عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين

عبد العظيم المطعني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين المؤلف: د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني الناشر: مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م عدد الأجزاء: 1 تنبيه: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم في إطار الحملة المسعورة التي يشنها بعض الكتاب والإعلاميين ضد الإسلام، تثار الأن زوبعة هوجاء حول الردة في الإسلام، فما كاد فضيلة الشيخ / محمد الغزالي، والدكتور / محمد مزروعة يفرغان من تأدية شهادتيهما أمام المحكمة التي تنظر قضية اغتيال فرج فودة، وتنشر الصحف ما قالاه، حتى انبرى فريق من الكتاب والإعلاميين، ونظموا حملة صاخبة ضد الشيخ الغزالي والدكتور مزروعة، ثم سرعان ما حولوا هجومهم ضد الشيخين إلى هجوم على الإسلام نفسه، منكرين ان تكون عقوبة المرتد هي القتل. ثم فتح الباب على مصراعيه لكل من شاء، حتى الذين ينتمون إلى عقائد أهرى غير عقيدة الإسلام، منحوا أنفسهم حق الإفتاء في أمور إسلامية خالصة، لا يحسن القول فيها إلا من درس الإسلام أصولاً وفروعاً منذ نعومة أظفاره. وهذا شيء قد تعودنا في هذا العصر الذي تحترم فيه كل التخصصات، إلا إذا تعلق الأمر بالإسلام فإنك تجد كل الكاتبين ائمة مجتهدين، ينصون أنفسهم قضاة يحاكمون الإسلام نفسه، ويحاكمون فقهاء الإسلام وأصولييه ومفسريه ومحدثيه، ويرمونهم بالقصور والغفلة وعظائم الأمور؟

وقد تابعت طرفاً من هذه الحملة حين وجودي بالخارج، ولكن لم تتح لي فرصة المتابعة لكل ما قالوه في انكارهم لحد الردة في الإسلام، لأن الصحف والمجلات المصرية لا تصل إلينا بانتظام. وبعد عودتي إلى القاهرة تمكنت - والحمد لله - من الحصول على ما يصور وجهة نظرهم تصويراً تاماً. وعرفت أساليبهم في الكر والفر، ومنهجهم في الاستدلال، وتعاملهم مع النصوص وأدلة الأحكام الشرعية، وتمنيت لو تصدى الأزهر الشريف لدعاواهم وأصدر بياناً شافياً حول موضوع النزاع، لإن الأزهر هو الجهة الوحيدة التي تملك - شرعاً وقانوناً - حسم الخلاف في مثل هذه الأمور، ولكن الأزهر لم يفعل شيئاً، وترك المجال يقف فيه الشيخ الغزالي وحده يرد على بعض ما يثار في الموضوع، رداً يخضع إعلامياً للحذف والتبديل، لإن المزاج العام للإعلام الصحفي هو الميل إلى وجهة نظر المعارضين لأسباب لا تخفى على أحد ثم سعدت يوماً حين وقعت عيني على عنوان مقال لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد السيد طنطاوي مفتي الجمهورية، وتوقعت أن دار الإفتاء نهضت بما لم ينهض به الأزهر لحسم الخلاف بين طرفى النزاع بكلمة خالصة لوجه الله تعالى، ودار الإفتاء هي "أزهر مصغر" لحمة وسدى. ولكن بعد الفراغ من قراءة مقال فضيلة المفتي "كلمة عن الردة والمرتدين" ذهبت سعادتي ادراج الرياح، لإن المقال لم يتصد لجوهر الخلاف، ولم يضع حداً للتطاول على الإسلام نفسه، ثم على الرعيل

الأول من فقهاء الأمة وعلمائهم الأعلام، ثم تساءلت: إلى متى نؤثر السكوت على الكلام وسهام السوء تنثر صوب الإسلام صباح مساء، وحماه ينتهك، ومحاسنه توأد، وقيمه تنتقص؟! وإلى متى نؤثر الصمت أمام الهجمات الشرسة على الفقه الإسلامي المنبثق من الكتاب والسنة ومقاصد الإسلام وكلياته التشريعية؟ وإلى متى نؤثر الصمت أمام الحملات التي تشن على أئمة المذاهب الفقهية والأصوليين والمفسرين ورجال الحديث، وترميهم بالجمود وأنهم لم يفهموا الإسلام كما يفهمه الكارهون لما أنزل الله من الشيوعيين والعلمانيين ومن جرى مجراهم؟ إن الإسلام في نظر هؤلاء كلأ مباح لكل سائمة وصيد مستهدف لكل ذي سهم؟ إنهم يريدون إسلاماً مصنوعاً على هواهم، وليس إسلاماً كما أنزله الله وبينه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -؟ يريدون إسلاماً مرقعاً لا إسلاماً خالصاً. ومما دفعنا إلى كتابة هذه المواجهة السريعة لما يقوله منكرو حد الردة أنهم اعتسفوا القول اعتسافاً في إنكارهم لهذا الحد. * اعتدوا على حرمة النصوص الشرعية ... ؟ * وأساءوا فهم بعض الوقائع التاريخية ... ؟ * وزوروا على الفقهاء أقوالاهم منها برآ ... ؟

* ونسبوا إليهم مواقف لم ولن تصح عنهم ... ؟ * وأهدروا صلة السنة النبوية بالكتاب العزيز؟! * وأفتوا - زوراً وبهتاناً - بما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -. * وضربوا باتفاق مليون فقيه وعالم عرض الحائط من غير مبالاة ولا خجل. لهذا استخرنا الله - بعد تردد لم يطل - في أن نحرر هذه السطور. احقاقاً للحق خالصاً لوجه الله الكريم. ليس دفاعاً عن أحد ولا تحاملاً على آخر: والذي نسطره - هنا - ليس دفاعاً عن الشيخ الغزالي أو الدكتور مزروعة، وليس دفاعاً عن قتلة فرج فوده ولا إدانة أو تحاملاً عليه، فهذه أمور هاشمية عابرة وإنما هدفنا الأول والآخير هو الدفاع عن حدٍ من حدود الله، اجتمعت عليه المدارس الفقهية ولم يعرف عنهم فيه خلاف. وقامت على وجوده عشرات الأدلة قولاً وعملاً وتقريراً لإنه - أي حد الردة - يتعلق بحماية ضرورة من الضرورات الخمس، التي رعاها التشريع الإسلامي حق الرعاية، وهي: * الحفاظ على المال، وحده قطع يد السارق. * والحفاظ على النسل، وحده رجم الزاني أو جلده.

* والحفاظ على العرض والشرف، وحده جلد الرامي للناس في أعراضهم وشرفهم. * والحفاظ على العقل، وحده جلد الشارب. * ثم الحافظ على الدين، وحده قتل المرتد. فهذه خمسة حدود متفق عليها، يضاف إليهما حدان متفق عليهما كذلك وهما: * حد الحرابة لمن يحارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويسعى في الأرض فساداً فيعتدي على الأنفس والأموال والأعراض. * ثم حد البغي إذا اعتدت طائفة على أخرى ظلماً وعدواناً. هذه الحدود السبعة شرعها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لجرائم من شأنها إذا لم تردع أن تبدل سعادة الحياة بؤساً. وتحول أمنها قلقاً واضطراباً. ولعظم الحدود في الإسلام فإن العفو لا يجوز فيها إذا رفعت لولي الأمر، إنها حقوق لله ولا يملك أحد حق العفو في حق هو خالص لله. ومن العجيب - حقاً - أن منكري جد الدرة لم يقفوا عند إنكاره هو وحده، بل أنكروا معه ثلاثة حدود أخرى، وهي: * حد الحرابة، وقد ورد في القرآن الكريم. * وحد البغي، وقد ورد كذلك في القرآن الكريم.

* وحد شرب الخمر، وقد ورد في السنة الطاهرة قولاً وعملاً، وفي السنة العملية للخلفاء الراشدين ولك أن تضحك - أو تبكي إن شئت - حين تقف على طريقة استدلال منكري هذه الحدود، إن مستندهم الوحيد أن هذه الحدود الأربعة التي أنكروها خلا منها كتاب الفقه على المذاهب الأربعة....؟ أما الحدود التي أقروا بها فهي: * حد الزنى. * حد القذف. * حد السرقة. قل لهؤلاء المنكرين ماذا تفعلون بقوله تعالى الذي يقرر حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33) . وماذا يصنعون بقوله تعالى الذي يقرر حد البغي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ... } (الحجرات 9) .

ثم ماذا يصنعون بالأحاديث النبوية الواردة في عقوبة شارب الخمر، والقاضية بقتله إذا شرب مرة رابعة بعد تأديبه في المرات الثلاث السابقة إذا لم يتب ويقلع؟ عجيب - والله - أن يتخذوا من خلُو كتاب المذاهب الأربعة من ذكر هذه الحدود - وهو مؤلف حديث - دليلاً على إنكار الحدود التي لن تذكر فيه. وقاضياً على نصوص الشريعة المقدسة من الكتاب والسنة؟ وأيا كان الأمر فإننا في مواجهتنا لهذه الدعاوي ذكرنا شبهات منكري حد الردة شبهة تلو أخرى وتناولنا كل شبهة بنقد ونقض موذوعيين - كما سيرى القارئ - دفاعاً عن الحق، وإحقاقاً له؛ لإن الشبهات التي استند إليها منكرو حد الردة قد يكون لها تأثير قوي عند أهل العلم. فالتصدي لهل واجب على كل قادر، وكشف ما في شبهانهم من زيف وتضليل وإغراء على الفساد والإفساد جهاد في سبيل الله لابد من القيام به، تبصيراة وتبصيرة. والذكرى تنفع المؤمنين وهذه المواجهة شطرناها شطرين. * في الشطر الأول منها واجهنا شبهات منكري حد الردة كلها وبينا أنهم ليس لهم أي مستند فيها يؤيد ما ذهبوا إليه. وفي الشطر الثاني ذكرنا "توضيحات لابد منها" وضحنا فيها جوانب مهمة، منها:

لماذا شرع الإسلام قتل المسلم إن ارتد؟ وهل هذا التشريع ينافي حرية الاعتقاد في الإسلام. والله نسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به طلاب الحق وصالحي المؤمنين. عبد العظيم إبراهيم المطعنى القاهرة - الظاهر الخميس غرة ربيع الأول 1414 هـ الموافق 18 / أغسطس 1993 م عفا الله عنه

الشبهة الأولى

الشبهة الأولى خطأ الاستدلال بالنصوص القرآنية وقع منكرو حد الردة في أخطاء عديدة وهم يستدلون على إنكاره بأيات من القرآن الكريم، ويمكن تصنيف أخطائهم في هذا المجال فيما يأتي: الأول: خطأ عام شمل استدلالهم بكل ما ذكروه من آيات حكيمة. الثاني: خطأ يتعلق باستدلالهم ببعض الآيات دون بعضها الأخر. الخطأ العام: من الحقائق المسلمة أن حد الردة، وهو القتل، لم يرد صراحة في الآيات التي تحدثت عن الردة، حيث قصرت تلك الآيات عقوبة المرتد على العذاب الأخروي، ومنكرو حد الردة اتخذوا من خلو القرآن من عقوبة دنيوية محددة دليلاً على إنكار حد الردة الذي ورد في السنة الصحيحة قولاً وعملاً، وفي سنة الراشدين، ووقع الإتفاق عليه بين الفقهاء، وهذا انزلاق خطر، وقصور شنيع في الفهم والاستدلال؛ لإنه يقوم على إهدار دور السنة في التشريع، وهي بإجماع الأصوليين والفقهاء وجميع فرق الأمة، المصدر الثاني في

التشريع الإسلامي وسنبين هذا في إيجاز ووضوح بعد قليل. الخطأ الخاص باستدلالهم ببعض الايات أما الخطأ الخاص باستدلالهم بآيات دون أخرى فكان سببه الوقوف عند ظاهر تلك الآيات، دون البحث عن المراد منها. وها نحن نذكر الايات التي استدلوا بها، ونكشف وجوه الخطأ في ذلك الاستدلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ....} المائدة (549 {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة (217) . هاتان الآيتان عن جريمة الردة وتوعد الله في أولاهما المرتدين بقطع دابرهم والآيتان يقوم آخرين يحبهم ويحبونه وفي الثانية توعدهم بحبوط أعمالهم العاجلة والآجلة، وتخليدهم في النار يوم يقوم الحساب. وفد خلت الآيتان من النص على عقوبة دنيوية محددة وهذا أغرى منكري حد الردة وزعموا أنه حد مزعوم ورموا جميع فقهاء الأمة القائلين بأن عقوبة المرتد هي القتل رموهم بالادعاء الكاذب؟! وورطوا أنفسهم في منكر من القول وزوّر جارين وراء أهواء رخيصة

وعواطف هوجاء، وقصور في النظر والاستدلال. ثم استدلوا - كذلك - بالآيات الأتية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ....} . آل عمران: (86) . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} النساء (137) . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} آل عمران: (90) . {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} آل عمران: (72) . وجه استدلالهم: استدل منكرو حد الردة بالآيات الثلاث الأولى مما ذكرناه آنفاً على أن هذه الآيات تتحدث عن ردة ظاهرة، وفي بعضها ورد الحديث عن الردة مرتين لقوم مخصوصين {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... } وفهموا من هذا أن المرتد لو كانت عقوبته القتل لما بقى حياً حتى يرتد مرة أخرى؟ وأنه لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقب هؤلاء المرتدين بالقتل فكيف يقال أن عقوبة المرتد هي القتل؟

خطأ هذا الاستدلال: إن منكري حد الردة جانبهم الصواب في استدلالهم بهذه الآيات وإليك البيان: فقوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ....} يذهب المفسرون فيه مذهبين ليس في أحدهما ولا فيهما أي دليل لمنكري حد الردة. المذهب الأول: أن الآية تتحدث عن جماعة كانوا مسلمين حقاً ثم ارتدوا ولحقوا بالمشركين، وقد راجعوا أنفسهم فأرسلوا بعضاً من الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لهم من توبه فرجعوا إلى الإسلام بعد نزول هذه الاية وحسن إسلامهم. المذهب الثاني: أن الآية تتحدث عن اليهود، لإنهم كانوا قبل الإسلام مؤمنين برسالة النبي الخاتم، وكانوا يطعمون أن يكون منهم فلما بعث من العرب كفروا به. ويرجع هذا المذهب سياق الكلام قبل هذه الآية وبعدها، حيث جاءت هذه الآية في نظم آيات تتحدث عن أهل الكتاب. وعلى كلا المذهبين لا دليل في الآية لمنكري حد الردة - القتل - فعلى

المذهب الأول لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء المرتدين، لأنهم فروا هاربين إلى أهل الشرك ساعة ارتدوا. ثم عادوا تائبين. وعلى المذهب الثاني يكون من تحدثت عنهم الآية غير مسلمين أصلاً فهم باقون على أصل كفرهم بالإسلام وليسوا مرتدين، لإن الردة لا تتحقق إلا ممن كان مسلماً حقيقة ثم ارتد. أما قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} . فقد بين المفسرون المراد من هذه الآية الكريمة، وجلهم يقول إن المراد من الذين آمنوا ثم كفروا "هم المنافقون" والمنافقون قوم كانوا يتظاهرون بالإيمان قولاً وعملاً ويبطنون الكفر، وكثيراً ما تعتريهم ومضات من الإيمان ثم يسيطر عيهم الكفر، وأحكام الإسلام إنما يجرى على الظاهر لا على الباطن، فلم يكن لفتلهم على ردتهم سبيل للأمور الآتية: 1- نطقهم بالشهادتين وحضورهم الصلوات في المساجد ... إلخ. 2- إن الردة التي تحدث عنها القرآن - هنا - ليست ردة ظاهرة وإنما هي أحوال نفسية كانت تعتريهم، واعتقادات قلبية لم يجر بها إنسان. 3- إن المنافقين كانوا شديدى الحرص على إخفاء كفرهم والتظاهر

بأنهم مسلمون، فحكمهم لله وحده. وقد حكى القرآن عنهم قلقهم وتقلبهم من حال إلى حال فقال تعالى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ....} النساء: (143) . وقد أساء منكرو الردة فهم هذه الآية فحسبوها تتحدث عن قوم آمنوا ثم أعلنوا الكفر ثم آمنوا ثم أعلنوا الكفر مرة اخرى ثم ازدادوا كفراً عياناً جهاراً ولم يعاقبهم صاحب الدعوة على ردتهم، وهذا ما أوقعهم في الجرأة والتطاول على فقهاء الأمة سلفاً وخلفاً، ثم ملأوا الدنيا ضجيجاً قائلين: أن الردة لا تبيح القتل وأن حدَّ الردة لا وجود له بل هو حدَّ مزعوم، ورموا من يقول به بأهم مضللون. هكذا والله.؟! وأما قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} آل عمران: (90) . فهي كما قال المفسرون تتحدث عمن ارتد وأوغل في كفره ومات وهو كافر سواء مات حتف أنفه أو قتل كفراً. والذي حمل المفسرين على تخصيص هذه الآية بمن ارتد ومات كافراً أن المرتد مهما عظمت ردته أو تكررت إذا تاب قبل موته توبة نصوحاً ومات على الإيمان قبلت توبته إذن فنفى قبول التوبة - هنا - خاذ بتالمرتد الذي يموت كافراً مصراً على كفره. وهذه الآية لا تعني قوماً منخصوصين بل كل من تحقق فيه هذا الوصف فتوبته لا تقبل.

والآية التي بعدها تؤكد هذا المعنى وفيها يقول الحق تبارك اسمه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} . والآية الأخيرة التي استشهدوا بها هي قوله تعالى حكاية عن طائفة من اليهود {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} هذه الآية نزلت في فضح طائفة من اليهود تشاورا فيما بينهم واتفقوا على أن يحدثوا بلبلة في من يستطيعون من المسلمين: فصلوا معهم صلاة الصبح متظاهرين بالإسلام ثم كفروا وعادوا للكفر آخر النهار ليظن المسلمون أنهم اكتشفوا عيباً في الإسلام بعد دخولهم فيه فرجعوا عنه. هذه خلاصة امينة لما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية وقد تقدم لنا القول بأن علماء الأمة مجمعون على أن الردة لا تتحقق إلا ممن كان مسلماً حقاً. وهذه الطائفة من اليهود تظاهرت بالإسلام مؤامرة وكيداً فلا ينطبق عليهم وصف الردة لأنهم كانوا تظاهروا بأنهم اسلموا كانوا باقين على كفرهم لذلك لم توقع عليهم عقوبة الردة، وهي القتل. وعلى هذا فلا دليل ابداً لمنكري حد الردة في هذه الآية. وهذا ظاهر. اختلاف الأقوال: ومن الؤسف حقاً أن أحد منكري حد الردة نقل هذه الآية وقال إن ابن كثير - صاحب التفسير المعروف - علق على هذه الآية فقال:

" إنها ردة جماعية ظاهرة عن اليهود في المدينة، ومع هذا لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء المرتدين الذين يرمون إلى فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عنه". ويعلم الله أننا حين قرأنا هذا الكلام منسوباً إلى الإمام ابن كثير صاحب تفسير القرآن العظيم "ملكتنا الدهشة من نسبة هذا الكلام إليه وهو الإمام السلفى الثقةى فهرعنا إلى تفسيره ووجدناه يخلة تماماً من هذا الكلام الذي نُسب إليه"؟! وأدعو القارئ إلى أن يطمئن بنفسه إلى صدق ما نقول فليقرأ ما قاله الإمام ابن كثير في الجزء الأول من تفسيره صفحة 374 طبعة مكتبة زهران بالأزهر. فهذا القول المنسوب إلى الإمام ابن كثير قول مختلق مكذوب عليه، وهو منه براء ... براء. تعقيب: ذكرنا الايات التي استدل بها منكرو حد الردة، وبينا المراج من كل آية منها حسبما أجمع عليه المفسرون وعلماء الأمة الأعلام. وبان لنا خطأ الاستدلال بها على إنكار حد الردة ولو كانت هذه الآيات تفيد إنكار حد الردة من قريب أو من بعيد لكان علماء السلف وفقهاؤه ومفسروه

أسرع الناس إلى القول به وإعلانه وهم يستنبطون الأحكام من مصدرها الأول، وهو القرآن العظيم، لكن أولئك العلماء - رضي الله عنهم - كانوا على بصيرة من آيات الكتاب العزيز، يعرفون عامها وخاصها، مطلقلها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها وكانوا على دراية منقطعة النظير بدلالات المفردات ودلالات التراكيب، وقد خدموا كتال الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - خدمة تقصر عنها الهمم وتكل الأبصار فكيف تسول لقول أنفسهم أن يرموا سلفنا العظيم بالغفلة، وأن يستدركوا عليهم هذا الاستدراك الغريب.؟! إنكار مصدرية السنة: من البدية أن مستند منكري حد الردة في استدلالهم بالأيات القرآنية التي استدلوا بها - وقد تقدمت - أن مستندهم الوحيد هو خلو القرآن من النص على عقوبة محددة توقع في الدنيا على المرتدين. وهم بذلك ينزلون أنفسهم منزلة من ينكر مصدرية السنة التي ورد فيها تحديد عقوبة المرتد في الدنيا وهي القتل. ففي الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدًل دينه فاقتلوه" وقد جرى العمل بهذا التوجيه النبوي في حياة صاحب الدعوة، وفي حياة خلفائه الراشدين، فتقررت هذه العقوبة - القتل - حداً للمرتد في السنة القولية، وفي السنة العملية، ثم اتفق الفقهاء فيما بعد على شرعية هذه العقوبة، ولم يعرف بينهم مخالف قط.

مصدرية السنة وصلتها بالكتاب العزيز

مصدرية السنة وصلتها بالكتاب العزيز: أمر الله المسلمين أن يطيعوا رسوله كما يطيعون الله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي ... } النساء: (59) . وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} الأحزاب: (36) . وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا....} الحشر: (7) فالسنة كالكتاب مصدر من مصادر التشريع، وإنكار مصدرية السنة كفر بواح، فينبغي للمؤمن الحريص على صدق إيمانه وصحته أن ينأى عن التقليل من شأن السنة والانتقاص من قدرها أو الجدال حول شيء منها مما اعتمده الرعيل الأول من العلماء؛ لإن ذلك ذريعة للخوض فيما لا تحمد عقباه. وقد نهى النبي - نفسه - - صلى الله عليه وسلم - عن هذا السلوك فقال: "لا ألفين أحدكم - أي لا أجدن أحدكم - متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".

صلة السنة بالكتاب

وروى الحاكم بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يُحَدَّثُ بحديثي، فيقول بيني وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإنما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله". فالرسول - هنا - يسوَّى بين الأمرين معاً: ما شرعه الله للناس وما شرعه هو بإذن الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى، وقد جاء في بعض الروايات: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" وبعد هذه التوجيهات - ومثلها كثير - ينبغي على المسلم أن يُسلم بكل ما صحت روايته وسلم معناه واعتمده رجال الحديث والفقه في أدلة الأحكام. ووما تنبغي الإشارة إليه هنا أن إنكار مصدرية السنة في التشريع هدف أصيل من أهداف المبشرين ضد الإسلام وتلاميذهم المستشرقين وعملائهم الجهلة. صلة السنة بالكتاب الإسلامُ ليس هو القرآن وحده، ولكنه القرآن والسنة معاً. ولولا السنة لاستغلق القرآن ولما استطاعت الأمة أن تعرف طريقها إلى الله في كثير من الأمور، ومنها العبادات والمعاملات. والله يقول لرسوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... } النحل (44) .

وقد وضح الإمام الشافعي في كتابه: "جماع العلم" صلة السنة بالكتاب وجعلها أقساماً ثلاثة, ثم تابعه علماء الأصول من بعده، وتلك الأقسام في إيجاز: 1- السنة المقررة لما في الكتاب كتحريم الظلم وعقوق الوالدين، وأكل أموال الناس بالباطل وشناعة الزنى، والمعاملات الربوية. 2- السنة الشارحة لبعض ما ورد في الكتاب، مثل بيان كيفية الصلوات، وعدد ركعات كل فريضة. وبيان نصاب الزكاة والأنواع التي تجب فيها.... إلخ. 3- السنة المشرعة، مثل فرض زكاة الفطر، وتحريم الحمر الأهلية، ونكاح المتعة، ونكاح البنت وعمتها أو خالتها في عصمة واحدة، وتحريم القرابة الرضاعية كتحريم قرابة النسب، وتحريم أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة ايام هذا كله موضع اتفاق بين علماء الأمة الذين يعتبر بقولهم ومن السنة المشرعة تحديد عقوبة المرتد، وهي القتا بلا خلاف بين الفقهاء. فالسنة بمنزلة المذكرات التفسيرية لنصوص القوانين الكلية مثلما هو معروف بين رجال القانون الآن مع فارق كبير بين السنة وما تفسره، وبين القوانين ومايوضع لها من شروح وتفسيرات. وإنما قلنا إن السنة بمنزلة المذكرات الشارحة للقوانين قصداً للتوضيح لا المماثلة من كل وجه.

ولسنا ندري ايجهل منكرو حد الردة الوارد في السنة الصحيحة هذه الصلة بين الكتاب العزيز وبين السنة الطاهرة أم هم يتجاهلونها عمداً؟ هل خلا القرآن تماماً من الإشارة إلى عقوبة المرتد؟ جارينا فيما تقدم منكري حد الردة في أن القرآن يخلو تماماً من الإشارة إلى عقوبة المرتد الدنيوية، والتي اتفق الفقهاء على أنها القتل. ونقول هنا إن في القرآن الكريم آية حملها بعض المفسرين على مقاتلة المرتدين ما لم يتوبوا ويسلموا وهذه الآية هي قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون ... } الفتح: (16) . في المراد من "قوم أولى بأس شديد أكثر من أربعة وجوه، منا أنهم بنو حنيفة الذين ارتدوا في أخريات حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب. إذن فالقرآن لم يخل تماماً من النص على أن عقوبة المرتد هي المقاتلة والقتل. وبهذا يندفع ما تمسك به منكرو السنة حد الردة من أن القرآن لم يحدد عقوبة دنيوية عاجلة للمرتدين سوى حبوط أعمالهم في الدنيا، مع توعدهم بالمصير الأليم يوم القيامة. نقول هذا لا لنرتب عليه تأسيس

حد الردة، إذ يكيفينا تحديدها في السنة القولية والعملية، وإنما نقوله في مواجهة منكري هذا الحد استناداً إلى أن القرآن لم يشر إليه لا من قريب ولا من بعيد. * * *

الشبهة الثانية دعوى التناقض بين الكتاب والسنة

الشبهة الثانية دعوى التناقض بين الكتاب والسنة ادعى منكرو حد الردة أن التسليم بأن عقوبة المرتد هي القتل يؤدي إلى وقوع تناقض تناقض شديد بين الكتاب والسنة وأنهم - أي منكري حد الردة - لا يعتمدون إلا ما كان موافقاً للقرآن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبنوا على ذلك أن الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" يتناقض مع قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} البقرة: (256) ولذلك فإنهم يردون هذا الحديث ولا يقبلونه دفعاً لما توهموه من تناقض بينه وبين القرآن الحكيم. ولو أن منكري حد الردة تريثوا قليلاً وفحصوا الموضوع فحصاً دقيقاً لما جرأوا على القول بالتناقض، ولما ورطوا أنفسهم في هذه المزالق الحرجة، ولكنهم القوا القول على عواهنه فكانوا كحابط ليل لا يميز بين الحطب والثعابين. كان عليهم أن يرجعوا إلى كتب أصول الفقه، ويقفوا على ما أضنى فيه الأصوليون أنفسهم من درس أدلة الأحكام من الكتاب والسنة معاً، وتحديدهم - بكل وعي ودقة - لمعاني المفردات والتراكيب، ودور السنة في تبيين المراد من آيات الأحكام.

فالسنة الشارحة لها وجوه كثيرة في صلتها بآيات الأحكام ومن تلك الوجوه أن يكون النص القرآني مطلقاً فتأتي السنة بتقييده. ومن أمثلة تقييد السنة لمطلق القرآن قوله تعالى في تنفيد وصية الميت: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} (النساء: 12) فقيدت السنة عموم الوصية هنا تقييدين: أولهما: كونها لا تتعدى ثلث التركة. والثاني: أن لا تكون لوارث. كما قيدت قطع اليد في السرقة بأن يكون من الرسغ، وكان القطع قد جاء عاماً في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) . ولولا تحديد السنة للقطع هنا من الرسغ لجاز أن يكون القطع من الذراع أو الكتف. الوجه الثاني: أن يكون النص القرآني مجملاً فتأتي السنة بتفصيله، وهذا كثير، ومنه تفصيل كيفيات الصلاة والزكاة ومناسك الحج. ففي الصلاة قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وفي الحج قال: "خذوا عني مناسككم".

والوجه الثالث: أن يكون النص القرآني عاماً فتأتي السنة بتخصيصه. ومن ذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ....} (النساء: 11) . فالآية عامة في كل أب يموت، وفي كل ولد يكون حياً بعد موت أبيه، فجاءت السنة وخصصت الأب بأن يكون غير نبي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". وخصصت الولد بأن يكون غير قاتل لمورثه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل". وكذلك خصصت السنة قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ... } (النساء: 24) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". فقد جاء قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد ذكر المحرمات من النساء، ومنهن الأمهات والأخوات من الرضاعة. دون ابنة الأخ من الرضاعة مثلاً، وجاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم النسب" مخصصاً للعموم في {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وهو يقتضي حلية نكاح كل من لم تذكر في آية المحرمات. كما خصصت السنة هذا العموم مرة أخرى يتحريم الجمع في النكاح

الانسجام التام بين السنة والكتاب

بين البنت وعمتها، وبين البنت وخالتها. ومن تخصيص السنة لعام القرآن تخصيص المرتد بإيجاب قتله إذا لم يتب من العموم الوارد في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فدلالة الآية عامة، وقد خصصتها السنة بغير المرتد. هذا هو فقه هذه المسألة الذي غاب عن منكري جد الردة حيث توهموا أن بين الحديث وبين الآية تناقضاً، وليس بينهما أدنى تناقض كما رأيت. وكان دقة المسلك بين الآية والحديث عَمَّتْ فوقعوا فيما وقعوا فيه. الانسجام التام بين السنة والكتاب: وكل ما أضافته السنة إلى القرآن تفصيلاً وتقييداً، وتخصيصاً قائم على الإنسجام التام بين الكتاب والسنة خذ إليك مثلاً تحريم الجمع في النكاح بين البنت وعمتها أو خالتها. هذا التحريم مستند إلى القياس على ما ورد في القرآن نفسه، وهو قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (النساء: 23) . فقد حرَّم القرآن الجمع بين نكاح الأختين في وقت واحد وعلة هذا الحكم هو حدوث العداوة بين الأختين الضرتين كما ورد الحديث

الذي سنذكره. وهذه العلة موجودة بين البنت وعمتها أو خالتها لو جمع بينهما في الزواج رجل واحد، لذلك حرَّم النبي هذا النكاح فقال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على أبنة أخيها، ولا على أبنة أختها؛ فإنكم إن فعلتم قطعتم أرحامكم". وهكذا كل ما اضافته السنة إلى الكتاب، فإن فقهاءنا الأجلاء التمسوا له أسباباً وأصولاً تربطه بكتاب الله العزيز برباط وثيق. والخلاصة فإن منكري حد الردة لا سند لهم في الآية الكريمة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لإن السنة حين حددت عقوبة المرتد قتلاً لم تخرج عن صلتها بالقرآن أبداً حتى لو لم يكن في القرآن قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وقد مر المفسرين فيه. وأن المراد منهم المرتدون. * * *

الشبهة الثالثة دعوى عدم صلاحية الحديث النبوي

الشبهة الثالثة دعوى عدم صلاحية الحديث النبوي حد الردة ثبت عند فقهاء الأمة بأدلة شرعية قولية وعملية بيد أن منكري حد الردة طعنوا في صلاحية تلك الأدلة على تحديد عقوبة المرتد الدنيوية، وهي القتل. ونورد - هنا - طعونهم في الأدلة القولية، وهما حديثان صحيحان أحدهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه". والثاني: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". طعونهم في الحديث الأول: وقد طعنوا في الحديث الأول فقالوا: 1- إنه حديث آحاد وأحاديث الآحاد لا تثبت بها الحدود. 2- إنه يتناقض مع قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . 3- إن الحنفية قالوا لا يمكن قبول هذا الحديث على عمومه؛ لإن المرأة إذا ارتدت لا تقتل.

4- ويرى آخرون أنه لا يقبل - كذلك - على عمومه، لإن النصراني إذا بدَّل دينه فصار يهودياً يدخل تحت حكم المرتد فيقتل وهذا لا يقبله منطق؟ رد هذه الطعون أما دعوى التناقض فقد رددناها آنفاً فليرجع إليها القارئ خشية الإطالة والتكرار. أما ما قاله الحنفية فلا يقدح في تقرير أصل العقوبة وهي قتل المرتد. فهم مُسَلَّمون بهذا، وإنما خصصوا هذا العموم باستثناء المرأة إذا ارتدت فإنها عندهم لا تقتل، وإنما يقتل الرجل فحسب وسبب هذا الاستثناء عندهم قياس المرأة المرتدة على المرأة الحربية، حيث نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المرأة في الحروب. وقد خالف الحنفية فذ هذا فقهاء المذاهب الأخرى الذين سوَّوْا قي القتل بين المرأة والرجل إذا ارتدا ولم يتوبا. وأيا كان الأمر فليس في مذهب الحنفية دليل لمنكر حد الردة وهذا ظاهر ظهوراً بيَّناً؛ لإنهم لم ينازعوا في أصل العقوبة وإنما نازعوا في: هل تطبق على الرجال والنساء؟ أم أن للنساء حكماً آخر، وهو الحبس مدى الحياة مع عرض الإسلام عليها حتى آخر لحظة من حياتها. وليس لمنكري حد الردة - كذلك - اي دليل في قول من قال أن عموم الحديث يشمل اليهودي والنصراني إذا تنصر اليهودي أو تهود

حديث آحاد

النصراني، لإن هذا القول يمنع عموم الدلالة ولا ينازع في أصل العقوبة التي هي قتل المرتد. وهذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" تدل قرائن الأحوال على أنه خاص بالمسلم إذا ترك الإسلام واعتنق ديناً آخر أو لم يعتنق أي دين. فصاحب الدعوة يخاطب بهذا مسلمين، والدين الذي يعينه هو الإسلام لا محالة، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) . وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) فالحديث وإن كان في صياغته عاماً فهو خاص في معناه فلا دليل فيه لمنكري حد الردة مهما تحمسوا وتعسفوا. حديث آحاد أما طعنهم فيه بأنه حديث آحاد وأن بعض العلماء لا يرى ثبوت الحدود بأخبار الآحاد فهو طعن مردود للاعتبارات الآتية: أولاً: أن هذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" مروي عن صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة طرق: * فقد أخرجه الإمام البخاري في كتاب الجهاد في استتابة المرتدين من حديث ابن عباس: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه".

شروط العمل بخبر الآحاد

* وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير من حديث معاوية بن حيدة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه....". * وأخرجه الطبراني كذلك في معجمه الوسط من حديث عائشة مرفوعاً: "من بدَّل دينه فاقتلوه....". فهذا التعدد في في طرق الرواية يقترب بالحديث من معنى الحديث المستفيض ويرفعه درجة خبر الآحاد المحض. وحتى إذا بقى موصوفاً بأنه خبر أحاد فإن جمهور الفقهاء يرون وجوب العمل بأخبار الآحاد إذا صح سندها لا فرق في ذلك بين الحدود وغيرها. يقول الإمام محمد أبو زهرة في هذا الشأن: "إن الأئمة الأربعة يأخذون بخبر الآحاد ولا يردونه. ومن يرده في بعض الأحوال فلسبب [آخر] رآه يضعف من نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لمعارضته لما هو أقوى منه سنداً في نظره". شروط العمل بخبر الآحاد وجملة ما ذكروه من شروط العمل بحديث الآحاديث ما يأتي: 1- أن لا يعمل به في العقائد؛ لإن العقائد لا تبنى إلا على اليقين وحديث الآحاد لا يفيد اليقين.

2- إن تتحقق في حديث الآحاد شروط الرواية الصحيحة من العدالة والضبط والإتصال بين رواته وسلامته، من العلل القادحة والشذوذ. 3- ويشترط الحنفية أن لا يخالف عمل راويه معنى الحديث الذي رواه. كحديث أبي هريرة: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب الطاهر" أبو حنيفة لم يؤخذ بهذا الحديث لإن روايه أبا هريرة كان لا يعمل به. 4- ويشترط الإمام مالك في العمل بحديث الآحاد أن لا يخالف عمل أهل المدين حتى لو كان الحديث صحيحاً. وهذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" حديث صحيح متفق على صحته، وقد سلم من مأخذى الإمام مالك والإمام أبي حنيفة، فلا حجة لمن يرده أو يقلل من شأنه. ثانياً: أورد علماء الأصول وقائع كثيرة عُمِلَ فيها بخبر الواحد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد الخلفاء الراشدين بما لا يدع محالاً للريب في أن خبر الواحد إذا تحققت فيه شروط الصحة، وسلم من المعارض الأقوى منه سنداً إنما هو دليل من أدلة الأحكام المعتبرة شرعاً.

ثالثاً: إن هذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" له شواهد أخرى من السنة القولية والسنة العملية. أما السنة القولية فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وخو حديث صحيح ومنكرو حد الردة قد طعنوا في هذا الحديث كما أشرنا من قبل. وسنناقش طعونهم قريباً بإذن الله. ومن السنة القولية ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث معاذ بن جبل حين بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، حيث قال فيه: "أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه وايما امرأة ارتدت فادعها فإن عادت وإلا ضرب عنقها". قال ابن حجر في فتح الباري معلقاً على هذا الحديث: "سنده حسن، وهو نص في موضوع النزاع فيجب المصير إليه". والمراد بالنزاع الذي أشار إليه ابن حجر هنا خلافهم حول هل تقتل المرتدة كما يقتل المرتد. وهذا الحديث حجة على الحنفية الذين لا يجيزون قتل المرأة إذا ارتدت. ومن السنة القولية كذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في شأن امرأة ارتدت يقال لها: أم مروان: فأمر أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت" وغير ذلك يضيق المقام عن ذكره.

شواهد من السنة العملية

شواهد من السنة العملية: أما السنة العملية فما لا ريب فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين باليمن بقتال قوم الأسود العنسى الذي ادعى النبوة في حياة صاحب الدعوة ودعا قومه فارتدوا واتبعوه، ومكن الله منه رجلين من المسلمين فقتلاه ليلاً في بيته وهو سكران. وذكر النووى في شرحه لصحيح مسلم أنه عليه السلام أمر، بقتل عبد الله بن أبي سرح حين ارتد يوم فتح مكة، ولكن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكان عبد الله أخاه من الرضاعة دعاه إلى الإسلام فأعلن إسلامه مرة أخرى أمام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وستأتي وقائع أخرى قتل فيها مرتدون في حياة صاحب الدعوة. ومن السنة العملية قتال أبي بكر بإجماع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرتدين من قبائل العرب، وللذين منعوا إعطاء الزكاة لخليفة رسول الله أبي بكر - رضي الله عنه -، ولنا عةد لحروب الردة سيأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. والخلاصة أن حديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" لم يعد مع كل هذه الشواهد القولية والعملية حديث آحاد. بل هو من التواتر المعنوي فضلاً

عن أن صلاحيته لإثبات الحدود لا ينازع فيها منصف قط ومما تقدم يرى القارئ الكريم إلى أي مدىً هوى منكرو حد الردة في طعونهم السخيفة في هذا الحديث الذي رواه عن صاحب الدعوة إمام مشهود له بالأمانة والصدق وهو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - الذي دعا له الرسول فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ثم أخرجه عند الإمام المحدث الجليل صاحب الصحيح المعروف الإمام البخاري - رضي الله عنه -، إمام المحدثين الورعين الثقات وكان الإمام البخاري لا يثبت حديثاً في صحيحه إلا بعد أن يصلي ركعتين ثم يدعو بدعاء الإستخارة، وقد تلقت الأمة صحيحة وصحيح الإمام مسلم بالرضا والقبول. ولم ينتقص أحد من علماء السلف وفقهاء الأمة الأعلام من شأن هذا الحديث. وترى الفقهاء الأقدمين - جميعاً - يذكرون هذا الحديث وهو يتحدثون عن حد الردة ولم يقولوا إنه حديث آحاد فلا ينبغي العمل به، بل هو أقوى أدلتهم - سنداً ومتناً - على مشروعية القتل حداَ لكل مسلم ارتد عن دينه وأبى أن يتوب. ومن المبالغات الممقوتة أن منكري حد الردة في هذا الأيام يدعون أن كثيراً من الفقهاء شكك في هذا الحديث. وهذه فرية بلغاء لاستدلها. إن فقهاء الأمة جميعاً سلموا به واعتمدوه ولم يشغب حوله إلا نفر من المعاصرين: اثنان أو ثلاثة وهذا لا يقدح في صحة الحديث أو صلاحيته

دليلاً على عقوبة المرتد؛ لإن إجماع السلف حجة، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما جاء في الحديث الشريف من عدة طرق. وكفى بإجماع اصحاب رسول الله على قبوله والعمل به حجة ودليلاً لا يرتاب فيه من أدلة الأحكام. الثيب الزاني هذا هو مطلع الحديث الثاني الذي استشهد به الفقهاء على أن عقوبة المرتد هي القتل، ونص الحديث كما تقدم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدي ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وقد طعن منكرو حد الردة في هذا الحديث ليبعدوه عن الدلالة على ورود حد الردة في السنة النبوية الطاهرة؛ لإن هذا الحديث يساند حديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" ويقوى دلالته على حد الردة. لذلك التمسوا له وجهاً من الطعن ليتحقق لهم ما أرادوا؟ ماذا قالوا ... ؟ لم يجد منكرو حد الردة مطعناً في الحديث إلا رأياً للإمام ابن تيمية يذهب فيه إلى أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" المراد من

التارك للدين فيه المفارق للجماعة هو المرتد الذي يجمع بين الارتداد وبين مقاتلة المسلمين "تمسك منكرو حد الردة بهذا الرأي فقالوا: إن الردة وحدها لا تبيح قتل المرتد، وإنما الذي يبيح قتله هو الارتداد مع محاربة الله ورسوله ومحاربة المسلمين وشهر السلاح في وجوههم؟ وابن تيمية مع تفسيره هذا للحديث لا ينكر حد الردة، بل هو من المتشددين فيه، كل ما في الأمر أن لثبوت حد الردة عنده أدلة أخرى لا ينازع فيها. وقد فات هذا الملحظ الدقيق منكري حد الردة فحسبوا أنهم على شيء وما هم على شيء قط. رأى فردى لم يتبايعه عليه أحد: والذي ينبغي ذكره أن ما ذهب إليه ابن تيمية في المراد من هذا الحديث، وحمله على المرتد المحارب، أن هذا رأي انفرد به ابن تيمية، ولم يقل به أحد من قبله ولا من بعده فيما نعلم ومنكرو حد الردة حين تمسكوا بهذا الرأي وبنوا عليه أن الردة المجردة، التي لم يصاحبها محاربة للمسلمين لا تبيح قتل المرتد، إنهم حين تمسكوا بهاذ وقعوا في خطأ شنيع وتنكبوا سواء الصراط. ونقول لهم: إن الإمام ابن تيمية اجتهد في تأويل الحديث فجانبه الصواب من جهتين: أحداهما: أن صياغة الحديث نفسه واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لإن مثل هذا النص غنى عن التأويل، وعلماء الأمة متفقون على أن النص

الواضح الذي لا يمنع من العمل بظاهره مانع شرعي أو عقلي يجب بقاؤه على ظاهره ولا يجوز صرفه عن ظاهره أبداً. ولا يقدح في هذا الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فقد جاء في إحدى صياغتيه: "لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خثال: زان محصن فَيُرْجم. ورجل قتل مسلماً متعمداً. ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله - عز وجل - ورسوله: فيُقْتَل أو يُصْلَب أو ينفى من الأرض". حيث ذكر فيه حد المحاربين. لإن الجمع بين الحديثين ممكن، وقد أشار إلى هذا الإمام الشوكاني بما يفيد أن المرتدين نوعان: الأول مرتد غير محاب فَيُقَتل. والثاني مرتد محارب فيطبق عليه حد المحاربين من القتل والتصليب. وبقى وجه آخر لم يشر إليه صاحب نيل الوطار، وهو أن يحمل حديث السيدة عائشة - رضي الله عنها - على المحاربين المسلمين غير المرتدين، لإن المحاربة لا تستلزم الردة عن الإسلام، ويكون معنى الخروج عن الإسلام حينئذ بالمعاصي لا بالردة والكفر. وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" خاصاً بالمرتد ردة

مجردة فيجب قتله إن لم يتب. ويكون حديث السيدة عائشة محتملاً لأمرين: الأول: المرتدون المحاربون. الثاني: المحاربون غير المرتدون. وصياغة الحديث نص في المرتد غي المحارب - أعني حديث ابن مسعود: "التارك لدينه المفارق للجماعة" ول كان الرسول يقصد به المحاربين لنص على ذلك بكل وضوح، وهو البليغ الفطن؟ وبهذا يتضح أن تفسير ابن تيمية لحديث ابن مسعود وحمله على المحاربين بعيد كل البعد عن المعنى المراد. ثانياً: أما الجهة الثانية التي جانب ابن تيمية فيها الصواب، فإن علماء الأمة من قبله ومن بعده، يوردون حديث ابن مسعود: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" دليلاً ثانياً بعد حديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" على وجوب قتل المرتد عن الإسلام إذا لم يتب. وحاش لله أن يكون الفقهاء قد اجتمعوا على ضلالة أو باطل. والعبرة - دائماً - بما عليه الجمهور لا بما يخالفهم فيه فرد أو فردان. والمجتهم مأجور إن خلصت النية أصاب أم أخطأ. إن أصاب فله أجر الاجتهاد والإصابة. وإن أخطأ فله أجر اجتهاده. ولا يؤاخذ على خطئه.

تعقيب ومن هذا العرض ندرك أن منكري حد الردة لم يكن لهم دليل ولا شبه دليل في تفسير ابن تيمية لحديث ابن مسعود: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" وكان منكرو حد الردة قد زعموا أن المرتد ردة مجردة لا يجوز قتله، وأن قتله مشروط بأن يقع منه حرب لله ورسوله والمسلمين. يقول الإمام الشوكاني في رد هذا الزعم: "ولا يخفى أن هذا غير مراد من حديث [ابن مسعود] بل المراد من الترك للدين، والمفارقة للجماعة الكفر فقط - أي الردة المجردة - كما يدل على ذلك قوله في الحديث الآخر: "أو كفر بعد ما أسلم". * * *

الشبهة الثالثة وقائع من عصر النبوة أساءوا فهمها

الشبهة الثالثة وقائع من عصر النبوة أساءوا فهمها عمد منكرو حد الردة إلى واقعتين حدثتا في عصر النبوة، ثم أساءوا فهمها وطوعاهما لتصلحا دليلين على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الناس يرتدون في حياته ولم يقم على أحد منهم حد الردة فيقتله وتلكما الواقعتان هما: الأعرابي الذي طلب الإقالة من البيعة جاء في صحيحى البخاري ومسلم أن إعرابياً بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم جاءه بعد البيعة وطلب أن يقيله الرسول من بيعته فقال: يا رسول الله أقلني من بيعتي" فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكرر الأعرابي طلب الإقالة ثلاث مرات والرسول يأبى ثم خرج الأعرابي من المدينة". استدل منكرو حد الردة بهذه الواقعة وقالوا إنها حالة ردة ظاهرة لم يعاقب الرسول صاحبها بالقتل، وتوهموا - بناء على ذلك - أن المرتد لا يجوز قتله، وأن قتل المرتد حد مزعوم - يعني كذباً - لا أصل له في الإسلام. ولست أدري إن كان هؤلاء المنكرون لحد الردة جاهلين أم متجاهلين والمتبادر إلى الذهن أنهم معاندون يعرفون الحق ثم ينكرونه. وهم

يخضعون النصوص والوقائع طوعاً لهواهم على طريق من يستدل على أن الصلاة حرام بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ....} ولا يذكر {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ؟! فقد جاء في فتح الباري لابن حجر، وكذلك شرح النووى لصحيح مسلم أن الرجل طلب أن يقيله الرسول من البقاء معه في المدينة لا من الإسلام حتى يكون مرتداً وذلك لإن البيعة تقتضي أن يمكث المبايع بالمدنية ولا يخرج منها. وهذا الأعرابي كما جاء في الحديث المذكور لما جاء إلى المدينة من البادية وأسلم وأقام بالمدينة أصابه وَعْك أي حُمى بسبب تغيير الجو على حد تعبيرنا الآن، فذهب إلى الرسول ليأذن له في الخروج من المدينة والعودة إلى البادية التي اعتاد الإقامة فيها ولكن الرسول لم يأذن له في أي مرة من المرات الثلاث. فالأعرابي لم يرتد قط كما ترى، ولكن ظل مسلماً حتى بعد خروجه من المدينة بلا إذن. ولم ينكر أحد هذا التوجيه سوى القاضي هياض، وقد استبعد النووى في شرح مسلم أن يكون الأعرابي طلب الردة عن الإسلام ويؤكد هذا أن الأهرابي كان يقول في كل مرة: "يا رسول الله. اقلني من بيعتي" فلو كان مرتداً ما كان يقول يا رسول الله. هذه واحدة والثانية: إنه لو كان مرتداً لما حرص على الحصول على الإذن من

الاختلاق والافتراء

رسول الله، ولخرج غير عابئٍ بشيء مهما لغط اللاغطون، هذا هو الحق الذي لا محيص عنه. الاختلاق والافتراء: ومرة أخرى يعود منكرو حد الردة للاختلاف والافتراء في محاولة منهم لإثبات مدعاهم. ففي قصة الأعرابي يقولون: إنه جاء ليعلن ردته أمام رسول وهذا كذب محض لم يرد في أي مصدر إسلامي لا كتب الحديث ولا غيرها. ثم يحذفون من الحديث قول الأعرابي "يا رسول" ويذكرون مكانه أن الأعرابي قال: "يا محمد" وهذا تدليس قبيح له دلالات شنيعة نعوذ بالله منها. تزوير على الإمام النووى ومن أقبح وأشنع صور الاختلاق والتزوير ما نسبه منكرو حد الردة إلى الإمام النووى شارح صحيح مسلم، حيث زعموا أن الإمام النووى علق على قصى الأعرابي في الجزء التاسع من شرحه ص 155 فقال: "إنه رغم كونها حالة ردة ظاهرة ومع ذلك لم يعاقبه الرسول ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة دون أن يعرض له أحد"؟!

النصراني الذي أسلم ثم ارتد

ويعلم الله، وتشهد ملائكته وصالحو المؤمنين أن الإمام النووى لم يقل هذا الكلام قط، ولا ذكر منه حرفاً واحداً، وليرجع القارئ إلى الجزء التاسع من شرح النووى لصحيح مسلم، الصفحة (155) وما بعدها، ليتأكد بنفسه خلو شرح النووى تماماً من هذا القول الذي نسبوه إليه زوراً وبهتاناً؟! والعجيب حقاً أن منكري حد الردة قد ارتكبوا شططاً في كل ما استدلوا به، ولم يدروا أنهم يتحمسون لنصرة الباطل على الحق، ويدافعون عن المجرمين بل عن أجرم المجرمين على وجه الأرض، وهم الخارجون من النور إلى الظلمات، ومن الإيمان إلى الكفر، والكفر أقبح الجرائم وأعظم الذنوب. النصراني الذي أسلم ثم ارتد الواقعة الثانية التي طوعها منكرو حد الردة لتأييد زعمهم بأن الردة لا تبيح القتل، واقعة النصراني الذي أسلم ثم ارتد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذه الواقعة صحيحة لورودها في أصح كتب الحديث. ولكن منكري حد الردة حرفوها وصاغوها في عبارات مدلسة غاية التدليس ليطوعوها لأهوائهم زوراً وبهتاتاً. ونضع أمام القارئ الكريم الصورة التي عرضوها فيها. فقد قالوا بالحرف الواحد:

"روي عن البخاري: جـ 4 ص 246 كتاب الشعب: أن رجلاً نصرانياً أسلم، ثم ارتد نصرانياً مرة أخرى، فأماته الله، فدفنوه ولم يعاقبه الرسول على ردته". هذه الصياغة تنطوي على تدليس خطير. حيث يُفْهم منها أن هذا المرتد مات بالمدينة، وأن المسلمين هم الذين دفنوه وأن هذه الردة والدفن حدث أمام سمع وبصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول مع علمه بردة هذا الرجل لم يعاقبه على ردته. القصة كما وردت في صحيح البخاري: ونضع بين يدى القراء القصة كاملة كما وردت في صحيح الإمام البخاري: "حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رجل نصرانياً فاسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر. فحفروا

له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر. فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض. فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه". تلك هي القصة في مصادرها الصحيحة، ومنها نقف على الحقائق الآتية: أولاً: إن هذا المرتد هرب فور ردته إلى المشركين من أهل الكتاب. ثانياً: إن الذين دفنوه هم المشركون لا المسلمون. ثالثاً: إن النبي لم يعلم بردة هذا الرجل إلا بعد هروبه إلى معسكرات المشركين. رابعاً: إن هذا المرتد لما دفنه المشركون أخرجته الأرض فألقته فوق ظهرها ثلاث مرات. وكان المشركون يتعهمون النبي واصحابه في كل مرة بأنهم هم الذين نبشوا قبره وأخرجوه لما هرب منهم. وفي المرة الثالثة أيقنوا أن اخرجه من الأرض ليس من فعل الناس؛ لإنهم كانوا قد عمقوا له الحفر فلم يغن عنه شيئاً. وحينئذ تركوه.

تعقيب

تعقيب مما تقدم ندرك في وضوح أن منكري حد الردة، لم يكونوا أمناء في النقل، وهذه سقطة تهوى بهم إلى الحضيض. ويضاف إلى هذا ما أشرنا إليه من قبل عند الحديث عن هاتين الواقعتين من أن منكرس حد الردة تعمدوا الاختلاق والتزوير والتحريف إما بالزيادة، وإما بالنقص. وهذا هو شأن كل من يخاصم الحق ويناصر الباطل. ومعلوم علم اليقين أن مناصرة الباطل لا تكون إلا بباطل مثله، أنظر مثلاً كيف أخفوا مسألة هروب المرتد وفراره إلى شيعته المشلاكين ليوهموا القراء أن الرجل أعلن ردته على مرأى ومسمع من الرسول وأصحابه ليرتبوا على ذلك زعمهم أن الرسول لم يقتله؟ ثم أنظر كيف أخفوا مسألة لفظ الرض لجثة هذا المرتد ثلاث مرات، وكأنهم بذلك يريدون أن يخففوا من قبح الردة حتى في الجزاء الأخروي؟ ألم يعلموت أن هذا يدخل في باب الكذب على رسول الله، الذي ورد فيه هذا الوعيد الشديد: "من كذَّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". * * *

الشبهة الرابعة تحريف أسباب حروب الردة

الشبهة الرابعة تحريف أسباب حروب الردة حروب الردة أضخم حدث تاريخي وقع عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكانت بوادر الردة قد بدت في أخريات حياة الرسول وقد تقدمت الإشارة إلى ردة طوائف من اهل اليمن اتباع الأسود العنسى الذي أمر الرسول مسلمى اليمن بقتاله وقتله وقتال اتباعه من المرتدين، ثم انتهى الأمر بقتله كما تقدم. ثم ردة مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة الذي ادعى النبوة وارتد معه بنو حنيفة، ولم يعجل النبي بقتاله وقتال قومه لإنه كان يوجه كل اهتمامه لمحاربة الروم الذين كانوا ينوون مداهمة المدينة، وجهز من أجل ذلك جيش أسامة بن زيد بن حارثة، ولكن النبي فارق الحياة وجيش اسامة ما يزال داخل حدود المدينة لم يغادرها بعد. ثم أمضى ابو بكر ما كان قد عزم عليه الرسول قبل وفاته. وفي هذه الأثناء تزايد عدد القبائل المرتدة ممن لم يتمكن الإسلام في قلوبهم من جفاة الأعراب، الذين وصفهم القرآن الكريم من قبل فقال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ... } (التوبة: 97) .

وكان المرتدون نوعين: الأول: مرتدون خرجوا عن الإسلام كلية. الثاني: مرتدون منعوا إخراج الزكاة وهو ركن من أركان الإسلام. وقد أعلم أبا بكر أمراء النبي الذين كانوا منتشرين في أنحاء الجزيرة حيث أرسلوا إليه تقارير وافيه بما وقع في القبائل بعد وفاة الرسول، فجمع ابو بكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاورهم فيما يجب اتخاذه نحو هذه النكسة الشيطانية، فلم يخالفه أحد في قتال المرتدين ردة كاملة وإنما خالفوه في الذين منعوا الزكاة وبقوا على إسلامهم حسب ما كانوا يقدرون. قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: كيف تقاتل قوماً يؤمنون بالله ورسوله، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فإن قالوها عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، وقد قال - يعني الرسول - إلا بحقها". وسواء طال الاختلاف أو فصر فإن الصحابة جميعاً أجمعوا - بعد التشاور - على قتال النوعين معاً: المرتدون ردة كاملة بالخروج عن الإسلام كلية.

والمرتدون ردة غير كاملة الذين طلبوا من أبي بكر أن يقيموا الصلاة ويعفيهم من إخراج الزكاة. هذا القرار الذي أجمع عليه الصحابة كلهم كان سببه الردة التي لم يصاحبها قتال من المرتدين للمسلمين. صحيح أن مانعي الزكاة بادروا بالزحف على المدينة، ولكن كان زحفهم بعد تشاور اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماعهم على قتال المرتدين جميعاً لا فرق بين ارتد وخرج عن الإسلام ومن اقتصرت ردته على منع الزكاة فحسب. هذه هي حقيقة حروب الردة، ولكن منكري حد الردة مضوا في تفسير أسبابها على المنهج المعوج الذي سلكوه. من تطويع النصوص والوقائع لأهوائهم ومزاعمهم الفارغة. زعموا - زوراً وبهتاناً - أن حروب الردة التي استمرت قرابة سنتين في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، لم يكن سببها مجرد الردة، لإن الردة عند منكري حدها - لا تبيح قتالاً ولا قتلا، بل سببها عندهم - أعني سبب حروب الردة - هو مقاتلة المرتدين للمسلمين فهي - أي حروب الردة - قتال في مواجهة قتال. وليس قتالاً في مواجهة كفر بعد إسلام؟! ولعل منكري حد الردة كانوا قد أدركوا أهمية حروب الردة في تقرير وشرعية قتل المرتد لإنها تطبيق عملي واسع النطاق ودليل

راسخ على هذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه" وبهذه الحروب خرج الحديث المذكور عن كونه حديث آحاد إلى حدث متواتر أعظم ما يكون التواتر. فهو حديث مع إجماع مع عمل ضخم بكل مقياس لهذه الإعتبارات كلها أجهد منكرو حد الردة أنفسهم لتجريدها من دلالتها الراسخة، ونضع بين أيدى القراء ما قاله منكرو حد الردة في هذا الشأن: : فحروب الردة إذن لم تكن أبداً - كما يصورها المضللون (هكذا؟) قتالا للمرتدين جزاء ردتهم، وإنما كانت دفاعاً عن الإسلام، وتصدياً لمن بدأوا بالعدوان على المدينة، مصداقاً لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} . هكذا بجرة قلم حاولوا أن يطمسوا حدثاً ضخماً قام به صحابة رسول الله الأطهار، وهم أفقه رجال الإسلام وأقربهم عهداً برسوله وأدراهم بسنته القولية والعملية، وهم خير أجيال الأمة منذ مجئ الإسلام إلى قيام الساعة. وللقارئ الكريم أن يرجع إلى أمهات كتب السيرة والتاريخ الإسلامي كتاريخ الطبري، والبداية والنهاية وغيرهما، وسيرى أن أجماع الصحابة على قتال المرتدين كان قبل أي تحرك من المرتدين ضد

قصة ثعلبة

المسلمين. إنه قتال من أجل الردة المجردة، وليس قتالاً في مواجهة قتال كما يدعي هؤلاء المدافعون عن الإجرام والمجرمين؟! قصة ثعلبة: قلنا من قبل إن منكري حد الردة كحاطب ليل يجمع إلى حوزته كل ما تلمسه يداه، ولا يفرق بين الحطب والثعابين. ومن ذلك عند منكري حد الردة أنهم يعملون إلى كل ما يبدو لهم أن فيه دليلاً على زعمهم الذي شذوا به عن جماعة المسلمين كلهم. فقد حشدوا بين ما توهموا أن فيه دليلاً لهم على حرمة دم المرتد قصة بدأت أوائلها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي قصة ثعلبة بن حاطب، الذي بخل بإخراج الزكاة، ولما عاد جباة الزكاة، وأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما حدث من ثعلبة نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (التوبة: 75 - 77) . يقول منكرد حد الردة في توظيف هذه القصة لمدعياتهم: : ولنا في قصة ثعلبة الدليل على ذلك - أي أن المرتد لا يقتل - حيث رفض ثعلبة دفع الزكاة في وقت سيدنا رسول الله، فأمر الرسول بعدم

أخذها منه، ولما عرض ثعلبة دفعها في زمن سيدنا أبي بكر رفض أخذها منه، كما رفض ذلك أيضاً سيدنا عمر من بعده، وقد مات ثعلبة أيام خلافة سيدنا عمر، دون أن ينادى أحد بوجوب قتله باعتباره مرتداً لرفضه دفع الزكاة". هذا الذي استنتجه منكرو حد الردة من قصة ثعلبة وَهْمٌ من الأوهام فثعلبة منع دفع الزكاة بخلاً لا ارتداداً ولما أنزل الله فيه تلك الآيات جاء تائباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ يضع التراب على رأسه لما لم يقبل الرسول توبته. ومما يؤكد عدم ارتداده تردده على الخلفاء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا منه الزكاة، والمرتد لا يفعل ذلك أبداً. وحتى لو قلنا أن ثعلبة منع الزكاة ارتداداً فإنه أسرع إلى التوبة ومثل بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتذراً ونادماً وأصدق ما يقال فيه إنه منافق، بدليل أن القرآن قال فيه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} . ومن قبل قال عاطفاً لقصته على قصص المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ... } أي: ومن المنافقين. وحتى لو قلنا أن ثعلبة كان كافراً في الباطن مظهراً للإيمان فإن أحكام الإسلام في الدنيا تجري على الظاهر دون الباطن. وهذا هو الموقف الذي وقفه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين جميعاً، وكان ينهي عن قتلهم إذا

تعقيب

بدت منهم بذاءات؛ لأنهم ينطقون بكلمة التوحيد، ويشهدون بصدق الرسول ويصلون ويصومون ويحجون ويشهدون المعارك والجمع والجماعات. تعقيب: وبهذا يتبين أن منكري حد الردة ليس لهم دليل على ما يقولون سواء في ذلك حروب الردة التي حرَّفوا أسبابها، أو قصة ثعلبة التي لوَّنُوها بغير لونها، وصوروها في غير صورتها، هادفين من ذلك كله أن يُخضعوا هذه الواقع لإثبات زعم باطل من كل الوجوه وهو أن الردة لا تبيح القتل؟! وبهذا يمهجون الطريق لتعطيل حدٍ من حدود الله، ويفتحون باباً واسعاً للعبث بالعقيدة. ويحسبون هذا هينا، وهو عند الله عظيم. إنه دفاع عن أجرم المجرمين لا يزينه إلا الشيطان العدو الألد لآدم وبنيه. * * *

الشبهة الخامسة الادعاء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل مرتدا

الشبهة الخامسة الادعاء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل مرتداً ادعى منكرو حد الردة أن النبي لم يقتل أي مرتد في حياته ولا مرة واحدة. وإلى القراء ما قالوه بالحرف الواحد: "وعندما نتدبر سنة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجد أن حد الردة المزعوم (هكذا) لم يطبق ايام سيدنا رسول الله، ولا مرة واحدة" المرحظ أن منكري حد الدرة كثيراً ما يرسلون القول على عواهنه، ولا يكلفون أنفسهم بالرجوع إلى المصادر الوثيقة الت يتحيم على الباخث الموضوعي الرجوع إليها وهم - دائماً - يجزمون بالأحكام التي تناسب مدعياتهم ثم يصورونها في صورة أحكام عامة، ولم يلتزموا كذلك بأدنى ضوابط أو أحتياطات يمكن أن تكون بمثابة أعذار لهم إذا ووجهوا بما غاب عنهم أو غابوا هم عنه من حقائق لا سبيل لإنكارها. تأمل وصفهم لحد الردة بنه "مزعوم" أي مكذوب مفترىً ثم تأمل الحكم الجازم في قولهم: "ولا مرة واحدة"؟!

دحض هذه الدعوى

دحض هذه الدعوى والحق الذي لا مراء فيه أن هذه الدعوى التي جزموا بصدقها دعوى كاذبة، ليس لها أدنى نصيب من الصحة فقد تقدم لنا أن الأسود العنسى كاهن اليمن كان قد أدعى أنه نبي ودعا الناس إلى إتباعه فارتد بعض أهل اليمن عن الإسلام فلما علم النبي بهذا الحدث الخطير بعث إلى المسلمين من أهل اليمن رسولاًَ، ودعاهم إلى القضاء على هذه الفتنة، وأن يقاتلوا الأسود ومن ارتد معه. فأدى المسلمون الواجب، وتمكنوا من قتل الأسود فخمدت الفتنة، وعلم النبي بقتب الأسود في إحدى روايتين، وبشر المسلمين بقتله. وفي عام الفتح أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَل وكان مسلماً ثم ارتد ورجع إلى مكة. ولما علم بقدوم موكب الفتح بقيادة صاحب الدعوة هُرِع إلى المسجد الحرام وتعلق بأستار الكعبة، ورغم هذه الحيلة أمر النبي بقتله حداً للارتداد عن الدين. وهذه الواقعة صحيحة السند والمتن، وقد اعتمدها ائمة المذاهب الفقهية، واستنبطوا منها أحكاماً في الفقه الجنائي: فالإمامان الشافعي ومالك بنيا عليها حكماً فقهياً خلاصته أنه يجوز إقامة الحدود واستيفاؤها في الحرم. والإمام أبو حنيفة مع تسليمه بصحة الواقعة يخالف الشافعي ومالكاً بأن استيفاء الحدود لا يجوز في الحرم.

ويؤول قتل النبي لابن خَطَل في الحرم عام الفتح بأنه قتله في الساعة التي أحلَّ الله فيها مكة، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة كما جاء في الحديث الشريف تعظيماً للبلد الأمين فقتل ابن خطل لم يكن له سبب سوى الردة المجردة عن أي عدوان منه على المسلمين، ووقوعها في حياة النبي وبأمر منه دليل ناصع على كذب منكري حد الدرة، فإن لم يكونوا كاذبين، فهم بلا ريب جاهلون بفقه الموضوع الذي زجوا بأنفسهم فيه، ولم يكونوا مؤهلين له. لذلك لازمهم الفشل في كل ما حسبوه دليلاً مؤيداً لمدعياتهم. على أن هناك حالتين أخريين من الردة أمر النبي بقتل صاحبيهما يوم فتح مكة، ولكنا لم نذكرهما لإن صاحبيهما جمعا مع الردة جريمة القتل والعدوان. والسبب في قلة تطبيق عقوبة الردة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لإن الردة لا تبيح القتل كما يقولون، بل لإن حدوث ردة ظاهرة من مسلمين لم يقع كثيراً. وحسبنا ما أوردناه آنفاً عن صحيح مسلم من قتل ابن خَطَل، أقول حسبنا هذا الرد على منكري حد الردة الذين زعموا أن حد الردة (المزعوم) لم يطبق في حياة النبي ولا مرة واحدة؟! يقولون افوالاً ولا يعلمونها وإن قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا ورحم الله امراً عرف قدر نفسه

الشبهة السادسة اختلاف الفقهاء

الشبهة السادسة اختلاف الفقهاء مما يدل على تهافت منكري حد الردة، وأنهم - حقاً - حاطبو ليل، أنهم اتخذوا من اختلاف الفقهاء حول بعض ما يتعلق بحد الدرة، اتخذوا من هذا الخلاف دليلاً على إنكار حد الدرة في الإسلام. وأنه حد مزعوم لا وجود له، لا في القرآن ولا في السنة، ولا في إجماع علماء الأمة؟ ولو كانوا ممن لهم دراية بالفقه لما أنساقوا وراء هذه الأوهام التي تشبثوا بها، ولتواروا منها استحياء وخجلاً. ولكن عدم درايتهم بالفقه حميلتهم على هذه الطنطة الجوفاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فاختلاف الفقهاء هو السمة التي تميز بها الفقها الإسلامي وبسببه تعددت فيه المذاهب الفقهية، وتعددت الآراء داخل المذهب الفقهي الواحد، إما بين إمام المذهب وتلاميذه، وإما بين التلاميذ انفسهم. إن اختلاف الفقهاء شمل جميع أدلة الأحكام إلا ما كان منها قطعي الدلالة والثبوت معاً. أو قام عليه إجماع بين أهل العلم الذين يعتد بقولهم. فليس كل خرف يترتب عليه إنكار الحكم الذي نشأ حوله خلاف في بعض فروعه. فما أكثر الفقهى حول أركان الإسلام العملية

من صلاة وزكاة وحج وصيام، ومع هذا لم يقل أحد - ولن يقول - أن هذه الأمور ليست أركاناً للإسلام أو ليست واجبة على المسلم. الخلاف حول أدلة الأحكام نوعان: درسنا الفقه في معاهد الأزهر على مدى تسع سنين على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رضي الله عنه -، ثم ردسناه في الرمحلة الجامعية سنتين على المذاهب الأربعة، وبعد التخرج وعلى مدى ثلاثين عاماً زادت صلتنا به أصوالاً وفقهاً، وقرأنا من أمهات المصادر في جميع المذاهب - وما نزال - قدراً صالحاً. فوقفنا على الكثير من أسراره وطرائقه وروائعه. ومما تعلمناه دراسة وإطلاعاً ضوابط الخلاف الذي دار بينهم فوجدناه نوعين: الأول: خلاف ينشأ حول صحة الدليل أو بطلانه من حيث الثبوت أو الدلالة، وهذا الخلاف يكثر بينهم في الأدلة الظنية الثبوت والدلالة أو أحدهما. الثاني: خلاف ينشأ بينهم في بعض ما يتعلق ببعض فروع الدليل بعد التسليم بصحته. وهذا الخلاف كان سبباً في تضخم الفقه الإجتهادي. أي النوعين نشأ حول دليل حد الردة؟ والخلاف الذي نشأ حول دليل حد الردة هو النوع الثاني. أي أن الفقهاء جميعاً مسلمون بصحة الدليل هو "من بدَّل دينه فاقتلوه"

نماذج من الخلاف حول فرعيات الردة

ثم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث....". فالدليل صحيح، ودلالته قطعية مسلمة وعلى هذا اتفق جميع الفقهاء ولم يعرف لهم مخالف منذ بدأ النشاط الفقهي على يد الإمام الشافعي وإلى الآن. إذن فهذا الزعم الذي زعمه منكرو حد الردة لا وزن له، لإن خلاف الفقهاء لم يمس صحة الدليل، بل كان في أمور فرعية مستندة إلى وجود الدليل مع التسليم بصحته، وزيادة في الإيضاح نذكر في إيجاز نماذج من الخلافات الفرعية التي نشأت حول حد الدرة واتخذ منها منكروه دليلاً على إنكاره وما هي بدليل: نماذج من الخلاف حول فرعيات الردة: الأول: الاستتابة: كثر عند الفقهاء القول بأن المرتد يستتاب قبل إيقاع الحد عليه. وذهبوا في هذه الاستتابة عدة مذاهب: فالأكثرون يقولون بأنها واجبة على ولاة الأمر، وحق للمرتد نفسه. وقليل منهم قال إن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة. فإذا قتل المرتد فور العلم بردته فلا خرج في ذلك ولا تقصير، كل ما في الأمر أننا تركنا أمراً مستحباً ومنهم من قال: إنه يُقتل فوراً فلا تجب استتابته

ولا تستحب. والراجح هو الرأي الأول. وكما اختلفوا في حكم الاستتابة اختلفوا في مدتها فالأكثرون على أنها ثلاثة أيام، وقلة ذهبت إلى أنها أكثر من ثلاثة، والنخعي يرى أن الزمن غير معتبر بل المعتبر هو حدوث الإقناع عند المرتد طال الزمن أو قصر. والذين قالوا إنها ثلاثة أيام استدلوا بقوله تعالى في شأن ثمود قوم صالح عليه السلام: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (هود: 65) . وهذا استدلال وجيه، لإن صالحاً عليه السلام لم ييأس من إيمان قومه إلا حين عصوا الله وعقروا الناقة، فأمهلهم الله ثلاثة ايام ثم أهلكهم. الثاني: المرتد الذي يقتل: إذا تحققت الردة من مسلم فجمهور الفقهاء يقول إنه يقتل إن لم يتب، سواء أكان رجلاً أو امرأة. وخالف الحنفية فقالوا إن المرأة إذا ارتدت ولم تتب لا تقتل، بل تحبس مدى الحياة ويعرض عليها الإسلام كل يوم. أخذ الجمهور بدلالة العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه" لإن "مَنْ بدَّل دينه" لم يفرق بين الرجل والمرأة. وأخذ الحنفية بقياس المسلمة إذا ارتدت على المرأة الكافرة كفراً

أصلياً، لإن النبي نهى المسلمين عن قتل النساء الحربيات إذا نشب بين قومهن وبين المسلمين حرب، فجعلوا النهي عن قتل الحربيات مخصصاً للعموم الوارد في "من بدَّل دينه فاقتلوه" ثم قاسوا المرتدة على الحربية. الثالث: مصير مال المرتد: إذا ارتد المسلم ولم يتب ثم قتل فما هو مصير ماله الذي تركه؟ للفقهاء مذاهب في هذا الفرع أقواها وأولاها بالقبول أن ماله الذي أكتسبه حال إسلامه قبل ارتداده هو لورثته الشرعيين. أما ما اكتسبه حال ردته قبل قتله فلا يرثه ورثته لاختلاف الدين حال كسب المال. هذه نماذج ثلاثة من اختلاف الفقهاء في بعض شئون المرتد. وهي خلافات لم تمس من قريب أو بعيد وجوب الذي هو قتل المرتد. وكل ما نشأ من خلاف في هذا الموضوع هو من هذا القبيل. أما أن يكون قدر دار بينهم خلاف في هل يقتل المرتد أم لا يقتل فهذا لا وجود له عندهم أبداً، فجميع المذاهب الفقهية متفقة على وجود الحد شرعاً وأنه يكون بقتل المرتد. إن إنكار حد الردة أو حتى مجرد التشكيك فيه لم يعرف في أي عصر إلا في هذا القرن العشرين، وعلى أيدي بعض الحقوقيين، وهم قلة

نادرة، ثم بعض الإعلاميين والصحفيين، والغالب عليهم أنهم يدينون بالولاء لبعض الأيديولوجيات المعاصرة، وهؤلاء - جميعاً - لا وزن لما يقولون، ولا يجةز أن يجاريهم أحد فبما يقولون؛ لإنهم ليسوا من اهل الذكر الذين يفزع إليهم ثار خلاف ولإنهم محجوجون باتفاق الفقهاء جيمعاً في كل العصور ولإن طريقتهم في الاستدلال طريقة فجة من جهة، ومن جهة أخرى تخضع النصوص والوقائع لهواهم، سواء أكانوا حسنى النية أو سيئيها. والأمة ليست على استعداد لإن تلغي - بجرة قلم أو أقلام - جهود مليون عالم وفقيه مسلم، تركوا لنا ثروة فقهية رائعة نعتز بها لا تملك أمة من الأمم ما يماثلها أو يضارعها. إنها ثروة فقهية مؤسسة على هدى من كتب الله، وسنة رسوله وحسبنا أن يكون هادينا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

الشبهة السابعة التدخل في اختصاص الله

الشبهة السابعة التدخل في اختصاص الله؟! وعلى الطريقة الفجة في الاستدلال اتخذ منكرو حد الردة من مبدأ استتابة المرتد دليلاً آخر من أدلتهم الوهمية على إنكار حد الردة. وخلاصة ما قالوه في هذا الشأن أن قبول التوبة من العباد من اختصاص الله وحده، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ... } الشورى: (25) . ثم يتساءلون فيقولون: هل يضمن الذين يزعموا لأنفسهم حق استتابة المرتد هل يضمنون له قبول توبته. ودخوله الجنة في الآخرة؟. هذه خلاصة أمينة لما قالوه صغناها في إيجاز وافٍ. تعقيب: اختلط الأمر على منكري حد الردة هنا كما اختلط عليهم في كل كلمة قالوها، وقد وضحنا هذا فيما تقدم أما هنا فقد اختلط عليهم الأمر فلم يفرقوا بين التوبة والاستتابة. فالتوبة هي الإقلاع عن الذنوب، مهما كانت، والندم على فعلها، وعدم العود إليها، وهي عقد وعزم قلبي لا يطلع عليه إلا الله، فإذا كانت

التوبة نصوحاً وخالصة لوجه الله قبلت وكوفئ التائب عليها من ربه الغفور الرحيم. أما الاستتابة فالمراد بها عند الفقهاء هي نصح المرتد وإرشاده وإزالة الشبهات التي أدت به إلى الإرتداد فإذا أقتنع وزال ريبه وأعلن العودة إلى الإسلام قُبلت منه توبته وعُفى عنه فلا يقام عليه الحد، وهو في هذه الحالة أشبه ما يكون بمتهم في ارتكاب جريمة، فلما مثل بين يد القضاء اثبت للقضاة براءته من الجريمة التي نسبت إليه، فيحكم القاضي ببراءته وإخلاء سبيله، فليس في استتابة المرتد تدخل في اختصاص الله، ومن المعلوم أن الردة لها جزاء أخروى هو الخلود في العذاب، فإذا كانت توبة المرتد صادقة ولساناً نجا من العقوبتين معاً: الخلود في النار، والقتل في الدنيا، فالأولى من اختصاص الله وحده، والثانية إجراء يملكه ولاة الأمر المسلمون. أما إذا كانت توبته باللسان فقط فإن عقوبة الدنيا تسقط عنه، ولا تنفعه توبته اللسانية الظاهرة عند الله مثقال ذرة، بل يكون منافقاً في العقيدة، والمنافقون في الآخرة في الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} النساء: (145) . فأين التدخل في اختصاص الله يا ترى؟ ابلغ منكرو حد الردة هذا الحد من الغفلة؟ أم لحاجة في نفس يعقوب؟ عجيب - والله - أمر هؤلاء الناس.

الشبهة الثامنة الاستتابة لا أساس لها في الدين

الشبهة الثامنة الاستتابة لا أساس لها في الدين كانت آخر شبهة يتشبت بها منكرو حد الردة أن زعموا بأن الاستتابة لا أساس لها في الدين. وإليك قولهم بالحرف: "ذكر الشيخ الغزالي في شهادته أن المرتد يجب استتابته قبل معاقبته، وهو ادعاء ليس له أساس في الدين أو الشرع". ثم يصفون الاستتابة بأنها تشريع بما لم يأذن الله به؟ ويبنون على هذا الزعم كثيراً من الأوهام. تعقيب: القول باستتابة المرتد قبل معاقبته ليس من "عنديات" الشيخ الغزالي حفظه الله، ولكنه سنة صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وإجماع علماء الأمة سلفاً وخلفاً. إن التشريع بغير ما لم يأذن به الله هو إنكار حد الردة وما تعلق به من فروع فقهية. فمن هو الذي له شركاء شرعوا له من الدين ما لم يأذن به الله؟ أة الشيخ الغزالي الذي لم يقل إلا بسنة خاتم الرسل وخلفائه وعلماء الأمة؟ أم الذين أنكروا حد الردة جملة وتفصيلاً؟ ما أصدق المثل العربي الذي قال:

أدلتها من الشريعة

"رمتني بدائها وانسلت" ويقول الحق - عز وجل -: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} النساء: (112) . أدلتها من الشريعة جاء الأمر بالاستتابة في أحاديث تقدم ذكرها، مثل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أم مروان التي ارتدت في عهده. ومثل حديثه إلى معاذ بن جبل حين بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وأمره فيه أنه إذا ارتد رجل عن الإسلام أن يدعوه إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل، وإذا ارتدت امرأة عن الإسلام يدعوها إلى الإسلام فإن تابت وإلا قتلت. وحديث أبي موسى الأشعري حين قدم عليه معاذ بن جبل فوجد عنده رجلاً كان يهودياً فأسلم ثم ارتد فاستتابة أبو موسى قرابة عشرين يوماً فأصر معاذ على قتله قبل أن يجلس وقال: هذا قضاء رسول الله. والآثار والوقائع ذي ذلك كثيرة. ومن أبرز الوثائق التاريخية في شرعية الاستتابة الكتب التي حررها خليفة رسول الله الأول ابو بكر الصديق وحمَّلها لقادة اللواءات الأحد عشرة التي صيرها لردع القبائل المرتدة. وقد حررت الكتب الأحد عشرة في صيغة واحدة، وأمرهم الصديق

نصوص الكتب التي بعث بها

أبو بكر أن يتلوها على القبائل المرتدة قبل أن تبدأ الجيوش الإسلامية في قتالهم وكان ذلك على مرأى ومسمع من جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعارضه أحد منهم فصار إجماعاً من رجال خير القرون - رضي الله عنهم -. نصوص الكتب التي بعث بها: "بسم الله الرحمن الرحيم" من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى من بلغه كتابي هذا من خاصة وعامة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من أتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفَّر من أبى ونجاهده أما بعد: "فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين. "فهدى الله بالحق من أجاب إليه. وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً ثم توفى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بيَّن له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزله، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وماجعلنا لاحد من قبلك وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ

الْخَالِدُونَ} وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك فإن الله له بالمرصاد، حتى قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه ... وإني أوصيكم بتقوى الله، وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. وإن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله؛ فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يُعنه مخذول، فمن هداه الله كان مهتدياً، ومن أضله كان ضالاً. قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} . ".... وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه، بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اعتراراً بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان. قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} ... "وإني بعثت إليكم فلاتاً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله. فمن استجاب له وأقر، وكف وعمل صالحاً قَبِلَ منه وأعانه عليه، ومن

تعقيب:

أبى أمرتُ أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه ... ويقتلهم كل قتله، وأن يسبى النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام. "وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذَّن المسلمون فأذَّنوا كَفَّوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجِلُوهم. وإن أذَّنوا سألهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم وإن أقروا قيل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم". تعقيب: هذه هي رسالة أبي بكر إلى المرتدين لم نحذف منها إلا بضع جُمل حذفاً لا يغير من المعنى شيئاً. وهي وثيقة تاريخية بالغة الأهمية أخلص فيها ابو بكر التنصح والتوجيه للقبائل المرتدة وهو يستتيبها من ردتها ويدعوها إلى العود في الإسلام. ومن أهمية هذه الوثيقة إنها تعبر عن إجماع رجال خير القرون وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم خلفاؤه الراشدون - أجل إنها تعبر بكل جلاء على مشروعية استتابة المرتد، فرداً كان أو جماعة أو جماعات. وهذه الوثيقة نموذج رائع للاستتابة الجماعية، التي تحدث لأول مرة في الإسلام في عهد أول الخلفاء الراشدين. ونستخلص منها الحقائق الآتية:

أولاً: أن المرتد لا يقاتل ولا يقتل حتى يُعْرض عليه الإسلام ثم يأبى الرجوع إليه. ثانياً: إن المرتد بالخروج عن الإسلام كلية إذا دَعِى إلى الإسلام فأجاب كُفَّ عنه الأذى ثم يُدْعَى مرة اخرى للعمل بأركان الإسلام فيقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة ويصوم ويحج حجة الفريضة، فإن امتنع قوتل حتى يستجيب. ثالثاًُ: إن ابا بكر أمر أن تذاع رسالته على أسماع المرتدين ليحيا من حَىَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. رابعاً: أن المرتد سواؤ أكان من العرب او من غير العرب لا يقبل منه إلا ألإسلام. أما الدعوة إلى الإسلام ابتداء قبل حدوث إيمان فإن الإسلام يفرق فيها بين العرب وغير العرب، فالعرب لا يقبل منهم إلا الإسلام، وهم المقصودين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها...." وإن كانوا غير العرب فالحكم مختلف، فيقبل منهم الصلح بشروطه المعروفة إذا امتنعوا عن قبول الإسلام. فأنت ترى من ذها كله أن الفقهاء حين ذهبوا إلى استتابة المرتد لم يكن لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله كما يدعي

وثيقة أخرى لأبي بكر

منكرو حد الردة. بل هم أدرى الناس بما شرع الله ورسوله وبما أجمع عليه صحبه وخلفاؤه الراشدون. وثيقة أخرى لأبي بكر: كانت الوثيقة الأولى رسالة موجهة إلى المرتدين، هي الاستتابة الدجماعية لهم. ولأبي بكر وثيقة أخرى سناها أبو بكر بـ "العهد" وهي أشبه ما تكون بقرار التكليف من القائد الأعلى لأمراء الجند من جهة، وخطة عملية ينفذها "الأمير" في معاملة المرتدين بعد رجوعهم إلى الإسلام. وفي كل منهما يؤكد الخليفة مبدأ الاستتابة. أما نص الوثيقة الثانية فهو: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعَهِد غليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله: سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يُعْذر فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوا أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم، حتى يقروا له. ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا يُنْظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله - عز وجل - وأقر له قَبِل ذلك منه. وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على

تعقيب

الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قَتِل وقوتل حيث كان، وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام فمن أجابه وأقر قبل منه وعلَّمه، ومن أبى قاتله.... ثم قسم ما أفاء الله عليه. إلا الخمس فإنه يُبلَّغاه - اي يرله للخليفة - وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم لئلا يكونوا عيوناً ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم. وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ... ويستوصى بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول". تعقيب: رغم التشابة الكبير بين هاتين الوثيقتين فإن التباين بينهما قائم شكلاً وموضوعاً. ونتستخلص من مجموعهما المبادئ الآتية: أولاً: أن حد المرتد عن الإسلام إذا دعى إلى العود فيه فلم يستجب هو المقاتلة والقتل. ثانياً: إن الاستتابة فردية كانت أو جماعية هي شرع الله ورسوله وليس ابتداعاً في الدين. ثالثاً: إن أموال المرتدين الذين يصرون على كفرهم إذا غنمها

المسلمون توزع على المقاتلين إلا الخمس فيوضع في بيت مال المسلمين (الخزانة العامة) ينفق منها عليهم. رابعاً: إن دعوى منكري حد الردة وما ترتب عليه من أحكام فرعية بأنه حد مزعوم، وأن القائلين به كذبة ومضللون. هذه الدعوى ما هي إلا افتراء على الله ورسولع وعلى علماء الأمة سلفاً وخلفاً. على القائلين بها أن يثوبوا إلى رشدهم ويبتغوا لأنفسهم خيرى الدنيا والآخرة. وليحذروا الوعيد الذي توعد الله به المفترين عليه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ... } (يونس 69 - 70) . * * *

توضيحات لا بد منها

توضيحات لا بد منها * بين الردة والزندقة * ضوابط تنفيذ حد الردة * قتل المرتد لا يصادر حرية الاعتقاد * حكمة التشريع في قتل المرتد * عمن يدفعون

التوضيح الأول بين الردة والزندقة

التوضيح الأول بين الردة والزندقة تعرضت جميع المذاهب الفقهية لذكر حد الردة وبيان أحكامه وفصلت القول في ذلك تقصيلاً دقيقاً، لم يخلُ منه مصدر فقهي من مصادرهم التي وضعوها شاملة لكل أبواب الفقه. ويلحق بالردة جريمة أخرى هي: الزندقة، والنسة إليها زنديق وهي كلمة غير عربية ولكنها عُرَّبت. وهي تطوير لمعنى كلمة منافق فالزنديق هو المنافق مع فارق لحظه الفقهاء جعلهم يؤثرون كلمة زنديق على بعض الأشخاص وكان يُطْلَق عليه قبل ظهور المذاهب الفقهية - كما جاء في الكتاب والسنة مصطلح "منافق" وقد عرفنا أن المنافق في العقيدة هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان. وتجرى عليه أحكام الإسلام من حيث الظاهر وامره مفوض إلى الله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن قتلهم لنطقهم بالشهادتين وأدائهم شعائر الإسلام من صلاة وصيام وحج. أما الزنديق فالمراد به مَنْ يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقية وتستراً ثم يكون حرباً على الله ورسوله، فيروج الأفكار السيئة عن الإسلام ويسخر من قيمه وأحكامه، يكون هذا دأبة في كل وادٍ ونادٍ وشغله الشاغل في كل وقت. ويسخر من صحابة رسول الله ورجالات الإسلام من متكلمين ومفسرين وأصوليين وفقهاء.

وهو - بهذا - أشد خطراً من المرتد صراحة وإن تظاهر بأنه مؤمن وصلى وصام وزعم أنه مسلم. وهذا الصنف من الناس كثيرون الآن، منهم من وصف كتاب الله بأنه كتاب متخلف؟! ومنهم من وصفه بأنه كتاب جبان؟! ومنهم من قدح في عدالة الصحابة، ومنهم من وصف أحكام الشريعة بالجمود وعدم صلاحيتها للتطبيق بعد عصرها الأول؟! ومنهم من يشكك في قيمة السنة النبوية ويطعن في روايتها ولا يعتمد منها إلا بضعة أحاديث؟ هؤلاء كلهم زنادقة مرجفون، وخطرهم - كما تقدم - اشد وأنكى من خطر المرتدين الصرحاء. ولا خلاف بين الفقهاء في تطبيق حد الردة عليهم، إنما الخلاف هل تقبل منهم توبة ورجوع إلى الإسلام أم لا تقبل. فإمام دار الهجرة مالك بن أنس ذهب إلى أن الزنديق لا تقبل منه توبة، بل يقتل بمجرد ثبوت زندقته بعد رفع الأمر إلى ولي الأمر الذي يحكم بما أنزل الله، أما إذا جاء هو تائباً من تلقاء نفسه قبل أن يُقّدر عليه فتقبل توبته، فإن ظل على ذندقته وجاهر بكيده للإسلام قتل بلا استتابة. وغير مالك من الأئمة يقولون باستتابته ونصحه وإرشاده. وهذا مذهب معتدل حرى بالقبول؛ لإن في غرض التوبة عليه إبراء لذمة الجماعة المسلمة، وإعذاراً له قبل إقامة الحد عليه.

وفي نظرنا إن مواجهة ولي الأمر لظاهرة الزندقة والزناديق ألزم وأولى من ظاهرة الردة والمرتدين التي لا تكاد توجد الآن أما الزندقة فلها أبواب واسعة، وحيل كثيرة من أخطرها ممارسة التزندق تحت غطاء حرية الرأي والفكر، وتحرير الفنون الأدبية من كل القيود. وهذا ما يدعو إليه الآن في الوطن العربي الماركسيون والعلمانيون، والحداثيون. وكثير من الإعلاميين وعملاء أعداء الأمة. وهم بهذا يقتدون باليهود الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ثم يكيدون له ما استطاعوا، ويتخذون من التظاهر بالإسلام غطاء لهم، وبهذه الوسيلة كثرت الإسرائيليات في كتب التفسير والوضع في الحديث النبوي، والأخبار الكاذبة في بعض كتب السيرة، لإن الكيد للإسلام من الداخل اسوع حرية من الكيد له لو ظلوا على يهوديتهم قاتلهم الله. فلتكن الأمة على حذر من زنادقة هذا العصر، الذين لا يخفون على أهل الفطنة. * * *

التوضيح الثاني ضوابط تنفيذ حد الردة

التوضيح الثاني ضوابط تنفيذ حد الردة حد الردة في الإسلام لا ينفذ اعتباطاً ولا تعسفاً، بل هو محاط بكثير من الضمانات، ومنها: أن تكون الردة ظاهرة، كأن يجاهر المرتد بالنطق بكلمة الكفر أو بقول يتضمن الكفر، كأن يقول إن القرآن غير متواتر أو معناه من عند الله ولفظه من النبي، أو يقول شرب الخمر حلال ونكاح المحارم حلال وكذلك إذا حرَّم حلالاً على تحليله أو تكون الردة بقفعل كأن يلقي المصحف في القاذروات أو كتب الحديث أو الفقه عامداً متعمداً. * أن يشهد على ردته شهود عدول ويذكرون أمام القاضي الأمر أو الأمور التي صار بها مرتداً، ولا يكفي أن يقول الشهود أنه كفر، بل لابد من ذكر أقواله وأفعاله التي كانت علامة على ردته. * أن يكون ممن اتضحت لهم معالم الهدى في الإسلام وأقام على الإسلام مدة ملحوظة. * إن كان الشهود من غير اهل العلم عُرِضَ أمره على العلماء أهل الاختصاص لإنهم أدرى بما يُخْرج من الدين وما لا يخرج منه. ولا تكون الردة بمجرد الاتهام، فلابد من تحقيق الدعوى بما يُجَلَّى حقيقة الأمر.

* أن يمهمل المرتد مدة لا تقل عن ثلاثة أيام ويعرض عليه الرجوع إلى الإسلام وتزال الشبهات التي أدت إلى الردة ويوعظ ويرشد بلا تخويف ولا تهديد ويطعم ما يكيفيه - هكذا قال الفقهاء - ولا بأس من إطالة مدة الإمهال إن طلب المرتد ذلك أو رجا الناصحون فيه خيراً. * فإن أبى الرجوع بعد النصح والتوجيه يحكم القاضي بردته ويقام عليه الحد بالسيف دفعاً بالسيف دفعاً للتعذيب. وليس في هذا إكراه له على الرجوع إلى الإسلام؛ لإن الحد لا يقام عليه إلا في حالة اليأس من عودته وسنبين في التوضيح الآتي حكمة هذا التشريع. * الذي يقيم الحد على المرتد، وهكذا كل الحدود، هو ولي الأمر أو نوابه ومعاونوه؛ لإن الحدود كلها لا ينفذها إلا ولاة الأمر. ومع هذا فقد أجمع الفقهاء أن من وجب عليه حد أصبح دمه مهدراً لإن الحدود لا عفو فيها من ورة الأمر أو من غيرهم؛ لإنها حقوق لله. فإذا نفذ الحد فرد من الأفراد غير الولاة فقتل المرتد، أو رجم الزاني، أو قطع يد السارق فهو مصيب ولكنه افتات أو تطاول على حق ولي الأمر فيعاقب عقوبة تعزيزية مثل لأن يحبس أو يسجن أما أن يقتص منه فيقتل أو يرجم أو تقطع يده فلا، لإن دم المرتد بعد الحكم عليه بالردة هدر، وكذلك الزاني إذا كان محصناً، ويد السارق مهدرة كذلك، وهذا كله مشروط بثبوت الجريمة ثبوتاً يقينياً، لإن الجنايات لا تثبت بالظن بل باليقين.

ويرى الشافعية ان المرتد ردة ظاهرة "إذا قُتِلَ قَبْل العرض على ولاة الأمر وقبل الاستتابة فلا يقتص من قاتله". تجاوزات بعض الأفراد: أما الشكوى من ظاهرة تجاوزات بعض الأفراد من الشباب في القيام بتنفيذ مل يرونه حداً واجباً فليست هذه مسئوليتهم وحدهم، لإن ولاة الأمر لا يقومون بواجبهم في إقامة أي حد من الحدود، وهذا يحمل بعض الأفراد من عامة الناس على الإقدام بتنفيذ ما يدخل في تنفيذ دائرة الحدود. ولو أن دستور البلاد وقانون العقوبات احترما هذا الواجب، وقام ورة الأمر بتحقيق الدعاوي وتقديمها للقضاء وتفذوا أحكام القضاء النهائية لما جرؤ فرد عادي على أن يتدخل بنفسه في هذه الشئون "السلطانية" فقصور الدساتير وقوانين التجريم والعقاب هو السبب الأول في هذه التجاوزات. وعسى أن يكون لنا فيما حدث واعظ فنطبق الحدود الشرعية في كل المجرمين والمفسدين، سواء أكانوا محجرمي أموال أو عرض أو دين أو بغاة. وقد دلت التجارب محلياً وعالمياً أن التراخي في ردع الإجرام والمجرمين هو المسئول عن كثرة الفساد في الأرض، وفشوا الجريمة فيها جيلاً بعد جيل.

وإقامة حدود الله على المفسدين والمجرمين سبب من أسباب رضا الله علينا في الدنيا والآخرة. وبهذا نرى أن الإسلام حريص على الحرص على حقن الدماء، والتثبت في الجرائم التي تهدرها أو تهدر عضواً من أعضاء الجسم. ومن عرف الإسلام حق معرفته لا يسعه إلا الانقياد والتسليم، ومن تعمق في دراسة أحكامه التشريعية، وتوجيهاته للحكام والمحكومين وولاة الأمور وعامة الناس يسيطر عليه الإعجاب بهذا النظام الرشيد الحكيم، ولكن من جهل شيئاً عاداه، أو الأمر كله كما قال البوصيري - رحمه الله -: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفم طعم الماء من سقمٍ * * *

التوضيح الثالث قتل المرتد لا يصادر حرية الاعتقاد في الإسلام

التوضيح الثالث قتل المرتد لا يصادر حرية الاعتقاد في الإسلام حرية الاعتقاد في الإسلام مكفولة، ولن تجد في الإسلام نصاً احداً أو واقعة عملية يكره الإسلام الناس فيها على قبوله، سوى قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...." وهذه الآية وهذا الحديث ليسا على عمومهما اللفظي، لإن المقصود من الناس في الحديث، ومن الضمير في {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} هم مشركو العرب خاصة، والمرتدون. وفيما عدا هذا فإن حرية الاعتقاد في الإسلام مكفولة، والنهي عن الإكراه على الدخول في الإسلام وارد في اصل أصوله وهو القرآن الكريم. ومن النصوص القرآنية الدالة على حرية الاعتقاد قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} (الكهف: 29) . وقوله تعالى لرسوله الكريم: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) . وجين أجهد النبي نفسه واشتد حرصه على أن يدخل الناس في الدين نزل عليه قوله تعالى:

{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الأنعام: (35) . وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فاطر: (8) . وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة: (256) . وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يونس: (99) . وفي عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم رجل كان نصرانياً، وكان له ابنان ظلاً على نصرانيتهما. فأراد الرجل أن يجبرهما على الدخول معه في الإسلام لما له عليهما من ولاية الأبوة، ولما استشار في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاه عنه وأمره لا يجبرهما.

أما الحروب والغزوات فلم تكن للإجبار على الدين، وإنما كانت مرحلة متأخرة عن الدعوة إليه. فالمسلمون كانوا يدعون إلى الدين أولاً، فإن أبى المدعوون الدخول فيه فاوضوهم على عقد صلح بين الفاتحين وبينهم، وهو عقد أمن يكون لغير المسلمين فيه ما للمسلمين، فإن ابوا آذنوهم بالحرب، فيكون الحرب حينئذ من اختيار الشعوب المدعوة لا من فرض المسلمين عليهم ليدخلوا في الدين. وبعض غزواته وغزوات الخلفاء كانت حروباً دفاعية لا هجومية كما في غزوة بدر وأحد والأحزاب، وغزو الروم حين تآمروا على الإغارة على المدينة عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة في لذك الوقت. ومن رحابة صدر الإسلام، وإقراره لحرية الاعتقاد قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) إن من سمات عالمية الإسلامة كفالة حرية الاعتقاد بين الناس، وأنه لا يضيق بمخالفيه في العقيدة، ولو عاش العالم كله في شبر واحد من الأرض تحت ولاية الإسلام، ولو كان المخالف له في العقيدة ملحداً أو مجوسياً.

ومن سمات عالمية الإسلام بعد كفالة حرية الاعتقاد أنه أرجأ الفصل بين الطوائف الدينية إلى يوم القيامة، ونهى الناس عن الجدل في العقيدة في هذه الحياة إلا بالتي هي أحسن، لإنه يؤدي إلى نشوب الفتن الدينية، وهي أخطر أنواع الفتن على الإطلاق وإذا أرخى لها العنان دمَّرت الحياة تدميراً. من أجل ذلك قل جل في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17) . ومن حكمة الحكيم سبحانه، ومن عظمة التشريع الإسلامي أن الله تعالى لما نهى البشرية عن الجدل الديني، وأرجأ الفصل بين الطوائف الدينية إلى يوم القيامة، وجعل الحكم في الخلاف بينهم من اختصاصه هو وحده. وجه البشرية كلها بكل طوائفها إلى أن يتسابقوا في الخيرات، وأن يعمل كل على شاكلته ليملأ الفراغ الضخم في الحياة بالعمل النافع لا الضار، وفي ذلك جاء قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 148) .

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} المائدة: (48) . وبهذا حسم الإسلام أسباب الخلاف بين عباده بكل طوائفهم الدينية، سواء كانت كتابية أو غير كتابية، فعمل الخير هو الوجهة التي يوجه إليها الإسلام كل البشر على ما بينهم من اختلاف في العقائد والمذاهب. مهمة الدعاة في الإسلام وفي هذا الإطار تحددث مهمة الدعاة في الإسلام بدءاً من خاتم الرسل إلى أن تقوم الساعة. تلك المهمة هي البلاغ عن الله وبيان ما أنزل الله إلى الناس. وليس من سلطة أحد رسولاً كان أو صحابياً أو تابعياً أو حكماً أو عالماً، ليس من سلطة أحد أن يجبر أحداً على اعتناق الإسلام، لا بقوة السلاح، ولا بأي وسيلة من وسائل الضغط. فالله يقول لإمام الدعاة - صلى الله عليه وسلم -. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ....} الغاشية (21- 22) . ضابط حرية الاعتقاد لكن حرية الاعتقاد لها ضابط ينبغي أن نفهمه. فهي: أولاً: مقصورة على الناس بعضهم بعضاً. فليس لأحد كما قلنا سلطة

إجبار غيره على اعتناق عقيدة معينة، ولو كانت عقيدة الإسلام وإنما عليهم فيما بينهم النصح والإرشاد. وثانياً: يجب أن نستحضر دائماً أنها حرية ليست مستوية الطرفين أمام الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. فليس من كفر كمن آمن، بل هم في الآخرة: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الشورى: (7) . وهم في الدنيا والآخرة كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) . على هذا الأساس يجب أن تُفهم كفالة حرية الاعتقاد في الإسلام، حتى لا يسئ الجاهلون استعمالها فيسووا بين أبي جهل وأبي بكر. الكفر الأصلي والكفر الطارئ: وعلى هذه الأسس فرَّق الفقهاء - رضي الله عنهم - بين الكفر الأصلي غير المسبوق بالإسلام، والكفر الطارئ المسبوق بالإسلام (الردة) فمع أن الكفرين سواء في المصير الآخروي، وهما ذنبان لا يغفران أبداً فإن الكفر الأصلي غير المسبقو بالإسلام لا يهدر دم صاحبه، بل دمه مصون شرعاً، ومجرد كفره لا يوجب عليه عقوبة عاجلة. بل يتمتع بكل حرياته الدينية والإجتماعية تماماً كما يتمتع بها المسلم. فدمه

مصون وماله مصون، وعرضه مصون، لا يتعرض له أحد بأذى في أي مجتمع يسوده الإسلام، اللهم إلا إذا حارب المسلمين أو ظاهر على حربهم أو طعن في دينهم عياناً جهاراً بمثل معاملته. وأما الكفر الطارئ الذي سبقه الإسلام (الردة) فإن الإسلام قد وضع له حداً هو القتل بالضوابط التي أشرنا إليها من قبل، ولكن لا من أجل كفره، بل لإنه جمع إلى الكفر الإضرار بالإسرم وخرج على نظام الجماعة "المفارق لدينه التارك للجماعة" فيصبح عضواً فاسداً يجب بتره حماية للعقيدة، لئلا يكون قدوة سيئة في المحتمع الإسلامي، ولا يعاب الإسلام على هذا، فإن جميع النظم الموضعية المعاصرة - أعني النظم السياسية تحكم بالإعدام على أبنائها إذا ثبت عليهم الخروج عن نظام الدولة فيما يسمى بـ "الخيانة العظمى" ولو بالتخابر مع جهات خارجية أو إفشاء أسرار الدولة التي ينتمي إليها. فعجب لأناس يعيبون الإسلام على مبدأ قد اقتبسته منه كل النظم التي يُطلق عليها: النظم المتحضرة مع الفارق الكبير بين المبدأين. إن عضواً إذا فسد في جسم الإنسان، وخشى منه سراية الفاسد إلى بقية الأعضاء بادر الأطباء إلى بتره. والمسلم إذا ارتد وترك يروح ويجئ بين أفراد المجتمع الإسلامي كان مظنة أن يسرى الفساد منه إلى غيره، وضعاف الإيمان لا يخلو منهم مجتمع مسلم.

والمرتد هو الذي جنى على نفسه قبل الاستتابة والنصح بالردة، وبعد الاستتابة بالإصرار على الردة، لقد ظلم نفسه ولم يظلمه الإسلام. فعلام إذن هذه الضجة والصخب، والإفتراء على الله ورسوله وعلى صالحي المؤمنين؟ أفيقوا أيها المنكرون قبل فوات الأوان. وتذكروا قول الله في أمثالكم ممن دافع عن الباطل: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} (النساء: 109) . * * *

التوضيح الرابع حكمة التشريع في قتل المرتد

التوضيح الرابع حكمة التشريع في قتل المرتد أحكام الشريعة الإسلامية شرعت لمصالح الناس، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، ومن مباحث علماء أصول الفقه مبحث جليل يتعرفون من خلاله على علة كل حكم، والعلة هي الباعث على وجود الحكم والمفسرة لمنشئه، ثم التعرف على حكمة التشريع، وهي الأثر الناتج عن التطبيق العملي للحكم نفسه وقتل المرتد حكم شرعي، علته أو الباعث عليه هي الردة نفسها أما حكمة التشريع فيه فنرجئ الحديث عنها بعد الفراغ من التمهيد الآتي: هدف لأعداء الإسلام: لفت القرآن الحكيم أنظار المسلين في عدة آيات إلى أن ارتداد المسلمين عن دينهم هدف أصيل لأعداء الإسلام. وأمل يداعب أنفسهم في كل وقت، وكسب قد يخضون المعارك الضاربة ضد المسلمين طمعاً في الحصول عليه؟! قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ....} (البقرة: 109) .

وقال: {.... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) . وقال: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران: 69) . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران: 100) . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران: 149) . الردة - إذا - هدف ذو خطر لأعداء الإسلام. ومن يرتد من المسلمين يحقق لأعداء الإسلام هذا الهدف الذي يلوح لهم كل حين، فيكون المرتد جندي فرَّ من معسكر قومه إلى معسكر عدوهم، ويصبح عيناً للأعداء عليهم، فغذا وقع هذا الخائن في يد قومه فماذا يصنعون به؟! أيمنحنونه الأنواط والنياشين أم يضربون عنقه في الحال لدرأ الفساد الذي ينجم عنه؟ وهكذا شأن المرتد الذي لا يرجى اهتداؤه:

* إنه صار عضواً فاسداً أشنع ما يكون الفساد. * إنه صار قدوة سيئة أسوأ ما يكون السوء. * إنه صار محارباً لله ورسوله ولجماعة المسلمين اشد ما يكون الحرب. من أجل ذلك كله قضى الإسلام عليه بالقتل، اتقاءً لشره، وقطعاً لفساده وإفساده. وهذه هي حكمة التشريع الإسلامي في عقوبة المرتد بالقتل. وإن ورمت أنوف وانتفخت أوداج. والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً، وإن تلقه بالشر ينحسمِ * * *

التوضيح الخامس عمن يدافعون؟

التوضيح الخامس عمن يدافعون؟ المعركة المحتدمة الآن ركز فيها الكارهون لما أنزل الله جهودهم ضد عقوبة المرتد العاجلة. وفي الواقع أن هذه الفئة المضللة لا تنكر حد الردة وحده، بل تنكر كل الحدود الإسلامية مع التفاوت في درجات الإنكار. هم - مثلاً - يلغطون - الآن - حول حد الردة ويدعون أنه غير موجود، ولا أساس له من الدين أو الشريعة. اي ينكرون وجوده من الأساس. ويبنون هذا الإنكار على شبهات تافهة رأى القارئ - فيما تقدم - كيف تهاوت شبههم واحدة إثر أخرى، وكيف أن منكري حد الردة يهرفون بما لا يعرفون؟ وهذا الموقف الذي يقفونه من حد الردة، لإنه في زعمهم لا وجود له في الدين أو الشريعة، وهي حيلة زينها لهم الشيطان، يقفونه أمام كل الحدود الإسلامية حتى التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، اللهم الاَّحد البغى فإنهم يتحمسون له لحاجة في نفس يعقوب وقد نادوا به من قبل لقمع الشغب الذي قام به جنود الأمن المركزي في أواخر الثمانينات أما ما عدا هذا فهو عندهم مرفوض. فالزاني لا يجلد ولا يرجم، والسارق لا يقطع، ومدمن الخمور لا يجلد

والوالغ في أعراض الناس لا يجلد. ولهم في ذلك حيل عجيبة قال ببعضها المستشرقون والمبشرون من قبل. فالحدود كلها عندهم "موديل قديم" انتهى عصره، أو عملة ترجع إلى عهد أهل الكهف علاها الصدأ وتآكلت ... ؟ وكراهية الحدود الإسلامية هي السبب في كراهية تطبيق الشريعة فكلما نودي بتطبيق الشريعة تصدوا للنداء وخوَّفوا من الرجوع إلى الوراء: إلى عصور الظلام والجهل والرجعية، والجمود والتخلف؛ لإن الإسلام عند هؤلاء، كما قال أحدهم عام 1991م كان يناسب عقلية القرن الأول من الهجرة، أما في القرن الخامس عشر فلم يعد الإسلام قادراً على قيادة العقل المعاصر في القرن العشرين؛ لإنه عقل زكي ومثقف ووليد حضارات إنسانية زاهرة. وهذا بالضبط قاله من قبل عام 1985م أحد الكارهين لما أنزل الله حيث وصف القرآن الكريم بأنه "كتاب متخلف"؟! أي غير صالح للعمل به الآن. وكانت ثالثة الأثافى أن وصف كاره آخر لما أنزل الله في هذا العام: 1993م كتاب الله العزيز بأنه "كتاب جبان" كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

فالمسألة إذن ليست مسألة حدود إسلامية، بل هي عداء سافر للإسلام كله جملة وتفصيلاً؟! ولنا أن نسأل في ختام هذه المواجهة: عمن يدافع هؤلاء الكارهون لما أنزل الله؟ والجواب: "إنهم يدافعون عن الفساد والمفسدين، وعن الإجرام والمجرمين وكفى بذلك فتنة في الأرض وفساداً كبيراً. والحمد لله في الأولى والآخرة. * * * القاهرة الظاهر: صبيحة الأربعاء 7 - ربيع الأول 1414 هـ 25 - أغسطس 1993 م

§1/1