواية أبي بكر قلت: ابن عباس قال: "اللهم فقه" 4. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم فقه" فيه فضيلة الفقه واستحباب الدعاء بظهر الغيب واستحباب الدعاء لمن عمل عملاً خيراً مع الإنسان وفيه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له فكان من الفقه بالمحل الأعلى"أ. هـ5.

_ 1ـ فتح الباري 1/244-245. 2ـ صحيح البخاري 1/25، ورواه أحمد في المسند انظر "الفتح الرباني" 22/292. 3ـ فتح الباري 1/170. 4ـ صحيح مسلم 4/1927. 5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/37.

4- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعت له وضوآ من الليل قال: فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس فقال: " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل" 1. 5- وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي أو على منكبي شك سعيد ثم قال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل" 2. 6- وروى محمد بن سعد بإسناده إلى ابن عباس قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" 3. 7- وفي مسند الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل" 4. 8- وبلفظ آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة"5. 9- وروى الإمام الترمذي بإسناده إلى ابن عباس قال: "دعا لي

_ 1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/292. 2ـ المصدر السابق فقد أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/276 وقال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ولأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح" أهـ ورواه الحاكم في المستدرك 3/534 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ الطبقات 2/365. 4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/292. 5ـ المصدر السابق وانظر البداية والنهاية لابن كثير 8/320 فقد قال رحمه الله "تفرد به أحمد وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا ومنهم من أرسله عن عكرمة والمتصل هو الصحيح فقد رواه واحد من التابعين عن ابن عباس"أهـ.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكم مرتين" ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء وقد رواه عكرمة عن ابن عباس1. ومعنى قوله: "أن يؤتيني الله الحكم مرتين" أي: العلم والفقه والقضاء بالعدل والظاهر أن المراد به هنا الفهم في القرآن2. 10- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة" 3. هذه الأحاديث المتقدمة فيها بيان فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد استجاب الله هذا الدعاء النبوي في ابن عباس فلقد كان إماماً في العلم وعلماً من أعلام الأمة المحمدية الذين نشر الله بهم أحكام دين الإسلام من أوامر ونواهي وحلال وحرام. قال الحافظ رحمه الله تعالى: "وهذه الدعوة مما تحقق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيها لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين رضي الله تعالى عنه، وقد اختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل: القرآن وقيل: العمل به، وقيل: السنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} 4 والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن"أهـ5.

_ 1ـ سنن الترمذي 5/344. 2ـ تحفة الأحوذي 10/337. 3ـ صحيح البخاري 2/306، سنن الترمذي 5/344. 4ـ سورة لقمان آية/12. 5ـ فتح الباري 1/170، 7/100.

11- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه1 فلما أقبل على صلاته خنست2 فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال لي: "ما شأني أجعلك حذائي فتخنس" فقلت: يا رسول الله أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله قال: "فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعته ينفخ ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله الصلاة فقام فصلى ما أعاد وضوآ3. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعبد الله بن عباس رضي الله عنه فقد حظي بهذه الدعوة المباركة وهي الزيادة في العلم والفهم وقد كان كذلك رضي الله عنه وأرضاه. 12- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب قال: فجاء فحطأني حطأة4 وقال: " اذهب وادع لي معاوية" الحديث5. وفي هذا الحديث منقبة لابن عباس رضي الله عنه حيث جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوار خلف باب فضرب بيده الشريفة وهي مبسوطة بين كتفيه وأمره أن ينادي له معاوية رضي الله عنه. 13- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس قال: كنت مع أبي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه فكان كالمعرض عن أبي فخرجنا من عنده فقال لي أبي: أي بني ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني فقلت: يا أبتي إنه كان عنده رجل يناجيه قال فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي: يا رسول الله قلت لعبد الله

_ 1ـ أي: بجواره. 2ـ أي: تأخرت. 3ـ المسند مع الفتح الرباني 22/293 وأورد الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/284 ثم قال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الحاكم في المستدرك 3/534 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 4ـ فحطأني حطأة: أي: ضربه بيده مبسوطه بين كتفيه. 5ـ صحيح مسلم 4/2010.

كذا وكذا فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك فهل كان عندك أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل رأيته يا عبد الله" قال: قلت: نعم قال: "فإن ذاك جبريل وهو الذي شغلني عنك" 1. 14- وروى أبو القاسم الطبراني كما في مجمع الزوائد2 عن ابن عباس قال: بعث العباس بعبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فوجد معه رجل فرجع ولم يكلمه فقال: "رأيته؟ " قال: نعم قال: "ذاك جبريل أما إنه لن يموت حتى يذهب بصره ويؤتى علماً". هذان الحديثان تضمنا منقبة ومفخرة عظيمة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث أكرمه الله تعالى برؤية جبريل الأمين كما تضمن حديث الطبراني علماً من أعلام النبوة حيث حصل لابن عباس ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من ذهاب بصره وإيتائه علماً واسعاً وكذلك كان رضي الله عنه وأرضاه. ولقد بين فضله ومكانته العلمية فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان يدخله في مجلس كبار الصحابة من مشيخة بدر رضي الله عنهم وقد كان لهم أبناء في سنة رضي الله عنه ولم يحظ بهذا التكريم سواه. 15- فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر: إنه من حيث علمتم فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رؤيت إنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس فقلت: لا قال: فما تقول؟: قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: إذا جاء نصر الله والفتح

_ 1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/294 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/276 ثم قال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح. 2ـ مجمع الزوائد 9/277 وقال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجاله ثقات.

وذلك علامة أجلك. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول1. 16- وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً فمسح رأسك وقال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل"2. وتقريب عمر رضي الله عنه لابن عباس وإدخاله مع أشياخ بدر من أجل أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم. 17- وذكر الحافظ ابن كثير أن عمر رضي الله عنه كان يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس. وكان يقول إذا أقبل: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول3. 18- وروى ابن سعد بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً ولا ألب لباً ولا أكثر علماً ولا أوسع حلماً من ابن عباس ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة ثم لا يجاوز قوله وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار4. 19- وقال طلحة بن عبيد الله: لقد أعطي ابن عباس فهماً ولقناً وعلماً ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم عليه أحد.5. 20- وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين بلغه موت ابن عباس: "مات أعلم الناس وأحلم الناس ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.

_ 1ـ صحيح البخاري 3/222. 2ـ فتح الباري 1/170. 3ـ البداية والنهاية 8/321. 4ـ الطبقات 2/369. 5ـ المصدر السابق 2/370.

وقال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب1. 22- وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لعكرمة: مولاك والله أفقه من مات وعاش2. 23- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم"3 24- وقال مجاهد: كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه. وقال محمد بن علي يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة4. 25- وقال طاووس: كان ابن عباس قد بسق على الناس في العلم كما تبسق النخل السحوق5 على الودي الصغار6. ذلك هو عبد الله بن عباس وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على علو شأنه وسمو منزلته وكلها دلت على أنه كان جليل القدر وأنه كان ذا مكانة عظيمة عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولقد اعترف بفضله ونبله كبار الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان. فرضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ المصدر السابق 2/372. 2ـ الطبقات الكبرى 2/369-370. 3ـ البداية والنهاية 8/323. 4ـ المستدرك 3/535، الطبقات 2/366. 5ـ السحوق: هي النخلة الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني "النهاية في غريب الحديث" 2/347. 6ـ طبقات ابن سعد 2/370.

7) الفضل بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكبر إخوانه وبه كان يكنى أبوه وأمه واسمها لبابة بنت الحارث الهلالية، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحنيناً وثبت معه يوم إذ وشهد معه حجة الوداع، وكان يكنى أبا العباس وأبا عبد الله، وقيل كان يكنى أبا محمد، مات في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه1 وقد وردت له بعض المناقب رضي الله عنه، فمن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه وأمهر عنه: 1- فقد روى مسلم في حديث طويل بإسناده إلى الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه وفيه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس انطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان منه أن يوليهما على بعض الصدقة قال أحدهما: "فلما صلى رسول الله الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال: "أخرجا ما تصرران" ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال: "فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا الحلم فجئنا لتأمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه قال: وجعلت زينب تلمع2 علينا من وراء الحجاب أن لا تكلما قال: ثم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" 3 ادعوا لي محمية وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن

_ 1ـ طبقات ابن سعد 4/45، التاريخ الكبير 7/114، التاريخ الصغير 1/36، الجرح والتعديل 7/63، المستدرك 3/274، الاستعياب على حاشية الإصابة 3/202-204، أسد الغابة 3/183، الإصابة 3/208، تهذيب التهذيب 8/280. 2ـ تلمع: أي: تشير بيدها "النهاية" 4/271. 3ـ أوساخ الناس: أي: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ =

عبد المطلب قال: فجاءه فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" للفضل بن عباس فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث: "أنكح هذا الغلام ابنتك" "لي" فأنكحني: وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا "قال الزهري: ولم يسمه لي"1. هذا الحديث فيه بيان منقبة عظيمة ظاهرة للفضل بن عباس ولعبد المطلب بن ربيعة حيث زوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصدق عنهما، كما دل الحديث على تحريم الصدقة على جميع بني هاشم وليس الحال كما ورد عن زيد بن أرقم أن الذين تحرم عليهم الصدقة هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس فهذا عبد المطلب بن ربيعة بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن تحرم عليه الصدقة وليس هو من المذكورين الذين ذكرهم زيد بن أرقم رضي الله عنه والذي يظهر من هذا أن زيداً لم يرد حصر بني هاشم فيمن ذكرهم. 2- ومن مناقب الفضل رضي الله عنه أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى2. 3- ومن مناقبه رضي الله عنه ما أخرجه البغوي من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء عن ابن عباس عن أخيه الفضل قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خذ بيدي" وقد عصب رأسه فأخذت بيده فأقبل حتى جلس على المنبر فقال: "ناد في الناس" فصحت فيهم فاجتمعوا له ... فذكر الحديث3. ذلك هو الفضل بن عباس وتلك بعض مناقبه التي دلت على أنه من فضلاء الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.

_ = وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي كغسالة الأوساخ. 1ـ صحيح مسلم 2/752-753. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/404، صحيح مسلم 2/931، المستدرك 3/275. 3ـ أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة 3/203.

8) جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان رضي الله عنه من متقدمي الإسلام والسابقين إليه، وهاجر رضي الله عنه إلى الحبشة وكانت له هناك مواقف مشهورة، ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقدم المدينة يوم فتح خيبر، وفرح به النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً شديداً فقام إليه واعتنقه وقبله بين عينيه1، ولما بعثه إلى مؤتة جعله نائباً لزيد بن حارثة، ولما استشهد في غزوة مؤتة وجدوا فيه بضعاً وتسعين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد قطعت يده اليمنى ثم اليسرى وهو ممسك للّواء فلما فقدهما احتضنه حتى قتل وهو كذلك، فيقال إن رجلاً من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين رضي الله عن جعفر ولعن قاتله، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه شهيد، فهو ممن يقطع له بالجنة، وجاء في الأحاديث تسميته بذي الجناحين وكان يقال له بعد قتله ـ الطيار ـ، وكان كريماً جواداً ممدحاً، وكان لكرمه يقال له: أبا المساكين لإحسانه إليهم وكان استشهاده رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة2 رضي الله عنه وأرضاه. وقد وردت مناقبه رضي الله عنه في كثير من الأحاديث الصحيحة ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى عبيد الله بن أسلم مولى النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "أشبهت

_ 1ـ انظر مجمع الزوائد 9/271-272. 2ـ البداية والنهاية 4/285 وانظر الجرح والتعديل 2/482، وحلية الأولياء 1/114-118، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/211-214، وأسد الغابة 1/386، تهذيب الأسماء واللغات 1/148-149، سير أعلام النبلاء 1/206-217، الإصابة 1/239-240.

خلقي وخلقي" 1. هذا الحديث فيه منقبة عظيمة لجعفر بن أبي طالب من حيث أنه أشبه النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً وأكرم بها من منقبة فقد قال ـ جل وعلا ـ مادحاً نبيه عليه الصلاة والسلام {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2. 2- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم ـ إما قال بضعاً وإما قال ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي ـ قال: فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا: ـ يعني لأهل السفينة ـ نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس: قال عمر الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم فغضبت وقالت: كذبت3 يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ

_ 1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/214، صحيح البخاري مع فتح الباري 7/499 من رواية البراء رضي الله عنه. 2ـ سورة القلم آية /4. 3ـ كذبت: هنا بمعنى أخطأت وليس المراد بها شتم الفاروق وسبه فالصحابة رضي الله عنهم كانوا أطهر الناس ألسنة من بذيء الكلام قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأهل الحجاز يقولون "كذبت" في

ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ... " الحديث2. هذا الحديث فيه بيان فضيلة عظيمة للذين هاجروا الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد أكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم من غنائم خيبر ولم يقسم لأحد غاب عن هذا الفتح سواهم، وأخبر أنهم أحق الصحابة به عليه الصلاة والسلام وأن لهم أجر الهجرتين وفي مقدمتهم جميعاً جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم أجمعين. 3- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا ولا لبس الكور3 من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب4. قال الحافظ ابن كثير بعد إيراد هذا الحديث بسنده: "وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق ـ بل وعثمان بن عفان ـ أفضل منه، وأما أخوه علي رضي الله

_ موضع أخطأت" أهـ.فتح الباري 7/64. 1ـ البعداء البغضاء قال العلماء: البعداء في النسب البغضاء في الدين لأنهم كفار إلا النجاشي وكان يستخفي بإسلامه عن قومه ويوري لهم"أهـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/65. 2ـ صحيح مسلم 4/1946-1947. 3ـ الكور: رحل الناقة بأداته وهو كالسرج وآلته للفرس "النهاية في غريب الحديث" 4/208. 4ـ المسند 2/213-214 وفيه "يعني الجود والكرم" سنن الترمذي 5/320 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه النسائي في فضائل الصحابة ص/86، والحاكم في المستدرك 3/209 وقال: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي.

عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه"1. ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أفضل الخلق على الإطلاق بعد الخلفاء الثلاثة ولا يساويه أحد في فضله بعدهم رضي الله عنهم أجمعين. 4- ومن مناقب جعفر رضي الله عنه التي اشتهر بها أنه كان كثير العطف والحنو على المساكين وكان يحبهم ويسكن إليهم حتى إنه كان يكنى بأبي المساكين. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير2 ولا يخدمني فلان ولا فلانة وكنت ألصق بطني بالحصاء من الجوع وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة3 التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها"4. ففي هذا بيان فضيلة لجعفر رضي الله عنه وشهادة من أبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان أشفق الناس على المساكين. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء عن عكرمة عن أبي هريرة قال: "ما احتذى النعال وما ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب"5. 5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله نائباً لزيد بن حارثة في غزوة مؤتة وأبلى فيها بلاء حسناً. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن

_ 1ـ البداية والنهاية 4/286. 2ـ الحبير: قال في النهاية: "الحبير من البرود وما كان موشياً مخططاً" 1/328 وانظر فتح الباري 7/76. 3ـ العكة: ظرف السمن. وقوله: ليس فيها شيء "مع قوله": فنعلق ما فيها "لا تنافي بينهما لأنه أراد بالنفي أي: لا شيء فيها يمكن إخراجه منها بغير قطعها، وبلإثبات ما يبقى في جوانبها" فتح الباري 7/76. 4ـ صحيح البخاري مع الفتح 7/75. 5ـ فتح الباري 7/76.

عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ـ مؤتة ـ زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية. وروى أيضاً بإسناده إلى نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره يعني في ظهره1. هذان الحديثان ظاهرهما التعارض "ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، أو الخمسين مقيدة بكونها ليس فيها شيء في دبره أي: في ظهره، فقد يكون الباقي في بقية جسده ولا يستلزم ذلك أنه ولى دبره، وهو محمول على أن الرمي إنما جاء من جهة قفاه أو جانبيه ... ووقع في رواية البيهقي في "الدلائل" بضعاً وتسعين أو بضعاً وسبعين، وأشار إلى أن بضعاً وتسعين أثبت في قوله "ليس فيها شيء في دبره" بيان فرط شجاعة جعفر وإقدامه"أ. هـ2. 7- ومن مناقبه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه مات شهيداً في سبيل الله تعالى وشهد له بذلك. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وقال: "عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت يا نبي الله وأمي ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً قال: "امضوا فإنك لا تدري أي ذلك خير" قال: فانطلق الجيش فلبسوا ما شاء الله ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وأمر أن ينادى الصلاة جامعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثاب خبر أو

_ 1ـ الحديثان في صحيح البخاري 3/58. 2ـ فتح الباري 7/512، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 4/274.

ثاب خبر ـ شك عبد الرحمن ـ ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا فلقوا العدو فأصيب زيد شهيداً استغفروا له فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى استشهد أشهد له بالشهادة فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه" فرفع رسول الله أصبعيه وقال: "اللهم هو سيف من سيوفك فانصره" وقال عبد الرحمن مرة: فانتصر به فيؤمئذ سمي خالد سيف الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد فنفر الناس في حر شديد مشاة وركباناً" 1. قال الحافظ ابن كثير: "وقد أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد فهو ممن يقطع له بالجنة "أ. هـ2. 8- ومن مناقبه رضي الله عنه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بأن له جناحين يطير بهما مع الملائكة. روى البخاري بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين3. وفي هذا بيان فضيلة لجعفر رضي الله عنه من حيث إطلاق ذي الجناحين عليه وهي منقبة عظيمة له رضي الله عنه. وتحية ابن عمر لابن جعفر بقوله: "السلام عليك يا ابن ذي الجناجين" كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر وأبي هريرة رضي الله عنهما. فقد روى الطبراني بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله

_ 1ـ المسند 5/299 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/156 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خالد بن سمير وهو ثقة. 2ـ البداية والنهاية 4/285. 3ـ صحيح البخاري 3/58.

صلى الله عليه وسلم: "هنيئاً لك يا عبد الله بن جعفر أبوك يطير مع الملائكة في السماء 1. وروى الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرَّ بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم أبيض الفؤاد" 2. 9- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ذا مكانة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لما بلغه نبأ استشهاده حزن حزناً عظيماً عليه عرف ذلك في وجهه عليه الصلاة والسلام. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن3. وجاء في صحيح البخاري أنه حزن على الأمراء الثلاثة الذين أمّرهم في غزوة مؤتة حزناً عظيماً حتى ظهر أثر الحزن عليه عليه الصلاة والسلام. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لما جاء قتل ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن" الحديث4. 10- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بأولاده عناية عظيمة بعد أن استشهد في غزوة مؤتة فقد قام بزيارتهم وتفقد أحوالهم ودعا لهم فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي ابن أخي" قال: فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: "ادعوا إلى الحلاق" فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب. وأما عبد الله فشبيه

_ 1ـ مجمع الزوائد 9/273 وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن وأورده الحافظ في فتح الباري 7/76 وقال: رواه الطبراني بإسناد حسن. 2ـ المستدرك 3/212 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 3ـ المستدرك 3/209 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/512.

خلقي وخُلقي" ثم أخذ بيدي فأشلهما فقال: "اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرار قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له1 فقال: "العيلة تخافين وأنا وليهم في الدنيا والآخرة"2. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة3. وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: لو رأيتني وقثم وعبيد الله ابنا عباس ونحن صبيان نلعب إذ مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال: " ارفعوا هذا إليّ" قال: فحملني أمامه وقال لقثم: "ارفعوا هذا إلي" فجعله وراءه وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم فما استحى من عمه أن حمل قثماً وتركه قال: ثم مسح على رأسي ثلاثاً وقال كلما مسح: "اللهم أخلف جعفراً في ولده" قال: قلت لعبد الله! ما فعل قثم قال: استشهد قال: قلت: الله ورسوله أعلم بالخير4. ذلك هو جعفر بن أبي طالب وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم مكانته وعلو شأنه وأنه أوتي خيراً كثيراً وفضلاً عظيماً رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ تفرح له أي: ذكرت له صلى الله عليه وسلم يتم أولادها وثقل مؤونتهم وما ستلقاه من العناء في تربيتهم "انظر النهاية" 3/424. 2ـ المسند مع الفتح الرباني 22/213-214 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/156-157 ثم قال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح. 3ـ صحيح مسلم 4/1885. 4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/215 قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/280: أخرجه أحمد وغيرها.

9) عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم أبو جعفر القرشي الهاشمي1 وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث لأمها ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها وهو أول من ولد بها من المسلمين وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه رضي الله عنه وأرضاه. وقد وردت له بعض المناقب دلت على عظيم شأنه وعلو مكانته. 1- فمن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ممن شمهلم شرف الهجرة من الحبشة إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للناس هجرة واحدة ولهم هجرتان فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للناس هجرة ولكم هجرتان" 2. 2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان من الذين شبهوا النبي صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً ودعا له ولإخوانه عامة ودعا له خاصة أن يبارك له في تجارته. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر ... أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي ابني أخي" قال: فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: "ادعوا إلي الحلاق" فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي" ثم أخذ بيدي فأشلهما فقال: "اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرار ... الحديث3. وروى أبو يعلى والطبراني كما في "مجمع الزوائد"4 عن عمرو بن حريث

_ 1ـ انظر ترجمته في الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/266-267، أسد الغابة 3/132-135، سير أعلام النبلاء 3/456-462، البداية والنهاية 9/36، الإصابة 2/280-281. 2ـ المستدرك 3/566 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ المسند 1/204، ورواه النسائي مختصراً 8/182. 4ـ المجمع 9/286 ثم قال: رواه أبو يعلى والطبراني ورجالها ثقات

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان قال: "اللهم بارك له في بيعه أو قال في صفقته". 2- ومن مناقبه رضي الله عنه إرداف المصطفى عليه الصلاة والسلام له على دابته بين يديه وخلفه. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه قال: فأدخلنا ثلاثة على دابة1. وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحد من الناس2. ذلك هو عبد الله بن جعفر وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على فضله وجلالة قدره رضي الله عنه وأرضاه.

_ 1ـ صحيح مسلم 4/1885. 2ـ المصدر السابق 4/1886.

10) أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: اسمه المغيرة أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، وكان قبل إسلامه من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه ومن تبعه وكان شاعراً بارعاً هجا الإسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته التي مطلعها: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء هجوت محمداً وأوجبت عنه ... وعند الله في ذلك الجزاء1 شهد أبو سفيان حنيناً وأبلى فيها بلاء حسناً وكان ممن ثبت ولم يفر يومئذ ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف الناس إليه وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وشهد له بالجنة وكان يقول: " أرجو أن تكون خلفاً من حمزة" وهو معدود في فضلاء الصحابة2. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "تلقى النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق قبل أن يدخل مكة مسلماً فانزعج النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه لأنه بدت منه أمور في أذية النبي صلى الله عليه وسلم فتذلل للنبي صلى الله عليه وسلم حتى رق له، ثم حسن إسلامه ولزم هو والعباس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين إذ فر الناس وأخذ بلجام البغلة وثبت معه وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما حليمة3. وكانت وفاته رضي الله عنه سنة عشرين للهجرة "وكان سبب وفاته أنه حج فلما حلق الحلاق رأسه قطع أثلولاً كان في رأسه فلم يزل مريضاً منه حتى مات بعد مقدمه من الحج بالمدينة سنة عشرين"4.

_ 1ـ انظر طبقات ابن سعد 4/49-54، أسد الغابة 5/215، المستدرك 3/255، سير أعلام النبلاء 1/202، البداية 7/114. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/84. 3ـ سير أعلام النبلاء 1/203. 4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/85.

وأبو سفيان هذا وردت له بعض المناقب دلت على جلالة قدره وهي: 1- ما رواه الطبراني بإسناده عن أبي حبة البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لا ينظر في ناحية إلا رأى أبا سفيان بن الحارث يقاتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان خير أهلي أو من خير أهلي" 1. هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأبي سفيان بن الحارث حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من خيار أهل البيت النبوي رضي الله عنهم أجمعين. 2- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلقد رأيته وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكبها وأبو سفيان لا يألوا أن يسرع نحو المشركين2. وفي هذا الحديث بيان منقبة عظيمة لأبي سفيان رضي الله عنه وهي فرط شجاعته وإقدامه لمناجزة أعداء الدين من المشركين والكافرين من أجل نصرة الإسلام ورفع رايته. 3- وروى الحاكم أبو عبد الله بإسناده إلى عروة بن الزبير قال: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه كان أحب قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديداً عليه فلما أسلم كان أحب الناس إليه3. ففي قول عروة بيان ما حصل لأبي سفيان بن الحارث من المكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان من أشد الناس عداوة له، فإنه صار بعد ذلك من أحب الناس إليه رضي الله عن أبي سفيان وأرضاه. 4- وروى الحاكم أيضاً: بإسناده إلى عروة بن الزبير قال: قال رسول الله

_ 1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/274 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده حسن. 2ـ المستدرك 3/255 ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. 3ـ المصدر السابق 3/255 وهذا مرسل ولعله أخذه عن أبيه أو غيره من الصحابة.

صلى الله عليه وسلم: "سيد فتيان الجنة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" قال: حلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثألول فقطعه فمات فيرون أنه شهيد1. فقول عروة هذا لا بد أنه سمعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يقوله من تلقاء نفسه، والصحابة لا بد أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من باب الإخبار بالغيب لأنه متضمن الشهادة لمعين بالجنة، ولا يخبر بهذا إلا المصطفى عليه الصلاة والسلام. ذلك هو أبو سفيان بن الحارث وتلك بعض مناقبه فقد كان من فضلاء الصحابة وأجلهم ورضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

_ 1ـ المستدرك 3/255 وأورده الحافظ في "الإصابة" 4/60 وقال: "أخرجه الحاكم أبو أحمد من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن عروة عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة" ثم ساق كلام عروة بكامله ثم قال: "هذا مرسل رجاله ثقات"أهـ.

11) عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب: هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي الهاشمي كان إسلامه قديماً قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين هاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أول راية وأمره على سرية قبل وقعة بدر ومات رضي الله عنه عقب غزوة بدر إذ قطعت رجله فمات بالصفراء رضي الله عنه وأرضاه1. وقد وردت له بعض المناقب دلت على جليل قدره وعظيم مكانته: 1- فمن مناقبه رضي الله عنه أن أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له رضي الله عنه. ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لعبيدة بن الحارث راية وأرسله في سرية قبل وقعة بدر فكانت أول راية عقدت في الإسلام2. وأما الواقدي فذكر أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لحمزة3. قال الحافظ ابن حجر: "ويمكن الجمع على رأي من يغاير بين الراية واللواء والله أعلم"4. 2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان أحد الذين برزوا يوم بدر فقد كان في حسب الله الذين قاتلوا في سبيل الله وهم حمزة وعلي وثالثهم عبيدة بن الحارث، وحزب الشيطان كان يمثله عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. فقد روى الشيخان وغيرهما عن قيس بن عباد قال: "سمعت أبا ذر يقسم قسماً إن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 5. نزلت في الذين

_ 1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/436-438، الإصابة 2/442، أسد الغابة 3/356-357. 2ـ سيرة ابن هشام 1/595. 3ـ مغازي الواقدي 1/9. 4ـ الإصابة 2/442. 5ـ سورة الحج آية/19.

برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة1. ففي هذا الحديث منقبة واضحة لعبيدة بن الحارث حيث إنه كان من الصحابة الذين أنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وأكرم بها من منقبة فإنها أكسبته منزلة عظيمة وميزة شريفة رضي الله عنه وأرضاه. وروى أبو داود بإسناده إلى حارثة بن مضرب عن عليّ قال: تقدم يعني عتبة بن ربيعة ـ وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار فقال من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا عليّ قم يا عبيدة بن الحارث" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت على شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأسخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة"2. 3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن سبب وفاته ضربة بسيف في ساقه يوم بدر ضربه به عتبة بن ربيعة فكانت وفاته رضي الله عنه في سبيل الله فقد روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس وذكر حديث المبارزة وأن عتبة بن ربيعة قتل عبيدة بن الحارث وبارز ضربه عتبة على ساقه فقطعها فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات بالصفراء منصرفه من بدر فدفنه هنالك3. ذلك هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقد كان رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن الذين أخلصوا دينهم لله وقاتل في سبيل الله نصرة لدين الإسلام حتى فارق الدنيا وهو على ذلك فرضي الله عنه وأرضاه. والذي أخلص إليه في هذا المبحث أنني ضمنته ذكر فضائل أحد عشر

_ 1ـ صحيح البخاري 3/5، صحيح مسلم 4/2323. 2ـ سنن أبي داود 2/49. 3ـ المستدرك 3/187-188 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

شخصاً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذكور عدا أمير المؤمنين علي بن طالب رضي الله عنه فإنني كما قلت في أول هذا المبحث قد تقدم معنا ذكر فضائله في "الفصل الثالث" من هذا الباب، وهناك أفراد من أهل البيت صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد لهم ذكر فضائل تخصهم فهؤلاء يكفيهم ما جاء في فضلهم عموماً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما يكفيهم ما حصل لهم من شرف الصحبة التي لا يعدلها شيء.

المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث

المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث ... 1) خديجة رضي الله عنها: هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهي من أقرب نسائه إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أن أم حبيبة، تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة وهو ابن خمسة وعشرين سنة وكانت قبله عند أبي هالة ابن النباش بن زرارة التميمي1 حليف بني عبد الدار، وقد بقيت رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أكرمه الله برسالته، وكانت أول من آمن به من النساء، وصدقته ونصرته فكانت له وزير صدق وهي سيدة نساء العالمين في زمانها، وهي ممن كمل من النساء فقد كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان عليه الصلاة والسلام يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة قبلها، وكل أولاده عليه الصلاة والسلام منها إلا إبراهيم رضي الله عنه فإنه من سريته مارية رضي الله عنها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها امرأة قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها فوجد لفقدها فإنها كانت نعم القرين فلقد أنفقت عليه صلى الله عليه وسلم من مالها واتجر فيه لها رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين2. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بمناقبها الكثيرة ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الحاكم بإسناده إلى عفيف بن عمر وقال: كنت امرء تاجراً، وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي

_ 1ـ وقبل: كانت قبله عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم خلف عليها النبي صلى الله عليه وسلم "وهذا قول أبي عمر بن عبد البر انظر الاستيعاب على الإصابة 4/272. 2ـ طبقات ابن سعد 1/131، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/271-281، أسد الغابة 5/434، تاريخ الإسلام 1/41، مجمع الزوائد 9/218-225، فتح الباري 7/134، الإصابة 4/273-276.

ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب قال عفيف الكندي: وأسلم وحسن إسلامه: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام1. هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت: أن من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء2 وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجل، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ"3. 2- روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: "ما أنا بقارئ" قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني

_ 1ـ المستدرك 3/183 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ الحديث في صحيح مسلم 4/2059. 3ـ فتح الباري 7/137.

الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} 1 فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: " زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: لخديجة وأخبرها الخبر "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. الحديث2. فهذا الحديث تضمن ذكر منقبة ظاهرة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت تقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي عليه وطمأنته عليه الصلاة والسلام مما كان يخشاه على نفسه وهونت عليه الأمر وأنه لا خوف عليه ولا حزن وأقسمت للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الله لا يخزيه ولا يخذله واستدلت على ما أقسمت عليه بما فيه من صفاته الطيبة من أصول مكارم الأخلاق التي هي إحسانه إلى الأقارب والأجانب إما بالبدن، وإما بالمال وبينت له أن من وجدت فيه هذه الخصال الحميدة لن يخزيه الله أبداً. 3- ومن مناقبها رضي الله عنها التي انفردت بها دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة الدنيا. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت3. قال الحافظ: "وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهي نحو

_ 1ـ سورة العلق آية/1-3. 2ـ صحيح البخاري 1/6-7. 3ـ صحيح مسلم 4/1889.

الثلثين من المجموع ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن تكدر الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها"1. 4- ومن مناقبها العظيمة التي شرفت بها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها خير نساء هذه الأمة المحمدية قاطبة: فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" 2. وعند الإمام مسلم بلفظ "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض3. قال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد" وأشار وكيع إلى السماء والأرض" أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي: كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بيهما فمسكوت عنه"4. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "الضمير عائد على غير مذكور لكنه يفسره الحال والمشاهدة يعني: به الدنيا". وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أقوال العلماء في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال: مريم خير نسائها أي:

_ 1ـ فتح الباري 7/137. 2ـ صحيح البخاري 2/315. 3ـ صحيح مسلم 4/1886. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/198.

نساء زمانها وكذا في خديجة وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق وجاء ما يفسر المراد صريحاً فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" "وهذا حديث حسن الإسناد"1. 5- ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على شرفها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثير من ذكرها بعد موتها بالثناء عليها والمدح لها وكان يأتي من العمل ما يسرها في حياتها. فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن"2. وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكرها إياها3. وروى البخاري رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد"4.

_ 1ـ فتح الباري 7/135. 2ـ صحيح البخاري 2/315، صحيح مسلم 4/1888. 3ـ صحيح مسلم 4/1889. 4ـ صحيح البخاري 2/315.

في هذه الأحاديث الثلاثة "ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها ... وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة ... وقولها رضي الله عنها: "وأمره الله أن يبشرها" إلخ. هذا من جملة أسباب الغيرة لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها ... وقولها أيضاً رضي الله عنها: "وإن كان ليذبح الشاة" إلخ، من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها كانت وكانت" أي: كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك"1. 6- روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق2، لقد أبدلك الله ـ عز وجل ـ بها خيراً منها. قال: "ما أبدلني الله ـ عز وجل ـ خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ـ عز وجل ـ ولدها إذ حرمني أولاد النساء" 3. كلما ذكر في هذا الحديث مناقب عالية لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

_ 1ـ فتح الباري 7/136-137. 2ـ قال النووي: معناه: عجوز كبيرة جداً حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبقى لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقى فيها حمرة لثاتها. قال القاضي: قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبه عليهن فيها بما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم تزجر عائشة عنها. ال القاضي: وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ"أهـ. شرح النووي 15/202. 3ـ المسند مع الفتح الرباني 20/240-241 وأورده الهيثمي في المجمع 3/224 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكرها والثناء عليها وكان يعمل بعد موتها ما يسرها في حياتها حيث كان يصل من يودها بالقول والعمل. قال ابن العربي رحمه الله تعالى مبيناً مكانة خديجة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها فرعاها حية وميتة برّها موجودة ومعدومة وأتى بعد موتها ما يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها. ومن هذا المعنى ما روي من أن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"1. 7- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن حبه لها كان رزقاً من الله رزقه إياه. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد رزقت حبها" 2. هذا الحديث فيه بيان فضيلة حصلت لخديجة رضي الله عنها. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "رزقت حبها" فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت"3. من هذا يتبين أن: "حبه صلى الله عليه وسلم لما تقدم ذكره من الأسباب وهي كثيرة كل منها كان سبباً في إيجاد المحبة4. 8- ومما حظيت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتاح لسماع صوت من يشبه صوته صوتها لما وضع الله لها في قلبه من المحبة رضي الله عنها وأرضاها. فقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:

_ 1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 14/252. 2ـ صحيح مسلم 4/1888. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/201. 4ـ انظر فتح الباري 7/137.

استأذنت هالة بنت خويلد ـ أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: "اللهم هالة" قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها1. "في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب"2. فلقد أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها إكراماً بالغاً في حال الحياة وبعد الممات. 9- ومما دل على جلالة قدرها أن الباري ـ جل وعلا ـ أرسل إليها السلام مع جبريل وأمر نبيه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب اللؤلؤ المجوف المنظوم بالدر والياقوت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب". وروى أيضاً بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب"3. هذان الحديثان تضمنا ذكر منقبتين عظيمتين لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها: الأولى: إرسال الرب ـ جل وعلا ـ سلامه عليها مع جبريل "وهذه الخاصة

_ 1ـ صحيح البخاري 2/316، صحيح مسلم 4/1889. 2ـ انظر شرح النووي 15/202. 3ـ صحيح البخاري 2/315-316.

لا تعرف لامرأة سواها"1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: فاقرأ عليها السلام من ربها ومني: زاد الطبراني في الرواية المذكورة فقالت: "هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام"، وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول السلام ورحمة الله وبركاته"2. قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث يقولون في التشهد: "السلام على الله" فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسماء الله وهو أيضاً دعاء بالسلامة وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه ومنه يطلب ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من يبلغه والذي يظهر أن جبريل كان حاضراً عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، وقيل إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم3. الثانية: التي اشتملت عليها تلك الأحاديث لخديجة رضي الله عنها هي قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "وبشرها ببيت في الجنة من

_ 1ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/105. 2ـ فضائل الصحابة ص/198. 3ـ فتح الباري 7/139، وانظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله محمد الغنيمان 2/369-370.

قصب لا صخب فيه ولا نصب" وببيان معنى هذه المنقبة بأقوال أهل العلم يتبين حال خديجة وما كانت عليه من القدر العظيم رضي الله عنها: فقوله: "وبشرها ببيت" فقد قال أبو بكر الإسكافي في "فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها ولهذا قال: "لا نصب فيه" أي: لم تتعب بسببه1. وقال السهيلي: "لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها قال: وجزاء الفعل يذكر الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر2. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي3 وغيره ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها"أ. هـ4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قصب" قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف قال الحافظ عند الطبراني في الأوسط: "من طريق أخرى عن ابن أبي أوفى: "يعني قصب اللؤلؤ" وعنده في الكبير من حديث أبي هريرة: "بيت من لؤلؤة مجوفة" وعنده في الأوسط من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله: أين أمي

_ 1ـ الروض الأنف 1/278، فتح الباري 7/138. 2ـ الروض الأنف 1/278-279، فتح الباري 7/138. 3ـ سنن الترمذي 5/30-31. 4ـ فتح الباري 7/138.

خديجة؟ قال: "في بيت من قصب" قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا؛ من القصب المنظوم الدر واللؤلؤ والياقوت" 1. قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ الحديث2. قال الحافظ ابن حجر: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها3. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب: التعب4. وقال أبو بكر بن العربي: "لا صخب فيه ولا نصب" معناه: عار عن الأذية5 قال السهيلي: "مناسبة نفي هاتين الصفتين ـ أعني المنازعة والتعب ـ أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها"6. 10-ومما تميزت به رضي الله عنها أنها كانت ممن كمل من النساء. قال الحافظ ابن كثير: وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس

_ 1ـ المصدر السابق. 2ـ الروض الأنف 1/279، فتح الباري 7/138. 3ـ فتح الباري 7/138. 4ـ انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 3/14، 5/62، فتح الباري 7/138. 5ـ عارضة الأحوذي 14/252. 6ـ الروض الأنف 1/279 وانظر فتح الباري 7/138.

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 1. قال ابن كثير: رواه ابن مردويه في تفسيره وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله ـ عز وجل2. فهذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة لخديجة رضي الله عنها حيث إن "لفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى"3. 11- ومما تميزت به رضي الله عنها: أنها لم تسؤه قط ولم تعارضه ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر وكفى بهذه منقبة وفضيلة4. 12- ومن مناقبها ما رواه الترمذي بإسناده إلى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" 5. قوله: "حسبك أي: يكفيك" من نساء العالمين أي: الواصلة إلى مراتب الكاملين في الاقتداء بهن وذكر محاسنهن ومناقبهن وزهدهن في الدنيا وإقبالهن

_ 1ـ البداية والنهاية 3/142. 2ـ المصدر السابق "نفس الجزء والصحفة". 3ـ شرح النووي 15/198. 4ـ جلاء الأفهام ص/125. 5ـ سنن الترمذي 5/267 وقال: هذا حديث حسن صحيح.

على العقبى. قال الطيبي: حسبك مبتدأ ومن نساء متعلق به ومريم خبره والخطاب إما عام أو لأنس أي: كافيك معرفتك فضلهن عن معرفة سائر النساء1. فالحديث اشتمل على منقبة عظيمة لخديجة رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من النساء اللاتي بلغن التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى، فأفضل نساء الأمة المحمدية خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر الصديق وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام وقد اختلف العلماء في تفضيل بعضهن على بعض: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف"2. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله ـ عز وجل ـ فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارج، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة، وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤدي غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشاركها فيه غير أخواتها وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات

_ 1ـ تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/389. 2ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "تح الباري" 7/109.

الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم"1. وقال الحافظ ابن حجر: "امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام فلها مثل أجر من جاء بعدها ولا يقدر قدر ذلك إلا الله، وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة"2. وقد بين العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أقوال العلماء في تفضيل خديجة على عائشة أو العكس وبين أن في المسألة ثلاثة أقوال فقد قال: "واختلف في تفضيلها على عائشة رضي الله عنها على ثلاثة أقوال: ثالثها الوقف: وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: "اختصت كل واحدة منهما بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته وتسكنه، وتبذل دونه مالها فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة رضي الله عنها تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه"3. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن أشار إلى الخلاف في أي أفضل خديجة أم عائشة رضي الله عنهما: "والحق أن كلاً منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره والأحسن التوقف في ذلك إلى الله ـ عز وجل ـ

_ 1ـ بدائع الفوائد 3/161-162، وانظر: فتح الباري 7/109. 2ـ فتح الباري 7/109. 3ـ جلاء الأفهام ص/124، وانظر بدائع الفوائد 3/162-163.

ومن ظهر له دليل يقطع به أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم، ومن حصل له توقف في هذه المسألة، أو في غيرها فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم"أ. هـ1. وقال القاري في المرقاة: قال السيوطي في النقاية: "نعتقد أن أفضل النساء مريم وفاطمة، وأفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة، وفي التفضيل بينهما أقوال ثالثها: التوقف قال القاري: التوقف في حق الكل أولى إذ ليس في المسألة دليل قطعي والظنيات متعارضة غير مفيدة للعقائد المبنيات على اليقينيات"2. وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والحافظ ابن كثير في مسألة التفضيل بين خديجة وعائشة هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو القول بالتوقف وهو القول الذي تطمئن إليه النفس لما لكل واحدة منهما من الفضائل التي لا تحصى والله أعلم.

_ 1ـ البداية والنهاية 3/142. 2ـ المرقاة 5/615.

2) سودة رضي الله عنها: هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ويقال: حسيل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن فراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة وقبل العقد على عائشة هذا قول قتادة وأبي عبيدة وكذلك روى عقيل عن ابن شهاب وأنه تزوج سودة قبل عائشة. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة وكذلك قال يونس عن ابن شهاب ولا خلاف أنه لم يتزوجها إلا بعد موت خديجة1. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "وهي أول من تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى دخل بعائشة وكانت سيدة جليلة نبيلة ضخمة وكانت أولاً عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد فركت2 رضي الله عنها"3. توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مع سائر من توفي عنهن من أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن وأم المؤمنين سودة وردت لها مناقب دلت على جلالة قدرها ورفعت شأنها رضي الله عنها وأرضاها، وتلك المناقب هي: 1- أنها رضي الله عنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام. قال الحافظ ابن حجر: "وأخرج ابن أبي عاصم من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة قالت: لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون وذلك بمكة أي:

_ 1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/317، أسد الغابة 5/484-485، الإصابة 4/430-431. 2ـ فركت: قال في اللسان: 10/474: "وامرأة مفروكة: لا تحظى عند الرجال". 3ـ سير أعلام النبلاء 2/266-267.

رسول الله ألا تزوج؟ قال: "ومن؟ " قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: "فمن البكر؟ " قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: "ومن الثيب؟ " قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك، واتبعتك، قال: "فاذهبي فاذكريهما علي" الحديث1. فهي رضي الله عنها من متقدمي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتبعين له. قال ابن سعد: "وأسلمت بمكة قديماً وبايعت، وأسلم زوجها السكران بن عمرو وخرجا جميعاً مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية"2. 2- ومن حرصها على البقاء في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم أنها آثرت يومها في القسم حب النبي صلى الله عليه وسلم وجعلته لعائشة إيثاراً منها لرضاه عليه الصلاة والسلام وحباً في المقام معه لتكون من أزواجه في الدنيا والآخرة. فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 3 فما اصطلح عليه من شيء فهو جائز"4. وروى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها

_ 1ـ الإصابة 4/348-349 والحديث طويل جداً وفيه أن خولة ذهبت وخطبت عائشة رضي الله عنها واستجاب لذلك الصديق وزوجوه إياها وهي حينئذ بنت ست سنين، ثم ذهبت إلى سودة وخطبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ورضيت بالنبي زوجاً لها ودخل بها عليه الصلاة والسلام في مكة وهاجرت بعد ذلك إلى المدينة لما هاجر إليها. والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/210 والبيهقي في دلائل النبوة 2/312-411 وأورده الحافظ ابن كثير في البداية 3/146-154، والهيثمي في المجمع 9/225. 2ـ طبقات ابن سعد 8/52. 3ـ سورة النساء آية/128. 4ـ سنن الترمذي 4/315 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب.

لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم1. 3- ومن مناقبها رضي الله عنها أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها: فقد روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحب ألي أن أكون في مسلاخها2 من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة3. قال النووي: "وقولها: من امرأة. قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة بكسر الحاء"4. فهذه الأحاديث اشتملت على بيان فضل أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قال العلامة ابن القيم مبيناً وجه الفضل في هذه الأحاديث: "فلما توفاها الله ـ يقصد خديجة ـ تزوج بعدها سودة بنت زمعة رضي الله عنها ... وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحباً له، وإيثاراً لمقامها معه فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة لرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضي الله عنها"5.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/19. 2ـ قال ابن الأثير في النهاية 2/389: كأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها ومسلاخ الحية جلدها والسلخ بالكسر: الجلد. 3ـ صحيح مسلم 2/1085. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 10/48. 5ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/125.

4- ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت من محبي الإنفاق في سبيل الله. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب بعث إلى سودة بنت زمعة بغرارة من دراهم فقالت: ما هذه قالوا: دراهم قالت: في الغرارة مثل التمر يا جارية بلغيني القنع. قال: ففرقتها1. "توفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب، ويقال ماتت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية"2.

_ 1ـ انظر الطبقات 8/56. 2ـ الطبقات 8/57، الاستيعاب على الإصابة 4/318، سير أعلام النبلاء 2/267، الإصابة 4/331.

3) عائشة رضي الله عنها: هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وقيل سبع ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة ودخلت السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى وقيل في السنة الثانية من الهجرة وكانت أحب أزواجه إليه وهي المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وعن أبيها، وكانت تكنى بأم عبد الله كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن اختها عبد الله بن الزبير ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة سواها، وكانت أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أعلم النساء على الإطلاق، كان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشر من عمرها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها وعن الصحابة أجميعن"1. ومناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة ومنها: 1- ما رواه البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك قال: "عائشة" قلت: فمن الرجال: قال: "أبوها" ... الحديث2. هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "وهذا

_ 1ـ طبقات ابن سعد 8/58، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/43، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/345-351، أسد الغابة 5/501-504، سير أعلام النبلاء 2/135-201، البداية والنهاية 8/98-102، الإصابة 4/348-350، تهذيب التهذيب 12/433. 2ـ صحيح البخاري 2/290.

خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال: "لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل". فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفضياً1. ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: " يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام" فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. فهذا الحديث يدل على أن لها فضلاً عظيماً ومنزلة عالية حتى عند الملائكة رضي الله عنها وأرضاها. 3- ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 3. في هذا الحديث بيان فضيلة عائشة رضي الله عنها فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. قال النووي: "قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه والمراد بالفضيلة نفعه والشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان

_ 1ـ سير أعلام النبلاء 2/142. 2ـ صحيح البخاري 2/308. 3ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1896.

من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة، وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء الأمة"أ. هـ1. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: "وتقرير أن قوله: "وفضل عائشة ... إلخ لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة وقد أشار ابن حبان إلى أن أفضليتها التي يدل عليها هذا الحديث وغيره مقيدة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل فيها مثل فاطمة عليها السلام جمعاً بين هذا الحديث وبين حديث: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وأحسبه قال: وامرأة فرعون" وقد أخرجه الحاكم بهذا اللفظ من حديث ابن عباس"2. 4- ومن مناقبها رضي الله عنها أن الله ـ عز وجل ـ لما أنزل على نبيه آية التخيير بدأ بها فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا يعمل حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: "إن الله ـ جل ثناؤه ـ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْراً عَظِيماً} " 3. قالت: فقلت: ففي أي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله وروسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"4.

_ 1ـ شرح النووي 15/199. 2ـ فتح الباري 7/107 والحديث في المستدرك 3/185 وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وأقره الذهبي. 3ـ سورة الأحزاب آية/28-29. 4ـ صحيح البخاري في شرحه فتح الباري 8/520.

هذا الحديث تضمن فضل عائشة لبدائته بها رضي الله عنها. 5- ومن مناقبها رضي الله عنها أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في سرقة1 حرير. فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: "إن يك هذا من عند الله يمضه" 2. 6- ومن مناقبها العظيمة التي دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام. فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" 3. هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين اختصت بهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: المنقبة الأولى: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه نوبتها رضي الله عنها وأرضاها يبتغون بذلك مرضاة رسول الله

_ 1ـ سرقة حرير: أي: قطعة من جيد الحرير وجمعها سرق، النهاية في غريب الحديث 2/362. 2ـ صحيح البخاري 3/247، صحيح مسلم 4/1889-1890. 3ـ صحيح البخاري 2/308-309.

صلى الله عليه وسلم ولما يعلمون من شدة حبه صلى الله عليه وسلم لها. المنقبة الثانية: نزول جبريل الأمين بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها فلله ما أجلها من منقبة وما أعظمها من مكرمة اختصت بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 7- ومن مناقبها رضي الله عنها: شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لها. فقد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي بنية ألست تحبين ما أحب"، فقالت: بلى قال: "فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا لها: ما نراك أغنيت عنا في شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحابة فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ... فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت: فلما تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها1 حتى أنحيت عليها قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر". 2

_ 1ـ لم أنشبها: أي: أنحيت عليها: أي: لم ألبث أن قمعتها وقهرتها "انظر النهاية في غريب الحديث" 5/52 وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/207. 2ـ صحيح مسلم 4/1891.

هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها حيث بين عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أنه يحب عائشة وأشار لها أن عليها محبتها. قال النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها بل لا يحل اعتقاد ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها فلم ينهها وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أبي بكر" فمعناه الإشارة إلى كمال فهمها وحسن نظرها والله أعلم"1. والعدل الذي طلبه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو التسوية بينهن في محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم مسوياً بينهن في الأفعال والمبيت ونحوه وأما محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة أكثر منهن وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال"2. 8- ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على عظيم شأنها ورفعه مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ولما أراد الخروج في غزوة بني المصطلق أقرع بينهن فخرج سهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وذلك بعد أن نزل الحجاب فحملت عائشة في هودجها ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة تجهز للعودة فلما قرب من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقامت عائشة رضي الله عنها حين آذنوا بالرحيل ومشت حتى جاوزت مكان الجيش فلما قضت من شأنها أقبلت إلى الرحيل فلمست صدرها وإذ بعقد لها قد انقطع فرجعت للبحث عنه فتأخرت في طلب ذلك العقد وجاء الرهط الذين كانوا يحملون هودجها فرحلوه على بعيرها الذي كانت تركبه وهم يظنونها فيه ولخفتها رضي الله عنها لم يستنكروا عدم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وبعثوا

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/207. 2ـ المصدر السابق 15/205.

الجمل وساروا ووجدت عقدها رضي الله عنها بعد أن ذهب الجيش وجاءت إلى مكانهم الذي نزلوه وإذا به ليس فيه داع ولا مجيب فقصدت مكانها الذي كانت فيه لعلهم يفقدونها ويرجعون إليه فلم يحصل من ذلك شيء ولكن الله قيض لها الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي حيث كان متأخراً عن الجيش فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم فأتى وإذا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فعرفها فجعل يسترجع حتى استيقظت باسترجاعه ولم يكلمها رضي الله عنه بأي كلمة ولا سمعت منه غير كلمة استرجاعه فأناخ لها راحلته فركبتها وانطلق يقود بها تلك الراحلة حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهلك في شأنها من هلك وعصم من ذلك من عصم وكان الذي تولى كبره في حادثة الإفك عبد الله بن أبي بن سلول وأخذ المنافقون في نشر هذه الحادثة يحيكونها بالكذب والبهت حتى تأذى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى شديداً ونزل بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الغم والهم ما الله به عليم حيث تأخر نزول الوحي بتبرئتها شهراً كاملاً وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاتح عائشة في ذلك الأمر وهي عند أبويها1 إلا والوحي ينزل بتبرئتها في عدد من آيات القرآن العظيم من سورة النور كانت درساً بليغاً لأهل الإيمان وشهادة من الله بتبرئة أم المؤمنين، وماتت تلك الفتنة يومئذ ولقي من تخوضوا فيها جزاءهم والآيات التي نزلت بتبرئتها رضي الله عنها هي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ} إلى قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2 وعدد هذه الآيات لا ينقص عن ثمانية عشر آية تولى الله فيها الدفاع بنفسه

_ 1ـ انظر قصة الإفك على سبيل التفصيل في صحيح البخاري 3/163-166، صحيح مسلم 4/2129-2137. 2ـ سورة النور آية/11-28.

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبين أن ما رميت به كان إفكاً وهل الإفك إلا الكذب والبهت والافتراء وحذر من العودة إليه أبداً، وتوعد الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات باللعن في الدنيا والآخرة، والآية الأخيرة من تلك الآيات هي قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني أن عائشة ما كانت تصلح لرسول الله شرعاً ولا قدراً لو كانت خبيثة وأن الله ما كان ليجعل عائشة زوجاً لرسوله إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر عليه الصلاة والسلام كما صرح الله ببراءتها في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وليس لهذا من تفسير إلا أن الباري ـ جل وعلا ـ شهد لها بحقيقة الإيمان وبشرها بالموت عليه لتفوز بعد ذلك بالمغفرة والرزق الكريم في الآخرة وبعد هذا لا يجوز لإنسان يؤمن بالله وكلماته أن ينسب أم المؤمنين عائشة إلى شيء من الخبث والريبة ومن وقع في مثل هذا فليس من تفسير لصنعه هذا إلا الكفر البواح والردة الصراح. قال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها أن الله ـ سبحانه ـ برأها بما رماها به أهل الإفك وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة شهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر ـ سبحانه ـ أن ما قيل فيها من الإفك كان خيراً لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ولا خافضاً من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيالها من منقبة ما أجلها وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشيء عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها"1 فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي

_ 1ـ جزء من حديث الإفك انظر صحيح البخاري 3/165.

تعلم أنها بريئة منه مظلومة وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها فأنزل براءتها في ... آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان ... وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين هل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين: وأصحهما أنه يكفر لأن المقذوف زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وغيرها منهن سواء"2. 9- ومما كان تشريفاً وتكريماً لها ما رواه البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: "جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة3. في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها تضمنها قوله: "جزاك الله خيراً ... " إلخ الحديث فما نزل بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجاً وجعله لأمة محمد تخفيفاً وتيسيراً وبركة. 10- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحق بالرفيق الأعلى كان في بيتها وبين سحرها ونحرها وكان مسنداً ظهره إلى صدرها "وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة

_ 1ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/126. 2ـ البداية والنهاية 8/99 وانظر تفسير القرآن العظيم 5/76. 3ـ صحيح البخاري 2/308.

من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة ودفن في بيتها"1. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غداً؟ " حرصاً على بيت عائشة قالت عائشة: فلما كان يومي سكن"2. وعند مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: "أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ " استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري. وروى مسلم أيضاً بإسناده إلى عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق". وفي رواية أخرى عنها أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم الرفيق الأعلى"3. 11- روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها"4. قال الحافظ الذهبي: "قلت: وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي الله عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي بعائشة بمديدة ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشهما ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى الله عليه وسلم وميله

_ 1ـ انظر سير أعلام النبلاء 2/189، البداية والنهاية 8/99. 2ـ صحيح البخاري 2/308. 3ـ هذه الأحاديث الثلاثة في صحيح مسلم 4/1893-1894. 4ـ صحيح البخاري 2/315.

إليها فرضي الله عنها وأرضاها"1. 12- ومنها إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام إياها بأنها من أصحاب الجنة. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: "أما إنك منهن" قالت: فخيل إلي أن ذاك أنه، لم يتزوج بكراً غيري2. 13- ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أشكل عليهم الأمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها. فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً3. وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة ولم تروا امرأة ولا رجل غير أبي هريرة ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها. وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه لكان علم عائشة أفضل4. وقد أثنى عليها بعض الصحابة بما يبين أنها وجيهة في الدنيا والآخرة فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عمرو بن غالب: "أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر ـ فقال له: ـ اغرب مقبوحاً منبوحاً أتؤذي حبيبة رسول الله

_ 1ـ سير أعلام النبلاء 2/165. 2ـ المستدرك 4/13 ثم قال عقبه: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي". 3ـ سنن الترمذي 5/365 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب". 4ـ انظر هذه الآثار في "سير أعلام النبلاء" 2/183 وما بعدها، البداية والنهاية 8/100.

صلى الله عليه وسلم1. وفي صحيح البخاري عن أبي وائل قال: لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها2. قال الحافظ رحمه الله تعالى شارحاً لقول عمار: "إني لأعلم أنها زوجته" أي: زوجة النبي صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة" وعند ابن حبان من طريق سعيد بن كثير عن أبيه "حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة" فلعل عماراً كان سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: في الحديث: "لتتبعوه أو إياها" قيل: الضمير لعلي لأنه الذي كان عمار يدعو إليه والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه ولعله أشار إلى قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3. فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركني ظهر بعيري حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه"4. وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر5.

_ 1ـ سنن الترمذي 5/365 وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2ـ صحيح البخاري 2/308. 3ـ سورة الأحزاب آية/33. 4ـ فتح الباري 7/108. 5ـ صحيح البخاري 2/308.

في هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها رضي الله عنه بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف1. وروى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان ـ حاجب عائشة ـ إنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت ـ وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن ـ فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن ـ وهي تموت فقالت: دعني من ابن عباس فقال: يا أمها إن ابن عباس من صالح بنيكي يسلم عليك ويودعك فقالت: ائذن له إن شئت قال: فأدخلته فلما جلس قال: أبشري فقالت: بماذا؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمداً والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء فأنزل الله آية التيمم فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار. فقالت: دعني منك يا ابن عباس والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً2. والأحاديث في فضلها ومناقبها كثيرة جداً وحسبنا هنا ما تقدم.

_ 1ـ انظر فتح الباري 7/108، عمدة القاري 16/251. 2ـ المسند مع الفتح الرباني 22/126.

4) حفصة رضي الله عنها: هي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي أخت عبد الله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة "وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وكان بدرياً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تلد له شيئاً ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره"1 وولدت رضي الله عنها قبل المبعث بخمس سنين وتوفيت سنة خمس وأربعين2. وقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على عظم شأنها ورفعة مكانتها ومنها: 1- روى ابن سعد بإسناده إلى أبي الحويرث قال: تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم حفصة بنت عمر بن الخطاب فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة3. في هذا منقبة لأم المؤمنين حفصة وهي أنها كانت ممن حظي بشرف الهجرة التي لا مثل لها في الأجر والثواب. 2- روى البخاري رحمه الله بإسناده إلى سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا،

_ 1ـ تاريخ ابن جرير 3/164. 2ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/81-86، المستدرك 4/14، حلية الأولياء 2/50-51، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/260-261، صفة الصفوة 1/146، أسد الغابة 5/425، جلاء الأفهام ص/127، سير أعلام النبلاء 2/227-231، البداية والنهاية 8/33، الإصابة 4/263-265. 3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/81.

قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً وكنت أوجد عليه مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: فلعلك وجدت عليّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً قال عمر: قلت: نعم قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها1. 3- ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه "فتح الباري" بقوله: "ووقع في رواية ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم2 أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما راح إليه عمر قال: "يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان وأدل عثمان على ختن خير منك؟ " قال: نعم يا نبي الله قال: "تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه: "قد بدا لي أن لا أتزوج" قلت: أخرج ابن سعد3 من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه وزاد في آخره "فخار الله لهما جميعاً"4. ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولاً إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك ورد على عمر بجميل"5.

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/175-176 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/82. 2ـ المستدرك 3/107 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". 3ـ الطبقات 8/82. 4ـ المصدر السابق 8/83. 5ـ فتح الباري 9/176-177.

4- روى الطبراني بإسناده إلى قيس بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ... فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة" 1. في هذا الحديث تنبيه على فضلها والثناء عليها بكثرة الصيام والقيام والإخبار بأنها زوجته صلى الله عليه وسلم في الجنة. قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: "طلقها تطليقة ثم ارتجعها وذلك أن جبرائيل عليه السلام قال له: راجع حفصة فإنها قوامة وصوامة وإنها زوجتك في الجنة"2. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن خواصها: ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل فقال: "إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة"3. وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك وقال: "إنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة" 4. وكل ما تقدم من ذكر مناقبها رضي الله عنها يدل على أنها كانت على جانب عظيم من رفعة مكانتها وجلالة قدرها رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/245 وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/261. 3ـ جلاء الأفهام ص/127. 4ـ سير أعلام النبلاء 2/228.

5) زينب بنت خزيمة رضي الله عنها: هي زينب بنت خزيمة بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يقال لها أم المساكين لأنها كانت تطعمهم وتتصدق عليهم وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبد الله بن جحش فاستشهد بأحد فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت تحت الطفيل بن الحارث بن المطلب ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها وكانت دخوله صلى الله عليه وسلم بها بعد دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبس عنده عليه الصلاة والسلام إلا شهرين أو ثلاث ثم ماتت"1. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت تحت عبد الله بن جحش تزوجها سنة ثلاث من الهجرة وكانت تسمى أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين ولم تلبس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها"2. وقال الزهري رحمه الله تعالى: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وهي أم المساكين سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين وهي من بني عامر بن صعصعة وتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي"3. وقال محمد بن إسحاق:"تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين وكانت قبله عند الحصين، أو عند الطفيل بن الحارث ماتت بالمدينة أول نسائه موتاً"4.

_ 1ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/115-116، المستدرك للحاكم 4/33-34، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/305-306، أسد الغابة 5/466، العبر 1/5، سير أعلام النبلاء 2/218، مجمع الزوائد 9/248، الإصابة 4/309. 2ـ جلاء الأفهام ص/137. 3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه الطبراني ورجاله ثقات. 4ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248 وعزاه إلى الطبراني حيث قال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

وقال الحافظ بن كثير: "وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً دخل بها في رمضان وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها"1. وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة وإن كان لم يرد لها مناقب تخصها على الانفراد مثل بقية أمهات المؤمنين سواها فإنه يكفيها نزول القرآن فيهن على وجه العموم ومخاطبة الرب لهن جميعاً. مثل قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2 وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} 3 وقوله ـ عز شأنه ـ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 4. قال عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم5. كما يكفيها فخراً وشرفاً أنها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي ضرب عليهن الحجاب واللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع للهجرة"6. رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ البداية والنهاية 4/102. 2ـ سورة الأحزاب آية/6. 3ـ سورة الأحزاب آية/32. 4ـ سورة الأحزاب آية/33-34. 5ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/603، وانظر جامع البيان للطبري 22/8. 6ـ انظر البداية والنهاية 4/102، الإصابة 4/309.

6) أم سلمة رضي الله عنها: اسمها هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية مشهورة بكنيتها معروفة باسمها كان أبوها يلقب زاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زاداً بل هو كان يكفيهم، وأمها عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس "وكانت أولاً تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة فيقال: إنها أول ضغينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها عبد الله بن عبد الأسد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة إحدى وستين رضي الله عنها1. وقد جاء ذكر مناقبها في أحاديث كثيرة منها: 1- ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها" قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال: "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة" 2. 2- شرفت رضي الله عنها برؤية جبريل حيث رأته عليه السلام في صورة

_ 1ـ انظر ترجمتها في الطبقات لابن سعد 8/86-96، الجرح والتعديل 9/464، المستدرك للحاكم 4/16-19، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/405-408، أسد الغابة 5/588-589، سير أعلام النبلاء 2/201-210، البداية والنهاية 8/132، مجمع الزوائد 9/245، الإصابة 4/407-408. 2ـ صحيح مسلم 2/632.

دحية بن خليفة الكلبي. فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن معتمر ـ بن سليمان التيمي ـ قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: "أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة من هذا؟ أو كما قال. قالت هذا دحية فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد"1. قال النووي: "قوله أن أم سلمة رأت جبريل في صورة دحية هو ـ بفتح الدال وكسرها ـ وفيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك ويرونه على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى على صورة دحية غالباً ورآه مرتين على صورته الأصلية"2. وقال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها: أن جبرائيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي"3. 3- شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها على خير فقد روى الترمذي من حديث عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله: قال: "أنت على مكانك وأنت على خير" 4.

_ 1ـ صحيح البخاري مع فتح الباري 9/3، صحيح مسلم 4/1906 واللفظ للبخاري. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8. 3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136. 4ـ سنن الترمذي 4/31 وقال عقبه: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر عن أبي سلمة.

قال صاحب تحفة الأحوذي: "أنت على مكانك وأنت على خير" يحتمل أن يكون معناه أنت خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء كأنه منعها عن ذلك لمكان علي وأن يكون المعنى أنت على خير وإن لم تكوني من أهل بيتي كذا في اللمعات قلت: الاحتمال الأول هو الراجح بل هو المتعين1. 4- أكرمها الله بالصواب والسداد فيما تشير به ومن ذلك ما أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حينما أمر أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فتثاقلوا ذلك طمعاً منهم في أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت رضي الله عنهم وأرضاهم. فقد روى البخاري بإسناده من حديث طويل عن المسور ومروان وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاثة مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحد منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"2. فهذه الأحاديث المتقدمة التي ذكر فيها فضل أم سلمة أم المؤمنين كلها دلت دلالة واضحة على أنها كانت جليلة القدر عظيمة المكانة رضي الله عنها وأرضاها. "وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتاً" وقيل: "بل ميمونة"3.

_ 1ـ تحفة الأحوذي 9/66. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/332. 3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136، زاد المعاد 1/114.

7) زينب بنت جحش رضي الله عنها: هي زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخت حمنة، من المهاجرات الأول تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وقيل: سنة خمس وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} 1 وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} 2 وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك. وكانت زينب رضي الله عنها من سادة النساء ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة عشرين3. ومناقبها رضي الله عنها نطق بها الكتاب والسنة: 1- شهادة الرب ـ جل وعلا ـ لها بحقيقة الإيمان. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 4. فالمراد بالمؤمنة في هذه الآية زينب رضي الله عنها. قال السيوطي: "أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل

_ 1ـ جزء من الآية رقم 37 من سورة الأحزاب. 2ـ جزء من الآية رقم 5 من سورة الأحزاب. 3ـ انظر ترجمتها في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/101-115، المستدرك 4/23-25، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/51-54، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/306-310، أسد الغابة 5/463، سير أعلام النبلاء 2/211-218، البداية والنهاية 7/115، التهذيب 12/420، الإصابة 4/307-308، مجمع الزوائد 9/246-248، كنز العمال 13/700-704. 4ـ سورة الأحزاب آية/36.

على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها قالت: لست بناكحته قال: بلى فانكحيه قالت: يا رسول الله، أوامر في نفسي فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً وقال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي"1. 2- مما أكرمها الله وشرفها به أن تولى بنفسه تزويجها بنبيه من فوق سبع سموات بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وانقضت عدتها وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تقول لهن: زوجكن أهليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: جاء زيد بن حارثة يشكوا "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات". وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: "إن الله أنكحني في السماء"2. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: "فاذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ... "الحديث3.

_ 1ـ الدر المنثور 6/609، تفسير ابن جرير 22/11، تفسير ابن كثير 5/463. 2ـ الحديثان في صحيح البخاري 4/281. 3ـ صحيح مسلم 2/1048-1049.

وقد حكى الله ـ جل وعلا ـ تزويجه إياها بنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 1. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "فزوجها الله ـ تعالى ـ بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين وتقول: زوجكن أهليكن وزجني الله من فوق عرشه"2. قال الحافظ في بيان قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابناً ووقع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم ... وقد أخرج الترمذي3 من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} ـ يعني بالإسلام ـ {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إلى قوله: {قَدَراً مَقْدُوراً} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} 4 الآية وكان تبناه وهو صغير قلت: حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد. فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ـ قوله {وَمَوَالِيكُمْ} 5.

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/37. 2ـ سير أعلام النبلاء 2/211. 3ـ سنن الترمذي 5/31-32. 4ـ سورة الأحزاب آية/40. 5ـ فتح الباري 8/524 والآية رقم 5 من سورة الأحزاب.

3- ومما حظيت به وكان تكريماً لها من ربها أن آية الحجاب نزلت حين تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب: لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت صنع طعاماً ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ـ إلى قوله ـ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب وقام القوم"1. فزواجها رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم كان السبب في نزول آية الحجاب. 4- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً" قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق"2. وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" قالت عائشة فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قال: وكانت زينب امرأة صناعة اليد فكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله عز وجل"3. قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/527. 2ـ صحيح مسلم 4/1907. 3ـ المستدرك 4/25 وقال عقبه: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

طول اليد الحقيقية وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة فكانت سودة أطولهن جارحة وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود ... وفيه معجزة باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة ظاهرة لزينب ووقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ متعقد يوهم أن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع"1. 5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها من حديث طويل وفيه قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب إلى الله تعالى ما عدا سورة2 من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة3 ... الحديث4. فلقد وصفت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زينب بنت جحش بصفات عظيمة كلها جامعة لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل التي طابعها البر والتقوى وكل صفة منها منقبة ظاهرة لأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها. كما وصفتها عائشة رضي الله عنها وصفاً عظيماً في حديث الإفك الطويل حيث قالت رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري: "ما علمت؟ أو ما رأيت؟ " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8-9. 2ـ ما عدا سورة من حد: أي: شدة الخلق وثورانه. انظر النهاية في غريب الحديث 2/420، شرح النووي 15/206. 3ـ الفيئة: الرجوع ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب، تسرع منها الرجوع أي: إذا وقع ذلك منها رجعت عنه سريعاً ولا تصر عليه شرح النووي 15/206. 4ـ صحيح مسلم 4/1891-1892.

وبصري والله ما علمت إلا خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب1 لها فهلكت فيمن هلك2 هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري قالت رضي الله عنها: "وكانت عائشة تقول: أما زينب ابنة جحش فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً وأما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك"3. ففي هذين النصين فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين زينب رضي الله عنها. قال الإمام الذهبي: "ويروى عن عمرة عن عائشة قالت: يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف إن الله زوجها ونطق به القرآن وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "أسرعكن لحوقاً أطولكن باعاً" فبشرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة"4. ومناقبها رضي الله عنها التي وردت بها الأحاديث والآثار كثيرة جداً رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ وطفقت أختها حمنة تحارب لها "أي: جعلت تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك" شرح النووي 17/113. 2ـ صحيح مسلم بشرح النووي 17/113. 3ـ صحيح البخاري 3/168. 4ـ سير أعلام النبلاء 2/215.

8) جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جديمة وهو المصطلق بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو الخزاعية المصطلقية، لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق غزوة المريسيع في سنة خمس أو ست وسباهم وقعت جويرية رضي الله عنها في سهم ثابت بن قيس فكاتبها رضي الله عنها على نفسها، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت منه أن يعينها على ما كاتبها عليه ثابت بن قيس فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم ما خير لها في العاجل والآجل وهو أن يؤدي عنها ما كاتبها عليه ثابت بن قيس رضي الله عنه ويتزوجها فوافقت على ذلك وأسلمت وتزوجها سيد الخلق وأطلق لها الأسارى من قومها وكانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت مسافع بن صفوان المصطلقي وقتل عنها في غزوة المريسيع"1. وقد وردت لها مناقب في بعض الأحاديث دلت على فضلها وعظم شأنها ومنها ما يلي: 1- مما أكرمت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى عنها كتابتها وتزوجها وكان ذلك صداقاً لها. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له2 فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة3 لا يراها أحد إلا أخذت

_ 1ـ طبقات ابن سعد 8/116-120، المستدرك 4/25-28، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/251-254، أسد الغابة 5/419-420، مجمع الزوائد 9/250، البداية والنهاية 8/53-54، تهذيب التهذيب 12/407، الإصابة 4/257-258. 2ـ وقع في "مغازي الواقدي" 1/410 وقعت في السهم لثابت بن قيس وابن عم له وأن ثابتاً خلصها من ابن عمه بنخلات له في المدينة. 3ـ ملاحة: بضم الميم وتشديد اللام: أي شديدة الملاحة وهو من أبنية المبالغة، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/355 وكنت به عائشة عن جمالها.

بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال: "فهل لك من خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة1 أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها"2. هذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة، وميزة شريفة لأم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها حيث إن المصطفى عليه الصلاة والسلام اتخذها زوجة له بعد أن أسلمت وصارت بذلك أماً للمؤمنين وكان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً لها

_ 1ـ "مائة أهل بيت" جاء في عون المعبود: "كذا بالإضافة أي: مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت ولم تقل مائة هم أهل بيت بإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مراداً وقد روي أنهم أكثر من سبعمائة "قاله الزرقاني" عون المعبود 10/444 وانظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/345. 2ـ سيرة ابن هشام 2/294-295، كتاب السير والمغازي لابن إسحاق ص/263 والحديث أخرجه أحمد في المسند من طريق ابن إسحاق 6/277، وأبو داود في سننه 2/347، والبيهقي في السنن الكبرى 9/74، وقال صاحب عون المعبود: قال المنذري: وفيه محمد بن إسحاق بن يسار، ثم قال صاحب عون المعبود: قلت: وقد صرح بالتحديث في رواية يونس ابن بكير عنه وأخرجه أحمد في المسند أهـ. عون المعبود 10/441 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف"أهـ. فتح الباري 4/32. وقال الشيخ محمد ناصر الألباني: "الذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديث ابن إسحاق في مرتبة الحسن بشرطين: أحدهما: أن يصرح بالتحديث وأن لا يخالف من هو أوثق منه" أهـ "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي" ص/82. وبهذا يعلم أن الحديث إسناده صحيح وهو حسن لذاته.

ولقومها فما أن علم الصحابة الكرام رضي الله عنهم بزواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا وأطلقوا الأسارى الذين كانوا في أيديهم من قومها إجلالاً وتعظيماً لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام لأنهم صاروا أصهاره لما تزوج بجويرية رضي الله عنها ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: "فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها". 2- ومما شرفت به أن تسميتها بهذا الاسم الذي عرفت به وهو جويرية إنما هو تسمية نبوية سماها به النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة1. 3- كانت رضي الله عنها من المكثرات للعبادة الذاكرات الله ذكراً كثيراً. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم قال النبي "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله بحمده، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" 2 فلقد نالت جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها بدخولها في الإسلام وزواجها بخير البرية فضلاً عظيماً وخيراً كثيراً رضي الله عنها وأرضاها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة خمسين للهجرة وقيل سنة ست وخمسين للهجرة"3.

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1687. 2ـ صحيح مسلم 4/2090. 3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/120، وسير أعلام النبلاء 2/463، البداية والنهاية لابن كثير 8/54، مجمع الزوائد 9/250.

9) أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها: اسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبيد الله بن جحش بن رياب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، ولقد أصيب زوجها بالخذلان فارتد عن الإسلام ودخل في النصرانية وفارقها وذلك من فضل الله تعالى عليها ليتم لها الإسلام والهجرة وأبدلها الله ـ عز وجل ـ من هو أفضل من كل البشر محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع وأربعين للهجرة1 رضي الله عنها وأرضاها. ولقد وردت لها بعض المناقب التي دلت على علو مكانتها وجليل قدرها رضي الله عنها وأرضاها وتلك المناقب هي: 1- مما حظيت به رضي الله عنها أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها وأرضاها. فقد روى ابن سعد والحاكم عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول:

_ 1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد 8/96-100، طبقات خليفة بن خياط ص/332، الجرح والتعديل 9/461، المستدرك 4/20-23، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/296-299، أسد الغابة 5/457، جلاء الأفهام ص/128-135، سير أعلام النبلاء 2/218-223، البداية والنهاية 8/31، مجمع الزوائد 9/249-250، الإصابة 4/298، تهذيب التهذيب 4/419.

يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته ... الحديث1. في هذا بيان فضيلة ظاهرة لأم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة. وقال ابن سعد: "وكان عبيد الله بن جحش هاجر بأم حبيبة معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فتنصر وارتد عن الإسلام وتوفي بأرض الحبشة، وثبتت أم حبيبة على دينها الإسلام وهجرتها"2. وقال الحافظ ابن كثير: "أسلمت قديماً وهاجرت هي وزوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر هناك زوجها وثبتت على دينها رضي الله عنها3. 2- ومما فيه تنويه بشأنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث من يخطبها له إلى الحبشة. فقد روى الحاكم بإسناده إلى جعفر بن محمد بن علي عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يخطب عليه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت تحت عبيد الله بن جحش فزوجها إياه وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار4. قال أبو جعفر محمد بن جرير: "فما نرى عبد الملك بن مروان وقّت

_ 1ـ الطبقات الكبرى 8/97، المستدرك 4/20-21. 2ـ الطبقات 8/96. 3ـ البداية والنهاية 8/31. 4ـ المستدرك 4/22، واخرجه ابن سعد في الطبقات 8/99.

صداق النساء أربعمائة دينار إلا لذلك"1. روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونصفاً فذلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه "قال الحاكم": هذا حديث صحيح الإسناد وعليه العمل وإنما أصدق النجاشي أم حبيبة أربعمائة دينار استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع لاستعانة النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك2. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة ... هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر بالحبشة وأتم الله لها الإسلام وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة وولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص"3. قال الذهبي: "وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء"4. 4- ومما زاد في قدرها وعلو شأنها أنها أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم. فقد روى

_ 1ـ ذكره عنه ابن سعد في الطبقات 8/99، الحاكم في المستدرك 4/22. 2ـ المستدرك 4/22. 3ـ جلاء الأفهام ص/128. 4ـ سير أعلام النبلاء 2/219.

ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر1. 5- أنها كانت شديدة الخوف من الله ـ جل وعلا ـ ومن العابدات الورعات. فقد روى ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما2.

_ 1ـ الطبقات الكبرى 8/99-100، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223. 2ـ الطبقات الكبرى 8/100، المستدرك 4/22-23 وأورده الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223، وابن كثير في البداية والنهاية 8/31، والحافظ ابن حجر في الإصابة 4/300.

10) صفية بنت حيي رضي الله عنها: هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيه بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن أبي خبيب من بني النضير وهو من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام. كانت قبل إسلامها تحت سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، فقتل كنانة يوم خيبر فصارت صفية مع السبي فأخذها دحية الكلبي، ثم استعادها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأعتقها وتزوجها، كانت رضي الله عنها سيدة شريفة عاقلة فاضلة ذات حسب وجمال ودين رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنه1. وقد وردت أحاديث كثيرة بذكر مناقبها رضي الله عنها وأرضاها منها: 1- من إكرام الله لها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وجعل عتقها صداقها فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث طويل عن أنس رضي الله عنه في غزوة خيبر وفيه: "قال وأصبناها عنوة2 وجمع السبي فجاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها" قال: فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" قال: وأعتقها وتزوجها فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له3 من الليل فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1ـ الطبقات الكبرى 8/12-129، المستدرك 4/28-29، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/337-339، أسد الغابة 5/490-491، جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/138، سير أعلام النبلاء 2/231-238، البداية والنهاية 8/50، الإصابة 4/337-339. 2ـ عنوة: أي: قهراً لا صلحاً. 3ـ فأهدتها له: أي: زفتها له صلى الله عليه وسلم.

عروساً ... الحديث1. وعند الإمام مسلم أيضاً: من حديث أنس وفيه قال: "ووقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها قال: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها2 وهي صفية بنت حيي ... قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد فلما أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنه قد تزوجها" الحديث3. هذان الحديثان اشتملا على بيان فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها حيث أكرمها الله ـ عز وجل ـ بالدخول في الإسلام وكتب لها الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث صارت بذلك في أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. والحديثان يوهم ظاهرهما التعارض إذ الأول يفيد أنه صلى الله عليه وسلم أذن لدحية في أخذه جارية من السبي فأخذ صفية فاستردها منه، والثاني يفيد أنها وقعت في سهمه واشتراها بسبعة أرؤس وقد ذكر الجمع بينهما الحافظ حيث قال: "قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها من دحية قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل قلت: وقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم أن صفية وقعت في سهم دحية وعنده أيضاً فيه "فاشتراها" من دحية بسبعة أرؤس "فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية فأذن له أن يأخذ جارية فأخذ صفية فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/469، صحيح مسلم 2/1043-1044 واللفظ له. 2ـ أي تستبريء فإنها كانت مسبية يجب استبراؤها وجعلها في مدة الاستبراء في بيت أم سليم. 3ـ صحيح مسلم 2/1045-1046.

وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها فإن في ذلك رضا الجميع وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء، وأما إطلاق الشراء على العوض فعلى سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها1، فلم تطب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك. وعند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وأصله في مسلم: "صارت صفية لدحية فجعلوا يمدحونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي"2. 2- ومما دل على عظيم شأنها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لها ركبته لتصعد من عليها للركوب على البعير حال رجوعه عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر فكانت تجله وتكرمه عليه الصلاة والسلام من أن تضع رجلها على فخذه وإنما كانت تضع ركبتها على فخذه حتى تركب. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيساً في نطع صغير ثم قال لي: آذن من حولك فكانت تلك وليمته على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب"3.

_ 1ـ وقع عند ابن إسحاق أن صفية سبيت من حصن القموص وهو حصن ابن أبي الحقيق وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسبي معها بنت عمها وعند غيره بنت عم زوجها فلما استرجع النبي صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها انظر كتاب المغازي والسير ص/264، الإصابة 4/338، فتح الباري 7/469-470. 2ـ فتح الباري 7/470، شرح النووي 9/220-221. 3ـ صحيح البخاري 3/52.

وقال الحافظ ابن حجر: "ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت1. 3- روى محمد بن سعد بأسانيده في حديث طويل وفيه: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها فأبت عليه فوجد في نفسه فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر نزل بها هناك فمشطتها أم سليم وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكانت من أضوأ ما يكون من النساء فدخل بأهله فلما أصبح سألتها عما قال لها؟ فقالت: قال لي: "ما حملك على الامتناع من النزول أولاً" قالت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده وذكرت أنه سر بها ولم ينم تلك الليلة لم يزل يتحدث معها"2. فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها فلقد خشيت على النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود إن هو نزل منزلاً قريباً من خيبر لأنها خبيرة بكيد اليهود وشدة بغضهم وحقدهم على الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك امتنعت من النزول في المنزل الأول الذي كان يبعد عن خيبر ستة أميال ولما بلغ الصهباء نزل بها وسألها عن سبب امتناعها عن النزول أولاً أوضحت له أنها تخشى عليه من اليهود فزادها ذلك منزلة ورفعة عنده عليه الصلاة والسلام وكل هذا ناشيء عن الإيمان الصادق الذي أنساها قتل أبيها وزوجها من أجل كفرهما بالله وصدهما عن سبيل الله. ولذلك سر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام فلم ينم تلك الليلة بل استمر في مبادلتها الحديث رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ فتح الباري 7/480. 2ـ الطبقات 8/120-122 فقد رواه بثلاثة أسانيد لأبي هريرة وإلى أنس بن مالك وإلى أم سنان الأسلمية.

4- ورد التنوية بشرف نسبها فيما رواه أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك؟ " قالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ " ثم قال: " اتقي الله يا حفصة" 1. فهذا النص النبوي تضمن ذكر فضيلة ظاهرة لصفية رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من سلالة نبوية فقد هون عليها ما بلغها من أم المؤمنين حفصة حيث بين لها أنها ابنة نبي وهو هارون بن عمران عليه السلام وأن عمها لنبي وهو موسى بن عمران عليه السلام وأنها لتحت نبي وهو أفضل البشر وسيد ولد آدم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ففيم تفخر عليك؟ " أي: في أي شيء تفخر حفصة عليك ومع أن كلمة حفصة رضي الله عنها كلمة صحيحة بالنظر إلى أبيها لم يرضها النبي صلى الله عليه وسلم لأن التفاخر من عادات الجاهلية ولذلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم. 5- ومما هو مفخرة في حقها مدح النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصدق فقد أخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمع إليه نساؤه فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمزنها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مضمضن" فيقلن من أي شيء يا نبي الله؟ قال: "من تغامزكن بصاحبتكن والله إنها لصادقة" 2. 6- ومنها ما رواه أبو عمر بن عبد البر فقال: وكانت صفية حليمة عاقلة

_ 1ـ سنن الترمذي 8/368 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/153. 2ـ الطبقات الكبرى 8/128 وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/235، والحافظ في الإصابة 4/339.

فاضلة وروينا أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث إليها عمر فسألها فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن أبدلني الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً وأنا أصلها، قال ثم قالت للجارية: وما حملك على ما صنعت قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة1. 7- لما اجتمع أهل الفتنة على الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحصروه في الدار وقطعوا عليه الماء والطعام كان لها رضي الله عنها موقف طيب تذكر به في الآخرين فقد حاولت بقدر استطاعتها إيصال الماء والطعام إلى عثمان رضي الله عنه. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى كنانة بن نبيه ـ مولى صفية ـ قال: كنت أقود بصفية لترد على عثمان فلقيها الأشتر2 فضرب وجه بغلتها حتى مالت فقالت: ردوني لا يفضحني هذا قال الحسن في حديثه: ثم وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام3. فقد كانت رضي الله عنها من سيدات النساء عبادة وورعاً وزهادة وبراً وصدقة رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/339. 2ـ اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جزيمة بن مالك بن النخع النخعي الكوفي المعروف بالأشتر كان أحد الساعين في الفتنة زمن عثمان رضي الله عنه وأحد المؤلبين على عثمان وشهد حصره، هلك سنة 37 "انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/11-12. 3ـ الطبقات الكبرى 8/128.

11) ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر أن صعصعة الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة من حمير، وقيل من كنانة وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي رهم بن عبد العزى، وقيل عند سبرة بن أبي رهم هذا، وقيل عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: عند فروة أخيه وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع لما اعتمر عمرة القضية زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وكان يلي أمرها وهي أخت أم ولده أم الفضل بنت الحارث الهلالية لأبيها وأمها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على أنها كانت من سادات النساء رضي الله عنها وأرضاها. 1- من تلك الأحاديث ما أخرجه ابن سعد بإسناده إلى علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة عام القضية بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلى العباس فزوجه ميمونة، فأضلا بعيريهما فأقاما أياماً ببطن رابغ حتى أدركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد وقد ضما بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له وجعلت ميمونة أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 فجاء رسول الله منزل العباس فخطبها إلى العباس فزوجها إياه"3. 2- وروى أيضاً بإسناده إلى سليمان بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث

_ 1ـ انظر ترجمتها في: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/132-140، المستدرك للحاكم 4/30-33، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/391-395، أسد الغابة 5/550، سير أعلام النبلاء 2/238-245، البداية والنهاية 8/63، الإصابة 4/397-399، مجمع الزوائد 3/249. 2ـ قال الذهبي رحمه الله تعالى: "كذا قال: وصوابه إلى العباس" سير أعلام النبلاء 2/239. 3ـ الطبقات 8/132.

أبا رافع ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة قبل أن يخرج من المدينة"1. 3- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم2. في هذه الأحاديث الثلاثة منقبة عظيمة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها فقد أكرمها الله ـ عز وجل ـ بأن جعلها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواجه عليه الصلاة والسلام في الحياة الدنيا وفي الآخرة. 4- روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثاً فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا قال: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسرف3. 5- روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت في بعث مرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب فأتني بميمونة" فقلت: يا رسول الله: إني في البعث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس تحب ما أحب" فقلت: بلى قال: "فاذهب فأتني بها" فذهبت فجئته بها4.

_ 1ـ الطبقات الكبرى 8/133، وأخرجه مالك في الموطأ 1/348. 2ـ الطبقات 8/133. 3ـ المستدرك 4/31 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي" وكلمة "سرف": اسم مكان يبعد عن مكة ستة أميال وقيل سبعة وتسعة واثني عشر وهو الموضع الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة "انظر معجم البلدان" 3/212. 4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/137 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن علي بن أبي رافع وهو ثقة.

6- إن تسميتها باسم "ميمونة" إنما سماها بهذا الاسم المبارك الميمون المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة"1. 7- شهد لها المصطفى عليه الصلاة والسلام بحقيقة الإيمان واستقراره في قلبها رضي الله عنها. فقد روى الحاكم بإسناده أيضاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأخوات مؤمنات ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختها أم الفضل بنت الحارث، وأختها سلمة بنت الحارث امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن" 2. هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة وفضيلة ظاهرة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأخواتها اللاتي ذكرن معها رضي الله عنهن وأرضاهن. 8- روى أبو يعلى بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: "ثقلت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وليس عندها أحد من بني أخيها فقالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة قال: فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى الشجرة التي بنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها في موضع الفيئة قال: فماتت فلما وضعناها في لحدها أخذت ردائي فوضعته تحت خدها في اللحد فأخذه ابن عباس فرمى به"3. فقد شاء الله تعالى لها أن تموت في المكان الذي بنا بها فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بنا بها بسرف، وماتت رضي الله عنها في نفس المكان الذي بنا بها فيه وفيه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لها بأنها لا تموت بمكة وفهمها لذلك منقبة ظاهرة لها، ولذلك طلبت أن يخرجوها من مكة. رضي الله عنها وأرضاها.

_ 1ـ المستدرك 4/30 وقال عقبه: "صحيح" ووافقه الذهبي. 2ـ المستدرك 4/32-33 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/138. 3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/249 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.

9- ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه ابن سعد والحاكم عن يزيد بن الأصم قال: "تلقيت عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن طلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله1 ثم أقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله ـ تبارك وتعالى ـ ساقك حتى جعلك في بيت نبيه؟ ذهبت والله ميمونة ورمي بحبلك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم2 "3. فقد شهدت عائشة أم المؤمنين لميمونة رضي الله عنها بصفتين عظيمتين من صفات عباد الله المخلصين هما تقوى الله التي هي فعل المأمور وترك المنهي، وصلة الرحم التي هي أصل من أصول الأخلاق التي حث الله عباده على صلتها وعدم قطعها. وجزم الحافظ ابن كثير بأنها توفيت سنة إحدى وخمسين4. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكانت وفاة ميمونة سنة إحدى وخمسين ونقل ابن سعد عن الواقدي أنها ماتت سنة إحدى وستين قال وهي آخر من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ولولا هذا الكلام الأخير لاحتمل أن يكون قوله وستين وهماً من بعض الرواة ولكن دل أثر عائشة الذي حكاه عنها يزيد بن الأصم أن عائشة ماتت قبل الستين بلا خلاف والأثر المذكور صحيح فهو أولى من قول الواقدي، وقد جزم يعقوب بن سفيان بأنها ماتت سنة تسع

_ 1ـ العزل: اللوم انظر غريب الحديث لابن الجوزي 2/77. 2ـ قال الذهبي: "قلت: فيه دليل على أن ميمونة ماتت قبل عائشة فبطل قول من قال: ماتت سنة إحدى وستين"أهـ، التلخيص للذهبي على حاشية المستدرك 4/32. 3ـ الطبقات الكبرى 8/138، المستدرك 4/31 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأورده الحافظ في الإصابة 4/399 وقال عقبه: "هذا سند صحيح". 4ـ البداية والنهاية 8/63.

وأربعين، وقال غيره: ماتت سنة ثلاث وستين وقيل سنة ست وستين وكلاهما غير ثابت والأول أثبت"1. فهؤلاء جملة من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة2. قال العلامة ابن القيم: "قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره: وعقد على سبع ولم يدخل بهن ... فمن فارقها في حياتها ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن ومات عنهن صلى الله عليه وسلم"أ. هـ3. "ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع وكان يقسم منهن لثمان: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية"4. هؤلاء أمهات المؤمنين اللاتي يجب على كل مسلم الإقرار والاعتراف بفضلهن وأنهن أمهات المؤمنين كما أطلق الله ذلك عليهن وأن من طعن فيهن أو واحدة كان فاسقاً حائداً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم أن أخير الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ونقول في الجميع خيراً ونبدع ونضلل ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً مخالفاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك"5.

_ 1ـ الإصابة 4/399. 2ـ جلاء الأفهام ص/138. 3ـ المصدر السابق ص/138-139. 4ـ زاد المعاد 1/114. 5ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/68.

ب – فضل بناته صلى الله عليه وسلم1) فضل زينب رضي الله عنها: هي زينب بنت سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من تزوج منهن ولدت قبل البعثة بمدة قيل: إنها عشرة سنين وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي خالة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت زينب لأبي العاص علياً وأمامة فتوفي علي وهو صغير وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في جملة الأحاديث وهي كما يلي: 1- روى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن أبا العاص بن الربيع كان فيمن شهد بدراً مع المشركين فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع وبعثت معه زينب بنت رسول الله وهي يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار ـ وظفار جبل باليمن ـ وكانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حين بنى بها فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم" قالوا: نعم يا رسول الله فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على زينب قلادتها وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل"2. 2- وروى أبو القاسم الطبراني والبزار عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم

_ 1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد" 8/30-36، التاريخ الصغير 1/7، المستدرك 4/42-46، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/304-305، أسد الغابة 7/130، العبر 1/10، سير أعلام النبلاء 2/246-250، مجمع الزوائد 9/212-216، الإصابة 4/306. 2ـ الطبقات 8/31، المستدرك للحاكم 4/45 وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

مكة1، خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في طلبها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها فتحملت واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقال بنو أمية: نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت تقول: هذا في سبب أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجيء بزينب قال: بلى يا رسول الله قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه" فانطلق زيد فلم يزل يتلطف فلقي راعياً فقال: لمن ترعى فقال: لأبي العاص فقال: لمن هذه الغنم فقال: لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئاً ثم قال هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد قال: نعم فأعطاه الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيره قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى إذا أتت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي خير بناتي أصيبت في" 2. 3- وروى البزار بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وكنت فيهم فقال: "إن لقيتم هبار بن الأسود ونافع بن عبد عمرو فاحرقوهما" وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت فلم تزل ضبنة3 حتى ماتت ثم قال: "إن لقيتموهما، فاقتلوهما فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله" 4.

_ 1ـ كذا في المجمع ولعل الصواب "لما قدم المدينة" كما في المستدرك 4/43. 2ـ وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/212-213، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط بعضه ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح" ورواه الدولابي في الذرية الطاهرة ص/46. 3ـ ضبنة: أي زمنة، من الضبنة وهي الزمانة وهي المرض الدائم "انظر هذا المعنى في الفائق في غريب الحديث" 2/228. 4ـ أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/247 وقال المحقق: إسناده قوي فإن راوايه عن ابن لهيعة بن المبارك وقد سمع منه قبل احتراق كتبه" أهـ، وانظر الحديث في السيرة لابن هشام 1/657،

وعند البخاري رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فاحرقوهما بالنار" يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وشرط عليه أن يجهز له ابنته زينب فجهزها فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك والقصة مشهورة عند ابن إسحاق2 وغيره ... إلى أن قال: وقد أسلم هبار هذا فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر"3. روى الحاكم بإسناده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أبو العاص بن الربيع أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في الصبح يصلي بالناس فقالت: أيها الناس: إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: "أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم" 4.

_ وأورده الحافظ في الإصابة 3/565-566 وعزاه إلى تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة. 1ـ صحيح البخاري 2/172. 2ـ انظر سيرة ابن هشام 1/654، المستدرك 4/42-43. 3ـ فتح الباري 6/149-150، الإصابة 3/566. 4ـ أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية 1/157-158، ابن سعد في الطبقات 8/32، والحاكم في المستدرك 4/45، والدولابي في الذرية الطاهرة ص/47، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 3/364-365.

ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لزينب رضي الله عنها حيث قبل جوارها لزوجها وصار ذلك سنة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو أنه يجير على المسلمين أدناهم ولو كان امرأة. 5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الخامسة كافوراً أو شيئا من كافور فإذا غسلتنها فأعلمنني" قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوه1 وقال: "أشعرنها 2 إياه" 3. هذه الأحاديث المتقدمة كلها اشتملت على بيان مناقب عالية لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت ممن تقدم إسلامهم وممن حظي بشرف الهجرة وممن أوذي في الله وصبرت على ذلك وتحملت الأذى في ذات الله وإيماناً بما عنده من الثواب والجزاء العظيم على ذلك، كما دلت هذه الأحاديث على أنه كان لها منزلة عظيمة عند أبيها صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها في أول السنة الثامنة للهجرة4.

_ 1ـ الحقوا: معقد الإزار وسمي الإزار حقواً لأنه يشد على الحقو "النهاية في غريب الحديث" 1/417، شرح النووي 7/3. 2ـ أشعرنها: أي: اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي الجسد لأنه يلي شعرها "النهاية في غريب الحديث" 2/280، شرح النووي على صحيح مسلم 7/3. 3ـ صحيح مسلم 2/648. 4ـ الطبقات 8/32، سير أعلام النبلاء 2/250، الإصابة 4/306.

2) رقية رضي الله عنها: هي رقية بنت سيد البشر صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ولدت رضي الله عنها سنة ثلاث وثلاثين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمرو: "لا أعلم خلافاً أن زينب أكبر بناته صلى الله عليه وسلم واختلف فيمن بعدها منهن ذكر أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة وولدت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وثلاثين سنة1. وكانت رضي الله عنها ممن تقدم إسلامهم فقد قال محمد بن سعد: "وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة بنت خويلد وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء"2. وكانت رضي الله عنها قبل الهجرة تحت عتبة بن أبي لهب ففارقها3. قال أبو عمر رحمه الله تعالى: "وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب وكانت أختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 4 قال لهما أبو هما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ففارقاهما"5. ولما فارقها عتبة بن أبي لهب أبدلها الله بزوج كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن المبشرين بالجنة وهو ذو النورين عثمان، فقد روى أبو القاسم

_ 1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292. 2ـ الطبقات 8/36. 3ـ المصدر السابق، وانظر سير أعلام النبلاء 2/251، مجمع الزوائد 9/216-217. 4ـ الآية رقم 1 من سورة المسد. 5ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292.

الطبراني بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي قال: كانت رقية عند عتبة بن أبي لهب فلما أنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية وسألته رقية ذلك فطلقها فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية وتوفيت عنده1. وقال ابن شهاب: فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية بمكة وهاجرت إلى أرض الحبشة وولدت له هناك ابناً فسماه عبد الله فكان يكنى به وقال مصعب كان عثمان يكنى في الجاهلية أبا عبد الله فلما كان الإسلام ولد له من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام سماه عبد الله واكتنى به فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات، وقال غيره توفي عبد الله بن عثمان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة وهو ابن ست سنين وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته أبوه عثمان رضي الله عنهما"2. وقد وردت طائفة من الأحاديث والآثار التي فيها ذكر بعض المناقب لرقية رضي الله عنها ومنه ما يلي: 1- كانت رضي الله عنها في صدارة من شرفوا بفضل الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عروة في تسمية الذين خرجوا في المرة الأولى إلى هجرة الحبشة قبل خروج جعفر وأصحابه عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وروى ابن المبارك من طريق قتادة عن النضر بن أنس عن أبيه قال: خرج عثمان برقية إلى الحبشة مهاجراً فاحتبس خبرهما فأتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فأخبرته

_ 1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/216-217 وقال: رواه الطبراني وفيه زهير بن العلاء ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان فالإسناد حسن، وانظر الذرية الطاهرة ص/52. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292-293، وانظر الذرية الطاهرة ص/53. 3ـ المستدرك 4/46.

أنها رأتهما فقال: "منحهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله" 1. ففي هذا منقبة لعثمان وزوجه رقية حيث إن عثمان أول من هاجر بأهله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 3- لما مرضت رضي الله عنها أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام زوجها عثمان بن عفان أن يتخلف عن غزوة بدر لتمريضها. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه" 2. وقال الزبير بن بكار: كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب ففارقها فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة وهاجرت معه إلى أرض الحبشة فولدت له عبد الله وبه كان يكنى وقدمت معه إلى المدينة وتخلف عن بدر عليها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمان أهل بدر قال: وأجرى يا رسول الله قال: "وأجرك" 3. وقال الحافظ ابن كثير: "وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة ابن أبي لهب، كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة بن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة ويقال: إنه أول من هاجر إليها ثم رجع إلى مكة وهاجر إلى المدينة، وولدت له ابنه عبد الله فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه

_ 1ـ أورده الحافظ في الإصابة 4/298. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/54. 3ـ رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد 9/217 وقال الهيثمي عقبه: "رواه الطبراني وروى عن الزهري بعضه روجالهما إلى قائلهما ثقات وانظر الذرية الطاهرة للدولابي ص/54.

فمات وبه كان يكنى أولاً، ثم اكتنى بابنه عمرو، وتوفيت وقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة ـ وهو زيد بن حارثة ـ وجدهم قد ساووا على قبرها التراب1، وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه وأجره ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضاً، ولهذا كان يقال له: ذو النورين ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان" وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كن عشراً لزوجتهن عثمان" 2. وما تقدم من الآثار وبعض الأحاديث كلها تدل على فضل رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله ـ جل وعلا ـ ألا تبقى بضعة من المصطفى عليه الصلاة والسلام في عصمة كافر فقد أخرج الله ابنتيه رقية وأم كلثوم من عصمة ابني أبي لهب وكتب الله لرقية أن تتزوج بعد مفارقة ابن أبي لهب لها برجل كريم تستحي منه الملائكة فكان نعم الزوج لها ونعمت الزوجة له، هاجرا معاً إلى أرض الحبشة ليحصلا على مكان يعبدان الله تعالى فيه ليأمنا من اعتداء أهل الكفر والإشراك بالله، ورغبة صادقة منهما في حصول ثواب الهجرة الذي لا يعدله شيء، وكانت لها رضي الله عنها منزلة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليها إذنه عليه الصلاة والسلام لعثمان في أن يتأخر عن غزوة بدر التي هي أول معركة عظمى يخوضها جيش الإيمان مع جيش الكفر والشرك الذي جاء من مكة وأمره أن يتأخر لتمريضها رضي الله عنها وضرب له بسهمه في الغنيمة وأجره عند الله تعالى يوم القيامة كمن حضر الغزوة، كل ذلك تعظيم لشأن رقية رضي الله عنها وأرضاها ولما لها من المكانة العالية عنده صلى الله عليه وسلم.

_ 1ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/37، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/294، سير أعلام النبلاء 2/252، البداية والنهاية 3/381، مجمع الزوائد 9/217، الإصابة 4/298. 2ـ البداية والنهاية 5/346-347، وانظر الطبقات لابن سعد 8/38.

3) أم كلثوم رضي الله عنها: هي البضعة النبوية الثالثة أم كلثوم بنت سيد ولد آدم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أمها خديجة بنت خويلد كان عتيبة بن أبي لهب قد تزوج بأم كلثوم قبل البعثة فلم يدخل عليها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أبوه بفراقها لما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته ففارقها ولم يكن دخل بها فلم تزل بمكة مع أبيها عليه الصلاة والسلام وأسلمت حين أسلمت أمها وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء وهاجرت إلى المدينة فلم تزل بها ولما توفيت أختها رقية زوجها النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن عفان وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في هذه السنة في جمادى الآخرة فلم تزل عنده إلى أن ماتت ولم تلد له شيئاً1. وقد وردت لها مناقب دلت على أنها ذات منزلة ومقام رفيع رضي الله عنها وأرضاها وهي كما يلي: 1- ما ذكره أبو عمر بن عبد البر حيث قال: "وكان عثمان رضي الله عنه إذ توفيت رقية قد عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوجها فسكت عثمان عنه لأنه قد كان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدل عثمان على من هو خير له منها وأدلها على من هو خير لها من عثمان" فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وزوج عثمان أم كلثوم" 2. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: شهدنا

_ 1ـ الطبقات لابن سعد 8/37-39، الذرية الطاهرة للدولابي ص/56، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/463-465، أسد الغابة 7/384، سير أعلام النبلاء 2/252-253، البداية والنهاية 3/346-347، مجمع الزوائد 9/216-217، الإصابة 4/466. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/464.

بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر قال: فرأيت عينيه تدمعان قال: فقال: "هل منكم رجل لم يقارف1 الليلة" فقال أبو طلحة: أنا قال: "فأنزل" قال فنزل في قبرها2. قال الحافظ: "قوله شهدنا بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد وأخرجه ابن سعد في الطبقات3 في ترجمة ابن كلثوم وكذا الدوالبي في الذرية الطاهرة4 وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك5. قال البخاري ما أدري ما هذا فإن رقية مات والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر ولم يشهدها قلت: وهم حماد في تسميتها فقط ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد في ترجمة أم كلثوم6 من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة7. 3- ما رواه ابن سعد في ترجمتها من أنها رضي الله عنها لما مات صلى على جنازتها النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى بإسناده إلى أسعد بن زرارة قال: صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها علي بن أبي طالب والفضل بن عباش وأسامة بن زيد8. فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان عليه الصلاة والسلام إمام المصلين على جنازتها وكفى بها منقبة وميزة شريفة

_ 1ـ أي: لم يجامع أهله "انظر النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/45. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/151 والإمام أحمد في المسند 3/126. 3ـ الطبقات الكبرى 8/38. 4ـ والذرية الطاهرة ص/60. 5ـ المستدرك 4/47. 6ـ الطبقات لابن سعد 8/38. 7ـ فتح الباري 3/158. 8ـ الطبقات لابن سعد 8/39.

لما في دعائه المبارك لها بالرحمة والمغفرة ورفع درجتها في الجنة رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة تسع للهجرة1.

_ 1ـ انظر الطبقات 8/38، البداية والنهاية 3/347، الإصابة 4/466.

4) فاطمة رضي الله عنها: هي فاطمة بنت إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد كانت تكنى بأم أبيها1، وقد اختلف العلماء في بناته عليه الصلاة والسلام في أيتهن أصغر قال أبو عمر بن عبد البر: "والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زينت الأولى ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم ثم الرابعة فاطمة الزهراء"2. ولدت رضي الله عنها وقريش تبني الكعبة قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم3، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولد له الحسن والحسين ومحسناً وأم كلثوم، وزينب، وقد تزوج الفاروق عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت علي من فاطمة في أيام خلافته وأكرمها إكراماً زائداً وأصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب4، ومناقب فاطمة رضي الله عنها كثيرة شهيرة ومنها ما يلي: 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها حباً شديداً ويسر لسرورها ويغضب لغضبها رضي الله عنها. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي5. 2- روى أيضاً بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال:

_ 1ـ انظر أسد الغابة 5/520، الإصابة 4/365. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362. 3ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/26. 4ـ انظر ترجمة فاطمة رضي الله عنها في: " الطبقات لابن سعد 8/19-30، حلية الأولياء 2/39-43، المستدرك 3/151-161، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362-369، أسد الغابة 5/519-524، سير أعلام النبلاء 2/118-134، البداية والنهاية 5/347، مجمع الزوائد 9/201-212، الإصابة 4/365-368، فتح الباري 3/105. 5ـ المستدرك 3/155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة شجنة1 مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها" 2. وقد غضب لها عليه الصلاة والسلام لما هم علي رضي الله عنه بخطبة ابنة أبي جهل وأعلن غضبه ذلك من على المنبر. 3- روى الشيخان عن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنته فأنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها3 ويؤذيني ما آذاها"4. 4- وبلفظ آخر عند مسلم قال: إن علياً بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: "إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها" قال: ثم ذكر صهراً له من بني عبدي شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: "حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً "5. 5- وروى الشيخان عن المسور بن مخرمة أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت

_ 1ـ شجنه: قال في النهاية 2/447: وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة" والمراد بها الرحم المشتبكة. 2ـ المستدرك 3/154 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 3ـ قال في النهاية في غريب الحديث 3/287: "يريبني ما يريبها أي: يسوؤني ما يسوؤها ويزعجني ما يزعجها". 4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/327، صحيح مسلم 4/1902. 5ـ صحيح مسلم 4/1903.485

النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحاً ابنة أبي جهل. قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: "أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وإن فاطمة بنت محمد مضغة1 مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً" قال: فترك علي الخطبة2. 6- روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني" 3. 7- روى أبو عيسى الترمذي بسنده إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها" 4. هذه الأحاديث كلها اشتملت على بيان فضل فاطمة رضي الله عنها وبيان منزلتها من النبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها عنده عليه الصلاة والسلام كما دلت هذه الأحاديث على "تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي وهذا بخلاف غيره، وقد أعلم عليه الصلاة والسلام بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله صلى الله عليه وسلم: "لست أحرم حلالاً" ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك من آذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة. والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة وقيل: ليس المراد به النهي بل معناه

_ 1ـ المضغة: قطعة اللحم. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/85، صحيح مسلم 4/1903-1904. 3ـ صحيح البخاري 2/302. 4ـ سنن الترمذي 5/360 ثم قال: هذا حديث حسن صحيح".

أعلم من فضل أنهما لا تجتمعان ويحتمل أن المراد تحريم جمعهما ويكون معنى لا أحرم حلالاً أي: لا أقول شيئاً يخالف حكم الله فإذا أحل شيئاً لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه لأن سكوتي تحليل له ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدو الله1 وصهره الذي أثنى عليه من بني عبد شمس هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب رضي الله عنها. قال الحافظ: "قوله: "حدثني فصدقني" لعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب وكذلك علي فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن علياً نسى ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحداً بما يعاب به ولعله إنما جهر بمعاتبته عليا مبالغة في رضى فاطمة عليها السلام، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، ولم يكن حيئذ تأخر من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها"2. 8- روى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي" 3. ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لفاطمة رضي الله عنها وهي أن تزويجها من علي كان بإيحاء من الله جل وعلا. 9- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رجله بيني وبين فاطمة رضي الله عنها فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا فقال: "يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين". قال علي: والله ما تركتها بعد، فقال له رجل كان في نفسه عليه شيء: ولا ليلة صفين قال علي: ولا ليلة صفين"4.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/3-4. 2ـ فتح الباري 7/86. 3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/204 وقال عقبه: رواه الطبراني ورجاله ثقات. 4ـ المستدرك 3/151-152 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لفاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما. 10- روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" 1. وأيضاً ما رواه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة خطوط وقال: "أتدرون ما هذا؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وأحسبه قال: "وامرأة فرعون" 2. 11- وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين" 3. 12- وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب مناقب فاطمة رضي الله عنها" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة "4. 13- روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران" 5. فهذه الأحاديث دلت على أن فاطمة رضي الله عنها ذات منزلة عظيمة وقدر رفيع في الدنيا والآخرة حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها سيدة نساء

_ 1ـ سنن الترمذي 5/367 ثم قال: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/158 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. 2ـ المستدرك 3/185، ص/160 وصححه ووافقه الذهبي. 3ـ المصدر السابق 3/156 وقال: "هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا ووافقه الذهبي. 4ـ صحيح البخاري 2/301. 5ـ المستدرك 3/154 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين، وسيد نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران. 14- روى الترمذي بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي 1 أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" 2. وفي هذا منقبة ظاهرة لعلي وفاطمة والحسن والحسين حيث جللهم بكسائه ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي.. إلخ" الحديث: "ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به وهم علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان من ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه"3. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن فاطمة رضي الله عنها من فضليات النساء اللاتي بلغن الذروة في الفضل لتحقيقهن الإيمان الكامل وعملهن الأعمال الصالحة التي ترضي الله ـ جل وعلا ـ فكن من أهل الدرجات العلى. 15- وقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:

_ 1ـ حامتي: قال في النهاية: "حامة الإنسان خاصته ومن يقرب منه وهو الحميم" 1/446. 2ـ سنن الترمذي 5/361 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب". 3ـ حقوق آل البيت ص/27-28.

كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها فقال: "مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديداً فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين: " وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتق الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك" قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت1. هذا الحديث اشتمل على مناقب رفيعة لفاطمة رضي الله عنها وهي مشابهتها في مشيها مشية أبيها عليه الصلاة والسلام وترحيبه بها، وإجلاسه لها عن يمينه أو عن شماله واختصاصها بالمسارة دون نسائه رضي الله عنهن ولما رأى حزنها ظهر عليها بما أسره إليها بشرها ببشارة بدلت حزنها فرحاً. وهي قوله لها: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" فزال حزنها وفرحت بهذه المنزلة العظيمة التي أكرمها الله بها من بين النساء. قال النووي رحمه الله تعالى: "قولها فأخبرني أني أول من يلحق به من أهله فضحكت" هذه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم بل معجزتان فأخبر ببقائها بعده وبأنها أول أهله لحاقاً به ووقع كذلك وضحكت سروراً بسرعة لحاقها وفيه

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/79-80، صحيح مسلم 4/1904-1905.

إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا"1. 17- روى الترمذي بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها..الحديث2. فقد وصفتها بصفات حميدة كلها مناقب تزيد من قدرها ورفعة مكانتها فقد بينت أنها تشبه النبي صلى الله عليه وسلم هيئة وطريقة وحسن حال وأشارت رضي الله عنها بالسمت إلى ما كان يظهر عليها من الخشوع والتواضع لله وبالهدى إلى ما كانت تتحلى به من السكينة والوقار وإلى ما كانت تسلكه من المنهج المرضي وبالدل إلى حسن خلقها ولطف حديثها رضي الله عنها3. 18- روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها4. وهذا الوصف منها أيضاً لسيدة نساء المؤمنين منقبة ظاهرة إذ من التزم الصدق قولاً وعملاً كان قائده إلى عمل البر وإذا عمل البر كان قائده إلى طريق الجنة. وكل ما تقدم ذكره من الأحاديث التي اشتملت على ذكر مناقب لفاطمة رضي الله عنها كلها دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها، كما دلت على بيان

_ 1ـ شرح النووي 16/5-6. 2ـ سنن الترمذي 5/361-362 ثم قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عائشة. 3ـ انظر تحفة الأحوذي 10/373. 4ـ المستدرك 3/160-161 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

درجتها العالية التي اختصت بها دون سائر نساء العالمين، وهي أنها سيدة نساء المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهي رضي الله عنها أفضل أخواتها على الإطلاق، ولا يعترض بقوله صلى الله عليه وسلم في حق زينب رضي الله عنها:"هي خير بناتي أصيبت1 في" فإن معنى هذه العبارة: "أنها من أفضل بناتي لأن الأخبار ثابتة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء هذه الأمة وكذلك أخبر أنها سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران"2 وقد تقدم. قال العلامة ابن القيم: "وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، وقيل إنها أفضل نساء العالمين"3. وقال الحافظ ابن حجر عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني": وفيه أنها أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما أخرجه الطحاوي وغيره من حديث عائشة في قصة مجيء زيد بن حارثة بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي أفضل بناتي أصيبت في" فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشاركها أحد من نساء هذه الأمة مطلقاً والله أعلم"4. ومما يرجح أفضليتها على أخواتها أنهن متن قبل النبي صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته عليه الصلاة والسلام وأما فاطمة رضي الله عنه فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم قبلها فكان في صحيفتها رضي الله عنها فكان مصابها فيه أعظم فصبرت واحتسبت رضي الله عنها. كما أوصاها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى

_ 1ـ تقدم تخريجه في مناقب زينب رضي الله عنها. 2ـ انظر المستدرك 4/44. 3ـ زاد المعاد 1/104. 4ـ فتح الباري 7/105-106.

بإسناده إلى فاطمة رضي الله عنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا عند عائشة فناجاني فبكيت.. وفيه أنه قال لها: "وإنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين بمثل ما رزئت، ولا تكوني دون امرأة صبراً" قالت: فبكيت، ثم قال: "أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول" فتوفي عامه ذلك"1. وهي رضي الله عنها أول من توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته باتفاق أهل العلم حتى من أزواجه2 حيث لم تلبس بعده إلا ستة أشهر كما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر"3. والذي أخلص إليه في هذا الفصل الذي اشتمل على فضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يثبتون لهم كل ما صح في فضلهم عموماً وخصوصاً ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ولا يبخسونهم منه شيئاً بل يرعون لهم حرمتهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوالونهم ويحبونهم لإسلامهم وسبقهم وحسن بلائهم في نصرة دين الله ـ عز وجل ـ. وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معتقد الفرقة الناجية في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في سياق عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي"4 ... ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد

_ 1ـ جامع البيان للطبري 3/264. 2ـ انظر فتح الباري 8/136. 3ـ صحيح مسلم 3/1380.

على سائر الطعام" 1. وقال الحافظ ابن كثير: "ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"2. والذي نخلص في هذا الباب أن أهل السنة والجماعة يؤمنون إيماناً صادقاً بفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين وأن الله ـ تعالى ـ اصطفاهم لنصرة خاتم أنبيائه وشرح صدورهم وحبب إليهم مؤازرته والقتال معه فسبقوا الناس إلى الإيمان به وتحملوا العذاب في مكة وصبروا عليه ولما أمرهم الله بالهجرة تركوا الأهل والمال والعشيرة والبلد وهاجروا حباً في الله ـ عز وجل ـ وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا دونه وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيله ـ عز وجل ـ حتى أظهر الله ـ تبارك وتعالى ـ دينه وصدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وأكرمهم الله ـ تعالى ـ فرضي عنهم وبشرهم بالجنة وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن لم يتولهم فليس له حظ في الإيمان ومن قال بكفرهم فلا شك في كفره أبغض الله من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم.

_ 1 ـ العقيدة الواسطية مع شرحها للشيخ محمد خليل هراس ص/146-148. والحديث تقدم تخريجه في "فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها". 2 ـ تفسير القرآن العظيم 6/199.

الجزء الثاني

الجزء الثاني الباب الثاني: أهل السنة والجماعة يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل الفصل الأول: خلافة الصديق رضي الله عنه المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه ... تمهيد: قبل أن أشرع في ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الراشدين في الإمامة أسبق ذلك بهذا التمهيد المتضمن لبيان معنى الإمامة في اللغة والاصطلاح وبيان حكم الإمامة عند أهل السنة والجماعة. أولاً: معناها في اللغة: قال الزجاج: "الإمام الذي يؤتم به ويفعل كفعله ويقصد ما قصده ومنه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1 أي: فاقصدوا"2. وجاء في الصحاح للجوهري: "والأمّ "بالفتح" القصد يقال: أمه وتأممه إذا قصده ... والإمام: خشبة البناء التي يسوى عليها البناء والإمام: الصقع من الأرض والطريق قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} 3 والإمام الذي يقتدى به"4. وجاء في لسان العرب: "والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين إلى أن قال: "والجمع أئمة ... وإمام كل شيء قيمه والمصلح له. والقرآن إمام المسلمين وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة والخليفة إمام الرعية وإمام الجند قائدهم ... وأممت القوم في الصلاة إمامة وائتم به أي: اقتدي به وإمام الغلام في المكتب ما يتعلم كل يوم، والإمام الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساق البناء، والحادي إمام الإبل وإن كان وراءها لأنه الهادي لها ويقال: فلان إمام القوم معناه هو المتقدم لهم ويكون الإمام رئيساً كقولك إمام المسلمين5.

_ 1ـ سورة النساء آية /43. 2ـ ذكره عنه ابن الجوزي في كتابه: "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" ص/126. 3ـ سورة الحجر آية/79. 4ـ الصحاح للجوهري 5/1864-1865. 5ـ لسان العرب 12/24، وانظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص/459، نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر "لابن الجوزي" ص/126، القاموس المحيط 4/78، تاج العروس 8/193.

فالإمامة في اللغة ذات معان متقاربة كما في هذه التعاريف اللغوية وكلها فيها التوضيح إلى أن المراد بالإمام عند العرب هو الذي يتبع ويقتدى به وهو القيم على مصالح الناس وشئونهم وكذلك كان الأئمة الأربعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بمصالح الأمة على أتم وجه وأكمله فيلزم من ولي من أمر المسلمين أن يقتدي بالخلفاء الراشدين في أعمالهم الطيبة وسيرتهم الحسنة نحو الأمة ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الالتزام الكامل والتمسك التام بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده حيث قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 1. ثانيا: تعريف الإمامة في الاصطلاح: لقد عرف العلماء الإمامة في الاصطلاح بتعريفات مختلفة من حيث اللفظ وعلى الرغم من اختلاف تعبيراتهم في تحديدها من حيث اللفظ إلا أنها تتحد في مدلولها من حيث المعنى ومن هذه التعريفات: 1- قال الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم2 "3. 2- وعرفها إمام الحرمين الجويني4 بقوله: "الإمامة رياسة تامة وزعامة

_ 1ـ المسند 4/126-127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16، سنن الدارمي 1/44-45 كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. 2ـ هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم من كبار المعتزلة "انظر ترجمته في" فرق وطبقات المعتزلة ص/65، سير أعلام النبلاء 9/402، طبقات المفسرين للداودي 1/274-275، لسان الميزان 3/427. 3ـ الأحكام السلطانية ص/5. 4ـ هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 3/167-170 تبين كذب المفتري ص/278-285، الأعلام للزركلي 4/306.

تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدنيا والدين"1. 3- وعرفها ابن خلدون بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"2. فهذه التعاريف فيها بيان حد الإمامة في الاصطلاح وهي مترادفة لفظاً متحدة من حيث المعنى بين فيها هؤلاء العلماء أن سياسة الإمام يجب أن تكون وفق الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعيداً عن الحكم بالهوى والشهوة في كل حال ولا بد أن يكون حكمه بالشرع في كل الأمور الدينية والدنيوية حتى يصدق عليه أنه نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالقيام بشرع الله الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة ولفظ الإمام، والخليفة، والأمير ألفاظ مترادفة وكلها جاءت في ألفاظ من الحديث النبوي الشريف مثل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش ولهم عليكم حق ولكم مثل ذلك" 3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" 5. فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يروون هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها عنهم التابعون كذلك دون أن يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام وأمير وقد سمى الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ولي الفاروق أرادوا أن يطلقوا

_ 1ـ الأحكام السلطانية ص/5، انظر غياث الأمم في التياث الظلم ص/15. 2ـ المقدمة ص/191، انظر العقائد النسفية ص/179، المواقف ص/395، التعريفات ص/35. 3ـ المسند 3/183. 4ـ المصدر السابق 4/127. 5ـ صحيح مسلم 3/1466 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

عليه: "خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من يأتي بعده فنظروا فإذا باللفظ يطول فاتفقوا على تسميته بأمير المؤمنين1 وكذلك سمى عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ثالثاً: حكم الإمامة: أجمع عامة المسلمين على وجوب نصب إمام للأمة يقيم لهم أحكام شرع الله ولم يخالف هذا الإجماع إلا النجدات من الخوارج والأصم والفوطي2 من المعتزلة. قال أبو محمد بن حزم: "اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالو: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة"3. فأهل السنة والجماعة مذهبهم أن نصب الإمام الأعظم واجب بنص الشرع الحنيف لتجتمع به كلمة المسلمين وتنفذ به أحكام الشريعة وهذا المذهب هو المذهب الحق المؤيد بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع فأما دلالة الكتاب على وجوبها فمن ذلك: 1- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

_ 1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/281. 2ـ هو هشام بن عمرو الفوطي شيباني من أهل البصرة وهو يعتبر من الطبقة السادسة من المعتزلة "انظر طبقات المعتزلة" ص/61، وانظر الفرق بين الفرق ص/159. 3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/87، وانظر قول النجدات في عدم وجوب نصب الإمام "مقالات الإسلاميين" 1/205.

خَلِيفَةً} 1 الآية. وجه دلالة الآية أن أهل العلم اعتبروها أصلاً في وجوب نصب الإمام ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع التنازع وينتصر لمظلومهم من ظالميهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام. قال القرطبي رحمه الله تعالى: "هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة2 ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها وأقاموا الحدود على من وجبت عليه أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك"3. 2- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 4. وفي هذه الآية أوجب الله تعالى على عباده المؤمنين طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم والمراد بأولي الأمر هم الأمراء والولاة. فقد أخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} : هم الأمراء5 وهو مروي عن ابن

_ 1ـ سورة البقرة آية/ 30. 2ـ لعلها وتنفذ بها أحكام الشريعة. 3ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264، وانظر أضواء البيان 1/49. 4ـ سورة النساء آية/ 59. 5ـ جامع البيان 5/147، شرح السنة للبغوي 10/50.

عباس وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل"1. وقد ذكر العلامة ابن جرير عدة أقوال في المراد بقوله: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ثم رجح قول من قال: "هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة"2. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء"3. فالآية دلت على أنه يجب على المسلمين أن ينصبوا لهم إماماً يرجعون إليه. 3- قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 4. وهذه الآية فيها إرشاد وتعليم من الباري ـ جل وعلا ـ لعباده المؤمنين أنه لا بد من خليفة يقوم بالحكم بما أنزل الله بين عباده لتصلح به البلاد والعباد. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذه وصية من الله ـ عز وجل ـ لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده ـ تبارك وتعالى ـ ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله وقد توعد ـ تبارك وتعالى ـ من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد"5. والآيات الدالة على وجوب نصب الإمام كثيرة جداً فما من آية أنزلها الله على رسوله بتشريع حكم من الأحكام والتي لها علاقة بموضوع الإمامة وشئونها إنما هي تأكيد جازم على إيجاد الإمامة الشرعية في المجتمع المسلم لأن وجود ولي الأمر من

_ 1ـ زاد المسير في علم التفسير 2/116. 2ـ جامع البيان 5/150. 3ـ تفسير القرآن العظيم 2/326. 4ـ سورة ص آية/26. 5ـ تفسير القرآن العظيم 5/119.

الضروريات التي حث الإسلام على وجودها في كل الأحيان إذ هناك أمور يتطلب تنفيذها وجود الإمامة العظمى. وأما دلالة السنة على وجوب نصب الإمام الأعظم فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها: 1- روى الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعيش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 1. فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه سيكون من بعده خلفاء راشدون يخلفونه في أمته ويسيرون على نهجه في سياسة الأمة بالكتاب والسنة وحث الناس على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وفي هذا بيان أنه لا بد للناس من إمام يرجع إليه في إقامة الحدود وقطع التنازع والاختلاف ولذا تواتر أن الصفوة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين بايعوا الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم، ولما أحس الصديق بدنوا أجله استخلف الفاروق رضي الله عنه ولما طعن الفاروق رضي الله عنه أبو لؤلؤة المجوسي جعل الأمر شورى في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يخلف الفاروق عثمان بن عفان رضي الله عنه ولما استشهد عثمان رضي الله عنه بايعوا أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهذه طريقتهم في الخلافة، فنجد أنهم حرصوا كل الحرص في تنصيب الإمام ولم يتهاونوا في ذلك وهذا مما يجب على المسلمين أن يقتدوا بهم فيه بأمر من أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.

_ 1ـ المسند 4/127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16 =

2- وروى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده: إلى نافع مولى ابن عمر قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع1 حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له2 ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهية" 3. فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن البيعة فريضة في عنق كل مسلم للإمام الحق الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين وما دامت البيعة واجبة على كل مسلم فإن هذا الواجب لا يتأتى أداؤه إلا بنصب الإمام الذي يرجع إليه في تنفيذ أحكام الشريعة وحسم التنازع والاختلاف الذي يحصل بين الناس فالحديث دلالته واضحة على وجوب نصب الإمام بالشرع لا بالعقل. 3- وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بو إسرائيل تسوسهم 4 الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فت كثر" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم

_ = سنن الدارمي 1/44-45، واللفظ لأحمد رحمه الله. 1ـ هو عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي القرشي كان ممن خلع يزيد وخرج عليه وكان يوم الحرة قائد قريش، كما كان عبد الله بن حنظلة قائد الأنصار وإذ خرج أهل المدينة لقتال مسلم بن عقبة المري الذي بعثه يزيد لقتال أهل المدينة ولما ظفر أهل الشام بأهل المدينة لحق عبد الله بن مطيع بابن الزبير وبقي معه حتى حصر الحجاج ابن الزبير انظر ترجمته في الإصابة 3/65، تهذيب التهذيب 6/36. 2ـ لا حجة له: أي: لا حجة له في فعله ولا عدالة ينفعه. 3ـ صحيح مسلم 3/1478. 4ـ تسوسهم الأنبياء: أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه "شرح النووي على صحيح مسلم" 12/231، وانظر فتح الباري 6/497.

فإن الله سائلهم عما استرعاهم" 1 هذا الحديث فيه إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم2. 4- روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: "ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم.." الحديث3. وعند أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" 4. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرشد أمته أنه إذا خرج ثلاثة في سفر فإن عليهم أن يختاروا أحدهم أميراً عليهم مع أن السفر يكون في مسافة محدودة ومدة وجيزة فما الشأن بالإمامة العظمى فإن وجوبها متحتم على الأمة من باب أولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذين الحديثين: "فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر" 5. وأما دلالة الإجماع على وجوب نصب الإمام: فقد أجمعت الأمة على أنه لا بد من نصب الإمام الأعظم للأمة ليرجع إليه

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/495، صحيح مسلم 3/1471-1472. 2ـ فتح الباري 6/497. 3ـ المسند 2/176-177، وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 8/106. 4ـ سنن أبي داود 2/34. 5ـ الحسبة في الإسلام ص/5 وانظر السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص/161 والحديث في المسند 3/22 من حديث أبي سعيد.

في شئون العباد وقد نقل الإجماع بعض أهل العلم. فقد روى الماوردي: "وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم"1 وقال البغوي رحمه الله: "واتفقت الأمة من أهل السنة والجماعة على أن الاستخلاف سنة وطاعة الخليفة واجبة إلا الخوارج المارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة"2. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ولم يقل له أحد: هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين"3. وقال النووي رحمه الله: "وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"4 وقال عبد الرحمن أن خلدون: "نصب الإمام واجب وقد عرف وجوبه بالشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر

_ 1ـ الأحكام السلطانية ص/5. 2ـ شرح السنة للبغوي 10/84. 3ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/264-265، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/49-50. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205

إليه في أمورهم وكذلك في كل عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام"1. ومما تقدم تبين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه رضي الله عنهم من أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم رضي الله عنهم في التعيين لا تأثير له على الإجماع المذكور.

_ 1ـ المقدمة ص/191، وانظر الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص/7-8.

المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون"1. قال أبو عمر: "قد روي عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته"2. وروى بإسناده إلى أبي نوبة قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس ومخلد بن الحسين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" وروى أيضاً بإسناده إلى الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: أقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم"3 وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: قال الشافعي في مسألة الحجة في تثبيت خبر الواحد: ولم تزل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ

_ 1ـ أي: متغلبون. 2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/226-227. 3ـ المصدر السابق 2/227.

أمره ـ إلى أن قال ـ: وهكذا كانت كتب خلفائة من بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون من كون الخليفة واحداً والقاضي واحداً والأمير واحداً والإمام واحداً فاستخلفوا أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم أمر عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبد الرحمن عثمان بن عفان"1 وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل ـ فقلت ـ: يا أبا عبد الله من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء ـ فقلت ـ يا أبا عبد الله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء المهديون الراشدون ورد الباب في وجهي قال أبو علي: ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة وسألت أحمد وذكرت له القصة فقال: لا نبالي من خالفنا، نقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعاً هذا ديني الذي أدين الله به وأرجو أن يقبضني الله عليه. وروى أيضاً: بإسناده إلى سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد بن حنبل: من تقدم؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة"2. وروى أبو الفرج بن الجوزي إلى أبي بكر المروذي قال: قال أحمد بن حنبل: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة"3. وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لم تزين

_ 1ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/435 وانظر الرسالة ص/419-420. 2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/225-226. 3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160.

علياً بل علي زينها قال السياري ـ أحد رجال السند ـ: فحدثت بهذا بعض الشيعة فقال لي: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض"1. فهذه طائفة من أقوال بعض كبار أئمة أهل السنة وكلها تبين أنهم يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل وأن أحق الناس بالإمامة بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق وعلى هذا الاعتقاد مشى من جاء بعدهم من أهل السنة ودونوا هذا الاعتقاد في كتبهم ودعوا الناس إلى اعتقاده فقد قال الطحاوي: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي رضي الله عنه"2. وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى في ذكر سياقه لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "ثم الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم ... وأحقهم بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ... ثم من بعده على هذا الترتيب والصفة أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق ثم من بعدهما على هذا الترتيب والنعت عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أبو عبد الله وأبو عمرو ذو النورين رضي الله عنه ثم علي هذا النعت والصفة من بعدهم أبو الحسن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ... فبحبهم وبمعرفة فضلهم قام الدين وتمت السنة وعدلت الحجة"3. وقال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للأدلة على أن الصديق هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم: "فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين"4.

_ 1ـ المصدر السابق ص/162-163. 2ـ العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي ص/533-545. 3ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/257-261. 4ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67.

وقال ابن أبي زيد القيرواني: "وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين"1. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم: أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدم خلق الله أجمعين من الأنصار والمهاجرين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... "ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لاستخلافه إياه ... وبعده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ... وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه"2. وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة أهل الأثر في ترتيب الخلافة: "ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله ـ سبحانه ـ بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه، ثم خلافة علي رضي الله عنه ببيعة الصحابة إياه عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنه أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدون الذين نصر الله بهم الدين وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام ورفع في أيامهم للحق الأعلام ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام"3. وقال أبو عمر ابن عبد البر: "الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1ـ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/23. 2ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/64-66. 3ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128. 4ـ جامع بيان العلم وفضله 2/224.

وقال الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله تعالى مبيناً أن الصديق رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم: "وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنوجذ" 1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في مسألة تقديم عثمان على علي في الأفضلية، ثم بين أن أمر أهل السنة استقر في هذه المسألة على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما فقال: "وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله"2. وقال في موضع آخر: "اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي"3. وقال الصديق حسن خان: "أحقهم بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلوات على جميع أصحابه وإجماع الصحابة على تقديمه ومتابعتة ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"4.

_ 1ـ لمعة الاعتقاد ص/27-28 والحديث رواه أحمد في مسنده 4/126 وابن ماجه في سننه 1/15-16. 2ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/146. 3ـ الوصية الكبرى ص/33. 4ـ قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ص/99.

وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي1 في صدد ذكره لترجمة الصديق رضي الله عنه: "ثم استخلف أفضل الصحابة وأولاهم بالخلافة معدن الوقار وشيخ الافتخار صحاب المصطفى بالغار سيد المهاجرين والأنصار الصديق أبو بكر التيمي ... قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس أيام مرضه وبذلك احتج عمر رضي الله عنه على الأنصار يوم السقيفة فقال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، وأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وبايعوه"2. فهذه طائفة من أقوال أئمة أعلام من أهل السنة والجماعة سقناها في هذا المبحث كلها توضح وتبين أن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون بأن أحق الناس بالخلافة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وهذا ما يجب على المسلم أن يعتقده ويؤمن به ويموت عليه.

_ 1ـ هو عمر بن علي بن الحسين أبو الخطاب الجعدي: مؤرخ يماني، من القضاة ولد بقرية أنامر "باليمن" سنة سبع وأربعين وخمسمائة وتوفي بعد ست وثمانين وخمسمائة انظر ترجمته في الأعلام للزركلي" 5/215-216، معجم المؤلفين 7/299-300. 2ـ طبقات فقهاء اليمن ص/34-35.

المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة

المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يحدد الكيفية التي يختار بها الإمام الذي يتولى أمر المسلمين ومع هذا لم يغفل أهل العلم هذه المسألة بل ذكروا طرقاً يتم بها اختيار إمام للمسلمين وبعض هذه الطرق استنبطوها من تولية الخلفاء الراشدين ولا شك في مشروعية طريقة تولي الخلفاء الراشدين لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حث المسلمين عامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وتلك الطرق التي يختار الإمام بها ذكرها أهل العلم ودونوها في كتبهم. فقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "بعد ذكره لقول عمر رضي الله عنه "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني" إلى آخره حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الوفاة وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"1. وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "والإمامة تنال بالنص كما تقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كما فعله عمر، أو باجتماع

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205، وانظر تحفة الأحوذي 6/479-480.

أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم، أو يقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق، والاختلاف وقد نص عليها الشافعي"1. وقد بين هذان الإمامان النووي وابن كثير الطرق التي تنال بها الإمامة وهي إما طريقة الاختيار، أو العهد من الإمام السابق إلى من يراه من المسلمين لائقاً بهذا المنصب من بعده، أو القهر والغلبة. وأما الكيفية أو الطريقة التي تمت بها مبايعة الصديق رضي الله عنه فإنه لما قبض الرب ـ جل وعلا ـ نبيه صلى الله عليه وسلم ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة2 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد ابن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" 3 فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحق طائعين، وبايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وانقطع الحوار في مسألة الخلافة باجتماعهم على أبي بكر رضي الله عنه وقد بين عمر رضي الله عنه كيفية بيعة أبي بكر رضي الله عنه في حديث طويل رواه البخاري وفيه أنه قال: "قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 1/125. 2ـ بنو ساعدة: قوم من الأنصار من بني كعب بن الخزرج بن ساعدة ومنهم سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعديان رضي الله عنهما وسقيفتهم في المدينة بمنزلة دار الندوة التي كانت لقريش في مكة وكانت السقيفة مكاناً يجتمعون فيه حين يجد ما يدعو إلى تداول الرأي "انظر معجم البلدان" 3/228-229. 3ـ مسند أحمد 3/183.

أن الأنصار خالفوا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان1 فذكروا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك2 فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم3 فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم ـ معشر المهاجرين ـ رهط وقد دفت دافة4 من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا5 من أصلنا وأن يخضونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ـ وكنت أداري منه بعض الحد6 فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم

_ 1ـ هما: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي "انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/660، المصنف لابن أبي شيبة 15/565 2ـ الوعك: الحمى بنافض ولذلك زمل "فتح الباري" 12/151 وانظر النهاية في غريب الحديث 5/207. 3ـ كان خطيب الأنصار ثابت بن قيس فالذي يظهر أنه هو "فتح الباري" 12/151. 4ـ دافة: أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة ... يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تيتأثروا علينا "فتح الباري" 12/151-152، وانظر النهاية في غريب الحديث 2/124. 5ـ يختزلونا: أي: يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا "النهاية في غريب الحديث" 2/29، فتح الباري 12/150. 6ـ الحد والحدة: سواء من الغضب ... وبعضهم يرويه بالجيم من الجد ضد الهزل أهـ. النهاية في غريب الحديث 1/353.

من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها1 المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش2 فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت3 من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته4 وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا5 على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضي وإما نخالفهم فيكون فساداً فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا"6. ولقد اعترف سعد بن عبادة رضي الله عنه بصحة ما قاله الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشاً هم ولاة هذا الأمر وسلم طائعاً منقاداً لما قاله

_ 1ـ الجذيل: تصغير جذل ـ وهو في الأصل عود ينصب للإبل الجربى لتحتك به، والعذيق: تصغير العذق ـ وهو النخلة يحملها، والمرجب: اسم مفعول من قولهم: "رجب النخلة ترجيباً" إذا بنى حولها دكاناً تعتمد عليه وذلك إنما يضع إذا كثر ثمرها حتى خيف أن تسقط منه ولم يرد بالتصغير في الموضعين إلا المدح، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 1/251، 2/197، فتح الباري 7/31. 2ـ قائل هذا هو: الحباب بن المنذر "فتح الباري" 12/153. 3ـ الفرق: بالتحريك الخوف والفزع يقال: فرق يفرق فرقاً "النهاية في غريب الحديث" 3/438. 4ـ وفي رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال: "ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده ثم ضربت على يده وتابع الناس "ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/278، وقد سمى ابن سعد هذا الرجل بأنه: بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الطبقات الكبرى 3/182 وانظر: البداية والنهاية 5/278. 5ـ ونزونا على سعد أي: وقعوا عليه ووطئوه "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/44. 6ـ صحيح البخاري 4/179-180.

المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تذكير الصديق إياه بذلك. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً مات محمد ورب الكعبة ـ وفيه ـ فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم من شأنهم ـ إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء1. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا الحديث: "فهذا مرسل حسن ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجميعن"2. والبيعة التي حصلت للصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة تعتبر بيعة أولى من كبار وفضلاء الصحابة من مهاجرين وأنصار وقد بويع رضي الله عنه بيعة عامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة صبيحة يوم الثلاثاء وهو اليوم الثاني من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه عليه الصلاة والسلام. وروى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر

_ 1ـ المسند 1/5. 2ـ منهاج السنة 1/143.

صامت لا يتكلم قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم ـ فإن يك محمد قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين فإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا بايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكان بيعة العامة على المنبر قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر فلم يزل حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة"1. وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والأنصار قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب با خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه"2. قال ابن كثير: "فيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي بن أبي طالب إما

_ 1ـ صحيح البخاري 4/248. 2ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/280 ثم قال عقبه: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان المنذري وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/178.

في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه ... وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة"1. وأما ما جاء في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها من أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته2 فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك3 فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل

_ 1ـ البداية والنهاية 5/281. 2ـ قال النووي: "وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء وقوله في هذا الحديث "فلم تكلمه" يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط انهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته"أهـ. شرح النووي 12/73-74. 3ـ معنى قول عمر رضي الله عنه: "والله لا تدخل عليهم وحدك" خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك"أهـ. شرح النووي 12/78.

عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته1 فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر المعروف"2. فتأخر علي رضي الله عنه عن المدة المذكورة في الحديث عن بيعة الصديق رضي الله عنه أجاب عنه بعض أهل العلم بما يقنع الذين يسمعون، ويشفي من سلمت قلوبهم من الأحقاد والأضغان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قال الإمام النووي: "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من

_ 1ـ ذكر البيهقي في كتابه "الاعتقاد" ص/179 أن الصديق رضي الله عنه قال في اعتذاره إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: "أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة وتفاقم الحدثان وإن كنت لها لكارهاً لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إلي أن يشهدها إلا من هو بمثل منزلتك"أهـ. 2ـ صحيح البخاري 3/55-56، صحيح مسلم 3/2380.

العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره في أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم"1. قال الحافظ ابن كثير معللاً عدم اسجابة الصديق رضي الله عنه لما طلبته فاطمة رضي الله عنها من الميراث حيث ظنت أن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين الورثة قال: "فلم يجيبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها ـ وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة ـ عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى ماتت واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر

_ 1ـ شرح النووي 12/77-78.

رضي الله عنه ... مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن ابراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصاً يوماً ولا ليلة سألتها في سر ولا علانية فقبل مقالته وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي "إسناد جيد ولله الحمد والمنة ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1. فبيعة علي رضي الله عنه للصديق بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة". كما تقدم، ومن هذا يعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حصل لهم بعض العتب على بعضهم فإنهم كانوا سريعي الرجوع عند مراجعة الحق وظهوره ولم يجعلوا للغل في قلوبهم سكناً بل كانت قلوبهم على قلب رجل واحد وحتى أم الحسنين رضي الله عنها رجعت عن عتبها على الصديق وعدلت عن مطالبته فيما أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال فدك بعد أن أبان لها الحكم فيه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم2 وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسايداتها وعلمها ودينها رضي الله عنها3 ولم تطب نفس الإمام الأكبر والصديق الأعظم أبو بكر

_ 1ـ البداية والنهاية 5/281. 2ـ المسند 1/4، سنن أبي داود 2/130، البداية والنهاية 5/352. 3ـ البداية والنهاية 5/325.

رضي الله عنه أن تبقى سيدة نساء العالمين عاتبه عليه بل ترضاها وتلاينها قبل موتها فرضيت ـ رضي الله عنها ـ على رغم أنف كل رافضي على وجه الأرض فقد روى الحافظ أبو بكر بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ومرضات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت1. ففي هذا الأثر صفعة قوية للرافضة الذين فتحوا على أنفسهم شراً عريضاً وجهلاً طويلاً وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم بسبب ما ذكر من هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة يتمسكون بالمتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين2. ثم أن الصديق رضي الله عنه لم يقبل الإمامة حرصاً عليها ولا رغبة فيها وإنما قبلها تخوفاً من وقوع فتنة أكبر من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه3، ولما بويع رضي الله عنه البيعة الثانية التي هي بيعة عامة الناس في مسجد رسول الله

_ 1ـ أورده الحافظ ابن كثير "البداية والنهاية 5/325 ثم قال عقبه: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/27، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/121 وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/139، وقال عقبه وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح. 2ـ انظر البداية والنهاية 5/322. 3ـ انظر المصدر السابق 5/279.

صلى الله عليه وسلم خطب الناس خطبة عامة حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: "أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1. وقوله رضي الله عنه: "قد وليت عليكم ولست بخيركم" من باب الهضم والتواضع إذ أنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم2. ففي هذه الروايات المتقدمة بيان كيفية مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد انعقدت له الخلافة بعقد خيار هذه الأمة المحمدية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة ففي كل بيعة لا بد من سابق"3.

_ 1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/661، والطبقات لابن سعد 3/182-183، البداية والنهاية 5/279-280 وقال: "هذا إسناد صحيح". 2ـ انظر البداية والنهاية 5/280. 3ـ منهاج السنة 1/142.

المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أولاً: الآيات القرآنية: لقد وردت آيات في الكتاب العزبز فيها الإشارة إلى أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحق الناس من هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي: 1/ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 ووجه الدلالة أن أبا بكر رضي الله عنه داخل فيمن أمر الله ـ جل وعلا ـ عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 2 وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين3 فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر رضي الله عنه ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله من هذه الأمة بخلافة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن عمر الرازي: " قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ

_ 1ـ سورة الفاتحة آية/6-7. 2ـ سورة النساء آية/69. 3ـ انظر صحيح البخاري 2/293.

الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقيين ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه"1. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"2. 2/ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر

_ 1ـ التفسير الكبير للرازي 1/260. 2ـ أضواء البيان 1/36. 3ـ سورة المائدة آية/54.

الصديق رضي الله عنه وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه "كان في علم الله سبحانه وتعالى ـ ما يكون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتداد قوم فوعد سبحانه ووعده صدق ـ أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه في ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق رضي الله عنه"1. روى ابن جرير الطبري بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه"2 وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى الحسن البصري رحمه الله أنه قال في قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هم الذين قاتلوا مع أبي بكر أهل الردة من العرب حتى رجعوا إلى الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وكذلك قال عكرمة وقتادة والضحاك، وروينا عن عبد الله بن الأهتم أنه قال لعمر بن عبد العزيز: إن أبا بكر قام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا إلى سنته ومضى على سبيله فارتدت العرب، أو من ارتد منهم فعرضوا أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة فأبى أن يقبل منهم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلاً في حياته فانتزع السيوف من أغمادها وأوقد النيران في شعلها وركب بأهل حق الله أكتاف أهل الباطل حتى قررهم بالذي نفروا منه وأدخلهم من الباب الذي خرجوا

_ 1ـ الاعتقاد للبيهقي ص/173-174. 2ـ جامع البيان 6/285.

منه حتى قبضه الله"1. فدلت الآية السابقة على خلافة الصديق حيث حصل في خلافته ما نطقت به الآية من ارتداد الكثير من العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه هو والصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى رجعوا إلى الإسلام كما أخبر الله تعالى في الآية وهذا من الكائنات التي أخبر بها الرب ـ جل وعلا ـ قبل وقوعها. 3/ قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 2 ففي هذه الآية الكريمة جعل الله أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع حيث خاطبهم بأنهم إن لم يعينوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالنفير معه للمقاتلة في سبيل الله فقد نصره بصاحبه أبي بكر رضي الله عنه وأيده بجنود من الملائكة ثم بين ـ تعالى ـ أنه ثاني اثنين ـ ثالثهما رب العالمين وهذه الميزة الشريفة والمنزلة العظيمة اعتبرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاته العالية التي جعلته أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم3 لأنه لا أفضل في الأمة المحمدية من أبي بكر الذي هو ثاني اثنين قال عليه الصلاة والسلام في شأنهما: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 4. قال أبو عبد الله القرطبي: "قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب

_ 1ـ الاعتقاد ص/174. 2ـ سورة التوية آية/40. 3ـ انظر صحيح البخاري 4/248, المصنف لابن أبي شيبة 15/570. 4ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854.

كلها ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة وجواثاً1 فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين"2. 4/ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3. الآية "ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بلإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما"4. 5/ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 5

_ 1ـ جواثاً: قرية بالبحرين معروفة "انظر معجم البلدان" 2/174، لسان العرب 2/126. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/147-148. 3ـ سورة التوبة آية/100. 4ـ انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 16/168-169. 5ـ سورة النور آية/55.

"هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق"1. قال الحافظ ابن كثير: "وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية"2. 6/ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وقد دل الله على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 4 وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} ثم قال: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} ـ يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم ـ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 5 والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله ـ عز وجل ـ له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} وقال في سورة الفتح:

_ 1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/121. 2ـ المصدر السابق. 3ـ سورة الفتح آية/16. 4ـ سورة التوبة آية/83. 5ـ سورة الفتح آية/15-16.

{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} "فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم"1. وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. وقال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم2 فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين رضي الله عنه"3. 7/ قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4. وجه دلالة هذه الآية على خلافته رضي الله عنه أن الله ـ جل وعلا ـ سماهم "صادقين" ومن شهد له الرب ـ جل وعلا ـ بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق رضي الله عنه "خليفة رسول الله"5 صلى الله عليه وسلم ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته رضي الله عنه.

_ 1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67، وانظر مقالات الإسلاميين 2/144، الاعتقاد للبيهقي ص/172-173. 2ـ انظر جامع البيان للطبري 26/82-84، الاعتقاد للبيهقي ص/173، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/340. 3ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67. 4ـ سورة الحشر آية/8. 5ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/135.

ثانياً: وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح، أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن جبير من مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" 1. اشتمل هذا الحديث على إشارة واضحة في أن الذي يخلفه على الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو محمد بن حزم: "وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر"2. وقال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس"3. 2- وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"4. قال النووي: "هذا دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من

_ 1ـ صحيح البخاري 2/289، صحيح مسلم 4/1856-1857. 2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108. 3ـ فتح الباري 7/24. 4ـ صحيح مسلم 4/1856.

النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أولا ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا أولا ولم يكن هناك نص ثم اتفقوا على أبي بكر واستقر الأمر وأم ما تدعيه الشعية من النص على علي والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن علي وأول من كذبهم علي رضي الله عنه بقوله: ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة الحديث1 ولو كان عنده نص لذكره ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ولا أن احداً ذكره له والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم ... للمرأة حين قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر " فليس فيه نص على خلافته وأمر بها، بل هو إخبار بالغيب الذي أعلمه الله تعالى به والله أعلم"2. 3- وروى الإمام أحمد وغيره عن حذيفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار إلى أبي بكر وعمر "وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه" 3. فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي" أي: "بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر. وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة"4. 4- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع دلوين وفي نزعه

_ 1ـ انظر هذا الحديث في صحيح مسلم 3/1567. 2ـ شرح النووي 15/154-155. 3ـ المسند 5/385 ـ وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/233-236. 4ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/147.

ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر" 1. هذا الحديث فيه إشارة ظاهرة إلى خلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته"2. 5- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3. 6- وعند الإمام أحمد عنها رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتني بكتف 4 أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه" فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: "أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر" 5. دل هذا الحديث دلالة ظاهرة على فضل الصديق رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره رضي الله عنه وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل

_ 1ـ صحح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1861-1862 واللفظ له. 2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/171. 3ـ صحيح البخاري 2/247-248، صحيح مسلم 4/1857 واللفظ له. 4ـ الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس "النهاية" 4/150. 5ـ المسند 6/47.

ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر هذا الحديث: "فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده"1. 7- وروى البخاري من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر" 2. وفي لفظ آخر للشيخين: "لا يبقين في المسجد خوخة3 إلا سدت إلا خوخة أبي بكر" 4 فأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب جميعها إلا باب أبي بكر فيه إشارة قوية إلى أنه أول من يلي أمر الأمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ ابن حجر: "قوله إلا باب أبي بكر" هو استثناء مفرغ والمعنى لا تبقوا باباً غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها5 كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها وإلي هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: "في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حسم بقوله سدوا عني

_ 1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108. 2ـ صحيح البخاري 2/288-289. 3ـ الخوخة: الباب الصغير بين البيتين أو الدارين "شرح النووي" 15/151، النهاية لابن الأثير 2/86. 4ـ صحيح البخاري 2/331. 5ـ الصحيح في تأويل الحديث أن سد الخوخات كان حسياً وليس معنوياً ولذلك بادروا إلى سد الخوخات بالماء والطين والله أعلم.

كل خوخة في المسجد أطماع الناس كلهم على أن يكونوا خلفاء بعده"1. 8- وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعادت فقال: "مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف" 2 فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم3. 9- وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت حفصة لعائشة: "ما كنت لأصيب منك خيراً"4. 10- وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" 5 ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء6 فأغمي عليه ثم

_ 1ـ فتح الباري 7/14. 2ـ قوله: فإنكن صواحب يوسف: أي في الظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكن في طلب ما تردنه وتملن إليه أهـ. شرح النووي 4/140. 3ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/316. 4ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/313. 5ـ المخضب: بالكسر شبه المركن وهي إجانة تغسل فيها الثياب "النهاية في غريب الحديث 2/39، شرح النووي 4/136. 6ـ ينوء: أي يقوم وينهض "شرح النووي" 4/136.

أفاق فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس" فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر، وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صل بالناس قال: فقال عمر: أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي"1. هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: "فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يعدل إلى غيره"2.

_ 1ـ صحيح مسلم 1/311-312. 2ـ شرح النووي 4/137.

11- وروى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك"1. 12- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكريتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات"2 فهذه الأحاديث التي فيها تقديم الصديق رضي الله عنه في الصلاة على اختلاف رواياتها واضحة الدلالة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة على الإطلاق وأحقهم بالخلافة وأولاهم بالإمامة وقد فهم هذه الدلالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 13- فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر"3.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/315. 2ـ صحيح البخاري 2/124-125. 3ـ المستدرك 3/67.

14- وروى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر"1. وكما فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقديم الصديق في الصلاة أن ذلك إشارة إلى أنه أحق الناس بالإمامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كذلك فهم هذا الفهم من جاء بعدهم من أهل العلم، فقد قال أبو بكر المروذي2: "قيل لأبي عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم" فلما مرض قال: "قدموا أبا بكر يصلي بالناس" وقد كان في القوم من هو أقرؤ من أبي بكر فقال أبو عبد الله: إنما أراد الخلافة3. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً" قال ابن كثير ـ وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه4. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بعد أن ساق الأحاديث التي فيها تقديم أبي بكر الصديق في الصلاة: "فهذه الأخبار وما في معناها تدل على أن النبي

_ 1ـ الطبقات 3/183. 2ـ هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي كان رحمه الله مقدماً في أصحاب أحمد لورعه وفضله وكان أحمد يأنس به وينبسط إليه وهو الذي تولى إغماض أحمد لما مات وغسله وروى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هجرية "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة" 1/56-63. 3ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ورقة 43 وهو مخطوط يوجد في مكتبة مخطوطات الجامعة الإسلامية، وانظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160. 4ـ البداية والنهاية 5/265.

صلى الله عليه وسلم رأى أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر الصديق فنبه أمته بما ذكر من فضيلته وسابقته وحسن أثره، ثم بما أمرهم به من الصلاة خلفه، ثم الاقتداء به وبعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما على ذلك وإنما لم ينص عليه نصاً لا يحتمل غيره والله أعلم لأنه علم بإعلام الله إياه أن المسلمين يجتمعون عليه وأن خلافته تنعقد بإجماعهم على بيعته"أ. هـ1. ولا يفوتنا أن نذكر في ختام هذا المبحث أن أهل السنة لهم قولان في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي. القول الأول: منهم من قال: إن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث2 وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل3 رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وبأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر وقد تقدمت هذه الأحاديث قريباً. القول الثاني: ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث4 وبه قال أبو محمد بن حزم الظاهري5 واستدل

_ 1ـ الاعتقاد ص/172. 2ـ انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/107، منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص/533. 3ـ انظر المعتقد في أصول الدين لأبي يعلى الفراء ص/226، منهاج السنة 1/134. 4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية ص/533. 5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107.

هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" وبقوله لعائشة رضي الله عنها: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وحديث رؤياه صلى الله عليه وسلم:"أنه على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع الدلو من يده ليروحه" وكل هذه الأحاديث تقدم تخريجها قريباً في هذا المبحث. والقول الذي يطمئن إليه القلب وترتاح له النفس في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أن يقال: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر رضي الله عنه وإنما دلهم عليها لإعلام الله ـ سبحانه ـ له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية رضي الله عنه وأرضاه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة الصديق هل ثبتت بالنص الجلي، أو الخفي: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، رواه البخاري ومسلم.." إلى أن قال ـ "فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على

رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص"1. فهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة لأن النصوص متفقة على إثبات فضله الذي لا يلحقه فيه أحد، وإرشاد الأمة إلى أنه أحق الناس بنيابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيجتمعون على خلافة أبي بكر لسابقته إلى الإسلام وفضله العظيم الذي لا يشاركه فيه أحد فخلافته رضي الله عنه ورد في القرآن والسنة التنبيه والإشارة إليها والله أعلم.

_ 1ـ منهاج السنة 1/139-141 وانظر مجموع الفتاوى 35/47-49.

المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه

المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه ... المبحث الرابع: بيان انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه: لقد أجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لفضله وسابقته ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن ـ الرب جل وعلا ـ ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض منهم أحد في تقديمه وما يزعمه الشيعة من أن علياً تخلف عن بيعته هو والزبير قد قدمنا قريباً ما يدل على بطلان هذا الزعم من ثبوت بيعتهما في البيعة العامة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من بيعة السقيفة ومن زعم أن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا ظاهراً وخالفا باطناً فقد قال فيهما أقبح القول فهما رضي الله عنهما أجل قدراً وأكبر محلاً من هذا، وقد نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أولى بالخلافة من كل أحد جماعة من أهل العلم المعتبرين. فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ أنه قال: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا به من بعده رضي الله عنهم1.

_ 1ـ تاريخ بغداد 10/130-131.

وقال أبو الحسن الأشعري: "أثنى الله ـ عز وجل ـ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية1 قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك"2 وقال أيضاً: بعد أن ذكر آيات من القرآن الكريم استدل بها على خلافة أبي بكر: "ومما يدل على إمامة الصديق رضي الله عنه أن المسلمين جميعاً تابعوه وانقادوا لإمامته ... ثم رأينا علياً والعباس قد بايعاه وأجمعا على إمامته فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع المسلمين وهذا يسقط حجية الإجماع لأن الله ـ عز وجل ـ لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس وإنما تعبدنا بظاهرهم وإذا كان ذلك كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق"3. وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: "وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا ترضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم

_ 1ـ سورة الفتح آية/18. 2ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/66. 3ـ المصدر السابق ص/67-68.

إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً"1. وقال أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أهل الحديث خلافة أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، وقولهم: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يؤخرك وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته مما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا به وارتقوا"2. وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بعد ذكره روايات عدة في مبايعة الصحابة جميعاً بالخلافة لأبي بكر رضي الله عنه: "وقد صح بما ذكرنا اجتماعهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره فكان علي أكبر محلا وأجل قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق أو يظهر للناس خلاف ما في ضميره ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لم يصح إجماع قط والإجماع أحد حجج الشريعة ولا يجوز تعطيله بالتوهم والذي روي أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر ليس من قول عائشة إنما هو من قول الزهري فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهم وحفظه معمر بن راشد فرواه مفصلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من المغازي أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث إذ لم تسمع من رسول الله

_ 1ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/65. 2ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128.

صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره فكانت معذورة فيما طلبته وكان أبو بكر معذوراً فيما منع فتخلف علي عن حضور أبي بكر حتى توفيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها كما قال الزهري ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته ففي رواية الزهري أنه بايعه بعد وعظم حقه ولو كان الأمر على غير ما قلنا لكانت بيعته آخراً خطأ، ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً وخالفه باطناً فقد أساء الثناء على علي، وقال فيه أقبح القول وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى قال: أبو بكر ثم عمر ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق ولا يقول إلا ما هو صدق وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله وعلمه وسابقته وحسن عقيدته وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية ... فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه فلا طائل لسخط غيرهما ممن يدعي موالاة أهل البيت ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجن من يواليه ويرميه بالعجز والضعف واختلاف السر والعلانية في القول والفعل وبالله العصمة والتوفيق"1. وقال عبد الملك الجويني: "أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه ... وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراساً2 وشماساً3 في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد"4.

_ 1ـ الاعتقاد ص/179-180. 2ـ الشراس: شدة المعاملة "مختار الصحاح" ص/346. 3ـ شموس: أي صعب الخلق "لسان العرب" 6/111. 4ـ كتاب الإرشاد ص/361.

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وهو ـ أي أبو بكر ـ أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومتابعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"1. وقال أبو عبد الله القرطبي: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق رده على الرافضي: "فلما اتفقوا على بيعته3 ولم يقل قط أحد: إني أحق بهذا الأمر منه لا قرشي ولا أنصاري فإن من نازع أولاً من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق: رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح قال عمر: فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، وقال له بمحضر الباقين: أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلتهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم، ولم يقل أحد قط: إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في

_ 1ـ لمعة الاعتقاد ص/27. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264. 3ـ الضمير عائد إلى أبي بكر رضي الله عنه.

أحد بعينه إن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب ـ في جاهليتها ـ كانت تقدم أهل الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، فأما الذين لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا هؤلاء وفي أنه ليس في القوم أعظم إيماناً وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم"1 وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "قد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما"2. وقال يحيى بن أبي بكر العامري رحمه الله تعالى: "وقد كانت بيعته إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرف بالحال وأدرى بصحة الدليل في المقال والإجماع حجة قطعية من غيرهم فما ظنك بهم"3. فهذه النقول للإجماع عمن تقدم ذكره من الأئمة كلها وضحت أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لإجماع الصحابة على إمامته وانقيادهم له جميعاً وإطباقهم على مخاطبتهم له بالخلافة فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله وما حصل عليه الإجماع لا يكون إلا حقاً فهذا سبيل المؤمنين أهل السنة والجماعة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع سبيلاً غيره.

_ 1ـ منهاج السنة 3/269-270. 2ـ البداية والنهاية 6/340. 3ـ الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ص/142-143.

المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها

المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها يزعم الشيعة الإمامية بأن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ويدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وأوصى له بالخلافة1 ويعتقدون هذا اعتقاداً جازماً والناظر بعين البصيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد أنه ليس هناك دليل فيهما يدل على معتقدهم هذا، وبالنظر في كتب الملل والنحل اتضح أن أول من أحدث هذه المقالة التي مضمونها أن علياً وصي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أوصى له بالخلافة ـ عبد الله بن سبأ اليهودي2 الذي رام بهذه المقالة الكيد للإسلام وتفريق كلمة المسلمين وقد تقبل مقالته الفاسدة من بعده الشيعة الإمامية والنظام3 ومن وافقه من فرق المعتزلة وقد جعل الشيعة الإمامة ركناً من أركان الإيمان التي لا يكمل إيمان الإنسان إلا بها4 بل بالغوا فيها حتى قالوا: إنها أفضل من أركان الإسلام الأخرى5 ثم زعموا أن كل إمام من أئمتهم من أهل البيت

_ 1ـ انظر الطرائف في معرفة مذهب الطوائف لابن طاووس 1/168 وما بعدها، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/30-47، مقالات الإسلاميين 1/89، الفرق بين الفرق ص/59-60، الملل والنحل للشهرستاني 1/146. 2ـ الفرق بين الفرق ص/235، الملل والنحل للشهرستاني 1/174. 3ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/57. 4ـ جاء في كتاب الكافي للكليني 2/15 كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام حديث رقم 1 فقد ذكر بإسناده إلى جعفر عليه السلام قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة والصوم، والحج، والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية وانظر ما قاله الخميني في هذا الصدد في كتابه كشف الأسرار ص/149. 5ـ روى الكليني في "الكافي" أيضاً: 2/17 حديث رقم 5 عن أبي جعفر عليه السلام

منصوص على إمامته بالتلميح تارة، وبالتصريح أخرى حيث إن كل إمام من أئمتهم يوصي بالإمامة لمن بعده1 ولكي يضللوا على جهلة المسلمين وليستميلوهم إلى اعتقاد أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه عمدوا إلى آيات من كتاب ـ تعالى ـ فيها ثناء ومدح لعامة عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين وجعلوها خاصة برابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعلوا يؤولونها على حسب معتقدهم الباطل، كما اختلقوا كثيراً من الأحاديث لنصرة بدعتهم الفاسدة واعتقادهم الباطل ويجادلون بها على أنها أدلة مسلمة، وفي الحقيقة إنها شبه يصطادون بها جهلة المسلمين ومن قل نصيبه من العلم منهم وسأذكر في هذا المبحث طائفة من الآيات القرآنية، والأحاديث التي يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عند محاجتهم في مسألة الإمامة وسأقرن تلك الآيات والأحاديث بالرد بما يبين بطلان دلالتهما على ما يدعون وما يهدفون إليه. أولاً: ذكر بعض شبههم من الآيات القرآنية وهي:- الشبهة الأولى: قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يذكرون عن ابن عباس أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه فقال: "سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه فتاب عليه" وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها فيكون هو الإمام لمساواته النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل به إلى الله3.

_ = بني على خمس أشياء على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية. قال زرارة: فقلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لانها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال: الصلاة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة عمود دينكم. ..إلخ". 1ـ الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/160-170. 2ـ سورة البقرة آية/37. 3ـ منهاج الكرامة لابن المكرم الحلي المطبوع مع كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36- وانظر تفسير العياشي 1/41، تفسير فرات الكوفي ص/13، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/82-83، ص/138.

وهذا الاستدلال باطل من وجوه: الأول: أنهم يطالبون بثبوت هذا النقل إلى ابن عباس ولا سبيل لهم إلى هذا. الثاني: أن هذا الذي نسبوه إلى ابن عباس كذب موضوع باتفاق أهل العلم وقد أورده أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات1 من أفراد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني فإن له كتباً في الأفراد والغرائب قال الدارقطني: تفرد به حسين الأشقر2 رواي الموضوعات عن الأثبات عن عمرو3 بن ثابت وليس بثقة ولا مأمون. الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقد روي عن السلف هذا وما يشبهه وليس في شيء من النقول الثابتة لتفسير الآية ما يذكره الشيعة من القسم. الرابع: أن الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه وإن لم يقسم عليه بأحد فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في توبته بمثل هذا الدعاء.

_ 1ـ الموضوعات 3/3. 2ـ هو الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري الكوفي صدوق يهم ويغلو في التشيع من العاشرة مات سنة ثمان ومائتين، قال أبو يعلى: سمعت أبا معمر الهذلي يقول: الأشقر كذاب. وقال ابن معين: كان من الشيعة الغالية "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه " كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249-250، تهذيب التهذيب 2/335-337. 3ـ هو عمرو بن ثابت وهو ابن أبي المقدام الكوفي مولى بكر بن وائل ضعيف رمي بالرفض من الثامنة مات سنة اثنين وسبعين وهو رافضي خبيث "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه" في تهذيب التهذيب 8/9-10، ميزان الاعتدال 3/249. 4ـ سورة الأعراف آية/23.

الخامس: يقال لهم: إن هذه الخصيصة المكذوبة التي ذكرتموها ليست من خصائض الأئمة إذ أنها حسب زعمكم ثابتة لفاطمة رضي الله عنها وخصائص الأئمة لا تثبت للنساء وما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمامة فإن دليل الإمامة لا بد أن يكون ملزوماً لها يلزم من وجوده استحقاقها فلو كان هذا دليلاً على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها والمرأة لا تكون إماماً بالنص والإجماع.1 الشبهة الثانية: قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 2 الآية، وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى ابن مسعود أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتخذني نبياً واتخذ علياً وصياً" وهذا نص في الباب3. والرد على هذا الاستدلال من وجوه: الأول: إن هذا الحديث كذب باتفاق الحفاظ. الثاني: أن قوله انتهت الدعوة إلينا كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن أريد أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعاً لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة فقد قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} 4 وقال عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 5 ففي هاتين الآيتين إخبار بأنه ـ تعالى ـ جعل أئمة

_ 1ـ انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36، الميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي 1/279. 2ـ سورة البقرة آية/124. 3ـ منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي المطبوع مع كتاب "منهاج السنة" 4/36، المنتقى للذهبي ص/439. 4ـ سورة الأنبياء آية/73. 5ـ سورة السجدة آية/24.

من ذرية إبراهيم قبل أمتنا، وإن أريد انتهت الدعوة إلينا أنه لا إمام بعدنا لزم ألا يكون باقي الاثني عشر أئمة. الثالث: أن كونه لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام مع أن السابقين الأولين أفضل منهم فكيف يجعل المفضول مستحقاً لهذه المرتبة دون الفاضل وليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقاً بل قد يكون التائب من الكفر والفسوق أفضل ممن لم يكفر ولم يفسق كما دل على ذلك الكتاب فإن الله فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وأولئك كلهم أسلموا من بعد وهؤلاء فيهم من ولد على الإسلام، وفضل السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان وأولئك آمنوا بعد الكفر والتابعون ولدوا على الإسلام وقد ذكر الله في القرآن أن لوطاً آمن لإبراهيم وبعثه الله نبياً وقال شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 1 وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر ثم نبأهم بعد توبتهم وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا وإذا كان في هؤلاء من صار نبياً فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم وهذا مما تنازع فيه الرافضة وغيرهم ويقولون من صدر منه ذنب لا يصير نبياً والنزاع فيمن أسلم أعظم لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب والسنة والذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصاً مذموماً لا يستحق النبوة ولو صار من أعظم الناس طاعة وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه والكتاب والسنة يدلان على بطلان قولهم فيه"2. وبهذه الوجوه اتضح بطلان استدلال الشيعة بالآية الكريمة على إمامة علي رضي الله عنه

_ 1ـ سورة الأعراف آية/89. 2ـ منهاج السنة 4/37، وانظر المنتقى للذهبي ص/439.

الشبهة الثالثة: آية المباهلة: وهي قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1. ووجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه أنهم يزعمون أنها دلت على أفضليته من وجهين: أحدهما: أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعاً على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم جعله مثل نفسه بقول: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} لأنه أراد بقوله: {أبناءنا} الحسن والحسين ((ع)) وبقوله: {أنفسنا} نفسه ونفس علي ((ع)) ... وإذا جعله مثل نفسه وجب أن لا يدانيه ولا يقاربه في الفضل أحد2. قال السماوي مبيناً وجه الدلالة من الآية على ما يريده الشيعة: "فإذا عرفنا أن علياً بنص الكتاب هو نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فهل يصح الرجوع إلى أحد من الناس أياً كان ونفس الرسول موجود بينهم وهل يحكم الناس حاكم ... ونفس الرسول حاضر"3. وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "نقل الجمهور كافة أن أبناءنا إشارة إلى الحسن والحسين ونساءنا إشارة إلى فاطمة، وأنفسنا إشارة إلى علي وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلي لأنه تعالى قد جعله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فيبقى المراد بالمساواة له الولاية وأيضاً لو كان غير

_ 1ـ سورة آل عمران آية/61. 2ـ تفسير التبيان للطوسي 3/485. 3ـ الإمامة في صوء الكتاب والسنة 2/98-99.

هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضوع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه وأخذ بمجامع قلبه وحببت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم"1. والرد على استدلالهم هذا: يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه مردود وباطل ودليل واضح على الجهل والقول بغير علم إذ تقريرهم أن الرسول عنى بقوله: أنفسنا نفسه ونفس علي غير مسلم لهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً بطلان فهمهم من الآية مساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "وهو خلاف المستعمل في لغة العرب ومما يبين ذلك أن قوله: {نساءنا} لا يختص بفاطمة بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم كن قد توفين قبل ذلك فكذلك أنفسنا ليس مختصاً بعلي بل هو صيغة جمع كما أن نساءنا صيغة جمع وكذلك أبناءنا صيغة جمع وإنما دعا حسناً وحسيناً لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما"2 "وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية" وما قاله علماؤهم بأن الشخص لا يدعو نفسه فكلام مستهجن إذ قد شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال: دعته نفسه إلى كذا ودعوت نفسي إلى كذا {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} 3، وأمرت نفسي، وشاورت نفسي إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فكان معنى (ندع أنفسنا) نحضر أنفسنا وأيضاً: لو قررنا أن الأمير من قبل النبي لمصداق (أنفسنا) فمن

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/33-34، حق اليقين 1/148، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/268. 2ـ منهاج السنة 4/35. 3ـ سورة المائدة آية/30.

تقرره، من قبل الكفار لمصداق (أنفسكم) في أنفس الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة (ندعو) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله: (تعالوا) فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكماً كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة ولأن العرف يعد الختن من غير ريبة في ذلك وأيضاً: قد جاء لفظ النفس بمعنى الشريك في النسب والدين كقوله تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 أي: أهل دينكم {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} 2 {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 3 فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة وهذا غير بعيد فلا يلزم المساواة"4 ولو سلم للشيعة بمساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الصفات كما يزعمون للزم من ذلك "اشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع، وأيضاً: لو كانت الآية دليلاً لإمامته لزم ـ أن يكون علي ـ إماماً في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو باطل بالاتفاق وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقييد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيداً للمدعي إذ هو غير متنازع فيه"5. أما زعمهم لو كان غير من دعاهم عند المباهلة مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم يقال لهم: "لم يكن المقصود من أخذه صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم إجابة الدعاء إذ دعاؤه صلى الله عليه وسلم وحده كاف

_ 1ـ سورة البقرة آية/84. 2ـ سورة الحجرات آية/11. 3ـ سورة النور آية/12. 4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/156. 5ـ المصدر السابق نفس الصفحة.

ولو كان المراد بمن دعاه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان يقول: "فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"1 أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ومن المعلوم وإن كان علي وفاطمة والحسن والحسين مجابي الدعوة فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة لكن لم يكن المقصود من دعوة من دعاه إجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل، ومن المعلوم بالضرورة لدى كل مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء لكن لم يأمره الله ـ سبحانه ـ بأخذهم لأنه لم يحصل به المقصود فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليهم نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم"2. فتبين مما تقدم ذكره عن أهل العلم أن الآية ليست فيها ما يدل على إمامة علي وبنيه كما يزعم الشيعة ذلك وأن استدلال الشيعة بها على هذا المطلب تعسف منهم وتلكف خاطئ وفاسد وغاية ما تدل عليه الآية هو اختصاص علي رضي الله عنه بهذه المنقبة على غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشركه في المباهلة إنما هو إرضاء للخصم وإفحام له إذ المعروف من طبيعة الإنسان ألا يعرض أقاربه للهلاك فكونه عليه الصلاة والسلام يدعو ألصق الناس به وأقربهم إليه دليل واضح على صحة نبوته ولهذا لما رأى نصارى

_ 1ـ انظر الحديث في مسند أحمد 5/198، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/88 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 2ـ منهاج السنة 4/35.

نجران صدقه خافوا على أنفسهم وتخلوا عن مباهلته ولكن الشيعة لما ابتلوا بدفع الحق وعدم التسليم له أصيبوا بعدم فهم ما تدل عليه آيات الكتاب العزيز. الشبهة الرابعة: قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يكذبون على الثعلبي أنه قال: إنما نزلت في علي وهذا دليل على أنه أفضل فيكون هو الإمام2. وهذا الاستدلال مردود بوجوه: الوجه الأول: أن هذا كذب على الثعلبي وأنه قال في تفسيره لهذه الآية: قال علي وقتادة والحسن أنهم أبو بكر وأصحابه. الوجه الثاني: أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله ولا الالتفات إليه. الوجه الثالث: أن قولهم هذا معارض لما هو أشهر منه وأظهر وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه3 الذين قاتلوا معه أهل الردة وهذا هو المعروف كما تقدم، لكن الشيعة أرادوا أن يجعلوا فضائل الصديق لعلي وهذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله. ولا يشك مسلم في أن علياً رضي الله عنه ممن كان يحب الله ويحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ولا كان جهاده للكفار أعظم من جهاد هؤلاء ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

_ 1ـ سورة المائدة آية/54. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/58، وانظر تفسير العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، "كتاب الصافي" في تفسير القرآن 1/488. 3ـ انظر جامع البيان للطبري 6/285، الدر المنثور للسيوطي 3/102.

الوجه الرابع: يقال لهم: على سبيل الفرض: إنها نزلت في علي فهل يصح أن يقول قائل: إنها مختصة به ولفظها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهذا صريح في أن هذا ليسوا رجلا واحداً فإن الواحد لا يسمى قوماً في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قيل: المراد هو شيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها من غيرهم. الوجه الخامس: أن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائناً من كان لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصاً بأحدهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلاً عن أن يستوجب بذلك الإمامة بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوماً يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين1. وبهذه الوجوه الخمسة يبطل استدلال الشيعة بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه. الشبهة الخامسة: آية الولاية. وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2. ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يدعون الإجماع أنها نزلت في علي رضي الله عنه ويذكرون حديثاً يعزونه إلى تفسير الثعلبي عن أبي ذر أنه قال: سمعت

_ 1ـ منهاج السنة 4/58-60، وانظر المنتقى للذهبي ص/451-452. 2ـ سورة المائدة آية/55.

رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة فمنصور من نصره ومخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل فلم يعطه أحد شيئاً فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم إنك تشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى وكان متختماً فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إن موسى سألك وقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 1 فأنزلت عليه قرآنا ناطفاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا} اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري" قال أبو ذر: فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: "يا محمد اقرأ قال: وما أقرأ قال: اقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2. قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "ونقل ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه الآية نزلت في علي، والولي هو المتصرف وقد أثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله"3. وقال الطوسي: "ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الولي في الآية بمعنى

_ 1ـ سورة طه آية/25-32. 2ـ ذكر هذا الخبر ابن المطهر الحلي وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2، تفسير فرات الكوفي ص/38-40، العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، تفسير الكاشاني المسمى كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/450-451. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2.

الأولى والأحق وثبت أيضاً: أن المعني بقوله: {الذين آمنوا} أمير المؤمنين1. ((ع)) . والناظر بعين البصيرة يرى أن هذا الخبر الذي ساقوه لبيان وجه دلالة الآية على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل خبر مفترى وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يعرف فيه ذلك من ألفاظه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد وضع بعض الكذابين حديثاً مفترى أن هذه الآية نزلت في حق علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل"2. وقد بين رحمه الله وجوه بطلان هذا الخبر المفترى فقال: "وكذبه بين من وجوه كثيرة: منها أن قوله: الذين، صيغة جمع وعلي واحد. ومنها: أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك كان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة ومنها: أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلاً ومنها: أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسناً لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن ومنها: أن علياً لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة. ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل، ومنها: أن الكلام في سياق

_ 1ـ تفسير التبيان للطوسي 3/559، وانظر المفصح في إمامة أمير المؤمنين له أيضاً: ص/129. 2ـ منهاج السنة 1/155-156.

النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام"1. وقال أيضاً: رحمه الله تعالى: "إن ألفاظ الحديث مؤذنة بأنه حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم فإن علياً رضي الله عنه ليس قائداً لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أيضاً: قاتلاً لكل الكفرة بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا وهو قاتل لبعض الكفرة وكذلك قوله: منصور من نصره مخذول من خذله هو خلاف الواقع والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً ... وأيضاً: فالدعاء الذي عن النبي صلى الله عليه وسلم عقب التصديق بالخاتم من أظهر الكذب لأن من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو أعظم قدراً ونفعاً من إعطاء سائل خاتماً وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً "2. وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" 3. والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج ـ والإنفاق ـ الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه وأما إعطاء السائلين لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعو هذه لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذباً في سؤاله ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 4 بأن يذكر لعلي رضي الله عنه

_ 1ـ منهاج السنة 1/155-156. 2ـ صحيح البخاري 2/289. 3ـ انظر سنن الترمذي 5/289. 4ـ سورة الليل آية/17-21.

من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على جاهل.. إلى أن قال: فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يشد بشخص من الناس كما سأله موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخسه حقه"1. وقد خطأ ابن كثير رحمه الله تعالى من ظن أن قوله تعالى في الآية: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية وعلل ذلك بأنه: يلزم منه أن يكون دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء وممن نعلمه من أئمة الفتوى2. وقال الدهلوي مبيناً عدم نزول الآية في علي وعدم صحة الحديث الذي اختلقه الرافضة لبيان دلالتها على إمامة علي رضي الله عنه حيث قال: وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه بالخاتم عليه في حالة الركوع فإنما هو للثعلبي فقط وهو متفرد به ولا يعد المحدثون من أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة ولقبوه بحاطب ليل3 فإنه لا يميز بين الرطب واليابس وأكثر رواياته عن الكلبي عن أبي صالح وهو من أوهى ما يروي في التفسير عندهم4. وأما زعم الشيعة أن لفظ: الولي هو المتصرف وقد أثبتت له5 الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله. فهذا يدل على جهل الشيعة حيث "يجعلون الولي هو الأمير ولم يفرقوا بين الولاية بالفتح والولاية بالكسر والأمير يسمى الوالي ولكن قد يقال: هو ولي الأمر كما يقال: وليت أمركم، ويقال: أولو الأمر وأما إطلاق القول بالمولى وإرادة

_ 1ـ منهاج السنة 4/6-7. 2ـ انظر تفسير القرآن العظيم 2/597. 3ـ انظر منهاج السنة 4/4. 4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/141-142. 5ـ الضمير يعود إلى علي رضي الله عنه.

الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى ولا يقال: الوالي فتبين أن الآية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة وسائر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميراً على غيره بل هذا باطل إذ لفظ الولي والولاية غير لفظ الوالي والآية عامة في المؤمنين والإمارة لا تكون عامة"1. وبما تقدم ذكره اتضح بطلان استدلال الشيعة على إمامة علي رضي الله عنه إذ هي بعيدة كل البعد عن مراد الشيعة من حيث النزول والدلالة. الشبهة السادسة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يقولون: إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني روى بإسناده إلى ابن عباس قال: نزلت في علي والود محبة في القلوب المؤمنة، وفي تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة" فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ولم يثبت لغيره ذلك فيكون هو الإمام3. والرد على هذا الاستدلال وبيان بطلانه من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بالدليل على صحة هذا النقل وإلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق وهو من القول بلا علم ومن قفو الإنسان، ما ليس له به علم ومن المحاجة بغير علم والعزو المذكور لا يقبل الثبوت باتفاق

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 4/8. 2ـ سورة مريم آية/96. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/37، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/88-89، تفسير القمي 2/56، تفسير الكاشاني المسمى "الصافي" في تفسير القرآن 2/58.

أهل السنة والشيعة. الوجه الثاني: أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. الوجه الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عام في جميع المؤمنين فلا يجوز تخصيصها بعلي بل هي متناولة لعلي وغيره والدليل على ذلك أن الحسن والحسين وغيرهما من المؤمنين الذين تعظمهم الشيعة داخلون في الآية فعلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعلي رضي الله عنه. الوجه الرابع: أن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات وداً وهذا وعد منه صادق والله لا يخلف الميعاد فقد جعل للصحابة رضي الله عنهم الود في قلوب جماهير المسلمين ولا سيما الخلفاء رضي الله عنهم ولا سيما أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنه في مقدمة من يودهما ويحبهما رضي الله عن صحابة نبيه أجمعين"1. وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية على ما تدعيه الشيعة من تقديم علي رضي الله عنه في الإمامة. الشبهة السابعة: قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 2 ووجه استدلالهم بها أنهم يقولون: قال الثعلبي بإسناده عن أنس وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله فقال: "بيوت الأنبياء" فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها يعني بيت علي وفاطمة، قال: "نعم من أفضلها"، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم؛ فيكون علي هو الإمام وإلا لزم

_ 1ـ انظر منهاج السنة 4/37-38. 2ـ سورة النور آية/37.

تقديم المفضول"1. واستدلالهم بهذه الآية مردود لوجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل إذ مجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة وليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور بل علماء الجمهور بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به لا في فضيلة أبي بكر وعمر ولا في إثبات حكم من الأحكام إلا أن يعلم ثبوته بطريقه ... ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك ... وتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم. الوجه الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد عليها في الحديث كالصحاح والسنن والمسانيد مع أن في بعض هذه الكتب ما هو ضعيف بل ما يعلم أنه كذب لكن هذا قليل جداً وأما هذا الحديث وأمثاله فهو أظهر كذباً من أن يذكروه في مثل ذلك. الوجه الثالث: أن يقال: الآية باتفاق الناس هي في المساجد كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} الآية وبيت علي ليس موصوفاً بهذه الصفة. الوجه الرابع: يقال لهم: بيت النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من بيت علي باتفاق المسلمين ومع هذا لم يدخل في هذه الآية لأنه ليس في بيته رجال وإنما فيه هو والواحدة من نسائه ولما أراد بيت النبي قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2 وقال

_ 1ـ منهاج الكرامة في معرفة الإمامة لابن المطهر مع منهاج السنة 4/25، وانظر" تفسير فرات الكوفي" ص/103، تفسير القمي 2/104. 2ـ سورة الأحزاب آية/53.

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} 1. الوجه الخامس: دعواهم أن الآية في بيوت الأنبياء كذب فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} متناول لكل من كان بهذه الصفة. إذ لفظ الآية دل على أنهم رجال، وليسوا رجلا واحداً فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي بل هو وغيره مشتركون فيها وحينئذ فلا يلزم أن يكون أفضل من المشاركين له فيها. السادس: وأما دعواهم امتناع تقديم المفضول على الفاضل فإنه إذا سلم فإنما هو في مجموع الصفات التي تناسب الإمامة وإلا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام ولو جاز هذا لقيل ففي الصحابة من قتل من الكفار أكثر مما قتل علي وفيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي وبالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الأنبياء من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل ولكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع2. فالآية لا دلالة فيها على ما ذهب إليه الرافضة حيث إن المراد بالبيوت فيها هي المساجد وهي عامة في كل من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وليس فيها دلالة على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته. الشبهة الثامنة: آية التطهير: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/34. 2ـ منهاج السنة النبوية 4/25-26. وانظر المنتقى للذهبي ص/431.

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 هذه الآية فهم الشيعة منها أنها تدل على عصمة أهل البيت ثم أخذوا منها الدلالة على إمامة علي رضي الله عنه. قال الطوسي: "إن لفظ إنما تجرى ليس ... فيكون تلخيص الكلام ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد عن أهل البيت فدل ذلك أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم، وذلك يدل على عصمتهم، وإذا ثبتت عصمتهم ثبت ما أردناه"2. وقال ابن المطهر الحلي: "وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظة "إنما" وإدخال اللام في الخبر والاختصاص في الخطاب بقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} والتكرير بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ} والتأكيد بقوله: {تَطْهِيراً} وغيرهم ليس بمعصوم فتكون الإمامة في علي ولأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً فيكون هو الإمام"3. والرد على هذا الاستدلال: يقال لهم: إن الآية ليس فيها أي إشارة تدل على عصمة أحد من أئمة أهل البيت التي يلزم منها عند الشيعة إمامتهم وذلك أن الآية ما هي إلا كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 4 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 6 فإن إرادة الله في هذه

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/33. 2ـ تفسير التبيان للطوسي 8/340. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/20، وانظر حق اليقين 1/150. 4ـ سورة المائدة آية/6. 5ـ سورة البقرة آية/185. 6ـ سورة النساء آية/26-27.

الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ولا أنه قضاه وقدره ولا أنه يكون لا محالة ـ وكما هو معلوم ـ "أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره"1. والإرادة في آية التطهير إنما هي إرادة دينية شرعية تذهب الرجس عن أهل البيت بامتثالهم الأوامر الربانية واجتنابهم المنهيات "والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التطهير قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" 2 فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء"3. وإذا كان الشيعة يستدلون بهذه الآية على عصمة أهل البيت فإنه يلزم، على معتقدهم هذا أن "يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4 وقال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} 5 وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين ووقوع هذا الإتمام أدل على عصمتهم لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان"6. وأما زعمهم أن علياً ادعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً ... الخ

_ 1ـ منهاج السنة 4/21.20. 2ـ رواه أحمد في المسند 6/304.292، ورواه الترمذي في سننه 5/30-31. 3ـ منهاج السنة 4/20. 4ـ سورة المائدة آية/6. 5ـ سورة الأنفال آية/11. 6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/153.

فإن هذا "لا يسلم بل كل مسلم يعلم بالضرورة أن علياً ما ادعاها قط حتى قتل عثمان ـ وما قال: "إني معصوم ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلني الإمام بعده ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ولا نحو هذه الألفاظ بل من المعلوم بالضرورة أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه إذ أن علياً رضي الله عنه كان أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي يعلم الصحابة كلهم أنه كذب"1. فآية التطهير ليس فيها دلالة على عصمة أهل البيت لأنها لم ترد بصيغة الإخبار وليس فيها أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على إمامتهم ومما يدل على ذلك "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية. والسياق إنما هو في مخاطبتهن من قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلى قوله {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 2 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره وليس مختصاً بأزواجه بل هو متناول لأهل البيت كلهم وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم"3. الشبهة التاسعة: آية المودة: وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى الإمام أحمد أنه روى في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا يا رسول الله: من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: "علي وفاطمة وابناهما" وكذا في تفسير الثعلبي ونحوه في الصحيحن وغير علي من الصحابة

_ 1ـ منهاج السنة 4/24. 2ـ سورة الأحزاب آية/32-33. 3ـ منهاج السنة 4/21، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/149. 4ـ سورة الشورى آية/23.

والثلاثة لا تجب مودته فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام ولأن مخالفته تنافي المودة وبامتثال أوامره تكون مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة"1. والرد على بطلان هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا الحديث ودعواهم أن أحمد روى هذا الحديث في المسند كذب ظاهر فإن مسند أحمد موجود وبه من النسخ ما شاء الله وليس هو في الصحيحين، بل فيهما وفي غيرهما ما يناقض ذلك، ولا ريب أن الرافضة جهال بكتب أهل العلم لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها ... فهم يعزون إلى المسند والصحيحين وغيرهما باطلاً لا حقيقة له يعزون إلى مسند أحمد ما ليس فيه أصلاً لكن أحمد رحمه الله صنف كتابا في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند. الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهم المرجوع إليهم في هذا ولهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها. الوجه الثالث: أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكية باتفاق أهل السنة. ومن المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق. الوجه الرابع: أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن سعيد بن جبير قال:

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/26-27، حق اليقين لعبد الله شبر 1/150، وانظر تفسير القمي 2/275، تفسير فرات الكوفي ص/147-150، تفسير الكاشاني المسمى الصافي في تفسير القرآن 2/513-514.

سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقلت: ألا تؤذوا محمداً في قرابته فقال ابن عباس: عجلت إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فقال: "لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم" 1. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت بعد علي ليس معناها مودة ذي القربى لكن معناها: لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم، فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ الرسالة. الوجه الخامس: أنه قال لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى: لم يقل: إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى فلو أراد المودة لذوي القربى لقال: المودة لذوي القربى كما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 2 وكذلك قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} 3 وهكذا في غير موضع فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم وذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى لم يقل: في القربى فلما ذكر هذا المصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى. الوجه السادس: يقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن تبليغ رسالة ربه أجراً البتة بل أجره على الله كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 4 {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} 5 ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة لكن لم يثبت

_ 1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/185. 2ـ سورة الأنفال آية/41. 3ـ سورة الروم آية/ 38. 4ـ سورة ص آية/86. 5ـ سورة سبأ آية/47.

وجوبها بهذه الآية ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم مما أمرنا الله به، كما أمرنا بسائر العبادات ... فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفيه إياه فقد أخطأ خطأ عظيماً ولو كان أجراً له لم نثب عليه نحن لأنا أعطينا أجره الذي يستحقه بالرسالة فهل يقول مسلم مثل هذا؟. الوجه السابع: أنا نسلم أن علياً تجب مودته وموالاته بدون الاستدلال بهذه الآية لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة ولا الفضيلة. وأما اعتقادهم: "أن الثلاثة لا تجب موالاتهم" فممنوع بل يجب أيضاً: مودتهم وموالاتهم فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان وكذلك هم من أكابر أولياء المتقين وقد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت أن الله قد رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين وهؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها"1. وأما استنباطهم من هذا الحديث الذي لم يثبت أن المخالفة تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة. فالجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: إن كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم فيجب أن تكون فاطمة أيضاً إماماً وإن كان هذا باطلاً فهذا مثله. الوجه الثاني: أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة، فليس من وجبت مودته كان إماماً حينئذ بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين، وعلي تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إماماً بل

_ 1ـ انظرهذه الوجوه في منهاج السنة 4/27-29.

تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان. الوجه الثالث: زعمهم أن المخالفة تنافي المودة. يقال لهم: متى؟ إذا كان ذلك واجب الطاعة أو مطلقاً؟ الثاني ممنوع وإلا لكان من أوجب على غيره شيئاً لم يوجبه الله عليه إن خالفه فلا يكون محباً له ولا يكون مؤمن محباً لمؤمن حتى يعتقد وجوب طاعته وهذا معلوم الفساد، وأما الأول فيقال: إذا لم تكن تلك المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب أن يعلم أولاً وجوب الطاعة حتى تكون مخالفته قادحة في مودته فإنه لا يعلم أن المخالفة تقدح في المودة حتى يعلم وجوب الطاعة ولا يعلم وجوب الطاعة إلا إذا علم أنه إمام ولا يعلم أنه إمام حتى يعلم أن مخالفته تقدح في مودته. الوجه الرابع: يقال: المخالفة تقدح في المودة إذا أمر بطاعته أو لم يؤمر؟ والثاني منتف ضرورة، وأما الأول فإنا نعلم أن علياً لم يأمر الناس بطاعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. الوجه الخامس: يقال هذا بعينه في حق أبي بكر وعمر وعثمان فإن مودتهم ومحبتهم وموالاتهم واجبة ومخالفتهم تقدح في ذلك1. الآية إذاً ليس فيها دليل على ما ذهب إليه الشيعة أي: من الادعاء أنها نزلت في أهل البيت وأنها تدل على إمامتهم وفضلهم. الشبهة العاشرة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي أنهم يعزون إلى ابن عبد البر وأبي نعيم أنهما رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال: سلهم يا محمد علام بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوتك والولاية

_ 1ـ منهاج السنة 4/30. 2ـ سورة الزخرف آية/45.

لعلي بن أبي طالب وهذا صريح في ثبوت الإمامة لعلي"1. ويرد على هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون في هذا الكذب القبيح بثبوت صحته إذ لا يشك أحد في أن هذا وأمثاله من أسمج الكذب وأقبحه لكن على طريق التنزل في المناظرة وأن هذا لم يعلم أنه كذب لم يجز أن يحتج به حتى يثبت صدقه فإن الاستدلال بما لا تعلم صحته لا يجوز بالاتفاق فإنه قول بلا علم وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع. الوجه الثاني: أن مثل هذا مما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع. الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يصدق به من له عقل ودين وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عما لا يدخل في أصل الإيمان وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعلي لم يضره ذلك ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة والله ـ تعالى ـ قد أخذ الميثاق عليهم لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه هكذا قال ابن عباس وغيره2. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَْ} 3. فأما

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/45، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/151 وانظر تفسير القمي 2/285. 2ـ انظر جامع البيان لابن جرير الطبري 3/332، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/314، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/65، الدر المنثور للسيوطي 2/252-253. 3ـ سورة آل عمران آية/81.

الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد فلم يؤخذ عليهم فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين. الوجه الرابع: أن لفظ الآية {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1 ليس في هذا سؤال لهم بماذا بعثوا. الوجه الخامس: يقال لهم: إن كنتم تزعمون أن الرسل إنما بعثوا بهؤلاء الثلاثة فهذا كذب عليهم وإن كنتم تزعمون أنها أصول ما بعثوا به فهذا أيضاً كذب، فإن أصول الدين التي بعثوا بها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وأصول الشرائع أهم عندهم من ذكر الإيمان بواحد من أصحاب نبي غيرهم بل ومن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإقرار بمحمد يجب عليهم مجملاً، كما يجب علينا نحن الإقرار بنبواتهم مجملاً لكن من أدركه منهم وجب عليه الإيمان بشرعه على التفصيل كما يجب علينا، وأما الإيمان بشرائع الأنبياء على التفصيل فهو واجب على أممهم، فكيف يتركون ذكر ما هو واجب على أممهم ويذكرون ما ليس هو الأوجب. الوجه السادس: أن ليلة الإسراء كانت بمكة قبل الهجرة بمدة قيل: إنها سنة ونصف وقيل إنها خمس سنين وقيل غير ذلك، وكان علي صغيراً ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد ولا أمر يوجب أن يذكره به الأنبياء، والأنبياء لم يذكر علي في كتبهم أصلاً وقد دخل في الإسلام كثير من أهل الكتاب ولم يذكر أحد منهم أن علياً رضي الله عنه ذكر في كتبهم فكيف يجوز أن يقال: أن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي ولم يذكروا ذلك لأممهم ولا نقله أحد منهم2. وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية للشيعة الرافضة على ما يذهبون

_ 1ـ سورة الزخرف آية/45. 2ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة 4/45-46، المنتقى للذهبي ص/446.

إليه من أنها دالة على إمامة علي رضي الله عنه. الشبهة الحادية عشر: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1. وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى أبي نعيم أنه روى عن ابن عباس قال في هذه الآية: سابق هذه الأمة علي بن أبي طالب كما يقولون: روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {السابقون السابقون} قال سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق هارون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق علي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام2. وهذا الاستدلال باطل من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل لأن أبا نعيم وابن المغازلي يدونان كثيراً من الأحاديث الموضوعة. الوجه الثاني: أن هذا باطل عن ابن عباس ولو صح لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه. الوجه الثالث: أن الله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} 3 وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 4

_ 1ـ سورة الواقعة آية/10-11. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/42، وانظر تفسير القمي 2/347، تفسير فرات الكوفي ص/177-178، المناقب لمحمد بن علي بن شهرشوب ص/5، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 4/274. 3ـ سورة التوبة آية/100. 4ـ سورة فاطر آية/32.

"والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل دخل فيهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فكيف يقال: إن سابق هذه الأمة واحد". الوجه الرابع: دعواهم أن هذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع فإن الناس متنازعون في أول من أسلم فقيل أبو بكر أول من أسلم فهو أسبق إسلاماً من علي وقيل: إن علياً أسلم قبله لكن علي كان صغيراً وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع فيكون هو أكمل سبقاً بالاتفاق وأسبق على الإطلاق على القول الآخر فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك. الوجه الخامس: أن هذه الأفضلية للسابقين الأولين لم تدل على أن كل من كان أسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره وإنما يدل على أن السابقين أفضل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم فإن الفتح فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية2. وإذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضاً إلى الإسلام فليس في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقاً بل قد يسبق إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال ولهذا كان عمر رضي الله عنه ممن أسلم بعد تسعة وثلاثين وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة وبإجماع الصحابة والتابعين وما علمت أحد قط قال: إن الزبير ونحوه أفضل من عمر والزبير أسلم قبل عمر ولا قال من يعرف من أهل العلم أن عثمان أفضل من عمر، وعثمان أسلم قبل عمر وإن كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا فإنه

_ 1ـ سورة الحديد آية/10. 2ـ المسند 3/420، سنن أبي داود 2/69.

لم يجاهد قبله أحد لا بيده ولا بلسانه بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ما له ويجاهد بحسب الإمكان فاشترى من المعذبين في الله غير واحد وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 1. فكان أبو بكر أسبق الناس وأكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" 2. والصحبة بالنفس وذات اليد هو المال فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمنّ الناس عليه في النفس3 والمال" وحسبنا هنا من الآيات القرآنية التي يدعون أنها أدلة على أن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ما تقدم. ونقتصر عليها في هذا المبحث لأنه كما تقدم معنا أن هذه الآيات التي ذكرناها هنا يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عندما يحاجون في مسألة الإمامة وإلا فالآيات التي يستدلون بها على إمامة علي رضي الله عنه كثيرة فقد أورد ابن المطهر الحلي في كتابه "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة" أربعين آية4 وذكر الخميني في كتبابه "كشف الأسرار"5 أن مائة وأربعين آية تدل على أن الإمام هو علي رضي الله عنه وكما قدمنا أنها ليست أدلة وإنما هي شبه يتصيدون بها ضعاف العقول من المسلمين ومن حظه قليل من العلم فهي آيات قرآنية عامة واردة في جميع المؤمنين والشيعة يخصصونها بعلي رضي الله عنه، وكما تقدم من الآيات التي أسلفناها أنه لا دلالة فيها على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته وكذلك بقية الآيات التي لم يرد ذكرها هنا كلها من هذا القبيل.

_ 1ـ سورة الفرقان آية/52. 2ـ صحيح البخاري 2/289. 3ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة النبوية 4/42-43، المنتقى للذهبي ص/442. 4ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2-79. 5ـ ص/161.

ثانياً: شبههم من الأحاديث: أما شبههم من الأحاديث التي يستدلون بها على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهي إما أحاديث صحيحة تدل على فضله ولا تدل على إمامته وإما أحاديث ضعيفة غير صحيحة لعلل في أسانيدها وإما أحاديث مكذوبة مختلقة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن تلك الشبه ما يلي: الشبهة الأولى: حديث المنزلة، فقد روى الشيخان من طريق سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" 1 فقد فهم الشيعة من هذا الحديث النبوي أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب علياً رضي الله عنه إماماً للمسلمين فقد روى الصدوق2 بإسناده إلى هارون العبدي قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال: استخلفه بذلك والله على أمته في حياته وبعد وفاته وفرض عليهم طاعته فمن لم يشهد له بعد هذا القول بالخلافة فهو من الظالمين3 وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه دلالة حديث المنزلة على إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً: ولأنه خلفه مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة فيكون أولى بأن يكون خليفة"4.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1870 واللفظ له. 2ـ هو أبو جعفر محمد بن علي، ابن الحسين بن بابويه القمي ت: 381هـ، انظر ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني 3/154. 3ـ معاني الأخبار للصدوق ص/74. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/87.

والرد على هذا الاستدلال. يقال لهم: لا يشك مسلم في صحة هذا الحديث وأنه يدل على فضل علي رضوان الله عليه لا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ مناسبة ورود الحديث تأبى أن يكون مراد النبي عليه الصلاة والسلام التنصيص على خلافة علي وإمامته ولو أراد ذلك لصرح بلفظ لا يتطرق إليه احتمال وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من المدينة لغزو أو غيره إلا ويستخلف أحد الصحابة على المدينة فلما كانت غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف إلا النساء والصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق وتخلف الثلاثة الذين تيب عليهم"1. ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً كما كان يبقي في جميع مغازيه فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف فكل استخلاف يستخلفه في مغازيه مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى وغزوة بني المصطلق وخيبر وفتح مكة وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال ومغازيه بضعة عشر غزوة وقد استخلف فيها كلها إلا القليل وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً فلهذا خرج إليه علي رضي الله عنه وقال: "أتخلفني في النساء والصبيان"2.

_ 1ـ الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتيب عليهم هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع "انظر قصتهم في صحيح مسلم" 4/2120-2128. 2ـ صحيح مسلم 4/1871.

وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما استخلفه لأمانته عنده وإن الاستخلاف ليس بنقص ولا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصاً وموسى يفعله بهارون، فطيب بذلك قلب علي وبين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه ... ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن العسكر كان مع هارون وإنما ذهب موسى وحده، وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه ولم يتخلف بالمدينة غير النساء والصبيان أو معذور أو عاص وقول القائل: هذا بمنزلة هذا وهذا مثل هذا هو كتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء ـ فإنه قد ثبت ـ من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لما استشار أبا بكر وأشار بالفدى واستشار عمر فأشار بالقتل قال: "أخبركم عن صاحبيكم مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 ومثل عيسى إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2 ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} 3 أو مثل موسى إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 4 فقوله: لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى ولهذا مثل نوح وموسى أعظم من قول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون وقد جعل هذين مثلهم ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه

_ 1ـ سورة إبراهيم آية/36. 2ـ سورة المائدة آية/118. 3ـ سورة نوح آية/26. 4ـ انظر الحديث بطوله في مسند الإمام أحمد 1/383-384، وأورده ابن كثير في تفسيره 3/345-346.

السياق وهو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل ولا هو مثل استخلافاته فضلاً عن أن يكون أفضل منها وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجباً لتفضيله على علي بل قد استخلف على المدينة غير واحد وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى ومن جنس استخلاف علي ... وليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى ... وأما زعمهم "أنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل فإن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. . دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له وقوله: "بمنزلة هارون من موسى" أي: مثل منزلة هارون وأن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره وإنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر مثله مثل نوح وموسى ... ومما يبين ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به ولا كان أخره حتى يخرج إليه علي ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود، ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون فإن هذا الحديث يدل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب علياً بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك فلو كان علي قد عرف أنه المستخلف من بعده كما رووا ذلك فيما تقدم لكان علي مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده في حياته ولم يخرج إليه يقول: "أتخلفني مع النساء والصبيان"1. ولو كان علي بمنزلة هارون مطلقاً لم يستخلف عليه أحداً وقد كان يستخلف على المدينة غيره وهو فيها كما استخلف على المدينة عام خيبر غير علي وكان علي بها أرمد حتى

_ 1ـ تقدم تخريجه قريباً.

لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" 1. وأما قولهم في الاستدلال: "لأنه خليفة مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة يكون أولى بأن يكون خليفة". فالجواب أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافاً أعظم من استخلاف علي واستخلف أولئك على أفضل من الذين استخلف عليهم علياً وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلف على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه وأعظم مما استخلفه وآخر الاستخلاف كان على المدينة عام حجة الوداع وكان علي باليمن وشهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي، فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك، وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة بل قد استخلف عدداً غيره ـ ولكن الرافضة ـ يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي رضي الله عنه2. قال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده على الطاعنين في إمامة الصديق رضي الله عنه: "فإن قال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" 3. قيل له: كذلك نقول في استخلافه على المدينة في حياته بمنزلة من

_ 1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1871. 2ـ منهاج السنة 4/87-90، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/468-470. 3ـ تقدم تخريجه قريباً.

موسى وإنما خرج هذا القول له من النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك إذ خلفه بالمدينة فذكر المنافقون أنه مله وكره صحبته فلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهم فقال صلى الله عليه وسلم: "بل خلفتك كما خلف موسى هارون" 1. قال أبو محمد بن حزم مبيناً المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى": وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه والسلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى ذلك إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه، ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين"أ. هـ2. وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "واستدل بحديث الباب على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة فإن هارون كان خليفة موسى

_ 1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/221. 2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/94-95، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/174.

وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته لأنه مات قبل موسى باتفاق أشار إلى ذلك الخطابي"1. فلا دلالة في الحديث للشيعة من أن الخلافة كانت من جملة منازل هارون كما يزعمون ولا يسلم لهم بهذا الادعاء "لأن هارون كان نبياً مستقلاً في التبليغ ولو عاش بعد موسى أيضاً لكان كذلك ولم تزل عنه هذه المرتبة قط وهي تنافي الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف فقد علم أن الاستدلال على خلافة ـ علي رضي الله عنه ـ من هذا الطريق لا يصح أبداً"2. الشبهة الثانية: حديث الراية فقد زعم ابن المطهر الحلي أن الجمهور رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعاً وعشرين ليلة وكانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن الحرب وخرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال: خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين ولم يغن شيئاً ورجع منهزماً فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جيئوني بعلي" فقيل: إنه أرمد فقال: "أرونيه أروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار" فجاءوا بعلي فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرأ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحب ووصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام"3. والرد على هذا الاستدلال من وجوه:

_ 1ـ فتح الباري 7/74. 2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/163-164. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/97، العاملي في كتابه الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/2.

الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ولا سبيل لهم إلى هذا. الوجه الثاني: دعواهم أنه رواه الجمهور يقال لهم: إن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في الصحيحين أن علياً رضي الله عنه كان غائباً عن خيبر لم يكن حاضراً فيها حيث كان أرمد ثم إنه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" ـ ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر ولا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب ولهذا قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ وبات الناس كلهم يرجوا أن يعطاها فلما أصبح دعا علياً فقيل له إنه أرمد فجاءه فتفل في عينه حتى برأ فأعطاه الراية"1. وكان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعلي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً"2. الوجه الثالث: أن مدعى الشيعة غير حاصل ـ من هذا الحديث الصحيح ـ إذ لا ملازمة بين كونه محباً لله ورسوله ومحبوباً لهما وبين كونه إماماً بلا فصل أصلاً على أنه لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره كيف وقد قال الله ـ تعالى ـ في حق أبي بكر ورفقائه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 3 وقال في حق أهل بدر: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 4. ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله وقال في شأن أهل مسجد قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 5. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: يا معاذ: "إني أحبك" 6 ولما سئل من أحب

_ 1ـ صحيح البخاري 2/299-300، صحيح مسلم 4/1872. 2ـ منهاج السنة 4/97-98، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472. 3ـ سورة المائدة آية/54. 4ـ سورة الصف آية/ 4. 5ـ سورة التوبة آية/108. 6ـ المسند 5/245، سنن أبي داود 1/349، سنن النسائي 3/53.

الناس إليك؟ قال: عائشة قيل ومن الرجال قال: أبوها" 1 وإنما نص على المحبة والمحبوبية في حق علي مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله: "يفتح الله على يديه" 2 وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" 3 فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون "يفتح الله على يديه" وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم"4. الشبهة الثالثة: حديث الثقلين: فقد استدل الشيعة به على إمامة علي رضي الله عنه وبنيه وهم يسوقونه بطرق مختلفة وقد ساقه ابن المطهر الحلي بلفظ: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" وقال: "أهل بيتي هم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" ثم قال: ـ وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته وعلي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام5. وقال الصدوق مبيناً وجه دلالة هذا الحديث الذي لم يصح بهذا اللفظ كما سنرى قريباً حيث قال: "والعترة علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة وسلالة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين نص الله تبارك وتعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم عليه السلام على جميع ما ذهبت إليه العرب

_ 1ـ صحيح البخاري 2/290. 2ـ صحيح مسلم 4/1872. 3ـ صحيح البخاري 4/145، صحيح مسلم 1/106. 4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/169. 5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/104، وأورده الصدوق في كتابه معاني الأخبار ص/91، الطرائف في معرفة مذهب الطوائف ص/113-117، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد للصفار ص/432-433.

من معنى العترة"1. وقال ابن طاووس2 بعد ذكره لروايات كثيرة لحديث الثقلين: "فهذه عدة أحاديث برجال متفق على صحة أقوالهم يتضمن الكتاب والعترة فانظروا وأنصفوا هل جرى من التمسك بهما ما قد نص عليهما، وهل اعتبر المسلون من هؤلاء من أهل بيتي الذين ما فارقوا الكتاب؟ وهل فكروا في الأحاديث المتضمنة أنهما خليفتان من بعده؟ وهل ظلم أهل بيت نبي من الأنبياء مثل ما ظلم أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها؟ وهل بالغ نبي أو خليفة أو ملك من ملوك الدنيا في النص على من يقوم مقامه بعد وفاته أبلغ مما اجتهد فيه محمد رسول الله؟ لكن له أسوة بمن خولف من الأنبياء قبله، وله أسوة بالله الذي خولف في ربوبيته بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها"3. ولقد كفانا مؤنة الرد على استدلالهم بحديث الثقلين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه قد رد عليهم وأبطل استدلالهم بوجوه عدة هي: الوجه الأول: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" 4 وهذا اللفظ يدل

_ 1ـ معاني الأخبار للصدوق ص/92. 2ـ هو علي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى سنة أربع وستين وستمائة له ترجمة في أول كتابه الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/3 وما بعدها. 3ـ الطرائف في معرفة الطوائف لابن طاووس 1/117. 4ـ صحيح مسلم 4/1873.

على أن الذي أمر بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله وأما قوله: "وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" فهذا رواه الترمذي1 وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعفه وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح2، وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا: ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره لكن أهل البيت لم يتفقوا على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه ـ وأما قوله: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح" فهذا لا يعرف له إسناد صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على أن إجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من علماء الحنابلة رحمهم الله ـ تعالى ـ لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك أن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في كل ما يفتي به ولا عرف أن أحداً من أئمة السلف لا من بني هاشم ولا غيرهم قال: إنه يجب اتباع علي في كل ما يقوله. الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة

_ 1ـ سنن الترمذي 5/328. 2ـ لأن في سنده زيد بن الحسن القرشي أبو الحسن الكوفي صاحب الأنماط وهو ضعيف من الثامنة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث" الجرج والتعديل 3/560، ميزان الاعتدال للذهبي 2/102، تهذيب التهذيب 3/406، تقريب التهذيب 1/273، ويعده الشيعة منهم وله ترجمة عند المامقاني في كتابه "تنقيح المقال في علم الرجال" 1/462، وهو غير محمود عندهم.

كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة. الوجه الرابع: أن هذا معارض بما هو أقوى منه وأن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة وأفضل الأمة أبو بكر1 فإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع أفضلها مطلقاً فهو أبو بكر، وإن لم يكن بطل ما يذكر الشيعة في إمامة علي رضي الله عنه"2. ومما تجدر الإشارة إليه أن حديث الثقلين قد تعددت رواياته في مصادر أهل السنة والجماعة وأن الدكتور علي أحمد الثالوث قد تتبع هذا الحديث وقام بدراسة طرقه المتعددة وأخرجها في كتابه "حديث الثقلين وفقهه" وتوصل إلى أن "ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم لا خلاف حول صحته "وأما بقية الروايات فقد قال عنها: "ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث وظهر ما بها من ضعف وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير. ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع"3. فدعوى ابن طاووس من الاتفاق على صحة أقوال رجال الأحاديث التي ساقها وحديث الثقلين الوارد في صحيح مسلم ليس

_ 1ـ منهاج السنة 4/104-105. 2ـ انظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/476. 3ـ حديث الثقلين ص/24.

فيه أكثر من الحث على حب آل بيت النبوة وحفظ حقوقهم لأن ذلك من كمال حبه صلى الله عليه وسلم وحفظ حقوقهم وتذكيره صلى الله عليه وسلم بأهل بيته لا يلزم منه إمامتهم، ولو كان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بيان إمامتهم لأفصح عن ذلك بلفظ في غاية البيان والوضوح. الشبهة الرابعة: حديث الغدير: لقد أخذ حديث الغدير عند الشيعة منزلة رفيعة وافتخروا به وأشادوا به وأفردوه بالتأليف وفيه يقول الأميني: "للإمامية مجتمع باهر يوم الغدير عند المرقد العلوي الأقدس يضم إليه رجالات القبائل، ووجوه البلاد من الدانين والقاصين إشادة بهذا الذكر"1. ومفاد قصة الغدير كما يذكرونها في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الحج في سنة عشر من الهجرة وأعلن ذلك للناس فاجتمعوا إليه جماعات ووحدانا وقاد النبي صلى الله عليه وسلم قافلة الحجيج إلى مكة قاصدين البيت الحرام مصطحباً معه نساءه وسائر أهل بيته، ثم بعد أن قضى مناسكه قفل راجعاً إلى المدينة وسار حتى وصل غدير خم من الجحفة وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ويومها نزل عليه جبريل من الله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2 وأمره أن ينصب عليهم علياً إماماً ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد فحشر الناس في ذلك الموضع وأوقف سيرهم ورد مقدمتهم على مؤخرتهم ثم وقف عليهم خطيباً إلى أن قال: يا أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه" يقولها ثلاث مرات ثم قال

_ 1ـ الغدير في الكتاب والسنة والأدب 1/13. 2ـ سورة المائدة آية/67.

"اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار ألا فليبلغ الشاهد الغائب" ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر على إكمال الدين وإكمال النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي" 2. ووجه استدلالهم من حديث الغدير عبارة: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وهذه العبارة لا تعني عند الشيعة إلا النص على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة منه: "والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقوى منه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألست أولى منكم بأنفسكم" 3 وروى الصدوق بإسناده إلى أبي إسحاق قال: قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه " قال: أخبرهم أنه الإمام بعده"4. وقبل أن أبين بطلان حديث الغدير هذا نبين أنه يحمل في ثناياه جهل الشيعة المركب بعدم معرفتهم بمكان وزمان نزول آيات القرآن الكريم فدعواهم أن قوله

_ 1ـ سورة المائدة آية/3. 2ـ انظر كتاب الغدير في الكتاب والسنة والأدب للأميني 1/9-11 وكتاب الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/139-148، وكتاب اليقين لابن طاووس ص/113-115، الطبرسي في الاحتجاج 1/55، والصدوق في معاني الأخبار ص/67 وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، حق اليقين 1/153. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/154. 4ـ معاني الأخبار ص/65.

عالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أنزلت يوم الغدير فهذه الدعوى غير صحيحة فقد رجح العلامة ابن كثير أنها مما نزل بالمدينة بل إنها من أواخر ما نزل فقد قال رحمه الله تعالى: "والصحيح أن هذه الآية مدينة بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم"1. وسياق الآية يشعر ببعد نزولها يوم الغدير بشأن خلافة علي رضي الله عنه ذلك أن الآية سبقت بآيات كلها وردت في ذم أهل الكتاب وبيان تعداد معاصيهم وتعديهم حدود الله ـ جل وعلا ـ قال العلامة ابن جرير عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} " وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجترائهم على ربهم، وتوثبهم على أنبيائهم وتبدليهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم، والتهجين لهم وما أمرهم به ونهاهم عنه وألا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبهم في نفسه مكروه، ما قام فيهم بأمر الله ولا جزعاً من كثرة وقلة عدد من معه وألا يتقي أحداً في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه مكروه كل من يتقي مكروهه"2. وأما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 3 فإن نزولها كان بعرفة وحادثة الغدير كانت بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وهو في طريقه إلى المدينة قال ابن جرير رحمه الله تعالى ذاكراً القول الراجح في مكان ووقت نزول هذه الآية: "وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم

_ 1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/611. 2ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6/307. 3ـ سورة المائدة آية/3.

عرفة يوم جمعة لصحة سنده ووهن أسانيد غيره"1. فادعاهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزولها: "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي " فإنه كما قال الألوسي: "من مفترياتهم وركاكة الأمر شاهدة على ذلك"2. وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المائدة لم ينزل منها شيء في غدير خم أو بعده حيث قال رحمه الله تعالى: "فمن زعم أن المائدة نزل منها شيء في غدير خم أو بعده فهو كاذب باتفاق أهل العلم"3. وأما لفظ حديث الغدير فقد تصدى أهل العلم من أهل السنة والجماعة لبيان درجته كما أوضحوا ما يدل عليه ما صح من لفظه من وجوه: الوجه الأول: أن لفظ "من كنت مولاه فعلي مولاه" ليس هو في الصحاح ولكن رواه طائفة من أهل العلم4 وقد تنازع الناس في صحته أو عدمها على قولين: ـ القول الأول: نقل عن الإمام البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وطعفوه وإلى هذا القول ذهب أبو محمد بن حزم فإنه ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: "وأما من كنت مولاه فعلي مولاه" "فلا يصح

_ 1ـ جامع البيان 6/84. 2ـ روح المعاني 6/61. 3ـ منهاج السنة 4/85. 4ـ أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في سننه 5/297 من حديث أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة وقال: عقبه هذا حديث حسن غريب، ورواه أحمد في المسند 4/368 عن زيد بن أرقم 5/361 من حديث بريدة ولفظه: "من كنت وليه فعلي وليه" ورواه ابن ماجه في سننه 1/45 من حديث سعد بن أبي وقاص كما أخرجه أيضاً من حديث البراء بن عازب 1/43 وقال محققه في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وقد صححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحية 4/330-344.

من طرق الثقات أصلاً"1. القول الثاني: نقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي2 ثم إن القائلين بصحة الحديث من أهل السنة سلفاً وخلفاً بينوا المراد من الحديث وما الذي يدل عليه وأنه ليس المراد به الخلافة. فقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى فضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن وسأله رجل ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال لي: بلى والله لو يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمارة أو السلطان لأفصح لهم بذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين فقال: "يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر وجعله القائم به للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله"، ثم قال: ورواه شبابة بن سوار عن الفضيل بن مرزوق قال سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن وهو يقول لرجل ممن يتولاهم: فذكر قصة ثم قال: ولو كان الأمر كما يقولون إن الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر والقيام على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان علي لأعظم الناس خطية وجرماً في ذلك إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره ويعذر فيه إلى الناس قال: فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال: أما والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يعني بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس بعده لأفصح لهم بذلك كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت ولقال لهم: إن هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فما كان من رواء هذا شيء فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم3.

_ 1ـ انظر كتاب ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/264. 2ـ منهاج السنة 4/86، وانظر المنتقى للذهبي ص/466-467. 3ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182-183 وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 6/195.

ففي هذين الأثرين عن الحسن بن الحسن تكذيب لما نسبه الصدوق إلى علي بن الحسين من أنه قال: إن المراد بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه" أنه أخبرهم بأنه الإمام بعده فاتضح أن ذلك من زيادات الشيعة المنكرة على أهل البيت وأنهم يدخلون ألفاظاً منكرة في الأحاديث والآثار على حسب ما تملي لهم به أهواؤهم. وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:"من كنت مولاه فعلي مولاه" يعني بذلك ولاء الإسلام وذلك قول الله ـ عز وجل ـ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 1. وأما قول عمر بن الخطاب لعلي: "أصبحت مولى كل مؤمن يقول: ولي كل مسلم"2. وقال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده لحجج الرافضة التي يدعون أنها تدل على إمامة علي رضي الله عنه مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا احتج بالأخبار وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قيل له: مقبول منك ونحن نقول وهذه فضيلة بينة لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ومعناه من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي والمؤمنون مواليه دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} 3. والولي والمولى في كلام العرب واحد والدليل عليه قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أي: لا ولي لهم وهم عبيده وهو مولاهم وإنما أراد لا ولي لهم ... وإنما هذه منقبة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" 4.

_ 1ـ سورة محمد آية/11. 2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182. 3ـ سورة التوبة آية/71. 4ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/217-218 والحديث في صحيح مسلم 1/86، سنن الترمذي 5/299.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى: "وأما حديث الموالاة فليس فيه إن صح إسناده نص على ولاية علي بعده فقد ذكرنا من طرقه في كتاب "الفضائل" ما دل على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته فقال: "من كنت وليه فعلي وليه" وفي بعض الروايات "من كنت مولاه فعلي مولاه" والمراد به ولاء الإسلام ومودته وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً ولا يعادي بعضهم بعضاً وهو معنى ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق1 وفي حديث بريدة "حين شكى علياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبغض علياً؟ فقلت: نعم فقال: "لا تبغضه وأحببه وازدد له حباً" قال بريدة: فما كان من الناس أحد أحب إلي من علي بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قولي أهل العلم في الحديث من حيث الصحة وعدمها: "ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام فإن قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغاً مبيناً وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة وذلك أن المولى كالولي والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 3 وقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 4 فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضاً: كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤه وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض

_ 1ـ صحيح مسلم 1/86. 2ـ الاعتقاد ص/181-182. 3ـ سورة المائدة آية/55. 4ـ سورة التحريم آية/4.

الوجه الثاني: أما الزيادة وهي قوله: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فلا ريب أنه كذب وقد نقل أحمد بن محمد بن هاني الأثرم قال قلت لأبي عبد الله حسين الأشقر تحدث عنه؟ قال: لم يكن عندي ممن يكذب في الحديث فقال له العباس بن عبد العظيم: حدّث في أبي بكر وعمر فقلت له يا أبا عبد الله صنف باباً فيه معايب أبي بكر وعمر فقال ما هذا بأهل أن يحدث عنه وذكر أنه حدثه بحديثين. أحدهما أنه قال: أن علياً قاله له إنك ستعرض على البراءة مني فلا تتبرأ مني فاستعظمه أبو عبد الله وأنكره. الثاني: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فأنكره أبو عبد الله جداً وكأنه لم يشك أن هذين كذب1. الوجه الثالث: زعمهم أن المراد بالمولى: "هو الأولى بالتصرف" غير صحيح وإنما المراد بالمولاة المضادة للمعاداة وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه وفي الحديث إثبات إيمان علي في الباطن والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً ويرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب لكن ليس فيه أنه ليس من المؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موال وهم صالحوا المؤمنين فعلي أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى وهم المؤمنون الذين يتولونه"2. وبهذه الوجوه المتقدمة يبطل استدلال الشيعة على خلافة علي بحديث الغدير الذي هو من عمدة أدلتهم على ذلك، بل إن "أخبار الغدير التي فيها الأمر باستخلاف علي غير صحيحية عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلاً"3.

_ 1ـ انظر كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249، منهاج السنة النبوية 4/85-86، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/467، تهذيب التهذيب 2/335-337. 2ـ منهاج السنة 4/86. 3ـ انظر روح المعاني للألوسي 6/193

الشبهة الخامسة: حديث الدار: لقد تداول الشيعة هذا الحديث فيما بينهم وتناقلوه في كتبهم وقبلوه وسلموا به سنداً ومتناً وجعلوه دليلاً على إثبات إمامة علي رضي الله عنه بل استنبط منه بعضهم بداية نشأة التشيع. فقد قال الزنجاني: "إن الدعوة إلى التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه وآله صارخاً بكلمة لا إله إلا الله في شعاب مكة وجبالها فإنه لما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وأنذرهم وقال: أيكم يؤازرني فيكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا" 2. وحديث الدار كما قال الحلي وهو "ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعاً من اللبن وكان الرجل يأكل الجذعة في مقعد واحد ويشرب الفرق3 من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ولم يتبين ما أكلوا فبهرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وتبين لهم آية نبوته فقال: "يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إليكم خاصة" فقال: وأنذر عشيرتك الأقربين "وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بها الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي

_ 1ـ سورة الشعراء آية/214. 2ـ عقائد الإمامية للزنجاني 1/271. 3ـ الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً وهي اثنى عشر مداً أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز "النهاية في غريب الحديث" 3/437.

وخليفتي من بعدي". فلم يجبه أحد منهم فقال أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر فقال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي: فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى فقال: "اجلس"، ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال: " اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميراً عليك" 1. قال الشيعي مهدي السماوي مشيداً بهذا الافتراء: "قد بلغ حداً من التواتر والشهرة لا تستطيع الأقلام إغفاله ولا الألسن أن تكم عن التحدث به لواسع شهرته وانتشاره من حيث السند، وأما مضمونه فأوضح من أن يحتاج إلى بيان في دلالته على إمامته ((ع)) وخلافة رسول الله ((ص)) ووراثته له سائر ما يورث الأنبياء فهو يثبت بوضوح كون الإمام وزير الرسول وأخاه ووصيه وخليفته من بعده"2. وحديث الدار هذا تناوله شيخ الإسلام ابن تيمية بالنقد والتفنيد وبين زيفه وبطلانه من وجوه عدة هي: الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل وما يدعونه من نقل الناس كافة من أبين الكذب عند أهل العلم بالحديث فإن هذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به وإذا كان يوجد في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/80، وأورده القمي في تفسيره 2/124، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 3/190-192، حق اليقين لعبد الله شبر 1/155، وانظر الصراط المستقيم إلى متسحقي التقديم 2/30. 2ـ الإمامة في ضوء الكتاب والسنة 1/136

والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف، وهذا الحديث غايتة أن يوجد في كتب التفسير التي فيها الغث والسمين فيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ولكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة والضعيفة ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال يذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد فذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات وترك سائرها ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من أفسد الحجج.... ـ وهذا الحديث ـ مناقض لما علم بالتواتر من أئمة التفسير الذين لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل. الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه ابن جرير1 والبغوي2 بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه3....، ورواه أيضاً ابن

_ 1ـ جامع البيان للطبري 19/121-122. 2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 5/105. 3ـ هو عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري، رافضي ليس بثقة قال علي بن المديني: كان يضع الحديث ويقال: كان من رؤوس الشيعة وقال يحيى بن معين: ليس بشيء وقال البخاري: عبد الغفار بن القاسم بن قيس بن فهد ليس بالقوي عندهم، وقال أحمد: كان أبو مريم يحدث ببلايا في عثمان، وقال أبو حاتم والنسائي وغيرهما: متروك الحديث، انظر ترجمته في" الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/53-54، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 5/1964-1965، منهاج السنة 4/81، ميزان الاعتدال للذهبي 2/640.

أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس وهو ليس بثقة1، ... وإسناد الثعلبي أضعف لأن فيه ما لا يعرف. الوجه الثالث: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلاً حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلاً في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن بني عبد المطلب لم يعقب منهم بالاتفاق إلا أربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس، وحمزة، وأبو طالب، وأبو لهب، فآمن اثنان وهما حمزة والعباس ونفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وأعان أعداءه وهو أبو لهب، وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين؛ طالب وعقيل وجعفر وعلي، وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته تنزل غداً في دارك بمكة قال: "وهل ترك لنا عقيل من دار"، وأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة ـ رجل وعلى سبيل الفرض أنهم كانوا رجالاً ـ فهم عبد الله وعبيد الله والفضل وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يكنى وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2وكان سنه في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وأما سائرهم فولدوا بعد، واما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان وربيعة وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة

_ 1ـ هو عبد الله بن عبد القدوس التميمي السعدي أبو محمد ويقال: أبو سعيد ويقال: أبو صالح قال يحيى بن معين: ليس بشيء رافضي خبيث: وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل 5/104، الكامل لابن عدي 4/1514، كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 2/279-280، منهاج السنة 4/81، تهذيب التهذيب 5/303-304. 2ـ سورة الشعراء آية/214.

الفتح، وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح، وكان له ثلاثة ذكور فأسلم منهم اثنان عتبة ومغيث وشهدا الطائف وحنيناً وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً1. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين فأين الأربعون. الوجه الرابع: أما دعواهم أن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن كذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل الجذعة ولا يشرب فرقا. الوجه الخامس: أن قوله للجماعة: من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين وأعانوه على هذا الأمر وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم وصبروا على الشتات بعد الألفة وعلى الذل بعد العز وعلى الفقر بعد الغنى وعلى الشدة بعد الرخا، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم خليفة له، وأيضاً فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلاً أمكن أن يجيبوه، أو أكثرهم أو عدد منهم فلو أجاب منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا بلا موجب أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة إلا بأمر سهل وهو الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه السادس: أن حمزة وجعفراً وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه

_ 1ـ انظر مجمع الزوائد للهيثمي 6/18-19، 9/217

علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلاً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب. الوجه السابع: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فخص وعم فقال "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها" 1. فإن قالوا ـ هذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل كالثعلبي والبغوي وأمثالهما والمغازلي ـ يقال لهم: ـ مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع وفيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب والثعلبي وأمثاله لا يتعمدون الكذب بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ويروون ما سمعوه وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث"2. وبهذه الوجوه تبين عدم صحة هذا الحديث الذي جعله الرافضة من أدلتهم.

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/501، صحيح مسلم 1/192 واللفظ له. 2ـ منهاج السنة النبوية 4/80-84، وانظر المنتقى للذهبي ص/465-466.

على أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه. الشبهة السادسة: خبر الطائر: مفاده أنهم يقولون روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وآله ـ أتي بطائر فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر" فجاء علي ـ عليه السلام ـ فدق الباب فقال أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فرجع، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله كما قال أولاً فدق علي ـ عليه السلام ـ الباب قال أنس: أولم أقل لك إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على حاجة؟ فانصرف فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما قال في الأولين فسمعه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قال له أنس إنه على حاجة فأذن له في الدخول فقال: "يا علي ما أبطأك عني؟ " قال: جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس ثم جئت الثالثة فردني فقال: "يا أنس ما حملك على هذا" فقال: رجوت أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار فقال: "يا أنس أوفي الأنصار خير من علي ـ عليه السلام ـ؟ أوفي الأنصار أفضل من علي ـ عليه السلام ـ؟ ـ" وإذا كان أحب الخلق إلى الله تعالى وجب أن يكون الإمام"1. ويرد على هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ودعواهم أن كافة الجمهور رووه محض افتراء عليه فإن حديث الطير هذا لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعضهم2 كما رووا أمثاله

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/99، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس 1/71-73. 2ـ رواه الترمذي في سننه 5/300 وقال عقبه: هذا حديث غريب لا نعرفه عن حديث السدي إلا من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/130-131.

في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا. الوجه الثاني: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيئ أحب الخلق إلى الله ليأكل منه فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله. الوجه الثالث: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فإنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن علياً أحب الخلق إلى الله وأنه جعله خليفة من بعده وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله. الوجه الرابع أن يقال لهم إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن علياً أحب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك كان يمكنه أن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك ولو سمي علي لاستراح أنس من الرجاء الباطل ولم يغلق الباب في وجه علي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم إن في لفظه أحب الخلق إليك وإليّ فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه. الوجه الخامس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم فقد جاء في الصحيحين1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر" وهذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث أنه قد أخرج في الصحاح من وجوه متعددة

_ 1ـ صحيح البخاري 2/229، صحيح مسلم 4/1855

وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر فإن الخلة هي كمال الحب وهذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة ولم يصلح لها إلا أبو بكر علم أنه أحب الناس إليه وقوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس أحب إليك قال عائشة قيل: من الرجال قال: أبوها" 1. وقول الصحابة أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار ولا ينكر ذلك منكر وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى فهو أحبهم إلى رسوله وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم وأكرمهم وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة وإنما كان أتقاهم لأن الله تعالى قال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2. وأئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر"3. الوجه السادس: أن حديث الطير موضوع وممن صرح بوضعه ابن طاهر فقد قال: حديث الطائر موضوع إنما يجيء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره"4. وقد صرح العلامة ابن الجوزي بعدم صحته فقد أورده في كتابه "العلل المتناهية" عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق واحد وقال: هذا حديث لا يصح، وأورده أيضاً عن أنس من ستة عشر طريقاً وبين علة كل طريق

_ 1ـ تقدم تخريجه. 2ـ سورة الليل آية/17-21. 3ـ منهاج السنة النبوية 4/99-100 وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472، وانظر في شأن تفسير قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} وما بعدها فإن المفسرين أطبقوا على أن المقصود بها هو أبو بكر رضي الله عنه. انظر جامع البيان للطبري 30/228، زاد المسير لابن الجوزي 9/152، تفسير البغوي على حاشية الخازن 7/213، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/310، الدر المنثور للسيوطي 8/538. 4ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/233-234.

ثم قال في الآخر وقد ذكره ابن مردوية من نحو عشرين طريقاً كلها مظلم وفيها مطعن، فلم أر الإطالة بذلك وقال أنبأنا محمد بن ناصر قال أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال: كل طرقه باطلة معلولة"1. فإن اعترض معترض وقال: إن الحاكم قد أخرجه في مستدركه على الصحيحين وقال: إنه على شرطهما ولم يخرجاه"2. يرد على هذا الحديث بأن حكم الحاكم على هذا الحديث بهذا الحكم لم يسلم له به فقد تعقبه الحافظ الذهبي بقوله: "ولقد كنت زمانا طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء"3. وذكر أيضاً أن الحاكم سئل عن حديث الطير فقال: لا يصح ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. وبهذه الوجوه المتقدمة يتضح أن حديث الطير غير صحيح وأنه حديث موضوع ولا حجة للرافضة فيه على ما يدعون. الشبهة السابعة: حديث التسليم على علي بإمرة المؤمنين زعمت الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وجعلوا هذا دليلاً على إمامته. وهذا الحديث ذكره الحلي فقال: "ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة بأن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وقال بأنه سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقال هذا ولي كل مؤمن بعدي وقال في حقه إن علياً مني وأنا منه أولى بكل مؤمن ومؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك وهذه نصوص في الباب"5.

_ 1ـ المصدر السابق 1/225-233. 2ـ المستدرك 3/131. 3ـ المستدرك 3/131. 4ـ تذكرة الحفاظ 3/1042، وانظر المنتقى ص/472، وانظر طبقات الشافعية للسبكي 4/168-169. 5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/102-103.

والرد على هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أنهم يطالبون بإسناد هذا الحديث وبيان صحته وأما قوله: رواه الجمهور فهذا من الكذب المحض عليهم حيث إنه غير موجود في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح ولا المسانيد ولا السنن وغيرها وإن كان وجد في بعض الكتب التي يروى فيها الصحيح والضعيف والموضوع فليس ذلك بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين والرب ـ جل وعلا ـ قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 1. الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه. الوجه الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال هذا كاذب والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الكذب وذلك أن سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين. فإن قيل علي هو سيدهم بعده، قيل: ليس في الحديث ما يدل على هذا بل هو مناقض لهذا لأن أفضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول ولم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولا إمام ولا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء لم يحضر ويترك الخبر عما هو أحوج إليه وهو حكمهم في الحال ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يقود علي؟. وأيضاً فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وددت أني قد رأيت إخواني قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله قال: "أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال: "أرأيتم

_ 1ـ صحيح البخاري 1/31 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

لو أن رجلاً له خيل غير محجلة بين ظهري خيل دهم1 بهم2 ألا يعرف خيله قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض" 3الحديث، فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجه ويديه ورجليه فإنه من الغر المحجلين وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر وعمر، والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها ولا يكونون من المحجلين في الأرجل وحينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم ولا يقادون مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون في ظهر القدم وإنما الحجلة تكون في الرجل كالحجلة في اليد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" 4. ومعلوم أن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلاً، وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان. الوجه الرابع: زعمهم أن علياً رضي الله عنه سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم بالاضطرار أنه كذب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيناً ظاهراً عرفه الخاصة والعامة حتى إن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان وكان حينئذ أمير المشركين: أفي القوم محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك"5.الحديث. فهذا مقدم

_ 1ـ دهم: أي عددها كثير. انظر النهاية في غريب الحديث 2/145. 2ـ بهم: البهيم من الخيل الذي لا شية فيه تخالف معظم لونه. النهاية 1/168. 3ـ صحيح مسلم 1/218. 4ـ صحيح البخاري 1/21، صحيح مسلم 1/214. 5ـ صحيح البخاري 3/20.

الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لعلمه وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم ودل ذلك على أنه كان ظاهراً عند الكفار أن هذين وزيراه وبهما تمام أمره وأنهما أخص الناس به وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما وهذا أمر كان معلوماً للكفار فضلاً عن المسلمين والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا"1. الوجه الخامس: أما قوله: "هو ولي كل مؤمن بعدي" هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن وكل مؤمن وليه في المحيا والممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان فأما الولاية التي هي الإمارة فإنما يقال فيها والي كل مؤمن"2 وبهذه الوجوه ظهر بطلان هذه الشبهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت وحسبنا من حججهم التي يدعون أنها أدلة مسندة إلى السنة ما تقدم وقد اتضح أنها أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت عنه وما صح عنه منها فإنما يدل على فضل علي رضي الله عنه لا على أنه أفضل الصحابة ولا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح عن علي وغيره نصوص عدة كلها تبين بطلان اعتقاد الشيعة في الإمامة جملة وتفصيلاً من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص له بالإمامة وأنه لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس وتلك النصوص هي: 1- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا إني لأعرف وجوه

_ 1ـ منهاج السنة 4/103-104، المنتقى للذهبي ص/473-475. 2ـ المنتقى من منهاج الاعتدال ص/475.

بني عبد المطلب عند الموت اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. فهذا نص صريح من علي رضي الله عنه في أنه لا نص عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة ولو كان هناك نص كما تزعمه الرافضة لقال للعباس: لماذا نذهب إليه ونسأله وقد نص عليّ وأوصى لي بالخلافة، ولما اعتدى عليه الخبيث الخارجي عبد الرحمن بن ملجم ظلماً وعدواناً وضربه ضربة أودت به إلى الموت قيل له: ألا تستخلف فكان رده على هذا العرض أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً عند وفاته حتى يتأسى به. 2- فقد روى أبو بكر البيهقي بإسناده إلى شقيق بن سلمة قال قيل لعلي بن أبي طالب: ألا تستخلف علينا فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"2. فهذا دليل واضح من أن دعوى النص عليه إنما هو من اختلاق الرافضة الذين ملئت قلوبهم بالبغض والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي وأهل بيته إنما يدعون حبهم تستراً ليتسنى لهم الكيد للإسلام وأهله. 3- وروى أيضاً بإسناده إلى عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/141. 2ـ الاعتقاد ص/184، وأورده الحافظ ابن كثير في البداية وعزاه إلى البيهقي بهذا اللفظ عن أبي وائل وقال عقبه: إسناد جيد ولم يخرجوه: البداية والنهاية 5/282.

ثم قال: إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله أو قال حتى ضرب الدين بجرانه ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أموراً يقضي الله فيها"1. 4- وروى الشيخان في صحيحيهما عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذا الصحيفة قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه2 فقد كذب، فيها أسنان الإبل3 وأشياء من الجراحات وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور4 فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وذمة المسلمين واحدة5 يسعى بها أدناهم6 ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" 7. فهذا الحديث الثابت في الصحيحين وفي غيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه حاشا ـ وكلا ـ ولما؟ ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم غير ذلك فقد نسبهم بأجمعهم

_ 1ـ الاعتقاد ص/184، ورواه الإمام أحمد بلفظ مقارب انظر المسند مع الفتح الرباني 23/4-5 وأورده بهذا اللفظ المباركفوري في تحفة الأحوذي 6/478 وقال: أخرجه أحمد ولبيهقي في دلائل النبوة بسند حسن. 2ـ القراب: هو الغلاف الذي يجعل فيه السيف بغمده. 3ـ أي: في تلك الصحيفة بيان أسنان الإبل التي تعطي دية. 4ـ هو جبل صغير واء أحد. 5ـ المراد بالذمة هنا الأمان، ومعناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنة أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم. 6ـ أي: يتولاها ويلي أمرها أدنى المسلمين مرتبة. 7ـ صحيح البخاري 1/321، صحيح مسلم 2/994-998 واللفظ له.

إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول ومضادتهم في حكمه ونصه ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام"1. قال الإمام النووي بعد ذكر قول علي رضي الله عنه: "من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً أوصى إليه النبي بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليهم غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا"2. 5- روى البخاري بإسناده إلى الأسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً فقالت: متى أوصي إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث3 في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه4. فقوله: "ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً": قال القرطبي كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك وكذا من جاء بعدهم فمن ذلك ما استدلت به عائشة، ومن ذلك أن علياً لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم السقيفة وهؤلاء ـ الشيعة ـ تنقصوا علياً من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه ـ مع شجاعته العظمى

_ 1ـ البداية والنهاية 5/283-284. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/143. 3ـ أي: انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت النهاية لابن الأثير 2/82. 4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356.

وصلابته في الدين ـ إلى المداهنة والتقية والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك وقال غيره الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها ولم يقع منه شيء من ذلك فساغ لها نفي ذلك لكونه منحصراً في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها"1. 6- وروى البخاري بإسناده إلى طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا فقلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمروا بالوصية؟ قال أوصى بكتاب الله"2. والوصية المنفية في قول عبد الله بن أبي أوفى إنما هي الوصية في الخلافة فقد توفي عليه الصلاة والسلام عن غير وصية في شأن الخلافة وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث اشتملت على وصيته بأشياء كثيرة أما الذي لم يوص به قطعاً هو الخلافة فإنه لم يوص بها لأحد من بعده3. 7- فقد روى الشيخان من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال ابن عمر فعرفت حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف"4. فهذه النصوص القطعية تبين بطلان زعم الشيعة من دعوى النص على علي رضي الله عنه في الخلافة ـ وأن علياً رضي الله عنه براء مما نسبه إليه الشيعة من أنه الخليفة المنصوص عليه بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعواهم النص عليه إنما يتضمن الطعن فيه رضي الله

_ 1ـ فتح الباري 5/361-362. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356. 3ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/253-257، فتح الباري 5/362. 4ـ صحيح البخاري 2/248، صحيح مسلم 3/1454-1455.

عنه لأنه لو كان معه نص فلما لا يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن والخائن معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل"1. وحاشاه رضي الله عنه من هذه الصفات كلها وحاشا الإمام الأكبر والصديق الأعظم أن يتقدم على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي شهد الله له بأنه أتقى الأمة وأبرها على الإطلاق. 8- قال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرم أنفه بخرامة"2. فكل هذه النصوص التي ختمنا بها هذا المبحث المروية عن علي رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة دلت دلالة قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص ولم يعهد بالخلافة من بعده لأحد لا لأبي بكر ولا لعلي رضي الله عنهما وإنما أشار إشارة قوية يفهما كل ذي لب وعقل إلى الصديق رضي الله عنه وأخبر أن المؤمنين لن يختاروا سواه ووقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام. كما توضح هذه النصوص لكل من له أدنى معرفة أن النصوص التي يستدل بها الشيعة الرافضة على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بالنص بعد النبي صلى الله عليه وسلم موضوعة وأنها من اختراعاتهم الباطلبة وأن عقيدتهم في الإمامة مبنية على الأحاديث الموضوعة التي اختلقها الزنادقة الملحدون وأن قصدهم منها هو إفساد دين الإسلام فعلى من افتراها من الله ما يستحق وحسبه ما وعده به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 3.

_ 1ـ انظر البداية والنهاية 5/284. 2ـ أورده ابن كثير في البداية والنهاية 5/283. 3ـ صحيح البخاري 1/31 حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم أيضاً في صحيحه 1/10.

الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه

الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما ... المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما إن طريقة تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة بعد الصديق الأعظم رضي الله عنه كانت باستخلاف أبي بكر إياه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مرض قبل وفاته خمسة عشر يوماً ولما أحس بدنو أجله رضي الله عنه عهد في أثناء هذا المرض بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا، ولم يعهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة لعمر رضي الله عنه إلا بعد أن استشار نفراً من فضلاء الصحابة فيه مع أن عمر رضي الله عنه هو المعروف بصلابته في الدين، وأمانته وشدته على المنافقين إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي اتصف بها في ذات الله ـ عز وجل ـ ولكن الصديق رضي الله عنه فعل هذا مبالغة في النصح للأمة المحمدية وقد ذكر أهل السير والتواريخ صيغة عهد الصديق بالخلافة للفاروق رضي الله عنه فقد روى ابن سعد وغيره: أن أبا بكر الصديق لما استعز1 به دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال: عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدوتك وشاور معهما

_ 1ـ استعز به: أي: اشتد به المرض وأشرف على الموت ... يقال: عز يعز ـ بالفتح ـ إذا اشتد، واستعز به المرض وغيره، واستعز عليه إذا اشتد عليه وغلبه النهاية في غريب الحديث والأثر 3/228.

سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن الخضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يسر خير من الذي يعلن، ولم يل هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذ سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فقال: أبا لله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله، ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم قال بعضهم لما أملى أبو بكر صدر هذه الكتاب: بقي ذكر عمر فذهب به قبل أن يسمي أحداً فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك يختلف الناس فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً، ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به قال ابن سعد: علي القائل وهو عمر، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا، ثم دعا أبو بكر عمر خالياً فأوصاه بما أوصاه به ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مداً فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم

الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلح لهم وإليهم واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده وأصلح له رعيته"1. وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن بن أبي الحسن قال: لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي فقاموا في ذلك وخلوا عليه فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيك قال: فلعلكم تختلفون قالوا: لا قال: فعليكم عهد الله على الرضى قالوا: نعم. قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فأرسل أبو بكر إلى عثمان بن عفان فقال: أشر علي برجل ووالله إنك عندي لها لأهل وموضع فقال: عمر فقال: اكتب فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه ثم أفاق، فقال: اكتب عمر2 "ومن هذا السياق تبين واتضح أن تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة كانت بعهد من الصديق رضي الله عنه ولقد صدقت فراسة أبي بكر في عمر حين اجتهد في العهد بالخلافة من بعده له رضي الله عنه فلقد قام بالخلافة أتم القيام حيث كان إماماً ناصحاً لله ولرسوله ولدين الإسلام حيث كثرت في خلافته الفتوح واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ونعمت الأمة الإسلامية بعدله رضي الله عنه ولحسن اختيار الصديق رضي الله عنه في أن يكون الفاروق هو الخليفة من بعده اعتبر من أشد الناس فراسة بسبب

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/199-200، تاريخ الأمم والملوك للطبري 3/428-429، كتاب الثقات لابن حبان 2/190-191، تاريخ عمر لأبي الفرج بن الجوزي ص/66-67، الكامل في التاريخ 2/425-426. 2ـ تاريخ عمر لابن الجوزي ص/66-67.

ذلك فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه، والمرأة التي رأت موسى عليه السلام فقالت: لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما قال الحاكم: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم. بهذا الإسناد صحيح"1.

_ 1ـ المستدرك للحاكم 3/90، وصححه الذهبي.ورواه أبو بكر الخلال في كتاب السنة ص/277-278.

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه إن حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه مما لا يشك فيها مسلم لما هو معلوم عند كل ذي عقل وفهم أنه يلزم من حقية خلافة أبي بكر حقية خلافة عمر وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب أن نصوص الكتاب والسنة والإجماع كلها دلت على حقية خلافة أبي بكر، وما دل على حقية خلافة الصديق رضي الله عنه دل على حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه لأن الفرع يثبت له من حيث كونه فرعاً ما ثبت للأصل فحينئذ لا مطمع لأحد من الشيعة الرافضة في النزاع في حقية خلافة عمر لما قدمناه من الأدلة الواضحة القطعية على حقية خلافة مستخلفه، ولما سنذكره هنا من بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإذا ثبت حقية خلافة الصديق رضي الله عنه قطعاً صار النزاع في حقية خلافة الفاروق عناداً وجهلاً وغباوة وإنكاراً لما هو معلوم في الدين بالضرورة ومن اعتقد عدم حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه كالشيعة الرافضة إنما يعد من الجهلة الحمقى حقيق أن يعرض عنه وعن أكاذيبه وأباطيله، ولا يلتفت إليه ولا يعول في شيء من الأمور عليه، فخلافة الفاروق رضي الله عنه حق بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد وردت الإشارة إلى حقية خلافته في طائفة من النصوص القطعية الصحيحة منها:- 1- في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله ـ تعالى ـ قال مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في

الأعراب: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 1 وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك2 التي تخلف فيها الثلاثة المعذرون الذين تاب الله عليهم ـ في سورة براءة ولم يغز ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وقال تعالى أيضاً: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك لهذا، ثم عطف ـ سبحانه وتعالى ـ عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3 فأخبر ـ تعالى ـ أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم. قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك4 فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم"5.

_ 1ـ سورة التوبة آية/83. 2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/119-122. 3ـ سورة الفتح آية/ 16-17. 4ـ انظر الاعتقاد للبيهقي ص/173. 5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/109-110.

2- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن" 1. هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار صحبته فقد كان عليه الصلاة والسلام هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2. ولما التحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ذنوباً أو ذنوبين" ـ وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى3 وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم واتساع رقعة الإسلام ولما توفي الصديق رضي الله عنه خلفه عمر رضي الله عنه فانتشر الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1860-1862. 2ـ سورة المائدة آية/3. 3ـ انظر صحيح مسلم 4/1861.

3- روى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه" 1. دل هذا الحديث دلالة صريحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين" بفتح الذال ـ أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره صلى الله عليه وسلم بطاعتهما يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين"2. 4- روى الشيخان في صحيحيهما بإسناديهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم" 3. ففي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه "والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسية إلى أبي بكر ـ وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن

_ 1ـ المسند 5/385، 402، سنن الترمذي 5/271، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار 2/83-84، ابن سعد في الطبقات 2/334، وروا أبو نعيم في الحلية 9/109، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/20، الحاكم في المستدرك 2/75 وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/233-236. 2ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56. 3ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1859-1860.

مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها ـ مع طول مدته ـ الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله ـ واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً"1. فالحديث فيه إشارة واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه. 4- روى أبو داود وغيره من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم جميعاً كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله له في الحديث: "فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" "وذلك لما علم صلى الله عليه وسلم من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر"3. 6- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف4 السمن والعسل، فأرى الناس...........................

_ 1ـ فتح الباري 7/46. 2ـ سنن أبي داود 2/512، ورواه أحمد في المسند 5/44، ورواه الترمذي في سننه 3/369. 3ـ انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/387. 4ـ أي: تقطر: النهاية في غريب الحديث 5/75.

يتكففون1 منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلاً به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء في الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال لا تقسم" 2. تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية عمر رضي الله عنه وأرضاه. ووجه ذلك أن قوله في الحديث: "ثم أخذ به رجل آخر فعلا به" هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ثم أخذ به رجل آخر فانقطع إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه. 7- روى أبو داود بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحدث أن ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط 3 برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم"4. دل هذا الحديث بالإشارة الواضحة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإلى حقية

_ 1ـ أي: يأخذون منها بأكفهم انظر: النهاية في غريب الحديث 4/190. 2ـ صحيح البخاري 4/219، صحيح مسلم 4/1777-1778. 3ـ أي: علق انظر النهاية في غريب الحديث 5/141. 4ـ سنن أبي داود 2/513.

11- وروى الشيخان في صحيحيهما عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه1 الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما2. 12- ومما دلَّ على حقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه. فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: "اللهم أمرت عليهم خير أهلك"3. وأما قول علي رضي الله عنه فيه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"4. فهذه الأحاديث التي أوردناها في هذا المبحث كلها فيها الدلالة الواضحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه. قال السفاريني رحمه الله تعالى: "اعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر

_ 1ـ أي: أحاطوا به. 2ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1858-1859. 3ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276، وانظر الطبقات لابن سعد 3/274. 4ـ صحيح البخاري 2/291.

رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على حقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من حقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فرق الضلال في الطعن والنزاع في حقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية"1.

_ 1ـ لوامع الأنوار البهية 2/326.

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه ... خلافتهم رضي الله عنهم وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا ولذلك عبروا تنوط بعضهم ببعض بولاية الأمر بعده عليه الصلاة والسلام. 8- روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: "إلى أبي بكر" فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: "إلى عمر" فأتيتهم فأخبرتهم.. الحديث1. اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه. 9- روى البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة"2 وهذا أيضاً: من الآثار التي إشارتها واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه. 10- وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: وسمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"3. يعني وقفت على أبي عبيدة وهذا الحديث من أدلة أهل السنة والجماعة على تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة"4.

_ 1ـ المستدرك 3/77 وقال عقبة: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2ـ مجمع الزوائد 5/177 وقال عقبه: "رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح. 3ـ صحيح مسلم 4/1856. 4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/154.

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه إن خلافة الفاروق رضي الله عنه لم يختلف فيها اثنان فإنه لما عهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة من بعده لعمر رضي الله عنه أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبول ذلك العهد ولم يعارض في ذلك منهم أحد بل أقروا بذلك وسمعوا له وأطاعوا وكذلك التابعون لهم بإحسان من أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة خلافة الفاروق رضي الله عنه واعتقدوا اعتقاداً جازماً أنه رضي الله عنه أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه. وقد نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذين يعتمد عليهم في النقل. فقد تقدم معنا قريباً ما رواه ابن سعد وغيره في صيغة عهد الصديق بالخلافة لعمر رضي الله عنه وفيه أن الصديق رضي الله عنه أمر عثمان أن يخرج بالكتاب "مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا قال ابن سعد: علي القائل: وهو عمر فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا"1. وروى ابن الأثير بإسناده إلى يسار المدني قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: يا أيها الناس إني قد عهدت عهداً أفترضون به؟ فقال الناس: قد رضينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/199، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276 الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/425

عمر بن الخطاب"1. فكان ما توقعوه لأنهم كانوا رضي الله عنهم يعلمون أنه لا أحد أفضل من عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر ولذلك أقروا جميعاً بعهد الصديق ورضوا به، ثم بايعوه. وروى ابن جرير بإسناده إلى أبي السفر سعيد بن محمد قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنيفة2 وأسماء بنت عميس ممسكته وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: سمعنا وأطعنا"3. وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع"4. وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى مبيناً الإجماع على خلافة الفاروق رضي الله عنه: لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه في أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله ـ تعالى ـ أن يعدل هذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من أمر شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه

_ 1ـ أسد الغابة 4/169، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/428. 2ـ قال ابن الأثير: وفي حديث أبي بكر حين استخلف عمر أنه أشرف من كنيف فكلمهم أي: من سترة وكل ما ستر من بناء أو حظيرة فهو كنيف "النهاية في غريب الحديث" 4/205. 3ـ تاريخ الأمم والملوك 3/428. 4ـ الاعتقاد ص/188.

ما عرفه ولا يشكل عليهم شيء من أمره فوض إليه ذلك فرضي المسلمون له ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنه فيما فرض الله عليه الاجتماع وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق، وإنما كان كالدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به"1. وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى بعد ذكره خلافة الصديق باختيار الصحابة وإجماعهم عليه قال: "ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله ـ سبحانه ـ بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده"2. وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة لعمر حيث قال: "أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم"4. وقال شارح الطحاوية: "ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه"5. وقال أبو حامد محمد المقدسي بعد ذكره لطائفة من الأدلة على ثبوت خلافة

_ 1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/274. 2ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/206. 4ـ منهاج السنة 1/142. 5ـ شرح الطحاوية ص/539.

أبي بكر: "وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلاف عمر رضي الله عنه بما ذكرناه، وبإجماع المسلمين عليها"1. وقال الملا علي القاري ذاكراً للإجماع على فضل عمر وحقية خلافته فقال: "وقد أجمعوا على فضيلته وحقية خلافته"2. ومن هذه النقول التي تقدم ذكرها تبين أن خلافة عمر رضي الله عنه تمت بإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تلقوا عهد أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم ولم يعارض في ذلك أحد وكذا أجمعت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفهم إلا من لا يعتد بخلافه ممن ابتلي ببغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشيعة الرافضة ومن جرى في ركابهم ممن فتن بهم فإن اعترض معترض على إجماع الصحابة المتقدم ذكره بما رواه ابن سعد وغيره من أن بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن بن عوف وعثمان على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا؟ وقد نرى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبا لله تخوفني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك"3 والجواب عن هذا أن هذا الإنكار الصادر إن صح من هذا القائل ليس عن جهالة لتفضيل عمر بعد أبي بكر واستحقاقه للخلافة، وإنما كان خوفاً من خشونته وغلظته لا اتهاماً له في قوته وأمانته"4. فالذي يجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن أحق

_ 1ـ الرد على الرافضة ص/283-284. 2ـ شرح الفقه الأكبر ص/98. 3ـ الطبقات الكبرى 3/199، الكامل في التاريخ 2/425، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276. 4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/276.

خلق الله تعالى بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه وإجماع المسلمين كافة على صحة خلافته وحقيتها.

الفصل الثالث: خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه

الفصل الثالث: خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه المبحث الأول: كيفية تولية الخلافة ... المبحث الأول: كيفية توليه الخلافة رضي الله عنه لما طعن عمر رضي الله عنه لم يستخلف أحداً بعينه ليكون الخليفة على المسلمين من بعده بل أوصى أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين وقال: لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً1، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ولما مات الفاروق رضي الله عنه ودفنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه اجتمع النفر الذين جعل عمر الأمر فيهم شورى للتشاور فيمن يلي الخلافة بعد عمر رضي الله عنه ففوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة حيث فوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه؟

_ 1ـ في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن الصحابة قالوا له: استخلف فقال: أتحمل أمركم حياً وميتاً لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي فإن أستخلف فقد أستخلف من هو خير مني "يعني أبا بكر" وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف "صحيح مسلم" 3/1454.

والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فسكت علي وعثمان رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله علي والإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق فقالا: نعم ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن فقال كل واحد منهما: نعم ثم تفرقوا1. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث طويل عن عمرو بن ميمون فيه تفاصيل حادثة استشهاد عمر رضي الله عنه وعدد الذين طعنوا معه، ووصية عمر لابنه عبد الله أن يحسب ما عليه من الدين وكيف يقضيه، وطلبه رضي الله عنه الاستئذان من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فأذنت في ذلك رضي الله عنها بطيب نفس كما اشتمل هذا الحديث على الكيفية التي بويع بها لعثمان والاتفاق عليه ومما جاء فيه بشأن خلافة عثمان رضي الله عنه أنهم "قالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذلك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز لا خيانة ـ إلى أن قال ـ لما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فاسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من

_ 1ـ انظر البداية والنهاية لابن كثير 7/158-159.

رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه"1. وروى أيضاً: بإسناده إلى الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع2 من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعداً فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي علياً فدعوته فناجاه حتى ابهار3 الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده،

_ 1ـ صحيح البخاري 2/297-299. 2ـ قال ابن الأثير: الهجع والهجعة، والهجيع: طائفة من الليل، والهجوع: النوم ليلاً، النهاية في غريب الحديث 5/247. 3ـ أي: انتصف الليل وبهرة كل شيء وسطه انظر الفائق في غريب الحديث 4/94، النهاية في غريب الحديث والأثر1/165.

فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون"1. ففي هذين الحديثين بيان أن عمر رضي الله عنه لم يعهد بالخلافة من بعده إلى واحد بعينه وإنما جعلها شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد التمس بعض أهل العلم وجه الحكمة من جعل عمر الأمر شورى بين الستة دون أن يعين واحداً. فقد قال ابن بطال: "إن عمر سلك في هذا الأمر مسلكاً متوسطاً خشية الفتنة فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين فجعل الأمر معقوداً على الستة لئلا يترك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفاً وهو ترك التعيين، ومن فعل أبي بكر طرفاً وهو العقد لأحد الستة وإن لم ينص عليه"أ. هـ2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر ورأى أنه إن عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه فترك التعيين خوفاً من الله ـ تعالى ـ وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير، والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه إن ولّي واحداً من الستة فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله على ذلك طباع بني آدم، وإن كانوا من أولياء الله المتقين، وذكر في

_ 1ـ صحيح البخاري 4/245-246. 2ـ فتح الباري 13/207.

كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة، وأقلها مفسدة، وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمراً يكون فيه ما ذكر، ورأى أنهم إذا بايعوا واحداً منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أنه في الحياة يتولى أمر المسلمين فيجب عليه أن يولي عليهم أصلح من يمكنه، وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معيناً إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابة العهد الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر وأيضاً: فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجباً ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له: أرأيت لو أنك استرعيت1 فقال: إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض"أ. هـ2. ومما تقدم تبين لنا الكيفية التي تولى بها ذو النورين عثمان رضي الله عنه الخلافة وأنها تمت باختيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له قاطبة فهو أحق الناس على الإطلاق بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه.

_ 1ـ في صحيح مسلم 4/1405 قال عبد الله بن عمر مخاطباً لأبيه: "إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك زعموا أنك غير متسخلف وإنه لو كان لك راعي إبل وراعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع فرعاية الناس أشد قال فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف.. الحديث. 2ـ منهاج السنة 3/164.

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه لا يشك مؤمن في حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وصحتها وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب في قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة رضي الله عنهم وبغضهم ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة رضي الله عنهم لظهور بطلانه وأنها افتراءات لا تصح، وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه ومن ذلك:- 1- قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 1 الآية وجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض ومكن لهم فيها وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى حقية خلافته رضي الله عنه. 2- قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} 2.

_ 1ـ سورة النور آية/55. 2ـ سورة الفتح آية/16.

ووجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فأبو بكر دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود، وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم1 رضي الله عنهم وأرضاهم. 3- روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا هو عثمان بن عفان" 2 هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإخبار عن بلوى تصيب عثمان وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه وهي حصاره يوم الدار حتى قتل آنذاك مظلوماً فالحديث علم من أعلام النبوة وفيه الإشارة إلى كونه شيهداً رضي الله عنه وأرضاه. 4- وروى أبو داود بإسناده إلى أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. تضمن هذا الحديث الإشارة إلى ترتيب الخلفاء الثلاثة في الفضل كما تضمن

_ 1ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/109-110. 2ـ صحيح البخاري 2/296، صحيح مسلم 4/1867. 3ـ سنن أبي داود 2/512.

الإشارة إلى أن ترتيبهم في الخلافة يكون على حسب ترتيبهم في الفضل وإلى حقية خلافتهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم. 5- وروى أبو داود رحمه الله بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر" قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم"1. هذا الحديث علم من أعلام النبوة الدالة على صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث حصل في شأن ترتيب الخلافة الراشدة طبقاً لهذه الرؤيا كما اشتمل على التنبيه على حقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم "وفيه إشارة واضحة إلى ترتيب الخلافة الراشدة بعده صلى الله عليه وسلم وقد فهم هذا راوي الحديث وكان كما قال"2. 6- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل السمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو

_ 1ـ سنن أبي داود 2/513. 2ـ الدين الخالص 3/445.

به، ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال: "لا تقسم"1. تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه، فقوله في الحديث: "ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلوا به" هو عثمان رضي الله عنه لكن قوله: "ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلو به" فيه إشكال من حيث كونه يوصل له بعد انقطاعه مع العلم ان خلافة عثمان رضي الله عنه لم يحصل فيها انقطاع ولم تنقطع إلا بموته رضي الله عنه وأرضاه. وقد ذكر العلامة ابن القيم وجه الإشكال في شرحه الحديث على سنن أبي داود مع بيان إزالته حيث قال رحمه الله تعالى: "وهذا يشكل عليه شيئآن: أحدهما: أن في نفس الرؤيا "ثم وصل له، فعلا به" فتفسير الصديق لذلك مطابق لنفس الرؤيا. والثاني: أن قتل عثمان رضي الله عنه لا يمنع أن يوصل له، بدليل أن عمر قد قتل ومع هذا فأخذ به وعلا به، ولم يكن قتله مانعاً من علوه به. أما الأول: فلفظه: "ثم وصل له" لم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه " ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل" فقط وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري: "فينقطع به ثم يوصل له" فهذا موضع الغلط، وهذا مما يبين فضل صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة "له" وإنما انفرد بها مسلم، وأما الثاني: فيجاب عنه: بأن عمر رضي الله عنه لم ينقطع به السبب من حيث علا به، وإنما انقطع به بالأجل المحتوم، كما ينقطع الأجل بالسم وغيره، وأما عثمان فانقطع

_ 1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1860-1862، سنن أبي داود 2/511-512.

به من حيث وصل له من الجهة التي علا بها وهي الخلافة، فإنه إنما أريد منه أن يخلع نفسه، وإنما قتلوه لعدم إجابتهم إلى خلع نفسه، فخلعوه هم بالقتل ظلماً وعدواناً، فانقطع به من الجهة التي أخذ به منها ثم وصل لغيره رضي الله عنه وهذا سر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن تعيين موضع خطأ الصديق فإن قيل: لم تكلفتم أنتم بيانه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الصديق من تعرفه، والسؤال عنه؟ قيل: منعه من هذا: ما ذكرناه من تعلق ذلك بأمر الخلافة، وما يحصل للرابع من المحنة، وانقطاع السبب به فأما وقد حدث ذلك ووقع فالكلام فيه كالكلام إلى غيره من الوقائع التي يحذر الكلام فيها قبل وقوعها سداً للذريعة، ودرءا للمفسدة فإذا وقعت زال المعنى الذي سكت عنها لأجله"أ. هـ1 فالحديث فيه إشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه. 7- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة واختلاف أو اختلاف وفتنة قال قلنا يا رسول الله: فما تأمرنا قال: عليكم بالأمير وأصحابه وأشار إلى عثمان" 2. وهذا الحديث أيضاً: فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر تضمن الحديث التنبيه على حقية خلافة عثمان إذ أنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف أمير المؤمنين ومقدمهم وأمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمراً على الهدى لا ينفك عنه. 8- فقد روى الترمذي بإسناده إلى أبي الأشعث الصنعاني أن خطباء قامت

_ 1ـ شرح ابن القيم على سنن أبي داود على حاشية عون المعبود 13/383-386. 2ـ المستدرك 3/99 ثم قال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقام آخرهم رجل يقال له: مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت وذكر الفتن فقربها فمر رجل مقنع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه إذا هو عثمان بن عفان فأقبلت عليه بوجهه فقلت هذا؟ قال نعم"1. 9- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى جبير بن نفير قال: كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه فقام كعب بن مرة البهزي فقال: لولا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت هذا المقام فلما سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس الناس فقال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر عثمان عليه مرجلاً قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتخرجن فتنة من تحت قدمي أو من بين رجلي هذا، هذا يومئذ ومن اتبعه على الهدى" قال: فقام ابن حوالة الأزدي من عند المنبر فقال: إنك لصاحب هذا قال: نعم قال: والله إني لحاضر ذلك المجلس ولو علمت أن لي في الجيش مصدقاً كنت أول من تكلم به"2. 10- وروى أيضاً: بإسناده إلى كعب بن عجرة قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فتنة فقربها فمر رجل متقنع فقال هذا يؤمئذ على الهدى قال فاتبعته حتى أخذت بضبعيه فحولت وجهه إليه وكشفت عن رأسه وقلت: هذا يا رسول الله قال: نعم فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه"3. فهذه الثلاثة الأحاديث كلها تضمنت الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأنه سيبتلى بالفتنة المذكورة في الحديث والتي كان من آثارها قتله رضي الله عنه ظلماً وعدواناً بغير حق لما علم الله تعالى له أن سيكون في عداد الشهداء كما وضحت هذه الأحاديث أنه هو ومن اتبعه على الهدى عند وقوع تلك الفتن

_ 1ـ سنن الترمذي 5/291-292، المسند 4/235، وابن ماجه 1/41. 2ـ المسند 4/236. 3ـ المصدر السابق 4/243.

الفتن من قبيل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} 1 فعثمان رضي الله عنه كان على الحق، والفتنة التي وقعت في زمنه أهلها على الباطل ففي ذلك فضيلة عظيمة لعثمان رضي الله عنه. ولقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه سيكون أحد الخلفاء الراشدين من بعده، الذين يتولون أمر الأمة، فقد أوصاه في غير ما حديث أنه إن خرج عليه الخارجون وأرادوا منه أن يخلع نفسه فلا يستجيب لهم ولا كرامة وأنه يتمسك بحقه فيه ولا يطع أحداً في تركه. 11- فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم" 2. ففي هذا الحديث "الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح أي: سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحق، وكونهم على الباطل"3. 12- وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: "قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه"4. فقوله: "قد عهد إلي عهداً" أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: "وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم" فأنا صابر عليه "أي: على ذلك العهد" 5.

_ 1ـ سورة البقرة آية/5. 2ـ سنن الترمذي 5/292 وقال عقبه: "هذا حديث حسن غريب". 3ـ الدين الخالص 3/446. 4ـ سنن الترمذي 5/295، وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح". 5ـ تحفة الأحوذي 10/209.

13- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا لي أو ليت عندي رجلاً من أصحابي" قالت قلت: أبو بكر قال: "لا" قلت: عمر قال: "لا" قلت ابن عمك علي قال: " لا" قلت فعثمان قال: "نعم" قالت: فجاء عثمان فقال: "قومي" قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أمراً فأنا صابر نفسي عليه"1. فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته لم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان، أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام"2. ولقد عمل رضي الله عنه وأرضاه بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أوصاه به ولذلك ما عزل نفسه حين حاصروه يوم الدار. 14- وروى ابن سعد بإسناده إلى عبد الله بن عمر قال: قال لي عثمان وهو محصور في الدار: ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس؟ قال قلت: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي فإن خلعت تركوني وإن لم أخلع قتلوني؟ قال قلت: أرأيت إن خلعت تترك مخلداً في الدنيا؟ قال: لا، قال: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا قال: قلت: أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا قلت: فلا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصاً قمصكه الله"3. 15- ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن

_ 1ـ المستدرك 3/99 وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، سنن ابن ماجه 1/42. 2ـ الدين الخالص 3/446. 3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/96.

ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"1. وفي هذا إشارة إلى أن الله ـ تعالى ـ ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه صلى الله عليه وسلم من أمر ترتيب الخلافة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم"2. وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذا المبحث أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأنه لا مرية في ذلك ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة فيجب على كل مسلم أن يعتقد حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأن يسلم تسلمياً كاملاً للنصوص المشيرة إلى ذلك.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/297. 2ـ منهاج السنة 3/165.

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه لقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد بل الجميع سلم له ذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان رضي الله عنه بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم ومن تلك النقول:- ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان"1. وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى ابن عفان"2. ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر فلو علموا أن فيهم أحداً أفضل منه كانوا قد غشوا ثم استخلف أبو بكر عمر فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل

_ 1ـ المصنف 14/588. 2ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/306.

منه كانوا قد غشونا"1. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق صحيح إلى حذيفة قال: قال لي عمر من ترى قومك يؤمرون بعدي؟ قال: قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وأشهروه لها"2. وقال أيضاً: وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في "فضائل الصحابة" بسند صحيح عن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان"3. وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر أول خلافة عمر فلم يشك أن الخليفة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه"4. فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة وما زال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حياً لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق رضي الله عنه ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة رضي الله عنه قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله "وفي رواية أخرى قال: "أمرنا خير من بقي ولم نأل"5 ولما استشهد الفاروق رضي الله عنه بايع المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون عثمان رضي الله عنه ليكون الخليفة للمسلمين بعد عمر رضي الله عنه ولم يتأخر منهم أحد عن بيعته.

_ 1ـ ميزان الاعتدال 2/273. 2ـ فتح الباري 13/198. 3ـ فتح الباري 13/198. 4ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/306. 5ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/307 وقوله: ولم نأل أي لم نقصر في اختيار الأفضل.

فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى المسور بن مخرمة في قصة بيعة عثمان رضي الله عنه من حديث طويل وفيه: "أن عبد الرحمن أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد ـ وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ـ فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده: فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون"1. وقال الحسن بن محمد الزعفراني سمعت الشافعي يقول: "أجمع الناس على خلافة أبي بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل عمر الشورى إلى ستة على أن يولوها واحداً فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين"2. وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاماً عزاه للإمام الشافعي أنه قال: "واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر رضي الله عنه عثمان رضي الله تعالى عنه بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان رضي الله عنه وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وصوبوا رأيه فيما فعله وأقام الناس على محجة الحق وبسط العدل إلى أن استشهد رضي الله عنه"3. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: "لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان"4. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وثبتت إمامة عثمان رضي الله عنه بعد عمر بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم

_ 1ـ صحيح البخاري 4/245-246. 2ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/434-435. 3ـ الرد على الرافضة ص/319-320. 4ـ منهاج السنة 3/166

عمر فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله"1. وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في صدد ذكره للإجماع على خلافة عثمان: "فاجتمع أهل الشورى ونظروا فيما أمرهم الله به من التوفيق وأبدوا أحسن النظر والحياطة والنصيحة للمسلمين وهم البقية من العشرة المشهود لهم بالجنة واختاروا بعد التشاور والاجتهاد في نصيحة الأمة والحياطة لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لما خصه الله به من كمال الخصال الحميدة والسوابق الكريمة وما عرفوا من علمه الغزير وحلمه لم يختلف على ما اختاروه وتشاوروا فيه أحد ولا طعن فيما اتفقوا عليه طاعن فأسرعوا إلى بيعتة، ولم يتخلف عن بيعتة من تخلف عن أبي بكر ولا تسخطها متسخط بل اجتمعوا عليه راضين به مجيبين له"2. وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر قال: "ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد ... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماماً وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولي أحد الرجلين وأقام

_ 1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/68. 2ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/299-300. 3ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129.

عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم"1. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى حاكياً لإجماع الصحابة على خلافة عثمان رضي الله عنه: "ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى أنه قال لعليّ: أرأيت إن لم أولك بمن تشير بع علي؟ قال بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، ومجتمعين سراً وجهراً حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم

_ 1ـ منهاج السنة 1/143.

الرابع من موت عمر بن الخطاب ـ جاء إلى منزل ابن اخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له علياً وعثمان رضي الله عنهما فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحداً يعدل بهما أحداً ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعن ـ ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة فامتلأ المسجد بالناس حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس ـ وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه ـ ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفاً طويلاً ودعا دعاء طويلاً لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس إني سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي، وإما عثمان فقم إلي يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا. ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي قال: فأرسل يده وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانياً"1. فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة

_ 1ـ البداية والنهاية 7/159-161.

قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان رضي الله عنه بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد، وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون1 أن علياً تلكأ فقال: عبد الرحمن: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 2 فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة 3. فهذا باطل من وجوه: الوجه الأول: أن هذه القصة مخالفة لما ثبت في الحديث الصحيح وذلك أنه ثبت في صحيح البخاري في قصة البيعة والاتفاق على عثمان أن علياً رضي الله عنه بايع عثمان بعد عبد الرحمن بن عوف مباشرة ثم بايع الناس بعده وما جاء مخالفاً لهذا فهو مردود على قائله وناقليه. الوجه الثاني: أخرج ابن سعد بإسناده إلى مولى عمر بن الخطاب عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت علياً بايع عثمان أول الناس، ثم تتابع الناس فبايعوا"4. الوجه الثالث: أن المظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها"5. فكل ما يذكر من أن علياً رضي الله عنه تلكأ عن بيعة عثمان أو تأخر عنها فهو مبني على خبر غير صحيح رجاله لا يعرفون قد يكون في الغالب من وضع الرافضة الذين أوبقوا أنفسهم ببغض الصحابة رضي الله عنهم. فبيعة عثمان تمت بإجماع المسلمين كافة ولا مطعن فيها لأحد من أهل الزيغ.

_ 1ـ انظر البداية والنهاية 7/161. 2ـ سورة الفتح آية/10. 3ـ تاريخ الأمم والملوك لابن جرير 4/238-239. 4 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/62. 5 ـ البداية والنهاية 7/161.

الفصل الرابع: خلافة علي رضي الله عنه

الفصل الرابع: خلافة علي رضي الله عنه المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة ... المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة لقد تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وعدواناً "يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين"1. قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق بعد عثمان رضي الله عنه، ولذلك لم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من معرة تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم. فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل،

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/31.

ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس. وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية: "فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ولا نجد أحداً أحق بهذا منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا تفعلوا فإني وزير خير مني أمير، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال: ففي المسجد فإنه لا ينبغي بيعتي أن تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا من المسلمين قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه وأبى هو إلا المسجد فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس"1. وقال ابن جرير: "وكتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن أبي حارثة وأبي عثمان ـ يزيد بن أسيد الغساني ـ قال: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له ... فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر2 على الأمة فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون". وفي رواية أخرى: أن جمهور الصحابة لما عرضوا على علي رضي الله عنه الخلافة قال لهم: "دعوني والتمسوا غيري ... فقالوا: ننشدك الله ألا ترى الفتنة ألا تخاف الله؟ فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنما أنا

_ 1ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ق62/أ، ب، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/427، الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/190-191. 2ـ عند ابن الأثير "وحكمك جائز على الأمة" الكامل 3/192.

كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد ... فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي حتى صعد المنبر فقال: "يا أيها الناس ـ عن ملأ وإذن ـ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد فقالوا: نحن على ما فارقناك بالأمس"1. وقال الحافظ ابن كثير: "وذكر سيف2 بن عمر عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم، إلى القيام بالأمر، والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحداً من هؤلاء الثلاثة فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة ـ اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده، فبايعه وذلك يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة وذلك بعد مراجعة الناس لهم في ذلك وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس"3. ومما تقدم تبين أن خلافة علي رضي الله عنه تمت بطريق الاختيار من جميع من كان موجوداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد استشهاد ذي النورين رضي الله عنه، وهذه الطريقة التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه كالطريق التي

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/433-435، الكامل 3/192-193. 2ـ هو سيف بن عمر التميمي صاحب "كتاب الردة" ويقال له: الضبي ويقال غير غير ذلك الكوفي ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ من الثامنة، مات زمن الرشيد انظر ترجمته في "الميزان للذهبي" 2/255-256، التهذيب 4/295-296، التقريب 1/244. 3ـ البداية والنهاية 7/247، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/192.

ثبتت بها خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه حيث إن عثمان رضي الله عنه لم يعين أحداً يقوم بالخلافة بعده فقد روى الإمام أحمد والبخاري والحاكم عن مروان بن الحكم أن عثمان رضي الله عنه أصابه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى وطلب منه أن يستخلف فلم يستخلف رضي الله عنه وأرضاه"1 كما تبين أيضاً: مما تقدم "أن بيعة علي رضي الله عنه كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدر وفي إبانها وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية موهومة"2. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأما ما يغتر به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة، وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الإسلام هو الحق ـ يعلم بطلان هذا الافتراء لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة ولله الحمد"3.

_ 1ـ المسند 1/64، صحيح البخاري مع الفتح 7/89، المستدرك 3/363. 2ـ من كلام محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم في القواصم ص/143. 3ـ البداية والنهاية 7/245.

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه

المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه إن أحق الناس بالخلافة بعد الثلاثة المتقدمين أعني أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بل ومعتقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطبة وهذا هو ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، وقد ورد الإيماء إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه في كثير من النصوص الشرعية منها:- 1- قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 1 الآية ووجه الاستدلال بها على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكن الله لهم دينهم"2. 2- قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 3. ووجه الدلالة في هذا الحديث على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحافظوا على

_ 1ـ سورة النور آية/55. 2ـ انظر منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين لابن قدامة ص/74 "مخطوط" برقم 253 في مكتبة عارف حكمت بالمدينة. 3ـ رواه أحمد في المسند 4/126-127، سنن أبي داود 2/506، سنن ابن ماجه 1/16، سنن الترمذي 4/150، سنن الترمذي 1/45.

حدود الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وساروا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العدل وإقامة الحق. 3- روى أبو عبد الله الحاكم وغيره بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال أبو بكر: أنا هو قال "لا" قال عمر: أنا هو قال "لا" ولكن خاصف النعل" ـ يعني علياً فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. هذا الحديث فيه إيماء إلى ولايته حيث إنه رضي الله عنه قاتل في خلافة أهل التأويل الذين خرجوا عليه بالتأويل، ومنه أخذت أحكام قتال البغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية وغير ذلك من أحكامهم وقاتل أيضاً الحرورية2 الذين تأولوا القرآن على غير تأويله وكفروا أهل الحق ومرقوا من الدين مروق السهم من الرمية. 4- روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق". وفيه أيضاً: أنه قال: "تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق". وفي لفظ: قال: "تمرق مارقة في فرقة من الناس فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق".

_ 1ـ المستدرك 3/122-123 وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، والحديث رواه أحمد في المسند 3/31، 33، 82، تهذيب خصائص الإمام علي للنسائي ص/118-119، وأبو نعيم في الحلية 1/67. 2ـ إحدى فرق الخوارج وسيأتي التعريف بها في الباب الرابع.

وجاء أيضاً بلفظ: "يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق" 1. فقوله صلى الله عليه وسلم على حين فرقة ـ بضم الفاء ـ أي: في وقت افتراق الناس أي: افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما"2. والمراد بالفرقة المارقة هم "أهل النهروان كانوا في عسكر علي رضي الله عنه في حرب صفين فلما اتفق علي ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا وقالوا: إن علياً ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسي رهان فكفر معاوية بقتال علي ثم كفر علي بتحكيم الحكمين وكفروا طلحة والزبير فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع علي وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة التي تقتلهم أقرب إلى الحق وهذا شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأصحابه بالحق وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أخبر بما يكون فكان على ما قال وفيه دلالة على صحة خلافة علي رضي الله عنه وخطأ من خالفه"3. 5- وروى البخاري بإسناده إلى خالد الحذاء عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: "كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح 4 عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار

_ 1ـ هذه الأحاديث في صحيح مسلم 2/745-746. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/166. 3ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين لابن قدامة ص/75-76 مخطوط، وانظر شرح النووي 7/166. 4ـ ويح: كلمة رحمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها يرثى له قال الأصمعي: الويل: قبوح، والويح: ترحم. غريب الحديث لابن الجوزي 2/486، الفائق في غريب الحديث 4/85، النهاية في غريب الحديث 5/235.

قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن"1. 6- عند مسلم عن أبي سعيد أيضاً: قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس 2 ابن سمية تقتلك فئة باغية" 3. هذان الحديثان دلا على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه الإمام الحق بعد عثمان رضي الله عنه وأن الذين قاتلوه مجتهدون مخطئون "لا إثم عليهم ولا لوم فيما وقع بينهم من القتال". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عماراً الفئة الباغية" 4:"وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولا وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولاً، أو باغ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين قال: أيجعل طلحة والزبير معاً بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام يعني: إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة ـ إلى أن قال ـ ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه"5.

_ 1ـ صحيح البخاري 1/89. 2ـ قال ابن الأثير: ومنه حديث عمار رضي الله عنه "بؤس ابن سمية" كأنه ترحم له من الشدة التي يقع فيها" أهـ النهاية في غريب الحديث 1/89. 3ـ صحيح مسلم 4/2235. 4ـ المصدر السابق 4/2236. 5ـ مجموع الفتاوى 4/437-438

فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين "وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم"1. قال الإمام النووي بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية":"قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك.. وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه: منها: أن عماراً يموت قتيلاً وأنه يقتله مسلمون وأنهم بغاة. وأن الصحابة: يقاتلون وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها وكل هذا وقع مثل فلق الصبح صلى الله عليه وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"2. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق": "وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عماراً الفئة الباغية" "دلالة واضحة على أن علياً ومن معه كانوا على الحق وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم"3. 10- وروى أبو داود بإسناده إلى سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء" 4.

_ 1ـ فتح الباري 1/542. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 18/40-41. 3ـ فتح الباري 6/619. 4ـ سنن أبي داود 2/514-515.

وعند الترمذي بلفظ: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" 1. وفي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه حيث إن خلافته كانت آخر الثلاثين من مدة خلافة النبوة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وبموجب هذا قال أهل العلم. قال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهب في الخلفاء2. وقد وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى قول من يقول بأن علياً رضي الله عنه ليس من الخلفاء بأنه سيء ورديء. قال عبد الله بن أحمد رحمه الله تعالى: قلت لأبي إن قوماً يقولون إنه ليس بخليفة قال: هذا قول سوء رديء فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون له يا أمير المؤمنين أفنكذبهم وقد حج وقطع ورجم فيكون هذا إلا خليفة3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة له في حديث سفينة: "وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنة كأبي داود. وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد واستدل به على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد: "من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى عن مناكحته"4. وقال شارح الطحاوية: "ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما

_ 1ـ سنن الترمذي 3/341، والحديث في المسند 5/220-221. 2ـ جامع بيان العلم 2/225، وانظر كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ص/235. 3ـ كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص/235. 4ـ هذه الرسالة بالمكتبة الظاهرية بخطه في مسودته ق 81/2-84/2 كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/200.

لما قتل عثمان وبايع الناس علياً صار إماماً حقاً واجب الطاعة وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء" 1. فهذه النصوص المتقدم ذكرها كلها دالة على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه رضي الله عنه أحق بالأمر وأولى بالحق من كل أحد بعد الثلاثة رضي الله عنهم جميعاً فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين.

_ 1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/545، والحديث في سنن أبي داود 2/514-515.

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه لقد انعقد إجماع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً، وأحبهم إلى الله ورسوله وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم: فقد نقل محمد بن سعد إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقي من أصحاب النبي بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه حيث قال: "وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة بايعه طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمار بن ياسر، وأسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم"1. كما نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على بيعة علي رضي الله عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو الحسن الأشعري وأبو نعيم

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/31.

الأصبهاني وغيرهم من أهل العلم. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال فأتى علي الدار وقد قتل الرجل فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس"1. وذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى روى بإسناده عن عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن عوف قال: كنت عند الحسن فكأن رجلاً انتقص أبا موسى باتباعه علياً فغضب الحسن ثم قال: سبحان الله قتل أمير المؤمنين عثمان فاجتمع الناس على خيرهم فبايعوه أفيلام أبو موسى باتباعه"2. فقد نقل الإمام أحمد رحمه الله في هاتين الروايتين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على بيعة علي رضي الله عنه وأن إجماعهم رضي الله عنهم كان على خيرهم وأفضلهم على الإطلاق وأحقهم بالخلافة بعد عثمان رضي الله عنه. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "ونثبت إمامة علي بعد عثمان رضي الله عنه بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد ولأنه لم يدع

_ 1ـ فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/573. 2ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/77-78 وانظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/577.

أحد من أهل الشورى غيره في وقته وقد اجتمع على فضله وعدله، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه فلما كان لنفسه في غير وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك وقت قيامه، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم"1. وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً كيف تدارك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الموقف بعد استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ومبيناً المزايا العالية التي تميز بها علي رضي الله عنه على باقي الصحابة وجعلته أهلاً لأن يختاروه خليفة للمسلمين فقال: "فلما اختلفت الصحابة كان على الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم لا يتنازعون فيهم ولا يختلفون فيمن أولى بالأمر من الجماعة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في العشرة ممن توفي وهو عنهم راض فسلم من بقي من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكراً وأرفعهم قدراً لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون لم يضع منه تقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ازداد به ارتفاعاً لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه إذ كان ذلك موجوداً في الأنبياء والرسل عليهم السلام قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {مَا يُرِيدُ} 2 فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي يضع ممن هو دونه فكل الرسل صفوة الله ـ

_ 1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/78، وانظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/346. 2ـ سورة البقرة آية/253.

عز وجل ـ وخيرته من خلقه، فتولى أمر المسلمين عادلاً زاهداً آخذاً في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم حتى قبضه الله ـ عز وجل ـ شهيداً هادياً مهدياً سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم"1. وقال أبو منصور البغدادي: "أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة علي رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه"2. وقال الزهري رحمه الله تعالى بعد ذكره لما قام به أبو الحسن من الوفاء بالعهد لإخوانه الثلاثة الخلفاء السابقين قبله قال: "وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل وكان أفضل من بقي من الصحابة فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة وبايعه مع سائر الناس من بقي من أصحاب الشورى"3. وقال عبد الملك الجويني في صدد ذكره للطريق التي تمت بها خلافة عمر وعثمان وعلي وأنه لا يعبأ بقول من يقول: إن إمامة علي لم يحصل عليها إجماع فقال: "وأما عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم فسبيل إثبات إمامتهم واستجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع ... ولا اكتراث بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخر"4. وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى حاكياً لثبوت الإجماع على خلافة أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: "كانت بيعة علي رحمه الله بيعة اجتماع

_ 1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/360-361. 2ـ كتاب أصول الدين ص/286-287. 3ـ الاعتقاد ص/193. 4ـ كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص/362-363.

ورحمة لم يدع إلى نفسه ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ولم يغلبهم بعشيرته ولقد شرف الخلافة بنفسه وزانها بشرفه وكساها حلة البهاء بعدله ورفعها بعلو قدره ولقد أباها فأجبروه وتقاعس عنها فأكرهوه"1. فقد بين رحمه الله تعالى أن بيعة علي رضي الله عنه كانت بالإجماع وأن حصول الإجماع عليها من قبل أهل الحل والعقد كان رحمة من الله بالأمة المحمدية، كما بين رحمه الله أن علياً رضي الله عنه زين الخلافة ولم تزينه، ورفعها ولم ترفعه وهكذا كان من تقدمه من الخلفاء رضي الله عنهم زينوا الخلافة وجملوا الأمة المحمدية، وأتموا الدين وأظهروه، وأسسوا الإسلام وأشهروه رضي الله عنهم أجمعين. وقال الغزالي: "وقد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم، وليس يظن منهم الخيانة في دين الله ـ تعالى ـ لغرض من الأغراض وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل، ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب"2. وقال أبو بكر بن العربي في معرض سياقه لحادثة قتل عثمان ظلماً وعدواناً على أيدي الخارجين عليه الظلمة المعتدين قال: "فلما قضى الله من أمره ما قضى ومضى في قدره ما مضى علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً وتقى وديناً فانعقدت له البيعة ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجري

_ 1ـ ذكره عنه العلامة ابن قدامة في كتابه منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/77 وانظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/346. 2ـ الاقتصاد في الاعتقاد ص/154.

على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ورأى ذلك فرضاً عليه فانقاد إليه"1. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهم جميعاً كما بين كذلك أن أهل السنة والجماعة أجمعوا عامة على تقديم الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم. فقد قال رحمه الله: "واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين " وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي"2. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر وكتب بيعته إلى الآفاق فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام فكان بينهم بعد ما كان"3. والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على حقيتها وصحتها في وقت زمنها وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها، وقد جاء في بعض هذه النقول للإجماع النص على

_ 1ـ العواصم من القواصم ص/142. 2ـ الوصية الكبرى ص/33. 3ـ فتح الباري 7/72.

مبايعة طلحة والزبير رضي الله عنهما لعلي رضي الله عنه وهذا فيه رد لبعض الروايات التي ذكرها بعض المؤرخين من أنهما بايعا مكرهين فقد جاء في بعض تلك الروايات أن طلحة رضي الله عنه قال: "بايعت واللج على قفي"1. وقد رد العلامة ابن العربي على هذا بقوله: "اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في "القفا" لغة "قفي" كما يجعل في "الهوى": "هوى" وتلك لغة هذيل لا قريش2 فكانت كذبه لم تدبر"3. بل قد جاء في بعض الروايات أن طلحة رضي الله عنه كان أول من بايع علياً حتى قال حبيب بن ذؤيت: بايع علياً يد شلاء لا يتم هذا الأمر4 "وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر"5. وقد رد القاضي أبو بكر ابن العربي على قول القائل في طلحة "يد شلاء" بقوله: "أما قولهم: "يد شلاء" لو صح فلا متعلق لهم فيه فإن يداً شلبت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر ويتوقى بها من كل مكروه وقد تم الأمر على وجهه ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه"6. وهذا الرد من ابن العربي على ما قيل في يد طلحة رضي الله عنه يستحق أن يكتب بماء الذهب لأنه لو كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أكثر بركة ونفعاً لأنها يد ذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم أحد، أما يد الأشتر

_ 1ـ العواصم من القواصم لابن العربي ص/144 وانظر تاريخ الأمم والملوك 4/431-435 وانظر أيضاً الكامل في التاريخ لابن الاثير 3/193، النهاية في غريب الحديث 4/234، البداية والنهاية 7/247. 2ـ بل إنها أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل فقد ذكر العلامة ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث 4/234 أنها لغة طيء. 3ـ العواصم من القواصم ص/144. 4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/428، الكامل لابن الأثير 3/191. 5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/433، البداية والنهاية 7/247. 6ـ العواصم من القواصم ص/144-145.

اللئيم فإنها كانت لا تزال رطبة من دم الإمام الشهيد المبشر بالجنة عثمان رضي الله عنه، فدعوى أن طلحة والزبير بايعا مكرهين دعوى غير صحيحة بل الثابت أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه طلب جمهور الصحابة رضي الله عنهم من علي أن يتولى أمر المسلمين فكان يفر منهم في حيطان المدينة1 وأيضاً: لما توفي عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى في ستة منهم طلحة والزبير واتفقوا على أن الأمر دائر بين عثمان وعلي فاتفقوا على تقديم عثمان وبعد استشهاده رضي الله عنه كان صاحب الحق هو علي رضي الله عنه. وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه من وجوه: 1- تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم2. 2- إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان3. 3- أن أهل الشام معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه. وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه: الوجه الأول: أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوى غير صحيحية إذ أن بيعته لم يتخلف عنها وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكر لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره"4.

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/432، البداية والنهاية 7/246. 2ـ العواصم من القواصم ص/146-147. 3ـ المصدر السابق ص/145. 4ـ العواصم من القواصم ص/147، وانظر كتاب "التمهيد" للباقلاني ص/233-234.

الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لا بد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل أو متعذر فلا يجوز اشتراطه لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب ووقوع الفساد اللازم من انتفائه"1. الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة علي وعثمان وغيرهما من الصحابة وكذلك حصل الإجماع على خلافة علي بمبايعة عمار ومن حضر من البدريين وغيرهم من الصحابة ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايعه من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "والله ما كانت بيعة علي إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم"2. الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان "هذا لا يصح في شرط البيعة. وإنما يبايعونه على الحكم بالحق وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى ويكون الجواب وتقوم البينة ويقع الحكم"3 بعد ذلك. الوجه الخامس: أن معاوية رضي الله عنه لم يقاتل علياً على الخلافة ولم ينكر إمامته وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ولكنه كان مخطئاً في اجتهاده ذلك فله أجر الاجتهاد فقط. قال عبد الملك الجويني: "ومعاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ظاناً أنه مصيب ولكنه

_ 1ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/76-77. 2ـ انظر المصدر السابق ص/77. 3ـ العواصم من القواصم ص/145-146.

كان مخطئاً"1. فخلافة علي رضي الله عنه ثابتة بالنص والإجماع ولا تأثير لأي اعتراض يورد على الإجماع فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم والاقتداء بهم وترتيبهم في الإمامة كترتيبهم في الفضل أولاً أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وهذا معتقد الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة فقد روى البيهقي بإسناده إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "في الخلافة والتفضيل نبدأ بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم"2 وروى أيضاً بإسناده إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قيل له: "إلى ما تذهب في الخلافة قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له: كأنك تذهب إلى حديث سفينة قال: أذهب إلى حديث سفينة وإلى شيء آخر رأيت علياً في زمن أبي بكر وعمر وعثمان لم يتسم بأمير المؤمنين ولم يقم الجمع والحدود ثم رأيته بعد قتل عثمان قد فعل ذلك فعلمت أنه قد وجب له في ذلك الوقت ما لم يكن له قبل ذلك"3. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى: "خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب رحمه الله ورضوانه عليهم أجمعين"4. وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن

_ 1ـ لمع الأدلة في عقيدة أهل السنة ص/115 مخطوط نقلاً عن كتاب "أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ" ص/115. 2ـ الاعتقاد ص/168-169. 3ـ المصدر السابق. 4ـ ذكره عنه البيهقي بالإسناد في كتابه "الاعتقاد" ص/196-197.

أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة والمهديون"1. وقال أبو بكر الباقلاني رحمه الله تعالى موضحاً الدليل على ترتيب الخلافة الراشدة: "والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيناه: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ومصابيح أهل اليقين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فقال: "خير القرون قرني" 2. فلما قدموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحداً شهيا منهم، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام: ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة: أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. ووعده حق، وخبره صدق لا يقع بخلاف مخبره فلا بد من أن يتم ما وعدهم به، وأخبر أن يكون لهم، ولا يصح إلا على هذا الترتيب لأنه لو قدم علي عليه السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة لأن علياً عليه السلام مات بعد الثلاثة وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر لأن عثمان مات بعد موتهما، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت ولله الحمد على الهداية والتوفيق"4.

_ 1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/533-545. 2ـ انظر صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1963. 3ـ سورة النور آية/55. 4ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/66-76.

فهذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة كلها فيها البيان الشافي لعقيدة الفرقة الناجية في ترتيب الخلافة الراشدة كما علم مما تقدم في هذا المبحث من نقول للإجماع أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين باتفاق أهل الحل والعقد وأنه قد اتفق على بيعته عامة من حضر المدينة من البدريين والأنصار كاجتماع أهل السقيفة على بيعة أبي بكر رضي الله عنه وبناء على ما تقدم فإن الذي لا يسعه في عقيدة ترتيب الخلافة ما وسع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فإنه رافضي مقيت.

المبحث الرابع: ذكر الحرب التي دارت بينه وبين بعض الصحابة وموقف أهل السنة منها

المبحث الرابع: ذكر الحرب التي دارت بينه وبين بعض الصحابة وموقف أهل السنة منها المراد بالحرب التي أريد ذكرها في هذا المبحث هي حرب الجمل وصفين وقبل الدخول في ذكر هاتين الموقعتين أذكر بين يديهما لمحة عن أمرين. الأمر الأول: متى بدأ التشاجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: ما هو الدافع لهم على ذلك. فأما عن الأمر الأول فإن قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماً وعدواناً من قبل الخارجين عليه من من أهل مصر، وأهل الكوفة، وأهل البصرة سنة خمس وثلاثين للهجرة1 كان مصدر بدء التشاجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم والقارئ لكتب التواريخ والسير يخرج منها بأن بداية التشاجر بين خير القرون كان بعد قتل ثالث الخلفاء الراشدين وبداية خلافة أبي الحسن رضي الله عنهما. وأما عن الأمر الثاني: فإن أعظم دافع لهم إلى ذلك ليس إلا مطالبة الخليفة الرابع بوجوب الإسراع بأخذ القود من أولئك الأشرار قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذلك أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين كانوا يرون أنه لا بد من المطالبة بدم عثمان ووجوب الإسراع بإقامة حد الله عليهم كما أمر الله2.

_ 1ـ انظر تاريخ الطبري 4/365 وما بعدها، الكامل لابن الأثير 3/178، البداية والنهاية 7/186. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/462-464، 5/6، الكامل في التاريخ 3/212-213، ص/286، البداية والنهاية 7/251-253، ص/281-282.

بينما كان يرى علي رضي الله عنه إرجاء الأمر حتى يبايعه أهل الشام ويستتب له الأمر ليتسنى له بعد ذلك التمكن من القبض عليهم لأنهم كانوا كثيرين في جيش علي ومن قبائل مختلفة وكانوا لهم بعض التمكن حينذاك. قال الحافظ ابن كثير: "ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا"أ. هـ1. ومما يؤكد أن سبب البداية للتشاجر بين الصحابة هو قتل عثمان رضي الله عنه أن علياً رضي الله عنه بعد أن بويع له بالخلافة شرع في إرسال عماله إلى الأمصار فكان من أرسله إلى الشام بدل معاوية سهل بن حنيف فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك وإن كان غيره فارجع فقال: أو ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى فرجع إلى علي، وأما قيس بن سعد بن عبادة ـ فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده طليحة بن خويلد الأسدي ـ غضباً لعثمان فرجع إلى علي فأخبره"2. "وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه، يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم ... وغيرهم من التابعين"3. ولما كان رأي كل واحد من الفريقين مضاداً لرأي الآخر من هنا

_ 1ـ البداية والنهاية 7/248-249، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/437، الكامل لابن الأثير 3/195-196. 2ـ تاريخ ابن جرير الطبري 4/442، كتاب الكامل لابن الأثير 3/201، البداية والنهاية 7/249-250. 3ـ البداية والنهاية 7/248.

اختلفت الكلمة وتفاقم الأمر، وانتشرت الفتنة فما كان من علي رضي الله عنه وهو الخليفة الحق الذي تجب طاعته إلا أن قام بإرسال الكتب المتتابعة إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه فيها في البيعة غير أن معاوية رضي الله عنه لم يرد شيئاً فكرر عليه علي رضي الله عنه ذلك مراراً إلى أن دخل الشهر الثالث من مقتل ذي النورين رضي الله عنه، ثم بعث بعد ذلك طوماراً1 من رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور2 ... فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان"3. وقد وجه علي رضي الله عنه جماعة إلى معاوية رضي الله عنه وهو بصفين منهم بشير بن عمرو الأنصاري وقال لهم: "ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها ـ إلى أن قال له: ـ وإنه ـ أي علي ـ يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك فقال معاوية: ويطل4 دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً"5. وقد دخل أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما أيام صفين على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق

_ 1ـ الطومار: الصحيفة "لسان العرب" 4/503. 2ـ الموتور: الطالب بالثأر "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/148. 3ـ تاريخ الطبري 4/444. 4ـ أي يهدر "انظر النهاية 3/136، المصباح المنير 2/377. 5ـ تاريخ الطبري 4/573، الكامل لابن الأثير 3/285-286، البداية والنهاية 7/280.

بهذا الأمر منك ـ فكان جوابه عليهم ـ "أقاتله على دم عثمان وأنه أوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام"1. فهذه الرواية وما قبلها تبين لنا أن معاوية رضي الله عنه كان باذلاً للبيعة بالخلافة لعلي رضي الله عنه لكن بشرط تعجيل القود من قتلة عثمان وكان رأي علي رضي الله عنه أن يدخل معاوية في البيعة أولاً ثم بعد ذلك يتتبع القتلة ويقام عليهم الحد الشرعي بعد إقامة الدعوى والإجابة ثم صدور الحكم فيهم كما أمر الله به. ولكن لما كان رأي علي ومعاوية رضي الله عنهما رأيين متضادين لا يلتقيان أدى ذلك إلى المنازعة واختلاف الكلمة، ولما رأى علي رضي الله عنه أن الكتب التي وجهها إلى معاوية لم تجد شيئاً بل إن الفتنة بدأت تشتد ولم تزدد الأمور إلا تعقيداً حيث استأثر معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام ولم يسمح لأمر علي أن يمتد إليها وهو الخليفة الحق بعد ذي النورين عثمان، وأن من حقه على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا أخذ في إعداد جيش وعزم على قتال أهل الشام ولما رآه ولده الحسن رضي الله عنه يهيئ الجيش لقتام أهل الشام حاول أن يثنيه عن ذلك وقال له: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين"2. فلم يسمع لقوله بل هيأ الجيش ودفع اللواء إلى ولده محمد بن علي ـ المعروف بابن الحنفية ـ غير أنه لم يتمكن مما قصده من تسيير الجيش إلى بلاد الشام فإنه جاءه ما شغله عن ذلك وهو توجه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة وعندما بلغ هذا الخبر علياً ـ رضي الله عنه ـ عدل عن وجهته إلى الشام وغير رأيه وتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام وهكذا بدأ النزاع يتدرج بين الصحابة رضي الله عنهم من طور المكاتبة والمحاورة إلى طور التعبئة وتجهيز الجيوش استعداداً للقتال والمواجهة للضرب بالسيوف وقد تمثل ذلك في موقعتين:

_ 1ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/283. 2ـ المصدر السابق 7/250.

الأولى: موقعة الجمل. الثانية: موقعة صفين. أما موقعة الجمل فقد دارت رحا الحرب فيها بين علي رضي الله عنه ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم رضي الله عنهم وذلك أنه: "لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق سنة خمس وثلاثين للهجرة ـ كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ـ أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل أقمن بمكة1 وقد تجمع بمكة خلق كثير وجم غفير من سادات الصحابة منهم طلحة والزبير حيث استأذنا علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهما كثير من الناس وكذا قدم إلى مكة ابن عمر ومن اليمن يعلى بن أمية عامل عثمان عليها وعبد الله بن عامر عامله على البصرة ولم يزل الناس حينذاك يفدون على مكة ولما كثروا فيها قامت فيهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحثتهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة وقالوا: لها: حيثما سرت سرنا معك وبعد أن تعددت آراؤهم في تحديد الجهة التي يسيرون إليها أجمعوا على الذهاب إلى البصرة فلما أتوا البصرة منعهم من دخولها عثمان بن حنيف عامل علي عليها حينذاك وجرت بينه وبينهم مراسلة ومحاورة حتى وصل الأمر بهم إلى المشاجرة ثم ما لبثوا أن اصطلحوا بعد ذلك إلى أن يقدم علي رضي الله عنه لأنه بلغهم أنه متوجه إليهم ـ وكما تقدم قريباً أنه عدل عن المسير إلى الشام بعد أن بلغه مسير أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فأخذ في الاتجاه بعدهم في جمع كبير وهو يرجو أن يدركهم قبل وصولهم إلى البصرة فلما علم أنهم قد فاتوه، استمر في طريقه إليهم قاصداً البصرة من أرض

_ 1ـ البداية والنهاية 7/250.

العراق"1. لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ـ عامله على الكوفة وطلب منه أن يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: "إنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب" 2 وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر ـ ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي3 قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى"4. وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن ـ مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لا سيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/455، الكامل 3/221-222، البداية والنهاية 7/255. 2ـ الحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة 4/225، ورواه مسلم أيضاً 4/2212. 3ـ ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط ... وفيه كانت الوقعة المشهورة بين بكر بن وائل والفرس "معجم البلدان" 4/293. 4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/477-478، الكامل 3/227-232، البداية والنهاية 7/257-258.

عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق وهو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة وهذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: "وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة1 والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بديء بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامه فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها"2. وقال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره للغرض الذي خرجت له عائشة ومن معها من مكة إلى البصرة: "ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين

_ 1ـ أي: الطلب "انظر لسان العرب" 8/430. 2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/158.

وضم نشرهم وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا وهذا هو الصحيح لا شيء سواه"1. وقال أبو الوليد بن رشد المالكي2: بعد ذكره قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3 الآية "فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية " نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يروموا الإصلاح بينهم"4. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في صدد ذكره لبعض الأدلة التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها ما خرجت إلا للإصلاح: "ويدل لذلك أن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة"5. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "وبلغ الخبر6 عائشة وهي حاجة ومعها طلحة والزبير فخرجوا إلى البصرة يريدون الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة"7. فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما قصدت بخروجها إلى البصرة إلا الإصلاح بين بنيها رضي الله عنها وبهذا وردت ـ أخبار منها:

_ 1ـ العواصم من القواصم ص/151. 2ـ هو محمد بن أحمد بن رشد "الجد" المتوفى سنة عشرين وخمسمائة انظر: ترجمته في "الغنية" للقاضي عياض ص/122-123. 3ـ سورة الحجرات آية/9. 4ـ البيان والتحصيل 16/360. 5ـ فتح الباري 13/56. 6ـ أي: خبر قتل عثمان رضي الله عنه. 7ـ مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص/251.

1- روى ابن جرير الطبري: أن عثمان بن حنيف لما بلغه مجيء عائشة رضي الله عنها إلى البصرة أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي فقال لهما: "انطلقا" إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير1 فاستأذنا فأذنت لهما فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا غذر فاستحلوا الدم الحرام، فسفكوه وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا الأعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 2. 2- وروى أيضاً: أن علياً رضي الله عنه لما نزل بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم الفرقة.. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاآ فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟

_ 1ـ الحفير: ماء لباهلة بينه وبين البصرة أربعة أميال "معجم البلدان" 2/277. 2ـ تاريخ الأمم والملوك 4/461-462، الكامل 3/211، البداية والنهاية 7/252.

أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن"1. 3- لما رجع القعقاع بن عمرو إلى علي رضي الله عنه وأخبره أن أصحاب الجمل استجابوا إلى ما بعثه به إليهم أذعن علي لذلك وبعث إلى طلحة والزبير يقول: "إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: "إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس"2. ففي هذه الأخبار دليل واضح على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن تقصد بخروجها هي ومن معها تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي كما يزعمه ذلك مبغضوا الصحابة من الرافضة، وإنما الغرض الذي كانت تريده الإصلاح بين الناس ابتغاء مرضات الله راجية الثواب على ذلك من الله، كما أن الذين طلبوا منها الخروج وهم طلحة والزبير ومن معهما كانوا كذلك، وكانوا يعلقون آمالاً على خروجها في حسم الاختلاف وجمع الكلمة ولم يكن يخطر على بالهم قتل أحد لأنهم ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا. قال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره لبيان الغرض الذي خرجت من أجله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها قائلاً" "فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع بقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 3 ثم قالوا لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في الصلح وأرسل فيه فرجت المثوبة واغتنمت

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/448، الكامل لابن الأثير 3/233، البداية والنهاية 7/259. 2ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/261. 3ـ سورة النساء آية/114.

الفرصة وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها"1. وقال أيضاً: في معرض الرد على من قال: إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير خرجوا ليقاتلوهم وعلى رأسهم حكيم بن جبلة قال في شأن حكيم هذا: "وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة وإنما جاءوا ساعين في الصلح راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد"2. وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن بين بطلان الحديث الذي نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "تقاتلين علياً وأنت ظالمة" بين أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وبين أنه إلى الموضوعات أشبه ثم قال بعد ذلك: "فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين" ... لا قاتلت ولا أمرت بقتال هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار"3. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً القصد الذي خرجت من أجله عائشة رضي الله عنها هي ومن معها: "والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب ألياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه"4. فلا مقصد إذن من خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها من الصحابة من مكة إلى البصرة إلا بغية الإصلاح بين المسلمين ولم تخرج لقتال ولا أمرت به ثم أيضاً: إن فكرة الصلح لم تكن عند أم المؤمنين عائشة رضي الله

_ 1ـ العواصم من القواصم ص/152. 2ـ المصدر السابق ص/154. 3ـ منهاج السنة 2/185. 4ـ فتح الباري 7/108.

عنها هي ومن معها فحسب بل كانت أيضاً: تجول في فكر علي رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معنا قريباً أن علياً رضي الله عنه بعث إلى طلحة والزبير يقول: "إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر" فأرسلا إليه: "إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس"1. ولما كان جوابهم على علي رضي الله عنه بهذا "اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طلحة السجاد وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية"2. فهكذا كانت فكرة الصلح مسيطرة على عقول الجميع من الطرفين كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه حتى في وقت استعدادهم للقتال وفي أثناء تنظيم الجيوش. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح.. ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك"3. ولما أرسلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه تعلمه أنها إنما جاءت للصلح فرح هؤلاء وهؤلاء لاتفاقهم على رأي واحد وهو الصلح ولما رجع القعقاع بن عمرو من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم "جمع علي الناس ثم قام خطيباً فيهم ـ فحمد الله ـ عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي

_ 1ـ البداية والنهاية 7/261. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/506، الكامل لابن الأثير 3/242، البداية والنهاية 7/261. 3ـ تاريخ الأمم والملوك 4/505، الكامل لابن الأثير 3/241-242.

صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ـ ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس"1. ففكرة الصلح كانت هي المقصد الذي يطلبه الفريقان واتفقوا عليه وكان المسلمون حينئذ مجمعين على وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان ولم يخطر القتال على بال أحد منهم، ولكن المفسدين في الأرض الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه أصابهم الغم وأدركهم الحزن من اتفاق الكلمة وجمع الشمل، وأيقنوا أن الصلح الذي حصل الاتفاق عليه بين علي وأم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم سيكشف أمرهم وسيسلم رؤوسهم إلى سيف الحق وقصاص الخليفة فباتوا يدبرون أمرهم بليل شديد الظلمة فلم يجدوا سبيلاً لنجاتهم إلا بأن يعملوا على إبطال الصلح وتفريق صفوف المسلمين وذلك بأن يقوموا بعمل يحير العقلاء ويجعل كل فريق يسيء الظن بالآخر. فقد أجمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر وخاصة بعد أن تيقنوا أن رأي علي فيهم موافق لرأي طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وقض مضجعهم قوله رضي الله عنه في خطبته التي ذكرناها آنفاً: "ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس"2 " فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى وعبد الله بن سبأ ـ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/493، وانظر البداية والنهاية 7/260. 2ـ البداية والنهاية 7/260.

وعلياء بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك وقد قال ما سمعتم غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟ فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم فإن كان اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان فرضي القوم منا بالسكوت فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت لو قتلناه قتلنا فإنا يا معشر قتلة عثمان ـ في ألفين وخمسمائة ـ وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف لا طاقة لكم بهم وهم إنما يريدونكم. فقال علياء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذا والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون ويأتيهم ما يكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه"1 فاجتمعوا على هذا الرأي الذي تفوه به الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي "فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربيعهم إلى ربيعهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح بغتة فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبلغ طلحة والزبير ما وقع من الاعتداء على أهل البصرة فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً وفي نفس الوقت حسب خطة أولئك المفسدين ذهبت منهم فرقة أخرى في ظلمة الليل ففاجأت معسكر علي بوضع السيف فيهم وقد وضعت السبئية رجلاً قريباً من علي يخبره بما يريدون

_ 1ـ البداية والنهاية 7/260.

فلما سمع علي الصوت عندما هجموا على معسكره قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم من أهل البصرة قد بيتونا"1. "فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدرواً وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب وتوافق الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون والسبئية أصحاب ابن السوداء ـ قبحه الله ـ لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي ألا كفوا، ألا كفوا فلا يسمع أحد"2 فاشتدت المعركة وحمي الوطيس "وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف3 على جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل من هذا خلق كثير جداً"4 حتى حزن علي رضي الله عنه أشد الحزن وجعل يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا"5 ثم نزل بنفسه إلى ميدان المعركة لإنهاء القتال "وطلب طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم فذكرهما بما ذكرهما به فانتهى الأمر برجوع الزبير يوم الجمل وفي أثناء رجوعه رضي الله عنه "نزل وادياً يقال له: وادي السباع فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة"6 وأما طلحة رضي الله عنه فإنه بعد " أن اجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/506-507، الكامل لابن الأثير 3/242، البداية والنهاية 7/261-262، فتح الباري 13/56. 2ـ البداية والنهاية 7/262. 3ـ أي: لا يجهر عليه "النهاية في غريب الحديث" 2/162. 4ـ البداية والنهاية 7/262. 5ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/262. 6ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/535، البداية والنهاية 7/264، الرياض النضرة 4/288.

وقيل في رقبته والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه وجعل يقول: إلى عباد الله فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها ويقال: إنه مات بالمعركة"1 ولم تنته موقعة الجمل برجوع الزبير واستشهاد طلحة رضي الله عنهما بل اشتدت الحرب بين الفريقين حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدمت وهي في هودجها وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفاً وقالت ادعهم إليه وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين وكان عبد الله بن سبأ ـ وهو ابن السوداء ـ وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال: اللهم العن قتلة عثمان"2. ولما رأى علي رضي الله عنه أن المعركة حميت حول الجمل أمر بعقره على ما يقال كي لا تصاب أم المؤمنين لأنها بقيت غرضاً للرماة ولينفصل هذا الموقف الذي تفاني فيه الناس ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وانتهت المعركة وحملت أم المؤمنين بأمر من علي وهي مكرمة معززة ودخلت البصرة ومعها أخوها محمد بن أبي بكر"3. وأما علي رضي الله عنه، فإنه "أقام بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين ... ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة فمن عرف شيئاً هو

_ 1ـ البداية والنهاية 7/264، 270، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/266. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/513، البداية والنهاية 7/264. 3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/533-534، البداية والنهاية 7/266-267.

لأهلهم فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين ـ عشرة آلاف خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم"1. "ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها ـ أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه، جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار2 في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين ـ وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها"3. ومما تقدم ذكره بشأن موقعة الجمل تبين أن القتال وقع بين الصحابة فيما بينهم كان بدون قصد منهم ولا اختيار وأن حقيقة المؤامرة التي قام بها قتلة عثمان خفيت على كلا الفريقين حتى ظن كل منهما أن الفريق الآخر قصده بالقتال. وقد وضح حقيقة هذه المؤامرة العلامة ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله: قال أبو محمد بن حزم: "وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/538-539، البداية والنهاية 7/267.. 2ـ هي دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار كانت بالبصرة "تاريخ الطبري" 4/539، البداية والنهاية 7/267. 3ـ البداية والنهاية 7/268-269.

رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم، فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء2 قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله3 وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا دفعاً عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم"4. فهكذا أنشب الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة قتلة عثمان الأشرار دون أن يفطن لذلك أولئك الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. وأما موقعة صفين: 5 فقد دارت رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذلك أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين

_ 1ـ الإحكام في أصول الأحكام 2/85. 2ـ المقصود بالإشارة إلى الصحابة الذين اقتتلوا في موقعة الجمل. 3ـ انظر المصنف لابن أبي شيبة 15/208-209، المصنف لعبد الرزاق 11/450، المستدرك 3/95. 4ـ منهاج السنة 2/185. 5ـ صفين: موضع بقرب الرقة على شاطيء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس وفيه كانت وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في شهر صفر سنة 37 هجرية معجم البلدان 3/414.

عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع إلى مكة ثم سار من البصرة إلى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه، أو يسلموا إليه ليقتلهم ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه "باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان وإن لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا: وحيئنذ خرج من الكوفة عازماً على دخول الشام فعسكر بالنخيلة1 وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضاً: إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصداً أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين ـ أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين"2. ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية، ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم: فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم إلى نتيجة فما كان من معاوية إلا أن أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل

_ 1ـ النخلة: تصغير نخلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام وهو الموضع الذي خرج إليه علي رضي الله عنه "معجم البلدان" 5/278. 2ـ تاريخ الأمم والملوك 4/563-565، الكامل 3/276-279، البداية والنهاية 7/276-277.

مظلوماً"1. ولما رجع أولئك النفر إلى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع حتى يقتل القتلة أو يسلمهم" عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تقوم بيهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم"2 ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر المحرم ولم يحصل لهم أي اتفاق، ولم يقع بينهم صلح. ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياماً ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة "ليلة الهرير" تشبيهاً لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام"3. وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فنى الناس فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله ـ عز وجل ـ وننيب إليه"4. ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه فمنهم: من رأى الموافقة على التحكيم ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم وافق أخيراً على التحكيم". فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/573، الكامل لابن الأثير 3/285-286، البداية والنهاية 7/280. 2ـ انظر تاريخ الطبري 4/574-575، 5/5، الكامل 3/286-287، ص/289، البداية والنهاية 7/280-281. 3ـ انظر تاريخ الطبري 5/12-48، الكامل 3/294-315، البداية والنهاية 7/284-297. 4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/48، الكامل 3/316-318، البداية والنهاية 7/298.

كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين التي كليهما ـ عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان1 وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح2 ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيئ رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانيء ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل ـ وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم ابن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير أمور3 ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم هذا ما اتفق

_ 1ـ انظر تاريخ الطبري 5/48-49، الكامل 3/316-318، البداية والنهاية 7/298-299. 2ـ أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز "معجم البلدان" 1/129. 3ـ البداية والنهاية 7/302-303، ص/308-309، وانظر تاريخ الأمم والملوك 5/67، الكامل في التاريخ 3/329.

عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه. أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل1 وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف"2. فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاق أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: "هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع"3. ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسموا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر، وليتخذ منها أعداء الإسلام صوراً هزيلة لأعلام الإسلام في المواقف الحرجة، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع"4 ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف

_ 1ـ دومة الجندل: اسم مكان على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضهم يعدها من أعمال المدينة "معجم البلدان" 2/486. 2ـ ذكره ابن العربي في العواصم من القواصم ص/174-176، وانظر تاريخ الأمم والملوك 5/71، الكامل لابن الأثير 3/332-333، البداية والنهاية 7/309-310، ومروج الذهب 2/684-685. 3ـ العواصم من القواصم ص/177. 4ـ انظر تاريخ الطبري 5/70-71، الكامل لابن الأثير 3/332-333، مروج الذهب 2/684-685.

الرأي مخدوع في القول كما وصفوه بأنه كان على جانب كبير من الغفلة"1. ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما أبو موسى واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذا الأمر إلى أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما إلا لعلمهم بما هما عليه من الفضل، وأنهما من خيار الأمة المحمدية ومن أكثرهم ثقة وورعاً وأمانة فكيف يصف الغافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء، وقد تجاهل أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أموراً لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر تلك الأوصاف وتلك الأمور هي: الأمر الأول: أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه أو تثبيتها له. الأمر الثاني: أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية "اعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك"2 ومعنى هذا أن معاوية كان مسلماً لعلي بالخلافة لأنه طلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة، أو إقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين، وكان

_ 1ـ انظر تاريخ الطبري 5/70، الكامل 3/332-333، مروج الذهب 2/684-685. 2ـ فتح الباري 12/284.

قال أبو محمد بن حزم مبيناً أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايراً لقتال علي الخوارج حيث قال: "وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر2 وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر3 فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه"4 فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللمصيب أجران ـ إلى أن قال ـ وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على

_ 1ـ فتح الباري 13/56. 2ـ كانت عادة ابن عمر رضي الله عنه عدم البيعة في حال الاختلاف وكان يبايع عند اجتماع الكلمة فقد أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه عن ابن عمر أنه قال: "ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة" أورده الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري 13/195. 3ـ أي: أترك الكلام لمن هو أكبر منك سناً. 4ـ الحديث متفق عليه. انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 2/178.

الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً"1. فابن حزم رحمة الله عليه يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية إنما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافاً على الخلافة إذ أن معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وإنما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما إذن إنما هو في محل النزاع، وليس من أجل الخلافة. الأمر الثالث: أن موقف أبي موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص في شيء ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطباً بلال بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري بأبيات منها: أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا2 وبيت الدين منقطع الكسر فشد أصار الدين أيام أذرح ... ورد حروباً قد لقحن إلى عقر3 فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم إلا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على

_ 1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/159-161، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/306. 2ـ أي: تنازعوا. 3ـ ديوان ذي الرمة ص/361-362، معجم البلدان 1/130.

مخلاف1 وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا2 وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى إلا لعلمه بصلاحه للإمارة. قال العلامة ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن: "واستدل به على أن أبا موسى كان عالماً فطناً حاذقاً، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين3 فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وأن عمراً لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى ولم يخرج عما اتفقا عليه من تفويض الحسم في موضع النزاع إلى النفر الذين بقوا على قيد الحياة ممن توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم. قال ابن كثير: "والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما: عمرو بن العاص السهمي ـ من جهة أهل الشام والثاني: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ـ من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم وكذلك وقع"4. وإذا كان قرارهما الذي اتفقا عليه لم يتم فما في ذلك تقصير منهما فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى

_ 1ـ كان اليمن حينذاك مقسماً إلى مخلافين. "والمخلاف ـ بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن وهو الكورة والإقليم ـ والرستاق ـ بضم الراء ـ وسكون المهملة بعدها مثناة وآخرها قاف وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن وكان من عمله الجند ـ بفتح الجيم والنون وله بها مسجد مشهور إلى اليوم وكانت جهة أبي موسى السفلى والله أعلم."فتح الباري" 8/61، وقد ذكر ياقوت أن اليمن مخاليف كثيرة انظر معجم البلدان 5/67-70. 2ـ انظر الحديث بطوله في صحيح البخاري 3/72. 3ـ فتح الباري 8/62. 4ـ البداية والنهاية 6/245.

إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ولا أبديا رأيا فيها، وكل ما تقدم ذكره في هذا المبحث عن موقعتي الجمل وصفين وقضية التحكيم هو اللائق بمقام الصحابة فهو خال مما دسه الشيعة الرافضة وغيرهم على الصحابة في تلك المواطن من الحكايات المختلقة والأحاديث الموضوعة ومما يعجب له الإنسان أن أعداء الصحابة إذا دعوا إلى الحق أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم ونحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

موقف أهل السنة من تلك الحرب: إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بيهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وذلك من أعظم الذنوب وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم. وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي: 1- قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1. ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذ كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في

_ 1ـ سورة الحجرات آية/9.

إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد1. 2- روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة" 2. فالمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح وقيل المراد اعتقاد كل منهما الحق3. 3- وروى الإمام أحمد ومسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" 4. والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق. والحديث علم من أعلام النبوة "إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره"5. 4- وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب

_ 1ـ انظر العواصم من القواصم لابن العربي ص/169-170، أحكام القرآن له أيضاً 4/1717-1718. 2ـ المسند 2/313، صحيح البخاري 4/231، صحيح مسلم 4/2214. 3ـ فتح الباري 12/303. 4ـ المسند 3/48، صحيح مسلم 2/745. 5ـ البداية والنهاية 7/305، والحديث في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري13/318.

جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1. ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان ابن عيينة: "قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً" قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان"2. فهذه الثلاثة الأحاديث المتقدم ذكرها كلها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته3. كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4 وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي رضي الله عنه فقد شهد للفريقين بالحسنى فقد روى ابن جرير الطبري أن علياً لما وصل البصرة خطب الناس فقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله ـ عز وجل ـ بذلك قال: نعم قال: فترى لك حجة بتأخيرك

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/61. 2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/198، وانظر فتح الباري 13/66. 3ـ في صحيح مسلم 2/746 "تكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق". 4ـ سورة الحجرات آية/9.

ذلك؟ قال: نعم إن الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة"1. وروى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن علي ـ المعروف بابن الحنفية ـ قال: قال علي: إني لأرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله ـ عز وجل ـ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 2. كما شهد رضي الله عنه بالحسنى للقتلى من الفريقين في موقعة صفين: فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: سئل علي عن قتلى يوم صفين فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة"3. وشهادة علي رضي الله عنه للقتلى من الفريقين بالجنة شهادة حق وصدق لأن الباري ـ جل وعلا ـ أخبر بأنه وعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ووعده ـ سبحانه ـ حق وصدق لا خلف فيه. قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 4 فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعد فيها بالجنة لجميعهم رضي الله عنهم فكل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة واستمر على الإيمان حتى مات فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أن الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا لا يلحقون من أسلم وقاتل قبل الفتح في المرتبة وعلو الدرجة وكلاً وعد الله الجنة ورضي عنهم ومن كمال ورع علي

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/496، الكامل لابن الأثير 3/337-338، البداية والنهاية 7/261. 2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/113، والبيهقي في الاعتقاد ص/195 والآية رقم 47 من سورة الحجر. 3ـ المصنف 15/303 وأورده الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" 3/144. 4ـ سورة الحديد آية/10.

ذلك هو معتقد علي رضي الله عنه في قتلى الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين فقد شهد للقاتل والمقتول منهم بالجنة لأنهم لم يقصدوا بقتالهم إلا الحق الاجتهاد ولم يكونوا مقاتلين لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لدافع الحقد حاشاهم من كل ذلك وقد ثبت كذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترحمت على من قاتلها يوم الجمل أو قتل معها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكر ابن الأثير: أنها رضي الله عنها لما كانت بالبصرة بعد وقعة الجمل سألت يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلان في الجنة، وفلان في الجنة" 2. وقولها رضي الله عنها: فلان في الجنة، وفلان في الجنة تعني بذلك من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه مثل طلحة والزبير رضي الله عنهما. ولقد تقدم معنا أن علياً رضي الله عنه تصرف فيما خلفه القتلى في يوم الجمل تصرفاً يدل على أن تلك الحرب لم تكن بين مسلمين وغير مسلمين وإنما هي حرب بين فريقين من المسلمين يرى كل فريق منهما أن الحق في جانبه حيث جمع كل مخلفات موقعة الجمل وبعث بها إلى مسجد البصرة وقال: "من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان"3. وصلى على جميع القتلى من الفريقين ودفن كثيراً منهم في قبر كبير4 كل عمله هذا يدل على إيمانه أنهم جميعاً كانوا يقاتلون اجتهاداً لا عناداً ولا شهوة،

_ 1ـ المصنف لابن أبي شيبة 15/332. 2ـ الكامل في التاريخ 3/257-258. 3ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/538، الكامل لابن الأثير 3/55، البداية والنهاية 7/267. 4ـ انظر تاريخ الطبري 4/538.

ولا شفاء خصومة كانت بينهم رضي الله عنهم أجمعين ومما ينبغي أن يعلم أن شهادة علي رضي الله عنه بالجنة للقتلى من الفريقين كما تقدم لا يدخل فيها من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان كما لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين وصفتا بأنهما متعلقتان بالحق وإن قاتل معها والتحق بها لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان ـ كائنا من كانوا ـ استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع وفي حالة عدم استطاعته، فإن مواصلتهم تسعير نار الحرب بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك، فإذا قال أهل السنة والجماعة: إن الطائفتين كانتا على الحق فإنما يريدون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم. وكتب أهل السنة مملوءة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها. 1- سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها"1.

_ 1ـ مناقب الشافعي للرازي ص/136، والإنصاف للباقلاني ص/69، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/122، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/394.

قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب"1. والمسلم مطلوب منه أن يتحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعض الصحابة بما لا يكون مصيباً فيه. 2- قال عامر بن شراحبيل الشعبي رحمه الله تعالى في المقتتلين من الصحابة: "هم أهل الجنة لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد"2. 3- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: "قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا"3. ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل ـ إذ كانوا غير متهمين في الدين"4. 4- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: "أقول ما قال الله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 5. 5- قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى6. 6- وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله وذكر له أصحاب رسول الله فقال: رحمهم الله أجمعين ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى

_ 1ـ ذكره عنه الرازي في مناقب الشافعي ص/136. 2ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/303. 3ـ ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/332. 4ـ انظر المصدر السابق 16/332. 5ـ ذكره الباقلانبي في كتابه الإنصاف ص/69 والآية رقم 52 من سورة طه. 6ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/164.

الأشعري والمغيرة كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 1. 7- قال إبراهيم بن آرز الفقيه: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. 8- وقال أبو الحسن الأشعري: "فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة فدل على أنهم كلهم على حق في اجتهادهم وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد، وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبري ممن ينقص أحداً منهم رضي الله عن جميعهم"3. 9- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال: "وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب"4. 10- وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً حق الصحابة على المسلمين بعدهم وما يجب عليهم نحوهم: "فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم

_ 1ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/126 والآية رقم 29 من سورة الفتح. 2ـ مناقب الإمام لابن الجوزي ص/126 والآية رقم 141 من سورة البقرة. 3ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/78. 4ـ رسالته المشهورة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/23.

وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 1 الآية فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد وهو لهم مغفور ولا يوجب ذلك البراءة منهم ولا العداوة لهم ولكن يحب على السابقة الحميدة ويتولى للمنقبة الشريفة"2. 11- وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: "ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم"3أ. هـ 12- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: "ويجب أن يعلم: أن ما جرى بين أصحاب النبي ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقعد أن علياً عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران، وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولا يبدعون والدليل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران

_ 1ـ سورة الحشر آية/10. 2ـ الإمامة والرد على الرافضة ص/343. 3ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/268. 4ـ سورة الفتح آية/18.

على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن عليه السلام: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1 فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهم بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 2 ... إلى أن قال: "ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم والسكوت عنه"أ. هـ3. 13- وقال أبو عثمان الصابوني في صدد ذكره لعرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث: ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم"4. 14- وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: كلهم محمود على ما فعله، القاتل منهم والمقتول في الجنة فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5 وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 6 أي: خياراً عدولاً ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشرة من قريش في الجنة" فسمى فيهم علياً وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق: إن علياً رضي الله عنه ومن اتبعه كان على الصواب والحق، وإن طلحة والزبير كانا

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/61. 2ـ سورة الحجر آية/47. 3ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/67-69. 4ـ عقيدة السلف واصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129. 5ـ سورة آل عمران آية/110. 6ـ سورة البقرة آية/143.

على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد.. إلى أن قال: "والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر لاجتهادهما وبالله التوفيق"1. 15- وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم2 وأن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض3 فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة فوجب حمل أمرهم على ما بيناه ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار4 وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار" 5 وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة "شهيد" ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار وكذلك من قعد غير مخطيء في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم وإبطال فضائلهم وجهادهم وعظيم عنائهم في الدين

_ 1ـ البيان والتحصيل 16/360-361. 2ـ انظر صحيح البخاري 2/292، صحيح مسلم 4/1967، مسند أحمد 3/11. 3ـ انظر سنن الترمذي 5/307-308، سنن ابن ماجه 1/46، جامع الأصول 10/5. 4ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/101، 110، الاعتقاد للبيهقي ص/195، وانظر البداية والنهاية 7/272. 5ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/272، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" 4/289.

رضي الله عنهم"أ. هـ1. 16- وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه لاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدته منهم"أ. هـ2. وقال في موضع آخر مبيناً سبب الحروب التي وقعت بين الصحابة: "واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده. وقسم: عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه. وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن 16/321-322. 2ـ شرح النووي 18/11.

لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك"1 وهذا هو التفسير الصحيح لمواقف الصحابة رضي الله عنهم في تلك الحروب وهو اللائق بحالهم رضي الله عنهم. 17- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون"2.أ. هـ 18- وقال الإمام الذهبي: " ... تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم وجهاد محاء وعبادة ممحصة"3. 19- وقال الحافظ ابن كثير: "وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والاجتهاد يخطيء ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً:

_ 1ـ المصدر السابق 15/149. 2ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/173. 3ـ سير أعلام النبلاء 10/92.

وأما المصيب فله أجران اثنان"1. 20- وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حاكياً للإجماع على وجوب المنع من الطعن على واحد من الصحابة بسبب ما حصل بينهم ولو عرف المحق منهم حيث قال: "واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين"2. فهذه طائفة من كلام أكابر علماء أهل السنة والجماعة تبين منها الموقف الواجب على المسلم أن يقفه من الآثار المشتملة على نيل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار وخلاف ومقاتلة خاصة في حرب الجمل بين الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم. وأيضاً في حرب صفين بين علي ومعاوية وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم وإحسان الظن بهم والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم واعتقاد أنهم مجتهدون والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرف عن أصله وتشوه، كما تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما شجر بينهم هو الإمساك، ومعنى الإمساك عما شجر بينهم وهو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى وقد تقدم معنا قريباً من قول الذهبي رحمه الله تعالى: "بأن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار وخلاف ينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه

_ 1ـ الباعث الحثيث ص/182. 2ـ فتح الباري 13/34.

وأن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد العلماء " لأنه لا مصلحة شرعية ولا علمية من وراء نشر ذلك، أما من ناحية النظر العلمي المستقيم المهتدي بنصوص الشريعة فإن البحث في هذا الموضوع لا يمتنع إذا قصد به تبين أحكام الشريعة1 وما كان ذكر العلماء المعتبرين للحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم إلا على هذا السبيل، أو لبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأغاليط التاريخية التي أثيرت حول مواقفهم في تلك الحروب رضي الله عنهم فعلى المسلم أن يعتقد فيما صح مما جرى بين الصحابة من خلاف أنهم فيه مجتهدون، إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور وهم ليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، وقد وعدوا من الله بالمغفرة والرضوان، كما أنه يجب على كل مسلم أن يكون لسانه رطباً بالذكر الحسن والثناء الجميل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاول جهده في ذكر محاسنهم العظيمة وسيرتهم الحميدة ويتجنب ذكر ما شجر بينهم، هذه طريقة الصدر الأول من هذه الأمة والتي اتخذها أهل السنة والجماعة منهاجاً في موقفهم نحو الصحابة رضي الله عنهم جميعاً. قال العوام2 بن حوشب: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة بعضهم يقول لبعض: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتلف عليها القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا3 الناس عليهم4. وبعبارة أخرى أنه قال: "أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا

_ 1ـ انظر في تفصيل هذا الموضوع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 4/434. 2ـ هو: العوام بن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي ثقة، ثبت، فاضل من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين "تقريب التهذيب" 2/89، التهذيب 8/163-164. 3ـ التحريش: هو الإغراء بين الناس "مختار الصحاح" ص/130، لسان العرب 6/279. 4ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/165.

محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا1 الناس عليهم"2. فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

_ 1ـ أي: تشجعوهم "انظر لسان العرب" 4/136. 2ـ ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 18/33.

المبحث الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

المبحث الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه لما استشهد الخليفة الرابع علي رضي الله عنه بقتل أحد الخوارج له وهو عبد الرحمن بن عمرو المرادي في شهر رمضان لسبع عشرة ليلة خلت منه سنة أربعين للهجرة النبوية1 بويع بالخلافة بعده ابنه الحسن رضي الله عنه واستمر خليفة على الحجاز واليمن والعراق وخراسان وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر وكانت خلافته هذه المدة خلافة راشدة حقه لأن تلك المدة كانت مكملة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" 2. وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضاً بلفظ: "الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك" 3. وعند أبي داود بلفظ: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء أو ملكه من يشاء" 4. ولم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن وقد قرر

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/37، تاريخ الطبري 5/143، الكامل لابن الأثير 3/387، البداية والنهاية 7/387، وانظر تاريخ خليفة بن خياط ص/199، الطبقات له ص/5. 2ـ سنن الترمذي 3/341. 3ـ المسند 5/220-221. 4ـ سنن أبي داود 2/515.

جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنةـ" أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بن علي بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها. فقد قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "فنفذ الوعد الصادق في قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً" فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد ولا تنقص يوماً فسبحان المحيط لا رب ـ غيره"1. وقال القاضي عياض: "لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي ... والمراد في حديث: " الخلافة ثلاثون سنة" خلافة النبوة وقد جاء مفسراً في بعض الروايات "خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" 2. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة3 من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي"4. وقال شارح الطحاوية: وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر"5.

_ 1ـ أحكام القرآن لابن العربي 4/1720. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/201. 3ـ يشير إلى باب عقده في البداية والنهاية وعنون له هكذا "باب في دلائل النبوة الحسية وهي سماوية وأرضية" وهذا الباب في الجزء السادس ص/87، والحديث الذي أشار إليه اورده في نفس الجزء ص/250. 4ـ البداية والنهاية 8/18. 5ـ شرح الطحاوية ص/545.

وقال المناوي بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" قال: وكان ذلك فلما بويع له بعد أبيه وصار هو الإمام الحق مدة ستة أشهر تكملة للثلاثين سنة التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إنها مدة الخلافة وبعدها يكون ملكاً عضوضاً"1. ولما كان رضي الله عنه هو المبايع بالخلافة بعد أبيه وأنه الإمام الحق تلك المدة التي كانت مكملة لخلافة النبوة رأى أنه لا بد من أن يكون أمره نافذاً على بلاد الشام التي كان الأمر فيها حينئذ لمعاوية رضي الله عنه فتوجه نحو بلاد الشام بكتائب2 كأمثال الجبال وبايعه منهم أربعون ألفاً على الموت فلما ترائى الجمعان علم أنه لا يغلب أحدهما حتى يقتل الفريق الآخر فنزل لمعاوية عن الخلافة لا لقلة ولا لذلة بل رحمة للأمة حتى لا يقتل بعضها بعضاً واشترط على معاوية رضي الله عنه شروطاً التزمها، ووفى بها وعلى وفقها جرى الصلح بينهما وقد روى قصة الصلح بينهما الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه. فقد روى بإسناده إلى الحسن البصري حيث قال: "استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية ـ وكان والله خير الرجلين ـ: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا: فإنه يعرض عليك كذا كذا، ويطلب إليك ويسألك

_ 1ـ فيض القدير 2/409. 2ـ الكتيبة: القطعة العظيمة من الجيش والجمع الكتائب "النهاية في غريب الحديث 4/148.

قال: فمن لي بهذا؟ قالا نحن لك به فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحن لك به فصالحه فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ـ والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1. وبقبوله الصلح مع معاوية حصل مصداق قوله صلى الله عليه وسلم فيه: "فكان كما قال: أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة"2. وهذا الإصلاح الذي حصل بين فريقي الحسن بن علي ومعاوية رضي الله عنهما مما يحبه ـ الرب جل وعلا ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أكبر مناقب الحسن رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحاً يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان القتال واجباً مستحباً لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم بترك واجب أو مستحب"3. وقد ذكر بن العربي أسباباً هيأت الحسن لقبول الصلح مع معاوية رضي الله عنه حيث قال: "وعمل الحسن بمقتضى حاله فإنه صالح حين استشرى الأمر عليه وكان ذلك بأسباب سماوية ومقادير أزلية ومواعيد من الصادق صادقة منها: ما رأى من تشتت آراء من معه. ومنها: أنه طعن حين خرج إلى معاوية فسقط عن فرسه وداوى جرحه حتى برأ فعلم من ينافق عليه ولا يأمنه على نفسه.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/114. 2ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/376. 3ـ منهاج السنة 2/202.

ومنها: أنه رأى الخوارج أحاطوا بأطرافه، وعلم أنه إن اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وإن اشتغل بالخوارج استولى عليه معاوية. ومنها: أنه تذكر وعد جده الصادق عند كل أحد صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وإنه لما سار الحسن إلى معاوية بالكتائب في أربعين ألفاً وقدم قيس بن سعد بعشرة آلاف قال عمرو بن العاص لمعاوية: إني أرى كتيبة لا تولي أولاها حتى تدبر أخراها فقال معاوية لعمرو: من لي بذراري المسلمين فقال: أنا فقال: عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: تلقاه فتقول له: الصلح فصالحه فنفذ الوعد الصادق في قوله: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1. وكان ذلك الصلح المبارك الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون علي يد سبطه الحسن بن علي عام واحد وأربعين هجرية "فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل ـ نبوته ـ صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الدنيا الفانية ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الأمة فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد"2 وتسليم الحسن الأمر لمعاوية يعتبر عقد بيعة منه له بالخلافة وكان ذلك في موضع يقال له: "مسكن"3 ولما نزل الحسن عن الخلافة لمعاوية بايعه "الأمراء من الجيشين واستقبل بأعباء الأمة فسمي ذلك العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد"4 ولاجتماع المسلمين بعد الفرقة وتفرغهم

_ 1ـ أحكام القرآن لابن العربي 4/1719-1720. 2ـ البداية والنهاية 8/18. 3ـ مسكن: موضع قريب من أونا على نهر دجيل، "معجم البلدان" 5/127. 4ـ البداية والنهاية 6/250.

للحروب الخارجية والفتوح، ونشر دعوة الإسلام بعد أن عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات. "ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق وحصل على بيعته عامئذ الإجماع والاتفاق ـ رحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم، وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وجعل كما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية وهو في ذلك ـ هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجاً ولا تلوماً ولا ندماً، بل هو راض بذلك مستبشر به وإن كان قد ساء هذا خلقاً من ذويه وأهله وشيعتهم ولا سيما بعد ذلك بمدد، وهلم جراً والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة"1. والحاصل مما تقدم أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن خلافة الحسن بن علي كانت خلافة حقة وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ستكون ثلاثين سنة وكذلك كانت كما أخبر عليه الصلاة والسلام.

_ 1 ـ البداية والنهاية 8/21.

الباب الثالث: سلامة قلوب وألسنة أهل السنة والجماعة للصحابة الكرام رضي الله عنهم

الباب الثالث: سلامة قلوب وألسنة أهل السنة والجماعة للصحابة الكرام رضي الله عنهم الفصل الأول: وجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم لما شرفهم الله به من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وقد دلت النصوص الكثيرة على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وقد فهم أهل السنة والجماعة ما دلت عليه النصوص في هذا واعتقدوا ما تضمنته مما يجب لهم من المحبة على وجه العموم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن تلك النصوص: 1- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روى ذلك عن مالك وغيره، قال مالك: "من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا

_ 1ـ سورة الحشر آية/10.

مِنْ بَعْدِهِمْ} 1. 2- روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" 2. هذا الحديث تضمن الحث لكل إنسان يأتي بعد الصحابة في أن يحفظ حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، بل عظموهم ووقروهم، ولا تتخذوهم هدفاً ترمونهم بقبيح الكلام، كما يرمى الهدف بالسهم، وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهم ما استقر في قلب إنسان إلا بسبب حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وما وجد بغضهم في قلب إنسان إلا بسبب ما فيه من البغض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأخذه": أي: يعاقبه في الدنيا أو في الآخرة3. فالحديث دل على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم وخطورة بغضهم. قال المناوي في قوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي" أي: اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم، وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذاناً بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص "فمن أحبهم فبحبي أحبهم" أي: فبسبب حبهم إياي، أو حبي إياهم، أي: إنما أحبهم لحبهم إياي، أو لحبي إياهم. "ومن أبغضهم فببغضي" أي: فبسبب بغضه إياي، "أبغضهم" يعني إنما أبغضهم لبغضه إياي ... وخص الوعيد بها لما اطلع عليه مما سيكون بعده من ظهور البدع وإيذاء بعضهم زعماً منهم الحب لبعض آخر، وهذا من

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/32. 2ـ سنن الترمذي 5/358، وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/87، والبيهقي في الاعتقاد ص/161. 3ـ انظر تحفة الأحوذي 10/365، الفتح الرباني للساعاتي 22/169.

باهر معجزاته، وقد كان في حياته حريصاً على حفظهم والشفقة عليهم. أخرج البيهقي عن ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"، وإن تعرض إليهم ملحد وكفر نعمة قد أنعم الله بها عليهم، فجهل منه وحرمان، وسوء فهم، وقلة إيمان، إذ لو لحقهم نقص لم يبق في الدين ساق قائمة لأنهم النقلة إلينا، فإذا جرح النقلة دخل من الآيات والأحاديث التي بها ذهاب الأنام، وخراب الإسلام إذ لا وحي بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدالة المبلغ شرط لصحة التبليغ1. 3- وروى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" 2. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا: "أن علامات كمال إيمان الإنسان، أو نفس إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة وحسن جواره ورسوخ صدقاتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه.."وآية النفاق" بالمعنى الخاص "بغض الأنصار"، صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام التأكيد، ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافر ظاهراً، وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى، لما امتازوا به من الفضائل، فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض، فوجب التحذير من بغضهم

_ 1ـ فيض القدير للمناوي 2/98. 2ـ صحيح البخاري 1/12.

والترغيب في حبهم، وأبرز ذلك في هذين التركيبين المفيدين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان، فجعل ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الإدعائي، حتى كأنه: لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ولا علامة للنفاق إلا بغضهم، وليس بغضهم إلا علامته تنويهاً بعضيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في المعنى مشاركاً لهم في الفضل كل بقسطه"1. 4- وروى مسلم بإسناده إلى عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله". قال شعبة: قلت لعدي: سمعته من البراء؟ قال: إياي حدث2. 5- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" 3. 6- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله" 4. 7- وروى الحافظ الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم" 5.

_ 1ـ فيض القدير للمناوي 1/62. 2ـ صحيح مسلم 1/85. 3ـ المصدر السابق 1/86. 4ـ المسند 2/501، ورواه ابن ماجه من حديث البراء بن عازب 1/57، وأورده الشيخ الألباني في الصحيحة برقم "991". 5ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/39، وقال عقبه: "ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم

8- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" 1. 9- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الحي من الأنصار محنة 2 حبهم إيمان وبغضهم نفاق" 3. 10- وروى أيضاً: بإسناده إلى الحارث بن زياد الساعدي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة فقال: يا رسول الله بايع هذا، قال: "ومن هذا" قال: ابن عمي حوط بن يزيد أو يزيد بن حوط، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أبايعك إن الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إليهم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يحب رجل الأنصار حتى يلقى الله تبارك وتعالى إلا لقي الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو يحبه، ولا يبغض رجل الأنصار حتى يلقى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلا لقي الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو يبغضه" 4. 11- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"5. فهذه الأحاديث كلها دلت على وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ = وهو ثقة"، وذكر أيضاً: أن الطبراني رواه بهذا اللفظ عن معاوية بن أبي سفيان ورجاله رجال الصحيح غير النعمان بن مرة وهو ثقة أهـ". وأورده أيضاً الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/724. 1ـ المسند 4/283. 2ـ معناه: أن الله تعالى يمتحن الناس بحبهم وبغضهم، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله. 3ـ المسند 5/285، قال الساعاتي في كتابه "الفتح الرباني" 22/174: "لم أقف عليه لغير الإمام أحمد عن سعد بن عبادة، وسنده جيد ورجاله ثقات". ورواه عبد الرزاق في المصنف 11/59. 4ـ المسند 3/429، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/235، ورواه أيضاً عبد الرزاق في المصنف 11/59. 5ـ صحيح مسلم 1/186.

جميعاً مهاجرين وأنصار، ولا يقال إن ظاهر لفظها في الأنصار فلا يدخل فيها المهاجرون، بل الصحيح أنه يدخل فيها كل فرد من أفراد الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغناء في الدين رضي الله عنهم أجمعين. كما اشتملت على ذكر الجزاء الذي ينتظر من يكن لهم المحبة في قلبه ومن يكن لهم البغض، فمن أحبهم فاز بحب الله له، ومن أبغضهم أبغضه الله، وشتان بين الجزائين، كما دلت على أن القلب الذي امتلأ ببغضهم إنما هو قلب ينضح بالنفاق، خذل صاحبه بعدم الإيمان والعياذ بالله. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى مبيناً المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار"، وفي الرواية الأخرى: "لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" وفي الأخرى: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" وفي حديث علي رضي الله عنه: "والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق". الآية: هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعلياً لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم1.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 2/63-64.

وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً العلة من جعله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق حيث قال: "وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان وبغضه من النفاق، وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرتهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً1. وقال العيني رحمه الله تعالى شارحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم، لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعاً في فضل أصحابه كلهم: " من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم". وقال القرطبي: "وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طاريء من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يقال: كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطيء معذور، مع أنه مخاطب بما

_ 1ـ كتاب الكبائر ص/234-235.

يراه ويظنه، فمن وقع له بغض في أحد منهم والعياذ بالله لشيء من ذلك، فهو عاص يجب عليه التوبة، ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم وفضائلهم، وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق إذ لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1 الآية أ. هـ. وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاعتقاد ما دلت عليه النصوص المتقدم ذكرها من أن حب الصحابة واجب على كل مسلم، فقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سنة؟ قال: لا، فريضة2. وقال الطحاوي رحمه الله تعالى مبيناً ما يجب على المسلم اعتقاده في محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"3. وقال أبو عبد الله بن بطة في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة: "ويحب جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتبهم ومنازلهم أولاً فأولاً: من أهل بدر والحديبية وبيعة الرضوان وأحد فهؤلاء أهل الفضائل الشريفة والمنازل المنيفة الذين سبقت لهم السوابق رحمهم الله أجمعين"4. فعلى المسلم أن يسلك في حب الصحابة مسلك أهل الحق من أهل السنة

_ 1ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1/152، والآية رقم 10 من سورة الحشر. 2ـ رواه خيثمة بن سليمان في كتاب "الرقائق والحكايات"، ص/171. 3ـ شرح الطحاوية ص/467. 4ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/271.

والجماعة بحيث يحبهم جميعاً، ولا يفرط في حب أحد منهم وأن يتبرأ من طريقة الشيعة الرافضة الذين يتدينون ببغضهم وسبهم، ومن طريقة النواصب والخوارج الذين ابتلوا بإيذاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم كل مسلم أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة هذه الفرق فيهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ويبترؤون من طريقة الروافض والشيعة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"1. فمن أراد السلامة لدينه وأن يسلم له إيمانه فليحبهم جميعاً، وأن يختم ذلك على نفسه، وعلى كل أبناء جنسه لأن ذلك واجب على جميع الأمة واتفق على ذلك الأئمة، فلا يزوغ عن حبهم إلا هلك، ولا يزوغ عن وجوب ذلك إلا آفك2.

_ 1ـ العقيدة الواسطية مع شرحها، لمحمد خليل هراس ص/173، وانظر قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر ص/103. 2ـ انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/354.

المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم

المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم من حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على كل من جاء بعدهم من عباد الله المؤمنين أن يدعو لهم ويستغفر لهم، ويترحم عليهم، لما لهم من القدر العظيم، ولما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير على كل من أتى بعدهم، فهم الذين نقلوا إلى من بعدهم الدين الحنيف الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ففضلهم مستمر على كل مسلم جاء بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد ندب الله ـ جل وعلا ـ كل من جاء بعدهم من أهل الإيمان إلى أن يدعو لهم، ويترحم عليهم، وأثنى على من استجاب منهم لذلك بقوله ـ جل وعلا ـ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. فالآية مشتملة على بيان موقف أهل الإيمان ممن تقدمهم من الصحابة، فقد بين ـ تعالى ـ أن موقفهم من أولئك الصفوة أنهم يثنون عليهم، ويدعون لهم ابتهاجاً بما آتاهم الله من الفضل وغبطة لهم فيما وفقوا له من الأعمال المصحوبة بالإخلاص واليقين، وهذا الموقف المبارك ينطبق على أهل السنة والجماعة، فقد وفقهم الله للثناء الجميل والقول الحسن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين يترضون عنهم جميعاً ويستغفرون لهم، وحرم هذا الموقف العظيم الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم سبهم وبغضهم والحقد عليهم، وهذا خذلان أيما خذلان

_ 1ـ سورة الحشر آية/10.

أعاذنا الله منه. وقد فهم متقدموا أهل السنة والجماعة ومتأخروهم أن المراد من الآية السابقة الأمر بالدعاء والاستغفار من اللاحق للسابق، ومن الخلف للسلف، الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طائفة من أقوالهم التي دلت على عمق معرفتهم بما دل عليه كتاب ربهم جل وعلا: 1- روى الإمام مسلم بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت لي عائشة: "يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم"1. 2- وعند ابن أبي شيبة بلفظ: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم"2. 3- وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردوية عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسبوهم، ثم قرأت الآية {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 3. قال النووي رحمه الله تعالى: قولها: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم" قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا: وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا: وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم

_ 1ـ صحيح مسلم 4/2317. 2ـ المصنف لابن أبي شيبة 12/179. 3ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 8/113.

لأن الله ـ تعالى ـ إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر الله لهم والله أعلم"1. 4- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون"2. 5- ذكر الإمام البغوي رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية. عن مالك بن مغول قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت3 اليهود والنصارى الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم، فقالت: أصحاب موسى عليه السلام، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم، فقالوا: حواري عيسى عليه السلام، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم، فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن المضلة"4. 6- وروى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر، قال: أقبلت أنا وأبي دار عامر، فقال له أبي: يا أبا عمرو، قال: لبيك، قال: ما تقول فيما قال فيه الناس من هذين الرجلين، قال عامر: أي هذين الرجلين؟ قال: علي وعثمان قال: إني والله لغني أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وغفر لنا ولهما"5.

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 18/158-159. 2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/119، وأورده القرطبي في تفسيره 18/33. 3ـ أي: فضلت. فقد جاء في شرح الطحاوية، ص/531: "بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة". 4ـ تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54، وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/33، وانظر منهاج السنة 1/6-7، شرح الطحاوية ص/531-352. 5ـ حلية الأولياء 4/321، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 12/179.

7- أخرج عبد بن حميد عن الضحاك بن مزاحم رحمه الله تعالى، أنه قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "إمروا بالاستغفار لهم وقد علم ما أحدثوا"1. 8- وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال بعد قراءته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم"2. فهذه جملة صالحة من أقوال السلف الصالح كلها دلت على أن كل من جاء بعد الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم مأمور بالدعاء والاستغفار لهم، والترحم عليهم، وأنه يجب على كل مسلم أن يطهر قلبه من الغل والحقد عليهم، وقد استنبط أهل العلم من الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء أهل السنة والجماعة أن من لم يستغفر لهم وكان في قلبه غل عليهم أنه بعيد من أهل الإسلام، ولا حظ له في الفيء وما يغنمه المسلمون. 9- أخرج ابن مردوية عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية.. ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 3 ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء"4. 10- وأخرج ابن مردوية من وجه آخر عن ابن عمر أنه بلغه أن رجلاً نال من عثمان، فدعاه، فأقعده بين يديه، فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}

_ 1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113. 2ـ جامع البيان للطبري 28/44-45. 3ـ الآيات رقم 10.9.8 من سورة الحشر. 4ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113-114.

الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم، قال: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم1. ولم يذكر الآية الواردة في الأنصار لكون الرجل تناول عثمان رضي الله عنه وهو من المهاجرين. 11- روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر، قال: "حدثنا عبد الله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم"2. ولا يتردد من له أدنى علم في أن الشيعة الرافضة خارجون من هذه المنزلة لأنهم لم يترحموا على الصحابة ولم يستغفروا لهم بل سبوهم وحملوا لهم الغل في قلوبهم، فحرموا من تلك المنزلة التي يجب على المسلم أن يكون فيها ولا يحيد عنها بحال حتى يلقى ربه ـ جل وعلا ـ.

_ 1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113-114. 2ـ وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" 1/153، ورواه الحاكم في المستدرك 2/484، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

12- وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى أتى على هذه الآية {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. 13- وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين وللذن يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: الذين جاءوا في حال قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ من فيء المسلمين بنص الكتاب"2.أ. هـ 14- وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ... ـ إلى أن قال ـ: "فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله ـ تعالى ـ رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين.

_ 1ـ انظر قول مالك في: "أحكام القرآن لابن العربي" 4/1778، زاد المسير في علم التفسير 8/216، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/609. 2ـ زاد المسير في علم التفسير 8/216.

قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل"1. 15- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر آيات الحشر الثلاث من قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. قال رحمه الله: "وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء، ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة، فإنهم لم يستغفروا للسابقين وفي قلوبهم غل عليهم، ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ذلك، وهذا ينقض مذهب الرافضة"3. 16- وقال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} الآية.. هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في آية براءة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4. فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أي: قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا

_ 1ـ تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54. 2ـ الآيات أرقام 10.9.8. 3ـ منهاج السنة 1/153، وانظر شرح الطحاوية ص/529. 4ـ آية رقم 100.

بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} أي: بغضاً وحسداً {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1أ. هـ. 17- وقال الشوكاني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "أمرهم الله ـ سبحانه ـ بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله ـ سبحانه ـ أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله ـ سبحانه ـ والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلقة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور فاشتروا الضلالة بالهدى واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 6/609.

رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر والله من ورائهم محيط1أ. هـ. فهذه النصوص التي سقناها في هذا المبحث عن المتقدمين والمتأخرين من أهل السنة والجماعة كلها تبين أنهم هم الفائزون بسلامة الصدور من الغل والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يعتقدون أن من حق الصحابة الكرام على من بعدهم الترحم عليهم والاستغفار لهم فأهل السنة والجماعة يترحمون على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم، ويذكرون محاسنهم وينشرون فضائلهم ويقتدون بهديهم ويقتفون آثارهم، ويعتقدون أن الحق في كل ما قالوه والصواب فيما فعلوه2. فمن لم يترحم على الصحابة ويستغفر لهم فهو ليس من أهل السنة والجماعة وليس له حظ في شيء من في المسلمين.

_ 1ـ فتح القدير 5/202. 2ـ انظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/264-265.

البحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

البحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم ... المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، وكل ذلك شهادة منه صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، وسواء ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم الشخص من أهل الجنة أو أخبر أن له كذا أو مكانته في الجنة كذا أو أخبر أنه رآه في الجنة الكل يشهد له أهل السنة والجماعة بالجنة تصديقاً منهم لخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن عشرة من المهاجرين بأنهم في الجنة وسماهم بأعيانهم وبشرهم بها وأولئك العشرة هم: 1- أبو بكر: عبد الله بن عثمان الصديق الأكبر. 2- أبو حفص: عمر بن الخطاب. 3- أبو عبد الله: عثمان بن عفان. 4- أبو الحسن: علي بن أبي طالب. 5- أبو محمد: طلحة بن عبيد الله. 6- أبو عبد الله: الزبير بن العوام. 7- أبو إسحاق: سعد بن أبي وقاص. 8- أبو محمد: عبد الرحمن بن عوف. 9- أبو عبيدة: عامر بن عبد الله بن الجراح. 10- أبو الأعور: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.

وهؤلاء العشرة رضي الله عنهم انتظم تبشيرهم بالجنة حديث واحد. روى الإمام الترمذي وغيره عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص" قال: فعد هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟، قال: "نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة"1. هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم وكلهم من المهاجرين وتبشير العشرة هؤلاء بالجنة لا ينافي تبشير غيرهم، فقد جاء تبشير غيرهم في غير ما خبر، ولأن العدد في الحديث لا ينفي الزائد وممن بشر بالجنة سوى هؤلاء العشرة كثير منهم:- 11- "بلال بن رباح": بلال بن رباح الحبشي المؤذن واسم أمه حمامة اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن له، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، خرج رضي الله عنه مجاهداً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات بالشام زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه2. وقد بشر رضي الله عنه بالجنة في غير ما حديث، فقد روى البخاري رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء 3 امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة

_ 1ـ سنن الترمذي 3/311-312، وسنن أبي داود 2/515-516، وابن ماجه 1/48. 2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/232-239، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/145-150، أسد الغابة 1/206-209، تهذيب الأسماء واللغات 1/136-137، سير أعلام النبلاء 1/347، الإصابة 1/169، تهذيب التهذيب 1/502. 3ـ جاء في النهاية: 2/263: "يقال غمصت العين ورمصت والرمص وهو البياض الذي =

فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال" 1. وعند مسلم بلفظ: "..ثم سمعت خشخشة أمامي فإذا بلال" 2. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة"، قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي 3. 12- "زيد بن حارثة": هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي بن عبد العزى بن زيد بن امريء القيس وزيد هذا هو ولد أسامة بن زيد بن زيد الحب ابن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} 4، استشهد في مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة رضي الله عنه5. ومما جاء في بشارته بالجنة ما أخرجه ابن عساكر عن زيد بن الحباب: حدثني حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا

_ = تقطعه العين ويجتمع في زوايا الأجفان والرمص الرطب والغمص اليابس". 1ـ صحيح البخاري 2/293. 2ـ صحيح مسلم 4/1908. 3ـ صحيح مسلم 4/1910. 4ـ من الآية رقم 5 من سورة الأحزاب. 5ـ انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 3/40-47، الجرح والتعديل 3/559، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/525-530، أسد الغابة 2/224-227، تهذيب الأسماء واللغات 1/202-203، سير أعلام النبلاء 1/220-230، مجمع الزوائد 9/274-275، الإصابة 1/545-546.

لزيد بن حارثة" 1. فهذا الحديث اشتمل على منقبة ظاهرة لزيد بن حارثة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحد الذين رأى لهم بعض النعيم المعد لهم في الجنة. 13- "حاطب بن أبي بلتعة": هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي من ولد لخم بن عدي، يكنى أبا عبد الله، وقيل يكنى أبا محمد واسم أبي بلتعة عمرو بن راشد بن معاذ اللخمي، حليف قريش، ويقال: إنه من مذجح، وقيل: هو حليف للزبير بن العوام، وهو من أهل اليمن، والأكثر أنه حليف لبني أسد بن عبد العزى، شهد بدراً والحديبية، ومات سنة ثلاثين بالمدينة، وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه ذو النورين عثمان2. وقد جاء النص عليه في أنه من أصحاب الجنة، وممن يقطع له بدخولها فيما رواه مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية" 3. فهذا الحديث تضمن فضيلة لأهل بدر والحديبية على وجه العموم ولحاطب

_ 1ـ أورده السيوطي في "الجامع الصغير" وعزاه للروياني والضياء في المختارة عن بريدة. انظر: فيض القدير للمناوي 3/521، وذكره الألباني في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/474، وقال: رواه ابن عساكر 6/399/2، من طريقين عن زيد بن الحباب ... إلخ السند المذكور، ثم قال: وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وأورده أيضاً في: صحيح الجامع 3/141، وقال عقبه: صحيح. 2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/114-115، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/347-350، سير أعلام النبلاء 2/43-45، البداية والنهاية 7/171، الإصابة 1/299-300. 3ـ صحيح مسلم 4/1942.

على وجه الخصوص، حيث نص عليه باسمه أنه من أهل الجنة وأن النار لا تمسه رضي الله عنه وأرضاه. 14- "عكاشة بن محصن": هو عكاشة بن محصن بن حرثان بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان بن أسيد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس من السابقين الأولين البدريين أهل الجنة، قتل شهيداً في قتال أهل الردة زمن أبي بكر الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة وقد هداه الله ـ عز وجل ـ فرجع إلى الإسلام1. شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" فتفرق الناس، ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقام آخر، فقال: أمنهم أنا؟ فقال: "سبقك بها عكاشة" 2.

_ 1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/92-93، الجرح والتعديل 7/39، حلية الأولياء 2/12-13، الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/155-157، تهذيب الأسماء واللغات 1/338، الإصابة 2/487-489. 2ـ صحيح البخاري 4/18-19، وانظر صحيح مسلم 1/199.

وعند الإمام مسلم من حديث عمران بن حصين، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب" قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" 1. فهذان الحديثان فيهما منقبة لعكاشة بن محصن رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من المقطوع لهم بدخول الجنة. 15- "سعد بن معاذ": هو أبو عمرو سعد بن معاذ بن النعمان بن امريء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي سيد الأوس، وأمه كبشة بنت رافع، لها صحبة، أسلم رضي الله عنه بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية علي يدي مصعب بن عمير، ثم كان سبباً في إسلام قومه كلهم، شهد بدراً، وأحداً، والخندق، ورمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهراً حتى حكم في بني قريظة حكمه المشهور2 الذي وافق حكم الله من فوق سبع سموات، وبعد ذلك مات بسبب انتقاض جرحه وذلك سنة خمس3. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم ببعض ما أعد الله له في الجنة من النعيم، فقد روى الشيخان

_ 1ـ صحيح مسلم 1/198. 2ـ وهو أن من أنبت منهم قتل ومن لم ينبت خلي سبيله، انظر حديث عطية القرظي في سنن أبي داود 2/453، سنن الترمذي 3/72، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". 3ـ انظر ترجمته في انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/420-436، الجرح والتعديل 4/93، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/25-30، أسد الغابة 2/296-299، تهذيب الأسماء واللغات 1/214-215، سير أعلام النبلاء 1/279-297، البداية والنهاية 4/143-146، الإصابة 2/35.

من حديث البراء رضي الله عنه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: "تعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" 1. ورويا أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة2 سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال: "والذي نفس محمد بيده إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" 3. ففي هذين الحديثين: إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها التي هي المناديل خير من تلك الجبة التي أثارت العجب في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المناديل أدنى الثياب فغيره أفضل، وفيها إثبات الجنة لسعد بن معاذ رضي الله عنه4. 16- "ثابت بن قيس بن شماس": هو: ثابت بن قيس بن شماس من مالك بن امريء القيس بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، وأمه امرأة من طيء، يكنى أبا محمد بابنه محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، كان رضي الله عنه خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وقتل يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه5.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/95، صحيح مسلم 4/1916، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/158. 2ـ الجبة: هي ما قطع من الثياب مشمراً. هدي الساري، ص/96، وانظر شرح النووي 16/23-24. 3ـ صحيح البخاري 2/95، صحيح مسلم 4/1916، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/158. 4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 16/23. 5ـ انظر ترجمته في الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/193-197، تهذيب الأسماء واللغات 1/139-140، سير أعلام النبلاء 1/308-314، تهذيب التهذيب: 2/12-13، الإصابة 1/197.

وقد وردت بشارته بالجنة فيما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار فأتى الرجل1 النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى2: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: "اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة" 3. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 4 إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: "يا أبا عمر، وما شأن ثابت؟ أشتكى5"؟ قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكو، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة". وفي رواية أخرى له عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية. واقتص الحديث6 ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة7.

_ 1ـ هذا الرجل هو سعد بن معاذ كما في رواية مسلم التي ستأتي بعد هذا الحديث. 2ـ هو ابن أنس راوي الحديث عن أنس. انظر: فتح الباري 8/592. 3ـ صحيح البخاري: 3/191. 4ـ سورة الحجرات آية/2. 5ـ أشتكى: الهمزة للاستفهام أي: أمرض، فالشكوى هنا المرض وهمزة الوصل ساقطة كما في قوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} . 6ـ أي: وروى الحديث على وجهه. 7ـ الحديثان في صحيح مسلم: 1/110-111.

هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة رضي الله عنه وأرضاه. 17- "حارثة بن سراقة": هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، أمه الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك، شهد بدراً، وقتل يومئذ شهيداً، قتله حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، وكان خرج نظاراً يوم بدر ورماه فأصاب حنجرته فقتله، وهو أول قتيل قتل ببدر من الأنصار1. وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: "ويحك ـ أو هبلت ـ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنات كثيرة، وإنه في جنة الفردوس" 2. وروى أيضاً: بإسناده إلى أنس بن مالك أن أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب ـ فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 3. في هذين الحديثين منقبة ظاهرة لحارثة بن سراقة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر

_ 1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/510-511، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/284، الإصابة في تمييز الصحابة 1/297، فتح الباري 7/305، أسد الغابة 1/355-356. 2ـ صحيح البخاري 3/7. 3ـ صحيح البخاري 2/139.

أمه بأنه في الجنة وأنه أصاب من الجنان أعلاها، وهي الفردوس. 18- حارثة بن النعمان: هو: حارثة بن النعمان بن نقع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، يكنى أبا عبد الله، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من فضلاء الصحابة، توفي رضي الله عنه في خلافة معاوية بن أبي سفيان1. وحارثة هذا وردت بشارته بالجنة فيما صح من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نمت فرأيتني في الجنة فسمعت صوت قاريء يقرأ فقلت: من هذا؟، قالوا: حارثة بن النعمان" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذاك البر كذاك البر" وكان أبر الناس بأمه"2. ورواه أبو عبد الله الحاكم بلفظ: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذلكم البر كذلكم البر" 3. قال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم: "كذلكم البر كذلكم البر" المشار إليه ما سبق والمخاطبون الصحابة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم رأى هذه الرؤيا وقصها على أصحابه، فلما بلغ إلى قوله النعمان نبههم على سبب نيل تلك الدرجة بقوله

_ 1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/487-488، طبقات خليفة ص/90، المستدرك 3/208، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/282-284، أسد الغابة 1/358-359، سير أعلام النبلاء 2/378-380، الإصابة 1/298-299. 2ـ المسند 6/151-152، قال الحافظ: إسناده صحيح. الإصابة 1/298. 3ـ المستدرك 3/208، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 3/519، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/616.

"كذلكم البر"، أي: حارثة، نال تلك الدرجة بسبب البر وموقع هذه الجملة التذييل كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، وفيه من المبالغة أنه جعل جزاء البر براً، وعرف الخبر بلام الجنس تنبيهاً على أن هذه الدرجة القصيا لا تنال إلا ببر الوالدين والتكرار للاستيعاب. أ.هـ1. 19- "عبد الله بن سلام": هو: عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم، كان حليفاً للأنصار، وهو أحد أحبار اليهود أسلم رضي الله عنه حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، توفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين2. أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض "إنه من أهل الجنة"، إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية. ورويا أيضاً ـ عن قيس بن عباد، قال: كنت جالساً في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج، وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد4 أن يقول ما لا يعلم،

_ 1ـ ذكره عنه المناوي في فيض القدير 3/519 والآية رقم 34 من سورة النمل. 2ـ انظر ترجمته في الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/374-376، أسد الغابة 3/176، البداية والنهاية 8/30، الإصابة 2/312-313. 3ـ صحيح البخاري 2/314، صحيح مسلم 4/1930، والآية رقم 10 من سورة الأحقاف. 4ـ هذا إنكار من عبد الله بن سلام حيث قطعوا له بالجنة فيحمل على أن هؤلاء بلغهم خبر سعد بن

وسأحدثك لم ذاك رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة1 فقيل له: ارقه، قلت: لا أستطيع فأتاني منصف2 فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها فأخذت العروة فقيل له: استمسك فاستيقطت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت" وذاك الرجل عبد الله بن سلام"3. وفي سنن الترمذي من حديث طويل عن معاذ بن جبل، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ أي في ابن سلام ـ "إنه عاشر عشرة4 في الجنة"5. هذه الأحاديث تضمنت الشهادة بالجنة لعبد الله بن سلام وأنه من المقطوع لهم بها. قال ابن كثير في ترجمة عبد الله بن سلام: "وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو ممن يقطع له بدخولها"6.

_ = أبي وقاص بأن ابن سلام من أهل الجنة ولم يسمع هو، ويحتمل أنه كره الثناء عليه بذلك تواضعاً وإيثاراً للخمول وكراهة للشهرة. شرح النووي: 16/42، فتح الباري 7/131. 1ـ العروة: هي مقبض الشيء. انظر لسان العرب 15/45. 2ـ هو الخادم الصغير المدرك للخدمة. شرح النووي 16/42، النهاية في غريب الحديث 5/66. 3ـ صحيح البخاري 2/314-315، صحيح مسلم 4/1930-1931، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/164. 4ـ جاء في تحفة الأحوذي: 10/307: "عاشر عشرة في الجنة" أي: مثل عاشر عشرة، أو المعنى يدخل بعد تسعة نفر من الصحابة في الجنة ذكره السيد جمال الدين. قال القاريء: وفيه أنه يلزم تقدمه على بعض العشرة، فلعله العاشر من الذين أسلموا من اليهود، أو مما عدا العشرة فيدخل الجنة بعد تسعة عشر من الصحابة. أهـ. 5ـ سنن الترمذي 5/336، وقال عقبه: وفي الباب عن سعد هذا حديث حسن غريب. 6ـ البداية والنهاية 8/30.

20- "أم سليم بنت ملحان": هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، اختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، ويقال: الغميصاء أو الرميصاء كانت تحت مالك بن النضر، أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، فمات، فتزوجت بعده أبا طلحة الأنصاري1. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها وسمع صوت حركة مشيها في الجنة. فقد روى البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء2 امرأة أبي طلحة" 3. وعند مسلم بلفظ: "أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة" 4. وروى مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دخلت الجنة فسمعت خشفة 5 فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك" 6. فهذه الأحاديث تضمنت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لأم سليم رضي الله عنها.

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/424-434، الجرح والتعديل 9/464، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/437-438، سير أعلام النبلاء 2/304-311، الإصابة 4/441-442، تهذيب التهذيب 12/471. 2ـ الرمص: قذى يابس وغير يابس يكون في أطراف العينين. انظر شرح النووي: 16/11، النهاية في غريب الحديث 2/263. 3ـ صحيح البخاري 2/293. 4ـ صحيح مسلم 4/1908. 5ـ هي: حركة المشي وصوته. انظر: شرح النووي 16/11، النهاية في غريب الحديث 2/34. 6ـ صحيح مسلم 4/1908.

وهناك جماعة من أهل بيت النبوة غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها دلالة واضحة في أنهم ممن يقطع لهم بدخول الجنة، منهم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد، فقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب1، وابنته فاطمة رضي الله عنها أخبر بأنها سيدة نساء أهل الجنة2 وولداها الحسن والحسين فقد بين عليه الصلاة والسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة3، وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه دخل الجنة فنظر فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة وإذا حمزة متكيء على سرير4. فكل من تقدم ذكره شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على سبيل التنصيص عليه باسمه منفرداً، كما شهد صلى الله عليه وسلم بالجنة لخلق كثير من الصحابة على سبيل الجمع كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فأهل بدر كان عددهم رضي الله عنهم بضعة5 عشر وثلاثمائة6، فهؤلاء أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة فقد روى البخاري من حديث طويل عن علي رضي الله عنه، وفيه أنه قال: "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم" 7.

_ 1ـ صحيح البخاري 2/315-316، صحيح مسلم 4/1887. 2ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/627-628، المستدرك 3/151. 3ـ انظر المسند 3/3، سنن الترمذي 5/321، سنن ابن ماجه 1/44، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 3/415. 4ـ انظر المستدرك 3/209، الجامع الصغير للسيوطي. انظر فيض القدير للمناوي 3/521، صحيح الجامع الصغير للألباني 3/140-141. 5ـ البضع: في العدد بالكسر وقد يفتح ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد. النهاية في غريب الحديث 1/133. 6ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/290-291. 7ـ صحيح البخاري 3/7.

وأما أهل بيعة الرضوان فقد كان عددهم ألفاً وأربعمائة1 وكلهم شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأنهم ممن يقطع لهم بدخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" 2. فقد قال أهل العلم: "معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً ... وإنما قال: إن شاء الله للتبرك لا للشك" 3. فأهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لكل من قدمنا ذكره في هذا المبحث 4، بل يشهدون بالجنة لجميع الصحابة من مهاجرين وأنصار حيث إن الله تعالى وعدهم جميعاً بالحسنى كما قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 5.

_ 1 ـ ذكر البخاري ثلاثة أقوال في عددهم وأرجحها ما أوردناه هنا. انظر صحيح البخاري 3/42-43، وشرحه فتح الباري 7/440. 2ـ صحيح مسلم 4/1942. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/58. 4ـ انظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/261-264، عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128، لمعة الاعتقاد لابن قدامة ص/28، العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/169، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر لصديق حسن خان ص/98. 5ـ سورة الحديد آية/10.

الفصل الثاني: إثبات عدالتهم رضي الله عنهم

الفصل الثاني: إثبات عدالتهم رضي الله عنهم المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح ... المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح أولاً: معنى العدالة في اللغة: جاء في الصحاح1 للجوهري: "العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدلته، وفلان من أهل المَعْدلة، أي: من أهل العدل، ورجل عدل، أي: رضا ومقنع في الشهادة، وهو في الأصل مصدر، وقوم عدل وعدول أيضاً: وهو جمع عدل وقد عدل الرجل بالضم عدالة.. إلى أن قال: وتعديل الشيء: تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام". وجاء في لسان العرب2: "رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال في موضعين: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 3، ويقال: رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر"أ. هـ. وجاء في المصباح المنير: "وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها و"عُدِّل" هو بالضم، عدالة وعدولة فهو "عدل"أي: مرضي يقنع به ويطلق "العدل" على الواحدة وغيره بلفظ واحد، وجاز أن يطابق في التثنية

_ 1ـ 5/1760-1761، مختار الصحاح ص/415-416. 2ـ 11/430. 3ـ سورة الطلاق آية/2.

والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الأنباري: وأنشدنا أبو العباس: وتعاقد العقد الوثيق وأشهدا من كل قوم مسلمين عدولاً وربما طابق في التأنيث، وقيل: امرأة عدلة1. وجاء في القاموس2: "العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدولة والمعدلة والمعدلة"أ. هـ. فمن هذه التعاريف اللغوية تبين أن معنى العدالة في اللغة الاستقامة، وأن العدل هو الذي لم تظهر منه ريبة3 وهو الذي يرضى الناس عنه، ويقبلون شهادته ويقنعون بها4. ثانياً: تعريف العدالة في الاصطلاح: أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء: 1- روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامة مذهبه، وسلامته من الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها5. 2- وعرفها الخطيب البغدادي بقوله: "العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقي ما نهى عنه، وتجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن

_ 1ـ المصباح المنير 2/397. 2ـ 4/13. 3ـ انظر لسان العرب 11/431، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 11/282. 4ـ انظر المصباح 2/397. 5ـ الكفاية ص/102.

كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقاً حتى يكون مع ذلك متوقياً لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير1. 3- وعرفها الغزالي بقوله: "والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضاً: اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصداً، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجريء على الكذب بالأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح وضابط ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جرأته على الكذب رد الشهادة به وما لا، فلا"2. 4- وعرفها ابن الحاجب3 بقوله: العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وبعض المباح كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأراذل والحرف الدنية مما لا يليق به ولا ضرورة"4. 5- وعرفها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "المراد بالعدل من له

_ 1ـ الكفاية ص/103. 2ـ المستصفى للغزالي 1/157. 3ـ هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس بن عمرو جمال الدين بن الحاجب فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية ولد في أسنا من صعيد مصر سنة سبعين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة هجرية. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 23/264-266، البداية والنهاية 13/168، الأعلام للزركلي 4/374، معجم المؤلفين 6/265. 4ـ مختصر منتهى الأصولي مع شرح القاضي عضد الملة والدين 2/63.

ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة"1. 6- وعرفها أيضاً بتعريف آخر فقال: "والعدل والرضا عند الجمهور من يكون مسلماً مكلفاً حراً غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. زاد الشافعي: وأن يكون ذا مروءة"2. واشتراط الحرية فيه نظر. 7- وذكر علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي عدة تعريفات للعدالة في كتابه "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"3 حيث قال: "العدالة: هي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله، وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبة". وذكر أبو محمد الجوزي في العدالة: "اجتناب الريبة وانتفاء التهمة". زاد في الرعاية: "وفعل ما يستحب وترك ما يكره"أ. هـ. 8- وقال السيوطي في تعريف العدالة: "حدها الأصحاب: بأنها ملكة أي: هيئة راسخة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالة على الخسة أو مباح يخل بالمروءة وهذه أحسن عبارة في حدها وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة، ولأن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك، ولأن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر فذكره في الحد تكرار"4.

_ 1ـ نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص/29، وانظر شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي ص/361. 2ـ فتح الباري 5/251-252، وانظر تيسير التحرير 3/44. 3ـ 12/43. 4ـ الأشباه والنظائر ص/384-385.

هذه تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ولا تتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي وأن يبعد عما يخل بالمروءة، وأيضاً: لا تتحقق إلا بالإسلام، والبلوغ، والعقل، والسلامة من الفسق. والمراد بالفسق: ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب والإصرار على صغيرة من الصغائر لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر. والمروءة التي يعبر عنها أهل العلم: هي الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يخل بالمروءة يعود إلى سببين: الأول: ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخسة كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصداً. الثاني: فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته وتورث الاحتقار، وذلك مثل كثرة المزاح المذموم. ولم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة ومن صدر منه ما يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته فرضي الله عنهم أجمعين.

المبحث الثاني: تعديل الله ورسوله للصحابة

المبحث الثاني: تعديل الله ورسوله للصحابة لقد تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، مما لا يبقى معها شك لمرتاب في تحقيق عدالتهم، فكل حديث له سند متصل بين من رواه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد أن تثبت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ذلك: 1- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1. ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً"2، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة. وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص، وقيل: "إنه وارد في الصحابة دون غيرهم"3. وقد بين الرازي المعنى لقوله تعالى في الآية: {وسطاً} من وجوه:

_ 1ـ سورة البقرة آية/143. 2ـ انظر جامع البيان 2/7، الجامع لأحكام القرآن 2/153، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/335. 3ـ انظر الكفاية للخطيب البغدادي ص/64.

أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطريفين فكان معتدلاً فاضلاً. الثاني: إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو: المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين. الثالث: لا شك أن المراد بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له، ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله وسطاً: ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة. الرابع: أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوساط محمية محوطة، فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة"1أ. هـ. فالآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة. 2- قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2. ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها وأول من يدخل في هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وذلك يقتضي استقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، ومن

_ 1ـ تفسير الرازي 4/97. 2ـ سورة آل عمران آية/110.

البعيد أن يصفهم الله ـ عز وجل التي بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة، وهل الخيرية إلا ذلك، كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً ـ أي: عدولاً ـ وهم على غير ذلك. والخطاب في هاتين الآيتين وإن كان موجهاً لمن كان موجوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول الآيتين إلا أنه يشمل جميع الأمة ويكون الصحابة هم أولى الناس بالدخول فيه لما لهم من المآثر الجليلة والأعمال الخيرية النبيلة التي جعلتهم أهلاً لأن يتصفوا بتلك الصفات الواردة في الآيتين. قال الشاطبي1 رحمه الله تعالى: سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أمور: أحدها: ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، ففي الآية الأولى: إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة. وفي الثانية: إثبات العدالة مطلقاً، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال إن هذا عام في الأمة، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: أولاً: ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر.

_ 1ـ هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشيهر بالشاطبي، أبو إسحاق، محدث، فقيه، أصولي، لغوي، مفسر، مات في شعبان سنة تسعين وسبعمائة. انظر ترجمته في "فهرس الفهارس" 1/134، الأعلام للزركلي 1/71، معجم المؤلفين: 1/118.

ثانياً: على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب، فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي. ثالثاً: أنهم أولى بالدخول من غيرهم، إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح، وأيضاً: فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة، بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط، أي: عدول بإطلاق، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به1. 3- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2. ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق ومن شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة. 4- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. ووجه دلالة هذه الآية على عدالتهم رضي الله عنهم أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلاً للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلاً في دينه.

_ 1ـ الموافقات 4/40-41. 2ـ سورة الأنفال آية/74. 3ـ سورة التوبة آية/100.

ومن أثنى الله تعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً وإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس فكيف لا تثبت عدالة صفوة الخلق وخيارهم بهذا الثناء الصادر من رب العالمين. 5- قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 1. وهذه الآية فيها دلالة واضحة على تعديل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفاً وأربعمائة ووجه دلالة الآية على تعدليهم رضي الله عنهم أن ـ الباري جل وعلا ـ أخبر برضاه عنهم، وشهد لهم بالإيمان وزكاهم بما استقر في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة ولا تصدر تلك التزكية العظيمة من ـ الرب جل وعلا ـ إلا لمن بلغ الذروة في تحقيق الاستقامة على وفق ما أمر الله به والصحابة رضي الله عنهم كانوا في مقدمة من استقاموا في جميع الأحوال. فالآية فيها بيان أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فبقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة، كما قال ـ عز وجل ـ {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 2 6- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى

_ 1ـ سورة الفتح آية/18. 2ـ انظر التفسير الكبير للرازي 28/95، والآية 22 من سورة المجادلة.

عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1. فهذا الوصف الذي وصفهم الله به في كتبه، وهذا الثناء الذي أثنى به عليهم لا يتطرق إلى النفس معه شك في عدالتهم؟. قال القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية: "فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر، فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال، فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث وهذا مردود فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد2. 7- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 3. فالصحابة رضي الله عنهم هم السابقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل خير، وإلى تحصيل كل قربة فيها رضى الرب جل وعلا، ولا يصدر ذلك إلا ممن تحقق

_ 1ـ سورة الفتح آية/29. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 16/299. 3ـ سورة الواقعة آية/10-12.

بوصف العدالة. قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أفضلية جماعات الصحابة حسب سبقهم إلى الإسلام وحسب المشاهد، قال: "فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإنا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون، ماتوا على الإيمان والهدى والبر كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 1 وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 2 الآية ـ إلى أن قال: ـ فمن أخبر الله عنهم بذلك فلا يحل لأحد أن يتوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة3. 8- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق هاتين الكلمتين من الآيتين حيث قال في خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار: "إن الله سمانا "الصادقين" وسماكم "المفلحين"، وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 5،

_ 1ـ سورة الواقعة آية/10-12. 2ـ سورة الفتح آية/18. 3ـ ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/265-266. 4ـ سورة الحشر آية/8-9. 5ـ العواصم من القواصم ص/44-45، والآية رقم 119 من سورة التوبة.

فهذه الصفات الحميدة في هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتصفوا بها ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون، وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول. فهذه الآيات التي أسلفناها من الآيات البينة الدالة على عدالة الصحابة رضي الله عنهم، فعدالتهم ثابتة بنص القرآن. وأما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنهم: فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث يطول تعدادها وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم بتعدليهم ومن تلك الأحاديث: 1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "..ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" الحديث1. وجه دلالة الحديث على عدالتهم رضي الله عنهم أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع وهذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحداً. قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال: ألا ليبلغ فلان منكم الغائب فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً"2أ. هـ.

_ 1ـ صحيح البخاري 1/31، صحيح مسلم 3/1306. 2ـ الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/91.

2- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً. .الحديث1. 3- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"2. 4- وروى بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم ههنا" قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: "أحسنتم أو أصبتم" قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه، فقال: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" 3. هذه الثلاثة الأحاديث فيها دلالة واضحة على أن الصحابة عدول على الإطلاق حيث شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة كما أخبر بأنهم أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث في الدين ولا يخبر صلى الله عليه وسلم بهذا إلا لمن كانوا عدولاً مستقيمين على الصراط المستقيم. 5- روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ

_ 1ـ صحيح البخاري 2/287-288، صحيح مسلم 4/1964. 2ـ صحيح البخاري 2/288، وانظر صحيح مسلم 4/1963. 3ـ صحيح مسلم 4/1961.

مد أحدهم ولا نصيفه" 1. وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدالة الصحابة رضي الله عنهم "أن الوصف لهم بغير العدالة سب لا سيما وقد نهى صلى الله عليه وسلم بعض من أدركه وصحبه عن التعرض لمن تقدمه لشهود المواقف الفاضلة فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى2. فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق. قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية3: "باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم وإنما يجب فيمن دونهم ـ ثم قال ـ: كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن". ثم ساق جملة من الآيات الدالة على ذلك وقد سبق لنا قريباً ذكر بعضها وكذلك جملة من الأحاديث إلى أن قال: "والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له". ثم قال: "على أنه لو لم يرد من الله ـ عز وجل ـ ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل

_ 1ـ صحيح البخاري 2/292. 2ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/110-111. 3ـ ص/63-67.

المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين". فلقد صدق رحمه الله تعالى لو لم تكن عدالتهم منصوصاً عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لجزم أهل العقول الصحيحة والقلوب السليمة بعدالتهم استناداً إلى ما تواترت به الأخبار عنهم من الأعمال الجليلة والخيرات الوفيرة التي قدموها لنصرة الدين الحنيف، فقد بذلوا ما أمكنهم بذله في سبيل نصرة الحق ورفع رايته وإرساء قواعده ونشر أحكامه في جميع الأقطار رضي الله عنهم أجمعين. والعدالة المرادة هنا ليس المقصود بها عدم الوقوع في الذنوب والخطايا فإن هذا لا يكون إلا لمعصوم. قال ابن الأنباري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح وما صح فله تأويل صحيح"1.

_ 1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/115.

المبحث الثالث: الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم

المبحث الثالث: الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة جميعهم عدول بلا استثناء من لابس الفتن وغيرها ولا يفرقون بينهم الكل عدول إحساناً للظن بهم ونظراً لما أكرمهم الله به من شرف الصحبة لنبيه عليه الصلاة والسلام ولما لهم من المآثر الجليلة من مناصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين والقيام بحدوده فشهاداتهم ورواياتهم مقبولة دون تكلف بحث عن أسباب عدالتهم بإجماع من يعتد بقوله. وقد نقل الإجماع على عدالتهم جم غفير من أهل العلم، ومن تلك النقول: 1- قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على عدالة الصحابة وأنهم كلهم عدول، قال: "هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"1. 2- قال أبو عمر بن عبد البر: "ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول فواجب الوقوف على أسمائهم"2. 3- حكى الإجماع على عدالتهم إمام الحرمين وعلل حصول الإجماع على عدالتهم بقوله: "ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، فلو ثبت توقف في

_ 1ـ الكفاية ص/67. 2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/8.

رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت على سائر الأعصار"1. 4- وقال الغزالي: "والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلق أن عدالتهم معلومة بتعديل الله ـ عز وجل ـ إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل ـ ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب ـ سبحانه ـ وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم"2. 5- ذكر ابن الصلاح أن الإجماع على عدالة الصحابة خصيصة فريدة تميزوا بها عن غيرهم، فقد قال: "للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة". وقال أيضاً: "إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحساناً للظن بهم ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم"3. 6- قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن الحروب التي وقعت بينهم كانت عن اجتهاد وأن جميعهم معذورون رضي الله عنهم فيما حصل بينهم قال: "ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم

_ 1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/112، وذكره السيوطي في تدريب الراوي 2/214. 2ـ المستصفى 1/164. 3ـ مقدمة ابن الصلاح ص/146-147.

ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم"1. وقال في التقريب: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"2. 7- وقال الحافظ ابن كثير: "والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل"3. 8- وقال العراقي في شرح ألفيته بعد ذكره لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عدالة الصحابة: "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم، وأما من لابس الفتن منهم وذلك من حين مقتل عثمان فأجمع من يعتد به أيضاً: في الإجماع على تعدليهم إحساناً للظن بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد"4. 9- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً أن أهل السنة مجمعون على عدالة الصحابة فقال: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"5. 10- وقال السخاوي: "وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً كبيرهم وصغيرهم لابس الفتنة أم لا وجوباً لحسن الظن، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده صلى الله عليه وسلم وفتحهم الأقاليم وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/149. 2ـ تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي 2/214. 3ـ الباعث الحثيث ص/181-182. 4ـ شرح ألفية الحديث المسماة بالتبصرة والتذكرة 3/13-14. 5ـ الإصابة 1/17.

مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة"1. وقال الألوسي رحمه الله تعالى: "اعلم أن أهل السنة ـ إلا من شذ ـ أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم، فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نفلاً وفرضاً واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضاً، فإذا أبصرتهم رأيت قلوباً صحيحة وأجساداً مرضى، وعيوناً قد ألفت السهر، فما تكاد تطعم غمضاً بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تنقضي ولله در من قال فيهم شعراً: لله در أناس أخلصوا عملاً ... على اليقين ودانوا بالذي أمروا أولاهم ـ نعماً فازداد شكرهم ... ثم ابتلاهم فأرضوه بما صبروا وفوا له ثم وافوه بما عملوا ... سيوفيهم يوماً إذا نشروا2 فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً أمر مفروغ منه ومسلم فلا يبقى لأحد شك ولا ارتياب بعد تعديل الله ورسوله وإجماع الأمة على ذلك وهناك مذاهب ذهب أصحابها إلى القول بخلاف هذا الإجماع وأصحابها ممن لا يعتد بقولهم ولا عبرة بخلافهم وهي لا تستحق أن تذكر وإنما تذكر لبيان بطلانها ومجانبتها للحق والصواب، وتلك المذاهب هي: 1- مذهب الشيعة الرافضة: الشيعة الرافضة يعتقدون أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليسوا بعدول بل يعتقدون ضلال كل من لم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة من بعده بلا فصل هو علي رضي الله عنه، ويعتقدون أن جميع الناس هلكوا وارتدوا بعد

_ 1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/108. 2ـ الأحوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية ص/10.

أن قبض النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً يسيراً منهم يعدون بالأصابع، وسبب تكفيرهم لهم أنهم يزعمون أنهم بايعوا بالخلافة غير علي رضي الله عنه، ولم يعملوا بالنص عليه ومعتقدهم هذا طافحة به كتبهم. فقد روى محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد في كتابه الاختصاص عن الحارث بن المغيرة، قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله عليه السلام، فلم يزل يسأله حتى قال: فهلك الناس إذاً، فقال: أي والله يا ابن أعين هلك الناس أجمعون، قلت أهل الشرق والغرب؟ قال: إنها فتحت على الضلال أي والله هلكوا إلا ثلاثة نفر سلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد ولحقهم عمار وأبو ساسان الأنصاري1 وحذيفة وأبو عمرة2 فصاروا سبعة. وفي رواية بعدها أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة نفر: المقداد بن الأسود وأبو در الغفاري وسلمان الفارسي، ثم إن الناس عرفوا ولحقوا بعد3. ولا شك أن من اعتقد كفر الصحابة وارتدادهم أنه كافر لأنه لم يبق له أي علاقة في الدين لأن الكتاب والسنة إنما تلقاهما من جاء بعد الصحابة من الصحابة فمن اعتقد هذا المعتقد في خيار الخلق بعد النبيين والمرسلين ماذا بقي له من الدين؟ وبناء على ذلك المعتقد الفاسد الذي يعتقده الشيعة الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم، يكون من البعيد جداً أن يقولوا بعدالة الصحابة بعد أن وصفوهم بالضلال والارتداد عن الإسلام، وهذا المذهب يحكم ببطلانه وضلال

_ 1ـ هو الصحابي الجليل بشير بن عمر الأنصاري النجاري. انظر ترجمته في الاستيعاب 1/157، الإصابة 4/141. 2ـ هو حصين بن المنذر بن الحارث الرقاشي. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 2/395. 3ـ الروايتان في كتاب "الاختصاص" للمفيد ص/6، وانظر كتاب "الروضة" من الكافي للكليني، حديث رقم 356.

أهله كل من ألقى السمع لما ذكر الله في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قام عليه إجماع أهل الحق ممن يعتد بقوله من بيان مكانة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وكل ما قدمنا في المبحث الثاني من هذا الفصل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كلها تقضي بفساد هذا المذهب وخبث قائليه وسوء ما تنطوي عليه سرائرهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والناظر بعين البصيرة في شبههم التي يبنون عليها معتقدهم هذا يجد أنها من زخرف القول تارة يقولونها من عند أنفسهم، وتارة ينسبونها إلى أهل البيت وهم رضي الله عنهم بريئون من هذا المعتقد ويتبرءون من كل من استطال بلسانه على الصحابة بالسباب والشتائم، فقد كان موقف أهل بيت النبوة من الصحابة الكرام هو أنهم كانوا في مقدمة العاملين بقوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وكانوا ينكرون على من يزعم التشيع لهم ولا يعمل بما دلت عليه هذه الآية ويدعون عليهم ويطردونهم من مجالسهم ويتوعدونهم بالخروج من الإسلام. فقد ذكر القرطبي: أن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم روى عن أبيه، أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثم عثمان رضي الله عنه، فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا. فقال: أفمن الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد انكم لستم من الذين قال الله ـ عز وجل ـ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قوموا فعل الله بكم وفعل.

_ 1ـ سورة الحشر آية/10.

وذكر أيضاً: عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان، فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية، قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} الآية. قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 1. فمذهب الشيعة الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذهب باطل بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة حيث دلت هذه الأدلة كلها على عدالة جميع الصحابة صغيرهم وكبيرهم ذكراناً وإناثاً. 2- مذهب المعتزلة: أما مذهب المعتزلة فقد اضطربت آراؤهم في عدالة الصحابة إلى ثلاثة أقوال وإليك هذه الأقوال الثلاثة مع اقتران كل قول ببيان بطلانه: القول الأول: ذهب جمهورهم إلى أن الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً، فالجمهور منهم صوبوا علياً في حروبه وخطئوا من قاتله فنسبوا طلحة والزبير وعائشة ومعاوية إلى الخطأ2 وانتفاء العدالة عنهم وأسوق الرد على هذا القول ببعض ما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يجب على المسلم اعتقاده حيال ما جرى بين الصحابة من الشجار: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم وما كان لهم من

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن 18/31-32، والآية رقم 10 من سورة الحشر. 2ـ مقالات الإسلاميين 2/145، الفرق بين الفرق ص/120-121.

السيئات ـ وقد سبق لهم من الله الحسنى ـ فإن الله يغفرها لهم، إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة وهذه خير أمة أخرجت للناس، ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق "1، وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق"أ. هـ2. وقال الحافظ ابن كثير مبيناً فساد معتقد المعتزلة في عدالة الصحابة "وقول المعتزلة الصحابة عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مرذول ومردود وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن بنته الحسن بن علي وكان معه على المنبر: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 3 وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه علي واجتمعت الكلمة على معاوية وسمي "عام الجماعة" وذلك سنة أربعين من الهجرة، فسمي الجميع "مسلمين" وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4 فسماهم مؤمنين مع الاقتتال"5. وممن بين بطلان هذا القول الشوكاني رحمه الله تعالى، فإنه قال في صدد عرضه للأقوال في عدالة الصحابة: "القول الرابع: أنهم كلهم عدول إلا من قاتل علياً وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة، ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا

_ 1ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 2/745. 2ـ مجموع الفتاوى 3/406-407. 3ـ صحيح البخاري 2/114. 4ـ سورة الحجرات آية/9. 5ـ الباعث الحثيث ص/182.

به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله، وتهاوناً بدينه، وجناب الصحبة أمر عظيم، فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالماً، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم، وقد عدلوا تعديلاً عاماً بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على عموم التعديل والتأويل لما يقتضي خلافه"1. فهذا القول الذي قاله جمهور المعتزلة من نفي العدالة عمن قاتل علياً من الصحابة قول باطل لأن الحروب التي جرت بينهم كانت لكل طائفة منهم شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها فكلهم عدول رضي الله عنهم ولم يخرج بشيء من تلك الحروب أحد من العدالة، لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم رضي الله عنهم"2. القول الثاني: قول واصل بن عطاء: فقد ذهب إلى أن أحد الفريقين المتخاصمين من الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان مخطئاً لا بعينه كالمتلاعنين، فإن أحدهما فاسق لا محالة "وأقل درجات الفريقين أنه غير مقبول الشهادة كما لا تقبل شهادة المتلاعنين"3. وبناء على معتقده هذا فإنه لم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب علي والآخر من أصحاب الجمل فقد قال: "لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم"4.

_ 1ـ إرشاد الفحول ص/70. 2ـ انظر الرد على الرافضة لأبي محمد المقدسي ص/316-317. 3ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/49. 4ـ ميزان الاعتدال للذهبي 4/329، وانظر الفرق بين الفرق ص/120، الملل والنحل للشهرستاني 1/49.

وقال بقبول شهادة رجلين من أصحاب علي وشهادة رجلين من أصحاب طلحة والزبير1 إذ قد يكون أحد الفريقين عدلاً وعلي صواب وهذا الرأي قال به وتبناه ضرار بن عمرو وأبو الهذيل ومعمر بن عياد السلمي حيث قالوا جميعاً: "نحن نتولى كل واحد من الفريقين على انفراد"2. وهذا القول كما هو واضح أصحابه قد شكوا في عدالة علي وطلحة والزبير وهو قول ظاهر البطلان وهو أحقر من أن يرد عليه لأن عدالة علي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة ثابتة بتعديل الله ورسوله إياهم، وبإجماع من قوله معتبر من أهل السنة والجماعة وكفى بعلي وطلحة والزبير شرفاً ورفعة أنهم من أصحاب الجنة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وإضافة إلى تلك المنزلة الرفيعة دخولهم في أهل بيعة الرضوان الذين عدلهم الله وزكاهم من فوق سبع سموات بقوله ـ جل وعلا ـ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 فأي تعديل وأي شرف أعظم لمن كان من جملة هؤلاء، فمن تجرأ على تجريح هؤلاء فهو الجدير بالجرح وهو الأولى به، ومن قال بكفرهم فهو الكافر وهو من الذين ضلوا عن سواء السبيل. القول الثالث: قول عمرو بن عبيد: أما عمرو بن عبيد فإنه تقدم خطوة أخرى على من تقدم ذكره من المعتزلة فإنه يعتقد أن الطرفين المتحاربين في موقعتي الجمل وصفين قد فسقوا جميعاً، وقال: "لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل"4. وبلغ به الإزراء بهم والتنقص

_ 1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/120، ص/320. 2ـ مقالات الإسلاميين 2/145. 3ـ سورة الفتح آية/18. 4ـ انظر الفرق بين الفرق ص/121، التبصير في الدين ص69، الملل والنحل للشهرستاني 1/49.

منهم إلى أن قال: "لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان على شراك نعل ما أجزت شهادتهم"1. وهذه الكلمة الخبيثة التي خرجت منه تنبيء عما يكنه لهم من الكراهية وما عود عليه لسانه من سبهم وشتمهم وهذه الكلمة لا يجرؤ أن ينطق بها من كان قلبه مثقال درة من إيمان. وقد ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى مذهب عمرو بن عبيد وتولى الرد عليه حيث قال: "القول الثالث: إنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فلا يجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ـ أي من الطرفين ـ لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة، ثم قال رحمه الله مبيناً بطلان هذا القول ـ: "وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وفيه أيضاً: أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح، وأيضاً التمسك بما تمسكت به كل طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين"أ. هـ2. ويرد عليه أيضاً: أن الواجب على كل مسلم "أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا "فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد والآخر مخطيء في اجتهاده، وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة"3.

_ 1ـ ميزان الاعتدال 3/275. 2ـ إرشاد الفحول ص/70. 3ـ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/274.

فقول عمرو بن عبيد في عدالة الصحابة قول ظاهر البطلان ومردود عليه. المذهب الثالث: أن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية1، وقد عزا هذا القول السخاوي والشوكاني إلى أبي الحسين بن القطان2 من علماء الشافعية. وشبهته أنه قال: "فوحشي قتل حمزة وله صحبة. والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على طريقته"3. وهذا الشبهة حكم عليها السخاوي بأنها ساقطة إذ الكل أصحابه باتفاق وقتل وحشي لحمزة كان قبل إسلامه ثم أسلم، وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله وأما قوله: والوليد ليس بصحابي ـ إلخ كلامه ـ فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابياً عن صحبته وقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله" 4. كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنه ـ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 5 لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم، والحدود كفارات، بل قيل في الوليد بخصوصه: إن بعض أهل الكوفة

_ 1ـ المصدر السابق 1/274، شرح مختصر المنتهى 2/67. 2ـ هو أحمد بن محمد بن القطان البغدادي من كبار الشافعية له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/365، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/214-215. 3ـ انظر فتح المغيب شرح ألفية الحديث للسخاوي 3/112، وإرشاد الفحول للشوكاني ص/69. 4ـ صحيح البخاري 3/172، من حديث عمر رضي الله عنه. 5ـ صحيح البخاري 3/7، صحيح مسلم 4/1942، من حديث علي رضي الله عنه.

تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين"1. فقول أبي الحسين القطان قول لا يعتد به إذ هو في هذه المسألة أحد الأقوال التي جانبت الصواب. المذهب الرابع: أن العدالة لا تثبت إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه دون من رآه، أو زاره، أو وفد عليه لمدة قليلة وهذا قول المازري من علماء المالكية، فقد حكى عنه الحافظ ابن حجر أنه قال: "في شرح البرهان لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يوماً ما أو زاره لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"2 ويرد على كلام المازري بأنه لم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ وذكر أن الشيخ صلاح الدين العلائي قال: "هو غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلاً وانصرف وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم"أ. هـ3. فقول المازري هذا غير معتبر وهو قول ضعيف كما هو واضح "لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم

_ 1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/112-113. 2ـ الإصابة في تمييز الصحابة 1/19. 3ـ الإصابة في تمييز الصحابة 1/19-20، فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/113-114.

انصرفوا1 منهم من ذكر في قول صلاح الدين العلائي. فهذه هي المذاهب التي خالف فيها أصحابها إجماع أهل السنة والجماعة في مسألة عدالة الصحابة وهي كما رأينا مبنية على شبه واهية لا تزيدها إلا ضعفاً، فالواجب على المسلم أن يعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من أن عموم الصحابة عدول ويحرم على كل إنسان ثلبهم بما يشينهم، ولا عبرة بخلاف من خالف في ذلك من الطوائف المخذولة أهل البدع والأهواء مثل الرافضة والمعتزلة والزنادقة وغيرهم ولا من سلك طريقهم في العصر الحديث من الكفرة المستشرقين الذين يزعمون أنهم يعتنون بالدراسات الإسلامية والبحث فيها هم ومن قلدهم من أبناء المسلمين الواقعين في حرمات الله باسم حرية البحث العلمي ويقولون إن كل إنسان له أن يقول ما شاء حتى ولو كان في ذلك اعتداء على حرمات المؤمنين وتكذيب القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين تحت ستار حرية الرأي والبحث، وهذا الاتجاه مرفوض عند علماء المسلمين حيث إن للعلم قواعد وأصول وضوابط شرعية يلتزم بها المؤمن حتى يكون بحثه واجتهاده في نطاقها، أما حرية البحث التي فتن بها أهل الأهواء ممن ينتسبون إلى الإسلام وقلدوا فيها الأعداء وطبقوها حسب ما تلقوها، فليست من سنن المؤمنين ولا سبيل المسلمين، ولذلك كانت بحوثهم مناقضة للقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية فالذين يجرحون الصحابة ويطعنون في عدالتهم إنما غرضهم من وراء ذلك هو التشكيك في الإسلام، وهدم قواعده التي قام عليها، وهذا ما فطن له أبو زرعة الرازي في القرن الثالث الهجري، فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي زرعة الرازي أنه قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا

_ 1ـ انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص/70.

شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"1. فقد صدق رحمه الله فلا يتجرأ على تجريح الصحابة إلا مجروح فتح لنفسه باباً يلج منه إلى الزندقة، فمن يرد السلامة لدينه فعليه أن يعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة وهو أنهم كلهم عدول من لابس الفتن ومن لم يلابسها، وهذا هو المذهب الحق الذي يجب المصير إليه، وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في هذه المسألة حيث قال: "فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى2.

_ 1ـ الكفاية ص/67. 2ـ الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ص/46.

الفصل الثالث: تحريم سبهم رضي الله عنهم

الفصل الثالث: تحريم سبهم رضي الله عنهم المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز ... المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز وهو ما تعتقده وتدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله ـ جل وعلا ـ من ذلك: 1- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية. ووجه دلالة الآية على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم رضى مطلقاً، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وقد بين تعالى في آخر هذه الآية أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك حيث قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1 ولذا لما كان هؤلاء الأخيار بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة أمر الله من جاء بعدهم أن يستغفروا لهم ويدعوا الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، ومن هنا علم إن الاستغفار وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه، ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2.

_ 1ـ سورة التوبة آية/100. 2ـ سورة محمد آية/19.

وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 1، ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم، الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم"2. 2- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} 3. هذه الآية تضمنت التهديد والوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله والعذاب المهين لمن آذاه ـ جل وعلا ـ بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك4 وإيذاء رسوله "يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب وشتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى"5 ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله6 وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم فالآية فيها إشارة قوية ظاهرة إلى أنه يحرم سبهم رضي الله عنهم. 3- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 7. وهذه الآية فيها التحذير من إيذاء المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه، ولم يفعلوه، والبهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين

_ 1ـ سورة آل عمران آية/159. 2ـ انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/572-575، وحديث عائشة في صحيح مسلم 4/2317. 3ـ سورة الأحزاب آية/57. 4ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/514. 5ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/121. 6ـ انظر المسند للإمام أحمد 4/87. 7ـ سورة الأحزاب آية/58.

والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم1. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى، وأن من نال منهم بذلك فقد آذى خيار المؤمنين بما لم يكتسبوا وأن من اتخذ شتمهم والنيل منهم ديناً له فإن الوعيد المذكور في الآية يصيبه. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله ـ عز وجل ـ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين"4أ. هـ. وكما هو معلوم "أن سب آحاد المؤمنين موجب للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم"5. 4- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 5/514-515. 2ـ سورة البقرة آية/104. 3ـ سورة الكهف آية/107. 4ـ تفسير القرآن العظيم 5/515. 5ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/121.

ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1 الآية. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم. قال أبو عبد الله القرطبي: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ـ ثم قال ـ: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين، ثم ذكر طائفة من الآيات التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح، ثم قال عقبها: "وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم"2.أ. هـ فهذه الآية اشتملت على تحريم سب الصحابة لأن سبهم، إنما يصدر ممن امتلأ قلبه غيظاً عليهم، لا محل فيه للإيمان3 نعوذ بالله من الخذلان. 5- قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 4.

_ 1ـ سورة الفتح آية/29. 2ـ الجامع لأحكام القرآن 16/296، وانظر قول مالك في شرح السنة للبغوي 1/229. 3ـ انظر ما قاله مالك فيمن يسب الصحابة في تفسير ابن كثير 5/365. 4ـ سورة الحجرات آية/12.

وهذه الآية الكريمة تضمنت النهي لجميع العباد عن أن يقول بعضهم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه، ذلك أن يقال له في وجهه والغيبة قد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟، قال صلى الله عليه وسلم: " ذكرك أخاك بما يكره "، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟، قال صلى الله عليه وسلم: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" 1. وبتفسير الشارع للغيبة في هذا الحديث يتبين وجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة وذلك أن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله ـ جل وعلا ـ، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أي الربا أربى عند الله"؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امريء مسلم"، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 2. فإذا كان الكلام في عرض أي مسلم كان من أربى الربا عند الله عز وجل فما الشأن بالاستطالة والسب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم في مقدمة عباد الله المتقين وعباده الصالحين، ولا يشك مسلم في أن النيل منهم بالقول السيء من سب وغيره أنه انتهاك لحرمة أمر الله عز وجل باحترام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

_ 1ـ سنن أبي داود 2/567، سنن الترمذي 3/220-221، وقال: حسن صحيح. 2ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 5/515، وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/658.

6- قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} 1. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة يتضح بما قاله السلف في تفسير هذه الآية، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل عن قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، قال: طعان، "لمزة"، قال: مغتاب2. وقال مجاهد: الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس3. وقال قتادة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال: يأكل لحوم الناس ويطعن عليهم"4. وقال أبو العالية: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال: تهمزه في وجهه وتلمزه من خلفه5. ..، فهذه التفاسير لهذه الآية عن هؤلاء الأئمة من السلف تدل على تحريم اغتياب عموم المؤمنين وهي تنطبق على من أطلقوا ألسنتهم بالوقوع في الصحابة من الرافضة وغيرهم فهم الهمازون لهم بالقول بحيث يزدرونهم وينتقصونهم بالسب والشتم وينسبون إليهم ما لم يقولوه وما لم يفعلوه، ولا شك أن العذاب الذي توعد الله به في هذه الآية سيصيب كل من اتخذ الطعن فيهم ديدنه إن لم يتب ويقلع عن ذلك ويجعل لسانه رطباً بذكرهم بالجميل والترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما جاء الأمر به لكل من جاء بعدهم من أهل الإيمان، والحاصل مما تقدم ذكره أن تحريم سب الصحابة جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم وأن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله تعالى حرم سبهم وازدراءهم وعيبهم بما جرى بينهم وأن يحذر طريقة الروافض الذين لم يراعوا لهم حرمة ولم يقدروهم حق قدرهم وأن من سلك طريقهم ألقى نفسه في المهالك التي لا نجاة منها إلا بالرجوع إلى طريقة أهل الحق من أهل السنة والجماعة والتوبة مما أسلفه من جناية في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.

_ 1ـ سورة الهمزة آية/1. 2ـ الدر المنثور 8/624. 3ـ المصدر السابق. 4ـ الدر المنثور 8/624. 5ـ المصدر السابق.

المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة

المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك لأن الله ـ تعالى ـ اختارهم لصحبة نبيه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وبلغوا الذروة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان له وزراء وأنصاراً يذبون عنه وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملاً غير منقوص، ولمقامهم الشريف ولما لهم من القيام التام بأنواع العبادات، وصنوف الطاعات والقربات جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريهم أو الطعن فيهم والحط من قدرهم ومن تلك النصوص: 1- ما روا الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً بلفظ: قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 2. 2- وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد

_ 1ـ صحيح البخاري 2/292. 2ـ صحيح مسلم 4/1967-1968.

ابن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ـ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ـ، فقال: "دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدي لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم" 1. هذان الحديثان اشتملا على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم، وفيهما التصريح بتحريم سبهم، وقد عد بعض أهل العلم سبهم "من المعاصي الكبائر"2. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنه مجتهدون في تلك الحروب متأولون"3. والنهي في هذين الحديثين المتقدمين كان موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كانت له صحبة متأخرة، أن يسب من كانت له صحبة متقدمة "لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق حدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم"4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن قيل: فلم نهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟، وقال: "لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

_ 1ـ المسند 3/266، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير: 3/531، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/556. 2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/93. 3ـ المصدر السابق. 4ـ شرح الطحاوية ص/529-530.

قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، فنهي أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد. وقوله: "لا تسبوا أصحابي" خطاب لكل أحد أن لا يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: "أيها الناس إني أتيتكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" 1.. أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا بكر، وذلك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه"أ. هـ2. فالنهي عن سبهم عام لكل من وجد على ظهر الأرض أيا كان عن أن يسب أي واحد من الصحابة. قال المناوي بعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "دعوا لي أصحابي": "الإضافة للتشريف تؤذن باحترامهم وزجر سابهم ... "لو أنفقتم مثل أحد ذهباً ما بلغتم أعمالهم" أي: ما بلغتم من إنفاقكم بعض أعمالهم لما قارنها من مزيد إخلاص وصدق نية وكمال يقين، وقوله: "أصحابي" مفرد مضاف فيعم كل صاحب له لكنه عموم مراد به الخصوص ... يدل على أن الخطاب لخالد وأمثاله ممن تأخر إسلامه وأن المراد هنا متقدموا الإسلام منهم الذي كانت له الآثار الجميلة والمناقب

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/303، من حديث أبي الدرداء. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/576-577.

الجليلة في نصرة الدين من الإنفاق في سبيل الله واحتمال الأذى في سبيل الله ومجاهدة أعدائه، ويصح أن يكون من بعد الصحابة مخاطباً بذلك حكماً إما بالقياس أو بالتبعية"1. 4- روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي" 2. 5- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" 3. 6- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي"4. هذه الأحاديث الثلاثة مشتملة على لعن من سب الصحابة ودلت على أن سبهم من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي كبائر وعد سب الصحابة منها5، فعلى المسلم أن يحذر من سبهم أو يتعرض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم "وسبهم معناه: شتمهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم " فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" الطرد والإبعاد عن مواطن الأبرار، ومنازل الأخيار، والسب والدعاء من الخلق وتحريم سبهم يشمل من لابس الفتن ومن لم يلابسها، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونبسبتهم إلى الضلال

_ 1ـ فيض القدير 3/531. 2ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/21، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة. 3ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له "بالحسن". انظر فيض القدير 6/146، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/299، وقال: حسن، وأشار إلى أنه أورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2340. 4ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له "بالصحة" انظر فيض القدير: 5/274، وأورده الألباني في كتابه "صحيح الجامع الصغير" 5/23، وقال: حسن. 5ـ انظر كتاب الكبائر للذهبي ص/233-237.

أو الكفر كفر"1. 7- روى الإمام أحمد وغيره من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" 2. فكل من أطلق لسانه بالسب لهم فهو مستطليل عليهم بغير حق وهو أفاك أثيم إذ لفظ المسلم في الحديث أول ما ينطلق عليهم إذ هم مقدمة المسلمين الذين انقادوا لله تعالى بالطاعة وأخلصوا العبادة له وحده لا شريك له "وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً"3. 8- روى الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 4 فإذا كان هذا الوعيد يلحق من سب كل أي مسلم كان فما الشأن بمن يسب خيار المسلمين والأبرار من عباده المتقين وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم. قال النووي رحمه الله تعالى: "السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد به في الشرع الخروج عن الطاعة، وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم5، وعلى هذا فالرافضة والخوارج ومن سلك طريقهم من أهل البدع الذين يشتمون الصحابة ويتكلمون فيهم بما يعيبهم بغير حق فهم أكثر من يدخل في وصف الفسق كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال المناوي مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق" أي: مسقط

_ 1ـ فيض القدير للمناوي 6/146-147. 2ـ المسند 1/190، سنن أبي داود 2/567، صحيح الجامع الصغير 2/242. 3ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/571. 4ـ صحيح البخاري 1/18، صحيح مسلم 1/81. 5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 2/53-54.

للعدالة والمرتبة، وفيه تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق وأن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه لا كما زعم المرجئة، أنه لا يضر مع التوحيد ذنب1. فكل من سب الصحابة رضي الله عنهم أو واحداً منهم أسقط نفسه من العدالة وفسق بذلك وأدى إلى نقصان إيمانه بخروجه عن الطاعة. 9- روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساب الموتى كالمشرف على الهلكة" 2. "أراد: الموتى المؤمنين وإيذاء المؤمن الميت أغلظ من الحي لأن الحي يمكن استحلاله والميت لا يمكن استحلاله فلذا توعد عليه بالوقوع في الهلاك"3. 10- وروى أبو القاسم الطبراني أيضاً: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة"4. ومعنى الحديث: أي يكاد أن يقع في الهلاك الأخروى، وأراد في ذلك المؤمن المعصوم والقصد به التحذير من السب5 وهذا الحدي والذي قبله تضمنا العقوبة الشديدة التي تلحق ساب أي ميت من المسلمين وأي مؤمن كان فما الشأن بمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خيار موتى المؤمنين وأفضل المؤمنين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل من سبهم يعد من أهلك الهالكين وأخسر الخاسرين بنص هذين الحديثين،

_ 1ـ فيض القدير 4/84. 2ـ أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، انظر فيض القدير 4/79. 3ـ فيض القدير 4/79. 4ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 4/79، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/196، وعزاه للبزار وقال: حسن كما أورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1878. 5ـ فيض القدير للمناوي 4/79.

فلا يجوز سب أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي وجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن أي كلام يصدر من بعض الصحابة لآخرين منهم يتضمن الأذى وكان يحذر من ذلك أشد تحذير. 11- فقد روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله"، فقال يقعون في فأرد عليهم"، فقال: "لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار" 1. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل أي كلام يتضمن الأذى من بعض الصحابة لآخرين منهم، فما الشأن بحال من ليس من الصحابة ويطلق لسانه عليهم بالسب القبيح الذي يستحي المؤمن من حكايته عنهم، لا شك أن من كان هذا شأنه فإنه أنزل نفسه أقبح المنازل وتجرأ على خيار المؤمنين، وعصى سيد المرسلين في أمره بوجوب الإمساك عن الكلام في شأنهم إذا ذكروا. 12- فقد روى الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا" 2. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي" بما شجر بينهم من الحروب

_ 1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/349، وقال عقبه: رواه الطبراني في الصغير والكبير باختصار والبزار بنحوه، ورجال الطبراني ثقات وأخرج الحاكم منه ما يخص خالداً في المستدرك 3/298، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/150. 2ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/202، وقال: رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو نعيم في الحلية 4/108، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالحسن. انظر فيض القدير للمناوي 1/347-348، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/209، وقال عقبه: صحيح وأورده في الصحيحة 1/42.

والمنازعات "فأمسكوا" وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة وخير القرون، ولما جرى بينهم محامل1، فالذي يشغل نفسه بما حصل بينهم من الوقائع ويتخذ ذلك ذريعة لسبهم والطعن فيهم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم في أمره بالإمساك عن الكلام فيهم إذا ذكر ما شجر بينهم وعصاه أيضاً: في أمره بالإحسان إليهم وأمره بحفظه فيهم. 13- فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى إلى جابر بن سمرة، قال: خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 2. فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالإحسان إلى جميع الصحابة والإحسان يكون بالقول كما يكون بالفعل، فيجب على جميع الناس بعدهم أن يحسنوا إليهم بكف ألسنتهم "عن غمطهم أو الوقيعة فيهم بلوم أو تعنيف لبذلهم نفوسهم وإطراحها بين يدي الله تعالى في الحروب وقتالهم القريب والبعيد في ذات الله، وبذلهم أموالهم وخروجهم من ديارهم وصبرهم على البلاء والجهد الذي لا يطيقه غيرهم، وليس ذلك إلا عن أمر عظيم ملك البواطن وصرفها على حكم محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا بذلك الرعاية وكمال العناية"3. فالذي يسبهم ويطعن فيهم لم يحسن إليهم ولم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما أتى بعكس ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه فعل ضد ما أمر به وهو الإساءة إليهم بالقول السيء نعوذ بالله من ذلك. والأحاديث التي اشتملت على تحريم سب الصحابة والنهي عنه كثيرة فالواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في ذلك ويعتقد حرمة ذلك وأنه من

_ 1ـ فيض القدير للمناوي 1/347. 2ـ المسند 1/26، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند 1/230: إسناده صحيح. وأورده الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 431. 3ـ فيض القدير للمناوي 1/197.

أعظم الذنوب التي لا يقع فيها إلا رافضي غال جعل للشيطان على نفسه سبيلاً يتبعه في كل شيء يأمره به مما فيه معصية لله ـ عز وجل ـ. والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاحترامهم ومعرفة حقهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم، وحفظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث اعتقدوا ما دل عليه الكتاب والسنة من حرمة سبهم فهم العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يجب لهم من الحق على الخلق بعدهم حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم ...

المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة

المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة إن النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم سب الصحابة والدفاع عنهم كثيرة جداً ومتنوعة في ذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار وأقوال السلف التي كانوا يواجهون بها الذين ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في غاية الإنكار على من وقع في ذلك وبيان الخسارة الكبيرة التي يكسبها من أراد الله فتنته بالوقوع والنيل من خير القرون. 1- فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة، فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة1 والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 2، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثاً: قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب آلله لسمعت هذا من علي

_ 1ـ هو صعصعة بن صوحان العبدي نزيل الكوفة تابعي كبير مخضرم فصيح ثقة مات في خلافة معاوية. انظر ترجمته في التقريب 1/337، تهذيب التهذيب 4/422. 2ـ سورة الأحقاف آية/16.

رضي الله عنه، قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه"1. 2- وكان رضي الله عنه يعاقب بالجلد الموجع على الكلام الذي فيه إيماء أو إشارة إلى النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن الأثير أن رجلين وقفا على باب الدار2 الذي نزلت فيه أم المؤمنين بالبصرة، فقال أحدهما: جزيت عنا أمناً عقوقاً. وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت ـ فبلغ ذلك علياً ـ فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهما عجلان، وسعد ابنا عبد الله فضربها مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما"3. 3- روى أبو داود بإسناده إلى رباح بن الحارث قال: كنت قاعداً عند فلان4 في مسجد الكوفة، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة، فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب علياً، فقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وإني لغني أن أقول عنه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته ـ " أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"، وسكت عن العاشر، قالوا: من هو العاشر؟ فقال:

_ 1ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 6/283. 2ـ هي دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة نزلت بها عائشة رضي الله عنها بعد انتهاء وقعة الجمل. 3ـ الكامل في التاريخ 3/257. 4ـ هو المغيرة بن شعبة كما في عون المعبود 12/402.

سعيد بن زيد ـ يعني نفسه ـ ثم قال: والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمَّر عمر نوح"1. زاد رزين2: ثم قال: "لا جرم لما انقطعت أعمارهم، أراد الله أن لا يقطع الأجر عنهم إلى يوم القيامة، والشقي من أبغضهم، والسيعد من أحبهم"3. 4- وذكر ابن الأثير عن رزين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"4. 5- روى ابن بطة بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة"5.

_ 1ـ سنن أبي داود 2/516. 2ـ هو رزين بن معاوية بن عمار العبدري، السرقسطي الأندلسي أبو الحسن إمام الحرمين نسبته إلى سرقسطة من بلاد الأندلس جاور بمكة زمناً طويلاً وتوفي بها، له تصانيف منها التجريد للصحاح الستة. انظر ترجمته في الرسالة المستطرفة ص/130-131، شذرات الذهب 4/106، الأعلام 3/46. 3ـ جامع الأصول 9/411. 4ـ جامع الأصول 9/408-409، مسند عائشة للسيوطي ص/164، وعزاه لابن عساكر وذكره شارح الطحاوية ص/530، وعزاه إلى مسلم وتعقبه الألباني بقوله: "هذا حديث غريب عندي وعزوه لمسلم أغرب فإني لم أقف عليه فيه بعد الاستعانة عليه بكل الوسائل الممكنة ... ثم تيقنت عدم وجوده فيه بعد أن فرغت منذ بضعة سنين من اختصار صحيح مسلم. والأمر كما قال الشيخ الألباني وهو عدم وجوده في صحيح مسلم فإني بحثت عنه قبل أطلع على كلام الشيخ الألباني هذا. 5ـ ذكره شارح الطحاوية ص/530، وانظر الشرح والإبانة لابن بطة ص/119، فإنه أخرج الجزء الأول من قول ابن عباس هذا.

وفي رواية وكيع: "خير من عبادة أحدكم عمره"1. 6- وروى أبو نعيم بإسناده أن يزيد بن هزاري أنه لقي سعيد بن جبير بأصبهان، فقال له: إن رأيت أن تفيدني مما عندك؟ فحبس دابته وقال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثاً: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والنظر في القدر، فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكبك الله في النار على وجهك يوم القيامة"2. 7- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي إلى عريب3 بن حميد قال: قام رجل فنال من عائشة رضي الله عنها، فقام عمار رضي الله عنه يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً4 منبوحاً5 أنت تقع في حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة"6. 8- وروى أبو يعلى والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: "يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم، قلت: أنى يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه"7. 9- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: "قلت لأبي8: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟،

_ 1ـ ذكره أيضاً شارح الطحاوية ص/531. 2ـ أخبار أصبهان 1/324. 3ـ هو: عريب بن حميد أبو عمار الدهني كوفي ثقة من الثالثة. التقريب 3/20، التهذيب 7/191. 4ـ أي: مبعداً، النهاية في غريب الحديث والأثر 4/3. 5ـ أي: مشتوماً. النهاية في غريب الحديث 5/5. 6ـ كتاب النهي عن سب الصحابة وما فيه من الإثم والعقاب ص/21-22، وأورده ابن الأثير في النهاية 4/3. 7ـ مجمع الزوائد 9/130، وقال عقبه: "رواه الطبراني في الثلاثة وأبو يعلى ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة. 8ـ هو عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم، صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلاً، وكان =

قال: يقتل، قلت: سب عمر؟، قال: يقتل"1. هذه تسعة نماذج عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها توضيح للطريقة التي كانوا يواجهون بها من أزاغ الله قلبه عن معرفة ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتن بسبهم والنيل منهم، فقد كان إنكارهم عظيماً على من صدر منه ذلك، فلم يسكتوا عن المتقولين فيهم بل كانوا يردون عليهم إما بذكر فضائلهم ومالهم عند الله من المنزلة العظيمة التي لا يلحقهم فيها غيرهم مهما قدم من العمل، وإما أن يعاقبوا بجلدهم بالسياط، وقد حصل الأمران في موقف علي رضي الله عنه ممن نال من عثمان وعائشة رضي الله عنها، وبعض الصحابة كان يعتبر سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سباً للرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك عن أم سلمة، وبعضهم كان يفتي بقتل من سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكل ذلك يدل على عظم الجرم الذي يقع فيه من امتلأ قلبه ببغضهم وخبث لسانه بالقول القبيح فيهم الذي لا يليق إلا بمن صدر منه وقد سلك التابعون بإحسان من أهل السنة والجماعة في مواجهة السابين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة الغلظة والشدة عليهم ولم يسكتوا عن أي تعريض بهم، بل اعتبروا الطعن في الصحابة والسب لهم مروقاً من الدين أعاذنا الله من ذلك. 10- فقد روى أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: يا جابر بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من

_ = على خراسان لعلي "انظر ترجمته في الإصابة 2/381، تهذيب التهذيب 6/132-133، تقريب التهذيب 1/472. 1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/23.

أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"1. 11- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الحسن بن علي أنه قال: "ما أرى رجلاً يسب أبا بكر وعمر تيسر له توبة أبداً"2. 12- وقال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي: "من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتد عن دينه وأباح دمه"3. 13- وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم أو قال نصيب في الإسلام"4. 14- روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى الحسن بن الربيع قال: سمعت أبا الأحوص5 يقول: لو أن الروم أقبلت من موضعها يعني تقتل ما بين يديها وتقبل حتى تبلغ النخيلة ثم خرج رجل بسيفه فاستنقذ ما في أيديها وردها إلى موضعها ولقي الله وفي قلبه شيء على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأينا أن ذلك ينفعه"6. 15- وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن مصعب7 قال: قال لي أمير المؤمنين ـ المهدي ـ ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ 1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/12، وأورده الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية 9/349، والسياق له. 2ـ النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، ص/17. 3ـ الشرح والأبانة، لابن بطة ص/162. 4ـ المصدر السابق ص/162. 5ـ هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم أبو الأحوص الكوفي ثقة متقن من السابعة مات سنة تسع وسبعين ومائة. التقريب 1/342. 6ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/22. 7ـ هو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أبو بكر القرشي الأسدي أمير من أهل العدل والورع والشعر والفصاحة، ولد بالمدينة سنة إحدى عشرة ومائة وتوفي بالرقة سنة أربعة وثمانين ومائة. ألزمه الرشيد بولاية المدينة وعمره سبعون سنة انظر ترجمته في تاريخ بغداد" 10/173-176، البداية والنهاية لابن كثير: 10/211، تهذيب التهذيب 10/162، الأعلام للزركلي 4/281-282.

فقلت: زنادقة يا أمير المؤمنين، قال: ما علمت أحداً قال هذا غيرك فكيف ذلك؟ قلت: إنما قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه فشتموا أصحابه رضي الله عنهم يا أمير المؤمنين ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء فكأنهم قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى الأمر إلا كما قلت1. 16- روى أبو عبيد الله بن بطه إلى أبي بكر بن عياش2 أنه قال: "لا أصلى على رافضي ولا حروري لأن الرافضي يجعل عمر كافراً، والحروري يجعل علياً كافراً"3. 17- روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى يعقوب بن حميد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فدعاني فقال: يا سفيان إن أبا معاوية الضرير حدثني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون بعدي قوم لهم نبز يسمون الرافضة وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر، فإذا وجدتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون، فقلت: يا أمير المؤمنين اقتلهم بكتاب الله، فقال: يا سفيان وأين موضع ذلك من كتاب الله، فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . ..إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 4، يا أمير المؤمنين، فمن غاظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر5.

_ 1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/22-23، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 10/175. 2ـ هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي المقريء مشهور بكنيبته والأصح أنها اسمه ثقة عابد إلا أنه لما كير ساء حفظه وكتابه صحيح، مات سنة أربع وتسعين ومائة. وقيل قبل ذلك. التقريب 2/399. 3ـ الشرح والإبانة لابن بطة ص/160. 4ـ سورة الفتح آية/29. 5ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب ص/24-25، وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كنت =

18- وقال أيضاً: من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى1. 19- ذكر القرطبي عن عمر بن حبيب2 قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع بعضهم الحديث وزادت المرافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: "لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فنظر إلي الرشيد نظر مغضب وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي..حاسر عن ذراعيه بيده السيف، وبين يديه النطع3، فلما بصر بي قال لي: يا عمر ابن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء

_ = عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة قاتلوهم فإنهم مشركون. قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن "مجمع الزوائد" 10/22. 1ـ ذكره عبد القادر الجيلاني في كتابه "الغنية لطالبي طريق الحق" 1/79. 2ـ هو عمر بن حبيب بن محمد العدوي قاضي من رجال الحديث ولي قضاء البصرة، ثم الشرقية للمأمون العباسي، وكان صلباً في القضاء، حسن السياسة، هابه الناس وأمنوا ضياع حقوقهم في أيامه، توفي سنة سبع ومائتين. انظر ترجمته في أخبار القضاة لوكيع 2/142، تهذيب التهذيب 7/431-432، التقريب 2/52، الأعلام للزركلي 5/201. 3ـ النطع: بالكسر بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بقطع الرأس، أو يفرش للأكل أو اللعب.

به إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله"1. 20- روى أبو عبيد الله بن بطة بإسناده إلى هارون بن زياد، قال: سمعت الفريابي2 ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قال فنصلي عليه، قال: لا فسألته: كيف نصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته"3. 21- وقال بشر بن الحارث4: "من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين"5. 22- وقال أبو بكر المروزي: سألت أبا عبد الله عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، فقال: "ما أراه على الإسلام"6. 23- وقال محمد بن بشار7: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: أحضر جنازة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو كان من عصبتي ما ورثته"8. 24- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى إسماعيل بن

_ 1ـ الجامع لأحكام القرآن 16/298-299. 2ـ هو محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي مولاهم الفرياني، ثقة فاضل مات سنة اثنتي عشرة ومئتين وروى له الجماعة. التقريب 2/221، تهذيب التهذيب 9/535-537. 3ـ الشرح والإبانة ص/160. 4ـ هو بشر بن الحارث المروزي أبو نصر الحافي الزاهد الجليل المشهور ثقة قدوة مات سنة سبع وعشرين ومائتين. التقريب 1/98. 5ـ الشرح والإبانة لابن بطة ص/162. 6ـ الشرح والإبانة ص/161. 7ـ هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري أبو بكر بندار ثقة، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين. روى له الجماعة التقريب 2/147. 8ـ الشرح والإبانة ص/160.

القاسم، قال: قال لي عبد الله بن سليمان: يا إسماعيل ما تقول فيمن يسب أبا بكر وعمر، قلت: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال لي القتل؟، قلت: نعم، قال: وأنى لك هذا، قلت: بآية من كتاب الله تعالى، فقال: وآية من كتاب الله؟ قلت: نعم، قال: وأي هي من كتاب الله تعالى، قلت له: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} 1، ولا فساد في الأرض أعظم من سب أبي بكر ومر عليهما السلام، قال لي: أحسنت يا إسماعيل"2. وهذه الآثار عن هؤلاء الأئمة كلها دلت على تحريم سب الصحابة عموماً وفيها بيان الخسارة الواضحة التي تلحق من أقحم نفسه في هذا الجرم الكبير وأن من ابتلي بداء المبغضين لخيار الأمة وحمله ذلك على سبهم وتجريحهم إنما رام الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال الشريعة الإسلامية من أساسها لأن الصحابة إذا كانوا كذابين فجميع أحكام دين الإسلام باطلة، إذ الدين لم يصل إلينا إلا عن طريقهم فهم الذين تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لم يأخذه إلا عنهم، ومن طعن فيهم، أو جرحهم ماذا يبقى له من الدين وكما دلت تلك الآثار عن أولئك الأسلاف على تحريم سب الصحابة دلت كذلك على أن من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإنه لا يضرهم وإنما يضر نفسه، فهم رضي الله عنهم قدموا على ما قدموا، وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة والمآثر الحميدة في نصرة دين الإسلام والكلام فيهم بغير حق يكون ذلك زيادة في حسناتهم ورفعة لدرجاتهم، لأن المتكلم فيهم بغير حق إن كانت له حسنات فإنهم يأخذون يأخذون من حسناته ويضاف ذلك إلى حسناتهم ويزدادون بذلك رفعة عند الله تعالى، وإن لم يكن للمتكلم فيهم حسنات فلا تأثير لكلامه فيهم ولا مضرة عليهم، إذ الذي مدحه الله وأثنى عليه لا يضيره ذم الخلق وتنقصهم.

_ 1ـ سورة المائدة آية/33. 2ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/25.

المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته

المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل، أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير. 1- ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كانت هذه صفته أباح دم نفسه وحل قتله، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم. وممن ذهب إلى هذا القول من السلف الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبزى1 وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي2 وأبو بكر بن عياش3 وسفيان بن عيينة4 ومحمد بن يوسف الفريابي5 وبشر بن الحارث المروزي6 ومحمد بن بشار العبدي7 وغيرهم كثير، فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.

_ 1ـ انظر كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/23، فتاوى السبكي 2/580. 2ـ انظر الشرح والإبانة لابن بطة ص/162. 3ـ المصدر السابق ص/160. 4ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/24-25. 5ـ الشرح والإبانة ص/160، الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570. 6ـ الشرح والإبانة ص/162. 7ـ المصدر السابق ص/160.

قال الإمام الطحاوية في عقيدته: "وحبهم ـ أي الصحابة رضي الله عنهم ـ دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"1 ومن سبهم وطعن فيهم فقد زاد على بغضهم. وقال السرخسي2 وهو أحد كبار علماء الحنفية: "فأما من طعن في السلف من نفاة القياس لاحجاجهم بالرأي في الأحكام فكلامه كما قال الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 3 لأن الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه، كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4 ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم خير الناس فقال: "خير الناس قرني الذي أنا فيهم"5، والشريعة بلغتنا بنقلهم، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام، دواءه السيف إن لم يتب"6. وقال الحميدي القرشي تلميذ الشافعي وشيخ البخاري موضحاً العقيدة التي يجب على المسلم أن يلتزمها: "والسنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره حلوه ومره".. إلى أن قال: "والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله ـ عز وجل ـ قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم فمن سبهم أو بعضهم أو أحداً منهم، فليس على السنة وليس له في الفيء حق أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال: قسم الله الفيء فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ

_ 1ـ شرح الطحاوية ص/528. 2ـ هو محمد بن أحمد بن سهل أبو بكر قاضي من كبار الأحناف مجتهد من أهل فارس سرخس "في خراسان" توفي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص/158-159، الأعلام للزركلي 6/208. 3ـ سورة الكهف آية/5. 4ـ سورة الفتح آية/29. 5ـ انظر صحيح البخاري 2/287-289، صحيح مسلم 4/1963-1965. 6ـ أصول السرخسي 2/134.

أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} ، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} الآية ... فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء"1. وقد تقدم في المبحث الذي قبل هذا عن الإمام مالك أنه قال: "والذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم، أو قال: نصيب في الإسلام"2. وقال القرطبي بعد أن ذكر قول مالك: "من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 3 قال: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4. وقد ذكر القاضي عياض عن بعض المالكية أنه ذهب إلى أن عقوبة ساب الصحابة أنه يقتل حيث قال: "وقال بعض المالكية يقتل"5. وذكر الألوسي أن القاضي حسين6 من علماء الشافعية ذهب إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه إكفارهما ـ ثم قال ـ وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية7.

_ 1ـ مسند الحميدي 2/546. 2ـ الشرح والإبانة ص/162. 3ـ سورة الفتح آية/29. 4ـ الجامع لأحكام القرآن 16/297. 5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/93. 6ـ هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروزي ويقال له أيضاً المرورذي بالذال المعجمة وتشديد الراء الثانية وتخفيفها ـ قال النووي: "وهو القاضي حسين من أصحابنا ويأتي كثيراً معرفاً بالقاضي حسين وكثيراً مطلقاً القاضي فقط كان كبير القدر مرتفع الشأن" توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة رحمه الله. انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/164-165. 7ـ الأجوبة العراقية ص/50.

وقال الإمام الذهبي مبيناً حكم الطاعن في الصحابة والساب لهم: "فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل والإزدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والألحاد في عقيدته"1. وقد ذكر الحافظ ابن حجر اختلاف أهل العلم في عقوبة ساب الصحابة ونص على أن بعض الشافعية يرى قتله، فقد قال رحمه الله: "واختلف في ساب الصحابي، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل2 وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فيحكى القاضي حسين في ذلك وجهين: وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم"3أ. هـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن من علماء الحنابلة من ذهب إلى القول بتكفير من يعتقد سب الصحابة حيث قال: "وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم ـ ثم قال ـ وقال أبو بكر عبد العزيز4 في المقنع: فأما الرافضي فإن

_ 1ـ الكبائر ص/235. 2ـ انظر شرح النووي 16/93. 3ـ فتح الباري 7/36، وانظر تحفة الأحوذي 10/368، وانظر فتاوى السبكي 2/580. 4ـ هو الإمام عبد العزيز بن جعفر بن أحمد يزداد بن معروف أبو بكر المعروف بغلام الخلال كان أحد أهل الفهم موثوقاً به في العلم، متسع الرواية مشهوراً بالديانة توفي سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة =

كان يسب فقد كفر فلا يزوج ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى1 أنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك، وإن سبهم سباً يقدح ـ مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر"2. وجاء في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"3: "وقال في نهاية المبتدي: "من سب صحابياً كفر وإلا فسق، وقيل: وعنه يكفر"أ. هـ وأما أبو محمد بن حزم الظاهري فإنه ذهب إلى أن ساب الصحابة لا بد من تعليمه وتعريفه أولاً بما يجب للصحابة، فإن تمادى بعد ذلك يكون فاسقاً، وأما إذا عاند ما جاء عن الله ورسوله فيهم، فهنا يكون كافراً مشركاً حيث قال: "حكمه ـ أي: ساب الصحابة ـ أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك"أ. هـ4 فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم يرون كفر ساب الصحابة ومنهم من قرن هذا الحكم عليه أن يعاقب معه بقتله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة"5. وقد استدل أصحاب هذا القول بأمور منها:-

_ = انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/119-127. 1ـ هو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون من أهل بغداد ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2/193-230، تاريخ بغداد 2/256، شذرات الذهب 3/306، الأعلام للزركلي 6/331. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570. 3ـ 10/324. 4ـ الإحكام في أصول الأحكام 1/149. 5ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/569-570.

1- إن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام، لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم وذكرهم بخير وأوصى بهم خيراً ومن المعلوم أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر فيكون سب أصحابه كفراً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل، كما تقدم، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر الناس وبين أذاهم بعد صحبتهم له، فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقاً ويمكن أن يكون مرتداً، فأما إذا مات مقيماً على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون1 بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم، وقالوا: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين، أو كما قال، وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة، وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه، ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه، وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر، قال نسير بن ذعلوق2: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي، وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم:

_ 1ـ أي: غير متهم. انظر النهاية في غريب الحديث 2/316. 2ـ هو نسير بن ذعلوق ـ بضم المعجمة واللام ـ بينهما مهملة ساكنة، الثوري مولاهم، أبو طعمة الكوفي صدوق لم يصب من ضعفه من الرابعة. التقريب 2/298.

"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه"1، وهذا تفاوت عظيم جداً2. 2- إن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذ هم نقلتها والمبلغون لها. قال عمر بن حبيب بن محمد العدوي مخاطباً هارون الرشيد عندما جرت مسألة في مجلسه تنازعها الحاضرون واحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، فقال قائلون منهم: لا يقبل الحديث لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، ودافع عنه عمر بن حبيب ومن ضمن ما قاله للرشيد: "إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول"3. فاقتنع الرشيد بقوله وأيده عليه. وقال القرطبي: "فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4. 3- إن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع "قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفى من ربهم"5. ولا شك أن من يعارض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل ما دلا عليه فإنه على خطر عظيم، بل إنه لو أنكر حرفاً من القرآن فإن ذلك يخرجه من الإسلام، ويدخله في الكفر والعياذ بالله.

_ 1ـ انظر صحيح البخاري 2/292. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/580. 3ـ الجامع لأحكام القرآن 16/299. 4ـ المصدر السابق 16/297. 5ـ الأجوبة العراقية ص/49.

قال محمد صديق حسن خان: "من خالف الله ورسوله في أخبارهما وعصاهما بسوء العقيدة في خلص عباده، ونخبة عباده فكفره بواح لا سترة عليه"1.أ. هـ 4- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" 2. ورويا أيضاً: من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" 3. وعند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن سبهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما خص الأنصار ـ والله أعلم ـ لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام وما قاموا به من الأمر، ثم كان مؤمناً يحب الله ورسوله، لم يملك أن لا يحبهم، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك ـ والله أعلم ـ أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون

_ 1ـ الدين الخالص 3/382. 2ـ صحيح البخاري 1/12، صحيح مسلم 1/85. 3ـ صحيح البخاري 2/310، صحيح مسلم 1/85. 4ـ صحيح مسلم 1/86.

والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة، كما تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} 1 فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق"أ. هـ2. هذه بعض أدلة الفريق الأول من أهل العلم التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه من أن ساب الصحابة يكفر بسبه وانتقاصه لهم وطعنه في عدالتهم. 2- ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل، بل يكتفي بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يردعه ويزجره حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب وفواحش المحرمات، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة. فقد روى اللالكائي: عن الحارث بن عتبة، قال: إن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان، فقال: ما حملك على أن سببته؟، قال: أبغضه، قال: وإن أبغضت رجلاً سببته؟، قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطاً3. وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم4 الأحول قال: أتيت برجل قد سب عثمان، قال: فضربته عشرة أسواط، قال: ثم عاد لما قال، فضربته عشرة أخرى، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطاً"5. وممن ذهب من الأئمة إلى ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول

_ 1ـ سورة الصف آية/14. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/581-582. 3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المصدر السابق ص/569. 4ـ هو: عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري ثقة من الرابعة لم يتكلم فيه إلا القطان وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة أربعين ومائة هجرية. التقريب 1/384، التهذيب: 5/42-43. 5ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول ص/569.

الإمام مالك والإمام أحمد وكثير من العلماء ممن جاء بعدهما. قال القاضي عياض مبيناً ما ذهب إليه الإمام مالك وبعض علماء المالكية في هذه المسألة: "وقد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب" وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: كانوا على ضلال وكفر، قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً. وقال ابن حبيب1: "من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2 قال إسحاق بن راهوية: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس"3. وقال سحنون4: من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علياً أو عثمان أو غيرهما يوجع ضرباً. وحكى أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون فيمن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم

_ 1ـ هو: عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الألبيري القرطبي أبو مروان عالم الأندلس، وفقيهها في عصره، ولد سنة أربع وسبعين ومائة وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. انظر ترجمته في الديباج المذهب ص/154-156، ميزان الاعتدال 2/652، الأعلام 4/302. 2ـ الشفاء 2/267. 3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568. 4ـ هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي من علماء المالكية، توفي سنة أربعين ومائتين هجرية. انظر: ترجمته في الديباج المذهب ص/160-166، وفيات الأعيان 3/180، 182، الأعلام 4/129.

من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد"1. وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي حبهم سنة، والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع"2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق قول أحمد هذا: "وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم. وقال الميموني: سمعت أحمد يقول ما لهم ولمعاوية؟، نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن: إذا رأيت احداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتهمه على الإسلام" فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره واستتابته حتى يرجع بالجلد، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع، وقال: ما أراه على الإسلام وقال: وأتهمه على الإسلام، وقال: أجبن عن قتله". وقال رحمه الله بعد قول إسحاق بن راهوية المتقدم: "وهذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى، قال: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين"3.

_ 1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/167. 2ـ السنة للإمام أحمد ص/17، الصارم المسلول ص/568، طبقات الحنابلة 1/30. 3ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.

وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله أنه قال: سألته عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم؟ فقال أبي: أرى أن يضرب، فقلت له حد؟ فقال: فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب وقال: ما أراه إلا متهماً على الإسلام"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذا زندقة، وقال في رواية المروزي: "من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام". قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله، وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره، قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله: "ما أراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شح ومحبة للدينا، ونحو ذلك، قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان: إحداهما يكفر، والثانية يفسق، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره، حكوا في تكفيرهم روايتين"2. وقال ملا علي القاري حاكياً الإجماع في حكم سب الصحابة: "من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر

_ 1ـ مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، تحقيق: زهير الشاويش. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/571.

بالإجماع"أ. هـ1 فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم ومنهم عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول والإمام مالك وأحمد وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن ساب الصحابة فاسق ومبتدع ليس كافراً، يجب على السلطان تأديبه تأديباً شديداً لا يبلغ به القتل. واستدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة منها: - 1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف: "لا تسبوا أصحابي.. الحديث"2. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن سب الصحابة وقع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك، فلم يقل أن الساب كافر ولا أهدر دمه وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك. 2- ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال: "أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: فقال أبو برزة ألا أضرب عنقه، قال: فانتهره وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. 3- إن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة، فتكون عليه عقوبة مطلقة، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل،

_ 1ـ ذكره ابن عابدين في كتاب تنبيه الولاة والحكام ضمن مجموعة رسائله 1/367. 2ـ صحيح البخاري 2/292، صحيح مسلم 4/1967. 3ـ المسند 1/9، مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، سنن النسائي 7/109. 4ـ سورة النساء آية/112.

ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد ن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفساً فيقتل بها" 1. ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر، لأن بعض من كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم، فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"2. هذه أدلة من ذهب من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة غير كافر ولا مهدور الدم وإنما يفسق ويضلل ويبدع، هذا ما قرره أهل العلم في حكم ساب الصحابة، فقد اختلفوا في حكمه كما تقدم على قولين، فمن قائل بأنه كافر يجب قتله ومن قائل بأنه فاسق مبتدع يعاقب بما دون القتل، وكل له أدلة على ما ذهب إليه، والقول الذي تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه قلب المؤمن أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجروحون. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم علياً، وكفرت علياً إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه

_ 1ـ انظر صحيح البخاري 4/188، صحيح مسلم 3/1302-1303. 2ـ الصارم المسلول ص/578-579.

كفرة على زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة، ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم1 لعنة الله عليهم وصلى الله على رسوله وآله"2أ. هـ وكذا يكفر من أبغض واحداً من الصحابة أو أكثر لأمر يرجع إلى الصحبة أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الجهاد معه إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة فحكم هذا أنه فاسق مبتدع على الحاكم أن ينكل به نكالاً شديداً لا يبلغ به القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن طعنه في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف لهم حقهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كمعاوية وعمرو بن العاص أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان أو علي أو أبي بكر أو عمر أو عائشة أو نحو هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين"أ. هـ3. مطلب في حكم ساب أزواجه صلى الله عليه وسلم وعقوبته: إن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن داخلات في عموم الصحابة رضي الله عنهم لأنهن منهم، وكل ما جاء في تحريم سب الصحابة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإن ذلك يشملهن ولما لهن من المنزلة العظيمة وقوة قرابتهن من

_ 1ـ تكفير جميع الأمة من عقائد الكاملية إحدى فرق الشيعة أتباع رجل من الرافضة يعرف بأبي كامل. انظر "مقالات الإسلاميين" 1/89 التبصير في الدين للإسفراييني ص/35، الفرق بين الفرق للبغدادي ص/54-56، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص/60، الملل والنحل للشهرستاني 1/174-175. 2ـ الشفاء للقاضي عياض: 2/247-248. 3ـ مختصر فتاوي ابن تيمية لبدر الدين البعلي ص/478-479.

سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لم يغفل أهل العلم حكم سابهن وعقوبته بل بينوا ذلك أوضح بيان في أقوالهم المأثورة ومؤلفاتهم المختلفة، وفي هذا المطلب أجمع شتات بعض ما ورد في ذلك وليكن البدء بذكر حكم من سب عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها فنقول: إن أهل العلم من أهل السنة والجماعة أجمعوا قاطبة على أن من طعن فيها بما برأها الله منه وبما رماها به المنافقون من الإفك فإنه كافر مكذب بما ذكره الله في كتابه من إخباره ببراءتها وطهارتها، وقالوا إنه يجب قتله. وقد ساق أبو محمد بن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار، قال: سمعت مالك بنت أنس يقول: من سب أبا بكر وعمر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم يقتل في عائشة؟، قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. قال مالك: فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل. قال أبو محمد رحمه الله: "قول مالك ههنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها"أ. هـ2 وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال: إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} 3 في آي كثيرة وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 4 سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من

_ 1ـ سورة النور آية/17. 2ـ المحلى 13/504، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 3/1356، الشفاء للقاضي عياض: 2/267. 3ـ سورة الأنبياء آية/26. 4ـ سورة النور آية/16.

السوء، وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ومعنى هذا والله أعلم، أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سباً لنبيه وقرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى وكان حكم مؤذيه تعالى القتل كان مؤذي نبيه كذلك"أ. هـ1 وقال أبو بكر بن العربي: "إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب"2. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بما برأها الله منه حيث قال: "وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر، فقال إسماعيل: ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن. قال شيخ الإسلام: وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم. قال أبو السائب القاضي: "كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3. فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه،

_ 1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/267-268. 2ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1356. 3ـ سورة النور آية/26.

فضربوا عنقه وأنا حاضر". رواه اللالكائي. وروى عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه، فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء، فقال: هذا سمى جدي قرنان1، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل فقتلته"2. هذا هو موقف أهل البيت من نسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم ممن أطلق لسانه بالنيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنه موقف الغيور على الدين الذي لم يرض الله لعباده سواه فمن نال من عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فإنما ذلك معاندة للقرآن وتكذيب لله رب العالمين وطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عقوبة أنجع مع من أقدم على مثل هذا العمل المناقض لدين الإسلام لأن من كذب الله في أخباره وطعن بقول السوء في سيد الخلق عليه الصلاة والسلام لا يختلف اثنان في أنه خرج من ملة الإسلام إلى الكفر. قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم3. وقال ابن أبي موسى4: "ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه

_ 1ـ قرنان: على وزن سكران، وهو الذي لا غيرة له، قال الأزهري: هذا قول الليث وهو من كلام الحاضرة ولا يعرفه أهل البادية. المصباح المنير 2/501. 2ـ الصارم المسلول ص/566-567. 3ـ المصدر السابق. 4ـ هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الهاشمي، إمام الحنابلة ببغداد في عصره كان ثقة زاهداً درس بجامع المنصور وبجامع المهدي وصنف كتاباً منها "رؤوس المسائل" و"أدب الفقه" وكان شديداً على أهل البدع، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وتوفي سنة سبعين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/237-241، الذيل على طبقات الحنابلة 1/15-26، مناقب الإمام أحمد ص/521-523، الأعلام 4/63.

فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة"1. وقال ابن قدامة المقدسي: "ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم"أ. هـ2. وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك: "الحادية والأربعون براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين، قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا إكرام من الله تعالى لهم"أ. هـ3. وقد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها حيث قال: "واتفقت الأمة على كفر قاذفها"4. وقال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5 قال: "أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن"أ. هـ6 وقال بدر الدين الزركشي: "من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببرائتها"7.

_ 1ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568. 2ـ لمعة الاعتقاد ص/29. 3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 17/117-118. 4ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/106. 5ـ سورة النور آية/23. 6ـ تفسير القرآن العظيم 5/76. 7ـ الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص/45.

وقال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات قال: نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن. قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره1 فقال سبحانك هذا بهتان عظيم، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد"أ. هـ2 هذه الأقوال المتقدمة عن هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح أن الأمة مجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك فانه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها وطهارتها رضي الله عنها، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام. وأما حكم من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان: أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة على حسب ما تقدم ذكره. الثاني: وهو الأصح من القولين على ما سيتضح من أقوال أهل العلم أن من قذف واحدة منهن فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وإلى ما قرره أهل العلم في هذه المسألة. فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير3 والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير

_ 1ـ الضمير يعود على قصة الإفك. 2ـ الإكليل في استنباط التنزيل ص/190. 3ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 18/104.

أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} ، ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة ثم تلا هذه الآية: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فهم بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبل رأسه لحسن ما فسر"1. "فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زناء امرأته يؤذيه أذى عظيماً ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرء الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال"2. وقد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فقد أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة وتكذيب للرب ـ جل وعلا ـ في قطعه ببراءتها، قال: "وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق لأن الله تعالى يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} 3 فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين"4. وذكر القاضي عياض عن ابن شعبان5 أنه قال: "ومن سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ففيها قولان:

_ 1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/165. 2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/45. 3ـ سورة النور آية/26. 4ـ المحلى 13/504. 5ـ هو محمد بن القاسم بن شعبان أبو إسحاق ابن القرطبي ويقال له ابن شعبان من نسل عمار بن

أحدهما: يقتل لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم بسب حليلته. والآخر: أنها كسائر الصحابة يجلد حد المفتري، قال: "وبالأول أقول"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان: أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة. والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها ... وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن"أ. هـ2 وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، وخرج مخرج الغالب المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنها ـ إلى أن قال ـ "وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي والله أعلم"أ. هـ4 ومما يرجح القول بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة مثل عائشة في الحكم وجوه:-

_ = ياسر، رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته مع التفنن في التاريخ والأدب ولد سنة سبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في ترتيب المدارك 5/274-275، الديباج المذهب ص/248. 1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/269. 2ـ الصارم المسلول ص/567. 3ـ سورة النور آية/23. 4ـ تفسير القرآن العظيم 5/76.

الوجه الأول: أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف أن اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة ـ أو قصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك. الوجه الثاني: أن الله ـ سبحانه ـ رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول ـ سورة النور ـ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 الآية، فترتب الجلد وردّ الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات، فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك ـ والله أعلم ـ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2 فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاص بالعذاب العظيم وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين ويعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي. الوجه الثالث: لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: "ليس فيها توبة، لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً وعلى هذا فرميهن

_ 1ـ الآية رقم: 4. 2ـ سورة النور آية: 11. 3ـ سورة النور آية 14.

نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما لعنت امرأة نبي قط. ومما يدل على أن قذفهن أذىً للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك" 1. فهذه الوجوه الثلاثة فيها تقوية وترجيح لقول من ذهب إلى أن قذف غير عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حكمه كقاذف عائشة رضي الله عنها لما فيه من العار والغضاضة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أن في ذلك أذى عظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام.

_ 1ـ صحيح البخاري 3/163، صحيح مسلم 4/2129-2136.

الجزء الثالث

الجزء الثالث الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا ... المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحاً الشيعة في اللغة: قال الجوهري رحمه الله: شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يقال: والاه من الولي ... وتشيع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة وتشايع القوم من الشيعة وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 1 أي: بأمثالهم من الشيع الماضية"أ. هـ2. وقال العلامة ابن الجوزي: "الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة المجتمعة على أمر، ويقال: هؤلاء شيعة فلان: أي: أتباعه"أ. هـ3. وجاء في لسان العرب: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره وجمعها شيع وأشياع، جمع الجمع ويقال: شايعه كمال يقال: والاه ـ إلى أن قال ـ: "وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلّب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته جميعاً4

_ 1ـ سورة سبأ آية/54. 2ـ الصحاح 3/1240، مختار الصحاح للرازي ص/353، وانظر المفردات في غريب القرآن للراغب ص/271. 3ـ نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر ص/376. 4ـ كل مسلم يجب عليه تولي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم ومحبتهم، وقد كان القسط الأكبر والحظ الأوفر من هذا لأهل السنة والجماعة أما دعوى الشيعة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم دعوى بلا برهان ولكن يقال: إنهم اختصوا بالغلو المذموم نحوهم وبمعاداة من يحبهم أهل البيت وأهل البيت يحبون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً.

حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة"1. وجاء في القاموس: "شيعة الرجل بالكسر أتباعه والفرقة على حده، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم والجمع أشياع وشيع كعنب"2. وجاء في المصباح المنير3: "والشيعة الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت "الشيعة" نبزاً لجماعة مخصوصة والجمع "شيع" مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع "وشيعت رمضان بست من شوال أتبعته بها"أ. هـ فالشيعة: من حيث مدلولها اللغوي تعني: القوم والصحب والأتباع والأعوان وقد ورد هذا المعنى في بعض آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 4، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ} 5، فلفظ الشيعة في الآية الأولى تعني القوم، وفي الثانية: تشير إلى الأتباع الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما. تعريف الشيعة اصطلاحاً: كلمة "شيعة" اتخذت معنى اصطلاحياً مستقلاً حيث أطلقت على جماعة اعتقدوا أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي ترجع إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها

_ 1ـ لسان العرب 8/188-189. 2ـ القاموس 3/49. 3ـ 1/329. 4ـ سورة القصص آية/15. 5ـ سورة الصافات آية/83.

بتعيينهم، بل إنها ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه أن يعين الإمام للأمة"1. فقد قال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للشيعة: "وإنما قيل لهم الشيعة: لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال أبو محمد بن حزم الظاهري مبيناً حد الشيعي: "ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي"3. وقال الشهرستاني معرفاً للشيعة: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا: بإمامته وخلافته نصاً ووصية إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده"أ. هـ4 وقال عبد الرحمن بن خلدون: "اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في

_ 1ـ انظر مقدمة ابن خلدون ص/196-197. 2ـ مقالات الإسلاميين 1/65. 3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/146.

طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة"1. وقال الجرجاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه: قالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده"أ. هـ2 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معرفاً التشيع بقوله: "والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو"3. فهذه ستة تعاريف من أهل العلم لبيان المقصود بالشيعة وهي تتقارب في مدلولها، فقد أوضحوا فيها أن الشيعة طائفة من الناس يعتقدون أفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة وأحقيته هو وبنوه بالإمامة وأنها لا تخرج عنهم "إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم"4 كما يزعمون. تعريف الرافضة: الرفض لغة: الترك وقد رفضه يرفضه رفضاً ورفضاً والشيء رفيض ومرفوض والروافض: جند تركوا قائدهم وانصرفوا والرافضة فرقة من الشيعة. قال الأصمعي: "سموا بذلك لتركهم زيد بن علي رضي الله عنه"5. وجاء في المصباح المنير: "رفضته "رفضاً" من باب ضرب وفي لغة من

_ 1ـ مقدمة ابن خلدون ص/196-197. 2ـ كتاب التعريفات للجرجاني ص/129. 3ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459. 4ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/146. 5ـ الصحاح للجوهري 3/1078، لسان العرب 7/157.

باب "قتل" تركته والرافضة فرقة من شيعة الكوفة سموا بذلك لأنهم "رفضوا" أي: تركوا: زيد بن علي عليه السلام حين نهاهم عن الطعن في الصحابة"1. فالرفض في اللغة معناه الترك والتخلي عن الشيء. وأما في الاصطلاح: فالرفض يطلق على "قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي". قال الأصمعي: "كانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه فسموا رافضة، وقالوا: الروافض ولم يقولوا الرفاض لأنهم عنوا الجماعة"2. قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: قلت لأبي: "من الرافضي؟ قال: الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر"3. فالرافضة اصطلاحاً قوم من الشيعة ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً والبراءة من الشيخين خصوصاً. سبب تسميتهم بهذا الاسم: قال الرازي: إنما سموا بالروافض لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره على أبي بكر فمنعهم من ذلك، فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم ـ أي زيد بن علي ـ رفضتموني، قالوا: نعم، فبقي عليهم هذا الاسم"4.

_ 1ـ المصباح 1/232. 2ـ لسان العرب 7/157. 3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/165، السنة للخلال ص/492. 4ـ اعتقادات فرق المسلمين ص/52.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الخلفاء الراشدون الأربعة" ابتلوا بمعادات بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم، فأبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف، ولهذا قيل للإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر، وبهذا سميت الرافضة فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل: إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر"أ. هـ1 وقال أيضاً رحمه الله: "ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه"2. وقال الحافظ ابن كثير في صدد بيانه ما حدث سنة ثنتين وعشرين ومائة: "فيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان سبب ذلك: أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره ـ وهو بالحيرة يومئذ ـ خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك ـ يرحمك الله ـ في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر ولكن القوم استأثروا علينا به

_ 1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435. 2ـ منهاج السنة 1/8.

ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً قد ولوا فعدلوا وعملوا بالكتاب والسنة، قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يؤمئذ"1. وقال صاحب روضات الجنات: "فالروافض هم أولئك الذين رفضوا من أهل الكوفة صحبة زيد بن علي رضي الله عنه حين منعهم من الطعن في الخلفاء الراشدين الذين سبقوا علياً رضي الله عنهم جميعاً وتبرأوا منه حيث لم يتبرأ منهم"2. ومما تقدم تبين أن سبب تسميتهم بالرافضة أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي حين نهاهم عن الطعن في الصحابة وذلك أنهم لما عرفوا أنه يتولى الشيخين ولا يبرأ منهما رفضوه فاستعمل هذا اللقب في كل من غلا في هذا المذهب وأجاز الطعن في الصحابة وقد أطلق عليهم هذا الاسم سنة اثنتين وعشرين ومائة هجرية" 3.

_ 1 ـ البداية والنهاية 9/370-371. 2 ـ روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات لميرزا محمد الباقر 1/324. 3 ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 7/180-181، الكامل لابن الأثير 5/242-243، البداية والنهاية 9/370-371.

المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع

المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع لقد قرر المحققون من أهل العلم بالتاريخ والمقالات أن أول من زرع فكرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام بغية الكيد له ولأهله بنشر العقائد الفاسدة وزعزعة العقيدة الإسلامية الصافية من قلوب الناس وقد ظهر ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ ـ أيام الخليفة الثالث ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه حيث تظاهر بالإسلام وأخذ في التنقل في البلدان، فقد اتجه من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الكوفة ثم إلى مصر وأخذ ينفث سمومه وينشر أفكاره الخبيثة، وقد نشط ببث فكرتين أساسيتين لمخططه اليهودي: الأولى: دعوته إلى اعتقاد رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: "عجباً ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محمداً سيرجع وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1. الثانية: دعوته إلى اعتقاد "أن لكل نبي وصياً وعلي وصي لمحمدن ومحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على حق وصيه وتناول أمر الأمة". وقد استجاب له والتف حوله لفيف من الفاسدين والحاقدين وألفوا جماعة من ضعاف النفوس ويتسترون باسم الدين ويدعون إلى المطالبة بإسناد الأمر إلى علي رضي الله عنه نظراً إلى اعتقادهم الفاسد أنه خاتم أوصياء محمد وأخذ ابن سبأ يأمر أتباعه الذين استجابوا له بتحريك هذا الأمر والبدء بالطعن على الأمراء

_ 1ـ سورة القصص آية/85.

والتظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستمالة الناس إلى دعوتهم وكان لابن سبأ تأثير في سامعيه، فكان الذين يجتمعون إليه يتأثرون به ويقبلون قوله ويستعظمونه، وما زال هذا اليهودي الماكر المتظاهر بالإسلام ينشط هو وجماعته ضد الخليفة الثالث رضي الله عنه، وأمرائه، حتى أوسعوا الأرض إذاعة وكانوا يكتبون الكتب التي تنسب إليهم العيوب الكثيرة وتدس عليهم الدسائس، ويرسلونها إلى وجوه الناس في الأمصار إعدادً للفتنة الكبرى المدبرة في رأس عبد الله بن سبأ الخبيث حتى بلغ أهل المدينة طائفة من رسائلهم، فجاؤوا إلى عثمان رضي الله عنه يسألونه: هل أتاه من الأمصار مثل ما أتاهم؟ فقال لهم: والله ما جاءني إلا السلامة فأخبروه الخبر، فقال لهم: أنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي، فأشاروا عليه أن يرسل أشخاصاً ممن يثق فيهم إلى الأمصار ليخبروا أهلها بأنهم لم ينكروا شيئاً من عثمان لا أعلامهم ولا عوامهم، ففعل ذلك عثمان ثم كتب إلى أهل الأمصار كتاباً عاماً يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات والطعن على الأمراء ويقول: إنه تولى أمر المؤمنين ليقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه ولى عماله على ذلك، وأنه مستعد لسماع كل شكوى منهم ومن عماله وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من له شكوى إلى موافاته في موسم الحج ثم اتضح أن الشكاوى التي كانت على عمال عثمان كانت محض اختلاق ودسائس شيطانية من مخططات ابن سبأ وأتباعه ثم ابتدعوا فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريدون تحريضه على عثمان وولاته بأسماء طائفة من كبار الصحابة، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه، ثم انتهت دسائس ابن سبأ الخبيث إلى إشعال فتنة كبرى انطلقت جذواتها الثلاث من البصرة والكوفة ومصر وهي الأمصار الثلاثة التي كان من نتائجها المشئومة قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه بغير حق ظلماً وعدواناً"1.

_ 1ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/340 وما بعدهان تاريخ ابن عساكر 3/1-8، الكامل في التاريخ 3/154-181، البداية والنهاية 7/190-210، ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور

وإلى ذكر أقوال علماء التاريخ والمقالات فيما قرروه في كيفية بداية نشأة التشيع وأن زارعه الأول صاحب الحقد العظيم على الإسلام وأهله عبد الله بن سبأ اليهودي. فقد روى ابن جرير بإسناده إلى يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهودياً فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر فاغتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: "لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1 فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصيا، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون

_ = سعدي القرشي ص/29، وما بعدها، عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، ص/38-52. 1ـ سورة القصص آية/85.

ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة، فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس ـ واجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان ـ فقالوا يا أمير المؤمنين أياتيك عن الناس الذي يأتينا؟، قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بالذي أسقطوه إليهم، قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق فيهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم وفرق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمار، فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعلام المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم"1. وقال عبد القاهر البغدادي: "وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً ... فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خير الأوصياء كما أن محمداً خير الأنبياء ... إلى أن قال: "وقال المحققون من أهل السنة: إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام"2. وقال الشهرستاني في شأن ابن سبأ: "زعموا أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه، وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه

_ 1ـ تاريخ الطبري 4/340-341، تاريخ ابن عساكر 34/1-3، الكامل في التاريخ 3/154-155. 2ـ الفرق بين الفرق ص/235.

ومنه انشعبت أصناف الغلاة"أ. هـ1. وقال الحافظ ابن عساكر: "عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة، كان يهودياً وأظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر وقد دخل دمشق لذلك في زمن عثمان بن عفان"أ. هـ2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أنه أول من أحدث الرفض والغلو المذموم حيث قال: "وأصل الرفض" من المنافقين الزنادقة فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه وادعى العصمة له ولهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق وحب بني هاشم إيمان وبغضهم نفاق"أ. هـ3. كما ذكر رحمه الله أن بين ابن سبأ وبولص النصراني الذي أفسد دين النصرانية شبهاً واضحاً، حيث قال: "وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى"4. وقال رحمه الله في موضع آخر في سياق ذكره للرافضة: "وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر أهل العلم ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد فساد دين الإسلام

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174. 2ـ تاريخ دمشق 34/1. 3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435. 4ـ المصدر السابق 28/483.

وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع "بولص" بالنصارى، لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضغف النصارى وعقلهم، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علماً وعملاً، فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغلو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم، وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق، ولكن يضل من يتبعه على ضلاله"أ. هـ1، فقد بين رحمه الله أن منشأ الرفض كان من وضع الزنديق ابن سبأ اليهودي وأن هذا الشخص تظاهر بالإسلام نفاقاً وأنه كان له هدف أشد من تأسيس الرفض وهو إفساد دين الإسلام كما فعل "بولص" اليهودي بدين النصرانية، ولكن الله رد كيده في نحره وكشف خبثه لأنصار دينه. وقال المقريزي مبيناً كيفية بدء التشيع: "وكان ابتداع التشيع في الإسلام أن رجلاً من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم فقيل له عبد الله بن سبأ وعرف بابن السوداء وصار يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ـ ثم ذكر نبذاً من كيده للإسلام ـ ومنها أنه قال: "لكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب وصي محمد صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2. فالنصوص المتقدم ذكرها كلها فيها بيان واضح أن ابن سبأ كان يبيت للإسلام الشر وأنه كان له خبيئة سوء وإنما كان يتستر بالتشيع لأهل البيت ليصل إلى مقصوده الخبيث ولكن الله لا يهدي كيد الخائنين، فقد كشف الله عواره

_ 1ـ منهاج السنة 3/261. 2ـ خطط المقريزي 2/334.

وفضح غرضه السيء للناس ولوضوح خبثه وشدة حقده على الإسلام والمسلمين لم يذكره أحد من أهل العلم والإيمان بخير، وإنما وصفوه بأنه أول من سن لأهل الخذلان النيل من أبي بكر وعمر ووصفوه بالخبث والكذب وأنه ضال مضل. فقد ذكر الحافظ ابن حجر من طريق أبي إسحاق الفزاري أن سويد بن غفلة دخل على علي في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر يرون انك تضمر لهما مثل ذلك منهم عبد الله بن سبأ وكان عبد الله أول من أظهر ذلك فقال علي: ما لي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى عبد الله بن سبأ فسيره إلى المدائن، وقال: لا يساكنني في بلدة أبداً، ثم نهض إلى المنبر حتى اجتمع الناس ـ ثم أثنى على الشيخين ثناء طويلاً وقال في آخره: "ألا ولا يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري"1. بل قد روى ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه لما بلغه انتقاص ابن سبأ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هم بقلته، فقد روى بإسناده إلى سماك بن حرب قال: بلغ علياً أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر، فدعا به ودعا بالسيف ـ أو قال فهم بقلته، فكلم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، قال: فسيره إلى المدائن"2. وروى بإسناده إلى أبي الجلاس3 قال: سمعت علياً يقول لعبد الله السبئي: "ويلك والله ما أفضي إلي بشيء كتمه أحداً من الناس وقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهم"4.

_ 1ـ لسان الميزان 3/290، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100-101. 2ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 34/7. 3ـ أبو الجلاس: هكذا معروف بكنيته ـ سمع علياً وعنه الحارث بن عبد الرحمن الهمذاني. انظر المقتنى في سرد الكنى: 1/150، التهذيب 12/63. 4ـ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/6.

فعلي رضي الله عنه مقدم أهل البيت الذي زعم عبد الله بن سبأ أنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم قد حكم على ابن سبأ بأنه خبيث وهم بقتله ولما تراجع عن قتله نفاه إلى المدائن، وبين بطلان دسائسه على الإسلام بأنه أحد الدجالين الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بأنهم سيكونون بين يدي الساعة. وأخرج ابن عساكر أيضاً: بإسناده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: "أول من كذب عبد الله بن سبأ"1. وقال الحافظ الذهبي في شأن ابن سبأ: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل أحسب أن علياً حرقه بالنارن وزعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنفاه علي بعد ما هم به"أ. هـ2. وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد روايات في ذمه: "وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ وليست له رواية ولله الحمد وله أتباع يقال لهم السبائية معتقدون إلهية علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته"أ. هـ3. والحاصل مما تقدم تقريره عن أهل العلم أن ابن سبأ هو أول من زرع فكرة التشيع والقول بالرجعة والوصية وتلقفها منه من قلت بضاعته من العلم والهدى الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فالآراء التي يعتنقها الشيعة الرافضة ويتدينون بها لم تكن معروفة لدى الرعيل الأول من هذه الأمة وإنما هي من اختلاق عبد الله بن سبأ اليهودي الذي رام بها إضلال الناس وإفساد دين الإسلام وفتن بضلالاته الشيعة الرافضة وفتنت قلوبهم بالحقد على خيار الأمة، وتعبدوا بلعنهم وحكموا بردتهم، وهذا خذلان أيما خذلان لما فيه من تكذيب الله عز وجل من شهادته لهم في كتابه الكريم بالإيمان وكمال اليقين

_ 1ـ المصدر السابق 34/4. 2ـ ميزان الاعتدال 2/426. 3ـ لسان الميزان 3/290.

وإخباره برضاه عنهم وأنهم جميعاً من أصحاب الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم. وما فتن به الرافضة من تنقصهم للشيخين وقولهم بتقديم علي رضي الله عنه على الشيخين وطعنهم في عثمان لم يكن معروفاً عند شيعة علي رضي الله عنه وإنما ابتلي به المتأخرون من الشيعة الرافضة الذين سلكوا مسلك ابن سبأ في عقائده الفاسدة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم تكن الشيعة التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر ولا فيها من يقدم علياً على أبي بكر وعمر ولا كان سب عثمان شائعاً فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر"1. وختاماً لهذا المبحث تبين من كلام علماء التاريخ وأصحاب المقالات أن ابن سبأ شخص خبيث ظهر في آخر زمن خلافة ذي النورين بعقائد وأفكار زائغة ليلفت المسلمين عن دينهم، ولحق به من غوغاء الناس ما تكونت لهم طائفة السبائية 2.

_ 1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/436. 2 ـ لزيادة معرفة حقيقة ابن سبأ ومعرفة أباطيله يراجع كتاب "ابن سبأ حقيقة لا خيال" للدكتور سعدي الهاشمي، وكذا كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" لسليمان بن حمد العودة.

المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة لقد ذكر العلماء الذين صنفوا مؤلفات خاصة بالفرق أن الشيعة الرافضية فرق كثيرة ومتشعبة، والذي أذكره منهم في هذا المبحث هم أهم فرقهم التي تعتبر أمهات فرقهم، وهي الشيعة الغالية، والشيعة الكيسانية، والزيدية والشيعة الاثنى عشرية، وما ذكر من الفرق غيرها فإنها تكون متشعبة منها وإلى بيان تلك الفرق: 1- الشيعة الغالية: ينتمي إلى الشيعة فرق متعددة أصيب بعضها بالتطرف والغلو المذموم حيث رفعت الخليفة الرابع علياً رضي الله عنه وذريته إلى مرتبة الألوهية أو النبوة وجعلت منزلة "علي" أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ومرتبته، والبعض الآخر منهم لم يصل إلى هذا المستوى المتدني من الغلو والانحراف الذي لا يقبله من له أدنى عقل وبصيرة، ولقد حاول الشيعة إنكار نسبة فرق الشيعة الغالية إليهم1، ولكن ما استطاعوا إذ كل من كتب في الفرق تجدهم جميعاً يثبتون العلاقة القوية بين الفرق الغالية وبين عموم الشيعة، وعلى سبيل الفرض أنه لم يكن للغلاة صلة بالتشيع، فإنهم ولا شك قد اتخذوا التشيع ستاراً، ومن حب أهل بيت النبوة وسيلة لبث أفكارهم المنحرفة وعقائدهم الباطلة، ومن هنا أصبح التشيع ملجأ

_ 1ـ انظر الشيعة في الميزان "محمد جواد مغنية" ص/291-294، قال سعد القمي وهو من الإمامية بعد ذكره لفرق الغلاة: "فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع وإلى الخرمدينية، والمزدكية، والزنديقية، والدهرية مرجعهم جميعاً لعنهم الله وكلهم متفقون على نفي الربوبية عن الله الجليل الخالق تبارك وتعالى عما يصفون علوا كبيراً وإثباتها في بدن مخلوق.... المقالات والفرق، ص/64.

ومأوى لكل من رام هدم الإسلام لعداوة أو حقد عليه في نفسه، من أجل هذا رأيت أنه لا بد من الإشارة إلى الغلاة المنتسبين إلى التشيع. وقد ذكر أهل العلم الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم العديد من فرق الشيعة الغالية، التي بالغت بالغلو في حق الأئمة "كالسبئية والغرابية والبيانية والمغيرية، والهشامية، والخطابية، والعلبائية، والنصيرية" والإسماعلية من فرق الشيعة الغالية، وإنما أذكر هذه الفرق فقط مع الإشارة إلى بيان غلوهم في الأئمة كنماذج فقط وإلا فهم كثر. وقد عرف الشهرستاني الغلاة من الشيعة فقال: "هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق وهم على طرفي الغلو والتقصير، وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق، فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة"1. هذا هو تعريف الغلاة من الشيعة ومن أين استمدوا أسس معتقدهم في الأئمة الذين يزعمون نسبتهم إليهم، وأن ذلك سرى إلى أذهانهم من فرق الضلال من الأمم الماضية فضلوا بذلك عن سواء السبيل، ويتضح ضلالهم أكثر بالإشارة إلى ذكر غلوهم في الأئمة. فالسبئية: أتباع عبد الله بن سبأ: يزعمون أن علياً لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذكروا عنه أنه قال لعليّ

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/173.

عليه السلام: أنت أنت1"يعني أنت الإله فنفاه إلى المدائن"2. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله بعد ذكره للفرقة الخامسة عشرة من فرق الشيعة الغالية: "يزعمون أن الله ـ عز وجل ـ وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها، وأن الله ـ سبحانه ـ لم يخلق من ذلك شيئاً ويقول ذلك كثير منهم في علي ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحي إليهم، ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة به: إن علياً رضوان الله عليه فيها وفيهم يقول بعض الشعراء: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال3 منهم وابن باب4 ومن قوم إذا ذكروا علياً ... يردون السلام على السحاب5 الغرابية: وأما الغرابية: فهم "قوم زعموا أن الله ـ عز وجل التي أرسل جبريل عليه السلام إلى علي فغلط في طريقه فذهب إلى محمد، لأنه كان يشبهه، وقالوا: كان أشبه به من الغراب بالغراب والذباب بالذباب6 "من أجل هذا سموا غرابية7، ومن الغرابية فرق تسمى الذمية "زعموا أن علياً هو الله وشتموا محمداً صلى الله عليه وسلم وزعموا أن علياً بعثه لينبيء عنه فادعى الأمر لنفسه8.

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/86، وانظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/1-8. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174. 3ـ الغزال: لقب لقبوا به واصل بن عطاء أحد شيوخ المعتزلة، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 6/7-11. 4ـ ابن باب: المقصود به عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 3/460-462. 5ـ مقالات الإسلاميين 1/88. 6ـ انظر في شأن هذه الفرقة الفرق بين الفرق ص/250، التبصير في الدين ص/128-129. 7ـ التبصير في الدين ص/128. 8ـ الفرق بين الفرق ص/251، التبصير في الدين للإسفراييني ص/129

البيانية: أتباع بيان بن سمعان التميمي الذي كان يقول بإمامة محمد بن الحنفية وكان الكثير من أتباعه يقولون إنه كان نبياً وإنه نسخ بعض شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو المراد بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} 1 وقوم من أتباعه قالوا: إنه كان إلهاً، وقالوا: إن روح الإله قد حل فيه، وأنه يحل في الأنبياء والأئمة وينتقل من واحد إلى واحد آخر، وقالوا: إن روح الإله قد انتقل عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكان يدعي لنفسه الإلهية على معنى الحلول، وكان يدعي أنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يدعو به الزهرة فتجيبه، ولما وصل خبره إلى خالد بن عبد الله القسري صلبه وكفى الله شره"2. المغيرية: أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي، ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد الله الحسن بن الحسن الخارج بالمدينة وزعم أنه حي لم يمت، وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه واستحل المحارم وغلا في حق علي رضي الله عنه غلواً لا يعتقده عاقل ... وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن علي، ثم غلا فيه، وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه"3. الهشامية: أصحاب الهشامين: هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه وهشام بن سالم الجواليقي، الذي نسج على منواله في التشبيه ... وقد غلا هشام بن الحكم

_ 1ـ سورة آل عمران آية/138. 2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ص/124، وانظر مقالات الإسلاميين 1/66-67، الفرق بين الفرق ص/236-238، الملل والنحل للشهرستاني 1/152-153، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص/57 3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/176-177، وانظر مقالات الإسلاميين 1/69-74، الفرق بين الفرق ص/238-242

في حق علي رضي الله عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة"1. الخطابية: أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلك وبالغ في التبري منه واللعن عليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية آبائه وهم أبناء الله وأحباؤه والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار، وزعم أن جعفراً هو الإله وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها، ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة وافترقت الخطابية بعده فرقاً"2. العلبائية: أصحاب العلباء بن ذارع الدوسي، وقال قوم: هو الأسدي وكان يفضل علياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث محمداً، يعني علياً، وسماه إلهاً وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه، ويسمون هذه الفرقة الذميمة. ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام الإلهية ويسمونهم العينية، ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً، ويقدمون محمداً في الإلهية ويسمونهم الميمية، ومنهم من قال: بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء، محمد، وعلي وفاطمة، والحسن والحسين، وقالوا: خمستهم شيء واحد والروح حالة

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/184-185. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/179-184، وانظر مقالات الإسلاميين 1/76-82.

فيهم بالسوية لا فضل لواحد منهم على الآخر"1. النصيرية: من جملة غلاة الشيعة النصيرية أتباع محمد بن نصير النمري، "ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت، قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل، أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص والتصور بصورة أعرابي والتمثل بصورة البشر، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته وظهور الحسن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه، فكذلك نقول: إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص ولما لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية، فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم ويقولون: إنما أثبتنا هذا الاختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره، لأنه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى"2، إلى غير ذلك من الحجج الباطلة التي تعد من تزيين الشيطان وتسويله، وهذه الفرقة وسائر أصناف القرامطة الباطنية عرفت كلها في التاريخ بشدة عداوتها للإسلام وأهله ومناصرتها لأعداء الإسلام وكراهية انتصار المسلمين على أعدائهم من التتار والنصارى، كما اشتهرت بالإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلامه تعالى وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مواضعه، ويكفينا نحوهم ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه رحمه الله عرف حقيقتهم وما كانوا عليه من سوء الحال، فقد سئل رحمه الله عن النصيرية، فأجاب بقوله: "الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المتسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/175-176. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/188-189.

أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة، ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها يدعون أنها علم الباطن وليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله وتعالى ورسوله عن مواضعه ... ـ إلى أن قال ـ "ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى ـ والعياذ بالله تعالى ـ النصارى على ثغور المسلمين ... فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حيئنذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد1 وصلاح الدين2 وأتباعهما وفتحوا

_ 1ـ هو محمود بن زنكي الملقب بالملك العادل ملك الشام وديار الجزيرة ومصر وهو أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم، كان من المماليك جده من موالي السلجوقيين، ولد في حلب سنة 511 وتوفي سنة 569 كان من المداوميين للجهاد وكان يباشره بنفسه، كان موفقاً في حروبه مع الصلبيين أيام زحفهم على بلاد الشام "انظر ترجمته في وفيات الأعيان، لابن خلكان" 5/184-189، سير أعلام النبلاء 20/531-539، شذرات الذهب 4/228-231. 2ـ هو: يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المظفر صلاح الدين الأيوبي الملقب بالملك الناصر، من أشهر ملوك الإسلام، وهو من أصل كردي ولد بتكريت سنة 532هـ سيرته مشهورة طبقت الآفاق لما له من الأيادي البيض في نصرة الإسلام وأهله، منها تخليص بيت المقدس وبلاد فلسطين والساحل الشامي من براثن الصليبيين فقد كان موفقاً في حروبه لهم فقد هزمهم شر هزيمة في حطين وغيرها من الوقائع، توفي رحمه الله سنة 589هـ. =

السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضاً: أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ... ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم ... ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون "الملاحدة" وتارة يسمون "القرامطة" وتارة يسمون "الباطنية"، وتارة يسمون "الإسماعلية" وتارة يسمون "الخرَّمية"، وتارة يسمون "المحمرة". وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم.. ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل الكفار من أهل الكتاب ... وأيضاً: فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك ... ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه عن أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله ورسوله ... والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى"1. فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بكلامه هذا حقيقة "النصيرية" وسائر أصناف الباطنية الإسماعلية وكشف معاملتهم للمسلمين وموقفهم المشين من الإسلام عبر تاريخهم الأسود، كما بين الموقف الذي يجب

_ = انظر ترجمته في وفيات الأعيان 7/139-218، الكامل لابن الأثير 11/415 وما بعدها، سير أعلام النبلاء 21/278-291. 1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/149-159.

على المسلم أن يقفه كل بحسب ما يمكنه من تعريف الناس أخبارهم وإفشاء أسرارهم ليعرف الناس حقيقة حالهم. الشيعة الإسماعلية: بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين: فرقة: ساقت الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم وهؤلاء هم الشيعة الاثنا عشرية. وفرقة: نفت عن الإمامة، وقالت: إن الإمام بعد جعفر هو ابنه إسماعيل، وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعلية. قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعلية: "وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل"1. وقال الشهرستاني: "الإسماعلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر قالوا: ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها"2. فالإسماعلية إحدى فرق الشيعة، وهي تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب "الإسماعيلية". فأشهر ألقابهم الباطنية: وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ويطلق عليهم: القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق.

_ 1ـ الفرق بين الفرق ص/62. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191.

ويطلق عليهم في خراسان: التعليمية والملحدة وهم لا يحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون: نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم"1. وكما تقدم قريباً أن الشيعة أصيبوا بالفرقة والاختلاف بعد موت جعفر الصادق وهذه صفة ليست غريبة عليهم، وإنما هي صفة ملازمة لهم. قال أبو عبد الله الملقب بالمفيد مبيناً اختلافهم بعد الصادق: "فلما مات الصادق عليه السلام سنة 148هـ انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام بعد أبيه عليه السلام، وافترق الباقون فريقين: فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه، وأن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ. وفريق: ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يوميء إليه. وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده إلى آخر الزمان"2. والإسماعيلية لا يقولون بإمامة موسى بن جعفر، وإنما يقولون: "إن موسى الكاظم لم يجعله الصادق "ع" إماماً إلا سترا على ولي الأمر "محمد بن إسماعيل" ليكتم أمره على الأضداد ... وذلك أنه لما اشتدت المحنة وعظمت التقية في أيام جعفر بن محمد صلوات الله عليه كتم اسم الإمام من ولده تقية عليه، فلم يطلع عليه في حياة جعفر بن محمد ولا بعد وفاته إلا أوثق الثقات من شيعته"3. وقد ذكر محمد حسن الأعظمي في كتابه "الحقائق الخفية عن الشيعة

_ 1ـ انظر المصدر السابق 1/192. وانظر كتاب فضائح الباطنية للغزالي ص/11-15. 2ـ الإرشاد للمفيد ص/554. 3ـ الحركات الباطنية في الإسلام لمصطفى غالب ص/77.

الفاطمية والاثنى عشرية" أن الإسماعيلية فرقتان، هما: 1- المستعلية 2- والنزارية ثم عرف كل فرقة منهما، فقال: والمستعلية: هي التي يطلق عليها اسم البوهرة وهو لفظ "كوجراتي" معناه بالعربية التجار وهم منتشرون في الهند والباكستان واليمن وحضرموت وعدن وغيرها. والنزراية: تشتهر باسم "الأغاخانية" ويعتقدون أن زعيمهم الديني من نسل نزار بن المستنصر الفاطمي، ويطلق عليه الإمام الحاضر وهو الآن الامير كريم "أغاخان"، الذي دفن جده محمد شاه أغاخان في مدينة أسوان بمصر. وأما البوهرة: فيعتقدون أن إمامهم الحادي والعشرين "الطيب" ابن الآمر المستعلي بن المستنصر الفاطمي قد استتر وبدأ هو سلسلة الدعاة المطلقين وقد ظهر منهم ثلاثة وعشرون في اليمن، ثم ثلاث وعشرون في الهند، ويقال: إن السادس والأربعين محمد بدر الدين الداعي المطلق عبد علي سيف الدين قتل بالسم على يد منافسه عبد القادر نجم الدين"1. والإسماعيلية على اختلاف فرقها ونحلها تدين بعقائد فاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والإمامة ولهم فيها تخليط وتخبيط مصدرهم في هذه العقائد الفاسدة الفلسفات اليونانية، وكل عقائدهم الباطلة يقصدون منها إبطال الإسلام وهدم أركانه. وقد نبه الشهرستاني من قبل إلى تأثر الباطنية بالفلسفة اليونانية حيث قال: "إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج"2.

_ 1ـ الحقائق الخفية عن الشيعة الفاطمية والاثنى عشرية، ص/17. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193.

كما قرر الغزالي أيضاً: "أن آراء الباطنية في الإلهيات مسترقة من الثنوية والمجوس في القول بإلهين ومن كلام الفلاسفة في المبدأ الأول وأن مذاهبهم في النبوات مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير وأن مذهبهم في المعاد موافق لآراء الثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر"1. وتمسك الإسماعيلية بمبادئ الفلاسفة أدى بهم إلى تجريد الباري ـ جل وعلا ـ من كل صفة كمال اتصف بها حيث يقولون: "إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق بل هو إله المتقابلين، وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي الباقر أنه قال: "لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر، فهو عالم. والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة ... قالوا: ولذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته"2. ومن أجل هذا وصف الإسماعيلية بأنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات ومقصودهم من هذا هو إنكار وجود الخالق. قال الغزالي: إن الإسماعيلية يتطلعون في الجملة لنفي الصانع، فإنهم لو قالوا: إنه معدوم لم يقبل منهم، بل منعوا الناس من تسميته موجوداً وهو عين النفي مع تغيير العبارة لكنهم تحذقوا فسموا هذا النفي تنزيهاً وسموا مناقضه تشبيهاً

_ 1ـ فضائح الباطنية ص/40-42، 46. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193. وانظر فضائح الباطنية للغزالي ص/39.

حتى تميل القلوب إلى قبوله"1. ومعتقدهم في الإمامة كمعتقد الاثنى عشرية فهم يقولون بإمامة آل البيت وأن سلسلة الأئمة عندهم بعد جعفر الصادق هم إسماعيل وسلالته من بعده وذهبوا إلى القول بعصمة هؤلاء الأئمة، وأن الإمامة لا تثبت إلا بالنص كما ذهب الاثنى عشرية إلى ذلك في أئمتهم، ولا يختلفون عنهم في تعظيم أمر الإمامة وتقديس منزلتها، فهي عندهم العمود الأساسي الذي تدور عليه كل عقائد الإسماعيلية. وفي هذا يقول مصطفى غالب: "ولا تزال الإمامة المحور الذي تدور عليه كل العقائد الإسماعيلية لأن الإمامة ركن أساس جميع أركان الدين، فدعائم الدين هي الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والولاية هي أفضل هذه الدعائم"2. وقال أيضاً: في بيان معتقدهم في النص على الإمام وأنه لا اختيار للبشر في نصبه: "ومن أصول ومرتكزات العقيدة الإسماعيلية ضرورة وجود الإمام المنصوص عليه من نسل علي بن أبي طالب والنص من الإمام يجب أن يكون من الإمام الذي سبقه بحيث تتسلسل الإمامة في الأعقاب"3. والإسماعيلية لم يصدقوا بموت إسماعيل في حياة أبيه جعفر، بل يزعمون أن الإخبار بموته في ذلك الوقت الغرض منه التمويه والتعمية على ولاة الأمر من العباسيين. قال مصطفى غالب: "إن قصة وفاة إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه إنما كانت قصة أراد بها الإمام جعفر الصادق "ع" التمويه والتعمية على الخليفة العباسي ... ثم شوهد إسماعيل "ع" بعد ذلك في البصرة وفي غيرها من البلاد

_ 1ـ فضائح الباطنية ص/39. 2ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية/49-50، الإمامة وقائم القيامة ص/145. 3ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية ص/50.

فارس وعلى ذلك فالإمامة لم تسقط عن إسماعيل بالموت قبل وفاة أبيه لأنه مات بعد أبيه"1. ومنهم من قال: "إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه، وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع قهقرى والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة"2. ولم يختلفوا في تعظيمهم لأئمتهم على تعظيم الاثنى عشرية لأئمتهم من حيث الإطراء والغلو المذموم فهم شركاؤهم في هذا المقام، حيث يعتقدون أنه "لا يعترض على شيء مما صدر عن الإمام من أوامر ونواه وأقوال وأفعال إذ أنه يتمتع بالعصمة التي منحه إياها الله فامتاز بها عن بقية المخلوقات"3. وادعاء الشيعة الإمامية والإسماعيلة وجوب العصمة للأئمة ما هو إلا نوع أن هذيانهم وكذبهم وافترائهم "لم يرد به دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح ولا من العقل السليم، قاتلهم الله أنى يؤفكون"4. إذ أنه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فبطلان دعوى وجوب العصمة ظاهر. ونقتصر على ذكر هذه الفرق التسع من فرق الشيعة الغالية إذ ليس المراد استقصاء الغلاة، وإنما ذكرنا هذه الفرق مع الإشارة إلى غلوهم الفاسد في الأئمة ليتضح للقاريء ضلالهم ونبذهم للإسلام وراء ظهورهم وليتبين أن غلاة الشيعة اتخذوا من حب آل البيت والتشيع لهم ذريعة لبث آرائهم

_ 1ـ الحركات الباطنية ص/77. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191. 3ـ إثبات الإمامة للنسابوري ص/51 وانظر فضائل الباطنية للغزالي ص/142 وما بعدها. 4ـ الرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص/28 وانظر ص/34.

الباطلة وهدم الإسلام ونقضه عروة عروة، ومن جهة أخرى جعلوا من التشيع مدخلاً لإحياء عقائد الديانات الوثنية، كالقول بالتناسخ وانتقال أرواح الأئمة من إمام إلى إمام، والزعم بحلول الله تعالى في أرواح البشر وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في وسع أهل البيت إلا أن تبرأوا من هؤلاء الغلاة ولعنوهم على الملأ وفضحوا أكاذيبهم كما فعل جعفر الصادق مع الخطابية، وقد ذكر الشهرستاني أن جعفر الصادق "قد تبرأ عما كان ينسبه إليه بعض الغلاة وبريء منهم ولعنهم وبريء من خصائص مذاهب الرافضة، وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة والبداء والتناسخ والحلول والتشبيه، لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل كل واحد منهم مذهباً وأراد أن يروجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به، وجعفر بريء من ذلك ومن الاعتزال والقدر أيضاً"1، كما أشار إلى الغلاة على مختلف أصنافهم كلهم متفقون على القول بالتناسخ والحلول ثم ذكر أن التناسخ "كان مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من المجوس المزدكية والهند البرهمية ومن الفلاسفة الصابئة"2. 2- الكيسانية: ذكر العلماء الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم أن فرقة الكيسانية تنسب إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي3 وسميت من اجل ذلك بالمختارية، وسميت أيضاً: بالكيسانية لأن المختار كان يقال له: كيسان، أو أن كيسان الذي تنسب إليه كان مولى لعلي بن أبي طالب، أو كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية وأن المختار تلقى

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/166. 2ـ المصدر السابق 1/175. 3ـ هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي الذي يخرج يطلب بثأر الحسين بن علي وهو الذي جهز الجيش لحرب عبيد الله بن زياد بقيادة إبراهيم بن الأشتر النخعي، وقتل المختار سنة 67هـ في موقعة عظيمة دارت بينه وبين مصعب ابن الزبير. انظر العبر 1/74، ميزان الاعتدال 4/80، لسان الميزان 6/7-8، سير أعلام النبلاء 3/538-544.

مقالته من كيسان هذا ومن هنا أطلق على هذه الفرقة اسم الكيسانية. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا "كيسانية" لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى "محمد بن الحنفية" كان يقال له "كيسان"، ويقال: إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه"1. وقال عبد القاهر البغدادي في ذكره للكيسانية: "هؤلاء أتباع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، الذي قام بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وقتل أكثر الذين قتلوا حسيناً بكربلاء، وكان المختار يقال له كيسان، وقيل: إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي رضي الله عنه، كان اسمه كيسان"2. وقال أبو المظفر الإسفراييني: "وأما الكيسانية فهم أتباع مختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتله بكربلاء"3. وأما الشهرستاني: فقد نسب هذه الفرقة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين وذكر أنها فرق ومن ضمنها المختارية، فقد قال: "الكيسانية: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقيل: تلميذ للسيد محمد بن الحنفية، يعقتدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها، من علم التأويل والباطن، وعلم الآفاق والأنفس"4. كما أنه قرر أن "المختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/91. 2ـ الفرق بين الفرق ص/38. 3ـ التبصير في الدين ص/30. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147، وانظر في شأن فرقة الكيسانية مروج الذهب للمسعودي 3/70-89.

صار شيعياً وكيسانياً، قال: بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما، وقيل: لا بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يدعو الناس إليه وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ويذكر علوماً مزخرفة بترهات ينوطها به"1. وتقرير الشهرستاني هذا يؤدي إلى اضطراب وغموض حول حركة المختار ابن أبي عبيد وحقيقة الكيسانية ولكن الظاهر أن الحركة التي قام بها المختار كانت حركة شيعية غرضها أخذ الثأر من قتلة الحسين بن علي من جهة وتحقيق أطماع وتطلعات قائدها المختار من جهة أخرى، أما الكيسانية فهي حركة غالية منحرفة اتخذت من التشيع لآل البيت ستاراً نفذت بواسطته بتعاليمها الفاسدة وآرائها المنحرفة، وقد تولد عن الكيسانية الكثير من الحركات الباطنية، وأما المختار فقد نشأ في بيت مسلم بعيد عن هذه الانحرافات، فوالده أبو عبيد بن مسعود، كان ممن أسلموا مع قبيلة ثقيف، ثم انتقل من الطائف موطنه وحيث ولد المختار إلى المدينة وصار أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الفاروق رضي الله عنه تولى قيادة المسلمين في فتوحات العراق، واستشهد هو وابنه جبر في موقعة الجسر الشهيرة على نهر الفرات"2، وقد ولد المختار في السنة الأولى من الهجرة وانتقل مع والده إلى بلاد العراق لقتال الفرس وبعد استشهاد والده دخل تحت كفالة عمه سعيد بن مسعود، الذي كان والياً لعلي رضي الله عنه على الكوفة وقد وصف المختار بن أبي عبيد بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والدهاء والفطنة3، وقد استغل هذا الذكاء وهذه الفطنة في محاولة للوصول إلى الحصول على مكانة عند الناس فاتخذ من حب آل البيت والولاء لهم وسيلة ينفذ منها إلى ما يهدف إليه من الولاية وحب الرياسة، واستطاع أن يجمع حوله كثيراً من

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147-148. 2ـ انظر تاريخ الطبري 3/454 وما بعدها، لسان الميزان لابن حجر 6/7. 3ـ انظر كتاب المختار الثقفي مراءة العصر الأموي، علي حسن الخربوطلي ص/40.

الأتباع والأنصار ممن ينتمون للشيعة، وتمكن من الاستيلاء على الكوفة وعقدت له البيعة فيها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطلب بدماء أهل البيت وأول ما بدأ به بعد البيعة أن تتبع قتلة الحسين بن علي وهدم دورهم وأخذ الثأر منهم وقد أكسبه هذا الفعل مكانة عند الشيعة وحببه إليهم، وقد ذكر الشهرستاني أن المختار انتظم له ما انتظم بأمرين: أحدهما: انتسابه إلى محمد بن الحنفية علماً ودعوة. الثاني: قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين1. وهذه تعتبر مرحلة أولى للمختار بن أبي عبيد الثقفي، فقد أظهر نفسه أنه شيعي، ينتقم لقتلى آل البيت، ويدعو إلى إمامة محمد بن الحنفية وقد ذكر الشهرستاني أنه انتقل من هذه المرحلة وصار كيسانياً ونسب إليه القول بالبداء، حيث زعم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يغير ما يشاء تبعاً لتغير علمه وأنه يأمر بالشيء ثم يبدو له فيأمر بغيره، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً. قال الشهرستاني: وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام "محمد بن الحنفية"، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على دعواه، وإن لم يوفقه قال: "قد بدا لربكم"2. وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 3. وقد ذكر البغدادي أن هذا التغير في آراء المختار حدث له بعد أن تم له

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/148. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/149. 3ـ سورة الرعد آية/39.

الاستيلاء على الكوفة والجزيرة والعراقين إلى حدود أرمينية تكهن بعد ذلك وسجع بأسجاع الكهنة، وكان يدعي نزول الوحي عليه1 والذي يظهر أن المختار في آخر أمره تأثر ببعض غلاة الشيعة. قال البغدادي: "إن الذي زين له ذلك جماعات من الشيعة الغلاة وقالوا له: أنت حجة هذا الزمان، وحملوه على دعوى النبوة فادعاها ولكن لم يصرح بهذا إلا لخاصته"2، وبدعواه نزول الوحي عليه حكم عليه بأنه ضال مضل. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب لا ينبغي أن يروى عنه شيئاً، لأنه ضال مضل، كان زعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه وهو شر من الحجاج أو مثله"أ. هـ3. ومما تجدر الإشارة إليه أن العلماء أجمعوا على أن المراد بالكذاب في الحديث الذي رواه مسلم4 من حديث ابن عمر: أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، أنه المختار ابن أبي عبيد. فقد قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً قول أسماء بنت أبي بكر للحجاج: "أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً5 فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه"، قال: "وقولها في الكذاب فرأيناه تعني به المختار بن أبي عبيد، كان شديد الكذب ومن أقبحه، ادعى ان جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف والله أعلم"6.

_ 1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/46. 2ـ الفرق بين الفرق ص/47. 3ـ ميزان الاعتدال 4/80. 4ـ صحيح مسلم 4/1971-1972. 5ـ المبير: المهلك. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/100، وانظر تحفة الأحوذي 6/467. 6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/100.

وقد هلك المختار بن أبي عبيد عام "67هـ" على يد مصعب بن الزبير1 ولم تنته آراؤه الفاسدة بهلاكه، بل قام أتباعه من الكيسانية بنشرها فيما بعد فقد اجتمع رأيهم على القول بإمامة محمد بن الحنفية واختلفوا في رجعته على قولين: فبعضهم: زعم أنه مات وسيرجع. ومنهم من ذهب إلى أنه لم يمت بل هو حي بجبل رضوى، وعنده عينان تجريان بماء وعسل وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه وهو المهدي المنتظر الذي سيعود فيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً، وإلى هذا يشير شاعرهم كثير عزة فيقول: ألا إن الأئمة من قريش ... علي والثلاثة من بنيه ‍ فسبط سبط إيمان وبر ‍ ... وسبط لا يذوق الموت حتى ‍ تغيب لا يرى فيهم زماناً ... ولاة الحق أربعة سواء هم الأسباط2 ليس بهم خفاء ... وسبط غيبته كربلاء يقود الخيل يقدمها اللواء ... برضوى عند عسل وماء3 ‍ [وقد مات ابن الحنفية بالمدينة سنة إحدى وثمانين هجرية، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى زيد بن السائب، قال: سألت أبا هاشم عبد الله بن محمد الحنفية: أين دفن أبوك؟، فقال: بالبقيع، قلت: أي سنة؟ قال: سنة إحدى وثمانين في أولها وهو يومئذ ابن خمس وستين سنة لا يستكملها4.

_ 1ـ انظر تاريخ الطبري 6/93 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/267، وما بعدها، البداية والنهاية 8/308 وما بعدها. 2ـ الأسباط: جمع سبط، قيل هم الأولاد خاصة، وقيل: أولاد الأولاد، وقيل: أولاد البنات، النهاية 2/334. 3ـ الفرق بين الفرق للبغدادي ص/41، الملل والنحل للشهرستاني 1/150. 4ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16.

ففي هذا بيان لفساد من يعتقد من الكيسانية رجوع محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى، فقد مات بالمدينة، ودفن بالبقيع، والذي أم المصلين في صلاة الجنازة عليه أبان بن عثمان، لأنه كان الوالي يومئذ على المدينة لعبد الملك بن مروان1. واختلفت الكيسانية أيضاً: فيمن يتولى الأمر بعد ابن الحنفية، حتى صار كل اختلاف مذهباً، وافترقوا عدة فرق2 ويجمعها شيئان: أحدهما: قولهم بإمامة محمد بن الحنفية، وإليه كان يدعو المختار بن أبي عبيد. والثاني: قولهم بجواز البداء على الله ـ عز وجل ـ ولهذه البدعة قال بتكفيرهم كل من لا يجيز البداء على الله3. والكيسانية كانت مصدراً لكثير أن الآراء الفاسدة التي كان الهدف منها إبطال الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الكفر والزندقة. قال الشهرستاني: "وأجمع الكيسانية على القول بأن الدين طاعة رجل، وحملهم هذا على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على رجال، فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ومن معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم متحسر عليه متحير فيه، ومن مدع حكم الإمامة وليس من الشجرة، وكلهم حيارى متقطعون، ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له، فلا دين له

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16. 2ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/151. 3ـ الفرق بين الفرق ص/38-39.

نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور، رب اهدنا سواء السبيل1. 3- الزيدية: هم المنتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج زيد في خلافة هشام بن عبد الملك لأمور أنكرها، فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان مولده بالمدينة سنة ثمانين2، وكان رحمه الله تعالى تقياً زاهداً فاضلاً وأحد العلماء الصلحاء، تلقى العلم في المدينة والبصرة والعراق، وبلغ درجة عالية في العلم والفقه3. قال أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا "زيدية" لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"4. وقال الشهرستاني: "الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما"5. فالزيدية إحدى فرق الشيعة وهي تنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد افترقت الزيدية فرقاً عدة لكل فرقة منها منهج ووجهة، وأصول هذه الفرق ثلاث، وهي: الجارودية، والسليمانية، والصالحية، وإليك نبذة عن كل واحدة من هذا الفرق الثلاث ليتضح معتقدها

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147. 2ـ انظر تهذيب التهذيب 3/419، تقريب التهذيب 1/276. 3ـ انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 5/325-326، سير أعلام النبلاء 5/389-391، وفيات الأعيان 5/122. 4ـ مقالات الإسلاميين 1/136. 5ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/154-155.

في خيار هذه الأمة الذين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أولاً: الجارودية: هم: "أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي المتوفى ما بين خمسين وستين بعد المائة"1 والذين اتبعوه في أفكاره وآرائه سموا جارودية لأنهم أخذوا بأقواله، وهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "علي بن أبي طالب" بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم "الحسن" من بعد علي هو الإمام، ثم "الحسين" هو الإمام من بعد الحسن، وافترقت الجارودية فرقتين ـ في النص على الإمام الذي يكون بعد علي ـ فرقة: زعمت أن علياً نص على إمامة "الحسن" وأن الحسن نص على "الحسين" ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالماً فاضلاً فهو الإمام. وفرقة: زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "الحسن" بعد علي وعلى "الحسين" بعد الحسن، ليقوم واحد بعد واحد. وافترقت الجارودية أيضاً في رجعته أئمتهم ثلاث فرق: فزعمت فرقة أن "محمد بن عبد الله بن الحسن"2 لم يمت وأنه يخرج ويغلب. وفرقة خرى: زعمت أن "محمد بن القاسم"3 صاحب الطالقان لم

_ 1ـ انظر تهذيب التهذيب 3/387. 2ـ هو: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، قال عنه أبو الحسن الأشعري: "خرج بالمدينة وبويع له في الآفاق بعث إليه أبو جعفر المنصور بعيسى بن موسى وحميد بن قحطبة فحارب محمد حتى قتل. المقالات 1/154، وكان قتله سنة خمس وأربعين ومائة. راجع تهذيب التهذيب 9/252. 3ـ هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، انظر ما جاء في شأن محمد هذا تاريخ الطبري 9/7-8، الكامل لابن الأثير 6/442-443. ??

يمت وأنه يخرج ويغلب. وفرقة قالت مثل ذلك في "يحيى بن عمر" صاحب الكوفة1. ثانياً: السليمانية أو الجريرية: هم: أتباع سليمان بن جرير الزيدي، وهذه الفرقة تعتقد: "أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر ـ وذكر ـ عن سليمان بن جرير أنه كان يزعم أن بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل وأن الأمة قد تركت الأصلح في بيعتهم إياهما"2. وقد تجرأ سليمان بن جرير على الخليفة الثالث: عثمان رضي الله عنه حيث زعم "أنه كفر بسبب ما نقم عليه من الأحداث"3، كما تجرأ أيضاً: على القول بكفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4. ثالثاً: الصالحية أو البترية: هم أتباع الحسن بن صالح بن حي5 وكثير...........

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/141-142. 2ـ المصدر السابق 1/143. 3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143، الفرق بين الفرق ص/33، الملل والنحل للشهرستاني 1/160. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160. 5ـ قال الحافظ: "الحسن بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي الهمداني ثقة، فقيه، عابد، رمي بالتشيع من السابعة، مات سنة تسعة وتسعين وكان مولده سنة مائة. التقريب 1/167، وقال عبد القاهر البغدادي: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في مسنده الصحيح، ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري حديثه في الصحيح، ولكنه قال: في كتاب التاريخ الكبير. الحسن بن صالح بن حي الكوفي سمع سماك بن حرب، ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثور

النواء1، وإنما سموا "بترية" لأن "كثيراً" كان يلقب بالأبتر يزعمون أن علياً أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن علياً ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وفي قتلته ولا يقدمون عليه بإكفار"2. قال الرازي: "والصالحية أصحاب الحسن بن علي بن حي الفقيه كان يثبت إمامة أبي بكر وعمر ويفضل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة إلا أنه توقف في عثمان وقال: إذا سمعنا ما ورد في حقه من الفضائل اعتقدنا إيمانه، وإذا رأينا أحداثه التي نقمت عليه وجب الحكم بفسقه، فتحيرنا في أمره وفوضنا إلى الله تعالى"أهـ3. وقد اعتبر الشهرستاني: الصالحية أو البترية فرقتين مستقلتين حيث قال: "الصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حي، والبترية: أصحاب كثير النواء الأبتر وهما متفقتان في المذهب وقولهم في الإمامة كقول السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان، أهو مؤمن أم كافر؟، قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه وكونه من العشرة المبشرين الجنة، قلنا: يجب أن نحكم بصحة إسلامه وإيمانه وكونه من أهل الجنة، وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة قلنا يجب أن نحكم بكفره فتحيرنا في أمره، وتوقفنا في حاله ووكلناه إلى أحكم الحاكمين"4.

_ = همدان وكنيته أبو عبد الله. الفرق بين الفرق ص/34، وقال أبو المظفر الإسفراييني: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في المسند الصحيح لما أنه لم يعرف منه هذه الخصال فأجراه على ظاهره" أهـ. التبصير في الدين ص/29. 1ـ هو كثير بن إسماعيل، أو ابن نافع النواء بالتشديد أبو إسماعيل التميمي الكوفي ضعيف، من السادسة تقريب التهذيب 2/131. 2ـ مقالات الإسلاميين 1/144. 3ـ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ص/361. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/161.

فالصالحية أو البترية قولهم كقول سليمان بن جرير غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا على ذمه ولا على مدحه، وهؤلاء ـ كما يقول البغدادي ـ "أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير"1. وأبخس معتقد لفرقة الزيدية في الصحابة هو ما تعتقده الجارودية من كفر الشيخين2، وكذا ما تعتقده السليمانية من كفر عثمان بسبب ما نقم عليه من الأحداث على حسب زعمهم3 واعتقادهم كفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة إقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4. وهذا المعتقد لفرقتي الجارودية والسليمانية في أولئك الأخيار باطل من وجهين: الوجه الأول: أنه معاندة منهم للرب ـ جل وعلا ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث شهد الله لجميع الصحابة في غير ما آية من كتابه العزيز بحقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم، كما أخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه وأنه وعدهم جميعاً بالحسنى، وأولئك النفر الذين تكفرهم الجارودية والسليمانية من الزيدية في مقدمة من شرفهم الله بالثناء عليهم بتحقيق الإيمان، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يعتقد كفرهم أو يطعن فيهم بعد ذلك إلا معارض لله ولرسوله ومكذب لما أخبر الله ورسوله بما لهم من المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة. الوجه الثاني: لو تدبرت الجارودية والسليمانية ما اعتمدنا عليه في تكفير من تقدم ذكره من الصحابة لاستحيوا من ذكر ذلك، فالأحداث التي يزعمون أن عثمان كفر بها معظمها أكاذيب افتراها الخارجون عليه، وما صح منها كان

_ 1ـ الفرق بين الفرق ص/33-34. 2ـ الفرق بين الفرق ص/34. 3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160.

مجتهداً فيها، وقد بينت فساد ما نقموا به على عثمان في مبحث مستقل من هذه الرسالة1 بما يشفي قلب كل من سلم من داء الرفض، وأما تكفيرهم عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة أنهم خرجوا لمقاتلة علي، فهي حجة أوهى من بيت العنكبوت، وكذب عليهم، إذ أنهم لم يخرجوا لقتاله رضي الله عنه، ولا أعلنوا عدم طاعته ولا بايعوا بالخلافة غيره، وإنما خرجوا إلى البصرة لقصد الإصلاح وطلب إقامة الحد على قتلة عثمان "ولم يقصد علي رضي الله عنه قتالهم، بل أجابهم إلى ما طلبوا من إقامة الحد على أولئك الأشرار قتلة عثمان، ولما علم أولئك الفسقة أن الدائرة راجعة عليهم سعوا جادين في إنشاب القتال بين الفريقين فحمل كل فريق منهم دفعاً عن نفسه دون قصد منهم للقتال"2، وكذا اقتتالهم في صفين كان عن اجتهاد وتأويل، إذ أن معاوية: "لم يدع الخلافة ولم يبايع له فيها حين قاتل علياً ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وكان هو يقر بذلك لمن يسأله، وما كان يرى هو وأصحابه أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، بل لما رأى علي رضي الله تعالى عنه وأصحابه أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة، وقال معاوية وأصحابه: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي وهم غالبون لهم شوكة"3. فالفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم يجب أن يكون حظ العاقل منها حسن الظن بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والسكوت عن الكلام فيهم إلا بخير والترضي عنهم جميعاً وموالاتهم ومحبتهم والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم

_ 1ـ انظر ص/1050-1092 هذه الرسالة. 2ـ انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/85. 3ـ سؤال في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/32-33.

بين الأجر والأجرين، ولو سلك الجارودية والسليمانية من الزيدية هذا المسلك لما وقعوا في الاعتقاد الباطل فيمن تقدم ذكره من الصحابة ولما تنكبوا طريقة زيد بن علي في خيار الأمة، ومن شؤم معتقدهم السيء في أولئك الصفوة كان فتنة لهم حيث كفر بعضهم بعضاً، فقد قال عبد القاهر البغدادي: "هؤلاء البترية، والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية، لإقرار الجارودية على تكفير أبي بكر وعمر، والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر"1. فهذه الفرق الثلاث المتقدم ذكرها تعتبر أهم فرق الشيعة الزيدية، وقد ذكر العلماء أن الزيدية افترقت إلى أكثر من ثلاث فرق. فقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أن الزيدية ست فرق2. وذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب" أن جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوراق وغيره أن الزيدية كانت في عصرهم ثمان فرق"3 وعدها بأسمائها. ولا تأثير لاختلاف العلماء في العدد، فمن اقتصر على الأصول منها ذكر أصولها الثلاث، ومن ذكر الأصول منها والفروع ذكر أنها أكثر من ثلاث فرق، والزيدية على اختلاف فرقهم ونحلهم يجتمعون على القول بأن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه. قال الرازي: "فالذي يجمعهم أن الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص الخفي ثم الحسين، ثم كل فاطمي مستحق لشرائط الإمامة ودعا الخلق إلى نفسه شاهراً لسيفه على الظلمة"أهـ4.

_ 1ـ الفرق بين الفرق ص/34. 2ـ مقالات الإسلاميين 1/140. 3ـ مروج الذهب 3/192، وانظر الغنية لطالبي معفرة طريق الحق للجيلاني 1/89. 4ـ المحصل ص/360.

وهذا الاعتقاد لم تكن تعرفه الزيدية الذين كانوا مع زيد بن علي حين خروجه وإنما كانوا يتولون الشيخين أبا بكر وعمر وكانوا يتبرءون ممن يبرأ منهما ولكن هذا الاعتقاد وما أصيبت به فرقة الزيدية التي حدثت بعد زيد بن علي رضي الله عنه من بغض للصحابة، ومن التحامل عليهم والقدح فيهم كل ذلك اكتسبوه وجاء إليهم من طريق الرافضة الذين رفضوا زيد بن علي حين خرج على هشام بن عبد الملك وخذلوه لما علموا وسمعوا أنه يتولى صديق الأمة وعمر الفاروق رضي الله عنهما، هنا أعلنوا مخالفته وخذلانه، وهو الذي أطلق عليهم اسم "الرافضة" ذلك أن زيداً رحمه الله لما رأى الخروج على هشام بن عبد الملك سنة اثنتين وعشرين ومائة بايعه على الإمامة "خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم علي والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك على العراقين، فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب، فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بني أمية الذين قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار1، ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم: رفضتموني ومن يؤمئذ سموا الرافضة"2. وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى عيسى بن يونس3 أنه سئل عن الزيدية والرافضة، فقال: أما الرافضة فأول ما ترفضت جاءت إلى زيد بن

_ 1ـ كان ذلك في أيام عبد الله بن مروان، إذ أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي لحرب عبد الله بن الزبير في مكة فقذف الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير وصلبه. انظر تاريخ الأمم والملوك 6/187، الكامل 4/350-351، البداية والنهاية 8/353. 2ـ الفرق بين الفرق ص/35-36. 3ـ هو: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام، مرابط، ثقة، مأمون، من الثالثة، مات سنة سبع وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. التقريب 2/103، تهذيب التهذيب 8/237.

علي حيث خرج، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: بل أتولاهما وأبرأ ممن يبرأ منهما، قالوا: فإذن نرفضك فسميت الرافضة، وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن يتبرأ منهما، فخرجوا معه فسموا الزيدية1. فالشيعة الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي معتقدهم في الصحابة مشتمل على صواب وخطأ، والصواب فيه أنهم يتولون الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون: بتعديلهما، والخطأ فيه أنهم يقولون: إن علياً رضي الله عنه أفضل الصحابة، ويقولون بتقديمه على الشيخين مع أن علياً رضي الله عنه صرح للأمة جمعاء أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق2، بل وتوعد رضي الله عنه من جيء به إليه وهو يقول بتفضيله عليهما أن يحده حد المفتري3، ولم يخالفه أحد ممن كان معه على هذا المعتقد، فقد كان المتقدمون من الشيعة الذين كانوا معه يقدمون عليه أبا بكر وعمر ويعتقدون ذلك كما كان يعتقده هو رضي الله عنه"4. وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر أن الزيدية هم الذين تابعوا زيد بن علي، قال: "وفي مذهبهم حق وهو تعدليهم الشيخين، وباطل وهو: اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدماً عليهما بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة"5. قلت: ليت الزيدية اقتصروا على ما ذكره الحافظ ابن كثير، وإنما تجاوزوا ذلك حيث ابتلوا بالتحامل على طائفة من فضلاء الصحابة كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي موسى الأشعري،

_ 1ـ تهذيب تاريخ دمشق 16/21-22، فوات الوفيات 2/36. 2ـ انظر صحيح البخاري 2/291. 3ـ انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/101. 4ـ انظر منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع الفتاوى 13/34. 5ـ البداية والنهاية 9/371.

وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وذلك لأنهم تنكبوا طريقة زيد بن علي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمه الله أحد أئمة أهل السنة والجماعة، وكان يتولى جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرأ ممن لم يتولهم ولم يعرف لهم قدرهم ويحفظ لهم مكانتهم، وبسبب ذلك رفضته جماعة ممن كانوا معه في زمنه لما علموا أن عقيدته في الصحابة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نقضوا ما عاهدوه عليه فلم ينصروه بل تركوه وشهدوا عليه وعلى من اتبعه على رأيه من الزيدية بالكفر والفسق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بيانه أن زيداً رحمه الله كان من أهل السنة والجماعة "فليست ذرية فاطمة كلهم محرمين على النار، بل منهم البر والفاجر والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسق، وهم أهل السنة منهم الموالون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين بن علي وأمثاله من ذرية فاطمة رضي الله عنها، فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر والفسق"1. فالرفض لم يظهر إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة "فسموا" رافضة واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم واتبعه آخرون فسموا زيدية نسبة إليه2. وإلى ذكر طائفة من أقوال الإمام زيد بن علي في الخلفاء الراشدين لنبين أنه أحد أهل السنة والجماعة، وليعلم من فرط في حق الصحابة ممن انتسب إليه أنه مجانب لطريقته وأن عليه أن يراجع ما كان عليه زيد رحمه الله ليتدارك ما وقع فيه من الزلل. فأقول: قد أخطأ من نسب إلى زيد رحمه الله أنه كان يرى أن علياً

_ 1ـ منهاج السنة 2/126، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/172. 2ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/490.

رضي الله عنه أفضل من الشيخين، وأنه كان يجوز إمامتها على أساس القول بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل1، بل الثابت عنه أنه كان يعتقد أنهما الأفضل وأنهما كانا يستحقان الإمامة بذلك الفضل. فقد روى الحافظ ابن عساكر عن آدم بن عبد الله الخثعمي وكان من أصحاب زيد، قال: سألت زيداً عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} من هؤلاء؟ قال: أبو بكر وعمر، ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما. وذكر عن كثير الكوفي، أنه قال: سألت زيداً عن أبي بكر وعمر فقال: "تولهما"، فقلت له: كيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال: "ابرأ منه حتى تموت"2. وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروى هاشم بن البريد عن زيد بن علي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين، ثم تلا {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3 ثم قال: "البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي"4. ومن هذه النصوص عن زيد رحمه الله تعالى يتبين أنه كان يعرف للشيخين قدرهما ومالهما من المنزلة العظيمة، إذ لا شك أن السبق في الإسلام والقرب من الباري جل وعلا ـ وشكره من أعلا مراتب الفضل للشيخين رضي الله عنهما. وقد صرح زيد رحمه الله أنه متبع لأهل بيته الذين كانوا قبله فيما يعتقدونه نحو الشيخين من إثبات الأفضلية لهما وأحقية إمامتهما.

_ 1ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/155، مقالات الإسلاميين 1/137. 2ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21، فوات الوفيات 2/36. 3ـ سورة آل عمران آية/144. 4ـ سير أعلام النبلاء 5/390.

فقد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "أنه عندما حصل الطعن في زمنه من الرافضة على أبي بكر وعمر منعهم من ذلك، وقال لهم: "ما سمعت أحداً من أهل بيتي يذكرهما إلا بخير"1. وقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين2. ومن هذا يتبين أنه يبعد جداً أن زيداً رحمه الله يقول: إنه متبع لأهل بيته ويخالف جده علياً رضي الله عنه، الذي يعتبر مقدم أهل البيت في هذا القول، بل إن متقدمي الشيعة كانوا لا يختلفون في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يخالفوا علياً في تصريحه بأفضلية الشيخين. قال شريك بن عبد الله: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، فقيل له: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: كل الشيعة كانوا على هذا، وهذا الذي قاله على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان"4. فإذا كانت الشيعة الأوائل تقول هذا وتعتقده فمن باب أولى أن يقول به زيد إذ هو أحد أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون أفضلية الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الخلافة.

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 7/180. 2ـ صحيح البخاري 2/291. 3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/34. 4ـ منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/35-36.

وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي إجماع الصحابة والتابعين على أفضلية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سائر الصحابة حيث قال: "لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتقديمهما على جميع الصحابة"1. وقد أيد هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله بعد ذكره له: "وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي أنه كان يفضل علياً، وقيل: إن هذا كذب عليه، ولو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي رضي الله عنه من الإجماع، فالحسن بن صالح بن حي لم يكن من الصحابة ولا التابعين2. أما زيد بن علي رحمه الله تعالى فهو أحد التابعين، وبذلك يكون رأيه هو رأيهم، وهو أن الشيخين أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن زيد أنه خرق هذا الإجماع أو خالفه، بل لم ينقل عن أحد من أهل البيت رضوان الله عليهم مخالفة الإجماع. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما، أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة"أهـ3. وزيد بن علي رحمه الله تعالى واحد من علماء أهل بيت النبوة الذين يعتقدون صحة هذا الإجماع ويقولون به، إذ هو من أبناء الحسين بن علي ومن فضلاء التابعين رحمة الله عليهم أجمعين.

_ 1ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 4/77. 2ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 4/77. 3ـ المصدر السابق 4/105.

فالذي يتضح مما تقدم ذكره أن الإمام زيد بن علي كان يرى أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ولم يقل إن علياً أفضل الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان مقتفياً ما كان عليه أهل بيته وفي مقدمتهم أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أعلن للأمة المحمدية أن أفضل الناس بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم الصديق، ثم الفاروق، وعلى هذا المعتقد تتابع علماء أهل البيت قاطبة، ولم يشذ أحد منهم عن هذه العقيدة. ومما تجدر الإشارة إليه أن موقف زيد بن علي من الخليفة الثالث ذي النورين عثمان لم يختلف عن موقفه من أبي بكر وعمر، وإنما كان موالياً لعثمان مترضياً عليه، رافضاً للبراءة منه، بل كان يقرنه بأبي بكر وعمر وعلي، ولم يكن متوقفاً فيه كما يرى ذلك بعض المتأخرين1. فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى زيد رحمه الله أنه قال: "البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان"2. وروى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي، قال: أتيته ـ أي زيد ـ وهو في بارق حي من أحياء الكوفة، فقلت له: أنتم سادتنا، وأنتم ولاة أمورنا فما تقول في أبي بكر وعمر؟، فقال: تولهما، وكان يقول: البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان، وفي رواية: البراءة من أبي بكر وعمر البراءة من علي، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر"3. وقال محمود شكري الألوسي في صدد ذكره للقاء زيد بن علي بمن أراد

_ 1ـ ذكر هذا أبو زهرة في كتابه "الإمام زيد" ص/189، ولم يذكر له سلفاً في هذا القول. 2ـ تاريخ بغداد 2/89. 3ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21.

قتالهم "فلما جد الأمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي الأعداء ودخلوا به الكوفة واستشهد وعاد رزء الحسين وكنا بواحد فصرنا باثنين"أهـ1. وبما رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر وما قاله الألوسي تبين أن الإمام زيد بن علي لم يختلف موقفه في عثمان عن موقفه من أبي بكر وعمر، فقد كان رحمه الله مثبتاً فضل الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل علي رضي الله عنه وكان موالياً ومنكراً غاية الإنكار على من حاول الإزراء بهم والحط من قدرهم وأنه كان يرتبهم في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة. وبعد أن حصل التمييز بين رأي زيد رحمه الله وبين رأي المنتسبين إليه من الفرق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتضح لنا أن موقف زيد بن علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو موقف أهل السنة والجماعة ومعتقدهم، ولم يخرج عنه قيد أنملة، وقد تبرأ رحمه الله من كل من لم يوال الخلفاء الثلاثة وأوصى غيره بأن يتبرأ ممن يتبرأ من الشيخين حتى الموت كما تقدم قريباً في جوابه على سؤال كثير الكوفي في ذلك وبناء على ما ثبت عنه في ذلك فإنه بريء كل البراءة من الجارودية المعتقدين كفر وضلال الناس بناء على حجتهم التي هي أوهى من بيت العنكبوت، وهي دعواهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية وتركوا الاقتداء به، إذ هو الإمام من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الاعتقاد زيد بريء منه وأعلن البراءة من معتقديه قبل وجودهم، كما هو بريء رحمه الله من السليمانية الذين يعتقدون كفر عثمان بسبب ما نقم عليه وكفر أم المؤمنين عائشة والزبير وطلحة بحجة أنهم أقدموا على قتال علي. وكذا هو بريء من فرقة الصالحية الذين يعتقدون بأن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الأولى بالإمامة بعده، ويقولون إنهم

_ 1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/63.

متوقفون في عثمان وفي قاتليه الظلمة، فزيد بن علي رضي الله عنه بريء من معتقدات الفرق المتقدم ذكرها في الصحابة، وأن معتقداتهم الخاطئة في الصحابة اكتسبوها من الرافضة الذين هم من أشد الناس عداوة لزيد بن علي رحمه الله تعالى ورضي عنه، فالذين يخالفون زيداً في عقيدته في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ويدعون أنهم زيدية هؤلاء ليس لهم مما كان عليه زيد إلا مجرد النسبة، وإنما يقال لهم زيدية لكونهم قالوا: "بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد في وقته"1. ولم يتبرأ زيد بن علي رحمه الله تعالى ممن خالف عقيدته في الصحابة وحده فحسب، بل إن من المنتسبين إليه حقيقة تبرأ من كل أحد ادعى أنه زيدي، وخالف معتقد زيد في الصحابة، ونذكر من ذلك كلام أحد كبار أئمة الزيدية في اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة2، فقد ذكر يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه "الرياض المستطابة" أنه وقف على كلام للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في كتاب له اسمه "جواب المسائل التهامية" قال: "فإنه رضي الله عنه أثنى عليهم على الإجمال وعدد مزاياهم على غيرهم" ثم قال: "فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً ثم قال: فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة ولم نكتم سواه تقية، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن ونحن إلى الله ـ سبحانه ـ من فعله براء، وهذا ما يفضي به علم آبائنا منا إلى علي كرم الله وجهه.. إلى قوله: "وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة

_ 1ـ التبصير في الدين للإسفراييني ص/29، وانظر الفرق بين الفرق ص/34-35. 2ـ هو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة أحد أئمة الزيدية في اليمن ومن علمائهم وشعرائهم، بويع له سنة ثلاث وتسعيين وخمسمائة، واستولى على صنعاء والزمار، وكانت وفاته سنة أربعة عشر وستمائة هجرية. انظر ترجمته في كتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، ص/43، الأعلام للزركلي 4/213.

رضي الله عنهم والبراء منهم، فيبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم، وأنشد: وإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي1 ففي كلام هذا الإمام بيان واضح أن من كان صادقاً في انتسابه إلى مذهب زيد أنه يترضى على الصحابة عموماً، ويواليهم جميعاً ولا يتوقف في أحد منهم وأن من لم يكن على هذا فهو خارج عن مذهب زيد رحمه الله تعالى، ومجانب لطريقة أهل البيت جميعاً وأن من سل لسانه بالسب لخيار الأمة وتبرأ منهم فقد بريء من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر. ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لم يكن يرى حصر الإمامة في أولاد فاطمة، ولم يكن خروجه على هشام بن عبد الملك من أجل المطالبة بحق أهل البيت في الإمامة كما تعتقده الرافضة، وإنما كان خروجه من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان أيضاً رحمه الله متأولاً في خروجه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن زيد بن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة"أهـ2، وأهم قاعدة لدى الرافضة هي حصر الإمامة في أهل البيت. وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً الدافع لخروج الإمام زيد على هشام بن عبد الملك: "خرج متأولاً وقتل شهيداً وليته لم يخرج"أهـ3. ومما يجدر التنبيه عليه أيضاً: أن الإمام زيد بن علي لم يكن منكراً على

_ 1ـ الرياض المستطابة ص/300. 2ـ منهاج السنة 3/227. 3ـ سير أعلام النبلاء 5/391.

الشيعة الإمامية معتقدهم السيء في الصحابة فحسب، بل كان منكراً لجميع معتقداتهم المنكرة من القول بالعصمة والمهدية والرجعة والتقية للإمام ونسبة العلم اللدني إليه1. ولا يلتفت إلى ما رواه الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى زيد بن علي أنه كان يقول: "المعصومون منا خمسة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين"2، فعند الرجوع إلى سند هذه الرواية اتضح عدم صحة سندها إلى زيد بن علي رحمه الله تعالى، حيث إن فيها محمد بن عمر الجعابي3 وهاشم بن البريد4 وهما شيعيان، ومما هو معلوم ومقرر عند علماء مصطلح الحديث أن الثقة صاحب البدعة مقبول الحديث "إلا إن روى ما يقوي بدعته، فيرد على المختار"5، ورواية هذين هنا من هذا القبيل فترد. فزيد رحمه الله أحد أهل السنة والجماعة وأهل السنة لا يعتقدون ولا يقولون بعصمة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار زيد للمعتقدات التي ابتلي بها الشيعة الإمامية أثبته الزيدية والإمامية معاً. قال الدهلوي: "وكان زيد بن علي منكراً لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معاً إنكاره"6. 4- الشيعة الاثنا عشرية: تعتبر الشيعة الاثنا عشرية أكثر فرق الشيعة انتشاراً في هذا الزمن ويليهم في هذا الزيدية، ثم الإسماعيلية، فالنصيرية.

_ 1ـ انظر كتاب الإمام زيد المفترى عليه ص/231-239. 2ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير 6/22. 3ـ قال عنه الخطيب البغدادي: "كان كثير الغرائب ومذهبه في التشيع معروف"أهـ تاريخ بغداد 3/26. 4ـ قال عنه الإمام أحمد: "ثقة وفيه تشيع قليل". وقال عنه العجلي: "كوفي ثقة إلا أنه يترفض". تهذيب التهذيب 10/17. 5ـ نزهة النظر ص/51. 6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/198.

وللشيعة الاثنا عشرية أسماء كثيرة تميزوا بها بين الناس، ومن تلك الأسماء أنه يطلق عليهم اسم: "الإمامية" لكونهم يقولون بوجوب الإمامة بالنص الظاهر والتعيين الصادق. قال الشهرستاني: الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام نصاً ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين، قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة، فإنه إنما بعث لرفع الخلاف وتقرير الوفاق، فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً، يرى كل واحد منهم رأياً ويسلك كل واحد منهم طريقاً لا يوافقه في ذلك غيره، بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليه، وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه1. ويطلق عليهم: "الجعفرية" لادعائهم أن مذهبهم هو مذهب جعفر الصادق، ومن أسمائهم التي عرفوا بها اسم "الرافضة"، وهم يكرهون إطلاق هذا الاسم عليهم. قال صاحب كتاب "أعيان الشيعة" إن هذا الاسم: "لقب ينبز به من يقدم علياً عليه السلام في الخلافة، وأكثر ما يستعمل للتشفي والانتقام"2. لكن ذكر الكليني رواية في كتابه "الكافي" ما يدل على أنهم راضون بهذا اللقب، ويفترون على الله أنه خلع عليهم هذا الاسم: قال الكليني: عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/162، وانظر دعوة الشيعة في التنصيص بالإمامة على علي وغيره من الأئمة الاثنى عشر. الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/172-178، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/1-40، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/141-144. 2ـ أعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/20.

سليمان عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبد الله "ع" إذ دخل عليه أبو بصير وقد خفره1 النفس، فلما أخذ مجلسه قال أبو عبد الله عليه السلام يا أبا محمد ما هذا النفس العالي؟، قال: جعلت فداك يا ابن رسول الله كبر سني ودق عظمي واقترب أجلي مع أنني لست أدري ما أرد عليه من أمر آخرتي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد وإنك لتقول هذا؟ قال: جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟ فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ويستحي من الكهول، قال: قلت: جعلت فدائك فكيف يكرم الشباب ويستحي من الكهول؟، فقال: يكرم الله الشباب أن يعذبهم ويستحي من الكهول أن يحاسبهم، قال: قلت: جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال: فقال: لا والله إلا لكم خاصة دون العالم، قال: قلت: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزاً انكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قال: قلت نعم، قال لا والله ما هم سموكم، ولكن الله سماكم به، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم فلحقوا بموسى عليه السلام لما استبان لهم هداه فسموا في عسكر موسى الرافضة لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة، وأشدهم حباً لموسى وهارون وذريتهما عليهما السلام، فأوحى الله ـ عز وجل ـ إلى موسى عليه السلام أن اثبت لهم هذا الاسم في التوراة، فإني قد سميتهم به ونحلتهم إياه، فأثبت موسى عليه السلام الاسم لهم، ثم ذخر الله ـ عز وجل ـ لكم هذا الاسم حتى نحلكموه يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر2. هذا غاية في الوقاحة وغاية في عدم المبالاة بالافتراء على الله وعلى خلقه

_ 1ـ كذا في الكافي، ولعلها "حفزه". 2ـ فروع الكافي 8/28، حديث رقم 6 من كتاب الروضة.

وقد تقدم معنا أن الذي سماهم بهذا الاسم هو الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لما اختبروه في عقيدته في الشيخين فأخبرهم أنه يتولاهما ويبرأ ممن يتبرأ منهما عند ذلك رفضوه، ورفضوا خلافة الشيخين رضي الله عنهما فسماهم "الرافضة". قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا الرافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر"أهـ1. ومن الأسماء التي اشتهروا بها اسم "الاثنى عشرية" لقولهم واعتقادهم بإمامة اثنى عشر إماماً وهم على هذا الترتيب عندهم: 1- أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "23 ق. هـ ـ 40هـ" 2- الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "3 – 50هـ" 3- الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "4- 61هـ " 4- علي زين العابدين بن الحسين بن علي "38 – 95هـ" 5- محمد الباقر بن علي "57 – 114هـ" 6- جعفر الصادق بن محمد "83 – 148هـ " 7- موسى الكاظم بن جعفر. "128 – 183هـ" 8- علي بن موسى الرضا. "148 – 203هـ" 9- أبو جعفر محمد بن علي الجواد "195 – 220هـ" 10- أبو الحسن علي بن محمد "الهادي" "212 – 254هـ" 11- أبو محمد الحسن بن علي "العسكري" "232 – 260هـ" 12- أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدي" "256 – 000"2. هؤلاء هم الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة الإمامية وللشيعة في هؤلاء الأئمة

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/89. 2ـ انظر كتاب الإرشاد للمفيد، وانظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/62-63، الأنوار الوضية في العقائد الرضوية ص/44-47، وانظر كتاب عيون المعجزات لحسين عبد الوهاب، ص/18-146.

وأنه لا يخفى عليهم الشيء1، "باب أن الله لم يعلِّم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم"2، "باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امريء بما له وعليه"3، "باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده"4، "باب في أن الأئمة إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة"5، "باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل6. ثانياً: قول المجلسي الذي يعد من كبار علمائهم، فقد قال: "وبالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم ـ أي الأئمة ـ أنبياء وأنهم أفضل وأشرف من جميع الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأولياء ولا نعرف سبباً لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولا تصل عقولنا إلى فرق بين النبوة والإمامة"7. ومن هنا يزعمون أن عصمة الأئمة فوق عصمة الأنبياء، لأنهم أعلا درجة منهم"8. ثالثاً: قول زعيم الشيعة في هذا العصر، ومرجعهم الأعلى وآيتهم العظمى وهو الخميني، فقد قال في كتابه الحكومة الإسلامية الذي هو عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب علوم الدين في النجف، قال: "فإن للإمام مقاماً محموداً

_ 1ـ الأصول من الكافي 1/260. 2ـ الأصول من الكافي 1/263. 3ـ الأصول من الكافي 1/264. 4ـ الأصول من الكافي 1/276. 5ـ الأصول من الكافي 1/397. 6ـ الأصول من الكافي 1/399. 7ـ مرآة العقول للمجلسي 2/289، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/209. 8ـ انظر مجمع النورين وملتقى البحرين لأبي الحسن النجفي ص/17.

ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ـ إلى أن قال ـ وقد ورد عنهم أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شيء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة، وحين نقول: إن فاطمة "ع" لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة، فليس يعني ذلك تجردها عن تلك المنزلة المقربة كما لا يعني ذلك أنها امرأة عادية من أمثال ما عندنا"أهـ1. هذه ثلاثة نماذج تبين ما وصل إليه الرافضة من الغلو الممقوت في الأئمة الاثنى عشر، فقد غلوا فيهم بما يباين المعقول، ويخالف المنقول ويناقض الأصول، والأئمة الذين قالوا فيهم ما تقدم ذكره وما لم يذكر هنا هم منه براء، وهم بريئون أيضاً ممن تقوله لهم، أو عليهم، فأهل البيت رضوان الله عليهم ما ورد لهم من الفضل محفوظ في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزلتهم التي يستحقونها، علم ذلك أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة وتنكب ذلك من أشرب قلبه بالغلو واطمأن إلى الروايات المختلقة المكذوبة من الشيعة الرافضة، فلم يعرفوا لهم مكانتهم، ولم ينزلوهم منزلتهم، بل نسبوا إليهم ما يشينهم. ولم يعرف ما لهؤلاء الأئمة من الحق والكريم وإنزالهم منزلتهم التي يستحقونها إلا أهل السنة والجماعة، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً عقيدة أهل الحق فيهم: "فمولانا الإمام علي: من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه، نحبه أشد الحب ولا ندعي عصمته ولا عصمة أبي بكر الصديق، وابناه الحسن والحسين: فسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدا شباب أهل الجنة،

_ 1ـ الحكومة الإسلامية ص/52-53.

لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك. وزين العابدين كبير القدر من سادة العلماء العاملين يصلح للإمامة. وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر سيد إمام فقيه يصلح للخلافة. وكذلك ولده جعفر الصادق: كبير الشأن من أئمة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر. وكان ولده موسى: كبير القدر، جيد العلم، أولى بالخلافة من هارون وله نظراء في الشرف والفضل. وابنه علي بن موسى الرضا: كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس صيره المأمون ولي عهده لجلالته، فتوفي سنة ثلاث ومائتين. وابنه محمد الجواد: من سادة قومه، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه. وكذلك ولده الملقب بالهادي: شريف جليل. وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى 1. وأما عن الإمام الثاني عشر، فقال فيه: "ومحمد هذا هو الذي يزعمون أنه الخلف الحجة وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب السرداب بسامراء وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فوددنا ذلك ـ والله ـ وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة 2 ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل؟ والإنصاف عزيز فنعوذ بالله من الجهل والهوى" 3. وبعد التعريف بأهم فرق الشيعة كما تقدم نقول إن الشيعة الإمامية طعنوا على الصحابة الكرام بمطاعن قبيحة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين كما سنرى ذلك في المباحث الآتية:-

_ 1ـ سير أعلام النبلاء 13/120-121. 2 ـ المراد زمان الذهبي المتوفى سنة 748هـ. 3 ـ سير أعلام النبلاء 13/120.

المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة

المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة ... معتقدات كلها غلو وإطراء اختلقوها لهم من عند أنفسهم ومن معتقداتهم فيهم أنهم معصومون "من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكونوا معصومين من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي"1، ثم لم يقتصروا على هذا المعتقد فيهم بل تجاوزوه ووصفوهم بصفات تجاوزوا فيها الحدود، ويكفينا منها هنا على سبيل المثال كلام ثلاثة أشخاص منهم: أولهم: الكليني مؤلف كتاب الكافي، وهو أعظم كتاب عندهم إذ هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة، فقد عقد في هذا الكتاب المسمى "أصول الكافي" عدة أبواب أورد فيها أحاديث من أحاديثهم كلها تضمنت غلوهم الممقوت في أولئك الأئمة، ونكتفي بذكر طائفة من تلك الأبواب للعلم بمدى ما وصل إليه الرافضة من السقوط بسبب الغلو الذي كان سبباً في هلاك الماضين من الأمم، وتلك الأبواب هي: "باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه"2، "باب أن الأئمة هم أركان الأرض"3، "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف أدلتها"4، "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة"5، "باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل"6، "باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم"7، "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون

_ 1ـ عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/51. 2ـ الأصول من الكافي 1/192. 3ـ الأصول من الكافي 1/196. 4ـ الأصول من الكافي 1/227. 5ـ الأصول من الكافي 1/228. 6ـ الأصول من الكافي 1/255. 7ـ الأصول من الكافي 1/258.

المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم

المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم إن الرافضة وقفوا من الصحابة موقفاً لم ترضه اليهود في أصحاب موسى ولم ترضه النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترءوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح المشين استجابة منهم بذلك إلى سلوك غير سبيل المؤمنين فيهم فلهم مطاعن في الصحابة على وجه العموم، ولهم مطاعن في أفراد منهم على وجه الخصوص، وذلك كالخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما سيأتي ذكر هذا ورده في المباحث التي ستأتي بعد هذا المبحث الذي سنقتصر فيه على ذكر بعض مطاعنهم التي شملوا بها جميع الصحابة. فمن مطاعنهم في الصحابة عموماً أن أكثرهم انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة وذلك دليل على عدم الديانة1. والرد على هذا أن هذه القصة حصلت في بداية زمن الهجرة ولم يكونوا رضي الله عنهم قد علموا جميع الآداب الشرعية وكان قد أصاب أهل المدينة جوع فغلب على ظنهم أن الإبل التي جاءت محملة بالميرة2 لو ذهبت يزيد الغلاء ويعم البلاء، ثم لم ينفضوا جميعهم بل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين

_ 1ـ انظر مختصر الاثنى عشرية ص/271-272، وانظر كتاب الصافي في تفسير القرآن 2/701، تفسير القمي 2/367، مجمع البيان للطبرسي 5/287، 289، تفسير فرات الكوفي ص/185. 2ـ الميرة: هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد آخر. انظر مختار الصحاح ص/640، المصباح المنير 2/587.

عنده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ولذا لم يشنع على الذين خرجوا عند وصول القافلة التجارية إلى المدينة، ولم يتوعدهم الله سبحانه بعذاب ولم يعتب عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم1. قال الألوسي رحمه الله مبيناً طعن الشيعة على الصحابة بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية2، وبيان بطلان ذلك حيث قال عند هذه الآية: "وطعن الشيعة بهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر3 وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل ـ سبحانه ـ أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟، وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات؟ لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر"أهـ4.

_ 1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272. 2ـ سورة الجمعة آية/11. 3ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272. 4ـ روح المعاني للألوسي 28/107، ورواية البيهقي المشار إليها أوردها السيوطي في الدر 8/166، ولم يعزها لغيره.

ورد آخر على هذه القصة أنه ورد في بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة. قال الحافظ ابن كثير: "ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل1. فلا مطعن على الصحابة بما حصل منهم في أوائل زمن الهجرة حيث لم يزالوا حينها في بداية تعلم الآداب الشرعية وأيضاً لم ينفضوا جميعهم بل إن عظماء الصحابة كالعشرة المبشرة بالجنة لم يخرجوا بل لزموا النبي صلى الله عليه وسلم، فطعن الشيعة على الصحابة بهذا كله هراء وهذيان لا يقلبه من نور الله قلبه بنور الإيمان. ومن مطاعنهم في جميع الصحابة أنهم يعتقدون فيهم أنهم ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهم جحدوا النص على إمامة علي، وبايعوا غيره بالخلافة ولم يستثنوا منهم بعد علي وبعض أهل البيت ـ إلا سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبو الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبو سعيد الخدري2، وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عدداً من هؤلاء. فقد روى الكليني بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة هم المقداد وسلمان وأبو ذر3. وروى أيضاً: عن عبد الرحمن القصير قال: قلت لأبي جعفر: إن الناس

_ 1ـ تفسير القرآن العظيم 7/13-14، وانظر الخبر في كتاب المراسيل لأبي داود ص/105، وذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/165-166، ونسبها إلى أبي داود فقط. 2ـ انظر الإرشاد للمفيد ص/9، حق اليقين لعبد الله شبر ص/215، رجال الكشي ص/12-13. 3ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 341.

يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال: يا عبد الرحمن إن الناس عادوا بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أهل جاهلية إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية1. وروى أيضاً: بسنده عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك فما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟، قال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا ـ وأشار بيده ـ إلا ثلاثة، قال حمران: فقلت: جعلت فداك ما حال عمار؟، قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان بايع وقتل شهيداً"2. هذا أخبث معتقد للشيعة الإمامية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. والرد على هذا المعتقد الفاسد أن مضمونه التكذيب بالمحكم من آيات الكتاب العزيز التي شهد الله لهم فيها بما وقر في قلوبهم، من حقيقة الإيمان وشهادة الله ـ عز وجل ـ للصحابة الكرام بالإيمان الصادق ليست شهادة قاصرة على الحياة الدنيا بل امتدت حتى شملت حسن الخاتمة بالموت على ذلك وما يستتبعه من وعده ـ تعالى ـ لهم بالمغفرة والرضوان وحسن المثوبة في الجنان. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. ففي هذه الآية إخبار من الله ـ عز وجل ـ عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم بما أعده لهم من جنات النعيم

_ 1ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 455. 2ـ الأصول من الكافي 2/244. 3ـ سورة التوبة آية/100.

وهذا يعني الموت على الإيمان بشهادة محكم القرآن فأين من الإيمان بالقرآن من يسبون من رضي الله عنهم ووعدهم بجنة الخلد وفوز الأبد. وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 1. وفي هذه الآيات شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا، وشرفوا بالهجرة والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم برحمة منه ورضوان وبالنعيم المقيم في الجنات فهل هذه الشهادة وهذه البشارة تكون لقوم علم الله أنهم سيرتدون من بعد عن دينهم ويموتون وهم كفار؟، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2. وفي هاتين الآيتين وعد من الله ـ جل وعلا ـ لرسوله وللذين آمنوا معه بالخيرات والدرجات العلى في جنات الفردوس، فهل يكون هذا الوعد لقوم علم الله أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان هؤلاء ثلاثة أشخاص، أو عشرة كما يزعم الزاعمون أم أنهم جيوش تحقق بهم نصر الله وتمكن من مواجهة جيوش دولة الروم التي كانت في زمنهم أقوى وأعظم دولة على وجه الأرض؟.

_ 1ـ سورة التوبة آية/19-22. 2ـ سورة التوبة آية/88-89.

وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وفي هذه الآية إخبار من الرب ـ جل وعلا ـ أنه أكرم أصحاب نبيه وأنزلهم منزلة عالية حيث قرن بينهم وبين نبيهم في التوبة وهؤلاء هم الصحابة الذين خرجوا معه في غزوة تبوك وكان عددهم أكثر من ثلاثين ألفاً2، فالذي يعتقد أن الصحابة كفروا إلا ثلاثة نفر أو عشرة أو أكثر فهو ضال مضل لا يؤمن بيوم الحساب. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 3. هذه الآية تضمنت وعد الله باستخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا الاستخلاف لم يحصل إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ومما هو معلوم بالضرورة أنه لا نبوة بعده عليه الصلاة والسلام فيكون المراد بالاستخلاف هي الخلافة الراشدة التي كانت بعده صلى الله عليه وسلم للخلفاء الأربعة الراشدين وقد حصل في زمن أبي بكر وعمر وعثمان من الفتوح العظيمة وحصول التمكين وظهور الدين والأمن ما هو معلوم لدى كل إنسان بصره الله لاتباع الحق وهدى قلبه للإيمان، ولا يجحد ذلك إلا من استحب العمى على الهدى ومليء قلبه بعقيدة المخذولين من الرافضة الذين جحدوا ما لخيار الأمة من الفضل وحيازة قصب السبق إلى الإسلام، والدين الذي مكنه الله لهم ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها هو

_ 1ـ سورة التوبة آية/117. 2ـ انظر فتح الباري 8/117-118. 3ـ سورة النور آية/55.

دين الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده ديناً ولا يقبل منهم سواه، فما يجرؤ على القول بتكفير أولئك الخلفاء العظام الذين تحقق على أيديهم وعد الله إلا إنسان امتلأ قلبه بالتكذيب لما أخبر الله به عنهم من صدق الإيمان وقوة اليقين وما يكذب الله في أخباره بذلك إلا الرافضة الذين وقفوا منهم موقفاً لم ترضه اليهود والنصارى في أصحاب موسى وعيسى. قال العلامة ابن العربي: "ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل، فما يرجى من هؤلاء وما يستبقي منهم؟، وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 1 وهذا قول صدق ووعد حق وقد انقرض عصرهم ولا خليفة ولا تمكين ولا أمن ولا سكون إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة"2. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3. هذه الآية الكريمة أخبر الله تعالى فيها أنه رضي عن أصحاب بيعة الرضوان وزكاهم بما وقر في قلوبهم من الوفاء والصدق بقوله في الآية: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وكان عددهم رضي الله عنهم ألفاً وأربعمائة4 فمن اعتقد أن الصحابة كفروا إلا نفراً يسيراً فهو من أخسر الخاسرين وأهلك الهالكين.

_ 1ـ سورة النور آية/55. 2ـ العواصم من القواصم ص/185. 3ـ سورة الفتح آية/18. 4ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/443.

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1. هذه الآية الكريمة تضمنت المدح والثناء للصحابة بكثرة الصلاة وصدق إخلاصهم فيها لله ـ جل وعلا ـ يرجون من وراء ذلك عظيم الأجر وجزيل الثواب وأخبر تعالى أنه وعدهم على ذلك المغفرة والأجر العظيم ووعده تبارك وتعالى حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وهذا فيه القطع لهم بصدق الإيمان الذي عاشوا عليه وماتوا عليه. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2. فكيف يسوغ لهالك خاسر بعد هذا أن يقول إنهم ارتدوا إلا نفراً قليلاً نعوذ بالله من الضلال والخذلان، هذه الآيات المتقدم ذكرها كلها فيها إثبات شهادة الرب ـ جل وعلا ـ للصحابة الكرام بما وقر في قلوبهم من حقيقة الإيمان، وبما كانوا عليه من الإخلاص في الطاعات والصدق في العبادات، كما تضمنت ثناءه عليهم بالهجرة والجهاد والنصرة وسائر أنواع القربات، فلقد خسر قوم أنفسهم وكابروا الحق حيث زعموا أنه لم يبق منهم على الدين إلا ثلاثة نفر، أو إلا عشرة على الأكثر، ونسبوا الباقين منهم إلى الكفر والردة، فأين أولئك المفترون من هذه الآيات البينات والحقائق الراسخات ولا يمكن أن يخرج قول من اعتقد كفر الصحابة إلا على أساس الطعن

_ 1ـ سورة الفتح آية/29. 2ـ سورة الحجرات آية/7.

في القرآن والتشكيك في صحته، وهذا ما حصل بالفعل من غلاة الرافضة، فقد ألف بعضهم المطولات في إثبات تحريف القرآن1، ولا يكون لنسبة الصحابة إلى الكفر بعد ما ورد لهم من الثناء العظيم في محكم الكتاب المبين من تفسير إلا التكذيب بتلك الآيات أو تجهيل الله ـ عز وجل ـ حيث قد وعد بالجنة قوماً لم يدر بم يختم لهم؟، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً. ومن الوقاحة الفاضحة التي وصل إليها الشيعة الرافضة أنهم يستدلون على ارتداد المهاجرين والأنصار بما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ".... وأن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ـ إلى قوله ـ {الحكيم} 2. تستدل الرافضة بمثل هذا الحديث على ارتداد المهاجرين والأنصار والذي أوصلهم إلى هذا الفهم السقيم أنهم عموا وصموا واتبعوا الهوى واستحبوا العمى على الهدى، فزاغت قلوبهم عن المراد بالأصحاب في الحديث فليس المراد بالأصحاب في الحديث ما هو المعلوم في العرف، "بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي أصحاب الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين ومعرفته صلى الله عليه وسلم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في

_ 1ـ انظر كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" للنوري الطبري، وهو كتاب مطبوع إلا أنه خال من مكان الطبع وتاريخه. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/386-387، صحيح مسلم 4/2194-2195، والآية رقم 117 من سورة المائدة.

الخبر1 أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة من عصاة غيرهم كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم، وجذبهم إلى ذات الشمال كان تأديباً لهم وعقاباً على معاصيهم ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو المعلوم في العرف فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه"2. قال عبد القاهر البغدادي: "وأجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كندة، وحنيفة، وفزارة، وبني أسد، وبني بكر بن وائل ـ لم يكونوا من الأنصار ولا المهاجرين قبل فتح مكة، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وأولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم"3. فإذن لا يوجد ولله الحمد ممن ارتد أحد من الصحابة الذين يعدلهم أهل السنة ويترضون عنهم وأولئك المرتدون هددهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعندما ارتد المرتدون تصدى لهم أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم فتبين أن المقصود بقوله ـ عز وجل ـ: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 4 الآية هم الصحابة رضي الله عنهم ولا يعلم تصد لهم إلا تصدي الصديق وأصحابه ويكفي أن علياً رضي الله عنه كان أحد المتصدين مع بقية الصحابة، أما الذين ينتقصون الصحابة ويتلذذون بسبهم ولعنهم والبراءة منهم فعليهم إن كانوا صادقين في تشيعهم لأهل البيت أن يكونوا تابعين لهم في تعظيم الصحابة ومحبتهم، ولكنهم كاذبون في ذلك وأنهم أعداء لأهل البيت إذ أهل البيت لم يخرجوا عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه

_ 1ـ انظر المسند 3/102، فقد أورد الإمام أحمد هنا حديثاً من أحاديث الحوض وفيه "يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". ففيه إشارة إلى أن هناك علامة يتميز بها عصاة هذه الأمة. 2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272-273. 3ـ الفرق بين الفرق ص/359. 4ـ سورة المائدة آية/54.

الراشدون من بعده، فالشيعة الرافضة في واد وأهل البيت في واد آخر. ومن مطاعنهم أيضاً في عموم الصحابة أنهم لا يعتقدون عدالتهم جميعاً وإنما يقولون هم كغيرهم من الناس فيهم العدل وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون والبغاة. قال شرف الدين الموسوي: "إن الصحبة بمجردها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة، لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم وفيهم البغاة وفيهم أهل الجرائم من المنافقين وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة ـ إلى أن قال: "إن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه ولو تدبروا1 القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب"2. وقال مرتضى العسكري: "وفي شان العدالة نرى أن الصحابة فيهم المؤمن العدل البر التقي، وهم المقصودون في ما ورد من ثناء لهم في القرآن والحديث ـ إلى أن قال: "وفيهم المنافقون مردوا على النفاق لا يعلمهم إلا الله"أهـ3. هذا معتقد الشيعة الرافضة في عدالة الصحابة جميعاً، وبمجرد أن يسمعه من نور الله بصيرته يقطع بأنه دليل على الخذلان وعلى سوء الفهم لكتاب الله حيث لم يفهموا منه إلا صفات المنافقين، ولم يهتدوا لدلالته على تعديل الصحابة قاطبة حيث نص الله على عدالتهم في غير ما آية من كتابه العزيز ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 4.

_ 1ـ يقصد أهل السنة والجماعة. 2ـ الفصول المهمة في تأليف الأمة ص/203، وانظر الصحابة في نظر الشيعة الإمامية لأسد حيدر ص/31-32. 3ـ مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/8. 4ـ سورة البقرة آية/143.

ومعنى {وسطاً} في الآية أي: عدولاً. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. ووجه دلالة الآيتين على عدالة الصحابة عموماً أنهم أول من يدخل في منطوقها، وكون ـ الرب جل وعلا ـ جعلهم شهداء على الناس دليل قاطع على عدالتهم جميعاً وعلى صدق إيمانهم، فالرب تبارك وتعالى لا يستشهد بغير عدول ولا يستشهد بمن يدين الكذب والخداع ويسميه بغير اسمه. ويبطل زعمهم أن العدالة ثابتة لبعض الصحابة دون البعض الآخر بأن يقال لهم: إن الصحابة كلهم عدول وكلهم موعودون بالحسنى وهي الجنة ويكفي قوله ـ عز وجل ـ: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2. وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3. فلينظر كل ذي بصيرة في هذه الآيات بتدبر حيث يجد حيث فيها أن الباري جل وعلا شهد لجميع الصحابة مهاجرين وأنصار بصدق الإيمان وزكاهم وأثنى

_ 1ـ سورة آل عمران آية/110. 2ـ سورة الحديد آية/10. 3ـ سورة الحشر آية/8-10.

عليهم بما ثبت في قلوبهم من الإخلاص في الأعمال الصالحة وتركهم ديارهم وأموالهم حيث خرجوا منها ابتغاء نصرة الله ورسوله، كما أثنى على من جاء بعدهم مستغفراً لهم، ولا يستغفر لهم إلا أهل السنة، أما الشيعة الرافضة فلا يستغفرون لهم وإنما يدينون بالاعتقاد بتكفير أولئك الأخيار وبسؤالهم ربهم أن يملأ قلوبهم غلاً للصحابة الكرام وهاهم كذلك ولا نصيب لهم من الثناء الذي اشتملت عليه الآية ما داموا على ذلك. فالثناء على المهاجرين عموماً بخروجهم من ديارهم وأموالهم يبتغون بذلك رضوان الله وينصرون الله ورسوله والشهادة لهم بأنهم صادقون، وكذا ثناؤه ـ جل وعلا ـ على الأنصار قاطبة بتبوئهم الدار والإيمان وحبهم لإخوانهم المهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم وشهادة الباري تبارك وتعالى لهم بالفلاح كل ذلك أدلة قطعية على عدالة الصحابة جميعاً مهاجرين وأنصار. أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان في المدينة منافقون فهي فرية واضحة لا تثبت لها قدم، وهي شبهة أوهى من بيت العنكبوت لأن المنافقين لم يكونوا مجهولين في مجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم يكونوا هم السواد الأعظم والجمهور الغالب فيهم وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزي والفضيحة حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله في كتابه من أوصافهم وخصوصاً في سورة التوبة ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة لا يخفى أمرها على أحد فأين هذه الفئة ممن أثبت الله لهم في كتابه نقيض صفات المنافقين حيث أخبر عن رضاه عنهم من فوق سبع سموات وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فنسبة الرافضة النفاق إلى الصحابة إنما منشؤه من عمى البصيرة، ومحبة العمى على الهدى وعدم التمييز بين من أوقفوا حياتهم لنصرة الله ورسوله، ولم ينقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وبين الذين لم يعرفوا في تاريخ الإسلام إلا بالخيانة والتآمر على الإسلام وأهله.

فالصحابة رضي الله عنهم عدول كلهم لا سبيل إلى تجريحهم لأن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي تولى تزكيتهم وتعديلهم من فوق سبع سموات. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أنه لا بد في رجال الأسانيد والرواة من معرفة أنسابهم وأحوالهم قال: "والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل، فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح لأن الله ـ عز وجل ـ زكاهم وعدلهم وذلك مشهور لا نحتاج لذكره"أهـ1. والأمر كما ذكر رحمه الله فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالثناء الحسن على الصحابة الكرام رضي الله عنهم مما يدل على أن ثبوت عدالتهم أمر قطعي لم يجحده إلا المخذولون من الرافضة، فالذي ينفي عدالة الصحابة وينسب إليهم النفاق ويعتقد ذلك فهو مكذب للقرآن والسنة اللذين تضمنا الشهادة للصحابة الكرام بصدق اليقين وكمال الإيمان. ومما مطاعنهم العامة في الصحابة: أنهم حرفوا القرآن وأسقطوا منه كلمات بل آيات وأن القرآن الموجود لدى الشيعة كما يزعمون يعادل ثلاث مرات من القرآن الموجود بين أيدينا وما فيه حرف واحد منه ويزعمون أن ما جمع القرآن كما أنزل إلا الإمام علي رضي الله عنه ومن ادعى غير ذلك فهو كذاب. فلقد ذكر الكليني في "الكافي" عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة "ع" وما يدريهم ما مصحف فاطمة "ع"؟، قال: قلت: وما مصحف فاطمة "ع"، قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: والله هذا العلم2. وذكر عن جابر قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد

_ 1ـ أسد الغابة 1/3. 2ـ الأصول من الكافي 1/457.

من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام ... وذكر أيضاً: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء1. ولقد توارث الشيعة هذا المعتقد الزائف وتمسكوا به وأثبتوه في مؤلفاتهم وأشادوا بأن أكابر المتقدمين من علمائهم كانوا على هذا. فقد قال المفيد في كتابه أوائل المقالات: "اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة واتفقوا على إطلاق لفظ البداء في وصف الله تعالى، واتفقوا على أن أئمة الضلال2 خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم3. وقال الكاشاني في مقدمة كتابه المسمى "تفسير الصافي" بعد أن ذكر الروايات التي تفيد تحريف القرآن ونقصانه، وأن الصحابة هم الذين حذفوا مناقب أهل البيت منه، وإتيان علي رضي الله عنه إلى الصحابة ورفضهم بأن يعملوا بالقرآن الذي جمعه وأنهم أيدوا زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع غيره، قال بعد ذلك: "أقول: المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي عليه السلام في كثير من المواضع ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليهم غير مرة ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وبه قال علي

_ 1ـ المصدر السابق 1/441. 2ـ يقصد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وغضب عليه إن كان مات على هذا المعتقد الفاسد. 3ـ المقالات ص/48-49.

ابن إبراهيم"1. والنتيجة التي انتهى إليها بعد أن قرر أن القرآن محرف هي أن العمل به غير ممكن ولا يمكن الإقرار بصحته ولا الاعتماد عليه حيث قال: "لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرفاً ومغيراً ويكون على خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك"2. ثم قرر أن اعتقاده بتحريف القرآن ليس بدعاً من علماء الإمامية الذين يقرون بتحريف القرآن بل يذكر أنه سبقه في ذلك كبار علمائهم أمثال الكليني والقمي والطبرسي حيث قال: "وهذا ما عندي من التقصي عن الإشكال والله يعلم حقيقة الحال، وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه "الكافي" ولم يتعرض لقدح فيها مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه أستاذه علي بن إبراهيم القمي فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه3 وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي4 فإنه أيضاً نسج على على منوالهما في كتاب الاحتجاج"5. وقد حكى أبو المظفر الإسفرائيني إجماع الإمامية على طعن الصحابة بتغيير القرآن بالزيادة والنقصان فيه حيث قال بعد ذكره لفرق الإمامية: "واعلم أن جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحافة ويدعون أن القرآن قد

_ 1ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/32. 2ـ المصدر السابق 1/33. 3ـ انظر ما تفوه به القمي من اعتقاد تحريف القرآن تفسيره 1/10-11. 4ـ انظر كتاب الاحتجاج للطبرسي 1/153، فقد ساق رواية على طريقة السؤال والجواب بين علي وطلحة يستدل بها على نقصان القرآن وأنه لم يجمعه كاملاً إلا علي وأن الصحابة لم يقبلوا منه ما جمعه. 5ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/34.

غير عما كان ووقع فيه الزيادة والنقصان من قبل الصحابة ويزعمون أنه لا اعتماد على الشريعة التي في أيدي المسلمين وينتظرون إماماً يسمونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة وليسوا في الحال على شيء من الدين"أهـ1. والرد على هذا الافتراء الذي اختلقته فرق الإمامية على الصفوة المختارة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصدر إلا ممن فسدت ديانته وخبثت سريرته وهذا الافتراء يتضمن تكذيب الله تعالى الذي أخبر بأنه حافظ لكتابه العزيز من الزيادة والنقصان والتبديل وأنه ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 فقد قرر تعالى في هذه الآية "أنه هو الذي أنزل على نبيه الذكر ـ وهو القرآن ـ وهو الحافظ له من التغيير والتبديل"3. قال أبو عبد الله القرطبي في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يزاد فيه أو ينقص منه. وذكر عن قتادة وثابت البناني أنهما قالا: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً فتولى ـ سبحانه ـ حفظه فلم يزل محفوظاً"أهـ4. وقال الرازي: "واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً: أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من

_ 1ـ التبصير في الدين ص/41. 2ـ سورة الحجر آية/9. 3ـ تفسير القرآن العظيم 4/154. 4ـ الجامع لأحكام القرآن 10/5.

ستمائة سنة1 فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً"أهـ2. وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وفي هذه الآية بين الله تعالى أن القرآن "محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، دل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 فالذي يعتقد أن القرآن يدخله التغيير والزيادة، والنقص، فهو مكذب لله رب العالمين، ومنسلخ من دين الإسلام بالكلية ليس له أمانة ولا دين. وقال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان اعتقاد الرافضة في أن الصحابة بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه. قال رحمه الله: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم ماراً إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه ماراً إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم، وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما يعرف عدده إلا الله ـ عز وجل ـ كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قريء فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء أصلاً بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة، ثم ولي أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس

_ 1ـ هذا التحديد إلى عصر الرازي وكانت وفاته سنة ست وستمائة. 2ـ التفسير الكبير 19/161. 3ـ سورة فصلت آية/42. 4ـ سورة الحجر آية/9.

المصاحف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد1 وابن مسعود وسائر الناس في البلاد، فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف، ثم مات رضي الله عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلاً أمة واحدة ومقالة واحدة ... ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضاً وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقاً وغرباً، وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهراً والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فيما بين ذلك فلم يكن أقل، ثم ولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثنا عشر عاماً حتى مات وبموته حصل الاختلاف وابتداء الروافض واعلموا أنه لو رام أحد أن يزيد في شعر النابغة اوشعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة فكيف القرآن في المصاحف وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان إلى آخر السند وكابل وخراسان والترك والصقالبة2 وبلاد الهند فيما بين ذلك، فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب ... ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق وعند بعضهم نبي ناطق وعند سائرهم إمام معصوم مفترضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً الدنيا حاشا الشام ومصر إلى الفرات والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به والمصاحف

_ 1ـ اختلف في اسمه فقيل: أوس، وقيل ثابت بن زيد، وقيل: معاذ، وقيل: سعد بن عبيد، وقيل: قيس بن السكن وهذا هو الراجح. الإصابة 4/78. 2ـ قال أبو منصور: الصقالبة جبل حمر الألوان صهب الشعور يتخامون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم، وقال غيره: الصقالبة بلاد بين بلغار وقسطنطينية وتنسب إليهم الخرم الصقالبة وأحدهم صقلبي "معجم البلدان" 3/416.

معه وبين يديه فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك فكيف يسوغ لهؤلاء أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زايداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في راي يسير رأوه ورأى خلافه فقط فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين"أهـ1. فاعتقاد الشيعة الرافضة أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان من قبل الصحابة اعتقاد فاسد وكذب واضح على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بجمعه في مصحف واحد وحرصوا على ذلك أشد الحرص خوفاً عليه من الضياع، فكان جمعهم له من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه لما تكفل بحفظ كتابه قيضهم لذلك رضي الله عنهم وأرضاهم لكن الشيعة لهم مقصد خبيث من وراء طعنهم على الصحابة بأنهم حرفوا القرآن بين ذلك الإسفرائيني في كتابه "التبصير في الدين فإنه قال بعد أن ذكر أن الإمامية متفقون على القول بتكفير الصحابة وأنهم حرفوا القرآن بالزيادة فيه والنقص منه "وليس مقصودهم من هذا الكلام تحقيق الكلام في الإمامة، ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية، ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة وتغيير القرآن من عند الصحابة ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين"أهـ2. ومن مطاعنهم في الصحابة عموماً أنهم يقولون: إن كثيراً منهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين، والفرار من الزحف أكبر الكائر3. والرد على هذا الهراء أن الفرار يوم أحد كان قبل النهي عن الفرار من

_ 1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/78-80. 2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية على فرق الهالكين ص/41. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273، وانظر تفسير الكاشاني المسمى تفسير الصافي 1/691، تفسير القمي 1/287. الميزان 9/226.

الزحف ولو فرض أنه حصل منهم بعد النهي فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 1، "ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع"2، وأما الفرار يوم حنين فبعد التسليم أنه كان فراراً في الحقيقة معاتباً عليه، فإن أولئك المخلصين رضي الله عنهم لم يصروا عليه، بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} 3، ولم يحصل الفرار من الجميع وأن من فر منهم لم يكن على نية الاستمرار في الفرار لما رواه مسلم من حديث كثير بن عباس بن عبد المطلب، قال: قال عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة"، فقال عباس ـ وكان رجلاً ـ صيتاً ـ فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ... الحديث"4. قال النووي: قال العلماء في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من

_ 1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273 والآية رقم 155 من سورة آل عمران. 2ـ روح المعاني للألوسي 4/99. 3ـ سورة التوبة آية/26. 4ـ صحيح مسلم 3/1398-1399.

فطعن الشيعة الرافضة على الصحابة الكرام بأنهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين كله هراء يدل على تعمقهم في الجهل وسوء الفهم. ومن مطاعنهم على سبيل العموم في الصحابة أنهم طعنوا عليهم بما رواه مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ "، قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" 2. قالوا: "هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار والحديث صريح في أن أولئك ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه"3 وقد اعترف الأشتر بأنه أحد قتلة الخليفة الراشد عثمان بن عفان وذلك عندما أتاه الخبر

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/115-116. 2ـ صحيح مسلم 4/2274. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274.

باستعمال علي بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال: علام قتلنا الشيخ إذاً! اليمن لعبيد الله والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي"1. ومن مطاعنهم على الصحابة عموماً زعمهم أنهم آذوا علياً وحاربوه 2 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من آذى علياً فقد آذاني" 3. والجواب على هذا الافتراء أن أساسه عدم فهم الرافضة للأسباب التي أدت لاقتتالهم رضي الله عنهم فيما بينهم، ولو أمعنوا النظر في الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين لفهموا أنها كانت لأمور اجتهادية، فلا يلحقهم طعن من ذلك، لكن من ابتلي بالوقوع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قلبه مشبعاً بعقيدة الرافضة فإنه لا يعرف الحق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يرحمه الله فيبرأ من طريقة الروافض حينئذ يحمل ما وقع بين الصحابة على أحسن المحامل، ويؤوله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل، وهذا لا يتحقق إلا لمن سار في ركب أهل السنة والجماعة ويكفينا من مطاعن الرافضة في الصحابة عموماً ما تقدم ذكره وإلا فمطاعنهم لا تدخل تحت حصر وسقنا هذه المطاعن العامة والرد عليها ليتبين أن الرافضة يعادون الصحابة جميعاً ولا يحبونهم ولا يوالون منهم إلا نفراً يسيراً يعدون بالأصابع كما تقدم قريباً.

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/492. 2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274. 3 ـ رواه الحاكم في المستدرك 3/122، وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه

المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم تكتف الشيعة الرافضة بالطعن في الصحابة الكرام على سبيل العموم بل انقادوا للشيطان بزمام حيث حملهم على أن وجهوا مطاعن في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، كل واحد منهم على حده. ومطاعنهم على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كثيرة، وإليك في هذا المبحث طائفة من مطاعنهم في حق الصديق: فمن مطاعنهم في حق أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يطعنون عليه بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1. ووجه طعنهم على الصديق بهذه الآية أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه معه لئلا يظهر أمره حذراً منه وأن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى فيها: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فإنه يدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضاه بمساوته النبى صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره، ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رزيلة"2. والرد على هذا الهذيان أن وضوح بطلانه أعظم من وضوح الشمس في وسط

_ 1ـ سورة التوبة آية/40. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/239، وانظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 2/22-26. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/407-410، وانظر الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائي 9/222-224.

النهار، فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فهذا باطل من وجوه عدة: أولاً: أنه قد علم بدلالة القرآن أن الصديق رضي الله عنه كان موالياً ومحباً للرسول صلى الله عليه وسلم لا معادياً له. ثانياً: علم بالتواتر المعنوي أنه كان محباً للرسول مؤمناً به مختصاً به أعظم مما علم من سخاء حاتم وشجاة عنترة، لكن الرافضة قوم بهت حتى أن بعضهم جحدوا أن يكون الصديق والفاروق دفنا في الحجرة النبوية. ثالثاً: إن قولهم هذا في أبي بكر يدل على فرط جهلهم وخاصة بما حصل وقت الهجرة فإن الرسول اختفى هو وأبو بكر في الغار وأرسل المشركون الطلب من الغد في كل فج وجعلوا الدية فيه وفي أبي بكر لمن أتى بواحد منهما، فهذا دليل أنهم كانوا يعلمون أن أبا بكر كان موالياً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ومعادياً لهم ولو كان مبطناً لهم على زعم الرافضة لما بذلوا فيه الدية. رابعاً: واما زعمهم أن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فقولهم هذا ينقض تخرصهم أنه استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مبطناً لأعدائه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، فإن المشركين جاءوا إلى الغار ومشوا فوقه"1. "فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم: نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته، عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك"2. ويقال أيضاً: لهؤلاء المفترين إن

_ 1ـ انظر منهاج السنة 4/256-260، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/554-556. 2ـ التفسير الكبير للرازي 16/68.

دعواهم أن الآية دلت على نقص الصديق أن النقص نوعان: نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه فإن أرادوا الأول فهو باطل لأن الله تعالى قال مخاطباً نبيه: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 1 وقال مخاطباً المؤمنين جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} 2، فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان، وإن أرادوا بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة، ولكن ليس في هذا ما يدل على أن علياً أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائماً وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقيناً وصبراً، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقيناً وطمأنينة، وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه، هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى إنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيماناً وأعظمهم يقيناً كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الآية"3.

_ 1ـ سورة النحل آية/127. 2ـ سورة آل عمران آية/139. 3ـ منهاج السنة 4/261، والآية رقم 144 من سورة آل عمران.

خامساً: أما دعواهم أن حزنه دل على خوره فهذا كله من الكذب الواضح وضوح الشمس لأنه لا يوجد في الآية ما يدل على هذا من وجهين: أحدهما: أن النهي عن شيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم ... فقوله تعالى: {لا تحزن} لا يدل على أن الصديق قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن، فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله. الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن فكان حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل ويذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم2 عن ذلك فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك"3. رضي الله عنه وأرضاه. سادساً: وأما افتراؤهم بأن حزنه دل على قلة صبره وعدم يقينه بالله فهذا باطل ولا يدل على انعدام الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك4 وكذلك زعمهم أنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلاً على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم وقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/1 2ـ انظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/62-63. 3ـ منهاج السنة 4/262-263. 4ـ دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ألا تسعمون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم".. الحديث. صحيح البخاري 1/226-227، من حديث ابن عمر.

ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون" 1، وكذا قولهم أنه يدل على عدم رضاه بقضاء الله وقدره هو باطل أيضاً لما هو معلوم من حاله رضي الله عنه بقوة الإيمان وكونه أكمل الخلق إيماناً بعد الأنبياء والرسل. سابعاً: وأما هذيانهم أن الحزن إن كان طاعة استحال النهي عنه وإن كان معصية، فلا يدل على الفضيلة يجاب على هذا "أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية2 فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقاً وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم"3. فكل ما يسوقه الرافضة من الكلام على آية الغار محاولين بذلك الطعن على أبي بكر هو كلام باطل غير مقبول والآية على رغم أنوف الرافضة اشتملت على فضل الصديق وما وصل إليه من الكمال الإيماني والصدق اليقيني كما دلت دلالة واضحة أنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة مودة وموالاة. ومن مطاعنهم في حق الصديق: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ علياً وأمره برده وأن يتولى هو ذلك ـ ثم يقولون ـ ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة المتضمنة لاداء الأحكام إلى جميع

_ 1ـ صحيح البخاري 1/226، من حديث أنس بن مالك. 2ـ سورة التوبة آية/40. 3ـ منهاج السنة 4/264.

الأمة"1. والرد على هذا أنه افتراء محض ورد للمتواتر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع وما رده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج، وكان علي من جملة رعيته إذ ذاك يصلي خلفه ويسير بسيره، وهذا مما لم يختلف فيه اثنان، ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد فبعث علياً ببراءة2. قال أبو محمد بن حزم في صدد ذكره لفضائل أبي بكر رضي الله عنه: "واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ ببراءة من أبي بكر، وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقراءتها عليهم، قال: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر، لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه، ولا يقفون إلا بوقوفه، ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك، وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره فيها أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه، وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله التوفيق"3. وقال العلامة ابن القيم مبيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، ومبيناً أقوال العلماء في حكمة إردافه الصديق بعلي رضي الله عنهما، قال رحمه الله: "وولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/54، الميزان في تفسير القرآن 9/162، حق اليقين 1/177. 2ـ انظر منهاج السنة 4/221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/539. 3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/146.

الناس سورة "براءة". فقيل: لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج. وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته. وقيل: أردفه به عوناً له، ومساعداً، ولهذا قال له الصديق أمير أم مأمور، قال: بل مأمور1، وأما أعداء الله الرافضة فيقولون: عزله بعلي وليس هذا ببدع من بهتهم، وافترائهم"أهـ2. ولقد صدق رحمه الله أن الرافضة ليسوا ببدع في البهت والافتراء، فذلك متأصل فيهم منذ أن نبتت نابتتهم زمن الإمام زيد بن علي رحمه الله وأما زعمهم أن الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة فهو زعم باطل "فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي منه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجد فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس، ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصاً"3، فلا مطعن على الصديق رضي الله عنه ببعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلفه في السنة التاسعة من الهجرة إلى الموسم بل إن ذلك يفيد المبالغة في إعلان فضل الصديق لأن السورة اشتملت على الثناء الإلهي الكريم على صديق رسوله ورفيقه في الغار، فكان من المناسب أن يكون إعلان هذا

_ 1ـ رواه النسائي في سننه 5/247-248، سنن الدارمي 2/66-67 ولفظه: "أمير أم رسول، قال: بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ب"براءة" أقرؤها على الناس في مواقف الحج". 2ـ زاد المعاد 1/126. 3ـ منهاج السنة 4/222.

الثناء في الحج الأكبر في أيام الموسم بلسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا نكسة واضحة لكل رافضي إلى يوم القيامة. ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم يزعمون عدم حصول الإجماع على خلافته ويقولون بمنع الإجماع ويتعللون بأن جماعة "من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص، حتى أن أباه أنكر ذلك وقال: من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال: وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس، قالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا ابنك أكبر سناً ـ ثم يقولون ـ وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته"1. والرد على زعمهم هذا: أن من له أدنى علم وخبرة عندما يسمع هذا الكلام يقطع بأن قائله من أجهل الناس، ومن أجرأ الناس على البهتان، فالرافضة أهل جهل وعمى، وأهل جرأة على الكذب، فبنو هاشم لم يمت منهم أحد إلا وقد بايع الصديق وأما الذين ينصون عليهم بأسمائهم من الصحابة وأنه تخلفوا عن بيعة أبي بكر فهو كذب عليهم إذ بيعتهم للصديق ثم الفاروق أشهر من أن تنكر وأسامة بن زيد لم يسر بجيشه لمحاربة الروم حتى بايع أبا بكر، وما تذكره الشيعة الرافضة من أن أبا قحافة أنكر استخلاف ابنه أبي بكر فهو باطل ولم يكن ابنه أسن الصحابة، وإنما كان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، والعباس أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين2 لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما قبض نبي الله صلى الله عليه وسلم ارتجت مكة فسمع

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/227. 2ـ انظر منهاج السنة 4/230-231، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544-545.

أبو قحافة، فقال: ما للناس؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمر جلل فمن ولي بعده، قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟، قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"1، وأما زعمهم أن بني حنيفة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم، فيجاب على هذا البهتان بأن: "من أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنفية أم محمد بن الحنفية سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبى نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا: لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤدوها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون: إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع من أدائها جملة لا من قال: أنا أؤديها بنفسي ـ ولو عدت الرافضة ـ "من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس ـ عدهم ـ "لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس، فإن أولئك كفار أصليون وهؤلاء مرتدون، وأولئك يقرون بالجزية، وأولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفترياً كذاباً ... وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب التي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن، بل قد أفرد الإخباريون لقتال

_ 1ـ رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.

أهل الردة كتباً سموها كتب الردة والفتوح كسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكر فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون"1. وأما زعمهم: "أن عمر أنكر قتال أهل الردة ورد عليهم سباياهم فهذا من أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة"2. وأما قولهم إن عمر رضي الله عنه أنكر على الصديق سبي مانعي الزكاة ورد السبايا أيام خلافته، فيقال لهم: هذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين، فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما هو ثابت في الصحيحين3 ... لكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما، فإنه قد يكون عمر كان موافقاً على جواز سبيهم،لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين، فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين وطلبوا رد ذلك إليهم4، وأهل الردة قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم، فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز"5.

_ 1ـ منهاج السنة 4/228، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544. 2ـ المصدر السابق 4/229، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544. 3ـ انظر صحيح البخاري 4/196، صحيح مسلم 1/51-52. 4ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/488-491. 5ـ منهاج السنة 3/231-232.

فإمامة الصديق من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وما يردده الرافضة من الهذيان حول عدم الإجماع عليها لا يلتفت إليه ولا يعتد به. ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم طعنوا عليه بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1. ووجه طعنهم بهذه الآية أنهم يقولون: "أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، قالوا: ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفاراً يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم"3. ويرد على هذا الافتراء من وجوه: أحدها: أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم، فإن الإسلام يجب ما قبله وهذا معلوم بالاضطرار من الدين. ثانياً: ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، وإلا لزم أن يكون أفضل من الصحابة، فقد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول الذي بعث فيهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام، ولهذا قال أكثر العلماء أنه يجوز على الله أن يبعث نبياً ممن آمن بالأنبياء ولهذا قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 4، وقد قال شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} 5. ثالثاً: يقال لهم: قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمناً

_ 1ـ سورة البقرة آية/124. 2ـ سورة البقرة آية/254. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/218، الميزان في تفسير القرآن 1/278-279. 4ـ سورة العنكبوت آية/26. 5ـ سورة الأعراف آية/89.

من قريش لا صغير ولا كبير، وإذا قيل عن رجالهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام فصبيانهم كذلك، فإن قالوا: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ، يقال لهم: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ، والصبي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء: بخلاف البالغ، فإنه يصير مسلماً باتفاق فكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر بإجماع المسلمين. رابعاً: أن أسماء الذم الواردة في القرآن كالكفر والظلم والفسق لا تتناول إلا من كان مقيماً على ذلك، وأما من صار مؤمناً بعد الكفر وعادلاً بعد الظلم براً بعد الفجور، فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين، فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالماً، فقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصاً كان ظالماً ثم تاب، وصار عادلاً تناوله العهد وصار ممدوحاً بآيات المدح والثناء كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 1، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2. خامساً: إن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين، فكيف يقال: عن أفضل الخلق إيماناً إنهم كفار لأجل ما تقدم3. ومما طعن به الرافضة على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: "كانت بعية أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وكونها فلتة يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية

_ 1ـ سورة الانفطار آية/13، المطففين آية/22. 2ـ سورة الدخان آية/51. 3ـ انظر منهاج السنة 4/218-219، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/536-537.

شرها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه"1. والرد على هذا، "أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحن عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها: "ثم إنه قد بلغني أن قائلاً منكم يقول: "والله لو مات عمر بايعت فلاناً" فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث"2. ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها، ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعيناً لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه، كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه، وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالإجماع"3. ومن مطاعنهم التي ألصقوها بالصديق ـ رضي الله عنه ـ زعمهم أنه قال: "أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان لم يجز له طلب الإقالة"4. والرد على هذا من وجهين: الوجه الأول: يطالبون بصحة هذا إذ ليس كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح.

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/216. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/302. 2ـ صحيح البخاري 4/179-180، المسند 1/55، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. 3ـ منهاج السنة 4/216-217. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/294، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402-403.

الوجه الثاني: لو صح هذا القول عن الصديق لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة، فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول، وقد يقال وهذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة أنه كان طالباً للرياسة راغباً في الولاية1. ومما طعنوا به على أبي بكر رضي الله عنه: زعمهم أنه تسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه2. والرد على هذيانهم هذا: أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل رافضي وجد على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولو سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدق في ذلك ولقبله منه كل مسلم عرف قدره ومنزلته في هذه الأمة، ولكنه رضي الله عنه لم يسم نفسه بهذا الاسم وإنما سماه به من أطلق الله عليهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس3، ومن أخبر الله عنهم أنهم صادقون بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4. فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم5.

_ 1ـ منهاج السنة 4/219. 2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/4-5، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/175، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/299. 3ـ انظر المستدرك 3/79-80. 4ـ سورة الحشر آية/8. 5ـ منهاج السنة 1/135.

وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه، يجاب على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم ينص عليه بالاسم إلا أنه أرشد الأمة استخلافه بأمور عديدة من أقوال وأفعال وهمّ عليه الصلاة والسلام أن يكتب بذلك عهداً لكنه علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك ذلك، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكنه دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك. هنا حصل المقصود1 ولا حاجة للنص عليه بعينه اكتفاء بذلك فلا وجه لطعن الشيعة على أبي بكر بهذا وطعنهم عليه بهذا يعد من فضول الكلام. ومما طعنوا به على أبي بكر: أنهم يقولون: "لما استتب له الأمر قطع لنفسه أجرة من بيت مال الصدقة كل يوم ثلاثة دارهم، وهذا من أظهر الحرام فاكل الحرام تعمداً وخلافاً على الله، وعلى رسوله الله، مصراً عليه غير نادم فيه ولا تائب عنه إلى أن مات بغير خلاف فيه وذلك أن أبواب أموال الشريعة معلومة كل باب منها مفروض من الله ومن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوم بأعيانهم لا يحل لأحد أن يأكل منه حبة واحدة حتى يصير ذلك في أيديهم"2. والرد على هذا الافتراء: أنه لا يصدر إلا ممن قل حياؤه وخبثت سيرته وسريرته، وبلغ في الجهل ذروته، فالصديق رضي الله عنه لم يفرض لنفسه ولا درهما واحداً من بيت مال المسلمين، وإنما خيار الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين فرضوا له شيئاً يسيراً من بيت مال المسلمين حتى يتفرغ لأمور المسلمين. فقد أخرج ابن سعد بإسناده إلى عطاء بن السائب، قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن

_ 1ـ المصدر السابق 1/139. 2ـ كتاب الاستغاثة 1/17.

الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أطعم عيالي ... "1. وهنا اتفق الصحابة وفي مقدمتهم عمر الفاروق وأمين هذه الأمة أبو عبيدة على تخصيص مبلغ معين للصديق، ليتفرغ لشئون الخلافة، وأقره جميعهم ولم يوجد من أنكر هذا فلو كان هذا حراماً، فقد كان أبو الحسن رضي الله عنه أحد من أقروه وقدروه2، فلا وجهة صحيحة للرافضة للطعن على أبي بكر، بأنه هو الذي فرض لنفسه كل يوم ثلاثة دراهم. ومما طعنوا به على الصديق: أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من الوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه"3. والرد على هذا أنه باطل من وجوه: الأول: أنهم يطالبون بصحة النقل إذ هذا من الأخبار التي ليس لها سند معروف، ولم يصححه أحد من علماء النقل والاحتجاج بالمنقول لا يسوغ إلا بعد العلم بصحته وثبوته وإلا فيمكن أن يقول كل واحد ما شاء. الثاني: أن هذا كذب باتفاق علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل إنه كان عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته، وقد كشف سجف الحجرة فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر فسر

_ 1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184. 2ـ انظر المصدر السابق 3/184-185، تاريخ الأمم والملوك 3/432. 3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20-23، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/296-299، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/220، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/178.

بذلك1، فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة. الثالث: لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم تولية علي لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره ولكان جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يدعوا أحداً يتوثب على من نص الرسول صلى الله عليه وسلم لهم عليه. الرابع: لو أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه، ولما كان يدع أبا بكر يصلي بهم2 وبهذه الوجوه يبطل طعن الرافضة على الصديق بهذا فقد أنفذ رضي الله عنه جيش أسامة حيث الوجهة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وزعمهم بأنه كان أحد أفراد هذا الجيش وتخلف وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن المتخلف كذب محض، وتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل به. ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يعط فاطمة رضي الله عنها من تركه أبيها صلى الله عليه وسلم، حتى قالت: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك، وأنا لا أرث أبي؟، واحتج أبو بكر على عدم توريثها بما رواه هو فقط من قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث"، مع أن هذا الخبر مخالف لصريح قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 3 فإنه عام للنبي وغيره ومخالف أيضاً لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 4، وقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 5. والرد على هذا:

_ 1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/235، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. 2ـ انظر منهاج السنة 4/220-221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/538-539، التحفة الاثنى عشرية ص/240-241. 3ـ سورة النساء آية/11. 4ـ سورة النمل آية/16. 5ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم أحمد بن علي الكوفي 1/9-15، الصراط المستقيم في مستحقي التقديم للعاملي 2/282-284، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 1/247 وما بعدها. حق اليقين 1/178-179.

أن الصديق رضي الله عنه لم يمنع فاطمة رضي الله عنها من الإرث لأجل عداوة أو بعض لها والدليل على هذا عدم توريثه أمهات المؤمنين حتى ابنته، والحامل له على هذا تمام التزامه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال" الحديث1 وهذا أمر كان معروفاً بين أزواجه المطهرات. فقد روى البخاري بإسناده إلى عروة بن الزبير أنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن" الحديث2، فهذه إحدى الزوجات الوارثات للنبي صلى الله عليه وسلم قد روت ما قاله أبو بكر، ولو أن باقي أمهات المؤمنين لم يتذكرن ما ذكرتهن به عائشة لأنكرن قولها، ومعنى هذا أنه أمر كان مقرراً عندهن ومعروفاً لديهن وزعم الشيعة أن الصديق رضي الله عنه تفرد برواية هذا الحديث زعم باطل، فقد "وافقه على رواية هذا الحديث: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك"3. وأما دعواهم أن

_ 1ـ صحيح البخاري 3/17. 2ـ صحيح البخاري 3/17. 3ـ البداية والنهاية 5/322.

الحديث مخالف لآية المواريث وغيرها "فجهل عظيم لأن الخطاب في "يوصيكم" لما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر مبين لتعيين الخطاب لا مخصص، بل لو كان مخصصاً للآية فأي ضرر فيه؟، فقد خصص من الآية الولد الكافر والرقيق والقاتل. فالرافضة إذا دخلوا في مسألة لم يدخلوها بفهم وعلم، وإنما يدخلونها بجهل وعدم فهم ومنها مسألة الميراث هذه. قال العلامة ابن كثير: "وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1 الآية، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2 واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:- أحدها: أن قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إنما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي: جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده وليس المراد بهذا وراثة المال لأن داود ـ كما ذكره كثير من المفسرين ـ كان له أولاد كثيرون يقال مائة فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم، لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك ولهذا قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} . وأما قصة زكريا، فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده

_ 1ـ سورة النمل آية/16. 2ـ سورة مريم آية/5-6.

أحقر من أن يسأل الله ولداً ليرثه في ماله كيف؟، وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده كما رواه البخاري1 ولم يكن ليدخر فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله ـ أن لو كان له مال ـ وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة والقيامم بمصالح بني إسرائيل وحملهم على السداد. الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها ... فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك ـ لكان ما رواه ـ الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون سواه. الوجه الثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا، فإنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، أن يكون خبراً عن حكمه، أو حكم سائر الأنبياء معه وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز حمله ماله كله صدقة والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يقوى المعنى الثاني ـ بما رواه ـ مالك وغيره ـ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" 2، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: "ما تركناه صدقة" بالنصب ـ جعل ـ ما ـ نافية فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله لا نورث ـ؟ وبهذه الرواية "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"؟ ... والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى، فإنه مخصص لعموم آية

_ 1ـ لم أقف عليه في البخاري، وإنما هو في صحيح مسلم 4/1847. 2ـ الموطأ 2/993، صحيح البخاري 2/188.

الميراث ومخرج له عليه السلام منها إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام"1. فلا سبيل للرافضة، للطعن على أبي بكر بقضية توريث فاطمة رضي الله عنها مما أفاء الله على رسوله من مال فدك والنضير وخيبر حيث: "إنه لما كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يرى أن فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلي ما كان يليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته"2، وهذا هو الحكم المصحوب بالصواب والسداد، وهو الحكم الذي ارتضته فاطمة رضي الله عنها وسلمت به عندما اعتذر لها الصديق بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، فقالت له: "فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"3، وهذا هو الصواب والمظنون بها وما يليق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها رضي الله عنها. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الحكمة في عدم توريث الأنبياء كغيرهم من الناس، فقال: "والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة"4. ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن أئمة أهل البيت اعترفوا بصحة ما حكم به أبو بكر فيما أفاء الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيدوه على ذلك، فهذا علي رضي الله عنه "قد تولى الخلافة بعد ذي النورين عثمان" وصار فدك وغيرها تحت

_ 1ـ البداية والنهاية 5/325-327. 2ـ رواه الإمام أحمد في مسنده 1/10. 3ـ المصدر السابق 1/4. 4ـ منهاج السنة 2/157-158.

حكمه ولم يعط منها شيئاً لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس، فلو كان ذلك ظلماً وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال وأمره أهون بكثير1. وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن الحافظ البيهقي روى بإسناده إلى فضيل بن مرزوق، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك2. فالرافضة لو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره، كما قبلت ذلك منه سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وغيرها من أهل البيت، ولكن الرافضة طائفة لها النصيب الأوفر من الخذلان يتشبثون بالمتشابه ويعدلون عن الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار. ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يقولون: إنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه عندما قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة ويزعمون أن عمر أنكر هذا على أبي بكر3. والرد على هذا الزعم: أنه من أظهر الأدلة على جهل الرافضة بما حكته كتب التواريخ فخالد بن الوليد لم يقتل مالك بن نويرة إلا بعد أن أظهر له أنه ارتد عن الإسلام هو وأهله،

_ 1ـ منهاج السنة 3/231. 2ـ البداية والنهاية 5/325. 3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/6، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/279، مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكري 1/44، حق اليقين 1/179-180.

فقد أعلنوا سرورهم وضربوا بالدفوف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم1، بل إن مالك بن نويرة قال في حضور خالد عندما كان يؤنبه على متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة، وقال له: "ألم تعلم أنها قرينة الصلاة، فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال له خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك"2، فهذا التعبير مشعر بالكفر والردة بل ثبت أن مالكاً لما سمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقات قومه عليهم، وقال: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل"3. وذكر أبو سليمان الخطابي أن المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على صنفين: صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر. والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... إلى أن قال: وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم"4. فلما بلغ الصديق حال مالك هذا لم يوجب على خالد القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما، فكيف يريد الرافضة بعد هذا من أبي بكر أن يقيد خالداً في رجل علم ارتداده، وبان كفره.

_ 1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/238. 2ـ البداية والنهاية 6/363، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/280. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/239. 4ـ معالم السنن 2/3.

وأما زعمهم أن خالداً تزوج امرأة مالك بن نويرة من ليلته ولم تمض عدة الوفاة، فهذا لم يثبت في كتاب معتبر، بل الثابت في الروايات المعتبرة عند ابن جرير وابن كثير أن خالداً لم يتسر بهذه السبية إلا بعد انقضاء عدتها1. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على ابن المطهر الحلي: "وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته"2. وأما قولهم: "إن عمر رضي الله عنه أنكر على أبي بكر عدم أخذ القود من خالد لمالك بن نويرة يقال لهم: "غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل هذا عيباً لأبي بكر ـ ولا يجعله عيباً له ـ إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد"3، ومما يعتذر به للفاروق رضي الله عنه أنه تأثر بما بلغهم من أن سرية خالد لما أذنوا للصلاة سمعوا أذاناً وإقامة صلاة من جهة مالك وأصحابه4 لكن ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع شدة محبته له محبة تضرب بها الأمثال وفيه قال: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... يطول اجتماع لم نبت ليلة معاً5 ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق6.

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363. 2ـ منهاج السنة 3/130. 3ـ المصدر السابق 3/129-130. 4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363. 5ـ انظر أبياته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/35، البداية والنهاية 6/363. 6ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/241-242.

فلا مسوغ للرافضة للطعن على الصديق بقصة خالد مع مالك بن نويرة إذ كان قتله خالد على ارتداده. ومما طعن به الرافضة على أبي بكر: أنهم يقولون: "إنه أول من سمى المسلمين كفاراً، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفاً1. قال الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر هذيانهم هذا: "وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقعية في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفاراً، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي دراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد منهم كفاراً وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم

_ 1ـ انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433-434.

الذين كان ارتدادهم حقاً، وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وما ادعوه من كون الخطاب خاصاً لرسول الله فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:- خطاب عام كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية2 وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 3. وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به من غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} 4 وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 5 وكقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 6 ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه فيه الأمة فكذا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذهم منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم ـ إلى أن قال ـ فأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، ويستحب للإمام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق

_ 1ـ سورة التوبة آية/103. 2ـ سورة المائدة آية/6. 3ـ سورة البقرة آية/183. 4ـ سورة الإسراء آية/79. 5ـ سورة الإسراء آية/78. 6ـ سورة النحل آية/98.

بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا يخيب مسألته"أهـ1. فطعن الرافضة على الصديق بمقاتلته مانعي الزكاة باطل وساقط ليس عليه ذم بسبب ذلك، وإنما يمدح على ذلك بل ويعد ذلك من مناقبه إذ ذلك "أدل دليل على شجاعته رضي الله عنه وتقدمه في الشجابة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه أشياء مشهورة في الأصول وغيرها"2 ولكن الرافضة قوم يجهلون هذا وغيره من فضائله رضي الله عنه وأرضاه وبسبب ما أصيبوا به من عمى البصيرة يقلبون المناقب مثالب. ومما طعنوا به على الصديق رضي الله عنه أنه قال عند موته: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش"3. والرد على هذا: أما زعمهم أنه رضي الله عنه قال: ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق، فهذا من الكذب الواضح لأن المسألة كانت واضحة عنده وعند الصحابة لكثرة النصوص الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بطلان هذا النقل، ولو قدر صحته ففيه فضيلة لأبي بكر لأنه لم يكن يعرف النص

_ 1ـ معالم السنن للخطابي 1/5-8، شرح النووي على صحيح مسلم 1/203-205. 2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-212. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/301.

واجتهد فوافق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أنه يكون معه نص بعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفاً للنص فأي قدح في هذا. وأما قولهم: إنه شك في صحة بيعة نفسه هذا مما يرمونه به كذباً وزوراً لم يصدر عن أي طائفة سوى الرافضة1. ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: "أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر وولى عليه"2. والرد على هذا من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الزعم باطل حيث ولاه ولاية لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج، وقد ولاه غير ذلك. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصاً عن هؤلاء. ال وجه الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأن عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيراً دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر3 فلا وجه للرافضة للطعن على أبي بكر بعدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم إياه إذ الثابت خلاف ما تقولوه. وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد تعداد مطاعن الرافضة في

_ 1ـ انظر منهاج السنة 4/219-220، والمنتقى للذهبي ص/538. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، حق اليقين 1/177. 3ـ منهاج السنة 4/221، والحديث رواه البخاري في صحيحه 2/294.

حق الصديق، قال: "ومنها أن النبي لم يؤمر أبا بكر قط أمراً مما يتعلق بالدين، فلم يكن حرياً بالإمامة". والجواب: أن هذا كذب محض تشهد على ذلك السير والتواريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضاً في غزوة بني فزارة، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضاً، ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضاً بالصلاة قبيل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول ... ويجاب أيضاً على تقدير التسليم بأن عدم ذلك ليس لعدم اللياقة بل لكونه وزيراً ومشيراً على ما هي العادة"أهـ1. ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما ذكره صاحب كتاب "الاستغاثة"،فقد قال فيه: "ومن بدعه أنه لما أراد أن يجمع ما تهيأ من القرآن صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به، ثم قال: لا نقبل من أحد منه شيئاً إلا بشاهدي عدل، وإنما أراد هذا الحال لئلا يقبلوا ما ألفه أمير المؤمنين عليه السلام إذ كان ألف في ذلك الوقت جميع القرآن بتمامه وكماله من ابتدائه إلى خاتمته على نسق تنزيله، فلم يقبل ذلك، قالوا: لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل ... الخ"2. والرد على هذا الكذب والزور: يقال لهم: إما أن تقروا وتعترفوا بأن هذا القرآن الموجود بين الدفتين والذي هو في أيدي المسلمين يتعبدون الله به مطابق للقرآن الذي تزعمون أن علياً رضي الله عنه قام بجمعه في زمن الصحابة وحينئذ يكون طعنكم على الصديق بهذا في غير محله، ويكون من اللغو الذي لا فائدة فيه. وإما أن تقولوا إنه مخالف للقرآن الذي جمعه على حسب قولكم وحينئذ

_ 1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/240-241. 2ـ الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20.

عليكم أن تثبتوا هذه المخالة بإبرازكم مصحف علي إذ طعنكم هذا تضمن أن علياً جمع قرآنا يختلف عن القرآن الموجود بأيدي المسلمين لكنهم يعلمون أنهم كاذبون في تقولهم هذا وهو بريء رضي الله عنه مما ينسبونه إليه، فلم يكن له قرآن غير هذا القرآن الموجود بأيدي المسلمين والذي قام بجمعه إخوانه الخلفاء الثلاثة قبله، وبه تعبد الله تعالى في محياه حتى أتاه اليقين وقرآنه هو قرآنهم لا غيره، وقد أعلن رضي الله عنه رضاه على جمع الصديق لكتاب الله تعالى، وهنأه بعظم الأجر بسبب جمعه للقرآن. فقد قال رضي الله عنه: أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين1 وبنص هذا الأثر فقد اعتبر علي رضي الله عنه جمع الصديق للقرآن الكريم مفخرة جليلة ومنقبة رفيعة له، رضي الله عنه وأرضاه، أما الشيعة الرافضة لما أصيبوا بالخذلان اعتبروا جمع الصديق للقرآن بدعة طعنوا بها عليه، ومن هنا يعلم كل عاقل أن انتسابهم إلى أهل البيت ليس إلا ادعاءً وتقولاً، فهم في واد وأهل البيت في واد، ولقد أيد أهل السنة والجماعة ما قاله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو جمع الصديق للقرآن واعتبروا ذلك من أعماله الجليلة ومآثره الحميدة، فهم أتباع أهل البيت على الحقيقة. قال العلامة ابن كثير مشيداً بجمع الصديق للقرآن: "وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق رضي الله عنه فإنه أقامه الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً لا ينبغي لأحد من بعده قاتل الأعداء من مانعي الزكاة والمرتدين والفرس والروم ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القاريء من

_ 1ـ أورده الحافظ ابن كثير في كتابه فضائل القرآن ص/16، وقال عقبه: هذا إسناد جيد، كما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/12، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص/77، وعزاه لأبي يعلى.

حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فجمع الصديق الخير وكف الشرور رضي الله عنه وأرضاه"2. ومن مطاعن الرافضة على صديق هذه الأمة أنهم يقولون: "إنه عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يترك الأمر شورى للمسلمين في اختيار الخليفة"3. والرد على هذا الهراء: يقال لهم: إن أبا بكر رضي الله عنه لم يعهد بالأمر من بعده للفاروق رضي الله عنه إلا لما يعلم من فضله ولما فيه من النصح والقوة على ما يقلده، فلما وجد فيه ذلك منذ أسلم لم يكن ليسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله أن يعدل بالخلافة من بعده إلى غيره، وقد استقر عند الصديق رضي الله عنه أن الصحابة جميعاً يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم من أمره شيء هنا عهد بالأمر من بعده لعمر رضي الله عنه، فرضي المسلمون به إماماً لهم ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولعارضوه في ذلك، بل كان مستقراً عندهم أنه الخليفة من بعده لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعهد الصديق له بالخلافة إنما كان بمثابة الدليل لهم على أنه أفضلهم وأكملهم فتبعوه على ذلك مستسملين له راضين به4 رضي الله عنهم أجمعين". وأما طعنهم عليه بأنه لم يترك الأمر شورى للمسلمين، فيقال لهم: أيها الغافلون: "إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الاتضاح والبيان فلا معنى للشورى ـ ألا ترونهم ـ رضوا به وسلموه وهم متوافرون"5.

_ 1ـ سورة الحجر آية/9. 2ـ فضائل القرآن لابن كثير ص/16. 3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/22، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/304، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402. 4ـ انظر الرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/274. 5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/278.

وتسليمهم هذا لم يكن لرغبة أو رهبة، وإنما لما "ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفخيمه وجلالة ما ذكر من مناقبه في كمال علمه، وتمام قوته وصائب إلهامه وفراسته، وما قرن بشأنه من السكينة وغير ذلك من ورعه وخوفه وزهده ورأفته بالمؤمنين وغلظته وفظاظته على المنافقين والكافرين وأخذه بالحزم والحياطة وحسن الرعاية والسياسة وبسطه العدل ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم"1 لهذه الصفات الحميدة كان أهلاً لأن تناط به الخلافة والنظر في شئون الأمة بعد الصديق رضي الله عنه. وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد الرد على طعن الشيعة الرافضة على أبي بكر أنه استخلف، وأنه باستخلافه خالف النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه قال: "ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام، وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات وفي كل زمان رجال ولكل مقام مقال، وأيضاً عدم استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعلمه بالوحي بخلافة الصديق، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة ونعم ما عمل، فقد فتح الفاروق البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وأباد الكفار وأعان الأبرار"2 فليس للرافضة أي وجه يدعمون به ما ذهبوا إليه من الطعن على أبي بكر بسبب أنه استخلف وليس لهم دافع على ذلك إلا ما تحبيش به قلوبهم من الغل على خيار الصحابة.

_ 1 ـ المصدر السابق ص/278. 2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/242.

المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه

المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه ... المبحث السادس: من مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه لقد تناول الشيعة الرافضة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمطاعن خاصة ألصقوها به. فمنها وهو عمدة مطاعنهم: أنهم طعنوا عليه بما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمربن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده"، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا". قال عبيد الله1: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"2. وبلفظ آخر: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً"، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟، أهجر؟. استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه

_ 1ـ هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك. التقريب 1/535. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، صحيح مسلم مع شرح النووي 11/95، المسند 1/325، 336. وانظر حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/181-182.

خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها"1. لقد زعمت الشيعة الرافضة أنه يستفاد من هذا الحديث الطعن على عمر رضي الله عنه من وجوه:- الأول: أنه رد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله كلها وحي لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2 ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3. والجواب على هذا الوجه يقال لهم: "على فرض تسليم أن هذا القول صدر من عمر وحده، فإنه لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم وإنما قصد راحته ورفع الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك الأمر ضرورياً، ولم يخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بل خاطب الحاضرين تأدباً وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4 وقد نزلت هذه الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر، وقد انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين فيمتنع إحداث شيء". ويرد عليهم أيضاً: بأنه لو كان قول عمر رضي الله عنه: "حسبنا كتاب الله" رداً للوحي ولقول الرسول للزم مثل ذلك في حق علي رضي الله

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، شرح النووي على صحيح مسلم 11/89-94. 2ـ سورة النجم آية/3، 4. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/248، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/5، والآية رقم 44 المائدة. 4ـ سورة المائدة آية/3.

عنه، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى علي، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1 "فقد رد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدقه واستقامته لم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم"2. وروى البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تصالح مع قريش في الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتاباً فكتب: "محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولاً لم نقاتلك، فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده"3، فامتناع علي إنما كان لكمال إيمانه، ولا يقال: إنه رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه، فإذا كان هذا يقال في حق علي فلأن يقال في حق الفاروق من باب أولى كيف وقد "اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4 وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 5، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأردا الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"6.

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/10. 2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/249. 3ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/303. 4ـ سورة الأنعام آية/38. 5ـ سورة المائدة آية/3. 6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90.

وأما زعمهم "أن أقوال الرسول كلها وحي فمردود لأن أقواله صلى الله عليه وسلم لو كانت كلها وحياً فلم قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1، وقال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 2 وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} 3، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4وأيضاً يلزمهم أن علياً رضي الله عنه قد رد الوحي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتهجد ومحو اللفظ في كتابة صلح الحديبية مع قريش مع أنهم لا يقولون بذلك. الوجه الثاني: من وجوه الطعن التي انتزعوها من الحديث على عمر رضي الله عنه أنه قال: "أهجر" مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقة بالاتباع5. والرد عليهم أن يقال لهم: "من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر؟، مع أنه قد وقع في أكثر الروايات "قالوا بصيغة الجمع" استفهموه على طريق الإنكار، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 6 ولذا قالوا: فاسألوه، وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهوم وهو على قسمين:-

_ 1ـ سورة التوبة آية/43. 2ـ سورة النساء آية/105. 3ـ سورة النساء آية/107. 4ـ سورة الأنفال آية/68. 5ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 2/433-434. 6ـ سورة العنكبوت آية/48.

قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم. والقسم الآخر: جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة، في الأكثر. وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياساً على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول يعني أنا نرى هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم، فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال"1. الوجه الثالث: من وجوه الطعن التي استنبطوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه، أنهم قالوا: "إنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 2. والرد على هذا، يقال لهم: من أين ثبت أن عمر أول من رفع الصوت؟، وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا عل صوت النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه في الآية، والأول جائز، والآية تدل عليه حيث قال: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات: "قوموا عني" من قبيل قلة الصبر العارضة

_ 1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250. 2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، والآية رقم 2 من سورة الحجرات.

للمريض، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعه في حضوره وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلاً للطعن عليه مع أن الخطاب كان الجميع الحاضرين المجوزين والمانعين"1. الوجه الرابع: من أوجه الطعن التي انتزعوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أتلف حق الأمة إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر"2. والرد على هذا الوجه: يقال لهم: "إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية تدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لتأكيد ما بلغه"3. ولو كان الكتاب لأمر ديني ضروري لم يتركه لاختلافهم، فإنه قد عاش بعد ذلك أياماً وحصل منه وصايا، فدل عدم كتابة الكتاب في هذه الأيام على أن الذي أراد كتابته إنما هو تأكيد لا تأسيس. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا"4.

_ 1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250-251. 2ـ المصدر السابق ص/251، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/3-7، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-182. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/251. 4ـ فتح الباري 1/209

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى المقصود من الكتاب الذي كان قد عزم على كتابته لهم، فقال: "وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين1 عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعى لي أباك وأخاك حتى اكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ... والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان كلامه المعروف الذي يجب قبوله ولذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات2، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل إن

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/205، صحيح مسلم 4/1857، واللفظ له. 2ـ انظر شدة دهشة الفاروق بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 2/266-272، تاريخ الأمم والملوك 3/200-201، الكامل 2/323-324.

الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضاً: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله"1. فقد تبين بما تقدم ذكره بطلان ما طعن به الرافضة على عمر رضي الله عنه من أجل الكتاب الذي أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم في مرض موته وأنه ما قصد منعه ولا رد أمره صلى الله عليه وسلم، وإنما قصد رضي الله عنه: "التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2. كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث ... وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال: "وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة"4. ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه بلغ به الجهل إلى حيث لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه يجوز الموت على

_ 1ـ منهاج السنة 3/135-136. 2ـ سورة المائدة آية/67. 3ـ سبق تخريجه قريباً. 4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90-91.

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فقال له أبو بكر رضي الله عنه أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2، قال عمر: فلما سمعت ذلك أيقنت بوفاته، وسقطت إلى الأرض، وعلمت أنه قد مات، وفي رواية أنه قال عند سماع الآية: كأني لم أسمعها"3. والرد على هذا: إنما حصل للفاروق عند وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما هو "من شدة دهشته بموت الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال محبته له صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، وكثيراً ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية، والنسيان حاصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد حصل لموسى عليه السلام وهو نبي معصوم من أولي العزم من الرسل أن نسي معاهدته لذلك العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً على عدم السؤال ثلاث مرات كما حكى الله لنا ذلك عنهما في سورة الكهف4، وكما أخبرنا في حق آدم بقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} 5، فأي ذنب للفاروق بدهشته من ذلك الأمر العظيم وهو وفاة سيد الأولين والآخرين، وأي طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه صلى الله عليه وسلم فالخسارة كل الخسارة لمن جعل عقله لعبة للشيطان يستجيب له في كل ما يملي له به6.

_ 1ـ سورة الزمر آية/30. 2ـ سورة آل عمران آية/144. 3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/182-183، الطرائف 2/451-454. 4ـ من الآية 65-82. 5ـ سورة طه آية/115. 6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/252.

ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن فاطمة رضي الله عنها وعظت أبا بكر في قضية فدك، فكتب لها كتاباً بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فمزق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة"1. والرد على هذا الهراء: أنه من الكذب الذي لا يشك فيه عالم ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يعرف له إسناد والصديق لم يحصل منه أنه كتب فدكاً لأحد لا لفاطمة ولا لغيرها، ولا دعت على عمر، وما فعله أبو لؤلؤة المجوسي فهو كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم من فعل ابن ملجم بعلي رضي الله عنه، ومن فعل قتلة الحسين رضي الله عنه، فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وشهادته أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، ثم إن قتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد وفاة فاطمة بمدة خلافة الصديق والفاروق إلا ستة أشهر فمن أين يعلم أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله: "يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعتنا به" وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد2 ـ ثم أيضاً ـ "إن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على كل الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك، قال: لا، ابدؤا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله3، فبدأ ببني

_ 1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/137. 2ـ صحيح البخاري 3/48-49، صحيح مسلم 3/1428، المسند 4/48. 3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/210.

هاشم وضم إليهم بني المطلب فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعترته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة؟ 1، لا يعتقد هذا إلا من أعمى الله قلبه واتبع هواه. ومن مطاعنهم على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه ابتدع التروايح في شهر رمضان، ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة"، ويقولون: إن عمر اعترف بأنها بدعة"2. ويرد على هذا الزور: أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثاً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"3. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة4 فيقول: "من قام رمضان إيماناً

_ 1ـ منهاج السنة 3/137. 2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/34-36، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/26، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/454، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/224، حق اليقين لعبد الله شبر 1/186. 3ـ صحيح البخاري 1/342، صحيح مسلم 1/524. 4ـ معناه: لم يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم وإنما أمرهم أمر ندب وترغيب.

واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر على ذلك"1. وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان في المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر، نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ، وكان الناس يقومون أوله"2. فهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه الفاروق بدعة لأن ما فعل ابتداء يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله، فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة، وإلا فلو عمل الإنسان فعلاً محرماً يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة. ويقال لهم أيضاً إن عمل الفاروق هذا: "لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان علي رضي الله عنه أبطله لما صار أمير المؤمنين، وهو بالكوفة، فلما كان جارياً في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل روى عن علي أنه قال: "نور الله على عمر في قبره كما نور علينا مساجدنا"3. وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن علياً دعا القرآن في رمضان فأمر رجلاً

_ 1ـ صحيح مسلم 1/523، وقوله: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ من قول ابن شهاب. انظر صحيح البخاري 1/342. 2ـ صحيح البخاري 1/342. 3ـ ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص/137، وعزاه لابن عساكر.

منهم يصلي بالناس عشرين ركعة، وكان علي يوتر بهم1. وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماماً، قال عرفجة: "فكنت أنا إمام النساء"2 رواهما البيهقي في سننه"3. ومن هذا يتضح أن الفاروق رضي الله عنه لم يأت ببدعة، وإنما أحيا سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة، فيعجزوا عن القيام بها، ولما رأى الفاروق أنه علة المنع قد زالت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أحيا سنة قيام رمضان حيث جمع الناس على إمام واحد رضي الله عنه وأرضاه. ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه حرم المتعتين متعة الحج ومتعة النساء مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله4. والرد على هذا الافتراء: يقال لهم: أما متعة الحج وهي تأدية الإنسان أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته لم يحرمها الفاروق كما يزعمون ولم يمنعها قط، وما يذكرون من رواية التحريم عنه فهي افتراء صريح عليه وإنما كان يرى رضي الله عنه إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران أو في سفر واحد وهو التمتع.

_ 1ـ السنن الكبرى للبيهقي 2/496. 2ـ المصدر السابق 2/494. 3ـ منهاج السنة 4/224. 4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/36-37، مقدمة مرآة العقول 1/220-221، ص/273، وما بعدها، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/183، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/153-154، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/457-463. الشيعة والتصحيح ص/109.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً الغرض الذي من أجله أرشد الفاروق رضي الله عنه الناس من أنهم يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج حيث قال: "وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمر بما هو أفضل، وكان الناس لسهولة المتعة تركوا العمرة في غير أشهر الحج، فأراد أن لا يعري البيت طول السنة، فإذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة"1. فهذه هو الذي اختاره عمر للناس، فظن من غلط ممن لا فهم له أنه نهى عن متعة الحج، وهذا هو شأن الرافضة لما حرموا الفهم والعلم غيروا ما قصده عمر في مسألة متعة الحج، وزعموا أنه منع متعة الحج وهو بريء من هذا. وأما زعمهم أنه حرم متعة النساء، فهذا أيضاً محض افتراء عليه رضي الله عنه وأرضاه، وأن حرمة متعة النساء ثابتة بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة. فأما دلالة الكتاب فمن ذلك أن الله تعالى حصر أسباب حل الوطء في شيئين هما: النكاح الصحيح، وملك اليمين2 لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته لا يتحقق إلا بهذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث، قال تعالى في سياق ذكره لصفات عبادة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، وأعقب هذا في موضعين من كتابه بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3، وفي هذا النص القرآني يتضح أن امرأة المتعة ليست بزوجة وإلا لتحققت لوازم الزوجية فيها من إرث وعدة وطلاق ونفقة وكسوة وغير ذلك، وليست هي أيضاً بملك يمين، وإلا لجاز بيعها وهبتها وإعتاقها.

_ 1ـ منهاج السنة 2/155. 2ـ أما الرافضة فعندهم أسباب حل المرأة أربعة كما يقول ذلك ابن البابوية في كتاب الاعتقاد، وهي النكاح، وملك اليمين، والمتعة، والتحليل، نقلاً عن التحفة الاثنى عشرية، ص/228. 3ـ سورة المؤمنون آية/5-7. سورة لمعارج آية/29-30.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن الله قصر سبب حل الوطء في أمرين اثنين حيث قال: "والله تعالى إنما أباح الزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراماً بنص القرآن أما كونها ليست مملوكة فظاهر، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها، فإن من لوازم النكاح كونه سبباً للتوارث، وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم"أهـ1. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2، فلو كانت المتعة جائزة لم يأمر بالاستعفاف في هذه الآية الكريمة، فدلت على تحريمها، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فلو جازت المتعة لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر في ترك نكاحهن متحققاً4، فدل هذا على تحريم نكاح المتعة. وأما دعوى الشيعة أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 5 دليل على المتعة6 فغلط محض وزعمهم أن طائفة من السلف

_ 1ـ منهاج السنة 2/157. 2ـ سورة النور آية/33. 3ـ سورة النساء آية/25. 4ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/228. 5ـ من الآية رقم 24 من سورة النساء. 6ـ انظر تفسير القمي 1/136.

قرأوا الآية هكذا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى" فهو غلط أيضاً، إذ ليس هذا من القراءة المتواترة وعلى تقدير ثبوت ذلك فتكون قراءة منسوخة بما جاء من النصوص في تحريم نكاح المتعة. قال العلامة ابن تيمية: "فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، قيل أولاً: ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك: الثاني: أن يقال: إن كان هذا الحرف نزل فلا ريب أنه ليس ثابتاً من القراءة المشهورة، فيكون منسوخاً ويكون لما كانت المتعة مباحة، فلما حرمت نسخ هذا الحرف، أو يكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيهاً على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل واجب، إذا كان ذلك حلالاً وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمى حلالاً، وهذا كان في أول الإسلام، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالاً أم وطء شبهة ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الآية، فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زناً ولا مهر فيه، وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور"1. ثم يقال أيضاً: إن الله تعالى بين قبل الآية التي يستدلون بها على جواز المتعة المحرمات بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ،

_ 1ـ منهاج السنة 2/155-156.

أي: غير المحرمات المذكورة، ولكن بشرط أن تبتغوا بأموالكم من المهور والنفقات، فبطل بهذا الشرط تحليل الفروج وإعارتها، فإنها منفعة محصنة بلا حرج، ثم قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} 1 يعني: في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين لهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد لأن الاحتياط والاختصاص لا يكون مقصوداً في المتعة أصلاً، ثم فرع على النكاح قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، يعني إذا قررتم الصداق في النكاح فإن تمتعتم به منهن بالدخول والوطء يلزمكم تمام المهر وإلا فنصفه، فقطع هذه الآية عما قبلها وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطاً بما قبلها ... وسياق قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} 2الآية أيضاً: في باب النكاح يعني إن لم يستطع منكم أحد أن يؤدي مهر الحرائر ونفقتهن فلينكح الإماء المسلمات، فحمل العبارة المتوسطة على المتعة بقطع الكلام من السياق والسياق تحريف صريح لكلام الله تعالى، بل إن تأمل عاقل في سياق هذه الآية يجد حرمة المتعة صريحة لأن الله أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء في عدم الاستطاعة بطول الحرائر، فلو كان أجل المتعة في الكلام السابق لما قال بعده: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} لأن المتعة في صورة عدم الاستطاعة بنكاح الحرة ليست قاصرة على قضاء حاجة الجماع ـ ثم ـ أي ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد وإلزام الشروط والقيود وبالجملة إن هذه الآيات ـ المتقدم ذكرها ـ صريحة الدلالة على تحريم المتعة، وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدل بها الشيعة على مدعاهم بل على خلافة"3.

_ 1ـ سورة النساء آية/23-24. 2ـ سورة النساء آية/25. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/229-230.

وأما دلالة السنة على تحريم المتعة، فقد جاء فيها التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" 1. وروى أيضاً بإسناده إلى سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه" 2. قال أبو محمد بن حزم: "ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسخاً باتاً إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت ـ وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ويقول: "من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمي لها ولا يسترجع مما أعطاها شيئاً ويفارقها فإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة". قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنا نسخه3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد رده على الرافضي: "وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله

_ 1ـ صحيح مسلم 2/1025. 2ـ صحيح مسلم 2/1027. 3ـ المحلى لابن حزم 11/141، 142.

والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة: إنك امروء تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر1، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح يتلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه، وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها غزاة الفتح إلى يوم القيامة2. وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط، أوله ولتحريم المتعة والأول قول ابن عيينة وغيره قالوا: إنما حرمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرمت ثم أحلت وادعت طائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع والروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة وأكل لحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر3، فقرن علي رضي الله عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، لأن ابن عباس كان يبيحهما، وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما"4.

_ 1ـ انظر صحيح مسلم 2/1027. 2ـ انظر صحيح مسلم 2/1025. 3ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/166-167. 4ـ منهاج السنة 2/156، وانظر معالم السنن للخطابي 3/191.

فالسنة دلت على تحريم المتعة دلالة صريحة وأنها حرمت إلى يوم القيامة. وأما الإجماع على تحريم المتعة فقد نقله طائفة من أهل العلم ممن يعتمد على نقلهم. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض"1. قال الخطابي رحمه الله تعالى: "تحريم المتعة كالإجماع بين المسلمين ... فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الروافض"2.أهـ وقال القرطبي: "الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض"3. فلا طريق للرافضة للطعن على الفاروق بزعمهم أنه هو الذي منع من متعة النساء إذ المنع منها وتحريمها تحريماً قاطعاً كان بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كافة سلفاً وخلفاً حاشا الرافضة وخلافهم غير معتبر ولا يعتد به، فالفاروق رضي الله عنه لم ينه عن المتعة اجتهاداً وإنما كان نهيه مستمداً من نهي الشارع. قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فنهي عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: ـ وتمامه أن يقال: لعل جابراً ومن نقل عنهم استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي، ومما يستفاد أيضاً: أن عمر لم ينه عنها اجتهاداً وإنما نهى عنها مستنداً إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي

_ 1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/181. 2ـ معالم السنن 3/190، وانظر فتح الباري 9/173. 3ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9

عمر خطب، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها1. وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"2. فدعوى الرافضة على الفاروق أنه حرم المتعة دعوى بلا برهان وافتراء واضح ولا حجة لهم على حلها بتعلقهم باستمرار بعض الصحابة على القول بحلها، وإنما كانوا على هذا القول قبل أن يبلغهم النهي فلما بلغهم النهي رجعوا عن هذا القول، وإصرار الرافضة على حلها إنما هو اتباع للهوى، وتنكب عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهم متبعون للهوى في هذه المسألة، ومخالفون لمعتقد أهل البيت فيها إذ أن أهل البيت يعتقدون أنها نسخت وحرمت إلى يوم القيامة، ويعتبرون فعلها عين الزنا. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنها نسخت ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه"3. ومما طعنوا به على الخليفة الثاني ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يفترون عليه بأنه عطل الحدود ويقولون أنه لم يحد المغيرة بن شعبة حد الزنا ولقن الرابع وهو زياد بن أبيه فتركها وحد الثالث وكيف يجوز له صرف الحد عن مستحقه4. ويرد على هذا الهذيان:

_ 1ـ فتح الباري 9/172-173. 2ـ فتح الباري 9/173. 3ـ فتح الباري 9/173. 4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/21، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/138. حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/183-184.

بأن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود، والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم، والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف، وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانياً، فقال له علي: إن كنت جالده فأرجم المغيرة1 يعني يكون تكراره بالقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب أربعاً فيجب رجمه فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولاً دون الحد الثاني، وإلا كان أنكر حدهم أولاً كما أنكر الثاني ... وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى أنه أقام على ابنه2 الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سراً في البيت، وكان يضربون علانية، فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لكونه حابا ابنه، ثم طلبه فضربه مرة ثانية، فقال عبد الرحمن: مالك هذا، فزجر عبد الرحمن، وما روي أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر ـ ثم أيضاً يقال للرافضة ـ أي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة، وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب"3. وأما قولهم: أنه لقن الشاهد الرابع كلمة تدرأ الحد وهي أنه قال له: "أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين" فهذا كذب وبهتان من

_ 1ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى للذهبي ص/351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255. 2ـ يكنى بأبي شحمة وهو عبد الرحمن الأوسط انظر قصة عبد الرحمن هذا في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" لأبي عبد الله الجوزقاني 2/193-194، تنزيه الشريعة المرفوعة 2/220. 3ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال من 351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.

أهل العدوان، وإنما الثابت في التواريخ المعتبرة أن هذه الكلمة إنما قالها المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود ولا سيما إذا كان يترتب على الشهادة حكم موجب لهلاكه"1. ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه لم يحد قدامة بن مظعون على شربه الخمر لأنه تلا عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} الآية2، فقال له علي رضي الله عنه: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى3. والرد على الهذيان: أنه من الكذب الواضح على الفاروق رضي الله عنه لأن علم عمر بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، والمعروف من قصة قدامة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني وغيره من حديث ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما يحملك على ذلك، فقال: إن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية ... وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم"4. ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال علي بن

_ 1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255. 2ـ سورة المائدة آية/93. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/148. وانظر الميزان 6/135. 4ـ رواه عبد الرزاق في المصنف 9/240-243، وقصة قدمة أوردها أيضاً ابن العربي في أحكام القرآن 2/659، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 6/297-299.

أبي طالب: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين، ففيه أن علياً أشار بالثمانين وفيه نظر، فإن الذي ثبت في الصحيح1 أن علياً جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح2 أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروي عن علي أنه قال: "ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا"3. ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه رعمهم: "أنه غير حكم الله في المنفيين يعني أنه ترك النفي لمن يشرب الخمر"4. والرد على هذا البهتان: أن التغيير لحكم الله إنما يكون بما يناقض حكم الله، مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله، والنفي في الخمر كان من باب التعزير يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيه الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول5 النخل بينما الضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط، وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وصح أن علياً قال: وكل سنة6، وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن

_ 1ـ انظر صحيح مسلم 3/1331-1332. 2ـ انظر المصدر السابق أيضاً 3/1331. 3ـ منهاج السنة 3/149، المنتقي للذهبي ص/353-354، وانظر الأثر عن علي في صحيح مسلم 3/1332. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139. 5ـ العثكول: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. النهاية في غريب الحديث 3/183. 6ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.

أحمد، وقال الشافعي: الزائد تعذير وللإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وكان الفاروق رضي الله عنه يحلق في الخمر وينفي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الشارب في الرابعة1، واختلف في نسخه وكان علي يحد أكثر من الأربعين، وثبت عنه أنه قال: ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر، فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا2. واستدل به على أن الزيادة من باب التعذير الذي يفعل بالاجتهاد3. وبهذا يبطل طعن الرافضة على عمر رضي الله عنه بأنه غير حكم الله في المنفيين إذ النفي كان في شرب الخمر من باب التعذير الذي يجوز فيه الاجتهاد. ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التي هي في زعمهم شرط في الإمامة والخلافة ويذكرون قصصاً اخترعتها عقولهم يستدلون بها على ما يفترون من تلك القصص يقولون: إنه أمر برجم مجنونة شهد عليها بالزنا، فقال له علي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" فقال: " لولا علي لهلك عمر" 4. والجواب على هذا: أولاً: أن قولهم أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا علي لهلك عمر" هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث. ثانياً: أن عمر رضي الله عنه لا يخلو إما أن يكون غير عالم بجنونها وهذا

_ 1ـ انظر سنن الترمذي 2/450، سنن ابن ماجه 2/859، سنن الدارمي 2/175-176، الأم للإمام الشافعي 6/144. 2ـ انظر صحيح مسلم 3/1332. 3ـ منهاج السنة 3/139، المنتقى للذهبي ص/352. 4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/15، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/140، حق اليقين 1/185.

لا يقدح في علمه بالأحكام، أو كان عالماً بذلك ولكنه ذهل عنه، أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم1. وقد روى الإمام أحمد وغيره قصة هذه المرأة المجنونة عن أبي ظبيان الجنبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بامرأة قد زنت، فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم، فرجعوا إلى عمر رضي الله عنه، فقال: ما ردكم، قالوا: ردنا علي رضي الله عنه، قال: ما فعل هذا علي إلا لشيء قد علمه، فأرسل إلي علي فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رددت هؤلاء، قال: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل" قال: بلى، قال علي رضي الله عنه: فإن هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري، قال: وأنا لا أدري فلم يرجمها2. فمن هذا يتبين أن عمر رضي الله عنه كان يعلم أن المجنونة لا ترجم ولكن لم يكن له علم بجنونها، فلا يطعن عليه بهذا إلا من أصيب بالفتنة في قلبه. ومن القصص التي يتشدقون بها ويقولون: إنها دلت على أن الفاروق كان قليل المعرفة ببعض المسائل الشرعية، قالوا: إنه أمر برجم حامل، فقال له علي: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأمسك وقال: "لولا علي لهلك عمر"3. والرد على هذه القصة: إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون الفاروق رضي الله عنه لم يعلم بحملها فأخبره أبو الحسن بأنها حامل، ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام

_ 1ـ انظر منهاج السنة 3/140، وانظر المنتقى للذهبي ص/353. 2ـ المسند: 1/154-155، وانظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/120. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139، وانظر حق اليقين 1/185.

إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إعلامه بما يغيب عنه من أحوال الناس، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية، وإما أن يكون عمر رضي الله عنه قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكَّره علي ذكر ذلك، ولهذا أمسك عن رجمها، ولهذا لو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها، ولم يرجع إلى رأي غيره، وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟، لعلك إن تردني كما رددت ماعزاً فوالله إني لحبلى، قال: "أما لا فاذهبي حتى تلدي" 1. ولو قدر أنه خفي على عمر علم هذه المسألة حتى عرفه علي بذلك لم يقدح ذلك في علمه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهوراً لم يكن قبله مثله وهو دائماً يقضي ويفتي، ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك ... ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بذرية المسلمين أنه كان لا يفرض لصغير حتى يفطم ويقول: يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع2 وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن أذاهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين3. ويقال للطاعنين عليه بهذه القضية إن كانت خفيت عليه فقد خفي على أبي الحسن رضي الله عنه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قتل يوم

_ 1ـ صحيح مسلم 3/1323، الموطأ 2/821. 2ـ انظر تاريخ عمر لابن الجوزي ص/84-85. 3ـ منهاج السنة 3/139-140، وانظر المنتقى للذهبي ص/352.

الجمل وصفين نحو من تسعين ألفاً1 فهذا أعظم خطئاً من خطأ عمر في قتل ولد زنا ولم يقتله ولله الحمد2. وبهذا الرد يبطل ما نسبه الرافضة إلى عمر رضي الله عنه من أنه أمر برجم امرأة حامل، فنهاه علي عن ذلك والمشهور أن هذه القصة لم تكن لعلي رضي الله عنه مع عمر، وإنما كانت لمعاذ بن جبل كما روى ذلك ابن أبي شيبة في المصنف أن امرأة غاب عنها زوجها ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، "لولا معاذ هلك عمر"3. لكن الرافضة لما كانوا أهل جهل والكذب فيهم أكثر من غيرهم ينسبون الآثار والأخبار إلى غير رواتها. ومما طعنوا به على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه أرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفاً منه، فقال له الصحابة: نراك مؤدباً ولا شيء عليك، ثم سأل علياً، فأوجب الدية4. ويرد على هذه القصة: أنها من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، وكان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، فلهذا كان من أشد الناس رأياً وكان يرجع تارة إلى رأي هذا، وتارة إلى رأي هذا، وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا،

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/539. 2ـ المنتقى للذهبي ص/352. 3ـ المصنف 10/88. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/185.

فاتفقوا على رجمها، وعثمان ساكت، فقال: مالك لا تتكلم، فقال: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فرجع فأسقط الحد لما ذكر له عثمان، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحاً ... وإذا كانت لا تعلمه قبيحاً كانت جاهلة بتحريمه والحد إنما يجب على من بلغه التحريم، ولهذا من أتى شيئاً من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود1 وكذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذاً2، وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لما حصل له من التأويل3. فلا وجهة مستقيمة للرافضة للطعن على عمر بهذه القصة، إذ أنها مسألة مبنية على الخلاف والاجتهاد ومشاورة الفاروق رضي الله عنه للصحابة تزيد من قدره ورفعة شأنه، وذلك من تمام فضله وكمال دينه وعقله رضي الله عنه وأرضاه. ومما ذكروه من القصص التي يسوقونها للاستدلال بها على عدم إلمام الفاروق بالأحكام الشرعية أنهم يقولون: "تنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى علي، فاستدعى علي المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال: ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به، فقال: أقده بينكما نصفين، فتأخذ كل واحدة نصفاً، فرضيت واحدة، وقالت الأخرى: ألله ألله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي: الله أكبر هو ابنك دونها، ولو كان ابنها

_ 1ـ انظر صحيح البخاري 1/328. 2ـ صحيح مسلم 1/97. 3ـ منهاج السنة 3/150، وانظر المنتقى للذهبي ص/354، وانظر قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة.فتح الباري 8/56-58.

لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر ودعا لعلي"1. والرد على هذه القصة: أنهم لم يذكروا لها إسناداً ولا يعرف صحتها ولا هناك أحد من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها، ولا تعرف عن عمر وعلي وإنما هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام. فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى، قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية"2. فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهَّم سليمان من الحكم ما لم يفهمه داود كما قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 3، وكان سليمان قد سأل ربه حكماً يوافق حكمه، ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام"4. ومن قصصهم التي يذكرونها ويسوقونها الاستدلال على عدم معرفة الفاروق

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150-151. 2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/458، صحيح مسلم 3/1344-1345. 3ـ سورة الأنبياء آية/78-79. 4ـ منهاج السنة 3/151، وانظر المنتقى للذهبي ص/355.

لبعض الأحكام والمسائل الشرعية أنهم يزعمون "أنه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} 1، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 2. والرد على هذه القصة: أنه يقال للطاعنين عليه بها: "إن عمر رضي الله عنه كان يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صواباً، وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف، وتارة يشير عليه غيرهم، وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 3، والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولا ادعت شبهة هل ترجم؟. فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين. ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد، قالوا: لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء، والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين، فقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في آخر عمره، وقال: " ... الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف"4، فجعل الحبل دليلاً على ثبوت

_ 1ـ سورة الأحقاف آية/15. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/151، طتاب الطرائف 2/472-473، والآية رقم 233 من سورة البقرة. 3ـ سورة الشورى آية/38. 4ـ صحيح البخاري 4/180، صحيح مسلم 3/1317.

الزنا كالشهود، وهكذا هذه القضية ... فلما كان معروفاً عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل، فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد، والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال، فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل، فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر1 "كما وجد في النادر من حملت أربعة سنين ومن حملت سبعة سنين، وفي حد ذلك نزاع بين العلماء"2. ومن القصص التي يسوقونها ويقولون إنها دلت على أن الفاروق رضي الله عنه كان لا يعرف بعض المسائل الشرعية أنه قال في خطبة له: "من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال"، فقالت امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} 3، فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات4. ويرد عليهم أن هذه القصة لا تدل على ما تفهمونه معشر الرافضة وإنما "هي دليل على كمال فضله ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل ألا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 5، وقد قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 6، والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وأشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى فضلاً عن

_ 1ـ منهاج السنة 3/151-152. 2ـ المنتقى للذهبي ص/355. 3ـ سورة النساء آية/20. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/147، الطرائ 2/471. 5ـ سورة النمل آية/22. 6ـ سورة الكهف آية/66.

أن يكون مثله، بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر، وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله تعالى، ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح للإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين"1. فلا وجهة صحيحة للرافضة توجب لهم الطعن على الفاروق بهذه القصة. ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان يضطرب في الأحكام ويتقولون عليه بأنه قضى في مسألة الجد بمائة قضية2. والجواب على هذا الزعم: أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين:- أحدهما: أنه يسقط الإخوة، وهذا قول أبي بكر وأبي موسى وابن عباس وطائفة، ومذهب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة وهو الحق فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد، وقد اتفق المسلمون على أن الجد أب والأب أولى من الأعمام، فيجب أن يكون أبو الأب أولى من الإخوة، وأيضاً فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب ـ بمنزلة الجد لكان أولادهم وهم بني الإخوة كذلك ومعلوم أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه بمنزلته، وأيضاً: فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أباً وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر

_ 1ـ منهاج السنة 3/147، المنتقى للذهبي ص/353. 2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/152.

القول الثاني: إن الجد يقاسم الإخوة، وهذا قول عثمان وعلي وزيد وابن مسعود، ولكن اختلفوا في التفضيل اختلافاً متبايناً، والجمهور على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد. فإن كان القول الأول في مسألة الجد هو الصواب فهو قول لعمر، وإن كان الثاني فهو قول لعمر وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه، لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جداً تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد، وقول القائل: إنه قضى في الجد بمائة قضية، إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول، فإن هذا غير ممكن، وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم/أخت/وجد والأقوال فيها ستة1 فعلم أن المراد به إن كان صحيحاً أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة، مع أن الأشبه أن هذا كذب، فإن وجود جد وأخوة في الفريضة قليل جداً في الناس، وعمر إنما تولى عشر سنين، وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا"2. ومن كان متوقفاً لم يحكم فيها بشيء3. ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه:- أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه جعل الأمر شورى بعده، وخالف فيه من تقدمه، فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى

_ 1ـ انظر هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، كتاب "العذب الفائض بشرح عمدة الفارض" للشيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي 1/118-119. 2ـ انظر هذا الأثر عن عمر في صحيح مسلم 4/2232. 3ـ منهاج السنة 3/152، وانظر المنتقى للذهبي ص/355-356 وانظر إرث الجد مع الإخوة وحالاته، كتاب "العذب الفائض شرح عمدة الفارض" 1/105-122.

أبي حذيفة، وقال: "لو كان حياً لم يختلجني فيه شك" وأمير المؤمنين علي حاضر وجمع بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده ميتاً بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقض فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضغف والقصور، ثم قال: إن اجتمع أمير وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد، وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه عثمان وهو ابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين، وقال لعلي: إن وليتها وليسوا بفاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها، وقال لعثمان: إن وليتها لتركبن آل بني معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن، وفيه إشارة إلى الأمر بقتله1. والجواب على هذا الهذيان أنه: بمجرد أن يقرأه الإنسان أو يسمعه بجد أنه لا يخرج عن قسمين: إما كذب في النقل، وإما قدح في الحق، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب، أو غير معلوم الصدق، وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله له بها عمله، ولكن الرافضة لفرط جهلهم واتباعهم للهوى يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت،

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/158، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22-24، حق اليقين لعبد الله شبر 1/188، وانظر الاحتجاج للطبرسي 1/134.

أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضاً، فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياً أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر وكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له ... والفاروق رضي الله عنه رأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه، فترك التعيين خوفاً من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة"1. ولا يقال إنه بجعله الأمر شورى بين الستة قد خالف به من تقدمه كما هو زعم الشيعة الرافضة، لأن الخلاف نوعان: خلاف تضاد، وخلاف تنوع، فالأول مثل أن يوجب هذا شيئاً ويحرمه الآخر، والنوع الثاني: مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" 2، وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان، فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر، فقال لكليهما: "هكذا أنزلت"3، ومن هذا الباب أنواع التشهدات4، ومنه أيضاً جعل عمر رضي الله

_ 1ـ منهاج السنة 3/162-164، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/362-364. 2ـ رواه الترمذي في سننة 4/264، من حديث أبي بن كعب. 3ـ المصدر السابق 4/264، من حديث عمر. 4ـ منهاج السنة 3/159، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/359.

عنه الأمر من بعده إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ولا يعتبر بذلك مخالفاً لمن تقدمه. وأما ما يروى من ذكر عمر لسالم مولى أبي حذيفة، فقد علم أن الفاروق وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم1، وقد احتج بها المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة، فكيف يظن بعمر أنه كان يولي رجلاً من غير قريش بل من الممكن أنه أراد أن يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولي، ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة، فإنه كان من خيار الصحابة2. وأما زعمهم أنه جمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، فيقال لهم: أولاً: هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة، ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهراً كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين، ولهذا كانت الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر، ثم يقال لهم: ثانيا: وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم يقولون إن علياً هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون، وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة، منهم أيوب السختياني وغيره من قدم علياً على عثمان، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان3، وفي لفظ: "ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"4، فهذا إخبار عما كان عليه

_ 1ـ انظر صحيح مسلم 3/1451-1452، المسند 3/129. 2ـ منهاج السنة 3/165، المنتقى ص/368. 3ـ انظر صحيح البخاري 2/289، سنن أبي داود 2/511. 4ـ صحيح البخاري 2/297، سنن أبي داود 2/511.

الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره1، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم. قال الإمام أحمد: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان، وسئل عن خلافة النبوة، فقال: كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال: فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك، وكلهم بايعوا عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة، فإنه لم يعط احداً على ولايته لا مالاً ولا ولاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالاً وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان، مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله ـ عز وجل ـ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2. وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، ولم ينكر منهم أحد ولاية عثمان ... فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلماً، ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال، أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال والجهل بالأدلة أو بالنظر يورث الجهل، وأما من كان عالماً بما وقع وبالأدلة وعالماً بطريق النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعاً لا يتمار فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده"3.

_ 1ـ ذكره الحافظ في الفتح 7/16، وعزاه للطبراني. 2ـ سورة المائدة آية/54. 3ـ منهاج السنة 3/165-166.

وأما زعمهم: أنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة. فالرد عليه: "أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك لكن بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم، فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه، وليس كراهته لتقلده ميتاً كما تقلده حياً لطعنه في تقلده حياً، فإنه تقلد الأمر حياً باختياره، وبأن تقلده كان خيراً له وللأمة، وإن كان خائفاً من تبعة الحساب، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1. قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب، قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" 2، فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حياً وميتاً أنه في حياته كان رقيباً على نوابه متعقباً لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية، فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت، فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتاً، وأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر3.

_ 1ـ سورة المؤمنون آية/60. 2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/105. 3ـ منهاج السنة 3/167، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/270.

وأما زعمهم أنه ناقض فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور. فالرد عليه: "أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولاً وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة وعهد عمر بالأمر من بعده إلى الستة ثابت في صحيح البخاري1 وغيره ليس فيه شيء من هذا بل يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر"2. وأما بيان بطلان افترائهم عليه: أنه قال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه. فالرد عليه يقال لهم: من "الذي قال إن عمر قال هذا، وإن كان قد قاله فلا يجوز أن يظن به أنه كان قصده ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له، فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له، فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له، وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم أن مقصودهم الظلم والشر، وعمر كان في حال الحياة لا يخاف احداً ... فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته، والناس كلهم مطيعوه، وقد تمرنوا على طاعته، فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه

_ 1ـ صحيح البخاري 2/297-299. 2ـ منهاج السنة 3/168، المنتقى ص/370.

الدويرة البعيدة، ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيلة، وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد1 وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولي من بني عدي أحداً بل ولى رجلاً2 منهم ثم عزله وكان رضي الله عنه باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصل من الدنيا، فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه، ثم من مال بني عدي، ثم من مال قريش، ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما، حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه، والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك، فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا، فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر3 ولكن الرافضة قوم لا يفقهون. وأما زعمهم: أن عمر رضي الله عنه علم أن عبد الرحمن رضي الله عنه لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه، "فهذا كذب بين على عمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخاً لعثمان، ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلاً بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، الذي قاله له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي فليكرمن امرؤ

_ 1ـ انظر سنن أبي داود 2/515-516، سنن الترمذي 5/311-312، 315-316. 2ـ هو النعمان بن عدي بن نضلة، انظر قصة عزله في تاريخ عمر، لابن الجوزي، ص/136-137. 3ـ منهاج السنة 3/168-169، وانظر المنتقى للذهبي ص/371.

خاله" 1، ولم يكن أيضاً: بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن"2. وأما بيان بطلان ما نسبوه إليه من أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، فيقال لهم أولاً: من ذكر من أهل العلم أن هذا صحيح؟، وأين النقل بهذا؟، وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحداً منهم، ثم يقال لهم: ثانياً: هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة، وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فساداً، ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلاناً وفلاناً فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولي بعدهم أحداً، وأيضاً فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء، والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك، وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك، فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعاً، ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم، ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحداً منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل يولي غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائماً تعرض عليه الولايات فلا يتولى، وما قتله أحد، وما آذاه أحد قط، وما سمع قط أن أحداً امتنع من الولاية فقتل على ذلك"3. وأما بيان بطلان افترائهم عليه بأنه أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل

_ 1ـ جاء في سنن الترمذي 5/313، بلفظ "هذا خالي فليرني امرؤ خاله". 2ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373. 3ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373.

من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن ... الخ..المطاعن المذكورة في النص المتقدم، فالجواب عليه يقال لهم: "هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان "1، والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتله مثل هذا، ولا يجوز قتل مثل هذا ـ وما قالوا أنه أشار إلى قتل عثمان وإلى عدم تولية علي ـ "كذب بين على عمر، فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك وكذلك قوله لا يولونه إياها إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه"2. وحسبنا هذه المطاعن مما تناول به الرافضة عمر الفاروق رضي الله عنه إذ هذه أهم مطاعنهم عليه، وإلا فمطاعنهم في حق الفاروق كثيرة شحنوا بها كتبهم 3، وهي أكاذيب وأباطيل كلها من جنس ما تقدم ذكره في هذا المبحث، وكلها براهين واضحة دلت على أن الطاعنين على الصحابة أهل اختلاف وافتراء لا يدرون ما يكتبون لا شرعاً ولا عادة نعوذ بالله من الخذلان.

_ 1ـ انظر سنن النسائي 7/92-93. 2 ـ منهاج السنة 3/172-173. 3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/23-48، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/7-28، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-189، كتاب مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/220 وما بعدها.

المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه

المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه لقد نقم الشيعة الرافضة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بما لم ينقم به على أحد مثله واعتبروا ما نقموا به عليه مظالم ومناكير صدرت منه وأخذوا ينتقصونه بها اقتداء منهم بأوباش القبائل وأهل الفتنة الذين قادهم عبد الله بن سبأ اليهودي زمن خلافة عثمان رضي الله عنه حيث زين لهم الطعن في الولاة والخروج على الأئمة حتى وصلت بهم الجرأة البغيضة إلى أن اجتمعوا من الأمصار المختلفة وتوجهوا إلى المدينة وأدى خروجهم وتجمعهم إلى أن قتلوا ذا النورين رضي الله عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً1. فمن مطاعنهم عليه ـ رضي الله عنه ـ: ادعاؤهم عليه أنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مراراً فلم يرجع2. والرد على هذا التخرص: يقال لهم: لو نظرتم في كتب التواريخ والسير نظر العلماء المتبصرين لوجدتم أن الولاة الذين ولاهم علي رضي الله عنه خانوه وعصوه أكثر من خيانة عمال عثمان لعثمان رضي الله عنه، بل بعضهم ترك علياً وذهب إلى معاوية وقد ولى علي زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولي محمد بن أبي بكر وأمثاله هؤلاء لا يستريب من له أدنى عقل وعلم أن معاوية

_ 1ـ انظر تهذيب تاريخ دمشق 7/431. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي: 1/62-63.

ابن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم، ومما يتعجب منه أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يعلمون أن علياً كان أبلغ فيه من عثمان، وهو زعمهم أن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومما هو معلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابني العباس فولى عبيد بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف، وقيل: ثمامة ابن العباس، وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، ثم إن الإمامية يدعون أن علياً نص على أولاده في الخلافة وولده على ولده الآخر، وهلم جرا، ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ... ويقال لهم أيضاً: "إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في غرة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضاً: خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذجح وعلى صنعاء اليمن فلم يزل حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين، فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم..فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر

عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل، وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا علياً على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة1. وأما بيان بطلان قولهم: حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، فيقال لهم: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولي علم ذلك، وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحد على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه. وأما قولهم: إنه قسم المال بين أقاربه، فهذا غايته أن يكون من موارد الاجتهاد، فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل: إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل: إن هذا مما تأوله عثمان، ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك، وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي رضي الله عنه ولى أقاربه"2.

_ 1ـ منهاج السنة 3/173-176. 2ـ منهاج السنة 3/187-189، المنتقى للذهبي ص/390-392.

وبهذا الرد تبين بطلان طعن الرافضة على عثمان بتوليته بني أمية إذ أنه كان متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في استعمالهم، وأيضاً: أبو الحسن لما تولى الخلافة كان أبلغ من عثمان في تولية أقاربه وكما أنه لا يلحق علياً رضي الله عنه طعن بسبب ما حصل من عماله كذلك عثمان رضي الله عنه وإلا فما الفرق؟ ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه: "أنه استعلم الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران"1. والرد على طعنهم بهذه القضية" يقال لهم: إن عثمان رضي الله عنه طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب، وقال لعلي: قم فاضربه، فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين، ثم قال: أمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي2، فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب3. قال أبو بكر بن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عثمان بتولية الوليد بن عقبة: "وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به، قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة"4.

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/62-63، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/189. 2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 3/1331-1332. 3ـ منهاج السنة 3/188. 4ـ العواصم من القواصم ص/85-88.

ومن مطاعنهم في حق ذي النورين أنهم يقولون إنه استعمل سعيد بن العاس1 على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها2. والرد عليهم: يقال لهم: "مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب إخراجه فإن أهل الكوفة كانوا يقومون على كل وال، فقد قاموا قبله على سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة وغيرهما، وإذا قدر أنه أذنب فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك"3. ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح4 مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على

_ 1ـ هو: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي القرشي صحابي من الأمراء الولاة الفاتحين ربى في حجر عمر بن الخطاب وولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فلما بلغها خطب في أهلها فنسبهم إلى الشقاق والخلاف فشكوه إلى عثمان فاستدعاه إلى المدينة فأقام فيها إلى كانت الثورة عليه فدافع سعيد عنه وقاتل دونه إلى أن قتل عثمان فخرج إلى مكة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فعهد إليه بولاية المدينة فتولاها إلى أن مات وهو فاتح طبرستان، وأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، اعتزل فتنة الجمل وصفين ولد سنة ثلاث وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 5/30-35، الإصابة في تمييز الصحابة 2/45-46، الأعلام 3/149. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173. 3ـ منهاج السنة 3/188، وانظر المنتقى للذهبي ص/372. 4ـ هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري من بني عامر بن لؤي من قريش فاتح إفريقية وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، وولي مصر سنة 25هـ، بعد عمرو ابن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً زحف خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين بن علي وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع، ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب إلى طنجة ودانت له إفريقية كلها، وتوفي سنة سبع وثلاثين هجرية، انظر ترجمته في أسد الغابة 3/173 =

ولايته سراً خلاف ما كتب إليه جهراً وأمر بقتل محمد بن أبي بكر1. والرد على هذا الإفك: أنه من الكذب على ذي النورين، وقد حلف أنه لم يكتب شيئاً من ذلك2 وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً فذا من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعاً فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل. وأما قولهم أنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر، فهذ من الكذب المعلوم على عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وانصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل احداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم، دفعاً عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم ... بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة

_ = البداية والنهاية 7/340، الإصابة 2/308-309، الأعلام 4/220-221. 1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/60-61. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/356.

عند الناس1. فمروان له منزلة عظيمة عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين. قال أبو بكر بن العربي: "مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه2، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين3، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته، وأم الفقهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم"4. وما دام مروان بن الحكم تبوأ هذه المكانة، فيستبعد أن يكون زور كتاباً على عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرح ليقتل البغاة ومحمد بن أبي بكر وقد رد عثمان رضي الله عنه بنفسه على البغاة فيما نسبوه إليه من أنه كتب إلى واليه بمصر يأمره بقتلهم وقتل محمد بن أبي بكر، فلما رجع البغاة من طريقهم وكانوا قد اقتنعوا ببيان عثمان لهم فيما ادعوه عليه مما يعتقدونه مظالم ومناكير دخلوا عليه: "فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت ـ ثم قال ـ: وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم5، ولا يستبعد أن تزور الكتب في إثارة البغي على الخليفة عثمان

_ 1ـ منهاج السنة 3/188-189، وانظر المنتقى ص/392. 2ـ انظر الإصابة لابن حجر 3/455. 3ـ وفي مقدمة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/123، ونص ابن حجر على كثير ممن روى عنه من التابعين، انظر الإصابة 3/455. 4ـ العواصم من القواصم ص/89-90. 5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/356، وانظر العواصم من القواصم ص/109-110.

رضي الله عنه كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي جميع الأحوال، فقد كذبوا أنهم تلقوا رسائل من الصحابة أرسلوها إلى الآفاق للقيام بالثورة على عثمان. قال الحافظ ابن كثير: "وروى بن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر ـ أبو الأعور السلمي ـ على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذا الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه ـ ثم قال مبيناً حكمه على مثل هاتين الروايتين: "وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير ـ إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضاً"1. فإذا كان أولئك البغاة المفسدون زوروا رسائل باسم الصحابة جميعاً فلا يشك عاقل أنهم من وراء تزوير الكتاب على عثمان وعلى مروان. قال محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي2: "وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة". وبهذا الرد يبطل تعلق الرافضة بالطعن على عثمان بالكتاب المزعوم الذي يقولون إنه وجد مع راكب أو مع غلامه إلى ابن أبي سرح عامله بمصر. ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: "زعمهم أنه ولى معاوية

_ 1ـ البداية والنهاية 7/192. 2ـ العواصم من القواصم ص/109.

فأحدث من الفتن ما أحدث"1. ويرد على هذا الزعم: "أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولايته عثمان وزاده عثمان في الولاية، وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه ... وإنما ظهر الإحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان، ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد من الشر من كثير منهم، ومعاوية كان خيراً من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيدا لله بن عمر، ومن أبي الأعور السلمي، ومن بشر بن أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما"2. قال أبو بكر بن العربي راداً على طعن الرافضة بتوليته معاوية حيث قال: "وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتلعق عثمان بعمر وأقره، فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها ابداً بعدها"3. ومما طعنوا به على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنه ولى عبد الله بن عامر4 البصرة ففعل من المناكير..............

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة ص/63. 2ـ منهاج السنة 3/189، والمنتقى للذهبي ص/393. 3ـ العواصم من القواصم ص/80-81. 4ـ هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة الأموي أبو عبد الرحمن أمير فاتح ولي البصرة في أيام عثمان سنة 29هـ، وافتتح بلداناً كثيرة من بلاد فارس أيام إمارته على البصرة، وقتل عثمان وهو ما زال والياً عليها، وشهد وقعة الجمل مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وولاه معاوية البصرة بعد اجتماع الناس على خلافته ثم صرفه عنها فأقام بالمدينة، وكانت ولادة عبد الله هذا سنة أربع وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 5/44-49، الكامل لابن الأثير =

ما فعل"1. والجواب على هذا: "أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر وإذا فعل منكراً فذنبه عليه، فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله"2؟. قال أبو بكر بن العربي: "وأما عبد الله بن عامر بن كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمات والخالات"3. ومما نقموا به على عثمان ـ رضي الله عنه ـ: زعمهم أنه ولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتن بين الأمة ما حدث4. ويرد على هذا الزور: يقال لهم: "إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان، وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمرهم بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك، ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أموراً أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطي احداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يبق لهم طلب.

_ = 3/526، تهذيب التهذيب 5/272-274، الأعلام للزركلي 4/228. 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189. 2ـ منهاج السنة 3/189-190. 3ـ العواصم من القواصم ص/83-84. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/31.

ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة: "مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه"1. ومن مطاعنهم في حق عثمان ـ رضي الله عنه ـ تقولهم عليه: "إنه كان يؤثر اهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار"2. والرد على هذا: يقال لهم: أولاً أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاءاً كثيراً، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان محسناً إلى جميع المسلمين، وأما هذا الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت. ثم يقال لهم ثانياً: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان، ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف، وذكروا أنه لم يعط أحداً قدر هذا قط. ثم يقال لهم: ثالثاً: كان له تأويلان في إعطائه أهل بيته، وكلاهما مذهب طائفة من الفقهاء. أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، حيث قالوا: إن ذوي القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده، وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر

_ 1ـ منهاج السنة 3/190، وانظر قول عائشة في تاريخ خليفة بن خياط ص/176. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/49، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/32، حق اليقين لعبد الله شبر 1/189-190.

قبائل قريش، ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم، والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال، مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولي قربى الإمام وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. هذا أحد التأويلين. والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال، وقد قال الله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 1، والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين2، فلا وجهة لطعن الرافضة على عثمان بأنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال الكثيرة، فإنه واضح البطلان بل ثبت عنه رضي الله عنه أن عطاءه لهم كان من ماله الخاص3. ومما نقمت به الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه عمد إلى الصحف فألف منها هذا المصحف الذي في أيدي الناس وأحرق المصاحف الباقية ويزعمون أن هذا منكر واستخفاف بالدين ومحادة لرب العالمين مع أن ابن مسعود قد رووا في ترجيح قراءته أخباراً كثيرة مع أن هذا الفعل لو كان حسناً لفعله من قبله4. يقال لهم: "إن جمع عثمان للقرآن الكريم يعد من حسناته العظمى ومناقبه الكبرى، وإن كان وجد الصحف كاملة لكنه أظهرها ورد الناس إليها وقطع مادة الخلاف فيها، وما ذلك إلا نفوذ لوعد الله بحفظ القرآن الكريم على يديه، وقد بدأ بجمع القرآن وحفظه في الصحف من قبله أخواه الصديق والفاروق رضي الله

_ 1ـ سورة التوبة آية/60. 2ـ منهاج السنة 3/190-191. 3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347-348، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/262-263. 4ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/52-53، حق اليقين 1/191.

عنهما، وذلك عندما استحر القتل يوم اليمامة بحفظة القرآن من الصحابة، فقد أمر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن فتتبعه من العسب1 واللخاف2 وصدور الرجال حتى أنه وجد خاتمة سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، ولم يجدها مع أحد سواه وذلك من قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف بعد ذلك عند الصديق حتى قبضه الله، ثم عند الفاروق حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر3 حتى قدم حذيفة بن اليمان على ذي النورين وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق4. قال ابن شهاب: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: "فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها..فالتمسنا فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ

_ 1ـ العسب: جمع عسيب: أي: جريدة النخل وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. النهاية في غريب الحديث 3/234. 2ـ اللخاف، جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق كانوا يكتبون عليها إذا تعذر الورق. النهاية في غريب الحديث 4/244. 3ـ انظر صحيح البخاري 3/225. 4ـ انظر حديث حذيفة هذا في صحيح البخاري من حديث أنس 3/225-226.

الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف"1. وأما ما روي أنه حرقها أو خرقها ـ وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما ينسخ منه، أو على غير نظمه فقد سلم في ذلك الصحابة كلهم2. وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3، فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه لما في ذلك من المصلحة وجمع الكلمة وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين4. هذا هو الموقف الحق الذي وقفه ابن مسعود عندما جمع ذو النورين القرآن الكريم، فقد كان رضي الله عنه مطيعاً لإمامه الراشد موافقاً له غير مخالف، ولكن الشيعة لما عميت بصائرهم وهم قوم لا عقول لهم حيث يجعلون المناقب مثالب، وإلا فجمع عثمان للقرآن من أعظم مناقبه رضي الله عنه، وقد بذل بهذا العمل جهداً عظيماً في خدمة الدين والعناية بالقرآن، قد كانت كما تقدم مما تشرف بها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر وأتمها ذو النورين بجمعه للقرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، وبهذا كان للخلفاء الثلاثة أعظم منة على المسلمين وبها حقق الله وعده في قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5.

_ 1ـ انظر حديث ابن شهاب هذا في المصدر السابق 3/226. 2ـ العواصم من القواصم ص/66-71. 3ـ سورة آل عمران آية/161. 4ـ البداية والنهاية 7/237. 5ـ سورة الحجر آية/9.

وقد زجر الإمام علي رضي الله عنه الناس الذين يعيبون على عثمان أنه حرق المصاحف المخالفة لما جمعه وبين أن عثمان لو لم يفعل ذلك لفعله، فقد قال رضي الله عنه: "أيها الناس إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولى لفعلت مثل الذي فعل"1. وقد تولى رضي الله عنه الخلافة بعد الثلاثة، فأمضى عملهم وأقر مصحف ذي النورين برسمه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به الخلفاء الثلاثة هو أعظم حسناتهم، رضي الله عنهم أجمعين، فلا مسوغ للرافضة بالطعن على عثمان بسبب جمعه القرآن وتوحيده تلاوته ورسمه، إذ ذلك لا يدعو إلى الطعن عليه وإنما يعد هذا طعناً أهل الحمق والخذلان، وأما أهل العلم والإيمان فإنهم يعدون ذلك من مناقبه العظمى وخصاله الكبرى رضي الله عنه وأرضاه. ومن مطاعنهم عليه رضي الله عنه أنهم: "يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات"2. والرد على هذا: أنه من الكذب البين على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة قال ابن مسعود: "أمرنا خير من بقي ولم نأله"3.

_ 1ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/236. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/51-52. 3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر المستدرك 3/97، والرد على الرافضة لأبي نعيم، ص/307، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/154.

ويروى أنه قال: "ولينا أعلاناً ذا فوق ولم نأل"1، وكان عثمان في السنة الأولى من ولايته لا ينقمون منه شيئاً، ولما كانت السنة الآخرة نقموا منه أشياء كان معذوراً فيها، ومن جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض عثمان كتابته إلى زيد دونه وأمر أصحابه أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك الصديق والفاروق لجمع المصحف في الصحف، فندب عثمان من ندبه الشيخان وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل ـ عليه السلام ـ عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين2 ... فكان ذو النورين في هذا على حق كما يعلم وكما يعلم سائر الصحابة مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه، وكان أيضاً: على حق في أمره بغسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف عبد الله بن مسعود لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان هو من أجل أعمال عثمان بإجماع الصحابة الكرام، ولذلك كانوا معه دون ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً. وأما زعمهم: أنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات، "فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما ولي أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً"3. قال أبو بكر بن العربي: "وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور"4. فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه فإنه لم

_ 1ـ منهاج السنة 3/191، ومعنى قول ابن مسعود "ولم نأل": أي: لم نقصر في اختيار الأفضل. 2ـ منهاج السنة 3/191. 3ـ المصدر السابق 3/192. 4ـ العواصم من القواصم ص/63.

يضربه عثمان ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة، لكن المبتدعة من أهل الرفض "غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة، فكيف يفسق بها أولئك1 رضي الله عنهم أجمعين. ومن مطاعنهم على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون: إنه ضرب عمار بن ياسر حتى صار به فتقاً، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "عمار جلدة ما بين عيني" ... وكان عمار يطعن عليه2. والرد على هذه القصة: أنها إفك واضح ولو حصل له ما ذكر ما عاش إلى أن قتل شهيداً في موقعة صفين3. وقد ذكر ابن جرير الطبري: عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب4، وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل الفاروق مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين5. ولما بث السبئيون الإشاعات حول عمال عثمان وصاروا يرسلون الكتب

_ 1ـ منهاج السنة 3/191. 2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/53-54، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190. 3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/38-42. 4ـ المصدر السابق 4/399. 5ـ المصدر السابق 4/212.

من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة أشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال تناسى عثمان ما كان من عمار وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها فأبطأ عمار في مصر، والتف حوله السبئيون ليستميلوه إليهم فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء بعمار إلى المدينة مكرماً وعاتبه ذو النورين لما قدم عليه، فقال له: على ما رواه الحافظ ابن عساكر: "يا أبا اليقظان قذفت أبي أبي لهب أن قذفك ... وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي أخرج عني يا عمار، فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقر بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه"1. وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "عمار جلدة ما بين عيني" لا يعرف له إسناد2. وزعمهم أنه كان يطعن على عثمان فعلى تقدير أنه حصل منه فليس جعل ذلك قدحاً في عثمان بأولى من جعله قدحاً في عمار، وإذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيما صدر منه يثبته الله على حسناته ويغفر له خطأه، وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلاً منهما ولي الله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل منهما لا يعذبه الله عليه في الدار الآخرة. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بياناً شافعاً ما يجب على المسلم التزامه فيما جرى من كلام بين الصحابة لبعضهم بعضاً، حيث قال رحمه الله: "وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن

_ 1ـ تهذيب التهذيب دمشق 7/432. 2ـ منهاج السنة 3/194.

غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة، فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله، لهذا أوصوا1 بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك ... لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ـ أي في عمار ـ نقل أن عماراً قال: "لقد كفر عثمان كفرة صلعاء" فأنكر الحسن بن علي على ذلك عليه، وكذلك علي، وقال له يا عمار: أتكفر برب آمن به عثمان؟. قال شيخ الإسلام: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ويكون مخطئاً في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"2، وكما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لحاطب بن أبي بلتعة: "دعني يا رسول أضرب عنق هذا المنافق" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3، فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال، مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمر قال ذلك، ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن

_ 1ـ الضمير يعود إلى سلف الأمة وأئمتها. 2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 4/3124. 3ـ انظر المصدر السابق 4/1941-1942.

مسعود أو عماراً فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين، وإن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع1 فإن عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيباً في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك، وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقاً، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة، وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين، وقد كان محتسباً في شهادته معتقداً أنه يثاب على ذلك، وعمر أيضاً: محتسب في إقامة الحد عليه مثاب على ذلك، فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب2، فلا طريق للشيعة للطعن على عثمان بزعمهم أنه ضرب عماراً إذ أنهم يذكرون قصصاً غير ثابتة وحتى لو ثبت ذلك فللأئمة أن يؤدبوا رعيتهم إذا رأوا ذلك واجباً لهم، فقد اقتص النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وأقاد3، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا رعيتهما باللطم والدرة وأقادا من نفسيهما4، وأما عثمان رضي الله عنه فنقم عليه ما لم ينقم على أحد منهم"5. ومن مطاعنهم في حق ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون إن

_ 1ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/317. 2ـ منهاج السنة 3/192-193. 3ـ انظر مصنف عبد الرزاق 9/466، وانظر الرد على الرافضة لأبي نعيم ص/315. 4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/316-317. 5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/315.

النبي صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1. والرد على طعنهم بهذه القصة: يقال لهم: إن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفي رجل ومروان ابنه كان صغيراً إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها ... وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً ... وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه2 فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم أن ذنبه دون دنب3 عبد لله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت

_ 1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50-51، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين 1/189، والآية رقم 22 من سورة المجادلة. 2ـ انظر ما جاء في شأن ابن ابن أبي السرح، الإصابة 2/308-309. 3ـ انظر ما جاء في قصة نفيه. أسد الغابة 2/37، سير أعلام النبلاء 2/107-108، الإصابة 1/344-345.

مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثرون الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته1. قال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان ما احتج به الرافضة على عثمان بقصة الحكم: "ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة"أهـ2. وقال أبو بكر بن العربي مبيناً جواب أهل العلم على من طعن على عثمان برده الحكم: "وقال علماؤنا في جوابه قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ـ أي عثمان ـ لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ولا لينتقض حكمه3، وبرد أهل العلم تبين فساد وبطلان زعم الرافضة على عثمان بأنه خالف ما يقتضيه الشرع برده الحكم بعد نفيه. ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: إنه

_ 1ـ منهاج السنة 3/195-197. 2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/154. 3ـ العواصم من القواصم ص/77، وانظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير، ص/131-134.

ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزن مولى علي وكان قد أسلم على يد علي رضي الله عنه، ويزعمون أن علياً طلب من عثمان لما ولي الخلافة تسليمه عبيد الله بن عمر ليقيم عليه الحد فامتنع من ذلك1. والرد على طعنهم بهذه القضية: يقال لهم: "دعواكم أنه كان مولى لعلي: هذا كذب لم يكن مولى لعلي وإنما أسره المسلمون فمن عليه عمر فأعتقه وأسلم ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل وكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر، وقد قال الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي مخاطباً ابن عباس كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج2 بالمدينة، فقال: إن شئت أن نقتلهم، فقال: كذبت، أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم3 فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبيد الله بن عمر جواز قتل الهرمزان، فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة بعدم قتله وقالوا له: قتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم4 فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل، كما أن

_ 1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/58-59، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، مقدمة مرآة العقول 1/48. 2ـ العلوج جمع علج وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، النهاية في غريب الحديث 3/286. 3ـ صحيح البخاري 2/298. 4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك في قصة مشاورة عثمان المهاجرين والأنصار في شأن عبيد الله بن عمر: 4/239.

أسامة بن زيد لما قتل الرجل بعد ما قال لا إله إلا الله اعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولاً1 لكن الذي قتله أسامة كان مباحاً قبل القتل فشك في العاصم، وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولاً يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص، وأيضاً فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون بدمه وإنما وليه ولي الأمر وله القتل أو العفو أو الدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال2. وأما دعواهم أن عثمان امتنع عن قتل عبيد الله بن عمر، فهذا كذب وزور على عثمان رضي الله عنه، وقول بالباطل وأن أحداً لم يطلب من عثمان ذلك لا علي ولا غيره. قال أبو بكر بن العربي: "وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه3، وكان قتل عبيد الله له، وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضاً: فإن أحداً لم يقم بطلبه وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح"4. "ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان لا حرمة له وهو إمام المسلمين

_ 1ـ انظر حديث أسامة في صحيح مسلم 1/96-98. 2ـ منهاج السنة 3/199-202. 3ـ انظر ثبوت تآمر الهرمزان مع أبي لؤلؤة المجوسي وجفينة النصراني على قتل عمر. تاريخ الطبري 4/240. 4ـ العواصم من القواصم ص/107-108.

المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبيين"1. فطعن الرافضة على عثمان بقصة عبيد الله بن عمر مع الهرمزان غير مستقيم ولا يقبل ولا له وجه يقويه إذ "من أعان على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجباً ولكن قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه"2. ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه: "أنهم يكذبون عليه بأنه نفى أبا ذر من المدينة، وأخرجه منها إلى الربذة"3. والرد على طعنهم عليه بهذه القصة: أنه رضي الله عنه لم يفعل ما اختلقوه في هذه القصة، وإنما أبو ذر هو الذي اختار أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان رضي الله عنه على ذلك وأكرمه وجهزه بما فيه راحته. قال أبو بكر بن العربي: "وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل، كان أبو ذر زاهداً وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم وهو غير لازم. قال ابن عمر5 وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز فوقع

_ 1ـ منهاج السنة 3/202. 2ـ منهاج السنة 3/202. 3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/55-57، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173. 4ـ سورة التوبة آية/34. 5ـ انظر صحيح البخاري 2/244.

بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام1، فخرج إلى المدينة فاجتمع الناس فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: "لو اعتزلت" معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها2 ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً وترك جلة فضلاء وكل على خير وبركة وفضل وحال أبي ذر أفضل ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على طعن الرافضة على عثمان بقصة أبي ذر، قال: "فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال: يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"5. ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب6 ووافق عثمان فضربه

_ 1ـ انظر تاريخ الطبري 4/283. 2ـ لقد أحسن القول فيها أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة فليرجع إليه. 3ـ العواصم من القواصم ص/73-75. 4ـ سورة التوبة آية/34. 5ـ انظر لفظ الحديث في صحيح البخاري 3/56، صحيح مسلم 2/687-688. 6ـ هو كعب الأحبار كما في تاريخ الطبري 4/284.

أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك. وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة"1 فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجاً إليها أم لا. وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه، وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن، ولا يكون الميزان إلا لمن خلف مالاً وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذهمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب، إنما قال: "ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء" فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه، وكذا قوله "المكثرون هم المقلون" دليل على أن من كثر ماله، قلت حسناته يوم القيامة، إذا لم يكثر الإخراج منه، وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويماً تاماً فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان

_ 1ـ انظر صحيح البخاري 2/244، صحيح مسلم 2/673-675.

مع أبي ذر غرض من الأغراض"1. فلو تفهم الشيعة الرافضة قصة أبي ذر من أساسها وبدايتها لعلموا أن أبا ذر هو الذي اختار سكنى الربذة، وأن عثمان لم يأمره بالخروج من المدينة، ولا نفاه إلى الربذة كما يزعمون، ومما يؤيد هذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا، قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل2. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: "وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره"3. وروى ابن جرير من حديث طويل عن يزيد الفقعسي4 وفيه أن أبا ذر قال لعثمان: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شراً منها، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً، قال: فانفذ لما أمرك به، قال: فخرج حتى نزل الربذة فخط بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمة5 من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى

_ 1ـ منهاج السنة 3/198. 2ـ صحيح البخاري 2/244. 3ـ فتح الباري 3/274. 4ـ لم أعثر له على ترجمة. 5ـ الصرمة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين. النهاية في غريب الحديث 3/27.

لا ترتد أعرابياً ففعل"1. وقال الإمام الذهبي: "وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: "والله ما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها" 2. وقال الحسن البصري: "معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان"3. وقال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: "خرج أبو ذر إلى الربذة من قبل نفسه"4. ففي ما تقدم كفاية في البرهان على كذب الرافضة على عثمان رضي الله عنه من أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن أبا ذر خرج من المدينة إلى الربذة باختياره وأنه استأذن عثمان في ذلك، فأذن له وأكرمه عثمان وجهزه بما يحتاج إليه حيث أقطعه صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه وأمره بتعاهد المدينة ففعل رضي الله عنه وعن عثمان وعن سائر الصحابة الكرام. ومما نقموا به على عثمان رضي الله عنه: " أنه أخرج أبا الدرداء من بلاد الشام"5. والرد على هذا: أنه وقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضيا ـ في دمشق6 ـ فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزل عن القضاء، فتوجه إلى المدينة، وهذه كلها مصالح لا تقدح في

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284. 2ـ انظر الحديث في تاريخ الطبري 4/284. 3ـ المنتقى ص/396. 4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284. 5ـ ذكر هذا ابن العربي في العواصم من القواصم ص/62. 6ـ انظر الإصابة 3/46.

الدين ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل نقص وعيب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سبباً فهو كله باطل"1، فلا حجة للرافضة في طعنهم على عثمان رضي الله عنه بقصة أبي الدرداء، فإنه رضي الله عنه أراد أن يحمل الناس على التزام سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنهم لا طاقة لهم عليها وهذا اجتهاد منه وهو مأجور عليه، ولقد حاول معاوية أن يسير على طريقة عمر رضي الله عنه فسار على ذلك عامين، ثم لم يستطع بعد. فقد نقل الحافظ ابن كثير عن محمد بن سعد أنه قال: حدثنا عارم حدثنا حماد بن يزيد عن معمر عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم أنه بعد عن ذلك"2. فأبو الدرداء رضي الله عنه أراد أن يحمل قوماً على السير على طريقة عمر وهم غير مطيقين لذلك فعزل من ولاية القضاء لمصلحة أدركها عثمان رضي الله عنه وعزله لا يقدح في الدين ولا يؤثر في مكانته ولا مكانة أحد من المسلمين. ومن الأمور التي نقمتها الرافضة على عثمان ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون: "إنه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها"3. والرد على هذا الهراء: أن الحمى لم يكن ذو النورين ابتدأه، فقد كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد كان الرئيس منهم إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه"4، فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،

_ 1ـ العواصم من القواصم ص/77. 2ـ البداية والنهاية 8/142. 3ـ كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191. 4ـ فتح الباري 5/44.

واختص الحمى ببهائم الصدقة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ولرسوله"1، وورد أنه صلى الله عليه وسلم حمى مكاناً يسمى "النقيع"2، ومما هو معلوم أن الحال استمر في خلافة الصديق على ما كان عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن الصديق لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في عهده صلى الله عليه وسلم على الرغم أن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل، وفي زمن الفاروق اتسع الحمى فشمل "الشرف"3 و"الربذة" وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما"4، وكما اتسع عمر رضي الله عنه في الحمى عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع دولة الإسلام، وازدياد الفتوح. قال العلامة ابن العربي في صدد رده على الطاعنين عليه بمسألة الحمى، قال: "وأما الحمى فكان قديماً فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الراعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت لزيادة الحاجة"أ. هـ5. فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى عليه الشيخان يجوز مثله لبيت المال في زمن ذي النورين، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن

_ 1ـ صحيح البخاري 2/53. 2ـ المصدر السابق 2/53، والنقيع في المدينة على عشرين فرسخا منها انظر: معجم البلدان 5/299، فتح الباري 5/45. 3ـ قال ياقوت: وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن فما كان مشرفاً فهو الشريف وما كان مغرباً فهو الشرف. معجم البلدان 3/236. 4ـ انظر صحيح البخاري 2/180. 5ـ العواصم من القواصم ص/72-73.

نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً، وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة أكذلك؟، قالوا: اللهم نعم"1. ومما نقمته الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون "إنه أبطل سنة القصر في الصلوات أثناء السفر، وقالوا إنه "مخالف للسنة ولسيرة من تقدمه"2. والرد على طعنهم عليه بهذه المسألة: يقال لهم: إن تركه القصر كان اجتهاداً منه رضي الله عنه، إذ بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر في الصلاة، حتى كانوا يفعلون ذلك في منازلهم فرأى رضي الله عنه أن السنة قد تؤدي إلى إسقاط الفريضة، فترك القصر خشية أن يتذرع الناس بذلك، وكان هذا في منى في موسم الحج سنة تسع وعشرين، وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا: في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذ بمكة أهلاً ـ أي: أنه صار في حكم المقيم لا المسافر ـ فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عنده، فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك، فقال ابن مسعود: "الخلاف شر قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً"، فقال عبد الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347. 2ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/63.

بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول يعني: نصلي معه أربعاً"1. ثم أيضاً يقال لهم: إن جماعة من العلماء قالوا: "إن المسافر مخير بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة"2. فقد روي عن جماعة منهم إتمام الصلاة في السفر، منهم عائشة، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر". قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟، قال: تأولت ما تأول عثمان"3. وروى الإمام أحمد بسنده عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم معاوية حاجاً قدمنا معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك، قال: فقالا له ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال: فقال لهما ويحكما وهل كان غير ما صنعت قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قالا: فابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر، فصلاها بنا أربعاً"4.

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/268. 2ـ انظر العواصم من القواصم ص/79-80. 3ـ صحيح البخاري 1/192. 4ـ المسند 4/94.

وكما هو ظاهر هذا الحديث أن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن القصر رخصة وأن المسافر مخير بين القصر والإتمام، ولذلك صلى العصر أربعاً. فلا وجه للرافضة يسوغ لهم الطعن على عثمان بإتمامه ما صلاه من الرباعية أثناء سفره للحج سنة 29، إذ كان ذلك اجتهاداً منه حيث بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر، وعمدوا إلى فعل ذلك في منازلهم فأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن سنة القصر ربما أدت إلى إسقاط الفريضة فتركها سداً للذريعة وهو مأجور على هذا الاجتهاد أصاب أم أخطأ. ومما طعن به الرافضة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه انهزم يوم حنين وفر يوم أحد وتغيب عن بدر وبيعة الرضوان"1. والرد على طعنهم عليه بهذا: يقال لهم: "أما طعنكم عليه بيوم حنين، فإنه لم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال، منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم، فناهيك بهذا الاختلاف وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة وقد عفا الله عنه ورسوله فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون"2، وأما طعنهم عليه بقولهم إنه فرّ يوم أحد فيجاب عنه أيضاً:، بأن الله ـ جل وعلا ـ عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان

_ 1ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/34، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173. 2ـ العواصم من القواصم ص/103-104.

إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده، فقال: "هذه لعثمان" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على الرافضي: "يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه على ابنته صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يد نفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت، فكان عثمان شريكاً في البيعة، مختصاً بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فامتنع من ذلك، وقال: حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه، وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة، فهم يحمونه، وأما التولي يوم أحد فقد عفا الله عن جميع المتولين فيه فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته"2، فلا وجه لطعن الشيعة الرافضة على عثمان بما حصل يوم حنين، إذ أنه لم يرد تفصيل لمن بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، بل حصل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما حصل من أنه فر يوم أحد فقد عفا الله عنه وغفر له، هو وغيره ممن حصل منه ذلك، وغيابه عن بدر إنما كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث خلفه لتمريض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت زوجة لعثمان حينذاك ولم يفته خير هذه الغزوة، فقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بأجره وسهمه فيها فكان كمن حضرها، وبيعة الحديبية التي ينقم الرافضة على عثمان تغيبه عنها إنما كانت بسبب عثمان وانتصاراً له، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلوه، وقد كان لعثمان الشرف العظيم

_ 1ـ هذا ما رد به ابن عمر على أحد المصريين الطاعنين على عثمان بما ذكر. انظر صحيح البخاري 2/297. 2ـ منهاج السنة 3/206-207.

في هذه البيعة ذلك أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في عقد البيعة عنه وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان، فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته، ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بيده يوم الحديبية لكفاه. ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أحدث أذاناً يوم الجمعة زائداً على أذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بدعة محرمة حتى صار سنة يعمل به بعده إلى اليوم"1. والرد على هذا الهراء: أن علياً رضي الله عنه كان أحد الموافقين على هذا الأذان في حياة عثمان وبعد قتله، ولهذا لما صار خليفة للمسلمين لم يأمر بإزالته كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره، ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقالتهم، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه، فإن زعموا أن الناس كانوا لا يوافقونه على إزالتها يقال لهم: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وأكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر ذلك، ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان"2. ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن كل الصحابة تبرؤوا من عثمان فكانوا بين قاتل له وراض بقتله، ويزعمون أيضاً: أن

_ 1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192. 2ـ انظر منهاج السنة 3/204.

عليّاً سكت عن قتل عثمان، ولم ينه عنه وسكوته دال على رضاه بقتله، ويزعمون أيضاً: أنهم تركوه ملقى بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن"1. والرد على هذا: أنه كذب صريح وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلاً عن ذوي العرفان، وما نشب القتال في موقعتي الجمل وصفين بين الصحابة وسقط فيهما الآلاف منهم إلا من أجل إقامة القصاص على قتلة عثمان. والثابت في كتب التواريخ أن الصحابة كلهم لم يألوا جهداً في دفع البلوى عنه حتى استأذنوه في قتال المحاصرين له فلم يرض لهم بذلك وعزم عليهم أن لا يراق فيه محجم من دم. فقد روى خليفة بن خياط بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال: "لا حاجة لي في ذلك كفوا"2. وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: "إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال: "أذكر الله رجلاً أهراق في دمه، أو قال: دماً". وروى بإسناده إلى عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: "أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه". وروى بإسناده إلى محمد بن سيرين، قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان:

_ 1ـ انظر حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/189، 192، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33. 2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/173.

"أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم". وبإسناده أيضاً: إلى محمد بن سيرين قال: قال سليط بن سليط: "نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها". وروى بإسناده إلى أبي هريرة قال: "قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك"، قال: "أعزم عليك لتخرجن"1. وروى ابن سعد وغيره إلى زهدم الجرمي، قال: خطب ابن عباس رضي الله عنه، فقال: "لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء"2. فهذه الآثار فيها تكذيب للشيعة الرافضة، فيما يزعمون من أن الصحابة كلهم تبرؤوا من عثمان، وكانوا راضين بقتله، ولذلك لم ينصروه ولم ينكروا على محاصريه ولم يستعدوا لمدافعتهم ومقاتلتهم، وكما هو واضح من هذه الآثار أنهم أنكروا وبذلوا أنفسهم للدفاع عن عثمان ومقاتلتهم، ولكن أولئك المحاصرين له لم يظهروا قتله وإنما كانوا يظهرون المعيبة عليه ومع ذلك فلم يكن لهم أن يستبدوا برأي في أمرهم إلا بأمر من خليفتهم وأميرهم عثمان رضي الله عنه، وكان يمنعهم من ذلك ويعزم عليهم أن لا يسفك قليل من الدم بسببه3. قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بالمتواتر أن عثمان رضي الله عنه كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروي أنه قال

_ 1ـ انظر هذه الآثار الخمسة في تاريخ خليفة بن خياط ص/173-174. 2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/80، الإمامة والرد على الرافضة ص/333. 3ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/331.

لمماليكه: "من كف يده فهو حر"، وقيل له: تذهب إلى مكة، فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين"1. وأما زعمهم: أن الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله، فهذا كذب قبيح لم يقله أو يعتقده إلا إنسان من الرافضة أو ابتلي بمعلم منهم فالذين قتلوا عثمان لم يكن بينهم أحد من الصحابة ولله الحمد وإنما قتلته كانوا من أوباش القبائل ومن أهل الإفساد والفتن تأثروا بضلالات ابن سبأ اليهودي فقد روى خليفة بن خياط بسنده، فقال: حدثنا عبد الأعلى بن الهيثم قال: حدثني أبي، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟، قال: لا، كانوا أعلاجاً من أهل مصر"2. قال أبو بكر بن العربي: "إن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلدين أو أكثر من ذلك ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة"3. قلت: لأنه رضي الله عنه اختار أخف الشرين وآثر أن يقتل هو خشية أن تتسع دائرة الفتنة ويعظم سفك دماء المسلمين، ومع ذلك لم يحسن مبغضوا الصحابة جزاءه وإنما رموه بمفتريات كثيرة كان محجوباً فيها بغير حجة، وهنا يقال: للشيعة الرافضة بعد هذه الأخبار المتقدمة: أين تبرؤ الصحابة من عثمان ومن منهم كان بين قاتل له وراض بقتله ألا تستحيون من الرجم بالغيب كذباً وزوراً وبهتاناً.

_ 1ـ منهاج السنة 3/202-203. 2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/176. 3ـ العواصم من القواصم ص/136-137.

ويرد على زعمهم "أن علياً كان راضياً بقتل عثمان، وسكوته دل على رضاه بقتله". يقال لهم: حاشا وكلا إن علياً صدر منه هذا أو كان هذا موقفه عندما قتل وأن هذا الموقف الذي يذكره الشيعة الرافضة عنه إنما هو من إفكهم واختلاقهم عليه إذ الثابت عنه لعن قتلة عثمان، وبلغ به الحزن مبلغه عندما بلغه قتله وتبرأ من دمه، فلقد ذكر ابن جرير الطبري: أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الجمل: "أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟، فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم فأقبل يدعو ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم"1. وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: شهدت علياً رضي الله عنه يوم الجمل يقول كذا: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وأرادوني على البيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد "فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس إلي فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي"2. وذكر الحافظ ابن كثير عن الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية أن علياً دخل على عثمان فوقع عليه وجعل ييكي حتى ظنوا أنه سيلحق به". وقال: وقال الثوري وغيره عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/513. 2ـ المستدرك 3/103.

عثمان: "والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت"1. فهذه الآثار الثابتة عن علي فيها بطلان ما ادعته الرافضة من أن علياً رضي الله عنه كان راضياً بقتل عثمان، وأن قولهم هذا كذب وزور، فقد تواترت الأخبار عن علي بخلافه. قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث والله الحمد والمنة، وثبت عنه أيضاً: من غير وجه أنه قال: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .2 وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال: كان عثمان من الذين {اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 3. وفي رواية أنه قال: "كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم وأشدنا حباً وأحسننا طهوراً وأتقانا للرب عز وجل"4. فهذا موقف علي رضي الله عنه من ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ ومكانته عنده، فإن موقفه منه كان موقفاً شريفاً كريماً، لم تهتد الشيعة الرافضة لمعرفته، ولذلك يطعنون في علي بما يظنونه مدحاً وما ذلك إلا لفرط جهلهم وعدم معرفتهم بما كان عليه السلف الصالح من الاحترام والإجلال لبعضهم بعضاً.

_ 1ـ البداية والنهاية 7/212. 2ـ سورة الحجر آية: 47. 3ـ من الآية رقم 93 من سورة المائدة. 4ـ البداية والنهاية 7/212.

وأما زعمهم أن عثمان رضي الله عنه "ترك ملقي بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن". فهذا أيضاً: زور وبهتان، فقد قال الزبير بن بكار: "بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء1 يعني من نفس اليوم، وذلك سنة خمس وثلاثين2، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو المظنون بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنه لا يدخل في عقل أي إنسان سلم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاؤوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وما ذكر من الأقوال غير هذا فإنه لا يؤمن أنها من دس الشيعة الرافضة، الذي يقصدون منه التشنيع والطعن على خيار الأمة وحسبنا من مطاعن الشيعة على ذي النورين ما تقدم ذكره ولهم مطاعن فيه غير هذه المطاعن3 وكلها أباطيل وأكاذيب مفتراة من جنس ما تقدم في هذا المبحث، ومما يجدر التنبيه عليه أن مطاعنهم على الخصوص ليست قاصرة على الخلفاء الثلاثة بل اختلقوا مطاعن خاصة بكل واحد من العشرة4 المبشرين بالجنة حتى علي رضي الله عنه، ينسبون إليه قصصاً يظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة عيب فيه، وتنقص له من حيث لا يشعرون5، وقد اقتصرت على رد مطاعنهم في

_ 1ـ ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/459. 2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك: 4/415، الكامل في التاريخ 3/179، البداية والنهاية: 7/186، وما بعدها. 3ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: 3/30 – 40، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 1/49-63، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة: 3/173، حق اليقين: 1/189-195. 4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 2/60 وما بعدها. 5ـ من القصص التي يذكرونها ويظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة طعن فيه وقذف له بالكذب والأساطير المفتراة ما حكاه نعمة الله الجزائري في ذكره سبب تحريم عم المتعة حسب زعمه حيث قال:

الخلفاء الثلاثة في هذه المباحث المتقدمة لأن الثلاثة يعتبرون صدر الأمة المحمدية وهم وعلي الذين أمرنا باتباع سننهم والاقتداء بآثارهم، وقد تبين مما تقدم أن مطاعنهم في الخلفاء الثلاثة كلها أكاذيب مفتراة لم يستقم لهم منها شيء وكلها منشؤها يرجع إلى أمرين اثنين: إما نقص العلم وإما نقص الدين 1 لا شيء غيرها أعاذنا الله من الخذلان.

_ 1ـ انظر: منهاج السنة 3/141.

المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن لم تسلم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً من طعن الشيعة الرافضة ومن تنقصهم وعيبهم، فقد استحوذ الشيطان عليهم وتمكن منهم وحملهم على أن قالوا فيهن قولاً عظيماً، وأكثر ما طعنوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما يدل على خبث قلوبهم وعلى فساد عقولهم وليكن البدء في هذا المبحث بما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها، ثم نذكر ما قالوه من الطعن فيهن عموماً. فمن مطاعنهم على عائشة رضي الله عنها: أنهم لم يرضوا تسميتها أم المؤمنين وزعموا أن الذي سماها بهذا الاسم هم أهل السنة والجماعة قال ابن المطهر الحلي: "وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك الاسم"1. والرذ على هذا الهذيان: أنه من البهتان الواضح الظاهر لكل إنسان ولا يصدر هذا الإنكار إلا من معاند لما في كتاب الله عز وجل، "إذ من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين، وعائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حيي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهن، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيره

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/198. 2ـ سورة الأحزاب آية/6.

وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه"1. فالله تبارك وتعالى هو الذي سمى عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين، وليس أهل السنة والجماعة هم الذين سموا عائشة بأم المؤمنين كما يزعم ذلك الشيعة الرافضة إذ لما عميت بصائرهم عما دل عليه الكتاب وانضم إلى ذلك جهلهم ظنوا أن أهل السنة والجماعة هم الذين سموها بذلك الاسم، ونسوا أن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي أكرم نساء نبيه بهذه الخصيصة الشريفة والمنقبة الرفيعة حيث جعلهن أمهات لجميع المؤمنين ومن شدة حقد وغل الرافضة لعائشة رضي الله عنها حسدوها على هذه التسمية الربانية بل وصل البغض ببعض الشيعة الرافضة إلى أن عاند تسمية الله لها بهذا الاسم وسماها "بأم الشرور"2 مع أن من تفوه به هو الأحق بهذا الاسم وأهله، أما عائشة رضي الله عنها فقد سماها الله "بأم المؤمنين" على رغم أنف كل شيعي رافضي وليمت بغيظه من لم يرتض لها هذا الاسم الإلهي. ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها: الحديث الذي رواه البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" 3. ووجه طعنهم عليها رضي الله عنها بهذا الحديث أنهم استنبطوا منه بأفهامهم

_ 1ـ منهاج السنة 2/198-199. 2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161. 3ـ صحيح البخاري 2/315.

المعكوسة وقلوبهم المنكوسة " أنها حسدت خديجة لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من مدحها وثنى عليها، ولذلك عاتبته كما يزعمون فاعتذر إليها بإحسان خديجة إليه وحسن صحبتها له"1. والرد على هذا الاستنباط الباطل: أن الباعث لعائشة رضي الله عنه على قولها في الحديث هو الغيرة كما صرحت هي بذلك لا الحسد، كما يزعمه الشيعة الرافضة والغيرة كما هو معلوم جبلة في النساء ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية الناشئة عن الغيرة، فلو صدر قول أو فعل مخالف للشرع تتوجه الملامة للغيرة، وقد ورد أن بعض أمهات المؤمنين غارت على أخرى حين أرسلت إلى رسول الله طعاماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في بيت من غارت، فكسرت قصعة الطعام وانصب الطعام على الأرض، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجمع الطعام ويقول "غارت أمكم"، ولم يعاتبها ولم يوبخها على ذلك وإنما غاية ما أمرها به أن تبدلها إناء بدل إنائها2 فكيف يسوغ بعد هذا للشيعة الرافضة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفاً لسهام مطاعنهم نعوذ بالله من الخسران. ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها ـ ما ذكره ابن المطهر الحلي بقوله الذي خاطب به أهل السنة والجماعة حيث قال: "وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة إنك تكثر ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها فقال: "والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس، وآوتني إذ طردني الناس، وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها" 3

_ 1ـ انظر كتاب انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/291. 2ـ انظر سنن النسائي 7/70-71، المسند 6/148، 277، سنن أبي داود 2/267. 3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/182.

والرد على هذا اللغو: يقال لهم: "إن أهل السنة والجماعة لم يجمعوا على أن عائشة رضي الله عنها أفضل أمهات المؤمنين، لكن ذهب الكثير منهم إلى ذلك واحتجوا على ذلك بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 1، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: قلت يا رسول الله أي النساء أحب إليك؟، قال: "عائشة" قلت: ومن الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟، ثال: "عمر وسمى رجالاً" 2. أما قولهم أنه قال لخديجة: "ما أبدلني الله خيراً منها" إن صح فمعناه "ما أبدلني خيراً لي منها فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن يدرك إلا أول النبوة، فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسن ما لم يبغله غيرها، فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئاً، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعت بعائشة، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ ممن تفرق همه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله عنه خير له من هذا الوجه لكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك ـ ولهذا كان من الصحابة من هو أعظم إيماناً وأكثر جهاداً بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وغيرهم ـ هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر

_ 1ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1895. 2ـ صحيح مسلم 4/1856.

منهم كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما ـ ولسنا في صدد ذكر تفصيل الكلام في تفضيل عائشة وخديجة رضي الله عنهما ـ لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين"1. والذي يشذ عن هذا الذي أجمع عليه المسلمون فشذوذه هذا يدل على مرض قلبه بداء النفاق والعياذ بالله. ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "زعمهم أنها أذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. والرد على هذا: يقال لهم: لا شك أن الله جل وعلا قال في محكم كتابه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 3. وقد جاء في صحيح البخاري من حديث عبيد بن حنين، قال: سمعت ابن عباس يقول: "أردت أن أسأل عمر رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فما أتممت كلامهي حتى قال: عائشة وحفصة"4. وهنا يقال عن الشيعة الرافضة: أنهم عمدوا أولاً إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاصي بينة، لمن نصت عنه من المتقدمين، ثم يعمدون إلى تأويلها بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون: إن أصحاب الذنوب تابوا منها

_ 1ـ انظر منهاج السنة 2/182-183. 2ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/184، وانظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292. 3ـ سورة التحريم آية/3. 4ـ صحيح البخاري 3/206.

ورفع الله درجاتهم بالتوبة. ويقال لهم ثانياً: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه، هذا ظاهر بنص قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة ولا يظن بهما انهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا في الجنة، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرم الله على رسوله أن يستبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك2، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن ـ ثم إن ـ الذنب يزول عقابه بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة. ويقال ثالثاً: إن المذكور عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن علياً لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: "إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا علياً ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" 3. فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه. وكذلك لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه: "انحروا واحلقوا رؤوسكم" فلم يقم أحد فدخل مغضباً على أم سلمة، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟، فقال: "ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع"

_ 1ـ سورة التحريم آية/4. 2ـ انظر الأقوال في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي 3/1570-1571، الجامع لأحكام القرآن../219-220. 3ـ صحيح البخاري 3/265.

فقالت: يا رسول الله أدع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك"1 وأمر علياً أن يمحوا اسمه فقال: والله لا أمحوك، فأخذ الكتاب من يده ومحاه"2، فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال القائل: هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل: إن عائشة أذنبت في ذلك فمن الناس من يتأول ويقول وإنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة، وآخر يقول: لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تابوا من ذلك التأخير ورجعوا عنه مع أن حسناتهم تمحوا مثل هذا الذنب وعلي دخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين3. وبهذا يبطل طعن الشيعة الرافضة على عائشة وحفصة رضي الله عنهما بأنهما أذاعتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون وأنه على تقدير ثبوته فقد أحدثا منه توبة لأن الله دعاهما إلى ذلك ولا يجوز لأحد أن يلوم أحد، أو يعيره بذنب قد تاب منه. ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة"4. والرد على هذا الاختلاق: أنه لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً. فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج للقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها5.

_ 1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، المسند 4/331. 2ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، صحيح مسلم 3/1409-1411. 3ـ انتظر السنة 2/184-185، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269-270. 4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/164. 5ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/18، سير أعلام النبلاء 2/177، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/600.

وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي1 رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي رضي الله عنه غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول "والله ما قتلت ولا مالأت على قتله"2 وهو الصادق في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختياره وعائشة راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال، هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار"3. ومما مطاعنهم التي تناولوا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قولهم "إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 4، حيث خرجت في ملأ من الناس لتقاتل علياً على غير ذنب لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان"5. والرد على هذا أنه باطل من وجوه: الوجه الأول: أنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو

_ 1ـ قال رضي الله عنه يوم الجمل كما في مصنف أبي شيبة 15/282: "وددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة". 2ـ انظر البداية والنهاية 7/212. 3ـ منهاج السنة 2/185. 4ـ سورة الأحزاب آية/33. 5ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/293، مقدمة مرآة العقول 1/50، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161، الأنوار النعمانية 2/215-216.

خرجت مع زوجها في سفر، فإن هذه الآية نزلت في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن بعد ذلك في حجة الوداع سافر بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها وأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما حججن في خلافة الفاروق، وكان يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في هذا، واجتهدت والمجتهد إذا أصاب في اجتهاده كان له أجران ـ وإذا كان مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة"1. قال العلامة ابن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عائشة بآية الأحزاب السابقة: "تعلق الرافضة ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إذ قالوا: "إنها خالفت أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وخرجت تقود الجيوش وتباشر الحروب وتقتحم مآزق الحرب والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها، ولقد حصر عثمان فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان بن الحكم: يا أم المؤمنين أقيمي هاهنا وردي هؤلاء الرعاع عن عثمان، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. وقال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: "إن عائشة كانت نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستيحاء منها إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 2، وبقوله: {وَإِنْ

_ 1ـ منهاج السنة 2/185-186، انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/268-269. 2ـ سورة النساء آية/114

طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 1، والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، حر أو عبد، فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة، فاحتملها إلى البصرة، وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة، برة تقية مجتهدة مصيبة ثابتة فيما تأولت مأجورة فيما تأولت وفعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب2، وقد بينا في كتب الأصول تصويب الصحابة في الحروب، وحمل أفعالهم على أجمل تأويل"3. الوجه الثاني: أما زعمهم أنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً على غير ذنب فهذا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما القتال لعلي، ولو قدر انهما قصدا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 4، فجعلهم مؤمنين أخوة في الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتاً لمن هو دون أولئك من المؤمنين فهم به أولى وأحرى. الوجه الثالث: أما زعمهم أن المسلمين أجمعوا على قتال عثمان، فهذا أيضاً

_ 1ـ سورة الحجرات آية/9. 2ـ هذا إذا كان المراد إصابة الأجر فهو صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وإذا كان المقصود إصابة الحق ففيه نظر للحديث لأن فيه أصاب وأخطأ. والحديث رواه الشيخان انظر صحيح البخاري 4/268، صحيح مسلم 3/1342. 3ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1535-1536، وانظر الجامع لأحكام القرآن 14/181-182. 4ـ سورة الحجرات آية/9-10.

من أظهر الكذب وأبينه، فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله، فإن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وخيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان علي رضي الله عنه يحلف دائماً: "إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"، ويقول: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل"1. لكن الرافضة لم يهتدوا لمعرفة براءة علي، من دم عثمان بل كذبوا عليه حيث قالوا: "إنه كان راضياً بقتل عثمان". قال عبد الله شبر: "والعجب من المخالفين2 أنهم يستدلون على حقية خلافة المشايخ بسكوت علي الدال على رضاه، ولا يستدلون بسكوته عن قتل عثمان على رضاه"3. وهذا من أظهر الكذب على علي رضي الله عنه من الشيعة الرافضة وقد قدمنا في المبحث الذي قبل هذا براءة علي من دم عثمان وعدم رضاه بذلك وأن الشيعة كاذبون مفترون عليه في أنه كان راضياً بقتله وهذا من طعنهم في علي رضي الله عنه. ومما طعنوا به على عائشة ـ رضي الله عنه ـ: "زعمهم عليها أنها كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلاً4 قتل الله نعثلاً ولما بلغها

_ 1ـ انظر منهاج السنة 2/186. 2ـ يقصد أهل السنة والجماعة. 3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192. 4ـ كان أعداء عثمان يسمونه نعثلاً تشبيها برجل من مصر كان طويل اللحية اسمه "نعثل" النهاية في غريب الحديث 5/79-80.

قتله فرحت بذلك"1. والرد على هذا الزور: يقال لهم: أولاً: أين النقل الصحيح الذي يثبت هذا عن عائشة. ويقال ثانياً: إن المنقول عن عائشة يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله2. ودعت على أخيها محمد وغيره3 لمشاركتهم في ذلك. ويقال لهم ثالثاً: على سبيل الفرض إن واحداً من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك كلمة على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما ولياً لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر بل يظن كفره وهو مخطيء في هذا الظن كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية أن غلامه قال: يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت إنه شهد بدراً والحديبية" 4. وفي حديث علي أن حاطباً كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعلي والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب" فلما أتيا بالكتاب قال: "ما هذا يا حاطب"، فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضى بالكفر ولكن كنت امرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، ص/164، الأنوار النعمانية 2/216. 2ـ انظر ما جاء في إنكارها قتل عثمان. تاريخ خليفة بن خياط ص/175-176. 3ـ انظر المصنف لابن أبي شيبة 15/277، تاريخ الطبري 4/513. 4ـ الحديث في صحيح مسلم4/1942 من حديث جابر رضي الله عنه.

عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدراً وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأنزل الله تعالى فيه أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1 الآيات، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء، وكان رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى، وعثمان وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبته للمشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدراً والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر، ومع هذا فقال عمر رضي الله عنه: "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فسماه منافقاً واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة"2. وبهذا الرد يبطل زعم الرافضة أن عائشة كانت في وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت "اقتلوا نعثلاً" ولما بلغها قتله فرحت بذلك، وأن هذا من اختلاق الرافضة وأكاذيبهم عليها وكلمة "نعثل" لم تعرف إلا من ألسنة قتل عثمان رضي الله عنه وأول من تفوه بهذه الكلمة منهم جبلة بن عمرو الساعدي وقد جاء بجامعة3 في يده وقال مجاهراً بوقاحته مخاطباً عثمان رضي الله عنه: "يا نعثلاً والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار"4.

_ 1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/200، صحيح مسلم 4/1941-1942. 2ـ منهاج السنة 2/188-189. 3ـ الجامعة: الغل يوضع في العنق. 4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/365.

ولما تفوه بهذه الكلمة الخبيثة يوم الدار كانت عائشة رضي الله عنها حينذاك في مكة تلبي ربها عز وجل وتوجه قلبها إليه ولم تطرق هذه اللفظة سمعها إلا بعد رجوعها من مكة رضي الله عنها وأرضاها. ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "أنهم يزعمون أنها سألت بعد أن قتل عثمان من تولى الخلافة، قالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان ثم يقولون ـ وأي ذنب كان لعلي في ذلك"1. والرد على هذا الزور: يقال لهم: إن القول بأن عائشة وطلحة والزبير اتهموا علياً بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب ظاهر وإنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن قتلة عثمان كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم، والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2 وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله ـ وأما قولهم ـ "فأي ذنب كان لعلي في قتله" فهذا تناقض منهم ـ فإن الرافضة يقولون: "إن علياً كان ممن يستحل قتل عثمان وترى الإعانة على قتله من الطاعات والقربات، فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضاً"3. ومن مطاعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها " أنهم ينقمون عليها

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183. 2ـ سورة الأنفال آية/25. 3ـ منهاج السنة 2/192.

مرافقة طلحة والزبير لها عندما توجهت إلى البصرة للطلب بدم عثمان، وقصد الإصلاح بين بنيها". قال ابن المطهر الحلي: "وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره أو أخرجها من بيتها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له"1. والرد على هذا الهذيان: يقال لهم: هذا من تناقضكم وجهلكم معشر الرافضة، فإنكم ترمون عائشة بالعظائم ثم منكم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها2 وأنزل بتبرئتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، والعجب من أمر هؤلاء فإنهم يعظمون عائشة في هذا المقام من أجل الطعن في طلحة والزبير ولا يعلمون أن طعنهم هذا إن كان متوجهاً إليهما، فالطعن في علي بذلك أوجه، فإن طلحة والزبير كانا معظمين لعائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها، فإن جاز للروافض أن يقدحوا فيهما بقولهم: "بأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها ... إلخ، كان للنواصب أن يقولوا: بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها، ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل ... ولم يكن طلحة والزبير لا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في المعسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها، وخلوته بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع، وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز الكتاب والسنة والإجماع، وهي لم تسافر إلا مع ذي

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183. 2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/165.

محرمها، وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها، وقالت: يد من هذه أحرقها الله بالنار"؟، فقال: "أي أخت في الدنيا قبل الآخرة" فقالت: "في الدنيا قبل الآخرة" فأحرق بالنار بمصر1. وبهذا الرد يبطل طعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمطاوعة طلحة والزبير لها وخروجها معها إلى البصرة وأن طعنهم الذي يوجهونه إلى طلحة والزبير ينقلب ما هو أعظم منه في حق علي رضي الله عنه، فإن قالوا إن علياً كان مجتهداً فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير يقال لهم أيضاً: وطلحة والزبير كانا مجتهدين. ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن عسكرها لما أتوا البصرة نهبوا بيت المال وأخرجوا عامل علي عثمان بن حنيف الأنصاري مهاناً مع أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. والرد على هذا: إن هذه الأمور لم تقع برضاء عائشة ولا علمت بهذا العمل حتى أنها لما علمت ما حصل في حق عثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته، ومثل هذا العمل وقع من عسكر علي رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة ومنهم مالك الأشتر3. وما حصل من هؤلاء وهؤلاء لا يسوغ الطعن لا في عائشة ولا في علي

_ 1ـ منهاج السنة 2/194-195، وانظر خبر إحراق محمد بن أبي بكر: تاريخ خليفة بن خياط ص/192، تاريخ الطبري 5/104-105. 2ـ ذكر هذا الألوسي في مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/164. 3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269.

رضي الله عنهما، فطعنهم على عائشة بهذا واضح البطلان. ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها أنهم يقولون: "كيف أطاعها على خروجها إلى البصرة عشرات الآلاف من المسلمين وساعدوها على حرب علي ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة"1. والرد على هذا: يقال لهم: إن قولكم هذا من أعظم الحجج عليكم، فإنه لا يشك عاقل أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب إليهم من أهليهم وأنفسهم فلا يستريب عاقل أن قريشاً وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي ولهذا لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر قيل لأبي قحافة "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "حدث عظيم، فمن ولي بعده؟ "قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"2. فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة ولا أن لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة، دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها إما عجزاً عن نصرتها وإما إهمالاً وإضاعة لحقها، وإما بغضاً فيها، إذ الفعل الذي يقدر عليه

_ 1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161-162، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292 وما بعدها. 2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.

الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة، فإذا لم يرده ـ مع قيام المقتضي لإرادته ـ فإما أن يكون جاهلاً به أو له معارض يمنعه من إرادته، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته وهم يعلمون أنها مظلومة، لكانوا إما عاجزين عن نصرتها، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها، وكلا الأمرين باطلن فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا، وأبو بكر لم يكن ممتنعاً من سماع كلام أحد منهم ولا هو معروفاً بالظلم والجبروت واتفاق هؤلاء كلهم مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم بالضرورة امتناعه"1. فلا استقامة لطعن الشيعة الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمن خرج معها من الصحابة إلى البصرة وأن دعواهم أن ذلك العدد من الصحابة الذي يذكرونه أنهم نصروا عائشة على حرب علي ولم ينصروا ابنته على طلب حقها كل ذلك كذب وتمحل فعائشة ومن معها لم يخرجوا لحرب علي وقتاله كما يزعم ذلك الرافضة، وإنما كان خروج عائشة ومن معها لقصد الإصلاح بإقامة حد القصاص على قتلة عثمان، ومن جهلهم أنهم يستدلون بأدلة هي حجة عليهم فعندما يقولون إن عشرات الآلاف كانوا مناصرين لها ولم ينصروا فاطمة لما طلبت حقها ولم يتمكم أحد منهم ولا بكلمة واحدة، فهذا من أكبر الأدلة على أنها لم تهضم ولم تظلم مثقال حبة من خردل، وما يذكره الرافضة من أنها ظلمت من قبل الصديق أو الفاروق كله من القول بالباطل الذي لا صحة له ولا ثبوت بحال من الأحوال، ويكفينا هنا في هذا المبحث ما تقدم ذكره من مطاعنهم في أم المؤمنين ليعرف القاريء منزلة أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين عند الشيعة الرافضة وهي مطاعن كلها أكاذيب مختلقة وتقول عليها بما لم يثبت عليها أو يصدر

_ 1ـ منهاج السنة 2/196.

منها رضي الله عنها وأرضاها. وأما مطاعنهم على سبيل العموم في أمهات المؤمنين جميعاً فيكفي أن نسوق في ذلك روايتين: الأولى: ما رواه الكشي: عن ابن عباس من حديث طويل وفيه: "لما هزم علي بن أبي طالب أصحاب الجمل، بعث عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة، قال ابن عباس: "فأتيتها وهي في قصر خلف في جانب البصرة، قال: فطلبت الإذن عليها، فلم تأذن، فدخلت عليها من غير إذنها ـ وفيه أنه قال لها: وما أنت إلا حشية1 من تسع حشايات خلفهن بعده لست بأبيضهن لوناً ولا بأحسنهن وجهاً، ولا بأرشحهن عرقاً ولا بأنضرهن ورقاً ولا بأطرئهن أصلاً، قال ابن عباس: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها، قال علي: أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك"2. الثانية: قال الطبرسي: وروى عن الباقر "ع" أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل، قال أمير المؤمنين "ع": والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلاً سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" لما قام فشهد؟ فقال: فقام ثلاثة عشر رجلاً فيهم بدريان وشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب "ع" "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" قال: فبكت عائشة حتى سمعوا بكاءها3 ... الحديث. هاتان الروايتان فيهما بيان موقفهم من نساء النبي الطاهرات المطهرات من

_ 1ـ الحشية: الفراش المحشو بغيره. انظر لسان العرب 14/179-180. 2ـ رجال الكثي ص/57-60. 3ـ الاحتجاج للطبرسي 1/164.

كل رجس. فالرواية الأولى التي هي رواية الكشي: تبين مكانة أمهات المؤمنين عند الشيعة الرافضة وهي كما نرى أنه لا مكانة لهن عندهم، ولا قيمة لهن لديهم وأنهن بمنزلة الفراش المحشو بغيره فلا يكرمونهن ولا يحترمونهن. والرواية الثانية التي هي رواية الطبرسي فيها بيان أنهم يعتقدون أن لعلي رضي الله عنه حق فصم عصمتهن من الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشا علياً وابن عباس أن يصدر عنهما ما ذكر في هاتين الروايتين وما ذكر فيهما إن هو إلا اختلاق وكذب وإفك عليهما، فقد أجمع أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف وقد عرفوا بامتيازهم بكثرة الكذب"1 ولذا فهم يكثرون من ذكر القصص التي فيها عيب وتنقص للصحابة ويوردونها دون أسانيد، ومن السهل على كل أحد أن يذكر ما شاء بدون إسناد ورحم الله عبد لله بن المبارك حيث قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"2. وهذا دأب الرافضة يكيلون المثالب في الصحابة بدون وازع ديني يردعهم ولا ضمير يؤنبهم، وهذا لا يخفى على من يعرف ما لهم في هذا الباب من المصنفات وأن جميع مطاعنهم واعتراضاتهم على الصحابة من قبيل الهذيان نسأل الله العصمة من الضلالة والخذلان. ونختم هذا المبحث بما يجب التنبيه عليه وهو أن مطاعن الشيعة الرافضة في الصحابة نوعان: أحدهما: ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن.

_ 1ـ انظر منهاج السنة 1/13. 2ـ أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه 1/15، شرح السنة للبغوي 1/244.

النوع الثاني: ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية، ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات ومنها المصائب المكفرة، ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة"1.

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 3/19.

المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة

المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة ... المبحث التاسع: آثار عن السلف في ذم الرافضة بعد أن أسلفنا في المباحث السابقة ما بلغ إليه الرافضة من موقف سيء نحو خيار الأمة المحمدية وهم الصحابة الكرام عموماً وخصوصاً كما رأينا كذلك معتقدهم في أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات لكل رجس ودنس وعُلِمَ منه أنه موقف يدل على خبث معتقده وأنه مناف للإيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن، وجدنا أن سلف هذه الأمة ذموا الرافضة بما وجد فيهم من صفات ذميمة سيئة مختلفة. فمما ذمهم به السلف الصالح عليهم رحمة الله ورضوانه أنهم أجمعوا على أن الرافضة أكذب الطوائف وأن الكذب فيهم قديم وأنهم امتازوا بكثرة الكذب1 فلم يقبلوا منهم الحديث ويردوا ما روي عنهم من الأحاديث لجرأتهم على الكذب. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز سئل مالك عن الرافضة فقال: "لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون". وقال أيضاً: قال أبو حاتم الرازي حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي يقول: "لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة". وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: "نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون"2.

_ 1ـ انظر منهاج السنة 1/13. 2ـ هذه الآثار الثلاثة أوردها شيخ الإسلام في المصدر السابق أيضاً 1/13 وانظر قول الشافعي في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1457.

وروى مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه عن علي بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: "دعوا حديث عمرو بن ثابت1 فإنه كان يسب السلف"2. وقال يحيى بن معين رحمه الله في تليد بن سليمان المحاربي: كذاب كان يشتم عثمان وكل من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"3. وقال أبو العرب4: "من لم يحب الصحابة فليس بثقة ولا كرامة"5. وقال الإمام الذهبي في ترجمة إبان بن تغلب الكوفي بعد أن ذكر أنه ثقة وهو شيعي جلد، قال: "فلقائل أن يقول كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة، وجوابه على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج به ولا كرامة، وأيضاً: فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم

_ 1ـ هو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري أبو محمد ويقال أبو ثابت الكوفي من الثامنة. التقريب 2/66، تهذيب التهذيب 8/9-10. 2ـ مقدمة صحيح مسلم 1/16. 3ـ تهذيب التهذيب 1/509. 4ـ هو: محمد بن أحمد بن تميم المغربي الإفريقي من أولاد أمراء المغرب توفي سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة، انظر ترجمته في تذكر الحفاظ 3/891-892. 5ـ هدي الساري ص/389.

في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم والغالي في زماننا وعُرْفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً: فهو ضال مفتر"أهـ1. وليس أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد وحدهم هم الذين عرفوا امتياز الرافضة بأنهم أكذب الناس بل من أهل البيت من عرف فيهم ذلك. وقد جاء نفر من الناس إلى علي بن الحسين فأثنوا عليه، فقال: "ما أكذبكم وأجرأكم على الله عز وجل، نحن من صالحي قومنا"2. فهؤلاء النفر الذين جاءوا إلى هذا السيد الهاشمي هم من الرافضة فقد عرف أن ثناءهم عليه هم فيه كاذبون، ولذلك وصفهم بأنهم أبلغ الناس في الكذب ومن أعظمهم جرأة على الله. ومن فساد عقولهم وانتكاس قلوبهم أنهم يحبون الكذب على علي رضي الله عنه كما يحبون ويحرصون على إيقاع غيرهم في شركهم هذا. فقد ثبت عن الشعبي رحمه الله، أنه قال: "ما رأيت أحمق من الخشبية3 لو كانوا من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً، والله لو طلبت منهم أن يملؤوا هذا البيت ذهباً على أن أكذب على علي لأعطوني ووالله

_ 1ـ ميزان الاعتدال 1/5-6. 2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/167. 3ـ هم ضرب من الشيعة وسموا بالخشبية "لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب" منهاج السنة 1/8، وقد بين البلاذري وجه تسميتهم بهذا الاسم حيث قال: "وكان أصحاب المختار يسمون الخشبية لأن أكثرهم كانوا يقاتلون بالخشب، ويقال أنهم سموا الخشبية لأن الذي وجههم المختار إلى مكة لنصرة ابن الحنفية أخذوا بأيديهم الخشب الذي كان ابن الزبير جمع ليحرق به ابن الحنفية وأصحابه فيما زعم، ويقال: بل كرهوا دخول الحرم بسيوف مشهورة فدخلوه ومعهم الخشب ولم يسلوا سيوفهم من أغمادها"أهـ أنساب الأشراف 5/231، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 1/444.

ما أكذب عليه أبداً"1. كما وصفهم رحمهم الله بأنهم أقل عقولاً في أهل الأهواء. فقد قال: "نظرت في أهل الأهواء وكلمت أهلها فلم أر قوماً أقل عقلاً من الخشبية"2. فالإمام الشعبي رحمه الله يعد من أخبر الناس بهم، ووصفه لهم بهذه الأوصاف الذميمة إنما هو من واقع أحوالهم لأنه كان بينهم في الكوفة. ومما يذمون به أن السلف كانوا يحمدون الله تعالى أن عصمهم من سوء معتقدهم. فقد قال أبو العالية رحمه الله: "نعمتان لله علي لا أدري أيهما أفضل أو قال أعظم أن هداني للإسلام والأخرى أن عصمني من الرافضة"3. والأمر كمال قال رحمه الله تعالى فإن عدم الهداية لدين الإسلام والابتلاء بمذهب الرافضة كلاهما مهلكتان، بل واحدة منهما سبب واصل إلى الشقاء. ومما ذمهم به السلف أنهم شر الفرق وشر عصابة وجدت على وجه الأرض ولم يكونوا يجيزون شهادتهم. فقد روى أبو عبد الله بن بطة عن علي رضي الله عنه، قال: "تفترق هذه الأمة على نيف وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحل حبنا وتخالف أمرنا"4. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: "أجيز شهادة أهل الأهواء كلهم إلا الرافضة، فإنهم يشهدون بعضهم لبعض".

_ 1ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/6، أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1461. 2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/165. 3ـ المصدر السابق ص/148. 4ـ المصدر السابق ص/169.

وقال يونس أيضاً: "كان الشافعي يعيب على الروافض ويقول هم شر عصابة"1. فانظر كيف وصفهم رابع الخلفاء الراشدين علي رضي الله عنه من خلال معرفته لهم، وما عاناه في زمنه منهم، فلقد حكم عليهم بأنهم شر فرق هذه الأمة وأنهم ينتحلون حب أهل البيت انتحالاً ليسوا صادقين فيه، كما وصفهم الشافعي بأنهم أهل أهواء جميعهم وهم أهل جرأة في الشهادة حيث يشهد بعضهم لبعض زوراً وبهتاناً، وأنهم شر جماعة وجدت على وجه الأرض. ومن صفات الذم التي نيطت بهم أن السلف رحمهم الله كانوا يكرهون الزواج منهم كما يكرهون أكل ذبائحهم لاعتقادهم ردتهم ويزجرون ويعزرون من مشى في جنائزهم وكانوا لا يرون لهم غيبة بانتقاصهم ولو كان بيوم صوم أحدهم. فقد قال طلحة بن مصرف رحمه الله تعالى: "الرافضة لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة"2. وقال سفيان بن عيينة لرجل: من أين جئت، قال: من جنازة فلان ابن فلان، قال: لا حدثتك بحديث أستغفر الله ولا تعد نظرت إلى رجل يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعت جنازته"3. فانظر إلى هذا الإمام الجليل القدر كيف عزر هذا الرجل بحرمانه تعليمه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد أنه شيع جنازة رافضي، ونظر إليه، وما ذلك إلا لشناعة مذهب الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال زائدة بن قدامة الثقفي: قلت لمنصور4: "يا أبا عتاب اليوم الذي

_ 1ـ الأثران في مناقب الشافعي للرازي ص/142. 2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/161. 3ـ المصدر السابق ص/159، أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1458. 4ـ هو منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب الكوفي، ثقة، ثبت، وكان لا يدلس، من

يصوم فيه أحدنا ينتقص فيه الذين ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: نعم"1. ما أعظم ذب السلف رحمهم الله عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فهم يرون أن لا حرج على الصائم في انتقاصه الرافضة أعداء الصحابة بذكره معتقدهم السيء، وبيان فساده ليحذره من يجهل شناعة الرافضة وقبحهم. ومما ذمهم به السلف الصالح رحمهم الله أنهم أضعف الناس حجة وأنهم أعظم أهل الكلام وسخاً وقذراً، وكان بعض السلف لا يجرؤ على حكاية فضائحهم عندما يكون في وضوء. فقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "عاشرت الناس وكلمت أهل الكلام فما رأيت قوماً أوسخ وسخاً ولا أقذر قذراً ولا أضعف حجة ولا أحمق من الرافضة"2. وروى أبو نعيم بإسناده إلى الحسن بن عمرو قال: قال لي طلحة بن مصرف: "لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الرافضة"3. ومما ذُمّ به الرافضة أن السلف كانوا يتركون السكني في بلد يسب فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم قام ببيع داره، فقد ذكر ابن بطة أن جرير بن عبد الله البجلي وعدي بن حاتم وحنظلة بن الربيع الكاتب خرجوا من الكوفة حتى نزلوا قرقيسيا4، وقالوا: لا نقيم ببلدة يشتم فيها عثمان بن

_ = طبقة الأعمش، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. التقريب 2/277. 1ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/163، السنة للخلال ص/495-496. 2ـ المصدر السابق ص/163. 3ـ المصدر السابق ص/164، وأبو نعيم في الحلية 5/15، السنة للخلال ص/499. 4ـ قرقيسياء: بلد على الخابور عند منصبة وهي على الفرات جانب منها على الخابور وجانب على الفرات فوق رحبة مالك بن طوق. مراصد الأطلال للبغدادي 3/1080.

عفان"1. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: "باع محمد بن عبد العزيز التميمي داره وقال: لا أقيم بالكوفة بلدة يشتم فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2. فهؤلاء الأسلاف لم يطيقوا البقاء ببلدة يوجد فيها من ينال من خيار هذه الأمة أو يكن لهم بغضاً وغلا في قلبه. ومما ذمهم به السلف الصالح اعتقادهم الباطل بالرجعة لأئمتهم وأعدائهم كما يزعمون قبل يوم القيامة لينتقم أولئك الأئمة من أعدائهم ويقيمون دولتهم كما يزعمون الرجعة للأنبياء لنصرة القائم ثم تقوم دولتهم المزعمومة3، وقد كذبهم السلف الصالح رحمهم الله في هذا الإفك ووبخوهم عليه. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي إن هذه الشيعة يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة، قال: "كذبوا والله ما هؤلاء بشيعته، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه ولا اقتسمنا ماله4. وفي لفظ آخر من رواية عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده إلى عاصم بن ضمرة قال: قلت للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن علياً رضي الله عنه يرجع، قال: "كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذاك ما تزوج نساؤه ولا قسمنا ميراثه"5.

_ 1ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/164. 2ـ المصدر السابق. 3ـ انظر تفصيل اعتقادهم برجعة الأئمة ومن يرجع من الأنبياء والأوصياء عند خروج القائم ووروده إلى المدينة النبوية وإخراجه الشيخين من قبرهما وصلبه لهما ثم إحيائهما له إلى غير ذلك من الخبط في عقيدة الرجعة عندهم. الأنوار النعمانية 2/81-120، تفسير القمي 1/312-313، تفسير العياشي 2/259-260، تفسير الكاشاني 2/247-249. 4ـ المستدرك 3/145، وانظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/166. 5ـ المسند 1/48 وهو من زيادات عبد الله على المسند وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/22 ثم قال عقبه: رواه عبد الله وإسناده جيد.

وذكر العلامة ابن كثير أن رجلاً جاء إلى الحسين بن علي فسأله: متى يبعث علي، فقال: يبعث والله يوم القيامة وتهمه نفسه"1. وأخرج الحافظ بن عساكر أن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة: "والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم ثم لا نقبل منكم توبة، فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟، قال: نحن اعلم بهؤلاء منكم، إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في "التقية"، ويلك إن التقية هي باب رخصة للمسلم إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله وليست باب فضل، وإنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله"2. هذه الآثار صادرة عن أئمة من أهل بيت النبوة الذين يزعم الرافضة أنهم شيعتهم، نرى أنهم كذبوهم في عقيدة الرجعة ووبخوهم على استغلالهم رخصة التقية التي جعلها الله للمسلم إن اضطر إليها عند عدوه كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} 4، فقد أخرجوها عن مدلولها الذي أراده الله واستعملوها في كل أحوالهم وأمورهم فهم يظهرون ما لا يبطنون ليضللوا بذلك على من لا يعرف حقيقتهم وصدق الحسن بن الحسن فيما قاله فيهم: "نحن اعلم بهؤلاء منكم إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في التقية كلا، لا يستقيم لهم ذلك وإنما يصبغون أنفسهم

_ 1ـ البداية والنهاية 9/120. 2ـ تهذيب تاريخ دمشق 4/168. 3ـ سورة آل عمران آية/28. 4ـ سورة النحل آية/106.

بصبغة المنافقين الذين يسرون ما لا يعلنون نعوذ بالله من الخذلان. ومن صفاتهم الذميمة التي حفظها لهم السلف ودونوها لهم أنهم أهل غدر وبخل، فقد قال عبد القاهر البغدادي: "روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيهما حتى قيل: "أبخل من كوفي وأغدر من كوفي" والمشهور عنهم ثلاث غدرات: أحدها: أنهم بعد قتل علي رضي الله عنه بايعوا ابنه الحسن، فلما توجه لقتال معاوية غدروا به في ساباط المدائن فطعنه سنان الجعفي في جنبه فصرعه عن فرسه، وكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية. والثاني: أنهم كاتبوا الحسين بن علي رضي الله عنه ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية، فاغتر بهم وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يداً واحدة عليه، حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء. والثالث: غدرهم بزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر1 ثم نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قتل وكان من أمره ما كان"2. ومن صفات الذم التي لزمتهم ووصمهم بها السلف أنهم كانوا لا يرون الصلاة خلفهم ولا يرون فرقاً بين الصلاة خلفهم وخلف اليهود والنصارى ولا يجيزون أحكام قضاتهم، وكانوا يكفرون من اعتقد أن الصحابة كفروا. قال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي

_ 1ـ يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم أبو يعقوب الثقفي، كان والي العراقيين يومئذ بهشام بن عبد الملك انظر وفيات الأعيان 7/101-112. 2ـ الفرق بين الفرق ص/37.

والرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى"1. وقال البغوي رحمه الله: "وكان أبو سليمان الخطابي لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطأوا ويجيز شهادتهم ما لم يبلغ من الخوارج والروافض في مذهبه أن يكفر الصحابة أو من القدرية أن يكفر من خالفه من المسلمين فلا يرى الصلاة خلفهم، ولا يرى أحكام قضاتهم جائزة، ورأى السيف واستباحة الدم، فمن بلغ منهم هذا المبلغ فلا شهادة له"2. ومما هم موصومون به وهو عار عليهم وخزي وهو معدود من قبائحهم حرمانهم أنفسهم من الصلاة لأنهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء كما أمر الله، وإنما يمسحون عليها3 دون أن يغسلوها، كما حرموا أنفسهم من إقامة الجماعة لبحثهم على إمام معصوم. قال العلامة ابن الجوزي: "وقد حرموا الصلاة لكونهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء والجماعة لطلبهم إماماً معصوماً"4.ومن صفاتهم الذميمة أنهم أهل حمق وجهالة، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى صوراً من حماقاتهم الدالة على أنهم أهل جهل وضلالة حيث قال: "وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جداً مثل كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والذين كانوا معه يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار، وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي، ومعلوم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه كانوا يأكلون مما يجلب من بلاد الكفار من الجبن ويلبسون ما تنسجه الكفار بل غالب ثيابهم كانت من نسج الكفار، ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ

_ 1ـ شرح السنة للبغوي 1/228، وانظر خلق أفعال العباد ص10. 2ـ شرح السنة للبغوي 1/228-229. 3ـ انظر مخالفتهم في مسح الأرجل في الوضوء دون غسلهما كما أمر الله. تفسير العياشي 1/297-302، تفسير الكاشاني 1/426-428، الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري 2/334. 4ـ تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100.

العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولمن يتسمى بذلك حتى يكرهون معاملته، ومعلوم أن هؤلاء لو كانوا من أكفر الناس لم يشرع أن لا يتسمى الرجل بمثل أسمائهم، فقد كان في الصحابة من اسمه الوليد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقنت في الصلاة ويقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد بن المغيرة" 1 وأبوه كان من أعظم الناس كفراً وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 2، وفي الصحابة من اسمه عمرو وفي المشركين من اسمه عمرو بن عبد ود وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام وفي الصحابة خالد بن سعيد بن العاص من السابقين الأولين، وفي المشركين خالد بن سفيان الهذلي وفي الصحابة من اسمه هشام مثل هشام بن حكيم وأبو جهل كان اسم أبيه هشاماً وفي الصحابة من اسمه عقبة مثل أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري وعقبة بن عامر الجهني، وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط، وفي الصحابة علي وعثمان وكان في المشركين من اسمه علي مثل علي بن أمية بن خلف قتل يوم بدر كافراً، ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم ومثل هذا كثير فلم يكن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون يكرهون اسماً من الأسماء لكونه قد تسمى بها كافر من الكفار ... فعلم جواز الدعاء بهذه الأسماء سواء كان ذلك المسمى بها مسلماً أو كافراً أمر معلوم من دين الإسلام فمن كره أن يدعو أحداً بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين الإسلام، ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم علي أو

_ 1ـ انظر الحديث صحيح البخاري 1/178، صحيح مسلم 1/467. 2ـ انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 29/152.

جعفر أو حسن أو حسين أو نحو ذلك عاملوه وأكرموه ولا دليل لهم في: على أنه منهم والتسمية بتلك الأسماء قد تكون فيهم فلا يدل على أن المسمى من أهل السنة لكن القوم في غاية الجهل والهوى. ومن حماقاتهم أيضاً: "أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها كالسرداب الذي بسامرا الذي يزعمون أنه غائب فيه ومشاهد أخر وقد يقيمون هناك دابة إما بغلة وإما فرساً وإما غير ذلك ليركبها إذا خرج ويقيمون إما في طرفي النهار وإما في أوقات أخر من ينادي عليه بالخروج يا مولانا اخرج ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم وفيهم من يقوم في أوقات دائماً لا يصلي خشية أن يخرج وهو في الصلاة، فيشتغل بها عن خروجه وخدمته وهم في أماكن بعيدة عن مشهده ... يتوجهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه ومن المعلوم أنه لو كان موجوداً وقد أمره الله بالخروج فإنه يخرج سواء نادوه أو لم ينادوه وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم وأنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره لا يحتاج أن يوقف له دائماً من الآدميين من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه فقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1 هذا مع أن الأصنام موجودة وكان يكون بها أحياناً شياطين تترائى لهم وتخاطبهم ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء، وإذا قال أنا أعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله فيعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ

_ 1ـ سورة فاطر آية/13-14.

وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} والمقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه وإن كان أولئك اتخذوهم شفعاء آلهة وهؤلاء يقولون هو إمام معصوم فهم يوالون عليه ويعادون عليه كمولاة المشركين على آلهتهم ويجعلونه ركناً في الإيمان لا يتم الدين إلا به كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك. ومن حماقاتهم: تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة وقد تكون نعجة حمراء لكون عائشة تسمى الحميراء يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها بغير ذلك ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة، ومثل اتخاذهم حلسا مملوءاً سمناً ثم يشقون بطنه فيخرج السمن فيشربونه ويقولون هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه، ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحا أحدهما بأبي بكر والآخر بعمر ثم عقوبة الحمارين جعلا منهم تلك العقوبة عقوبة لأبي بكر وعمر، وتارة يكتبون أسماءهم على أسفل أرجلهم حتى إن بعض الولاة جعل يضرب رجلي من فعل ذلك ويقول إنما ضربت أبا بكر وعمر ولا أزال أضربها حتى أعدمها، ومنهم من يسمي كلابه باسم أبي بكر وعمر ويلعنهما ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له بكير يضارب من يفعل ذلك ويقول تسمى كلبي باسم أصحاب النار، ومنهم من يعظم أبا لؤلؤة الكافر الذي كان غلاماً للمغيرة بن شعبة لما قتل عمر ويقولون وأثارات أبي لؤلؤة فيعظمون كافراً مجوسياً باتفاق المسلمين لكونه قتل عمر رضي الله عنه. ومن حماقاتهم: إظهارهم لما يجعلونه مشهداً فكم كذبوا الناس وادعوا أن في هذا المكان ميتاً من أهل البيت وربما جعلوه متقولاً فيبنون ذلك مشهداً وقد يكون ذلك قبر كافر أو قبر بعض الناس ويظهر ذلك بعلامات كثيرة ومعلوم أن عقوبة الدواب المسماة بذلك ونحو هذا الفعل لا يكون إلا من فعل أحمق الناس وأجهلهم، فإنه من المعلوم أنا لو أردنا أن نعاقب فرعون وأبا لهب وأبا جهل وغيرهم ممن ثبت بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل لأن ذلك لا فائدة فيه بل إذا قتل كافر يجوز قتله أو مات

حتف أنفه لم يجز بعد قتله أو موته أن يمثل به، فلا يشق بطنه أو يجدع أنفه وأذنه ولا تقطع يده إلا أن يكون ذلك على سبيل المقابلة ... فهؤلاء الذين يبغضونهم لو كانوا كفاراً وقد ماتوا لم يكن لهم بعد موتهم أن يمثلوا بأبدانهم لا يضربونهم ولا يشقون بطونهم ولا ينتفون شعورهم مع أن في ذلك نكاية فيهم، أما إذا فعلوا ذلك بغيرهم ظناً أن ذلك يصل كان غاية الجهل، فكيف إذا كان بمحرم كالشاة التي يحرم إيذاؤها بغير الحق فيفعلون ما لا يحصل لهم به منفعة أصلاً بل ضرر في الدين والدنيا والآخرة مع تضمنه غاية الحمق والجهل. ومن حماقاتهم: إقامة المأتم والنياحة على من قتل من سنين عديدة ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" 1 ... وهؤلاء يأتون من لطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات بعد الموت بسنين كثيرة ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرمها الله ورسوله فكيف بعد هذه المدة الطويلة، ومن المعلوم أنه قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلماً وعدواناً من هو أفضل من الحسين قتل أبوه وهو أفضل منه، وقتل عثمان بن عفان وكان قتله أول الفتن العظيمة التي وقعت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وترتب عليه من الشر والفساد أضعاف ما ترتب على قتل الحسين وقتل غير هؤلاء ومات وما فعل أحد من المسلمين ولا غيرهم مأتماً ولا نياحة على ميت ولا قتيل بعد مدة طويلة من قتله إلا هؤلاء الحمقى الذين لو كانوا من الطير لكانوا رخماً ولو كانوا من البهائم، لكانوا حمراً، ومن ذلك أن بعضهم لا يوقد خشب الطرفاء لأنه بلغه أن دم الحسين وقع على شجرة من الطرفاء ومعلوم أن تلك الشجرة بعينها لا يكره وقودها، ولو كان

_ 1ـ الحديث في صحيح البخاري 1/225، صحيح مسلم 1/99.

عليها أي دم كان فكيف بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم"1. فشيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين للأمة جميعاً بهذا النص حماقاتهم وما اتصفوا به من الصفات الذميمة السيئة البغيضة في الإسلام كما أوضح رحمه الله أن هذه الخلال المبغوضة موجودة في مختلف فرق الشيعة الرافضة وحماقاتهم التي ذكرها رحمه الله فيها دلالة على أنهم أهل جهل يتبعون أهواءهم ويضربون صفحاً عن هدي الله ورسوله.

_ 1ـ منهاج السنة 1/9-12.

المبحث الأول: نشأة الخوارج قبل أن أذكر بداية نشأة الخوارج وتطورهم، نذكر تعريف أهل العلم لهم: فقد بين أبو الحسن الأشعري أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة الذين خرجوا على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين أن خروجهم على علي هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: "والسبب الذي سموا له خوارج خورجهم على علي بن أبي طالب لما حكم"1. وأما ابن حزم فقد بين أن اسم الخارجي يتعدى إلى كل من أشبه أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وشاركهم في معتقدهم، فقد قال: "ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي وإن خالفهم فيما عدا ذلك فيما اختلف فيه المسلمون خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجياً"2. وأما الشهرستاني: فقد عرف الخوارج بتعريف عام اعتبره فيه الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان، حيث قال في تعريفه للخوارج: "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/207. 2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113.

أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان وأنهما يجتمعان بدومة الجندل فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب وقالوا: لا حكم إلا الله"1. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير الطبري من طريق أبي رزين قال: لما كانت الحكومة بصفين وباين الخوارج علياً، رجعوا مباينين له، وهم في عسكر وعلي في عسكر، حتى دخل علي الكوفة مع الناس بعسكره، ومضوا هم إلى حروراء في عسكرهم، فبعث علي إليهم ابن عباس، فكلمهم، فلم يقع منهم موقعاً فخرج علي إليهم، فكلمهم حتى أجمعوا هم وهو على الرضا، فرجعوا حتى دخلوا الكوفة على الرضا منه ومنهم، فأقاموا يومين أو نحو ذلك، قال: فدخل الأشعث بن قيس وكان يدخل على علي، فقال: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن كفرك، فلما كان الغد الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، فخطب فذكرهم ومباينتهم الناس وأمرهم الذي فارقوه فيه، فعابهم وعاب أمرهم، قال: فلما نزل على المنبر تنادوا من نواحي المسجد لا حكم إلا الله، فقال علي: حكم الله أنتظر فيكم، ثم قال بيده هكذا يسكتهم بالإشارة وهو على المنبر حتى أتى رجل2 منهم واضعاً أصبعيه في أذنيه وهو يقول: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين"3. ففي هذين الخبرين تحديد لبداية بذرة الخوارج المارقين وأن أول خروجهم كان على علي رضي الله عنه، بعد أن وافق على التحكيم واعتبروا التحكيم خطيئة تؤدي إلى الكفر مع أنهم هم الذين أكرهوا علياً رضي الله عنه على قبوله عندما رفع أصحاب معاوية رضي الله عنه المصاحف.

_ 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/57. 2ـ هو: سعيد البكائي كما في تاريخ الطبري 5/73. 3ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/312-313، تاريخ الأمم والملوك 5/73-74.

"ولما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره فجاءه رجلان منهم وهما: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص، تبارك وتعالى من خطئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهوداً وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 1، فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن نتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه، فقال علي: تباً لك ما أشقاك، كأني بك قتيلاً تسفى عليك الريح، فقال: ووددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقاً كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم"2. ولما رأوا عزم علي على إنفاذ الحكومة وبعثه أبا موسى الأشعري قرروا الانفصال عنه وتعيين أمير عليهم، فاجتمعو في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة، ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع لهذه الدنيا قليل وإن الفراق لها وشيك فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى

_ 1ـ سورة النحل آية/91. 2ـ تاريخ الأمم والملوك 5/72، الكامل في التاريخ 3/334، البداية والنهاية 7/311.

المقام بها ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1. فقال حمزة بن سنان الأسدي: "يا قوم إن الرأي ما رأيتم وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسنان ومن راية تحفون بها، وترجعون إليها فبعثوا إلى زيد بن حسن الطائي ـ وكان من رؤوسهم ـ فعرضوا عليه الإمارة فأبى ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها، وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في دنيا ولا أدعها فرقاً من الموت"2. واجتمعوا أيضاً في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والآية التي بعدها وفيها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، والآية التي في نهايتها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4، ثم قال: فاشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن شجر السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس وقال في كلامه:

_ 1ـ سورة النحل آية/128. 2ـ انظر تاريخ الطبري 5/74-75، الكامل في التاريخ 3/334-335، البداية والنهاية 7/312. 3ـ سورة ص آية/26. 4ـ الآيات رقم 44، 45، 47، من سورة المائدة.

اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم ـ أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن فشلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟ 1. قال العلامة ابن كثير بعد أن ذكر ما أملاه الشيطان لهم بما تقدم ذكره: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف2 في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 3. والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم ممن هم على رأيهم ومذهبهم من أهل البصرة وغيرها ـ فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها، فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشاً لا تطيقونه وسيمنعونها منكم ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحداناً لئلا يفطن بكم فكتبوا كتاباً عاماً إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يداً واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحداناً لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر

_ 1ـ البداية والنهاية 7/312. 2ـ هذا الأثر مروي عن علي رضي الله عنه. انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/465. 3ـ سورة الكهف آية/103-105.

الموبقات والعظائم والخطيئات وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم، ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم، فردوهم وأنبوهم ووبخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فرّ بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة"1. هكذا كانت بداية نشأة الخوارج في أول أمرهم على هذا النحو المتقدم ذكره ومن أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة ذهب كان قد بعث به علي ـ رضي الله عنه ـ من اليمن في جلد مقروظ، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ2 لم تحصل من ترابها3، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء" قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة4 كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب

_ 1ـ البداية والنهاية 7/312-313. 2ـ أي: في جلد مدبوغ بالقرظ. 3ـ أي: لم تميز ولم تصف من تراب معدنها. 4ـ أي: مرتفع الجبهة.

عنقه، فقال: "لا لعله أن يكون يصلي"، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس 1 ولا أشق بطونهم، قال: ثم نظر إليه وهو مقف 2، فقال: إنه يخرج من ضئضئي3 هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود" 4. قال العلامة ابن الجوزي عند هذا الحديث: "أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ: أنه قال له: "اعدل" فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" 5، فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع هذا الرجل هم الذي قاتلوا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ "6. وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة: أبو محمد بن حزم7، وكذا الشهرستاني فإنه قال في كتابه الملل والنحل8 في صدد تعريفه للخوارج حيث قال: "وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية"أهـ. ومن العلماء من يرى بأن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله رضي الله عنه ظلماً وعدوانا

_ 1ـ "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس" أي: أفتش وأكشف ومعناه: إني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. 2ـ أي: مول. 3ـ ضئضئي: أي: هو بضاضين معجمتين مكسورتين وأخرى مهموز وهو أصل الشيء. 4ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/742. 5ـ انظر صحيح مسلم 2/740. 6ـ تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/90. 7ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/157.

وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى. قال شارح الطحاوية: "فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى"1. وقد أطلق العلامة ابن كثير على الثوار الذين ثاروا على عثمان وقتلوه اسم الخوارج، حيث قال في صدد ذكره لهم بعد قتلهم عثمان رضي الله عنه قال: "وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شيء كثير جداً"أهـ2. والرأي الراجح في بداية نشأة الخوارج وتكونهم أنها كانت بانفصالهم عن جيش علي وخروجهم عليه بعد الاتفاق على التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه عنهما وعلى الرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة وبين الخوارج فإن الخوارج لم يظهروا على شكل جماعي وطائفي إلا بعد حادثة التحكيم حيث فارقوا الجماعة وانحازوا إلى قرية من قرى الكوفة تسمى "حروراء"، وعينوا لهم أميراً للقتال وأميراً للصلاة والاتجاه الخارجي الذي تمثل في تلك الجماعة التي خرجت على علي رضي الله عنه وانفصلت من جيشه قد وردت الإشارة إليه في أحاديث كثيرة سيأتي بيانها في "المبحث الرابع" من هذا الفصل، وكلها أشارت إلى أوصافهم وذمهم والأمر بقتالهم، وأما ذو الخويصرة فإن اعتراضه على الرسول صلى الله عليه وسلم كان اعتراض فرد وليس اعتراض جماعة حتى يسمى خروجاً وإن اعتبر سلفاً للخوارج الذين يأتون من بعده فهناك فرق بين نزعة الاعتراض الفردي وبين الخروج على شكل جماعي له اتجاهه وآرؤه الخاصة كخروج الخوارج على علي رضي الله عنه. وأما القول بأن نشأتهم بدأت بثورة الثائرين على عثمان رضي الله عنه فلا شك أن ما حدث كان خروجاً عن طاعة الإمام الحق إلا أن هذا الخروج لم يكن يتميز بأنه خروج جماعة لها عقائدها الواضحة وآراؤها المتميزة، وإنما كان خروجاً

_ 1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/593. 2ـ البداية والنهاية 7/207.

من قوم أهل جهل وبغي وتعنت وأهل ظلم وخيانة وافتراء، ولذلك صمموا بعد استحواذ الشيطان عليهم على قتله رضي الله عنه، ثم فروا من المدينة ودخلوا في صفوف المسلمين كأفراد منهم، وانتقم الله منهم جماعات وفرادى في موقعتي الجمل وصفين وغيرهما. فنشأة الخوارج بدأت بتلك الجماعة الذين انفصلوا من جيش علي رضي الله عنه، ثم لحق بهم ناس آخرون من أهل الكوفة والبصرة جماعات ووحداناً، حتى اجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم بعد ذلك شوكة ومنعة كما تقدم قريباً.

الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة

الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة المبحث الأول: نشأة الخوارج ... سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان"1. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى معرفاً لهم: "والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم"2. وقال في تعريف آخر:"أما الخوارج فهم جمع خارجة، أي: طائفة وهو قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين3. فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم بعد موقعة صفين ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب "الخوارج" ومن تلك الألقاب: الحرورية4، والشراة5، والمارقة، والمحكمة6، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية"7. وأما بداية نشأتهم فإنها كانت بعد حصول الاتفاق على التحكيم بين علي ومعاوية سنة سبع وثلاثين، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان بن يونس بن يزيد عن الزهري أن أهل الشام نشروا المصاحف حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/114. 2ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459. 3ـ فتح الباري 12/183. 4ـ سموا بهذا الاسم، لنزولهم بحروراء في أول أمرهم. 5ـ سموا شراة لقومهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة. 6ـ سموا بهذا الاسم: لإنكارهم الحكمين، وقولهم: لا حكم إلا لله. 7ـ مقالات الإسلاميين 1/207.

المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج

المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج لقد تشعبت الخوارج إلى فرق عدة بلغ بها بعض أهل العلم ممن كتب في الملل والنحل إلى عشرين فرقة1، وعند النظر في هذه الفرق من خلال الكتب التي ألفت في الفرق يتضح أن الخلاف والنزاع بينها لم يكن في أمور مهمة تؤدي إلى تكوين جماعات مستقلة، بل إن معظم نزاعهم كان يحصل في كثير من أحوالهم حول أمور فرعية، ومن ذلك العدد الكثير الذي ذكر في تعداد فرقهم، نذكر هنا أهم فرقهم المتمثلة في المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، وما عداها من الفرق فهي متفرعة منها وداخلة فيها. المحكمة الأولى: يقصد بالمحكمة الأولى أولئك الذين خرجوا على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الذين أعلنوا شعار "لا حكم إلا لله" والتفوا حوله وقد اختلف في أول من نادى بهذا الشعار منهم، فقيل: إنه عروة بن حدير2 أخو مرداس الخارجي، وقيل إن أول من نادى به يزيد بن عاصم المحاربي وقيل: إنه رجل من بني يشكر، كان مع علي رضي الله عنه بصفين، ولما

_ 1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/72، التبصير في الدين ص/45. 2ـ هو: عروة بن عمرة بن حدير التميمي، من رجال النهروان، وسيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم، وذلك أنه عاتب الأشعث بن قيس على رضاه بالتحكيم بين علي ومعاوية، ولم يعبأ به الأشعث فشهر سيفه وضربه، فأصاب عجز بغلته وحضر حرب النهروان، وعاش إلى زمن معاوية وقتله زياد بن أبيه سنة ثمان وخمسين، انظر ترجمته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/517-518، الكامل للمبرد 2/128، 165، الأعلام 5/16-17.

اتفق الفريقان على التحكيم ركب وحمل على أصحاب علي، وقتل منهم واحداً، ثم حمل على أصحاب معاوية، وقتل منهم واحداً، ثم نادى بين العسكرين أنه بريء من علي ومعاوية، وأنه خرج من حكمهم، فقتله رجل من همدان، ثم إن جماعة ممن كانوا مع علي رضي الله عنه في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة، ورجعوا مع علي إلى الكوفة، ثم فارقوه ورجعوا إلى حروراء"1، ولما استقروا في حروراء كانوا يعاملون من يخالفهم من المسلمين في رأيهم أبشع معاملة وأشد قسوة. قال أبو الحسين الملطي واصفاً ما بلغوا إليه من ظلم وإجرام: "فأما الفرقة الأولى من الخوارج، فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع حتى يقتل أو يقتل، فكان الناس منهم على وجل وفتنة"2. ومن أبشع جرائمهم وأفظعها قتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعراً يجر رداءه، فقالوا: لم ترع، قال: والله لقد رعتموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثاً يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه، قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه، قال: ولا تكن عبد لله القاتل، قالوا: أأنت سمعت هذا

_ 1ـ التبصير في الدين ص/45-46، وانظر مقالات الإسلاميين 1/207-209، الفرق بين الفرق ص/74-75، تاريخ الأمم والملوك 5/72 وما بعدها، الكامل في التاريخ 3/326 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/125. 2ـ التنبيه والرد على أهواء والبدع ص/51.

من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل ما امذقر1 وبقروا أم ولده عما في بطنها"2. وكان الذي تولى قتله منهم رجل يقال له: مسعر بن فدكي3. وذكر عبد القاهر أن رجلاً منهم شد عليه يقال له: "مسمع" فجرى دمه فوق ماء النهر كالشراك إلى الجانب الآخر، ثم إنهم دخلوا منزله وكان في القرية التي قتلوه على بابها، فقتلوا ولده وجاريته أم ولده، ثم عسكروا بنهروان4. وقد بلغ علياً رضي الله عنه نبأ قتلهم عبد الله بن خباب وقتلهم الكثير من الأطفال والنساء، وقد كان رضي الله عنه متأهباً للعودة إلى صفين لمقاتلة أهل الشام، فرأى أن العودة لمقاتلة هؤلاء المفسدين أولى فكان في ذلك خيرة له ولأهل الشام فرجع إلى النهروان، "فقاتلهم مقاتلة شديدة وكان عددهم اثنى عشر ألفاً فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة، وما قتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل موزن5. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم6، وقد انمحت بدعهم في بعض هذه الأماكن نهائياً، وبعضها باقية فيها إلى اليوم.

_ 1ـ معناه أنه مر فيه كالطريقة الواحدة لم يختلط به ولذلك شبهه بالشراك الأحمر وهو سيور النعل. أهـ النهاية في غريب الحديث 4/212. 2ـ المسند 5/110. 3ـ مقالات الإسلاميين 1/210. 4ـ الفرق بين الفرق ص/77. 5ـ بلد قديم بين رأس عين وسروج وهو مبني بحجارة عظيمة سود، قريب من حران ـ فتحه عياض بن غنم سنة 17هـ. معجم البلدان 2/45، وانظر مراصد الأطلاع للبغدادي 1/273. 6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/117، وانظر الفرق بين الفرق ص/80-81، التبصير في الدين ص/49.

الأزارقة: هم أتباع رجل منهم يسمى بأبي راشد نافع بن الأزرق الحنفي ولم يكن للخوارج قوم أكثر منهم عدداً وأشد منهم شوكة، ولهم اعتقادات فارقوا بها "المحكمة الأولى" وسائر فرق الخوارج فهم يعتقدون أن من خالفهم من هذه الأمة فهو مشرك بينما المحكمة يقولون: إن مخالفهم كافر ولا يسمونه مشركاً. ومما اختصوا به أيضاً: أنهم يسمون من لم يهاجر إلى ديارهم من موافقيهم مشركاً، وإن كان موافقاً لهم في مذهبهم، وكان من عاداتهم فيمن هاجر إليهم أن يمتحنوه بأن يسلموا إليه أسيراً من أسراء مخالفيهم وأطفالهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله، قالوا: هذا منافق ومشرك، وقتلوه، ويزعمون أيضاً: أن أطفال مخالفيهم مشركون، ويزعمون أنهم يخلدون في النار1. وبالإضافة إلى هذه المعتقدات الشاذة والآراء المنحرفة، فقد نادى الأزارقة ببعض الآراء التي تنم عن جهلهم بالشرع وعدم فقههم في الدين، من ذلك: إسقاطهم حد الرجم عن الزاني المحصن بحجة أنه لم يرد في القرآن نص عليه2 كما أسقطوا أيضاً: حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء3، تمسكاً أيضاً: ـ في زعمهم ـ بما ورد في القرآن وذهبوا أيضاً إلى أن يد السارق تقطع في القليل والكثير من غير اعتبار لنصاب الشيء والمسروق، وأن القطع يكون من المنكب كما أوجبوا على الحائض الصلاة والصوم في حال حيضها4، كما أنهم حرموا قتل النصارى واليهود

_ 1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/168-174، الفرق بين الفرق ص/82-83، التبصير في الدين ص/49-50. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121. 3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121، وانظر مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/84. 4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/189.

وأباحوا قتل المسلمين، وهذه الآراء واضح فيها الجهل وعدم العلم والفهم للقرآن، وعدم الإلمام بالسنة، ويصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"1، وقد اشتدت شوكة الأزارقة وصارت لهم قوة حتى أخذوا في مقاتلة غيرهم حتى تغلبوا على بلاد الأهواز وأرض فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير حين بعث عاملاً له على البصرة، فأخرج سرية لقتالهم وكان عدد هذه السرية ألف مقاتل، فقتلهم الخوارج، ثم بعث إليهم بثلاثة آلاف من المقاتلة فظفر بهم الخوارج أيضاً، فبعث عبد الله بن الزبير من مكة كتاباً وجعل قتالهم إلى المهلب بن أبي صفرة2 حتى جمع عسكراً عظيماً وهزم نافع بن الأزرق وقتل في هذه الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده رجلاً آخر منهم فهزمه المهلب أيضاً، وقتل في هذه الهزيمة فبايعوا بعده قطري بن الفجاءة التميمي، وسموه بأمير الموت، واستمر المهلب أيضاً في مقاتلتهم حتى انحازوا إلى سابور من بلاد فارس وجعلوها دار هجرتهم3 وقد بلغت المدة التي قاتلهم فيها المهلب تسع عشرة سنة، بعضها في زمان ابن الزبير، وبعضها في زمان عبد الملك بن مروان، "ولما ولي الحجاج بن يوسف العراق أقر المهلب على قتالهم، فاستمر المهلب بن أبي صفرة في مقاتلتهم حتى وقع الخلاف بين قطري بن الفجاءة وأتباعه، فواصل المهلب مقاتلة قطري، فكان كلما سار قطري إلى ناحية من النواحي تبعه المهلب حتى هزمه إلى الري، ثم اتجه لمقاتلة جماعة أخرى منهم بقيادة رجل منهم يسمى عبد ربه الصغير4 حتى كفى شغله وقتله، وبعث الحجاج جيشاً عظيماً إلى

_ 1ـ الحديث صحيح مسلم 2/740. 2ـ هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي أمير، شديد البطش بأهل البدع، جواد ولد سنة سبع، وتوفي سنة ثلاث وثمانين هجرية. انظر ترجمته في الإصابة 3/509-510، وفيات الأعيان 5/350-359، الأعلام 8/260. 3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/613-621، الفرق بين الفرق ص/85-86، الكامل في التاريخ 4/194-200، البداية والنهاية 8/348، التبصير في الدين ص/50-51. 4ـ كان عبد ربه الصغير معلم كتاب وهو من موالي قيس بن ثعلبة وأول ظهوره أن الخوارج ذهبوا إلى =

الري فقاتل قطري بن الفجاءة فانهزم إلى طبرستان ثم هرب في جملة من أتباعه إلى قومس عبيدة بن هلال اليشكري فتبعته جنود الحجاج حتى قتلته وقطع الله دابر الأزارقة بقتل قطري فلم تجتمع لهم قوة بعد ذلك مثل ما كانت لهم من قبل"1. النجدات: هؤلاء هم أتباع نجدة بن عامر الحنفي الذي يقال: إنه كان باليمامة حيث تخلف عن نافع بن الأزرق عند رجوعهم من مكة، وبينما هو في طريقه ليلحق بمعسكر نافع بن الأزرق التقى به من أخبره بما أحدثه نافع من الآراء التي منها "استباحة قتل أطفال مخالفيه، وحكمه على القعدة بالشرك"2 وهنا قيل: إنه رجع إلى اليمامة، لما سمع بما أحدثه نافع وأعلن انفصاله عنه، وتبرأ منه وبويع له بالإمامة وأصبح أميراً على طائفة من الخوارج عرفوا بالنجدات3، وصار لنجدة وأتباعه نفوذ واسع في كثير من البلدان شمل البحرين وشواطيء الخليج وامتد إلى عمان وبعض أجزاء اليمن4. وقد أنكر نجدة على الأزارقة إكفارهم للقعدة منهم ممن لم يهاجروا إليهم، وحكم على نافع ومن قال بإمامته بالكفر5، ويقال: إنه وجه كتاباً إلى نافع

_ = قطري بن الفجاءة يشكون من رجل كان قطري يقدمه عليهم، فلم يشكهم منه، فقال القوم لقطري: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير، وانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم وجلهم من الوالي والعجم. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/403 مقالات الإسلاميين 1/171-172. 1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 6/202 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/374 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/114 وما بعدها، الفرق بين الفرق ص/85-86، التبصير في الدين ص/50-51. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121. 3ـ مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/87، الملل والنحل للشهرستاني 1/123. 4ـ انظر الفرق بين الفرق ص/90، الكامل في التاريخ 4/201 وما بعدها. 5ـ انظر الفرق بين الفرق ص/87.

ابن الأزرق أخذ عليه فيه تكفيره للقعدة مع أن الله عذرهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1، وأنكر عليه أيضاً: استباحته قتل الأطفال لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. وتبودلت الكتب بين نجدة ونافع، ولكن لم يقنع أحدهما الآخر3 ومن الآراء التي عارض بها نجدة آراء نافع إجازته "التقية" واحتج بقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 4، وبقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 5، ومن ثم أجاز القعود، ولكن الجهاد إذا أمكن فهو أفضل لقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 6. وذهب النجدات إلى أن الدين أمران: أحدهما: معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام وتحريم دماء المسلمين7 ـ والإقرار بما جاء من عند الله جملة فهذا واجب على الجميع والجهل به لا يعذر فيه. والثاني: ما سوى ذلك فالناس معذورون فيه، إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام، وتدين النجدات بمبدأ العذر بالجهل في أحكام الفروع حتى سموا "بالعاذرية"8، والذي دعاهم إلى ذلك أن جماعة منهم على رأسهم ابن

_ 1ـ سورة التوبة آية/91. 2ـ سورة الزمر آية/7. 3ـ انظر الكامل للمبرد 2/209-212، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/137-139. 4ـ سورة آل عمران آية/28. 5ـ سورة غافر آية/28. 6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/125 والآية رقم 95 من سورة النساء. 7ـ المقصود بالمسلمين عندهم الموافقون لهم في مذهبهم. 8ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/124، وانظر الفرق بين الفرق ص/89.

نجدة نفسه بعث بهم إلى أهل القطيف فأصابوا غنائم وسبايا ـ على حد زعمهم ـ فأباحوا لأنفسهم نكاح السبايا قبل إخراج الخمس منها، وقالوا: إن خرجت من نصيبنا فبها، وإلا دفعنا من أموالنا مقابلها، ولما بلغ الأمر نجدة وأصحابه اختلفوا، فبعضهم اعتذر لمن قاموا به والبعض الآخر أنكره، وكان نجدة مع الذين عذروا هؤلاء لجهلهم بحكم الله"1، هكذا صار الجهل بالحكم عند طائفة من النجدات عذراً. وقد اختلف النجدات مع زعيمهم نجدة بن عامر الحنفي، ونقموا عليه عدة أمور من بينها تعطيله حد الخمر، وعدم عدله في قسم الفيء وتفريقه الأموال بين الأغنياء من أتباعه وحرمانه ذوي الحاجة منهم، ومكاتبته عبد الملك بن مروان، ويقال: إنه لما أحدث هذه الأحداث وعذر أتباعه بالجهالات استتابه أكثر أتباعه وطلبوا منه أن يعلن توبته في المسجد، ففعل ذلك فندمت طائفة منهم على استتابته، وانضموا إلى العاذرين، وقالوا: إنه الإمام وله حق الاجتهاد ولا يجوز استتابته، وطلبوا منه أن يتوب من توبته، فاختلف أصحابه أيضاً: فكفرته طائفة لخلعه نفسه وكان من أشدهم عليه أبو فديك2 الذي يقال: إنه وثب على نجدة فقتله، وبويع له بالإمامة، فأنكر أصحاب نجدة تصرف أبي فديك فتبرؤوا منه وتولوا نجدة وكتب أبو فديك إلى عطية بن الأسود الحنفي3 يخبره بما اكتشفه من ضلال نجدة وقتله إياه، وأنه أحق بالخلافة منه، فكتب عطية إلى أبي فديك وطلب منه أن يأخذ له البيعة ممن قبله فأبى ذلك أبو فديك فبريء كل واحد منهما من صاحبه، وصارت الدار لأبي فديك وتبعه بعض النجدات

_ 1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/175، الفرق بين الفرق ص/89، الملل والنحل للشهرستاني 1/123. 2ـ اسمه عبد الله بن ثور، زعيم فرقة الفدكية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/182، الفرق بين الفرق ص/88. 3ـ زعيم فرقة العطوية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/176، الفرق بين الفرق ص/88، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 2/347، التبصير في الدين ص/52.

وظل البعض على الولاء لنجدة فصارت النجدات ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكية1، وكان هذا الخلاف بين النجدات من أعظم العوامل في تدمير هذه الفرقة حيث اضمحل أمرها وتلاشى أثرها. الصفرية: لقد اختلف العلماء فيمن تنتسب إليه هذه الفرقة، هل سموا بذلك نسبة إلى الصفرة إشارة إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلفوه من السهر والعبادة والزهد أم سموا بهذه التسمية نسبة إلى رجل معين كما نسبت الأزارقة والنجدات والإباضية، والذين ذهبوا إلى هذا الرأي الأخير اختلفوا في الشخص الذي نسبت إليه هل هو عبد الله بن صفار التميمي، أم زياد بن الأصفر، أم المهلب بن أبي صفرة، ولعل أصوب هذه الأقوال أن هذه الفرقة تنتسب إلى عبد الله بن صفار التميمي2، الذي كان مع نافع بن الأزرق في بداية أمره، ثم انفصل عنه عندما حصل الخلاف والانشقاق بين قادة الخوارج3، والصفرية كانت أقل شذوذاً وأقل غلوا من الأزارقة إذ أنهم خالفوهم في رأيهم تجاه القعدة ومرتكب الكبيرة فلم يكفروا القعدة كما ذهب الأزارقة ما داموا موافقين لهم في مذهبهم ولم يكفروا مرتكب الكبيرة على الإطلاق كما هو مذهب الأزارقة بل فرقوا بين الذنوب التي فيها حد مقرر كالزنا والسرقة والقذف والقتل العمد، فهذه في رأيهم لا يتجاوز بمرتكبها الاسم الذي سماه الله بها زان، وسارق، وقاذف، وقاتل عمد، وليس صاحبه كافراً ولا مشركاً، وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم فهو

_ 1ـ انظر في شأن النجدات مقالات الإسلاميين 1/174-176، الفرق بين الفرق ص/87-90، الملل والنحل للشهرستاني 1/122-125، التبصير في الدين ص/52-53. 2ـ انظر الخلاف في شأن هذه النسبة، لسان العرب 4/464-465، وانظر الصحاح للجوهري 2/715، القاموس 2/73، اللباب في تهذيب الأنساب 2/244. 3ـ انظر كيف بدأ الخلاف بين رؤساء الخوارج، تاريخ الأمم والملوك 5/566-568، الكامل في التاريخ 4/165-168.

كفر وصاحبه كافر1، ولا يرى الصفرية أن دار مخالفيهم دار حرب، كما لم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم، ولا يقولون بخلودهم في النار ولم يجيزوا سبي الذرية والنساء ولهم آراء تفردوا بها في الشرك والكفر والبراءة. فالشرك عندهم شركان: شرك هو طاعة الشيطان، وشرك هو عبادة الأوثان، والكفر كفران: كفر بإنكار النعم، وكفر بإنكار الربوبية، والبراءة براءتان، براءة من أهل الحدود سنة، وبراءة أن أهل الجحود فريضة2. ولم يسقط الصفرية عقوبة الرجم كما فعل الأزارقة، وأجازوا التقية كالنجدات ولكن في القول دون العمل3. ويذكر عن بعضهم تزويج المسلمات4 من كفار قومهم5 في دار التقية دون دار العلانية6. وقد تولى الصفرية المحكمة الأولى كعبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير وأتباعهما وقالوا بإمامة أبي بلال مرداس الخارجي الذي خرج أيام يزيد ابن معاوية ناحية البصرة وقتلته جيوش عبيد الله بن زياد ورثاه عمران بن حطان الذي كان شاعراً ناكساً وأصبح إماماً للصفرية بعد أبي بلال بقوله: أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس7 وقد قام الصفرية بثورات عديدة ناحية الشمال الأفريقي في عهد الأمويين ففي عهد هشام بن عبد الملك "71 – 125هـ" خرج رجل منهم يسمى ميسرة المضفري بنواحي طنجة8 واستطاع حمل البربر على الخروج عن طاعة

_ 1ـ الفرق بين الفرق ص/91، وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1/137. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137. 3ـ المصدر السابق. 4ـ يقصدون الخارجيات. 5ـ يقصدون بكفار قومهم بقية المسلمين. 6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137. 7ـ انظر الفرق بين الفرق ص/91-93. 8ـ طنجة: بلدة على ساحل بحر المغرب مقابل الجزيرة الخضراء وهي مدينة قديمة بناؤها بالحجارة قائمة =

الخليفة الأموي واستطاع إخضاع سائر بلاد المغرب الأقصى جنوب طنجة حتى وصل إلى السوس1، وبويع له بالخلافة وخاطبه البربر بأمير المؤمنين، ثم اتهم بممالأة العرب وخلع من الإمارة، وبويع مكانه خالد بن حميد الزناتي ولكن جيوش الخلافة تمكنت من إخماد حركة الصفرية سنة ثلاث وعشرين ومائة هجرية2، كما شهد العصر العباسي أيضاً: بعض الثورات الخارجية للصفرية، ومن ضمنها: ثورتهم بناحية "مكناسة" في المغرب الأقصى بقيادة عيسى بن أبي يزيد الذي تجمع حوله الصفرية من بني مدرار واختطوا لأنفسهم مدينة سجلماسة3 سنة أربعين ومائة هجرية واقتطعوها لأنفسهم من ولاية القيروان، وظل أبو يزيد أميراً نحواً من خمسة عشر عاماً ثم بويع من بعده لأبي القاسم بن سمكوا المكناسي الصفري الذي يقال: إنه كان يدين بالولاية للخليفة العباسي4، وكانت هناك ولاية خارجية صفرية تحت زعامة رجل يدعى أبو قرة الصنهاجي، الذي استطاع محاصرة القيروان والاستيلاء عليها5. الإباضية: تنتسب الإباضية إلى عبد الله بن إباض بن تيم اللات بن ثعلبة التميمي من بني مرة بن عبيد رهط الأحنف بن قيس6 وقد اختلف أهل العلم في الوقت

_ = على البحر. معجم البلدان 4/43. 1ـ السوس: بلد بالمغرب كان الروم تسميها قمونية، وقيل: إنها مدينتها طنجة. انظر معجم البلدان 3/281. 2ـ انظر كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/52-93، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/97. 3ـ سجلماسة: مدينة في جنوبي المغرب في طرف بلاد السودان بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب. انظر معجم البلدان 3/192. 4ـ انظر البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/156، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/111-112. 5ـ الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/116. 6ـ انظر ترجمة ابن إباض في الأعلام للزركلي 4/184-186

الذي خرج فيه عبد الله، هذا فقد قرر العلامة ابن جرير الطبري إلى أنه كان مع نافع بن الأزرق، وأنه انفصل عنه وكان هذا في سنة أربع وستين هجرية1. وذهب الشهرستاني: إلى أن ابن إباض ظهر في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية2. والإباضية يذهبون إلى ما قرره ابن جرير الطبري ويقولون: إن ابن إباض ظهر في أيام معاوية وعاش إلى زمن عبد الملك بن مروان وكان في أول أمره مع نافع بن الأزرق ولكن اختلف معه وفارقه ورد عليه3. قال محمد بن سعيد الأزدي في صدد ذكره لابن إباض "نشأ في زمان معاوية بن أبي سفيان، وعاش في زمان عبد الملك بن مروان، وكتب إليه السير المشهورة والنصائح المعروفة المذكورة"4. ورغم ارتباط الإباضية بعبد الله بن إباض إلا أنهم يعتبرون المؤسس الحقيقي الأول لفرقة الإباضية هو جابر بن زيد5 إذ أنه كان الإمام الأكبر وفقيههم ومفتيهم وهو الشخص الذي ظهر به فقه الإباضية بينما كان ابن إباض المسئول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار6، وإذا كان جابر بن زيد بهذه المنزلة

_ 1ـ تاريخ الأمم والملوك 5/566-567. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134. 3ـ انظر العقود الفضية في أصول الإباضية، ص/121-122. 4ـ الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان لأبي سعيد محمد بن سعيد الأزدي القلهماني ص/294. 5ـ هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي ثم الجوفي البصري مشهور بكنيته وهو تابعي فقيه من أهل البصرة أصله من عمان صحب ابن عباس وكان من بحور العلم، نفاه الحجاج إلى عمان، ولد سنة إحدى وعشرين ومات سنة ثلاث وتسعين هجرية. انظر ترجمته في حلية الأولياء 3/85-90، تذكرة الحفاظ 1/72، البداية والنهاية 9/104، تهذيب التهذيب 2/38. 6ـ انظر الأصول التاريخية للفرقة الإباضية، عوض محمد خليفات، ص/29، عمان في فجر الإسلام، سيدة إسماعيل كاشف، ص/55 وما بعدها.

العلمية فلماذا نسبت الفرقة إلى ابن إباض ولم تنسب إليه؟ للإجابة على هذا السؤال ذهب أحد الإباضية المعاصرين إلى أنه لا يدري السبب في عدم نسبة المذهب إلى جابر مع أنه أفقه وأعلم أهل زمانه، وقد قيل: إن ابن إباض يصدر في كل شؤونه عن فتواه ولا يبت في أمر من الأمور إلا بمشورته ورضاه1، بينما ذهب كاتب إباضي آخر في تفسير ذلك إلى أن نسبة المذهب إلى ابن إباض نسبة عرضية، كان سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسب المذهب الإباضي إليه، ولم يستعمل الإباضية في تارخهم المبكر هذه النسبة فكانوا يستعلمون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة" وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية كان في آخر القرن الثالث الهجري"2. وللإباضية آراء تميزوا بها من بين فرق الخوارج، فهم يقولون: "إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال،وما سواه حرام، وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة ويقولون إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة لا كفر الملة، وتوقفوا في أطفال المشركين وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضيلاً، واختلفوا في النفاق: أيسمى شركاً أم لا، قالوا: إن المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين إلا أنهم ارتكبوا الكبائر فكفروا بالكبيرة لا بالشرك"3. وأول بقعة نبتت عليها نابتة الإباضية البصرة، ثم انتشروا في شمال أفريقيا،

_ 1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية لأبي ربيع سليمان الباروني ص/24. 2ـ أجوبة ابن فرحون ص/9، هامش 1، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية، ص/15. 3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134-135، وانظر الفرق بين الفرق ص/103-104، التبصير في الدين ص/58

وفي الجزيرة، واستطاعوا أن يكونوا لهم دولة في عمان استقلوا بها عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفاح "132 – 136هـ" وامتد نفوذها إلى جزيرة زنجبار ولا تزال مباديء الإباضية وأفكارهم هي السائدة في هذه الأماكن كما أقام الإباضية لهم دويلات في ليبيا والجزائر واستمروا في ليبيا مدة ثلاثة أعوام فقط من عام 140 – 144 هـ، وفي جبل نفوسة ثم في منطقة تاهرت، اكتسب الإباضية ثقة البربر، وتمكن عبد الرحمن بن رستم أحد الذين تعلموا على يد أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة من إقامة دولة بني رستم والتي استمرت قرابة المائة والخمسين عاماً من عام "144 – 296هـ"، وكانت عاصمتها تاهرت مركزاً مهماً للدراسات وفقاً للمذهب الإباضي واستمرت ـ دولة بني رستم ـ حتى سقطت على يد الدولة "العبيدية الشيعية"1 والإباضية هي إحدى فرق الخوارج التي لها وجود إلى الوقت الحاضر، ووجودهم الآن يتمثل في دولة عمان بأكملها، "وجنوب الجزائر ـ وادي ميزاب، وجنوب تونس، وشمال ليبيا ـ جبل نفوس"2، فهذه الفرق المتقدم التعريف بها تعد أكبر فرق الخوارج الكبار. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والإباضية والصفرية والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية" 3.

_ 1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية ص/27-44، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية ص/19-20، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17، وقد ذكر ياقوت الحموي نبذة عن عبد الرحمن بن رستم وعن تجمع الإباضية حوله. انظر معجم البلدان 2/9. 2ـ انظر الإباضية بين الفرق الإسلامية ص/79-80، العقود الفضية ص/237-251، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17. 3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.

المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة

المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة لقد امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية، لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضى المؤمنين ورغبتهم، وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيرا ولم يبدلا حتى توفاهما الله تعالى على ما يرضيه من العمل الصالح والنصح للرعية وهذا الاعتقاد منهم حق وصدق، فلقد كانا رضي الله عنهما كذلك ولا يشك في هذا إلا من فتن بمعتقد الرافضة، وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، وكانوا موفقين فيه لكنهم هلكوا فيمن بعدهما حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة علي أيضاً بعد التحكيم بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عباس وأصحاب الجمل وصفين وقد وجه الخوارج إلى هؤلاء الأخيار من الصحابة طعناً عاماً يشملهم جميعاً ووجهوا إلى بعضهم طعناً على وجه الخصوص، فطعنهم فيهم على وجه عام أنهم يعتقدون فيهم أنهم كفروا وقد دون أهل العلم هذا المعتقد السيء عنهم في كتبهم. فقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه

من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري1. وقال المسعودي: "الذي يجمع الخوارج إكفارهم عثمان وعلياً، والخروج على الإمام الجائر وتكفير مرتكب الكبائر والبراءة من الحكمين أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري وعمرو بن العاص السهمي، وحكمهما، والبراءة ممن صوب حكمهما أو رضي به وإكفار معاوية وناصريه ومقلديه ومحبيه، فهذا ما اتفقت عليه الخوارج من الشراة والحرورية"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب"3. وقال الشهرستاني بعد تعداده لكبائر فرق الخوارج: "ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة"4. وقال في المحكمة الأولى: "وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين"5. وقال في الأزارقة بعد أن ذكر أنهم يعتقدون كفر علي رضي الله عنه قال: "وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليه تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في

_ 1ـ مقالات الإسلاميين 1/204. 2ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/125. 3ـ مجموع الفتاوى 19/89. 4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/115. 5ـ المصدر السابق 1/117.

النار1. وهذا المعتقد واضح البطلان بمجرد سماعه، واعتقاده ضلال وغواية وترك للحق جانباً، والخوارج استهواهم الشيطان بمعتقدهم هذا فكانوا له تبعاً فاعتقادهم كفر من تقدم ذكرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل لأمور عدة: الأمر الأول: أن الله تعالى أخبر بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم أفضل أمته. فقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2. فقد نوه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس وذلك لقيامهم الكامل بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ذلك إلا لما بلغوا إليه من كمال الإيمان وقوة اليقين ولأنهم حققوا صفات الخيرية المنوه عنها في هذه الآية، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة3. وقال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث" 4. "وإنما كان قرنه خير الناس لأنهم آمنوا به حين كفر الناس وصدقوه حين كذبوه ونصروه حين خذلوه وجاهدوا وآووا"5.

_ 1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121. 2ـ سورة آل عمران آية/110. 3ـ المستدرك 2/294، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وأورده السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/293. 4ـ صحيح مسلم 4/1965، من حديث عائشة رضي الله عنها. 5ـ فيض القدير للمناوي 3/478.

وأفراد الصحابة الذين يعتقد الخوارج المارقون كفرهم هم من الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي مقدمة من يتناوله هذا الثناء العالي الرفيع فهم من أهل الهجرة ومن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كفر به الناس وهم من الذين جاهدوا معه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فالآية والحديث فيهما شهادة الله ورسوله للصحابة عموماً بأنهم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: شهادة الله لهم بالإيمان الحقيقي الثابت في مواضع كثيرة من كتابه العزيز. قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 1 فكلمة {وَالَّذِينَ آمَنُوا} في هذه الآية أول ما ينطلق هذا اللفظ على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إذ أنهم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب بلا نزاع، لأنهم أول من خوطبوا به. وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2. ففي هذه الآية تذكير الله تعالى لنبيه بما أنعم عليه من تأييده له بالمؤمنين الذين هم المهاجرون والأنصار. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} 3 ولفظ المؤمنين في هذه الآية أول الداخلين فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هم المقصودون بالخطاب حال النزول قبل سائر المؤمنين والصحابة الذين كفرهم الخوارج هم من الذين أيد الله بهم نبيه وأمره بتحريضهم على القتال، ولكن لما

_ 1ـ سورة آل عمران آية/68. 2ـ سورة الأنفال آية/62. 3ـ سورة الأنفال آية/65.

زاغ الخوارج عن الحق والهدى في شان الصحابة أزاغ الله قلوبهم فلم يهتدوا إلى شهادة العليم الخبير بحقيقة الإيمان للصحابة الذين كفروهم أو تبرؤوا منهم. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1. وهذه الآية تضمنت شهادة الله تعالى للمهاجرين والأنصار بأنهم أهل الإيمان حقاً، وفي الآية إشارة إلى ما يدل على حقيقة إيمانهم حيث إنهم هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله ـ لله عز وجل ـ وجاهدوا بأموالهم حيث صرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وباشروا القتال بأنفسهم واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وعندما يتدبر المسلم نصوص القرآن الكريم التفصيلية يجد شهادة الله تعالى فيه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان في مختلف المواقع والمواقف التي تفيد في مجموعها ما تفيده النصوص العامة من الشهادة لمجموعهم بالإيمان وتفيد بدلالتها أيضاً: أن تكفير الخوارج لطائفة منهم هو عين الضلال، وعين المعاندة للأخبار القرآنية الإلهية، قال تعالى منوهاً بشأن أهل بدر: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} 2. وقال عنهم في موضع آخر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ

_ 1ـ سورة الأنفال آية/74. 2ـ سورة آل عمران آية/124-125.

إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1. وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2. وقال فيمن شهدوا أحداً: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3. وقال فيمن شهدوا صلح الحديبية وانقادوا لحكم الله ورسوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 4. فهذه الآيات فيها شهادة الله تعالى بالإيمان لأهل بدر وأهل أحد وأهل الحديبية، وفيهم معظم من يعتقد الخوارج أنهم كفروا، فلقد هلك الخوارج بنص هذه الآيات بحكمهم على طائفة من خيار الأمة بالكفر إذ أن ـ الباري جل وعلا ـ شهد لهم بحقيقة الإيمان والخوارج يكذبون الله في شهادته لهم بالإيمان ويسنبون إليه الجهل، إذ أنه يبعد أن يشهد الله تعالى بالإيمان لقوم وهو يعلم أنه سيكفرون. الأمر الثالث: أن الرب تبارك وتعالى أخبر في محكم كتابه العزيز أنه رضي

_ 1ـ سورة الأنفال آية/11-12. 2ـ سورة الأنفال آية/17. 3ـ سورة آل عمران آية/121-122. 4ـ سورة الفتح آية/4-5.

عن الصحابة ورضوا عنه وأنه وعدهم بالخلود في الجنات والفوز العظيم. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. ففي هذه الآية صرح تعالى أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو دليل قرآني صريح في أن من يعتقد كفرهم فهو ضال مخالف لله جل وعلا حيث كفر من رضي الله عنه ولا شك أن تكفير من رضي الله عنه مضادة له ـ جل وعلا ـ وتمرد وطغيان، وهذه صفة الرافضة والخوارج المارقة. وقال تعالى مبيناً فوزهم برحمته ورضوانه والنعيم المقيم في جناته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} 2. فمن يجرؤ بعد هذا أن ينسبهم إلى الكفر، اللهم إلا من كان له نصيب وافر من الخذلان، وصار عبداً للشيطان بإخراجه نفسه من عبودية الرحمن. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3. وفي هذه الآية أعلن الله رضاه عن جيش الإيمان الذين حضروا الحديبية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كان منهم علي وطلحة والزبير، وعثمان رضي الله عنه كان في مكة رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع له النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يده بدلاً عن يده فكانت خيراً له من يده وما أحسن ما رد به عبد القاهر

_ 1ـ سورة التوبة آية/100. 2ـ سورة التوبة آية/20-21. 3ـ سورة الفتح آية/18.

البغدادي على فرقة الخازمية1 من الخوارج وهو رد صارم على كل من كفر طلحة والزبير وعلياً وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، فقد قال رحمه الله: "إن الخازمية خالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعداوة وقالوا: إنهما صفتان لله تعالى وأن الله ـ عز وجل ـ إنما يتولى العبد الصالح على ما هو صائر إليه من الإيمان وإن كان في أكثر عمره كافراً ويرى منه ما يصير إليه من الكفر في آخر عمره وإن كان في أكثر عمره مؤمناً وإن الله تعالى لم يزل محباً لأوليائه ومبغضاً لأعدائه وهذا القول منهم موافق لقول أهل السنة في الموافاة غير أن أهل السنة ألزموا الخازمية على قولها بالموافاة أن يكون علي وطلحة والزبير وعثمان من أهل الجنة لأنهم أهل بيعة الرضوان الذي قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وقالوا لهم إذا كان الرضا من الله تعالى عن العبد إنما يكون عن علمه أنه يموت على الإيمان وجب أن يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة وكان علي وطلحة والزبير منهم، وكان عثمان يومئذ أسيراً، فبايع له النبي عليه السلام وجعل يده بدلاً عن يده وصح بهذا بطلان قول من أكفر هؤلاء الأربعة2. فإخبار الله تعالى بأنه رضي عن الصحابة ورضوا عنه، وإخباره بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وتبشيره لهم برحمته وضوانه وأن لهم النعيم المقيم في الجنات من أعظم الأدلة الدالة على بطلان تكفير الخوارج لهم وأنهم أهل جهل وضلالة وأنهم باعتقادهم هذا سلكوا سبيل الشيطان وتركوا سبيل الرحمن إذ يبعد أن يعلن الله رضاه على قوم ويقضي لهم بالخلود في الجنة وقد سبق في علمه أنهم سيكفرون ما يعتقد هذا إلا من أصيب بالزيغ والخذلان ومكذب بآيات القرآن.

_ 1ـ الخازمية أتباع رجل يدعى خازم بن علي، انظر ما جاء في شأن فرقة الخازمية، مقالات الإسلاميين 1/179، التبصير في الدين ص/55، الفرق بين الفرق ص/94-95، الملل والنحل للشهرستاني 1/131. 2ـ الفرق بين الفرق ص/94-95.

الأمر الرابع: أن الكفر بعيد الوقوع من قوم أخبر الله جل وعلا أنه بغّض إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين. قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2. فعند التأمل لهاتين الآيتين نجد في الآية الأولى أن الله تعالى أخبر بأن الكفر بعيد الوقوع من جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم حيث رباهم الله تربية فريدة لأنه أهّلهم لحمل أمانة دين الإسلام حيث يقومون بتبليغ دعوة خاتم المرسلين إلى من بعدهم من الأمة المحمدية، وقد فعلوا ذلك وقاموا به أتم قيام. وأما الآية الثانية: فقد أخبر تعالى فيها أنه جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة، فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين، كما نطقت بذلك الآية الكريمة. فكيف يكفر أولئك الخيرة على زعم الرافضة والخوارج المارقة وعليهم تتلى آيات الله وفيهم رسوله؟، بل كيف يكفرون وقد كره الله إليهم الكفر وجعلهم راشدين؟، فلقد زاغ الخوارج الجهلاء بزعمهم كفر عثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عباس وعائشة وعمرو بن العاص وابي موسى الأشعري ومعاوية وأصحاب الجمل وصفين من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وليس هناك من تفسير لتكفيرهم هؤلاء الأخيار إلا التكذيب بالقرآن الذي أخبرنا الله فيه أنه وعد جميع الصحابة بالحسنى، حيث قال جل وعلا: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ

_ 1ـ سورة آل عمران آية/101. 2ـ سورة الحجرات آية/7.

وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1، وبهذه الأمور الأربعة المتقدم ذكرها والتي استفدناها من آيات القرآن الكريم التي سقناها تبين بطلان تكفير الخوارج لمن قدمنا ذكرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولبعض فرق الخوارج مطاعن خاصة طعنوا بها على عثمان وعلي وأم المؤمنين رضي الله عنها. فأما مطاعنهم على وجه الخصوص في ذي النورين عثمان، فقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي كان يحدث أصحاب صالح بن مسرح التميمي2 أن قصص صالح عنده وكان ممن يرى رأيهم فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم ففعل وقد كان من ضمن الكتاب قوله: "وولي المسلمين من بعده3 عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه فبريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين"4. هذا الطعن في ذي النورين صادر من رجل يعد زعيماً لفرقة الصفرية من الخوارج وهذا الطعن ما هو إلا اختلاق فعثمان رضي الله عنه لم يستأثر بفيء ولم يعطل حداً من حدود الله، بل أقام حدود الله، بل أقام حدود الله مدة خلافته كما أمر الله حتى توفاه ربه وسار في الأمة بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين قبله، ولم يخرج رضي الله

_ 1ـ سورة الحديد آية/10. 2ـ هو صالح بن مسرح التميمي أحد زعماء الصفرية، وأول من خرج فيهم كان كثير العبادة وكان يقيم في أرض دارا والموصل والجزيرة وله أصحاب يقرأ لهم القرآن ويعظمهم فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم فأجابوه، ووفد عليه شبيب بن يزيد فكان قائد جيشه ونشبت الوقائع بينه وبين أمير الجزيرة "محمد بن مروان" فقتل صالح بالقرب من الموصل، قتله الحارث بن عميرة الهمداني سنة 76 هجرية. انظر ترجمته في تاريخ الطبري 6/216 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/393 وما بعدها، الأعلام للزركلي 3/283. 3ـ أي: بعد عمر. 4ـ تاريخ الأمم والملوك 6/217.

عنه في حكمه قيد أنملة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حكم الأمة بالعدل ولم يخف في الله لومة لائم، ولم يستذل مؤمناً ولم يعزز مجرماً كا تفوه بهذا هذا الخارجي الكذاب، وإنما كانت خلافته عزاً للمؤمنين وذلاً للكافرين، ولما أحس أهل الباطل من الفسقة الضالين الذين هم سلف هذا الخارجي لطاعن على عثمان بما ذكر لما أحسوا أنهم مقموعون ولنشر باطلهم غير مستعطيعين تحزبوا أحزاباً وخرجوا من مصر والكوفة والبصرة تحت راية الشيطان حتى انتهوا إلى المدينة، وأظهروا للناس أنهم يريدون الشكاية على عثمان من بعض المظالم حسب زعمهم، فأظهروا ما لا يبطنون، ثم غدروا حتى بلغ بهم الشر إلى أن قتلوا عثمان ظلماً وعدواناً، فهؤلاء هم البغاة الظالمون المفسدون، الذين يسميهم صالح بن مسرح بالمسلمين الذين ساروا إلى عثمان وقتلوه قتلهم الله، وأما قوله: بريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، فهذا من جرأته على الكذب على ـ الرب جل وعلا ـ الذي زجر عليه بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 1، فلا أظلم ممن يفتري على الله فيقال لهذا المفترى: متى بريء الله ورسوله من عثمان؟، ومتى بريء منه صالح المؤمنين؟. وعثمان كان من السابقين الأولين إلى الإسلام الذين جاء مدحهم والثناء عليهم بذلك في القرآن الكريم، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من الذين جاهدوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في غزواته بغية إعلاء كلمة الله وكان على غاية من الكرم والإحسان زوجه المصطفى عليه الصلاة والسلام بثنتين من بناته، فكان له صهر مكرم محمود وأعظم من هذا كله، شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة وهي حي يمشي على الأرض ولم يحضر بدراً بسبب تمريضه زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألحقه الله عز وجل ـ بالبدريين في أجره وسهمه، فكان معدوداً فيهم، ولما ولي الخلافة كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة اعتز بها المسلم وذل بها

_ 1ـ سورة العنكبوت آية/68.

الفاجر المنافق، وكانت له سيرة في الإسلام هادية لم يتسبب في سفك دم، جاءت فيه آثار صحاح ن الملائكة تستحي منه، وأنه ومن اتبعه على الحق وقد حظي رضي الله عنه بموالاة صالح المؤمنين ومحبتهم له إلى قيام الساعة لم يبرؤوا منه كما زعم هذا الخارجي، ولم يبرأ منه أو يذمه إلا من سفه نفسه، وكل من ابتلي بذم الصحابة أو تنصهم إنما ذلك لهوانه على الله وهذه حال الرافضة والخوارج المارقة. وأما طعنهم في علي رضي الله عنه على الخصوص فإن المحكمة الأولى لما انفصلوا عن جماعة المسلمين وانحازوا إلى حروراء انتحلوا أموراً نقموا عليه بها، وخطؤوه من أجلها، ولما علم رضي الله عنه أنهم بعد انحيازهم عنه ينقمون عليه أشياء تلطف معهم، وحاول أن يقنعهم بالرجوع إلى الصواب، فبعث إليهم ابن عباس رضي الله عنه لمناظرته، ولما انتهى إليهم ابن عباس سألهم عن الأسباب التي دفعت بهم إلى مفارقة معسكر الخليفة ردوا عليه بأنهم نقموا عليه ثلاثة أمور هي: الأول: أنه بقبوله "التحكيم" قد حكم الرجال في أمر الله الذي يقول عنه تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} 1، فأخطأ بهذا وكان ينبغي أن يستمر في مقاتلة أهل الشام حتى يظهر أمر الله. الأمر الثاني: أنه قاتل أصحاب "الجمل" وقتلهم وفي نفس الوقت لم يسبهم ولم يأخذ غنائمهم، بل إنه نهى عن قتل مدبرهم والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وقالوا: "إنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كان هؤلاء مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفاراً أبيحت دماؤهم وأموالهم. الأمر الثالث: أنه بقبوله "التحكيم" قد محا نفسه من إمرة المؤمنين وفي رأيهم الفاسد أنه إن لم يكن أميراً للمؤمنين فإنه أمير الكافرين وقد بين لهم ابن

_ 1ـ سورة يوسف آية/67.

عباس خطأهم في هذه الآراء، وأنهم لم يستنبطوا بهذه الأمور إلا الباطل وليس الحق. وقد روى ابن عباس نص حديثه ومحاورته الخوارج بنفسه، فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: "لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم قال: فدخلت عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة1 وجوههم من السهر، وقد أثر السجود في جباهم كأن أيديهم ثفن2 الإبل عليهم قمص مرحضة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس، وما هذه الحلة عليك؟، قال: قلت: ما تعيبون مني فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من ثياب اليمنية، قال: ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3، فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، قال بعضهم لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 4، فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قال: قلت ماذا نقمتم عليه؟، قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هن؟، قالوا: حكم الرجال في أمر الله، وقال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} ، قال: فقلت هذه واحدة، وماذا أيضاً، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم،

_ 1ـ مسهمة: يقال لونه يسهم: إذا تغير عن حاله لعارض. النهاية في غريب الحديث 2/229. 2ـ جمع ثفنة بكسر الفاء ما ولي الأرض من كل ذات أربع إذا بركت كالركبتين وغيرهما أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود، النهاية في غريب الحديث 1/215-216. 3ـ سورة الأعراف آية/32. 4ـ سورة الزخرف آية/58.

ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قال قلت: وماذا أيضاً؟، قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين؟، قال: قلت أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟، قال: قلت: أما حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقال في المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 2 فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمن ربع درهم وفي بضع امرأة قالوا: بلى، هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه؟، قالوا: نعم، قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة؟، فإن قلتم نسبها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا، فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين أخرجت من هذه؟، قالوا: بلى، قال: وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: وما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو"، قال فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين"3.

_ 1ـ سورة المائدة آية/95. 2ـ سورة النساء آية/35. 3ـ روى حديث ابن عباس هذا مع الخوارج عبد الرزاق في المصنف 10/157-160، وأخرج أحمد بعضه. انظر المسند 1/86، ورواه بكامله ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" 2/126-128، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص/91-93، وأورده الهيثمي في مجمع =

فلقد حجهم في هذه المناظرة بما لا مدفع فيه من الحجة، فقد بين لهم خطأهم في آرائهم التي استنبطوها حسب أهوائهم، وجعلوها مطاعن على علي رضي الله عنه، فقد بين لهم ن الله شرع التحكيم في أمور هي أهون من حقن دماء المسلمين كحالة الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، كما أمر تعالى ن يحكم في الصيد بجزاء {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1، فمن أنكر التحكيم مطلقاً فقد خالف كتاب الله، ثم ذكر لهم ن التحكيم في أمر أميرين لأجل حقن دماء المسلمين اولى من التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم لأجل الصيد. أما بالنسبة لطعنهم عليه بعدم سبيه أهل الجمل فقد بين لهم أنه كان من ضمن القوم المقاتلين في معركة "الجمل" أم المؤمنين عائشة، فهل يسبي الخوارج أمهم أم ينكرون أنها أمهم؟، فإن قالوا: إنها ليست بأمهم خرجوا من الإسلام وإن قالوا: إنهم يسبونها، ويستحلون منها ما يستحلون من غيرها فإنهم يخرجون أيضاً: من الإسلام، فهم مترددون بهذا بين ضلالتين، لأن الله تعالى قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2. وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى منشأ غلط الخوارج في هذه المسألة حيث قال: "وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمناً لم يبح قتاله بحال، وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل علياً كافر فإن هذا خلاف القرآن، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3. فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون، وأمر إن بغت إحداهما

_ = الزوائد 6/239-241، وقال عقبه: "رواه الطبراني وأحمد بعضه ورجالهما رجال الصحيح". 1ـ سورة المائدة آية/95. 2ـ سورة الأحزاب آية/6. 3ـ سورة الحجرات آية/9-10.

على الأخرى أن تقاتل التي تبغي فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء، ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وأنه يأمر بقتال الباغية، حيث أمر الله به1. وأما المشكلة الثالثة وهي قولهم إن علياً محا عن نفسه أمير المؤمنين فقد رد عليهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بأنه ليس في هذا شيء يؤخذ على "عليّ" إذ أن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو أفضل من "علي" محا عن نفسه صفة الرسالة التي هي منزلة أفضل من منزلة إمرة المؤمنين وذلك حين قال لعلي: في صلح الحديبية: "اكتب لهم كتاباً" فكتب علي: "هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله" فقال المشركون: والله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك لتعلم أني رسول الله، امح يا علي واكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله"، فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه. بهذه الحجة الواضحة القوية استطاع ابن عباس2 أن يرد طائفة كبيرة

_ 1ـ مجموع الفتاوى 19/89-90. 2ـ وقد عزا بعض أهل العلم هذه المناظرة مع الخوارج إلى علي نفسه. انظر الفرق بين الفرق ص/78-79، البداية والنهاية 7/305، ولعل علياً رضي الله عنه هو الذي قرر أصول هذه الأجوبة أولاً، ثم أرسل ابن عباس بها ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه تحدثني عن هؤلاء القوم الذي قتلهم علي رضي الله عنه. قال: وما لي لا أصدقك، قالت: تحدثني عن قصتهم، قال: فإن علياً رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه، فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى "اسم سماك الله تعالى به" ثم انطلقت فحكمت في دين الله فلا حكم إلا لله تعالى، فلما أن بلغ علياً رضي الله عنه ما عتبوا عليه وفارقوه عليه فأمر مؤذناً فأذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده، ويقول: أيها =

من الخوارج إلى الحق والصواب. ومن المطاعن الخاصة التي طعنوا بها على علي رضي الله عنه أن نافع بن الأزرق بعد أن أكفر علياً افترى على الله وقال: إن الله أنزل في شأن علي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 1، وصوّب عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وقال: "إن الله تعالى أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 2. وقد شارك نافع بن الأزرق في هذا الإفك والافتراء على الله "حفص بن أبي المقدام" زعيم الحفصية من الإباضية3. والرد على هذا الزور: يقال لهذين الخارجيين اللذين حرما فقه كتاب الله: "إن الله تعالى أنزل القرآن مفرقاً على رسوله صلى الله عليه وسلم حسب الحوادث، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

_ = المصحف حدث الناس، فناداه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟. قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال كيف نكتب؟ فقال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاكتب محمد رسول الله"، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب "هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً" ي قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} ، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنه ... الحديث. المسند 1/86، ورواه أبو يعلى في مسنده 1/367-370، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 7/306-307، وقال: تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء في المختارة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/235-237، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. 1ـ سورة البقرة آية/204. 2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/120، والآية رقم 207 من سورة البقرة. 3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.

يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية نزلت في الأخنس بن شريق، وهو حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأظهر له الإسلام، وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: "إنما جئت أريد الإسلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} 1. وقيل: "إنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم"2. وأما الآية الثانية، وهي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، فإنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، حيث تبعه نفر من قريش لما خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، فنزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 3. وبهذا تبين ن سبب نزول هاتين الآيتين ليس كما افتراه نافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام زعيم الحفصية من الإباضية في أنهما نزلتا في علي رضي الله

_ 1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/312، أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40. 2ـ هذا القول مروي عن ابن عباس. انظر جامع البيان للطبري 2/313، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/436. 3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/228، وانظر أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40.

عنه، وفي المخذول عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وليس هناك من دافع لنافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام لتأويلهما الآيتين بما تقدم ذكره إلا اتباع الهوى والبغض الذي امتلأ به قلوب الخوارج لعلي رضي الله عنه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم أنه "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"1، فالخوارج الذين يبغضون علياً لهم النصيب الأكبر من هذا الوعيد الذي يتعرض له من أبغض رابع الخلفاء الراشدين. ومن المطاعن التي طعن بها الخوارج على علي رضي الله عنه على وجه الخصوص ما زعمه حفص بن أبي المقدام من أن قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} 2 فقد زعم هذا الأفاك الأثيم أن علياً هو الحيران الذي ذكره الله في هذه الآية، وأن أصحابه الذين يدعونه إلى الهدى أهل النهروان3. والرد على هذا الإباضي الذي كان زعيم الحفصية من الإباضية. أن تأويله الآية بهذا محض افتراء على الله وتقول عليه سبحانه بغير علم، فالآية الكريمة لم تنزل في أحد على وجه خاص، وإنما الآية كما قال إمام المفسرين بن جرير الطبري: مثل ضربه الله لجميع العباد إن هم كفروا بعد الإيمان، فقد قال رحمه الله في معنى الآية: "مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام4، فالآية مثل ضربه الله للذي لا يستجيب لهدي الله وهو

_ 1ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 1/86 من حديث علي نفسه. 2ـ سورة الأنعام آية/71. 3ـ مقالات الإسلاميين 1/183. 4ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7/236، وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 3/296.

الرجل الذي أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وهذا الوصف موجود في الخوارج المارقة الذين يتركون التأويل الحق لآيات الكتاب ويتعمدون إلى تأويلها بالباطل كما فعلوا في الآيات السابقة حيث افتروا على الله وأولوها على حسب أهوائهم، وبما يتفق مع بغضهم فكذبوا على الله وقالوا: إنها في علي رضي الله عنه البار الراشد الذي حفظت لنا السنة المطهرة الكثير من مناقبه الشريفة التي أعلاها وأجلها أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وهو أحد الأشخاص الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة بأعيانهم وقد تربى على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيت النبوة وشهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي بعد هذا أناس شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين مروق السهم من الرمية، ويضادون شهادته صلى الله عليه وسلم بالجنة لطائفة من أصحابه، ثم يأتون ويقولون: إنهم كفار وإنهم يخلدون في النار بناء على شبه قذف بها الشيطان في قلوبهم فثبتت فيها فضلوا بها عن سواء السبيل وسلكوا طريق الضالين الغاوين. وأما طعن الخوارج على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإن الشبيبية من الخوارج الذين هم أتباع شبيب بن يزيد الخارجي أنكروا عليها خروجها إلى البصرة، ويزعمون أنها كفرت بمخالفتها قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1. والرد على طعن الشبيبية هذا: يقال لهم: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تخرج إلى البصرة لما قذفه الشيطان في قلوبكم من الشر وحملتم خروجها عليه، وإنما كان خروجها لقصد الإصلاح، رجاء ن يرجع الناس إلى أمهم فيرعوا حرمة نبيهم ورجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت رضي الله عنها حتى بلغت الأقضية مقاديرها،

_ 1ـ سورة الأحزاب آية/33.

ثم إن فرقة الشبيبية من الخوارج لم ينكروا على غزالة أم شبيب الخارجي ومن خرج معها من النساء الخارجيات لمقاتلة جيوش الحجاج بن يوسف الثقفي1 ولم يكفروهن بذلك ولم يتلوا عليهن الآية التي يستدلون بها على أن عائشة رضي الله عنها أخطأت في خروجها إلى البصرة، فإن زعموا أن أولئك النسوة معهن محارم من أزواج وبنين وإخوة يرد عليهم بأن أم المؤمنين كان معها أخوها محمد بن أبي بكر وابن أختها عبد الله بن الزبير، وهي أم المؤمنين بنص القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، ولكنهم قوم حرموا الفقه في الدين فلم يهتدوا لما أراده الله من الأوامر الشرعية. ولقد رد عبد القاهر البغدادي على طعن الشبيبية على أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بخروجها إلى البصرة، حيث قال: "يقال لهم أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة، مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها لأنها أم جميع المؤمنين في القرآن وزعمتم أنها كفرت بذلك وتلوت عليها قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهلا تلوتم هذه الآية على غزالة أم شبيب، وهلا قلتم بكفرها وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج إلى قتال جيوش الحجاج، فإن أجزتم لهن ذلك لأنه كان معهن أزواجهن أو بنوهن أو إخوتهن، فقد كان مع عائشة أخوها عبد الرحمن وابن أختها عبد الله بن الزبير وكل واحد منهم محرم لها وجميع المسلمين بنوها وكل واحد محرم لها، فهل أجزتم لها ذلك على أن من أجاز منكم إمامة غزالة فإمامتها لائقة به وبدينه والحمد لله على العصمة من البدعة3. فلقد وقف الخوارج من خيار الصحابة الذين تقدم ذكرهم موقفاً سيئاً

_ 1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/112-113، في شأن مقاتلة نساء الخوارج للحجاج. 2ـ سورة الأحزاب آية/6. 3ـ الفرق بين الفرق ص/113.

مشيناً حيث إنه موقف ممن شهد الله لهم بالإيمان وأخبر أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه وأن لهم النعيم المقيم، وأنهم أصحاب الفوز العظيم، كما أخبر تعالى أنه وعدهم جميعاً بالحسنى وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من جاء بعدهم لا يدركهم في فضلهم ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه فلا يكفرهم بعد هذا أو يقدح فيهم إلا إنسان معاند لله مكذب له فيما أخبر به عنهم بما ذكر، وهذه صفة من سفه نفسه وأنزلها منزلة الأخسرين أعمالاً.. نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغواية بعد الهداية.

المبحث الرابع: ذكر أحاديث وآثار تتضمن ذمهم

المبحث الرابع: ذكر أحاديث وآثار تتضمن ذمهم لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج المارقة وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل، وكذا وردت بعض الآثار عن السلف تتضمن كذلك ذمهم وما سلكوه من الطريق المخالف لغير سبيل المؤمنين، وسأذكر في هذا المبحث جملة من ذلك لبيان أن الخوارج أهل هوى وبدعة آثروا غرور الشيطان وتزيينه وأعرضوا عما اشتمل عليه كتاب الله من الهدى، فلم يكن حظهم منه إلا مجرد تلاوته بالفم والحنجرة إذ بهما يتم تقطيع الحروف فلم تفقه قلوبهم، ولا انتفعوا بما تلوا منه، وقد وردت الإشارة إلى حالتهم هذه في الأحاديث التي وردت في ذمهم ووصمهم بأرذل الصفات. فمن الأحاديث التي وردت الإشارة فيها إلى ذمهم: ما رواه الشيخان في صحيحهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً ـ إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل"، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته من صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم1 يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية2 ينظر إلى.......

_ 1ـ تراقيهم: جمع ترقوة، وهي العظم بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان من الجانبين. النهاية في غريب الحديث 1/187. 2ـ الرمية: الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيه سهمك. وقيل: هي كل دابة مرمية. النهاية 2/268.

نصله 1 فلا يوجد فيه شيء وينظر إلى رصافه 2 فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم 3 آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة4 تدردر5 ويخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: "فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته"6. وروى الشيخان أيضاً من حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما "أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها؟، قال: لا أدري ما الحرورية؟، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو حناجرهم ـ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة7 هل علق بها من الدم شيء" 8. وروى البخاري من حديث يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف:

_ 1ـ النصل: هو حديدة السهم. انظر شرح النووي 7/165. 2ـ رصافة يقال: رصف السهم إذا اشتد بالرضاف وهو عقب يلوي على مدخل النصل فيه. النهاية في غريب الحديث 2/227. 3ـ يعني: مر مراً سريعاً في الرمية لم يعلق به شيء من الفرث والدم، انظر شرح السنة للبغوي 10/226. 4ـ البضعة: القطعة من اللحم. النهاية في غريب الحديث 1/133. 5ـ تدردر: أي ترجرج تجيء وتذهب. النهاية في غريب الحديث 2/112. 6ـ صحيح البخاري 2/281، صحيح مسلم 2/744، 745. 7ـ الفوقة: بضم الفاء، هي: الحز الذي يجعل فيه الوتر. شرح النووي 7/165. 8ـ صحيح البخاري 4/197، صحيح مسلم 2/743-744.

هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟، قال: سمعته يقول ـ وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية" 1. ففي هذه الثلاثة الأحاديث ذم واضح لفرقة الخوارج، فقد وصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، وأنهم يبالغون في الصلاة وقراءة القرآن لكنهم لا يقومون بحقوق الإسلام، بل يمرقون منه بحيث يدخلون فيه ثم يخرجون منه سريعاً لم يتمسكوا منه بشيء، كما اشتمل الحديث الأول في هذه الثلاثة الأحاديث أنهم يقاتلون أهل الحق، وأن أهل الحق يقاتلونهم وأن فيهم رجلاً صفة يدة كذا وكذا، وكل هذا وقع وحصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجاوز تراقيهم" احتمالان: الأول: يحتمل أنه لكونه لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به. الثاني: يحتمل أن يكون المراد أن تلاوتهم لا ترتفع إلى الله2. ومن صفاتهم الذميمية التي ذمهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عندما يقرءون القرآن يظنونه لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم وهو عليهم. فقد روى البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه، أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في أخر الزمان3 أحداث

_ 1ـ صحيح البخاري 4/198، وانظر صحيح مسلم 2/750. 2ـ فتح الباري: 6/618، وانظر ما قاله القاضي عياض في شرح النووي 7/159. 3ـ قال الحافظ ابن حجر: المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة فإن في حديث سفينة المخرج في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعاً "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكاً" وكانت قصة =

الأسنان1 سفهاء الأحلام 2 يقولون من خير قول البرية 3 لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 4. وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي 5 يقرءون القرآن ليس قرائتكم إلى قرائتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" 6. وفي هذين الحديثن ذم للخوارج بأنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق، فقد دل الحديث الأول على أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب7، وأما هذا الحديث الذي هو حديث زيد بن وهب الجهني عن علي رضي الله عنه فقد أطلق الإيمان

_ = الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي سنة ثمان وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين. فتح الباري 12/287. 1ـ صغار الأسنان شرح النووي على صحيح مسلم 7/169، وانظر النهاية في غريب الحديث 1/351. 2ـ أي: ضعفاء العقول. فتح الباري 6/619. 3ـ " يقولون من قول خير البرية" أي: من القرآن كما في حديث أبي سعيد المتقدم "يقرءون القرآن" وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله وانتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها. فتح الباري 6/619، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/169. 4ـ صحيح البخاري 2/281. 5ـ تقدم في حديث أبي سعيد "يخرج في هذه الأمة" ولم يقل منها وفي هذا الحديث يخرج قوم من أمتي" فهنا يحتاج إلى الجمع بينهما. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله مبيناً وجه الجمع بين الحديثين: "المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدعوة. قال النووي: "وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ وفيه إشارة عن أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة. فتح الباري 12/289، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/164. 6ـ صحيح مسلم 2/748. 7ـ فتح الباري 12/288, وانظر عمدة القاريء 24/86.

فيه على الصلاة وكلا الحديثين دلا على أن إيمانهم محصور في نطقهم وأنه لا يتجاوز حناجرهم، ولا تراقيهم، وهذا من أبشع الذم وأقبحه لمن وصف به. ومن الصفات القبيحة التي ذمهم بها عليه الصلاة والسلام أنهم بمروقهم من الدين لا يوفقون للعودة إليه، وأنهم شر الخلق والخليقة، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة" 1. وروي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق قال: "هم شر الخلق "أو من شر الخلق" يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" 2. ومن أخبر صلى الله عليه وسلم عنه بهذه الصفة لا شك أنه من المهلكين البائسين الذين يحادون الله ورسوله ولهم الذلة والصغار في الدنيا قبل الآخرة. ومن صفات الذم التي ذم بها الخوارج على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من أبغض الخلق إلى الله. فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبيد بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل3 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناساً إني لأعرف صفتهم وهؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم، "وأشار إلى حلقه" من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى

_ 1ـ صحيح مسلم 2/750. 2ـ صحيح مسلم 2/745. 3ـ معناه: أن الكلمة أصلها صدق. قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله} . لكنهم أرادوا بها الإنكار =

يديه طبي شاة1 أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: أرجو فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثاً ثم وجدوه في خربه فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم2. ومن صفاتهم القبيحة التي كانت ذماً لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم حرموا من معرفة الحق والاهتداء إليه. فقد روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أسير3 بن عمرو عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم "4. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "يتيه قوم قبل المشرق" أي: يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحق، يقال: تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم5. ومن الصفات المذمومة التي تلبسوا بها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها واقعة فيهم أنهم يتدينون بقتل أهل الإسلام وترك عبدة الأوثان والصلبان. فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها

_ = على علي رضي الله عنه في تحكيمه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/173-174. 1ـ يقال: لموضع الإخلاف من الخيل والسباع أطباء كما يقال: في ذوات الخف والظلف: خلف وضرع والمراد به هنا ضرع الشاة. انظر النهاية في غريب الحديث 3/115، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/174. 2ـ صحيح مسلم 2/749. 3ـ تقدم قريباً في حديث أن اسمه يسير بالياء المضمومة وفتح السين وهنا مثله إلا أنه بهمزة مضمومة وكلاهما صحيح يقال: يسير وأسير. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/174-175. 4ـ صحيح مسلم 2/750. 5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/175.

رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر ... فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين1 ناتئ الجبين2، محلوق الرأس فقال: اتق يا محمد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن يطيع الله أن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني" قال: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله يرون أن خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من ضئضئي هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 3. وفي هذا معجزة باهرة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث وقع منهم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يسلون سيوفهم على أهل الإسلام بالقتل وكانوا يغمضونها عن الكفار من اليهود والنصارى، وكانوا يعظمون ظلمهم بل بلغ بهم سوء حالهم أن عنفوا أحدهم على تناوله حبة تمر من نخيل كتابي، كما زجروا أحدهم ولاموه على قتله خنزير لمعاهد، أما سفكهم دماء أهل الإسلام فإنهم يستحلون ذلك ويهونون أمره، ولا يلومون عليه كقتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت4 وغيره من المسلمين، فإنهم فعلوا ذلك واستعرضوا الناس بالسيف دون أن يقول بعضهم لبعض هذا منكر. ومن الصفات القبيحة التي كانت ذماً وعاراً مشيناً للخوارج أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرض على قتلهم إن هم ظهروا وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه لو أدركهم لأبادهم بالقتل إبادة عاد وثمود، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن من قتلهم له أجر عند الله تعالى يوم القيامة. فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري

_ 1ـ مشرف الوجنتين: أي غليظهما والوجنتان تثنية وجنة والوجنة من الإنسان ما ارتفع من لحم خده. 2ـ ناتئ الجبين: أي بارز الجبين من النتوء وهو الارتفاع. 3ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/741-742. 4ـ انظر مصنف ابن أبي شيبة 15/323.

رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين الأربعة الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن حصن الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد1 أهل نجد ويدعنا قال: "إنما أتألفهم"، فأقبل رجل غائر العينين2 مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين كث اللحية3 محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: "من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني" فسأله رجل قتله أحسبه خالد4 بن الوليد فمنعه، فلما ولى قال: "إن من ضئضئي هذا أو في عقب هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ... لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد "5. وفي رواية لهما بلفظ قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود"6. وروى البخاري بإسناده إلى سويد بن غفلة قال: "قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن

_ 1ـ صناديد أهل نجد: أي سادتها وأحدها صنديد. 2ـ غائر العينين: أي: أن عينيه داخلتان في محاجرهما لاصفتان بقعر العين. 3ـ كث اللحية: قال ابن الأثير: "الكثافة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة وفيها كثافة، يقال: كث اللحية بالفتح، وقوم كث بالضم. النهاية في غريب الحديث 4/152. 4ـ جاء في صحيح البخاري 4/198، وكذا صحيح مسلم 2/744. أن الذي سأل قتله عمر رضي الله عنه، وقد جمع الحافظ بين الحديثين بأن كلا منهما سأل ذلك وقد جاء في صحيح مسلم 2/743 من حديث عمارة بن القعقاع فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟، قال: لا. قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: "لا"، فهذا نص في أن كلاً منهما سأل وقد استشكل سؤال خالد وذلك لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن كما في صدر حديث أبي سعيد ويجاب بأن علياً لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة فأرسل علي الذهب فحضر خالد قسمته. انظر فتح الباري 12/293. 5ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/742، واللفظ للبخاري. 6ـ صحيح البخاري 3/74، صحيح مسلم 2/742-743.

أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول أهل البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأين ما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة" 1. وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قرائتكم إلى قرائتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكون هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس2، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال: مررنا على قنطرة فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها 3 فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم4 وسلوا السيوف، وشجرهم الناس.....

_ 1ـ صحيح البخاري 2/281، وهو في مسلم 2/746-747. 2ـ أغاروا في سرح الناس: السرح والسارح والسارحة الماشية، أي، أغاروا على مواشيهم السائمة، النهاية في غريب الحديث 2/358. 3ـ وسلوا سيوفكم من جفونها: أي: أخرجوها من أغمادها جمع جفن وهو الغمد. النهاية في غريب الحديث 1/280. 4ـ فوحشوا برماحهم: أي: رموا بها عن بعد منهم ودخلوا فيهم بالسيوف حتى لا يجدوا فرصة.

برماحهم1، قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج2 فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض، قال: أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله، قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين آلله الذي لا إله الا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثاً3 وهو يحلف له4. فهذه ثلاثة أحاديث اشتملت على ذم واضح للخوارج المارقة حيث حرض النبي صلى الله عليه وسلم على قتلهم متى ظهروا كما ورد في هذه الأحاديث التنويه بعظيم أجر من قاتلهم عند الله تعالى، وقد شرف الله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمقاتلتهم وقتلهم إذ أن ظهروهم كان في زمنه رضي الله عنه وأرضاه على وفق ما وصفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلامات الموجودة فيهم، فقد خرج رضي الله عنه إلى الخوارج بالجيش الذي كان قد هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، ولما أظهروه من الشر في أعمالهم وأقوالهم وحسبنا هنا من الأحاديث الواردة في ذم الخوراج ما تقدم ذكره إذ الأحاديث الورادة في ذمهم كثيرة قلما

_ 1ـ وشجرهم الناس برماحهم: أي مدوها إليهم وطاعنوهم بها ومنه التشاجر في الخصومة وسمي الشجر شجراً لتداخل أغصانه والمراد بالناس أصحاب علي. النهاية في غريب الحديث 2/446. 2ـ المخدج: بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال أي: ناقص اليد. شرح النووي على صحيح مسلم 17/171، النهاية في غريب الحديث 2/13. 3ـ قال النووي: وإنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر لهم أن علياً وأصحابه أولى الطائفتين بالحق وأنهم محقون في قتالهم. شرح النووي على صحيح مسلم 7/173. 4ـ صحيح مسلم 2/748-749.

يخلو منها كتاب من كتب السنة المطهرة. وأما الآثار الورادة عن السلف في ذم الخوارج فكثيرة جداً أيضاً نذكر طرفاً منها لبيان أن الخوارج اتصفوا بصفات ذميمة عابهم بها السلف رحمهم الله. فمن الصفات التي ذمهم بها السلف أنهم قوم أصيبوا بالفتنة فعموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه. فقد روى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن قال: لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟، قال: من الكفر فروا، قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فما هم؟، قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا1. ومن الصفات الشنيعة التي شنع عليهم السلف بها أنهم كانوا يعتبرونهم من شرار خلق الله تعالى، حيث إنهم عمدوا إلى آيات من كتاب الله تعالى مقصود بها الكفار فجعلوها في المؤمنين، فقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يراهم شرار خلق الله وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين2. وروى عبد الرزاق عن معمر عن أبي غالب3 قال: لما أتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق4 جاء أبو أمامة رضي الله عنه، فلما رآهم

_ 1ـ مصنف عبد الرزاق 10/150. 2ـ رواه البخاري تعليقاً في صحيحه 4/197، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكره لقول ابن عمر هذا: "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج، أنه سأل نافعاً كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟، قال: كان يراهم شرار خلق الله انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين ـ ثم قال ـ سنده صحيح. أهـ فتح الباري 12/286. 3ـ قيل: اسمه حزور البصري. وقيل: سعيد بن حزور، وقيل: نافع. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 12/197. 4ـ هذه الرؤوس مما كان بعث به المهلب بن أبي صفرة في عهد عبد الملك بن مروان. انظر تهذيب تاريخ دمشق 6/420.

دمعت عيناه، ثم قال: كلاب النار كلاب النار، هؤلاء لشر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، قلت: فما شأنك دمعت عيناك؟، قال: رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: قلت أبرأيك قلت: كلاب النار، أو شيء سمعته؟، قال: إني إذاً لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا اثنتين ولا ثلاثاً فعدد مراراً، ثم تلا: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} حتى بلغ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وتلا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} حتى بلغ {أُولُو الأَلْبَابِ} 2، ثم أخذ بيدي فقال: أما إنهم بأرضك كثير فأعاذك الله تعالى منهم3. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى عمير بن إسحاق، قال: ذكروا الخوارج عند أبي هريرة، قال: "أولئك شرار الخلق"4 ومن الصفات التي ذمهم بها السلف ووجدت فيهم أنهم كانوا يخشعون عند تلاوة المحكم من كتاب الله ـ عز وجل ـ ولكنهم كانوا يهلكون عند المتشابه منه. فقد روى أبي أبي شيبة أيضاً: بإسناده إلى ابن عباس أنه ذكر ما يلقى الخوارج عند القرآن، فقال: يؤمنون عند محكمه ويهلكون عند متشابهه5. ومن الصفات التي ذمهم بها السلف ووجدوهم عليها أنهم "لما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة

_ 1ـ سورة آل عمران آية/106-107. 2ـ سورة آل عمران آية/7. 3ـ مصنف عبد الرزاق 10/152، مصنف ابن أبي شيبة 15/307-308، تهذيب تاريخ دمشق 6/420. 4ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/305. 5ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/313.

والخذلان، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى مصعب بن سعد قال: سئل أبي عن الخوارج، قال: قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم"1. ومما ذمهم به السلف رحمهم الله أنهم لما وقعوا في البدعة استدرجهم الشيطان شيئاً فشئاً حتى بلغ بهم إلى أن استحلوا سفك دماء أهل الإسلام، واجتمعوا على السيف وفتنوا بالاختلاف في الدين. فقد روى عبد الرزاق في المصنف بإسناده إلى الحسن بن علي أنه قال: لرجل من الخوارج: ما الإسلام؟، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وحج البيت وصيام رمضان والغسل من الجنابة، وذكر أشياء، فقال الحسن: إنك لتقتل من هذا دينه. وروى أيضاً بإسناده إلى أبي قلابة أنه قال: "ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا بها السيف"2. وقال أيوب السختياني رحمه الله: "إن الخوارج اختلفوا في الإسلام واجتمعوا على السيف"3. ومن الصفات التي تعد ذماً للخوراج وتشنيعاً عليهم أن السلف رحمهم الله كانوا يحمدون الله تعالى، أن نجاهم مما وقع فيه الحرورية، فقد روى عبد الرزاق بإسناده إلى أبي العالية الرياحي أنه قال: "إن علي لنعمتين ما أدري أيتهما أعظم أن هداني الله للإسلام ولم يجعلني حرورياً"4. ومما شنع به السلف على الخوارج المارقة أنهم كانوا إذا استأذنوا عليهم في بيوتهم لم يأذنوا لهم بالدخول لشناعة بدعتهم ولقبح فعلهم مع أهل الإسلام،

_ 1ـ المصدر السابق 15/325، كنز العمال 11/323. 2ـ هذا الأثر والذي قبله في مصنف عبد الرزاق 10/151. 3ـ شرح السنة للبغوي 10/233. 4ـ المصنف لعبد الرزاق 10/153.

واحترامهم لأهل الأوثان. فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى غيلان بن جرير قال: "أردت أن أخرج مع أبي قلابة إلى مكة، فاستأذنت عليه فقلت: أدخل؟، قال: إن لم تكن حرورياً" 1. والآثار عن السلف في ذم الخوارج كثيرة وحسبنا في هذا المقام ما تقدم وكلها دلت على أن فرقة الخوارج من أهل البدع والبغي أشربت قلوبهم بحب الخروج على الولاة ومخالفة الجماعة وشق العصا واستحلال دماء أهل الإسلام وتكفيرهم والحكم عليهم بالخلود في النار، ويسالمون عبدة الأوثان نعوذ بالله من الحيرة والشك والخذلان ...

_ 1ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/316

المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة النواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد السديد في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان اعتقاد عدم محبة رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، وقبل أن أذكر معتقد النواصب الذي جعلهم في ركب الفرق التي هلكت في شأن الصحابة الكرام أذكر تعريفهم ليعلم أنها فرقة غاب عنها قدر أهل بيت النبوة الذين في مقدمتهم علي رضي الله عنه والذي هو خير الأمة بعد الخلفاء الثلاثة قبله رضي الله عنهم أجمعين حيث نال شرف تربية الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال شرف الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره ولما كبر كان شجاعاً مقداماً في محاربته الكفار والمشركين، مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان في حروب الردة مع الصديق رضي الله عنه ... وإلى تعريف فرقة النواصب: جاء في القاموس: "وناصبه الشر أظهره له ... والنواصب والناصبية وأهل النصب المتدينون ببغضة علي رضي الله عنه لأنهم نصبوا له، أي: عادوه"1. وجاء في لسان العرب: ناصبه الشر والحرب والعداوة مناصبة أظهره له

_ 1ـ القاموس المحيط 1/137، 138. وانظر: تاج العروس 1/487، أساس البلاغة للزمخشري ص/635.

ونصبه وكله من الانتصاب ... والنواصب: "قوم يتدينون ببغضة علي عليه السلام"1. وفي كليات أبي البقاء الكفوي: "والنصب يقال أيضاً: لمذهب هو بغض علي بن أبي طالب وهو طرفي النقيض من الرفض"2. فتبين من هذه التعاريف المتقدم ذكرها أن النصب هو بغض علي بن أبي طالب رضي الله عنه والنيل منه والانحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً فالنصب كالرفض لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله في وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سابقتهم في الإسلام، وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم له. معتقدهم السيء في الصحابة: تبين من التعريف للنواصب أن من معتقدهم الفاسد تدينهم ببغض علي رضي الله عنه وأرضاه، ولم يقفوا عند هذا الضلال الذي هو تدينهم ببغضه بل افتروا عليه وتنقصوه حتى بلغ بهم سوء حالهم حتى رموه بالفسق ووصفوه بالظلم. فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى موقف الخوارج من علي رضي الله عنه ومعتقد النواصب فيه بعد ن بين أن الرافضة عاجزون عن رد مطاعن الفريقين فيه رضي الله عنه، قال: "الخوارج الذين يكفرون علياً، والنواصب الذين يفسقونه ـ يقولون ـ إنه كان ظالماً طالباً للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز

_ 1ـ لسان العرب 1/761، 762. 2ـ كليات أبي البقاء الكفوي ص/361، وانظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.

عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه1. كما يعتقدون أنه كان مخطئاً في حروبه ولم يكن مصيباً فيها2. ثم إن النواصب تناولوا أيضاً: بالقول السيء الحسين بن علي رضي الله عنه حيث زعموا: "أن الحسين كان خارجياً، وأنه كان يجوز قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان" رواه مسلم3. وإلى بيان رد هذا المعتقد السيء: فاعتقاد النواصب ببغض علي وتدينهم به ضلال وجهالة ومخالف لما أراده الله ورسوله ممن جاء بعد الصحابة من وجوب تطهير قلوبهم من الغل والحقد عليهم ووجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4 ففي هذه الآية بيان ما يجب للصحابة عموماً على من جاء بعدهم من المؤمنين، فقد ندبهم الله إلى الدعاء والاستغفار لهم وإلى تطهير قلوبهم من الغل والحقد على الصحابة الكرام الذين منهم علي بن أبي طالب وابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما، بل إن علياً رضي الله عنه كان ممن لهم الصدارة في جيل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فالنواصب الذين يبغضونه ويعاندونه معاندون للقرآن الذي وصى الله تعالى فيه عباده أن يقفوا من صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم الموقف الجميل وأن يقولوا فيهم القول الحسن.

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 1/162. 2ـ انظر فتح الباري 1/543. 3ـ ذكر معتقدهم هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/256، وانظر لفظ الحديث في صحيح مسلم 2/1479. 4ـ سورة الحشر آية/10.

وأما معاندتهم لما جاء في السنة المطهرة ومخالفتهم لها ودلالتها على خسران اعتقادهم في علي فأكثر من أن يحصى، فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم حب علي علامة على إيمان من يحبه، كما بين أن بغضه علامة واضحة على نفاق من يبغضه. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"1، فهذا الوعيد يتناول كل من يبغض علياً رضي الله عنه كالخوارج والنواصب الذين لهم القسط الأكبر منه إذ هم أهلك الطوائف في أهل البيت، إذ لم يعرفوا لعلي رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي عليه الصلاة والسلام له وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه، فمن أبغضه دل ذلك على نفاقه وفساد سريرته والعياذ بالله، فلا يبغض علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت إلا رجل متبع لهواه ومعتقد للباطل. ومن الأحاديث التي خالفها النواصب والتي فيها الإشارة إلى خسرانهم وأنهم قوم هلكى بتدينهم ببغض علي أن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل حب علي رضي الله عنه حباً له وبغضه بغض له صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني" 2، فهذا الحديث فيه الحث على حب علي رضي الله عنه والتحذير من بغضه، ووجوب محبته، والنواصب مخالفون لحثه صلى الله عليه وسلم على حب علي، ولذلك وقعوا في المحظور الذي هو تحريم بغض علي وغيره من أهل البيت. ومن الأحاديث التي أعرض الناصبة عنها صفحاً فلم يعملوا بها ولم يرعووا

_ 1ـ صحيح مسلم 1/86. 2ـ المستدرك 3/130، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي وأورده السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير 6/32، كما أورده الألباني في صحيح الجامع 5/228، وقال عقبه: صحيح.

بما جاء فيها من تحريم بغض الصحابة ولم يحذروا ما جاء فيها من الوعيد ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" 1. هذا الحديث نص في تحريم معاداة أولياء الله الذين آمنوا به واتقوه ولا يشك مسلم في أن في مقدمة أولياء الله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وعلي رضي الله عنه واحد منهم بل هو ممن لهم الصدارة في الرعيل الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي هذا التهديد الشديد في الحديث يدخل النواصب لأن من كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله، عانده، ومن عانده كان من الهالكين. ومن الأحاديث التي دلت على شناعة تدين النواصب ببغض أهل البيت أنهم لم يحفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. فقد روى الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى إلى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" 2. فهذا تكرار في هذه الوصية بأهل بيته تعني الأمر بوجوب احترامهم وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ومعرفة مكانتهم منه عليه الصلاة والسلام ولكن هذه الوصية لم يوفق للعمل بها إلا أهل السنة والجماعة العاملون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحرم من العمل بها الرافضة والخوارج والنواصب حيث قابلوها بالمخالفة والعقوق. أما الرافضة فقد غلوا في حب بعضهم بما يزري بهم ويتأذون به حيث

_ 1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/340. 2ـ صحيح مسلم 4/1873.

قالوا: فيهم من الغلو ما هم منه براء، وأما الخوارج فكفروهم، وأما النواصب فإنهم تجرؤوا على بغضهم وعداوتهم بالقول والفعل، فخالفوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيته، فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها دلت على أن بغض النواصب لعلي رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت انحراف واضح عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين دلا على وجوب حبهم وذكرهم بالثناء الحسن والقول الجميل. وأما طعنهم عليه "بالفسق" ورميهم إياه به فيرد على هذا الإفك بأنه باطل من وجهين: الوجه الأول: أن عدالة علي رضي الله عنه ثابتة بنص القرآن الكريم الذي أخبر الله عز وجل فيه أنه أذهب الرجس عن أهل البيت وطهرهم تطهيراً، وعلي رضي الله عنه مقدم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: الآيات القرآنية التي أخبر الله فيها بأن الصحابة الكرام كلهم عدول أو أنهم خير أمة أخرجت للناس، أو الآيات التي شهد الله لهم فيها بحقيقة الإيمان أو الآيات التي أعلن الله فيها رضاه عنهم وأنهم رضوا عنه، أو الآيات التي أخبر الله فيها بأنه وعدهم فيها بالحسنى، أو أنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمثل هذه الآيات العامة التي تضمنت مدح الصحابة عموماً وأنه تعالى زكاهم بما وقر في قلوبهم من الصدق والوفاء لله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل فيها أبو الحسن علي رضي الله عنه دخولاً أولياً، إذ أنه أحد الأخيار الذين لهم الصدارة في مجتمع الصحابة الكرام الذين هم أفضل الخلق بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام، فرمي الناصبة له بالفسق معاندة منهم للرب ـ جل وعلا ـ وفي أخباره المتضمنة للمدح والثناء على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد تقدم ذكر الآيات التي فيها الإشارة إلى ما ذكر في غير موضع من هذه الرسالة1.

_ 1ـ انظر الآيات المشار إليها في ص/800-806 وص/1159 من هذه الرسالة.

الوجه الثاني: أن عدالته رضي الله عنه ثابتة بما ورد من فضائله في السنة المطهرة من شهادته صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، ومن أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه منه بمنزلة هارون من موسى وأنه عليه الصلاة والسلام دعى الله تعالى أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرً1 وعلي أحد أهل بيته، بل هو مقدمهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأحاديث التي فيها الإشارة إلى هذا الثناء الذي أشرنا إليه: "هذا الثناء على علي وإن كان له فيه شركاء إلا أن "في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم" 2، وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله، ولهذا قتله واحد منهم وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس"أهـ3. وقال رحمه الله في موضع آخر في صدد حديثه على فضائل أبي الحسن رضي الله عنه: "وفيها من الفائدة إثبات إيمان علي وولايته والرد على النواصب الذين يسبونه ويفسقونه ويكفرونه، ويقولون فيه من جنس ما يقوله الرافضة في الثلاثة كما أن في فضائل الثلاثة رداً على الروافض4. وبهذين الوجهين المتقدمين تبين فساد طعن النواصب على علي "بالفسق"

_ 1ـ انظر ص/237 من هذا الرسالة ما جاء من فضائل علي رضي الله عنه. 2ـ انظر الحديث على اختلاف ألفاظه في صحيح مسلم 2/743-744. 3ـ منهاج السنة النبوية 3/11-12. 4ـ منهاج السنة النبوية 4/91.

فالرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بكمال إيمانه وصحة صدقه ويقينه، كما تبين مما ذكر أن طعن النواصب عليه بالفسق سقوط وضلالة ومحادة له وغواية نعوذ بالله من الخذلان. وأما طعنهم عليه بأنه كان ظالماً طالباً للدنيا فهذا من الاختلاف الواضح والزور البين ولو طلب منهم شاهد على هذا حكي في كتب التواريخ أو غيرها لم يقدروا على ذلك، إذ سيرته رضي الله عنه أيام خلافته مثبتة في الكتب، فقد كان رضي الله عنه عادلاً في حكمه سائراً على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار في رعيته، سيرة إخوانه الثلاثة الخلفاء قبله، لم يظلموا أحداً ولم يخرج عن الحق قيد شعرة، وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا لم يلق لها بالاً شأنه في ذلك شأن إخوانه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد كان همهم الآخرة قبل الدنيا، ولذلك خرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله ونصرة الله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشهد الله لهم بهذا في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1، وعلي رضي الله عنه واحد ممن شملتهم هذه الشهادة الربانية والتزكية الإلهية لكن النواصب الذين ناصبوه العداوة لم يهتدوا إلى هذا، ولذلك قالوا فيه غير الحق ولم يستندوا في ذلك على شيء سوى ما تجيش به قلوبهم من البغض والعداوة. وأما طعنهم عليه بأنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفاُ من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه". كل هذا من زخرف القول وباطل الكلام،والرد عليه: أنه بمجرد أن يسمعه المنصف الذي عرف سيرة الصحابة وأحوالهم وعرف

_ 1ـ سورة الحشر آية/8.

لهم قدرهم يعلم أن الناصبة ظالمون بهذا القول لعلي رضي الله عنه، وأنهم افتروا عليه بما هو براء منه، فعلي رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لنفسه، ولم يقاتل عليها احداً، ولم يقتل أحداً من أجل أن يكون خليفة على المسلمين وإنما لما قتل الغوغاء والأراذل الذين تحزبوا من الأمصار عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن أحد أفضل ممن بقي بعد عثمان من علي رضي الله عنه، فاجتمع أهل الحل والعقد من الصحابة الكرام على أن يكون هو الخليفة للمسلمين بعد عثمان، ولما أرادوه للبيعة امتنع من إجابتهم إلى قبول الخلافة حتى ألحوا عليه في ذلك، وكرروا قولهم له، ولما رأى إصرارهم عليه في ذلك فر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول وأغلق بابه فجاء الناس وطرقوا الباب، وولجوا عليه، وكان معهم طلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير ولم يزالوا به حتى أجاب1. هكذا كانت الكيفية في مبايعته رضي الله عنه بالخلافة، فلم يقاتل من أجلها لا بسيف ولا سهم، والألوف الذين يزعمون أنه قتلهم من أجل أن يكون خليفة على المسلمين هذا من البهتان عليه، وإنما القتال الذي حصل بين الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان قتال فتنة أوقد نارها بينهم قتلة عثمان، والواجب على المسلم أن يعتقد أن ما جرى بين الصحابة من الاقتتال صدر منهم عن تأويل اجتهدوا فيه، فمن كان منهم مصيباً كان له أجران ومن كان منهم مخطئاً فله أجر واحد وخطؤه مغفور2. وأما طعنهم عليه بأنه لم يكن مصيباً في حروبه، فهذا مردود عليهم لظهور بطلانه وفساده بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم رحمه الله بإسناده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق

_ 1ـ انظر البداية والنهاية 7/246، تاريخ الأمم والملوك 4/432، الكامل في التاريخ 3/190-191. 2ـ انظر العقيدة الواسطية مع شرحها لهراس ص/173-175، وانظر مجموع الفتاوى 3/406، عقيدة أهل السنة والجماعة لابن عثيمين ص/23.

مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق"2. وروى البخاري رحمه الله تعالى من حديث خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية.." الحديث3. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه"4. وأما بيان فساد طعنهم على الحسين بن علي بأنه كان خارجياً يجوز قتله فقد رد على طعنهم هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قال بعد ذكره له: "إن الحسين قتل مظلوماً شهيداً، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر، أو إلى يزيد داخلاً في الجماعة معرضاً عن تفريق الأمة ولو كان طالب ذلك أقل الناس، لوجب إجابته إلى ذلك فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك..؟ ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه فضلاً عن أسره

_ 1ـ صحيح مسلم 3/745. 2ـ مجموع الفتاوى 3/407. 3ـ صحيح البخاري 1/89. 4ـ فتح الباري 1/543.

وقتله"أهـ1. وبعد ذكرنا لمعتقد الناصبة في أهل البيت والرد عليه تبين أنه معتقد ظاهر الفساد كما ظهر فساد كلام الرافضة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى أن مذهب النصب ليس له بقعة أو جماعة يوجد فيها الآن في زماننا كما هو شأن مذهب الرافضة والإباضية من الخوراج وغيرهما من الفرق الأخرى كالزيدية والإسماعلية الباطنية، ومذهب النصب كان له وجود في زمن مبكر في دمشق، فقد ذكر الإمام الذهبي عن الوزير بن حنزابه ـ بكسر الحاء ـ أنه قال: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب "الخصائص" لعلي رضي الله عنه، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير فصنفت كتاب "الخصائص" رجوت أن يهديهم الله تعالى، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الشيخين2، وبعد أن كان مذهب النصب له وجود في دمشق، فإنه تلاشى واضمحل حتى عدم نهائياً. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "كان النصب مذهباً لأهل دمشق في وقت كما كان الرفض مذهباً لهم في وقت وهو في دولة بني عبيد، ثم عدم ـ ولله الحمد ـ النصب وبقي الرفض خفيفاً خاملاً"أهـ3. وبعد أن عرفنا أن المراد "بالنواصب" عند أهل السنة هم الذين يبغضون علياً رضوان الله عليه وأهل بيته ويلعنونهم وأن هذه الفرقة لم يعد لها وجود الآن لكن كلمة "النواصب" عند الشيعة الرافضة يطلقونها على الذين يقدمون الشيخين أبا بكر وعمر في الخلافة على علي وعلى من يبغضهم هم حيث يزعمون

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 2/256. 2ـ سير أعلام النبلاء 14/129. 3ـ ميزان الاعتدال 1/76.

أنهم شيعة أهل البيت ليس أحد سواهم ولذا فالنواصب في اصطلاحهم وكما دونوا ذلك في كتبهم هم أهل السنة والجماعة في عرفهم. فقد ذكر يوسف البحراني في كتابه: "الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة" أن ابن إدريس روى في مستطرفات السرائر في ما استطرف من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا أبي الحسن الهادي عليه السلام في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى، قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج إلى امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت1 واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب ـ ثم قال ـ فرجع الجواب أن مظهر النصب والعداوة لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام هو مجرد التقديم والقول بإمامة الأولين ... ـ إلى أن قال ـ "ومنها ما رواه الصدوق في كتاب العلل بسنده عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: "ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد صلى الله عليه وآله ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا ـ ثم ساق روايتين نسب إحداهما إلى جعفر الصادق والأخرى إلى علي ومضمونهما كالروايتين السابقتين، ثم قال: "ومن هذه الأخبار يعلم أن مظهر النصب والعداوة لهم ـ عليهم السلام ـ منحصر في أمرين: تقديم الجبت والطاغوت وإظهار العداوة للشيعة"2. وقال حسين العصفور في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية": "وأما تحقيق النصب فقد كثر فيه القيل والقال، واتسع فيه

_ 1ـ يقصدون بالجبت والطاغوت الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما "قاتل الله الرافضة أنى يؤفكون". 2ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 10/360، مقدمة تفسير مرآة الأنوار للعاملي ص/308، وانظر المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية ص/145، الأنوار النعمانية 2/307.

المجال ـ ثم ساق أخباراً نسبها إلى بعض الأئمة والتي تتضمن أن النصب على حسب زعمه تقديم غير علي عليه، وبغض شيعة أهل البيت، ثم قال عقبها: "وبالجملة أن من تأمل أحوالهم واطلع على بعض صفاتهم وطريقتهم في المعاشرة ظهر له ما قلناه، فإنكاره مكابرة لما اقتضت العادة به بل أخبارهم ـ عليهم السلام ـ تنادي بأن الناصب هو ما يقال له سنياً" ـ ثم ذكر رواية عزاها إلى الكافي "عن أبي عبد الله عليه السلام ـ قال: ما تروي هذه الناصبة؟، فقلت: جعلت فداك فيماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم ... الحديث ـ ثم قال ـ "ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن"أهـ1. وقال نعمة الله الجزائري: "وأما الناصبي وأحواله وأحكامه فهو مما يتم ببيان أمرين: الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية فالذي ذهب إليه أكثر الأصحاب هو أن المراد به: من نصب العداوة لآل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء النهر، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان وجواز النكاح وعدمه على الناصبي بهذا المعنى. وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني.... من الاطلاع على غرائب الأخبار فذهب إلى أن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وتظاهر بالوقوع فيهم، كما هو حال أكثر مخالفينا في هذه الأعصار في كل الأمصار، وعلى هذا فلا يخرج من النصب سوى المستضعفين منهم والمقلدين والبله والنساء، ونحو ذلك وهذا المعنى هو الأولى. ويدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب علل الشرايع بإسناد معتبر عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال: ليس

_ 1ـ المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخرسانية ص/145 وما بعدها.

الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا"،وفي معناه أخبار كثيرة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامة النواصب تقديم غير علي عليه، وهذه خاصية شاملة لا خاصة، ويمكن إرجاعها أيضاً إلى الأول، بأن يكون المراد تقديم غيره عليه إنما نشأ من تقليد علمائهم وأسلافهم، وإلا فليس لهم الاطلاع والجزم بهذا سبيل ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة ـ عليهم السلام ـ وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله، مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ، بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد نعم كان يخالف آراءهم ويقول: قال علي: وأنا أقول، ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن إدريس ... وبعض مشائخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم، نظراً إلى إطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق، ولأنك قد تحققت أن أكثرهم نواصب بهذا المعنى1. هذه النقول الثلاثة من كتب متقدمي علماء الشيعة الرافضة، وقد تبين منها أنهم يطلقون كلمة "النواصب على الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد حذا حذو المتقدمين منهم متأخروهم، لأن الشيعة الرافضة ذرية بعضها من بعض آخرهم كأولهم، لا فرق، فهذ إمام العصر عندهم "الخميني" وجد في كلامه ما يدل على أنه جعل أهل السنة والجماعة في عداد النواصب فقد قال في كتابه "تحرير الوسيلة". "وأما النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان من غير توقف ذلك على جحودهما الراجح إلى إنكار الرسالة"2، وطعن الشيعة الرافضة على أهل

_ 1ـ الأنوار النعمانية 2/306-307. 2ـ تحرير الوسيلة 1/102.

السنة والجماعة لا يقف عند طعنهم عليهم بأنهم نواصب فحسب بل تجاوزوه إلى ما هو الأسوأ من القول حيث يقولون: إن كل من يعتقد إمامة الشيخين وتقديمها على علي "فهو كافر حلال الدم والمال وأنه شر من اليهود والنصارى والمجوس"1. قال نعمة الله الجزائري في صدد ذكره الأمر الثاني الذي يتبين به الناصبي في حد زعمه: الأمر الثاني: في جواز قتلهم واستباحة أموالهم قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات وحكمه عندهم كالكافر الحربي في أكثر الأحكام ... وأما على ما ذكرناه له من التفسير فيكون الحكم شاملاً كما عرفت روى الصدوق ... في العلل مسنداً إلى داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله ما تقول في قتل الناصب؟، قال: حلال الدم لكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل، فقلت: فما ترى في ماله؟، قال: خذه ما قدرت. وروى شيخ الطائفة نور الله مرقده في باب الخمس والغنائم من كتاب التهذيب بسند صحيح عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: خذ مال الناصب حيثمان وجدت وابعث إلينا بالخمس، وروى بعده بطريق حسن عن المعلى، قال: خذ مال الناصب حيث وجدت، وابعث إلينا بالخمس. قال ابن إدريس: الناصب المعني في هذين الخبرين أهل الحرب لأنهم ينصبون الحرب للمسلمين وإلا فلا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي على وجه من الوجوه ـ ثم قال نعمة الله الجزائري ـ وللنظر فيه مجال: أما أولاً فلأن الناصبي

_ 1ـ انظر الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 10/360 وما بعدها، المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية ص/145، وما بعدها الأنوار النعمانية 2/30، مقدمة تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار ص/308.

قد صار في الإطلاقات: حقيقة غير أهل الحرب، ولو كانوا هم المراد لكان الأولى التعبير عنهم بلفظهم من جهة ملاحظة التقية لكن لما أراد عليه السلام ـ بيان الحكم الواقعي عبر بما ترى، وأما قوله: لا يجوز أخذ مال مسلم فهو مسلم ولكن أنى لهم والإسلام، وقد هجروا أهل بيت نبيهم المأمور بودادهم في محكم الكتاب بقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 1، فهم قد أنكروا ما علم من الدين ضرورة وأما إطلاق الإسلام عليهم في بعض الروايات فلضرب من التشبيه والمجاز والتفاتاً إلى جانب التقية التي هي مناط هذه الأحكام وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم، وكانوا خمسمائة رجل تقريباً، فأراد الخلاص من تبعات دمائهم، فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم عليه السلام، فكتب عليه السلام إليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إلي فكفر عن كل رجل قتلته منهم بتيس2، والتيس خير منه. وبعد هذا فغر نعمة الله الجزائري فاه وتفوه بما أمكنه من خبيث القول وقبيح الكلام، حيث قال: "فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد فإن ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي فإنها ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخس وأنجس"3، فهذا المفتري عبر عن موقفه وموقف الرافضة من أهل السنة والجماعة وهو موقف كما هو واضح متسم بأشد الحقد والعداوة والكراهية حيث إنه بين أن الرافضة قبحهم الله يعتقدون أن حكم أهل السنة والجماعة عندهم حكم

_ 1ـ سورة الشورى آية/23. 2ـ التيس: الذكر من المعز إذا أتى عليه حول وقيل: الحول هو جدي. المصباح المنير 1/79. 3ـ الأنوار النعمانية 2/207-208.

الكافر الحربي يجوز قتلهم واستباحة أموالهم وأنه يجوز التحايل على قتلهم وابتزاز أموالهم بما يمكنهم من الوسائل والطرق الخبيثة كما بين أن منزلتهم عندهم أقل من منزلة الحيوان وأدنى من مرتبة اليهود والمجوس ولسنا في صدد تعداد مطاعن الشيعة الرافضة على أهل السنة والجماعة وإنما أشرنا إلى هذا ليتنبه كل مسلم وكل داعية إلى التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة والجماعة إلى خطورة ما يبيته ويكنه الشيعة الرافضة للفرقة الناجية من الشر والعداوة والكيد الخفي للدين وأهله وليعلم أيضاً: كل مسلم أن الشيعة الرافضة يقدمون اتباع الهوى ويتقولون على أهل الحق والعدل بغير بينة ولا هدى، هذا ما حدا بنا إلى التنبيه إلى ما ذكر ولنرجع إلى إبطال ما نحن بصدده وهو بطلان نسبتهم "النصب" إلى أهل السنة والجماعة، فنسبتهم إلى أئمة أهل البيت مثل جعفر الصادق رحمه الله من الروايات التي يذكرون فيها أن النواصب هم أهل السنة والجماعة ما هي إلا قطرة من بحر الكذب الذي يكيلونه على علماء أهل البيت، ومما يبين أنهم مفترون كاذبون على أهل السنة في نسبتهم النصب إليهم أن أهل السنة هم الفرقة الوسط التي عرفت لأهل البيت حقهم من الاحترام والإكرام والتوقير وهم الذين حفظوا وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام فيهم، وأما الرافضة فإنهم غير صادقين فيما يزعمونه من الغلو في حب بعضهم، وإنما غرضهم من ذلك التستر بأهل البيت لكي يروجوا ما يصبون إلى نشره من الأضاليل والأكاذيب والعقائد الفاسدة عند كل من لا يعرف حقيقتهم، ولا جرأتهم على الكذب. ومما يكذب دعواهم على أن كلمة "النواصب" تطلق على أهل السنة والجماعة أن كتب أهل السنة ولله الحمد زاخرة بذكر مناقب أهل البيت وزاخرة ببيان عقيدتهم الحقة نحوهم، وأنهم متفقون على وجوب محبتهم واحترامهم وتحريم إيذائهم والإساءة إليهم وإلى ذكر بعض النصوص من كتب أهل السنة والجماعة التي تبين أنهم أسعد الناس بالأخذ بوصية المصطفى عليه الصلاة والسلام بأهل

بيته، وأنهم حفظوه فيهم دون سواهم، فهذا أبو بكر الصديق الذي ينسب الرافضة إليه ويكذبون عليه أنه ظلم أهل البيت حقهم يقول: فيما رواه عنه الشيخان في صحيحيهما: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي"1، وروى البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"2. وقال الفاروق رضي الله عنه مخاطباً العباس بن عبد المطلب: "والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب"3. هذا موقف الشيخين من أهل بيت النبوة وهو موقف حب واحترام وإكرام ووصية بحفظهم وأن لا يتعرض لهم بأذى أو إساءة وهذا الموقف هو الواجب على كل أحد أن يقفه ويلتزم به تجاه أهل البيت إذ هو موقف أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين وقد وفق الله لهذا الموقف التابعين لهم بإحسان وهم أهل السنة والجماعة حيث تولوهم جميعاً وأجمعوا على حبهم وتبرؤوا من طريقة الروافض والنواصب وردوا على من طعن عليهم بأنهم قدموا على علي غير الثلاثة، أو تسويته بمعاوية أو تقديمه عليه، وقد حرر العقيدة النقية لأهل السنة والجماعة في أهل البيت كل من الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، فقد قال العلامة ابن تيمية: "أهل السنة يتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرؤون من طريقة الروافض والنواصب جميعاً ويتولون السابقين الأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون

_ 1ـ صحيح البخاري 2/301، صحيح مسلم 3/1380. 2ـ صحيح البخاري 2/302. 3ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 6/199.

بمعاوية أو تقديم معاوية عليه"1. وقال رحمه الله في موضع آخر: "ويحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي" 2. ـ إلى أن قال ـ ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"3. وقال العلامة ابن القيم في صدد ذكره للأسباب التي جعلت التأويل الباطل مقبولاً عند الناس: "السبب الثالث أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو من حصل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الجهال، فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم حتى إنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله، ويقولون هو أعلم بالله منا، وبهذا الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم، فانتمو إليهم وأظهروا من محبتهم وإجلالهم، وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم ثم نفقوا باطلهم بنسبته إليهم فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة قد نفقت في الوجود بسبب ذلك وهم براء منها، وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس فليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله قادهم إلى ذلك، وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 2/206-207. 2ـ تقدم تخريجه قريباً. 3ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لهراس ص/171، 173، وانظر كتاب "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" لصديق حسن خان ص/101-103.

الحق إلى يوم القيامة 1. فقد تبين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الأمة المحمدية بالحق نحو أهل البيت حيث إنهم يحبونهم جميعاً ويتولونهم وهم الذين حفظوا وصية النبي عليه الصلاة والسلام فيهم كما تبين من ذلك كذب الشيعة الرافضة في نسبتهم النصب إلى أهل السنة بل كلمة "النواصب" يصح إطلاقها على الشيعة الرافضة حيث إنهم يحبون بعض أهل البيت محبة غلو وتجاوز للحد، وكما هو معلوم أن الزيادة في الحد تنقلب إلى الضد، ولأنهم أيضاً يعادون بعض أهل البيت ولا يحبونهم ولا يتولونهم، فادعاؤهم أنهم شيعة أهل البيت يكذبه موقفهم منهم، فقد ابتلوا بالإفراط في حب علي وبعض ذريته، فكانت محبتهم بسبب ذلك عاراً عليهم وبواراً، ولو صح التعبير لقلنا إن الشيعة الحقيقيين لأهل البيت هم أهل السنة والجماعة، لأنهم هم الذين أحبوهم كما أمر الله ورسوله، وأما الرافضة فهم أعدؤهم في الحقيقة، لأن المحبة الخارجة عن الشرع الحائدة عن سنن الهدى هي العداوة الكبرى، ومن هذه الجهة يكونون أشقاء للنواصب ...

_ 1ـ مختصر الصواعق المرسلة 1/90.

الخاتمة لقد توصلت في رسالتي هذه التي بحثت فيها "عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم" إلى نتائج هي: - 1. أن الصحابي عند أهل السنة والجماعة هو من لقي المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً وآمن به ومات على الإسلام. 2. يثبتون جميع ما ورد في فضلهم من آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص، الكل يثبتونه ويؤمنون به، ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم وزراء له، فكانوا حملة رسالته من بعده، وهم رضي الله عنهم وإن جمعهم شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشملهم هذا الفضل الكريم إلا أنهم متفاوتون في الفضل والدرجة. 3. أجمعوا على أن أفضل الخلق على الإطلاق بعد النبيين والمرسلين أبو بكر الصديق ثم يليه في هذه المرتبة العلية عمر الفاروق، ثم ذو النورين عثمان، ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم جميعاً، ثم الستة بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. 4. اتضح أن أهل السنة والجماعة هم أولى الناس بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث توليهم وموالاتهم ومحبتهم، فقد كان لهم القسط الاكبر والحظ الأوفر من هذا، أما دعوى الشيعة الرافضة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم فإنها دعوى بلا برهان، ولا حظ لهم من ذلك، إلا مبالغتهم في الغلو المذموم نحوهم ومعاداتهم من يحبهم أهل البيت إذ أهل البيت يحبون جميع الصحابة

ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً. 5. أجمعوا على أن أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. 6. كل ما أورده أهل البدع من الأدلة التي يستدلون بها على أن الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو علي رضي الله عنه إنما هي شبه ساقطة معظمها من اختراعاتهم الباطلة، وأن اعتقادهم في الإمامة على هذ النحو مبني على أحاديث موضوعة اختلقها الزنادقة الملاحدة إذ أنها مخالفة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في ترتيب الخلافة الراشدة وأن علياً رضي الله عنه لم يدع شيئاً من ذلك وأنه بريء من كل ما تنسبه الرافضة إليه. 7. يعتقد أهل السنة والجماعة أن خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب كانت خلافة حقة، وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام أن مدتها بعده ثلاثون سنة. 8. أن أهل السنة والجماعة هي الفرقة الوحيدة التي حالفها الصواب والسداد فيما يجب من الحق للصحابة على من جاء بعدهم، فقد حفظوا فيهم وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث اعتقدوا وجوب محبتهم وتعظيمهم وتوقيرهم وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله فيها، ولذلك سلمت قلوبهم من الغل عليهم، وألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل من الترحم عليهم والاستغفار لهم، ونشر محاسنهم، والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم. 9. أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول، صغارهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم من لابس الفتن ومن لم يلابسها، حيث ثبتت عدالتهم بنص

الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. 10. أن ما وقع بين الصحابة من القتال والتشاجر يجب الإمساك عنه وعدم الخوض فيه والتتبع لكل تفصيلاته، وأن ما نقل فيما شجر بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب قد زيد فيه ونقص، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً يجب تأويله وحمله على أحسن المحامل، لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما نقل من الكلام اللاحق فهو محتمل والمشكوك فيه والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم. 11. أن الحروب التي دارت بين علي وبين بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يكن الباعث عليها مطامع دنيوية، أو شهوات نفسية، وإنما كانت عن اجتهاد وتأويل للمصيب فيها منهم أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وللمخطيء منهم أجر واحد على اجتهاده ولا إثم عليه. 12. أن سب الصحابة والتعرض لهم بعيبهم وتنقصهم والطعن في عدالتهم حرام بنص الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، وأن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا، لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها، وهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول، فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجورحون، وكذا يكفر من أبغض واحداً منهم لأمر يرجع إلى الصحبة، أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الجهاد معه، إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء الرسول كفر ومن كانت هذه حاله، فدواؤه السيف، إن لم يتب ويراجع، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة، فحكم هذا أنه فاسق مبتدع يجب تأديبه، وينكل به نكالاً شديداً، لا يبلغ به القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن

طعنه في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف لهم حقهم. 13. أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك، فإنه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها وطهارتها وطهارتها رضي الله عنها، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام. وكذلك من قذف غير عائشة من أمهات المؤمنين فهو في الحكم كقاذف عائشة رضي الله عنها، ذلك لأن فيه عاراً وغضاضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن من بعده. 14. أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة وأهل البدع في كتبهم من المطاعن العامة والخاصة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرج عليها ولا كرامة، فهي أباطيل وأكاذيب مفتراة إذ دأب الرافضة وأهل البدعة رواية الأباطيل ورد ما صح من السنة المطهرة. 15. إن القرآن في عقيدة الشيعة الرافضة بدل وحرف ونقص من قبل الصحابة حيث يزعمون أنه لم يجمعه كاملاً كما أنزل إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 16. أن أئمة أهل البيت براء من عقيدة الشيعة الرافضة في خلافة النبوة والصحابة والقرآن، إذ أنهم لم يخرجوا في اعتقادهم فيما ذكر عما قرره الله تعالى في كتابه وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وعما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ... وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ...

وإلى أمور ما كانت فيقولون كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون: هي خير وصلاح1، فهم لا يعقلون عقل تفكر ولا يسمعون سماع تدبر وإلى بيان بطلان مطاعنهم التي تضمنها هذا النص السابق: فطعنهم على الفاروق رضي الله عنه: بأنه جعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه ... فجوابه: أن يقال لهم: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله، فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات، هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا، وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس، ومثبتته، فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون هذا الشخص المعين صالحاً لذلك أو راجحاً على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص ... وعمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن ـ الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ أحق من غيرهم، وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد إن غيرهم أحق منهم، وجعل التعيين إليهم خوفاً أن يعين واحداً منهم، ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحداً منهم، وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه، وأيضاً: فقد قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 3 فكان ما فعله من الشورى مصلحة وكان ما فعله

_ 1ـ انظر منهاج السنة 3/159، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/358-359. 2ـ سورة الشورى آية/38. 3ـ سورة آل عمران آية/159.

المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة

المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة ... حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما، وهذا كان متفقاً عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه"1. وقال أيضاً: "وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه وكارهون لذلك، وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدراً وأحق بالإمامة وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه ـ كما أنه ـ أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم، وعلي أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وما في أهل السنة من يقول إن طلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى، وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين، والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة، وقيل: من صلى إلى القبلتين وليس بشيء ـ إلى أن قال ـ فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة كما دل عليها الكتاب والسنة وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين وعلى أن علياً أفضل جماهير هؤلاء ـ لم يقدم عليه أحد غير الثلاثة فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته

_ 1ـ منهاج السنة النبوية 1/165.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المراجع 1- القرآن الكريم. - أ – 2- الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، ت"330" الجامعة الإسلامية سنة 1975م. 3- الإباضية بين الفرق الإسلامية، علي يحيى معمر، مكتبة وهبة، ط. أولى، 1396هـ. 4- الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، لأبي عبد الله الحسن بن إبراهيم الجوزقاني، ت"543"هـ، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، ط. المطبعة السلفية، بنارس، الهند، ط. أولى، 1403هـ. 5- أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، د. إبراهيم شعوط، ط. المكتب الإسلامي، ط. الخامسة، سنة 1403هـ. 6- ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة، سعيد الأفغاني، طبع دار الفكر، بيروت، ط. الثانية، 1389هـ. 7- ابن سبأ حقيقة لا خيال، د. سعدي الهاشمي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط. أولى، 1406هـ. 8- إثبات الإمامة، أحمد بن إبراهيم النيسابوري، تحقيق: د. مصطفى غالب، طبع دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1402هـ 9- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق: سعيد الأفغاني، طبع دار القلم، بيروت.

10- أجوبة ابن خلفون، لأبي يعقوب يوسف بن خلفون المزاتي، تحقيق وتعليق: عمرو خليفة النامي، طبع: دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت ط. أولى، 1394هـ. 11- الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية، للإمام محمود أفندي الحسيني الألوسي، المطبعة الحميدية، بغداد. 12- الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسي، ت: 558هـ، تعليقات وملاحظات: محمد باقر الموسوي الخرساني، مطبعة سعيد ـ مشهد المقدسة، 1403هـ. 13- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لأبي الحسن علاء الدين بن بلبان الفارسي، ت: 739هـ، تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط. أولى، 1408هـ. 14- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، علي بن محمد الماوردي، ت: 450هـ، مطبعة البابي الحلبي، نصر، ط. الثالثة، 1393هـ. 15- الأحكام السلطانية، لأبي يعلى محمد بن حسين الفراء، ت: 458هـ، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة 1403هـ. 16- الأحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، طبع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. أولى، 1401هـ. 17- الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ت: 456هـ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. الثانية. 18- أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ت: 543هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، طبع دار المعرفة، بيروت لبنان.

19- أحكام القرآن، لعماد الدين بن محمد الطبري، المعروف بالكيا الهراسي، ت: 504هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط. الثانية، 1405هـ. 20- أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص، ت: 370هـ، طبع: دار الفكر العربي، بيروت، لبنان. 21- إحياء علوم الدين، لأبي حامد بن محمد الغزالي، ت: 505هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1403هـ. 22- أخبار أصبهان، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت: 430هـ، طبع الدار العلمية موري كيت، دلهي، الهند. 23- أخبار القضاة، لمحمد بن خلف بن حيان، المعروف "بوكيع"، ت: 306هـ، طبع عالم الكتب، بيروت. 24- الاختصاص، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، طبع مكتبة الزهراء، قم، سنة 1402هـ. 25- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين عبد الملك الجويني، ت: 478هـ، طبع مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1405هـ. 26- إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، نشر المكتب الإسلامي. 27- الإرشاد، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ت: 413هـ، ط. كتاب فروشي، إسلامية، طهران، ط.1351شمسي. 28- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط. أولى، 1356هـ. 29- أساس البلاغة، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت: 538هـ،

طبع دار صادر، بيروت. 30- أساب النزول، علي بن أحمد الواحدي، ت: 468هـ، طبع دار الفكر، بيروت، لبنان. 31- الاستغاثة في بدع الثلاثة، لأبي القاسم علي بن أحمد بن موسى الكوفي، ت: هـ، خيال من تاريخ الطبع ومكانه. 32- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء. 33- الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة، لأبي عمر بن عبد البر القرطبي، ت: هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 34- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير، ت: 606هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان. 35- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت: 911هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1399هـ. 36- الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع دار الكتاب العربي، بيروت. 37- الأصول التاريخية للفرقة الإباضية، عوض محمد خليفات، طبع وزارة التراث والإرشاد والثقافة، ط. ثانية، سلطنة عمان. 38- أصول الدين، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت: 429هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط. أولى 1346هـ. 39- أصول السرخسي، للإمام أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي، ت: 490هـ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. 40- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار

الجكني الشنقيطي، مطبعة المدني، 1386هـ. 41- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، ت: 606هـ، مراجعة وتحرير علي سامي النشار، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1402هـ. 42- الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، تصحيح أحمد محمد موسى، الناشر: حديث أكاديمي، نشاط آباد فيصل آباد، باكستان. 43- الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستغربين والمستشرقين، تأليف خير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة. 44- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، مراجعة وتقديم وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، طبع مطابع الإسلام، القاهرة، 1388هـ. 45- أعلام النبوة، لعلي بن محمد الماوردي، ت: 450هـ، تقديم وشرح محمد شريف سكر، طبع دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان. 46- أعيان الشيعة، محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان. 47- الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، ت: 505هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1403هـ. 48- الإكليل في استنباط التنزيل، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: 911هـ، تحقيق: سيف الدين عبد القادر الكاتب، طبع، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 49- الإمام زيد بن علي، محمد أبو زهرة، طبع دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان. 50- الإمام زيد بن علي المفترى عليه، الشيخ صالح أحمد الخطيب، طبع المكتبة الفيصلية.

51- الإمامة في ضوء الكتاب والسنة، مهدي السماوي، مكتبة المنهل، الكويت، طبعة أولى، 1399هـ. 52- الإمامة والرد على الرافضة، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، ت: 430هـ، تحقيق وتعليق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، طبع: مكتبة العلوم والحكم، ط. أولى، 1407هـ. 53- الإمامة وقائم القيامة، مصطفى غالب، دار مكتبة الهلال، بيروت، لبنان. 54- الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت: 204هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 55- أنساب الأشراف، لأبي العباس أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، تحقيق: ماكس شلوسنجر، القدس، مطبعة الجامعة، 1938هـ. 56- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، ت: 403هـ، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، ط. الثانية، مؤسسة الخانجي، 1382هـ. 57- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، مطبعة السنة المحمدية، ط. أولى، 1374هـ. 58- الأنوار النعمانية، لنعمة الله الموسوي الجزائري، ت: 1112هـ، مطبعة جاب، تبريز، إيران. 59- الأنوار الوضية في العقائد الرضوية، للشيخ حسين بن الشيخ محمد العصفور البحراني، نشر مكتبة أهل البيت، البحرين. 60- أيام العرب في الإسلام، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط. الثانية، 1388هـ.

- ب – 61- الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث، إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 774هـ، تحقيق: أحمد شاكر، طبع مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، ط. الثانية، 1370هـ. 62- بدائع الفوائد، للإمام محمد بن أبي بكر، الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. 63- البداية والنهاية في التاريخ، إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 774هـ، تحقيق ومراجعة وتعليق وتصحيح: محمد عبد العزيز النجار، مكتبة الأصمعي، الرياض. 64- البدر الطالع بمحاسن القرن التاسع، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع مطبعة السعادة، القاهرة، ط. أولى، 1348هـ. 65- بذل المجهود في حل أبي داود، خليل أحمد السهارنفوري، ت: 1346هـ، مع تعليق الكاندهلوي، طبع دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، توزيع دار الإفتاء. 66- بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد، تقديم وتعليق الحاج ميرزا محسن لوه باغي، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ. 67- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ت: هـ، تحقيق: عبد العليم الطحاوي، طبع: المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 68- البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة إسماعيليان، قم، إيران. 69- بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، طبع دار الشهاب، القاهرة. 70- بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام،

للقاضي حسين بن أحمد العمرشي، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان. 71- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، طبع: دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان. 72- البيان والتحصيل، لأبي الوليد بن رشد القرطبي، ت: 520هـ، تحقيق د. محمد حجي، طبع: دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان. - ت – 73- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، طبع: دار مكتبة الحياة، بيروت. 74- تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، للحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: حسام الدين القدسي، مطبعة القدس. 75- تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت: 310هـ، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، طبع: دار سويدان، بيروت، لبنان. 76- تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت: 463هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 77- تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي، ت: 808هـ، طبع مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. 78- تاريخ الخلفاء، تأليف عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: 911هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. 79- تاريخ خلفية بن خياط، خليفة بن خياط، ت: 240هـ، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، ط. الثانية، دار طيبة، الرياض. 80- تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1965م.

81- تاريخ عمر، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، ت: 597هـ، تقديم وتعليق أسامة عبد الكريم الرفاعي، طبع دار إحياء علوم الدين، دمشق. 82- تاريخ مدينة دمشق، لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، ت: 571هـ، تحقيق: مطاع الطربيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق. 83- تأويل مشكل القرآن، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، ت: 276هـ، شرح ونشر أحمد صقر، الطبعة الثانية، 1393هـ ـ 1973م، دار التراث، القاهرة. 84- التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، للإمام أبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، طبع عالم الكتب، ط. أولى، 1403هـ. 85- التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر الطوسي، المطبعة العلمية في النجف، 1376هـ، 1957م. 86- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبو الحسن الأشعري، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، ت: 571هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 87- تجريد أسماء الصحابة للذهبي تصحيح صالحة عبد الحكيم شرف الدين ـ بومباى ـ 1389هـ. 88- تحرير الوسيلة، لروح الله الموسوي الخميني، منشورات مكتبة الاعتماد، طهران، الطبعة الرابعة، 1403هـ - 1983م. 89- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الاتحاد العربي للطباعة، الطبعة الثانية، 1385هـ - 1965م.

90- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي السيوطي، ت: 591هـ، منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1392هـ - 1972م. 91- تذكرة الحفاظ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 92- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي، دار الفكر، بيروت، لبنان. 93- ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، أحمد الزاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية. 94- الترغيب والترهيب، لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت: 656هـ، مكتبة دار التراث، القاهرة. 95- التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ. 96- تفسير البيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، لأبي الخير عبد الله بن عمر البيضاوي، ت: 791هـ، دار الفكر، 1402هـ. 97- تفسير الخازن المسمى "لباب التأويل في معاني التنزيل"، علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن، ت: 725هـ، المكتبة التجارية الكبرى، بمصر. 98- تفسير العياشي، محمد بن مسعود بن عياش، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، إيران. 99- تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، المطبعة الحيدرية، النجف. 100- تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت: 774هـ، طبع: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت

الطبعة الثانية، 1389هـ - 1970م. 101- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، إيران. الطبعة الثانية، 1387هـ - 1968م. 102- التفسير القيم، محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، جمع: محمد أويس الندوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1398هـ. 103- تفسير الكاشاني المسمى "الصافي في تفسير القرآن"، لمحسن الفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1399هـ - 1976م. 104- التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي، المشهور بالفخر الرازي، ت: 606هـ، ـ طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت. 105- تقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي، ت: 327هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1371هـ، 1952م. 106- تلخيص الذهبي، مطبوع بذيل المستدرك، للإمام محمدي أحمد الذهبي، ت: 748هـ، دار الفكر. 107- تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، القاهرة، مكتبة الآداب، 1975م. 108- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، للقاضي أبي علي محمد بن الطيب الباقلاني، ت: 403هـ، تحقيق: أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م. 109- تلبيس إبليس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت: 597هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 110- تنبيه الولاة والحكام، محمد أمين أفندي الشهير بابن عابدين ضمن

مجموعة رسائله، طبع عالم الكتب. 111- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي، ت: 377هـ، مكتبة المثنى، بغداد، 1388هـ - 1968م. 112- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، ت: 963هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1401هـ - 1981م. 113- تنقيح المقال في علم أحوال الرجال، عبد الله المامقاني، خال من مكان الطبع وتاريخه. 114- تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 115- تهذيب تاريخ دمشق، عبد القادر بن بدران، ت: 1346هـ، دار المسيرة، بيروت. 116- تهذيب التهذيب، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1325هز 117- تهذيب خصائص الإمام علي، للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب المعروف بالنسائي، ت: 303هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1405هـ - 1984م. 118- تيسير التحرير، للإمام محمد أمين، المعروف بأمير باد شاه الحسيني طبع مصطفى البابي الحلبي، 1351هـ. 119- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ت: 1233هـ، مكتبة الرياض الحديثة. 120- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، إهداء الجامعة الإسلامية

بالمدينة المنورة، 1398هـ. - ج – 121- جامع الأصول من أحاديث الرسول، للإمام أبي السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت: 606هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر وتوزيع: إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض، 1370هـ. 122- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، ت: 463هـ، مطبعة العاصمة بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1388هـ 1938م. 123- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر بن جرير الطبري، ت: 310هـ، طبع: مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثالثة، 1388هـ - 1938م. 124- الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت: 911هـ، مطبوع مع شرحه فيض القدير للمناوي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1391هـ - 1972م. 125- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت: 671هـ، الطبعة الثانية، 1372هـ - 1952م. 126- الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي، ت: 327هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة 1371هـ - 1952م. 127- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، دار القلم، بيروت، لبنان.

128- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن قيم الجوزية، طبع دار الفكر، بيروت. 129- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف بن أحمد البحراني، ت: 1186هـ. 130- حديث الثقلين وفقهه، علي أحمد السالوس، دار إصلاح للطباعة والنشر، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م. 131- الحركات الباطنية في الإسلام، مصطفى غالب، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 132- الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية، 1400هـ. 133- الحقائق الخفية عن الشيعة الفاطمية الاثنى عشرية، محمد حسن الأعظمي، طبع: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. 134- حقوق آل البيت، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، تحقيق: عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 135- حق اليقين في معرفة أصول الدين، عبد الله شبر، طبع دار الكتاب الإسلام. 136- الحكومة الإسلام لروح الله الخميني، منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى. 137- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفاني، ت: 430هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. -خ – 138- الخصال المكفرة للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت

: 852هـ، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، طبع إدارة الطباعة المنيرية، نشر محمد أمين دمج، بيروت، 1970م. 139- الخطط المقريزية، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، ت: 845هـ، مكتبة المثنى، بغداد. 140- خلق أفعال العباد، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت: 256هـ، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة، الطبعة الأولى، 1389هـ. - د – 141- إسلامية في الأصول الإباضية، بكير سعيد أعوشت، دار التضامن للطباعة، القاهرة، نشر مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، 1408هـ - 1988م. 142- دراسة حديثة "نضر الله امرءا سمع مقالتي" رواية ودراية عبد المحسن بن حمد العباد، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1401هـ. 143- الدرر في اختصار المغازي والسير، للحافظ عمر بن عبد البر النمري، ت: 463هـ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1404هـ. 144- در السحابة في مناقب القرابة والصحابة، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، تحقيق ودراسة دكتور: حسين بن عبد الله العمري، الطبعة الأولى، 1404هـ 1984م. 145- دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي، محمد ناصر الدين الألباني، المطبعة العمومية بدمشق. 146- دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، الطبعة الثانية، 1404هـ - 1984م.

147- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م. 148- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1985م. 149- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 150- الدين الخالص، للسيد محمد صديق حسن القنوجي البخاري، تحقيق: محمد زهري النجار، مكتبة الفرقان، مصر. 151- ديوان ذي الرمة، غيلان بن عقبة بن نهيس العدوي ت: 117هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1984م. - ذ – 152- الذرية الطاهرة النبوية، لأبي بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي، ت: 310هـ، تحقيق وتخريج: سعد المبارك الحسن الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1407هـ - 1986م. 153- الذيل على طبقات الحنابلة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي الشهير ـ بابن رجب ـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. - ر – 154- رجال الكشي ـ المسمى ـ اختيار معرفة الرجال ـ محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، طبع: دانشكاه مشهد، مركز تحقيقات ومطالعات ـ إيران، 1348هـ، تحقيق: حسن المصطفوي.

155- الرد على الجهمية، للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق: زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1398هـ - 1978م بيروت. 156- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت: 204هـ، بتحقيق: أحمد بن محمد شاكر. 157- رسالة في الرد على الرافضة، لأبي حامد محمد المقدسي، ت: 888هـ، تحقيق: عبد الوهاب خليل الرحمن، الدار السلفية، بومباي، الهند، طبعة أولى 1403هز 158- رسالة ابن أبي زيد القيرواني، عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ت: 386هـ، مطبوعة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني، للشيخ صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 159- الرسالة التدمرية. لشيخ الإسلام ابن تيمية ت: 728هـ، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط2، 1391هـ 160- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للسيد محمد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1400هـ. 161- الرقائق والحكايات، لخثيمة بن سليمان الطرابلسي، ت: 343هـ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري "ضمن مجموع بعنوان من حديث خيثمة بن سليمان"، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة أولى، 1400هـ. 162- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود الألوسي البغدادي، ت: 1270هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

163- الروض الآنف في تفسير السيرة النبوية، لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، ت: 581هـ، طبع دار المعرفة. 164- الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، لأبي عبد الله السيد محمد بن الوزير، ت: 840هـ، المطبعة السلفية، القاهرة، نشرة قصي محب الدين الخطيب، 1385هـ. 165- روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، محمد باقر الموسوي الخوانساري، ت: 1313هـ، تحقيق: أسد الله إسماعيليان، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 166- الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: أبي عبد الله إبراهيم سعيد أبي إدريس، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1406هـ. 167- رياض الصالحين، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ،، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1405هـ، تحقيق وتخريج: عبد العزيز رباح، أحمد يوسف الدقاق. 168- الرياض النضرة في مناقب العشرة، لأبي جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1984م. 169- رسالة في الرد على الرافضة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: د. ناصر بن سعد الرشيد، طبع: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة. 170- الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة، للإمام يحيى بن أبي بكر العامري اليمني، ت: 893هـ، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الثالثة.

- ز - 171- زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ت: 593هـ، طبع: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1404هـ - 1984م. 172- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، ت: 751هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1399هـ - 1979م. - س – 173- سؤال في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لشيخ الإسلام ابن تيمية ت: 728هـ، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبع: دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان. 174- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني منشورات المكتب الإسلامي. 175- سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، الطبعة الأولى، 1371هـ، مصطفى البابي الحلبي، بمصر. 176- سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجه، ت: 275هـ، دار إحياء التراث العربي، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، 1395هـ - 1975م. 177- سنن الترمذي، للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، ت: 479هـ، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، وطبع دار الاتحاد العربي.

178- سنن الدارمي، لأبي عبد الله عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، ت: 255هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 179- السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت: 458هـ، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان. 180- سنن النسائي، للإمام أحمد بن شعيب بن علي النسائي، ت: 303هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان. 181- السنة لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال، ت: 311هـ، دراسة وتحقيق الدكتور/عطية الزهراني، دار الراية، الطبعة الأولى، 1410هـ. 182- السنة للإمام أحمد بن حنبل، ت: 241هـ، مكتبة ابن تيمية، مصر. 183- السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 184- سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق: الأرناؤوط، مأمون الصاغرجي، الطبعة الثانية، 1402هـ - 1982م. 185- السير والمغازي، لمحمد بن إسحاق الشهير بابن إسحاق، ت: 151هـ، تحقيق: الدكتور سهيل زكار، دار الفكر، طبعة أولى، 1978م. 186- السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، التي: 213هـ، تحقيق وضبط وشرح: مصطفى السقا وآخرين. 187- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ت: 728هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. - ش – 188- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن

ابن منصور الطبري اللالكائي، ت: 418هـ، تحقيق: د. احمد سعد حمدان الغامدي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. 189- شرح ألفية العراقي المسماة "بالتبصرة والتذكرة" للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، ت: 806هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 190- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، للشيخ محمد بن محمد مخلوف، طبع دار الفكر، بيروت. 191- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، ت: 1089هـ، طبع: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 192- شرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع مع عون المعبود، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1389هـ - 1969م. 193- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، ت: 684هـ، تحقيق: عبد الرؤوف سعد، دار الفكر للطباعة، القاهرة. 194- شرح السنة للإمام محي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت: 516هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي. 195- شرح العقيدة الطحاوية، للعلامة محمد بن علي بن محمد الأذرعي، ت: 792هـ، خرج أحاديثها الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ. 196- شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1409هـ. 197- شرح كتاب الفقة الأكبر، للملا علي القاري الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1404هـ - 1984م.

198- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، للقسطلاني، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393هـ. 199- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ت: 679هـ، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1387هـ - 1967م. 200- شرح النووي على صحيح مسلمن للإمام زكريا/ يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض. 201- الشرح والإبانة على أصول الديانة، لعبيد الله بن محمد بن بطة العكبري ت: 387هـ، تحقيق وتعليق: رضا بن نعسان معطي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة. 202- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى، لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1369هـ، 1950م. 203- الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية، دار التعاريف للمطبوعات، بيروت. 204- الشيعة والتصحيح، موسى الموسوي، طبع عام 1408هـ - 1978م. - ص - 205- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728 تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، طبع: عالم الكتب، 1402هـ - 1982م. 206- الصحابة في نظر الشيعة الإمامية أسد حيدر، نشر مطبوعات النجاح، القاهرة.

207- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، ت: 393 تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، القاهرة، 1402هـ. 208- صحيح البخاري بحاشية السندي، لأبي عبد الله محمد إسماعيل البخاري، ت: 256هـ، طبع: دار إحياء الكتب العربية، لأصحابها مصطفى البابي الحلبي وشركاه. 209- صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ. 210- صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ. 211- صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: 261هـ، تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ط1، 1374هـ. 212- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، ت: 877هـ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، تصحيح وتحقيق: محمد الباقر البهبودي. 213- صفة الصفوة، لأبي الفرج بن الجوزي، ت: 597هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1405هـ - 1985م. 214- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيثمي المكي، ت: 974هـ، مكتبة القاهرة، الطبعة الثالثة 1385هـ - 1965م. - ض - 215- الضعفاء الكبير، لأبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي

المكي، الطبعة الأولىن دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 216- الضوء اللامع لأهل القرن التاسعن محمد عبد الرحمن السخاوي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان. - ط – 217- طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. 218- طبقات خليفة بن خياط العصفرين ت: 240هـ، تحقيق: الدكتور أكرم ضياء العمري، نشر: دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1402هـ. 219- طبقات الشافعية، لأبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي، ت: 771هـ، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود الطناجي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى. 220- طبقات فقهاء اليمن، عمر بن علي بن سمرة الجعدي، تحقيق: فؤاد سيد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1401هـ - 1981م. 221- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد كاتب الواقدي، ت: 230هـ، طبع: دار بيروت للطباعة والنشر. 222- طبقات المعتزلة، أحمد بن يحيى بن المرتضى، تحقيق: سوسنة ديفلد فلزر، بيروت، 1380هـ - 1961م. 223- طبقات المفسرين، للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي، ت: 945هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 224- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني، ت: 664هـ، مطبعة الخيام، قم.

- ع – 225- عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، سليمان بن أحمد العودة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ. 226- عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، مطبوعات النجاح، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1391هـ. 227- العقود الفضية في أصول مذهب الإباضية، سالم بن حمد بن سليمان بن حميد الحارثي العماني الإباضي، دار اليقظة العربية، سوريا، لبنان، بدون تاريخ. 228- عقيدة أهل السنة والجماعة، محمد الصالح العثيمين، طبع مركز شئون الدعوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة، 1409هـ. 229- عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لشيخ الإسلام إسماعيل الصابوني، ت: 449هـ، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، إدارة الطباعة المنيرية، نشر محمد أمين دمج، بيروت، 1970م. 230- العقيدة الطحاوية، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوية، ت: 321هـ، مطبوعة مع شرحها لابن أبي العز الحنفي، طبع: المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ. 231- العقيدة الواسطية، لمحمد خليل هراس، طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1402هـ - 1982م. 232- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي التميمي القرشي، ت: 597هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ. 233- عمان في فجر الإسلام، سيدة إسماعيل كاشف، وزارة التراث القومي

والثقافة، سلطنة عمان، الطبعة الثانية، 1982هـ. 234- عمدة القاري شرح صحيح البخاري، محمود بن أحمد بن موسى العيني، ت: 855هـ، طبع: دار الفكر، 1399هـ - 1979م. 235- عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي، محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، ت: 543هـ، طبع: دار الفكر للطباعة، بيروت. 236- العبر في خبر من غبر، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: وزارة الأوقاف، الكويت، الطبعة الأولى. 237- العذب الفائض شرح عمدة الفارض، إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم، أمر بطبعه الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. 238- العواصم من القواصم، للقاضي أبي بكر بن العربي، ت: 543هـ، تحقيق: محب الدين الخطيب، طبع: المطبعة السلفية ومكتبتها. 239- العواصم من القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، محمد بن إبراهيم الوزير، ت: 840هـ، دار البشير، عمان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1405هـ 1985م. 240- عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري، لأبي الطيب صديق حسن علي الحسيني القنوجي البخاري، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1404هـ - 1984م. 241- عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1389هـ. 242- عيون المعجزات، حسين عبد الوهاب، من منشورات الداودي، قم، المطبعة العلمية، قم.

- غ – 243- غاية الأماني في الرد على النبهاني، محمود شكري بن عبد الله بن محمود الحسيني الألوسي، ت: 1273هـ، طبعة قديمة، خالية من مكان الطبع وتاريخه. 244- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين الأميني النجفي دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 245- غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت: 224هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 246- الغنية، فهرست شيوخ القاضي عياض المغربي، طبع: الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، تحقيق: محمد بن عبد الكريم. 247- الغنية لطالبي طريق الحق، عبد القادر الجيلاني، طبع مصطفى البابي الحلبي، 1375هـ. 248- غياث الأمم في التياث الظلم، عبد الملك الجويني، ت: 478هـ، تحقيق عبد العظيم الديب، إدارة الشئون الدينية، الدوحة، 1400هـ. - ف - 249- فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن حجر بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، بترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي. 250- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، دار الشهاب، القاهرة. 251- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، للإمام محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان. 252- فتح المغيث شرح ألفية الحديث، محمد بن عبد الرحمن السخاوي،

ت: 902هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 253- الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، لمحمد بن علان، ت: 1057هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 254- الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان، لأبي سعيد محمد بن سعيد الأزدي المقلهماني، تحقيق وتقديم: محمد بن عبد الجليل، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة التونسية، 1984م. 255- الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت: 429هـ، تعليق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، مصر. 256- الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم الظاهري، ت: 456هـ، مكتبة الخانجي، مصر. 257- الفصول المهمة في تأليف الأمة، لعبد الحسين الموسوي، دار الزهراء، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1397 – 1977م. 258- فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، ت: 505هـ، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، حولي. 259- فضائل أبي بكر، لأبي طالب محمد بن علي بن الفتح الحربي العشاري، ت: 451هـ، طبع المكتبة الدينية السلفية، في ملتان، الهند، الطبعة الأولى، 1358هـ. 260- فضائل الصحابة، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت: 241هـ، تحقيق وصي الله بن محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م. 261- فضائل الصحابة، أحمد بن علي بن شعيب، النسائي، ت: 303هـ، تحقيق: فاروق حماده، طبع دار الثقافة، الدار البيضاء. 262- فضائل القرآن لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، ت: 774هـ، نشر مكتبة الصحابة، مصر.

263- فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني، دار الغرب الإسلامي. 264- الفوائد البهية في تراجم الحنفية، محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان. 265- فوات الوفيات، محمد بن شاكر الكتبي، ت: 764هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر. 266- فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، ت: هـ، دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1391هـ، 1972م. - ق – 267- القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي، ت: 817هـ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. 268- قبس من هدي الإسلام، للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1401هـ. 269- قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، لصديق حسن خان، ت: 1307هـ، تحقيق الدكتور: عاصم بن عبد الله القريوتي، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م. - ك – 270- الكامل في التاريخ لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير، ت: 630هـ، دار صادر، بيروت. 271- الكامل في ضعفاء الرجال، للإمام الحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، ت: 365هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1405هـ. 272- الكافي، محمد بن يعقوب الكليني الرازي، ت: 328هـ، المطبعة

الإسلامية، طهران، طبع 1388هـ. 273- كتاب الكبائر، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الأولى، سنة 1355هـ. 274- كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، مخطوط. 275- كشف الأسرار لروح الله الخميني، تقديم: د. محمد أحمد الخطيب، دار عمار، عمان، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1987م. 276- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة، مكتبة المثنى، بيروت. 277- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، لنصير الدين الطوسي، ت: 772هـ، مع شرحه للحلي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، لبنان. 278- الكفاية، أحمد بن علي الخطيب، ت: 463هـ، الطبعة الأولى، 1405هـ. نشر دار الكتاب العربي، تحقيق وتعليق الدكتور أحمد عمر هاشم. 279- كليات أبي البقاء الكفوي، طبع بولاق، القاهرة. 280- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للعلامة علاء الدين علي المتقي ابن حسام الدين الهندي البرهان فوري، ت: 975هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1399هـ - 1976م. - ل – 281- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي، طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي.

282- لباب النقول في أسباب النزول، جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، طبع: دار إحياء العلوم، بيروت. 283- اللباب في تهذيب الأنساب، عز الدين ابن الأثير الجزري، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، ت: 630هـ، طبع: دار صادر، بيروت. 284- لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، ت: 711هـ، طبع: دار صادر، بيروت. 285- لسان الميزان، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع: دار الفكر، بيروت، لبنان. 286- لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ت: 620هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة. 287- لوامع الأنوار البهية، شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة الرضية، للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، ت: 1188هـ، المكتب الإسلامي، مكتب أسامة. - م – 288- مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس، الرسائل الشخصية، طبع: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 289- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف علي بن أبي بكر الهيثمي، ت: 808هـ، الطبعة الثالثة، سنة 1402هـ دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 290- المجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت:

676هـ، مطبعة الإمام بمصر. 291- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، بمساعدة ابنه محمد، تصوير عن الطبعة الأولى، 1398هـ. 292- مجمع النورين وملتقى البحرين، تأليف أبي الحسن المرندي النجفي ت: 1349هـ، ـ خال من مكان الطبع وتاريخه وهو موجود بمكتبة كراتشي العامة. 293- المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية، حسين العصفور، ط. جمعية أهل البيت، البحرين، طبعة أولى 1399هـ. 294- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، محمد بن عمر الخطيب المعروف بالفخر الرازي، ت: 606هـ، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، طبعة أولى، 1404هـ. 295- المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري ت: 456هـ، دار الاتحاد العربي للطباعة، سنة 1388هـ - 1968م. 296- المختار الثقفي مرآة العصر الأموي، علي حسن الخربوطلي، سلسلة أعلام العرب، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، 1962م. 297- مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ت: 666هـ، طبع: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 298- مختصر تاريخ الإباضية، لأبي ربيع سليمان الباروني، نشر مكتبة الاستقامة، تونس، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية. 299- مختصر التحفة الاثنى عشرية، للسيد محمود شكري الألوسي، مكتبة إيشيق ـ استنابول، تركيا، 1399هـ - 1979م. 300- مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1206هـ، بتحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، القاهرة.

301- مختصر الصواعق المراسلة على الجهمية والمعطلة، تأليف الإمام بن قيم الجوزية، اختصره محمد بن الموصلي، مكتبة الرياض الحديثة. 302- مختصر فتاوى ابن تيمية، لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي، ت: 777هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1405هـ. 303- مختصر منتهى الأصولي مع شرح القاضي عضد الملة والدين، وعليه حواشي التفتازاني والجرجاني والهروي لابن الحاجب المالكي، ت: 646هـ، مطعبة الفجالة الجديدة، 1393هـ - 1973م. 304- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، طبع السنة المحمدية، القاهرة. 305- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران. 306- المراسيل، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت: 275هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، طبعه أولى، 1408هـ. 307- المرقاة شرح المشكاة، علي بن سلطان محمد القاري، المطبعة الميمنية، مصر. 308- مروج الذهب ومعادن الجوهر، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، ت: 346هـ، طبع دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1402هـ. 309- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، تحقيق زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي. 310- المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الشهير بالحاكم، ت: 405هـ. 311- المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد بن محمد

الغزالي، ت: 606هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. 312- مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت: 241هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، طبع: دار المعارف بمصر، بتحقيق: أحمد شاكر رحمه الله. 313- مسند أبي يعلى، تأليف أحمد بن علي المثنى التميمي، ت: 307هـ، تحقيق: حسين سليم أسد، طبع دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، 1404هـ. 314- مسند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، للإمام جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، تصحيح وتعليق: محمد غوث، نشر الدار السلفية، بومباي، الهند، الطبعة الأولى، 1401هـ. 315- مسند الحميدي، للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي، ت: 219هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 316- المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال، مخطوط. 317- مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي، ت: 321هـ، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة، الأندلس. 318- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، ت: 770هـ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 319- المصنف في الأحاديث والآثار، للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة ت: 235هـ، طبع: الدار السلفية، الطبعة الأولى، 1403هـ، بومباي، الهند. 320- المصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت: 211هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، طبع: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.

321- معالم التنزيل، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت: 516هـ، مطبوع مع تفسير الخازن، طبع المكتبة التجارية الكبرى، مصر. 322- معالم السنن، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، ت: 388هـ، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، 1351هـ - 1981م. 323- معاني الأخبار، لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم. 324- معاني القرآن، لأبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، ت: 311هـ، منشورات المكتبة العصرية، بيروت. 325- المعتمد في أصول الفقه، لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء، ت: 458هـ، تحقيق: د. وديع زيدان حداد، طبع دار الشرق، بيروت، لبنان. 326- معجم البلدان، للإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي، ت: 626هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 327- معجم المؤلفين، تراجم مصنفي الكتب العربية، عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 328- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، ت: 395هـ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، 1389هـ، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. 329- معرفة الصحابة للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، ت: 430هـ، تحقيق ودراسة: محمد راضي بن حاج عثمان، طبع مكتبة الدار بالمدينة، الطبعة الأولى 1408هـ. 330- معرفة علوم الحديث، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله، الحاكم النيسابوري ت: 405هـ، تحقيق السيد حسين، طبع دائرة المعارف العثمانية،

حيدر آباد الدكن، الطبعة الثانية، 1397هـ. 331- المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان الفسوي، ت: 277هـ، تحقيق د. أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1401هـ. 332- المغازي، محمد بن عمر بن واقد، ت: 207هـ، تحقيق: مارسدن جونسو، عالم الكتب، الطبعة الثالثةن 1404هـ - 1984م. 333- مفتاح دار السعادة، للإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 334- المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ت: 502هـ، تحقيق: محمد سيد كيلاني، مصطفى البابي الحلبي، بمصر. 335- المفصح في إمامة أمير المؤمنين، لأبي جعفر الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، قم، إيران. 336- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري، ت: 330هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية. 337- المقالات والفرق، سعد بن عبد الله بن خلف الأشعري القمي، ت: 301هـ، تحقيق: محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري، طهران 1963هـ 338- المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون، ت: 808هـ، دار القلم، بيروت لبنان، الطبعة الخامسة، 1984م. 339- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، ت: 642هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 340- مقدمة تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، لأبي الحسن بن محمد طاهر

النباطي العاملي القروي، وهي مقدمة على تفسير البرهان للبحراني، طبع المطبعة العلمية، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1393هـ. 341- مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، لمرتضى العسكري، دار الكتب الإسلامية، طهران. 342- مناقب آل أبي طالب، لأبي جعفر محمد بن علي بن شهراشوب، ت: 588هـ، مؤسسة: انتشارات علامة ـ قم ـ. 343- مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: لجنة إحياء التراث، طبع دار الآفاق الجديدة، ط3، 1402هـ. 344- مناقب الإمام الشافعي، فخر الدين الرازي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، طبعة أولى، 1406هـ. 345- مناقب الإمام الشافعي، لأحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، تحقيق: أحمد صقر، نشر: مكتبة دار التراث، طبع: دار النصر طبعة أولى 1391هـ. 346- المنتقى من منهاج الاعتدال، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: مكتبة دار البيان، حققه وعلق حواشيه: محب الدين الخطيب. 347- منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم، الشهير بابن تيمية، التي: 728، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 348- منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين، مخطوط، في مكتبة عارف حكمت بالمدينة، رقم 253. 349- منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي، ت: 726هـ، مطبوع مع منهاج السنة النبوية، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 350- الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، ت: 597هـ، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1403هـ.

351- الموافقات في أصول الأحكام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي، ت: 790هـ، دار الفكر، 1341هـ. 352- المواقف في علم الكلام، للقاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، نشر: عالم الكتب، بيروت، لبنان، ومكتبة المتنبي، القاهرة، ومكتبة سعد الدين، دمشق. 353- الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي، ت: 119هـ، صححه ورقمه وخرج أحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه. 354- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، لننان. 355- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، طبع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، إيران. - ن – 356- نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت: 597هـ، دراسة وتحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1405هـ. 357- نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، سنة 1406هـ. 358- النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية في شمال إفريقية في مرحلة الكتمان، عوض محمد خليفات، الطعبة الأولى، عمان، 1982م. 359- النكت والعيون، تفسير: علي بن حبيب الماوردي، ت: 450هـ، مطابع مقهوي، الكويت، الطبعة الأولى.

360- النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ت: 606هـ، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناجي، نشر: المكتبة الإسلامية، لرياض الشيخ. - هـ- 361- هدي الساري مقدمة فتح الباري، الحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها. 362- هدية العارفين أسمء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي، مكتبة المثنى، بيروت. - و – 363- الوصية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، طبع: دار المطبعة السلفية ومكتبتها، نشر: قصي محب الدين الخطيب، الطبعة الثالثة، 1401هـ. 364- وفيات الأعيان، لأبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، ت: 681هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت. - ي – 365- كتاب: اليقين في إمرة أمير المؤمنين، لابن طاووس، المكتبة الحيدرية ومطبعتها النجف.

§1/1