عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة

ابن شاس

[مقدمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا [مقدمة] قال الإمام الأكمل جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس وفقه الله وسدده وغفر له ولجميع المسلمين: الحمد لله الذي فضل العقلاء بالعلم على سائر مخلوقاته، وجعل منازلهم في الفضل بحسب تفاوتهم في درجاته، وشرف على سائر أنواعه ما بعث به رسله وأنبياءه، وأعظم على من جعل ذلك كسبه نعمه وآلاءه، ورفع بعض العلماء على بعض، وفي فهم ما تضمنه آي الكتاب العزيز وصحيح الروايات، من الحث على القربات، والزجر عن الموبقات، والإذن في المباحات، والصلاة [والسلام] على أفضل رسله، محمد وعلى [آله] وأصحابه، أولي الرتب السنية والدرجات. أما بعد، فهذا: تاب بعثني على جمعه - في مذهب عالم المدينة إمام دار الهجرة أبي عبد الله [مالك] بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارثي بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن حمير بن سبأ، رضوان الله عليه - ما رأيت عليه كثيرا من المنتسبين إليه في زماننا، من ترك الاشتغال به والإقبال على غيره، حتى لقد صار ذلك دأب كثير ممن يرى نفسه، أو يرى، من المتميزين، وجل من يعد من حذاق المتفقهين، ولم [أسمع] من أحد منهم، ولا بلغني [عنه] أنه كره منه سوى تكريره وعدم ترتيبه، حتى اعتقد بعضهم أنه لا] مكن ترتيبه، بل يشق ويتعذر، ولا تنحصر مسائله تحت ضوابط، بل تتباين وتتبتر، فصرفهم عدم اعتناء أئمة المذهب بترتيبه عن استفادة ما اشتمل عليه من تحقيق المعاني

النفيسة الدقيقة، واستنباط الأحكام الجارية على سنن السلف الصلاح بأحسن طريقة، واستثارة الأسباب والحكم التي هي على التحقيق عين الحقيقة، فكانوا كالمعرض عن المعاني النفيسة لمشقة فهمها، والمضرب عن الجواهر الثمينة لتكلف نظمها. وقد استخرت الله تعالى، وشرعت في نظم المذهب (بأسلوب) يوافق (مقاصدهم) ورغباتهم، ويخالف ظنونهم فيه ومعتقداتهم، فحذفت التكرار الذي عيبوا أئمة المذهب إذ لم يحذفوه، وحللت النظام الذي كرهوه، ثم نظمته على ما جنحوا إليه وألفوه. ولم يترك أئمة المذهب سلوك هذا الطريق لاستهجانه لديهم، ولا لتعذره عليهم، بل لأنهم قصدوا بتصانيفهم محاذاة سؤالات المدونة (إذ كانت) ما بين شرح وتلخيص وتنكيت وشبه ذلك على الكتاب المذكور، وهو كما قد علم سؤالات لم يعتن موردها بترتيبها، وحيث قصد الترتيب بعض المتأخرين منهم، أتى فيه بما لم يسبق إليه. ولما كان كتاب الوجيز، لأبي حامد الغزالي رحمه الله، من آخر ما حرر مما حرره غيره من متقدمي الأئمة ومتأخريهم، فكان غاية منتهى التحرير، لخصت المذهب في هذا المجموع على القرب من محاذاته، فنظمت فيه فرائد درر أحكامه المكنونة، وأظهرت جواهر معانيه النفيسة المصونة، واستخرجت بالفحص والتأمل خفايا حكمه الدفينة، وسميته لانتظامه وكماله: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، تنبيها على مقصد الكتاب وإرشادا إليه، وتعريفا لصاحب المذهب بما عرفه به صاحب الشريعة صلوات الله عليه، إذ قال: " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم

المدينة "، رواه أبو عمر بن عبد البر ن بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعقب روايته: رواته أئمة كلهم، سفيان بن عيينة إمام، وابن جريج إمام مثله وأجل منه، وأبو الزبير حافظ متقن، وأبو صالح السمان أحد ثقات التابعين، وكان أبو هريرة بقول فيه إذا نظر إليه: ما يضر هذا أن لا يكون من بني عبد مناف، ثم رواه من عدة طرق عن أبي هريرة، ورواه أيضا عن أبي موسى الأشعري. وكذلك رواه (أبو عيسى) الترمذي أيضا من عدة طرق، واستحسنه وصححه ثم قال: " قال عبد الرزاق وابن عيينة: هو مالك بن أنس، وأما العمري عبد العزيز بن عبد الله فلم يكن بعلام، وإنما كان متزهدا. وقال سفيان بن عيينة أيضا: " كانوا يرونه مالكا ". قال عبد الرحمن بن مهدي: يعني من أدرك، وقد أدرك التابعين ".

وتأول ذلك فيه أيضا ابن مهدي، وعبد الملك بن جريج، ووكيع وغيرهم من يكثر تعدادهم. والله المسئول أن يجعل السعي في تأليف هذا الكتاب خالصا لوجهه برحمته، وينفع به من قصد الانتفاع بتحصيله [وقراءته]، ويكتبه من صالح العمل، ويجنب فيه الزيع والزلل والخطأ والخطل، فالصواب أردت، ووجه الله الكريم قصدت، وهو سبحانه يسعف بالإجابة ويسدد [للإصابة]، فإنه منعم كريم.

كتاب الطهارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا] كتاب الطهارة وفيه أحد عشر بابا: الباب الأول: في أحكام المياه وأقسامها قال الله (تبارك) وتعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}. وقال تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. فالمطهر للحدث والخبث هو الماء (وحده) من بين سائر المائعات. ثم المياه ثلاثة أقسام: الأول: المطلق، الباقي على أوصاف خلقته من غير مخالط له، فهو طهور، ومنه ماء البحر وماء البئر، وكل ماء نبع من الأرض أو نزل من السماء على أي صفة كان من أصل

الخلقة. ويلحق بهذا القسم المتغير بطول المكث، وبالتراب أو الزرنيخ لجريه عليهما، وبالطحلب، وكل ما كان من قراره أو متولدا عنه، أو لا ينفك عنه غالبا. القسم الثاني: ما خالطه ما لم يغير أحدا أوصافه، فهو باق على حكمه في الطهورية. وأطلق ابن القاسم القول بترك استعمال القليل المخالط بالنجاسة وإن (كان) لم يتغير، والعدول إلى التيمم. وقال أيضا: إن توضأ به وصلى، أعاد ما دام في الوقت. فحمل قوله بالترك على الكراهية لتقييده الإعادة بالوقت، وحمل على التنجيس لإطلاقه القول بترك استعماله والعدول إلى التيمم. ورواية المدنيين أنه طهور، لكن كرهوه للخلاف فيه. وقيل: هو مشكوك فيه، فيجمع بنيه وبين التيمم. ثم اختلف في (البداية) بالوضوء (به) قبل التيمم، أو بالتيمم [قبل الوضوء] على قولين: أحدهما: أنه يتوضأ به ثم يتمم ويصلي صلاة واحدة، إذ الماء طهور والتيمم مراعاة للخلاف. والثاني: أنه يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ (به) ويصلي، لئلا يلقي الأعضاء بذلك الماء، وهذا قول من قوي عنده تنجيسه، لكن أمرا بالوضوء به مراعاة للخلاف. فرع: فإن أحدث بعد وليس إلا ذلك الماء، فإنه يتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة على القولين جميعا، لأن ملاقاة الأعضاء قد حصلت، قال ذلك أبو الحسن اللخمي وغيره. ووقع للشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي في القليل إذا

خالطه طاهر أنه يسلبه التطهير وإن لم يغيره. فرع: الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر مطهر إذا كان الاستعمال لم يغيره، لكنه مكروه مع وجود غيره مراعاة للخلاف. وقال أصبغ: طاهر غير مطهر، ونزله القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي على قول الشيخ أبي الحسن. وقيل: إنه طاهر مشكوك في تطهيره فيتوضأ به ويتيمم ويصلي صلاة واحدة. القسم الثالث: ما خرج عن وصف خلقته لمخالط غير أحد أوصافه، لونه أو طعمه أو (ريحه)، مما ينفك عنه غالبا وليس بقرار له، ولا متولد عنه، فيسلبه ما خالفه فيه من أصل الطاهرة أو صف الطهورية. ولم يعتبر عبد الملك بن الماجشون تغير الريح. قال الشيخ أبو الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التتوخي: " ورأى بعض أشياخي أن هذا القول منزل على التغير.

الباب الثاني: في أحكام النجاسات

بالمجاورة لا بالحلول. فرعان: الأول: المتغير بالتراب المطروح قصدا، فيه قولان: المشهور أنه طهور، إلحاقا للطارئ بالأصلي. ورأى في الشاذ عدم الانفكاك وتعذر الاحتراز في الأصلي قاطعا للإلحاق. وفي تنزيل الملح منزلة التراب أو الأطعمة قولان للشيخين، أبي محمد عبد الله بن أبي زيد، وأبي الحسن. وفرق ثالث، فجعل المعدني كالتراب، والمصنوع كالطعام. الفرع الثاني: إذا كان عدم الانفكاك عن مخالط (ما) تختص ببعض المياه، فهل يؤثر فيما يختص به لأنه لا يعم أو لا يؤثر إذ لا ينفك الماء عنه؟ في ذلك قولان. الباب الثاني: في أحكام النجاسات وفيه فصول: الفصل الأول: في تمييز الأعيان الطاهرة عن النجسة والجمادات كلها على الطهارة إلا الخمر، وفي [معناها] كل نبيذ مسكر. ونعني بالجماد ما ليس (بذي) روح، ولا منفصل من ذي روح. والحيوانات كلها على الطهارة، وأطلق ابن (الماجشون) وسحنون على الكلب لفظ التنجيس. قال الشيخ أبو الطاهر: " ويحتمل هذا القول البقاء على ظاهره، فيكون نجس العين

كما قاله المخالف، أو يكون المراد به أنه مما يستعمل النجاسات، فينجس سؤره لا عينه ". والميتات كلها على النجاسة إلا دواب البحر، وما (ليس له نفس) له سائلة من دواب البر، وكذا الآدمي على أحد القولين. وكذلك دود الطعام طاهر ولا يحرم أكله مع الطعام، وكل ما ليس له نفس سائلة لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما مات فيه من ماء أو مائع. أما أجزاء الحيوان، فاللحم حكمه ما تقدم، والعظم والقرن والظلف والسن كاللحم. وقال ابن وهب: لا ينجس شيء منه بالموت. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولين في إلحاق أطراف القرون والأظلاف التي لا تحلها الحياة بأصولها أو بالشعور. والشعور طاهرة من كل حيوان، وقيل: باستثناء شعر الخنزير. والأصواف والأوبار في معنى الشعور.

فرعان: الأول: حكم ناب الفيل، وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: إلحاقه بالعظام، والحكم بطهارته، وهما على ما تقدم في أطراف القرون والأظلاف. والقول الثالث: التفرقة بين أن يصلق فيكون طاهرا، أو لا يصلق فيكون نجسا. الفرع الثاني: حكم الريش، وهو الطهارة في شبيه الشعر منه. وأما ما فيه من شبيه العظم، (فما) حله الدم والرطوبة (من ذلك)، كالعظم، وما بعد فهو على القولين المتقدمين. وأما الجلد فهو كاللحم أيضا، لكن أجازوا تذكية السباع لأخذ جلودها. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا على القول بأنها مكروهة اللحم ". قال: " وأيضا فإن الدباغ يعمل في جلد الميتة فينقله عن النجاسة، فقد صار الجلد أخف من اللحم ". هذا حكم الأجزاء بعد الموت. فأما ما أبين منها في حال الحياة، فهو ميت إلا الشعور وما في معناها. [و] أما الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان، فهي قسمان: الأول: كل مترشح ليس له مقر يستحيل فيه، كالدمع والعرق واللعاب وما في معنى ذلك، فهو طاهر من كل حيوان. فرع: ما ذكرناه من طهارة اللعاب يقتضي طهارة أسآر جميع الحيوان، وقد انفرد سؤر الكلب بحكم أثبته له الحديث الصحيح، وهو غسل الإناء من ولوغه سبعا.

والنظر في سبب هذا الغسل وحكمه وما يتعلق به سوى ذلك ينحصر في ثمانية أحكام: الأول: سببه هل هو الاستقذار والنهي عن مخالطته، أو التعبد؟ وظاهر إطلاق عبد الملك وسحنون يقتضي أنه النجاسة. وإذا فرعنا على أن الغسل لغير النجاسة، فهل هو على الندب أو الوجوب؟ وهو الحكم الثاني، (و) فيه روايتان. وكذلك في إلحاق الخنزير به، وهو الحكم الثالث، ويتخرجان على تحقيق العلة. ويتخرج عليه أيضا، الخلاف في اختصاص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، أو تعميمه في جنس الكلاب، وهو الرابع. الخامس: أنه في الماء خاصة، في رواية ابن القاسم. وروى ابن وهب أن إناء الطعام بمنزلته في ذلك. السادس: إراقة الماء والطعام، وفيه ثلاثة أقوال: إراقتهما، وترك الإراقة فيهما، وتخصيصها بالماء دون الطعام. الحكم السابع: وفي غسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه. وقد قال القزويني من علمائنا: لا أعلم لأصحابنا فيه نصا. وحكى الشيخ أبو الطاهر عن بعض أشياخه: " أنه ذكر أن المذهب على قولين في ذلك، وهما خارجان على تحقيق العلة أيضا ".

الحكم الثامن: أنه يغسل لجماعة الكلاب سبعا، وللكلب الواحد إذا تكرر الفعل منه سبعا. وقيل: (يغسل) سبعا سبعا. وسبب الخلاف: هل الألف واللام للجنس أو إشارة إلى الكلب الواحد، ويعتضد المشهور بأن الأسباب إذا تساوت موجباتها اكتفى فيها حبكم أحدها. فرع مرتب: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري: " وحيث قلنا يغسل الإناء، فإنما ذلك عند إرادة الاستعمال، هذا مذهب الجمهور. قال: وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله ". القسم الثاني: من الأجزاء المنفصلة عن باطن الحيوان ما له مقر يستحيل فيه، وهو نوعان: الأول: ما يستحيل إلى فساد، فأصله على النجاسة إلا المسك وفارته، وذلك: كالدم، والمسفوح منه متفق على نجاسته، وغير المسفوح غير نجس، وفيه خلاف شاذ، تبعا للخلاف في جواز أكله، ودم الحوت كغيره من الدماء. وقال الشيخ أبو الحسن: هو طاهر. وقال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي: " لمالك فيه وفي دم الذباب والقراد قولان. قال: والصحيح أنه طاهر، لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته ". وفي معنى الدم المسفوح القيح والصديد وما في معناهما. وكالبول والعذرة وهما نجسان من بين آدم. وقيل بتخصيص من لم يأكل الطعام من الآدميين بطهارة بوله. وقيل: ذلك في الذكر دون الأنثى. وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، نجسان من كل محرم الأكل، مكروهان من المكروه أكله، وقيل: بل نجسان منه أيضا. وكالمذي وهو نجس بإجماع، وفي معناه الودي.

والمذهب أن المني نجس وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس، هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وعلى تحقيقه يخرج حكم طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوان. النوع الثاني: ما يستحيل إلى صلاح، وذلك كالألبان والبيض. فأما الألبان فإنها تتنوع إلى لبن الآدميات، وما يؤكل لحمه من الحيوانات، ولا خلاف في طهارته، وإلى لبن الخنزيرة، ولا خلاف في نجاسته، وإلى لبن سائر الحيوانات وفيه ثلاثة أقوال: الأول: الطهارة قياسا على لبن بنات آدم. الثاني: أنها تابعة للحومها، لأنها فضلاتها. الثالث: أنها مكروهة من المحرم الأكل. وأما البيض، فقال الشيخ أبو الطاهر: " هو في معنى الألبان، ولا تفصيل عندنا فيه لأنه من الطير وهو مباح، قال: ولا نريد بذلك ما يحكى من بيض الحشرات، لأنه من الخبائث ". قال: " ويأتي بيان حكمها على أصل المذهب في كتاب الذبائح ". فروع: الأول: استعمال الحيوان النجاسة، هل ينجس ما يكون منه؟ كعرق السكران والنصراني ولبن الجلالة ولبن المرأة إذا شربت الخمر، وبيض ما يأكل النجاسة أو يشربها. حكى الشيخ أبو الطاهر عن المذهب في ذلك قولين، قال: " وهما جاريان في كل نجاسة تغيرت أعراضها، كرماد الميتة، وما تحجر في أواني الخمر، وما في معنى ذلك ". وجعل مثار الخلاف النظر إلى الأصل وهو نجس، أو إلى الانتقال وقد تغيرت الأعراض. وقال أبو محمد عبد الحق: " الصواب طهارة جميع الأعراق، إذ ليس العرق نفس ما

يؤكل ويشرب من النجاسة، قال: وعلى هذا حذاق أهل المذهب ". واختار طهارتها أيضا الإمام أبو عبد الله. الفرع الثاني: ما عادته استعمال النجاسة في الغالب ولا يمكن الانفكاك عنه غالبا كالهر للحاجة إليه، وتلحق به الفأرة في تعذر الاحتراز منها، فلا أثر لشربه إلا أن تعلم نجاسة فمه عند الشرب، فيكون حكمه حكم ما حلته نجاسة. الفرع الثالث: ما يمكن الاحتراز منه، كالطير (التي) تأكل النتن، فإن قطع بنجاسة أفواهها أو طهارتها، عمل عليه، وإن لم يقطع بإحداهما، ففي الحكم لها بالأصل أو بالغالب ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيحكم بالأصل في الطعام لحرمته، وبالغالب في الماء ليسارته. الفرع الرابع: من غالب حاله استعمال النجاسة، كأهل الذمة وشاربي الخمر، فسؤره ملحق بسؤر ما عادته استعمالها. وحكم ما لبس هؤلاء من الثياب أن لا يصلي فيها حتى تغسل، لان الغالب نجاستها. فإما ثياب غيرهم، فإن كانوا غير مصلين، فحكمها حكم ثيابهم، إلا فيما كان على الرأس. وإن كانوا يصلون، صلى بثيابهم وإن لم تغسل، إلا ما كان يشد في الوسط، فإنه يغسل على الإطلاق، لقلة من يعرف الاستبراء من غير العلماء، وفي معناه، ما يحاذي الفرج من غير حائل.

الفصل الثاني: في إزالة النجاسة، والنظر في حكمها ومقصودها وكيفيتها

الفصل الثاني: في إزالة النجاسة، والنظر في حكمها ومقصودها وكيفيتها النظر الأول في حكمها: وقد اختلف المتأخرون من العراقيين وأهل المغرب في تقرير المذهب، فالقاضيان أبو الحسن علي بن عمر بن القصار، وأبو محمد عبد الوهاب في تلقينه، يريان أن المذهب كله على وجوب الإزالة، وإنما الخلاف في إعادة من صلى بنجاسة خلاف في كون إزالتها شرطا في صحة الصلاة أم لا؟ وغير هذين والقاضي أبو محمد أيضا في شرح الرسالة، يقولون: المذهب كله على أن الإزالة سنة، وإنما الخلاف في الإعادة خلاف في إعادة تارك السنن متعمدا. وأبو الحسن اللخمي وغيره من متأخري المغاربة، يرون أن المذهب على ثلاثة أقوال: وجوب الإزالة مطلقا، وهو مقتضى رواية ابن وهب، إذ فيها الإعادة، وإن خرج الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا. ونفي الوجوب مطلقا، نو هو مقتضى قول أشهب، لأنه استحب الإعادة في الوقت، عمدا، صلى بها، أو نسيانا.

والوجوب مع الذكر والقدرة دون النسيان والعجز، وهو مقتضى الكتاب؛ لأنه أوجب الإعادة على غير المعذور وإن خرج الوقت، وأمر بها المعذور في الوقت خاصة. وقال الإمام أبو عبد الله: " اضطرب الحذاق من أهل المذهب في العابة عن ذلك، فالجاري على ألسنتهم في المذاكرات والإطلاقات أن المذهب على قولين: أحدهما: أن غسل النجاسة فرض. والآخر: أنه سنة، إطلاقا لهذا القول من غير تقييد، ثم قال ومن أشياخي من يعبر عن هذا، فيقول، المذهب على ثلاثة أقوال: وأشار إلى ما تقدم عن أبي الحسن اللخمي ". النظر الثاني: في مقصودها، وهو إذهاب العين والأثر، لكن خفف الشرع عن المكلف فعفا عنهما في بعض [أقسامها]، وعن بعض العين في قسم آخر، وعن الأثر دون العين في ثالث، فلا جرم انقسمت النجاسة في حكم الإزالة أربعة أقسام: القسم الأول: يعفى عن قليله وكثيره ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش جدا، فيؤمر بها. وهذا القسم هو كل نجاسة لا يمكن الاحتراز عنها، أو يمكن بمشقة كبرى، كالجرح يمصل، والدمل يسيل، والمرأة ترضع، والأحداث تستنكح، والغازي يفتقر إلى إمساك فرسه، وخص مالك هذا ببلد الحرب، وترجح في بلد الإسلام. القسم الثاني: يعفى عن اليسير منه إذا رآه في الصلاة، ويؤمر بغسله قبل الدخول فيها. وقيل: لا يؤمر بذلك، وهو الدم، وهل يلحق به، في العفو قليل القيح وقليل الصديد؟ أو يلحقان بقليل البول؟ في ذلك قولان. فرعان الأول: أن الدماء (كلها في ذلك سواء)، ودم الحيضة ودم الميتة كغيرهما على المشهور. وقال ابن وهب وابن الماجشون: أن يسير دم الحيض وكثيره سواء، ورواه ابن وهب وابن أشرس. وقال ابن وهب أيضا: لا يعفى عن قليل دم الميتة، كدم الحيض.

الفرع الثاني: حيث قلنا بالعفو عن اليسير، فما حده؟ قال أبو بكر بن س ابق: لا خلاف عندنا أن ما فوق الدرهم كثير، وأن ما دون الدرهم قليل. وحكى في قدر الدرهم روايتين لعلي بن زياد، وابن حبيب، بالقلة والكثرة. وحكى الشيخ أبو الطاهر أن اليسير هو مقدار الخنصر، وأن الخلاف فيما بين الدرهم إلى الخنصر. القسم الثالث: يعفي عن أثره دون عينه، وهو الإحداث على المخرجين، والدم على السيف الصقيل، وفي معنى ذلك الخف يمشي به على أبوال الدواب وأرواثها، وفيه قول: أنه يغسل، كما لو مشى به على الدم والعذرة. فروع أربعة: الأول: لو مشى ماسح خفه على نجاسة ولا ماء معه، فليخلعه ويتيمم، لان التيمم بدل عن الوضوء، والنجاسة لا بدل لها. الثاني: إلحاق النعل بالخف، فقال مالك: يدلكه ويصلي به. وقال ابن حبيب: لا يجزئه ذلك لخفة النزع. وقال القاضي أبو بكر: " والأول أصح ".

الثالث: الرجل يمشى بها على النجاسة، هل يجب غسلها لخفته أو تلحق بالنعل لتكرر ذلك؟ وفيه قولان أيضا. وقال القاضي أبو بكر: " إن كان عن عذر فهو كالخف ". الرابع: إن المرأة لما كانت مأمورة بإطالة الذيل للستر كعادة العرب، جعل الشارع ما بعده مطهرا له كما جاء في الحديث. ولا خلاف في ذلك عندنا إذا كان جافا، ومعناه أنه بنشره لجفافه، فإن كان رطبا فلا بد من غسله كسائر النجاسات، وفيل: بل يطهره ما بعده لعموم الحديث. وألحق الأصحاب بذلك من مشى برجل مبلولة على نجاسة، ثم على موضع جاف. (وأما) طين المطر فمعفو عنه، قال الشيخ أبو محمد: ما لم تكن النجاسة غالبا أو عينها قائمة. قال الشيخ أبو الطاهر: " قال المتأخرون: ولو كانت كذلك وغلبت وافتقر إلى المشي، لم يجب غسله، قياسا على الأم ترضع ". القسم الرابع: ما عدا ما ذكرناه، وهذا القسم يزال كثيره وقليله، وعينه وأثره. النظر الثالث: في كيفية إزالتها. ولا يكفي مرور الماء على المحل، بل لا بد من إزالتها عنه بإذهاب العين والأثر. ويتم الغرض من الإحاطة بالمقصود برسم فروع. الأول: لو بقي الطعم بعد زال الجرم في رأي العين، فالمحل نجس؛ لان بقاءه دليل على بقائه. وكذلك لو بقي اللون أو الريح، وقلعه متيسر بالماء، فإن تعسر قلعه عفي عنه، وكان المحل طاهرا. الفرع الثاني: إذا انفصلت الغسالة عن المحل متغيرة، فهي نجسة وهو نجس، وإن انفصلت غير متغيرة فهما طاهران. الثالث: أنه لا يشترط الاستقصاء في إزالة الغسالة عن محل النجاسة بعد انفصال الماء

غير متغير بل يطهر وإن لم يعصر الثوب، ولا استقصي في إزالة الرطوبة عن الإناء، لأن المنفصل من الماء عن المحل جزء من المتصل، والمنفصل طاهر، فالمتصل مثله، فيستوي انفصال الكل والبعض. الرابع: إن إزالة جرم النجاسة عن المحل بغير الماء لا يطهره، بل يبقي حكم النجاسة. الخامس: إذا تدمى فمه فمجه بريقه حتى ذهب، ففي افتقاره إلى غسله أو طهارته بريقه، قولان لعلمائنا، حكاهما القاضي أبو بكر، ثم قال: " والصحيح طهارته بالماء، وإن كان كثيرا، وإن كان يسيرا عفي عنه، ولا يطهر الريق بحال ". السادس: قال القاضي أبو بكر: " إذا مسح الجسم الصقيل من النجاسة كالصارم والمدية ونحوه، فإن مسحه يجزي عن غسله لأنه يفسده، وقيل: لأنه (لا يبقى من النجاسة فيه) شيء ". فأما لو مسح موضع النجاسة من البدن أو الثوب مسحا بالغا فلم يبق منها شيء، يعني في رأي العين، فقال القاضي أبو بكر: " اختلف المتأخرون فيه، هل يلزم غسله أم لا؟ ثم قال: والصحيح وجوب الغسل لأنه لا بد من بقاء جزء منها (ملتصق) بالمحل وإن خفي ". واعلم أن مفهوم هذا التعليل يشير إلى أنه لو تحقق زوال جميع أجزائها لطهر المحل، وإن لم يستعمل فيه الماء. وهذا إنما يستمر مع البناء على تعليل المسألة السالفة بالعلة الثانية، فإما على العلة الأولى، والمشهور الاعتماد عليها، فلا يطهر المحل بحال. وأما لو مسح موضع المحاجم ولم يغسله، فيعيد إن صلى ما دام في الوقت. وقال ابن حبيب: لا إعادة عليه. قال القاضي أبو بكر: " والصحيح أنه لا إعادة عليه، لأن ما بقي في محل المحجمة دم يسير في حد المعفو عنه، قال: والفرق بين هذا وبين ما تقدم، أن هذا الدم الباقي من نفس المحل دعت الحاجة إليه، والأول طرأ عليه من غير حاجة، فتضادا فافترقا. فرع: هذا حكم تحقق النجاسة وتحقق إصابتها للثوب أو (للجسد)، ويختص

بمحل الإصابة إن تميز له، فإن لم يميزه كان الحكم عاما في جميع الثوب والجسد، كما لو أصابت جميعه. فإن تحققها وشك في إصابتها للثوب فتطهيره النضح. وإن تحقق الإصابة وشك في النجاسة، فقولان. وإن شك فيهما فلا نضح. ثم حيث قلنا: ينضح، ففي افتقاره إلى نية قولان للمتأخرين، مأخذهما النظر إلى كونه تعبدا، إذ هو تكثير للنجاسة لا إزالة لها، أو النظر إلى كونه تطهيرا عنها. وحكم الجسد في النضح حكم الثوب في ظاهر المذهب. وقال بعض المتأخرين: يغسل، بخلاف الثوب، واستقرأه من المدونة. فرع مرتب: لو صلى من أمرناه بالنضح دون أن ينضح، فقال ابن القاسم وسحنون وعيسى بن دينار: يعيد الصلاة لأنه تارك فرض الطهارة، فلزمه إعادة الصلاة كالغسل. وقال أشهب وابن نافع وابن الماجشون: لا إعادة عليه، وعلله القاضي أبو محمد بأن النضح مستحب. وقال القاضي أبو بكر: " وهذا ساقط بل النضح واجب، وإنما فيه نكتة بديعة، وذلك أن الغسل شرع لإزالة النجاسة لأجل الصلاة مع ضرب من التعبد، والنضح تعبد محض لا إزالة فيه، فتركه ترك فرض لا يؤثر في الصلاة ". وقال ابن حبيب: يعيد أبدا في العمد والجهل، إلا إنه لم ير ذلك فيمن احتلم في ثوبه فلم ينضح ما لم يره، لخفه النضح عنده في ذلك. قال بعض المتأخرين: ولم يقل أحد من الأصحاب بالإعادة مع النسيان.

الفصل الثالث: في حكم النجاسة تطرأ على الماء كيف تزال

الفصل الثالث: في حكم النجاسة تطرأ على الماء كيف تزال أما إن غيرته، فيزال جميعه. فإن أقام حتى زال تغيره، فقولان: أحدهما: أنه كالبول مثلا، فلا ينتقل حكمه. الثاني: أنه يرجع إلى أصله. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهما على الخلاف في النجاسة إذا تغيرت أعراضها، كدماء الميتة وعرق السكران، وشبه ذلك ". ثم إذا أزيل جميعه كما قلنا، فإن كان له مادة كالآبار، فالاعتبار بأن يخلفه غير متغير، وإن لم تكن له مادة أزيل الجميع ما دام متغيرا، فإن أزيل بعضه فزال التغيير بإزالته ففي طهارته قولان، وهما على ما تقدم، إذا تغير ثم عاد إلى الأصل. وأما إن لم يتغير الماء، فيجري على الخلاف المتقدم، إلا أنه يؤمر بأن ينزح من البئر (التي) تموت فيها الدابة، وإن لم يتغير بحسب كبر الدابة وصغرها، (وكثرة الماء وقلته). قال المتأخرون: وذلك توق واستحباب. وأما ما تغير من الآبار، فلا بد من نزحه إجماعا، حتى يزول التغير. وقال الشيخ أبو بكر محمد بن صالح الأبهري: أصحاب مالك يفرقون بين ما وقع في الماء فمات، وبين ما وقع ميتا. قال: فما فاضت روحه في الماء يأمرون بنزحه لجواز أن ينفصل منه شيء، أو يخرج مع الروح شيء من ريقها. وأما ما وقع فيه ميتا وأخرج من غير تغيير الماء، لم يضره. والواجب أن الماء طاهر حتى يتغير من النجاسة. قال أبو بكر بن سابق: والذي قاله الأبهري صحيح.

الباب الثالث: في الاجتهاد بين الطاهر والنجس

الباب الثالث: في الاجتهاد بين الطاهر والنجس ومهما اشتبه (إناء نجس بإناء طاهر)، قال العلماء: ويتصور ذلك على القول بأن ما لم يتغير لا ينجس، بأن يتغير الماء بالقرار ثم تطرأ عليه نجاسة كثيرة مما تغيره ولا يظهر التغير، أو تكون الأواني متغيرة تغيرا واحدا بعضها بشيء طاهر، لم يسلبه التطهير وبعضها بشيء نجس. وإذا تقول ذلك، فقال سحنون: " يتيمم ويتركها، وقال ابن الماجشون وسحنون في قول له آخر: يتوضأ بأحدها ويصلي، ثم يتوضأ بالآخر ويصلي، حتى يفرغ جميعها، وبه قال محمد بن مسلمة، وزاد: ويغسل أعضاءه من الإناء الآخر قبل أن يتوضأ به ". قال الأصحاب: وهو الأشبه بقول مالك، واختاره القاضي أبو محمد، (وقال به) القاضي أبو الحسن إذا قلت الأواني: وقال محمد بن المواز ومحمد بن سحنون: يتحرى أحدهما فيتوضأ به ويصلي، ويجزيه كما يتحرى بالقبلة. وقال به القاضي أبو الحسن إذا كثرت الأواني، قالا: ولا يجوز له أخذ أحد الأواني إلا بالاجتهاد وطلب علامة تغلب على الظن الطهارة، ثم من شرط الاجتهاد أن يعجز عن الوصول إلى اليقين، فإن كان معه ماء يتقين طهارته أو كان على شط نهر امنتع الاجتهاد.

فروع: الأول: لو صلى بماء غلب على ظنه أنه طاهر، ثم تغير اجتهاده واختلف اعتقاده، فإن كان على اليقين بخطئه في اجتهاده الأول، غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة. وإن تغير إلى الظن بذلك، فيتخرج على القولين في نقض الظن بالظن، كالمصلي إلى القبلة باجتهاده، ثم غلب على ظنه أنه أخطأ. الفرع الثاني: وهو مرتب على قول محمد بن مسلمة: لو كان معه إناءان فتوضأ بهما وصلى على ما تقدم، ثم حضرت صلاة ثانية، فإن كانت طهارته باقية وهو يعلم الإناء الذي توضأ به ثانيا، صلى بالطهارة التي هو عليها، ثم غسل أعضاءه من الإناء الذي توضأ به أولا، ثم توضأ به وصلى. وإن لم يكن على طهارة، أو كان عليها ولم يعلم الإناء الذي توضأ به آخرا، توضأ بالإناءين كما فعل أولا. الفرع الثالث: إذا اشتبهت الأواني على رجلين، فتحرى كل واحد منهما غير ما تحراه غيره، فقال الإمام أبو عبد الله: " لا يصلي أحدهما مؤتما بصاحبه في الصلاة التي تطهر لها بالماء الذي خالفه فيه، لاعتقاده أنه مخطئ. قال: وكذلك لو كثرت الأواني وكثر المجتهدون واختلفوا، فكل من ائتم منهم بمن يعتقد أنه تطهر بالماء النجس، فلا تصح صلاته لما قدمناه ". الفرع الرابع: حيث قلنا بالاجتهاد بين المائين، فهل يجتهد بين الماء والبول؟ قال الأستاذ أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي: يجوز التحري بينهما، قال: هكذا خرجه القاضي أبو محمد على قول ابن المواز. وقال القاضي أبو بكر أيضا: " وهو الذي تقتضيه أصولنا، ثم قال: وبه أقول ".

الباب الرابع: في الأواني

الباب الرابع: في الأواني وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: (في) المتخذ من الجلود واستعماله جائز، بشرط أن يكون الجلد طاهرا، وطهارته بالذكاة فيما يؤكل لحمه، وفي تطهيرها لجلد ما لا يؤكل لحمه خلاف. وبالدباغ في الجميع، إلا جلد الخنزير. وكيفية الدباغ نزع الفضلات بالأشياء المعتادة في ذلك. قال ابن نافع: ولا يكفي التشميس. ثم الجلد طاهر ظاهره وباطنه، وجائز بيعه على إحدى الروايتين، وبها قال ابن وهب. والأخرى وهي المشهورة من المذهب، أنه طاهر طهارة مخصوصة يجوز بها استعماله في اليابسات، وفي الماء وحده من بين سائر المائعات، ولا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا عليه. الفصل الثاني: في المتخذ من العظام ويشترط أن يكون العظم طاهرا أيضا، وقد تقدم حكمه في الطهارة والنجاسة. الفصل الثالث: في أواني الذهب والفضة وهي محرمة الاستعمال على الرجال والنساء؛ للحديث الصحيح. (قال) القاضي أبو الوليد: " ووجه تحريمه ما فيه من السرف والتشبه بالأعاجم ".

وأما اتخاذها من غير استعمال، فقال الشيخ أبو القاسم بن الجلاب: " اقتناؤها محرم. وقال القاضي أبو محمد: " لا يجوز اتخاذها ". وقال القاضي أبو الوليد: " لو لم يجز اتخاذها لوجب فسخ بيعها، وقد أجازه في غير مسألة من المدونة، (قال) أبو بكر بن سابق: هذا غير صحيح، لأن ملكها يجوز إجماعا، بخلاف اتخاذها، قال: وإنما نتصور فائدة الخلاف بأنا لا نجيز الاستئجار على عملها، ولا نوجب الضمان على من أفسدها إذا لم يتلف من عينها شيئا، والمخالف يجيز الاستئجار ويوجب الضمان ". ثم اختلف المتِأخرون في إلحاق غير الذهب والفضة من الجواهر النفيسة بهما، فقال القاضي أبو الوليد: " لا يتعدى التحريم إلى الياقوت والفيروزج وشبه ذلك بمجرد نفاستها "، يريد لأن أحد وصفي العلة لا يستقل بإفادة حكمها على ما تقدم. وقال القاضي أبو بكر: " ما يصنع من الياقوت واللؤلؤ والمرجان أولى بالتحريم في الاستعمال من أواني الذهب والورق، وقال ابن سابق: المتخذة من الياقوت والبلور. والحكم الظاهر أنها جائزة، وإنما تكره للسرف ". فرعان: الأول: لو عمل الآنية من ذهب وغشاها برصاص أو غيره مما يجوز اتخاذ الآنية منه، أو اتخذها من ذلك وموهها بالذهب، فحكى ابن سابق في ذلك قولين، ونزلهما على الخلاف في تحقيق العلة، هل هي الزينة والفخر أو عين الذهب؟. الفرع الثاني: إذا ... وصلت الآنية بذهب أو (فضة) في شعب أو تضبيب، فقال

قسم المقاصد

القاضي أبو بكر: " لا يمنع ذلك من استعمالها، قال: لأنه تبع فلا يجري عليه حكم المقصود ". وقال القاضي أبو الوليد: " واستعمال آنية فيها تضبيب بذهب أو فضة ممنوع. وفي العتبية: (قال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه إذا كانت فيه حلقة فضة أو تضبيب شعبه بها. وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة لا يعجبني أن ينظر فيها الوجه) ". هذا تمام قسم المقدمات، أما قسم المقاصد ففيه سبعة أبواب. الباب الأول: في فروض الوضوء وسننه وفضائله أما فروضه فهي ستة: الأول: النية، وحقيقتها القصد إلى الفعل، والعزيمة عليه. والغرض بها تخصيصه ببعض أحكامه وأوصافه، وهي شرط في كل طهارة عن حدث، ولا تجب في إزالة النجاسة. ولا يصح وضوء الكافر ولا غسله إذا لم يكن اعتقد الإسلام بقلبه قبل الغسل؛ إذ لا عبرة بنيته، وتستثنى من ذلك الذمية تحت المسلم، فإنها تجبر على الغسل (عن) الحيض لحق الزوج، وعلى النص. وقال محمد بن عبد الحكم: لا تجبر، لأنه لا نية هلا، ورواه أشهب. فرع: لو رفض النية بعد كمال الطهارة، ففي نقضها بذلك روايتان، منشؤهما أنها كجزء من أجزاء الوضوء فيجب استصحابها، أو المقصود بها تصحيح الفعل وقد حصل.

ثم وقت النية، هل هو أول واجبات الوضوء لتقارن ما تجب له، أو أول أفعاله؛ إذ يؤمر بالقصد إلى السنة أيضا؟ في ذلك قولان. ثم لا يضر اختلاس النية بعد الإتيان بها في محلها. وكيفيتها: أن ينوي [بها] رفع الحدث أو استباحة الصلاة، أو ما لا يستباح إلا بالطهارة أو أداء فرض الوضوء. فإن نوى رفع بعض الحدث ناسيا لغيره أجزأه، إلا في الحائض الجنب تقتصر على نية الجنابة، فإن فيها قولين، لاختلاف الممنوعات. فإن نوت الحيض خاصة، فالمنصوص الإجزاء، لأن ممنوعاته أعم. وخرج القاضي أبو الوليد نفي الإجراء على القول بأن الجنابة تمنع القراءة ظاهرا دون الحيض. فأما لو نوى رفع بعض الحدث دون بعض حتى يكون ناويا عدم حصول الباقي، لفسدت نيته. فإن قصد استباحة صلاة بعينها خاصة دون غيرها، كما في الحدث، فقيل: يستبيح به ما نواه وما لم ينوه، وقيل: يستبيح ما نواه خاصة نو هما على الخلاف في إبطال الرفض وتصحيحه، وقيل: تفسد نيته للتضاد. ورأى الشيخ أبو الطاهر تنزيل القولين الأولين على تقدم الاستباحة، وتنزيل الثالث على المقارنة. ولو نوى ما يستحب له الوضوء، كقراءة القرآن للمحدث من غير مس مصحف، فقولان، المشهور أن حدثه لا يرتفع. ولو شك في الحدث، وقلنا: لا يجب عليه استئناف الوضوء بالشك على إحدى الروايتين.

أو كان شكه غير مقتض للوضوء كالتردد من غير استناد إلى سبب مع تقدم (يقين) الطهارة، فتوضأ احتياطا، ثم تبين له يقين الحدث، ففي وجوب الإعادة قولان للتردد في النية. وكذلك لو توضأ مجددا ثم تبين له الحدث. فقال أشهب: يجزئه، وفي كتاب ابن سحنون لا يجزئه. ولو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرد لم يضره. ولو نوى غسل الجنابة وغسل الجمعة معا، فالإجزاء في الكتاب. وقال الشيخ أبو القاسم: " بنفي الإجزاء فيهما لاختلاف السببين وتنافي القصدين ". ورأى في الكتاب أن الاستحباب زائد على الوجوب فلا تنافي بينهما، ولا بين رفع الحدث وتطييب الرائحة. ولو اغتسل للجنابة ناسيا للجمعة، فروى عيسى عن ابن القاسم: " أنه لبا يجزئه عن غسل الجمعة ". قال القاضي أبو محمد: وزعم ابن حبيب أن ذلك إجماع من مالك وأصحابه، ثم قال: وقال ابن القاسم في العتبية: " إن غسل الجنابة ينوب عن غسل الجمعة إذا كان عند الرواح "، ثم قال: ولا يجوز أن يحمل على ما إذا نوى به الجمعة؛ لأنه إذا نواه لم يكن الغسل مضافا إلى الجنابة وحدها. ولو اغتسل للجمعة ناسيا للجنابة، فروى ابن القاسم أنه لا يجزئه أيضا، وبه قال ابن عبد الحكم وأصبغ. وروى مطرف وابن الماجشون وابن كنانة وابن نافع وابن وهب وأشهب: أنه يجزئه، وأفتوا به ". ولو أغفل المتوضئ لمعة من الكرة الأولى، فانغسلت في الكرة الثانية على قصد الفضيلة، ففي ارتفاع الحدث بذلك قولان.

ولو فرق النية على أعضاء الوضوء، ففي الإجزاء قولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على الخلاف في أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بالفراغ من تطهيره أو بإكمال طهارة جميع الأعضاء؟ قال: " وعلى هذا الأصل ينبني أيضا خلاف الشيخين أبي محمد وأبي الحسن فيمن أحدث حدثا أصغر في أضعاف طهارته الكبرى، ثم أمر يديه على أعضاء الوضوء، هل يفتقر في إمرارهما إلى تجديد نية أم لا؟ "، قال: وينبني عليه أيضا الخلاف فيمن غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، هل يمسح عليهما أم لا؟ وسيرد كلام القاضي أبي بكر في هذ ... هـ المسألة، وإنكاره لهذا الأصل، وتخريج الخلاف فيها على غيره إن شاء الله ". الفرض الثاني: استيعاب غسل جميع الوجه. وحقيقة الغسل: نقل الماء إلى العضو مع الدلك، وحد الوجه طولا من منابت الشعر المعتاد إلى منتهى الذقن، وعرضا من الأذن إلى الأذن، وقيل: من العذار إلى العذار، وقيل: إن كان نقي الخد فكالأول، [كان] اكتسى الشعر فكالثاني. ومنشأ الخلاف التنازع في المواجهة هل تتناول ما اختلف فيه أم لا؟ وانفرد القاضي أبو محمد بقول رابع، فجعل غسل ما بين الأذن والعذار سنة. ولا تدخل النزعتان، ولا موضع الصلع في التحديد. وموضع الغمم من الوجه يجب عليه غسله. ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعور الخفيفة التي تطهر البشرة منها بالتخليل، كالحاجبين والأهداب والشارب والعذارين وغيرهما، ولا يجب ذلك فيما إذا كانت كثيفة، وقيل: يجب.

وظاهر المذهب: وجوب غسل ما طال من اللحية، وقيل: إنه غير واجب، وسبب الخلاف تشبيه بمباديه أو بما يحاذيه، وهو سبب الخلاف أيضا في مسح ما طال من شعر الرأس. الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، وقيل: إليهما دونهما، فلو قطع من الساعد غسل الباقي، ولو قطع من المرفق لم يجب عليه شيء، لأن القطع أتى على جميع الذراع، والمرافق في الذراع، إلا أن يكون بقي شيء من المرفق في العضد، يعرف ذلك الناس وتعرفه العرب، فيغسل وفي تخليل أصابع اليدين قولان بالوجوب والندب. وفي وجوب إجالة الخاتم ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيوجبها في الضيق دون الواسع. الفرض الرابع: استيعاب مسح جميع الرأس من مبدأ منقطع الوجه على ما قلاه في المعتاد، وفي منتهاه خلاف. وقيل: إلى ما تحوزه الجمجمة، وقيل: إلى آخر منبت الشعر من القفا، فلو اقتصر بالمسح على بعضه لم يجزه، على النص. واختلفت مذاهب الأصحاب في الإجزاء، فذهب محمد بن مسلمة إلى إجزاء الثلثين. وذهب القاضي أبو الفرج عمر بن محمد الليثي إلى إجزاء الثلث. وروي عن أشهب روايتان: إحداهما إجزاء الناصية. والثانية مطلقة، قال: فإن لم يعم رأسه أجزأه ولم يقدر ما لا يضره تركه. قال القاضي أبو محمد: " وهذه الأقاويل مذاهب لأصحابه لا أنها تخريج على مذهبه. قال: فأما مذهبه فهو الإيعاب كما تقدم ".

ولا يستحب فيه التكرار، ولا الغسل، ويجزئ عن المسح إن فعل، وحكى سابق الصحة عن الشيخ أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان، ثم قال: وقال غيره لا يصح، وكرهه آخرون. الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين، وقيل: إليهما دونهما، وهما الناتئان في الساقين. وذكر القاضي أبو محمد عن مالك من رواية ابن القاسم وغيره: " أنهما اللذان عند معقد الشراك، ورأى الأول أصح في النظر ". وفي حكم تخليل أصابعهما ثلاثة أقوال: الوجوب، والندب، والإنكار. الفرض السادس: الموالاة، (وهي) أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق متفاحش، فإن فرقه تفريقا يسيرا غير متفاحش فلا يفسد الوضوء سهوا ولا عندا. حكى القاضي أبو محمد أن المذهب لا يختلف في ذلك. وإن كان التفريق متفاحشا، قال ابن وهب: يفسده في العمد والسهو. وحكى عن محمد بن عبد الحكم أنه لا يفسده في الوجهين، وذهب إليه بعض البغداديين.

وفرق ابن القاسم فحكم بفساده في العمد دون النسيان، وروى عبد الملك بن الماجشون في الثمانية أن التفرقة في العمد والسهو سواء، في أنها تفسد الطهارة، إلا في الرأس وحده. وقيل: تفسد إذا كان الممسوح بدلا لا أصلا. وقال القاضي أبو الحسن: " ومن أصحاب مالك من قال إن الموالاة مستحبة ". وأما سننه، فست أيضا: الأولى: أن يبدأ بغسل يديه قبل أن يدخلهما في إناء وضوئه، وهل ذلك على وجه النظافة أو العبادة؟ [فيه] قولان، ينبني عليهما فرعان. أحدهما: هل يغسلهما مجموعتين أو متفرقتين؟ فالنظافة تناسب الجمع، والتعبد يقتضي الافتراق، وقد جاء في لفظ الحديث. ما يقتضي الخلاف في ذلك، وهو قوله: " غسل يديه مرتين ". وروي في بعض طرقه: " مرتين مرتين ". الفرع الثاني: من شرع في طهارته بعد غسلهما ثم أحدث في أضعافها، فلا يعيد غسلهما في ظاهر رواية أشهب، ويعيده عند ابن القاسم. السنة الثانية: المضمضة، وهي تطهير باطن الفم، وأما غسل ما يظهر من الشفتين فواجب، وصفتها أن يأخذ الماء بفيه فيخضخضه ثم يمجه. قال أبو الحسن اللخمي: " وإن أدخل أصبعه ودلك بها أسنانه فحسن ". الثالثة: الاستنشاق، وهو غسل باطن الأنف، وأما ما يبدو منه فهو من الوجه، وصفته أن

يجتذب الماء بخياشيمه ويجعل إبهامه وسبابته على أنفه ثم ينثر النفس، ويبالغ في الاستنشاق ما لم يكن صائما. فرعان: الأول: في كيفيتهما: حكى ابن سابق في ذلك قولين: أحدهما: يغرف غرفة واحدة لفيه وأنفه. والثاني: يتمضمض ثلاثا من غرفة، ثم يستنشق ثلاثا من غرفة. قال: وهذا اختيار مالك، والأول اختيار الشافعي، وكلاهما مروي في الحديث. الفرع الثاني: لو توضأ وترك المضمضة والاستنشاق حتى صلى، فإن كان ناسيا لم يعد الصلاة، وإن كان عامدا ففي استحباب الإعادة له في الوقت قولان، ولا شك أنه يؤمر بإعادة ما ترك. الرابعة: أن يمسح أذنيه بماء جديد لهما، ظاهرهما وباطنهما، ويدخل إصبعية في صماخيه ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه. فرع: قال أبو بكر بن سابق: اختلف المتأخرون في ظاهرهما على وجهين، فمنهم من قال: هو ما وقعت به المواجهة. وقال آخرون: هو ما يلي الرأس، قال: وهو الأطهر. الخامسة: رد اليدين من مؤخر الرأس إلى مقدمه إن بدأ به. السادسة: أن يرتب وضوءه فيبدأ بغسل يديه، ثم يتمضمض، ثم يستشف، ثم يغسل وجهه، ثم يده اليمنى، ثم يده اليسرى، ثم يمسح رأسه ثم أذنيه ثم يغسل رجله اليمنى، ثم رجله اليسرى.

والمشهور أن الترتيب المذكور سنة، وهي رواية المصرتين، وروى علي بن زياد وجوبه، وقيل: إنه مستحب. فروع ثلاثة: الأول: إذا فرعنا على الوجوب مخالفة، فمقتضى ذلك أنه يتبدئ، وكذلك روى علي بن زياد، لكن حكى القاضي أبو الوليد خلافا في الترتيب، هل هو من شرط الصحة، وإن قيل بالوجوب، أم لا؟ فعلى هذا يختلف في الابتداء على قولين، وإن قلنا بالوجوب. الفرع الثاني: إذا فرعنا على أنه سنة، فنكس متعمدا، فهل يساوي من نكس ناسيا؟ قولان: أحدهما: أنه يعيد مع (العمد)، قريبا كان أو بعيدا. والثاني: أنه كالناسي فلا يعيد، وهما على ما تقدم في تارك السنن متعمدا هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ فأما على القول بالاستحباب فلا إعادة أصلا. الفرع الثالث: مرتب على هذا، وهو إذا قلنا يتلافي، فكيف ذلك؟ أما إن كان بحضرة الماء فإنه يبتدئ ليسارة الأمر عليه. وأما إن بعد عن الماء حتى جف وضوءه، فقولان: أحدهما: أنه يعيد ما نكسه لا غير. والثاني: أنه يعيده وما بعده. وأما فضائله، فأربع. التسمية: وروى الواقدي: ليس ذلك مما يؤمر به، من شاء قال ذلك، ومن شاء لم يقله. وروى علي بن زياد إنكارها. والسواك بعود رطب أو يابس، والأخضر أحسن ما لم يكن صائما، فإن لم يجد عودا استاك بأصبعه. وأن يبدأ بمقدم رأسه في المح؛ إذ المستحب في صفة مسحه أن يبدأ بيديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي منه بدا، وإن كان الإيعاب مجزيا كيف ما حصل.

الباب الثاني: في الاستنجاء

فأما ما ذكر الشيخ أبو القاسم في تفريعه في صفة المسح من رفع الراحتين عن الفودين في الابتداء وإلصاقهما بهما في الانتهاء، وكذلك في الأصابع، فقال القاضي أبو محمد: " كان رحمه الله يقول: إنما قلت ذلك لئلا يكون مكرا للمسح، وفضيلة التكرار مقصورة على الغسل دون المسح ". قال القاضي أبو محمد: " وسألت القاضي أبا الحسن شيخنا رحمه الله عن ذلك، فقال " هذا غير محفوظ عن مالك، ولا عن أحد من أصحابنا "، قال: " والاحتراز الذي ذكر أنه لأجله اختار هذا، لا معنى له؛ لأن التكرار الذي نمنعه ونقول: إن لا فضيلة فيه، هو أن يكون بماء جديد، فأما بماء واحد فلا يمنعه أصحابنا ". وأن يكرر المغسول ثلاثا، وتكره الزيادة على الثلاث. ولو شك هل غسل ثلاثا أو اثنين اقتصر على ما فعل، بخلاف الشك في أصل الغسل، فإنه يعيد كل ما شك في غسله أو مسحه من جميع أفعال الوضوء، وليس المسح بالمنديل من الفضائل، ولكن لا بأس به ". الباب الثاني: في الاستنجاء وهو إزالة النجو، والنجو هو الحدث نفسه وتسميته بذلك تجوز واتساع، كتسميته بالغائط. وفيه فصول: الفصل الأول: في آداب قضاء الحاجة وهي أن يطلب الموضع البعيد الساتر، وأن يتقي الملاعن، وهي مواضع جلوس الناس وطرقاتهم، وظلال الجدر والشجر، وشاطئ النهر.

وأن يتجنب البول في الحجر، وفي الماء الدائم. وأن يستعد ما يقلع الحدث. ويقدم الذكر قبل الوصول إلى موضع الحدث، ويجوز له أيضا بعد وصوله أن كان موضعا غير معتاد للحدث، وإن كان معتادا له، فقولان في جوازه ومنعه، وهما جاريان أيضا في جواز الاستنجاء بالخاتم [مكتوب] فيه ذكر. وأن يديم الستر حتى يدنو من الأرض إن أمن نجاسة ثوبه، وأن يبول جالسا إن كان المكان طاهرا، فإن كان نجسا رخوا فله أن يبول قائما، وإن كان نجسا صلبا تجنبه وعدل إلى غيره. وأن يترك التشاغل بالحديث وإنشاد الشعر عند قضاء الحاجة، وأحرى أن لا تجوز القراءة. وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها إذا كان الموضع عاريا من الساتر وبناءات المراحيض، وله أن يستقبل أو يستدبر إذا كان ذا ساتر مراحيض تلجئ إليه، وإن لم يكن ساترا، وفي جواز الاستقبال والاستدبار، مع وجود الساتر وإن لم تكن مراحيض ومنعهما، روايتان، سببهما: هل النهي لحرمة المصلين أو لحق القبلة؟ وهل يتنزل الوطء منزلة قضاء الحاجة أو يجوز مطلقا مستقبلا ومستدبرا؟ قولان،

الفصل الثاني: فيما يستنجي عنه

مثارهما: هل النهي للعورة فيستويان، أو الخارج فيفترقان؟ وحكى ابن سابق عن ابن حبيب: أنه لا يجوز في صحراء ولا بنيان. الفصل الثاني: فيما يستنجي عنه ويستنجي عن كل ما يخرج من المخرجين معتادا سوى الريح، ويجزي الاستجمار، فيما عدا المني، وكذلك المذي على المشهور، من جميع المعتاد. قال الشيخ أبو بكر وغيره: ويجزي في النادر كالحصا والدم والدود، كما في الغائط؛ لأنه ليس بآكد منه. وإذا فرعنا على منع إجزاء الاستجمار من المذي وهو المشهور، فهل يجزي فيه الاقتصار على غسل موضع الأذي؟ قولان: رأى المغاربة وبعض البغداديين: أنه لا يجزي، بل يغسل جميعه. واجتزأ فيه الشيخ أبو بكر وابن المنتاب بغسل موضع الأذي خاصة؛ كالبول والودي، قال الشيخ أبو بكر: وما سمعت بغسل الذكر منه إلا من المغاربة. التفريع: إن قلنا بغسل موضع الأذى خاصة، كما قال البغداديون، فلا تفريغ. وإن قلنا لا بد من غسل جميعه كرأي المغاربة فقد اختلفوا، هل يفتقر إلى نية لغسله؛ إذ هو عبادة، لأنه تعدى محل موجبه أو لا يفتقر إلى إحضار نية عند غسله، لأن تعديه معلل بالقصد إلى قطع أصل المذي؟ قولان لأبي العباس الإبياني، والشيخ أبي محمد.

الفصل الثالث: فيما يستنجى به

الفصل الثالث: فيما يستنجى به وهو الماء والأحجار على الجمع وعلى التفريق بحسب الاختيار. وقال ابن حبيب: " لا يقتصر على الأحجار إلا عند عدم الماء ". ثم حيث جوزناه بالأحجار، فيقوم مقامها في الجواز على المشهور كل جامد طاهر منق ليس بمطعوم ولا ذي حرمة، فلا يجوز بالنجس ولا بالروث والزجاج الأملس والمطعوم. والعظم مطعوم. فرع: لو استجمر بالنجس أو (بالعظم) أو (الروث) إذا صححنا ورود النهي عنهما أو بالحممة وصلى، ففي إعادة الصلاة في الوقت المختار خلاف. والاحتراز بذي الحرمة من جدران المساجد والأوراق المكتوبة، ويلحق بذلك ما في الاستجمار به سرف كالجواهر النفيسة، ويجري هذا كله، على ما تقدم في المنهي عنه، وذلك إذا أنفى. وقيل: يقتصر على الأحجار ولا يلحق بها غير ها سوى ما في معناها من الجواهر الأرضية، ما دامت من جنس الأرض. فإن انتشرت الحدث عن المخرج فلا بد من الماء، إلا أن يقرب جدا بحيث لا ينفك عن الإصابة في العادة، فلا يطلب بغسله. وقيل: يؤمر به ولا يكفي الاجتزاء فيه بالحجر عن الماء، وإن كان من القرب كما ذكر. الفصل الرابع: في كيفية الاستنجاء والأولى فيه الجمع بين الماء والأحجار، فالأحجار لتخفيف العين عن الموضع، ثم الماء للإنقاء ولإزالة الأثر، فإن شاء الاقتصار على أحدهما، فالماء أفضل؛ لأنه يذهب العين والأثر. والمستحب في صفة استعمال الماء أن يبدأ بغسل يده اليسرى قبل ملاقاة الأذى (بها)، ثم يغسل محل البول، ثم ينتقل إلى محل الغائط فيرسل الماء ويوالي الصب على يده غاسلا بها

المحل، ويسترخي قليلا ليتمكن من الإنقاء، ويجيد العرك حتى ينقي وتزول اللزوجة، ولا يضره بقاء الرائحة بيده إذا أنقى. وأما الأحجار فليستنج بثلاثة أحجار لكل مخرج، وليبدأ بمخرج البول، ولا يلزمه طلب الثلاثة إذا أنقى بدونها. وقال القاضي أبو الفرج والشيخ أبو إسحاق: " يلزمه طلبها "، ثم حيث أمر بطلبها ففي الاجتزاء عنها بحجر له ثلاث شعب خلاف. ولو لم يحصل الإنقاء بالثلاثة طلب الرابع والخامس حتى (يحصل)، ثم كيف ما حصل الإنقاء أجزأ. لكن اختلف هل الأولى أن يمر كل حجر على جميع الموضع، أو يمر واحدا على الصفحة اليمنى وآخر على اليسرى والثالث على الوسط على طريقين للأصحاب. فروع ثلاثة: الأول: أنه ليس على من بال أن يقوم ويقعد ويزيد في التنحنح، ولكن ينتر ويستفرغ جهده على ما يرى أن حاله (يقتضيه) من إطالة أو اقتصار، (ويستبرئ) ذلك بالنفض والسلت الخفيف. الفرع الثاني: لو ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى، أعاد في الوقت. وروى ذلك محمد بن مسلمة في المبسوط. وقال أبو زيد عن ابن القاسم. وروى أشهب: أرجو أن لا تكون عليه إعادة. قال الشيخ أبو محمد: " أراه يريد إذا مسح أو كان يبعر ".

الباب الثالث في موجبات الوضوء

وأجرى أبو الحسن اللخمي فيه قولا بالإعادة أبدا على القول بأن إزالة النجاسة فرض. الفرع الثالث: إذا عرق في الثوب بعد الاستجمار، فقال القاضي أبو الحسن " ينجس ". وأبى ذلك القاضي أبو الوليد، (وعلل) " بأنه (مما) لا يمكن الاحتراز منه، وتلحق به المشقة كموضع النجو ". الباب الثالث في موجبات الوضوء وفيه فصلان: الفصل الأول: في بيانها. ولا تنتقض الطهارة بالفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة وغيرها، ولا من أكل شيء، مسته النار أو لم تمسه، ولا من شرب شيء، وإنما تنتفض بأمرين: أحداث وأسباب. القسم الأول: الأحداث، ونعني هبا ما ينقض الوضوء بنفسه، لا بما يؤدي إليه، وهي ما خرج من أحد السبيلين معتادا في جنسه وأوقاته، وذلك من القبل ثلاثة: البول والمذي والودي. ومن الدبر: الغائط والريح. قال الشيخ أبو الطاهر: " وزاد بعض أشياخي الصوت، قال: وما أظنه يكون بغير ريح ". فإن فارق الخارج العادة في النجس، فكان غير معتاد، أعني غير هذه، فلا ينقض. ورأى محمد بن عبد الحكم أنه ينقض نظرا إلى المخرج. وإن فارقها في الوقت فكان سلسا على وجه الاستنكاح لم ينقض، على المعروف من المذهب. وقال الإمام أبو عبد الله: " وقد روي عن مالك رضي الله عنه ما ظاهره ترك العذر

[بالتكرار]، وإجراء ما تكرر من ذلك على الأصل، ولم يعذر فيه بالحرج والمشقة ". وإذا فرعنا على المعروف، فللخارج أربعة أحوال. أحدها: أن يلازم ولا يفارق، فها هنا لا يجب الوضوء؛ لأن وجوبه حرج، ولا يستحب، إذ لا فائدة والخارج يسيل مع الوضوء. الحال الثاني: أن يلازم أكثر مما يفارق، فلا يجب الوضوء لسقوط الحرج، ويستحب ما لم يكن بردا وضرورة. الحال الثالث: أن يتساوي لزومه ومفارقته، ففي الوجوب قولان، وهما خلاف في شهادة بوجود الحرج وعدمه. الحال الرابع: أن تكون مفارقته أكثر، فمذهب الكتاب الإيجاب شهادة بفقد الحرج أو بقد ما يسقط العبادة. ومذهب العراقيين سقوط الوجوب تعويلا على أن الوجوب متعلق بالاعتياد، ولا قياس ها هنا، أو نظرا إلى وجود الحرج. فرعان: الأول: أن هذا الذي قلنا، إذا لم يقدر على معالجته، فإن قدر كالمذي يلازم لطول عزبة يقدر على رفعها نفقد اختلف فيه العراقيون على قولين، [أنه]: من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا؟ الفرع الثاني: حيث قلنا بإسقاط الوضوء، فهل يكون ذلك رخصة لمن نزل به لا يتعداه، أو سقوط ذلك يجعل الخارج كالعدم؟ فيه قولان، ينبني عليها جواز إمامته لغيره. وكذلك الخلاف في إمامة من تنفصل [منه] نجاسة لا يقدر على الاحتراز منها، كمن به قروح. ولو فارق في المحل خاصة، كما لو (خرج) المعتاد (على العادة) من غير المخرج، فللمتأخرين في نقض الطهارة (به) قولان، سببهما النظر إلى العادة والخارج، أو النظر إلى المخرج، فإن لم يخرج على العادة وخرج نادرا لم ينقض الوضوء.

وقال أبو الحسن اللخمي في القيء يتصف بأحد أوصاف نواقض الطهارة: " أنه ينقض "، ورآه القياس، وعلل بأن الانتقاض للخارج لا للمخرج. القسم الثاني: الأسباب، ونعني بها ما لا ينقض الوضوء بنفسه، ولكن بما يؤدي إليه. وهي ثلاثة أنواع. الأول: زوال العقل بإغماء أو جنون أو سكر أو نوم، كل ذلك ينقض الطهارة مطلقا، إلا النوم ففيه تفصيل واختلاف، واختلفت طريقنا أبي الحسن اللخمي وأبي محمد عبد الحميد في تحرير المشهور من ذلك، فاعتبر أبو الحسن اللخمي زمانه وكيفيته، فقسمه، بحسب ذلك أربعة أقسام. 1 - " طويلا ثقيلا، يؤثر في نقض الوضوء بلا خلاف في المذهب ". 2 - وقصيرا خفيفا لا يؤثر على المعروف منه. 3 - وخفيفا طويلا يستحب منه الوضوء. 4 - وثقيلا قصيرا في تأثيره في النقض قولان ". وقال بعض المتأخرين: " القولان جاريان في الثالث أيضا ". واعتبر أبو محمد عبد الحميد الهيئات، فقال: " إن كان النائم على هيئة يتهيأ منه الطول وخروج الحدث كالساجد، نقض. وإن كان بالعكس فيهما كالقائم والمحتبي لم يؤثر. وقال: وإن انقسم الأمر فكان إمكان الطول مع عدم إمكان خروج الحدث غالبا، كالجالس مستندا أو عكسه كالراكع، ففي كل هيئة منها قولان، سببهما تعارض موجب ومسقط ".

قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذه الطريقة أشبه بمقتضى الروايات "، ثم قال: " ومقصود الجميع النظر إلى الغالب، فإن كان يمكن خروج الحدث ولا يشعر به، وجب الوضوء، وإن كان الأمر بالعكس لم يجب. وغن أشكل الأمر فهو بمنزلة من تيقن الطهارة ثم شك في خروج الحدث ". النوع الثاني: لمس من توجد اللذة بلمسه في العادة إذا وجدها اللامس، وإن لم يقصدها، وكذلك [إذا] قصدها (وإن) لم يجدها على المنصوص. واستقرأ بعض المتأخرين من مسألة الرفض أنه لا ينقض وتعقب بالفرق بمقارنة الفعل، فإن لم يقصد ولم يجد، فلا ينتقض (وضوءه)؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وهو ما روى أبو بكر البزار، عن إسماعيل بن يعقوب بن صبيح، عن محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه عن عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة (رضي الله عنها): «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ». قال عبد الحق: عبد الكريم هو الجزري، ثقة جليل. وأما الملموس فإن وجد اللذة توضأ، وإن لم [يجدها] فلا وضوء عليه ما لم يقصد، فيكون لامسا إلا أن تكون القبلة على الفم، فلا تراعي اللذة فيها، لأنها لا تكاد تعدم معها. وروي أنها تراعي، وهو خلاف في شهادة.

ولو كان اللمس من وراء حائل، فروي ابن القاسم وجوب الوضوء مطلقا. وقيد علي بن زياد هذه الرواية بأن يكون الحائل خفيفا. فأما لو نظر فالتذ بمداومة النظر ولم ينتشر ذلك منه، فلا يؤثر في نقض الطهارة؛ لأن تأثيره حرج. وانفرد ابن بكير بأنه يؤثر. ولو أنعظ فكمل إنعاظه، فقولان للمتأخرين، ورويا وسببهما الشهادة بأنه لا ينكسر في العادة إلا عن مذي أو قد ينكسر دونه. النوع الثالث: مس الذكر. وينتقض الوضوء به في الرواية الأخيرة لحديث بسرة، لكن قيد بكونه على صفة مخصوصة اختلف في تعيينها، فرأى العراقيون أنها اللذة. ورآها في المجموعة العمد، واعتبر أشهب مسه بباطن الكف، واعتبر في الكتاب " باطن الكف أو باطن الأصابع ".

قال الشيخ أبو الطاهر: " والكل (مجمعون) على مراعاة وجود اللذة وفقدها " لكن عدوا في الروايات أن فقدها، مع ما قيدوه، نادر فلا يراعى، وراعاه العراقيون. وقال شيخه الإمام أبو عبد الله: " من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد مسه بباطن الكف، سهوا وعمدا، ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه حكم غير معلل ". فرعان: الأول: لو مسه بأصبع زائدة، فقال القاضي أبو بكر: " اختلف فيه أصحابنا قال: والأظهر وجوب الوضوء ". الفرع الثاني: لو مسه من فوق حائل، فقال القاضي أبو الحسن: " العمل من الروايات على أنه إذا مسه من فوق ثوب أو من تحته انتقضت طهارته ". وقال القاضي أبو بكر: " روى ابن وهب: إذا مسه على غلالة خفيفة انتقض وضوؤه، ولا حكم لمس الذكر المبان ولا لمس ذكر الغير، إلا من باب الملامسة، ولا ينتقض وضوء من مس ذكره غيره. وقال الأيلي البصري من أصحابنا: ينتقض وضوؤه ". وفي مس المرأة فرجها ثلاث روايات ". النقض ونفيه، لعلي بن زياد وابن القاسم. والتفرقة بين أن تلطف فيجب الوضوء، وبين أن لا تلطف فلا يجب، وهي رواية ابن أبي أويس.

واختلف المتأخرون في بقاء هذه الروايات على ظاهرها وعدها ثلاثا، أو عد المفصل مفسرا، أو عد المذهب على قولين: نفي النقض مطلقا، والتفصيل على ثلاث طرق. فرع: قال إسماعيل بن أبي أويس: قلت لمالك: ما ألطفت؟ بقال: تدخل يدها في ما بين الشفرين. ولا ينقض الوضوء من مس الدبر. وانفرد حمديس ببانه إذا مس حلقة الدبر وجب عليه الوضوء على القول بإيجاب الوضوء على المرأة في مس فرجها، قال: وعلى القول الآخر لا وضوء عليه. قال عبد الحق: " الفرق بينهما أن المرأة تلتذ بمس فرجها، وليس في مس الدبر لذة "، قال ابن سابق: ولا يلزم هذا حمديسا، لأنه لم يعلل باللذة بل بمجرد اللمس. وأما مس الخنثى المشكل لفرج نفسه، فقال الإمام أبو عبد الله: " عندي أنه يتخرج على القولين في من أيقن بالوضوء وشك في الحدث "، ثم قال " وهذا على مذهب المغاربة، وأما على مذهب البغداديين، ففي أي الفرجين اعتاد وجود اللذة، تعلق الحكم به ". فإن قيل: أوضحوا حكم الشاك في الطهارة والمرتد، فإنه لم يبق مما يتعلق بإيجاب الوضوء سواهما. قلنا: أما الشك فله حالتان. الأولى: حالة المستنكح ولا اعتبار بها، بل يعمل على أول خاطريه، لأنه مساو فيه لمن خاطره سليم، ويضرب عما سواه.

الحالة الثانية: حالة سلامة خاطره، وهي المعتبرة فينتقض وضوءه إذا شك في وجود الطهر والحدث جميعا، أو تيقن بهما جميعا وشك أيهما قبل صاحبه،؛ إذ لا يقين معه في الصورتين يستصحبه ويبني عليه. وكذلك إن تيقن الحدث وشك في الوضوء أو في بعضه، لأنه على أصل الحدث، وكذلك لو شك مع ذلك أكان قبل الحدث أو بعده؟ [فأولى] بإيجاب الوضوء. فإن أيقن بالطهارة وشك في طروء الحدث عليها، فروى ابن القاسم في الكتاب: " أنه يعيد الوضوء "، وروى ابن وهب في غيره: أحب إلي أن يتوضأ. واختلف الأصحاب في تأويل رواية ابن القاسم، فأجراها القاضي أبو الفرج على الوجوب. قال القاضي أبو الحسن: " وإلى هذا كان ذهب شيخنا أبو بكر الأبهري، وأنا أختاره ". وحملها أبو يعقوب الرازي على الاستحباب. قال القاضي أبو محمد: " وقد ذكر بعض المدنيين عن الأسلمي عن مالك فيمن أثبت أنه على وضوء، ثم شك في الحدث "، قال: " هو على وضوءه ". قال القاضي أبو محمد: " وهذا يؤيد قول من حمل رواية ابن القاسم على الاحتياط ". واعلم أن سبب القولين تقابل الأصليين؛ إذ استصحاب أصل الطهارة يقابله أصل آخر وهو كون الصلاة في ذمته بيقين، وقد اشترط في (براءته) منها أن يدخلها متيقنا كونه متطهرا حالة الدخول، ولا يجتمع اليقين والشك، فتعينت الطهارة لبراءة الذمة. ولو كانت الصورة بحالها، إلا أنه شك مع ذلك هل كان حدثه قبل الوضوء أو بعده؟ فالقولان جاريان، وأولى ها هنا بعدم إيجاب الوضوء. وأما المرتد إذا عاد إلى الإسلام قبل أن يحدث، فقد اختلف في تأثير الارتداد في نقض وضوئه على روايتين، سببهما الخلاف في الإحباط بدون الموافاة، هل يحصل أم لا؟ وجعله أبو الحسن اللخمي من الرفض.

الفصل الثاني: في حكمها

الفصل الثاني: في حكمها وهو المنع من الصلاة، ومس المصحف، وحمله قصدا إليه، ويستوي في المس الجلد والحواشي و (محل) [الكتابة]، ولا يحمله في خريطة، ولا بعلاقة، ولا في صندوق، ولا يقلب أوراقه بقضيب. ولا بأس بحمله في صندوق أو غرارة أو غير ذلك إذا كان فيها أمتعة مقصودة بالحمل، إلا أن يكون المقصود بحمل ذلك حمل المصحف. ويجوز مس كتاب التفسير والفقه والدرهم المنقوش وما كتب للدراسة كاللوح للصبيان، فلا يكلف المتعلم الطهارة لمس اللوح. قال ابن القاسم: " ولا المعلم عندما يشكلها ". [و] قال ابن حبيب: " يكره مسها للمعلم إلا على وضوء، ويستحب للصبيان مس الأجزاء للتعليم كالألواح والأكتاف، ويكره لهم مس المصحف الجامع إلا على وضوء ". الباب الرابع: في الغسل والنظر في موجبه وكيفيته النظر الأول: في الموجب. وموجباته خمسة: الأول: انقطاع دم الحيض والنفاس، وسيأتي حكمها. الثاني: الموت، وسيأتي في الجنائز. الثالث: الولادة، فيجب عليها الغسل وإن كانت ذات جفاف. روى ذلك عبد الله بن عبد الحكم وأشهب. وقال أبو الحسن اللخمي: طلا غسل عليها، قال: واستحب مالك

الغسل، وقال: لا يأتي الغسل إلا بخير ". الرابع: الإسلام، فيجب على من أسلم أن يغتسل، وروي أنه مستحب، وبذلك قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق. وسبب الخلاف: أن الغسل لكونه جنبا على الرواية المشهورة، وقال القاضي أبو إسحاق: بل هو تعبد، وقد بطل حكم الجنابة بالإسلام، وينبني على ذلك فرعان: الأول: غسل من لم (تتقدم) منه جنابة قبل إسلامه. والثاني: أنه يتيمم إذا فقد الماء، وهو على المنصوص، قال الشيخ أبو الطاهر: " وقد يقال: إن من لم يجعل غسله للجنابة لا يلزمه التيمم ". الخامس: الجنابة، وهي المقصودة بالذكر، وتحصل بالتقاء الختانين بمغيب الحشفة، (و) بخروج المني، ثم ليس المقصود الختان، بل لهو قطعت الحشفة فغيب مثلها كفى. وكذلك إذا أولج في فرج ميتة أو بهيمة أو في الدبر، ولا ختان فيه، وكذلك لو فعلته امرأة بذكر بهيمة. فأما الإيلاج في قبل خنثى مشكل، فخرجه الإمام أبو عبد الله على نقض الطهارة بالشك كاللمس. فرعان: الأول: إذا عدم البلوغ في الواطئ والموطوءة أو في أحدهما، فأما إن كانا غير بالغين، فقال الشيخ أبو الطاهر: " مقتضى المذهب إلا غسل، قال: وقد يؤمران به على جهة التدرب ".

(وإن) وطء الصغيرة كبيرة فلا يجب عليها الغسل، إلا أن تنزل. وقيل: يجب. وإن وطئ الكبير صغيرة ممن تؤمر بالصلاة، فقال أشهب: تغتسل: " وفي مختصر الوقار: لا تغتسل ". قال القاضي أبو محمد: " الخلاف في أمر البالغة بالغسل من وطء غير البالغ إنما هو في حق من تلتذ النساء بوطئه، كالمراهق ومن يقاربه "، وقال أيضا: " الاتفاق حاصل على سقوط الوجوب عن الموطوءة إذا كانت غير بالغ، وإن كان الواطئ بالغا. لكن أمرها أشهب به إذا كانت ممن تؤمر بالصلاة لأنها لا تصح إلا به، كما يأمرها بالوضوء ". وقال الوقار: لا تؤمر به، لأنها أنما أمرت بالوضوء للتدرب عليه لتكرره، بخلاف الغسل كالصلاة مع الصوم. الفرع الثاني: لو جامع فيما دون الفرج، فأنزل، فوصل الماء إليه، فإن أنزلت وجب الغسل، وإن لم تنزل ولم تلتذ لم يجب، وإن التذت ولم يظهر منها إنزال، فقولان: وجوب الغسل لأن التذاذها قد يحصل به الإنزال ولا يبرز، وغالب حالها الإنزال عند ذلك. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الاختيار للاحتياط. وقال القاضي أبو الوليد: " وهو عندي، معنى قول مالك ". والقول الثاني: نفي الغسل، وهو تأويل ابن القاسم عن مالك. أما خروج المني، فوجب (للغسل) إذا كان مقارنا للذة المعتادة. ومني الرجل في اعتدال الحال: أبيض ثخين دافق ذو دفعات يخرج بشهوة ويعقب بخروجه فتورا، ورائحته رائحة الطلع، ويقرب من رائحة الطلع رائحة العجين، ومني المرأة رقيق أصفر.

فلو خرج المني عريا عن اللذة، مثل أن يمرض فيخرج لمرضه، فلا يوجب الغسل، وقيل: يوجبه. وإذا فرعنا على الأول، فهل يجب الوضوء أو يستحب؟ قولان (ينبنيان) على نوادر ما ي خرج من السبيلين كما تقدم. ولو قارنته لذة غير معتادة كمن به حكة في جسده حكها، أو اغتسل لها بالماء الحار، فأمنى، ففي إيجاب الغسل عليه بذلك خلاف. وقول سحنون فيهما الوجوب. واختلف أيضا في وجوبه إذا لدغته عقرب أو ضرب أسواطا أو ضرب بسيف فأمنى، واختيار الشيخ أبي إسحاق: الوجوب في الجميع. ولو وجدت اللذة المعتادة، لكن تقدمت على خروجه، كمن يجامع فيجد اللذة، أو يلتذ بغير جماع، ولا يكون في شيء من ذلك مني، ثم بعد ذهاب تلك اللذة جملة يكون منه المني، ففي وجوب الغسل ونفيه ثلاثة أقوال. ـ الوجوب التفاتا إلى اللذة المتقدمة لتأثيرها في انفصال الماء عن محله. ـ والنفي لأنه لا حكم له ما لم يبرز مقارنا لها. ـ والتفرقة بين أن يكون عن جماع واغتسل له قبل بروز الماء، ثم برز، فلا يعيد الغسل، وبين أن يكون لم يغتسل له، فإنه يغتسل. وضعف الإمام أبو عبد الله القول بالتفرقة، ورأى أنه لا وجه له. واختار القاضي أبو بكر وجوب الغسل. التفريع: إن قلنا بوجوب الغسل، وكان بروز الماء بعد الصلاة، فعليه إعادتها. وقال ابن المواز: لا تلزمه الإعادة، وهو رأي أبي عبد الله، والقاضي أبي بكر

والقولان خلاف في تأثيره بالمفارقة أو البروز، وإن قلنا بإسقاط الغسل أمر بالوضوء، (وهل) [هو] على جهة الوجوب أو الندب؟ قولان للبغداديين. فرع: لو شك في انتفاض الطهر بأن انتبه فوجد بللا على إحليله لا يرى غير ذلك، ولا يذكر أنه رأى في منامه شيئا، ولا يدري أمذي هو (أو) مني، وقد أيقن أنه ليس بعرق، فقال مالك: لا أدري ما هذا. وقال ابن نافع: إن شك اغتسل، وقال علي بن زياد، لا يلزمه إلا الوضوء مع غسل الذكر. وقال ابن سابق: وهي مبنية على أصل مالك فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث. ولو تيقن بأنه مني اغتسل. ولو رأى في (ثوبه) احتلاما، وشك في زمن خروجه، إذ كان يابسا ففي الواضحة: يعيد ما صلى من أول نومة نامها فيه. وقال ابن عبد الحكم: يعيد الصلاة من أحدث [نومة نامها] فيه. قال في كتاب ابن حبيب: إلا أن يكون يلبسه ولا ينزعه، فإنه يعيد من اول نوم نام فيه. ولو كان الاحتلام طريا، أعاد من أقرب نومة نامها فيه، قولا واحدا. حكى ذلك ابن سابق. والمرأة إذا تلذذت بخروج مائها لزمها الغسل، ثم حكم الجنابة حكم الحدث، مع زيادة تحريم قراءة القرآن، ودخول المسجد، وله أن يقرأ الآية ونحوها للتعوذ. ويفارق الجنب الحائض في جواز قراءة القرآن لها ظاهرا في أشهر الروايتين لحاجة التعلم وخوف النسيان، وفضل ماء الحائض والجنب طهور. ولا بأس لجنب أن يجامع ويأكل ويشرب، لكن يتوضأ وضوءه للصلاة عند إرادته للنوم، واختلف هل هو مندوب أو واجب؟ والوجوب هو رأي ابن حبيب، واختيار

القاضي أبي بكر. وهل سببه رجاء أن ينشط فيغتسل أو لينام على إحدى الطهارتين وعلى تحقيقه يخرج وضوء الحائض وتيمم العاجز. وأما كيفية الغسل: فأوله النية، واستيعاب البدن يصب الماء، والدلك، وقيل: لا يجب الدلك. ووقع القاضي أبي الفرج: " (أنه يجب لا) لنفسه، بل ليصل الماء إلى جميع الجسد ". وسبب الخلاف: هل يسمي أهل اللغة صب الماء من غير ذلك غسلا حقيقة أم لا؟ وإذا فرعنا على المشهور، ففي اشتراط مقارنته لصب الماء من غير تراخ خلاف. ولا تجب المضمضة والاستنشاق. ويؤمر إيصال الماء إلى منابت الشعور وإن كثفت، ولا يجب على المرأة نقض ضفائرها، بل تحثي عليها الماء، وتضغثها بيديها، كما جاء في الحديث. ويخلل الرجل لحيته، وهل ذلك على جهة الوجوب أو الندب؟ روايتان. والأكمل أن يبدأ بغسل يديه، ثم يزيل ما على بدنه من أذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، وإن لم يكن محدثا، ويؤخر غسل الرجلين إلى آخر الغسل في إحدى الروايتين ويفعله في مكانه من الوضوء في الأخرى، ثم يفيض الماء على رأسه، ثم يكرره ثلاثا ويضغثه في كل دفعة. وماء الوضوء والغسل غير مقدر، وقد ير فق بالقليل فيكفي، ويخرق الكثير فلا يكفي. وقال الشيخ أبو إسحاق: " يتقدر في الأقل بالمد والصاع، قال القاضي أبو بكر: ومراده التقدير بهما في الكيل لا في الوزن ".

الباب الخامس: في التيمم

الباب الخامس: في التيمم وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: فيما ينقل إلى التيمم وهو العجز عن استعمال الماء، وللعجز أسباب ستة: الأول: فقد الماء، وللمكلف أربع أحوال: الأولى: أن يتحقق عدم الماء حواليه، فيتيمم من غير طلب. الثانية: أن يتوهم وجوده حواليه، فليتردد إلى حد لا يدخل عليه ضرر ولا مشقة، ولا يتحدد ذلك بحد؛ إذ الشاب القوي لا يشق عليه ما يشق على المرأة والرجل المسن. الثالثة: أن يعتقد وجود الماء في حد القرب، فيلزمه السعي إليه. وحد القرب ما لم ينته إلى المشقة أو خوف فوات الأصحاب. وروي في كتاب محمد: إذا لم يخف في نصف الميل إليه العناء والمشقة، فمن الناس من يشق عليه. وقال سحنون: لا يعدل الميلين وإن كان آمنا. فإن انتهى البعد إلى حيث لا يجد الماء في الوقت، فلا يؤخر إليه. ويطلب المسافر من رفقته، ولا يلزمه أن يطلب من جميعهم إذا كانوا كثيرا، بل ممن يليه منهم، وإن كانوا قليلا طلب من جميعهم، فإن ترك الطلب من الرفقة، فقال الإمام أبو عبد الله: " ذكر بعض أصحابنا أنه إن لم يكن معه إلا الرجلان والثلاثة، فلم يطلب منهم أعاد الصلاة أبدا، وإن ترك طلب العدد القليل الذي أمر به في الرفقة القليلة أعاد في الوقت، وإن ترك الطلب أصلا من الرفقة (الكثيرة)، لم يعد. قال الإمام: " وهذا ضعيف؛ لأن القليل من الرفقة الكثيرة، إذا أمرناه بالطلب منه، كالقليل الذي ليس معه غيره ". فرعان: الأول: وقت التيمم، وهو بعد دخول وقت الصلاة على المعروف من المذهب، وأجازه الشيخ أبو إسحاق قبل دخوله، وبناه بعض المتأخرين على القول برفع الحدث. وإذا فرعنا على المعروف فما محله من الوقت؟ قال الإمام أبو عبد الله: " اختلفت

روايات المذهب في ذلك، قال: " (والمشهور) أن (الآيس) يتيمم أوله، والراجي يتيمم آخر وقت الاختيار. ومن تساوى عنده الأمران (يتيمم) وسطه. قال: " وروي أن المتيمم على الإطلاق يتيمم آخر الوقت، وقيل: بل وسط الوقت، إلا الراجي فإنه يؤخر. وقيل: بل آخر الوقت، إلا الآيس، فإنه يقدم أول الوقت ". الفرع الثاني: لو صلى أحد هؤلاء ثم وجد الماء بعد الصلاة، فلا إعادة على من أوقع الصلاة في الوقت المأمور بإيقاعها فيه إلا الشاك المتردد في إدراك الماء في الوقت مع علمه بوجوده، فإنه يعيد في الوقت، لأنه كالمقصر في اجتهاده، والمخطئ في حدسه، ولو أنهاه نهايته لأوشك أن يظهر له أنه يبلغ الماء في الوقت. وينخرط في سلكه الخائف من لصوص على الماء لجواز تقصيره، وكذلك المريض العادم من يناوله الماء لتقصيره في الاستعداد، فحكم هؤلاء (التيمم وسط) الوقت لأجل الشك، واختصوا بالإعادة في الوقت، دون من لا علم عنده من الماء، لما ذكرناه من تقصيرهم. فأما من خالف المشهور، فإن آخر ما أمر بتقديمه فلا خفاء بسقوط الإعادة عنه (إذا) بالغ في الاستظهار، وإن قدم أول الوقت ما أمر بتأخيره إلى آخره، فقيل: يعيد في الوقت خاصة، وقيل: في الوقت وبعده. وسبب الخلاف: هل التأخير من باب الأولى والأحسن، أو من باب الأوجب؟ إذ به تتحقق الضرورة، وهو محل الوجوب على هذا الرأي. وقيل: بالفرق بين العالم والظان، فتجب الإعادة مطلقا في حق العالم، وتتخصص بالوقت في حق الظان. وأما إن قدم من أمرنا بالتوسط، فلم يختلف هؤلاء في أنه لا يعيد بعد الوقت. فرع مرتب: من أمرناه بالإعادة في الوقت، فلم يفعل لأنه نسى أن يعيد بعد أن ذكر، فهل يعيد بعده؟ المشهور أنه لا يعيد، وهو الأصل. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بالإعادة عند ابن حبيب، ثم قال: " ويجزئه في كل من أمر أن يعيد في الوقت "، قال: " لأنه يرى أنه إذا أمر بالإعادة فقد ترتبت في ذمته، فلا يبرأ إلا بفعلها ".

الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضرا بين يديه في بئر، لكن ليس معه آلة يتوصل بها إليه، فيتيمم لأنه فاقد. ولو وجد الآلة، لكن كان الماء في مهواة بعيدة، فإن اشتغل بالنزع فإنه الوقت، فروايتان. واختيار المغاربة أنه يشتغل بنزع الماء لوجوده، واختيار العراقيين أنه يتيمم لأن عدم القدرة على الاستعمال في الوقت كالعدم المطلق. وكذلك لو كان الماء بين يديه يمكنه استعماله، لكن لو تشاغل باستعماله خرج الوقت لضيقه، فأولى بوجوب استعماله عند المغاربة لأنه واجد. وقال القاضي أبو محمد: " يتيمم، وحكاه القاضي أبو جعفر الأبهري رواية ". فرع: لو وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه أو لغسله لم يلزمه استعماله قبل التيمم، بل هو كالفاقد جملة. السبب الثاني: أن يخاف على نفسه أو ماله السبع أو سارقا فله التيمم، وقيل: إن الخوف على المال لا يلحق بالخوف على النفس في الإباحة. ولو وهب منه الماء، فقال القزويني: يلزمه قبوله، ليس له أن يتيمم ويترك القبول للمنة، لأنها لا تدرك في مثل هذا. وقال القاضي أبو بكر: " لا يلزمه القبول ". وقال غيرهما: ولا يلزمه القبول إذا وهب ثمن الماء، فإن المنة فيه تثقل. وقال ابن سابق: يلزمه قبول الماء قولا واحدا، بخلاف الثمن، فإنه لا يلزمه قبوله ويتيمم. ولو بيع بثمن يجحف به لقلة دراهمه أو لكثرة الزيادة على ثمنه المعتاد، ولم يلزمه شراؤه. وبثمن المثل وما لا يجحف به، يلزمه، إلا احتاج إلى الثمن لنفقة سفره. السبب الثالث: أن يحتاج إليه لعطشه في الحال، أو لتوقعه في المآل بأن يغلب على ظنه أنه لا يجد ماء، أو لعطش من معه، فله التيمم إن خاف العطش الذي يهلك. وإن خاف عطشا يمرضه، جرى على الخلاف فيمن خاف من استعمال الماء المرض، كما سيأتي في السبب الخامس.

ولو مات صاحب الماء ومعه جنب الماء إنما يكفي أحدهما، غسل به صاحبه، وهو أولى به؛ إلا أن يحتاج إليه الحي لشربه، فحينئذ هو أولى به، ثم يقوم بثمن الماء للوارث وليس له دفع مثله إذا رجع إلى بلده. وإن كان الماء بينهما، فقال ابن القاسم: " الحي أولى به، وييمم الميت ". وقال القاضي أبو بكر: " الميت أولى به ". السبب الرابع: العجز بسبب الجهل، كما إذا نسي الماء في رحله وتيمم، فإن ذكر بعد الفراغ فثلاثة أقوال: نفي الإعادة مطلقا، لأنه ليس بقادر في حال نسيانه، قال: وإن أعاد في الوقت فحسن، وهي رواية عبد الله بن عبد الحكم في مختصره. وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: يعيد أبدا، نسيه أو خفي عليه، أو لم ي علم به؛ لأنه بنسيانه مفرط مقصر في الطلب. وقال ابن القاسم: يعيد في الوقت، وهو قول مراع للخلاف. وإن ذكر في الصلاة، فعلى الأمر بالإعادة يقطع، وعلى القول بنفيها يتمادى، وتجزئه الصلاة. فلو أدرج في رحله ولم يشعر به ولم يقطع ولم يقض؛ إذ لا تفريط، وكذلك لو أضل الماء في رحله، فلم يجده مع الإمعان في الطلب، وخشي فوات الوقت، وأولى بعدم القضاء. وظاهر رواية مطرف ومن ذكر معه يقتضي جريان الخلاف فيهما، فأما لو أضل رحله في الرحال، وبالغ في طلبه حتى خاف فوات الوقت، فإنه يتيمم، ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره. السبب الخامس: المرض الذي يخاف من الوضوء معه فوت الروح، أو فوت منفعة، وكذلك لو خاف زيادة المرض، أو تأخر البرء، أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه، فإنه يتيمم على المعروف من المذهب، قال القاضي أبو الحسن: " (وكذا) إن خاف الصحيح نزله أو حمى، فإن كل ذلك ضرر ظاهر "، وروى بعض البغداديين رواية شاذة: أنه لا ينتقل إلى

الفصل الثاني: في كيفية التيمم

التيمم بمجرد خوف حدوث المرض، أو زيادته إن كان مريضا أو تأخر برؤه. فإن كان إنما يتألم في الحال، ولا يخاف عاقبة، لزمه الوضوء والغسل. السبب السادس: استيعاب الشجاج أو الجروح أو القروح أكثر جسد الجنب، أو أكثر أعضاء الوضوء من المحدث حتى لم يبق إلا يد أو رجل فيسقط عنه استعمال الماء ويتيمم، ولا يلزمه الجمع بين الماء والتيمم ولا الإعادة إذا صح. فرعان: الأول: لو ترك من هو بهذه الحال التيمم، وغسل ما صح من جسده، ومسح على الجبائر في سائره لم يجزه ما فعل؛ لأنه ترك فرضه وهو التيمم. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: وهو بمثابة من وجد من الماء دون كفايته للغسل، أو للوضوء، فأراد أن يمسح به جسده أو أعضاءه، فإن المسح لا يجزئه. الفرع الثاني: عدم الحاضر الصحيح الماء، وخشي فوات الوقت، فمقتضى التأصيل المتقدم أنه يتيمم، وهي الرواية المشهورة، وروي في غير الكتاب: أنه لا ي تمم بحال. وإذا فرعنا على الأول، فهل يعيد؟ المشهور أنه لا إعادة عليه. وقال ابن عبد الحكم وابن حبيب: يعيد أبدا، قال ابن حبيب: وإليه رجع مالك. الفصل الثاني: في كيفية التيمم وله أربعة أركان: الأول: القصد إلى الصعيد، وهو وجه الأرض ولا يتخصص بذلك التراب على المشهور، ولا يلزم النقل، بل يجزي التيمم على الحجر الصلد والرمل والسباخ والنورة والزرنيخ وجميع أجزاء الأرض، ما دامت على جهتها لم تغيرها صنعة آدمي بطبخ ونحوه، وسواء فعل ذلك مع وجود التراب أو عدمه. وقيل: لا يجزئ بغير التراب مطلقا. وخصص ابن حبيب الإجزاء بعدم التراب. وفي جواز التراب على الثلج ومنع روايتان لابن القاسم وأشهب، وفي التيمم على

الملح خلاف أيضا، وأولى بالصحة. فرع: لو تيمم على موضع نجس، فقال ابن القاسم: " يعيد في الوقت ". قال القاضي أبو محمد: " ويحكى منع التيمم بالصعيد النجس عن محمد بن عبد الحكم، ثم اختاره، وذكر أنه اختيار الشيخ أبي بكر ". الركن الثاني: أن ينوي استباحة الصلاة، ويستوي في ذلك حال المحدث والجنب في حالة الذكر، وفي استوائهما في حالة النسيان روايتان. ولو نوى استباحة الفرض جاز [النفل] أيضا معه للتبعية، لكن بعده، فلا يصلي ركعتي الفجر بتيمم الصبح، وقيل: يصليهما، ورواه محمد بن يحيى. ولو نوى فرضين صح تيممه، ولا يصلي به أكثر من فرض واحد على المشهور. الركن الثالث: أن يستوعب وجهه بالمسح، يبدأ مارا بيديه من أعلاه إلى أن يستوفيه، ويراعي الوترة، وهي حجاب ما بين المنخرين. الرابع: مسح اليدين إلى المرفقين، ولا يغفل شيئا، ويخلل الأصابع، وينزع الخاتم على المنصوص. وقيل: إن اقتصر على المسح إلى الكوعين أجزأه. فرعان: الأول: إذا فرعنا على المشهور، فاقتصر على الكوعين، فقال ابن القاسم: " يعيد في

الوقت، وقال غيره: يعيد أبدا. الفرع الثاني: هل تراعى الصفة في مسح اليدين أم لا؟ قولان، المشهور مراعاة الصفة فيهما، وهي أن يبدأ بيسرى يديه يمسح بها ظاهر اليمنى مارا إلى المرفق، ثم يعيد على الباطن مارا إلى الكف، وفي اليسرى كذلك، ولم يراع هذه الصفة محمد بن عبد الحكم. وأجرى أبو الحسن اللخمي الخلاف في ذلك على مراعاة التراب، فتراعى الصفة، وعدم مراعاته فلا تراعى. وقال غيره من المتأخرين: " إنا وإن لم نراع التراب فنراعي حكمه "، قال: " ودليله أنا لا نراعيه على المشهور، وقد راعينا الصفة فيه ". فرع مرتب: إذا قلنا بالمشهور في مراعاة الصفة، فهل يمسح [كفه] اليمنى قبل الشروع في اليسرى أو يشرع فيها إذا وصل إلى الكوع، ثم إذا وصل إليه من الأخرى مسح الكفين بعضهما ببعض؟ قولان: والأول اختيار الشيخ أبي الحسن وأبي محمد عبد الحق، والثاني قول ابن حبيب وروايته، وقد تؤولا من لفظ الكتاب. والمأمور به ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين. فإن اقتصر على ضربة واحدة، فقال ابن نافع: " يعيد أبدا ". وروى ابن القاسم: " إذا تيمم بضربة واحدة للوجه واليدين رجوت أن تجزئه ". قال ابن القاسم: " ولا يعيد في وقت ولا غيره "، وفي المختصر أيضا: لا إعادة عليه، وقال ابن حبيب: وقيل: يعيد في الوقت. ومما يندرج تحت الكلام على الكيفية حكم الترتيب والموالاة، وحكمهما في ذلك حكمهما في الوضوء.

الفصل الثالث: في أحكام التيمم

الفصل الثالث: في أحكام التيمم وله حكمان: الأول: أنه يبطل برؤية الماء قبل الشروع في الصلاة، إلا أن يخشى فوات الوقت باستعماله لضيق الوقت فيخرج على ما تقدم، وأولى ها هنا بترك الاستعمال. ولا تبطل الصلاة بعد الشروع فيها، ولا توجب الإعادة بعد الفراغ منها. الثاني: أنه لا يجمع بين فرضين بتيمم واحد على المشهور، وقال القاضي أبو محمد: " وهو معلل بثلاث علل: الأولى: أنه لا يرفع الحدث، ولا يستباح به إلا أقل ما يمكن فيه. الثانية: أنه لا يتقدم على الوقت. الثالثة: أن الطلب واجب لكل صلاة. (وروى القاضي أبو الفرج: أنه لا بأس أن يجمع بين صلاتين من الفوائت بتيمم واحد)، وأجاز الشيخ أبو إسحاق أن يجمع المريض بين فرضين بتيمم واحد. وخرج بعض المتأخرين الخلاف في ذلك على الخلاف في وجوب الطلب وشرطية دخول الوقت، ورأى بعضهم تخريجه على الخلاف في كون التيمم يرفع الحدث، وقد اشتد نكير القاضي أبي محمد على من يضيف هذا القول إلى المذهب. تنبيه: رأيت للقاضي أبي بكر في بعض كتبه: " أن التيمم يرفع الحدث "، وعزاه إلى المذهب ونصره، ثم رأيت له في غيره ما نصه: " إن الحدث سبب تثبت عنه أحكام، فاستعمال الماء يرفع السبب، فترتفع الأحكام بارتفاع سببها. والتيمم يرفع الأحكام رخصة مع بقاء سببها، فلا

يبقى حكم، لكن السبب باق، ونصر هذا. ويظهر لي أنه آخر قولية، وهو عندي أحسنها. فرع: فإن جمع بين فرضين بتيمم واحد، فقال ابن القاسم في العتبية: " يعيد في الوقت، ولو أعاد أبدا كان أحب إلي "، وقال في كتاب محمد: يعيد أبدا. وقال أصبغ: إن كانتا مشتركتي الوقت كالظهر والعصر والمغرب والعشاء، أعاد الثانية في الوقت، وإن كانتا غير مشتركتي الوقت كالعصر والمغرب، أعاد الثانية أبدا، وقال: هذا معنى قول ابن القاسم. ويجمع بين فرض ونوافل وبعده بتيمم واحد، ويجمع بين الطواف وركعتيه بتيمم واحد، لأنهما كالتابع له. ولو نسي صلاة من خمس صلوات صلى الخمس بتيمم لكل واحدة على المشهور. وقد تقدم أنه لا يتيمم لفريضة قبل دخول وقتها على المعروف من المذهب، ودخول وقت الفائتة بتذكرها. ولو خشي فوات الجمعة إن تشاغل بالماء، ففي جواز التيمم له ليدركها قولان. فرع: من لم يجد ماء ولا ترابا، على رأي من يشترطه، أو تعذر عليه الوصول إلى الصعيد، فقال مالك وابن نافع: لا صلاة ولا قضاء، وقال ابن القاسم: " يصلي ويقضي "، وقال أشهب: يصلي ولا يعيد، وقال أصبغ: يصلي إذا قدر. والشيخ أبو الطاهر يرى سبب هذا الخلاف الاختلاف في كون الطهارة شرطا في الوجوب، فتسقط الصلاة عمن تعذرت عليه، أو شرطا في الأداء، فيقف الفعل على الوجود. قال: " وأما الصلاة في الحال دون الإعادة أو معها، فمبنيان على الأخذ بالأحوط وبالغ أحدهما في الاحتياط ". والقاضي أبو بكر يرى كون الطهارة شرطا في الأداء لا في الوجوب متفقا عليه مع وجود هذا الاختلاف.

الباب السادس: في المسح على الخفين والجبائر

الباب السادس: في المسح على الخفين والجبائر وفيه فصلان الفصل الأول: في المسح على الخفين هو مشروع رخصة للرجال والنساء في السفر وفي الحضر أيضا على الرواية المشهورة. قال ابن وهب: " وإلهيا رجع [مالك رحمه الله] [قال]: وآخر ما فارقته عليه إجازة المسح في الحضر والسفر. قال القاضي أبو محمد: " وهي أصح وأقيس ". والنظر في شرط المسح وكيفيته وحكمه: وله شرطان: الأول: في الملبوس: ولا شك في جواز المسح على الخف الذي اعتادته العرب إذا كان مفردا ساترا لمحل الوضوء صحيحا، وينتج من هذا التقييد فروع لتخلف بعض هذه القيود. الأول: أن يكون الملبوس غير خف كالجورب واللفافة وشبه ذلك، فلا يمسح عليه. الثاني: أن يكون خفا غليظا ليس له ساقان، ففي المسح عليه قولان، وهما على القياس على الرخص. الثالث: الجرموق، واختلف في المراد بهذه اللفظة، فقيل: الجرموقان هما الجوربان المجلدان، وقيل: هما " خف على خف "، وق يل: هما خفان ذوا ساقين غليظين، يستعملهما المسافرون مشاة. والصور الثلاث مختلف في جواز المسح عليها في المذهب. فرع مرتب: إذا قلنا بأنهما خف على خف، وقلنا بالمسح على أحد القولين، فمسح على الأعليين ثم

نزعهما، فليمسح على الأسفلين، كما يغسل الرجلين إذا نزع الخفين. الرابع: أن يكون الخف غير ساتر لمحل الوضوء كالمحرم، يقطعه أسفل من الكعبين، فالمعروف من المذهب أنه لا يمسح عليه، وانفرد الوليد بن مسلم، فروي أنه يمسح عليه ويغسل ما بدا من كعبيه. وأنكر القاضي أبو الوليد هذه الرواية عن مالك، وقال: " إنها مذهب الأوزاعي، قال: والوليد كثير الرواية عنه ". الخامس: أن يكون الأرض خف مخرقا، فإن كان الخرق قليلا مسح عليه، ولا يمسح إذا كان كثيرا. ثم في تحديد الكثير مذهبان: رواية المتقدمين أن المراعي ظهور القدم كلها أو جلها، فإن ظهر ذلك لم يمسح. قال في الكتاب: " إن كان الخرق قليلا لا تظهر منه القدم، فليمسح عليه، وإن كان كثيرا فاحشا تظهر منه القدم، فلا يمسح عليه ". ورأى [البغداديون] اعتبار (إمكان) مداومة المشي، فإن لم (يمكن) لم يمسح، فراعى الأولون ظهور المبدل، وراعى العراقيون فقد علة اللبس. فرع: لو شك في مجاوزة الخرق للقدر المعفو عنه لم يمسح؛ لأن الأصل الغسل، وقد شك في محل الرخصة. الشرط الثاني: في اللابس، وإذا لبسهما على طهارة بالماء كاملة لبسا مباحا للوجه المعتاد من المشي أو التوقي، مسح عليهما. ويحدث من هذا التقييد فروع:

الأول: أنه لو لبسهما على طهارة التيمم لم يمسح، وقال أصبغ: يمسح المتيمم لبسهما قبل الصلاة. الثاني: لو لبسهما قبل كمال الطهارة كمن غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها، لم يمسح حتى يغسل الأخرى، ثم يبتدئ اللبس. وقال مطرف: يمسح وإن لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة، ثم اختلف المتأخرون في بناء هذا الخلاف. فالشيخ أبو الطاهر وغيره يرى أنه ينبني على الخلاف في أن كل عضو هل يرتفع عنه حدثه بكمال طهارته، أو يقف ارتفاع الحدث عنه على كمال طهارة جملة الأعضاء. والقاضي أبو بكر ينكر كون هذا في المذهب مذكورا لا أصلا ولا فرعا، ويشنع على من يضيفه إليه. ويرى بناء هذا الاختلاف على الخلاف في أن استدامة اللبس هل هي كابتدائه أم لا؟ قال: " وهذا أصل تنبني عليه في الشريعة أحكام في الطهارة والإيمان وغيرها "، واختلف فيه قول مالك وأصحابه. الثالث: لو لبس المحرم الخف عاصيا بلبسه لم يمسح عليه، قال القاضي أبو الوليد: " لأنه منهي عن لبسه، وإنما يتعلق المسح بما أبيح لبسه ". الرابع: لو لبس ليترخص بالمسح، كما لو لبس لعمل الحناء أو للنوم لم يمسح، فإن مسح لم يجزئه على المشهور. وكذلك روى مطرف أن ذلك لا يجزئه، وعلى من فعله إعادة الصلاة (أبدا). وقال أصبغ: يكره، فإن فعله أجزأه، وكذلك قال القاضي أبو محمد: " يجزئه مع الكراهة لوجود شرط الرخصة ". النظر الثاني: في كيفية المسح، وفيه ثلاث طرق: الأولى: الصفة المنقولة في الكتاب، وهي أيضا رواية مطرف وابن الماجشون، قال فيه: فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه، ووضع اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفه فأمرهما حتى بلغ بهما إلى عقبة فأمرهما على عقبه إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق وحذو الكعب. والثانية: أن يبدأ بهما من الكعبين مارا إلى الأصابع، عكس الأولى.

والثالثة: أن يبدأ باليمنى كالطريقة الأولى، وباليسرى كالطريقة الثانية، (وهي) اختيار محمد بن عبد الحكم، واستحسنها بعض المتأخرين. فرع: لو اقتصر ماسح الخف على أعلاه دون أسفله أجزأه، وتستحب له الإعادة في الوقت، وإن اقتصر على أسفله دون أعلاه لم يجزئه، وقال أشهب: يجزئه فيهما. وقال ابن نافع: لا يجزئه في واحد منهما. والغسل والتكرار فيه مكروهان، ويجزئ الغسل، إن فعل، عن المسح. النظر الثالث: في حكمه. وهو إباحة الصلاة بالمسح عليه إلى أن ينزعه، إذ المشهور نفي التحديد، وأن لا يلزمه النزع إلا أن يجنب، فإن أمر بغسل الجمعة أمر بالنزع. وروى أشهب أن المسافر يمسح ثلاثة أيام، ولم يذكر للمقيم وقتا. وروى ابن نافع أن المقيم يمسح من جمعة إلى جمعة. قال القاضي أبو محمد: " هذا يحتمل الاستحباب "، ثم قال: " بل هو مقصوده، ووجهه أنه يغتسل للجمعة ". وعزي إلى مالك رضي الله عنه في الرسالة المنسوبة إليه، وتعرف بكتاب السر، أنه حد للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوما وليلة. قال علماؤنا: ولا تثبت هذه الرسالة. قال القاضي أبو محمد: " وكان الشيخ أبو بكر في جماعة من الشيوخ ينكرونها، ويقولون: لا تصح عن مالك ". ونص ما حكي عن الشيخ أبي بكر في ذلك: " وقد سمعت من يذكر أن لمالك بن أنس كتاب سر، وكان مالك أتقى لله وأجل وأعظم شأنا من أن يتقي في دينه أحدا أو يراعيه، وكان مشهورا بهذه الحال نه وأنه لا يتقي من سلطان ولا غيره، وقد نظرت في نسخة من كتاب السر، فوجدته ينقض بعضه بعضا، ولو سمع مالك إنسان يتكلم ببعض ما فيه لأوجعه ضربا. وقد حدثني موسى بن إسماعيل القاضي قال: سمعت عبد الله بن أحمد الطيالسي، يقول: سألت إسماعيل بن إسحاق عن كتاب

الفصل الثاني: في المسح على الجبائر

السر لمالك بن أنس، فقال: سألت أبا ثابت محمد بن عبد الله المدني صاحب ابن القاسم: هل لمالك كتاب سر؟ فقال: سألت ابن القاسم عن ذلك؟ فقال: ما نعرف لمالك كتاب سر ". فرعان: الأول: إذا نزع الخف فأجرى على حكم الموالاة، فقيل: يبتدئ الوضوء، وقيل: يغسل رجليه مبادرا، فإن أخر قاصدا ابتدأ، وهو المشهور. وقيل: له أن يؤخر إن شاء. الفرع الثاني: لو نزع الخفين لوجب غسل الرجلين جميعا. فإن امتنع ليه نزع الآخر، حتى خشي إن دام على الاشتغال به فوات الوقت، فقيل: يغسل الرجل المكشوفة ويمسح على الأخرى قياسا على الجبيرة، وقيل: ينتقل إلى التيمم، لأن الرجلين في حكم العضو الواحد. وقيل: يمزق الخف، لأن المحافظة على قيام وظيفة الطهارة تقدم على حفظ مالية الخف. الفصل الثاني: في المسح على الجبائر وهو مشروع لدفع الضرر، فإذا كانت الجبيرة في أعضاء الوضوء أو في غيرها ووجب غسل الجسد، انتقل الفرض إلى مسحها. ولا (تشترط) في شدها الطهارة، كما تشترط في الخف؛ لأنها ضرورية (بخلافه). ويلتحق بها ما يفتقر إلى مداواته بوضع شيء عليه، كالظفر يكسى دواء أو مرارة، وكالقرطاس يلصق بالرأس لصداع ونحوه. وكذلك إن كانت الجبيرة لا تثبت إلا بعصابة فوقها، فينتقل الحكم إلى مسح العصابة. وكذلك لو اضطر إلى تعدي الرباط لموضع الألم لمسح على الجميع، وتلحق بذلك الفصادة يخاف من حلها. فروع ثلاثة: أحدها: لو كان الموضع بحث لا يمكن وضع شيء عليه، ولا ملاقاته بالماء، فإن كان في موضع التيمم، ولم يمكن مسحه أيضا بالتراب، فليس إلا الوضوء، وتركه بلا غسل ولا مسح. وإن لم يكن في أعضاء التيمم فثلاثة أقوال. أحدها: أنه ينتقل إلى التيمم ليأتي بطهارة كاملة.

الباب السابع: في الحيض والنفاس وما يتصل بهما

والثاني: أنه لا ينتقل (إذا) وجد الماء والقدرة عليه. والثالث: أنه يجمع بينهما، وهو رأي من أشكل عليه الأمر. الفرع الثاني: إذا مسح على الجبيرة ثم صح نزعها وغسل مكانها، إلا أن يكون من الرأس ولم يجنب فيمسحه. فإن سقطت الجبيرة وهو في الصلاة، وجب عليه القطع، وردها إن احتاج إليها ومسح، وإن لم يحتج غسل الموضع أو مسحه، ثم استأنف الصلاة. الفرع الثالث: أن يغتسل فيمسح، ثم يصح فينسي أن يغسل موضع الجبيرة، ففي الكتاب: " إن كانت في موضع لا يصيبه الوضوء إنما هو في المنكب أو الظهر، فأرى أن يعيد كل ما صلى، ومن حين كان يقدر على أن يمسه بالماء ". قال المتأخرون: ولو كان قد اغتسل لجنابة بعدما صح المكان أعاد من حين البرء إلى حين اغتسل للجنابة، ولو كان في أعضاء الوضوء لأجزأه غسله لحدث الوضوء ولم يعد ما صلى بعده، قالوا: إلا أن يكون في الرأس، إذا لا يجزي المسح عن الغسل. الباب السابع: في الحيض والنفاس وما يتصل بهما وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في أحكام الحيض، وفيه مسائل الأولى: في حده: وقد حده القاضي أبو محمد، " بأنه الدم الخارج من الفرج من اليفعة "، فمن زاد على سنها إلى نهاية ما يقصر عن سن اليائسة، في مدة خمسة عشر يوما، فدونها إلى ساعة، من غير ولادة ولا مرض. والاحتراز باليفعة عمن قصر سنها عن ذلك، كبنت خمس أو ست سنين؛ إذ ذلك مرض وليس بحيض، وكذلك بنت السبعين والثمانين، وكلك بنت الخمسين عند الشيخ أبي إسحاق، وباقي الحد احتراز عن النفاس والاستحاضة.

المسألة الثانية: في مدته: فيما يرجع إلى العبادات غير محدود، فتعتبر الدفعة الواحدة وتكون حيضا، وإن لم تكن حيضة معدودة في العدد والاستبراء، وإلى هذا المعنى أشار القاضي أبو الفرج بقوله: الدفعة حيض وليست بحيضة، وأكثر مدته محدود بخمسة عشر يوما على المنصوص. وأكثر الطهر لا حد له، وأقله محدود، لكن اختلف هل يعتبر في تحديده عدد الأيام أو استقرار العادة؟ في ذلك قولان: ثم إذا اعتبرنا الأيام، ففي العدد المعتبر من ذلك أربعة أقوال. قال محمد بن مسلمة: خمسة عشر يوما، وهو المشهور. وقال ابن حبيب: عشرة وقال سحنون: ثمانية واستقرأه الشيخ أبو محمد من الكتاب. وقال ابن الماجشون: خمسة. ومستند هذه التقديرات هو الموجود المعلوم بالاستقراء، وحيث وقع الخلاف، فهو لاختلاف العوائد عن المختلفين فيها، وعلى هذا الأصل يخرج الخلاف في أكثر مسائل هذا الباب. المسألة الثالثة: فيما يمتنع به. وحكمه امتناع أمور خمسة: الأول: ما يفتقر إلى الطهارة؛ كسجود التلاوة والطواف والصلاة وغير ذلك، ثم لا يجب قضاء الصلاة عليها. الثاني: دخول المسجد. الثالث: الصوم فلا يصح منها، ويجب قضاؤه، بخلاف الصلاة. الرابع: الطلاق، واختلف هل منعه فيه خيفة من تطويل العدة، أو هو شرع غير معلل؟ قال أبو الحسن اللخمي: " وهذا هو الظاهر من المذهب ". ويخرج على تحقيق الخلاف ثلاثة فروع: [طلاق] الحائض التي لم يدخل بها، والحامل الحائض، والمستحاضة يتغير دمها على القول بأن عدتها بالسنة.

الفصل الثاني: في الحيض، وهن أربع

الخامس: الجماع، ولا يحرم الاستمتاع بما فوق السرة، ويحرم بما تحت الإزار مما دون الفرج على المشهور. [و] قال ابن حبيب: ذلك للتقية والحذر، وليس ذلك يضيق على من فعل إذا اجتنب الفرج، قال: وكذلك سمعت أصبغ يقول: ويحرم الوطء في الفرج مع استمرار الدم بإجماع، فإن وطئ عصى، ولا كفارة عليه إلا التوبة والاستغفار وترك العودة، رواه ابن وهب وعلي بن زياد. وكذلك الحكم بعد انقطاعه وقبل الاغتسال، وقال ابن بكير: لا يحرم الوطء بعد انقطاع الدم، ولكن يكره للخلاف فيه. وفي جواز وطئها إذا تيممت قولان حكاهما الشيخ أبو الطاهر، ثم بناهما على الخلاف في كون التيمم يرفع الحدث أم لا؟. الفصل الثاني: في الحيض، وهن أربع: المبتدأة، والمعتادة، والمختلطة، والحامل. وحكمهن في ابتداء الحيض واحد، فمن رأت دما وهي في سن من تحيض، فهو حيض، ولا ينظر إلى صفته، مبتدأة كانت أو معتادة حائلا أو حاملا، لكن تتعدد أحكامهن في التمادي. فأما الأولى: فإن انقطع دمها لعادة لذاتها، أو دون ذلك فطهرت، اغتسلت وصلت. وإن تمادى بها الدم، فروى علي بن زياد، أنها تغتسل وتصلي، وتكون مستحاضة. وروى ابن وهب: أنها تستظهر بثلاثة أيام، ثم تكون مستحاضة. وروى ابن القاسم في الكتاب، وأكثر المدنيين: أنها تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما. وأما الثانية، فإن وقفت على عادتها أو أقل، فطهرت، اغتسلت، وصلت، وإن تمادى بها الدم، فهل تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما، أو تقتصر على مقدار عادتها والاستظهار؟ روايتان في الكتاب، وقيل: باقتصارها على العادة من غير استظهار. فروع ثلاثة: الأول: حيث قلنا بالاستظهار على العادة، فكانت عادتها تختلف، استظهرت على

أكثرها. وقال ابن حبيب: تستظهر على أقلها. الثاني: أنها في أيام الاستظهار كالحائض حقيقة، فإن بقي بعدها إلى تمام خمسة عشر يوما [أيام]، فقيل: حكمها (فيها) حكم الطاهر المطلق. وقيل: تحتاط، فتصوم وتقضي، وتصلى ولا تقضي، وتمتنع من الزوج، وتغتسل عند انقضاء الخمسة عشرة يوما. قال عبد الحق: " ويكن هذا الغسل هو الواجب على هذا القول، والأول احتياط "، قال: " وأما على القول الأول فيكون استحبابا، والواجب هو المفعول عند تمام الاستظهار ". الثالث: إذا انقطع الدم ثم عاد بعد مضي طهر تام، فهو حيض مؤتنف، وإن كان قبل مضي طهر تام فالمجموع حيضة واحدة، إلا أن يزيد مجموع الدمين على خمسة عشر يوما، فيكون الزائد استحاضة، وكذلك لو كمل زممن الحيض من الأول، لكان الثاني استحاضة. وفي هذا الأرض فرع تظهر فائدة الخلاف في أقل الطهر على ما تقدم. وأما الثالثة، وهي التي ترى الدم يوما أو أياما، والطهر كذلك، حتى لم يحصل طهر محقق، فحكمها أنها إن زاد الحيض على الطهر فهي مستحاضة. وإن تساويا أو كان الطهر أكثر، ولم ينقطع الدم أياما يكون طهرا تاما، فالمشهور أنها تلفق أيام الدم، وتحسب منها ما رأت فيه الدم، ولو طهرت في بقيته حتى تكمل لها من ذلك عادتها أو عادة لذاتها إن كانت مبتدأة، ثم يكون حكمها في الاقتصار على ذلك، أو الاستظهار عليه، أو التمادي إلى (تمام) خمسة عشر يوما، على ما تقدم، وتلغي في جميع ذلك أيام الطهر، ثم تكون بعد ذلك مستحاضة. وقال محمد بن مسلمة: لا تكون مستحاضة ما لم تزد أيام الدم على أيام الطهر، وإلا فهي حائض في أيام الدم، طاهر حقيقة في أيام النقاء، ولو تمادت على ذلك عمرها. ثم حيث حكمنا بالاستحاضة، فهي مستمرة على ذلك ما لم يتغير الدم بعد مضي مدة طهر تام، أو (تستأنف) بعد انقطاعه مدة الطهر. وأما الرابعة، فحكمها في أول رؤية الدم حكم الحائل، وكذلك إن تمادى بها ولم تتغير عادتها، فإن غير الحمل عادتها وتمادى بها الدم، فالمغيرة وأشهب يجريانها مجرى الحائل، وابن القاسم وغيره يزيدون في مدة حيضها، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الزيادة، فقال

ابن القاسم في الكتاب: " تمكث بعد الثلاثة الأشهر ونحوها خمسة عشر يوما أو نحو ذلك "، وإذا جاوزت الستة الأشهر ثم رأته، نكثت ما بينها وبين العشرين أو نحو ذلك، وروى عنه أبو زيد: آخر الحمل ثلاثين يوما. وقال ابن الماجشون: أكثره خمسة عشر يوما، قال: ولا أنظر إلى أول الحمل، ولا (إلى) آخره. وروى مطرف: أنها إن رأته في الشهر الأول مكثت أيام عادتها والاستظهار، وإن رأته في الثاني مكثت ضعف العادة من غير استظهار. وفي الثالث تمكث ثلاثة أقوال أمثال العادة. وفي الرابع أربعة أمثالها، وهكذا حتى تنتهي أيام الدم إلى ستين يوما، فلا تزيد عليها. وروى علي بن زياد: أنها تمكث أقصى ما يكون الدم بالحوامل، فلم يحد أياما. وقيل في هذا: (إنها) تمكث ما لم تسترب من طوله، وترى أنه سقم حدث، وليس مما يعرض للنساء في الحمل. وقال ابن وهب: تمكث ضعف أيامها فقط. فروع مرتبة: الأول: في معرفة الطهر، وله علامتان: الجفوف، وهو أن تدخل المرأة الخرقة فتخرجها جافة. والقصة البيضاء وهو ماء رقيق أبيض، يأتي في آخر الحيض، كماء القصة وهو الجير. الثاني: وهو مرتب على الأول: أي العلامتين أبلغ؟ فروى ابن القاسم: " أن القصة أبلغ من الجفوف ". وقال ابن عبد الحكم: " الجفوف أبلغ ". وقال القاضي أبو

الفصل الثالث: في (المستحاضات)

محمد وأبو (جعفر) الداودي بالتسوية بين العلامتين. وسبب الخلاف: اختلاف الشهادة بالعوائد. وثمرته حكم من رأت غير عادتها منهما، فمعتادة الجفوف لا تنتظره على رواية ابن القاسم، ومعتادة القصة تنتظرها، وتنتظره معتادته عند ابن الحكم، ولا تنتظرها معتادتها. وأما القاضي أبو محمد والداودي فلا تنتظر عندهما، بل تعمل على أي العلامتين رأت من غير تفصيل. والثالث: وهو مرتب على الثاني أنا حيث قلنا تنتظر علامتها، فذلك ما لم يخرج الوقت المختار، وقيل: الضروري، هذا حكم المعتادة. فأما المبتدأة التي ليس لها عادة، فقال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون: لا تطهر إلا بالجفوف. وقال غيرهم: تطهر بما تراه من العلامتين، قال القاضي أبو الوليد: " وهذا القول من ابن القاسم نزوع إلى قول ابن عبد الحكم ". الفصل الثالث: في (المستحاضات) وإذا تمادى الدم بالحائض، وحكم لها بالاستحاضة على أي هذه الأقوال، (فلا

(تخلو) أن تكون مبتدأة أو معتادة، وكل واحدة منهما. إما مميزة وإما غير مميزة، [فهن] إذا على أربعة أقسام. 1 - مبتدأة مميزة. 2 - مبتدأة غير مميزة. 3 - معتادة (من غير) تمييز. 4 - معتادة بتمييز. فأما الأولى فحيضها مدة تمييزها، بشرط أن لا يزيد على أكثر مدة الحيض، فإن زاد على أكثره، لم يكن حيضا. وأما الثانية، وهي المبتدأة من غير تمييز، فقد تقدم المذهب فيها. قال القاضي أبو بكر: " والصحيح جلوسها خمسة عشر يوما، ثم يحكم لها بالاستحاضة ". وأما الثالثة: وهي المعتادة من غير تمييز، فهي على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقتصر على عادتها كما تقدم، قاله المغيرة، وأبو مصعب، قالا: وذلك إذا شكت، فلم تدر (أذلك) انتقال أو استحاضة، فإنها تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يصيبها زوجها احتياطا، ثم ينظر إلى ما يصير إليه أمرها، فإن انقطع الدم عنها لتمام خمسة عشر يوما، علم أنه قد انتقلت عادتها، وكانت المدة كلها حيضا، وإن استمر الدم، علم أن ذلك استحاضة، واعتدت بحيضتها على ما تقدم من عادتها، وتقضي الصوم فيما بين ذلك وبين الزيادة على خمسة عشر يوما). [و] القول الثاني: أنها تبلغ خمسة عشر يومان قاله مطرف.

الفصل الرابع: في دم النفاس

الثالث: القول بالاستظهار على العادة كما تقدم، لكن اختلف القائلون به، هل (يتجاوز) به الخمسة عشر يوما، أم لا؟ فالمشهور أنه لا [تتجاوزها]، وفي كتاب محمد: أنها تستظهر على الخمسة عشر يوما بيوم أو يومين. وقال ابن نافع في كتاب ابن سحنون: أنها تستظهر عليها بثلاثة أيام، وأنكره سحنون. وأما الرابعة: وهي المعتادة بتمييز، فالمذهب أنها تعتبر التمييز لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، ولأن العادة قد تختلف، والتمييز لا يختلف، ولأن النظر إلى اللون اجتهاد، والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد. فرع: والاستحاضة كسلس البول لا تمنع الصلاة، لكن يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة. وأما غسلها فمن طهر إلى طهر، إن كانت مميزة، وإن لم تكن مميزة، فغسلها عند الحكم عليها بالاستحاضة يجزئها. الفصل الرابع: في دم النفاس وهو الدم الخارج من الفرج بسبب الولادة من غير مرض خارج عنها. وفي تحديد أكثره بستين يوما، أو رد تحديده إلى العادة، روايتان في الكتاب. ولا شك في أن ما بعد تمام الوضع نفاس معتد به، فأما الدم بين التوأمين ففي كونه نفاسا لانفصال الأول، أو حيضا لبقاء الثاني، قولان في الكتاب، وإذا قلنا بأنه نفاس.

فما بعد الثاني معه نفسا واحد. ولو انقع دم النافس، ثم عاد بعد مضي طهر تام، فهو حيض. وإن عاد لدون الطهر فهو نفاس، إلا أن يكون النفاس كمل بالأول، فيكون استحاضة. وحكم دم النفاس فيما يمنعه، وفي اقتضاء الغسل، حكم دم الحيض على ما تقدم (والله أعلم) (تم كتاب الطهارة) والحمد لله، [حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد نبيه ورسوله وعبده].

كتاب الصلاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما] كتاب الصلاة وفيه أبواب: الباب الأول: [في المواقيت] وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في وقت الرفاهية أما الظهر فيدخل وقتها بزوال الشمس، وهو عبارة عن ظهور بداية انحطاطها عن نهاية ارتفاعها، فيبتدئ الظل بالزيادة بعد أن كان متناقصا. ويتمادى وقت الاختيار إلى أن تصير زيادة ظل (الشخص) مثله، وبه يدخل وقت العصر، فيكنون الوقت مشتركا بينهما، إلى أن تتجاوز زيادة الظل المثل، [فيختص] العصر بالوقت. وقال أشهب: بل الاشتراك في القامة الأولى، فيكون ما قبلها بقدر ما توقع فيه إحدى

الصلاتين مشتركا بينهما. واختار هذا القول أبو إسحاق التونسي، وحكاه القاضي أبو بكر رواية عن مالك. وقال ابن حبيب بالتعاقب، ونفي الاشتراك، ورأى أن آخر وقت الظهر إذا كان الظل بعد الفراغ منها تمام القامة، يعين المثل. وأول وقت العصر تمام القامة، قال الشيخ أبو محمد: " هذا خلاف قول مالك رحمه الله ". ثم يتمادى وقت العصر إلى غروب الشمس، ووقت الفضيلة في الأول، وبعده وقت الاختيار ما دامت الشمس بيضاء نقية، لم تصفر على الجدران والأراضي. وروى ابن عبد الحكم في مختصره: إلى أن تصير زيادة ظل (الشخص) مثليه. قال القاضي أبو بكر: " والقولان مرويان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " وهما متساويان في المعنى؛ لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعا حتى ينتهي ثني الظل، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض، حتى تأخذ الشمس في التطفيل، فتتمكن الصفرة، وبعده وقت الجواز إلى حين الاصفرار ". ووقت المغرب يدخل بغروب الشمس، قال القاضي أبو محمد: " والمراعى في ذلك غيبوبة جرمها وقرصها المستدير، دون أثرها وشعاعها ". ويتمادى وقتها إلى مغيب الشفق على إحدى الروايتين، وهي مذهب الموطأ، وفي المدونة ما يقتضي ذلك. وعلى الرواية الأخرى وهي رواية ابن عبد الحكم وقول ابن المواز: وقتها واحد، مضيق غير ممتد، مقدر آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف، وهي التي حكاها العراقيون عن المذهب. ووقت العشاء يدخل بغيبوبة الشفق، وهي الحمرة التي تلي الشمس دون البياض والصفرة، وهي آخر وقت المغرب، على مذهب الموطأ يشتركان فيها عليه.

ثم يمتد وقت الاختيار في العشاء إلى الثلث الأول من الليل، وقال ابن حبيب: يمتد إلى النصف. وسبب الخلاف اختلاف أحاديث: ووقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الصادق المستطير ضوؤه، لا بالفجر الكاذب الذي يبدو مستطيلا ثم [ينمحق]، وهي الصلاة الوسطى. ويتمادى وقت الاختيار إلى الأسفار الأعلى على قول، وإلى طلوع الشمس في قول آخر. قال القاضي أبو الوليد: " ولمالك مسائل يؤخذ منها القولان ". وقال القاضي أبو بكر: " الصحيح عن مالك أن وقتها يمتد إلى طلوع الشمس ولا وقت ضرورة لها "، قال: " وما روي عنه خلافه لا يصح ". ثم يقدم أذان هذه الصلاة على الوقت لسدس يبقى من الليل. وقال ابن حبيب: يدخل وقت الأذان لها بخروج وقت العشاء المختار. قواعد ثلاث: الأولى: قال الإمام " أبو عبد الله ": " وجوب الصلاة يتعلق عند جمهور المالكية بجميع الوقت، وقيل: بل يتعلق بزمن واحد يسع فعل العبادة، ولكنه غير متعين، وإنما يتعين إذا أوقع المكلف العبادة فيه "، قال: وقد قال القاضي أبو الوليد: " (إن هذا المذهب هو الجاري على أصول المالكية "، وحكى عنه تخريجه على قول أهل المذهب في خصال الكفارة، ثم تعقبه الإمام، وفرق بأن الخصال متعلق الأحكام والزمان محل الأفعال. وإذا فرعنا على الأول، ومات المكلف في وسط الوقت قبل الأداء لم يعص. ولو أخر حتى خرج بعض الصلاة من الوقت، فقيل: يكون جميعها أداء، وقيل: بل القدر الموقع في الوقت فقط.

وثمرة الخلاف: وجوب القضاء على من أخرت صلاة العصر، ثم صلت منها ركعة مثلا، فغربت الشمس ثم حاضت، وعدم وجوبه، وفي ذلك قولان لسحنون وأصبغ. الثانية: تعجيل الصلاة في أوائل الأوقات أفضل في حق المنفرد على الإطلاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها». ولم يعرض في الفذ عارض ينقله إلى استحباب التأخير، وحكى القاضي أبو محمد: " أن حكم الفذ في ذلك حكم الجماعة، والأفضل في حق الجماعة تأخير الظهر إلى ربع القامة، ويزاد على ذلك في شدة الحر للإبراد ". وأما الجمعة، فقال ابن حبيب: سنتها في الشتاء والصيف أن تصلي في أول الوقت حين تزول الشمس، أو بعد أن تزول بقليل، قال: وكذلك قال مالك. وتأخير العشاء أفضل، وقيل: بل تقديمها أفضل، واختار بعض المتأخرين التقديم إن اجتمع الناس، وانتظارهم إن أبطأوا. واستحب ابن حبيب تأخيرها في (زمن) الشتاء قليلا لطول الليل، وفي ليالي شهر رمضان أكثر من ذلك قليلا توسعة على الناس في إفطارهم. وأما العصر، فتقديمها أفضل، وقال أشهب: يستحب تأخيرها إلى زيادة ذراع على القامة، لا سيما في شدة الحر. واستحب ابن حبيب تعجيلها يوم الجمعة، ليقرب انصراف المنتظرين لها ممن صلى الجمعة. وأما المغرب والصبح فتقديمها بعد تحقق دخول وقتيهما أفضل على كل حال. الثالثة: من اشتبه عليه الوقت فليجتهد، ويستدل بما يغلب على ظنه دخوله، وإن خفي عليه ضوء الشمس، فليستدل بالأوراد، وأعمال أرباب الصنائع، وشبه ذلك، ويحتاط. قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك إن من سنة الصلاة في الغيم تأخير الظهر، وتعجيل العصر، وتأخير المغرب حتى لا يشك في الليل، وتعجيل العشاء، إلا أنه يتحرى ذهاب الحمرة، وتأخير الصبح حتى لا يشك في الفجر.

الفصل الثاني: في وقت المعذورين

ثم إن وقعت صلاته في الوقت أو بعده فلا قضاء، وإن وقعت قبل الوقت قضى، كالاجتهاد في طلب شهر رمضان، ووقع لأشهب في المجموعة: أرجو لمن صلى العصر قبل القامة، والعشاء قبل مغيب الشفق أن يكون قد صلى وإن كان بغير عرفة. وقال ابن القاسم فيها أيضا: كمن جمع بين العشاءين في الحضر من غير ضرورة أعاد الثانية أبدا. الفصل الثاني: في وقت المعذورين ونعني بالعذر الحيض والكفر والصبا والجنون والنسيان، وللأعذار حالتان: الأولى: أن يخلو عنها آخر الوقت بمقدار ركعة فأكثر، كما لو طهرت الحائض قبل الغروب بركعة فتلزمها العصر، ولا تلزمها بأقل من ذلك. وقال أشهب: تلزمها بإدراك الركوع فقط، ولا تلزمها الظهر بما تلزمها به العصر، بل لا بد من زيادة عدد ركعات الظهر على ذلك، حتى يتصور الفراغ منها فعلا، ثم يفرض لزوم العصر بعدها، وهل هذه الزيادة في مقابلة الظهر أو العصر؟ قولان: " والمشهور أن آخر الوقت لأولى الصلاتين. وسبب الخلاف: هل تشترك الصلاتان المشتركتا الوقتين من أول وقت الأولى إلى آخر وقت الثانية، أو تختص الأولى من أول وقتها بمقدار ما يسع إيقاع عدد ركعاتها فيه، سفرية كانت أو حضرية، وتختص الثانية أيضا من آخر وقتها بمثل ذلك، وفي هذا الأصل قولان. وتظهر فائدة الخلاف في المغرب والعشاء بتقدير ما يدركان به في حالتي الإقامة والسفر. فلو طهرت الحائض لأربع ركعات قبل الفجر، لكانت مدركة للمغرب والعشاء، وقال ابن الماجشون وابن مسلمة: تكون مدركة للعشاء خاصة. ولو طهرت المسافرة قبل الفجر بثلاث ركعات لكانت مدركة للعشاء عند ابن القاسم وأصبغ، وقال ابن عبد الحكم: هي مدركة للصلاتين جمعيا، المغرب والعشاء. قال أصبغ: هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم، فقال لي: أصبت أنت، وأخطأ ابن عبد الحكم. وذكر لسحنون قول أصبغ، فقال: أصاب ابن عبد الحكم، لأن آخر الوقت لآخر الصلاتين. وهل المعتبر إدراك من ذكرنا هذا القدر عند زوال العذر من غير مزيد، أو بعد زوال العذر وفعل الطهارة؟ اختلف في ذلك، فحكى ابن سحنون عن أبيه، وابن حبيب عن أصبغ أنهما قالا: تعتبر في جميعهم بعد زوال العذر مدة الطهارة. قال القاضي أبو محمد: " وهو القياس ".

وقال ابن القاسم: تعتبر في جميعهم، إلا الكافر لأنه لم يكن معذورا بتأخير الصلاة، بخلاف غيره، وقال ابن حبيب: باستثناء الكافر والمغمى عليه. وقال بعض المتأخرين (بجريان) الخلاف في الجميع، وبناء الخلاف فيهم على أن الطهارة شرط في الوجوب، أو في الأداء؟ فرع: لو زال الصبا في الوقت بعد أداء الصلاة وجبت إعادتها، وقيل: بنفي وجوب الإعادة، وهو في السليمانية. (وكذا) الخلاف (لو بلغ) بعد أداء الظهر، وقيل إقامة الجمعة. الحالة الثانية: أن لا يخلو آخر الوقت عنها، بأن يعم العذر جميع الوقت، فيسقط القضاء عن الحائض، وكذلك لو دخلا أول الوقت فقط، لسقط القضاء أيضا عنها، بل لو طرأ الحيض وقد بقي من الوقت مقدار ما يسع الصلاة أو ركعة منها، لم يلزمها القضاء إذ حاضت والوقت باق. والمرتد كالكافر الأصلي، لا يجب عليه قضاء. والصبي يؤمر بالصلاة لسبع سنين، ويضرب على تركها لعشر، وإن لم يكن عليه قضاء، والإغماء في معنى الجنون، قل أو كثر. وأما السكر وزوال العقل بسبب محرم، فلا يسقط القضاء. قال الإمام أبو عبد الله: " والمراد بالنسيان المذكور في الأعذار، ما اقترن به الخروج للسفر، أو القدوم منه، كمن نسي صلاة في الحضر، فخرج في آخر وقتها، أو بعد تقضي الوقت. وكذلك في المسافر يقدم "، (قال): " لأن الناسي الذي لم يتغير حلاه بقدوم ولا سفر، يصلي متى ما ذكر، لا يختلف حكمنه في هذا باختلاف الأوقات، وإنما يختلف حكم من تقدم ذكره ".

والمقصود من هذا القسم، بيان حكم أداء الصلاتين المشتركتين حضريتين أو سفريتين أو إحداهما حضرية، والأخرى سفرية. فإن خرج وقد بقي عليه من النهار مقدار ثلاث ركعات فأكثر، صلى الظهر والعصر سفريتين، وإن كان دون ذلك إلى ركعة، صلى الظهر حضرية، والعصر سفرية. ولو قدم وقد بقي للغروب خمس ركعات فأكثر، صلاهما حضريتين. وإن كان الباقي دون ذلك إلى ركعة، صلى الظهر سفرية، والعصر حضرية. ولو سافر قبل الفجر بأربع ركعات، صلى العشاء سفرية، فإن كان سفره قبله بدون ذلك؛ فحكى الشيخ أبو القاسم في قصرها وإتمامها روايتين. وإن قدم قبل الفجر بأربع ركعات، صلاها حضرية، وإن كان أقل من ذلك، فخرجها الشيخ أبو القاسم على روايتين. فروع أربعة: الأول: كمن بقي بينه وبين غروب الشمس، من أصحاب الضرورات مقدار ما يعتبر فلي الصلاتين أو في العصر خاصة، فذكر صلاة منسية، فإنها يصليها. ثم اختلف قول ابن القاسم، هل عليه إذا صلى المنسية وغرب الشمس قضاء الصلاة التي استحقت الوقت بحكم الأداء، قياسا على أصحاب الاختيار إذا أخروا الصلاة حتى ضاق الوقت، وذكروا صلاة منسية، فإنه لم يختلف أنهم يصلون ما حضر وقته بغد فراغهم من المنسية، أو ليس ذلك على أهل الأعذار لأن منعه بالشرع من أداء الصلاة التي استحقت الوقت لأجل اشتغاله بالصلاة المنسية ووجوب تقدمتها عذر يمنع من توجه الصلاة المستحقة للوقت عليه، كما كان الحيض مانعا من توجهها، لما جاء الشرع يمنع الحائض من الصلاة. الفرع الثاني: إذا تطهرت الحائض وبقي لها بعد فراغها ما تدرك به الصلاة فأحدثت، فشرعت في الطهارة، فلم تفرغ منها حتى غربت الشمس، وجب عليها قضاء الصلاة، لأنها كانت قبل طروء الحدث مطلوبة بالصلاة، فطروؤه عليها كطروئه على من توجه عليه الطلب بالصلاة. وقيل: لا يجب عليها قضاء الصلاة، بل يسترسل حكم نفي الخطاب عليها. الفرع الثالث: إذا اغتسلت الحائض بماء غير طاهر، فلما أخذت في الإعادة بالماء الطاهر خرج الوقت، لم يلزمها قضاء ما فات لأجل تشاغلها بالغسل المعاد؛ لأن منعها من الصلاة بالطهر الأول، كمنعها من الصلاة بالحيض، ولو أعادت لكان أحوط. وحكى الشيخ أبو

الفصل الثالث: في أوقات الكراهية

الطاهر قولا بوجوب الإعادة، وقيل: لا تؤمر بالقضاء إذا كان الماء الأول لم يتغير؛ لأن الصلاة به تجزئ، وإنما تعاد في الوقت طلبا للكمال، ولهذا قال أشهب: لو علمت المتطهرة بهذا الماء أنها إذا أخذت في إعادة الغسل غربت الشمس، كانت صلاتها بذلك الغسل أولى من اشتغالها بإعادة الغسل حتى يفوت الوقت. الفرع الرابع: لو قدرت بعد فراغها من غسلها ما قبل الغروب بخمس ركعات [وأخذت] في صلاة الظهر فغربت الشمس عليها في أثنائها، فعليها صلاة العصر؛ إذ لا تسقط الصلاة الواجبة بخطئها واشتغالها بفعل صلاة غير واجبة. ولو كان تقديرها صحيحا، لكنها صلت العصر ناسية للظهر، لوجبت عليها صلاة الظهر لإدراكها وقتها، ولا يسقط الإدراك بفعل خطأ كما تقدم. ثم إذا صلت الظهر، فهل تؤمر بقضاء العصر لأنها أوقعتها في غير وقتها؛ إذ الأربع الأول من الخمس البواقي مختصة بالظهر، فتكون كموقع (عقيب) الزوال بغير فصل، أو لا إعادة عليها؛ لأن الصلاة لا تعاد لأجل المنسية إلا في الوقت؟ قولان. الفصل الثالث: في أوقات الكراهية وهي أربعة: " بعد طلوع الفجر حتى [تصلي] الصبح. وبعد الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع. وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. وبعد صلاة الجمعة حتى ينصر ف المصلي. وألحق بذلك وقت استواء الشمس حتى تزول في إحدى الروايتين، ومذهب الكتاب الجواز. ويستثني عن ذلك الفوائت عموما، وركعتا الفجر، واستدراك قيام الليل لمن نام عن عادته ما بين طلوع الفجر وصلاته خصوصا.

الباب الثاني: في الآذان والإقامة

وهل يصلي على الجنائز ويسجد للتلاوة بعد صلاة الصبح وقبل الإسفار، [أو] بعد صلاة العصر وقبل الاصفرار؟ ثلاثة مذاهب: المنع، وهو مذهب الموطأ. والجواز، وهو في الكتاب. وتخصيص الجواز بما بعد الصبح دون ما بعد العصر، وهو رأي ابن حبيب. ولا يجوز فعلهما في (وقتي) الإسفار والاصفرار، ويجوز فيما عدا هذه الأوقات الأربعة، وهذا ما لم يخش تغيير الميت، فيصلي عليه في جميع الأوقات. فرع: لو تحرم بالصلاة في وقت الكراهية، قطع متى استفاق لذلك، ولا قضاء عليه. الباب الثاني: في الآذان والإقامة والذي نقله العراقيون عن المذهب أنهما سنتان. ونقل جماعة من المتأخرين من الأندلسيين والقرويين أن الأذان فرض كفاية على أهل كل ببلد، فإن تركوه أثموا، وقوتلوا عليه إن امتنعوا عن فعله. وإن فعله أحدهم سقط عن سائرهم، قالوا: وهذا الوجوب لإقامة شعائر الإسلام، قالوا: وهو مع ذلك سنة مؤكدة في

الفصل الأول: المحل ومشروعية الأذان

مساجد الجماعات، ومواضع الأئمة، وحيث يقصد الدعاء للصلاة. واختار القاضي أبو الوليد: " أنه واجب على الكفاية في المساجد والجماعات الراتبة، وعلل الوجوب بوجهين: إقامة الشعار، وتعريف الأوقات؛ إذ لا يجوز إهمالها ". والكلام عليهما ينحصر في ثلاثة فصول. الفصل الأول: المحل ومشروعية الأذان في حق المصلين جماعة في مفروضة مؤداة في الوقت قصد الدعاء إليها، وذلك يختص بالأئمة حيث كانوا، وبمساجد الجماعات. واستحب المتأخرون للمسافر الأذان، وإن كان منفردا؛ لحديث أبي سعيد. أما جماعة بمكان لا يريدون دعاء غيرهم إليهم، أو الفذ كذلك، فوقع في المذهب: لا يؤذنوا، ووقع أيضا إن أذنوا فحسن. قال الشيخ أبو الطاهر: " وأراد أبو الحسن اللخمي أن يجعل المذهب على قولين، وليس كذلك، بل لا يؤمرون بالأذان، كما [يؤمن] به الأئمة، وفي مساجد الجماعات، وإن أذنوا فهو ذكر، والذكر لا ينهي عنه من أراده، لا سيما إذا كان من جنس المشروع. ولا أذان في غير المفروضة، كصلاة الكسوف والاستسقاء والجنائز وصلاة العيد، ولا ينادى لها: الصلاة جامعة، ولا يؤذن للنوافل، ولا للصلاة الفائتة؛ إذ يزيدها ذلك فواتا، ولكن يقيم لها. وإذا جمع الإمام بين الصلاتين، ففي أذانه لكل صلاة، أو الاقتصار على الأذان للأولى

الفصل الثاني: في صفتهما

خاصة، أو ترك الأذان فيهما جملة، ثلاثة أقوال: الأول مذهب الكتاب، والثاني لابن الماجشون، والثالث حكاه الشيخ أبو القاسم، ويقيم لكل واحدة. وأما مشروعية الإقامة، ففي حق كل مصل على العموم، واستثنى ابن عبد الحكم النساء، (فقال): ليس عليهن أذان ولا إقامة، وقال ابن القاسم: " إن أقمن فحسن ". الفصل الثاني: في صفتهما أما الأذان فهو مثنى مثنى، وعدة كلماته في الصبح تسع عشرة، وفي غيره سبع عشرة. وأما الإقامة، فهي فرادى إلا التكبير، وكلماتها عشر على المشهور، وروي تثنية قوله: قد قامت الصلاة، فتكون إحدى عشرة كلمة. وحكاية لفظ الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله، ثم يرجع فيعيد الشهادتين بأرفع من صوته بهما أولا، وهو الترجيع. وقال الإمام أبو عبد الله: " وربما غلط بعض العوام من المؤذنين في نقطه بالشهادتين، فيخفي صوته حتى لا يسمع، وهذا غلط؛ لأن ذكر الله سبحانه وإن كان حسنا سرا وعلنا، فالمقصود به ها هنا إسماع الناس ليعلموا دخول الوقت، فإذا أخفاه لم يحصل الغرض المقصود منه ". ويقول بعض الترجيع: حتى على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ويزيد في الصبح بعد قوله: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، وهو التثويب، وهو مثنى على المشهور. وقال ابن وهب: يقول مرة واحدة: الصلاة خير من النوم. ومشروعيته في أذان الصبح على العموم. وحكى الشيخ أبو إسحاق عن مالك أنه قال: من كان في ضيعته متنحيا عن الناس، أرجو أن يكون من تركها في سعة. ولفظ الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

الفصل الثالث: في صفة المؤذن

وقد تقدم ذكر الخلاف في تثنية قوله: قد قامت الصلاة. والقيام والاستقبال مأمور بهما في الأذان، وأنكر مالك أذان القاعد إلا من عذر يؤذن لنفسه، إذا كان مريضا، وقيل: بالجواز، لأنه ذكر. ولا بأس أن يضع أصبعيه في أذنيه في الأذان والإقامة، أو يترك ذلك. ولا يكره له أن يلتفت في الحيعلتين يمينا وشمالا إذا أراد بذلك المبالغة في الإسماع. وأنرك مالك أن يكون ذلك من حد الأذان، ولا ي حول صدره عن القبلة. وليكن الأذان مرسلا محدرا مستعليا، يرفع به الصوت ولا يدمج، وتدمج الإقامة. قال بعض المتأخرين: وهو موقوف غير معرب في مقاطعة، قال: وكذلك سمع. ولا يتكلم في الأذان ولا في الإقامة، ولا يرد على من سلم عليه. ولا ينبغي لأحد أن يسلم عليه حتى يفرغ. ويؤذن راكبا، ولا يقيم إلا وهو نازل. وروى ابن وهب: " لا بأس أن يقيم راكبا ". ويرتب كلمات الأذان ويواليها، فإن نكس استأنف، وإن فرق يسيرا بنى، وإن تفاحش ابتدأ. الفصل الثالث: في صفة المؤذن ويشترط أن يكون مسلما عاقلا مميزا ذكرا، فلا يعتد بأذان كافر (أو) مجنون أو سكران مخبط أو امرأة. ولا يؤذن إلا من احتلم، وروى أشهب: " لا يؤذن الصبي ولا يقيم، إلا أن يكون مع نساء، أو بموضع لا يكون فيه غيره، فيؤذن ويقيم "، قال الشيخ أبو بكر: هو الاختيار. فإن أذن من لم يلغ جاز، وحكى الإمام أبو عبد الله في أذانه قولين: " الجواز، لأنه ذكر.

والنهي لأنه من أمانات الشريعة وليس من أهلها. وفي المختصر: لا يؤذن (للناس) إلا من يؤم. وفي الحاوي للقاضي أبي الفرج: " لا بأس أن يؤذن قاعدا وراكبا وجنبا، ومن لم يحتلم. وأما الإقامة فلا ". وقال أشهب فيمن أذن لقوم وصلى معهم، فلا يؤذن لآخرين ويقيم، فإن فعل ولم يعيدوا حتى صلوا أجزأهم. وتستحب الطهارة في الأذان، ويصح بدونها. والكراهية في الجنب شديدة، وفي الإقامة أشد. وقال سحنون: " لا بأس بأذان الجنب في غير المسجد ". وليكن المؤذن صيتا حسن الصوت. وأما التطيب، فقال مالك: " هو منكر ". قال ابن حبيب: وكذلك التحزين بغير تطريب، قال: ولا ينبغي إماتة حروفه، والبغي فيه، وهو إفراط المد فيه، وليكن عدلا عارفا بالمواقيت لتقلده عهدتها. وللإمام أن يستأجر على الأذان من بيت المال، واختلف في إجارة غير الإمام من آحاد الناس على الأذان والصلاة، فأجاز ذلك ابن عبد الحكم فيهما على الانفراد والاجتماع. ومنعه ابن حبيب فيهما على الحالتين، والمشهور: المنع في الصلاة بانفرادها والإجارة على الأذان منفردا أو متبوعا بالصلاة. وإذا فرعنا على المشهور، واستؤجر عليها، ثم طرأ عليه ما منعه من الإمامة، فهل يحط من الإجارة بسبب عجزه عن الإمامة، أم لا؟ للمتأخرين في ذلك قولان، مأخذهما هل للاتباع حصة من الثمن أم لا؟ وقد ذكر الإمام أبو عبد الله هذا الخلاف ومأخذه. وحكى روايات وقعت في المذهب، أخذ منها القولان، ثم رجع كون الأثمان (تقابل) بها الاتباع، واستشهد في ذلك بعرف التجار في زيادة الأثمان بسببها، واعتذر عن المسائل الواقعة في القسم الآخر.

وذكر أن فائدة التبعية في الاتباع إنما هي في الحل، أو الاستحقاق لا في عدم المقابلة بجزء من الثمن. فرعان: الأول: إذا كثر المؤذنون فواسع أن يتراسلوا معا، إلا أن كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه، وأن يترتبوا ما لم يكثروا، وذلك يختلف بحسب سعة الوقت وضيقه. ففي ما وقته واسع، كالصبح والظهر والعصر والعشاء ما بين الخمسة إلى العشرة، وشبهه. وفي العصر ما بين الثلاثة إلى الخمسة، وشبه ذلك. وأما المغرب فلا يؤذن فيها إلا واحد. قال أبو إسحاق التونسي: يريد أو جماعة في مرة واحدة، فإن تشاحوا في الأذان لها اقترعوا إن تساووا، وإلا قدم الأولى. الفرع الثاني: في حكاية الأذان: ويؤمر سامع [الأذان] بحكايته، وينتهي إلى آخر التشهدين في ظاهر المذهب. وقيل: يتمادى إلى آخره، ويعوض على الحيعلتين بالحوقلة. ويحكي التشهد مرة واحدة في رواية ابن القاسم. وقال الداودي: " يعاود التشهد إذا ... عاود المؤذن أو قبله ". فإن كان السامع في صلاة، فروى ابن القاسم: " أنه يحكي في النافلة دون الفريضة ". وروى أبو مصعب " أنه يحكي فيهما ". قال ابن وهب: لا بأس به فيهما، واستحبه ابن حبيب. وقال سحنون: " لا يحكي في واحدة منهما ".

الباب الثالث: في الاستقبال

ثم حيث قلنا: يحكى، فلا يتجاوز التشهدين. (ولو قال في الصلاة: حي على الصلاة، فقال أبو محمد الأصيلي: لا تبطل صلاته، لأنه متأول. وحكى عبد الحق عن بعض القرويين: " أن صلاته تبطل، وأنه كالمتكلم ". وحكى ذلك عن القاضي أبي الحسن. ولو أبطأ المؤذن فقال مثل ما يقول، أو عجل قبل المؤذن، أجزأه ذلك، وهو واسع. الباب الثالث: في الاستقبال والنظر فيه أركان ثلاثة: الأول: الصلاة، ويتعين الاستقبال في فرائضها، إلا في القتال. ولا تؤدي فريضة على الراحلة، ولا صلة جنازة، ولا تؤدي فريضة على بعير دون أدائها بالأرض. وإن كان معقولا، فإن أديت مثل أدائها بالأرض، ففي جواز ذلك وكراهيته قولان. أما (النوافل) (فتجوز) إقامتها في السفر الطويل للراكب دون الماشي، ولا (تجوز) في السفر القصير، ولا في الحضر. ولا يضر انحراف الدابة عن القبلة في التمادي، ولا في الابتداء، وصوب الطريق بدل عن القبلة في دوام الصلاة، فلا يصرف وجهه عن جهته. ولا يصلي راكب السفينة إلا إلى القبلة، فإن دارت السفينة استدار. وروى ابن حبيب: أنه يتنفل فيها حيث سارت به كالدابة.

ثم على الراكب أن يومي بالركوع والسجود، وليجعله أخفض من الركوع. الركن الثاني: القبلة، ومواقف المصلي المستقبل مختلفة، فالمصلي في جوف الكعبة حيث صححنا يستقبل أي دار شاء. والمذهب جواز (صلاة) النفل فيها. والمنع من صلاة الفرض والسنن كالوتر، وركعتي الفجر. قال أبو الحسن اللخمي: " وأجازه أشهب في مدونته في الفرض إن فعل "، وقال: " لا إعادة عليه، وإن كان يستحب له أن لا يفعل ذلك ابتداء ". وإذا فرعنا على المشهور، فصلى الفرض فيها، فقال ابن حبيب: يعيد أبدا في العمد والجهل. وقال في الكتاب: " يعيد في الوقت ". وقال أصبغ: تبطل وتجب الإعادة وإن ذهب الوقت. ولكنه ذكر ذلك في متعمد الصلاة فيها، فقال بعض المتأخرين: ظاهر قوله أنه لو كان ناسيا لأعاد في الوقت؛ لأن الناسي للقبلة إنما يعيد في الوقت، واستشهد بقوله في الكتاب: " يعيد في الوقت "، كمن صلى إلى غير القبلة، قال: وإنما يصح (هذا) التشبيه فيمن صلى إلى غير القبلة ناسيا، " والصلاة في الحجر كالصلاة في البيت ". فأما الصلاة فوق ظهرها، فمنهي عنه. وحمل القاضي أبو محمد النهي على ما إذا لم يقم عليه قائما يقصده، وحمل النهي على الإطلاق رأي الجماعة، وقد حكى الإمام أبو عبد الله أن المشهور " منع الصلاة على ظهر الكعبة، وأن ذلك أشد من منع الصلاة داخلها، وأن الإعادة تجب فيه أبدا ". وحكى عن محمد بن عبد الحكم الإجراء، وحكي عن أشهب الإجراء إن كان بين يديه قطعة من سطحها. وبناء الخلاف على أن المشروع استقبال بنائها أو هوائها؟ ولو امتد صف مستطيل قريبا من البيت، فالخارج من سمت البيت لا صلاة له، ولو فرض بعد هؤلاء عن مكة في أفق من الآفاق لصحت صلاتهم. والواقف بمكة خارج المسجد يسوي محرابه بناء على عيان الكعبة، فإن لم يقدر استدل عليها بما يدل عليها، (وأن) كان يقدر ولكن بمشقة، فقد تردد بعض المتأخرين في جواز اقتصاره على الاجتهاد.

والواقف بالمدينة ينزل محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه منزلة الكعبة، (فليس) له الاجتهاد فيه بالتيامن والتياسر. الركن الثالث: في المستقبل. والقادر على معرفة القبلة يقينا لا يجوز له الاجتهاد، والقادر على الاجتهاد لا يجوز له التقليد بل يجتهد، وهل مطلوبه في الاجتهاد الجهة أو السمت والعين؟ قولان للشيخ أبي بكر والقاضي أبي الحسن. وللأعمى العاجز أن يقلد شخصا مكلفا مسلما عارفا بأدلة القبلة، فلو كان يستقل عند الإخبار عن الأحوال بمعرفة طرق الاجتهاد، قلد في السماع واجتهد بناء على ما سمع. وليس للمجتهد أن يقلد غيره، فإن تخير في الحال في نظره، فهل يتخير جهة يصلي إليها، أو يصلي أربع صلوات إلى الجهات الأربع، أو يقلد؟ ثلاثة مذاهب. أما البصير الجاهل بالأدلة، فإن كان بحيث لو اطلع على وجه الاجتهاد لاهتدى إليه، لزمه السؤال، ولا يقلد. وإن كان بحيث لا يهتدي، ففرضه التقليد، فإن عدم من يقلده، فقال محمد بن عبد الحكم: يصلي إلى أي جهة شاء، قال: ولو صلى أربع صلوات لكان مذهبا. ومن صلى بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ، فلا إعادة عليه بعد الوقت، لكن يعيد في الوقت. وقال المغيرة ومحمد بن مسلمة: هذا إن شرق أو غرب. وأما إن استدبر القبلة، فإنه يعيد وإن خرج الوقت. وقال ابن سحنون: يقضي وإن خرج الوقت في الوجهين جميعا. وسبب الخلاف: هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد؟ وإذا فرعنا على المشهور، فاختلف في منتهي الوقت الذي يعيد إليه في الظهر والعصر، فقيل: غروب الشمس، وقيل: اصفرارها، وخرجه بعض المتأخرين على القول بتأثيم مؤخر الصلاة إلى الاصفرار. وهذا الخلاف جار في إعادة من صلى بنجاسة ناسيا. ومن صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بأربع اجتهادات، ولم يتعين له الخطأ، فلا قضاء عليه في وقت ولا غيره. وإن تيقن أنه استدبر القبلة، أو شرق أو غرب وهو في أثناء الصلاة، قطع وابتداء. ولو بأن له الخطأ في التيامن والتياسر، ولم يشرق أو يغرب، فإن كان في الصلاة انحرف

الباب الرابع: في كيفية الصلاة

وأتمها ولا شيء عليه، وإن علم بذلك بعد الفراغ من الصلاة، فلا قضاء عليه. فروع: الأول: إذا صلى صلاة باجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، استأنف الاجتهاد لها. الثاني: لو أدى اجتهاد رجلين إلى جهتين، فلا يقتدي أحدهما بالآخر. الثالث: لو اجتهد بالأعمي رجل، ثم قال له آخر: قد أخطأ بك، فصدقه، وانحرف حين قال له، وما مضى مجزي عنه لأنه اجتهد له من له اجتهاد. قال ابن سحنون: هذا هو الحق، إذا كان المخبر مخبرا باجتهاده لا بحقيقة. فإن أخبر عن عيان حقيقة القبلة، لزم الأعمى إبطال ما مضى من صلاته. الباب الرابع: في كيفية الصلاة وأفعال الصلاة تنقسم إلى أركان وسنن وفضائل. أما أركانها التي هي منها فتسعة: التكبير للإحرام، وقراءة أم القرآن، والقيام لهما، والركوع، والرفع منه، والسجود، والفصل بين السجدتين، وقدر ما يعتدل فيه ويسلم من الجلوس الأخير، والتسليم. واختلف في عد الطمأنينة من الواجبات (أو) من الفضائل، ولم نعد النية لأنها من الفروض الخارجة عن ذات الصلاة، فهي بالشرط أشبه، ولو كانت ركنا لافتقرت إلى نية. وأما السنن، فاثنتا عشرة، وهي: قراءة سورة مع أم القرآن، والقيام لها، والجهر بالقراءة في موضع الجهر، والإسرار في موضعه، والتكبير سوى التكبير للإحرام، والقول: سمع الله لمن حمده، والجلوس الأول، والتشهد فيه، والزائد على مقدار الواجب من الجلوس الأخير، والتشهد فيه، والاعتدال في الفصل بين الأركان على أحد القولين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المشهور. وأما الفضائل: فعدها القاضي أبو محمد سبعا. رفع اليدين مع التكبير الإحرام، وإطالة القراءة وقصرها في الصلوات على ما سيأتي، والتأمين بعد الفاتحة، والتسبيح في الركوع والسجود، والقنوت في الفجر، وقول المأموم: ربنا (و) لك الحمد، وسجود التلاوة.

ولنورد الأركان بسننها وفضائلها على ترتيبها. الركن الأول: التكبير للإحرام. ولتكن النية مقرونة به، ثم كيفية النية أن يقصد بقلبه الدخول في الصلاة المعينة، ويكون قصده مقارنا للفظ التكبير، وسواء ابتديا في حال، أو تقدمت النية، واستصحبت ذكرا إلى التكبير، ولا يفتقر في عقد الصلاة مع النية إلى لفظ سوى لفظ التكبير، وهل يلزمه التعرض في نيته لعدد الركعات؟ فيه خلاف ينبني عليه الخلاف في ثلاثة فروع: من افتتح بنية القصر فأتم، أو بالعكس، ومن افتتح صلاة الجمعة، فلم تتم له شروطها، هل يتم عليها ظهرا أم لا؟ ومن دخل مع الإمام في صلاة الجمعة يظنها الظهر أو بالعكس. ففي جميع ذلك خلاف. وإذا قارنت النية وجب استصحابها حكما، وهو استدامة أمرها، بأن لا يحدث ما ينافيها، ويناقض جزمها، كما لو نوى الخروج في الحال أو في ثانية، فلو عزبت في أثناء الصلاة لم يضره ذلك. وحكى ابن سحنون عن أبيه: أنه كان يصلي ثم يعيد، ويعتذر بأن نيته عزبت. وقال القاضي أبو بكر: " إن عزبت بأمر خطر في الصلاة، أو بسبب عارض، لم يضر ". وإن كانت بأسباب متقدمة قد لزمت العبد من الانهماك في الدنيا، والتعلق بعلائقها الزائدة، والتشبث بفضولها، فيقوي ترك الاعتداد بالصلاة، لأن ذلك واقع باختيار، هذا حكم النية. أما التكبير، فيتعين لفظه على القادر، ولا تجزي ترجمته، وهو أن يقول: الله أكبر، لا يجزي غيره من قوله: الأكبر، أو أجل، أو أعظم. (أما الأبكم فيدخل بالنية، ولا يلزمه غير ذلك. وأما العاجز لجهله باللغة، فقال الشيخ أبو بكر: ليس عليه نطق آخر سواه يفتتح به الصلاة عوضا عن التكبير، قال الإمام أبو عبد الله: " هو صحيح على أصلنا ". وقال القاضي أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام. وحكى القاضي أبو محمد عن بعض أشياخه: " أنه يدخل الصلاة بلسانه، فإذا شرع في التكبير، رفع يديه معه، على المعروف من المذهب "، قال القاضي أبو محمد: " إلى المنكبين، لا إلى الأذنين ".

واختار المتأخرون أن يحاذي بالكوع الصدر، وبطرف الكف المنكب وبأطراف الأصابع الأذنين، وهذا إنما يتهيأ إذا كانت يداه قائمتين، رؤوس أصابعهما مما يلي السماء، وهي صفة النابذ. وقال سحنون: [تكونان] مبسوطتين بطونهما مما يلي الأرض وظهورهما مما يلي السماء، وهي صفة الراهب. ثم إذا أرسل يديه، قبض باليمنى على المعصم والكوع من يده اليسرى تحت صدره، على رواية مطرف وابن الماجشون في استحسان ذلك، ويسدلهما على ظاهر رواية ابن القاسم في الكتاب؛ إذ روى: " لا بأس به في النافلة، وكرهه في الفريضة ". لكن تأول القاضيان أبو محمد وأبو الوليد روايته وحملاها على الاعتماد؛ لأنه هو المكروه في الفريضة، المباح في النافلة، لا على وضع اليمنى على اليسرى الذي هو هيئة من هيئات الصلاة، وهو مخير على رواية أشهب، إذ روى الإباحة فيهما، وكذلك قال في المختصر: لا بأس بوضع اليد على اليد في الصلاة. الركن الثاني: قراءة أم القرآن. وليعقب التكبير بقراءتها، ولا يفصل بينهما بشيء، وهي متعينة، لا يجزي عنها غيرها، ولا تقوم ترجمتها مقامها. ومن لم يحسنها وجب عليه تعلمها، فإن لم يسعه وقت الصلاة للتعلم ائتم بمن يحسنها، فإن لم ي جد (فقال (ابن) سحنون: فرضه أن يذكر الله سبحانه. وقال الإمام أبو عبد الله: " ظاهر كلام أشهب، أن تعويض الذكر يجب في محل القراءة "، قال: " ومقتضى قول الأبهري عندي، أنه لا يجب عليه تعويض، كما لم يوجب

تعويضا على من لا يحسن النطق بتكبيرة الإحرام لما كانت متعينة ". وقال القاضي أبو محمد: " لا يجب، ويستحب أن يقف وقوفا ما، فإن لم يفعل أجزأه ". وفي المبسوط: أنه ينبغي له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة، ويذكر الله). فرع: لو افتتح الصلاة كما أمر، وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة، قالوا: ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها، فعلقت بحفظه من مجرد السماع، فلا يستأنف الصلاة؛ لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به، فلا وجه لإبطاله، قاله في كتاب ابن سحنون. ويستوي في وجوبها الإمان والفذ، ولا تجب على المأموم، لكن (تستحب) قراءتها في السر دون الجهر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب: لا يقرأها في الجهر ولا في السر. وتجب في كل ركعة على الرواية المشهورة، قال القاضي أبو محمد: " وهذا هو الصحيح من المذهب، وفي الأكثر على الأخرى ". وقال المغيرة: يجتزى بوجودها في ركعة واحدة. وليست بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية منها، ولا من غيرها، سوى سورة النمل، ولا تجب قراءتها في الصلاة، لما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، قال: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فلا في أول قراءة، ولا في آخرها: ". ومن قرأ بالقراءة الشاذة لم تجزئهن ومن ائتم به أعاد أبدا، ثم بعد الفاتحة فضيلة وسنة، فالفضيلة التأمين مع تخفيف الميم ممدودة أو مقصورة. ويؤمن المأموم إذا سمع قول الإمام: ولا الضالين، وقال ابن عبدوس: يتحرى فيؤمن إذا لم يسمع. ويؤمن الإمام إذا أسر، قال القاضي أبو الوليد: " لم يختلف أصحابنا في ذلك "، وعلله بأنه قد عي دعاؤه من مؤمن عليه غيره، فأما إذا جهر، فيؤمن أيضا في رواية المدنيين، وروى

المصريون أنه لا يؤمن، واختار القاضي أبو الوليد رواية المدنيين، أنه يؤمن في السر وفي الجهر، ويكون تأمين المأموم مقارنا له معا. وقال ابن بكير: يتخير في الجهر. ثم حيث قلنا: يؤمن فليسر كالمأموم والمنفرد، واختار بعض المتأخرين جهر الإمام به، وقال غيره: هو مخير في الجهر والإسرار. والسنة قراءة سورة، بعد الفراغ من أم القرآن والتأمين لها، وهي مسنونة في الصبح والجمعة والأوليين في غيرهما من فرائض الأعيان. وفي جملة أنواع السنن والتطوعات سوى ركعتي الفجر؛ إذ المشهور الاقتصار فيهما على قراءة الفاتحة فقط. وفي مختصر ابن شعبان: يقرأ فيهما بأم القرآن في كل ركعة، وسورة من قصار المفصل. والمختار من قدرها مختلف باختلاف أعيان الصلوات، ففي الصبح بطوال المفصل، وما زاد عليه بقدر ما يحتمله التغليس، ولا يبلغ به الإسفار، والظهر تليها في ذلك وتقاربها، ويستحب التخفيف في المغرب، والعصر تليها في ذلك. وأما العشاء الآخرة فبين المنزلتين، ثم القراءة في الجهر والسر على ثلاثة أقسام. الأول: الجهر في جميع الركعات، كالصبح والجمعة. والثاني: الإسرار في جميعهن، كالظهر والعصر. والثالث: الجمع بين الأمرين، كالمغرب والعشاء، فيجهر في الأوليين من كل واحدة منهما، ويسر في سائرها، هذا حكم الفرائض. أما النوافل، فيجوز فيها الجهر والإسرار في الليل، والإسرار في النهار، واختلف في جواز الجهر فيه. وينتهي في الجهر إلى أن يسمع نفسه ومن يليه، والمرأة دون ذلك، تسمع نفسها خاصة. ويشترط في السر تحريك اللسان بالحروف، فإن لم يتحرك بها لم يحتسب بما فعل، وكان غير قارئ. وأما بيان أحوال السنن في الجهر والإسرار، فيأتي في صفتها عند ذكرها إن شاء الله.

الركن الثالث: القيام للإحرام، وقراءة أم القرآن. ويجب القيام لهما مع الإقلال، فإن توكأ أو استند مع القدرة على الإقلال، بطلت الصلاة إن كان لو زال العماد سقط، وإن كان بحيث لو زال لم يسقط، لم تبطل مع كراهية فعله. فإن عجز عن الإقلال ففضه التوكؤ، فإن عجز عن ذلك، انتقل إلى الجلوس مستقبلا، فإن عجز عنه، ففرضه الجلوس مستندا، ثم حيث انتقل عما هو فرضه أعاد أبدا. " ولا يستند (لحائض) ولا جنب، فإن فعل أعاد في الوقت ". فرع: لو قدر على القيام، ولكن بلحوق مشقة فادحة تلحقه بحكم العاجزين سقط عنه. قال ابن عبد الحكم: ولو خاف معاودة علة تضر به إن قام، لسقط عنه القيام، قال: وكذلك من لا يملك خروج الريح إذا قام. وإن عجز عن الركوع والسجود دون القيام قام وأومأ بهما، والإيماء بالرأس والظهر جميعا. وهل عليه أن يبلغ في الإيماء منتهى وسعة؟ ذكر الشيخ أبو الطاهر: " أن ظاهر المذهب على قولين في ذلك ". ويمد يديه إلى ركبتيه في الإيماء للركوع، ويحسر عن جبهته في الإيماء للسجود. ولو قدر على القيام والركوع والسجود، لكن إن سجد لم يقدر على النهوض للقيام بعد، فهل يصلي قائما، ويومئ [للركوع] و (السجود) في الثلاث الأول من الرباعية مثلا، ثم يركع ويسجد في الرابعة، ويكمل صلاته، أو ي ركع ويسجد في الأولى، ويتم الصلاة جالسا؟ (هذا) مما اضطرب فيه المتأخرون، فمال أبو إسحاق التونسي إلى إيثار السجود على القيام لتقدمه عليه وللإنفاق على فرضيته، وذهب غيره إلى ترجيح القيام؛ إذ لا بدل عنه، لأن الجلوس حالة من حالات الصلاة. ولو عجز عن القيام وقعد، فلا (تتعين) في القعود هيئة للصحة، لكن الإقعاء مكروه،

وهو أن يجلس على وركيه ناصبا فخذيه. والمستحب في المشهور أن يتربع في موضع القيام، ومال بعض المتأخرين إلى أنه يجلس فيه كجلوس التشهد، وأشار إليه محمد بن عبد الحكم، فإن عجز عن وضع الجبهة، انحنى للسجود أخفض منه للركوع. فإن عجز عن القعود، صلى على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم [بدنه] القبلة، كالموضوع في اللحد، فإن لم يقدر على ذلك، استقلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة. وروى ابن حبيب عن ابن القاسم: أنه يبدأ بالاستلقاء، فإن عجز عنه اضطجع على جنبه الأيمن، ثم إن عجز عنهما اضطجع على جنبه الأيسر. فرع: ق الأرض الشيخ أبو الطاهر: " منت عجز عن جميع الأركان بالمرض أو ما في معناه، فإن قدر على حركة بعض أعضائه كرأسه أو يديه أو غير ذلك من الأعضاء، فهذا لا خلاف أنه يصلي، ويومئ بما قدر على حركته، وإن عجز عن جميع الحركات، ولم يبق له سوى النية بالقلب، فهذه الصورة لا نص فيها في المذهب ". ثم حكى أن مذهب الشافعي: إيجاب القصد إلى الصلاة بقلبه، وأن مذهب أبي حنيفة: إسقاط الصلاة عمن وذلك إلى هذه الحال. ثم قال: " وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة، والذي عولنا عليه في المذاكرة موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب. ورأى أنه الاحتياط. وأن مذهب أبي حنيفة [يقتضي] الرجوع إلى براءة الذمة، ثم قال: " ولا يبعد أن يختلف المذهب في المسألة ". ولنختم الكلام على الركن بذكر فروع: الأول: من به رمدا لا يبرأ إلا بالاضطجاع، فليصل مضطجعا، وإن قدر على القيام، إذا كان يتضرر به (كما تقدم). الثاني: وهو مرتب عليه، من أدخل المرض على نفسه تداويا [كقادح] الماء من عينيه، فقال أشهب: يصلي مستلقيا ويومئ وقال في الكتاب: " إن فعل ذلك أعاد أبدا "، وعلل بأن القادح لا يوقن بالبرء، ولا عادة جارية به غالبا، فكأنه انتقل عن الكمال لأمر متردد في نجحه.

قال الشيخ أبو الطاهر: " وقائل هذا لم يقف على حقيقة الأمر في القدح، بل الغالب وجود المنفعة به، والدواء فيه أظهر نجحا من غيره، ورويت إجازته في كتاب ابن حبيب في اليوم ونحوه، وكراهيته فيما كثر من الأيام ". الثالث: إذا تغيرت حال المصلي، بنى على ما مضى له، وأتم على حسب ما آل إليه أمره. فإذا وجد القاعد خفة في أثناء القراءة، فليبادر إلى القيام، وإن خف بعد فراغها، لزمه القيام للهوى إلى الركوع، ولا تعتبر الطمأنينة، فإن خف في الركوع قبل الطمأنينة على القول بمراعاتها، كفاه أن يرتفع منحنيا إلى حد الركوع. الرابع: القادر على القعود، لا يتنفل مضطجعا على أحد القولين. الركن الرابع: الركوع. وأقله أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه أو تقربان منهما، ويجزي منه أدنى لبث، وأكمله أن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، وينصب ركبتيه، ويضع كفيه عليهما، ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا يجاوز في الانحناء الاستواء، ويقول: الله أكبر، رافعا يديه عند الهوي في رواية ابن وهب وأشهب، ويسبح ما تيسر له. ثم يرفع من ركوعه، وهو الركن الخامس، فإن أخل به وجبت الإعادة في رواية ابن القاسم، ولم تجب في رواية علي بن زياد. فرع: إذا قلنا برواية ابن القاسم، فهل يجب الاعتدال أم لا؟ روي لابن القاسم في من رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل، أن صلاته تجزينه، ويستغفر الله، ولا يعود. ولأشهب: أن صلاته غير صحيحة. وقال القاضي أبو محمد: " الأولى أن يجب من ذلك ما كان إلى القيام أقرب "، وحكاه القاضي أبو الحسن عن بعض أصحابنا ". ثم إذا قلنا بوجوب الاعتدال، فتجب الطمأنينة، وقيل: لا تجب، وكذا الخلاف في إيجابها في سائر الأركان. ويستحب له أن يرفع يديه، على رواية ابن وهب وأشهب (أيضا)، عند رفعه. ورواية

ابن القاسم في الكتاب: " ترك الرفع فيهما، أعني الركوع والرفع منه "، ويقول في حال الرفع: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، إن كان منفردا، ويقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده، إن كان إماما، وقيل: بل يجمع بينهما. وإن كان مؤموما اقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد، بإثبات الواو في رواية ابن القاسم، وروى علي بن زياد: إن الأفضل إسقاطها. ثم يكبر للسجود، فإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه، أو ركبتيه قبل يديه، والأول أحسن. ثم إذا سجد على [بينته] نهض قائما، ولا يقعد ثم يقوم إلا من عذر، ويفعل في الثانية من القراءة مثل ما فعل في الأولى، غير أن السورة فيها ينبغي أن تكون بعد التي قرأ بها في الأولى في ترتيب المصحف، وأن تكون أقصر منها أيضا. ويستحب القنوت في الصبح بعد فراغه من قراءة الركعة الثانية، فيقنت قبل الركوع إن شاء أو بعده، إلا أنه قبل الركوع أفضل، ولا يجهر به. واختار في الكتاب مما روى منه: اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق. ولو أتى بغيره أجزأه. ثم إن كان له في نفسه حاجة دعها بها حينئذ إن شاء. الركن السادس: السجود. وصفته أن يمكن جبهته وأنفه من الأرض والكفين والركبتين وأصابع القدمين. ولا يجب كشف الكفين، لكن يستحب. وفي إثبات الإجزاء ونفيه عند الاقتصار من الجبهة والأنف على أحدهما، ثلاثة أقوال: يخصص الإجزاء في الثالث بالاقتصار على الجبهة دون الاقتصار على الأنف، وهو المشهور. واختار القاضي أبو بكر نفي الإجزاء بإسقاط أيهما كان، وهو قول ابن حبيب. وحكى القاضي أبو الفرج ما ظاهره تعلق الوجوب بأحدهما على البدل. وأما باقي الأعضاء، فقال سحنون: اختلف أصحابنا إذا لم يرفع يديه عند رفعه للسجدة الثانية، فمنهم من قال: لا تصح صلاته، لما جاء أن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، ومنهم من خفف ذلك.

وقال القاضي أبو الحسن: " يقوي في نفسي أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب ". ولو سجد على طرته، أو كور عمامته، كالطاقة أو الطاقتين، أو طرف كمه، لم يمنع الإجزاء. ويكبر في الانخفاض له، ويدعو فيه إن أحب، ويستحب (له) أن يفرق بين ركبتيه، ومرفقيه، وجنبيه وبطنه وفخذيه، وهو التفريج، ولا تفرج المرأة. واستحب المتأخرون يسجد بين كفيه. ولم يحد مالك في ذلك حدا. ثم يفصل بين السجدتين وهو الركن السابع، ولا يتهيأ الإتيان بهما مع الإخلال به؛ إذ لا يتصور التعدد دونه. فأما الاعتدال فيه، ففيه من الخلاف ما مضى في الاعتدال في الرفع من الركوع. ويضع يديه قريبا من ركبتيه منشورتي الأصابع، ثم يسجد سجدة أخرى مثلها. ثم يقوم للثانية واضعا يديه على الأرض، ويكبر حين شروعه في الرفع من السجود. وكذلك في جميع تكبيرات الانتقال، سوى تكبيرة القائم من الجلوس، فإنه إنما يكبر إذا استقل قائما؛ إذ الشروع في تكبير الانتقال إنما هو في الأركان، ولم ينتقل من ركن إلى ركن فيكبر فيه، وعلى ذلك استمر العمل. الركن الثامن: قدر ما يعتدل فيه، ويسلم من الجلوس الأخير. والمستحب في صفة الجلوس لكه الأول والأخير وبين السجدتين أن يكون تروكا، وهو أن يفضي بروكه الأيسر إلى الأرض، ويخرج رجليه جميعا من جانبه الأمين، وينصب قدمه اليمنى وباطن الإبهام إلى الأرض، ويثني اليسرى، ويضع كفيه على فخذيه، ويقبض في الجلوس للتشهد الوسطى والخنصر ما بينهما من اليمنى، ويمد السبابة، ويضع الإبهام على الوسطى، ويجعل جانب السبابة مما يلي السماء، ويشير بها عند ذكر الوحدانية، وينصبهما ف يما وراء ذلك، وقيل: يشير بها دائما تقريبا على نفسه، وقيل: ينصبها دائما من غير تحريك، إشارة إلى الوحدانية، ويتشهد. واختار في الكتاب ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يعلمه للناس على المنبر، وهو: التحيا لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي

ورحمة الله [وبركاته]، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، ثم يدعو بما يتسر له في التشهد الأخير دون الأول. الركن التاسع: التسليم. وهو واجب، ولا (تقوم) مقامه أضداد الصلاة، ولفظه متعين، وصورته: السلام عليكم. ولو نكر ونون فقال: سلام عليكم، فقال القاضي أبو محمد والشيخ أبو محمد: " لا يجزيه " وقال أبو القاسم ابن شلبون: يجزيه. واختلف المتأخرون في انسحاب حكم النية على التسليم، أو اشتراط تجديد نية للخروج، على قولين. ويسلم كل واحد من الإمام والفذ تلقاء وجهه، ويتيامن قليلا، وأما المأموم فقال الشيخ أبو محمد: " يسلم عن يمينه "، قال الإمام أبو عبد الله: " وهكذا ظاهر (رواية ابن القاسم). وبالتسليمة الواحدة، يخرجون من الصلاة، ولا يؤمر الإمام ولا المنفرد بزيادة عليها، وروي: أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين. ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإمام منهما، ويضيف إليها المأموم اثنتين على المشهور أولاهما أمامه يرد بها على إمامه، والثانية (عن) يساره إن كان على يساره أحد في الرواية الأخيرة. وروى أشهب: أنه يبدأ منهما بالتي على اليسار، وهي الرواية المتقدمة. وحكى القاضي أبو محمد التخيير بين مقتضى الروايتين. وقيل: يقتصر على الرد على الإمام فقط.

ولو كان مسبوقا، ففي رده على الإمام ومن على يساره روايتان. خاتمة: يجب قضاء الفوائت على حسب ما توجه الخطاب بها حين الأداء، والترتيب في قضاء اليسير منها واجب، فتقدم على الوقتية، وإن ضاق وقت الأداء أو فات. وقال ابن وهب: يبدأ بالوقتية عند خوف فوات وقتها، وروي عن أشهب: أنه يتخير بينهما، ومستند المشهور الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بدأ بصلاة العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب، خرجه مسلم في صحيحه. [ويرتب] الفوائت كما [يرتب] الحاضرة معها. فرع: لو خالف الترتيب، وبدأ بالحاضرة ذاكرا لفائتة يجب ترتيبها، فقيل: يعيد الحاضرة بعد قضاء الفائتة ما دام في وقتها، وروى مطرف وابن الماجشون: أنه يعيد أبدا. وسبب الخلاف: هل الترتيب شرط أم لا؟ ثم اليسير منها الخمس فدون، وقيل: الأربع فقط، ولم يختلف المذهب في الست أنها كثيرة. وذلك يقتضي نفي وجوب ترتيبها، ولكن حكى عن محمد بن مسلمة أنه يقدم المنسيات وإن كثرت، إذا كان يأتي بجميعها مرة واحدة. ومن تذكر فائتة من وقتية يجب ترتيبها معها، فهل تفسد الوقتية بذلك أم؟ قولان، سببهما ما تقدم من الخلاف في اشتراط الترتيب. وثمرتها: وجوب القطع واستحبابه. وهو مأمور على المذهبين بأن يقطع ويبتدئ الفاتئة فيتمها، ثم يشتغل بالمؤداة إن كان

منفردا، ولم يعقد الركعة، وقيل: يتمها ركعتين نافلة، كما لو عقد الركعة. وإن كان إماما أمر أن يقطع. وهل يسري ذلك لصلاة المأمومين؟ روى ابن القاسم أنه يسري ولا يستخلف، وروى أشهب أنه لا يسري (ويستخلف) من يتم بهم، وتصح صلاتهم. وسبب الخلاف: مراعاة الخلاف. وإن كان مأموما تمادى مع إمامه، ولم يقطع. ثم يختلف في وجوب الإعادة عليه. ولو كان في الجمعة، فقال أشهب: إن علم أنه يدرك ركعة من الجمعة بعد قضاء المنسية، فأحب إلي أن يقطع ويقضي، ثم يعود إلى الجمعة، وإن لم يعلم ذلك تمادى. فإذا أكمل الجمعة صلى المنسية خاصة، ولا إعادة عليه في الجمعة إلا احتياطا، لأنها قد فاتت. وقال الشيخ أبو الحسن: مذهب مالك اتباع الإمام، فإذا فرغ صلى التي نسي وأعاد الجمعة ظهرا. قال ابن القاسم: " وإن لم يذكر التي نسى حتى فرغ من الجمعة، لم تكن عليه إعادتها ". قال سحنون: آخر قوله أنه يعيدها في الوقت، ولعيه أكثر الرواة. ولو ذكرها بعد الصلاة الوقتية، صلى المنسية، ثم أعاد الوقتية ما لم يذهب وقتها. وهل الاختياري أو الضروري؟ فيه قولان، سببهما الموازنة بين فضيلة الترتيب، وكراهية إيقاع الصلاة بعد الاصفرار، هذا حكم الفائتة مع الوقتية. فأما حكم الترتيب بين الفوائت، فالمعتبر فيه تحصيل اليقين ببراءة الذمة. والنظر في تحصيل عدد أحوال الشكوك فيها، فيوقع من الصلوات أعدادا على رتب ما [يحيط] بجميع حالات الشكوك. فمن ذلك، من نسي صلاة من الخمس لا يدري ما هي، فإنه يأتي بهن كلهم ليستوفي جميع أحوال الشك. وأما إن علم عين الصلاة، وجهل يومها، فإنه يصليها غير ملتفت لأعيان الأيام، فإن علم أعيان الأيام، وجهل ترتيبها، فالمذهب على قولين، المشهور أنه لا يراعى اختلاف الأيام. وحكى ابن سحنون عن بعض الأصحاب ما يقتضي مراعاتها، مثاله: من نسي ظهرا وعصرا، لا

يدري الظهر للسبت، والعصر للأحد، أو العصر للسبت، والظهر للأحد، فعلى المشهور يصلي ظهرا بين عصرين، أو عصرا بين ظهرين. وعلى القول الآخر: يصلي ظهرا للسبت، ثم عصرا للأحد، ثم عصرا للسبت، ثم ظهرا للأحد. ولو تحقق عين الصلاة وشك في كونها سفرية أو حضرية، فإنه يصليها تامة، ثم يصليها سفرية، لتستوعب الصلاتان حال الشكين. ولو نسي ظهرا وعصرا، لا يدري أيتهما قبل الأخرى، فقد تقدم أنه يصلي ظهرا بين عصرين، أو عصرا بين ظهرين، على المشهور للإحاطة بجميع حالات الشكوك. فلو انضاف إلى هذا الشك، أن يشك، بعد علمه أن إحداهما سفرية والأخرى حضرية، في السفرية منهما، حتى صار الشك في [حالتي] الرتبة والقصر، فاختلفت أجوبة الأصحاب فيها. قال الإمام أبو عبد الله: " والصحيح ما نقل سحنون عن ابن القاسم أنه رجع إليه، ونقله ابن حبيب عن أصبغ، وهو أن يصلي ست صلوات ظهرا تامة، ثم يعيدها مقصورة، ثم عصرا تامة، ثم يعيدها مقصورة، ثم ظهرا تامة، ثم يعيدها مقصورة "، والقانون المرجوع إليه في جواب ما يرد من هذه المسائل، أن يضرب عدد المنسيات في أقل منها بواحد، ثم يزيد على المتحصل واحدا، ثم يصليها على حسب ما تقدم. مثاله في المسألة السابقة: أن يضرب اثنين في واحد، ويزيد واحدا، فتكون ثلاثة ظهرا بين عصرين أو عصرا بين ظهرين. ولو شك مع ذلك في كونهما سفريتين أو حضريتين، أو سفرية وحضرية، فليفعل ما ذكرناه، إلا أن كل صلاة فرغ من فعلها حضرية أعادها سفرية. وإن كان المنسي ثلاث صلوات صبحا وظهرا وعصرا من ثلاثة أيام، لا يدري أيهما قبل، فليضرب ثلاثة في اثنين ويزيد واحدة، فتكون سبعا، فإذا ابتدأ (بالصبح) فكمل الثلاث أعدها، ثم أعاد الصبح، فإن انضاف إلى ذلك الشك في كونها حضرية أو سرية، أو منها حضرية وسفرية، فيعيد كل صلاة تقصر صلاة سفر، فإذا صلى الظهر حضرية أعادها سفرية، وكذلك العصر، ثم يعيدهما كذلك في تكريرهما، فبلغ العدد إحدى عشر، فإن كان المنسي أربعا، فثلاث عشرة صلاة. وإن شك مع ذلك في السفر والحضر، زاد مع كل صلاة حضرية تقصر صلاة سفرية، وإن

الباب الخامس: في شروط الصلاة

كانت المنسية خمسا، صلى إحدى وعشرين، ومع الشك في السفر والحضر تبلغ نيفا وثلاثين، هذا على المشهور. ولو فرعنا على اعتبار الأيام، لم تختص الإعادة بما يقصر، بل يعيد الجميع، فيتضاعف العدد الذي ينتهي إليه الحساب أبدا. ومن هذا الباب، أن ينسى صلاة وثانيتها، ولا يدري ما هما، فإنه يصلي الخمس على رتبتها، ثم يعيد ما ابتدأ به. ولو نسي صلاة وثالثتهما، صلى ستا أيضا، لكن أي صلاة بدأ (بها) عقبها بثالثتها، ثم بثالثة الثالثة، ثم كذلك حتى يكمل ستا، وكمالها بإعادة الأولى. ولو نسي صلاة ورابعتها، ولم يزد على الست، لكن أي صلاة بدأ بها عقبها برابعتها، ثم برابعة الرابعة، ثم كذلك حتى يكمل الست بإعادة الأولى. ولو نسيها وخامستها، لم يزد على الست أيضا، لكن أي صلاة بدأ بها عقبها بخامستها، ثم بخامسة الخامسة، ثم يتمادى على ذلك حتى يكمل الست بإعادة الأولى. ولو كان إنما نسي صلاة وسادستها، أو حادية عشرة لها، أو سادسة عشرة لها، فليصل عشر صلوات، يصلي كل واحدة من الخمس ويعيدها، فيصلي ظهرين وعصرين ومغربين وعشاءين وصبحين؛ لأن السادسة والحادية عشرة والسادسة عشرة هن الأولى بعينها، فكانتا صلاتين متماثلتين من يومين فعليه صلاة يومين. قال الإمام أبو عبد الله: " وهذا إذا أحكم وتدبر تصوره في الذهن لم يصعب، وفرع عليه الناظر ما شاء ". قال: " (وكدا) الفهم فيه يكسب انتباها (وتيقظا) فيما سواه من المعاني الفقهية. الباب الخامس: في شروط الصلاة وهي خمسة: الأول: الطهارة عن الحدث، فهي شرط في الابتداء والدوام، حتى لو أحدث في الصلاة عمدا أو سهوا بطلت، وكذلك لو سبقه الحدث.

الشرط الثاني: طهارة الخبث في الثوب والبدن والمكان، وقد تقدم الخلاف في أنها واجبة مع الذكر، أو مع الذكر والنسيان، أو هي سنة. وإذا قلنا بالوجوب، ففي كونها شرطا في صحة الصلاة خلاف. ثم إذا قلنا بالشرطية، فهل على الإطلاق أو مع الذكر؟ قولان القاضيين أبي الحسن وأبي محمد. ثم النظر فيما يطهر عن النجاسة، وهو الثوب والبدن والمكان. (أما الثوب، فإن أصاب أحد ثوبيه نجاسة ولم يميزه، تحرى، فما غلب على ظنه أنه الطاهر منهما صلى به، وقيل: أنه يصلي بكل واحدة صلاة. قال القاضي أبو بكر: " والصحيح الأول ". ولو أصاب بعض ثوبه نجاسة، ولم يعلم موضعها، لم يجز التحري، وغسل جميعه بخلاف الثوبين؛ لأن أصلهما الطهارة، فيستند اجتهاده إليها، والأصل في الواحد النجاسة بعد الإصابة. ولو قسم هذا الثوب نصفين، لم يجز التحري أيضا، لجواز أن تنقسم النجاسة فيهما). ولو تحقق أن النجاسة أصابت أحد الكمين، فقال القاضي أبي بكر: " يجوز الاجتهاد كالثوبين باختلاف بين العلماء "، ثم قال: " فإن فصلهما جاز الاجتهاد إجماعا ". ولو كان طرف عمامته على نجاسة، فرأى أبو محمد عبد الحق: " أن المراعى في ذلك تحرك موضع النجاسة، فإن تحرك بحركته، فهو كالمصلي وفي بعض ثيابه نجاسة، وإن لم يتحرك فليس كذلك ". وفي السليمانية: يعيد في الوقت، وإن كانت العمامة طويلة، وعلل بأنه صلى والنجاسة متعلقة به؛ إذ لو اضطره (أمر) فتنحى عن المكان الذي يصلي فيه، جر النجاسة متعه. فرع: إذا رأى المصلي في ثوبه نجاسة، يؤمر بإزالتها، فقال في الكتاب: " ينزعه ويستأنف

الصلاة من أولها بإقامة جديدة، ولا يبنى على شيء مما مضى ". وقال ابن الماجشون: ينزعه إذا أمكنه ويتمادى، وإن لم يمكنه تمادى، ثم نزعه وأعاد. وقال مطرف: يقطع إلا أن يمكنه النزع، فينزعه ويتمادى. ولو كان رآها قبل الصلاة، فترك إزالتها إلى وقت الصلاة، فلما كان وقت الصلاة نسي إزالتها فصلى بها، فحكى القاضي أبو بكر عن بعض العلماء: " أن عليه الإعادة، لأنه فرط، ثم استضعفه، واستشهد بتعلق الوجوب بوقت الصلاة دون ما قبله ". قال القاضي أبو بكر: " فإن رآها في أثناء الصلاة، فلما هم بالانصراف نسي فتمادى أعاد أبدا، قاله ابن حبيب، ووجهه أن الصلاة برؤية النجاسة انتقضت "، قال: " وعندي أنها لم تنتقض، إذ لو انتقضت لما عادت بطرحه، وإنما وجب عليه إزالتها، ونسيانه آخرا كنسيانه أولا "، قال: " وإنما ذلك بناء على أحد القولين في (المدونة) ". ولو سال جرحه في الصلاة، أو نكأ قرحته فيها فسالت، فقال القاضي أبو بكر: " إن كان يسرا فلته ومضى، وإن كان كثيرا ففيه قولان: أحدهما يقطع، والثاني يغسله ويتمادى "، قال: " والأول أقيس وأجزى ". وأما البدن، فقد تقدم أن تطهيره بالغسل إن تحققت نجاسته، وإن شك فيها اجتزى بالنضح على المشهور. فلو جعل في جرحه المرتك الذي يصنع من عظام الميتة أو غيره نم النجاسات، فلا يصلي به حتى يغسل. ورخص ابن الماجشون في ترك غسله، وأجاز الصلاة. وأما المكان، فليكن كل ما يماس بدنه عند القيام والجلوس والسجود طاهرا، فلو صلى على حصر أو نحوه مما ينتقل وطرفه متصل بنجاسة، ففي إنزالها منزلة المتصلة ببدنه قولان للمتأخرين، واختيار عبد الحق أنها لا تنزل منزلتها. ومما يتصل بمكان الصلاة نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة،

وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمام، وظهر الكعبة، وأعطان الإبل وهو مجتمعها عند الصدر من المنهل. واختلف في علة ذلك، فقيل: كونها لا يؤمن نفارها، وقيل: زفورتها، وقيل: كونها يستتر بها في العادة عند قضاء الحاجة، وقيل: كونها خلقت من جان. هذا حكم النجاسات التي لا عذر في استصحابها. أما مظان الأعذار فخمس: الأولى: الأثر على محل النجو بعد الاستجمار، فلو صلى من استجمر في ثوب فعرق فيه، فأصاب موضع الاستنجاء، جرى على الخلاف بين القاضيين أبي الحسن وأبي الوليد، كما تقدم. الثانية: يعفى من طين الشوارع عما يتعذر الاحتراز عنه غالبا، وكذا ما على الخف في حق المصلي معه، كما سبق في كتاب الطهارة. الثالثة: دم البراغيث معفو عنه، (إلا إذا كثر كثرة) يندر وقوعها، ويختلف ذلك بالأوقات والأماكن. الرابعة: دم البثرات وقيحها وصديدها، وقد تقدم أنه معفو عنه في حق من وجد منه، فإن أصابه من بدن غيره، ففي العفو عنه قولان. الخامسة: الجاهل بنجاسة ثوبه، يجري حكمه في القضاء على الخلاف المتقدم، وكذلك المتعمد. فرع: ويلتحق بذلك ما لو رعف في الصلاة، وكان الدم بحيث يعلم أنه لا ينقطع، فإنه يتم الصلاة على حاله، وله الإيماء بالركوع والسجود، وإن كان ركوعه وسجوده يضر بجسمه. وإن كان إنما يضر به من جهة تلطخ ثيابه بالدم، ففي جواز الإيماء له من أجل ذلك قولان. وإن كان يرجو انقطاعه أو يشك فيه، فليفتله بأصابعه، ويمضي على صلاته إن كان لا يقصر ولا يسيل، وإن قطر أو سال، فإن تلطخ به الكثير من جسده أو ثيابه قطع الصلاة، وإن لم يتطلخ به ذلك، فها هنا الأولى له أن يقطع، فإن أحب التمادي على صلاته بأن يخرج فيغسل

الدم عنه، ثم يعود إلى الصلاة، فله الترخص بذلك إن كان في جماعة وعقد الركعة، وإن كان فذا ولم يعقد ركعة، فظاهر الكتاب أن له البناء أيضا، وقيل: ليس له ذلك. وسب الخلاف: الاختلاف في أن البناء لحرمة الصلاة أو لحرمة الجماعة. وإذا فرعنا على المشهور فخرج وقد (عمل) بعض أجزاء الركعة، إما القراءة خاصة أو القراءة والركوع وسجدة واحدة، فإنه يلغي ذلك ويستأنف عمله إذا عاد. وقال ابن الماجشون وابن حبيب: يبني على ما عمل من الركعة. (وروى ابن وهب) الجنوح إلى مثله، وأنه لو فعله الراعف لأجزأه. ثم كيفية البناء أن يخرج ممسكا لأنفه، غر متكلم، ولا ماش على نجاسة، فيغسل الدم في أقرب المواضع، فإن تكلم عمدا، أبطل الصلاة، وإن تكلم سهوا ففي البطلان ثلاثة أقوال، في الثالث [تبطل] بالكلام في العودة دون المضي لغسل الدم، لضعف استدامة حكم الصلاة في حق الذاهب، وقوة استدامة حكمها في حق العائد لإقباله عليها. وإن مشى على نجاسة، كان كالمتكلم على ما فصلناه. وإن تعدى مكانا تمكن من غسل الدم فيه إلى أبعد منه، بطلت صلاته. وإذا فرغ من غل الدم على الشرائط المذكورة، رجع إلى الإمام، فأتم الصلاة معه. وإن كان الإمام قد فرغ في غير الجمعة، أتم مكانه، أو في أقرب موضع يصلح للصلاة. فإن كانت الجمعة، وكان [قد] عقد الإمام ركعة رجع أيضا إلى الجامع، فأتم به؛ إذ هو شرط الجمعة، وقيل: يتم بموضعه، وقيل: إن حال بينه وبين العودة حائل، أجزأته الصلاة في موضع غسل الدم، وإن لم يحل بينه وبين الجامع حائل، رجع إليه. وإن كان لم يتم مع الإمام ركعة، ففي الكتاب: " يبتدئ الظهر أربعا "، قال سحنون: يبني على إحرامه، وروي أيضا أنه يقطع، ويبتدي بإقامة. وقال أشهب: ويستحب أن يتكلم ويبتدئ، وإن بنى على إحرامه أجزأه، فإن كان سجد سجدة، فسجد أخرى وصلى ثلاثا أجزأه. وحكم الظن في إكمال الإمام وعدم إكماله، حكم العلم، وإن أخطأ في ظنه عذر.

الشرط الثالث: ستر العورة، والنظر في حدها، وحكم سترها، وصفة الساتر. النظر الأول: في حدها، والمكلفون صنفان: رجال ونساء. والنساء قسمان: حرائر وإماء. فأما الصنف الأول: (فأجمعت) الأمة على أن السوءتين منهم عورة، واختلفوا فيما عد ذلك. وفي المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا عورة إلا السوءتان، الثاني: أن العورة من السرة إلى الركبة، وهما داخلتان في ذلك، والثالث: هذا التحديد، لكنهما غير داخلتين. وروى القاضي أبو الفرج ما ظاهره إيجاب ستر جميع بدن الرجل في الصلاة. وأما القسم الأول من الصنف الثاني، فجميع أبدانهن عورة، إلا الوجه والكفين. وأما القسم الثاني، فعورتهن كعورة الرجل. وقال في الكتاب في الأمة الكبيرة تصلي بغير قناع، قال: " ذلك سنتها، وكذلك المكاتبة والمدبرة والمعتق بعضها "، قال: " ولا تصلي الأمة إلا وعلى جسدها ثوب تستر به جسدها ". وقال في السراري اللاتي لم يلدن: " هن إماء، يصلين كما تصلي الأمة التي لم يتسررها سيدها ". وأما أمهات الأولاد، فإنهن يصلين كالحرة بقناع ودرع أو قرقل يستر ظهور القدمين. فإن صلت أم الولد بغر قناع، فأحب إلي أن تعيد ما دامت في الوقت، وليس ذلك بواجب عليها كوجوبه على الحرائر ". فرع: (إذا افتتحت الأمة الصلاة بما لا يجزي الحرة من اللباس، فطرأ عليها العلم بالعتق في أثنائها، فإن كان سابقا لافتتاحها، فقيل: تقطع، وقيل: تتمادى. وإن كان طروء العتق في أثناء الصلاة، فإن قلنا في الصورة أولى: تتمادى، فها هنا أولى

بالتمادي، وإن قلنا ثم: تقطع، فها هنا قولان في القطع والتمادي). ثم حيث قلنا بالتمادي فيهما، فذلك ظاهر إذا وجدت ما تستتر به في الصلاة، فإن لم تجد، فها هنا قولان في التمادي والقطع. النظر الثاني: في حكم الستر. وهو واجب عن أعين الأنس، وهل يجب في الخلوات أو يندب إليه؟ قولان. (فِإذا) قلنا: لا يجب فيها، فهل يجب للصلاة أو يندب إليه فيها؟ ذكر الشيخ أبو الطاهر عن أبي الحسن اللخمي، أنه حكى في ذلك قولين. ثم قال الشيخ أبو الطاهر: " وليس كما ظنه، وإنما المذهب على قول واحد في وجوب الستر، لكن الخلاف في وجوب الإعادة في الوقت أو فيه وبعده على الخلاف في ستر العورة، هل هو من شروط صحة الصلاة، أم لا؟. وقد ذكر القاضي أبو محمد: أن القاضيين أبا إسحاق وابن بكير والشيخ أبا بكر ذهبوا إلى أن الستر من سنن الصلاة، وهذا يعضد ما حكاه أبو الحسن اللخمي ويحققه. النظر الثالث: في صفة الساتر. وليكن صفيقا كثيفا، ولا يكون شفا، ولا بحيث يصف، فإن كان شفا، فهو كالعدم مع الانفراد. وإن كان بحيث يصف وليس يشف فهو مكروه، ولا يؤدي إلى بطلان الصلاة. هذا حكم القادر على الساتر، فإن عجز عنه، صلى عريانا قائما، يركع ويسجد. فإن اجتمع عراة وأرادوا الجمع، فإن كانوا في ليل مظلم يأمنون من نظر بعضهم إلى عورة بعض، جمعوا، وتقدموا إمامهم، وإن كان الأكمل في الستر أن يصلوا صفا، صلوا كذلك. وإن كان النهار أو الليل المقمر، فإن أمكنهم التباعد حتى يصلوا بموضع لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض، فعلوا ذلك، وصولا أفذاذا إن خافوا النظر مع الجمع، ولا فرق في هذا بين الرجال والنساء. وإن جمعهم موضع لم يمكنهم التباعد فيه، فهل ينتقلون إلى الجلوس والإيماء، أو يصلون قياما، ويؤمر كل واحد بغض بصره؟ ها هنا قولان للمتأخرين.

فروع: الأول: لو وجد ساترا قبل الشروع لكنه نجس، صلى به، ولم يصل عريانا. ولو اجتمع له حرير ونجس فبأيهما يصلي؟ قولان: مذهب الكتاب، الصلاة بالحرير، وقال أصبغ: بل يصلي بالنجس، ويعيد في الوقت. وسبب الخلاف: النظر إلى تأكد النجس باختصاص منعه بالصلاة، أو إلى تأكد الحرير (بعموم) المنع فيه. ولو لم يجد إلا حريرا، فالمنصوص لابن القاسم وأشهب أنه يصلي عريانا، ولا يصلي به. واستقرأ الإمام أبو عبد الله من تقدمته الحرير على النجس في الكتاب، أنه يصلي به، ولا يصلي عريانا. الفرع الثاني: من صلى بثوب حرير مع القدرة على ثوب طاهر من غيره، وليس عليه ما يواريه غيره، فصلى به اختيارا، ففيه ثلاثة أقوال: إثبات الإعادة مطلقا، ونفيها مطلقا، وتخصيصها بالوقت. ولو كان عليه ما يواريه سواه، فقيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت. وهكذا اختلف فيمن صلى متختما بالذهب على هذين القولين: الفرع الثالث: لو صلى عريانا لعدم الساتر، ثم طرأ عليه في أثناء الصلاة ما يستتر به، فهل يتناوله فيستتر به ويتمادى، أو يقطع ثم يستتر ويبتدئ؟ قولان. قال الإمام أبو عبد الله: " وهما مبنيان على الخلاف في أن الستر مسنون أو مفروض ". الشرط الرابع: ترك الكلام، والعمد منه، لغير إصلاح الصلاة، مبطل لها، قل أو كثر، ويستوي في ذلك كل ما ينطلق عليه اسم الكلام من غير تحديد لحروفه، ولا تعيين لها. والتنحنح لضرورة غير مبطل، ولغير ضرورة مبطل في أحد القولين، فإن تعذرت القراءة إلا به لم يضر، وفي الإبطال بالنفخ قولان. ولا تبطل الصلاة بسبق اللسان هن ولا بكلام الناسي، وفي كلام الجاهل بتحريم الكلام خلاف، هل يلحق بكلام العامد، أو بكلام الناسي؟

وتبطل الصلاة بكلام المكره، وبالكلام الواجب لإنفاذ أعمى عن السقوط في مهلكة وشبهه. ومصلحة الصلاة عذر في الكلام، فلا تبطل به الصلاة، وقال المغيرة: ليست بعذر، وتبطل الصلاة. ولو قال: {ادخلوها بسلام آمنين}، على قصد التلاوة لم يضر، وإن قصد مع ذلك التفهيم، ولو لم يقصد سوى التفهيم. فقال ابن حبيب: (لا يضر)، وقال الإمام أبو عبد الله: " قد يتدرج في ذلك قول بإبطال الصلاة قياسا على أحد القولين فيمن فتح بالقرآن على من ليس معه في صلاة ". ولو تنحنح قاصدا بذلك إسماع شخص، ففي صحة صلاته وبطلانها مع ذلك روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم. وأما إن قهقه، فقيل: تفسد الصلاة، ويستوي في ذلك العمد والسهو والغلبة، وقيل: هي كالكلام، يبطل عمدها، دون غيره. وأما مبدأ الضحك وهو التبسم، فروى ابن القاسم: " لا اعتبار به لخفته "، وروى ابن عبد الحكم: يسجد بعد السلام، لأنه كالزائد في الصلاة. وروى أشهب: " يسجد قبل السلام "، لأنه نقص من هيئة الخشوع والاستكانة. قال القاضي أبو محمد: " قول ابن عبد الحكم أصح ". الشرط الخامس: ترك الأفعال الكثيرة. والكثير ما يخيل للناظر الإعراض عن الصلاة بإفساد نظامها ومنع اتصالها، ولا تبطل بما دون ذلك من تحريك الأصابع في تسبيح أو حكة أو نحو ذلك، ولا بمشي يسير وإن

الباب السادس: [في السجود]

كره، إذا لم يكن لمصلحة الصلاة، أو لما دعت إليه ضرورة، مثل مشي المسبوق إلى سترة عند مفارقة الإمام، ومثل قتل ما يحاذر، إنقاذ نفس أو مال على قرب، ولو تباعد بحيث يغير نظم الصلاة أبطلها، وإن وجب. ولو دفع المار بين يديه دفعا خفيفا لا يشغله عن صلاته لم يبطلها. ولا يقطع الصلاة شيء يمر بين يدي المصلي، وليكن للإمام المنفرد حريم يمنع المارة بأن يستقبل جدارا أو سارية أو شبه ذلك، أو ينصب بين يديه مثل مؤخر ة الرجل، ثم يصلي ولا يبالي بمن مر وراء ذلك، هذا إذا خشي المرور بين يديه، فإن أمن مهن ذلك، فلا يؤمر بالسترة. وروى ابن حبيب: أنه يؤمر بها وإن أمن، ولا يكفيه أن يخط على الأرض. ثم المار بين يدي المصلي يأثم إن كانت له مندوحة عن المرور، ويختص بالإثم إن كان المصلي لم يتعرض للمرور بين يديه، وإن تعرض شاركه، ولا يأثم إن لم تكن له مندوحة، ولا المصلي إن لم يتعرض للمرور بين يديه، فإن تعرض حينئذ اختص بالإثم. خاتمة: للمحدث لحدث الأصغر المكث في المسجد، وليس للجنب ولا للحائض ولا للكافر، وإن أذن له المسلم، مكث ولا عبور، وقيل: بجواز عبور الجنب في المسجد. الباب السادس: [في السجود] وهو نوعان: الأول: سجود السهو، وهو مأمور به عند ترك السنن التي أحصيناها ف يما تقدم. أما الأركان فجبرها بالتدارك دون السجود، إلا في ترك الفاتحة في ركعة على خلاف وتفصيل يأتي. واعلم أن السهود، وإن كثرت فروعه ودقت بعض مسائله، فإنه بالالتفات إلى قوانينه وأصوله يسهل الوصول إلى تحصيله، وأصوله تنحصر في ثلاثة فصول. الفصل الأول: في مقتضيه وهو ضربان: زيادة، ونقصان. الضرب الأول: الزيادة: وهو قسمان الأول: في زيادة الأقوال، فإن كثرت جدا [أبطلت] الصلاة كما تقدم، وإن كانت دون ذلك أجزأ عنها السجود. وقد قدمنا أن الكلام عمدا يبطل الصلاة وإن قل، إذا كان لغير

إصلاحها، فإن كان لإصلاحها، كما لو سلم الإمام قبل [إكمال] الصلاة، فقال له بعض المأمومين: لم تكمل، فقال الإمام: أكملت، وكذلك لو سأل غير المتكلم أولا، فأخبره أنه لم يكمل فأتم، فإن صلاته وصلاتهم تصح على المشهور. وما فعلوه من الكلام والمراجعة حائز. وتبطل عند ابن كنانة. وقال سحنون: تبطل إلا أن يسلم من اثنتين في الرباعية، كما ورد في قصة ذي اليدين. وقال ابن وهب: لا أرى لأحد أن يفعله اليوم، وكذلك قال ابن نافع، ثم قال: فإن فعل فلا أرى عليه استئناف الصلاة، ولا أحب له أن يعود. فرع: وإنما يجرع الإمام إلى قول المأمومين إذا غلب على ظنه ما قالوه بعد سلامه، أو شك فيه، فإن جزم الاعتقاد بخلاف ما قالوه، لم يرجع إليهم، إلا أن يكثروا جدا، بحيث يفيد خبرهم العلم، فإنه يرجع إلى خبرهم، ويترك اعتقاده. وقال أشهب: إذا أخبره منهم رجلان عدلان بما صلى، رجع إلى قولهما. وقال ابن حبيب: إذا صلى الإمام برجلين فصاعدا، فإنه يعمل على يقين من رواءه، ويدع يقينه، يريد الاعتياد. فروع مرتبة: الأول: إنه يبني إن كان قريبا، فإن طال الأمر وكثر الفعل ووقع اللغط والمراء، وترددت المراجعة بينهم، بعضهم مع بعض، بطلت الصلاة واستأنفها، وقيل: لا تبطل، بل يني وإن طال. الثاني: حيث قلنا: يبني، فعليه أن يرجع إلى الصلاة بإحرام، ثم يكبر تكبيرة لقيام الثالثة. وقال بعض المتأخرين: ليس ذلك عليه أن كان جالسا في مقامه، وإنما يفتقر إلى الإحرام لو قام بعد سلامه، أو فعل ما يوجب حاجته إلى الإحرام، واعترضه القاضي أبو الوليد، بأن الموجب للإحرام هو السلام دون ما عداه. الثالث: إذا قلنا: يحرم، فهل يحرم قائما كالإحرام الأول، أو جالسا، لأنها الحالة التي فارق فيها الصلاة؟ قولان:: حكي الأول عن بعض المتقدمين، والثاني لابن شلبون. الرابع: إذا قلنا: يحرم قائما، فهل يجلس بعد ذلك القيام؟ قال ابن القاسم: " يجلس ليأتي بالنهضة التي فعلها أولا في الصلاة ". وروى ابن نافع: لا يجلس، وقال: إن النهضة غير

مقصودة في نفسها، وقد فات محلها بالقيام، فلا يعود إليها. القسم الثاني: في زيادة الفعل. فإن كان من جنس أفعال الصلاة، وقل، لم يبطلها، وهذا كزيادة ركعة في الرباعية. وإن كثرت الزيادة، فكانت في الرباعية مثلها، فالمشهور المعروف من المذهب بطلان الصلاة، وروي القول بصحتها. وإن كانت الزيادة فيها مثل نصفها، كما إذا صلى الرباعية ستا، ففي بطلانها قولان. ولو كانت ثنائية فزاد فيها مثلها، كمن صلى الصبح أربعا، فإن قلنا بنفي البطلان في الرباعية إذا زاد فيها مثلها، فنفيه ها هنا في الثنائية أولى. وإن قلنا ببطلان تلك، ففي بطلان الثنائية ها هنا قولان. وإذا فرعنا على البطلان، فزاد في الثنائية ركعة، ففي بطلانها أيضا قولان، منشؤهما النظر إلى الزيادة في نفسها، وهي يسيرة، أو بنسبتها إلى الصلاة، وهي مثل نصفها، وفي إلحاق الثلاثية بالرباعية أو (بالثنائية) قولان. ثم حيث حكمنا في هذه الصورة بصحة الصلاة، سجد بعد السلام، وكل (هذا) إذا زاد سهوا. فأما العمد فمبطل للصلاة، ولو كانت الزيادة سجدة واحدة. وإن كانت الزيادة جهلا جرى حكمها على الخلاف في الجاهل، هل ي لحق بالعامد أو بالناسي، وإن كانت الزيادة من غير جنس الصالة أبطلتها أيضا، إن فعلت عمدا، وكذلك لو كثرت. وإن فعلت سهوا، فإن كانت مع السهو يسيرة، [أجزأه] عنها سجود السهو. الضرب الثاني: النقصان. وهو يتنوع إلى نقص ركن وسنة وفضيلة. فإن نقص ركنا غير القراءة، لم ينب عنه إلا الإتيان به، فإن فاته محله من الركعة، بطلت تلك الركعة. فلو أخل بالركوع أو بالسجود، فإنه يتلافى ذلك ما لم يعقد الركعة التي بعد الركعة التي أسقط منها. وعقدها رفع الرأس من الركوع، وقيل: وضع اليدين على الركبتين، وليرجع إلى القيام، ثم يركع، ويستحب له أن يقرأ قبل أن يركع، وقيل: يرجع إلى الركوع.

(ولو) أخل بالركوع من ركعة، وبالسجود من التي تليها، لم يجزئه ركوعه للثانية عن ركوع الأولى. وكذلك لو أخل بالسجود من الأولى، وبالركوع من الثانية، لم يجزه سجوده للثانية عن سجود الأولى على المنصوص. ولو نسي أربع سجدات من أربع ركعات، أصلح الرابعة بالسجدة التي أخل بها منها، وبطل ما قبلها، وتجري كثرة السهو فيها على الاختلاف المتقدم. وإن نسي السجدات الثمان، فلم يحصل له سوى ركوع الرابعة، فليبن عليه. قال سحنون: ولو صلى الإمام ركعة وسجد سجدة، ثم قام ساهيا، فليسبحوا به، ولينتظروا رجوعه، ما لم يخافوا أن يعقد الركعة، (فيقوموا) حينئذ (فيصلوها) معه، فتكون أول صلاتهم، وتبطل الأولى، فإذا جلس فيها قاموا، فإذا صلى الثالثة عنده وقام، فليقوموا كإمام قام من اثنين، فإذا صلى بهم الرابعة عنده وجلس، فيقوموا كإمام قعد في ثالثة، فإن استفاق الإمام، قام فصلى بهم ركعة بأم القرآن، وسجد قبل السلام، وإن لم يستفق، فليأتوا بركعة يؤمهم فيها أحدهم، وإن صلوها أفذاذا [أجزأتهم]، ويسجدون قبل السلام، وسلام الإمام ها هنا على المشهور بمنزلة الحدث. وإن أخل بقراءة الفاتحة في ركعة من الرباعية، ففي الكتاب ثلاثة مذاهب. الأول: أنه يلغي الركعة، وهو بناء على فرضية القراءة في كل ركعة. والثاني: (أنه) يسجد لسهوه، وتصح صلاته، وهو بناء على أن فرضيتها في الجل (أو) في الجملة، لا في كل ركعة. والثالث: أنه يسجد لسهوه ويعيد، وهذا للتردد بين المذهبين. ثم هل تكون الصلاة مجزية على هذا القول والإعادة مراعاة للخلاف، أو (الإعادة) هي الواجبة، لكن يتمادى مراعاة للخلاف؟ في ذلك خلاف له فائدتان.

الأولى: لو ظهر له بطلان إحداهما. والثانية: إطلاق الإعادة أو تخصيصها بالوقت. وأما محل سجوده، فإن جلس بعد ركعتين صحيحتين قرأ فيهما بأم القرآن، فسجوده بعد السلام لتمحض الزيادة بما ألغاه، وإلا كان سجوده قبل السلام لاجتماع زيادة ما ألغاه، ونقص الجلوس، وقراءة السورة من الثانية التي ظنها الثالثة إذا تأخر ذكره عن فعلها. فلو كان المتروك آية من الفاتحة، فقال عبد الحق: " حكى الشيخ أبو عمران عن القاضي إسماعيل أنه قال: يجب، على المذهب، أن يسجد قبل السلام "، وفيها قول آخر: أنه لا يسجد. فرع: ويلتحق بتحقق النقصان الشك فيه، فمن شك هل أخل بركن أم لا؟ وجب عليه الإتيان به، كما يجب على من تيقن أنه أخل به، إلا أن يكون موسوسا، فيبني على أول خاطريه لمشابهته فيه (للعقلاء). ولو ذكر في الركعة الرابعة أنه أخل بسجدة، أو شك هل أخل بها أم لا؟ ولم يدر محلها، فقال ابن القاسم: " يأتي بسجدة، ثم بركعة، لجواز أن تكون من الأخيرة ". وقال أشهب: يأتي بركعة فقط. ولو سلم من الصلاة ثم ذكر سجدة من الركعة الأخيرة، فهل يكون السلام حائلا بينه وبين التلافي، أم لا؟ قولان، أحدهما: أنه يكون حائلا، فيقوم فيأتي بركعة. والثاني: (أنه) لا يكون حائلا، فيسجد. هذا حكم الإخلال بالأركان على الجملة. وبقي منها السلام، فإن أخل به، ولم يطل الأمر بجع إلى الجلوس [وسلم] وأجزأه. وإن طال بطلت الصلاة على المشهور. والشاذ: أنها لا تبطل، إلا أن تنتقض الطهارة.

[فروع]: إذا رجع ليأتي بالسلام، رجع بتكبير على المشهور مراعاة للخلاف، ووقع ما ظاهره أنه لا يؤمر. وإذ ف رعنا على المشهور، فهل يوقعه قائما، أو بعد أن يجلس؟ قولان: ثم هل عليه أن يتشهد ليقع السلام (عقب) تشهد عار من فاصل بينه وبين السلام؟ أو يكفي تشهده الأول، لكون هذا الفصل غير معتبر في إبطال الصلاة، ولا يتشهد في جلوس واحد مرتين، قولان أيضا. فأما السنن: فإن أخل بها عمدا، ففي بطلان صلاته خلاف، وإذا قلنا بالصحة، فلا يسجد، وقيل: يسجد. وإن أخل بها سهوا، فإن كانت فعلا، فإنه يؤمر بالسجود. وكذلك إن كانت قولا، على المشهور. وقيل: لا سجود عليه. وإذا فرعنا على المشهور، فإنه يسجد قبل السلام، كنقص الأفعال. وقيل: بعده، لضعف الأمر به. وهذا ما لم تقل الأقوال جدا، كالتكبيرة ونحوها، فلا يكون فيها سجود. وقيل: يسجد وإن قلت. ولا خفاي بأنه يسجد لترك الجلوس الأول لاشتماله على أفعال وأقوال، وقد سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعد تاركا له إذا استوى قائما. وإن ذكر قبل استوائه وهو بين القيام والجلوس، فإن استقل وفارق الأرض، تمادى على قيامه؛ لأنه بمفارقته الأرض حصل تاركا للجلوس. وقيل: يرجع ما لم يستو قائما. وإن نهض ولم يفارق، رجع ولا سجود عليه على المشهور، وقيل: يسجد. فرع: لو رجع بعد الاستقلال، فقال ابن القاسم وأشهب وعلي بن زياد: لا تفسد صلاته. وقال ابن سحنون: تفسد، وقيل: تفسد إذا فعل ذلك عن قصد، وتأول بعض المتأخرين على ابن سحنون: أنه أراد القصد. وإذا قلنا بالصحة، فقيل: يسجد بعد السلام لزيادة القيام، وقيل: قبله، لأن السجود قد

الفصل الثاني: في كيفية السجود، والنظر في عدده وصفته

ترتب عليه باعتداله قائما ونقصه الجلسة، وعوده إلى الجلوس زيادة بعد تحقق النقص، فلا يغير محل السجود. وعلى هذا الخلاف تخرج إطالته للجلوس حتى يكمله، لأن الزيادة قد تجردت بحصول القيام الذي رجع عنه، والجلوس لم يأت به، ولا بعوض عنه، أو رجوعه حين يذكر ولا يتمادى، لأنه قد عوض عن الجلوس المتروك بهذا السجود الذي قبل السلام، ولا يجتمع العوض والمعوض عنه، وفي ذلك قولان. وإن أخل بالفضائل، فلا سجود عليه، وتجزيه الصلاة لضعف أمر المتروك. الفصل الثاني: في كيفية السجود، والنظر في عدده وصفته الأول: في عدده، وهو سجدتان قل أو كثر، كان من إحدى الجهتين، أو من كلتيهما. النظر الثاني: في صفته، وليكبر لهما في ابتدائهما، والرفع منهما، وفي افتقاره إلى نية الإحرام، وفي ذلك للتين بعد السلام روايتان. ويتشهد للتين بعد السلام ويسلم، وفي التشهد للتين قبله روايتان، ويكفى السلام من الصلاة لهما، ويجهر بالسلام من اللتين بعده، وروي أنه يسر به. الفصل الثالث: في محل السجود وأحكامه. وهو آخر الصلاة، ثم هو بعد السلام إن كان لزيادة محضة، وقبله إن انضاف إليها نقصان أو تمحض. وروي ما يشير إلى نفي تأكد هذه الرتبة، وأنه يجوز أن تخالف، فيؤتي بالجميع قبل أو بعد، ويتفرع على المشهور فرعان: الأول: من صلى النافلة خمسا، هل يسجد قبل السلام لنقض السلام هن أو لنقض الجلسة، على الخلاف في ذلك، أو يسجد بعد السلام للزيادة على اثنتين؟ قولان. الفرع الثاني: لو قدم قبل السلام ما محله بعده، لم تبطل صلاته، وقال أشهب: تبطل إن كان عامدا. وإذا فرعنا على الأول، فهل يؤمر بإعادته بعد الصلاة ليقع في محله المشروع؟ فيه خلاف. وإن سها أن يسجد قبل السلام ما محله ق بله، سجده عبده ما لم يطل، أو ينتقض وضوؤه، فإن كان ذلك، فروي أن الصلاة تفسد من غير اعتبار بالمتروك الذي كان السجود عوضا عنه. وروي أن الإعادة إنما تجب إذا كان عوضا عن بعض الأفعال ولم تعتبر الأفعال على

الإطلاق، ولا اعتبر [شيئا] من الأقوال. وقال في المختصر: إنما يعيد الصلاة إذا كان السجود عوضا عن الجلسة الأولى، (أو) أم القرآن من ركعة، وأوجب ابن القاسم الإعادة في أحد قوليه إذا كانت عوضا عن ثلاث تكبيرات، أو عن (قول): سمع الله لمن حمده، ثلاث مرات. وقال محمد بن عبد الحكم: لا إعادة عليه، وإن كانت عوضا عن الجلسة الأولى، أو ترك القراءة من ركعة، فحكم بصحة الصلاة مع الترك على الإطلاق، بعكس القول الأول. فرع: ولو لم يذكر السجود حتى تلبس بصلاة أخرى، فإن فرعنا على القول بأن الصلاة لا تبطل بتأخره، لم يؤثر ذكره في الصلاة، ولكنه يوقعه بعد فراغها. وإن فرعنا على القول ببطلان الصلاة لترك السجود على الإطلاق، أو حكم ببطلانها على تفصيل، فكان هذا السجود مما اقتضى التفصيل الإبطال به، فإنه أن ذكره ولم يركع لا أطال قراءته في هذه التي هو فيها، يعود إلى إصلاح الأولى بالسجود ويقدر هذا الفاصل كالعدم، ما لم يكن سجود السهو من نافلة، والذكر في فريضة، فلا يقطعها لحرمتها وعلو قدرها عن قدر النافلة، وإن لم يذكر إلا بعد أن طال القراءة أو ركع، فإنه يكون كذاكر صلاة وهو في صلاة أخرى. خاتمة (للنوع) بذكر ثلاث مسائل: الأولى: من شك في عدد ما صلى، فلم يدر أثلاثا أم أربعا، فإن كان سالم الخاطر، طرح المشكوك فيه، وبنى على المتقين له، وهو أقل العددين المتردد بينهما، فيكمل عليه، ويسجد بعد السلام، وقيل: قبله. وإن كان موسوسا بنى على أول خاطريه، في وجود الكمال وعدمه لمشابهته فيه للعقلاء. فرعان: الأول: لو سبق إليه أنه أكمل فعمل على ذلك، فهل يسجد؟ قولان: الفرع الثاني: وهو مرتب عليه، إذا قلنا: أنه يسجد، فهل قبل السلام، لأنه يجوز النقص، أو بعده لأن هذا النقص مطرح، وإنما يسجد ترغيما للشيطان؟ قولان أيضا. المسألة الثانية: من قام إلى خامسة رجع متى ذكر، وسجد بعد السلام، فإن كان إماما، واختلف حال المقتدين به، فجلس قوم لم يتبعوه، واتبعه آخرون، لكن منهم من تبعه سهوا، ومنهم من تبعه عمدا، فأما من جلس فصلاته صحيحة، وكذلك من تبعه سهوا.

وأما من تبعه عمدا، فإن علم أنه لا يجوز له اتباعه، بطلت صلاته، وإن جهل، فظن أنه يلزمه اتباعه، ففي بطلان صلاته قولان، منشؤهما أنه كالعامد أو كالناسي. فرع: فلو قال الإمام: إنما قمت لأني نسيت من إحدى الركعات الأول سجدة مثلا. فأما من جلس فلا يخلو من أن يوقنوا بكمال صلاتهم وصلاة إمامهم، أو يوقنوا بكمال صلاتهم دون صلاة إمامهم، أو يشكوا. فإن أيقنوا بكمال الصلاتين، لم يلزمهم اتباعه، وكانت صلاتهم صحيحة. وإن أيقنوا بكمال صلاتهم دون صلاته، فقيل: يكتفون بكمال صلاتهم ولا يتبعونه. وقيل: يتبعونه، لأنهم في حكم المصلي الواحد، فيتعدى الإخلال إليهم. (وإن) شكوا في الصلاتين لزمهم اتباعه. ثم حيث لا يلزمهم اتباعه، تصح صلاتهم، وحيث يلزمهم لا تصح على المنصوص. وقال أبو الحسن اللخمي: " تصح، لانهم معذورون في ترك الاتباع ". وأما من تبعه متعمدا، فإن كان لعلمه بالإسقاط، فلا شك في صحة صلاته، وإن قصد إلى العمد في الاتباع من غير علم بذلك، فتجري صحة صلاته على الخلاف فيمن تعمد زيادة في صلاته، ثم انكشف له وجوبها عليه لإخلاله بشيء مما تقدم. وأما من تبعه سهوا، فتصح صلاته، وهل يلزمه قضاء ركعة متى لزمه حكم ما أسقطه الإمام من السجود أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما: أن هذه الركعة التي تبع فيها الإمام سهوا، تنوب له (عما) لزمه من القضاء. والثاني: أنها لا تنوب له. وهو كالخلاف فيمن ظن أنه أكمل، فأتى بركعتي نافلة، ثم تذكر أنه إنما صلى ركعتين، ففي نيابة هذه النافلة عما وجب عليه الخلاف. ولو كان مع الإمام مسبوق، فاتبعه في هذه الخامسة التي أصلح بها الإمام ما أخل به متقدما، فهل تنوب له عن ركعة مما سبق به أم لا؟ في ذلك قولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على كون الإمام فيها بانيا أو قاضيا.

المسألة الثالثة: في سهو (المأموم). وقد روي أبو الحسن الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على من خلف الإمام سهوا، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه ". ولا خلاف أن الإمام سهو المأموم، كما يلزم المأموم سهو الإمام، وإن لم يسبه معه، ولا حضر سهوه، بأن يكون مسبوقا. ثم المسبوق يسجد بسجود إمامه إن كان قبل السلام، وقد عقد معه ركعة، فإن كان لم يدرك معه ركعة، لم يتبعه عند ابن القاسم، وقال سحنون: يتبعه. وأما إن كان سجوده بعد السلام، فلا يسد معه، ثم هو مخير بين أن يجلس حتى يفرغ إمامه من السجود فيقوم للقضاء، وبين أن يقوم بعد سلام الإمام، ويتركه متشاغلا بالسجود. واستحب ابن القاسم قيامه من غير انتظار، واختار غيره قيامه بعد سلام الإمام. ثم إذا أكمل صلاته وسلم سجد، ولو لم يسجد الإمام سجد المأموم، ولو سها بعد مفارقة الإمام سهوا بزيادة أجزأ سجود واحد بعد السلام عن السهوين. وإن كان بنقص، فالمنصوص أنه يسجد بعد السلام تغليبا لحكم الإمام. وقال الشيخ أبو الطاهر: " يجري على قولنا: أنه في حكم المنفرد في القضاء، أن يسجد قبل السلام "، قال: " لأنه قد اجتمع عليه زيادة، وهي ما لزمه من حكم الإمام، ونقص، وهنو ما طرأ له في نفسه ". ولو سجد مع الإمام قبل السلام، ثم سها بعد مفارقته له، ففي سجوده لذلك السهو خلاف، قال الشيخ أبو الطاهر: " ولعله يجري على الخلاف فيما يأتي به، هل يكون فيه قاضيا، فيكون حكم الإمام منسحبا عليه، أو بانيا فيكون كالمنفرد ". النوع الثاني: سجود التلاوة. وقد اختلف المتأخرون في حكمه، فقال القاضي أبو محمد: " هو فضيلة "، وهو طريق أبي القاسم بن الكاتب استقراء من الكتاب. واستقرأ أبو القاسم بن محرز منه أنه سنة.

وعدة السجدات إحدى عشرة، أولها آخر الأعراف، وآخرها في سجدة المؤمن وسجدة ص داخلة فيها، وثانية الحج خارجة عنها. وهي خاتمة الأعراف، وفي الرعد: {بالغدو والآصال}، وفي النحل: {ويفعلون ما يؤمرون}، وفي بني إسرائيل: {ويزيدهم خشوعا}، وفي مريم: {خروا سجدا وبكيا}، وفي أول الحج: {الله يفعل ما يشاء}، وفي الفرقان: {وزادهم نفورا}، وفي النمل: {رب العرش العظيم}، وفي سجدة {الم تنزيل}: {وهم لا يستكبرون}، وفي ص: {وخر راكعا وأناب}، وفي سجدة المؤمن: {إن كنتم إياه تعبدون}. وقال ابن وهب وابن حبيب: عدتها خمس عشرة، أضافا إلى ما تقدم سجدة آخر الحج، وثلاثا في المفصل آخر النجم، وسجدة الانشقاق، وآخر القلم. وروي أن عدتها أربع عشرة، وهو ما عدداه سوى سجدة آخر الحج، ثم جمهور المتأخرين يرون أن هذا الخلاف قول على ظاهره، وحماد بن إسحاق، أخو القاضي أبو إسحاق، والقاضي أبو محمد لا يعتدان ذلك خلافا في الحقيقة، ويقولان: السجود في الجميع مأمور به، كما ذكر ابن وهب وابن حبيب، وإنما الإحدى عشرة هي العزائم كما ذكر مالك في الموطأ، فهي آكد مما عداها لا غير. ثم السجدة على القارئ وعلى المستمع، إن كان القارئ ممن تصح إمامته، وليست

على غير المستمع، وإن كان سامعا، وغير المستمع من لم يقصد الاستماع، أي لم يجلس للقارئ، ولا على المستمع إذا كان مسمعه عديم الصلاحية للإمامة، ويؤمر المستمع بالسجود وإن تركه القارئ، وقيل: لا يؤمر، فإن كان في الصلاة. فأما في النافلة، فيسجد بقراءة نفسه إن كان منفردا، أو في جماعة يأمن التخليط، فإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها، فالمنصوص أيضا جوازه، لما ثبت من فعل الأولين في صلاة النفل في رمضان وهم يختمون، فيمرون بالسجدة فيسجدون. وأما في الفريضة، فالمشهور النهي عن السجود فيها، والشاذ جوازه، ولا يختلف الحكم بأن تكون صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وقد علل المشهور بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. ثم حيث قرأ السجدة وعول على السجود بها، فليجهر بها، ليعلم من خلفه أنه إنما يسجد للتلاوة، فإن لم يجهر وسجد، فهل يتبع في السجود للزوم متابعة أو لا يتبع لجواز أن يكون سجد ساهيا ولم يقرأ آية سجدة؟ في ذلك قولان في السليمانية لابن القاسم وسحنون. ثم هذه السجدة واحدة، وإن كانت تفتقر إلى الشرائط المعتبرة في الصلاة من الطهارتين والستر والاستقبال إلا الإحرام والسلام، ويكبر للسجود عند الهوى والرفع منه إن كان في صلاة، وإن لم يكن في صلاة، ففي الكتاب ثلاثة أِقوال: الأمر بالتكبير، وكراهته، وخيره ابن القاسم. فروع ثلاثة: الأول: في مواضع السجود من الآي، وقد اختلف في ثلاثة منها، الأول: في سجدة ص، فقال الشيخ أبو الحسن: عند قوله: {وخر راكعا وأناب}، وقال ابن حبيب: عند قوله: {وحسن مآب}. الثاني: في سجدة المؤمن، فقيل: عند قوله تعالى: {إن كنتم إياه تعبدون}. وقال ابن وهب: عند قوله: {وهم لا يسئمون}. الثالث: في سجدة الانشقاق، فقال ابن حبيب: في آخر السورة، وقال القاضي أبو

محمد: عند قوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}. وسبب الخلاف في الجميع: النظر إلى سبب السجود، أو إلى كمال الثناء على المطيعين. الفرع الثاني: قارئ السجدة إذا جاوزها بيسير سجدها، وإن جازها الكثير رجع إليها، فقرأها وسجد، ثم عاد إلى حيث انتهى في القراءة. وكذلك حكم المصلي يقرؤها، فإن لم يذكرها المصلي حتى رفع رأسه من ركوع الركعة التي هو فيها، فإن كان في فرض لم يعد إلى قراءتها، قاله في الكتاب. وقال ابن حبيب: قال مالك وأصحابه: يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد، وإن كان في نافلة، فإنه يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد. واختلف المتأخرون، هل يسجد قبل قراءة أم القرآن أو بعد قراءتها؟ على قولين: لأبي بكر بن عبد الرحمن والشيخ أبي محمد. فإن لم يذكر المصلي للنافلة السجدة حتى رفع من ركوع الركعة الثانية، فقد فاته السجود وقضاؤه في هذه الصلاة. وقال أشهب: بل يسجد ولو لم يذكر إلا وهو جالس، لم يسلم أو قد سلم. وإن ذكر وهو راكع، مضى على ركوعه، وقال أشهب: بل ينحط للسجود. وسبب الخلاف: الاختلاف في عقد الركعة، هل هو تمام الانحناء، أو رفع الرأس؟. ولو قصد بالركوع السجدة، لم تحصل له، لأنه إن قصد بفعله الإتيان بما عليه من الركوع فقد ألغى السجدة، وإن قصد السجدة، فقد أحالها عن صفتها، وأزالها عن هيئتها، ونحا ابن حبيب إلى إجازة ذلك. ولو لم يتعمد الركوع، ولكنه أراد السجود لها، فركع ناسيا، فهل يعتد بركوعه أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يعتد به، فإن كر وهو منحن خر لسجدته، وإن ذكر وقد رفع لم يعتد بركعته وألغاها، وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني: أنه يعتد بركعتهن وإلى هذا ذهب مالك رضي الله عنه، فإن ذك وهو منحن، رفع متمما للركعة، وإن ذكر بعد أن رفع، فقد تمت الركعة، ويقرأ السجدة فيما عبد، على حسب ما تقدم.

وسبب (الخلاف). الاختلاف في الاعتداد بهذه الركعة، وأن الانحطاط للركوع لم يكن بنيته، بل بنية السجود، وهو نفل والركوع فرض. فإن قلنا: إن الحركة إلى الأركان غير مقصودة، فقد وجد الركوع المقصود وصح. وإن قلنا: إن الحركة إلى الأركان مقصودة في نفسها، وقلنا: إن الخروج عن نية الفرض إلى نية النفل لا يمنع الاعتداد؛ كمصلي نفل وهو في فرض يعتقد أنه أكمل، اعتد هذا بركعته، وإن قلنا: إنه يمنع الاعتداد، لم يعتد هذا بركعته. وإذا قلنا: بنفي الاعتداد، فذكر وهو منحن فخر ساجدا، فهل عليه سجود أم لا؟ (و) قال ابن حبيب: إن طال الركوع، سجد بعد السلام، وفسر الشيخ أبو محمد الطول بالطمأنينة في الركوع. وإن قلنا بالاعتداد بالركعة، ففي المجموعة: يقرأ السجدة فيما بقي من صلاته، ويسجد بعد اللام، وإن لم ير المغرية في هذا سجودا. قال الإمام أبو عبد الله: " والذي قاله المغيرة هو الأصل؛ إذ ليس ها هنا زيادة تقتضي السجود بعد السلام "، قال: " ولا يظهر عندي وجه على مقتضى أصل المذهب، إلا أن يعتقد عن الحركة إلى الركوع لما حولت النية فيها صارت كالعدم، وعدمها لا يمنع الاعتداد، ولكنه نقص يقتضي السجود، ومقتضى النقص أن يكون قبل السلام، لكنهم ربما أخروه إلى ما عبد السلام؛ إذ كان إثبات السجود فيه ضعيفا احتياطا للصلاة، لئلا تقع فيها زيادة، كقول أشهب في ناسي التكبير، يسجد بعد السلام لضعف السجود فيه، فاحتيط فيه من الزيادة في الصلاة ". الفرع الثالث: في سجود الشكر. والمشهور من المذهب كراهية السجود ند بشارة أو مسرة وإنكاره، بل يؤمر بالاقتصار على الشكر، والحمد باللسان. وحكى القاضي أبو الحسن رواية بالجواز، وهو مذهب ابن حبيب.

الباب السابع: في صلاة التطوع

الباب السابع: في صلاة التطوع وفيه فصلان: الفصل الأول: في الرواتب وهي المفعولة تبعا للفرائض، كركعتي الفجر، وركعة الوتر. وعد القاضي أبو محمد، من ذلك الركوع قبل العصر، وبعد المغرب. وقال في الكتاب: قلت: هل كان مالك يؤقت قبل الظهر من النافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر، أو ق بل العصر، أو بعد المغرب، فيما بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء؟ قال: لا، وإنما يؤقت في هذا أهل العراق. ثم الوتر ركعة واحدة، وهي مسنونة، ويدخل وقتها بالفراغ من صلاة العشاء الآخرة في وقتها المشروع، وينتهي وقت الاختيار لها بطلوع الفجر، ويمتد وقتها الضروري إلى أن تصلي الصبح على المشهور من المذهب. وقال أبو مصعب: " ينتهي وقتها بطلوع الفجر، ولا وقت ضرورة لها ". ولتكن مسبوقة بشفع منفصل عنها بسلام، وذلك شرط في تام الفضيلة. وقيل: بل شرط في الصحة. وسبب الخلاف: كونه وترا للفرض أو (للنفل). وثمرته: جواز الاقتصار على الركعة الواحدة للمعذور، كالمسافر والمريض ومنعه. وإذا قلنا بتقديم شفع بلا بد، فهل يلزم (اتصاله) بالوتر أو يجوز، وإن فرق بينهما بالزمن الطويل؟ في المذهب قولان. والمستحب أن يكون الوتر آخر تهجده بالليل، ويستحب أن يقرأ فيه: {قل هو الله أحد} والمعوذتين، وقيل: لا يختص بقراءة معينة. وهل يلزم أن تؤتي بشفع يختص بها، أو ينوب منابه كل نافلة؟ في المذهب قولاه. وإذا فرعنا على أنه يأتي بشفع يختص بها، فهل يستحب أن يقرأ في الأولى.

الفصل الثاني: في غير الرواتب

ب {سبح}، وفي الثانية ب {قل يأيها الكافرون}، أو لا تتعين فيها قراءة خاصة؟ في ذلك روايتان. وقال ابن نافع: يقنت في الوتر في النصف الآخر من شهر رمضان، والمشهور: أنه لا يقنت فيه، وهو قول ابن القاسم. الفصل الثاني: في غير الرواتب وما شرعت الجماعة فيها كالعيدين، وكسوف الشمس، والاستسقاء: فهي أفضل مما تقدم سوى الوتر، وأفضل أيضا من صلاة الضحى، وركعتي التحية، وقيام رمضان؛ إذ هن سنن، وما تقدم فضائل، حاشا ركعة الوتر، وركعتي الفجر، على خلاف في ركعتي الفجر خاصة، وكذلك ما بعدها. وآكذ هذه السنن العيدان، ثم الكسوف. ولا شك في تقدم الوتر على ما ذكر معه لكونه سنة، ويليه في ذلك ركعتا الفجر للخلاف. في أنهما سنة أو فضيلة، وسائرها فضيلة أو نافلة، وآكدها الركعتان بعد المغرب، واختلف في ركعتي الإحرام، هل هما سنة أو نافلة؟ وكذلك اختلف في ركعتي الطواف، هل هما سنة، أو حكمهما حكم الطواف؟ وتستحب الجماعة في التراويح تأسيا بعمر رضي الله عنه، ولاستمرار العمل عليه. ولو انفرد الواحد في بيته لطلب السلامة من قصد إظهار النافلة، لكان أفضل له على المشهور، ما لم يؤد ذلك إلى تعطيل المساجد منها. والذي استمر عليه العمل من العدد فيها تسع وثلاثون يوتر منها بثلاث، وإن فعل دون هذا العدد فلا حرج. ثم التطوعات لا حصر لها، ولا تقضي المرتبة منها ولا غيرها، وما ذكر في ركعتي الفجر من لفظ القضاء قد تأوله الشيخ أبو بكر كما يأتي. واختلف في ركعتي الفجر في ثلاثة فروع: الأول: من دخل المسجد بعد طلوع الفجر وقبل صلاته، فلا يصلي سوى ركعتي الفجر خاصة. وانفرد الشيخ أبو الحسن، فقال: " يحيي المسجد، ثم يركع الفجر ". وأشار الشيخ أبو عمران إلى تضعيفه. الفرع الثاني: لو ركع في بيته ثم جاء المسجد، فهل يركع أيضا؟ روايتان مشهورتان.

الباب الثامن: في صلاة الجماعة

ثم إذا قلنا: يركع، فهل بنية النافلة أو بينة إعادة ركعتي الفجر؟ قولان للمتأخرين. الفرع الثالث: من ضاق عليه الوقت، فصلى الصبح وترك ركعتي الفجر، فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما، فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر؟ قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز. الباب الثامن: في صلاة الجماعة وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في حكمها. وهي سنة مؤكدة، وليست بواجبة إلا في الجمعة. وحكى الإمام أبو عبد الله والقاضيان أبو الوليد وأبو بكر عن بعض أهل المذهب: أنها فرض على الكفاية. والمشهور أنه لا فضل لجماعة على جماعة. وقال ابن حبيب: بل تفضل الجماعة الجماعة بالكثرة وفضيلة الإمام. ولا تحصل فضيلة بإدراك أقل من ركعة مع الإمام، ولا يحتبس الإمام للداخل انتظار إدراكه الركعة. ومن صلى منفردا فأدرك جماعة اثنين فصاعدا، استحبت له إعادتها فيها، لا يعيد مع الواحد. قال الشيخ أبو عمران: إلا أن يكون هذا الواحد إمام، فهو كالجماعة. ولا تعاد المغرب ولا العشاء بعد الوتر على المشهور. وقال المغيرة: تعاد الصلوات كلها. فرع: لو شرع في إعادة المغرب، ثم ذكر قبل أن يعقد الركعة الأولى منها، خرج، فإن عقدها أضاف إليها أخرى وسلم، فإن أتمها، فليأت برابعة بالقرب، فإن طال، فلا شيء عليه. الأرض القاضي أبو بكر: " وقال بعض علمائنا: يصلي المغرب ثالثة بعد أن يسلم مع الإمام "، قال: " والأول أصح ".

ثم حيث يؤمر بالإعادة، فهل يعيد بنية الفرض، أو بينة النفل، أو بنية إكمال الفضيلة، أو يفوض الأمر إلى الله تعالى؟ في ذلك أربعة أقوال، (تتخرج) عليها ثلاثة فروع. الفرع الأول: لو صلى فذا ثم أعاد في جماعة، فذكر بعد ذلك أن الأولى كانت على غير طهارة، فقال ابن القاسم: " تجزيه الثانية "، وقال ابن الماجشون: لا تجزيه، لأنه صلى الثانية على جهة السنة، لا على جهة أداء الفريضة. وقال أشهب: إن كان حين دخوله في الثانية ذاكرا للأولى، فلا تجزيه هذه، وإن لم يكن ذاكرا لها أجزأته. الفرع الثاني: إذا صلى مع الإمام لفضل الجماعة معتقدا أنه صلى في بيته، ثم ذكر أنه لم يصل، فقال ابن القاسم: " تجزيه "، وقال أشهب: " لا تجزيه ". الفرع الثالث: إذا كانت الأولى على طهارة، وأحدث في أثناء الثانية، فروى المصريون عن مالك: ليس عليه أن يعيد الثانية. وقال أشهب منهم: ولو قصد بصلاته مع الإمام رفض الأولى، لم تلزمه الإعادة. وروي: أنه يعيدها، وبه قال ابن كنانة وسحنون، إلا أنهما اختلفا في التعليل، فقال ابن كنانة: (لأنه) لا يدري أيتهما صلاته، وقال سحنون: لأنها وجبت بدخوله فيها. وتظهر فائدة اختلافهما في التعليل إذا كان الحدث عن غلبة، وقال عبد الملك: إن أحدث بعد عقد ركعة أعاد الثانية، لأنه أدرك صلاة الإمام، وإذا كان قبل أن يعقد ركعة، لم تلزمه إعادتها، وحكاه أيضا ابن سحنون عن أبيه. وروي في كتاب ابن سحنون: إن كان أراد بصلاته مع الإمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو أراد أن يكون الأمر إلى الله تعالى في صلاتيه، فليعد الثانية. ومن صلى في جماعة، لم يعد في جماعة أخرى، إلا أن يعيد في أحد المساجد الثلاثة ما صلاة في غيرها. ويجري مجرى الجمع الإمام يصلي في مسجده وحده لتخلف الجماعة عنه، فلا يعيد في

الفصل الثاني: في صفات الأئمة.

جماعة أخرى، ولا تعاد الجماعة في ذلك المسجد؛ إذ حكم صلاته حكم صلاة الجماعة. ولا تعاد الجماعة في مسجد واحد مرتين. ولا تترك الجماعة إلا لعذر عام كالمطر والريح العاصفة بالليل، أو خاص مثل أن يكون مريضا، أو ممرضا أو خائفا من السلطان، أو من الغريم وهو معسر، أو كان عيه قصاص مرجو العفو، أو كان عاريا. الفصل الثاني: في صفات الأئمة. قال الإمام أبو عبد الله: " الشروط المعتبرة في الإمامة: البلوغ والعقل والإسلام والذكورية والحرية والعدالة، والعلم بما لا تصح الصلاة إلا به قراءة وفقها، وسلامة الأعضاء التي يكنون فقدها قادحا في الصلاة ". وقد جمع فيما عدد بين شروط الصحة وشروط كمال الفضيلة، وها نحن نشرع في تمييزها بالتفصيل، فنقول: أما الصبي المميز، فلا تجوز إمامته في الفريضة ولا تصح، وقال أبو مصعب: " تصح وإن لم يجز ". وأما في النافلة فتصح وإن لم تجز، وق يل: تصح وتجوز. وأما المجنون، وفي معناه غير المميز، فلا خفاء بعدم الصحة فيهما. وأما المخالف في مسائل الاعتقاد هن فإن كان في الأصولية القطعية، وكان كفرا صريحا لا مراء فيه كاليهودية والنصرانية وشبه ذلك، فلا شك في عدم الإجزاء، وإن كان مما يشكل كونه كفرا كالاعتزال وغيره من مذاهب أهل الأهواء فقيل: لا تجزي الصلاة خلفه. وقد قال مالك:

" من صلى الجمعة وراء القدري أعادها ظهرا ". وقال أصبغ وابن حبيب ببطلان الصلاة خلف البدعي وأنها تعاد أبدا، إلا أن ابن حبيب اشترط أن لا يكون واليا، قال: فإن كان وليان فصلاة وراءه جائزة، وإن أعاد في الوقت فحسن. وقال ابن القاسم: " يعيد في الوقت ". وقال سحنون: لا يعيد في وقت ولا غيره، وحكاه عن جماعة من أصحاب مالك. ونزل الإمام أبو عبد الله هذا الاختلاف على الخلاف في التفكير بالمآل، وذكر عن مالك في ذلك قولين، وعن القاضي أبي بكر بن الطيب أيضا قولين، ثم قال عبد: " والمسألة مشكلة، وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء، كما اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر بن الطيب وهو إمام المتكلمين ". (فأما) إن كانت المخالفة في المسائل الفروعية الاجتهادية، فلا تمنع من الاقتداء به. وخرج أبو الحسن اللخمي خلاف في اقتداء أحد المجتهدين بالآخر من قول أشهب، في قوم صلوا في بيت مظلم، فأصاب الإمام القبلة وأخطؤوها أنهم يعيدون، وإن أصابوها وأخطأها الغ/اأعادوها أجمعون. وذكر قول أشهب أيضا فيمن صلى وراء من لا يتوضأ من مس الذكر: أنه لا ي عد، ومن صلى رواء من لا يتوضأ من القبلة أنه يعيد أبدا، لأن القبلة من اللمس. وقال سحنون: بل يعيد فيهما بحدثان ذلك فإن طال لم يعد. قال الإمام: " فخرج الشيخ أبو الحسن، يعني الخمي، على هذا صلاة المالكي خلف الشافعي، خلف المالكي، ورأى أنه يختلف فيها "، ثم قال الإمام: " وإجراء الخلاف ي ذلك على الإطلاق عندي لا يصح ". قال: " وقد حكى حذاق أهل الأصول إجماع الأمة على إجزاء صلاة الأئمة المختلفين في الفقه بعضهم وراء بعض "، ثم اعتذر عما حكى عن أشهب من الإعادة في القبلة أبدا، بأنه رأى أن المسألة من الوضوح بحيث تكاد

تبلغ مسائل القطع التي يقطع فيها بخطأ المخالف، قال: " وهذا معنى قوله: إن القبلة من اللماس لأن القرآن جاء به، فيكاد إيجاب الوضوء فيه يلحق بالمقطوع به ". قال: " وأدل دليل على صحة هذا التأويل تفرقته بين مس الذكر والقبلة "، ثم قال: " وعلى هذا يجري اختلاف لأصحابنا في نقض بعض الأحكام في مسائل اختلف فيها، وإمضاء الأحكام في غيرها، وإن كان قد اختلف فيها أيضا ". وأما المرأة، فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء. وروي ابن أيمن جواز إمامتها للنساء. وأما العبد فتجوز إمامته في غير الجمعة إذا لم يكن إماما راتبا، وروى علي في المجموعة: لا يؤمن الأحرار، إلا أن يكون يقرأ وهم لا يقرؤون فيؤمهم في موضع الحاجة أيضا وكره مالك رضي الله عنه وابن القاسم أن يؤم في الفرائض إمامة راتبة. (وأجاز ابن القاسم أن يؤم في التراويح إمامة راتبة). والسنن عند ابن القاسم كالعيدين والاستسقاء والكسوف كالفرائض، يكره أن يكون فيها إماما راتبا. وأجاز ابن الماجشون أن يكون إماما راتبا في الفرائض، قال الإمام: " ويتخرج على قوله جواز إمامته في السنن ".

وأما إمامته في الجمعة فمنعها ابن القاسم، وأمر بإعادة صلاته وصلاتهم. وأجازها أشهب. فنظر ابن القاسم إلى كونها غير متعينة عليه، فإذا أم فيها صار كمتنفل أم مفترضا، ونظر أشهب إلى أنه بتخيره لها دون الظهر، والتزامه لها، وشروعه فيها، صارت كالفرض المتعين، وفارقت النفل بأنه يسوغ له تركه إلى غير بدل، ولا يسوغ له تركها إلا إلى بدل، وهو الظهر. وأما الفاسق بجوارحه لا من جهة الاعتقاد والتأويل والاجتهاد، كالزاني وشارب الخمر، فاختلف المذهب فيه: (فقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا، إلا أن يكون الوالي الذي تؤدي إليه الطاعة، فلا إعادة على من صلى خلفه، إلا أن يكون حينئذ سركان قاله من قلبت من أصحاب مالك). وكذلك ذكر الشيخ أبو بكر أن الصلاة خلف الفاسق بغير تأويل تعاد أبدا، واختاره. " وقال في الموازية فيمن صلى وفي جوفه الخمر، وليس بسكران: إن من صلى خلفه يعيد أبدا، وكذلك روى عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب في العتبية ". وقيل في إمامة الفاسق بجوارحه: تستحب الإعادة في الوقت. وأما الأمي الذي لا يحسن القراءة فلا تصح إمامته، مع حضور القارئ له ولا لغيره. وكذلك من كان لا يقدر على النطق بالحروف من مخارجها على الصحة، (بسبب (الجهل، وفي وجوب اقتدائه بمن يحسنها إذا قدر عليه خلاف. وأما الألكن، فتجوز إمامته للسالم من اللكنة. وقال الشيخ أبو القاسم: " إذا كان يقيم حروف فاتحة الكتاب "، قال الإمام أبو عبد الله: " وقد روي عن القاضي إسماعيل إجازة إمامة الألكن إذا كانت لكنته في غير محل قراءته "، قال: " وهذا الاشتراط لا معنى له، لأن التقصير في غير القراءة لا يؤثر في القراءة مع بعد حال اختلاف النطق بالحروف في القرآن وفي غير القرآن ".

وأما اللحان، فاختلف فيه المتأخرون، فقال الشيخ أبو الحسن: لا تصح الصلاة خلفه، ولو أن لحنه في غير أم القرآن، وقال أبو بكر اللباد: إن كان لحنه في أم القرآن لم تصح الصلاة خلفه، ووافقه الشيخ أبو محمد، ورأى أن الإمام لا تصح صلاه أيضا. وقيل: إن كان لحنه لا يغير معنى، صحت صلاته ما لم يعتمد ذلك، فيفسق بتعمده، (وإن) كان لحنه يغير المعنى: كقراءته إياك نعبد بكسر الكاف، أو أنعمت عليهم بضم التاء، لم تصح الصلاة. وإلى هذا ذهب القاضيان أبو الحسن وأبو محمد، وحكى أبو الحسن اللخمي قولا رابعا، وهو الصحة على الإطلاق. قال الإمام: " ولم أقف عليه "، ثم قال: " وسبب الخلاف في هذه المسألة اعتبار اللحن، هل هو مخرج للكلمة الملحون فيها عن كونها قررنا، وملحق لها بالكلام، أم لا؟ "، مكر وكذلك قال الشيخان أبو محمد وأبو الحسن في إمامة من لا يميز بن الضاد والظاهر: إن صلاته لا تصح، ولا خفاء ببطلان صالة من لا يحسن أداء الصلاة، وصلاة من ائتم (به). وأما نقص الخلقة، فهو على أقسام: الأول: لا تعلق له بالصلاة، ولا (يقرب) من الأنوثة كالعمي، فلا يمنع من صحة الإمامة، ولا من كمال فضيلتها. القسم الثاني: أن يكون مقربا من الأنوثة، وإن لم يتعلق بالصلاة كالخصاء، فتكره إمامة الخصي في الفرائض غمامة راتبة، وأجازها ابن الماجشون. قال الإمام: " ولا يلزم، على القول (بالكراهة)، كراهية إمامة العنين، فإن العنة ليست بحالة ظاهرة تقرب من الأنوثة، بخلاف الخصاء ".

القسم الثالث: أن يكون العضو له تعلق بالصلاة تعلق فريضة، كالسقيم العاجز عن القيام، فلا يؤم القيام. وروى الوليد بن مسلم إجازة إمامته لهم، وأجزها أشهب في مدونته، وفي (جواز) إمامته للجلوس المرضى خلاف. ولو لم يقدر إلا على الاضطجاع لم تصح إمامته للأصحاء بوجه، وكذلك إمامته لأمثاله لا تصح أيضا. وقيل: تصح. ولو كان يصلي إيماء، فقال الإمام: " ظاهر ما أشار إليه أصحابنا أنا لا نجيزها، وإن أجزنا إمامة الجالس، فإن صلاة المومي لا ركوع فيها ولا سجود، ولا يجوز أن يأتم به من في صلاته ركوع وسجود، كما لا يأتم مصلي الفرض بمصلي الجنازة ". القسم الرابع: أن يتعلق بها تعلق فضيلة، كقطع اليد أو شللها، فجمهور أصحابنا على جواز الائتمام به، لأنه عضو لا يمنع فقده من فرض من فروض الصلاة، فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين. وقال ابن وهب: " لا أرى أن يؤم الأقطع، والأشل إذا لم يقدر أن يضع يديه في الأرض؛ لأنه وإن بلغ نهاية طاقته في فعل لا يتحمله عن المأموم، فإنه منتقص عن درجة الكمال، فكرهت إمامته لأجل النقص ". وتكره إمامة الأعرابي للحضريين، واختلف الأصحاب في تعليل ذلك. فقال ابن حبيب: " إنما نهى مالك عن إمامة الأعرابي للحضريين، وإن كان أقرأهم لجهله بسنة الصلاة ". وقال بعض المتأخرين: لمداومته على ترك بعض الفروض، كالجمعة وإكمال الصلاة، بكثرة أسفاره. ويكره أن يتخذ ولد الزنى إماما راتبا. وكذلك المأبون والأقلف. وقيل:

الفصل الثالث: في شروط القدوة

يجوز اتخاذهم أئمة راتبين إذا كانوا صالحي الأحوال في أنفسهم، سالمين من النقائض التي تقدم ذكرها. هذا حكم الإجزاء والكمال، فإما الأولوية، فمن انفراد بالعلم والورع فهو أولى؛ إذ بهما يحسن الأداء وتحصل الشفاعة، فإن تعدد من جمعهما، رجح بغيرهما من الفضائل الشرعية والخلقية والمكانية، كالشرف في النسب، والسن، وكمال الصورة، ويلحق به حسن اللباس وذكر الشيخ أبو إسحاق الترجيح بصباحة الوجه، وحسن الخلق. وكملك رقبة المكان أو منفعته، وقد قال مالك رضي الله عنه: " صاحب الدار أولى بالإمامة وإن كان عبدا، ولو كانت الدار لامرأة لم يبطل حقها، بل لها تستخلف من يؤمن، ويستحب لها أن تستخلف أحق القوم الإمامة ". ويرجح بالإمارة، فيتقدم الأمير على الرعية، إذا كان صالحا للإمامة، سليما من النقائص القادحة، فمن اجتمع فيه هذه الوجوه فلا خفاء بأنه أولى، فإن نقص بعضها وكان أكمل من غيره قدم. ويقدم الفقيه على الصلاح وعلى القارئ، ويقدم الأفقه على الأقرإ، لأن ما تحتاج إليه الصلاة من القرآن محصور، وما يحتاج إليه من الفقه غير محصور، فما كان لا ينحصر المقدار المحتاج إليه منه كان أولى بالمراعاة، فالمكثر منه أولى من المقل بالإمامة، فإن اجتمع من تساوت أحوالهم في جميع ما ذكر أو بعضه وتشاحوا، أقرع بينهم إذا كان مقصدهم حيازة فضل الإمامة لا طلب الرئاسة (الدنيوية). الفصل الثالث: في شروط القدوة ويرجع ذلك إلى شروط أربعة: الأول: نية الاقتداء، فإن تابع من غير نية بطلت صلاته، ولا يلزم الإمام أن ينوي الإمامة إلا في ثلاثة مواضع: الجمعة، وصلاة الخوف، وانتقال حالته إلى الاستخلاف بعد أن كان مأموما. الثاني: ألا ينزل جنس صلاة الإمام عن جنس صلاة المأموم، كمنتفل يؤم مفترضا. الثالث: اتحاد الفرض المؤتم فيه، فلا يصلي الظهر من يصلي الصبح أو غيره.

الرابع: المتابعة والمساوقة دون المساواة والمسابقة، وروى ابن حبيب أن للمأموم أن يفعل مع الإمام معا، إلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام فيفعله بعده. (ثم) على كلا المذهبين لا تبطل الصلاة بالمساواة، أو التقدم في شيء من الأفعال سوى الإحرام والسلام. وروى سحنون عن ابن القاسم: وإن أحرم معه أجزاه، وبعده أصوب. قال سحنون في المجموعة: هذا قول عبد العزيز، وقول مالك أنه يعيد الصلاة. وحيث صححنا، فيؤمر بالعود إلى ما فعله قبل الإمام، حتى يكون فاعلا له بعده، ما لم يلحقه الإمام، ثم إن لم يفعل، فصلاه صحيحة على المنصوص. وليس ترتيب الموقف بشرط في صحة الصلاة، لكن الأولى أن يقف الواحد عن يمين الإمام، فإن قام أمامه أو خلفه، أو عن يساره، لم تبطل صلاته. وكذلك لو صلى على أرفع مما عليه إمامه، أو أخفض من غير قد إلى التكبير، إذا كان الارتفاع يسيرا كالشبر وعظم الذراع ونحوه، فإن كان كثيرا، فللمتأخرين في بطلان صلاة المرتفع ثلاثة أقوال: البطلان، ونفيه، ومأخذهما النظر إلى ظاهر العموم، أو إلى فقد العلة وهي التكبر والتفرقة، فيعتبر قصد التكبر في المأموم وتبطل على الإمام مطلقا من غير اعتبار قصد؛ لأن ارتفاع الإمام فعل تقدم على جهة الكبر، فمنع في القاصد وغيره حسما لذريعة، ولو قصد المرتفع منهما التكبر لعصى وبطلت صلاه وصلاة من خلفه إن كان الإمام. والأحسن أن يقف الاثنان خلف الإمام، وكذل ما زاد عليهما، فإن (كانت) معهما امرأة قامت وراءهما، وتقوم وراء الإمام وحدها، أو مع غيرها من جنسها، أو مع كون الواحد عن يمينه. والمنفرد وراء الصف إن وجد فرجة تقدم إليها، فإن لم يجد، لم يجذب إليها أحدا من الصف، لكي لا يختل. فروع مرسلة: صلاة المسمع والصلاة به، حكى بعض المتأخرين في صحتها وبطلانها ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، فتصح مع وجود إذن الإمام، وتبطل مع عدمه. وفي الحواشي لعبد الحق: سألت الشيخ أبا عمران عن صلاة الناس بالمسمع يكبر لهم إذا كبر الإمام، ويسمعهم السلام إذا سلم؟ فقال: قد كان الشيخ أبو القاسم يفعله، قال عبد الحق: أراه يريد ابن شبلون فقال لي: وقد أجاب الشيخ أبو الحسن بن محرز باستخفاف ذلك، وأن ابن عبد الحكم أمر المؤذنين به.

والمسبوق ينبغي أن يكبر للعقد ثم للهوى، فإن اقتصر على واحدة وقصد بها العقد أجزأته، وإن قصد بها الهوي أن أطلق انتفى الإجزاء، وفيه رواية لابن وهب. ولو أحدث الإمام من غير تعمد، لم تبطل صلاة المأموم، إلا أن يتمادى على الإمامة بعد الحدث. والمنفرد ليس له نقل صلاته وتحويلها إلى الجماعة، وكذلك المؤتم لا يجوز له أن ينقل صلاته من الجماعة إلى الانفراد. واختلف فيمن اضطر إلى ذلك، كمريض اقتدى بمثله ثم صح، فذهب سحنون إلى إنه يخرج من صلاة الإمام، ويتم لنفسه؛ كما يصير الإمام مأموما لوجود عذر. وقال يحيى بن عمر: يتمادى لأنه دخل بما يجوز له. وإذا شك المسبوق أن الإمام هل رفع رأسه من الأولى قبل ركوعه أم لا؟ لم يعتد بها. قال ابن الماجشون: إذا شك في أن يكون أدرك الركعة معه، فليتماد منه، ويعيد الصلاة، وترك الركوع إذا خشي أن يعجله أو يشك في ذلك أولى. قال ابن القاسم عن مالك: " وحد إدراك الركعة أن يمكن يديه من ركبتيه، قبل رفع الإمام رأسه ". والمسبوق عند سلام الإمام، يقوم من غير تكبير، إذا كان جلوسه لمتابعة الإمام، وإن كان موضع جلوس له هو أيضا قام بتكبير. وقال ابن الماجشون: يقوم بتكبير على كل حال، ثم إذا قام أكمل صلاته. (واختلف المتأخرون في مقتضى المذهب في كونه قاضيا أو بانيا على ثلاث طرق: الأولى: طريقة الشيخ أبي محمد وجل المتأخرين، أن المذهب كله على قول واحد، وهو البناء في الأفعال، والقضاء في الأقوال. الثانية: طريقة بعض القرويين، " أن المذهب على قولين في القراء خاصة، وعلى قول واحد في الجلوس "

الفصل الرابع: في استخلاف الإمام عند حاجته إلى ذلك

الثالثة: طريقة أبي الحسن اللخمي، أن المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بأن في الأقوال والأفعال، والثاني: أنه قاض فيهما، والثالث: أنه قاض في القراءة، بأن في الأفعال). وأقرب ما فرق به بين الأفعال والأقوال في هذه الطريقة، أنه رأى أن ما أدرك هو أول صلاته حقيقة، فلذلك (يبني) على الجلوس، ولكنه يزيد فيما يأتي به سورة مع أم القرآن إذ لا يفسد الصلاة، ولا ينقص كمالها زيادة السور، بل ينقص الكمال نقصها، فيأتي بالسورة ليتلافى ما فاته من الكمال. الفصل الرابع: في استخلاف الإمام عند حاجته إلى ذلك والنظر في محل الاستخلاف وكيفيته، وصفة المستخلف وفعله: أما محله، فهو حيث طرأ على الإمام ما يفعله من التمادي على الإمامة خاصة، أو يمنعه التمادي على الصلاة جملة. فالأول: كتقصيره عن فرض من الفروض، مثل من عجز عن القيام مثلا، فإنه يستخلف ويرجع إلى الصف فيتم مؤتما بمستخلفه، وكذلك لو حصر عن القراءة فعلم أنه لا يقدر على القراءة في بقية الصلاة، فقال ابن سحنون: إن يستخلف ويصلي مأموما خلف النائب عنه، قال الإمام أبو عبد الله: " ولو حصر عن قراءة بعض السور التي مع أم القرآن لم يكن له عنيد أن يستخلف، لأن صلاته تصح مع تركه فعل ما عجز عنه ". والثاني: كغلبة الحدث أو تذكاره، أو الرعاف الذي يقطع لأجله، وقد تقدم الخلاف في ذاكر صلاة منسية ". وأما كيفيته، فالأولى أن يستخلف بالإشارة، فإن تكلم لم تبطل الصلاة وصح الاستخلاف؛ لأنه بالطارئ قد خرج عن أن يكون إماما، والأولى أن يستخلف من يقرب موضعه منه، فإن استخلف من بعد أتم في مكانه، ولم ينتقل إلى مكان الإمام. ولو طرأ سبب الاستخلاف في حالة الركوع أو في حالة السجود، فهل يستخلف في الحالة أو يرفع رأسه ثم يستخلف؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين.

وإذا قلنا: إنه يستخلف بعد الرفع فليرفع غير مكبر، لئلا يرفعوا برفعه، فيكونوا مقتدين به في حالة لا يصح الاقتداء به، فإن رفع فاقتدوا به، فقال الشيخ أبو الطاهر: " يجري ذلك على الخلاف في الحركة إلى الأركان، هل هي مقصودة فتبطل الصلاة، أو غير مقصودة فلاغ تبطل؟ وقال بعض المتأخرين: لا تفسد صلاتهم، بل هم كالرافعين قبل إمامهم غلطا، فيرجعون إلى الركوع ليرفعوا برفع المستخلف "، قال: " ولو رفعوا برفعة فلم يستخلف عليهم أتموا صلاتهم ". وليس الاستخلاف بواجب على الإمام، لأنه إنما التزم أن يقتدى به ما دام الاقتداء به ممكنا، فإذا تعذر ذلك، فليس عليه أن يأتي بعوض منه، لكن لما كان المأمومون ممنوعين من الكلام، كان من حسن النظر هلم أن يقيم لهم من يتم بهم، (فإن لم يقم لهم أمروا بأن يستخلفوا من يتم بهم، اويتقدم أحدهم فيتم بهم وإن لم يقدموه، فإن لم ي فعلوا وصولا وحدانا، فإن كانوا في الجمعة بطلت على المشهور، وسواء عقدوا مع الإمام ركعة أم لا، ولم تبطل على الشاذ، وإن كانوا عقدوا منها ركعة معه، وإن كانوا في غير الجمعة فالمنصوص صحة صلاتهم، وقد أساؤوا. وكذلك لو استخلف قوم منهم أو واحد من الجماعة، وأتم الباقون وحدانا صحت صلاتهم على المنصوص. وقال محمد بن عبد الحكم: " كل من لزمه أن يتم صلاته في جماعة، فأتم فذا أو قضى ما وجب عليه فذا مؤتما، بطلت صلاته، وقد أخذ من ها القاضي أبو الوليد، وأبو الحسن اللخمي بطلان صلاتهم إذا لم يستخلفوا، وبطلان صلاة من أتم فذا منهم. قال الشيخ أبو الطاهر: " ويحتمل قول ابن عبد الحكم أنه يريد من خرج عن إمامة الإمام الأول أو المستخلف بعد أن اقتدى به، وأنه إنما أراد التنبيه على خلاف من قال إن للمأموم الخروج عن الاقتداء، قال: " وإذا احتمل ذلك لم يلزم منه الاستقراء بلا بد ". ولو استخلف الإمام إنسانا فتقدم غيره فأم، واقتدى به مستخلف الإمام لصحت الصلاة على المنصوص في المذهب ".

وأما صفة المستخلف، فليكن بعد صحة إمامته ابتداء ممن انسحب عليه حكم الإمام قبل طروء العذر، ويكون ما فعله عند مفارقة الإمام مما يعتد به جزءا من صلاته، فلا يقدم من أحرم بعد طروء العذر، ولا من فاته الركوع معه من الركعة التي طرأ العذر فيها؛ لأنه يصير كالمتنفل يؤم المفترضين، فإن استخلفه أمر المستخلف باستخلاف غيره، أو استخلفوا هم غيره، فإن لم يفعلوا وائتموا به فصلاتهم باطلة. وقيل: صلاتهم صحيحة؛ لأن فعل المستخلف لذلك وإن كان لا يعتد به واجب عليه لوجوب متابعة الإمام لو لم يحدث، وصار باستخلافه كأن الإمام لم يذهب. وأما من أحرم بعد طروء العذر، فإن استخلفه على ركعة أو ثلاث، فصلاته باطلة؛ لأنه جلس في غير موضع جلوس وهو مصل لنفسه، وإن استخلفه على ركعتين، فصلاته تامة. وقال ابن حبيب: إن قدمه في أول ركعة فصلاته تامة، وتبطل صلاتهم، وإن كان بعد ركعة أو أكثر فعمل على بناء صلاة الأول فلا صلاة له ولا لمن خلفه. وأما فعل المستخلف، فإنه متمم لصلاة الإمام، فعليه أن يصليها من حيث انقطعت، فإن كان الإمام لم يقرأ افتتح القراءة، وإن قرأ أتم من حيث وصل إن كان صلاة جهر، فإن كانت صلاة سر، ففي السليمانية أنه يبتدئ قراءة أم القرآن من أولها. قال الإمام أبو عبد الله: " وكأنه رأى (أن) تجويز كون الإمام لم يقرأ لنسيان أو غيره يقتضي ابتداء المستخلف القراءة من أولها ". فإذا ركع ولم يرفع تقدم راكعا، ثم رفع ويتمادى على صلاة الإمام. فإن أتمها سلم بهم إن كان أدرك جملة صلاة الإمام، وسلم بسلامه من كملت صلاه من المتقدمين، وقام من كان مسبوقا للقضاء. فإن كان لم يدرك جملة صلاة الإمام، بل كان مسبوقا أشار إليهم إذا أكمل صلاة الإمام، كالآمر لهم بالجلوس، ثم نهض للقضاء، فإذا فرغ منه سلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول، وقد حل محله في الإمامة فيه، فلا يصح الخروج عن ذلك لغير معنى يقتضيه، وانتظار القوم لفراغه من القضاء أخف من الخروج من إمامته. وقيل: يستخلف من يسلم بالقوم؛ لأن السلام بقية صلاة الأول كما تقدم، ولا ينبغي له أن يقضي قبل فراغ الصلاة، وخروج القوم عن الاقتداء به إلى الاقتداء بمن أقام مقامه أخف من انتظاره. وسبب هذا الاختلاف: أن الضرورة دافعة للمصلي إلى الخروج عن الأصل على المذهبين جميعا، والنظر في أي الخروجين أخف.

ولو ساوت هذا المستخلف طائفة من القوم في فوات ما فاته، فقال سحنون: من أصحابنا من يقول: يقوم المستخلف وحده للقضاء، ثم يسلم، ثم يقضون بعده، ومنهم من يقول: إذا قام يقضي قام كل واحد يصلي لنفسه، ثم يسلمون بسلامه فإن ائتموا به أبطلوا على أنفسهم، وصلاة المستخلف تامة. وذكر ابن سحنون عن أبيه أنه قال: تجزئهم ثم رجع فقال: يعيدون أحب إلي، وفي كتاب ابن المواز: ومن اتبعه فيها منهم أو من غيرهم فصلاته باطلة. فروع ثلاثة: الأول: لو لم يدر ما صلى إمامه الذي استخلفه، والذين خلفه يعلمون ذلك أشار إليهم، فإن فهموا عنه وأجابوه بالإشارة عمل عليها فإن لم يفهم ومضى في صلاته فليسبحوا به حتى يفهم، فإن لم يجد بدا إلا أن يتكلم فلا بأس. وقال سحنون في المجموعة: ينبغي أن يقدم غيره ممن يعلم ما صلى الإمام، فإن تمادى فإنه إذا صلى ركعة فليتزحزح للقيام، فإن سبحوا به جلس وتشهد، ثم يتزحزح للقيام، فإن لم سبحوا به قام وبنى على أنها ثالثة، وإن سبحوا (به) عرف أنها رابعة، فيشير إليهم بالجلوس، ثم يقضي على ما تقدم. الفرع الثاني: لو أزال الإمام عذره، ثم عاد فأخرج المستخلف وأتم الصلاة بهم، فهل تبطل الصلاة لأنه انعزل بالاستخلاف ثم صار مستخلفا من غير عذر، أو تصح لأن المستخلف وكيل الإمام، فإذا عاد انعزل الوكيل؟ قولان: الأول ليحيى بن عمر، والثاني في العتبية. الفرع الثالث: لو رجع الإمام فقال للمسبوق المستخلف، قد كنت أسقطت من الركعة الأولى (أو) الثانية ما يقتضي بطلانها كالركوع أو السجود مثلان فإما المستخلف فيتم صلاة الإمام؛ إذ لا علم عنده من صحتها، وأما المقتدون فمن تحقق كماله صلاته وصلاة إمامه لم يلزمه اتباعه فيما قال. ومن شك منهم في صحة صلاته وصحة صلاة إمامه، أو تيقن الآن صحة قوله لزمه التدارك، ومن تيقن سلامة صلاته دون صلاة إمامه، ففي لزوم التدارك له خلاف كما تقدم في السهو. ثم من لزمه التدارك اتبع المستخلف في تكميل صلاة الإمام. وهل يكون المستخلف فيما يأتي به من ذلك قاضيا، فيقرأ بأم القرآن وسورة، أو بانيا فيقرأ بأم القرآن خاصة؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين منصوصين، ويسجد قبل السلام لأنه أخل بالجلوس في موضعه. وهل يسجد بعد كمال صلاة الإمام أو صلاة نفسه؟ في ذلك قولان مبنيان على تغليب حكم الإمام، أو النظر إلى حصول الإمامة له.

الباب التاسع: في صلاة المسافرين

الباب التاسع: في صلاة المسافرين: والنظر في القصر والجمع. (النظر الأول: في القصر). وأداء الصلاة المقصورة على صفة أداء التامة، إلا في الإتمام، وقد اختلفت أقوال أهل المذهب ورواياتهم في حكم القصر. فروى أشهب شانه فرض، وبه قال القاضي أبو إسحاق وابن سحنون، ومال إليه ابن المواز، ولم يقدم عليه لما رأى أن مالكا وأصحابه لم يختلفوا أن من أتم صلاته في السفر إنما يعيد في الوقت. قال القاضي أبو محمد: " جماعة من أصحابنا البغداديين يرون القصر فرضا "، وروى أبو مصعب وابن وهب: " أنه سنة "، وقال القاضي أبو الحسن: " قال إسماعيل وغيره: فرضه ركعتان "، وقال باقي أصحاب مالك: وهو مخير بين الإتمام والقصر، والاستحباب القصر، وإليه ذهب الأبهري، قال: وهو اختياري. قال القاضي أبو محمد أيضا: " ذهب أكثر أصحابنا إلى أن فرضه التخيير، إلا أن القصر أفضل، وهو [سنته]. وحكى أبو جعفر الأبهري: أن الشيخ أبا بكر يقول: " وهو مخير بين القصر والإتمام ". وقال أبو محمد عبد الحميد: " بعض المذاكرين يقول: إن مذهب الكتاب حيثما وقع أن قصر المسافر رخصة ". هذا حكمه، فأما مشروعيته فعند وجود السبب والمحل والشرط.

الأول: السبب، وهو كل سفر طويل ليس بمعصية، وفي المكروه تردد. والمراد بالسفر، ربط القصد بمقصد معلوم، فالهائم لا يترخص. ثم إنما يترخص المسافر بعد مجاوزة السور في المصر الذي لا بناء خارجه ولا بساتين. وروى مطرف وابن الماجشون: أنه لا يقصر حتى يكون بينه وبين المصر ثلاثة أميال، فإن كان حول المصر بناءات معمورة أو بساتين وكانت متصلة به في حكمنه فإذا جاوزها. وإن كان خروجه من قرية لا تقام فيها الجمعة، ولا بناءات متصلة بها ولا بساتين، قصر إذا فارق بيوت القرية، (وإن) اتصل بها شيء من ذلك فحتى يفارقه. وإن كان خروجه من بيوت العمود قصر بمفارقته الحلل، ثم حيث قلنا: يقصر منه، فإنه يقصر إليه، وفي المجموعة: يقصر حتى يدخل منزله. فإن رجع المسافر لأخذ شيء نسيه، لم يقصر في رجوعه إلى وطنه. وقال ابن الماجشون: يقصر حتى يصل وطنه، وفي الموازية مثله. ولا يقصر بعد وصوله وطنه الذي فيه أهله، فإن كان رجوعه إلى غير وطنه وكان يقصر فيه قبل خروجه، قصر الآن أيضا، وإن كان يتم بالمكان قبل خروجه، فقيل: يتم في رجوعه، وقيل: يقصر. ثم نهاية سفره منتهى قصده، إلا أن ينوي إقامة في أضعاف سفره، فيكون مكان الإقامة هو المعتبر. وقيل: يلفق المسافة بما قبل الإقامة وما بعدها. وهذا الخلاف أيضا جار في تلفيق الإقامة، وعليه تخرج مسألة الكتاب فيمن دخل مكة فأقام بها بضع عشرة ليلة فأوطنها، ثم بدا له أن يخرج إلى الجحفة فيعتمر منها، ثم يقدم مكة فيقيم بها اليوم واليومين، ثم يخرج منها، هل يقصر الصلاة في اليومين أو يتم؟ فأجاب أولا بالإتمام تعويلا على التلفيق، وكأنه ضم اليومين إلى ما قبلهما من المسافة، ثم أجاب بالقصر بناء على ترك التلفيق، وكأنه أضاف اليومين إلى ما بعدهما من السفر وهو يقصر فيه، قال ابن القاسم: " وهو أعجب إلي من الأول ". وتخرج على تلفيق الإقامة مسألة: من سافر في البحر من موضع، ثم درته الريح إليه، فهل يقصر فيه أم يتم؟ ولا شك أنه يتم إن كان الموضع وطنه، وإن كان غير وطنه ولم ينو فيه دوام الإقامة، فهل يقصر؟ قولان، ولا يحتسب المسافر بالعود إلى وطنه، ولو لم تتخلله إقامة أصلا.

والإقامة المعتبرة أربعة أيام، وقال ابن سحنون: مقدار عشرين صلاة، وقال محمد بن حارث: وكذلك ذكر محمد بن المواز في كتابه. وإذا فرعنا على المشهور، فلا يعتد فيها بيوم الدخول إلا أن يدخل من أوله، وقال ابن نافع: يعتد به ويتم الإقامة مثل ذلك الوقت من النهار الخامس، وإن كان له في البلد الذي وصله غرض يعلم أنه لا يتنجز في المدة المذكورة فهو مقيم، وإن كان يجوز تنجيزه فيما دون ذلك، فهو يقصر ما دام في انتظاره من غير حد محدود. أما الطويل فحده أربعة برد وهي مسافة يومين، وذلك سنة عشر فرسخا، وهي ثمانية وأربعين ميلا. وقال أشهب: يقصر في خمسة وأربعين ميلا، وفي رواية أبي قرة في اثنين وأربعين. وقال ابن الماجشون: " إن قصر في أربعين ميلا أجزأ عنه ". وفي رواية أبي زيد عن ابن القاسم: إن قصر في ستة وثلاثين ميلا أجزأ عنه، قال ابن عبد الحكم في الموازية: يعيد في الوقت، وقال يحيى بن عمر: لا أعرف هذا لأصحابنا، ويعيد أبدا. ثم هذا القدر هو المعتبر في البر والبحر. وروي في المبسوط التحديد في سفر البحر باليوم التام، لأن الأميال لا تعرف فيه. وحكى أبو محمد عبد الحق عن بعض شيوخه: " أن التحديد في البحر بيوم ليس بخلاف لما تقدم من تحديده في البر بيومين، لأنه يقطع في البحر مسافة اليومين في اليوم الواحد ". ورأي الشيخ أبو الطاهر أيضا: " أن هذا ليس بخلاف، قال: بل ينظر، فإن أمكن تمييز الأميال، كالمرور مع السواحل فهو كالبر، وإن كان بحيث لا يمكن التمييز كالسير في وسط البحر، فكما روى في المبسوط ".

فرع: اجتمع السفر من السير في البر والبحر لفقهما إن كانت بداءته بسفر البحر، وكذلك إن كان بسفر البر، لكن إذا وصل إلى البحر (سار) على كل حال بالريح وبغيره، فيقدر منها المقدار الذي قدمناه. فإن كان إذا وصل إلى البحر لا يسير إلا بالريح، فقال ابن المواز: لا يقصر حتى يكون في سفر مقدار سفر البر القصر. ويشترط عزمه في أول السفر، فإن خرج في طلب آبق لينصرف مهما لقيه لم يترخص، وإن تمادى سفره إلا أن يعلم أنه لا يلقه قبل مرحلتين. ولو ترك الطريق القصير وعدل إلى الطريق الطويل لغير غرض لم يترخص. ومهما بدا له الرجوع في أثناء سفره انقطع سفره، فليتم إلى أن ينفصل عن مكانه متوجها إلى مرحلتين. أما قولنا: ليس بمعصية، فالعاصي بسفره لا يترخص، كالآبق والعاق بالسفر. وروى زياد بن عبد الرحمن جواز ترخص العاصي بسفره، كالعاصي في سفره. وإذا فرعنا على المشهور، فلو طرأت المعصية بالسفر في أثنائه لم يترخص أيضا، ولو طرأت له التوبة في أثناء سفر المعصية ترخص، وفي جواز تناول الميتة له قبل التوبة خلاف. الثاني: محل القصر، وهو كل صلاة رباعية مؤداة في السفر، أو مقضية لفواتها فيه، فلا قصر في الصبح والمغرب، ولا في فوائت الحضر. ويقصر في فوائت السفر قضيت فيه أو في الحضر. والمسافر في آخر الوقت يقصر إذا بقي منه مقدار ركعة فأكثر، كالطهار إذا حاضت في آخر الوقت، وقد بقي منه ما يسع الصلاة أو ركعة منها، فإنها تسقط عنها كما تقدم. الثالث: الشرط، وهو اثنان. الأول: أن لا يقتدي بمقيم، فإن اقتدى به وصححنا صلاته لزمه الإتمام على المشهور. ولنبين حكم اقتداء أحدهما بالآخر. فأما اقتداء المسافر بالمقيم، فإن قلنا بأن القصر فرضه، فلا يجوز أن يقتدي بمقيم.

وقيل: يقتدي به، وإن قلنا: بأن القصر سنة، فروى ابن القاسم وابن الماجشون أنه لا يقتدي به. وروى الشيخ أبو إسحاق: " لا بأس بصلاة السفري خلف المقيم لفضله وسنه وفهمه ". ومأخذ الخلاف: النظر إلى الترجيح بين فضيلتي لجمع والقصر، فإن قلنا بأن القصر أولى مع التخيير بينه وبين الإتمام، أو قلنا بالتخيير كما روي عن الشيخ أبي بكر، فلا شك أن الائتمام بالمقيم أولى من القصر مع الانفراد. ثم حكم الصلاة بعد الاقتداء منزل على الخلاف المتقدم، فإن بنينا على أن القصر فرضه، فقال القاضي أبو محمد وبعض المتأخرين: " تبطل الصلاة "، وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون القصر فرضه، فإذا ائتم بمقيم انتقل فرضه لفرض المقيم كالعبد والمرأة في الجمعة. وقال غيرهم: يقتدي به في الركعتين خاصة، ثم اختلفوا هل يسلم ويتركه، أو ينتظره فيسلم معه؟ وإن قلنا بأن القصر سنة، أتم وأعاد عند ابن الماجشون في الوقت، ولم ي عد عند ابن القاسم، وكذلك روى مطرف أن لا إعادة عليه. وروى ابن الماجشون وأشهب: أنه يعيد في الوقت، إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين أو في مساجد الأمصار الكبار. هذا حكم صلاته، إذا اقتدى بمن تيقن إقامته، فلو اقتدى بمن لا يعلم حاله، فقال سحنون: تجزيه. ولو اقتدى بمن اعتقد فيه حالة، فلظهر له خلافها، فقال أشهب: تجزيه، وقال سحنون: لا تجزيه. وسبب الخلاف: مراعاة عدد الركعات في أصل النية. وأما ائتمام المقيم بالمسافر، فقد قال ابن حبيب: هي أخف من صلاة المسافر بإمامة المقيم في الكراهية، وقال أيضا: اتفقت الرواية عن مالك، أنه إذا اجتمع مسافرون ومقيمون، أنه يؤم المسافرين، والمقيمين مقيم، ولا يؤم مسافر مقيمين، ولا مقيم مسافرين إلا أن يكون ذلك في المساجد الجامعة التي تصلي فيها الأئمة، يعني الأمراء. ولو أم المسافر بالفريقين، ثم ذكر أنه على غير طهارة، أو أحدث مغلوبا، فإنه يؤمر بأن يستخلف مسافرا، فإن لم يفعل، وقدم مقيما، لم يقبل استخلافه، وتقدم مسافر، فإن جهل وقبل الاستخلاف، وأتم صلاة الإمام، فإن المسافرين يسلمون لأنفسهم، وقيل: يستخلفون

مسافرا يسلم بهم، وقيل: يثبتون حتى يسلموا بسلامه. واختلف في المقيمين هل يتمونها أفذاذا بعد فراغ صلاة إمامهم، أو بعد سلام المستخلف؟ الشرط الثاني: أن يستمر على نية القصر جزما في جميع الصلاة. (وإذا قلنا: أن القصر ليس بفرض، فهل من شرطه أن ينويه عند عقد الإحرام؟ حكى الإمام أبو عبد الله عن بعض أشياخه أنه قال: " يصح أن يلتزم القصر أو الإتمام قبل الشروع في الصلاة، ويصح أن يدخل في الصلاة على أنه بالخيار بين القصر والإتمام "، قال: " وكأنه رأى أن عدد الركعات لا يلزم المصلي أن يعقده في نيته حين الإحرام "، وقد تقدم ذكر الخلاف في هذا الأصل، (وإن مما) (يخرج) عليه من الفروع ما لو ابتدأ على القصر فأتم، أو بالعكس، وكذلك مسألة الداخل يوم الجمعة يظنه الخميس أو العكس. ومذهب الكتاب في هذه إجزاء من ظن الجمعة دون من ظن الخميس، وقال في السليمانية: تجزيه الصلاة، والإعادة أحوط. وقال أشهب: لا تجزيه في شيء منها، إلا أن يصلي معه وهو لا يدري يومه ذلك فإنه تجزيه). ولو عرض له قصد الإقامة في أثنائها وصمم عليه ولو لحظة، فإن كان قبل أن يركع، فيستحب له أن يجعلها نافلة، ويستأنف فرضه أربعا، فإن تمادى على صلاته وأتمها أربعا، أجزأته في رواية ابن حبيب عن مالك. (وإن كان بعد أن عقد الركعة، فروى ابن حبيب عن مالك، أنه يستحب له أن يشفعها بركعة، ويجعلها نافلة، ثم يصلي فرضه أربعا. وروي عن ابن الماجشون أنه يضيف إليها ركعة أخرى تكون فرضه، لأنه لما عقد ركعة من صلاته على السفر لزمه حكم السفر. قال القاضي أبو الوليد: " وظاهر قول عيسى بن دينار يقتضي أنها لا تجزيه إن تمادى عليها ". ولو أحرم على أربع، وفعلها ساهيا عن السفر أو القصر، فقال ابن المواز: يعيد في الوقت، وقد كان ابن القاسم يجيز في هذا سجدتي السهو حتى تبين أو استبصر، فرجع عن ذلك، وقال: يعيد في الوقت كان عامدا أو جاهلا أو ناسيا. وروى ابن حبيب: أنه يسجد

للسهو، ثم قال: يجزي الساهي سجود السهو، إلا على قول ابن الماجشون الذي يقول: إذا كثير السهو أعاد، وقال سحنون: " إن كان ناسيا لسفره، فإنما عليه الإعادة في الوقت، وهو كالعامد والجاهل ". وإن كن ذاكرا لسفره فصلى أربعا وهو يظن أنها ركعتان، أعاد أبدا لكثرة السهو. وذكر ابن نافع اختلاف قول مالك في المسافر إذا أتم ساهيا، هل يعيد في الوقت، أو يسجد لسهوه؟ وقال ابن المواز: إذا عقد إحرامه على أربع، فليعد في الوقت ساهيا كان أو عامدا، وإن عقد على ركعتين، فأكمل أربعا، فإنه يسجد في السهو، ويعيد أبدا في العمد. قال ابن سحنون: يعيد أبدا لكثرة السهو، وقال ابن المواز: ليس كسهو مجتمع عيه. النظر الثاني: في الجمع، وأسبابه أربعة. الأول: السفر، فيجوز الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت على المعروف من المذهب، ووقع في العتبية، " قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الأفضل، لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه ". وإذا فرعنا على المعروف من المذهب، فلا يختص الجواز بالطويل، لكن يختص بحال الجد في السير لخوف فوات أمر، أو لإدراك مهم، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: بأن الجد لمجرد قطع السفر مبيح للجمع. ثم وقت الجمع معتبر بوقت الرحيل، فإن عزم عليه بعد الزوال مثلا، ونيته أن لا ينزل إلا بعد غروب الشمس جمع في المنهل، ولم يذكر في الكتاب المغرب والعشاء، كما ذكر في الظهر والعصر عند الرحيل. قول سحنون: الحكم متساو. واختلف المتأخرون في قوله، هل هو تفسير أو خلاف. ولو كان الراحل عقيب الزوال عازما على النزول قبل تصرم وقت الصلاة الثانية لم يجمع، بل يصلي الظهر قبل رحيله، ويؤخر العصر إلى حين نزوله، وكذلك المغرب والعشاء قبل ثلث الليل أو نصفه على قول سحنون. وإن كان هذا المسافر أدركه الزوال أو الغروب وهو على ظهر لا ينزل في النهار لكن بعد الغروب، ولا في الليل لكن بعد طلوع الفجر، جمع بين الصلاتين في وقتهما المختار، فيصلي الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها.

ولو زالت عليه الشمس وهو في المنهل، وإذا رحل لم ينزل إلا بعد الاصفرار، فأشار بعض المتأخرين إلى تخييره، فإن شاء جمع بينهما في المنهل، وإن شاء بعد النزول؛ إذ في كلا الحالين إخراج إحدى الصلاتين عن وقتها المختار. ولو زالت الشمس والمسافر على ظهر ولا ينزل إلا بعد الاصفرار، فأشار ابن مسلمة إلى جواز التأخير ليجمع إذا نزل. ثم صفة الجمع، أن يقدم الأولى منهما، وينويه في أولها، ولا يجيزه أن ينوي في أول الثانية، وقيل: يجزي. فلو ص ليت الأولى، ثم حدث السب، أو أدرك الجمع في الثانية من صلى الأولى وحده، ففي جواز الجمع في الفرعين خلاف مبني على ما ذكرنا. ومن صفة الجمع الموالاة نفلا يفرق بين الصلاتين أكثر من قدر إقامة اوأذان وإقامة على ما تقدم، ولا يتنفل بينهما. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يتنفل. ومهما نوى الإقامة في أثناء إحدى الصلاتين عند التقديم بطل الجمع، وإن كان بعدهما فلا يبطل. السبب الثاني لجمع: المطر. والترخص به عام في جميع المساجد، وحكى الشيخ أبو إسحاق رواية بتخصيصه بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمنصوص اختصاصه بالمغرب والعشاء، واستقرأ أبو الاسم بن الكاتب والقاضي أبو الوليد جواز الجمع بين الظهر والعصر أيضا من قول مالك في الموطأ: " أرى ذلك في المطر ". وإذا جمع بين المغرب والعشاء، ففي وقت المغرب، ثم هل يفعل المغرب أول وقتها، أو يؤخرها قليلا؟ الرواية المشهور أنه يؤخرها قليلا، ثم يقدم العشاء إليها. وروى أنه يصليها في أول وقتها محافظة على الوقت المختار. (وبهذه الرواية قال (ابن وهب) (وأشهب).

الباب العاشر: في صلاة الجمعة

ومهما اجتمع المطر والطين والظلمة، أو اثنان منها، أو انفرد المطر جاز الجمع، ولا يجوز عند انفراد الظلام. فإما انفراد الطين، فظاهر المستخرجة جواز الجمع من أجله، وظاهر المذهب منعه. ولو كان المطر موجودا في (أولى) الصلاتين، فانقطع قبل الثانية أو في أثنائها، جاز التمادي على الجمع؛ إذ لا تؤمن عودته. ويجمع المعتكف في المسجد لإقامة الصلاة عليه. أما المنفرد في بيته فلا، ولو صلى الشيخ الضعيف أو المرأة في البيت بالمسمع، ففي جواز الجمع لهما خلاف. السبب الثالث: المرض. فيجوز للمريض الجمع، وقال ابن نافع: لا يجمع قبل الوقت، ويصلي كل صلاة لوقتها، فما أغمي عليه حتى ذهب وقته، لم يكن عليه قضاءه. السبب الرابع: الخوف. وفي جواز الجمع به قولان ابن القاسم. الباب العاشر: في صلاة الجمعة وهي فرض عين على الأعيان. والكلام عليها ينحصر في ثلاثة فصول. الفصل الأول: في شروطها ويزاد في شروط وجوبها أربعة: الذكورية، والحرية، والإقامة، والاستيطان بموضع يستوطن فيه، ويكون محلا للإقامة به، يمكن الثواء فيه، بلدا كان أو قرية

وقيل: لا يعتبر الاستيطان، بل تكفي الإقامة. وعلى هذا الخلاف تخرج مسألة الجماعة تمرون بالقرية الخالية وهم بحيث تنعقد بهم الجمعة، فينوون الإقامة بها شهرا، هل يجمعون [بها] أم لا؟ والمعروف من المذهب أنهم لا يجمعون. وحكى عن ابن القاسم " أنه روى أنهم يجمعون ". ويزاد في شرط أدائها أربعة أيضا. الأول: الإمام، فلا تصح أفذاذا، ولا يشترط حضور السلطان فيها ولا إذنه، وقال يحيى بن عمر: لا تقام الجمعة إلا بالإمام الذي تخاف [مخالفته]. وقال محمد بن مسلمة: لا يصلي الجمعة إلا سلطان أو مأمور أو رجل مجتمع عليه. فروع: الأول: الو أم المسافر في الجمعة لم تصح، وأعادوا الخطبة والصلاة ما لم يذهب الوقت، فيعيدوا ظهرا، ابتدأ الإمامة أو استخلف في أثناء الصلاة. وقال أشهب وسحنون: تجزئهم، أم بهم بتداء أو مستخلفا. وقال مطرف وابن الماجشون: تجزئهم إن كان مستخلفا نم ولا تجزئهم إن أم مبتدئا. الفرع الثاني: إذا أحدث الإمام في الصلاة مغلوبا، فقدم من كان اقتدى به، وهو ممن تجب عليه الجمعة، صح استخلافه، وأجزأت الصلاة، وإن لم يسمع الخطبة. فإن لم يستخلف، فتقديم المأمومين كاستخلافه، وذلك واجب في الركعة الأولى، وفي الثانية أيضا على المعروف من المذهب. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا آخر، بأنه لا يجب فيها، وأنها تصح مع انفرادهم بها كالمسبوق. الفرع الثالث: إذا غفل المقتدي عن سجود الركعة الأولى أو نعس، انتظر التمكن، فإن سجد قبل ركوع الإمام في الثانية لم يقض شيئا، وكذلك إن وجده راكعا، وقيل: يقضي الثانية

إن أدركه راكعا، وإن لم يدركه حتى رفع رأسه من ركوع الثانية قضاها بلا خلاف. أما إذا لم يتمكن من السجود حتى ركع الإمام، فليتابعه، ويلغي الركعة الأولى، ثم يقضيها بعد الفراغ. والمشهور إلحاق المزاحم بالغافل والناعس، وروى ابن حبيب عن ابن القاسم وأصبغ: أن المزاحم لا يتبع الإمام بوجه. وروى سحنون عن ابن القاسم: أنه يتبع الإمام بمثل رواية الجماعة. الشرط الثاني: الجماعة، والمشهور أنها غير محدودة بعدد مخصوص، لكن لا يجزي منها الاثنان والثلاثة والأربعة، وما في معنى ذلك، بل لا بد أن يكونوا عددا تتقرى بهم قرية. والشاذ أنها محدودة بعدد، ثم اختلف في مقداره، فروى ابن حبيب: " ثلاثون بيتا وما قاربهم جماعة، وقال ابن حبيبك والبيت مسكن الرجل الواحد ". وفي مختصر الشيخ أبي إسحاق: اشتراط خمسين رجلا في صلاة الكسوف. قال بعض المتأخرين: في هذه الرواية إشارة على اعتبار هذا العدد في صلاة الجمعة؛ لأن اعتبار العدد في الجمعة آكد منه في صلاة الكسوف ". وقال الشيخ أبو الحسن: ما علمت أحدا ذكر عن مالك عددا حده تقوم به الجمعة، إلا ابن حبيب فإنه قال: الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة، كذلك روى مطرف وابن الماجشون. ثم هل يشترط في هذه الجماعة كونهم ممن تلزمهم الجمعة أو تنعقد بهم، وإن كانا ممن لا تلزمهم الجمعة ابتداء؛ كالصبيان والعبيد ومن في معناهم من المسافرين؟ قولان لسحنون وأشهب. وهل يشترط بقاء الجماعة إلى كمال الصلاة؟ أو يكفي انعقاد ركعة بهم؟ المشهور اشتراط ذلك إلى الكمال، كسائر شروط الأداء. والشاذ الاكتفاء بذلك في ركعة كالمسبوق. وعلى ذلك يخرج ما إذا [هربت] الجماعة، فقال ابن القاسم وسحنون: (" إذا هرب الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، لم تصح له جمعة ".

قال سحنون: " ولو تفرقوا عنه في التشهد ". ورأى سحنون أن يجعلها نافلة). وقال أشهب: " إن هربوا عنه عد أن قعد ركعة، أتم صلاته جمعة ". الشرط الثالث: الجامع. قال القاضي أبو الوليد: " أما الجامع، فإنه من شروط الجمعة، ولا خلاف في ذلك، إلا اختلاف لا يعتد به مما نقله القزويني في كتابه عن أبي بكر الصالحي، وتأوله على رواية ابن القاسم في المسألة التي في المدونة، أن الجمعة تقام في القرية المتصلة البنيان التي بها الأسواق، وترك ذكر الأسواق مرة أخرى، فقال أبو بكر الصالحي: لو كان من صفة القرية أن يكون بها الجامعة لذكره ". وأفسد القاضي أبو الوليد هذا الاستقراء "، وقال: " وهذا قد انعقد الإجماع على خلافه،

فلا نعلم ممن بقي من العلماء من يقول به "، قال: " وليس القزويني ولا الصالحي بالموثوق بعلمهما في النقل والتأويل، فيعتمد على ما أثبتناه، ويحتاج إلى المراجعة عنه قال: وأما الصالحي فمجهول، وإنهما أثبتناه لنبين وجه الصواب فيه، لئلا يغتر به من يقع هذا القول إليه ممن لا يميز وجوه الأقوال "، قال: " والأصل في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل الأمة بعده إلى هلم جرا ". ثم قال: " ومن شرطه البنيان المخصوص على صفة المساجد، فأما البراح الذي لا بنيان فيه، أو ما كان فيه من البنيان ما لا يقع عليه اسم مسجد، فلا يصح ذلك فيه ". قال: " وللجامع صفة زائدة على كونه مسجدا، فكل جامع مسجد، وليس كل مسجد جامعان وإنما يوصف بأنه جامع لاجتمع الناس كلهم فيه لصلاة الجمعة، وهذا حكم يختص بهذا المسجد دون غيره من المساجد، فلا يصح أن تقام الجمعة في غيره من المساجد (مما) لا يحكم له بهذا الحكم حتى يحكم له على التأبيد، دون أن ينقل إليه هذا الحكم في يوم بعينه، ولو أصاب الناس ما يمنعهم من الجامع في يوم ما، لم تصح لهم جمعة في غيره من المساجد ذلك اليوم، إلا أن يحكم له الإمام بحكم الجامع، وينقل الحكم إليه عن الجامع الممنوع، فيبلط حكم الجمعة في المسجد الأول، وينتقل إلى هذا الثاني انتهى كلامه ". ثم في معنى الجامع في حق المأمومين رحابه، والطرق المتصلة به، إذا اتصلت الصفوف بها، ودعت الضرورة إليها. وتكره الجمعة فيها من غير ضرورة، فإن وقعت فقال سحنون: تعاد أبدا. وقال ابن أبي زمنين عن ابن القاسم: تجزئ، وقاله الشيخ أو إسحاق. واختلف في سطح الجامع هل حكمه حكمه فتصلى فيه الجمعة، أم لا؟ والمشهور المنع من صلاتها فيه، وقال أصبغ: لا بأس بذلك. وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يصلي المؤذن على ظهر المسجد، لأنه موضع أذانه إذا قعد الإمام على المنبر. وفي ثمانية أبي زيد عن مالك

ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: أن الصلاة جائزة، ولا إعادة عليه. وهكذا مذهب أشهب أنه لا يعيد. وقال ابن القاسم في الكتاب: " بل يعيد وإن ذهب الوقت "، وحمل حمديس المنع على حالة الاختيار، وذلك إذا كان في (داخل) المسجد سعة. (فإما الدور والحوانيت وغير ذلك من الأماكن المملوكة المحجورة، فلا تجوز صلاة الجمعة فيها وإن أذن أهلها). وقال محمد بن مسلمة في المبسوط: إنما قال مالك رحمه الله في هذه الدور التي لا تدخل إلا بإذن: لا يصلي فيها بصلاة الإمام إذا كان الذي فيها غير متصل بصفوف المسجد، فأولئك لا ينبغي لهم ذلك، لأنهم ليسوا في المسجد ولا متصلين به. فأما لو امتلأ المسجد ورحاب أفنيته حتى تتصل الصفوف من المسجد إلى تلك الدور، فلا بأس بذلك، وتصير الدور والشوارع حينئذ بمنزلة حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إذا قلنا بالمنع على الإطلاق في هذه المواضع التي لا تدخل إلا بإذن، أو بالمنع بشرط أن لا تتصل الصفوف على ما أشار إليه بأن مسلمة، فلو خالف المصلي وركب النهي، فهل تصح صلاته أم لا؟ ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد أبدا. وعن ابن نافع أنه قال: أكره تعمد ذلك، وأرجو أن تجزئه صلاته. ولا تؤدي الجمعة في مصر واحد في جامعين. وحكى الشيخ أبو الطاهر: " أن المذهب في المصر الكبير على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرقة ". فإن كان المصر إذا جانبين أو جوانب، وبينهما نهر وما في معناه مما تتكلف فيه المشقة إذا قطع، جازت إقامتها في موضعين أو مواضع، بحسب الحاجة إلى ذلك، وإن لم يكن كذلك، فليس إلا كونه كالمصر الصغير. فرع: إذا وجبت إقامتها في جامع واحد، وكان بالبلد جامعان، فإنها تقام في الأقدام

منهما، وإن أقيمت في الأحداث واحدة أجزأت، فإن أقيمت جمعتان في الجامعين مع القدرة على الاكتفاء بواحدة، فروي في العتبية في الأمير يستخلف من يصلي بالقصبة الجمعة، ويجمع هو بطائفة في طرق المصر الجمعة، قال: " فالجمعة لأهل القصبة ". وفي مختصر الشيخ أبي إسحاق: " لا أرى الصلاة إلا لأهل القصبة "، وإن كانوا يصلون مع خليفة الإمام لا معه، فالصلاة مع خليفته جائزة، قال الشيخ أبو إسحاق: يريد أن الصلاة لأهل المسجد. وقال الشيخ أبو القاسم: " لا تصلي الجمعة في مصر واحد في مسجدين، فإن فعلوا ذلك، فالصلاة صلاة أهل المسجد العتيق ". الشرط الرابع: الخطبة. وهي فرض: وشرط في صحة الجمعة، وقال ابن الماجشون: هي سنة، ومن صلى بغير خطبة لم يعد، وروي في الثمانية أن الجمعة تجزئه. ثم القدر الواجب من الخطبة ما له بال، ويقع عليه اسم الخطبة، ق الأرض القاضي أبو بكر: " وأقله حمد الله تعالى، والصلاة على نبيه، ويحذر ويبشر، ويقرأ شيئا من القرآن ". وروي: أن سبح وهلل، أو سبح فقط، فليعد ما لم يصل، فإن صلى أجزأه. وفي الثمانية عن ابن الماجشون: " إذا تكلم بما قل أو كثر، فجمعته ماضية ". وقال ابن القاسم: " إن سبح وهلل لم تجز، إلا أن ي أتي بكلام يكون عند العرب خطبة ". والمستحب أن يبدأ في خطبة بالحمد لله، ويختم بأن يقول: أستغفر الله لي ولكم، فإن قال: " اذكروا الله يذكركم، فحسن. وإن يقرأ في الأولى بسورة تامة من قصار المفصل، قال ابن حبيب: " وليقصر الخطبتين، والثانية أقصرهما ".

فروع في أحوال يؤمر الخطيب أن يكون عليها: الأول: أن يكون متطهرا، وفي كون الأمر بذلك على الوجوب أو الندب، قولان: وصرح القاضي أبو بكر بشطية الطهارة في الخطبة. الثاني: أن (يخطب) قائما. قال ابن حبيب: من السنة أن يخطب قائما، ويجلس شيئا في أولها ووسطها. وقال القاضي أبو الحسن: " الذي يقوي عندي أن القيام والجلسة واجبان وجوب سنة فقط ". وقال القاضي أبو بكر: " لا بد من خطبتين، ولا تجزئ الواحدة، خلافا لرواية ابن حبيب: أن واحدة تجزئ لنسيان أو حصر "، وقال: " أيضا بوجوب الجلوس بينهما ". الثالث:: " أن يتوكأ على عصا). وروى ابن وهب أن القوس كالعصا في ذلك، وروى علي بن زياد: لا يتوكأ عليه إلا في السفر. الرابع: أن يخطب بحضرة الجماعة. قال القاضي أبو الحسن: " ليس لمالك نص في الإمامة يخطب وحده دون من تنعقد بهم الجمعة، وأصل المذهب عندي يدل على أنها لا تصح إلا بحضور الجماعة ". وقال القاضي أبو محمد أيضا: " هذا هو الجاري على المذهب، ولم أجد فيه نصا لمتقدمي أهل المذهب ". ورأى بعض المتأخرين أن في الكتاب ما يشير إليه وهو قوله: لا تجمع الجمعة إلا بالجماعة والإمام يخطب، قال: لأن الواو للحال. ورأى الشيخ أبو الطاهر: " أن ما ذكره هذا المتأخر بعيد، وأن في لفظ الكتاب ما يدل على خلافه ".

الخامس: أن يكون الخطيب هو المصلي. قال مالك فيمن قدم رجلا فخطب، وصلى هو بالناس: " الجمعة لا تجزيهم ". قال الإمام أبو عبد الله: " ويلزم على طرد هذا إذا خطب الإمام، ثم قدم غيره فصلى بالناس اختيارا أن لا تجزئ الجعة، وإنما يباح له الاستخلاف إذا دعت الضرورة إليه مثل أن يحدث أو يرعف، فإنه يقدم من يصلي بالناس، ويبني المستخلف على فعله، عرض له ذلك في أثناء الخطبة أو في أثناء الصلاة. وكذلك إن عرض بينهما، ويصلي المستخلف معتدا بخطبة الإمام. والحكم ها هنا الاستخلاف إن كان الماء بعيدا، فإن كان قريبا، فروي أنه يستخلف ". وقال ابن كنابة وابن أبي حازم: ينتظر. السادس: أن يكون الخطيب ممن له الولاية على الصلاة، فلو خطب ثم قدم وال سواه لم يصل بهم بالخطبة الأولى، وليبتدئ هذا القادم الخطبة. قال ابن المواز: إن قدم بعد أن صلى الأول ركعة، فإنه يصلي الثانية ويسلم ويعيد الخطبة والصلاة، لأن خطبته باطلة. وفي العتبية لابن القاسم: " إذا تمادى الأول، فصلى بهم عالما، فليعيدوا وإن ذهب الوقت، ولو صلى بإذن القادم أجزأتهم صلاتهم إذا أعادوا الخطبة، ولا ينفع إذنه بعد الصلاة وليعيدوا، ولا يصلي بهم القادم بخطة الأول، وليبتدئها، ولو قدمه القادم أمر بإعادتها ". وقال سحنون إن صلى بهم القادم بخطبة الأول أعادوا بادا. وكذلك إن أذن للأول فصلى بهم، ولم يعد الخطبة. وفي كتاب ابن حبيبك لا بأس أن يصلي الجمعة بالناس غير الذي خطب، مثل أن يقدمه لرعاف أو مرض، أو يقدم وال يعزل الذي خطب، وقد قدم أبو عبيدة على خالد بن الوليد بعزله فألفاه يخطب، فلما فرغ تقدم أبو عبيدة للصلاة. وهكذا وقع لأشهب نحو ما حكاه ابن حبيب: أنه إن ابتدأ الخطبة فحسن، وإن صلى بتلك الخطبة أجزأته، كما لو أحدث بعد الخطبة فقدم غيره. قال أبو محمد عبد الحق: " والقياس عندي يوجب جواز الصلاة والبناء على خطبة الأول، والتمادي على الصلاة إذ دخل فيها ". السابع: أن يرفع الخطيب صوته للإسماع، (ولذلك) استحب له أن يخطب على المنبر؛ لأنه أبلغ في الإسماع، ألا ترى أنه لو خبط بالأرض جاز، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل قبل أن يتخذ المنبر، لكن العلو على درجة أو عود للخطبة أفضل، لأنه أسمع.

ويجب الإنصات، ويحرم الاشتغال على الجماعة عن السماع عند الشروع في الخطبة، وعلى من لم يسمع لتخلفه عن السعي إلى الجامع عند الأذان التابع لجلوس الإمام على المنبر، وهو المعهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. (قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقي المنبر فجلس، ثم أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة، يؤذنون على المنار واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، ثم أمر عثمان، لما كثر الناس، أن يؤذن بالزوراء عد الزوال، وهو موضع السوق، ليرتفع الناس منه، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك نقل الآذان الذي كان بالزوراء إلى المسجد، فجعله مؤذنا واحدا، يؤذن عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون كلهم [ين يديه، فإذا فرغوا خطب). ولا يسلم الداخل في حالة الخطبة، ولا يرد عليه إن سلم، ولا يشمت العاطس، ولا بأس أن يحمد الله (تعالى) خافضا صوته، ولا بأس بالتعوذ من النار عند ذكرها. " وقال أشهب: الإنصات أحب إلي من ذلك، فإن فعلوا فسرا في أنفسهم، ولا بأس إذا قرأ الإمام: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه} الآية، أن يصلي عليه في نفسه. " قال ابن حبيب: إذا دعا الإمام في خطبته المرة بعد المرة أمن الناس وجهروا جهرا ليس بالعالي، قال: وذلك فيما ينوب الناس من قحط أو غيره ". قال القاضي أبو الوليد: " لا خلاف في جواز هذا، وإنما الخلاف في صفة النطق به من سر أو جهر، ومن لا يسمع كمن يسمع في الأمر بالإنصاف ". ولا يحي المسجد في أثناء الخطبة، ورأى أبو القاسم السيوري، أنه يحيي المسجد والإمام يخطب، وروى مثله محمد بن الحسن عن مالك.

الفصل الثاني: فيمن تلزمه الجمعة

الفصل الثاني: فيمن تلزمه الجمعة وإنما تلزم المكلف الحر المقيم المتمكن من أدائها. فإما العادمون لهذه الصفات، فلا تجب عليهم، وقد تقدم الخلاف في أنها لا تنعقد بهم، لكنها تنعقد لهم إذا كمل العدد دونهم سوى المجانين، ولهم أداء الظهر مع الحضور، سوى العاجز عن الحضور بمرض أو غيره إذا اتفق حضوره لكماله وزوال عذره. ويلتحق بعذر المرض المطر الشديد، والوحل الكثير على أحد القولين فيهما. وتترك لعذر التمريض أيضا إذا كان المريض قريبا مشرفا على الوفاة. وفي معناه الزوجة والمملوك، فإن لم يكن مشرفا ولم يندفع بحضوره ضرر لم يجز الترك، وإن اندفع ضرر جاز. وروى ابن القاسم " أنه يجوز أن يتخلف لجنازة أخ من إخوانه ينظر في أمره "، قال ابن حبيب: ويتخلف لغسل ميت عنده. فروع في الأعذار: من نصفه حر ونصفه رقيق كالرقيق، والمسافر إذا عزم على الإقامة ببلد مدتها لزمته الجمعة. وأهل القرى لا تلزمهم الجمعة إلا إذا كانوا بحيث تتقرى بهم قرية على ما تقدم، إلا أن يبلغهم نداء أهل بلد تقام فيه الجمعة من رجل رفيع الصوت واقف على طرف البلد في وقت هدوء الأصوات وركود الريح، وقيل: المعتبر وقوفه على المنار، فيعتبر الموضع الذي يسمع منه لا نفس السماع، بديل الأصم، والذي جرت به العادة أن يسمع النداء منه في غالب الحال ثلاثة أميال وما قرب منها، فلذلك اعتبر ذلك المقدار في وجوب إتيانها. ثم المراعي في ذلك المكان الذي يكون المقيم فيه وقت وجوب السعي إليه دون مكان منزله، فإن كانوا من البلد الذي يجمع فيه على أكثر من ذلك، لم يلزمهم إتيان الجمعة به، وهل لهم أن يقيموا الجعة ببلدهم؟ " قال يحيى بن عمر: يقيموا جمعة حتى يكونوا من البلد الذي تقام فيه الجمعة على ستة أميال. وقال ابن حبيب: لا يتخذ جامع حتى يكون م الجامع الآخر على مسافة بريد فأكثر. وقال زيد بن بشر: يتخذون جامعا إن كانا (على) أكثر من فرسخ ". قال القاضي أبو الوليد: " وهو الصحيح عندي، لأن كل موضع لا يلزم أهله النزول إلى

الفصل الثالث: في كيفية أداء الجمعة

الجمعة لبعدهم عنه وكملت فيهم شروط الجمعة، لزمتهم إقامتها في موضعهم كأهل المصر ". والعذر الطارئ بعد الزوال مرخص، إلا السفر فإنه يرحم إنشاؤه، ويجوز قبل الزوال وبعد الفجر. وقيل: يكره حينئذ. وقال القاضي أبو الوليد: " ظاهر المذهب أنه لو أدركه النداء قبل أن يخلف البلد بثلاثة أميال لزمه الرجوع إلى الجمعة ". وعكس هذا أن يكون مسافرا فيقدم إلى وطنه، فلا خلاف في أمره بشهود الجمعة إن كان لم يصل الظهر، فإن كان قد صلاها، ففي لزومه شهودها ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يلزمه إذا أدرك منها ركعة، الثاني: لا يلزمه لأنه أدى فرضه. الثالث: التفرقة، وهو قول سحنون، قال: إن صلاها وقد بقي بينه وبين موضعه ثلاثة أميال فأقل لزمه شهودها، وإن كان فوق ذلك فلا يلزمه. ويستحب لمن يرجى زوال عذره، أن يؤخر الظهر إلى اليأس عن إدراك الجمعة، ومن لا يرجى له ذلك، فيعجل الظهر كالزمن. ولو زال العذر بعد الفراغ، فعليه الجمعة إن أدركها، وكذلك الصبي إذا بلغ بعد أن صلى الظهر، وغير المعذور إذا صلى الظهر قبل الجعة لم يجزه. وقبل: يجزئه. قال الشيخ أبو الطاهر: " ويمكن تخريجه على الخلاف في الجمعة: هل هي بدل عن الظهر، فإذا رجع إلى الأصل أجزأه، أو هي صلاة قائمة بنفسها، فيكون مصليا لغير ما وجب عليه ". ومن فاتته الجمعة فلا يصلي الظهر في جماعة إلا أن يظهر عذره. الفصل الثالث: في كيفية أداء الجمعة: وهي كسائر الصلوات، وإنما تتميز عن غيرها بأمور: الأول: الغسل، ويستحب ذلك موصولا بالرواح، ولا يجزئ قبل الفجر بخلاف غسل العيد، ولا بعده غير موصول بالرواح. وقال ابن وهب: يجزئه بعده، وإن كان غير موصول بالرواح. ويختص استحبابة بمن يحضر الصلاة بخلاف غسل العيد، فإن ذلك يوم الزينة على العموم. ولا يتيمم عند فقد الماء بدلا عن الغسل. الثاني كالتجمل لها بالثياب واستعمال الطيب.

الباب الحادي عشر: في صلاة الخوف

الثالث: استحباب القراءة فيها بسورة " الجمعة " في الأولى، وفي الثانية ب {هل أتاك حديث الغاشية}، أو {سبح اسم ربك الأعلى}، أو {إذا جاءك المنفقون}. فرعان: بهما اختتام الباب. الأول: إن أول وقت الجمعة زوال الشمس كالظهر، واختلف في آخر وقتها الذي تفوت بفواته، فقيل: هو آخر وقت الظهر المختار. وقيل: تصلي ما لم تصفر الشمس. وقيل: ما لم يبق بعد كمالها إلى الغروب إلا مقدار أربع ركعات. وقال ابن القاسم: " تصلي ما لم يبق إلا ركعة العصر ". وحكى ابن حبيب عن مطرف فيمن صلى الجمعة بغير خطبة، أنهم يعيدون الصلاة بالخطبة ما بينهم وبين غروب الشمس، وإن لم يصلوا العصر إلا بعد الغروب. وحكى بعض الأصحاب عن المذهب قولا آخر، وهو اعتبار بقاء خمس ركعات سوى الخطبة على الوسط مما تجزي الصلاة به. وقيل: بل على عادته في صلاته. وقال القاضي أبو الحسن: " كان قولي وقول الشيخ أبي بكر قد اتفق على أنه ينبغي أن يراعى قدر ثلاث ركعات قبل غروب الشمس، ركعتان للجمعة، وركعة تدرك بها العصر ". قال بعض المتأخرون: يردي بد قدر الخطبة. الفرع الثاني: وهو مرتب، لو صلى في آخر الوقت فخرج وقتها وهو فيها، فقد روي: يصليها وإن كان لا يفرغ منها إلا بعد المغيب، وقال الشيخ أبو بكر: إن عقد ركعة بسجدتيها قبل خروج وقتها أتمها جمعة، وإن لم يعقد ذلك بنى وأتمها ظهرا، وقد تقدم حكم بناء أربع على عزيمة اثنتين. الباب الحادي عشر: في صلاة الخوف: وهي نوعان: الأول: أن يكونوا في شدة الحرب ومطارحة العدو، والتحام الفئتين، ومناجزة القتال، وقد أخذت السيوف مأخذها، فيرخون حتى يخافوا فوات الوقت، ثم يصلون رجالا أو ركبانا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، إيماء بالركوع والسجود على حسب ما يستطيعون لا يتكلفون ما يضر (بهم)، ولا يتركون شيئا مما (يحتاجون) إليه من قول

أو فعل، ولا يجب على أحدهم إلقاء السلاح إذا تلطخ بالدم، إلا أن يكون مستغنيا عنه، ولا يخشى عليه. النوع الثاني: أن يحضر وقت الصلاة والمسلمون متصدون لحر عدوهم، ولو صلوا بأجمعهم لخافوا معرته، فيقسم الإمام أصحابه قسمين، ويصلي بأذان وإقامة، ويعلم أصحابه ما يفعلون، فيصلي بأحد القسمين ركعتين إن كانت الصلاة أكثر من ركعتين، فإذا فرغ من تشهده قام إلى الثالثة في رواية ابن الماجشون، وأتمت الطائفة الأولى حينئذ صلاتها، وانتظر الطائفة الثانية قائما، وبه قال ابن القاسم ومطرف. وروى ابن وهب وابن كنانة: أنه يشير إليهم، ويبقى جالسا، فيتمون لأنفسهم ما بقي عليهم من الصلاة. (التفريع: أما على رواية ابن وهب، فهو مخير بين أن يسكت أو يذكر الله تعالى حتى تأتي الطائفة الثانية. وأما على رواية ابن الماجشون، فهو مخير بين أن يدعو أو يسكت ما بينه وبين أن تحرم الطائفة الثانية، ولا يقرأ قبل ذلك، إذ قراءته بأم القرآن وحدها، ولو كان انتظاره قائما في الركعة الثانية في الثنائية لكان مخيرا بين ثلاثة أحوال: السكوت، أو الدعاء، أو القراءة بما يعلم أنه لا يتمه حتى تكبر الطائفة الثانية، وتدرك معه القراءة، قاله ابن حبيب). وقال أشهب: ينصرفون قبل أن يكملوا، فيكونون وجاه العدو وهم في حكم الصلاة، ثم إذا أكملت الطائفة الثانية صلاتها وقامت وجاه العدو، قضت الأولى ما بقي من صلاتها، فإن كانت الصلاة ثنائيه، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى وقام إلى الثانية، أخذوا في إتمام صلاتهم، فإذا فرغوا مضوا، فكانوا مكان الفرقة الأخرى. وعلى قول أشهب: ينصرفون قبل الإتمام، ثم جاءت الأخرى فصلى بها باقي الصلاة وسلم، ثم يتمون بقية صلاتهم. وروي أنه يشير إليهم بالإتمام، وينتظرهم حتى يتموا، ويسلم بهم. ولو اختلف حال المأمومين بالسفر والإقامة، صلى بالطائفة الأولى ركعة اكان سفريا، أو اثنتين في غير الثنائية إن كان حضريا، ويتم الحضري ثلاثا إن أن إمامه مسافرا، وركعتين إن كان حاضرا، وفي جميع ذلك يسر في موضع السر، ويجهر في موضع الجهر. وقد اشتمل ما تقدم من الكلام على استواء حكم الحاضر والمسافر في أصل إقامة هذه الصلاة، وهو المشهور من المذهب. وقال ابن الماجشون: لا يقيمها الحاضر، بل هي مختصة بالسفر كما أقيمت.

ثم هذه الصلاة تقام في كل قتال مأذون فيه، ولو في الذب عن المال، وفي الهزيمة المباحة عن الكفار. وفي إقامتها في اتباع أقفية الكفار عند انهزامهم خلاف بالجواز والمنع والتفرقة بين خوف معرتهم إن تركوا، وعدم ذلك، ويقيمها الخائفون من اللصوص والسباع. ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا، ثم تبين عدمه فلا قضاء. وقال ابن المواز: يستحب القضاء. ولو فاجأهم في أثناء صلاتهم خوف فبادوا إلى (الركوب) خوفا على أنفسهم أتموا الصلاة على حسب ما يمكنهم، ولو انقطع الخوف في أثناء الصلاة أتموا على صفة الأمن. (فرع: قال ابن المواز: وأداؤها على الصفة المذكورة توسعة ورخصة، على أن الأحب إلى أن تصلى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ولو صلوا بإمام واد، أو بعضهم بإمام، وبعضهم أفذاذا، كانت صلاتهم جائزة. ورأى الحسن اللخمي أن مقتضى هذا جواز صلاة طائفتين بإمامين، ولم ير الإمام أبو عبد الله أنه يقتضيه). فروع في المخالفة: لو جهل الإمام فصلى المغرب بكل طائفة ركعة، فحكى ابن حبيب أن صلاة الأول فاسدة، وصلاة الثانية والثالثة صحيحة. وقال سحنون: صلاة الإمام وصلاة من خلفه فاسدة؛ لأنه ترك سنتها، وكذلك إن صلى بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين بوقوفه في غير موضع قيام. وكذلك قال سحنون فيمن صلى صلاة الخوف في الحضر بكل طائفة ركعة أن صلاته وصلاة جميع من خلفه فاسدة. وذكر ابنه عن بعض الأصحاب: أن صلاة الإمام والطائفة الثانية تامة، وصلاة الأولى والثالثة فاسدة. وإذا فرعنا على هذا القول أو قول ابن حبيب في صحة صلاة الطائفة الثانية، فيجتمع عليها البناء والقضاء، حيث اجتمعا، فالابتداء بالبناء عند ابن القاسم، وبالقضاء عند سحنون.

الباب الثاني عشر: في صلاة العيدين

الباب الثاني عشر: في صلاة العيدين: وهي سنة مؤكدة لأهل الآفاق، وعددها ركعتان، وهي كسائر الصلوات في الشرائط والهيئة، إلا في زيادة التكبير، ولا يرفع يديه في شيء من التكبير، إلا في الأولى. وقال ابن حبيب: روى ابن كنانة ومطرف أن مالكا استحب رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة، وهو أحب إلي من رواية ابن القاسم، وكل واسع. وروى علي عن مالك: وليس رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة سنة، ولا بأس على من فعله. وأحب إلي في الأولى فقط، ووقتها معتبر بحل النافلة إلى الزوال. ويؤمر بها من يؤمر بالجمعة، وفي توجه الأمر بها على من لم يؤمر بها خلاف، إذا قلنا: لا يؤمر، فقيل: بكراهية فعله لها، وقيل: يجوز، وقيل: بتخصيص الكراهية بفعله لها فذا، والجواز بفعله لها في جماعة. ويستحب في الفطر الأكل قبل الغدو، وفي الأضحى تأخيره إلى الرجوع من المصلى. ومن سنتها، الغسل لها بعد الفجر، وإن فعل قبله أجزأ، ثم التطيب والتزين بالثياب الجيدة لمن يقدر على ذلك، ويستحب ذلك للقاعد والخارج من الرجال، وأما العجائز فيخرجن في بذلة الثياب. ثم تزين فيقصد الصحراء ماشيا، وإقامتها فيها أفضل من إقامتها في المسجد، إلا بمكة. ولا يتنفل قبلها ولا بعدها إن صليت بالمصلي، فإن صليت في المسجد لعذر أو تركا للأفضل، فاستحب ابن حبيب ألا يتنفل قبلها ولا بعدها كخارج البلد. وروى ابن القاسم أنه يتنفل قبلها وبعدها لأنه محل النافلة. وروى ابن وهب وأشهب أنه يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها، محاذرة من إخراجها بالتطويل عن وقتها المستحب. وليكن الخروج بعد طلوع الشمس إن كان يدرك، وليكبر في أضعاف طريقه، إلا أن يخرج قبل طلوع الشمس، فيختلف في مشروعية التكبير له وعدمها على الإطلاق، وتخصيصها بما بعد الإسفار. قال سحنون: " قلت لابن القاسم: فهل ذكر مالك التكبير كيف هو؟ قال: لا، وما كان

مالك يحد في هذه الأشياء ". وقال ابن حبيب: وأحب إلي من التكبير: الله أكبر، والله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، والله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين. وكان أصبغ يزيد: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: وما زدت أو نقصت أو قلت غيره فلا حرج، وليكن كبيرة بحيث يسمع نفسه ومن يليه. ويقطع التكبير بخروج الإمام، واختلف المتأخرون هل بخروجه من محل العيد ماضيا إلى الصلاة، أو بعد حلوله في محل صلاته؟. وفي تكبيره بتكبير الإمام في أثناء خطبته قولان. ثم ليخرج الإمام وليتحرم بالصلاة في الحال، ثم يكبر ستا بعد الإحرام، وليس بين التكبير قول، بل يتربص بقدر ما يكبر من خلفه، ثم يقرأ الفاتحة بعد تمام التكبير، ويقرأ معها بالشمس وضحاها وسبح ونحوها. واستحب ابن حبيب القراءة فيها بقاف، واقتربت الساعة، كل ذلك يجهر (به). ويزيد في الثانية بعد تكبيرة القيام خمس تكبيرات، ويتم الصلاة. ثم يخطب بعدها خطبتين كخطبتي الجمعة، إلا أنه يكبر في تضاعيفها. قال ابن حبيب: ويستفتح خطبته بسبع تكبيرات تباعا، فإذا مضت كلمات كبر ثلاثا، وكذلك في الثانية، إلا أنه يفتتحها بسبع تكبيرات، قال: وكان مالك يقول: يفتتح بالتكبير، ويكبر بين أضعاف خطبته، ولم يحده. ثم (صفتهما) في الأداء كصفة خطبتي الجمعة من جلوس متقدم ومتوسط وقيام، وما يتوكأ عليه، وغير ذلك. فرع: من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، فإن لم يفعل فذلك مجزئ عنه وقد أساء، قاله أشهب. فإذا فرغ من الخطبة وانصرف، رجع إلى بيته من طريق آخر غير (الطريق) الذي خرج فيه. ويستحب في عيد النحر التكبير عقيب خمس عشرة [صلاة] مكتوبة أولها ظهر يوم النحر، وآخرها صبح يوم الرابع منه، وقيل: يكبر عقيب صلاة الظهر منه أيضا.

ولا يكبر في دبر النافلة، وروى الواقدي عن مالك أنه يكبر في دبرها كالفريضة. واختلف في صيغة التكبير المأمور به، فقال في الكتاب: " يقول: الله أكبر، الله أكبر، وقال في المختصر: يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر "، ولله الحمد، وإن كبر ثلاث تكبيرات أجزأه، قال: والأول أحب إلي. فروع: لو نسي التكبيرات في رمة فلا يتداركها إذا تذكرها بعد الركوع أو فيه، وليسجد قبل السلام، وقيل: يتداركها ما لم يرفع رأسه منه، وإن يذكر قبل الركوع كبر ثم أعاد القراءة، وسجد بعد السلام. وقيل: لا يعيدها. ولو أدرك المسبوق الإمام في القراءة، فقال ابن القاسم: " يدخل فيه، ويكبر سبعا "، وإن وجد راكعا دخل معه وكبر واحدة، ولا شيء عليه، وإن وجده قد رفع رأسه أو قام في الثانية، فليقض ركعة يكبر فيها سبعا بتكبيرة القيام، قال: " وإن وجده قائما في الثانية فليكبر خمسا. وقال ابن وهب: لا يكبر إلا واحدة ". قال ابن حبيب: إن أدرك الإمام وهو في قراءة الثانية، فليكبر للإحرام، ثم يكبر خمسا، فإذا قضى كبر ستا، والسابعة قد كبرها للإحرام. وإذا فاتت صلاة العيدين بزوال الشمس فلا تقضى. وإذا شهد الشهود على الهلال قبل الزوال أفطرنا وصلينا، وإن شهدوا بعد الزوال أفطرنا، وتبين فوات صلاة العيد. ولو اتفق العيد والجمعة، فليس للإمام أن يأذن لأهل القرى ممن يبلغهم النداء في الرجوع قبل شهود الجمعة، والاكتفاء بشهود العيد عن ذلك، فإن فعل لم ينتفعوا بإذنه، وروي أن له أن يأذن لهم في ذلك، وأنهم ينتفعون بإذنه.

الباب الثالث عشر: في صلاة الكسوف.

الباب الثالث عشر: في صلاة الكسوف. وصلاة الكسوف سنة، وتفعل في المسجد دون المصلى. وقال ابن حبيب عن أصبغ: تصلي في المسجد إن شاؤوا أو في صحته، أو يبروزا لها إلى البراز، كل ذلك واسع. ووقتها وقت العيدين، وقال مطرف وابن الماجشون: تصلى بعد العصر ما لم تحرم الصلاة، ورواه ابن وهب عن مالك. وحكى الشيخ أبو القاسم رواية " بأن وقتها من طلوع الشمس إلى غروبها ". وهي ركعتان، في كل ركعة ركوعان وقيامان. هذا (إذا) تمادى الكسوف، فإن تجلت الشمس في أضعاف الصلاة، فهل يتمون على ما ابتدأوا، أم على صفة سائر النوافل؟ قولان لأصبغ وسحنون. والأولى أن يقرأ في القيام الأول من الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة البقرة ونحوها، ثم يرتب الثاني والثالث والرابع على ترتيب السور، وذلك بعد الفاتحة في كل قيام على المشهور. وقال محمد بن مسلمة: " لا يكرر الفاتحة في الركوع الثاني، ولا في الرابع. وفي صفة القراءة من الجهر والإسرار روايتان، المشهور منهما أنه يسر فيهما، ويطيل كل ركوع قريبا من القراءة في قيامه. ومذهب الكتاب أن سجود كل ركعة قريب من قيامها، وقال في المختصر: لا يطال السجود، ولا تطول القعدة بين السجدتين.

ويستحب أن تؤدي بالجماعة، وليس فيها خطبة قبل الصلاة ولا بعدها، بل إذا فرغ استقبل الناس فذكرهم وخوفهم، وأمرهم أن يدعوا الله إذا رأوا ذلك، ويكبروا ويتصدقوا. فروع: الأول: المسبوق إذا أدرك الركوع الثاني، فقد أدرك الركعة ولا يقضي شيئا منها. الثاني: تفوت صلاة الكسوف بالانجلاء، وبغروب الشمس كاسفة. الثالث: إذا اجتمع كسوف وجمعة، قدمت الجمعة عند خوف الفوات، وإن أمن منه، قدمت صلاة الكسوف. ولو اجتمع جنازة مع هاتين الصلاتين فهي مقدمة، إلا أن يضيق وقت الجمعة، فإنها تقدم عند ضيق وقتها. وتكلم بعض العلماء على اجتماع عيد وكسوف مع خوف الفوات، واعترض عليه بأن العيد لا يجتمع مع الكسوف في العادة. وقال من اعتذر عن ذلك: لا ينكر فرض اجتماع العيد والكسوف، فإن الله على كل شيء قدير. وأيضا فإن كانت العادة قد تقررت بخلاف هذا الفرض، فإن هذا حكم هذه الصورة لو تصورت، والفقيه يتكلم على ما يقتضيه الفقه على الجملة. واعترض الإمام أبو عبد الله هذا بأنه وإن كان جائزا عقلا لا يستحيل تعلق القدرة القديمة به، إلا أنه على خلاف العادة التي أجراها الله سبحانه، وليس من دأب الفقهاء تقدير خوارق العادة، والكلام على حكمها. ولا تصلى صلاة الكسوف للزلازل وغيرها من الآيات. وصلاة خسوف القمر ركعتان كسائر النوافل، ولا يجمع لها. وقيل: يجمع لها قياسا على صلاة كسوف الشمس. والمنصوص أن صلاة كسوف الشمس يؤمر بها كل مكلف من الرجال والنساء، ومن عقل الصلاة من الصبيان، والمسافرين والعبيد. وقال الشيخ أبو إسحاق في مختصره: إذا كانت قرية فيها خمسون رجلا ومسجد يجمعون فيه الصلوات، فلا بأس أن يجمعوا صلاة الكسوف، وتصلي المرأة صلاة الكسوف في بيتها ومن أعجله السير فليس عليه صلاة الكسوف.

الباب الرابع عشر: في صلاة الاستسقاء

فاستقرأ بعض المتأخرين من اعتباره الخمسين أنها كالجمعة، فلا يؤمر بها إلا من يؤمر بالجمعة خاصة. قال الإمام أبو عبد الله: " والذي حكاه ابن شعبان من صلاة المرأة في بيتها، واشتراط عجلة المسافر في سقوط صلاة الكسوف، قد يشير إلى خلاف هذا التأويل. الباب الرابع عشر: في صلاة الاستسقاء وهي سنة عند المحل والجدب لحياة الزرع وغيره، وعند الحاجة لشرب الحيوان: الإنسان والبهائم، كما يحتاج إلى ذلك من كان في صحراء، أو سفينة، أو أهل بلد. وكذلك إذا جاء من الماء ما هو دون الكفاية، وتفعل لتأخير مدد النهر، كما تفعل لتأخير نزول الغيث. ولو تأخر عن طائفة من المسلمين، قال بعض المتأخرين: تستحب لغيرهم أيضا هذه الصلاة، فيستسقي المخصبون للمجدبين. وقال الإمام أبو عبد الله في ذلك: " عندي نظر "، قال: " ولا شك أن دعاء المخصبين للمجذبين مندوب إليه، وأما إقامة سنة صلاة الاستسقاء في مثل هذا، فلم يقم عليه دليل ". (ولا بأس بتكريرها إذا تأخرت الإجابة، قال ابن حبيب: ولا بأس أن يستسقى أياما متوالية. ولا بأس أن يستقى في إبطاء النيل، قال أصبغ: قد فعل ذلك عندنا بمصر خمسة وعشرين يوما متوالية يستقون على سنة الاستسقاء، وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه). ويستحب أن يأمر الإمام قبله بالتوبة والإقلاع عن الذنوب والآثام والمظالم، وأن يتحالل الناس بعضهم من بعض مخافة أن تكون معاصيهم سبب منع الغيث، قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}. أيضا فقد تمنع المظالم من إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث الصحيح ويأمرهم بالتقرب الصدقات لعلهم إذا أطعموا فقراءهم أطعمهم [الله]، فإن الجمع فقراء إليه. وليس من سنته الأمر بصيام قبله، واستحبه ابن حبيب.

ويخرج الإمام بها إلى المصلى فيس ثياب بذلة بسكينة ووقار، متواضعين متخشعين متورعين وجلين. قال بعض العلماء: وذلك لأن العبد الجاني إذا رأى مخائل العقوبة المهلكة من مولاه، لم يأته راغبا في رفع العقوبة والصفح، إلا وأمارة الذل بادية عليه، والخوف آخذ بناصيته. والمشهور أن إخراج الصبيان والبهائم فيها غير مشروع، وقيل: يخرجون. وأما النساء فلا خلاف في منع من يخشى من خروجها الفتنة، وأما من لا يخشى ذلك منها، فحكمها حكم الصبيان والبهائم. وفي إباحة خروج الذمة خلاف، أباحه، في المدونة، ومنعه أشهب في مدونته، ثم إذا قلنا بالإباحة فهل ينفردون بيوم، أو يخرجون مع الناس ويكونون على جانب، خشية أن يسبق قدر بسقيهم، فيفتتن ضعفاء المسلمين بذلك؟ فيه خلاف أيضا. فقال القاضي أبو محمد: " لا بأس بانفرادهم "، ومنعه ابن حبيب. وتصلى ركعتين كسائر النوافل، ويجهر فيهما بالقراءة بسبح ونحوها، ثم يخطب كخطبة العيد، ولكن يبدل التكبيرات الاستغفار. وقيل: يقدم الخطبة على الصلاة، ثم يبالغ في الدعاء في الخطبة الثانية، ويستقبل القبلة فيها، ويحول وداءه تفاؤلا بتحويل حال، فيجعل ما ي لي ظهره إلى السماء، وما على اليمين على اليسار، ولا ينكسه فيجعل أعلاه أسفله. [تم كتاب الصلاة والحمد لله حق حمده، والصلاة على سيدنا محمد وآله].

كتاب الجنائز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد] كتاب الجنائز والنظر فيه يتعلق بآداب المحتضر، وبغسل الميت وتكفينه، وحمل جنازته، والصلاة عليه، ودفنه، والتعزية، والبكاء عليه، فيجري فيه على ترتيب ما يفعل من حين الاحتضار إلى إكمال المواراة. القول في آداب المحتضر: وليوجه على جنبه الأيمن، وصدره إلى القبلة، كما يجعل في لحده، فإن تعذر ذلك فعلى ظهره، وأخمصاه إلى القبلة. وقيل: بل الأولى الصورة الثانية، وفي المجموعة من رواية ابن القاسم في التوجيه، قال: ما أعلمه من الأمر القديم. قال ابن حبيب: ولا أحب لأهل الميت توجيهه حتى يغلب ويعاين ويوقن بالموت، ومن علامة ذلك إحداد نظره، وإشخاص بصره. قال ابن حبيب: وقد سئل عنه مالك، فقال: إنما أكره أن يفعل ذلك استنانا. (ويلقن) المحتضر الشهادة، واختلف في تلاوة سورة يس أو غيرها عنده، فاستحب وكره خوف التحديد، وليكن هو في نفسه حسن الظن بالله تعالى.

القول في الغسل، والنظر في كيفيته، وفي الغاسل

ثم إذا مات تغمض عيناه، قل ابن حبيب: ومن السنة إغماض الميت حين يموت، ثم يشتغل بغسله. القول في الغسل، والنظر في كيفيته، وفي الغاسل: أما الكيفية فأقله إمرار الماء على جميع جسده وأعضائه مع الدلك، وأما الأكمل، فأن يحمل إلى موضع خال ويوضع على سرير، وينزع قميص الرجل، وتستر عورته، ويحضر ماء طهور بارد أو حار، ثم يبدأ بغسل يديه، ثم ينظفه من أذى إن كان عليه، ولا يفضي بيده إلى عورته إن احتاج ذلك إلا وعليها خرقة. قال في المختصر: إلا لأمر لا بد منه، وقال ابن حبيب: لا يباشر عورته، وإن احتاج إلى ذلك. ويعصر بطنه عصرا خفيفا ااحتاج إلى ذلك، ثم يتعهد أسنانه ومنخريه بخرقة مبلولة، يم يوضأ على المشهور، ثم يضجع على جنبه الأيسر، فيغسل جنبه الأيمن، ثم يضجع على شقة الأيمن، فيغسل الشق الأيسر، وذلك غسلة واحدة، ثم يفعل ذلك ثلاثا، وفي تكرير الوضوء في كل دفعة خلاف، فإن حصل الإنقاء وغلا فخمس أو سبع. (ثم ينشف. قال محمد بن عبد الحكم: وينجس الثوب الذي ينشف به، وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصلي فيه حتى يغسل، وكذل كل ما أصابه من مائه. وقال سحنون: لا ينجس الثوب، وهو اختيار القاضي أبو الحسن. وسبب الخلاف: الاختلاف في نجاسة الميت وطهارته). ويستعمل السدر في أضعاف الغسل، ولا يسقط الفرض به إذا قلنا: إن الغسل للعبادة، بل لا بد من غسله بالماء القراح يبدأ به، ثم يضاف السدر إلى الماء فيما بعد، فإن لم ي كن، فغسول أو غيره مما ينقي كالحرض وهو الأشنان، وكالنطرون ونحوهما، ثم الكافور في الأخير إن وجد، فإن تعذر فغيره من الطيب، فإن خرجت (منه) نجاسة بعد الغسل، أزيلت النجاسة ولم يعد. النظر الثاني: في الغاسل، ويجوز للرجال غسل الرجال، وللنساء غسل النساء، وعند اختلاف الجنس، فأما مع الصغر، (فقال في المختصر: لا بأس أن تغسل المرأة الصبي ابن ست سنين أو سبع، ولا بأس أن يغسل الرجل الصبية الصغيرة إن احتيج إلى ذلك. وقال ابن حبيب:

يغسل النساء الصبي ابن سبع سنين وما قاربها، ولا يغسل الرجل الصبية بنت سبع سنين ونحوها، إلا الصغيرة جدا، قاله مالك وأصحابه. وروى نحوه في المجموعة في الصبي. وقال أشهب في الصبية: إذا كان يشتهي مثلها فلا يغسلها (الرجال)، وذلك يتقى منها قبل اتقائه من الصبي. وقال ابن القاسم: لا يغسل التي لم تبلغ، قال عنه ابن مزين: وإن صغرت جدا، وفي سماع ابن وهب: إن مالكا أجاز للنساء غسل الصبي ابن سبع سنين. وأما مع الكبير فيمنع في الأجنبية فلا يغسلها، ولا تغسله، بل ييممها إلى الكوعين، وتيممه إلى المرفقين، ويجوز في مباحة الوطء إلى حين الموت بعقد نكاح أو بملك يمين، فيغسلها وتغسله، وتستر عورة الميت منها. وأجاز ابن حبيب أن تكون عورته بادية، ويجوز أيضا في ذات المحرم، فيغسلها من فوق الثوب. قال ابن حبيب: ويصب الماء عليها من تحت الثوب ويجافيه لئلا يلتصق بجسدها، فيصف إذا ابتل عورتها، وتغسله هي أيضا من فوق الثوب في رواية موسى عن ابن القاسم. وفي الكتاب: " يغسلنه ويسترنه "، قال أبو إسحاق التونسي: وظاهر هذا أنهن يجردنه للغسل، وروي: ييممها وتيممه أحب إلي، وإن غسلنه رجوت سعة. وقال أشهب: " أحب إلي في أمه وأخته أن ييممها، وكذلك المرأة في ابنها "، ولو حضر كافر من جنس الميت، فقال مالك:: " يعلم الكافر من حضر من النساء، والكافرة من حضر من الرجال، ويتولون الغسل ". وقال أشهب في المجموعة: لا يلي ذلك كافر ولا كافرة، وإن وصف لهما، ولا يؤتمن على ذلك كافر. وقال سحنون: يدعون الكافر يغسله، وكذلك الكافرة في المسلمة، ثم يحتاطون بالتيمم فيهما. وفي النوادر: " وليس للمسلم غسل زوجته النصرانية، ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين ". فروع: في الزوجين: ما تقدم من جواز الغسل بينهما هو حكم النكاح الصحيح اللازم، فأما إن كان فاسدا، فإن كان فساده يقتضي الفسخ إلى حين الموت، فلا غسل بينهما، وإن كان بخلاف ذلك، غسل كل

واحد منها صاحبه، وإن أن العقد صحيحا، لكن فيه خيار، فإن كان لظهور عيب فلا يمنع الغسل، وكذلك إن كان لتزويج الأبعد مع وجود الأقعد، وإن كان لعقد غير الولي على ذات القدر مع وجود الولي، فلا غسل بينهما. واختلف في الرجعية، ففي الكتاب: " لا يغسلها "، وروى عن ابن القاسم أنه يغسلها، وأنه يحدث بالموت من إباحة الرؤية لها ما لم يكن في حال الحياة لحق الموارثة التي بينه وبينها. ولو تزوج أخت زوجته، فأجاز ابن القاسم في المجموعة أن يغسلها، ثم كرهه. وقال أشهب: أحب إلي أن لا ي فعل، وقاله ابن حبيب. (وللزوجة أن تغسل زوجها وإن وعضت ما في بطنها وانقضت عدتها). قال ابن الماجشون: إذا وضعت وهي على سريره، فيجوز لها أن تنكح زوجا غيره، ويجوز لها أن تغسله. وإذا اجتمع جمع يصلحون للغسل، فالبداية بالأزواج، وعند العدم أو الامتناع ينتقل الحق إلى الأولياء على ترتيب الولاية، لكن المشروع أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء، وتكون البنت وابنة الابن في حق المرأة كالابن وابنه في حق الرجل، ويجري ذلك على ترتيب الأولياء. ويقضي بالغسل للزوج إذا طلبه، وفي كتاب محمد: إلحاق الزوجة به في ذلك، وقال سحنون: لا يقضي لها بغسله، فقيل: لأن للزوج تحصينها حية وميتة، وليس ذلك للزوجة. وقيل: لأن الزوج يجوز له أن يرى زوجته، ولا يجوز لأوليائها رؤيتها، وأولياء الرجل يجوز لهم رؤية وليهم مجردا، فهم أولى منها. وحكم الزوجين من الرقيق حكم الأحرار، إلا أن استيفاء الحق يقف على إذن السادة.

فروع: في بقايا أحكام الغسل. ويفعل بالمرحم كما يفعل بالحلال في الغسل والطيب، وكذلك المعتدة هي كغيرها، فلا تصان عن الطيب، ولا يقلم للميت ظفر، ولا يحلق له شعر، ولا يغير في هيئته أصلا. (قال ابن حبيب: ولا يؤخر حمل الميت بغد غسله، فإن تأخر حمله كالغد، لم يعد غسله، قال: ولا بأس عند الوباء وكثرة الموت واشتداد غسل الموتى على الناس لكثرتهم، أن يكتفي في ذلك بالغسلة الواحدة من غير أن يوضأ، ويكتفى بصب الماء صبا. قال: ولو نزل الأمر الفظيع، فكثر فيه الموتى الذين لا أهل لهم، ولا من يقوم بغسلهم، فلا بأس أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم، وأن يجمع منهم النفر في القبر الواحد؛ كذلك قال في أصبغ وغيره من أصحاب مالك). القول في التكفين: والمستحب في لون الكفن البياض، ويجوز غيره، إلا المعصفر ففيه خلاف. قال في المختصر: لا يكفن فيه إلا أن يضطر إليه). وفي المجموعة من رواية علي: " لا بأس بذلك للرجال والنساء ". وأما جنسه، فالقطن والكتان، وكل ملبوس جائز لباسه في حال الحياة. واختلف في الحرير، فمنعه في الكتاب للرجال والنساء، وقال في المختصر: لا يكفن فيه إلا أن يضطر إليه، قال أبو الحسن اللخمي: " وأجاز في سماع ابن وهب الحرير للرجال والنساء "، وقال: " لا أحب ذلك، فإن فعل فواسع ". قال: " ورأى أن المنع سقط بالموت لأنه حينئذ غير مخاطب، فأشبه لباس الصبيان في حال الحياة ". وقال ابن حبيب: يجوز

ذلك النساء، ويمنع (للرجال)، فأجراهم فيه على حكم الحياة. ونص في الكتاب على " كراهية التكفين في الخز ". (قال) ابن القاسم: " وكره الخز لمكان سداه الحرير ". وأما عدده، فأقله ثواب واحد ساتر لجميع الجسد، والثوب الثاني والثالث حق للميت في التركة. قال عيسى في شرح ابن مزين: يجبر الورثة والغرماء على ثلاثة أثواب من مال الميت، وتنفذ وصيته بإسقاطها لأنهما حقه. (ووقع لسحنون أنه إذا أوصى بثوب، فزاد بعض الورثة ثانيا، فلا ضمان عليه إن كان في المال محمل له، وليس للورثة المضايقة فيهما ولا للغرماء المنع منهما وغن استغرق الدين ماله. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا يشعر بأن الاقتصار على الثوب الواحد منهي عنه ". (" قال ابن سحنون عن أبيه في غريب لا يعرف له أهل، مات عن دينار أو دينارين، قال: لا بأس في مثل هذا اليسير أن يجعل كله في كفنه وحنوطه وقبره ". فرع: لو كفن ثم سرق كفنه بعد دفنه، فقال أصبغ: " لا يلزم ورثته تكفينه ثانية في بقية ماله، إلا أن يشاءوا، أو يحتسب (في) ذلك محتسب. قال ابن سحنون: فإن وجد الكفن الأول بعد أن دفن فهو ميراث. وقال ابن القاسم: " على ورثته أن يكفنوه من فيه بقية تركته، وإن كان عليه دين محيط، فالكفن الثاني أولى ". وقال سحنون: " إن قسم ماله فليس ذلك على ورثته، فإن كان قد أوصى بثلثه، فلا يكفن من ثلث ولا غيره. قال عنه ابنه: إلا أن يكون ذلك بحدثان دفنه، ولم يقسم ماله بعد،

فليكفن ثانية من رأس ماله ". ومن لا مال له يكفن من بيت المال، فإن لم يكن بيت مال، فكفنه على كافة المسلمين. وهل يلزم تكفينه من كانت نفقته لازمة له قبل الانتقال إلى بيت المال أم لا؟ أما السيد فليزمه، وفي كل واحد من الولد والوالد قولان: الإلزام لابن القاسم وابن الماجشون، ونفيه لأصبغ. واختلف في ذلك قول سحنون، فقال مرة: ذلك على الأب في ابنه الصغير وابنته البكر، وقال مرة: ليس ذلك عليه، وقال أيضا: استحسن ذلك في الولد، أما الأبوان فلا شيء عليه فيهما. واختلف في الزوجة، فقال مالك في العتبية: " إن كانت موسرة فمن مالها، وإن كانت معسرة فعلى الزوج. وقال ابن القاسم وسحنون: لا شيء على الزوج بحال، وقال في الواضحة: " يقضي على الزوج بتكفينها، وغن كانت موسرة ". والزيادة على الثلاثة إلى الخمسة مستحسنة للرجال والنساء، وهي في حقهن آكد. والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف. ولو أوصى بسرف في عدد الكفن أو جنسه، أو في الحنوط أو غيره، كان السداد في رأس المال، واختلفت الرواية في الزائد هل يسقط أو يلزم من الثلث؟ ثم إذا كفن في خمسة فعمامة وقميص ومئزر ولفافتان، واستحب أن يشد على المئزر بعصائب من حقويها إلى ركبتيها، وإن كفنت في ثلاثة، فكالرجل. ثم يذر على كل لفاطة حنوط، ويوضع الميت عليه، ويلصق بجميع منافذ البدن من المنخرين والأذنين والعينين وشبه ذلك قطنة عليها كافور، ثم يلف الكفن عليه، بعد أن يبخر بالعود أن تيسر، ويشد الكفن من عند رأسه ورجليه، وقيل: يخاط، ثم يحل ذلك عند الدفن، ثم تحمل الجنازة.

القول في الصلاة

قال ابن القاسم: ولا يترك ستر المرأة بقبة في سفر أو حضر إذا أمكن. والمشي أمام الجنازة أفضل، وفضل الراكب وراءها، وقيل بالتقديم للماشي والراكب. وقيل: بالتأخر لهما، وهما شاذان، والإسراع بها أولى. قال في الكتاب: " ولا بأس أن تتبع المرأة جنازة ولدها ووالدها وزوجها وأخيها إذا كان ذلك مما ي يعرف أنه يخرج مثلها على مثله، وإن كانت شابه، ويكره لها الخروج على غير هؤلاء ممن لا ينكر لها الخروج عليهم من قرابتها ". وقال ابن حبيب: يكره خروج النساء في الجنائز، وإن كن غير نوائح ولا بواكي، في جنائز أهل الخاصة من ذوي القرابة وغيرهم. وينبغي للإمام أن يمنعهن من ذلك، فقد " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد امرأة رآها في جنازة فطردت حتى لم يرها ". وقال لنساء رآهن في جنازة: " أتحملنه فيمن يحمله؟ قلن: لا، قال: أفتدخلنه قبره فيمن يدخله؟ قلن: لا، قال: أفتحثين عليه [التراب] فيمن يحي عليه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات ". قال: وكان مسروق يحثي في وجوههن التراب ويطردهن، فإن رجعهن وإلا رجع. وكان الحسن يطردهن، وإذا لم يرجعن لم يرجعن ويقول: ذلك ندع حقا لباطل. وقال انخعي: كانوا إذا خرجوا بالجنائز غلقوا الأبواب على النساء، وقال ابن عمر: ليس للنساء في الجنائز نصيب. القول في الصلاة: وهي فرض على الكفاية، وقال أصبغ: هي سنة، ومال إليه الشيخ أبو الحسن تنزيلا على المذهب. ثم النظر في أربعة أطراف. الأول: فيمن يصلي عليه، وهو كل ميت مسلم، ليس بشهيد. والاحتراز بالميت عن عضو الآدمي، فإن لا يصلي عليه. (قال) ابن حبيب: إلا أن

يعلم موت صاحبه، فيصلي عليه، وينوي به الجميع. واختلف في الصلاة على نصف الجسد أو أقله، فأما لو وجد أكثره لصلي عليه. وذكر الشيخ أبو الطاهر في هذه الصورة نفي الخلاف في المذهب، إلا ما عند ابن حبيب أنه إذا كان الجسد مقطعا فلا يصلي عليه، وعلل (بأن) الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل، وهذا لا يمكن غسله. ولا يصلى على السقط الذي لم يستهل صارخا، ولا دلت أمارة على حياته، ولا يغسل، ولكن يواري بخرقة ويدفن. فإن دلت أمارة على حياته من صراخ أو ارتضاع أو دوام الحركة أياما، أو وجود الإحساس، وشبه ذلك، فهو كالكبير. واحترزنا بالمسلم عن الكافر، فإنه لا يصلى عليه ذميا كان أو حربيا، لكن يوارى الذمي ويدفن وفاء بذمته إذا خشي عليه أن يضيع، ولم يوجد أحد من أهل دينه. وكذلك لو كان له نسيب مسلم، فإنه يخلى بينه وبينهم، فإن لم يجد من يكفنه لفه في شيء وواراه، ولا يغسله، ولا يصلي عليه. قال ابن حبيب: إلا أن يكون ممن يلزمه أمره، مثل الأم النصرانية أو الأب أو الأخ النصرانيين، فلا بأس أن يحضره ويلي أمره وكفنه حتى يخرجه ويبوء به إلى أهل دينه، فإن كفي دفنه ولم يخش الضيعة عليه فلا يتبعه، وإن خشي ذلك فليتقدم أما من جنازته ليسبقهم إلى قبره، وإن لم يخش الضيعة، إلا أن أحب أن يصحب جنازته ويحضر دفنه، مثل أن تكون أمه فيجد لها، ويحب برها، فلا بأس أن يمشي أمام جنازتها معتزلا منها وممن يحملها من أهل دينها. ولو اقتتل المسلمون والمشركون ولم يتميزوا، فحكى القاضي أبو الحسنه عن أبي التمام: " أنه يصلى عليهم وينوي المسلمون ". أما الشهيد فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه، ويستحب أن يترك عليه خفاه وقلنسوته. قال أشهب كلا يغسل وإن كان جنبا. وقال سحنون: إن كان جنبا غسل. قال ابن حبيب: ولا ينزع عن الشهيد شيء، إلا السلام ما كان من درع أو مغفر أو بيضة أو

ساعد أو سيف هو متقلده أو منقطة أو (مهاميز)، أو ما كان من الحديد كله. فأما الثياب والعمامة والقباء والسراويل والمدرعة وشبهها، فلا ينزع عنه شيء من ذلك، وهو ما اجتمع عليه من علمت أهل العلم. (واختلفوا) في القلنسوة والخف والفرو والجبة. والشهيد: من مات بسبب القتال مع الكفار في وقت قيام القتال، فإن رفع من المعترك حيا ثم مات، فالمشهور من قول ابن القاسم أنه يغسل ويصلى عليه، إلا أن يكون لم يبق فيه إلا ما يكون من غمرة الموت، ولا يأكل، ولم يشرب. وقال سحنون: إن كان على حال يقتل قاتله بغير قسامة، فهو في معنى الميت في المعترك، وإن كان لا يقتل قاتله إلا بقسامة غسل وصلي عليه. قال ابن وهب وأشهب: وسواء كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، أو غزا الكفار المسلمين. وقال ابن القاسم بتخصيص حكم الشهادة في تكر الغسل والصلاة بما إذا غزا المسلمون. قال أشهب: إلا أن يدفعوا عن أنفسهم أو يقتلوهم نياما أو بعد الأسر، فيغسلون ويصلى عليهم. وقال سحنون وأصبغ: ذلك سواء، لا يغسلون، ولا يصلى عليهم. وهذه الحالة التي وقع الخلاف فيها هي كانت حال عمر رضي الله عنه. وأما القتيل ظلما من مسلم أو باع، أو المبطون والغريق، وسائر من ذكر معهم، فيغسلون ويصلى عليهم. وكذا القتيل بالحق قصاصا أو حدا، إذ ليس بشهيد، وتارك الصلاة يصلى عليه. وقاطع الطريق المحارب إن قلن: إنه يقتل أولا، فيغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، وإن رأى الإمام أن يصلبه حيا، فقال سحنون: ينزل فيغسل ويصلى عليه ويدفن، وقيل: يصف تلقاء خشبته ويصلى عليه. الطرف الثاني: فيمن يصلي، والنظر في صفة الإمام، وموقفه.

أما الصفة، فالأولى بالصلاة وصي الميت إذا قصد بذلك الرغبة في الصلاح دون مراغمة الولي، ثم الوالي والي المصري، وصاحب الشرط إذا كانت الصلاة إليه، والقاضي إذا كان هو يلي الصلاة. (وقال ابن حبيب: الوالي، إن حضر، إذا كان الذي تؤدي إليه الطاعة، قال ابن حبيب: وليس ذلك لغيره ممن دونه من ولاته وقضاته وصاحب شرطته ولا غيرهم، وإن كانت الصلاة إليهم، قال: وقد كان ابن القاسم يقول: إن ذلك لكل من كانت الخطبة إليه، فسألت عن ذلك مطرفا وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج، فكلهم، قال: ليس للقاضي وإن كانت الصلاة إليه، ولا لصاحب الشرط الموكل بالصلاة، ولا لخليفته، ولا لخليفة الوالي الأكبر على الصلاة، ولا لأئمة المساجد، أهل خطبة كانوا أو غيرهم، من الصلاة على الجنائز قليل ولا كثير، وإنما جاءت السنة في الأمير المؤمن الذين تؤدي الطاعة إليه إذا شهد الجنازة أنه أولى بالصلاة عليها من الأولياء). (فإنه كان الميت قتله الإمام في حد، فلا يصلي هو عليه، ولكن يصلي عليه الناس دونه). وقال محمد بن عبد الحكم: بل يصلي عليه الإمام. ثم الأولياء العصبة على مراتبهم، الابن ثم ابنه، ثم الأب، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ للأب، ثم الجد، ثم العم ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب. فإن لم تكن عصبة، فمولى النعمة، فإن لم يكن فأحد صالحي المؤمنين، وإذا تعارض السن والفقه، فالفقيه أولى. فأما الموقف، فليقم الإمام وراء الجنازة عند وسط الرجل، وعند منكب المرأة خشية من تذكر ما يفسد الصلاة. وقيل: يقف عند وسطها كالرجل، لأنه أستر لها عمن وراءه. وإذا اجتمعت الجنائز، فيجوز أن تفرد كل واحدة بالصلاة، وأن يصلى على جميعها صلاة واحدة، ثم يتخير إن كانوا جنسا واحدا بين جعلهم صفا أفضلهم بين يديه، ويليه من الجانبين من يليه في الفضل، وبين أن يرتبهم كما يرتب مختلفي الأجناس، وهو أن يجعل أفضلهم بين

يديه، ثم من يليه في الفضل يليه إلى القبلة، وفي الأجناس يقرب الرجل من الإمام، ثم يليه الصبي، ثم العيد، ثم الخنثى، ثم المرأة، ثم الصغيرة، ثم الأمة، ويجعل أفضل الرجال مما يلي الإمام، ويقدم الخصال الدينية التي ترغب في الصلاة عليه، إن استووا، قدم (بالسن)، فإن استووا قدم بالقرعة أو التراضي. فرعان: الأول: لو جيء بجنازة في أضعاف الصلاة على أخرى، لم تدخل في صلاة الأولى، بل تؤتنف الصلاة (عليها) بعد الفراغ من الأولى. الثاني: " لو ماتت النفساء ومنفوسها حمل معها في نعشها، فإن كان استهل جعل على يسارها مما يلي الإمام ليصلي عليهما، وإن كان لم يستهل وضع على يمينها أو ناحية من النعش، وتكون الأم إلى الإمام، وتخص بالصلاة والدعاء. ولا بأس أن يدفن معها في قبرها في اللحد، أو في ناحية من القبر، واستهل أو لم يستهل، وإن شاءوا جعلوه في قبر على حدة. قال ابن حبيبك وقد أخبرنا ابن الماجشون أن أم كلثوم بنت على امرأة عمر بن الخطاب مات هي وابنها زيد بن عمر في فور واحد، ولم يدر أيهما مات قبل، فكان فيهما ثلاث سنن لم يورث واحد منهما من صاحبه، وحملا جميعا معا، فلما وضعا للصلاة، جعل الغلام مما يلي الإمام، وقال حسين بن علي لعبد الله بن عمر: تقدم فصل عليهما، حين كان ابن عمر ولي الصلاة على أخيه، فكان أولى بذلك حين اجتمعا جميعا. الطرف الثالث: في كيفية الصلاة. وأقلها أربعة أركان: النية، والتكبيرات الأربع، والسلام، والدعاء للميت. وزاد أشهب قراءة الفاتحة (عقب) التكبيرة الأولى. ولو زاد تكبيرة خامسة لم تبطل الصلاة، ثم (قيل): ينتظر حتى يسلم، فيسلم المأمون معه، وقيل: يسلمون ولا ينتظرونه؛ لأن هذه التكبيرة صارت شعارا لأهل التشيع، فيجب أن تحمى الذرائع في موافقتهم.

ولا ترفع الأيدي في غير الأولى، وروى ابن وهب أنه قال: " يعجبني أن ترفع اليدان في التكبيرات الأربع "، واختاره ابن حبيب، ثم قال: وكان مطرف وابن الماجشون وأصبغ يرون أن ترفع [الأيدي] في أول تكبيرة من غير كراهة للرفع فيها كلها، قال: وكان ابن القاسم لا يرفع يديه في شيء منها، لا في الأولى، ولا في غيرها، قال: ولا يعجبني ذلك. فأما الأكمل: فإن يحمد الله تعالى، ثم يصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو للمؤمنين سبحانه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إلا أنت، وأن محمد عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنهن اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وهذا هو الذي خرجه في موطئه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. ولا يجهر بالدعاء ليلا كان أو نهارا، وفي الدعاء بعد الرابعة قبل السلام خلاف. فرع: إذا أدرك المسبوق الإمام في تكبيرة دخل معه بلا خلاف، وفي دخوله معه في غير حالة التكبير روايتان، إحداهما: أنه لا يكبر، بل يقف حتى يكبر الإمام، رواها ابن القاسم وابن الماجشون: وقال بها، وأخذ بها أصبغ. والرواية الأخرى أنه يكبر، ويدخل معه، رواها مطرف وأشهب، وقالا بها، واختارها ابن حبيب. ثم إذا سلم الإمام تدارك ما فاته معه على نحو ما فعل الإمام إن تركت له الجنازة، وإن رفعت أتى بما فاته من التكبير نسقا متتابعا. الطرف الرابع: في شرائط الصلاة. وهي كسائر الصلوات فيها. ولا يصلى عليها بالتيمم إلا في الموضع ال1ي تجوز فيه الصلاة بالتيمم، وقال ابن وهب:

إذا خشي فواتها إن اشتغل بالتماس تيمم وصلى عليها. وقال ابن حبيب: الأمر فيه واسع إن شاء الله، وما علمت أحدا ممن مضى كرهه إلا مالك. ولا تشترط الجماعة فيها. ويشترط حضور الجنازة، فلا يصلى على غائب، وقال ابن حبيب: يصلى على من أكلته السباع أو غرق. ويشترط أيضا ظهور الميت، فلا يصلى على المدفون في المشهور. وروي أنه يصلى على القبر، هذا في حق من صلى عليه. فأما من دفن بغير صلاة، أو بصلاة ناقصة، ففي المبسوط عن مالك: لا ينبش، ولا يصلي على قبره، ولكن يدعون له، وقاله سحنون. وقال ابن وهب ويحيى بن يحيى: لا يخرج أو قرب، ويصلي على قبره. وقال سحنون أيضا: يخرج للصلاة عليه ما لم يخف في إخراجه ضرر أو طول تغير. وقال ابن وهب: لا يخرج وإن لم يخش تغيره، وروي عن ابن القاسم في العتبية. وقيل: يخرج إلا أن يطول. فروع: لو صلى على الميت ونعشه منكوس، رأسه مكان رجليه، لم تعد الصلاة عليه. ولو ذكر إمام الجنازة أنه جنب، فحكمه حكم إمام المكتوبة، إن ذكر قبل الفراغ استخلف، وإن ذكر بعده فلا تعاد، وإن لم ترفع الجنازة، ولو ذكر صلاة نسيها مضى في صلاته، ولم يعد. قاله ابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب. القول في الدفن: ولا بد من حفرة تحرس الميت عن السباع، وتكتم رائحته. " قال ابن حبيب: يستحب أن لا يعمق القبر جدا، وأن يكون عمقه على قدر عظم الذراع فقط، قال: وقد بلغني عن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال: احفروا لي ولا تعمقوا.

فإن خير الأرض أعلاها، وشرها أسلفها ". وفي المبسوط عن مالك: لم يبلغني في عمق حفرة الميت شيء موقوف عليه، وأحب ذلك إلى أن تكون مقتصدة، لا عميقة جدا، ولا قريبة من أعلى الأرض جدا. واللحد أفضل من الشق مع القدرة عليه، وليكن في جهة القبلة. قال ابن حبيب: ولا بأس أن يدخل الميت قبره من ناحية القبلة، أو من ناحية الشرق، قال: ومن ناحية القبلة أحب إلي، لأنه أمكن وأهنأ وأيسر على من تولاه. وفي المبسوط: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من نحو رأس القبر أو رجليه أو وسطه. ويضع الميت في قبره الرجال، فإن كانت امرأة، فيتولى ذلك زوجها من أسلفها، ومحارمها من أعلاها، فإن لم يكن فصالح المؤمنين، إلا أن يوجد من القواعد من لهن قوة على ذلك، ولا مضرة عليهن فيه، ولا كشف عورة، فهن أولى به من الأجانب. وليستر عليها بثوب حتى توارى في لحدها، وليس لعدد من يلي ذلك حد من شفع أو وتر. ثم يضجع الميت على جنبه الأيمن في اللحد مستقبل القبلة، وتمد يده اليمنى مع جسده، وتحل العقد من عند رأسه ورجليه، ويعدل رأسه بالتراب لئلا يتصوب، وكذلك رجلاه بحيث لا ينكب ولا يستلقي، ويرفق به في ذلك كله كأنه حي. " واستحب أشهب أن يقال عند وضعه في اللحد: باسم الله وعلى ملة رسول الله، اللهم تقبله بأحسن قبول، قال: وإن دعا له بغير ذلك فحسن وإن ترك ذلك فواسع ". ثم تنضد اللبن على فتح اللحد، وتسد الفرج بما يمنع التراب، قال ابن حبيب: أفضل ما سد به اللبن، ثم اللوح، ثم القراميد، ثم الآجر، ثم الحجارة، ثم القصب، كل ذلك أفضل من سن التراب. وسن التراب أفضل من التابوت، قال: يحثي كل من دنا حثيات، وروى سحنون أن ذلك غير مستحب، ثم يهال التراب عليه. ولا يرفع القبر إلا بقدر شبر، ولا يجصص، ولا يطين، ولا بأس بالحصى، ووضع الحجر على رأس القبر. قال أشهب: " ويسنم القبر أحب إلي، وإن رفع فلا بأس ". وقال

محمد بن مسلمة: لا بأس، قال: وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) مسنمة. وقا الشيخ أبو القاسم: ([تسطح] ولا تسنم)، ويرفع من الأرض قليلا بقدر ما يعرف به ". والأفضل لمشيع الجنازة أن يمكث إلى موارة الميت، وأن لا ينصرف بعد ذلك إلا بإذن أهله ما لم يطل ذلك عليه ويتضرر به، فينصرف نم يغر إذنهم. فروع: لا يدفن في قبر واحد ميتان إلا لحاجة، ثم يرتبون إلى اللحد بالفضيلة كترتيبهم إلى الإمام في الصلاة. والقبر محترم، فلا ينبغي أن يمشى عليه إذا كان مسنما والطريق دونه، فأما إذا عفا فواسع. ولا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور، ولا تزاح عن موضعها، ومن وافق قبرا عند حفره فليذره وليرد عليه ترابه، ولا يزاد من قبر على قبر، وليتوق كسر شيء من عظامه، ولا ينبش القبر إلا إذا كان هو أو شيء من الكفن مغصوبا وشح فيه ربه، أو نسي معه مال في القبر، ولو دفن بغير غسل أخرج إن كان قريبا، وقيل: لا يخرج. قال ابن حبيبك ولو وضع الميت على شقة الأيسر، أو ألحدوه على غير قبلة، أو ألحدوه منكسا، رجلاه موضع رأسه، فإن عثر عليه بحدثان دفنه، وقبل أن يخاف التغيير عليه حول، وإن لم يعلم ذلك حتى طال أمره وخفيف عله التغيير ترك، قال: وقاله ابن القاسم وأصبغ. ولا يبقر عن جنين الميتة وإن اضطرب، وقال سحنون: إن طمع بالحياة بقر عليه، قال: وكذلك على دنانير في بطن الميت، قال ابن حبيب: لا يبقر على شيء من ذلك. قال القاضي أبو محمد: " يجب أن يكون على اختلاف حالين: لا على اختلاف المذهبين، فيكون قوله: لا يبقر وإن اضطرب إذا لم يطمع له بحياة، ويكون قول سحنون مفسرا له، قال: ويمكن حمله على ظاهره، إلا أن الأول أظهر. وروى ابن نافع في المبسوط: أن النساء إن استطعن أن

القول في التعزية، والبكاء على الميت

يعالجنه فيخرجنه من مخرجه فعلن، ولم يبلغن أن أحدا شق بطن امرأة على هذا الحال ليخرج الولد، وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت بمصر رجلا مبقورا على رمكة مبقورة. (ومن مات في البحر غسل وكفن وصلي عليه، وانتظر به البر إن طمع في إدراكه في ذلك اليوم وشبهه ليدفنوه به، وإن كان البر بعيدا، أو خافوا عليه التغير رمى في البحر مستقبل القبلة، محرفا على شقه الأيمن. قال ابن حبيب: ولتشد عليه أكفانه، قال ابن القاسم وأصبغ: ولا يثقلوا رجله بشيء ليغرق كما يفعل من لا يعرف، وقال سحنون: يثقل بشيء إن قدروا، واحتج من لم ير التثقيل بأنه ربما ألقاه البحر إلى الساحل فيدفنه المسلمون، وفلي تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن. قال الإمام أبو عبد الله: " وأما نقل الميت من بلد إلى بلد، فظاهر مذهبنا جوازه. وقال مالك: لا بأس أن يحمل الميت إلى المصر فيدفن فيه [إذا] كان مكانا قريبا. وقال ابن حبيب: ولا بأس أن يحمل من البادية إلى الحاضرة، ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه، وقد مات سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بالعقيق فحملا إلى المدينة ". القول في التعزية، والبكاء على الميت: والتعزية سنة، وهي الحمل على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب. (وذكر ابن حبيب ألفاظا في التعزية عن جماعة من السلف، ثم قال: والقول في ذلك واسع، إنما هو على قدر منطق الرجل، وما يحضره في ذلك من القول، قال: وقد استحسنت أن أقول: عظم الله أجرك على مصيبتك، وأحسن عزاءك عنها، وعقباك منها، وغفر لميتك ورحمه، وجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج منه). [ويستحب] تهيئة طعام لأهل الميت ما لم يكن اجتماعهن للنياحة وشبهها. والبكاء جائز من غير نياحة وندب، ومن غير جزع وضرب خد وشق ثوب، فذلك حرام. ولا يعذب الميت بنياحة أهله عليه، إلا إذا أوصى، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

باب تارك الصلاة

باب تارك الصلاة: ومن ترك الصلاة واحدة، (و) امتنع من فعلها حتى لا يبقى من الوقت الضروري إلا ركعة واحدة أخذ بفعلها حينئذ، فإن فعلها وإلا قتل. وحكى ابن خويز منداد قولين آخرين، أحدهما: أنه يأخذ بفعلها إذا خاف فوات الوقت الاختياري، وهو بعيد جدا، ثم يقتل حدا لا كفرا. قال القاضي أبو بكر: " قال متأخروا علمائنا: لا يقتل ضربة بالسيف، ولكنه ينخس بالحديد حتى تفيض نفسه، أو يقوم بالحق الذي عليه من فعلها "، ثم قال: " وبهذا أقول "، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين كما يدفن سائرهم، ولا يطمس قبره. ورأى ابن حبيب أنه يقتل كفرا، وإن كان مقرا بالوجوب إذا تركت تهاونا، وقال: لا أصلي، قال: فأما إن قال: أصلي ولم يفعل، فلا يقتل أصلا. فأما لو تركها جاحدا لوجوبها لكان كافرا، وحكم في بحك المرتد، (والله أعلم). [تم كتاب الجنائز والحمد لله، وبه تم كتاب الصلاة].

كتاب الزكاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم] كتاب الزكاة وهي بالإضافة إلى متعلقاتها سنة أنواع: زكاة النعم، والنقدين، والتجارة، والمعشرات، والمعادن، والفطر. النوع الأول: زكاة النعم، والنظر في وجوبها وأدائها. أما الوجوب فله ثلاثة أركان. الأول: قدر الواجب، وسيأتي بيانه. الثاني: ما تجب فيه، وهو المال، وله خمسة شروط: أن يكون نعما، نصابا، حال عليها الحول، لم يزل ملكه عنها في أضعافه، على خلاف وتفصيل في هذا الشرط، وأن يكون الملك كاملا غير ضعيف. الشرط الأول: أن يكون نعما، فلا زكاة إلا في الإبل والبقر والغنم، ولا تجب في غيرها من الخيل والبغال والحمير والرقيق وغير ذلك، ولا في المتولد من الظباء والغنم. وفرق القاضي أبو الحسن بين أن تكون الأمهات من الغنم فتجب، أو من غيرها فلا تجب. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الزكاة مطلقا، وحكى الأستاذ أبو بكر اتفاق الأئمة الثلاثة على إسقاط الزكاة من (المتولد) [من] فحول الغنم وإناث الظباء. الشرط الثاني: أن تكون النعم نصابا. أما الإبل ففي أربع وعشرين فما دونها الغنم، ففي كل خمس شاة.

فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت محاض أنثى، فإن لم تكن في ماله، فالبن لبون ذكر. فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون. فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة. فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة. فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان. فما زاد ففي كل أربعين لبنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وكل ذلك لفظ أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الصدقة. ويتغير الفرض بزيادة عشر، وفي تغيره بزيادة دونها روايتان، وبعدم التغير قال أشهب. وإذا فرعنا على الرواية الأخرى بوجود التغير، ففي كيفيته خلاف. قال ابن القاسم: يتغير إلى ثلاث بنات لبون، وقال مالك: يتغير إلى التخيير بينها وبين الحقين، كان في الإبل أحد السنين أو لم يكن. وروي في المجموعة: لا يتخير إلا إذا اجتمعا في المال. وبنت مخاض: (هي التي دخلت) في السنة الثانية إلى استكمالها، وولد اللبون: هو الذي قد دخل في السنة الثالثة. والحقة: هي التي قد دخلت في الرابعة. والجذعة: هي التي دخلت في الخامسة. وأما البقر، ففي ثلاثين منها تبيع جذع أو جذعة. قال القاضي أبو محمد: " وهو الذي دخل في السنة الثانية ". وقال ابن حبيب: هو ابن ستين. وقال ابن نافع في المجموعة: هو ما أو في سنتين، ودخل في الثالثة. وفي أربعين مسنة لا تؤخذ إلا أنثى، وهي التي لها ثلاث سنين، قيل: ما أكملتها. وقيل: ما دخلت في الرابعة. وقال القاضي أبو محمد: " سنها أربع سنين ". ثم في ستين تبيعان. ثم يستقر الحساب، ففي كل ثلاثين تبيع، و (في) كل أربعين مسنة إلى مائة وعشرين، فيكون حكمها حكم المائتين من الإبل، وسيأتي. وأما الغنم ففي أربعين شاة شاة، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وشاة.

ثلاث شياه، وفي أربع مائة أربع شياه، وما بينهما أو قاص، ثم استقر الحساب، ففي كل مائة شاة. واختلف في صفة الشاة الواجبة في الغنم والإبل، فقال ابن القاسم وأشهب: يجزي الجذع والثني من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى. وقال القاضي أبو الحسن: " لا يجزي إلا الأنثى، لكن تجزي جذعة كانت أو ثنية من المعز أو من الضأن ". وقال ابن حبيب: حكمها حكم الضحية، لا يجزي فيها إلا الجذع من الضأن ذكرا كان أو أنثى، والثني من المعز، إلا أن يكون تيسا. قال الشيخ أبو محمد: " وليس بقول مالك وأصحابه فيما علمناه ". فرع: واختلف في سن الجذع، فقال أشهب وبان نافع وعلي بن زياد وابن حبيب: هو ما له سنة. وقال ابن وهب: هو ابن عشرة أشهر. وقيل: ابن ثمانية أشهر. وروي عن سحنون عن علي: أنه ابن ستة أشهر. والتحاكم في ذلك إلى أهل اللغة، والأول أشهر عندهم. وأما الثني فما دخل في السنة الثانية. ثم يتصدى النظر في زكاة الإبل في خمسة مواضع. الأول: في إخراج الشاة عن الإبل. والعبرة في تعيين الضأن أو المعز بحال غنم البلد، وقال في كتاب ابن سحنون: يعتبر بحال المالك إذا كان مخالفا غنم البلد. ولو أخرج بعيرا عن خمسة أبعرة بدلا من الشاة الواجبة فيها، فأطلق القاضيان أبو الوليد وأبو بكر القول بأنه لا تجزيه. وقال أبو الطيب عبد المنعم القروي: من أصحابنا من أباه، وليس بشيء لأنه مواساة من جنس المال فأكثر مما وجب عليه. النظر الثاني: في العدول إلى ابن لبون. فمن وجب عليه بنت مخاض، فلم تكن في ماله أخذ ابن لبون، فإن لم يكونا في ماله كلف ابنة مخاض. فإن أراد رب المال أن يدفع ابن لبون ذكرا إذا لم توجد في المال بنت مخاض ولا ابن لبون ذكر، فقال ابن القاسم في الكتاب: " ذلك إلى الساعي إن أراد أخذه، وإلا لزمه بنت

مخاض. ليس له أن يمتنع من ذلك ". ولو كان في ماله ابنة معيبة لا تجزئ، فهي كالمعدومة. ولا يؤخذ الحق بدلا عن بنت لبون عند فقدها، كما يؤخذ ابن لبون بدلا عن بنت مخاض. النظر الثالث: إذا ملك مائتين من الإبل، فإن كان في ماله أحد السنين أخذ منه الموجود، وإن وجدا أو فقدا تخير الساعي. قال محمد: يتخير الساعي إذا وجد السنين، إلا أن تكون أربع الحقاق فيها قوام رب الإبل ومصلحته فيضر به. وقد قال ابن وهب: الساعي بالخيار ما لم يضر برب الإبل، وقيل: يخير رب المال مطلقا، وذكر عن ابن القاسم: أنها إن خلت من السنين إن ما أتاه به ربها منها فليقبله. قال أصبغ: وليس هذا بشيء، والساعي مخير. النظر الرابع: في الجبران. فإن أعظى سنا أعلى، وأخذ عوضا، أو أعطى سنا أدنى وعوضا، فقال أصبغ بعدم الجواز والإجزاء، إلا إذا رد ما أخذ مع الأعلى وأبقاه، فيجزيه. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا مع فوات المأخوذ، وأما إن كان قائما فليسترده على هذا القول، ويخرج القدر الواجب. وروي في مختصر ما ليس في المختصر إثباتهما، وقال ابن القاسم وأشهب في المجموعة بنفي الجواز وإثبات الإجزاء ". فرع: حيث قلنا بالإجزاء، فلا يراعى في ذلك بدل معين في جنس أو مقدار، بل المقصود حفظ حق المساكين. النظر الخامس: في صفة المخرج من حيث النقصان والكمال. النقصان أربعة. الأول: المرض أو العيب. فإن كان المال كله مرضى أو ذات عوار، فلا يأخذ منها. وقيل: يأخذ. الثاني: الذكورة. فلو كان ماله ذكورا، لم يؤخذ منه إلا الأنثى، ويستثنى من ذلك ابن اللبون في الإبل بدلا، كما تقدم، والتبيع في البقر، وما ذكر في الغنم على الخلاف. الثالث: الصغر.

الفصل الأول: في حكم الخلطة وشرطها

فلو كان في المال صغار وكبار، لم يؤخذ من الصغار. ولو كان الكل صغارا، لم يؤخذ منها أيضا على المشهور. وقال محمد بن عبد الحكم في جميع هذه الأصناف التي تقدم ذكرها، وفي السخال: لولا خلاف أصحابنا لكان بينا أن يؤخذ منها واحد من أوساطها، ولا يكون عليه ثنية ولا جذعة، واعتذر عن قول عمر رضي الله عنه بأنه خرج على الغالب. الرابع: رداءة النوع. فإن كان الكل معزا أخذ منها، وإن اجتمع الضأن والمعز، فإن كان الواجب شاة واحدة، فإن استوى النوعان تخير الساعي بينهما، وإن اختلفا أخذها من الأكثر. وإن كان الواجب أكثر من شاة، وجبت شاة في الأكثر، ثم نظر فيما بقي منه مع جملة الأقل، فإن كان أكثر من الأقل، والأقل مقصر عن النصاب، مثل أن تكون له مائة وعشرون ضائنة وثلاثون معزة، أخذت الشاة الأخرى من الأكثر أيضا، وإن كان الأقل أكثر من الباقي، وكان نصابا، مثل أن يكون له تسعون ضائنة وسبعون معزة، أخذت الأخرى منه، وإن كان الباقي أقل من أو قل، والأقل مقصر عن النصاب، مثل أن يكون له أربعون من الجواميس، وعشرون من البقر، فعليه تبيع من الجواميس، وتبيع من البقر؛ لأن ما يجب فيه التبيع الثاني البقر فيه أكثر من الجواميس. وإن كان الباقي أكثر من الأقل، وفي الأقل نصاب، مثل أن تكون له مائة وعشرون من الضأن، وأربعون من المعز، أخذت من الأقل عند ابن القاسم. وقال سحنون: تؤخذ من الباقي. فرع: كل ما قلناه فيه: لا يأخذ المصدق لنقصه، فله أخذه إذا رآه نظرا للمساكين. وحكى القاضي أبو الوليد عن القاضي أبي الحسن: " إن ذات العيب لا تجزئ، وإن كانت قيمتها أكثر من قيمة السليمة. قال: ومذهب مالك أنها تجزئ إذا كانت أفضل للمساكين من السليمة "، هذا بيان النصاب، ولا زكاة فيما دونه، ولو تم بالخلطة نصابا. ولنذكر صدقة الخلطاء، والنظر فيها في أربعة فصول. الفصل الأول: في حكم الخلطة وشرطها. وحكم الخلطة: تنزيل المالين منزلة مال واحد بعد حصول النصاب في كل واحد منهما، أو في ملك مالكه.

فلو خلط أربعين بأربعين لغيره، ففي الكل شاة واحدة، ولو خلط عشرين بعشرين لغيره، فلا شيء فيها بمفردها. ثم قد يفيد ذلك تقليلا كمن خلط أربعين بأربعين، فلا يلزمه إلا نصف شاة، وقد تفيد تثقيلا، كمن خلط مائة وشاة بمائة شاة، فيلزمه شاة ونصف. وشروط الخلطة ثلاثة: الأول: اتحاد المراعى والفحل والدلو والمراح والمبيت، أو أكثرها. وقيل: الراعي والمرعى، وقيل: اتحاذ اثنين منها، أي اثنين كانا، وهو وقل الشيخ أبي بكر، وعلل بأن اسم الخلطة يحصل بوصف واحد من هذه، إلا أنه قل ألا تختلط في صفة، وتجتمع في رعي أو سقي ونحوه، فعلمنا أنه لا بد من زيادة على وصف واحد، ولا دليل يوجب أكثر من ذلك. وحكى الشيخ أبو بكر عن بعض شيوخه: أنه راعى في الخلطة وجها واحدا، وهو الراعي، قال: وأنزله منزلة الإمام الذي يتغير به حكم الجماعة عن حكم الانفراد. قال عبد الحق: " وهذا القول نحو قول ابن حبيب: إن أصل الخلطة الراعي، فإذا جمعها الراعي، اجتمعت في أكثر ذلك، وإن فرقها الراعي، فليست بمختلطة وإن جمعها المرعى ". الشرط الثاني: كون الخليط أهلا للزكاة. وقال ابن الماجشون: تحصل الخلطة ويزكي زكاة الخليط، وإن كان خليطه عبدا أو ذميا. الشرط الثالث: اتفاق الأحوال. فإذا حال الحول على أحدهما دون الآخر، زكى زكاة المنفرد. قال أبو بكر: وعلى قول ابن الماجشون يزكي زكاة الخلطة، فيخرج ما ينوبه على حكمها، ويسقط عن خليطه ما ينوبه.

الفصل الثاني: في التراجع

فرع: ولا تشترط الخلطة في جميع الحول، بل يكفى اختلاطها في آخره. واختلف في تقدير ذلك بمدة، وفي قدرها على القول بها، فقال القاضي أبو محمد: " إذا لم [يقصد] الفرار زكاها الساعي على ما يجدها عليه من اجتماع أو افتراق، ويقبل قول أربابها؛ لأن الظاهر أنهم يفعلون ذلك للارتفاق بالفرقة والاجتماع، فيجب إلا يخالف ما ظهر ويصار إلى خلفه إلا بأمارة تقوي التهمة ". وروى ابن القاسم في الكتاب: " إذا كان ذلك قبل الحول بشهرين وأقل، فهم خلطاء "، وذكر أنه لم يسأل عن أقل عن ذلك، ثم قال: " وأنا أرى أنهم خلطاء في أقل من الشهرين ما لم يتقارب الحول، ويهربان فيه إلى أن يكونا خليطين فرارا من الزكاة "، وما يرى أنه نهى عن مثله في حديث عمر بن الخطاب. وقال ابن حبيب: أدنى ذلك الشهر، وما كان دون الشهر لم يجز لهما اجتماع ولا افتراق. وقال محمد بن المواز: إن اجتمعا أو افترقا فيما دون الشهر فجائز ما لم يقرب جدا، ويكن الساعي قد أظلهما. هذا كله إن كان ما وجدا عليه من اجتماع أو افتراق منقصا من الزكاة، فإن لم يكن منقصا، فلا يتهمان عليه، بل يزكي المال على ما يوجد عليه، ولا تأثير للخلطة في شيء من أموال الزكاة سوى النوع المتحد من الماشية. الفصل الثاني: في التراجع وإذا أخذ الساعي من المال ما يجب فيه، رجع المأخوذ منه بقيمة حصة شريكه، وهل تعتبر القيمة يوم الأخذ أو يوم الأربعاء؟ قولان لابن القاسم وأشهب، مأخذهما أنه كالمستهلك أو كالمتسلف. وكذلك لو تأول الساعي، فأخذ بكون المجموع نصابا، وإن كان كل ملك ناقصا عنه لتراجعا أيضا، فلو كان أحد المالين نصابا والآخر دونه، فأخذ الساعي شاتين متأولا، فإن كان المال الناقص عن النصاب هو الموجب لأخذ الثانية بالتأويل، فإنها يتراجعان في الشاتين جميعا على قدر ماليهما. وقيل: الواحدة على رب النصاب، ويتراجعان في الأخرى على قدر المالين. وإن كان المال الناقص لم يضره في أخذها لم يكن على صاحبه شيء. وما أخذه المصدق من المال مع علمه بأنه لا يجب ولم يتأول فيه فهو ممن أخذ من غنمه، لا يرجع على صاحبه منه بشيء.

الفصل الثالث: في اجتماع المختلط والمنفرد في ملك واحد

الفصل الثالث: في اجتماع المختلط والمنفرد في ملك واحد مثل أن تكون له ثمانون فيخلط أربعين منها بأربعين لغيره، والأربعون الأخرى ببلد آخر، فروى محمد: أنه يكون خليطا لصاحبه بما حضر وغاب، وليس عليهما إلا شاة على صاحب الأربعين ثلثها، قال القاضي أبو الوليد: " هذا من مالك بناء على أن الأوقاص مزكاة، وعلى القول الآخر يكون على كل واحد منهما نصف شاة ". . (قال أصبغ: وكذلك لو كانت الثمانون ببلد واحد. وقال عبد الملك: يكون على رب الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة. قال محمد: قول مالك أحب إلينا، وعليه جل أصحابه، وقال سحنون بقول عبد الملك. وقال: هو أحب إلي من قول ابن القاسم وأشهب. قال: وأما أشك أن يكون ابن وهب رواه عن مالك. وقيل: على صاحب الأربعين نصف شاة، وعلى صاحب الثمانين شاة كاملة). وحكاه الشيخ أبو الوليد عن عبد الملك وسحنون. وسبب الخلاف: النظر إلى أثر الخلطة، ففي القول الأول اعتبره في جميع المال، وفي الثاني اعتبره في حق صاحب الثمانين في جملة ماله، واعتبر في حق صاحب الأربعين ما خالطه به صاحبه لا أكثر، وفي القول الثالث اعتبر القدر الذي وقعت الخلطة فيه من الجانبين إلا أكثر. مثال آخر: لو خلط عشرة من الإبل بعشرة لغيره، وبقيت له عشرة أخرى بغير خليط، فعلى القول الأول يكون عليهما بنت مخاض، على صاحب العشرة ثلثها، وعلى صاحب العشرين ثلثاها. وعلى القول الثاني: على صاحب العشرة شاتان، وعلى صاحب العشرين ثلثا بنت مخاض. وعلى القول الثالث: على صاحب العشرة شاتان، وعلى صاحب العشرين أربع شياه. الفصل الرابع: في تعدد الخليط والحكم فيه قريب من الأول، فإذا خلط مع أكثر من واحد، وجب تعميم حكم الخلطة بين الجميع، فيتوزعون الواجب بينهم على نسبة أموالهم، وبه قال ابن القاسم وأشهب. وقال محمد بن المواز: هو خليط لكل واد بجميع ماله، وليسوا خلطاء فيزكي كل واحد منهم بنسبة ما يخصه مع جملة ماشي خليطة. وقيل: هو خليط لكل واد بالذي معه دون ما خرج عنه،

فيزكي كل واحد منهم بنسبة ما يخصه مع ما خالطه به خاصة. ثم اختلف القائلون بذلك في حكمه هو، فقيل: يزكي على ضم ماله بعضه إلى بعض. وقيل: يفرد كل مال بالزكاة مع خليطه كأنهما لمالكين. وسبب الخلاف: أنه اجتمع ها هنا أمران كالمتناقضين، أحدهما أن الخليط الأوسط يجب ضم بعض ملكه إلى بعض مع عدم الخلطة، والثاني أن الطرفين ليس بينهما خلطة، فلا يجب ضم ملكها بعضه إلى بعض. فمن غلب حكم الوسط، ورأى أن كل واحد منهما يجب ضمه إليه، وهو يجب ضم ملكه بعضه إلى بعض، قال: يكو الجميع كالخلطاء. ومن غلب حكم الطرفين المنفردين أفرد ملك الوسط، فجعله كمالين لمالكين، ولم يضم بعضه إلى بعض، وهذا هو القول الرابع. ومن رأى الوسط قد جعل كل واحد من الطرفين خليطه، والخليط يجب أن يضاف جميع ما يملكه إلى ما خالط به، جاء منه القول الثاني. ومن وجب عنده ضم الملك الواحد بعضه إلى بعض، وأفرد حكم الخليط بما خالط به، جاء من القول الثالث. وبيان ذلك بالمثال: أن من خلط عشرة من الإبل بعشرة مع خليط، وعشرة أخرى بعشرة مع آخر، فعلى القول الأول يجب في الجميع بنت لبون، على الأوسط نصفها، وعلى كل واحد من الطرفين ربعها. وعلى القول الثاني: يجب على الوسط أيضا نصف ابنة لبون، وعلى كل واحد من الطرفين ثلث بنت مخاض. وعلى القول: يجب على الوسط ثلثا بنت مخاض، وعلى كل واحد من الطرفين شاتان. وعلى القول الرابع: يجب في الجميع ثمان شياه، على الوسط أربع، وعلى كل واحد من الطرفين شاتان. فرع: حيث ثبت للساعي على أحد الخلطاء حصة من شاة أو غيرها من ماشية الزكاة، أخذ منه قيمة ذلك ذهبا أو ورقا. وقيل: إنه يأتي بها، فيكون شريكا معه فيها. الشرط الثالث: الحول. فلا زكاة في النعم حتى يحول عليها الحول، إلا السخال الحاصلة في أضعاف حول أمهاتها إذا تمت بها نصابا، أو كانت نصابا دونها، فإن الزكاة تجب فيها بتمام حول الأمهات،

ولو ماتت الأمهات بقيت السخال لم تنقطع التبعية ووجب الزكاة فيها. لو ملك مائة وعشرين فنتجت في آخر الحول سخلة، وجبت عليه شاتتان لحدوثها في أضعاف السنة. الشرط الرابع: أن لا يزول الملك عن عين النصاب في الزكوات العينية، وفيه اختلاف وتفصيل. فإن أبدل العين القاصرة عن النصاب بذهب أو ورق، وليست للتجارة، انقطع الحول واستأنفه. فإن كانت نصابا، ففي الاستئناف أو البناء روايتان، وعلى البناء جل الأصحاب، إلا أشهب فإنه ثبت على الرواية الأولى بالاستئناف، وهذا إذا باع النصاب بما فيه الزكاة، ولم يبع فرارا. وأن أبدلها بماشية من غير جنسها كإبل بغنم، أو بالعكس فلا يبني على حول الأولى في إحدى الروايتين، واختارها ابن القاسم وأشهب، وهي المشهورة. ويبني في الرواية الأخرى إذا كانت نصابا (نصابا)، وهي اختيار ابن وهب وابن الماجشون. ولو كانت الثانية نصابا دون الأولى لاختلف في البناء تفريعا على القول به. وأن كانت الماشية الثانية من جنس الأولى، وكانتا نصابا نصابا، بنى حولها على حول الأولى. وفي كتاب ابن سحنون عن مالك: لا يبنى. فإن كانت الأولى قاصرة عن النصاب فقولان أيضا على القول بالبناء. ولو تخلل بين الماشتين عين، ولم تكن الأولى للتجارة استقبل بالثانية حولا في رواية ابن القاسم وأشهب. وروى مطرف وابن الماجشون أنها تبنى على حول الأولى. هذا كله ما لم يكن فرارا من الزكاة، فيبنى على كل حال. ولو استهلكت ماشيته، فأخذ بدلا عن القيمة الواجبة له ماشية، فهل يلتحق بصورة بدل الماشية بالماشية من غير تخلل عين أو بصورة تخلل العين؟ قولان، سببهما أن من خير بين شيئين فاختار أحدهما، هل يعد كأنه لم يأخذ إلا ما وجب له، فيكون هذا كالبدل، أو يعد (كالمنتقل) من شيء إلى شيء، فيكون هذا كالتارك للقيمة، والآخذ عنها ماشية؟ وفي هذا الأصل قولان (للأصحاب). الشرط الخامس: كمال الملك.

وأسباب الضعف ثلاثة: الأول: امتناع التصرف، فإذا كان المال متهيئا في نفسه للتصرف، لكن تعذر على مالكه التصرف فيه بالتنمية وغيرها، فإن كان للمنع منه كالغصب، فإن كان في الناض زكاة لعام واحد. وقيل: يستقبل به حولا. وكذلك إن كان لضياع وقد التقط، وقال المغيرة: بل [يزكي] اللقطة لكل عام. وإن كان لعدم العلم بمكانه، بأن دفنه فضل عنه، فإنه يزكيه لكل عام لتفريطه. وقيل: لعام واحد كالدين. وقيل: إن دفنه في صحراء زكاه لما مضى من السنين لتعريضه له للتلف. وإن دفنه في بيته، أو ما ف ي معناه، لم يزكه لماضي لعدم تعريضه. وقال ابن المواز عكس هذا، وعده في الصحراء كالتالف، وجعله في البيت مقصرا في طلبه. وإن كان للغصب في الماشية فعادت إلى ربها بعد أعوام، فقال ابن القاسم في الكتاب: " يزكيها لعام واحد "، وقال أيضا: " يزكيها للأعوام الماضية كلها "، وقاله أشهب، قال " لأنها لم تزل عن ملكه، وما أخذت السعاة منها أجزأ عنه، بخلاف العين تغصب ". وبنى أبو الحسن اللخمي هذا الخلاف على الخلاف في رد غلات المغصوب، ولو كان المغصوب شجرا، فالزكاة واجبة فيه على له الغلة من مالك أو غاصب. ولو ردت الماشية بعيب، أو لفساد البيع، أو أخذها بائعها لفلس المشتري بعد أن أقامت بيد المشتري أعواما، ففي وجوب زكاتها على ملك المشتري أو البائع خلاف منشؤه التردد في رد المبيع في الصور الثلاث، هل هو نقض للبيع من أصله أو من حينه؟ وعليه أيضا ينبني الخلاف في استقبال البائع بها حولا، أو بناء حلولها على ما تقدم. فأما ما اشتراه من الماشية، فحال عليه الحول قبل قبضه، فعليه زكاته. السبب الثاني: تسلط الغير على ملكه، وهذا كالرقيق والملتقط والمديان. فأما الرقيق فلا تجب الزكاة عليه في شيء من أمواله، ويستوي في ذلك يسير (الرق) وكثيره، وكماله وبقيته. وأما الملك في السنة الثانية في اللقطة إذا نوى تملكها ولم يتصرف فيها، فقال مالك في كتاب محمد: تجب عليه الزكاة إذا تم حولها من يوم نوى. وقال ابن القاسم في المجموعة: لا زكاة عليه إذا لم يحركها.

وأما المديان فتسقط عنه زكاة العين الحولي من الناض، وقيم عروض التجارة إذا استغرقه الدين، أو لم يبق منه نصابا، إلا أن يكون غنيا بما يجعله في مقابلة دينه على وجوه يأتي تفصيلها وبيان الخلاف فيها. ويتنحصر الكلام في تفصيل زكاة المديان في فصلين: الفصل الأول: في بيان الدين المسقط للزكاة ويسقط كل دين وجب في معاوضة، وتدل فيه نفقة الزوجة إذا حلت، وإن لم يفرض ذلك لها حاكم، وتلحق بها نفقة الولد إذا قضى بها واستقر الطلب، فتسقط الزكاة، ولا تسقط نفقة للأبوين إذا لم يقض بها، فإن قضى بها، فروى ابن القاسم وأشهب: أنها تسقط، وفي الكتاب عن ابن القاسم: " لا تسقط ". وإن لم يقض بنفقة الولد، ففي إسقاطها للزكاة خلاف. وروي عن ابن القاسم: أنها لا تسقط، وهي رواية ابن حبيب عن مالك، وقال أشهب: إنها تسقط. ومهور النساء تسقط على المشهور، وقال ابن حبيب: لا تسقط لأن العادة بقاؤها في الذمم المدد البعيدة، ويسقط دين المساكين الواجب لهم، وقيل: لا يسقط. الفصل الثاني: في بيان ما جعل في مقابلة الدين والمشهور أنه يجعل جميع الديون فيما يملكه من العروض التي تباع عليه فيما دون العين. وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم استثناء الدين الواجب للمساكين من جملة ذلك، فرأى أن يجعله في العين. وروى ابن المواز عنه موافقة المشهور. وقيل: بل يجعل الدين كله في العين لقدرة الغرماء على جعل ديونهم في العين. وإذا فرعنا على المشهور، ففي اشتراط ملك العرض الذي يجعل فيه الدين من أول الحول خلاف. (روى محمد عن ابن القاسم: أنه لا يزكي حتى يكنون العرض عنده من أول الحول، وروى عيسى عنه أيضا: أنه لو أفاده عند الحول جعل دينه فيه وزكى. وقال أشهب: يزكي سواء أفاد العرض عند الحول أو قبله بيسر. وإن أفاده بعد الحول زكى حينئذ، قال محمد وبه

وأقول، وبه قال أصحاب ابن القاسم). وفي معنى العرض الدين الذي له، والمال المعدني والحرث والماشية، على خلاف في هذين. وكذلك الخلاف في العين الحولي الذي قد أخرج زكاته، والخدمة، ومرجع الرقبة وغير ذلك، ولنفصل جمعيها بفروع متتالية، فنقول: من كان له مائتان لحولين كالحرم ورجب عليه مائة، فقال ابن القاسم: " يزكي ما حل حوله منهما أولا، ويجعل دينه في الأخرى، ولا يزكي الثانية ". قال الشيخ أبو محمد: " يريد لا يزكي الثانية عند حولها، (لأن دينه فيها) "، (وفي كتاب ابن حبيب: يزكي كل مائة لحولها، ويجعل دينه في الأخرى). وإذا كان له دين جعل ما عليه فيه وقيل: بل يجعله فيما (بيده). وإذا فرعنا على المشهور، فقال سحنون: يجعل عدد ما عليه في قيمة ما على من الدين إلى أجل. وقال أشهب: فيمن بيده مائة دينار، وعليه دين مائة، وله دين على آخر مائة: إنه يجعل الدين الذي عليه في الدين الذي له، ويزكي المائة التي في يده، فجعل الدين الذي عليه في عدد الدين الذي له. وقال ابن القاسم: إن كان دينه على غير ملي فيحسب قيمته. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بأنه يجعل ما عليه من الدين في قيمة دينه إن كان مؤجلا، أو على غير ملي، وفي عدده إن كان حالا وعلى ملي، ويجعل دينه فيما لا يسقط الدين زكاته من ماله كالمعدني، وكذلك الحرث، والماشية على المشهور. وقيل: لا يجعله في الحرث والماشية بل في العين.

وإن كان له مكاتب، (فقال أصبغ: يجعل دينه في قيمته عبدا، احتياطا للزكاة لإمكان عودة عبدا، ورواه ابن حبيب عن أشهب). وقال ابن القاسم: يجعل في قيمة كتابته، لأنها المملوكة له فقط. وقال أشهب أيضا: في قيمته مكاتبا لا بقيمة ما عليه، إذ يمكنه بيعه كذلك. ويجعل الدين في المدبر إذا كان بعد التدبير، وقال سحنون: لا يجعل في رقبة المدبر ولا في خدمته، ألا ترى لو أن شريكا في بعد أعتق نصيبه منه، وليس له سوى مدبر، لم يقوم عليه نصيب شريكه. ويطرد الخلاف في المعتق إلى أجل، وأولى بالمنع. وإذا قلنا: يجعل في المدبر، فنقل ابن المواز عن جماعة [من] الأصحاب: أنه يجعل في قيمته، ونقل الشيخ أبو القاسم عن غير أبو القاسم: " أنه يجعل في خدمته ". واختاره القاضي أبو الوليد. ولو كان تدبيره بعد الدين لجعل في رقبته بغير خلاف. وإذا قلنا: يجعل في المعتق إلى أجل، ففي قيمة خدمته، ويجعل المخدم دينه في مرجع رقبة العبد على المنصوص، ويجعل المخدم دينه في الخدمة. قال في الكتاب: " ولا يحسب دينه في قيمة عبده الآبق، إذ لا يجوز بيعه ". قال ابن المواز: وقال أشهب: إن كان إباقه قريبا (ترتجى) رجعته، قوم على غرره، وجعله في دينه، وإن طال أمره فلا يحسب. ولو وهب له ما عليه من الدين عند الحول، فروى ابن القاسم: " أنه لا يزكيه حتى يحول عليه الحول بعد الهبة ". وقال أشهب: يزكيه حين وهب له، ولو لم يكن له مال غيره. ولو وهبه لأجنبي، فقال أشهب: لا زكاة على الغريم، ولا على الواهب. وقال محمد: يزكيه الواهب، لأن يد قابضه كيده، وقاله ابن القاسم. وكذلك في وجوبها على الواهب لغريمه خلاف أيضا، وعليه تخرج مسألة نصاب تزكية ثلاثة في حول واحد، وذلك بأن يكون لرجل خلاف أيضا، وعليه تخرج مسألة نصاب تزكية ثلاثة في حول واحد، وذلك بأن يكون لرجل دين، وعليه مثله لثالث، والمديانان مليان، ولكل واحد منهما عروض تفي بما عليه، فأحال الوسط منهم مطالبته على مديانه فقبضه بعد حلول الحول عليه، فالزكاة واجبة على الطرفين، ويختلف في الوسط.

السبب الثالث: عدم قرار الملك. فلا زكاة في الغنيمة قبل القسم على المشهور، ومن أكرى دارا أربع سنين بمائة دينار نقدا، فمر به حول، فقيل: يزكي الجميع، وقيل: لا يزكي غير ما حل حوله من السنة الأولى. وقيل: يزكي ما قابل السنة الأولى. وأشار بعض المتأخرين إلى بناء هذا الاختلاف على الخلاف في استقرار ملك عوض المنافع، هل يكون من يوم قبضه، أو من يوم استيفاء العوض عنه؟ قال: وفي ذلك قولان. الركن الثالث: في من تجب عليه. ويعتبر في توجه وجوبها الحرية، واختلف في عد الإسلام شرطا معتبرا في الوجوب، وإن لم يختلف المذهب في عدة من شروط الأداء، فالقاضي أبو بكر ومن وافقه من المتأخرين لم يعتبروه، وعده القاضي أبو محمد من شروط الوجوب. وكذلك نص عليه الشيخ أبو الوليد، وأبو الحسن اللخمي وغيرهم. فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وتجب على المرأة ولا تجب على الرقيق، ولا على السيد فيما بيد رقيه، ولا على من فيه بقية رق، ولا على من يملك ذلك منه. قال القاضي أبو بكر ومن وافقه: " ولم نشترط فيه الإسلام، إذ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عندنا، لكن لا يؤخذ (أهل) الذمة بزكاة شيء من أموالهم، لأنا عاهدناهم على أنا لا نأخذهم بفروع الدين ما داموا على كفرهم، كما لا نأخذهم بالصلاة والصوم، هذا حكم الأموال المملوكة المطلقة. فأما الأموال الموقوفة، فإن تكان نباتا، فالزكاة واجبة فيها على أصل ملك مالكها، ولا يراعى مقدار ما يصير لكل إنسان. وقيل: إن كان المتولي لتفريقها على الموقوف عليهم غيره، وكانوا ممن يستحقون أخذ الزكاة، فلا تجب الزكاة فيها. ثم إذا قلنا بوجوبها فيها على المشهور، أو لأن الموقوف عليهم غير مستحقين لأخذ الزكاة، فهل يعتبر كمال النصاب في حصة كل واحد منهم إذا كانوا معينين، أو إنما يراعى في

المجموع؟ قولان لمحمد وسحنون، سببهما: هل يملكون بالظهور أو بالوصول إليهم؟ قال الشيخ أبو عمران: قول خلاف لظاهر ما في المدونة وغيرها، فأما غير المعينين فيراعى في الجملة؛ إذ لا يملكون إلا بالوصول إليهم. (وإن كانت مواشي، فإن وقفت لتفرق أعيانها في سبيل الله، أو على المساكين، فمر الحول قبل تفرقتها، فلا زكاة فيها). وقال محمد: قال ابن القاسم مرة: هي مثل الدنانير، ولا أعلم إلا أن مالكا قاله. وقال أيضا بأن القاسم رواه عن مالك. (وقاله أشهب: إن كانت تفرق على مجهولين فلا زكاة فيها، وإن كانت تفرق على معينين، فالزكاة على من بلغت حصته ما فيه الزكاة). قال محمد: هذا أحب إلينا. وإن أن وقفها لتفرق أولادها، زكيت الأصول. (قال سحنون: إذا كان في جملة الثمرة خمسة أوسق، ففيها الزكاة، كان على معينين أو مجهولين). وكذلك في نسل الأنعام. وقال ابن القاسم: إذا كانت على معينين، فلا زكاة على من ليس في حظه ما فيه الزكاة من ثمرة أو نسل. وإن كانت على مجهولين، ففي جملة الثمرة والأولاد الزكاة إن بلغ ذلك ما فيه الزكاة إذا تم لأولاد حول من وقت الولادة في الوجهين جميعا، وإلا فلا. (وإن وقفت الأنعام لتكون غلتها من لبن وصوف، تفرق على معينين، أو غير معينين، فالزكاة في الأمهات والأولاد جميعا، وحولهما واحد، لأن ذلك كله موقوف). قال أبو محمد عبد الحق: " وأعرف في المال الموقوف لإصلاح المساجد، والغلات المحبسة في مثل هذا اختلافا بين المتأخرين في زكاة ذلك "، قال: " والصواب عندي في ذلك، أن لا زكاة في شيء موقوف على من لا عبادة عليه من مسجد ونحوه، والله أعلم ". وإن كانت عينا، فإن كانت وقفت لتفرق، فلا زكاة فيها، لأنها خرجت من يد من كانت له، ولم يقبضها من صارت إليه، ولا تنمية فيها، وإن وقفت لتسلف من احتاج إليها زكيت بعد الحول.

خاتمة

خاتمة: اختلف في محل اشتراط مجيء الساعي، والمشهور اشتراطه في الوجوب، والشاذ أنه شرط في الأداء لا في الوجوب. وأما التمكن من الأداء، فقال الأستاذ أبو بكر في تفسيره، هو مطالبة الساعي دون قدرة رب الماشية على إيصالها إليه. الطرف الثاني للزكاة: طرف الأداء. وله ثلاثة أحوال: الأداء في الوقت، وقبله تعجيلا، وبعده تأخيرا، فهذه ثلاثة أقسام. الأول: الأداء في الوقت. وهو واجب على الفور، تؤدي إلى الإمام إذا كان (عدلا)، وكان يصرفها في وجوهها. وقيل: لأربابها أن يتلوا تفرقة الناض، وهو المال الباطن مستحقيه، وإن كان الإمام عدلا. وتجب نية الزكاة، فينوي الزكاة المفروضة، وينوي ولي الصبي والمجنون. قال القاضي أبو الحسن: " ورأيت بعض أصحابنا ذهب إلى أنها لا تفتقر إلى نية "، قال: " وأظنه إنما هب إلى ذلك لما رآها تجزئ يأخذ الإمام قهرا ". ثم قال القاضي أبو الحسن: " ولا يحتاج الإمام إلى نية، لأن الفعل منه يقوم مقام النية، لأنه يأخذ ما وجب أخذه من المأخوذ منه وإن أن كارها، فإنه يعلم أن أخذها واجب عليه ". وينبغي للساعي أن يعلم من السنة بشهر لأخذ الزكاة، ويستحب أن يكون في الصيف حين تطلع الثريا مع الفجر. ولا يجب على الإمام ولا على نائبه أن يدعو لصاحب الصدقة إذا أخذها منه، ولكن يندب إلى ذلك. القسم الثاني: في التعجيل. ولا (يجزئ) في المدة [الكثيرة] لغلبة شائبة العبادة على الزكاة، وإن اشتملت

على قصد سد الخلة، وفي إجزائه في اليسيرة خلاف. روى أشهب أنه لا يجزئ، وقيل: يجزئ. (ثم اختلف القائلون بالإجزاء في تقدير اليسيرة، فقال ابن المواز والقاضي أبو الفرج: مثل اليوم واليومين، قال محمد: على تكره، وحكى ابن حبيب عمن لقي من أصحاب مالك: الخمسة إلى العشرة، وقيل: نصف الشهر. وروى عيسى عن ابن القاسم تحديدها " بالشهر ونحوه على تكره منه لذلك ". فرعان: الأول: قال القاضي أبو بكر: " هذا الخلاف مقصور على زكاة الحيوان والعين وأما زكاة الزرع فلا يجوز تقديمها فيه لأنه لم يملك بعد ". الفرع الثاني: (لو عجل الزكاة بل الحول بالمدة الجائزة على الخلاف فيها، ثم هلك النصاب قبل تمام الحول، أخذها إن كانت قائمة بعينها، وعلم أو تبين أنها زكاة معجلة وقت الدفع، وإن لم يتبين ذلك لم ي قبل قوله. وأما لو دفع الزكاة معجلة، ثم ذبح شاة من الأربعين، فجاء الحول ولم ينجبر النصاب، ولم يكن له الرجوع، لأنه يتهم أن يكون ذبح ندما ليرع فيما عجل). القسم الثالث: في تأخير الزكاة. وهو سبب للضمان والعصيان عند التمكن، فإن تلف النصاب بعد الحول وقبل التمكن نفلا زكاة عليه على المشهور. وقيل: تجب عليه زكاة ما بقي، وإن كان دون النصاب. فلو ملك خمسا من الإبل، فتلف قبل التمكن أحدها، سقطت الزكاة عن الكل، كما لو تلف قبل الحول؛ لأن الإمكان شرط في الوجوب، وعلى الشاذ لا يسقط عنه إلا خمس شاة، لأن الإمكان عنده شرط في الأداء لا في الوجوب. ولو اشترى بالنصاب بعد الحول سلعة، ثم باعها بعد حول آخر، فربح فيها، فإنه يؤدي عن النصاب للعام الأول، ثم يؤدي عن المجموع للعام الثاني إن كان له عرض يجعله في مقابلة

قدر زكاة النصاب الأول، وإن لم يكن له عرض زكى ما بقي بعده على المعروف من المذهب. قال الشيخ أبو الطاهر: " ويتخرج على القول بأن دين المساكين في الزكاة لا يسقطها أن يزكي عن الجميع. قال ابن عبد الحكم في هذه المسألة: يستقبل بالربح حولا. قال الشيخ أبو الطاهر: " ومنها أخذ القول بأن الربح كالفائدة ". وإمكان الأداء يفوت بغيبة المال وبغية المستحق، وهو المسكين أو السلطان فيما يتولى قبضه على أحد القولين. فإن قيل: هل تتعلق الزكاة بالعين؟ قلنا: فيه خلاف، قيل: تتعلق؛ إذ هي مواساة. وقيل: بل تتعلق، وهم كالشركاء، وعليه تخرج زكاة ما بقي وإن أن دون النصاب للشركة فيه كالشركة في التالف. وإذا ملك عدة من الماشية، فتكرر الحول قبل أخراج الزكاة، ثم قدم الساعي فوجدها زائدة، فلتأخره سببان. السبب الأول: تأخر الساعي عنه. فيزكي ما وجد بيده عن ماضي السنين، على أن الجميع على ما بيده الآن من غير اعتبار بما كان بيده في السنين الماضية، ويبدأ بالسنة الأولى، ثم ما يليها، ما لم ينقص جزء الزكاة عدتها في بعض السنين، فينقص الواجب أو يسقط. وقال أشهب: بل يخرج عن كل سنة زكاة ما كان يده فيها. ومن الأصحاب من نزل بالقول الأول على ما إذا لم يدع أن ماشيته كانت في ماضي السنين دون ذلك. قال غيره: وهو بعيد عن مقتضى لفظ الكتاب. واستدل في الكتاب للمشهور بأن السعاة تخلفوا في الفتنة ست سنين، ثم بعثوا، فأخذوا من الناس عما تقدم على ما في أيديهم، ولم يسألوهم عما كان في أيديهم قبل ذلك مما مات في أيديهم، ولا مما أفادوا، قال: وهو الشأن. ورأى أنه كان كالمتفق عليه من السلف. قال بعض الأصحاب: ولأنهم جعلوا الأعوام كالعام الواحد، وعدلوا بين أرباب الأموال والمساكين، فأخذوا بالزيادة ما لم يضمنوا النقص، مثال ذلك: أن تتخلف الساعة عمن يملك ألفا من الغنم مثلا عشرة أعوام، ثم تأتي وليس في يده إلا أربعون، فلا يؤخذ منه إلا شاة واحدة، فإن كان بالعكس، فكانت أولا أربعين، ثم كملت في العام الآخر، فالقولان كما تقدم. المشهور أنه يؤخذ منه زكاة الألف عن الأعوام المتقدمة. والشاذ أنه إنما تؤخذ منه

النوع الثاني: زكاة المعشرات

شاة واحدة عن كل عام من الأعوام المتقدمة، وعن العام الآخر تسع شياه. قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا هو القياس "، وقد تقدم بيان مستند المشهور. هذا إذا تخلفت عنه السعاة وعنده نصاب، فإن كان عنده دونه، ثم أتت السعاة وقد كمل نصابه وزاد بالولادة أو بالبدل، فإنه يزكي للأعوام التي كانت فيها نصابا دون سائر الأعوام، وهو مصدق في ذلك، وبه قال ابن القاسم، وقال أشهب: يزكي لجميع الأعمام؛ إذ العبرة (بالعام) [الآخر]، كما في الكثرة والقلة. ولو كمل النصاب فائدة لم يزك إلا من يوم كماله. السبب الثاني لتأخر الإخراج: هربه عن السعادة. فيزكي لكل عام على ما كانت عليه، زادت عن عدة العام الحاضر، أو نقصت عنه. وقال أشهب: إذا زادت في هربه، فهو كمن تخلفت عنه الساعة، ولا يكون أحسن حالا منه،. قال: وهو في نقصانها ضمن بهربه في كل عام لزكاة ما كانت عليه. قال سحنون: إذا هرب بأربعين عامين، فعليه شاتان، لأنه ضامن، فلا ينقص ما في ذمته. فأما لو قدم الساعي، فوجدها ناقصة، وكان عدم الإخراج لغيبته، فلا ضمان على المالك، ويزكي لماضي السنين على ما بيده الآن ما لم ينقصها جزء الزكاة. النوع الثاني: زكاة المعشرات. والنظر في الموجب، والواجب، ووقت الوجوب، وكيفية الإخراج. الطرف الأول: الموجب والنظر في جنسه وقدره. أما جنسه فكل مقتات متخذ للعيش غالبا، أنبتته أرض مملوكة أو مستأجرة، خراجية أو غير خراجية، إذا كان مالكه حرا مسلما، على ما تقدم من الخلاف في اشتراط الإسلام في الوجوب. فتجب الزكاة في الحنطة والشعير والسلت والعلس، وهو الإشقالية، والذرة والدخن، والأرز، والقطاني وهي: الحمص واللوبيا، والعدس والفول المدمس والجلبان

والبسيلة والجلجلان وحب الفجل. واختلف في الكرسنة، هل تعد من القطاني أم لا؟ فروى أشهب أنها منها. وقال ابن حبيب: بل هي صنف على حدة، وتجب في التمر والزبيب. وفي وجوبها في التين خلاف نزله القاضي أبو الوليد على النظر إلى المقتات في زمن نزول الأحكام وبلد أهلها، أو النظر إلى كل قطر وعادته. وتجب في كل ما فيه زيت كما ذكرنا في الزيتون والجلجلان، وتجب أيضا في الترمس في رواية ابن وهب. وأما حب الفجل الأحمر وزريعة الكتان والقرطم وهو ذريعة العصفر، ففي المذهب في كل واحد منها ثلاثة أقوال: الوجوب، والإسقاط، والتفرقة بين أن يكثر زيتها، فتجب فيها الزكاة، أو يقل فتسقط، وهي رواية ابن وهب. وقال ابن القاسم: " لا زكاة في بزر الكتان، ولا زيته، إذ ليس بعيش ". وقاله المغيرة وسحنون: وتجب فيما لا يتزبب من العنب، وما لا يخرج زيتا من الزيتون، وما لا يتمر من النخل. وقيل: لا تجب في شيء من ذلك. وأما قدر الموجب، فهو قدر خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي. وقد قدر المتأخرون " الوسق فقيزا وربعا بالقروي، فيكون النصاب ستة أقفزة وربع قفيزة بالقروي ".

وقال الشيخ أبو إسحاق: يكون الوسق أردبين بالقفيز الفسطاطي، وتكون الخمسة الأوسق عشرة أرادب، وقاله ابن القاسم في المجموعة. ثم تعتبر هذه الأوسق تمرا وزبيبا، لا رطبا وعنبا، وما لا يتمر يوسق على تقدير التتمير على المشهور، ولا يكمل نصاب جنس بجنس آخر. ويعرف افتراق الجنسين بالتباين في المنفعة، ويكمل النصاب بأنواع الجنس الواحد المشترك فيها، فلا يضاف الزبيب إلى التين، ولا يضافان إلى الزيتون، ولا جميعها إلى التمر، ولا الزيتون إلى الجلجلان، ولا جميع ذلك إلى ذريعة الكتان إن قلنا: إن فيها الزكاة، وتضاف الحنطة إلى الشعير، ويضاف السلت إليهما، والزبيب والتمر والزيتون تضاف أنوع كل جنس منها بعضها إلى بعض. واختلف في إضافة العلس وهو الإشقالية إلى الحنطة، وما يضاف إليها، أو كونه منفردا بنفسه. واختلف أيضا في الأرز والذرة والدخن، هل يضاف بعضها إلى بعض أم لا؟ والنص ها هنا على أن القطاني صنف واحد، يضم بعضه إلى بعض. وأما في حم الربا فعلى روايتين، واختلف متأخرو الأصحاب في [جريانها] في حكم الزكاة أو [تخصيصها] بملحها]. قال (القاضي أبو الويد): " وهذا الظاهر من الموطإ ". قال: " والأظهر عندي أن يكون كل صنف منها صنفا منفردا لا يضاف إلى غيره من الزكاة والبيوع، ولا يكمل ملك رجل بملك غيره، ولا يضم حمل نخلة إلى ملها الثاني ". وما اتفق في الزرع والنبات والحصاد من الجنس الواحد أضيف بعضه إلى بعض، وكمل منه النصاب. وما كان له بطنان أو بطون، فقيل: يعتبر بالفصول، فيضاف ما نبت منه في زمن واحد بعضه إلى بعض، كالصيفي والربيعي والخريفي، لاجتماعه في السقي والمنفعة. وقيل: ينظر إلى ما اتفق في زمن النبات، كالاتفاق في الحول والملك في الفوائد، فيضاف منه ما زرع ونبت قبل حصاد ما قبله إليه.

وإذا فرعنا على هذا القول الثاني، فكان الزرع في ثلاثة أزمان، فإن زرع الثالث قبل حصاد الأول ضم الكلم بعضه إلى بعض، وإن زرعه بعد حصاه وقبل حصاد الثاني وجبت الزكاة إن كانت إضافة كل واحد من الطرفين منفردا إلى الوسط تكمل النصاب، ولم تجب إن كان لا يجتمع من مجموعهما معه نصاب. وفي الوجوب إذا (كمل) النصاب من اجتماع الوسط مع الطرفين جميعا، ولم يكمل بضم أحدهما منفردا إلى الوسط، خلاف. وقد أجراه الشيخ أبو الطاهر على الخلاف في مسألة خليطي شخص واحد، هل يعدان خليطين أم لا؟. الطرف الثاني: في الواجب. وهو العشر فيما سقت السماء، ونصف العشر فيما سقي بنضح أو دالية، وما شرب سيحا أو بعروقه، فهو كما سقت السماء. ولو كان يشرب بالسيح لكن رب الأصول لا يملك ماء، وإنما يكتريه له، فهو كالسماء على المشهور. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح. ولو اجتمع السقيان على تساو وجب أداء ثلاثة أرباع العشر، وقيل: ينظر إلى ما حيي به الزرع، فيعلق الحكم عليه. وإن كان أحدهما أكثر واعتبر في المشهور. وقال القاضي أبو محمد: " يتخرج فيها قول آخر: أنه يوزع عليهما ". قال: وقال ابن القاسم: يعتبر ما حيي به الزرع، ويجب أن يخرج العشر من جنس المعشر ونوعه. ثم إن كان حبا أخذ من عينه صنفا واحدا كان أو أصنافا. وأما التمر، فإن كان صنفا واحدا (من وسط) التمر أخذ منه، وإن كان من أعلاه أو أدناه كالبرني أو الجعرور وما أشبههما، فمذهب الكتاب أنه يأخذ من أيهما كان، ولا يكلف المالك الوسط في الأدنى، ولا يقبل منه في الأعلى، بخلاف الغنم. وقال عبد الملك: إذا كان رديا كله لم يؤخذ منه، وكلف صاحبه أن يخرج من غيره، واعتبره بالماشية إذا كانت سخالا كلها. وكذلك أن كان جيدا كله قبل منه الوسط. وروى مثله ابن نافع.

فإن اختلف النوع على صنفين، أخذ من كل واحد بقسطه، ولا ينظر إلى الأكثر. وقال عيسى بن دينار: إن كان فيها أكثر، أخذ منه، فإن كانت ثلاثة أصناف، فروى ابن القاسم (أنه) يأخذ من الوسط منها. وروى أشهب أنه يأخذ من كل واحد بقسطه. الطرف الثالث: في وقت الوجوب. وهو الطيب من الثمار، واليبس في الحب، فينعقد بذلك سبب وجوب إخراج التمر والحب عند الجفاف (والتنقية). فإذا أزهى النخل، وطاب الكرم، وأفرك الزرع أو استغنى عن الماء، واسود الزيتونة أو قارب الاسوداد وجبت الزكاة. وقال المغيرة: تجب بالخرص، ورأى المصدق كالساعي في الماشية. وقال محمد بن مسلمة: وقت انعقد سبب الوجوب الجداد، فلا يحصل قبله. وفائدة الخلاف تظهر إذا مات المالك أو باع أو أخرج الزكاة، فعلى المشهور إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه، وإن كان جميعها خمسة أوسق. وقال المغيرة: بل إذا خرص عليه قبل موته، فذلك ثابت على ورثته يخرجون ذلك، ثم يرثون ما بعده، وإن مات قبل الخرص، فإنما يخرص على ورثته، فمن صار له خمسة أوسق زكى. وكذلك لو باع بعد الطيب وقبل الخرص أو بعدهما وقبل الجداد لجرى الخلاف في وجوب الزكاة على البائع أو المشتري على ما قدمناه. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته عبد الخرص وقبل الجداد لم تجزئه لأنه أخرجها قبل وجوبها. ويدخل الخرص في التمر والعنب بعد بدو صلاحهما وطيبهما، ولا يدخل في الزيتون، وقيل: في الفرق وجهان: أحدهما: ظهور النبات في التمر والعنب، وتمييزهما عن الأوراق. والثاني: (وهو المشهور): وجود حاجة أهلهما إلى أكلهما من حين يبتدئ الطيب فيهما، وما كان على ساق فهو بمنزلة الزيتون. ولو احتيج فيما قلنا: إنه لا يخرص إلى الأكل منه قبل كماله، ففي خرصه قولان، سببهما الاختلاف المتقدم في الفرق بين ما يخرص وما لا يخرص. فرع: وصفة الخرص أن يقدر ما على نخلة نخلة رطبا، ويقدر ما ينقص لو تتمر، ثم يعتد بما يتبقى بعد النقص، ويضيف بعض ذلك إلى بعض، حتى يكمل الحائط، وكذلك في

العنب، وسواء في ذلك ما يتمر أو يتزبب، وما لا يبلغ إلى ذلك. وقال ابن الماجشون: يخرص ما لا يتمر ولا يتزبب على حاله، حكاه أبو الحسن اللخمي عنه. ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم، بخلاف حكمي الصيد، لأنهما كالمقومين. ولو خرص جماعة فاختلفوا، أخذ بقول أعلمهم، فإن استووا، أخذ من قول كل واحد منهم جزء سمي لعددهم، كثلث إن كانوا ثلاثة، أو ربع إن كانوا أربع، وشبه ذلك. ولا يترك الخارص شيئا. وروى بعض المدنيين، أنه يخفف في الخرص، ويترك العرايا [والصلات]، ونحوهما. وأجرى أبو الحسن اللخمي الخلاف في ذلك على الاختلاف في وقت انعقاد سبب الوجوب. ومهما تلف بجائحة فلا ضمان على المالك لفوات الإمكان، فإن أن بإتلافه ضمن قدر الزكاة. ثم إذا ضمناه نفذ تصرفه في الجميع، فلو باع الجميع غرم مكيلة الزكاة، وقيل: [تؤخذ] من ثمنه. فلو فلس البائع والثمرة بيدة المشتري، أخذ منه حق المساكين، ويرجع هو على البائع بما ي خص ذلك من الثمن. وقيل: لا يؤخذ من المشتري شيء. ومنشأ الخلاف: هل المساكين كالشركاء، فيرجعون إلى عين شيئهم أم لا؟. وإذا تبين خطأ الخارص، ورجع إلى ما تبين إذا كان غير عارف، وإن كان عارفا أخذ بقوله، ولم ينظر إلى ما حصل عند الجداد. وقال ابن نافع: بل يرجع إلى ما تبين. وقيل: يلزمه إخراج الزيادة، ولا يصدق في النقص. فرع: قد بينا أن مشروعية الخرص في النخل والكرم على المشهور لحاجة أهلهما إلى أكلهما حال رطوبتهما، فإذا خرص ذلك خلى بينه وبين أهله، فإن شاؤوا أكلوا أو باعوا، وضمنوا حصة الفقراء من حين الخرص، ولا يطرح لهم ما يخرجونه من الأجر؛ إذ يلزمهم تخليص حصة الفقراء، وإن شاؤوا تركوه، ولم يضمنه، ثم تؤخذ الزكاة مما وجد، وافق قول الخارص أو خالفه، فإن نقص عن مقدار النصاب فلا زكاة فيه. الطرف الرابع: في كيفية الإخراج. ويؤخذ عن الحب الذي لا يعصر منه، وكذلك التمر والزبيب.

النوع الثالث: زكاة النقدين، والنظر في قدر الموجب وجنسه

فأما ما لا يتمر من الرطب، ولا يتزبب من العنب، ولا يجف من التين، فقال في الكتاب: " يؤخذ من ثمنه، وإن بيع بأقل مما تجب فيه الزكاة بشيء كثير إذا كان خرصه خمسة أوسق، وإن نقص عنها لم ي جب فيه شيء وإن بيع بأكثر مما تجب فيه الزكاة بأضعاف ". وقيل يخرج من كامله، ويجزي من ثمنه، وقيل: لا يخرج من ثمنه مع القدرة على الكامل، وقال ابن المواز: لا يخرج إلا ثمنا، وأما الزيتون، فمن زيته. واختلف فيما يعصر من الحب، فقيل: من دهنه كالزيتون، وقيل: كالذي لا يعصر، وقيل: بإجزاء الأمرين. النوع الثالث: زكاة النقدين، والنظر في قدر الموجب وجنسه. أما القدر فنصاب الورق مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا، وفيهما ربع العشر، وما زاد فبحسابه، ولا وقص فيهما. وأن نقص عن النصاب نقصانا بينا لم تجب الزكاة، وتفسير البين باتفاق الموازين عله في قول، وبأنه لا يجوز به بجواز الوازنة في آخر. وبالتفسير الثاني فسره في المختصر. وقيل: بنفي وجوبها مع النقص، وإن كان غير بين، وحكى رواية. ويعتبر النصاب في جميع الحول إلا في نماء المال، فالاعتبار بحول أصله وإن كمل النصاب به في آخر الحول. ويكمل نصاب أحد النقدين بالآخر، وجيد الصنف برديئه، بالوزن في الجميع، لا بالقيمة كما ظنه بعض الناس. فحكى عن مالك أنه إن كان نقد البلد قراضة ومعه مائة وخمسون تروج بمائتين مكسرة وجبت الزكاة، وليس هذا بقول لمالك، ولا نقله أحد من أصحابه عنه، بل صرح المتأخرون منهم بنفيه، وقالوا: " إنما رأوا في الموطإ أنها إذا نقصت وكانت تجوز بجواز الوازنة وجبت الزكاة، فظنوا النقص في المقدار، والجواز في الصفة، لأنها بارتفاع ثمنها تلقح بالوازنة.

قالوا: وهذا الذي ظنوه باطل قطعا، وليس هو مراد أهل المذهب، وإنما مرادهم أنها ناقصة نقصانا لا يتشاح في مثله في العادة. ثم يخرج من كل من الذهب والورق بقدره ". ونص في المختصر على " جواز الإخراج من أيهما كان عنهما ". وقال ابن كنانة: يخرج الورق عنهما دون الذهب، وقال سحنون: إخراج الفضة عن الذهب أجوز من إخراج الذهب عن الفضة. ثم في الاحتساب به على الصرف الأول أو الحاضر أو الأكثر منهما خلاف، والأول اختيار الشيخ أبي بكر، والثاني قول ابن المواز، وهو رأي ابن القاسم وابن نافع، والثالث قول ابن حبيب. ولا زكاة في الدراهم المغشوشة، ما لم يكن قدر نقرتها نصابا، كان الغش قليلا أو كثيرا. قال القاضي أبو محمد: " إلا أن يكون مما لا حكم له، كما يقول أهل الصنعة: إنه لا يأتي الضرب إلا به، كالدانق في العشرة وما أشبهه ". النظر الثاني: في جنسه. ولا زكاة في شيء من نفائس الأموال سوى النقدين، وهو منوط بكونهما متهيأين للنماء، فلو اتخذ منهما حلي، فجوهرهما يقتضي وجوب الزكاة، وصورتهما تقتضي إسقاطها، إذ [صار] بالصياغة كالعروض. لكن غلب مالك في الحلي المتخذ على قصد استعمال مباح حكم الصورة، فأسقط الزكاة عنه بشرطين، وهما: الصياغة المباحة، ونية اللبس المباح، فلو كان على قصد استعمال محظور، كما لو قصد الرجل بالسوار أو الخلخال أن يلبسه، أو قصدت المرأة ذلك في السيف، لم تسقط الزكاة؛ لأن المحظور شرعا كالمعدوم حسا، بل لا تسقط إذا قصد أن يكنزهما حليا؛ لأن الاستعمال المحتاج إليه لم يقصده. ولو قصد إجازتهما ففي سقوط الزكاة بذلك روايتان، ينظر فيهما بقاء العين، وهو يلحقه بالمقتني، أو النماء، وهو يلحق بما اتخذ للتجارة. وخصص ابن حبيب سقوط الزكاة بأن يصدر الكراء عمن أبيح له الانتفاع بما أكرى دون غيره. فقال: لو اتخذ الرجل حلي النساء للكراء، لم تسقط عنه الزكاة. ولو اشترى الرجل حلي النساء ليلبسه امرأة (له) أو ابنة غيرها، لا زكاة فيه، إذا كان

اللبس ناجزا، وإن أعده لامرأة إن تزوجها، أو لأمة يشتريها، أو لولد يستحدثه، فلا تجب الزكاة فيه عند أشهب وأصبغ. وقال ابن القاسم وابن عبد الحكم والمدنيون من الأصحاب: يزكيه، قال ابن حبيب:: وبه قول لأنه ليس من لباسه، ولا صار إلى ما أمل منه. وفي كون القصد الطارئ بعد (الصياغة) في هذه الأمور كالمقارن خلاف، ولو اتخذته عدة للدهر، لا ليبلسنه، ففيه الزكاة. ولو انكسر الحلي، واحتاج إلى إصلاح، فحبس له لم يجز في الحول، لأنه حلي بعد. ولو تهشم واحتاج إلى السبك وابتدأ العمل، فحال عليه الحول في أضعاف ذلك، ففيه الزكاة عند بعض الأصحاب، تشبيها له بالتبر. فرع: حيث أوجبنا في الحلي الزكاة، وكان منظوما بشيء من الجواهر، فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد، زكى ما فيه من الذهب أو الفضة زكاة العين وما فيه من الأحجار زكاة العروض، وإن يمكن نزعه إلا بفساد، فهل يغلب حكم الجواهر التي فيه، فيزكى زكاة العروض، أو يراعى الأكثر، فيعطى الحكم له، أو يعطى لكل نوع حكمه، فيتحرى ما فيه من العين فيزكى، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض؟ ثلاثة أقوال. فإن قيل: ما الانتفاع المحرم في عين الذهب والفضة؟ قلنا: أما الذهب فأصله على التحريم في حق الرجال، وعلى التحليل في حق النساء، أعني فيما يستعملنه الناس، أو ما في معنى اللباس، ما يتخذنه لشعورهن وأزرار جيوبهن، وأقفال ثيابهن، ونحو ذلك مما ي جري مجرى لباسهن. ويستثنى للرجل منه اتخاذ أنف إن جدع أنفه، وربط أسنانه (به) إن احتاج إليه، وتحلية المصحف، وفي تحلية السيف به خلاف. وأما الفضة، فحلال للنساء أيضا في اللباس وما في معناه كالذهب، ولا يحل للرجال إلا التختم بها، أو تحلية المصحف، وتحلية السيف خاصة من آلات الحرب، قاله ابن القاسم، ورواه. وقيل بالجواز في جميع آلات الحرب: السرج واللجام وغيره، وقال ابن حبيب: لا بأس باتخاذ المنطقة المفضضة والأسلحة كلها، ومنع ذلك في السرج واللجام والمهاميز والسكاكين، وما يتقى به ويتخذ للتحرز. فرع: قال أبو الحسن اللخمي: " ويختلف في زكاة حلي الصبيان، فقال ابن شعبان:

النوع الرابع: زكاة التجارة والفوائد والديون

فيه للزكاة، قال: " والظاهر من قول مالك لا زكاة فيه لأنه قال: لا بأس أن يحرموا وعليهم الأسورة "، قال: " وإذا جاز لهم لباسه لم تكن فيه زكاة ". أما في غير الحلي وما في معناه كالأواني، فقد حرم الشرع اتخاذها من الذهب والفضة على الرجال والنساء، وكذلك المكاحل والمرايا المحلاة وأقفال الصناديق والأسرة والمذاب والمقدمات وشبه ذلك، لا يجوز اتخاذ شيء من ذلك من ذهب أو فضة، ولا تحليته بشيء منهما، لا للرجال ولا للنساء. قال الشيخ أبو إسحاق: وما جعل في ثياب الرجال أو في الجدر من تنبيت الورق، فإن كان يمكن أن ي خرج عنه منه ماله قدر يفضل على أجرة عامله زكى إن كان فيه نصاب، أو كمل به النصاب، ذهبا كان أو ورقا. وتحلية غير المصحف من الكتب لا تجوز أصلا، وكذلك تحلية الدواة والمقلمة. أما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل وعلائقها، والصفائح على الأبواب والجدر وما أشبه ذلك بالذهب والورق، فقال الشيخ أبو إسحاق: يزكيه الإمام لكل عام، كالمحبس الموقوف من الأنعام، وكالموقوف رمن المال العين للقرض على سائر الأيام. وقد تقدم اختيار عبد الحق لخلاف هذا القول. النوع الرابع: زكاة التجارة والفوائد والديون. وفيه ثلاثة أبواب: الأول: في زكاة التجارة. وهي تتعلق بعروض التجارة على وجهين: أحدهما: ترصد الأسواق وزيادتها من غير إدارة، فلا تجب فيها الزكاة حتى تباع، فيزكى ثمنها بعد حول على أصلها أو أحوال، ولا تقوم على ربها وإن أقامت أحوالا، ولو أطاع بالإخراج قبل البيع لم يجزئه، وقيل: يجزيه. وكذلك الخلاف في إخراج زكاة الدين قبل حلوله. . الوجه الثاني: اكتساب العروض ليديرها، ويبيع بالسعر الحاضر ويخلفها، ولا ينتظر سوق نفاق يبيع فيه، ولا سوق كساد يشتري فيه، كفعل أرباب الحوانيت المديرين. فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يكون حوله، فيقوم فيه ما عنده من العروض، ويضيفه إلى ما معه من عين، ويزكي الجميع، وكذلك بعد كل عام.

وهذا الشهر هو رأس الحول من يوم زكاة المال قبل الإدارة به، أو من يوم استفادته إن كان حول ذلك كله واحدا. وقال أشهب: ابتداؤه من يوم أخذ في الإدارة، فإن اختلفت أحواله، فعلى حسب اختلاف أصحابنا في ضم أحوال الفوائد بعضها إلى بعض كما سيأتي. ثم هل تزكى العروض لاختلاط أحوال أثمانها وهو المشهور؟ أو لأنه لما أكثر الإدارة بها صارت في حقه كالعين وهو الشاذ؟ ويتفرع على تعيين العلة ما لو باع العروض بعضها ببعض ولم تنض له عين أصلا، فعلى المشهور لا يجب عليه التقويم، والشاذ: وجوبه، ثم هل خير عوضا بقيمته إذ جعل العرض في حقه كالعين، أو يبيعه ويخرج عينا؟ قولان. (وإذا فرعنا على المشهور، فلا ينتقل بذلك (عن) حكم الإدارة، ورأى أشهب وابن نافع: أنه خرج ببيعه بالعروض عن حكم عن الإدارة). وإذا فرعنا على الأول فمتى نص له ولو درهم واحد قوم عند رأس الحول وزكى، قاله، ابن القاسم. وقال القاضي أبو محمد: " إنما يراعى حصول العين في آخر الحول ". قال القاضي أبو الوليد: " وهو الأولى ". وقيل: لا يزكى حتى ينض له مقدار النصاب فيزكيه، ثم كلما نض له سيء زكاة، نصابا كان أو دونه، وهو مقتضى قول أشهب وابن نافع؛ إذ هو إخراج له عن حكم الإدارة. (ولو بار عرض المدير، فالنص أنه يقوم عرضه الباير ودينه المحتبس. وقال ابن الماجشون: لا يقوم شيئا من ذلك، ويبطل فيه حكم الإدارة، وتابعه عليه سحنون). وإذا فرعنا على قولهما، فلم يحد ابن الماجشون لذلك حدا. (وقال سحنون: إذا برا عامين بطل فيه حكم الإدارة، وروى مثله ابن مزين عن ابن نافع). ولو كان بعض المال مدارا وبعضه غير مجار، وكانا مستويين، أعطي كل نوع حكمه، وإن اختلفا، فقيل: حكمه كالأول، وقيل: الأقل تبع للأكثر. وقيل: المدار متبوع إن كان أكثر، ولا يكون تابعا وإن كان أقل، احتياطا للزكاة.

ويزكي المدير ما قصد به النماء من الدين، كدينه من بيع إن كان يرجوه. وقال المغيرة: " لا يزكيه حتى يقبضه ". والمعتبر في زكاة الحال منه العدد إن كان عينا، وإن كان عرضا فالقيمة، وفي زكاة المؤجل القيمة. وفي إيجاب زكاة ما كان لغير النماء طريقتان للمتأخرين إحداهما: أنه لا خلاف في المذهب أنه لا يزكي؛ وقال بها القاضي أبو الوليد، والثاني: أن المذهب على قولين. وسبب الخلاف: إطلاق القول في الكتاب بزكاة المدير دينه، وتقييده في غيره بما كان من بيع. واختلف المتأخرون أيضا في تقويمه ماله من طعام دينا من بيع. وسبب الخلاف: هل يلتحق ببيع الطعام قبل قبضه أم لا؟ قال الشيخ أبو الطاهر: " ويحتمل أن يكون الخلاف في هذا على الخلاف في القسمة، هل هي بيع أم لا "؟. واختلفوا أيضا في تقويم آلاته ومواعينه، كأنوال الحائك وآلات العطار، وما أشبه ذلك. وسبب الخلاف: النظر إلى دوام أعيانها، وكونها غير متجر بها، أو إلى كونها معينة على السلع المدارة؟ قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا يجري على الخلاف فيما اشترى من السلع للكراء "، قال: " وفي ذلك قولان ". والمعروف من المذهب أن الأرباح تزكى على حول الأصول، كالأولاد مع الأمهات، وتقدر عند ابن القاسم كالموجودة يوم الشراء بالمال حتى يضاف إليها ما في يده، وقال أشهب: يوم حصولها، وقال المغيرة: يوم ملك أصل المال. وعلى هذا الخلاف تخرج مسألة الكتاب فيمن ملك عشرة دنانير، فخال عليها الحول فأنفق فيها خمسة، واشترى بخمسة سلعة فباعها بخمسة عشر، فابن القاسم يوجب الزكاة إن تقدم الشراء على الإنفاق، ويسقطها إن تقدم الإنفاق. وأشهب يسقط الزكاة مطلقا، والمغيرة يوجبها مطلقا. ومنشأ الخلاف ما تقدم.

ولو كان الربح عن مال استسلفه فبقي في يديه إلى آخر الحول، ثم اشترى به سلعة، ولا عوض له عنده، فقال ابن القاسم: يزكي الربح، ورواه ابن نافع وعلي. وقال المغيرة: يأتنف به حولا. ولو اشترى بمائة دينار بيده قد حال عليها الحول، ثم باع قبل أن ينفد فربح، فروى ابن القاسم أنه يزكي الربح مع ماله الذي كان بيده. وروى أشهب أنه يأتنف بالربح حولا، فقال محمد: هذا أحب إلينا، ولكن يكون حول الربح من يوم أدان واشترى. قال ابن القاسم: وإلى هذا رجع مالك: أن حول الربح من يوم أدان الأصل، لأن ثمنها في ذمته، والمائة التي بيده لم تصل إلى البائع ولا ضمنها، ونيته أن ينقدها في غد أو إلى شهر سواء. ولو اشترى على ذمته، وليس عنده ما ينقده فربح فيها بعد أن قامت بيده حولان فليزك الربح مكانه، رواه أشهب، قال: ولو كان عنده عرض لزكى قدر ما يفي به، قال: ولم يراع مالك متى ملك العرض. ولا زكاة في عروض القنية، ولو نوى بها التجارة لم تنتقل بمجرد النية، وقيل: تنتقل بمجرد النية. ولو اشتراها بنية التجارة، كانت للتجارة. وقيل: ما لم يكن المبدول فيها عرض قنية. ثم لو نوى بها القنية انتقلت بمجرد النية لعودها إلى الأصل، فلو عاد ونوى بها التجارة، ففي انتقالها بمجرد النية إلى حكم التجارة أو بقائها على حكم القنية روايتان، ينظر في الأولى إلى ما كنت عليه قبل النية، وفي الثانية إلى الأصل. فرع: لو نوى في العروض وجهين كقنية وإجارة، أو تجارة وإجارة، أو تجارة واستمتاع بالاستخدام والوطء، أو إجارة واستمتاع بالاستخدام والوطء، فحكى أبو الحسن اللخمي في الاستئناف بالثمن حولا، أو بنائه على حول الأصل الذي اشترى به، قولين. وما اكتري ليكرى زكيت أجرته لحول أصله. وغلة ما اشترى للكراء أو للقنية فائدة يستقبل بها الحول، وكذلك غلة ما اشترى للتجارة، وروى أنها تزكى لحول أصلها. وأما غلة الأراضي، فإن كانت الأرض مكتراة للتجارة، والزرع للتجارة، زكي ما يخرج منها إن كان نصابا، وإن كان دونه زكى ثمنه، ثم يستقبل بالثمن حولا من يوم زكاة عينه أو ثمنه. وإن كانا للقنية استقبل بالثمن حولا، كان المبيع نصابا أو دونه. وإن كان أحدهما للتجارة والآخر للقنية، فما أعطي له حكم الزرع نظر إلى كونه للتجارة

أو للقنية، فاتبعه الزرع. وقيل في حكم الزرع: إنه للأرض، وقيل: للبذر وللعمل. وحكي عن أبي محمد عبد الحميد: " أنه يفض على الثلاثة، فعلى هذا من ما ناب ما هو للتجارة اعتبر حكمه فيه ". ولو اشترى أصولا للتجارة فأثمرت، فإن قلنا بأن الغلات فوائد، استقبل بالثمن حولا، كانت مما تجب الزكاة في عينها أم لا. وإن أوجبنا الزكاة على حكم الأصول بنهى أثمانها إذا باعها على حول الأصول، إن لم تجب الزكاة في عينها لقدرها أو لجنسها، وإن وجبت الزكاة في عينها عد ابتداء حول ثمنها يوم زكاها. وإن كان مال التجارة عبدا، وجب إخراج زكاة الفطر عنه مع زكاة التجارة. فإما لو كان مال التجارة نصابا من الماشية، لوجبت زكاة العين دون زكاة التجارة. ولا تمتنع على التاجر التجارة لعدم إخراج الزكاة. فصل به اختتام الباب: إذا كان واحد من العامل ورب المال مخاطبا على انفراده بالزكاة فيما يخصه، وجبت الزكاة عليهما. وإن لم يكن فيهما من يخاطب بها لكونها عبديين أو ذميين، أو لقصر المال وربحه عن النصاب، ولا يملك ربه غيره، فلا زكاة على واحد منهما. وإن كان أحدهما ممن يخاطب بها دون صاحبه، فروى أشهب أن المعتبر حال رب المال، لأنه يزكي على ملكه، فإن خوطب بها وجبت في ربح العامل من غير اعتبار بحاله. وفي كتاب ابن المواز: يعتبر حال العامل في نفسه، فإن كمل له النصاب، وكان ممن يخاطب بالزكاة، وجبت عليه، وإلا فلا. وقال ابن القاسم: " يراعى أمرهما جمعيا "، فمتى توجه سقوطها عن أحدهما سقطت عن العامل في الربح. ولا يجوز اشتراط زكاة المال على العامل، ويجوز اشتراط زكاة الربح على كل واحد منهما، لأنه يرجع إلى جزء مسمى. وقيل: لا يجوز اشتراط حصة العامل على رب المال لاختلاف الحال؛ إذ قد تتوجه الزكاة على العامل، وقد لا تتوجه. وإذا فرعنا على المشهور فتفاصلا قبل حول، أو كان ذلك لا زكاة فيه، فلمشترط الزكاة على صاحبه أن يؤخذ ربع عشر الربح لنفسه، ثم يقتسمان ما بقي، كما لو شرط لأجنبي ثلث

الربح، فيأبى من أخذه، فهو لمشترطه منهما. قال سحنون: وقد روي أيضا أنه لا يجوز اشتراط زكاة الربح على واحد منهما. ولا يخرج العامل الزكاة إلا بعد الانفصال، ولو أقام أحوالا، وإن كان المال في يده عينا عند حلول الحول إذا كان غير مدير، وهو مخالف لحال رب المال. (قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا لأنهم حكموا في المذهب، بأن ما في يد العامل حكمه حكم الدين، لا يزكى قبل القبض ". وإذا كان العامل مديرا، وهو موافق لحال رب المال، ففي تقويمه لما في يده عند حلول الحول خلاف. وهل (يخرج) الزكاة بعد التقويم من المال، أو من مال رب المال؟ فأحرى ذلك أبو الحسن اللخمي على قولين. وإن كان حال العامل في الإدارة وغيرها مخالفا لحال رب المال، فأشار أبو القاسم بن محرز إلى إجرائه على الخلاف في الرجل إذا كان له مالان، أحدهما مدار، والآخر غير مدار). وإذا لم يزك حتى مرت أحوال لأنه غير مدير أو حيث قلنا: إن المدير لا يقوم، ففي قصر الزكاة على سنة واحدة، أو إيجابها لما تقدم من السنين خلاف، سببه: تشبيهه بالدين أو التفرقة بأن الدين لا نماء فيه، وهذا المال ينمى لربه. التفريع: إن قلنا: إنه يزكي لعام واحد، فالمعتبر (حالة) الانفصال، فيزكي الحاصل فيها. وإن قلنا: يزكي لكل عام، فإنه يزكي في كل سنة عن الحاصل عند انفصال إن استوى مقداره في جميعها، أو كان في ماضيها أكثر منه، فإن كان فيها أنقص منه زكى في كل سنة عما كان فيها. فإن اختلفت بالزيادة والنقصان بعضها مع بعض زكى الناقصة، وما قبلها على حكمها، وزكى الزائدة على حكمها، والناقصة قبلها على حكمها. مثال زيادة الحاصل أن يكون في أول سنة مائة، ثم في الثانية مائتين، ثم في الثالثة ثلاث

الثاني: في زكاة الفائدة

مائة، فإنه يزكي في عام عن الحاصل فيه، إلا ما نقصه جزء الزكاة. ومثال نقصان الحاصل: أن يكون ثلاثة مائة، ثم مائتين، ثم مائة، فإنه يزكي عن المائة للأعوام الثلاثة. ومثال الاختلاف: أن يكون في الأول مائتين، وفي الثاني مائة، وفي الثالث ثلاث مائة، فإنه يزكي عن مائة مائة في العامين الأولين، وعن ثلاث مائة للعام الثالث. ولا يستبد العامل بإخراج الزكاة إذا كان ربه غائبا، إذ يمكن موته أو تحمله لدين يسقط الزكاة عنه. الباب الثاني: في زكاة الفائدة والفائدة نوعان: الأول: نماء المال كالربح والولادة، وقد تقدم أن الزكاة تجب في هذا النوع تبعا لأصله في الحول، ولا يعتبر الحول في حقه بمفرده. النوع الثاني: ما خرج عن ذلك، وهو عبارة عن كل مال لم يتقدم ملك، ولا على أصله، ويستثنى من ذلك غلات السلع المقتناة؛ إذ لا شك في كونها فوائد وإن تقدم الملك على أصلها. وكذلك حكم غلات سلع التجارة على الخلاف المتقدم. ويندرج تحت ما ذكرناه جميع أنواع الفوائد من العطايا والمواريث، وما وجب في الذمم من أروش الجنايات، وأثمان السلع المقتناة، وأنواع الغلات. وفي كتابة المكاتب خلاف ينبني على أنها ثمن لرقبته، فينظر هل هو للتجارة أو للقنية؟ ويجري على حكم ما تقدم، أو هي كالغلات، [فتجري] على أحكام الغلات، وقد تقدمت أيضا. وهذا النوع يعتبر الحول في حقه، ولا يبنى على حول غيره، فيستقبل بهذه الفائدة الحول بعد قبضها، فلو ملكها بميراث مثلا استقبل بها الحول من يوم قبضه لها أو قبض وكيله إذا أتاه بها. وفي حبس الوكيل لها أعواما خلاف، هل تزكى لعام واحد، أو لأعوام؟. والمشهور أن قبض وكيله كقبضه، وإن لم يقبضها هو ولا وكيله، ولا وقفت له ولم يعلم بها استقبل بها حولا من يوم قبضها على المنصوص. وفي إقامة إيقاف الحاكم لها أو علم صاحبها بها مقام قبضه أو قبض وكيله، قولان.

الثالث: في زكاة الدين

ثم إذا أقيم مقام ذلك، فهل يؤدي زكاتها لعام أو لأعوام؟ فيه قولان أيضا. وكذلك الوصي للصغار إذا قبض لهم، وللكبار مها هو مشاع بينهم، يجري فيه الخلاف أيضا. وإذا قبضها المالك، أو من قبضه كقبضه، فإن كان فيها نصاب، أو كان عند الملك ما تكمل به نصابا، زكاها عند انقضاء الحول، فإن لم تكمل بنفسها ولا بغيرها، ولم يزكها. ولو ملك فائدتين مجموعهما نصاب، ضم الأولى إلى الثانية، واستمر الحول من حينئذ. وقيل: يزكيها لحول الثانية أول عام، ثم يبقي كطل فائدة على حولاه. وأما لو أفاد نصابا ثم أفاد بعده دونه، فزكى النصاب لحوله والناقص لحوله ثم دابر الحول، فلا يضمه إلى الفائدة الثانية لنقصه بجزء الزكاة، بل يزكيه على حوله، والثانية على حولها إلى أن يصيرا جميعا دون النصاب، وقيل: يضمه إلى الثانية. ولو اعتبر الأولى عند حولها فوجدها مع الثانية دون الناصب، ثم اعتبرها عند حول الثانية فألفها كذلك، ثم تجر (فيهما) بعد ذلك) رجعا إلى حول واحد، وهو يوم كمال النصاب فيهما، فزكيتا فيه، وصار حولهما منه. ولو أفاد عشرة دناني، فأقامت في يده ستة أشهر، ثم استفاد عشرة أخرى، فأقمت بيده ستة أشهر أيضا، ثم أنفق الأولى أو ضاعت، وبقيت الثانية إلى تمام الحول، لم تجب الزكاة عند ابن القاسم؛ إذ لم يكمل عنده نصاب حال عليه الحول. وأشهب يوجبها، هذا حكم فائدتي العين. فأما فائدتا الماشية، فإن كانت الأولى دون النصاب، أضافها إلى الثانية كالعين، وإن كانت نصابا، ضم الثانية إليها، وزكاهما لحولهما، بخلاف العين، ومذهب ابن عبد الحكم: أنه يستقبل بها حولا كالعين. واختلف في الفرق على المشهور، فقيل: لأجل السعاة، وقيل: لأجل الأوقاص، وعلى تحقيق الفرق يخرج حكم من لا سعاة لهم. الباب الثالث: في زكاة الدين كل دين ثبت في ذمة ولم يخرج إليها إليها من يد من هو له ولا بدل عنه، فلا زكاة فيه على الإطلاق، حتى يحول عليه الحول بعد قبضه. وإن كان خرج هو أو بدل عنه ليس بعرض قنية عن يد المالك إلى ذمة، فلا يزكيه ما دام في تلك الذمة، حتى قبضه بعد عام أو أعوام ما لم يكن مديرا، فقد تقدم حكمه، فإن قبضه

وكان نصابا أو مضافا إلى مال عنده جمعهما الحول، وكمل بهما النصاب، زكاة زكاة واحدة، ثم يزكي ما يقبض بعد من قليل أو كثير. وحول كل مال منه يوم يزكيهن فلو قبض منه عشرة لا يملك غيرها، ثم قبض عشرة أخرى لكان حول الجميع من يوم قبض الأخيرة؛ إذ لا تجب فيه الزكاة إلا بعد القبض. وقيل: إن حول كل واحدة من يوم قبضها، تفريعا على أن الزكاة واجبة قبل القبض، إنما أخرت خشية ألا يقبض. ولو اقتضى عشرة فضاعت، ثم اقتضى عشرة أخرى، ففي وجوب الزكاة خلاف. وأما لو أنفق العشرة، فالزكاة واجبة على المعروف من المذهب بغير خلاف منصوص؛ لأنه نصاب جمعه ملك وحول أنفق بعضه مختارا، فيكون كالمفرط في إخراج الزكاة بعد الحول، فتجب في ذمته، ورأى بعض المتأخرين جريان الخلاف فيها كالأولى. ولو كان الدين من ثمن سلعة للقنية استقبل به حولا بعد قبضه إن بيعت بنقد، وإن بيعت بنسيئة في ابتدءا الحول من يوم القبض أو يوم البيع؟ خلاف. ولو اختلطت (عليه) أحوال الاقتضاءات أضاف الآخر منها إلى الأول، لأن أكثر العلماء يوجبون الزكاة في الدين وإن لم يقبض. ولو اختلطت أحوال الفرائد رد الأولى منها إلى الثانية، وقيل: برد الثانية إلى الأولى. ولو لم يكن لرب الدين غيره، فاقتضى منه دينارا ثم آخر، فاشترى بالأول سلعة، ثم بالثاني كذلك، فباع السلعة الأولى بعشرين دينارا، والثانية كذلك مثلا، زكى عن أحد وعشرين دينارا إن أن شراؤه بالدينار الثاني بعد أن باع السلعة الأولى، وإن كان شراؤه بالثاني قبل أن يبيع، زكى الأربعين لحصول سبب الربح قبل وجوب الزكاة، ولو كان شراؤه بالثاني ثم بالأول قبل أن يبيع، زكى الأربعين على المشهور. قال الشيخ أبو الطاهر: " وأما على قول أشهب الذي يرى النصاب إذا كمل بالثاني بقي الأول على حوله وإن كان دون النصاب، فينبغي أن لا يزكي إلا أحدا وعشرين لأن الغيب كشف أنه إنما اشترى بالأول بعد أن وجبت فيه الزكاة ". وأما إن كان شراؤه بالأول بعد بيعه لما اشتراه بالثاني، فليزك عن أحد وعشرين. ولنتم المقصود من البابين الأخيرين بذكر فروع ممتزجة منها، فنقول: (إذا اجتمعت اقتضاءات وفوائد، وقد اجتمعت الفوائد وأصل الديون في ملك وحول، فإن استقل كل نوع بتمام النصاب فيه لم يضف حول أحد النوعين إلى الآخر، إلا أن يتفق حلول حول الفائدة ووقت الاقتضاء.

وإن قصرت عنه منفردة، وأكملته مجموعة، أضيفت الفوائد إلى ما بعدها من الاقتضاءات، والاقتضاءات إلى ما قبلها، لأن الدين حال الحول على أصله. وإنما أخر زكاة ما اقتضى منه وإن كان دون الناصب إما خوفا أن لا يقتضى ما بعده، وإما لأنه لا يعد متقررا في ملكه إلا بعد اقتضائه، فإذا اقتضاه تبين وجوب الزكاة فرده إلى ما قبله، والفوائد لم يحل علها حول فيضيفها إلى ما (بعدها) مما حال عليه الحول. مثال ذلك: أن يقتضي عشرة ثم عشرة، فإنه يزكي الثانية، أنفق الأولى أو أبقاها، وإن استفاد عشرة ثم اقتضى عشرة، فلا يضيف الفائدة إلى الدين إلا أن تبقي في يده حتى يحول عليها الحول عند أشهب، أو حتى يقتضي عند ابن القاسم على اختلافهما في المال إذا جمعه ملك، ولم يجمعه حول. وإن اجتمعت فوائد وديون، ولو أضاف الفوائد منفردة إلى ما بعدها لم يحصل منها نصاب. وكذلك لو أضاف الدين إلى ما قبله، لكن يكمل النصاب بإضافة الجميع بعضه إلى بعض، ففي إيجاب الزكاة قولان للمتأخرين). مثاله: لو اقتضى عشرة، ثم استفاد عشرة، ثم اقتضى خمسة بعد أن أنفق العشرة التي اقتضى أولا، فمن اعتبر إضافة الخمسة إلى العشرة الأولى أسقط الزكاة، وكذلك إن أضيفت الفائدة إليها، ومن اعتبر إضافة الخمسة إلى ما قبلها من الاقتضاء، وإضافة ما قبلها من الفائدة إليها، وعدها كالوسط بينهما أوجب الزكاة، ثم ذلك في الخمسة خاصة لأنها تزكى بالمالين. قال الشيخ أبو الطاهر: " إنما اختلفوا في إيجاب الزكاة فيها خاصة "، قال: " وسمعنا في المذكرات وجوب الزكاة في الجميع عند بعض الأشياخ، قال: وهو مقتضى ما عللناه ". وكذلك لو اقتضى عشرة ثم أفاد عشرة ثم اقتضى دينارا، فيجري الخلاف في الدينار أو في الجميع على ما تقدم. ولو كان الاقتضاء عشرة وجبت الزكاة، في الجميع لأنك كيفما أضفت على الانفراد أو على الاجتماع وجبت الزكاة، وهذا الخلاف يشبه ما تقدم في خليط الخليط، هل هو خليط أم لا؟ النوع الخامس: زكاة المعادن، وخمس الركاز.

الفصل الأول: في زكاة المعادن

وفيه فصلان: الفصل الأول: في زكاة المعادن وكل حر مسلم نال من المعدن نصابا من النقدين، ففيه ربع العشر، إلا أن توجد فيه ندرة، وهي التي لا يتكلف فيها علم، ففيها الخمس. وروى ابن نافع أنها كغيرها، وقيل: وإن كانت يسيرة، فهي كغيرها، وإن كانت (كثيرة)، ففيها الخمس. فرع: (إذا قلنا برواية ابن القاسم، فإن العمل المعتبر في تمييز الندرة من غيرها هو التصفية للذهب، والتخليص لها دون الحفر والطلب، فإذا كانت القطعة خالصة لا تحتاج إلى تخليص، فهي الندرة المشبهة بالركاز، وفيها الخمس، وأما إن كانت ممازجة للتراب، وتحتاج إلى تخليص فهي كالمعدن، وتجب فيها الزكاة، حكاه القاضي أبو الوليد عن الشيخ أبي الحسن. ثم ما يمد شيئا فشيئا، يجب ضم بعضه إلى بعض، كالذي يتلاحق من الثمار، ولكن الجامع ها هنا اتصال العمل، ولا يعتبر فيه الحول، ويكمل النيل بما يملكه من النقدين من الفوائد اوأموال التجارة، ويعتبر فيها الحول دونه. قال سحنون: ولا يكمل النصاب بضم ما يخرج من معدن إلى ما يخرج من معدن آخر، وكل واحد منهما كسنة مؤتنقة في الزرع. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعض المعادن إلى بعض، ويزكى الجميع كالزرع لسنة واحدة، فلو كان معه تسعة عشرة دينارا حال عليها حلو، ثم أصاب في معدن دينارا، زكى العشرين على المنصوص. قال أبو الحسن اللخمي: " وعلى قول سحنون، لا زكاة عليه قياسا على قوله في المعدنيين ". وهل يضم الذهب والورق كما في غير المعادن؟ قال الشيخ أبو القاسم: " يضاف أحد الصنفين إلى الآخر ". قال القاضي أبو الوليد: " أما على قول محمد بن مسلمة، يضم ما ي خرجد من أحد المعدنين إلى ما يؤخذ من الآخر، فبين أنه يضم الذهب من أحدهما إلى الورق من الآخر. وأما على قول سحنون، فبعيد أن يكون معدن واحد يخرج منه ذهب وورق ".

الفصل الثاني: في الركاز

وإذا عمل جماعة في معدن لرجل بنصيب مما يخرج، وأجزنا ذلك على أحد القولين، فهل يكونون كالشركاء في الزرع، يعتبر النصاب في حق كل واحد على انفراده، أو تجب الزكاة بدون ذلك؟ فيه خلاف. وكذلك لو كان العامل عبدا أو ذميا، ففي وجوب الزكاة في الخارج خلاف منشؤه أنهم كالأجراء أو كالشركاء. الفصل الثاني: في الركاز وهو [دفن] أهل الجاهلية، وفيه الخمس. والنظر في جنسه وقدره، ثم في موضعه. النظر الأول: في جنسه وقدره. أما جنسه فروي تخصيصه بجنس النقدين، وقال بها ابن القاسم وابن المواز. وروي تعميم الحكم في جميع ما يوجد من النحاس والخرثى واللؤلؤ والطيب وغير ذلك. واختاره أيضا ابن القاسم، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن نافع. وأما قدره، فقال في الكتاب: " في العين يخمس وإن كان يسيرا ". وفي كتاب ابن سحنون: لا خمس فيه. ومواضعه أربعة: الأول: أرض الحرب، وما وجد فيها فهو للجيش الذين وصل واجده إليه بهم. الثاني: أرض العنوة، وما وجد فيها فهو للجيش وانقطع نسلهم، وكان كاللقطة "، ويفرق في المساكين. وقال أشهب: إن عرف أنه لأهل العنوة، فهو لمن افتتح البلاد إن عرفوا، وإلا فهو

لعامة المسلمين، وخمسه في وجه الخمس. الثالث: (أرض الصلح، قال ابن القاسم والمغيرة: ما وجد فيها فهو لأهل الصلح دون واجده. قال القاضي أبو الوليد: " وهذا إذا كان واجده من غير أهل الصلح، فإن كان منهم، فقد قال ابن القاسم: هول له، وقال غيره: بل هو لجملة أهل الصلح، وقال أشهب: إن علم أنه من أموال أهل الصلح كان لهم، وكان حكمه حكم اللقطة تعرف، فمن ادعاها منهم أقسم على ذلك في كنسيته، وسلمت إليه اللقطة. وإن علمت أنها ليست من أموالهم، ولا من أموال من ورثوه، فهو لمن وجده، يخرج خمسه). الرابع: (فيافي المسلمين، وما وجد في فيافي العرب والصحاري التي لم تفتح عنوة، ولا أسلم أهلها عليها، فهو لمن وجده، ويخرج خمس. وقال مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ: ما وجد من الركاز فهو لواجده، وعليه فيه الخمس، كان في أرض العرب أو أرض عنوة أو صلح). فروع: (لو وجد الركاز في موضع جهل حكمنه، فقال سحنون في العتبية: " هو لمن أصابه ". يريد، ويخمسه، ولو وجده عبده أو ذمي). فقال المغيرة: في كل ما وجد من الركاز من العين وغيره الخمس، وجده حر أو عبد أو ذمي، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، وقاله ابن نافع، وكذلك قال الشيخ أبو إسحاق. ومصرف الخميس إلى الإمام العدل. قال القاضي أبو الوليد: " وقد روى عيسى عن ابن القاسم عن مالك في مختصر ابن شعبان: إذا كان الإمام جائرا، يخرج الواجد له خمسه، فتصدق به، ولا يدفعه إلى من يعبث فيه، وكذلك ما فضل من المال عن أهل المواريث، ولا أعرف اليوم بيت مال، وإنما هو بيت ظلم، وكذلك العشر "، انتهى كلامه.

وما لفظه البحر ولم يتقدم عليه ملك لأحد، فهو لواجده، ولا خمس فيه. وإن تقدم عليه مالك لمعصوم، فهل يكون لواجده، لأنه في حكم المستهلك، أم مالكه؟ فيه خلاف. وكذلك ما ترك بمضعية في البر أو البحر، وعجز عنه ربه، ومر تاركات له. وقال القاضي أبو بكر: " إذا ترك الحيوان أهله بمضعية فقام عليه إنسان حتى أحياه، ففيه روايتان، إحداهما: أنه له ".، قال: " وهو الصحيح، لأنه لم تركه لغيره بقوله بقبضه، كان له، فكذلك إذا تركه بفعله. قال: أما لو كان بغير اختياره، كعطب البحر، والسلب، فهو لصاحبه، وعليه لجالبه كراء مؤنته ". النوع السادس: زكاة الفطر. وهي واجبة، واجبة، وحكى الشيخ أبو الطاهر قولان " بأنها سنة ". وقال القاضي أبو بكر: " عن مالك روايتان: إحداهما محتملة، والأخرى، قال: " زكاة الفطر فرض، وبذلك قال فقهاء الأمصار ". وتجب بغروب الشمس ليلة العيد في رواية، وبطلوع الفجر يومه في أرى، وبها قال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون. قال القاضي أبو بكر: " وهو الصحيح، بعد أن أشار إلى أن سبب الخلاف: أن الفطر الذي أضيفت إليه هل هو عند غروب الشمس من آخر رمضان، أو هو الفطر الذي يتعين بعد رمضان؟ وتجب بطلوع الشمس منه في قول جماعة من الأصحاب. وفي آخر تجب بغروب الشمس ليلة الفطر وجوبا موسعا، آخره غروب الشمس من يوم الفطر ". وسبب الخلاف: النظر إلى كونها طهرة الصائم من الرفث، أو إلى إضافتها إلى اليوم. ويلتفت في هذا على الخلاف في الزمن الذي بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، أو النظر إلى مجموع ما ذكر؟ وفائدته: وجوب الزكاة وسقوطها في حق المولود والمشتري والميت في هذه

الأوقات، وكذلك المعتق والمطلقة ومن أسلم). ثم النظر في أظراف: الطرف الأول: في المؤدى عنه. وكل من وجبت نفقته بسبب ملك أو قرابة أو زوجية، وجبت على المنفق زكاة الفطر عنه، ويستثني عن ذلك الكافر والباين الحامل. وقال ابن أشرس: لا تجب عن الزوجة، واختلف في مسائل. الأولى: من بعضه رقيق وباقيه، حر، (فروى ابن القاسم: إن على المالك بقدر نصيبه، ولا شيء على العبد). (وروى مطرف وابن الماجشون: أن جميع زكاة الفطر على المالك). وروى ابن حبيب عن أشهب: أنها عليهما. وأما المشترك بين اثنين، فقيل: يخرج كل واحد عنه نصف صاع. وروى ابن الماجشون: إن كل واد منها يخرج صاعا كاملا، وروى ابن القاسم: أن على كل واحد بقدر نصيبه فيه من الأرض رق، ولو كان بين حر وعبد، فعلى الحر نصف زكاته فقط، وقال مطرف وابن الماجشون: عليه الزكاة تامة. الثانية: أن يكون في العبد عقد حرية، فإن الزكاة واجبة على من هو محبوس بسببه، إلا المكاتب ففيه روايتان، سببهما: اعتبار النفقة، وهي عليه، أو النظر إلى مرجع الرقبة، وهو للسيد. الثالثة: العبيد تشتري للقراض، فالزكاة عنهم على رب المال، ولا يخرج ذلك من مال القراض، بل من غيره، وقال أشهب: إذا بيعوا نظر إلى الفضل، فإن كان ربع المال أو ثلثه، فقد صار للعامل ثمن المال أو سدسه إذا كان قراضهم على النصف، فعليه من الزكاة بقدر ما صار له من العبيد؛ لأنه قد كان له شريكا يؤمئذ. قال ابن حبيب: فعلى قول أشهب: تؤخذ الزكاة مما بيد المقارض، فإذا تفاصلا نظر إلى الربح، ثم تكون الزكاة على ما ذكر. قال ابن المواز: قول ابن القاسم في ذلك هو الصواب، لأن الزكاة ها هنا على الأبدان، لا على المال، والزكاة تجب قبل تمييز العامل حقه، ولا يصير له حتى يقبضه. ومنشأ الخلاف، النظر إلى العامل هل مالك قبل انضاض المال أم لا؟ وقد أشار إلى ذلك أشهب وابن المواز.

الرابعة: الموصي برقبته لرجل، وبخدمته لآخر. قال ابن القاسم في الكتاب: " الزكاة على الموصى له بالرقبة إذا قبل ذلك، كما لو أخدمه سيده رجلا، فإن الزكاة على السيد ". وقال ابن المواز عنه: هي على المخدم، لأنه المنتفع ناجزا، لا على من أوصى له بمرجع الرقبة كالنفقة. وقيل: إن طال زمان الخدمة، فالزكاة على المخدم، وإن قصر، فهي على مالك الرقبة. وتجب في كل واحد من المغضوب والآبق الزكاة، إذا كانت غيبته قريبة. وهو ترجى حياته ورجعته، فإن بعدت غيبيته ويئس منه، سقطت الزكاة عن سيده فيه. الطرف الثاني: في صفة المؤدي: وهي: الإسلام، الحرية، واليسار، فلا زكاة على كافر ولا رقيق ولا معسر، وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع، ولا وجد من يسلفه إياه. وقيل: هو الذي يجحف به في معاشه إخراجها، وقيل: من يحل له أخذها. ثم قيل فيمن يحل له أخذها: إنه الذي يحل له أخذ الزكاة، وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك. وعلى الأول يجوز أو يعطى لإنسان واد أكثر من صدقة إنسان واد، هو المشهور. وعلى الثاني لا يعطى أكثر من ذلك. وروى مطرف: أنه استحب لمن تولى تفرقة زكاته أن يعطي كل مسكين ما أخرج عن إنسان من أهله من غير إيجاب، وله إخراج ذلك على ما يحضره بالاجتهاد. قال في كتاب ابن المواز: ولو أعطى زكاة نفسه وحده مساكين لم يكن به بأس. وفي وجوبها على من له عبد لا يملك غيره، وعلى من عليه دين، خلاف. الطرف الثالث: في الواجب. والنظر في جنسه وصفته وقدره. فجنسه القوت، قال في الكتاب: " تؤدى من القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والدخن والزبيب والتمر والأقط ". وكذلك في كتاب محمد من رواية ابن القاسم وزاد ابن حبيب العلس، واختلف فيما عدا ذلك. فأما القطنية إذا كانت عيش أهل الموضع، ففي إجزائها روايتان: الإجزاء في مختصر ابن عبد الحكم، ونفيه في الكتاب.

وإما التين، فقال مالك في الكتاب: " لا يجزيه "، وكذلك في المختصر، وترجح فيه في المستخرجة ". وأما الدقيق، فقال مالك: " لا يجزي إخراجه ". وقال ابن حبيب: إنما ذلك للربع، فإذا أخرج منه بمقدار ما يريع القمح أجزأه، وقاله أصبغ. وأما السويق، فقال محمد: لا يخرج من السويق، وإن كان عيش قوم. وقال ابن القاسم: " يخرج منه ". وقال أشهب: لا يتعدى بها الأربعة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: الشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، إلا أن الشعير يدخل معه القمح والسلت، لأنهما من جنس واحد. ورأى القاضي أبو بكر " أن تخرج من عيش كل أمة، من اللبن لبنا، ومن اللحم لحما، ولو أكلوا ما أكلوا، فمساكينهم أشراكهم، لا يتكلفون لهم ما ليس عندهم، ولا يحرمونهم ما بأيديهم "، قال: " وغير ذلك فلا أدري ما هو "، والله أعلم. وصفته: غالب عيش البلد من ذلك، وقال أشهب: يراعى عيشه وعش عياله، إذا لم يشح على نفسه وعليهم. واختاره القاضي أبو بكر. وقدره: صاع من كل صنف من هذه الأصناف، وقيل: يجزيه في البر خاصة نصف صاع، وروى أشهب: قيل لمالك: أيؤدي الرجل الفطر بالمد الأكبر؟ قال: لا، بل بمد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن أراد أن يفعل خيرا، فليفعله على حدته.

خاتمة في قسم الصدقات

خاتمة في قسم الصدقات، وفيه بابان: الأول: في بيان الأصناف الثمانية. الصنف الأول: الفقير: الذي يملك الشيء اليسير الذي لا يكفيه لعيشه، واختلف إذا كان بيده نصاب لا يقوم به وبعياله لكثرتهم، هل له أخذ الزكاة مع ملكه له أم لا؟ فروى ابن المواز: أن له ذلك. وروى المغيرة ما ي دل على مرعاة النصاب، فلا تدفع الزكاة لمالكه، ولا يشترط فيه عدم القدرة على الكسب. وقيل: يشترط، ولا يشترط الزمانة ولا التعفف عن السؤال في استحقاق هذا السهم. المكفي بنقية أبيه لا يعطى، ولا يجوز للأب إعطاؤه، لأنه يدفع النفقة عن نفسه، والمكفية بنفقة زوجها لا تعطى، لأن نفقتها كالعوض، ولا تعطي هي زوجها عند ابن القاسم. وقال أشهب: أكره ذلك، فإن فعلته ولم يرد ذلك عليها فيما يلزمه من مؤونتها أجزأها، وإن رده إليها فيما يلزمه لم يجزئها. الثاني: المسكين، وهو أحوج من الفقير، وهو الذي لا شيء له جملة. وحكى عبد الجليل الصابوني عن على بن زياد رواية، أنهما سواء، ثم قال: فعلى هذا تكون الأصناف التي توضع فيها الزكاة سبعة. الثالث: العامل على الزكاة، كالساعي والكاتب والقسام والحاشر، وغيرهم. أما الإمام والقاضي والفقيه والقارئ فرزقهم في مال بيت المال، من خراج وخمس وعشر، وغير ذلك. الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، فكانوا يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم، لينكف غيرهم بانكفافهم وإسلامهم، وقد أغنى الله تعالى في هذا الوقت عنهم، فلا سهم لهم. قال القاضي أبو محمد: " وإن دعت الحاجة إليهم في بعض الأوقات، جاز أن يرد سهمهم ". وقال القاضي أبو بكر: " الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما قال يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

قال بعض المتأخرين: " اختلف في صفتهم، فقيل: هم صنف من الكفار، يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، لكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم، وقيل: هم قوم من عظماء المشركين أسلموا، ولهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: " وهذه الأقوال متقاربة المعنى، والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد ". فالمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنف بالقهر، وصنف بالإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر). الخامس: الرقاب، وهو فك الرقاب، بأن يبتاعها الإمام من مال الصدقات، فيعتقها عن المسلمين، ويكون الولاء لجميعهم. قال محمد عن ابن القاسم: ولا يجزي إلا ما يجري في الرقاب الواجبة. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعتق أعمى أو أعرج أو مقعد. وقال ابن وهب: وفي الرقاب، قال: المكاتبين. وقال مطرف: لا بأس أن يعطي من زكاته المكاتب ما يتم به عتقه، أو في قطاعه مدبر ما يعتق به، وهما لا يعتقان في الرقاب الواجبة. فرع: لو اشترى من زكاته رقبة (أعتقها) ليكون الولاء له، فهل تجزيه عن زكاته؛ لأنه بمنزلة من أمر غيره بعتق رقبة، أو ذبح أضحية له، فأنفذ ذلك عن نفسه، أو لا يجزيه لأنه استمسك بها حين أبقى الولاء له؟ قولان أشهب وابن القاسم. ولا يفك الأسير من زكاة ماله، فإن فعل لم تجزئه، قاله ابن القاسم. وقال ابن حبيب: بل تجزيه، لأنها رقبة قد ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، فكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب التي بأيدينا. السادس: الغرام وهو من أدان في غير سفه ولا فساد، ولا يجدون وفاء، أو تكون معهم أموال (هي) بإزاء ديونهم، فيعطون ما يقضون به ديونهم وإن كانت لهم أموال، لأن أموالهم ديون عليهم، فإن لم تكن لهم أموال وكانت عليهم ديون، فهم فقراء وغارمون،

فيعطون بالوصفين، الفقر إذ لا مال لهم، وبالغرم لأن عليهم ديونا، في غير سفه. وفي الصرف إلى أن من أدان في سفه، ثم نزع عنه، وإلى من دينه لله كالكفارات والزكوات التي فرط فيها، خلاف. فرع: قال القاضي أبو الوليد: " ويجب أن يكون هذا الغارم ممن ينجبر حاله بأخذ الزكاة، ويتغير بتركها، وذلك بأن تكون له أصول يستغلها ويعتمد عليها، (فيركبه (دين) يلجئه) إلى بيعها، ويعلم أنه إذا باعها خرج عن حاله، فهذا يؤدي دينه من الزكاة ". قال: " وأما من كان على حالة من الابتذال والسعي، فأراد أن يتدين بأموال الناس ليكون منها دين في ذمته، فيكون غارما ما يؤدي عنه من الزكاة، فلا يجوز ذلك. ولأن الغرم عن هذا لا يغير حاله ولا يضطره منعه إلى الخروج عن عادته، قال: وللخروج عن الهادات تأثير في إسقاط العبادات، كالاستطاعة في الحج ". السابع: سبيل الله، والمراد به الجهاد دون الحج، يدفع من الصدقة إلى المجاهدين ما ينفقونه في غزوهم، أغنياء كانوا أو فقراء، ويشتري الإمام من بعض الصدقة خيلا وسلاحا، وينفذه لمن يغزو به. الثامن: ابن السبيل، وهو الغيب المنقطع به عن الوصول إلى بلده، أو استدامة سفره، وإن كان غنيا ببلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف،؛ إذ لعله لا يقدر على إبرائها، وقيل: إذا قدر على التسلف، فلا يعطى. وفي جواز الأخذ وإن كان معه ما يغنيه لكونه ابن سبيل روايتان: المشهورة أنه لا يعطى، ثم ما أخذ فلا يلزمه رده إلى معطيه إذا صار إلى بلده، ولا إخراجه في وجوه الصدقة. فهؤلاء المستحقون بشرط أن لا يكون الموصوف بصفة من هذه الصفات كافرا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ذكر في قسم المؤلفة قلوبهم، ولا يكون من أقارب المزكي الذي تجب عليه نفقتهم. وإن كانوا من لا تلزمه نفقتهم، لكنهم في عياله، قد روى مطرف: لا ينبغي أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد أساء، ولا يضمن إن لم يقطع عن نفسه بذلك الإنفاق عليهم. وقال ابن حبيب: فإن قطع بذلك الإنفاق عليهم عن نفسه فلا تجزيه، لأنه انتفع بزكاة ماله، حيث قطع بها عن نفسه نفقة من كان التزم الإنفاق عليه والقيام به وظهور الإحسان إليه، ثم استعان على ذلك

الثاني: في كيفية الصرف إليهم

ويشترط خروجهم عن آل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال القاضي أبو الوليد: " وذكر القاضي أبو الحسن: إن من أصحابنا من قال: تحل لهم الصدقات الواجبة، ولا يحل لهم التطوع؛ لأن المنة قد تقع فيها. ومنهم من قال: يحل لهم التطوع دون الفرض ". قال: " وكان شيخا رحمه الله، يريد الشيخ أبا بكر الأبهري، يقول: قد حلت لهم الصدقات كلها، فرضها ونفلها ". قال القاضي أبو الوليد: " وما ذكره من إباحة صدقة التطوع لهم دون الفرض، هو (رواية أصبغ عن ابن القاسم في العتبية) ". وإذا قلنا بأنهم لا يعطون، فمن هم؟ لا خلاف في عد بني هاشم، وعدم عد من فوق غالب، وفي عد من بينهما خلاف، عدهم أشهب، واقتصر ابن القاسم على بنى هاشم. واختلف أيضا في إعطاء مواليهم منها، فأجازه ابن القاسم، ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ وابن حبيب. " قال اصبغ: احتججت على ابن القاسم بالحديث: " مولى القوم منهم "، فقال: قد جاء حديث: " ابن أخت القوم منهم ". وإنما تفسير مولى القوم منهم، في الحرمة والبر منهم به، كما يفسر الحديث: " أنت ومالك لأبيك "، يريد في البر والطواعية، لا في القضاء واللزوم ". الباب الثاني: في كيفية الصرف إليهم: وفيه مسائل: الأولى: فيما نعرف به هذه الصفات: أما الخفي، كالفقر والمسكنة، فمن ادعاه صدق، ما لم يشهد ظاهره بخلاف ذلك، أو (يكون) من أهل الموضع، ويمكن الكشف عنه، فيكشف عنه، وإلا صدق، وكذلك إن كان طارئا.

وأما الجلي، فالغازي معلوم بفعله وكونه فيه، ولو أعطي بقوله، فلم يحقق الموعود، استرد. وأما الغارم، فيطالب بالبينة على الدين، وعلى العسر إن كان عن مبايعة، إلا إذا كان عن طعام أكله. والمؤلف قبله ظاهر. والمدعي أنه ابن سبيل يعطى إذا كان على هيئة الفقراء، ويكتفى بقرينة حاله. الثانية: في قدر المعطى. فالغارم يعطى على قدر دينه، والفقير والمسكين يعيطان كفايتهما وكفاية عيالهما. وفي جواز إعطاء النصاب، وإعطاء من يملكه خلاف. وروى علي وابن نافع: ليس في ذلك حد، وإنما هو على اجتهاد المتولي، وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة، فيعطى الفقير قوت سنة، وروى المغيرة: يعطى دون النصاب ولا يبلغه. والمسافر يعطى قدر ما ي بلغه إلى المقصد، أو إلى الموضع ماله. والغازي يعطى ما يقوم به في حال الغزو. والمؤلفة قلوبهم يعطون ما يراه الإمام والعامل يعطى أجر مثله. ولا يعتبر الثمن في العامل ولا ف غيره من الأصناف، بل قسمتها على الاجتهاد من الإمام، وعلى قدر ما يراه من الحاجة، زاد على الثمن أو نقص عنه، استغرق جميع الأصناف أو بعضها أو صنفا واحدا أو بعضه، اعتبارا لجملة الأصناف بواحدها، إذ اللام لبيان المصرف لا للتمليك. فرعان: الأول: من اجتمعت فيه صفتان استحق سهمين، وقال القاضي أبو الحسن: " لا يعطى سهمين، بل يعطيه الإمام على الاجتهاد، وكذلك المتولي زكاة ماله ". الفرع الثاني: في صفة الإعطاء. وهي أن يخرج المتصدق الصدقة من يده، ولا يحبسها عنده، ويجريها على من تصدق بها عليه، رواه المغيرة. المسألة الثالثة: نقل الصدقة عن موضع وجوبها غير جائز، وهو البلد الذي فليه المال

المالك والمستحقون للزكاة، فإن نقلها أو دفعها إلى فقراء غير بلده، كره ذلك له وأجزأ عنه. وقال سحنون: " لا يجزيه ". ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة، جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة بغيره إليه. وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول، فتفرق الصدقة عنده؛ إذ هو سبب الوجوب، أو مكان المالك، إذ هو المخاطب بها فيخرجها حيث هو؟ في ذلك قولان. وأما صدقة الفطر، فإنما ينظر فيها إلى موضع المالك فقط. فرع: حيث قلنا: تنقل الزكاة، فروى ابن القاسم: " أن الإمام يتكارى عليها من الفيء ". وقال ابن القاسم: " لا يتكارى عليها، ولكن يبيع ذلك، ثم يشتري مثله (بالموضع) ". وفي " العتبية عن مالك فيمن وجبت عليه صدقة ماله وهو بموضع ليس فيه مساكين: أنه يحمله إلى المساكين، ويكري من عنده حتى يبلغه ". الرابعة: إذا كان الوالي يعدل في الأخذ والصرف، لم يسع المالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غير ذلك، بل يرفع زكاة الناض إلى الإمام. وأما زكاة الحرث والماشية، فيبعث الإمام في ذلك. وقيل: زكاة الناض إلى أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان المصرف الفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف لأداء الاجتهاد إلى ذلك، فلا يفرق عليهم إلا الإمام. ثم حيث قلنا: للمالك أن يفرقها، فالأفضل له أن يوليها غيره ليسلم من الحمد، إلا أن لا يكون عارفا بمصارفها، فيتعين عليه رد أمرها إلى غيره. ولو كان الإمام جائرا لم يجز دفعها إليه، لا عن الظاهر ولا عن الباطن، فإن دفعها إليه اختيارا لم تجزئ عنه إذا كان يجوز في صرفها. وإن أخذها جبرا، فإن عدل في صرفها أجزأت عنه، وإن لم يعدل فيه، ففي إجزائها عنه قولان، منشؤهما: الخلاف في نفوذ قسمة الغاصب.

ثم الإمام إذا نصب ساعيا فليكن جامعا لشرائط الولاية، ومن شرائطها أن يكون عارفا بأبواب الزكوات، ففيها فيها، وينبغي له أن يسم الصدقات. الخامسة: صدقة التطوع. وفي تحريمها على آل الرسول صلى الله عليه وسلم قولان كما تقدم، وصرفها سرا، وإلى الأقارب والجيران أفصل، والاستحباب في شهر رمضان آكد. هذا آخر كتاب الزكاة، وقد رأيت أن أضيف إليه فصلا يتعلق به. فصل: قد تقدم في هذا الكتاب ذكر اعتبار المقادير بالكيل والوزن، ووقفت من تحريرهما على ما رأيت أن أثبته ها هنا رجاء النفع، وهو ما خرج النسائي بإسناده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة». وخرج أبو داود عن أحمد بن حنبل قال: «صاع ابن أبي طيب خمسة أرطال وثلث»، قال أبو داود: وهو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند عبد الحق (البجائي) إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: ذكر لي أبي أنه عبر مد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدها رطلا و (ثلثا) في المد، قال: ولا تبلغ في التمر هذا المقدار، قال: وبحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وستة أعشرا حبة وعشر عشر حبة، فالرطل مائة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور، قال: ووجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به تؤدى الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف، ولا أقل من رطل وربع، وقال بعضهم: رطل وثلث: وليس هذا اختلافا، ولكنه على حسب رزانة المكيل من التمر والبر والشعير. انتهى كلامه، وانتهى بانتهائه كتاب الزكاة ما يتعلق به.

كتاب الصوم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصوم والنظر في الصوم والفطر. أما الصوم، فالنظر في سببه وركنه وشرط وسنن. أما السببن، فاثنان: الأول: رؤية الهلال، وتحصل بالخبر المنتشر، وهو الكمال فيها، ولا يفتقر ذلك إلى شهادة، وتثبت بشهادة عدلين على الإطلاق، وقيل: إن كانت السماء مصحية والمصر كبيرا، فلا يكفي الشادان، ويعزى هذا إلى سحنون. والحكم في هلال شوال كمال ذكرنا. ولا يثبت الهلال برؤية واحد، إلا في حق الرائي خاصة، لكن يجب عليه أن يرفع شهادته إلى الحاكم إن كان ممن تقبل شهادته، رجاء أن ينضاف إليه غيره فيثبت الحكم. وقيل: يرفع وإن كان لا يرجى قبول شهادته، لجواز الاستفاضة. وإذا رؤي الهلال في بلد لزم غيرهم الصوم بذلك، والقضاء إن فاهم من غير تفصيل. وحكى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون، أنه رأى: إن كانت ثبت بأمر شائع، فالحكم كذلك، وإن كان ثبت عند الحاكم بشهادة شاهدين كسائر الأحكام، لم يلزم من خرج من ولايته، إلا أن يكون أمير المؤمنين، فيلزم القضاء جماعتهم إذا كتب بما عنده من شهادة أو رؤية إلى من لم يثبت عنده. وإذا رؤي هلال شوال بعد الزوال أو قبله، لم يجز الإفطار إلا بعد الغروب، لأنه لليلة.

الركن الأول: النية

المستقبلة. وقال ابن وهب وابن حبيب وعيسى بن دينار: إن رئي الهلال قبل الزوال، فلا يجوز الإمساك، لأنه لليلة الماضية. السبب الثاني: العدد، وإنما يعتبر عند عدم الرؤية، وهو عبارة عن إكمال عدة الشهر المنقضي ثلاثين يوما، فيجب صوم اليوم الحادي والثلاثين في أول الشهر، وفطره في آخره. فرع: ولا اعتماد على ما ذهب إليه بعض الناس من اعتبار المفارقة في الهلال، ولا التفات إليه، لأنه إن كان فاسدا فلا دلالة له، وإن كان صحيحا، فلم يعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حصر السبب فيما ذكرنا، فكان ما سواه غير معتبر في الشرع، فلا يجوز الاعتماد عليه بوجه. القول في ركني الصوم، وهو النية والإمساك. الركن الأول: النية، فعليه أن ينوي نية معينة مبنية جازمة، فلا يصح صيام من غير نية. وحكى القاضي أبو محمد " عن عبد الملك بن الماجشون وصاحبه أحمد بن المعذل أنهما يقولان: إن أصبح ولم يأكل ولم يشرب، ثم علم أن اليوم من شهر رمضان مضى على إمساكه، وأجزأه من صيامه، ولا قضاء عليه ". والتعيين: أن ينوي أداء فرض رمضان. ومعنى التبييت: أن ينوي لكل يوم من كل نوع من ليلته، ويستثني من ذلك شهر رمضان، فله أن يجمعه بنية واحدة من أوله، ولان صوم الشهر عبادة واحدة، ولا يتخلل بين أجزائها إلا ما يتخلل بين النية وبين افتتاحها، فلا يضر تخلله كاليوم الأول، هذا ما لم يقطعه أو يكن على حالة يجوز له الفطر، فيلزمه استئناف النية. ويستثنى أيضا شهر التتابع، وكذلك من شأنه سرد الصوم. قال الشيخ أبو بكر: " وهذا القول من مالك في الصيام النفل يبه أن يكون استحسانا. فأما القياس فإن عليه أن ينوي كل ليلة، لجواز أن يفطر بدل الصوم، ويصوم غير الذي عود نفسه، فهو مخالف لصوم رمضان. وقيل: لا يستثنى من ذلك رمضان ولا غيره، وحكاه القاضي أبو بكر رواية. واختار الأخذ بها. والمعنى بالجازمة أن لا تكون مترددة، فإن النية المترددة باطلة، فمن نوى ليلة الشك

الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات

صيام غد إن كان من رمضان، لم يجزئه، لأنها غير جازمة، نعم، لا يضر التردد بعد حصول الظن بشهادة أو استصحاب كما في آخر رمضان أو اجتهاد في حق الأسير وشبهه. (ثم إن غلط الأسير بالتأخير لم يلزمه القضاء، وإن غلط بالتقديم لزمه القضاء إن كان شهرا واحد). وكذلك إن استمر ذلك شهورا في سنين متوالية، فإنه يقضي الجميع على المشهور. وقال ابن الماجشون: يقضي الأخير فقط. الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات. وهي: الجماع، والاستمناء، والاستقاء على خلاف فيه خاصة، ودخول الداخل، وضبط الدخول، كل عين يمكن الاحتراز منه غلابا، وصل من الظاهر إلى المعدة والحلق من منفذ واسع كالفم والأنف والأذن، وفي إلحاق الحقنة بالمائعات بذلك خلاف. وكذلك في إلحاق غير المغذي من ذلك به، أو القصر عليه، فيفطر بالحقنة بالمائع على قول، وبالسعوط أيضا إذا وصل إلى حلقه، وقال أشهب: رأى عليه القضاء؛ إذ لا يكاد يسلم، قال: وأما المحتقن فلا شك فيه، وليقضيا في الواجب والتطوع. ولا يفطر بالكحل إذا لم يكن يتحلل منه شيء، وإن أن مما يتحلل منه شيء إلى الحلق أفطر به، وقال أبو مصعب: " لا يفطر به ". وكره ابن القاسم الكحل من غير تفصيل. ولا يفطر بما يقطر في الإجليل، ولا بالفصد أو الحجامة. ولا بتشرب الدماغ الدهن بالمسام، إلا أن يجد طعم ذلك في حلقه، قاله في السليمانية. ولا بالحقنة بما لا ينماع، ولا بوصول ما تعالج به الجائفة إلى الجوف؛ لأنه لا يصل إلى مدخل الطعام؛ إذ لو وصل إليه لمات. أما تعذر الاحتراز غالبا، فنعني به إذا طارت ذبابة إلى جوفه، أو وصل غبار الطريق إلى بأنه. وأما غبار الدقيق فقال أشهب في مدونته: عليه القضاء، وقال القاضي أبو محمد: " لا شيء عليه ". واختلف أيضا في غبار الجباسين، وأولى بعدم الإفطار.

ولا يفطر من سبق إلى جوفه فلقة حبة بين أسنانه، وقال أشهب: أحب إلي أن يقضي، قاله عنه ابن عبد الحكم. وأما ذلك فليقض، قال الشيخ أبو محمد: " يريد أن أمكنه طرحها. وأما لو أوجز بغير اختيار، فإنه يفطر. ولو استقاء عامدا أفطر، ووجب عليه القضاء، ورأي الشيخ أبو القاسم: " أنه مستحب ". ولو ذرعه القيء لم يفطر إلا أن يرد شيئا من ذلك إلى جوفه بعد إمكان طرحه. وروى ابن أبي أويس أن عليه القضاء، وإن لم يزدرده. ويفطر بابتلاع الحصاة والنواة عامدا، وقال بعض المتأخرين: لا يفطر. ولو ابتلع دما خرج من سنه أو سنا أفطر إن كان قادرا على طرح ذلك. وقيل: لا يفطر. ولو كان مغلوبا لم يفطر. وإن سبق الماء في المضمضة إلى باطنه أفطر وإن لم يبالغ. والجماع واستدعاء المني بالاستمناء أو باستدامة الفكر، أو النظر بمجردهما من غير استدامة سبب لوجوب القضاء والكفارة، ولو لم يخرج بهما إلا المذي كان سببا للقضاء إن كان استدامهما. ويختلف في جوبه أو استحبابه، فإن لم يستدمهما فلا شيء عليه، وكذلك ما دون الإمذاء من الفكر والنظر والقبلة، وإن كره الإقدام على تعمد ذلك. والغالط الذي يظن غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر، يفطر، يلزمه القضاء. ويرحم الأكل عند الشك في غروب الشمس أو في طلوع الفجر، وقيل: يكره عند الشك في الطلوع. وقال ابن حبيب: يباح له الأكل عند الشك في الطلوع، ثم إن تبين أنه أفطر بد الطلوع أو قبل الغروب وجب القضاء على كل حال، وإن لم يتبين له الأمر بعد الأكل جرى وجوب القضاء واستحبابه على الخلاف المتقدم. ولو طلع الفجر وهو يجامع، فعليه القضاء إن استدام، فإن نزع ففي إثبات القضاء ونفيه خلاف بين ابن الماجشون وابن القاسم، سببه أن النزع هل يعد جماعا أم لا؟ القول في شرائط صحة الصوم: وهن أربع: ثلاث في الصائم وهي: الإسلام، والنقاء عن دم الحيض، والعقل. فعدم الإسلام وعدم النقاء يمنعان الصحة، وكذلك زوال العقل بالجنون، أما استتاره بالنوم فلا يمنع الصحة.

وكذلك انغماره بالإغماء إن طرأ بعد الفجر، ودام أيسر النهار. ويمنع إن كان قبل الفجر وتمادى إلى غروب الشمس، وفي منعه إذا برأ قبل الفجر وزال بعده بيسيره أو بعد الفجر ودام نصف النهار أو أكثره خلاف. الشرط الرابع: الوقت القابل للصوم، وهو جميع الأيام، ويستثني من ذلك يوما العيدين باتفاق. وفي أيام التشريق خلاف وتفصيل، فإن نذر صومها لم يصم اليومين الأولين، وقيل: يصومهما، وصام اليوم الثالث. وقيل: لا يصومه، ويصوم جميعها المتمتع. وقيل: هو كغيره. وصوم يوم الشك جائز إن وافق وردا أو قضاء أو نذرا. وكذلك لو لم يكن له سبب على المشهور، وقال محمد بن مسلمة بكراهية صومه ابتداء من غير سب. ونصوص المذهب على النهي عن صيامه حوطة. ويوم الشك هو يوم ثلاثين من شعبان إذا كانت السماء متغيمة. القول في السنن: وهي تعجيل الفطر بعد اعتقاد الغروب، فول أراد الوصال، فحكى أبو الحسن اللخمي قولين في جواز ذلك ونفيه، ثم اختار جوازه إلى السحر، وكراهيته إلى الليلة القابلة. وتأخير السحور مستحب، وكذلك كف اللسان عن الهذيان، وترك السواك بالرطب، وترك المبالغة في المضمضة والاستنشاق. القسم الثاني من الكتاب، في مبيحات الإفطار وموجباته. أما المبيح فهو المرض والسفر الطويل، وهو سفر القصر. وطارئ المرض في أثناء النهار مبيح، وطارئ السفر لا يبيح، فإن أفطر بعد شروعه في السفر، وقد كان بيت في الحضر، فإن كان متأولا فظاهر المذهب أن لا كفارة عليهن وإن لم يتأول، ففي وجوبها وسقوطها قولان.

وإن أفطر قبل الشروع في السفر، فقال أشهب في كتاب ابن سحنون: لا كفارة عليه، سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: يكفر سافر أو لم يسافر، ثم رجع فقال: إن سافر لم يكفر، وإن لم يسافر كفر. وقال ابن الماجشون وابن القاسم في كتاب ابن حبيب: إن أفطر قبل أن يأخذ في أهبة السفر كفر، وإن أفطر بعد أن أخذ في أهبة السفر متأولا ثم سافر لم يكفر. قال ابن الماجشون: وإن عرض له ما حبسه عن السفر كفر. وإذا زال المرض والسفر وهو غير مفطر لم يبح الإفطار. والمسافر إذا أصبح على نية، فليس له أن يفطر، إلا أن يطرأ عليه عذر يقتضي الفطر، ومنه التقوى للقاء العدو؛ كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال مطرف: له أن يفطر (من) غير طروء عذر. وإذا فرعنا على منع الفطر فأفطر، ففي وجوب الكفارة وسقوطها ثلاثة أقوال: الوجوب للمغيرة وبن كنانة. والسقوط رواية. والتفرقة لابن الماجشون، فيوبجها في الجماع دون الأكل والشرب. والصوم في السفر أحب من الفطر لتبرئة الذمة. وقال عبد الملك بن الماجشون: " الفطر أفضل، وري أنهما سيان. وأما موجبات الإفطار فخمسة: الأول: القضاء، وهو يتنوع إلى قضاء رمضان، وإلى قضاء غيره، وقضاء غير رمضان يذكر عند ذكره. فأما قضاء رمضان فواجب على كل مفسد للصوم أو تارك له بسفر أو مرض أو إغماء أو حيض أو سهو، وكذلك الحيوان. وقيل: مما لم تكثر السنون. وقيل: ما لم يبلغ مجنونا. ولا يجب على من ترك بصبا أو كفر، ولا على المفند الذي لا يستطيع صومه إلا بخوف التلف، ولا يجب التتابع في قضاء رمضان، ولكن يستحب. الثاني: الإمساك تشبها بالصائمين، وهو واجب على كل متعد بالإفطار في شهر رمضان، أو ظان للإباحة مع عدمها. وغير واجب على من أبيح له الفطر إباحة حقيقية كالمريض يصح، والمسافر يقدم، والحائض تطهر في بقية النهار. ومن أصبح يوم الشك مفطرا، ثم تبين أنه في رمضان، أمسك. أما الصبا والجنون والكفر، فإذا زال شيء منها لم يجب الإمساك. وقيل: يجب في الكفر خاصة.

ومن نوى التطوع في رمضان لم ينعقد، وإن كان مسافرا لتعين الوقت. وحكى القاضي أبو بكر فيه رواية بالانعقاد، واستضعفها كثيرا. فأما لو صامه قضاء عن رمضان آخر عليه، فقال ابن القاسم في العتبية وأشهب في مدونته: " لا يجزيه عن واحد منها ". وفي الكتاب: " أرى أن يجزيه، وعليه قضاء رمضان الآخر "، روي بكسر الخاء وفتحها، فحصل من ذلك قولان آخران عن ابن القاسم. الثالث: الكفارة، ولا تجب إلا في رمضان دون غيره من أنواع الصوم، وتجب بالخروج عن صومه على وجه الهتك من كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة، لكل يوم كفارة لا يسقطها عن ويم وجوبها في آخر، من غير اعتبار بالأنواع التي يخرج عن الصوم بها من جماع أو أكل أو شرب أو غر ذلك، ولا بالوجهة الذي يخرج عن الصوم من اعتماد تركه أو بعد عقده بقطع نية أو إمساك، ولا بطروء عذر بعد ذلك أو عدمه، كمعتمد الفطر يمرض، أو يسافر، أو يجن، أو تحيض المرأة على المشهور نظرا إلى الحال شيء وقيل: بإسقاط الكفارة عند طروء العذر نظرا إلى المآل. وكذلك الخلاف في القائل: اليوم نوبتي في الحمى، فيفطر ثم تأتيه. وفي القائلة: اليوم أحيض. فأفطرت ثم حاضت، وأولى بالإسقاط ها هنا وفي المستقيء خلاف. وكذلك مبتلع ما لا يغطي قصدا. ولا تجب على الناسي، لأنه لم ينتهك، وقيل: تجب عليه في الجماع خاصة، والمكره كالناسي. وتجب بالزني [وبجماع] الأمة، ووطء البهيمة، والإتيان في غير المأتي. ولا تجب على من ظن أن الصبح غير طلاه، فجامع. وتجب على المنفرد برؤية الهلال. وقال أشهب: إن تأولا فلا تجب عليه، وعلى من جامع مرارا في أيام، لكل يوم كفارة كما تقدم. ولا تتكرر بتكرر الانتهاك في اليوم الواحد، وقيل: تتكرر إن كان الانتهاك الثاني عبد التفكير.

ولو أكره امرأة لم يجب عليها أن تكفر بحال، ووجبت عليه كفارتان عنه وعنهما في المشهور. وقيل: لا كفارة عليه عنها. ثم اختلف الأصحاب، هل هذه الكفارة متنوعة أم تختص بالإطعام خاصة؟ وسبب اختلافهم احتمال لفظ الكتاب، وصيغته: " قلت: وكيف الكفارة في قول مالك؟ قال: الطعام لا يعرف غير الطعام، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام " هذا نص لفظه. فمن نوع حمله على الأولى، ويجزي غيره. ومن خصص حمل اللفظ على ظاهره، والصحيح التنويع، ورد ظاهر هذه الرواية إلى مذهبه في الموطإ، وإلى ما رواه ابن الماجشون عنه، وهو أن الإطعام أفضل. وإذا فرعنا على التنويع، فأنواعها ثلاثة: عتق وصيام و‘طعام، وهي على التخيير ككفارة الأيمان. وقيل على الترتيب ككفارة الظاهر. النوع الأول: العتق، فيعتق رقبة كاملة غير ملفقة، مؤمنة، سليمة، محرر، وتحريرها أن (يبتدئ) إعتاقها من غري أن يكون مستحقا بوجه. النوع الثاني: الصيام، وهو صوم شهرين متتابعين. النوع الثالث: الإطعام، هو إطعام ستين مسكينا، مدا، لكل مسكين، بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أشهب: مدل لكل مسكين أو غداء وعشاء، والإطعام أحب إلينا من الغداء والعشاء. وإذا فرعنا على المشهور، فالإطعام يعمها. وقيل: تتنوع: فتكون إطعاما إن كانت بفير جماع، وعتقا أو صياما إن كانت عن جماع. ثم إذا قلنا بالتسوية مع اختلاف الموجب، فالإطعام أفضل لأنه الأمر المعمول به في الحديث، ولأنه أعم نفعا؛ إذ الصيام لا يتعدى نفعه المكفر، والإعتاق وإن تعدى نفعه المكفر، فلا يتجاوز المعتق، ويتعدى نفع الطعام إلى ستين مسكينا، فيحيا به مثل هذا العدد، لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات. وقيل: العتق أفضل. وقال المتأخرون: يختلف ذلك بالأوقات والبلاد، فالأول في ارتفاع الأسعار، والثاني في انخفاضها. وتستقر الكفارة في الذمة عند العجز عن جميع الخصال وقت الإفساد، ثم المعتبر حالة التكفير على القول بالترتيب.

الموجب الرابع: قطع التتابع والنية. أما قطع التتابع، فهو أن يفطر بغير عذر، أو بعذر يمكنه دفعه، كالسفر، فأما ما لا يمكنه دفعه من سهو أو مرض، أو خطأ عدة أو حيض، فيجزي البناء معه. وأما قطع النية، فهو إفساد الصوم أو تركه على الإطلاق لعذر أو غير عذر، أو بحصول الوجه الذي يسقط معه الانحتام، وإن آثر الصوم معه كالسفر والمرض، ولا يقطع استدامتها، وإنما يقطع استصحاب ابتدائها. الخامس: الفدية، وهي مد من طعام لمسكين عن كل يوم، وتجب ثلاثة أمور: أحدها: ما يجب لفضيلة الوقت وهو في حق الحامل والمرضع. فأما الحامل إذا خافت على ولدها، فروى ابن وهب: أنها تفطر وتطعم. وقال أشهب: تطعم استحبابا من غير إيجاب. وقال في الكتاب: " تفطر وتقضي، ولا إطعام عليها لأنها مريضة ". وقال ابن الماجشون: إن خافت على حملها وجبت عليها، وإن خافت على نفسها لم تجب عليها. وقال أبو مصعب: " إذا خافت على ولدها قبل مضي ستة أشهر أطعمت، وإن دخلت في الشهر السابع لم تعم لأنها مريضة ". وأما المرضع إن احتاجت إلى الفطر لولدها إذ لم يقبل غيرها، (أو) لم يقدر على الاستئجار له، فقال في الكتاب: " تطعم ". وقال في المختصر: لا إطعام عليها. ومنشأ الخلاف: أنها مطيقة في نفسها، وغير مطيقة لضرورة الولد. الثاني: كل من لا مرض به، ويعلم أنه لا يمكنه إكمال صوم اليوم، كالمتعطش والشيخ الكبير، فيطعم استحبابا. وقيل بوجوب الإطعام عليه. وقال أبو الحسن اللخمي: " الصواب سقوط الإطعام عنه ". الثالث: ما يجب لتأخير القضاء، فلكل يوم أخر قضاؤه عن السنة الأولى مع الإمكان مد، ولا ي تكرر بتكرر السنين، ويخرجها عند الأخذ في القضاء، وقال أشهب: عند تعذر القضاء واستقرارها في الذمة، لأنه سبب الوجوب، فكلما مضى يوم من شعبان قد تعين للقضاء أطعم عن يوم، لأنه صار مفرطا.

وأما صوم التطوع، فيلزم إتمام ما شرع فيه منه، (وكذا) القضاء، ولو لم يكن على الفور، فإن أفطر في التطوع متعمدا من غير عذر، فعليه القضاء، وإن أفطر في القضاء متعمدا، فهل يجب عليه قضاء الأصل فقط، أو قضاؤه وقضاء القضاء؟ قولان. ولو أفطر في التطوع لمرض أو حض أو غيره من الأعذار المبيحة للفطر، لم تجب عليه قضاء. ولو أفطر ناسيا أتم، ولا شيء عليه. فأما إن سافر فيه، فأفطر من غير ضرورة، فقال في الكتاب: " عليه القضاء ". وقال ابن حبيب: لا قضاء (عليه). وأما الفطر في المنذور، فإن كان عمدا عصا ووجب عليه القضاء، وإن كان [نسيانا] أو لعذر، فإن كان النذر غير معين وجب القضاء، وغن كان معينا فقيل: يجب. وقيل: لا يجب، وقيل: يجب في النسيان، ولا يجب في الحيض والمرض. وقيل: يجب إن كان المقصود صوم يوم، ولا يجب إن كان المقصود هو اليوم لمعنى فيه. وعلى ذلك يخرج الخلاف في مسألة ناذر الصوم يوم يقدم ف لأن، فيقدم نهارا، مذهب الكتاب " سقوط القضاء ". وقال أشهب: يلزمه القضاء. ولنختتم الكتاب بذكر صوم التطوع المرغب فيه. وهو في السنة صوم يوم عرفة لغير الحاج وعاشوراء وتاسوعاء ويوم التروية، ففي الحديث «إن صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية، وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية». وروى أيضا أن صيام يوم التروية كصيام سنة. ومن المرغب فيه صوم الأشهر الحرم وشعبان وعشر ذي الحجة، فقد روى أن صيام كل يوم منها يعدل صيام سنة. وورد في الصحيح: " صيام ستة أيام من شوال "، إلا أن مالكا أتقى أن يلحق الجاهل بالفرائض ما ليس منها على أصله في كراهية التحديد، واستحب صيامها في غل ذلك الوقت لحصول المقصود به من تضاعف أيامها وأيام رمضان حتى تبلغ عدة العام؛ كما قال

[النبي] صلى الله عليه وسلم: «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة». ومحمل تعيين محلها في شوال (عقيب) الصوم على التخفيف في حق المكلف لاعتياده الصيام، ولا لتخصيص حكمها بذلك الوقت فلا جرم لو فعلها في عشر ذي الحجة مع ما روي من فضل الصيام فيه لكان أحسن لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة. والسلامة مما أتقاه مالك رضي الله عنه. وقال مطرف: إنما كره مالك صيامها لئلا يلحق أهل الجهل ذلك برمضان، وأما من رغب في ذلك لما جاء فيه، فلم ينهه. وأما في الشهر، فقال ابن حبيب: روي أن صيام الأيام البيض صيام الدهر، قال: وكذلك " صيام ثلاثة أيام من كل شهر ": أول يوم منه هن ويم عشرة ويوم عشرين. قال: وبلغني أن هذا صوم مالك بن أنس. واختار الشيخ أبو الحسن المبادرة بالثلاثة أول الشهر، وعلل بأنه لا يدري ما يقطعه عن ذلك. فأما صوم الدهر، فقال الشيخ أبو الطاهر: " هو مستحب "، وكرهه أبو القاضي أبو بكر. ونص مالك رضي الله عنه على كراهية توقيت منذور من صيام أو غيره. قال: " ولكن يفعل متى أحب ". [تم كتاب الصيام والحمد لله].

كتاب الاعتكاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد] كتاب الاعتكاف وحقيقته في اللغة: اللبث في المكان. وفي الشريعة: اللبث في المسجد للعبادة. وهو قربة، ومن نوافل الخير، لا سيما في العشر الأواخر من شهر رمضان لطلب ليلة القدر. وقد اختلف في قوله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» هل المقصود ظاهر هذا اللفظ؟ أو يكون المقصود ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين؟ فيكون معنى اللفظ: لتسع بقين، ولسبع بقين، ولخمس بقين. وهذا هو قول مالك في الكتاب من رواية ابن وهب ". ثم النظر في ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أركانه، وهي أربعة: الركن الأول: استمرار الإقامة على عمل مخصوص، وهو ما خصه من العبادة كالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله تبارك وتعالى. وقيل: جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، القاصرة، والمتعدية في ذلك سواء، ومع الكف عن الجماع ومقدماته. ويجوز له أن يأمر ببعض شؤونه، وما فيه مصلحة معاشه، ولا بأس أن يعقد النكاح وأن يتطيب.

الركن الثاني: المعتكف

الركن الثاني: المعتكف، وهو كل مسلم عاقل، فيصح اعتكاف الصبي والرقيق، والردة والسكر المكتسب مانعان من الصحة، قارنا الابتداء أو طرآ، ويجب استئنافه بطروء أحدهما. وأما زوال العقل من غير اكتساب، كالجنون والإغماء، فيوجبان البناء دون الاستئناف، ولو صدر منه يوجب الكفارة في الصيام أفسد الاعتكاف. فأما لو صدرت منه كبيرة، فإنها تبطل الاعتكاف عند العراقيين، وإن لم تبطل الصوم، كالقذف وشرب الخمر ليلا، ولا يبطل الاعتكاف بذلك عند المغاربة، ثم حيث بطل وجب قضاؤه. وكذلك إن انقطع اتصاله بما لا يسقط معه قضاء الصوم، فإن كان بحيث يسقط فيه قضاء الصوم، فلا يجب قضاء الاعتكاف. ويختلف في وجوب قضائه حيث يختلف في وجوب قضاء الصوم. الركن الثالث: الصوم. ولا يصح الاعتكاف دونه، ولا يشترط كونه له. فلا يصح اعتكاف بعض يوم، ولو طرأ عليه ما يمنع الصوم فقط، ففي وجوب المقام في المسجد مع تعذر الصوم خلاف، وذلك كالمريض القادر على الملازمة دون الصوم، أو يصح في بعض النوم، أو تظهر الحائض في (أضعاف) النهار وتغتسل. وكذلك المعتكف أواخر شهر رمضان أياما يتخللها العيد. وإذا قلنا في هذا باللزوم، فالخلاف أيضا في خروجه إلى العيد، وهو على مراعاة الخلاف في أنه لا يلزمه اللزوم. الركن الرابع: المعتكف: وهو المسجد، ويعتكف في عجزه ورحابه. (ويكره للمؤذن المعتكف أن يرقى على ظهر المسجد. واختلف قوله في صعوده المنار، فمرة قال: لا، ومرة قال: نعم، وجل قوله فيه: الكراهة، وهو رأي ابن القاسم). ويستوي في ذلك جميع المساجد، إلا إذا نوى مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، فيتعين الجامع، وقيل بل يكره الاعتكاف حينئذ في غيره فقط. ومنشأ الخلاف: هل يبطل الاعتكاف بخروجه إلى الجمعة، وهو المشهور، أم لا؟

الفصل الثاني: في حكم النذر

فإن فرعنا على عدم الإبطال، فإنه يتم اعتكافه ي الجامع وقيل: يعود إلى مسجده، فيتم فيه، ولا يصلح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها. الفصل الثاني: في حكم النذر والنظر في ثلاثة أمور: الأول: التتابع، فإذا قال الله علي أن أعتكف شهرا لزمه التتابع وإن لم يشترطه. ولو قال: أعتكف هذا الشهر فسد أوله بتعمد فساد آخره، واستأنفه متتابعا في القضاء والشروع، كالنذر. الثاني: في استتباع الليالي، فإذا نذر اعتكاف شهر دخلت الليالي، ويكفيه شهر بالأهلة، وكذلك لو نذر اعتكاف يوم أو أيام دخلت ليلته ولياليها. ولا يفترق الليل والنهار في شيء من أحكام الاعتكاف (سوى) الصوم. الثالث: في قاطع التتابع، وهو انقطاع بعض شروط الاعتكاف، ومن ذلك الخروج عن المسجد لغير عذر، وأما العذر فعلى مراتب: الأولى: الخروج لقضاء الحاجة، وهو غير ضار، ولا يجب قضاء تلك الأوقات، ولا تجديد النية عند العود. ولا فرق بين قرب المكان وبعده، إذا لم يجد أقرب منه، وبين أن يكثر الخروج لقضاء الحاجة (أو يقل)، ولا يشتغل بعيادة مريض في الطريق، ولا بصلة الجنازة، فإن جامع عامدا في وقت قضاء الحاجة أبطل اعتكافه، واستأنفه. (الرتبة) الثانية: الخروج للمرض والحيض والنسيان. وليس بقاطع للتابع أيضا. (الرتبة) الثالثة: خروجه مضطرا لما تعين عليه من حق الله تعالى، كجهاد، أو حق آدمي كحبس في دين، وفي بطلان اعتكافه بذلك لأنه قاطع لاتصاله كقطع الصلاة بفعل يضادها، وعدم بطلانه لأنه ضروري، كالمرض والحيض، قولان. وهذا ما لم يقصد بالاعتكاف الهرب من حق وجب عليه فيلزمه الخروج، ويبطل اعتكافه

الفصل الثالث: في حكم الاعتكاف

قولا واحدا، وفي بطلانه بالخروج مكرها خلاف. ولو اشترط الخروج لغير ما ذكر جواز خروجه له، لم ينفعه اشتراطه، وكان وجوده كعدمه. الفصل الثالث: في حكم الاعتكاف عند الدخول فيه والخروج منه، وحالة طروء العذر القاطع. فأما الدخول، فإن حصل قبل غروب الشمس من ليلة اليوم الذي قصد اعتكافه أجزأه بلا خلاف، وإن حصل بعد طلوع فجره لم يجزئه. فإن دخل بين غروب الشمس وطلوع الفجر، ففي الصحة والبطلان خلاف؛ منشئه طلب استكمال النهار، وقد حصل، وهو (قول القاضي (أبي محمد). واستواء الليل والنهار في أحكام الاعتكاف سوى الصوم، ولم يحصل؛ إذ لا يصح استيفاء جميع أجزاء الليل إلا دخل قبل الغروب، وهذا قول ابن الماجشون، وهو ظاهر قول مالك. وأما الخروج منه فلا شك أنه إذا خرج بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيام اعتكافه، كان ذلك جائزا وصح اعتكافه، إلا إذا كان الاعتكاف للعشر الأواخر من شهر رمضان، فإنه يؤمر ببقائه في معتكفه إلى حيث يخرج منه إلى العيد. وروى سحنون عن ابن القاسم: " أنه يخرج من معتكفه ليلة الفطر "، وعمدة الفرق (فعل (الرسول) صلى الله عليه وسلم). ثم إذا فرعنا على البقاء، فهل ذلك واجب، أو مندوب إليه؟ قال القاضي أبو محمد: هو مندوب إليه ". وقال ابن الماجشون وسحنون: هو على الوجوب. وثمرة هذا الاختلاف: فساد الاعتكاف بالخروج إذا قلنا بوجوب البقاء، وعدم الفساد إذا قلنا باستحبابه. ولذلك قال سحنون: إن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وأما حالة طروء العذر، فحكمه البقاء على ما يقدر عليه من أفعال الاعتكاف، ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه، فالحائض تفعل ما لا يمنعها الحيض منه، كملازمة الذكر، (وتجنب) الاستمتاع والاشتغال بما يمنع المعتكف منه، ويسقط عنها الصوم، وملازمة المسجد. وكذلك المريض إذا عجز عن الصوم أو تعذر عليه دخول المسجد لمرضه، أو اجتمعا له.

فرع: قال سحنون: اعتكف في رمضان فمرض، ثم خرج رمضان ثم أفاق، فعليه إذا أفاق قضاء الصيام، وليعتكف فيه. وأما لو كان في غير رمضان فلا قضاء عليه لما مرض فيه. وقال ابن عبدوس: إن مرض قبل أن يدخل فيه في غير رمضان، فلا يلزمه شيء مما مرض فيه. قال الشيخ أبو محمد: " يريد وهي أيام بأعيانها نذرها "، قال: " وأما إن مرض بعد أن دخل فيه، فليقض ما مرض فيه لبقاء حرمة العكوف عيه ". [تم كتاب الاعتكاف والحمد على ذلك].

كتاب الحج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد] كتاب الحج وهو ركن من أركان الإسلام، واجب على من استطاعه من أحرار المكلفين. ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وفي كونها على الفور، أو مسترسلة على الزمان إلى خوف الفوت، خلاف. فالذي يحكيه العراقيون (عن) المذهب أنها على الفور. قال أبو القاسم بن محرز وغيره من المتأخرين: ومسائل المذهب تدل على خلاف ذلك. قال الشيخ أبو الطاهر: " وإشارتهم إلى ما وقع في المذهب من التراخي به لرضى الآباء "، قال: " وهذا لا يدل على ثبوت التراخي، لأن رضى الآباء واجب، فمراعاته كتعارض واجبين ". ثم النظر في المقدمات والمقاصد واللواحق. القسم الأول: في المقدمات، وهي الشرائط والمواقيت. القول في الشرائط: ولا يشترط الحج إلا الإسلام؛ إذ يصح للولي أن يحرم عن الصبي. وكذلك المجنون يحرم عنه أبوه، ويحج به.

ولا يشترط لصحة المباشرة إلا الإسلام والتمييز، فإن المميز لو حج بإذن الولي جاز، وكذلك العبد. ولا يشترط لوقوعه عن حجة الإسلام إلا الإسلام، والحرية، والتكليف. ويشترط لوجوب حج الإسلام ما عاد الإسلام من هذه الشرائط، مع الاستطاعة، ثم هي معتبرة بحال المستطيع ي صحة بدنه، وفي ماله وعادته، ومحالة على القدرة والإمكان من غير تحديد. وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ومسافة الطريق، ووجود الجلد وعدمه. وقال ابن حبيب: الاستطاعة: الزاد والراحلة. وذكر ابن عبدوس مثله عن سحنون. وتؤول على من بعدت داره. (فعلى المشهور): من حلاه القدرة على المشي يلزمه الحج، وإن لم يجد الراحلة. وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا، وكان جلدا على المشي، أو كان عنده ما يركب. ويجب على من لا يجد طيرققا إلا في الرحر، إلا أن يكون غالبه العطب، أو يكون هو يعلم من حال نفسه أنه يميد حتى يعطل الصلوات. ولو كان لا يجد موضعا لسجوده، لكثرة الراكب وضيق الموضع، فقد قال مالك " إذا لم يستطع الركوع أو السجود إلا على ظهر أخيه، فلا يركبه، ثم قال: أيركب حيث لا يصلى!؟ ويل من ترك الصلاة ". والمرأة كالرجل إلا في استصحاب الولي، ويختلف في إلزامها الحج مع عدمه إذا وحدت رفقة مأمونين، ومع الحاجة إلى البحر أو المشي. ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو الأموال، أو يطلب من الأموال ما لا يتحدد بحد مخصوص، أو يتحدد بقدر يجحف، وفي سقوطه بغير المجحف خلاف. ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته، وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه، وقيل: لا يجب. ولو لم يكن عنده من الناض ما يحج به، وعنده عروض، فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين.

وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القرية ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده لا شيء لهم يعيشون به؟ قال: نعم، ذلك عليه، ويترك ولده في الصدقة. ويكره له أن ينتقل بالحج قبل أداء رضه، فإن فعل لمخ ينقلب إلى الفرض، بل يقع كما نواه. هذا حكم المباشرة، فإن عجز عنها، لم تلزمه الاستنابة، ولا تجوز إن اختارها؛ إذ لا تصح النيابة، وهي وقوع الحج عن المحجوج عنه. وروي إجازة ذلك. وقال ابن واهب وأبو مصعب: " تجوز في حق الولد خاصة ". وقال ابن حبيب: جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به، ويجزيه إن شاء الله. وقال أشهب في كتاب محمد: إن حج عن الشيخ الكبير أجزأه. وإذا أوصى الميت بالحج عنه، وكان صرورة، نفذت وصيته. وقيل: لا تنفذ، فإن لم يوص، لم يحج عنه، وقيل: يحج عنه إن كان صرورة، ثم حيث صححنا النيابة، فهي تقع بأجر وبغير أجر، فإن وقعت بأجر، فهي على قسمين: قسم هو إجازة بعوض يكون ثمنا للمنافع، كالإجارات كلها، فيكون العوض ملكا للمستأجر، فإن عجز عن كفايته لزمه إتمامه من ماله، وما فضل عنها، كان له. والقسم الآخر يسميه أصحابنا البلاغ، وهو: أن يدفع إليه مال ليحج به، فهذا لا يجوز له صرفه في غير الحج، وإن احتاج إلى زيادة رجع بها، وإن فضل شيء رده، وله أن ينفق ما لا بد له منه مما يصلحه، من الكعك والزيت وأكل اللحم مرة بعد مرة، وشبه ذلك، والوطاء واللحاق والثياب، فإذا رجع رد ما ف ضل من ذلك كله، ورد الثياب. قال محمد: وإنا لنكره ذلك، وهذا والإجارة في الكراهة سواء، وأحب غلينا أن يؤاجر نفسه بشيء مسمى. والإجارة على الوجهين جميعا مكروهة على المشهور، لأنها من باب طلب الدنيا بعمل الآخرة، إلا أنها إن وقعت على أحد الوجهين لزمت من الجانبين للخلاف فيها. وحكم الأجير إن ينوي الحج لمن حج عنه، فإن نوى لنفسه انفسخت الإجارة، إلا أن يكون استؤجر على عام لا بعينه. ولو اشترط عليه الإفراد بوصية الميت، فقرن أو تمتع، لم يجزئه. ولو شرط عليه بغير وصية فخالف، ففي الأجزاء خلاف، فإن لم يشترط، فإن قلنا ثم بالإجزاء فها هنا أولى، وإن قلنا بعدمه، ففي ثبوت الإجزاء ها هنا ونفيه ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن يقصد بالعمرة فتجزئه، وبين أن يقصد بها نفسه فلا يجزئه.

ثم إن تمتع أعاد الحج ثانيا، وإن قرن فسخت الإجارة، لأنه خان، ولا تؤمن عودته. وهل يتعين للعقد أول سنة، أو يفتقر إلى تعيين الزمان الذي يحج فيه؟ للمتأخرين في ذلك قولان. وإذا فرعنا على الافتقار، بطل العقد عند عدم التعيين. وكذلك اختلفوا أيضا في وجوب الفعل على الأجير على نفسه، أو تعلقه بذمته. وكذلك المعين في الوصية، إلا أن يكون على حالة ترغب في عينه، وعليه يخرج الخلاف في امتناعه، هل يعوض بغيره، أو تبطل الوصية، ويجتزئ الورثة بما بذلوا قليلا كان أو كثيرا، إذا لم يسم الميت قدرا، ووجدوا من يحج بما بذلوه ممن حيث أوصى، لا من الميقات، ولا من مكة، إلا أن يظهر منه قصد إلى غر ذلك، فيصار إليه. فإن سمى قدرا معلوما ولم يجدوا من يحج بدونه، استأجروا به كله، فإن وجدوا بدونه من يحج ما نص عليه الميت من حجة أو حجج، كان الفاضل لهم؛ إلا أن يظهر من قدره غنه أراد إعطاء جملة ما عين من المال إلى رجل بعينه، فيعطاه. فإن لم يسم ما يحج عنه، ووجد من يحج عنه حجة واحدة بدون ما عين، فهل يرد الباقي إلى الورقة، أو يحج به عند حجج؟ فيه خلاف. ولا شك أن الآخذ على الإجارة يضمن ما ضاع منه، إذ على ملكه تلف. فإن ضاع من الآخذ على البلاغ، رجع ما لم يحرم، فإن تمادى قبل الإحرام، فلا شيء له، وإن تمادى بعده، كانت نفقته في ذهابته وعودته على المستأجر، إن لم يكن للميت مال، فإن كان له مال، فهل يكون منه، أو من مال المستأجر؟ فيه خلاف. ولو صد الأجير أو مات حتى افتقروا إلى استئجار غيره، واستأجروا من حيث انتهى. ولو لم يوحد من يحج عنه بما أوصى به إلى استئجار غيره، استأجروا من حيث انتهى. ولو لم يوحد من يحج عنه بما أوصى به أو بثلثه إلا من المواقيت أو من مكة، فهل يحج عنه بذلك من حيث وحد، اويرجع ميراثا؟ ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يكون صرورة فيحج عنه، أو غير صرورة فيرجع ميراثا. إذا صد الأجير فأراد أن يقيم على إحرامه إلى عام ثان، أو يتحلل وأراد البقاء على إجارته ليحج في العام الثاني، فللمتأخرين في المسألتين قولان. ثم إذا فسخت الإجارة، فله من الأجر بقدر ما بلغ. هذا حكم الحج في الوجوب والاستطاعة والنيابة والإجارة، وتساويه العمرة في (جميع) ذلك، خلا الوجوب، فغنها سنة مؤكدة. ومذهب ابن حبيب وابن الجهم أنها واجبة.

في المواقيت

المقدمة الثانية: في المواقيت: والميقات الزماني للحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة روي جميعه، وروي العشر الأول منه، وروي إلى آخر أيام التشريف. وفائدة الخلاف: تعلق الدم بتأخير طواف الإفاضة. وأما العمرة: فجميع السنة وقت لها، ويصح الإحرام بها في كل وقت من غير كراهية إلا في أيام منى لمن حج، ويكره أيضا تكرارها في السنة الواحدة. وقال مطرف: لا يكره. ومراعاة هذا الميقات للأولى، وقيل: للأوجب، فلو أحرم قبل أشهر الحج انعقد إحرامه وصح، وقيل: لا ينعقد. أما الميقات المكاني: فهو في حق المقيم مكة في الحج لا في العمرة ولا في القران، وقيل: يحرم في القران منها أيضا. أما الأفاقي: فميقاته إن توجه من جانب المدينة: ذو الحليفة. ومن الشام ومصر: الجحفة، ومن اليمن: يلملم، ومن نجد: قرن، من العراق: ذات عرق. وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها إلا أن يمر بها من له ميقات دون ما مر به، كالشامي أو المصري يمر بذي الحليفة، فله تجاوزها إلى الجحفة، وإن كان الأفضل له أن يحرم من ذي الحليفة ميقات النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الذي مسكنه بين الميقات وبين مكة، فميقاته مسكنه، والاختيار لمريد الإحرام أن يحرم من أول الميقات، فإن أحرم من آخره فلا بأس. ومن حاذي ميقاتا فميقاته عند المحاذاة؛ إذ المقصود مقدار البعد عن مكة. وإن جاء من ناحية لم يحاد ميقاتا ولا مر به يحرى محاذاتها وأحرم. والأفضل أن يحرم بالحج من ميقاته زمانه ومكانا، ويكره تقديمه عليه، ويلزم أن فعل ثم مهما جاوز ميقاته، فإن كان ضرورة فإن تجاوز الميقات وهو مريد " للحج أو العمرة غر محرم فهو مسيء عليه وعليه الدم، ويسقط عنه بالعود إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال، فإن عاد

بعد البعد والإحرام لم يسقط. وإن قصد دخول مكة حلالا، ثم بدا له أن يحرم فأحرم دونها، فعليه دم. وقال محمد: لا هدي عليه، وإنما الهدي على من جاوز ميقاته، يريد الإحرام ". وإن تمادى غير محرم حتى دخل مكة، ففي وجوب الدم عليه بذلك خلاف، إلا أن يكون من مكثري التردد إليها، كالمترددين بالحطب والفاكهة، ومن في معناهم، لمشقته في التكرار. ولو تجاوز الميقات، يريد الحج، ثم أحرم به، ففاته فتحلل بعمرة، ففي وجوب الدم ونفيه قولان لأشهب وابن القاسم. وأما العمرة، فميقاتها كميقات الحج، إلا في حق المقيم بمكة، مكيا كان أو آفاقيا، فإن عليه الخروج إلى طرف الحل ولو بخطوة في ابتداء الإحرام. فإن لم يفعل ذلك حتى طاف وسعى، لم يعتد بعمرته، لأنه لم يجمع بين الحل والحرم. والحاج بوقوف عرفة جامع بينهما، والأفضل للمعتمر الإحرام من الجعرانة، أو التنعيم.

القسم الثاني من الكتاب: في المقاصد

القسم الثاني من الكتاب: في المقاصد وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في وجوه أداء النسكين: وهي ثلاثة: الأول: الإفراد، وهو أن يأتي بالحج مفردا عاريا عن صفتي التمتع والقران، وهو أفضل منهما، والتمتع أفضلهما. الثاني: القران، وهو أن يحرم بهما جميعا، فيتحد الميقات والفعل، وتندرج العمرة تحت الحج. ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل الحج عليها قبل الطواف كان قارنا، فإن شرع في عمل العمرة، فقال أشهب: لا يصح قرانه حينئذ. وقال ابن القاسم: " يصح ما لم يكمل الطواف "، وقال أيضا: " ما لم يركع "، وذكر القاضي أبو محمد: " أنه يصح، ويرتدف الحج ما لم يكمل السعي ". ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لأنه لا يتغير الإحرام به بعد انعقاده، وكذلك إرداف أحدهما على مثله، ولا يصح أيضا الجمع بين مثلين في عقد الإحرام. الثالث: التمتع، وهو أن يفرد العمرة ثم الحج، لكن يتحد السفر؛ إذ يحرم بالحج قبل رجوعه إلى أفقه، أو إلى مثله، وله خمسة شروط: الأول: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن الحاضر ميقاته نفس مكة، فلا يكون قد ربح ميقاتا. وكل من مسكنه بمكة أو ذي طوى، فهو من الحاضرين، دون غيره: وقيل: بل كل من

الباب الثاني: في أعمال الحج، وفيه اثنا عشر فصلا

مسكنه دون مسافة القصر حوالي مكة. وقيل: بل كل من مسكنه دون المواقيت، وتردد مالك فيمن له أهل بمكة، وأهل بغيرها وقال: " هي من مشتبهات الأمور، والاحتياط في ذلك أعجب إلي "، وقال أشهب: إن كان أكثر إقامته بمكة، ويأتي غيرها منتابا، فلا هدي عليه، وإن كان بالعكس من ذلك، فعليه الهدي. قال أبو الحسن اللخمي: " ولا يختلف في هذا "، وقال: " وإنما تكلم مالك على من تساوت إقامته في الموضعين ". فرع: المراعى في حضور المسجد الحرام وقت فعله النسكين وابتدائه بهما، فإن كان في ذينك الوقتين مستوطنا مكة فحكمه حكم (أهل الآفاق)، وإن كان مستوطنا سائر الآفاق، فحكمه حكم أهل الآفاق. الثاني: أن يتحلل من العمرة من أشهر الحج، ثم يحرم به، فلو تقدم تحللها لم يكن متمتعا، إذ لم يزحم الحج بالعمرة في مظنته. الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة. الرابع: أن لا يعود إلى أفقه، ولا إلى أفق مثل أفقه. الخامس كان يقع النسكان عن شخص واحد. وإنما يحب دم التمتع بإحرام الحج، وهل يجوز تقديمه على الحج بعد إحرامه بالعمرة؟ فيه خلاف أجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في تقديم الكفارة قل الحنث؛ لأن الموجود من هذا إنما هو أحد سببي التمتع، وهو العمرة. الباب الثاني: في أعمال الحج، وفيه اثنا عشر فصلا: الفصل الأول: في الإحرام وينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل، مما يتعلق بالحج كالتلبية والتوجه على الطريق. وقال ابن حبيب: التلبية كتكبيرة الإحرام، فعلى حقيقة تشبيه لو نوى وتوجه نحو البيت من غير تلبية، لم ينعقد إحرامه. أما لو تجردت عنهما، فالمنصوص أنه لا ينعقد. ورأى أبو الحسن اللخمي إجراء

الخلاف في هذه الصورة من الخلاف في مسألة انعقاد بمجرد النية. وأنكر الشيخ أبو الطاهر هذا الاستقراء، وقال: " لم يختلف المهب أن العابدات لا تلزم إلا بالقول أو النية والدخول فيها، وهو الشروع ". وصفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك نلبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". قال أشهب: ومن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة، اقتصر على حظ وافر، ولا بأس عليه إن زاد على ذلك فقد زاد عمر: " لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك، لبيك مرهوبا منك، ومرغوبا إليك ". وزاد ابن عمر: " لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيدك لبيك، والرغبى إليك والعمل ". ولو احرم مطلقا لا ينوي حجا ولا عمرة، فقال أشهب: هو بالخيار، إن شاء جعلها حجة، وإن شاء جعلها عمرة، وأحب إلي أن يجعلها حجة، وقع له في موضع آخر: أحب إلي أن يكون قارنا. ولو اختلف العقد والنطق، فالاعتبار بالعقد. وروي: ما يشير إلى اعتبار النطق، فروى ابن القاسم فيمن أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ، فقرن أو تكلم بالعمرة، فليس ذلك بشيء، وهو على حجه. قال في العتبية: " ثم روجع مالك فقال: عليه دم "، وقاله ابن القاسم. ولو أحرم مفصلا، ثم نسى ما أحرم به، فإنه يكون قارنا عند أشهب. وقال غيره: يحرم بالحج، ويعمل حينئذ القران. ولو شك هل أفرد أو قرن هن تمادى على نية القران وحده. وإن شك هل أحرم بالحج أو بالعمرة مفردا، طاف وسعى، لجواز أن يكون إحرامه بعمرة، ولا يحلق لإمكان أن يكون في حج، ويتمادى على عمل الحج، ويهدي لتأخير الحلاق لا للقران؛ لأنه لم يحدث نية للحج، بل تمادى على نيته الأولى، وهي لشيء واحد. أما العمرة فلا يضره تماديه بعد فراغه من سعيها. وأما الحج فيكون مفردا، ويكون ما تقدم من الطواف والسعي له لا للعمرة.

الفصل الثاني في سنن الإحرام: وهي أربع

الفصل الثاني في سنن الإحرام: وهي أربع: الأولى: الغسل تنظفا حتى يسن للحائض والنفساء، ويغتسل الحاج لثلاثة مواطن: للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة. ولا يتطيب بعد الغسل، ولا يتطيب قبله أيضا بما تبقى رائحته بعد الإحرام. فن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الفدية، وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله ". الثانية: التجرد عن المخيط في إزار ورداء ونعلين. الثالثة: أن يصلي ركعتين أو أكثر، ثم يلبي ناويا. فالراكب يبتدئ إذا ركب، وأراد الأخذ في السير. والماشي إذا أخذ في المشي، والأحسن أن تكون الصلاة مختصة بالإحرام، فإن أحرم عقيب الفرض، فلا بأس. ولو أتى الميقات في وقت نهي، أمر بالانتظار لوقت الصلاة، إلا أن يكون خائفا أو مراهقا فيحرم. الرابعة: أن يجدد التلبية عند كل صعود وهبوط، وحدوث حادث، وخلف الصلوات، وإذا سمع من يلبي. ولا تفرع الأصوات بالتلبية في شيء من المساجد، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى. ولا يلبي في الطواف والسعي، فإن لبى فلا حرج، فإذا فرغ من سعيه عاود التلبية. ويستحب رفع الصوت بها إلا للنساء، ولا يسرف في رفع الصوت، ولا يلح فلا يسكت. ثم يقطع في الحج إذا كان قاصدا لمكة حين يأخذ في الطواف. ثم يعاود التبية بعد فراغه من السعي إلى أن يقطع إذا زاغت الشمس من يوم عرفة في رواية ابن المواز. وإذا راح إلى المصلى في رواية ابن القاسم. وإذا راح إلى الموقف في رواية أشهب، واختارها سحنون، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه: " أنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة ". واستحسنه أبو الحسن اللخمي، ويقطع المعتمر من المواقيت وما قاربها، إذا دخل الحرم، وإن أحرم من القرب، فإذا دخل بيوت مكة.

الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

الفصل الثالث: في سنن دخول مكة وهي أن يغتسل بذي طوى، ويدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهي الصغرى التي بأعلى مكة، يهبط منها على الأبطح والمقبرة فيها عن يسارك، وأنت نازل منها. ويخرج من ثنية كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير، وهي الوسطى التي بأسفل مكة. (فكذلك) فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يدخل المسجد من باب بنى شيبة، فيأتي الركن الأسود، ويتبدئ بطواف القدوم. وكل من دخل مكة من غير مكثري التردد، فإنه يحرم عليه دخولها حلالا، وإن لم يرد نسكا، وقيل: يكره. وقال أبو مصعب: " يباح ". الفصل الرابع: في الطواف. وواجباته ستة: الأول: شرائط الصلاة من طهارة الحدث والخبث وسترة العورة، إلا أنه يباح فيه الكلام. فرعان: الأول: لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة، رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف. وقال المغيرة: يعيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه. الفرع الثاني: لو طاف وفي ثوابه أو بدنه نجاسة، فعلم بها بعد طوافه فأزالها وصلى، لم يعد الطواف كمن ذكر بعد الوقت. وإن ركع بها الركعتين أعادهما فقط إن كان قريبا، ولم ينتقض وضوءه. فإن انتقض أو طال ذلك، لا شيء عليه، كزوال الوقت. قال أصبغ: سلامه من الركعتين، كخروج الوقت، وليس إعادتهما بواجب، وهو حسن أن يعيدهما بالقرب. قال أشهب: إن علم بنجاسة الثوب في طوافه، نزعه إن كان كثيرا، وأعاد طوافه. وإن علم بعد فراغه أعاد الطواف والسعي فيما قرب إن كان واجبا، ون تباعد فلا شيء ويهدي، وليس بواجب. الثاني: الترتيب، وهو أن يجعل البيت على يساره، ويبتدئ بالحجر الأسود، ولو جعله

على يمينه، لم يصح، ولزمته الإعادة. قيل: إذا رجع إلى بلده لن تلزمه إعادة. ولو بدأ بغير الحجر لم يعتد بذلك الشوط إلى أن ينتهي إلى الحجر، فمنه يبتدئ الاحتساب. الثالث: أن يكون بجميع بدنه خارجا عن البيت، فلا يمشى على شاذروانه، ولا في داخل محوط الحجر، فإن بعضه من البيت. الرابع: أن يطوف داخل المسجد، فلو طاف خارجه لم يجزئه. ولا يطوف من وراء زمزم، ولا من وراء السقائف، فإن فعل مختارا، (أعاد) ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده فهل يجزيه الهدي أو يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان. الخامس: رعاية العدد، فلو اقتصر على ستة أشواط لم يجزئه. السادس: ركعتان عقيب الطواف مشروعتان، وليستا من الأركان. واختلف في حكمهما فقال القاضي أبو محمد: " هما ستة ". وقال القاضي أبو الوليد: الأظهر عندي (أنهما واجبتان) في الطواف الواجب، (وتجبان) بالدخول في التطوع ". وقال الشيخ أبو الوليد: " حكمهما حكم الطواف في الوجوب والندب ". فرعان: الأول: لو ترك الحاج أو المعتمر الركعتين، أعاد الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى. قال ابن القاسم: " يركعهما، ولا يعد الطواف ولا السعي ". الفرع الثاني: وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى. وقال ابن القاسم: " يركعهما، ولا يعيد الطواف ولا السعي ". الفرع الثاني: وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف لاتصال الركعتين به، فإن فات ذلك بالبعد عن مكة ركعهما وأهدى. أما سنن الطواف، فهن أربع: الأولى: أن يطوف ماشيا لا راكبا، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليظهر فيستفتي. فإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر، فقال القاضي أبو محمد: " يكره له ذلك ".

وروى محمد لا يجزئه. قال القاضي أبو الوليد: وإنما يريد نحو ما ذهب إليه أبو محمد، لأنه روي عن مالك أنه قال: " يعيد طوافه "، فإن لم يفعل فليبعث بهدي. الثانية: استلام الحجر الأسود بالفم ومس الركن اليماني باليد، فإن منعته الزحمة من الاستلام بالفم، اقتصر على لمسه بكفه، أو بما معه من عود إن لم يستطع لمسه. ثم في تقبيل ما يلمسه به، روايتان. ويستحب ذلك في آخر ذلك كل شوط. الثالثة: الدعاء، وليس بمحدود. وقال ابن حبيب: يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. الرابعة: الرمل للرجل دون النساء في الأشواط الثلاثة الأول، والهيئة في الأربعة الأخيرة، وذلك في طواف القدوم. وفي شرعيته في طواف الإفاضة للمراهق، وفي طواف القدوم في حق من أحرم من التنعيم وشبهه، خلاف. فإن ترك الرمل أولا لم يقضه آخرا؛ إذ تفوت به السكينة. ولو طيف بالمريض الذي لا يقدر على الطواف بنفسه، أو بالصبي، فالمنصوص في المريض أنه يرمل به، وفي الصبي قولان، وأجراهما أبو الحسن اللخمي في المريض. ولو زوحم الطائف رمل بحسب قدرته، إن كان متحركا، وسقط عنه إن كان وافقا، لعدم تصوره. فرع: لو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه، أجزأ عن الصبي. ولو كان الطائف لم يطف عن نفسه، لم ينتقل إليه، ولا يكفيهما طواف واحد، بخلاف ما إذا حمل صبيين وطاف بهما طوافا واحدا، فإنه يكفيهما، كراكبين على دابة.

الفصل الخامس: في السعي

الفصل الخامس: في السعي ومن فرع من ركعتي الطواف، استلم الحجر، وخرج من باب الصفا إليها، فترقى فيها حتى يبدو له البيت إن قدر، فيدعو ثم يمشي إلى المروة، ويترقى فيها ويدعو، ويسرع الرجال دون النساء في المشي في بطن المسيل، وهو ما بين الميلين الأخضرين. قال الشيخ أبو إسحاق: وثم ميل أخضر ملصق بركن المسجد، فإذا انتهى إليه سعى سعيا هو أشد من الرمل حول البيت، حتى يخرج من بطن المسيل إلى ميل أخضر هناك، ثم يعود إلى الهيئة. ويكمل له السعي بأن يحصل له الوقوف على الصفا أربعا، وعلى المروة أربعا، والترقي، والدعاء، وسرعة المشي سنن. ولكن وقوع السعي بعد طواف ما شرط، فلا يصح الابتداء به، وليسع عقيب طواف القدوم، فإن كان مراهقا، فعقيب طواف الإفاضة. ولو أخره غير المراهق، وأتى به بعد طواف الإفاضة، ففي لزوم الدم [له] وعدمه قولان لابن القاسم وأشهب. فإن لم يأت به عقيب طواف الإفاضة، وأتى به عقيب طواف الوداع، فقال أبو الحسن اللخمي: " يجزئه عند مالك، (لأنه) يرى أن واف التطوع في الحج يجزي عن الواجب ". قال: ولا يجزي عند محمد بن عبد الحكم ". ولا تشترط فيه الطهارة، ولا شيء من شروط الصلاة بخلاف الطواف لكن تستحب. الفصل السادس: في الوقوف بعرفة وفي الحج ثلاثة خطب: الأولى: أن يخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بمكة بعد الظهر خطبة واحدة، ولا يجلس فيها. وقل: يجلس في أثنائها، فيأمرهم بالغدو إلى منى، ويخبرهم عما يفعلونه إلى حين وصولهم إلى عرفة. ثم يخرج اليوم الثامن بمقدار ما يدرك، بعد الوصول، صلاة الظهر هناك، ويبيت ليلة عرفة بمنى، ثم يغدو منها بعد طلوع الشمس، فيأتي عرفة، فيخطب بها بعد الزوال، وهي الخطبة الثانية، ويجلس في وسطها، يعلم الناس فيها ما يفعلونه من الوقوف والصلاة

إلى اليوم الحادي عشر. ثم يخطب الثالثة اليوم الحادي عشر، فيعلمهم ما يفعلونه من بقية المناسك. وإذا خطب الثانية بدأ المؤذن بالأذان إن شاء، والإمام في الخطبة. وإن شاء بعد فراغه منها، وقيل: إذا فرغ الإمام جلس، ثم أذن المؤذن. وفي الواضحة وغيرها: أنه إذا جلس بين الخطبتين أذن المؤذن، فإذا تمت الخطبة أقيمت الصلاة، فيصلي الظهر والعصر جميعا، ويجمع معهم العصر من صلى الظهر وحده، ثم يقبلون على الدعاء إلى وقت الغروب. والوقوف راكبا أفضل، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقوى على الدعاء. فإن لم يكن راكبا قائما، ولا يجلس إلا لعلة، أو لكلال. ثم يفيضون بعد الغروب إلى المزدلفة. ويستحب المرور بين المأزمين، فيصلون بالمزدلفة المغرب والعشاء في وقت العشاء. فلو قدمها الحاج ق بلها، فقال ابن القاسم: " يعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لها ميقاتا ". وقال أشهب: يعيد العشاء وحدها، إن صلاها قبل مغيب الشفق، ورأى التأخير رخصة لا عزيمة. والواجب من الوقوف ما ينطلق عليه اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة، سوى بطن عرنة، فإن وقف ببطن عرنة لم يجزئه لأنها من الحرم. وإن وقف بالمسجد، فوقف مالك وابن عبد الحكم في إجزائه، وقال أصبغ: لا يجزئه. قال محمد بن المواز: ويقال: إن حائط المسجد القبلي على حده، ولو سقط لسقط في عرنة. قال أبو الحسن اللخمي: " وعلى هذا يجزئ الوقوف فيه، لأنه من الحل. وقال: وكذا عند ابن مزين، أنه يجزئ الوقوف فيه ". واختلف في اشتراط كونه عاملا بأنه بعرفة، وفي اشتراط وقوفه بها، حتى لا يجزئ المرور من غير وقوف. (ولو أحضر المحرم المغمى عليه، ففي الكتاب قال: " قال مالك يجزئه ". وروى مطرف وابن الماجشون: إن أغمي عليه بعرفة قبل الزوال لم يجزئه، وإن أغمي عليه بعد

الزوال، وكان ذلك قبل أن يقف أجزأه، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع به، وليس عليه أن يقف ثانية إذا أفاق في بقية ليلته. قالا: وهو كالذي يغمى إليه في رمضان قبل الفجر أو بعده، وروي في: " مختصر ما ليس في المختصر ": إن وقف مفيقا ثم أغمي عليه أجزأه، وإن وقف مغمى علبيه فلم يفق حتى طلع الفجر، لم يجزئه. وقاله أشهب في مدونته). ويبتدئ وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وينتهي بطلوع الفجر يوم العيد. ومتعلق الإجزاء من ذلك الليل، فلا بد من الوقوف في الليل ولو لحظة. فلو أنشأ الإحرام ليلة العيد جاز؛ لأن " الحج عرفة " ووقته باق. ولو فارق عرفة نهارا، ولم يكن حاضرا وقت الغروب، ولا عاد بالليل تداركا، فقد فاته الحج. فرعان: الأول: من أتى قرب الفجر وقد نسي صلاة، فإن صلاها طلع الفجر ولم يقف، ففي كتاب ابن المواز: إن كان قريبا من جبال عرفة، وقف وصلى، وإن كان بعيدا بدأ بالصلاة وإن فاته الحج. وقال محمد بن عبد الحكم: إن كان من أهل مكة وما حولها، فليبتدئ بالصلاة، وإن كان من أهل الآفاق مضى إلى عرفة، فوقف وصلى. الفرع الثاني: لو وقف الحاج يوم العاشر غلطا في الهلال أجزأهم حجهم، ولم يجب القضاء، ويمضون على علمهم، ولو تبين لهم ذلك، وثبت عندهم في بقية يومهم أو بعده، ويكون حالهم في شأنهم كله كحال من لم يخطئ، وقاله ابن القاسم في العتبية، وقال أيضا: " لا يجزئهم ". واختلف فيه قول سحنون أيضا، وحكى الخلاف عنهما الأستاذ أبو بكر. وقال أبو القاسم بن الكاتب القروي: ليس بين مالك ومن اتبعه خلاف أن حجهم تام. قال: وكذلك نقل عن الشافعي ومن اتبعه، وأبى حنيفة ومن اتبعه، وجميع علماء الأمصار. ولو وقفوا اليوم الثامن لم يجزئهم، ووجب القضاء. وحكى القاضي أبو بكر القول بالإجزاء عن ابن القاسم وسحنون، واختاره.

الفصل السابع: في أسباب التحلل

الفصل السابع: في أسباب التحلل فإذا جمع الحجيج بين المغرب والعشاء بمزدلفة باتوا بها، ثم ارتحلوا بعد أن يصلوا الصبح مغلسين بها، فإذا انتهوا عند المشعر الحرام، وقوفا فكبروا ودعوا، ثم دفعوا قبل الأسفار الأعلى، فيجاوزون إلى وادي محسر، فيسرعون المشي فيه، فإذا وافوا منى بعد طلوع الشمس، رموا سبع حصيات إلى الجمرة الثالثة، وهي العقبة، وكبروا مع كل حصاة بدلا عن التلبية؛ لأنها للإحرام، والرمي تحلل، ويأتونها على حسب حالهم قبل وضع رحالهم: الراكب راكبا، والماشي ماشيا. ثم ينحرون ويحلقون، ويعودون إلى مكة لطواف الإفاضة، ثم يعودون إلى منى للرمي في أيام التشريق. وللحج تحللان. يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة، والآخر بطواف الإفاضة. ولو قدم إفاضة على رمي جمرة العقبة، فقال مالك وابن القاسم: " تجزئه الإفاضة "، وعليه الهدي، وقال مالك أيضا: لا تجزئه، وهو كمن لم يفض. وقال أصبغ: أحب إلي أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد. ويحل له بين التحللين جميع ما كان ممنوعا منه، إلا النساء والصيد والطيب. والحلاق إن كان تحللا، فهو من المناسك هو أو التقصير. وهل تفسد العمرة بالجماع قبل الحلق لأن التحلل لم يتم دونه، أو تجزئ ويجب الهدي؟ روايتان. ولا يتم ها النسك بدون حلق جميع الرأس، فإن لم يكن على رأس المحرم شعر، فليمر الموس على الرأس. ويقوم التقصير مقام الحلق، حيث يتمكن من الإتيان به على وجهه، وقد يتعذر للعجز عن ذلك، فيتعين الحلاق كمن لا شعر على رأسه، أو شعره لطيف لا يمكن تقصيره، أو لبد شعره، مثل أن يجعل الصمع في الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، أو عقصه، أو

الفصل الثامن: في المبيت

ظفره، فإنه لا بد من الحلق في جميع هذه الصور. ويفتقر في التقصير إلى الأخذ من جميع الشعر، كما يأخذ في الحلاق جميعه. ولو أزال الشعر عن رأسه بالنورة أجزأه. وقال أشهب: لا يجزئه، وقال أبو الحسن اللخمي: " اختلف فيه، وأرى أن يجزئه ". واستحب مالك إذا حلق أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره، وذكر أن ابن عمر كان يفعله. والسنة في حق المرأة التقصير دون الحلاق، إذ هو تشويه في حقها. فرع: قال مالك في المرأة إذا قصرت: تأخذ قدر الأنملة، أو فوقه بقليل: أو دونه بقليل. وقال في الرجل: ليس تقصيره أن أخذ من أطراف شعره، ولكن يجز ذلك جزا، وليس مثل المرأة فإن لم يجزه وأخذ منه، فقد أخطأ ويجزئه. قال القاضي أبو الوليد: " يبلغ به الحد الذي يقرب من أصول الشعر ". الفصل الثامن: في المبيت والمبيت بمزدلفة ليلة العيد، وبمنى ثلاث ليال بعده، نسك. فأما الثلاث، فيجب بتركه فيها الدم، وكذلك في واحدة منها. وأما ليلة العيد، فإن دفع من عرفة إلى منى، ولم ينزل بالمزدلفة، فقال مالك: " عليه الدم، وإن نزل بها، ثم دفع من أول الليل أو وسطه، فلا دم عليه ". وقال عبد الملك: لا دم عليه، وإن دفع من عرفة إلى منى.

الفصل التاسع: في الرمي

الفصل التاسع: في الرمي وهو من الأبعاض المجبورة بالدم، وهو رمي سبعين حصاة مثل حصى الخذف، واستحب مالك لقطها على كسرها. يرمي سبعا يوم النحر إلى جمرة العقبة قبل نزوله، وإحدى وعشرين حصاة في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث. ومن نفر في النفر الأول سقط عنه رمي اليوم الأخير، ومبيت تلك الليلة. وقال ابن حبيب: يرمي عنه في الثالث عقيب رميه لليوم الثالث، كمنا كان يرمي لو لم يتعجل. قال الشيخ أبو محمد: " وليس هذا قول مالك، ولا أعلم من هب إليه من أصحابه ". قال ابن المواز: وإنما يصدر رمي المتعجل كله بتسع وأربعين حصاة، منها سبع يوم النحر، ولليومين اثنتان وأربعون. قال ابن القاسم: " قال مالك: أرى أهل مكة مثل غيرهم في التعجيل، ثم استثقله لهم إلا من عذر من تجارة أو مرض ". قال مالك: " ولا يعجبني لإمام الحاج أن يتعجل ". محمد: قال أشهب: فإن فعل فلا بأس عليه، وأخذ ابن القاسم بقوله: إن لأهل مكة التعجيل كغيرهم، فإن غربت على المتعجل الشمس بمنى، لزمه المبيت والرمي. (وأرخص) للرعاء أن ينصرفوا بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يعودون ثالثه، فيرمون عن الثاني والثالث، ثم إن شاءوا انصرفوا إذ ذاك يوم النفر الأول، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر. وقال ابن المواز: إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به. ووقت الرمي في أيام التشريق بين الزوال والغروب، ولا يجزئ إلا رمي الحجر، ويتبع اسم الرمي، ولا يكفيه الوضع. والعاجز يستنيب في الرمي، إذا كان الظاهر من حاله أنه لا يزول عجزه في وقت الرمي. وفي الرمي عنه ظهر من حاله أنه يقدر على الرمي ولو في آخر وقته، خلاف. وللرمي وقت أداء، ووقت قضاء، ووقت فوات. فأما وقت الأداء في يوم النحر، فمن طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وتردد القاضي أبو الوليد في الليلة التي تلي يوم النحر، هل هي وقت أداء أو وقت قضاء؟.

والفضيلة من هذا الوقت من بعد طلوع الشمس إلى الزوال. وما بعده لا يشاركه في الفضل، وإن شاركه في كونه وقت أداء. وكذلك ما قبل طلوع الشمس. ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس، ويتردد في الليل كما تقدم في جمرة العقبة. والفضيلة تتعلق بعقيب الزوال من هذه الأيام. ووقت القضاء لكل يوم ما بعده منها، فلا قضاء لليوم الرابع. فإن ترك جمرة، أتى بها في يومها إن ذكرها فيه، ثم لا شيء عليه إلا أن تكون الأولى أو الوسطى فيعيد ما بعدها. وقيل: لا يعيد، وإن ذكرها بعد مضي يومها، أعاد ما كان في وقته خاصة. وقيل: لا يعيد. ولو كان المتروك حصاة واحدة وذكر موضعها، رماها، فجبر بها النقض، ولم يعد رمي الجمرة. ويختلف فيما بعدها على ما تقدم. وقيل: يعيد رمي الجمرة. وقيل: يجزئه جبر نقصها إن كان يوم الأداء، ويبتدئ رميها إن كان يوم القضاء. وكذلك إن لم يذكر موضعها، فقال في الكتاب: " يرمي عن الأولى بحصاة، ثم يعيد ما بعدها ". وقال فيه أيضا: " يبتدئ رمي الجميع، ولا يعتد بشيء ". ولا خلاف في وجوب الدم مع فوات القضاء، ولا في سقوطه مع الأداء. ويختلف في وجوبه وسقوطه مع القضاء. ثم يجب جنسه [ترك جمرة أو حصاة، لكن يتنوع: ففي ترك جمرة أو الجمار كلها، تجب بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. وفي ترك الحصاة يهدي ما شاء. وفي كتاب محمد: من ذكر بعد أيام منى حصاة، ذبح شاة، فإن كانت جمرة، ذبح بقرة. محمد: وإن كانت الجمار كلها فبدنة. وقال عبد الملك فيمن ترك حصاة إلى ست: فشاة، فإن كانت سبعا فهو كالجميع، وعليه بدنة. ولا يبطل الحج بفوات شيء من الجمار. وقال عبد الملك: يبطل بفوات جمرة العقبة. فرعان: الأول: في صفة الرمي. وهي أن يبدأ بالجمرة التي تلي مسد منى، وهي الأولى، فيرميها من فوقها بسبع حصيات، واحدة بعد واحد، يتبع بعضها بعضا، ويكبر كلما رمى بحصاة، فإذا فرغ من رميها، تقدم أمامها، واستقبل الكعبة، فرفع يده وكبر الله وهلله وحمده، وأكثر ذكره والثناء عليه، على حسب ما يحضره ويستطيع، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لنفسه ولأبويه وللمؤمنين،

الفصل العاشر: في طواف الوداع

ويطيل الوقوف للدعاء، فقد روي عن القاسم وسالم أنهما كانا يقفان قدر ما يقرأ ما الرجل السريع سورة البقرة. ثم يمضي إلى الجمرة الوسطى، ويرميها كذلك، فإذا قضى رميها انصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، فيقف أمامها مما يلي يساره، ووجهه إلى البيت، فيفعل في الوقوف والذكر والدعاء كفعله عند الجمرة الأولى. واختار ابن حبيب أن يكون وقوفه دون الوقوف الأول، لفعل ابن مسعود. ثم يمضي إلى الجمرة القصوى، وهي جمرة العقبة، فيرميها كذلك، إلا أنه يرميها من أسفلها في الأيام الأربعة، يقف ببطن الوادي فيستقبلها، والبيت عن يساره ومنى عن يمينه، ولا يقف عندها للدعاء والذكر، كما فعل في اللتين قبلها، فتلك السنة. ويستحب أن يأتي بالجمار في الأيام الثلاثة ماشيا ذاهبا وراجعا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليعلن الحاج بالتكبير أيام منى، ويذكر الله فيها، ويعاود ذلك وقتا بعد وقت إلى انقضائها، فقد كان عمر رضي الله عنه يكبر أول النهار، ويكبر الناس بتكبيره، ثم يكبر إذا ارتفع النهار كذلك، ثم يكبر إذا زالت الشمس كذلك، ويكبر الحاج حتى ترتج منى بالتكبير، حتى يبلغ ذلك مكة، وبينهما ستة أميال. ثم يكبر بالعشي كذلك أيام منى كلها. الفرع الثاني: قال القاضي أبو محمد: " ما يفعل بمنى من رمي ونحر وحلاق، فلا شيء في تقديم بعضه (على بعض)، إلا تقديم الحلاق على الرمي ففيه دم ". وقال الشيخ أبو الطاهر: " إن ابتدأ بالنحر قبل الرمي فالمذهب سقوط الفدية، وإن ابتدأ بالحلق قبل الرمي، فقولان، سقوط الدم، ووجوبه ". قال: " والمشهور الوجوب ". وإن ابتدأ بالحلق قبل النحر، ففي سقوط الفدية ووجوبها قولان لمالك وعبد الملك. وإن ابتدأ بالإفاضة قبل الرمي، فقد تقدم حكم ذلك. الفصل العاشر: في طواف الوداع ويسمى طواف الصدر، وهو مشروع إذا لم يبق شغل، وتم التحلل، وعزم على الانصراف، فإن عرج بعده على شغل خفيف، كما لو باع أو اشترى بعض حوائجه، لم يعده.

الفصل الحادي عشر: في بيان ما يجبر بالدم وما لا يجبر

ولو أقام بعده يوما أو بعضه أعاد. ومن خرج ولم يودع، رجع ما لم يخش فوات أصحابه، ولو برز بهم الكري فبات بذي طوى، لم يرجع، ولا يجب بتركه دم. ولا يودع مكي، ولا قادم أوطن مكة، ولا خارج إلى التنعيم ليعتمر، ولا من اعتمر ثم خرج من فوه، فإن أقام ثم خرج ودع. وكذلك من فاته الحج ففسخه في عمرة في الحالتين جميعا. ويودع من خرج إلى ميقات، كالجحفة وغيرها، والمكي إذا سافر، ومن حج من مر الظهران أو من عرفة أو غيرهما مما يقرب. ولا وداع على من طاف للإفاضة ثم خرج من فوره. والحائض تخرج بعد الإفاضة، ولا تترقب الطهر لتودع. فِأما لو حاضت قبل الإفاضة لجلست حتى تطهر أو تستحاض ويحبس عليها كريها. واختلفت الرواية في مدة الحبس. فروى أشهب: خمسة عشر يوما. وروى غيره: خمسة عشرة يوما، وتستظهر بعد ذلك بيوم أو يومين أحب إلي. وروى ابن القاسم: " قدر ما تقيم في حيضتها والاستظهار ". وروى ابن وهب: يحبس أكثر ما تقيم الحائض في الحيض، والنفساء في النفاس. قال الشيخ أبو محمد: " وعليه أكثر أصحابه ". وقال غيره: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف. وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف. وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله من الآمن، فأما في هذا الوقت حيث لا يأمن في طريقه، فهي ضرورة، ويفسخ الكراء بينهما. فرع: إذا قلنا برواية ابن القاسم، فتجاوز الدم مدة الحبس، فهل تطوف، أو يفسخ الكراء؟ قولان. الفصل الحادي عشر: في بيان ما يجبر بالدم وما لا يجبر اعلم أن جميع أفعال الحج تنقسم إلى ثلاثة أقسام: واجبات أركان، وواجبات ليست بأركان، ومسنونات مستحبات ليست بأركان ولا واجبات. القسم الأول: واجبات هي أركان كالإحرام، وقوف عرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. وزاد عبد الملك بن الماجشون: جمرة العقبة.

ومعنى قولنا أركان: أنه لا يجزئ منها إلا الإتيان بها، ولا جبران لها من دم ولا غيره. القسم الثاني: واجبات ليست بأركان. وهذه تجبر بالدم، وهي ترك التلبية جميعها، وترك طواف القدوم لغير المراهق، وتجاوز الميقات لمريد الإحرام إذا أحرم عبد تجاوزه، وترك الجمار كلها، أو ترك بعضها، أو حصاة منها، وترك النزول بمزدلفة. وإن أخر ركعتي طواف القدوم، وذكر ذلك بمكة أو قريبا منها بعد فراغه من حجه، رجع فطاف وسعى وعليه دم. وإن ترك المبيت بمنى لياليها أو ليلة منها، فعليه الدم. وغن ترك الوقوف مع الإمام متعمدا حتى دفع الإمام. ثم وقف بعده ليلا قبل طلوع الفجر، أساء وعليه الدم، وحجة مجزئ عنه. وإن رجع نم عرفات فأصابه أمر احتبس له: مرض أو غيره، فلم يصل مزدلفة حتى فاته الوقوف بها، فعليه الدم. وإن ترك الحلاق حتى ردع (لبلده)، حلق وعليه دم. ومن أنشأ الحج من مكة، فطاف وسعى قبل خروجه إلى عرفات، ثم لم يسع عد إفاضته من عرفة حتى رجع لبلده، فعليه الدم. قال الأستاذ أبو بكر: وأصحابنا يعبرون عن هذه الخصال بثلاث عبارات، فمنهم من يقول: واجبة، ومنهم من يقول: وجوب السنن، ومنهم من يقول سنة مؤكدة. قال: ولم أر لأحد من علمائنا هل يأثم بتركها أم لا، أو أرادوا بالوجوب وجوب الدم، والأمر محتمل. القسم الثالث: مسنونات مستحبات. وهذا القسم لا يأثم بتركه، ولا يجب فيه الدم. وهو مثل الغسل للإحرام، أو لدخول مكة، وترك الرلامل في الطواف أو ببطن المسيل بين الصفا والمروة، واستلام الركن، وترك الصلاة قبل الوقوف بعرفة، أو ترك الحلاق بمنى يوم النحر، وحلق بمكة، أو في الحل أيام منى، أو ترك طواف الوداع، أو ترك مبيت منى ليلة عرفة، أو المبيت بمزدلفة، ثم الدفع منها، أو ترك الوقوف مع الإمام بها، أو ترك القيام عند الجمرتين للدعاء.

الفصل الثاني عشر: في حكم الصبي

الفصل الثاني عشر: في حكم الصبي وللولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز، ويحضره المواقيت، فيحصل الحج للصبي نفلا. والمميز يحرم بإذن الولي، ويتولى المميز الأعمال بنفسه. وما يزيد من نفقة السفر، فعلى الصبي إن خاف الولي عليه ضيعة بتركه، وعلي الولي أن لم يخف عليه. وحيث قلنا: زيادة النفقة في مال الصبي، فالفدية في ماله، وجزاء الصيد. وحيث قلنا: في مال الولي، فجزاء الصيد أيضا في ماله، وقيل: في مال الصبي. وإذا فسد حجه، فعليه القضاء والهدي. ولو بلغ الصبي في حجه، لم يقع عن حجة الإسلام. وعتق العبد في الحج كبلوغ الصبي. ولو طيب الولي الصبي، فالفدية على الولي، إلا إذا قصد المداواة، فيكون كاستعمال الصبي. الباب الثالث: في محظورات الحج والعمرة، وهي أنواع: الأول: اللبس. وإحرام الرجل في رأسه ووجهه، فيحرم على المحرم أن يستر رأسه بما يعد ساترا من خرقة أو رداء أو عمامة، ولا بأس أن يتوسد بوسادة، (ولا بأس أن يستظل تحت المحمل وهو سائر، أو يجعل يده على رأسه أو يستر وجهه بيده من الشمس). وقال سحنون: لا يستظل تحت المحمل وهو سائر. (مالك: ولا يستر المحرم على رأسه، ولا على وجهه من الشمس بعصا فيها ثوب، فإن فعل افتدى، ولا بأس بالفسطاط والقبة، وهو نازل. ولا يعجبني أن يستظل يوم عرفة بشيء. ولا يستظل في الحبر، إلا أن يكون مريضا، فيفعل ويفتدي. وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يتظلل المحرم إذا نزل بالأرض، ولا بأس أن يلقي ثوبا على شجرة، فيقيل تحته، وليس كالراكب والماشي، وهو النازل كخباء مضروب. وذكر ابن المواز في كتاب المناسك: أنه لا يستظل إذا نزل بالأرض بأعواد يجعل عليها كساء أو غيره،

ولا بمحمله. قال: وإنما وسع له في الخباء والفسطاط والبيت المبني. وقال يحيى بن عمر: لا بأس بذلك كله إذا نزل بالأرض). وقال مالك في المرأة تعادل الرجل في المحمل: لا يعجبني أن يجعلا عليهما ظلا، وعسى أن يكون في ذلك بعض السعة إن اضطر إلى ذلك. وفي رواية أشهب: " لا يستظل هو، وتستظل هي، وقاله ابن القاسم ". وقال أبو الحسن اللخمي: " إن كان في محارة كشف عنها، فإن لم يفعل افتدى ". وقد نقل الإمام أبو عبد الله والقاضي أبو بكر: " أن ابن عمر أنكر على منت استظل راكبا، وقال: " اضح لمن أحرمت له! ثم نقلا عن الرياشي أنه قال: رأيت أحمد بن المعذل الفقيه في يوم شديد الحر، وهو ضاح للشمس، فقلت: يا أبا الفضل، هذا أمر قد اختلف فيه، فول اخذ ... بالتوسعة، فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ... الظل أمسى في القيامة قالصا (فيا) أسفا إن كان سعيك باطلا ... (ويا) حسرتا إن كان حجك ناقصا " فإن كان نازلا بالأرض لم يستظل تحتها، فإن فعل افتدى، ولا بأس أن يكون في ظلها خارجا عنها. وكذلك إن كان ماشيا، فلا بأس أن يستظل بظلها إذا كان خراجا عنها، ولا يمشي تحتها. واختلف إذا فعل. (ولو حمل على رأسه ما لا بد له منه، كخرجه وجرابه وغيره، فلا بأس به. ولا يحمل ذلك لغيره تطوعا ولا بإجارة، فإن فعل افتدى). ولا يحمل لنفلسه تجارة من بز أو سقط ونحوه، ولم يرخص له في حمل التجارات. قال أشهب: إلا أن يكون عيشه ذلك. ولا يغطي المحرم وجهه أيضا، فإن غطاه فلا فدية عليه. وحكى القاضي أبو محمد في

إيجاب الفدية رواية، ثم خرج الخلاف في ذلك على أن التغطية محرمة أو مكروهة. قال ابن القاسم: " ولا بأس أن شد منطقته تلي جلده لنفقته، ولا يربطها على عضده أو فخذه، واستخفه أن فعل: ألا فدية عليه ". وقال أصبغ: يفتدي في شدها في العضد. وإن شدها فوق إزاره، أو ربطها على جلده لحمل نفقة غيره افتدى، وكذلك إن احتزم بحبل أو خيط لغير عمل، فإن كان لعمل، فلا فدية عليه، وكذلك إن ربط المنطقة أولا لنفسه، ثم أضاف إليها نفقة غيره، أو تقلد السيف لحاجته إلى ذلك، فلا فدية عليه. قال ابن وهب: فإن تقلده لغير ضرورة افتدى. وقال أصبغ: لا فدية على. قال الشيخ أبو محمد: " يريد وإن طال ". وقد روي عن مالك (" ولو ألصق على قرح خرقا صغارا، فلا شيء عليه، وإن كانت كبارا افتدى "، وإذا ألصق ذلك على صدغيه لصداع افتدى. وله أن يعصب رأسه لصداع أو لجرح، ويفتدي). وكذلك الجباير وشبهها. أما سائر الجسد فله ستره، لكن لا يلبس المخيط الذي أحاطت به الخياطة كالقميص، أو النسج كالدرع، أو العقد كجبة البلد. فلو ارتدى بقميص أو جبة فلا بأس، وكذا إذا التحق بأحدهما. ولو لبس القباء لزمته الفدية، وإن لم يدخل اليد في الكم ولا زرره. وحكى الشيخ أبو الطاهر في جواز لباس الخاتم قولين: وأما المرأة فإحرامها في وجهها وكفيها، ولها أن تستر وجهها بثوب تسدله

(عليه) من فوق رأسها، ولا تغزره بإبرة. فإن كان عديما فليفتد المحرم، ويرجع على الفاعل إن أيسر بالأقل من ثمن الطعام أو ثمن النسك إن افتدى بأحدهما، وإن صام فلا يرجع عليه بشيء. النوع الثالث: ترحيل الشعر واللحية بالدهن. وهو يوجب الفدية، فلو دهن الأصلع رأسه فكذلك، فإن كان الشعر محلوقا، فأولى بالوجوب. (ويكره له غمس رأسه في الماء حفية قتل الدواب، فإن فعل أطعم شيئا من طعام). (وليس له غسله بالسدر والخطمي، وأولى بالمنع، ويفتدي إن فعل). ولا بأس بالاكتحال للرجال بالإثمد والمر والصبر وغير ذلك، لحر يجده أو لضرورة، أن يكون في الكحل طيب، فإنه يفتدي. ويكره أن يكتحل لزينة. وقال ابن القاسم: " فإن اكتحل لزينة فعليه الفدية ". ولا تكتحل المرأة بالإثمد لزينة، فإن اكتحلت لغير زينة لها، إلا أن يكون لضرورة، ولا طيب فيه، فلا فدية عليها. وروى ابن القاسم وابن وهب وأشهب: " لا يكتحل المحرم ولا المحرمة بالإثمد، لأنه زينة "، بخلاف الحلي للمحرمة؛ لأن الحلي شيء تضعه عليها، فإن اكتحلت به من غير وجع تجده بعينها، ولا لحر تجده، فعليها الفدية، وكذلك الرجل. وإن كان لضرر بعينها أو بعينيه، فلا بأس بذلك. النوع الرابع: التنظف بالحق وفي معناه القلم. وتحرم على المحرم إبانة الشعر، سواء أبانه بحلق أو بنتف أو غيره، ومن رأسه أو من البدن. ولو خلل لحيته فتساقط شيء من شعرها في وضوئه أو غسله، فلا شيء عليه. وتكمل الفدية بحلق ما يترفه به، ويزول معه أذى، فإن لم يترفه بذلك، ولا أماط به أذى، أطعم شيء من طعام. وإن حلق بسبب الأذى جاز، ولزمته الفدية. ولو نتف شعره أو شعرات، أطعم شيئا من طعام، فإن نتف ما أماط به عنه أذى، فليفتد. وإن قلم أظفاره افتدى.

وكذلك إن قلم ظفرا واحدا لإماطة أذى، وإن لم يمط به أذى أطعم شيئا من طعام. (وإن انكسر ظفره فليلقمه، ولا شيء عليه). وإن قص الشارب افتدى، لأنه إماطة أذى، وكذلك إن نتف ما يخفف به عن نفسه أذى وإن قل فليفتد. وقال ابن القاسم: " ولم يحد مالك فيما دون الإماطة أقل من حفنة، وكذلك في قملة انو في قملات حفنة من طعام، وهي بيد واحد ". والنسيان لا يكون عذرا في الحلق والإتلافات. وإن حلق الحلال شعر الحرام بإذنه، فالفدية على الحرام. وإن كان مكرها فعلى الحلال، وإن كان ساكتا فهو كالأذن. وإن حلق محرم رأس حلال، قال مالك: " يفتدي ". قال ابن القاسم: " وأنا أرى أن يجزئه شيء من طعام لمكان الدواب "، وقاله سحنون. النوع الخامس: الجماع. ونتيجته الفساد والقضاء والهدي. ويفسد الحج إذا وقع قبل الوقوف إجماعا، ولا يفسد إذا وقع بعد يوم النحر ولم يرم ولم يفض، وعليه عمرة والهدي وهدي آخر لتأخير الرمي، وقيل: يفسد. فإنه كان في يوم النحر، ولم يرم ولم يفض، فأولى بالإفساد، وهو المشهور. وروي أنه لا يفسد. ولو أفاض ولم يرم، ثم وطئ، فليس عليه إلا الهدي، ولا عمرة عليه. محمد: وهو كتارك رمي الجمرة، وقاله بأن كنانة. وقال ابن وهب: إن وطئ يوم النحر فسد حجه إذا لم يرم، وإن أفاض وقاله أشهب: قال أصبغ: وقول ابن القاسم وابن كنانة أحب إلينا. قال ابن القاسم: " ولو أصابها يوم النحر بعد الرمي وقبل الإفاضة، وقد كان حلق أم لا، فعليه عمرة والهدي. ويفسد العمرة أيضا وقع قبل الركوع. هذا في غير المعذور، أما المعذور بحر أو (برد) فله اللبس، لكن تلزمه الفدية. وليس للرجل ولا للمرأة لبس القفازين، وعليهما الفدية في ذلك. وقيل: لا فدية عليها في لبسهما بخلافه.

وليس لها لبس النقاب ولا البرقع ولا اللثام، فإن فعلت شيئا من ذلك افتدت. ولا يلبس الرجل الخفين، إلا أن يطر إليهما، فيقطعهما أسفل من الكعبين عدم النعلين، فإن لبسهما تامين، فعليه الفدية. النوع الثاني: التطيب وتجب الفدية باستعمال الطيب المؤنث، أو مسه كالزعفران " والورس والكافور والمسك وغيره، وقيل: لا تحب بمجرد المس. ويكره له شم الريحان والورد والياسمين وشبهه من غير المؤنث، فإنه شمه أو مسه أو علق بيده، فلا فدية فيه. واستخف ما أصباه من خلوق الكعبة؛ إذ لا يكاد ينفك منه، ولينزع الكثير عنه، وهو مخير في نزع اليسير. ولا شيء عليه في اكل الخبيص المزعفر، وقيل: إن صبغ الفم، فعيه الفدية. وما خلط بالطيب من غير طبخ، ففي إيجاب الفدية به روايتان. ولو بطلت رائحة الطيب، لم يبح استعماله. ومعنى الاستعمال، إلصاق الطيب باليد أو الثوب، فإن عبق به الريح دون العين، كجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه، مع كراهية تماديه على ذلك. ولو مس جرم الطيب، فإن عبقت به رائحته وأبقاه افتدى، وإن لم تعبق أو عبقت ومسحه في الحال، ففي وجوب الفدية الخلاف المتقدم. ولو حمل مسكا في قارورة مصممة الرأس، فلا فدية. وما تجب به من ذلك الفدية، فتجب بفعله عمدا أو سهوا أو اضطرارا أو جهلا. فإن ألقيت الريح عليه طيبا، فليبادر إلى غسله، فإن تراخى لزمته الفدية. وكذلك لو أن نائما، فطيبه غيره، فليغسله عند الانتباه، فإن أخر افتدى، وعلى فاعله به الفدية بنسك أو إطعام لا بصيام. وفي إفساده لها إذا وقع، ولم يبق سوى الحلاق، روايتان. ويستوي في الإفساد الجماع في الفرج، أو في المحل المكروه في النساء والرجال، كان معه إنزال أم لا. وكل إنزال عن استمتاع بقبلة أو جسة أو استدامة نظر أو ذكر، على خلاف في استدامة الذكر، أو وطئ فيما دون الفرج، أو حركته دابته فاستدام حتى أنزل. ثم حيث قلنا: لا يفسد الحج، فعليه الهدي والعمرة بعد أن ي طوف، لأن عليه انيأتي بالطواف والسعي في إحرام لا وطء فيه، إلا أن تكون المواقعة بعد الإضافة، فيكون عليه الهدي

فقط. ثم يجب المضي في (فاسده) بإتمام ما كان يتمه لولا الإفساد. ثم إذا أتم الفاسد، لزمه القضاء والهدي، وهو بدنة. (وقال القاضي أبو الحسن: " هذا يجب مع القدرة على البدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة ". قال: " لأنه لا يخرج بهذا عن الهدي الذي أدناه شاة ". قال: " وهذا لنا منصوص عليه، حتى إنه لو خرج شاة مع القدرة على البدنة لأجزأه على تكره ". قال القاضي أبو الوليد: " وهذا من قول القاضي أبو الحسن يدل على أن الكلام في الاستحباب "). ثم يساق هذا الهدي من الحل إلى الحرم، وينحره في الحج بمنى، بعد أن يوقفه بعرفة، وإلا نحره بمكة. ويفارق من أفسد الحج معه، زوجة كانت أو أمة، من حين الإحرام إلى بعد التحلل من حجة القضاء، خشية التذكر الداعي إلى الإفساد. ويتأدى بالقضاء ما كان يتأدى من فرض الإسلام أو غيره، وإن كان تطوعا فيجب، ولا يتأدى به غير التطوع، ووجوب القضاء على الفور في العام القابل. وإذا أحرم من مكان لم يلزمه الإحرام في القضاء من ذلك المكان، بل يحرم من الميقات. وكذلك لم أحرم في زمان لم يلزمه أن يحرم في ذلك الزمان. ويقضي مثل الإحرام الذي أفسده من إفراد أو قران أو تمتع. فلو قضى عن القران إفرادا أو تمتعا، لم يجزئ ولا يجزئ القران عن الإفراد. وقال عبد الملك: يجزئ. وهل يجزئ الإفراد عن التمتع؟ قال الشيخ أبو الطاهر: " الروايات أنه لا يقضي مفردا ". قال: " واعترض هذا أبو الحسن اللخمي ورأى إجراء الإفراد، لأن الحج الذي أفسده هو مفرد، ولا دخول للعمرة في الإفساد، فلم يلزم قضاؤها ". قال: " وهذا الذي قاله ظاهر، لولا أنهم في الرويات نظروا إلى كون القضاء على صفة المفسد. ويجب الهدي بالإفساد، وينحر في القضاء على المشهور ". وفي جواز تقديمه خلاف، ولو قدم هدي قران القضاء فنحره، لم يجزئه.

وفي إجزائه إذا قلده وأخر نحره إلى حجة القضاء خلاف. ويحج زوجته أو أمته في القضاء إن كان هو المفسد عليها حجها. وعليه في قضاء القران هديا الفساد والقران في حجة القضاء. وفي القران المفسد خلاف، منشؤه النظر إلى حال الإحرام أو مآله. النوع السادس: مقدمات الجماع. وهي الاستمتاع بما دونه، كالقبلة والمباشرة وشبهها، وجميعها مكروه. فإن فعل شيئا منها، فكان عنه الإنزال، أفسد كما تقدم، وإن لم ي كن عنه إنزال، فقد روى محمد من قبل امرأته ولم ينزل شيئا، فليهد بدنة، وإن غمزها بيده، فأحب إلي أن يذبح في ذلك، وفي كل ما يلتذ به منها. قال: ولا يمس كفها، ويكره أن يرى ذراعيها، ولا بأس أن يرى شعرها، ويكره أن يحملها على المحمل، وإن الناس ليتخذون سلالم. ولا بأس أن يفتي المفتي في أمور النساء. فأما النكاح والإنكاح، فلا ينعقدان من المحرم، ولا فدية فيه. وله مراجعة زوجته وهما محرمان. فإن قيل: فلو باشر جميع هذه المحظورات، فهل يتداخل الواجب؟ قلنا: إن لبس الثياب وتطيب وحلق وقمل أظفاره في فور أحد، ففدية واحدة تجزئه. ولو فعل شيئا بعد شيء، ففي كل واحد فدية. وكذلك إن تعالج بدواء فيه طيب مرارا متصلة متقاربة في فور واحد، فكفارة واحدة. وإن اختلفت الأدوية: فإن كانت شيئا بعد، وحاجة بعهد حاجة، فكل وقت كفارة، وكذلك كحله بدواء فيه طيب في اتصلا الأمر واستقباله، وكذلك مداواته لقرحة به مرارا بدواء فيه طيب إلا أن ي كون نوى من أول مرة أن يفعل ذلك كله ففدية واحدة. فإما إن ظهرت به قرحة أخرى، فدواها به، فلا بد من كفارة أخرى. ولو قلم اليوم أظفار يده، وقلم في غد أظفاره يد الأخرى، فكفارتان. وإن وطء مرة بعد مرة امرأة واحدة أو نساء فهدي واحد ففي ذلك كله، لأن حجة قد سد، ولا يفسد بما ذكرنا أولا. ولو لبس سراويل وقميصا في وقتين، فإن بدأ بالقميص، ففدية واحدة، وإن عكس ففديتان إلا أن يلبسهما في فور واحد، ففدية واحدة. ولو لبس ما احتاج إلى لبسه من ذلك، ثم نزعه ثم عاود لبسه، ففديتان، إلا أن يكون

نوى أول مرة أن يفعل ذلك كله، ففدية واحدة لذلك كله تجزئه، وإن كان بين ذلك أياما. ثم حيث قلنا تجب الفدية باللبس، فإنما ذلك إذا انتفع باللبس لحر أو برد أو دام عليه كاليوم، فأما لو لبس قميصا ولم ينتفع به من حر أو برد حتى ذكر فنزعه، فلا شيء عليه، وكذلك إن جرب خفا فلبسه ثم نزعه مكانه، فلا شيء عليه. النوع السابع: إتلاف الصيد. والصيد يحرم لسببين: أحدهما الإحرام، والآخر الحرم. والنظر في الإحرام يتعلق بأطراف. الأول: في الصيد. ويتخصص التحريم بصيد البر، ويعم جميعه، فيحرم إتلاف صيد البر كله، ما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه، من غير فرق بين أن يكون متأنسا أو وحشيا أو مباحا. ويحرم التعرض لأجزائه بيضه. ويلزم الجزاء بقتله وبتعريضه للتلف، إلا أن تتبين سلامته مما عرض له. ولا يستثني عن ذلك إلا ما تناوله الحديث، وهو الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور. والمشهور: أن الغرب والحدأة يقتلان وإن لم يبتدئا بالأذى. وروى أشهب المنع من ذلك، وقاله ابن القاسم، إلا أن تؤذي فتقتل، إلا أنه إن قتلهما من غير أذى، فلا شيء عليه، قال أشهب: إن قتلهما من غير ضر وداهما. واختلف أيضا في قتل صغارهما ابتداء، وفي وجوب الجزاء بقتلهما. وأما غيرهما من الطير، فإن لم يؤذ فلا يقتل، فإن قتل ففيه الجزاء، وإن آذى، فهل يقتل أم لا؟ قولان. وكذلك إذا قلنا: لا يقتل فقيل، (فقولان) أيضا. المشهور: نفي وجوب الجزاء. وقال أشهب: عليه في الطير الفدية، وإن ابتدأت بالضرر. قال أصبغ: من عدا عليه شيء من سباع الطير فقتله، وداه بشاة. قال ابن حبيب: هذا من أصبغ غلط. وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعين القتل في الدفع، فلا يختلف فيه. وأما العقرب والحية والفأرة فيقتلن، حتى الصغير وما لم يؤذ منها، (لأنه) لا يؤمن

منها الأذى، إلا أن تكون من الصغر حيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها. وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذيته بصغارها في جواز القتل ابتداء؟ فيه خلاف. والمشهور من المذهب أن المراد بالكلب العقور: الكلب الوحشي، فيدخل فيه الأسد والنمر وما في معناهما. وقيل: المراد الكلب الإنسي المتخذ. وعلى المشهور: يقتل صغار هذه، وما لم يؤذ من كبيرها. الطرف الثاني: في الأفعال الموجبة للضمان، وهي ثلاثة: المباشرة، والتسبب، واليد. ولا تخفى المباشرة والتسبب كنصب شبكة، أو إرسال كلب، أو انحلال رباطه بنوع تقصير في ربطه، وتنفير يد حتى يتعثر قبل سكون نفاره. كل ذلك يوجب الضمن إذا أفضى إلى التلف. ولو رآه الصيد ففزع فمات، ففي وجوب الجزاء عليه ونفيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب: قال محمد: وقول أشهب أحب إلي، وأخذ به سحنون. قال ابن حبيب: قال أصبغ: إلا أن يكون كانت من المحرم حركة نفر لها. (وكذلك لو ضرب فسطاطه فتعلق به صيد فمات)، أو فر الصيد لرؤيته فعطب، أو أمر غلامه بإرسال صيد فقلته، ظانا أنه أمره بقتله. ولو حفر المحرم بئرا للسارق أو السبع، ضمن ما عطب فيه. وقال أشهب: إن حفر في موضع يخشى على الصيد منه ضمنه، وإلا لم يضمنه. ولو أرسل كله على أسد، فعرض [له] صيد فقتله الكلب، ففي وجوب الجزاء خلاف، ولو دل غيره على صيد، عصى ولا جزاء عليه. وقيل: عليه الجزاء. وقال أشهب

بتخصيص الجزاء بدلالة الحرام دون دلالة الحلال. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بعكس قول أشهب، وعلل الوجوب بأنه لا يمكن إسقاط الدية، وعلل الإسقاط باستقلال المدلول بالدية. وإثبات اليد سبب الضمان إلا إذا كان في بيته فأحرم، فلا يلزمه إرساله، ولا يزول ملكه عنه، ولو كان بيده فأحرم. (ز الأرض) ملكه عنه، ولزمه إرساله. وكذلك لو كان في رفقته وهو ملكه، فإن لم يرفع يده عنه حتى مات، لزمه جزاؤه. والناس كالعامد في الجزاء إلا في الإثم. وحكى أبو الحسن اللخمي عن محمد بن عبد الله بن عد الحكم أنه قال: لا جزاء في غير العمد، ولا فيما تكرر. ولو صال عليه صيد، فلا ضمان في دفعه. ولو أكله في مخمصة ضمنه، ولو عم الجراد في المسالك فتخطاه المحرم فحطمه، فلا شيء عليه إذا لم يتعمده. الطرف الثالث: في الأكل. ولا بأس بأكل المحرم من لحم صيد صاده حلال لنفسه أو لحلال، ولا يأكل من لحم صيد صاده أو صيد من أجله. وما ذبح من الصيد بيده، أو صاده بكلبه، فكالميتة لا يأكله حلال ولا حرام، ولو وداه ثم أكل من لحمه، فلا جزاء عليه لما أكل، كأكله الميتة. وما ذبح من أجل محرم بأمره أو بغير أمره، وإن ذبحه حلال أو حرام، فلا يأكله المحرم ولا غيره. وروي عن ابن القاسم أنه إن كان عالما أنه صيد من أجله، أو من أجل محرم سواه، فالجزاء عليه، وإن لم يعلم فلا شيء عليه، وإن صيد من أجله. وروي عن مالك في المختصر وكتاب ابن المواز العتبية: أنه لا جزاء على من لم

يصد من أجله من المحرمين. وقال أصبغ: لا جزاء عليه، وإن صيد من أجله وإن علم، كمن أكل ميتة محرمة، وغير هذا خطأ. الطرف الرابع: في الجزاء. والواجب في الصيد مثله من النعم، أو مقاربة في الخلقة والصورة، إن كان مما له مثل أو مقارب، أو طعام بمثل قيمة الصيد، أو صيام يعدل الطعام، لكل مد أو كسرة يوم، وهو على التخيير. فإن لم يكن مثليا كالعصافير وغيرها، فعدل قيمته من الطعام، أو عدل ذلك صياما. والعبرة في ذلك (محل) الإتلاف أن يقوم فيه، وإلا فبأقرب مكان يتقوم فيه، ويفرقه حيث يقومه، أو في أقرب المواضع إليه، إن لم ي جد به مستحقا. قال القاضي أبو محمد: " ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم، إلا الصيام ". وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه يطعم حيث شاء. ثم قال: وقيل: إنه يطعم في موضع قتله الصيد، وهذا أحب إلي. والواجب من المثل في النعامة بدنة، وفي الفيل أيضا بدنة، لكن من الهجان العظام. قال بعض القرويين: وهي التي لها سنامان وهي بيض خراسانية. قال: وذكر ذلك عن ابن ميسر. قيل: فإن لم يجد شيئا من هذه الجمال التي ذكرت عن ابن ميسر؟ قال: ينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، ولا ينظر إلى شبع لحمه. وقال غيره من القرويين: ليس في هذه المسألة رواية، وليس للفيل نظير، وإنا ينظر إلى مثله من الطعام، فيطعم المساكين قدر ذلك، ولا ينظر إلى لحمه دون عظمه، وإنما ينظر إلى مثله كله من الطعام، فيكون على قاتله قدر ذلك. قيل: فكيف يستطاع ذلك؟ قال: قد قيل: يجعل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب، ثم يخرج الفيل، ويجعل في المركب الطعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وبهذا يعرف قدره، قال: وأما أن ينظر إلى قيمته، فهو يكون له ثمن عظيم، لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر طعام، وذلك ضرر.

وفي حمار الوحش بقرة، وكذلك في الأبل وبقر الوحش. وفي الضبغ شاة. وفي الثعلب قولان، أحدهما: شاة، والآخر: قيمته طعام أو صيام. وفي الضب روايتان: إحداهما: شاة، والأخرى قيمته طعام أو صيام. (وفي الأرنب واليربوع روايتان، قال في كتاب ابن حبيب: في كل واحد منهما عنز. وقال في المختصر: " ويحكم فيهما بالاجتهاد "، لأنه لا مثل لهما في الخلقة). وفي الصغير ما في الكبير في الجنس والصفة. وكذلك المعيب فيه ما في السليم، ويحكم بالمماثلة عدلان، فإن كان القاتل أحدهما لم يجز، وكان مخطئا أو عامدا. وفي حمام مكة شاة، ولا يفتقر في إخراجها إلى حكمين. وحمام الحل يضمن بالقيمة مسائر الطير. ويلحق حمام الحرام بحمام مكة عند مالك وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن القاسم: " يلحق بحمام الحل ". واختلف في القمري والفواخت، وكل ما عب وهدر، هل هو في معنى الحمام أم لا؟ على قولين لأصبغ وابن الماجشون، مأخذهما النظر إلى عموم التسمية أو إلى ما اختص به الحمام من التحرم بالبيت. فروع: لا يقابل المريض بالمريض، ويقابل كل من الذكر والأنثى بالأنثى والذكر. وإن ضرب ظبية حاملا، فألقت جنينا ميتا، ففيه عشر قيمة أمه. وإن انفصل من الأم، فاستهل ثم مات، ففيه الجزاء كاملا. وإن تحرك لم يسهل، فقال ابن القاسم: " فيه عشر دية أمه "، وقال أشهب: فيه دية، بخلاف الآدميين.

وإن أتلف بيضا، فهل تكون فيه حكومة، أو عشر الدية؟ وهو المشهور. أو ما في الكبار؟ ثلاثة أقوال: وهي على النظر إلى الحال أو إلى المآل، وقال أبو مصعب: " في بيضة النعامة عشر قيمتها إن كان فيها فرخ، فإن لم يكن فصيام يوم ". ولو أزمن صيدا فعليه الجزاء كاملا، فإن قتله غيره، فعلى القاتل جزاؤه سليما. فأما لو جرحه، فإن برئ على غير نقص، فلا شيء فيه. وإن نقصه الجرح، ففيه ما بين قيمته صحيحا، وبين قيمته مجروحا، قاله محمد ورواه عيسى عن ابن القاسم. وفي الكتاب: " لا أرى عليه فيه شيئا "، وهو اختيار القاضي أبي الحسن، ورآه ككفارة الآدمي. (ولو اشترك المحرمون في قتل صيد واحد، فعلى كحل واحد منهم جزاء كامل)، لأنه من باب الكفارات. وقتل القارن للصيد لا يوجب تعدد الجزاء، وكذلك قتل المحرم صيدا حرميا. السبب الثاني للتحريم: الحرم، والنظر في أطراف. الأول: في الصيد، ويضمن منه في الحرم ما يضمن بالإحرام، والتسبب كالتسبب، والجزاء كالجزاء، وإنما يختص الحرم بفروع نذكرها متتالية، فنقول: الحلال إذا أدخل الحرم صيدا مملوكا، ولم يحرم عليه ذبحه فيه، ولا بأس أن يذبح بمكة الحمام الإنسي والوحشي. ويجب الجزاء على من رمى من الحل إلى الحرم، أو بالعكس. وقيل: بنفي الوجوب في العكس. ولو رماه وهما في الحل فجرئ، فأدركته الرمية في الحرم فقتله، وداه. ولو قطع السهم في مروره هواء طرف الحرم، فليدعه ولا يأكله، قاله ابن القاسم. ولو تخطى الكلب طرف الحرم، فلا شيء عليه، إلا لم يكن له طريق سواه. ولو أرسله بقرب الحرم، فطلبه حتى أدله الحرم، ثم أخرجه منه قتله خارجا وداه، ولا يأكله، وكأنه أرسله من الحرم.

لتغريره بقربه. ولو كان بعيدا من الحرم، فلا جزاء عليه، ولا يؤكل الصيد. ولو طرد صيدا حتى أخرجه من الحرم، فعليه جزاؤه. قال ابن الماجشون: ولا بأس أن يرسل الحلال كلبه من الحرم على ما في الحل، ويؤكل ما أصاب. ولو كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، ولو كانت في الحرم وفرعها في الحل، لكان في وجوب الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظر إلى موضع الفرن قولان. الطرف الثاني: في النبات. ويحرم القطع نبات الحرم، أعني ما ينبت بنفسه دون ما يستنبت، ويستثني عنه الإذخر للحاجة، وكذلك السنا. ولو اختلى الحشيش للبهائم، كره. ولو استنبت ما ينبت، أو نبت ما يستنبت، لكان النظر إلى الجنس لا الحال. ثم إن قطع ما نهي عن قطعه أثم، ولا يلزمه شيء. الطرف الثالث: في الحرم. والأصل فيه مكة، والمدينة ملحقة بها في تحريم صيدها، وعضد شجرها، ولا تلحق بها في جزاء الصيد. وقال ابن نافع: تلحق بها فيه أيضا. فرع: في تحديد الحرم من نوادر الشيخ بي محمد: " قال مالك: بلغني أن عمر حدد معالم الحرم، ووضع أنصابها بعد أن كشف عن ذلك من يعرفه ممن له قدم. قال ابن القاسم: والحرم خلف المزدلفة بمثل مليين، ومزدلفة في الحرم، وسمعت (أن) الحرم يعرف بأن لا يجئ سيل من الحل فيدخل الحرم، وإنما يخرج السل من الحرم إلى الحل، وهو يجري من الحل، فإذا انتهى إلى الحرم وقف، ولم يدخل فيه. ولا يدخل الحرم ". قال الشيخ أبو محمد: " ومن غير كتاب محمد لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم ما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. ومما يلي العراق ثمانية أميال إلى مكان يقال له: المقطع)، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن: سبعة أميال إلى موضع يقال له: أصاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية، قال: ومن

القسم الثالث من كتاب الحج: في اللواحق

العتبية قال مالك: والحديبية في الحرم، قال: ومن كتاب ابن حبيب: (قال): وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة بريدا في بريد، ولا يعضد شجرها ولا يخبط ". القسم الثالث من كتاب الحج: في اللواحق وفيه بابان: الباب الأول: في موانع الحج، وهي ستة: الأول: الإحصار بالعدو. وهو مبيح للتحلل، ونحر الهدي ناجزا مهما اعتقد دوام المنع إلى أن ي فوته الحج، فإن رجا زواله، لم يتحلل حتى ي بقى بينه وبين الحج من الزمان ما لا يدرك فهي الحج لو زال حصره، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل إلى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة، ولا يبيح عند اعتقاد زواله قبل ذلك، أو الشك فيه. وروى محمد: لا يكون له التحلل، إلا بشرط أن يكون غير عالم بأن العدو يصده. قال أبو الحسن اللخمي: " أو علم ورط أنه متى صده تحلل طش ولو وقف ثم احصر عن لقاء البيت، فقال في الكتاب: " قد تم حجه، ولا يحله من إحرامه إلا طواف الإفاضة، وعليه لجميع ما فاته من رمي الجمار والمبيت بالمزدلفة ومنى هدى ". وقال القاضي أبو الوليد: " يأتي بالمناسك كلها، وينتظر أياما. فإن زال العدو، وأمكنه الوصول إلى البيت طاف، وإلا حل وانصرف ". وإن تمكن من لقاء البيت، ثم صد عن عرفة، قد قال ابن الماجشون: ليس له أن يحل دون أن يطوف ويسعى، ويؤخر الحلاق. فإن يئس من زوال العدو، أو طال انتظاره بمقدار ما

يدركه به الضرر حلق وحل؛ لأن التحلل له متى حصر فترك ما منع منه جائز، وعليه أن يأتي من النسك ما قدر عليه، لأنه قد لزمه بالإحرام له. وله إذا تحلل حكم الحاج، لا حكم المعتمر، قاله ابن الماجشون. ويتحلل من العمرة إذا صد كالحج. وإذا تحلل من الفريضة لم تسقط عنه، وقال ابن الماجشون: تسقط، ورأى ذلك بمنزلة إتمامها على وجهها. ولا يجوز قتال الحاصر، مسلما كان أو كافرا، ولا أن يدفع له مال، إن كان كافرا، لأنه وهن. وتحلل المحصر لا يجوب إراقة دم للإحصار عند مالك وابن القاسم، ويوجبه عند أشهب، وهو اختيار القاضي أبي بكر. وظاهر الآية عنده، وسبب نزولها. ولا قضاء على المحصر في المتعين. المانع الثاني: حبس السلطان شخصا أو شرذمة من الحجيج في دم أو دين، فهو كالإحصار بمرض، لا كالحصر بعدو. ونقل الشيخ أبو الطاهر في إلحاقه بالمرض أو بالعدو قولين للمتأخرين. الثالث: الرق. وللسيد منع عبده أن أحرم بغير إذنه، وإذا منع تحلل كالمحصر، وليس له تحليله بعد الإحرام بإذنه. ثم ما لزمه من جزاء صيد خطأ أو فدية لإماطة أذى من ضرورة، أو فوات حج لم يتخلف له عامدا، فليس له أن يخرج لك من ماله، إلا بإذن س يده، فإن لم يأذن له، ولا أهدى عنه، صام. وليس له منعه من الصيام، وإن أضر به، إلا أن يهدي عنه، أو يطعم. وما أصاب العبد عمدا، فلسيده منعه من الصيام، إن كان يضر به في عمله. وقال ابن حبيب: ليس له منعه منه وإن تعمد، وإن أضر به إذا أحرم بإذنه، وهو قول ابن الماجشون وابن وهب. ولو فاته الحج وقد أحرم بالإذن، فعليه القضاء والهدي إذا أعتق. وإن أفسد حجه، فقال أشهب: لا يلزم سيده أن يأذن له في القضاء. وقال أصبغ: على السيد أن يأذن له، قال محمد: والصواب قول أشهب.

الرابع الزوجية: والمستطيعة لحجة الإسلام ليس للزوج منعها من الخروج لها إن قلنا: إن الحج على الفور. (فإن فرعنا على القول الآخر، فهل له منعها لما جاز لها التأخير، أو ليس له منعها لأن لها طلب براءة ذمتها؟ قولان للمتأخرين. ونزلوا على ذلك المبادرة إلى قضاء رمضان، والمبادرة إلى أداء الصلوات في أول أوقاتها). ولو أحرمت بالفريضة، لم يكن له تحليلها، قال بعض المتأخرين: إلا أن تكون أحرمت أحرام عداء يكون على الزوج ضرر في إحرامها فيه، لاحتياجه إليها، مثل أن تحرم من بلدها، أو قبل الميقات، وما أشبه هذا، من العداء، فيكون له أن يحلها. فأما لو أحرمت بالتطوع من غير إذنه، لكان له منعها وتحليلها، فتتحلل كالمحصر؛ فإنه لم تفعل فللزوج مباشرتها، والإثم عليها دونه. الخامس: الأبوة. فللأبوين منع الولد من التطوع بالحج، ومن تعجيل الفرض على إحدى الروايتين. السادس: استحقاق الدين. ولمستحقه منع المحرم الموسر من الخروج، وليس له أن يتحلل، بل عليه الأداء. وإن كان معسرا أو كان الدين مؤجلا، لم يمنعه من الخروج. فأما من فاته الوقوف بعرفة بخطأ العد، أو بمرض، أو بخفاء من الهلال، أو (بشغل)، أو بأي وجه غير العدو نفلا يحله إلا البيت، فيتحلل بأفعال العمرة، ويلزمه القضاء ودم الفوات، بخلاف المحصر بالعدو، وقد اندرج حكم المحصر بالمرض في حكم الفوات، وسواء اشترط المحصر بالمرض التحلل عند الإحصار، أو لم يشترطه. ومن دخل مكة محرما بحج، فأحصر بها عن عرفة، فلا يكفيه طواف القدوم والسعي المترتب عليه (للتحلل)، لأنه إنما فعلها للحج، بل لا بد من طواف وسعي مؤتنفين. وكذلك من أحصر بمرض، ففاته الحج، فقدم مكة فطاف، فعليه أن يسعى.

الباب الثاني: في الدماء، وفيه فصول ثلاثة

الباب الثاني: في الدماء، وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في أحكام الهدايا ومن أحكامها: النظر في صفاتها، وهي الجنس، والسن، والسلامة من العيوب. وحكمها في جميع ذلك حكم الضحايا على ما سيأتي مفصلا إن شاء الله. وتعتبر السلامة وقت الوجوب، وهو حين التقليد والإشعار، دون وقت الذبح، وقيل: تراعى وقت الذبح. (فلو قلد هديا سالما ثم تعيب، أجزأه على المشهور. وقال الشيخ أبو بكر: " القياس أن لا يجزئ، قياسا على موته ". قال الشيخ أبو الطاهر: " وهذا قد يؤخذ منه أنه لا يجب بالتقليد والإشعار أن يقول ذلك، وإن وجب عنده، لكن يرى أنه لا يستقل هذيا، إلا أن ي دوم كماله إلى وقت نحره "). وإذا فرعنا على مراعاة وقت التقليد والإشعار، فقلد هديا ثم اطلع فيه على عيب، لا يجزئ معه أو استحق، فإنه يفوت بالتقليد والإشعار ويمضي هديا، لكن لا يجزي عن الواجب، ولا يجوز رده. وقيل: يجوز رده مع ذلك. وإذا فرعنا على المشهور، فما يصنع بما يأخذ من أرش، أو ثمن؟ قال في الكتاب: " يجعل أرش ما كان تطوعا قفي هدي آخر، فإن لم يبلغ تصدق به ". وإن كان هديا واجبا، فيستعين بالأرش في ثمن بلده، ومنها: التقليد والإشعار، وهو معدود من سنة الهدي لفعله صلى الله عليه وسلم. والهدي: ما خرج عن فدية الأذى من دماء الحج، كدم القران والتمتع والفساد والفوات وجزاء الصيد وغير ذلك. قال الأستاذ أبو بكر: الهدي يجب في نحو أربعين خصلة. وصفة التقليد: أن يجعل في عنق البعير أو البقر حبل، ويعلق فيه نعلان. وإن اقتصر على نعل واحد أجزأ، والأول أفضل. وقيل بكراهية تقليد النعال والأوتار. وقال ابن حبيب: اجعل القلائد مما شئت فإذا قلد الهدي أشعره.

وصفة الإشعار: أن يشق في الجانب الأيسر، وقال في المبسوط: استحب الأيسر، ولا بأس بالأيمن، فيشق شقا آخذا من نحو الرقبة إلى المؤخر، ويسمي الله سبحانه عند الإشعار. قال في المختصر: " يقول بسم الله والله أكبر ". قال في الكتاب: " ثم يجللها إن شاء، وكل ذلك واسع ". ولا يختلف المذهب في أن ذلك يفعل في الإبل التي لها أسمنة، فإن لم تكن لها أسمنة، فأطلق في الكتاب أنها تشعر. وقال في كتاب محمد: لا تشعر. ولا يختلف المذهب أيضا، أن الغنم لا تشعر. والمشهور أنها لا تقلد أيضا. وقال ابن حبيبك تقلد. وأما البقر فإن كانت لا أسمنة قلدت وأشعرت، وإن لم تكن لها أسنمة لن تشعر. ومنها: الأكل. ويؤكل من الهدايا كلها إلا جزاء الصيد، ونسك الأذى ونذر المساكين، وهدي التطوع إذا عطب قبل محله. وذكر محمد قولا: أنه لا يؤكل من هدي الفساد. قال أبو الحسن اللخمي: " ويلزم على هذا أن لا يؤكل من شيء ساقه عن وصم في حج أو عمرة ". وذكر ابن نافع عن مالك في المبسوط في الجزاء والفدية، أنه قال: ينبغي أن لا يأكل، فإن فعل فلا شيء عليه. فرع: فإن أكل مما ليس له الأكل منه، فإن كان المأكول منه جزاء الصيد أبدله كله، وكذلك إن كان نسك الأذى. وقال ابن الماجشون: ليس عليه إلا قدر ما أكل منهما. وإن كان المأكول منه نذر المساكين، فهل عليه إبداله كله، أو إبدال بعضه؟ روايتان. وقيل: إن كان معينا أطعم قدر ما أكل، وإن كان مضمونا وجب البدل عن الكل. فرع مرتب: إذا أوجبنا عليه بدل ما أكل خاصة، فقيل: عليه مثل اللحم، لأنه مما له مثل. وقال عبد الملك: عليه قيمته طعاما؛ إذ مثله لحم هدي، لا يوجد. وقيل: يغرم قيمة ما أكل ثمنا. فإن قيل: هل يختص بأكل الهدي من يجوز له أخذ الزكاة؟ قلنا: نعم، إن كان مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه. وأما ما يأكل من (فلا يختص بهم، بل يجوز أن يطعم منه الأغنياء وغير المساكين. ومنها: حكم ولد الهدية. وإذا ولدت الهدية، فيجب حمل ولدها، ويسلك به مسلكها. فإن لم يمكنه حمله ولا تركه بموضعه ليشتد، صار بمنزلة هدي التطوع إذا عطب قبل بلوغه محله.

ولا يشرب من لبن الهدية لوجوبها بالتقليد والإشعار، ولا يجب عليه شيء إن فعل، إلا أن يضر ذلك بها أو فصيلها، فيغرم ما أوجبه فعله، ولا يركبها إلا أن يحتاج إلى ركوبها فيركبها، ثم ينزل إذا استراح. وقال ابن القاسم: إذا ركبها لم يلزمه أن ينزل وإن استراح. ومنها: صفة النحر، وهي أن ينحر الهدي صاحبه قائما معقولا أو مقيدا، فإن نحره مسلم غير صاحبه قاصدا به صاحبه، أجزأ عنه، وإن لم يستنبه فيه لوجوبه بالتقليد، والإشعار. وإن نحره عن نفسه تعديا أو غلطا، فقيل: يجزئ لوجوبه، وقيل: لا يجزئ، وقيل: (بالإجزاء) في الغط دون التعدي إذ الغالط قصد بفعله القربة على الجملة، والمتعدي غير قاصد للقربة أصلا. ولو دفع هديه إلى المساكين بعد بلوغه محله، وأمرهم بنحره، ورجع إلى بلده، فاستحيوه، فعليه بدله، كان واجبا أو تطوعا. وإنما يجزئ أن يدفعه إليهم بعد أن ينحره. ومن أحكامه: الاشتراك فيه، ولا يجوز في هدي تطوع أو واجب أو نذر أو جزاء أو فدية، ولا يشترك في هدي أصلا، وأهل البيت والأجنبيون في هذا سواء. وفي كتاب محمد: جوازه في هدي التطوع خاصة. ومنها: تقديمه قبل سب وجوبه، كالمتمتع يسوق الهدي في حين إحرامه، وفيه خلاف، وهو كتقديم الكفارة قبل الحنث، لوجود أحد السبين. قال أبو محمد عبد الحق: " هذا إذا ساقه للمتعة "، وعلل عدم الإجزاء بوجوبه بالتقليد والإشعار، قبل أن يتعلق عليه الدم للمتعة. واعتذر في الإجزاء، بأن تطوع الحج يجزي عن واجبه، فكيف بهذا الذي لم يقصد التطوع. ثم قال: فأما لو تطوعه به، فينبغي أن لا يجزئه عن متعه على القولين. ومنها: هلاكه أو ضلاله أو سرقته قبل نحره، فيجب بدله إن كان واجبا، ولا يجب إن كان تطوعا. فرع: من ضل هديه فأبدله، ثم وجده بعد نحر البدل، لزمه نحره إن أن مقلدا، وإن لم يكن مقلدا، فله بيعه. وإن وجده قبل نحر البدل، نحرهما اكانا مقلدين. وإن كان أحدهما غير مقلد، فله بيعه.

الفصل الثاني: في بيان أبدال الدماء، وأحكام الترتيب والتخيير فيها

الفصل الثاني: في بيان أبدال الدماء، وأحكام الترتيب والتخيير فيها وأنواع الدماء ثلاثة: الأول: دم جزاء الصيد، وهو المثل على ما تقدم. فإن عدم المثل، أو اختار المكفر الانتقال عنه عند وجوده، أو بالحكم على ما يأتي بيان الخلاف فيه انتقل إلى عدل الصيد من الطعام الذي هو عيش أهل ذلك المكان من بر أو شعير أو تمر أو غير ذلك ما يجزئ في كفارة اليمين. ويفرق مدا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، يقوم بالطعام على حالته التي كان عيها حين أصابه، ولا ينظر إلى فراهيته، ولا إلى جماله أو تعليمه. ولكن إلى ما يسوى من الطعام من غير فراهية ولا غيرها، بل الفاره من الصيد والبزاة إذا أصابه المحرم عليه في الحكم سواء. وقال يحيى بن عمر: الذي نقول به: أن ي نظر كم يشبع كبير ذلك الصيد من الناس؟ فإذا علم عددهم قيل: كم يشبعهم من الطعام؟ فيخرج عدد ذلك طعاما. قال: لأن دية الصغير والكبير سواء، ولا ينظر إلى قيمته دراهم، لأن اللحم قد يغلو في زمان، ويرخص الطعام في زمان ويغلو، فلا يتحصل له إخراج الجزاء على الكامل إلا بما ذكرناه. وقال محمد أيضا: يقوم الصغير على أنه كبير. ثم إن شاء انتقل عن ذلك إلى عدله صياما، وعدل كل مد يوم، ولا يعدل الكسر إن كان، إلا بيوم تام، ولو قوم الصيد نفسه بدراهم، ثم قومها بطعام أجزأه، والأول أصوب. ولا يخرج مثلا ولا طعاما، ولا صياما إلا بعد أن يحكم به عليه حكمان غيره، يخيرانه فيما يشاء من ذلك، فيحكمان عليه به، قال محمد: وأحب إلينا أن يكونا في مجلس واحد، من أن (يكونا) واحدا بعد واحد. ثم إذا حكما عليه بمثل الصيد من النعم لاختياره ذلك، فأراد أن ينصرف إلى الطعام أو الصيام، فقال في الكتاب: " ذلك له ". قال أبو القاسم بن الكاتب: ذلك له ما لم يعرف ما حكما به عليه ويلتزمه. وحمل غيره من المتأخرين ما في الكتاب على ظاهره. قال أبو القاسم بن محرز: والذي قاله أبو القاسم هو الصواب، قال: وهو كالمكفر عن يمينه إذا التزم الكفارة بأحد الأجناس الثلاثة، فإنه يلزمه أن يكفر به، ولا يكون له أن يعدل إلى غيره. وقال

القاضي أبو بكر: " يحكمها، ثم ينظران في (القضية)، فما أدى إليه اجتهادهما لزمه، لاغ يجوز له أن ينتقل عنه ". النوع الثاني: دم الفدية. (وهو) ما وجب في إلقاء التفث وطلب الرفاهية بالترخص في فعل ما يمنع [المحرم] منه. وهي شاة فأعلى، يعتبر فيها من السن والسلامة ما اعتبر في الهدي، وليست بهدي، ولا يلزمه إيقافها بعرفة، وله أن يذبحها حيث شاء من البلاد، إلا أن يشاء أن يجعلها هديا، فيوقفها موقفه، وينحرها بمنحره، فذلك له لا عليه. وله أن يقلدها ويشرها إن جعلها بدنة أو بقرة. وإن شاء أطعم ستة مساكين، مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أحب صام ثلاثة أيام، فذلك على التخيير لا على الترتيب. وله ان يصوم ويطعم حيث شاء، ولا يجزئ عن الإطعام الغداء والعشاء، بخلاف كفارة اليمين لأنه دون المدين، وإن كان فوق المد. قال أشهب: إلا أن يبلغ ذلك مدين أكثير كل مسكين. النوع الثالث: ما خرج عن هذين النوعين. وهذا النوع يلزم إخراجه، ولا يخبر بينه وبين غيره، كدم المتعة والقران والفوات والفساد وترك الرمي وشبه ذلك من الواجب، لنقص في حج أو عمرة من تعدي ميقات، أو ترك حلاق، أو ترك مبيت بالمزدلفة، أو من نذر شيئا فعجز عنه، أو غير ذلك. وهذا النوع ينتقل العاجز عنه الصوم، ولا إطعام فيه، وأقل ما يجزئ في ذلك شاة. وينبغي للواجد أن يهدي من الإبل، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. ولو أهدى في تمتعه أو قرانه شاة، أجزأه على تكره. فمن لم يجد هديا صام عشرة أيام، لغا أنه إن أن الهدي الواجب عليه لنقص متقدم على الوقوف كالمتمتع والقارن. ومن تعدى الميقات، أو أفسد الحج، أو فاته الحج فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، من حين يحرم إلى يوم النحر، فإن أخرها إليه، صام الثلاثة التي بعده، أو صام فيها ما بقي عليه منها. وقيل: لا يصومها، فإن مضت صام بعدها. ثم إن شاء وصل السبعة بالثلاثة، وإن شاء فرقها.

الفصل الثالث: في زمان إراقة الدماء ومكانها.

قال محمد بن حارث: ولا بد من اتصال الثلاثة بعضها ببعض، وكذلك السبعة. وفي الكتاب، قال: " وقال مالك: وإن فرق الثلاثة الأيام في الحج أجزأه ". وفي نقل الشيخ أبي محمد: " التتابع في صيام المتمتع أحب إليه، ومن فرقه أجزأه ". وقوله تعالى: {إذا رجعتم} يريد من منى أقام مكة، أم لا. قال في كتاب محمد: إذا وصل إلى أهله، إلا أن يقيم بمكة، وإن صام في الطريق أجزأه. وإن أن ذلك لزم لما بعد الوقوف، كترك جمرة، أو ترك النزول بالمزدلفة، أو لوطء بعد جمرة العقبة، وقبل الإفاضة، فإنه يصوم متى شاء. وكذلك من مشى في نذر إلى مكة، فعجز عنه. ومن أيسر قبل أن يصوم، أو وصل إلى بلده قبل أن يصوم، وله به مال أهدى، ولم يجزئه لصوم. وكذلك إن وجد من يسلفه، وكان مليا ببلده. وإن وجد الهدي بعد الشروع في الصوم، لم يلزمه. واستحب له إن كان بعد يوم أو يومين من صيامه. ولو وجد قبل الشروع وبعد إحرام الحج لانبنى على أن العبرة في الكفارات بحالة الوجوب أو بحالة الأداء. ولو مات المتمتع قبل رمي جمرة العقبة، فلا شيء عليه. وإن مات بعد رميها، أخرج هدي التمتع من رأس ماله. وقال سحنون: لا يلزم الورثة الهدي إلا أن يشاءوا. وإن مات معسرا، لم يصم عنه أحد. فرع: كل ما ذكرناه من الانتقال من بدل إلى بدل، فيشترط فيه مفارقة المنتقل عنه جملة، فلا يلفق الواجب من صنفين أصلا. الفصل الثالث: في زمان إراقة الدماء ومكانها. أما الزمان فلا يجوز شيء من الهدايا إلا نهارا بعد الفجر من يوم النحر. فإن نحر شيء منها قبل فجره، أو نحر بليل بعده، لم يجزئ. ودماء الفوات والفساد يراقان في الحجة المقضية، وقيل: في الفائتة أو المفسدة؛ لأن الهدي جبران لها. ولا تختص شاة الفدية بعد جريان سببها بزمان مخصوص، كما لا تختص

بمكان مخصوص، بل له أن يذبحها حيث شاء في ليل أو نهار. وأما المكان فيختص جواز الإراقة بالحرم فيما عدا فدية الأذى، وفيه محلان: أحدهما: منى، وهو لكل ما نحر في أيامها مما وقف به بعرفة، دون ما لم يوقف به بعرفة. وقال ابن الماجشون: يجوز نحره بها، وإن لم يوقف به بعرفة. المحل الثاني: مكة، ولا يشترط في النحر بها الوقوف، ولا أيام منى، بل لو نحر بها ما وقف به بعرفة لكان في إجزائه ثلاثة أقوال. وفي الثالث يخصص الإجزاء بما نحر بعد خروج أيام منى. ولو ساق إليها ما يوقف به بعرفة، فنحره بها من غير أن يوقف بعرفة، ففي إجزائه قولان. واختتام الكتاب ببيان الأيام المعلومات، وهي: يوم النحر، ويومان بعده. والمعدودات وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليوم الرابع منه معدود غير معلوم، واليومان اللذان بينهما معلومان معدودان.

كتاب الجهاد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله] كتاب الجهاد والنظر في وجوبه، وكيفيته، وتركه بالأمان، فنعقد بابا في كل واحد. الباب الأول: في وجوبه، والنظر في طرفين: الأول: في وجوبه على الكفاية أو العين. والثاني: في المعاذير المسقطة. الأول: في وجوبه على الكفاية أو العين. والأصل في وجوبه على الكفاية، قال القاضي أبو محمد: " ووجه القيام به أن تحرس الثغور وتعمر، وتحفظ بالمنعة والعدد، ولا تجوز المهادنة إلا لضرورة تدعوا إليها ". وقال الشيخ أبو عمر بن عبد العزيز: " يجب على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه، أو يخرج معهم من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرغبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، أو يعطوا الجزية ". ثم الإمام يرعى النصفة في المناوبة بين الناس، وقد يتعين الجهاد في بعض الأحيان ولتعينه سببان. أحدهما: أمر الإمام بالخروج (إلى الغزو)، فمن عينه بأمهر تعيهن عليه الخروج. الثاني: أن يفجأ العدو قوما هلم قوة على مدافعته، فيتعين عليهم دفعه ومقاتلته.

فإن لم يستقلوا بدفعه، لزم من قاربهم أن يخرج إليهم. فإن لم يستقل الجميع، وجب على (كل) من علم بضعفهم، وطمع في إدراكهم وغوثهم المضي إليهم حتى يندفع العدو عنهم. الطرف الثاني: في مسقطات الوجوب. ويسقط الجهاد بالعجز الحسي، وبالموانع الشرعية. أما العجز الحسي فكالصبا والجنون والأنوثة والمرض والعمى والعرج والفقر، أعني العجز عن السلاح، والركوب عند الحاجة إليه، ونفقة الذهاب والإياب. ولا يسقط بالخوف في الطريق من المتلصصين؛ لأن قتالهم أهم. قال الشيخ أبو إسحاق: وقطعة الطريق مخيفوا السبيل أحق بالجهاد من الروم. وأما الموانع الشرعية فكالرق دون أمر سيده، وليس لرب الدين المنع بالدن المؤجل عن الجهاد، ولا عن سائر الأسفار. فإن كان يحل في غيبته، وكل من يقضيه، وإن كان حالا، ولا يقدر على قضائه، فله السفر بغير إذن رب المال، وللوالدين المنع، ولا يبلغ الجد والجدة أن يلحقا بهما. وسفر العلم الذي هو فرض عين، ليس لهما منعه منه، فإن كان فرض كفاية فليتركه في طاعتهما. ولهما المنع من ركوب البحار والبراري المخطرة للتجارة. وحيث لا خطر لا يجوز لهما المنع. والأب الكافر كالمسلم، فيما عدا الجهاد من ذلك. وقال سحنون: وكذلك في المنع من الجهاد، إلا أن يعلم أن منعهما ليوهن الإسلام ولا يعين على الكفار لا لحاجتهما إليه، فليخرج، وإن كرها. فإن وطئ الكفار دار المسلمين تعين على كل من له منة قتالهم كما تقدم، حتى العبد والمرأة، فيجب على كل واحد منهما الدفع والمعاونة بغاية الإمكان. وانحل الحجر عن العبد أن لم يستغن عنه، فإن استغنى عنه لم يلزمه. ولو خرج قوم فيهم كفاية، سقط بهم الواجب.

الباب الثاني: في كيفية الجهاد

الباب الثاني: في كيفية الجهاد والنظر في تفصيل ما يجوز أن يعامل الإمام به الكفار أما في أنفسهم فبالقتل والقتال والاسترقاق. وأما في أموالهم فبالإهلاك والاغتنام. النظر الأول: في معاملتهم بالقتال. وفيه مسائل: الأولى: أنه ينبغي أن يدعى الكفار قبل أن يقاتلوا، ولا تؤخذ غرتهم إلا أن يكونوا ممن بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تؤخذ غرتهم، وأن يبيتوا. وصفة الدعوة: أن يعرض عليهم الإسلام، فإن أجابوا كف عنهم، وإن أبوا عرض عليهم أداء الجزية، فإن أبوا قوتلوا، وإن أجابوا طولبوا بالانتقال إلى حيث ينالهم سلطاننا، فإن أجابوا كففنا عنهم، وإن أبوا قوتلوا، هذه كله مع الإمهال، فلو أعجلوا عن الدعوة قوتلوا دونها. المسألة الثانية: فيمن تجوز الاستعانة به في القتال. والأصل فيه الأحرار المسلمون البالغون، ولكن تجوز الاستعانة بالعبيد إذا أذن السادة، وبالمراهقين إن كان فيهم منة. ولا تجوز الاستعانة بأحد من المشركين ولا ببعضهم على بعض، قال صلى الله عليه وسلم: «لن أستعين بمشرك». قال ابن حبيب: هذا في الزحف والصف وشبهه، فأما في هدم حصن أو رمي مجانيق أو صنعة أو خدمة فلا بأس به. وقال أيضا: ولا بأس أن يقوم منه سالمه من الحربيين على من لم يسالمه منهم بالسلاح ونحوه، ويأمرهم بنكايتهم. الثالثة: الجعالة (للمسلم) على الجهاد جائزة، يجعل القائد للخارج إن كانا من أهل ديوان واحد، وللإمام أن يرغبهم ببذل الأهبة والسلاح. ويجوز استئجار العبيد، وكذلك أهل الذمة إذا أجزنا الاستعانة بهم أو استؤجروا للخدمة. الرابعة: فيمن يمنع قلته، وهم: الصبي والمرأة. فإن شك في بلوغ الصبي كشف عن مؤتزره، واعتبر نبات شعرة العانة. وقبل: لا يقتل حتى يحتلم. والشيخ الفاني لا يقتل، إلا أن يكون ذا رأى وتدبير. وأهل الصوامع والديارات خارج

المدينة، إلا أن يخاف منهم أذى أو تدبير. وقيل: يجوز قتلهم. وإذا فرعنا على المشهور، فهل يترك النساء إذا تبرهن؟ حكى الشيخ أبو الطاهر في ذلك قولين: " أحدهما: أسرهن إذ الرهبانية تختص بالرجال. والثاني: تركهن لانقطاعهن عن أهل الكفر ". ثم حيث قلنا: لا يقتل الرهبان، فتترك لهم أموالهم، إلا أن تكون كثيرة، فيؤخذ ما يزيد على قدر كفايتهم. ولا يقتل المعتوه، ولا يقتل الأعمى ولا الزمن، إلا أن يكون ذوي رأى وتدبير، تخشى أذيتهما، وقيل: لا يقتلان بوجه. ولا يقتل المسلم أباه المشرك إلا أن يضطره إلى ذلك، بأن يخافه على نفسه. فرع: من قتل من لا يباح له قتله من صبي أو امرأة أو شيخ بعد أن صار مغنما، فعليه قيمته، تجعل في المغنم. وإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير مغنما، فليستغفر الله سبحانه، ولا شيء عليه. الخامسة: يجوز نصب المجانيق على قلاعهم، وإن كان فيهم نسوة وصبيان، (وكذا) إرسال الماء عليهم، وقطعه عنهم، وفي إضرام النار عليهم خلاف، ما لم يكمن فيهم أسارى مسلمون، فلا يجوز إذن إحراقهم، ولو تترسوا بالنساء والذرية تركناهم، إلا أن (نخاف)، تركهم على المسلمين فنقاتلهم، وإن اتقوا بهم. ولو تترس كافر بمسلم لم يقصد الترس، وإن خفنا على أنفسنا، فإن دم المسلم لا يباح بالخوف. فإن تترسوا في الصف، ولو تركناهم لانهزم المسلمون وعظم الشر، وخيف استئصال قاعدة الإسلام [أو] جمهور المسلمين وأهل القوة منهم، وجب الدفع، وسقطت مراعاة الترس. السادسة: لا يجوز الانصراف من صف القتال إن كان فيه انكسار المسلمين. وإن لم يكن، فيجوز أن قصد به ما قال الله سبحانه في المتحيز إلى فئة، أو المتحرف لقتال. ولا يجوز الانهزام، إلا إذا زاد الكفار على ضعف المسلمين. وهل المعتبر في النظر إلى صورة العدد، لأنه مقتضى الظاهر، أو إلى القوة والجلد.

لأنه المقصود والمعول عليه في المدافعة؟ قولان. وعلى الأول جمهور الأصحاب، وبه قال ابن القاسم، والثاني رواه ابن الماجشون. فرع: هذا [إن] علمت القوة والجلد، فإن جهل ذلك اعتبر العدد بلا خلاف. ولا يجوز الاستبداد بالمبارزة دون إذن الإمام إذا كن عدلا. (ولا يجوز حمل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد، ولا حملها إلى الولاة. وقد كرهه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقال: هذا فعل العجم). التصرف الثاني: الاسترقاق. ويجوز استرقاق الكافر إذا كان نظرا، ولا يمنع من ذلك كون المرأة حاملا من مسلم، لكن لا يرق الولد، إلا أن تكون حملت به حال كفره، ثم سيبت بعد إسلامه، فالحمل فيء. وإذا سبي الزوجان معا، أو سبي الزوج أولا انقطع النكاح بينهما عند أشهب. وقال ابن المواز: النكاح على حاله، ولو سبيت أولا القطع النكاح. وقال ابن المواز: إن استبرئت بحيضه، فوطئها السيد قبل أن تصلح لزوجها حرمة، فقد انهدم النكاح، وإن حصلت له حرمة قبل ذلك، فهو أولى بها. فرعان الأول: (إذا سبيت المرأة وولدها الصغير، لم يفرق بينهما في البيع والقسمة، والصغير ها هنا من لم يثغر. وروي من لم يحتلم). ولو بيع مع الجدة، وقطع عن الأم، لم يجز. وليست الجدة في معنى الأم ولا الأب، فتجوز التفرقة بينه وبينها. الفرع الثاني: حكم الأساري. وينحصر نظر الإمام فيهم بين خصال خمس، وهي: القتال، والاسترقاق، والمن، والفداء، وعقد الذمة، فيفعل من ذلك ما أدى اجتهاده إلى أن المصلحة للمسلمين فيه. التصرف الثالث: إهلاك أموالهم غيظا لهم. وذلك جائز؛ لم يتمكن من تملكها بتحريق الأراضي والزروع والعلوفات، وقطع النخيل والشجر، وعقر الدواب، وإخراب البلاد، ولا تمس النخل إلا أن تكون من الكثرة والاجتماع بحيث يؤثر إتلافها، ويجب إهلاك كتبهم التي لا يحل الانتفاع بها.

التصرف الرابع: الاغتنام. والغنيمة: كل ما أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة، دون ما يختلس ويسرق، فإنه خاص بملك المختلس والسارق، وفيه الخمس إذا كان آخذه مسلما. وفي اشتراط كونه حرا خلاف، اشترطه سحنون وابن المواز، ولم يشترطه ابن القاسم. ودون ما ينجلي عنه أهله بغير قتال، فإنه فيء. وللغنيمة أحكام: الأول: أنه يجوز التبسط في أطعمتها قبل القسمة ما داموا (في دار) الحرب، لأجل الحاجة. ويجري ذلك في القوت والحم والتبن والشعير. ويجوز ذبح الأنعام لأكل، وقيل: لا يجوز. ثم إذا ذبحها فله الانتفاع بجلودها إن احتاج عليها، فإن لم تكن له بها حاجة، أو استغنى عنها، ردها للمغانم. ويباح الأكل لمن معه طعام، ومن ليس معه، ولكن قدر الحاجة. ولو فضل منه شيئا بعد الدخول إلى دار الإسلام، وتفرق الجيش لتصدق به إن كان كثيرا، فإن كان يسيرا فله الانتفاع به. الحكم الثاني للغنيمة: أنه لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة، وإنما ملكوا بذلك أن يملكوا، وقيل: بل ملكوا بالقهر والاستيلاء وتقضي الحرب. وقد خرج بعض علمائنا على القولين ما نذكره الآن من الفروع، وهي: لو وقع في المغنم من يعتق على بعض الغانمين، فإنه يعتق عليه، ويغرم نصيب أصحابه. وكذلك لو أعتق عبدا من المغنم، لكمل عليه، قاله سحنون فيهما. وقال ابن القاسم وأشهب: إذا أعتق أمة من المغنم، فلا عتق له. ولو وطئ جارية من المغنم حد، ولم تكن له أم ولد. وقال عبد الملك: لا حد عليه. وكذلك يقطع إن سرق منه، وقال عبد الملك: لا قطع عليه. وقال سحنون: إن سرق ما يزيد على حصته ثلاثة دراهم قطع، وإلا فلا. وأما الوطء فلا حد فيه، والاستيلاد ثابت. ثم إن كان سهمه من الغنيمة يستغرق الأمة، أخذ منه قيمتها يوم الحمل. وإن لم يف سهمه كمل من ماله، فإن كان عديما فمصابته منها بحساب أم (ولد) يباع (باقيها) فيما لزمه من (القيمة)، ويتبع من قيمة اللود بقدر ذلك.

الحكم الثالث: إن أرضى الكفار المأخوذ بالاستيلاء قهرا أو عنوة، تكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين، من أرزاق المقاتلة والعمال، وبناء (القناطر) والمساجد، وغير ذلك من سب الخبر، ولا تقسم. وروي أنها تقسم كسائر أموال الغنيمة من العين والعروض. وفي بعض روايات المدونة ما يقتضى التخيير، فيصرف الأمر فيها إلى اجتهاد الإمام. وإذا فرعنا على المشهور، فلا يجوز بيع ما كان كذلك من (أرض) العراق والشام ومصر، بل تؤخذ إجارتها، وتصرف في الوجوه التي ذكرناها من المصالح. وكذلك دور مكة، لا يجوز بيعها. فروع ثلاثة: الأول: ما حصل في أيدي العدو من أموال المسلمين، فأسلموا عليه، كان لهم. وإن عاد شيء من ذلك إلى الغنيمة، فهو لمن كان يملكه من المسلمين، يأخذه قبل القسم بغير ثمن، وهو أحق به بعده بالثمن. ولا يجوز قسمه إن علم به. ولو وقع لأحد الغانمين أم ولد مسلم لعدم العلم بها، ثم علم بها بعد القسم، وجب ردها إلى سيدها، ولزمه فداؤها بما اشتريت به، وإن كان أكثر من قيمتها، فإن كان عديما قبضها، واتبع بقيمتها، قاله في الكتاب. وقال في الموطإ: " يفديها الإمام لسيدها، فإن لم يفعل، فعلى سيدها أن يفديها ". وقال أشهب والمغيرة وعبد الملك: على سيدها الأقل من قيمتها، أو الثمن الذي اشتريت به، وإن كان معدما اتبع به. قال عبد الملك: ومشتريها أحق بما في يد سيدها من غرمائه. وما ذكرناه عن الكتاب من حكم أم الولد إذا وقعت في المغنم، وهو حكمها فيه إذا اشتريت من دار الحرب. وأما لو فدى حرا مسلما من دار الحرب، لرجع علبيه بما فداه به، أحب أو كره. الفرع الثاني: إذا أسر العدو حرة مسلمة، فولدت عندهم أولادا، ثم غنمها المسلمون، فولدها الصغار بمنزلتها، لا يكونون فيئا. وأما الكبار بلغوا وقاتلوا نف هم فيء.

(قال في ثمانية أبي زيد وكتاب ابن حبيب: ما سبيت به الحرة من ولد صغيرا أو كبير، تبع لها في الحرية والإسلام، لا يباعون ولا يسترقون، ويكرهون على الإسلام. فمن أبى أجبر. فإن تمادى فهو كالمرتد يقتل قال أبو الحسن اللخمي: " يريد إن تمادى الصغير على الكفر بعد عن بلغ ". وقال أشهب في كتاب محمد: حملها وولده الكبير فيء. وذكر ابن سحنون عنه قولين، أحدهما: مثل ما حكى عنه محمد، والآخر: أنهم كلهم أحرار). قال ابن القاسم: ولو كانت أمة لرجل، كان كبير ولدها وصغيرهم لسيدها. وقال ابن الماجشون: صغارهم وكبارهم في فيء، وقال أشهب: هم فيء، إلا أن تكون تزوجت، (فيكونون) لسيدها. وأما الحرة الذمية، فقال الشيخ أبو إسحاق: هي مردودة إلى ذمتها وصغارها ولدها، أما كبارهم الذين قد بلغوا وأطاقوا القتال، فهم فيء. الفرع الثالث: إذا أسلم الحربي، ثم خرج إلينا فغزا المسلمون بلاده فغنموا أهله وولده وماله. فِأما أهله أعني زوجته، فلا يختلف المذهب في أنها فيء، لاستقلالها بحكم نفسها، حكى ذلك الشيخ أبو الطاهر. وأما ولده فمذهب الكتاب أنهم فيء، وهو تغليب الحكم الدار. وقال أشهب وسحنون: هم تبع لأبيهم، فأثبتا لهم حكم التبعية. قال سحنون وقال بعض الرواة؛ إن كان ولده صغارا كانوا تبعا له. واختلف في ماله على ثلاثة أقوال أيضا، فقال في الكتاب: " هو فيء "، كما قال في الولد والزوجة، وقال: " من حكم بتبعية صغار ولده له، وكذلك ماله هو له، فإن أدركه قبل أن يقسم أخذه، وإن كان قد قسم، كان أحق به الثمن ". وقال ابن حارث: إن كانوا أحرزوا ماله وضموه إلى أملاكهم من حين إسلامه وخروجه من عندهم، كان فيئا. وإن تركوه كان له، وإن دخل في المقاسم أخذه بالثمن. قال أبو الحسن اللخمي: " القول بأن ماله وولده له أحسن "، هذا كله إذا خرج إلينا بعد إسلامه.

الباب الثالث: في ترك القتل والقتال بالأمان

فإن بقي في دار الحرب، ثم دخل المسلمون، فغنموا ما فيها، فللمتأخرين قولان: أحدهما: أنه بمنزلة الأول، وهو على تغليب حكم الدار، والثاني: أنه لا ينقطع ملكه على ماله، ويتبعه ولده الصغار، وهو نظر إلى بقاء يده على ماله، وعدم انفصال ولده عنه. الباب الثالث: في ترك القتل والقتال بالأمان والأمان مصلحة في بعض الأحوال ومكيدة من مكائد القتال في المبارزة. وينقسم إلى: عام لا يتولاه إلا السلطان: وإلى خاص يستقل به الآحاد، وهو المقصود بيانه الآن. والنظر في أركانه وشروطه وحكمه. أما أركانه فثلاثة: الأول: العاقد. وهو كل مؤمن مميز، حتى العبد والمرأة والشيخ الهرم والصبي إن عقل الأمان. وروى معن بن عيسى: أنه لا يصبح أمان العبد. وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال جاز أمانه، وإلا لم يجز. وقيل: إن قالت صح أمانه، وإلا فلا. وقيل أيضا بعدم صحة أمان المرأة. وقال سحنون: في الصبي إن أجازه الإمام في المقاتلة صح أمانه، وإن لم يجزه لم ي صح. [وقيل] في الكافر أيضا: يصح أمانه؛ لأن له ذمة، فكان تابعا للمسلمين. وكل من أجزنا أمانه غير أمير الجيش، فلا يتوقف أمانه على تنفيذ الأمير له. وقال ابن الماجشون: لا يلزم تأمين غير الإمام، فإن أمن غيره، نظر فيه الإمام، فإن رأى إمضاءه وإلا رده. ولا يصح الأمان من غير المميز لصغر أو جنون، ويشترط في المؤمن أن يكون آمنا، فلا يصح أمان الخائف. الركن الثاني: المعقود له، وهو الواحد أو العدد المحصور، أما العدد الذي لا ينحر كأهل ناحية، فلا يصح أمان الآحاد فيه، بل ذلك إلى السلطان. الركن الثالث: نفس العقد.

وينعقد الأمان بصريح اللفظ، وبالكنانة، والإشارة المفهمة، فإن رد الكافر ارتد، وإن قبل صح، ولا بد من قبول ولو بالفعل، ولو أشار عليه مسلم في صف الكفار فانحاز إلى صف المسلمين، وتفاهم الأمان فهو أمان، ولو ظل الكافر أن المسلم أراد الأمان، والمسلم لم يرده، فلا يغتال، ومن دخل لسفارة لم يفتقر إلى عقد أمان، بل ذلك القصد يؤمنه. ولو قال الوالي: أمنت من قصد التجارة، صح. ولا يصح من الآحاد. فإن ظن الكافر صحته فلا يغتال، وليوف له بالأمان، بل لو ظن ما أوهم به مما ليس بتأمين تأمينا، كان تأمينا له. وقال مالك في العلج يلقاه الرجل ببلد العدو مقبلا فيأخذه، فيقول: جئت للأمان، إنه أمر مشكل، فليرد إلى مأمنه. قال ابن القاسم: " وكذلك الذي يوجد، وقد نزل تاجرا بساحلنا فأخذ، فقال: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاء تاجرا حتى يبيع ". وروى ابن وهب في قوم من العدو نزلوا بساحلنا بغير إذن، فأخذوا، فزعموا أنهم تجار لفظهم البحر، ولا يعلم صدقهم، وقد تكسرت مراكبهم ومعهم السلام أو ينزلون للماء بغير إذن، فهم فيء لا يخمسون والإمام يرى فيهم رأيه. وشرط اومان ألا يكون على المسلمين ضررا، فلو أمن جاسوسا أو طليعة، أو من فيه مضرة، لم ينعقد. ولا تشترط المصلحة، بل يكفي عدم المضرة للصحة. وحكمه: أنه إذا انعقد كففنا عنه، وعن ما يتبعه من أهل ومال إن شرط ذلك في الأمان، فإن اقتصر على قوله: أمنتك، فلا يسري اومان إلى ماله من أهل ومال في الحصن الذي نزل منه. ويصح عقد الأمان للمرأة مقصودا للعصمة عن الاسترقاق، وإذا أمن الأسير آسره، صح ولزمه ذلك، إلا أن يكون مكرها له عليه.

فلو أمنهم وأمنوه، بشرط أنه لا يخرج من ديارهم، فليقم ولا يهرب عنهم. قال أبو الحسن اللخمي: " هذا إذا عاهدوه، فأما إن استحلفوه بالطلاق أو العتاق، لم يلزمه الوفاء، وجاز له الهرب ". قال: " ثم لا يلزمه كطلاق ولا عتاق، لأنه مكره ". ويجب على المبارز مع قرنه الوفاء (بشرطه)، فلو أثخن المسلم وقصد تدفيفه، منعناه على أحد القولين. ولو خرج جماعة لإعانة (الكافر) استنجاده، قتلناه معهم، وإن كان بغير إذنه، لم نتعرض له. ولو خرج جماعة لمثلهم، ففرغ بعضهم من قرنه، جازت إعانة من ظفر لمن لم ي ظفر في القتل والدفع، كما فعل علي وحمزة رضي الله عنهما مع عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. ويتم النظر في مشارطات الكفار برسم مسائل. الأولى: إذا أخل ببضع الأركان، كما إذا أمن من قلنا: لا يؤمن، أو ظن العلج الأمان ولم يرده المؤمن، أو أوهمه الأمان بغير أمان. ففي جميع ذلك يرد المؤمن إلى مأمنه ولا يغتال، فأما لو فقد الشرط، بأن كان عينا أو جاسوسا لقتل، ولم يرد. الثانية: إذا قال رجل من الصحن: أفتح لكم على أن تؤمنوني على عشرة أرؤس من الرقيق، أو عشرة أفراس من الكراع هن أعطاه ذلك المسلمون، وكذلك على ألف درهم. الثالثة: المستأمن رع إلى داره، فما خلفه عندنا من وديعة أو يدن، بعث به إليه. وإن مات فغلى ورثته إن عرفوا، وإن لم يعرفوا فإلى طاغيتهم، إلا أن يجاهد، فيقتله المسلمون عبد الأسر، فيكون ماله للجيش الذي أسره، لأنه ملك رقبته، بخلاف ما إذا قتل دون أسره. الرابعة: إذا حاصرنا أهل قلعة، فنزلوا على حكم رجل صح إذا كان ذلك الرجل عاقلا عدلا بصيرا بمصالح القتال، وإن حكم بقبول الجزية، أجبروا عليه، ولو حكموا فاسقا، صح. ثم إذا حكم تعقب الإمام حكمه، فإن رآه نظرا للإسلام، وإلا رده، وولي هو الحكم بما يراه نظرا، ولا يردهم إلى مأمنهم. ولو حكم العدو ذميا أو امرأة أو صبيا أو عبدا وهم عالمون به، لم يجز حكمهم، وليحكم الإمام بما يراه، لأنهم رضوا بأقل المسلمين، أو بمي فرددناهم إلى حكم من هو أعلى وأفضل، فلا حجة لهم.

كتاب عقد الذمة والمهادنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب عقد الذمة والمهادنة والعقود التي تفيد الأمن للكفار ثلاثة: الأمان: وقد تقدم ذكره، والذمة والمهادنة، وهما مقصود الكتاب. العقد الأول: عقد الذمة، والنظر في أركانه وأحكامه، وأركانه خمسة: الركن الأول: نفس العقد، وهو التزام تقريرهم في دارنا وحمايتهم والذب عنهم، بشرط بذل الجزية، والاستسلام من جهتهم. وينبغي أن يعين مقدار الجزية، ويقبلوا ذلك، فإن لم (يذكر) مقدار الجزية نزلوا على مقدار جزية أهل العنوة، وهي ما قدره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على ما نبين فيما بعد. وإذا وقع العقد فاسدا فلا نعتالهم، لكن نلحقهم بالمأمن. ولو دخل كافر دارنا ثم قال: دخلت بأمان، فإن أشبه ما قال صدق، وإن لم يشبه رأى فيه الإمام رأيه، كما في سائر الأسارى، وليس لمن وجده فيه شيء. الركن الثاني: العاقد وهو الإمام ويجب عليه، إذا بذلوه ورآه مصلحة، إلا أن يخاف غائلتهم. ولو عقده مسلم بغير إذن الإمام لم يصح، ولكن يمنع الاغتيال. الركن الثالث: فيمن (يعقد) له، وهو كل كافر ذكر بالغ حر قادر على أداء الجزية، يجوز إقراره على دينه ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهن منقطع في دير. قال القاضي أبو الوليد: " (" هذا ظاهر مذهب مالك "، قال: وقال عنه القاضي أبو الحسن: " إنه استثنى القرشي في ذلك "). وقال ابن الجهم: تؤخذ الجزية من كل من دان بغير إسلام، إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة.

والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة، واستثنى ابن وهب مجوس العرب. واستثنى ابن الماجشون من ليس بكتابي. أما الصبي والعبد والمرأة، فهم أتباع، ولا جيزة عليهم، وكذلك المجنون، ولا تؤخذ ممن ترهب وانقطع في الديرة قبل ضربها عليه. وإذا دخلت امرأة دارنا من غير أمان أو تبعية استرقت، وكذلك الصبي، والفقير العاجز عن الكسب، يقر مجانا. وقيل: يسترسل وجوبها على الغني والفقير، لأنها ثمن صيانة الدم. وإذا بلغ الصبي أخذت منه عند بلوغه، ولم ينتظر مرور الحول بعد بلوغه. ولا تقبل من المرتد، إذ لا يقر الدين الذي انتقل إليه. الركن الرابع: في البقاع. ويقرون في جميع البلاد، إلا في جزيرة العرب، وهي: مكة والمدينة، واليمن في رواية عيسى بن دينار. وروى ابن حبيب أنها من أقصى عدن وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب وفي المشرق، ما بين سرب إلى منقطع السماوة. ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولا يقيمون. (الركن) الخامس: في تفصيل مقدار ما يجب عليهم، وواجباتهم أربعة. الأول: الجزية، فلو أقر الوالي من غير جزية فقد أخطأ. ويخير المقر بين الإقامة على الجزية وال رد إلى مأمنه. (وأكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق. ولا يزاد على ذلك، فإن كان [فيهم] الضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر، ولا يزاد عليه لغني. وقال القاضي أبو الحسن: " لا حد لأقلها، قلاك و [قد] قيل: أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهي عقوبة بدل من القتل، فلو اسلم أو مات بعد سنة، سقطت عنه ".

ولو اجتمع عليه جزية سنين، فقال القاضي أبو الوليد: " إن كان فر منها أخذت منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعسر لم تؤخذ منه، ولم يكن في ذمته ما يعجز عنه؛ إذ الفقير لا جزية عليه ". الثاني: الضيافة وأرزاق المسلمين. وقد كان عمر رضي الله عنه فرض مع الدنانير أرزاق المسلمين مدين من حنطة على كل نفس في الشهر، مع ثلاثة أقساط زيت ممن كان بالشام والجزيرة، وعلى من كان بمصر إردبا من حنطة في كل شهر. قال: ولا أدري كم من الودك والعسل، وعليهم من الكسوة التي كان عمر يكسوها الناس على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا كل شهر على كل رجل، مع كسوة معروفة. قال: ولا أري كم قدرها، كان عمرها يكسوها الناس. وأربعة دنانير يسيرة فيما كان عليهم من الطعام والأدام والكسوة والضيافة. قال مالك: " وأرى أن يوضع عنهم اليوم من الضيافة والأرزاق، لما أحدث عليهم من الجور ". الثالثة: الإهانة. فتؤخذ منهم الجزية على وجه الإهانة والصغار، امتثالا لأمر الله سبحانه. الرابع: يجوز أن يؤخذ العشر من بضاعة تجار أهل الحرب. وأما الذمي، فلا ي جوز أن يؤخذ من تجارته شيء، إلا أن يتجر في غير أفقه الذي يؤدي فيه الجزية، فيؤخذ منهم العشر كلما دخلوا، ولو مرارا في السنة. واختلف: هل الواجب عشر ما يدخلون به كالحربيين، وهو رأي ابن حبيب، أو عشر ما

يعتاضون عنه، وهو رأي ابن القاسم. وسبب الخلاف: هل المأخوذ منهم لحق الوصول إلى القطر الثاني أو لحق الانتفاع (فيه؟). ويتخرج على تحقيقه فرعان. الأول: (لو دخلا ببضاعة أو عين، ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا أو يشتروا، فابن حبيب يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه). الثاني: لو دخلوا بإماء، فابن حبيب يمنعهم من وطئهن، واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهم؛ إذا لا يرى الشركة. ولو باعوا في بلد، ثم اشتروا فيه، لم يؤخذ منهم إلا عشر واحد، ولو باعوا في أفق، ثم اشتروا في أفق آخر بالثمن، أخذ منهم عشران. ويخفف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصة، فيؤخذ منهم نصف العشر. وروى ابن نافع أنه يؤخذ منه العشر كاملا، كما لو حملوه إلى غيرهما، أو حلموا غيره إليها، وقال بالأول دون ما روى. وإذا دخل الحربي بأمان مطلق، أخذ منه العشر، لا يزاد عليه شيء. وتجوز مشارطته على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول. فروع: الأول: إذا تجر أهل الذمة بالخمر وما يحرم علينا، فروى ابن نافع أنهم يتركون حتى يبيعوه، فيؤخذ منهم عشر الثمن. وإن خيف من خيانتهم جعل معهم أمين. قال ابن نافع: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها. وذكر ابن حبيب في الحربيين إذا نزلوا ومعهم خمر أو خنزير، فالوالي يريق الخمر،

ويقتل الخنزير، ويفيت الجميع. ولا يجوز للإمام إنزالهم على إبقاء ذلك بأيديهم. الثاني: إذا انتقل ذمي من قطر إلى قرط كمصر والشام، فأوطن الثاني، ثم قدم منه بتجارة إلى الأول، فقال ابن القاسم: لا يؤخذ منه عشر؛ لأنها بلدته التي صالح عليها. وإن رجع إلى الشام الذي أوطنه، أخذ منه العشر. قال أصبغ: ذلك متى تركت جزيته لم تحول، ولم تؤخذ منه حيث انتقل، فإن أخذت منه حيث استوطن، ومحي عنه الأول، صارت كبلده، ولم يؤخذ منه شيء. الثالث: قال ابن سحنون عن أبيه: إذا اشترى الذمي، فأخذ منه العشر، ثم استحق ما بيده أو رده بعيب، رجع بالعشر. الرابع: قال أشهب: إذا ثبت أن على الذمي دينا للمسلم، لم يؤخذ منه عشر، ولو ادعاه لم يصدق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي. النظر الثاني: في حكم عقد الذمة. وهو يقتضي وجوبا علينا وعليهم، فحكمه علينا وجوب الكف عنهم، وأن نعصمهم بالضمان نفسا أو ومالا، ولا نتعرض لكنائسهم، ولا لخمورهم و [لا] خنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم. وإن لم يظهروا، فأراقها مسلم، فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب، ولو غصبها وجب عليها ردها. ويؤدب من أظهر الخنزير. ولو باع الأسقف عرصة من الكنيسة أو حائطا، جاز ذلك إن كان البلد صلحا، ولم يجز إن كان عنوة. وقال أصبغ في بيع شيء من الديارات في الخراج أو مصالح الكنيسة، وذلك حبس عليها. قال: لا يشتريه المسلم، ولا يجوز من ذلك في أحباسهم إلا ما يجوز في أحباس المسلمين. ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيع الكنائس، ولا رده، ولا إنفاذ حبسها، ولا إجارته، ولا الأمر فيه. ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم واتفقوا على الرضا بحكمنا، فالحاكم مخير في الحكم بينهم أو الترك، ولا يتعين عليه. وقيل: لا يحكم بينهم إلا برضا أساقفتهم مع رضاهم. فإن لم يتفق الخصمان، لم يحكم بينهما، إلا أن تتعلق الخصومة بمسلم، فيجب الحكم. قال يحيى بن عمر: وكذلك لو كانا مختلفي الملة.

فإن ترافعوا إلينا في التظالم، حكمنا بينهم على كل حال، لأنه من باب الدفع عنهم، ويجب أيضا دفع الكفارة عنهم. أما حكمه عليهم، فأربعة أمور: الأول: في الكنائس، فإن كانوا (في بلده) بناها المسلمون، فلا ي مكنون من بناء كنيسة. وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها. أما إذا فتحت بالصلح على أن يسكنوه بخراج، ورقبة الأبنية للمسلمين، وشرطوا إبقاء كنيسة جاز: وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم، وعليهم خراج، ولا تنقض كنائسهم، فذلك لهم، ثم يمنعون من رمها. قال ابن الماجشون: ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت، إلا أن يكون ذلك شرطا في عهدهم، فيوفى لهم. ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة. ونقل الشيخ أبو عمر: " أنهم لا يمنعون من إلاح ما وهى منها ". وإذا منعوا من إحداث كنيسة فيما بين المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترفع فيكمن يهودية ولا نصراينة»، فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاءوا، فقال ابن الماجشون؛ لا ي جوز هذا الشرط، ويمنعون منه، إلا في بلدهم الذي لا يسكنه المسلمون معهم، فلهم ذلك، وإن لم يشرطوه، قال: وهذا في الصلح. فأما أهل العنوة نفلا ي ترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت، ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد، وإن كانوا معنزلين عن بلاد الإسلام). ولا يمنع أهل الصلح من إظهار الخمر والناقوس وغبر ذلك داخل كنائسهم. وليس لهم إظهار شيء من ذلك خارجها، ولا لهم حمل الخمر من قرية ق قريتهم التي يسكنونها مع المسلمين، ونكسرها إن ظهرنا عليها، وإن قالوا: لا نبيعها من مسلم. وإن أظهروا ناقوسا كسرناه. ومن وجدناه منهم سكرانا أدبناه، وإن أظهروا صلبهم في أعيادهم واستقائهم كسرت عليهم وأدبوا. ولا يرفعوا أصوات نواقيسهم، بل يضربون لها ضربا خفيفا، لوا يرفعوا أصوات بالقراءة.

في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين. الثاني: يمنعون من ركوب الخيل والبغال النفيسة، ولا يمنعون من الحمار، ولا يركبون السروج، بل يركبون على الأكف عرضا. الثالث: يمنعون من جادة الطريق، ويضطرون إلى المضيق، إذا لم ي كن الطريق خاليا، ويلزمون الغيار، ولا يشتبهون بالمسلمين في الزي، ويؤدبون على تكر الزنانير، ولا يدخلون المساجد. (وفي الواضحة وكتاب ابن سحنون: كتب عمر بن عبد العزيز أن يختم في رقاب رجال أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، يركبوا على الأكف عرضا. قال ابن حبيب: وروي عن الني صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم بطريق فألجئوهم إلى أضيقها». وقال عمر: سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، ولا تبدؤوهم بالسلام. ونهى عمر أن يتخذ منهم كاتب، وقال: قال الله تعالى: {ولا تتخذوا بطانة من دونكم}. ونهى عنه عثمان. وقال عمر بن عبد العزيز: كان المسلمون إذا افتتحوا البلاد لم يكن لهم علم بأمر الخراج، حتى استعانوا بالعجم، ثم إن المسلمين عرفوا من ذلك ما يحتاجون إليه وكثروا، فلا ينبغي أن يستعملوا في شيء من أمور المسلمين. وكتب عمر أن يقاموا من أسواقنا، وقاله مالك). الرابع:: الانقياد للحكم. وإذا زنى بمسلمة، أو سرق مال مسلم حكمنا عليه في ذلك. أما ما لا يتعلق بمسلم، فلا نعرض لهم فيه، لا أن يترافعوا إلينا على التفصيل المتقدم.

العقد الثاني: عقد المهادنة

وعليهم أيضا كف اللسان. فإن أظهروا معتقدهم في المسيح أو غير ذلك، مما لا ضرر فيه على مسلم عزرناهم، ولا ينتقض به العهد، وإنما ينتقض بالقتال، ومنع الجزية، والتمرد على الأحكام، وإكراه المسلمة على الزنى. فإن أسلم لم يقتل، إذ قتله لنقض العهد لا للحد، وكذلك التطلع إلى عورات المسلمين. أما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص، فحكمهم فيه حكم من ف عله من المسلمين. وإن تعرض أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لغيره من الأنبياء بالسب، وجب عليه القتل، إلا، يسلم. وروي: يوجع أدبا، ويشرد به، فإن رجع عن ذلك قبل منه. وأم المسلم، فهو إن كذب على رسول الله عزر، وإن كذبه فهو مرتد، وإن سب الله تعالى أو رسوله أو غيره من الأنباء قتل حدا، ولا يسقط القتل عنه بالتوبة. وقيل: حكمه حكم المرتد. العقد الثاني: عقد المهادنة، والنظر في شروحه وحكم. أما الشروط فأربعة: الأول: أن لا يتولاه إلا الإمام. الثاني: أن تكون للمسلمين إليه حاجة، فإن كانوا مستظهرين على العدو، لم تجز الهدنة، وإن بذل العدو المال؛ لقوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعا إلى السلام وأنتم الأعلون}، قال في كتاب ابن المواز: ولقد طلب الطاغية ذلك إلى عبد الله بن هارون، وبذلوا مائة ألف دينار كل عام، فشاور الفقهاء فقالوا له: إن الثغور اليوم عامرة، فيها أهل البصائر وأكثرهم نازعون من البلدان، فمتى قطع عنهم الجهاد تفرقوا، وخلت الثغور للعدو، والذي يصيب أهل الثغور نهم أكثر من مائة ألف، فصوب ذلك ورجع إلى رأيهم. وقال ابن الماجشون: إذا كان الإمام على رجاء من فتح حصن، لم ينبغ له أن يصالحهم على مال، وإن كان على إياس منه لضعفه أو لامتناعهم، أو لما يخاف أن يدهمه من العدو فليفعل. وليس يحرم عليه أن يصبر عليهم إن كان ذا قوة. قال ابن حبيب: ولا بأس أن يصالحوا على غير شيء يؤخذ منهم، وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على غير شيء. والمراعى في ذلك ما يراه الإمام الأصلح للمسلمين. الثالث: أن يخلو عن شرط فاسد، كشرط ترك مسلم في أيديهم، وكذا ولو التزم مالا فهو فاسد، إلا إذا ظهر الخوف، وتعين في دفعه ذلك.

الرابع: المدة، ولا تتعين بل هي موكولة إلى اجتهاد الإمام، وما يراه الأصلح في حال عقد الهدنة من الإطالة أو عدمها. وقال الشيخ أبو عمر: " يستحب أن لا تكون مدة الهدنة أكثر من أربعة أشهر، إلا مع العجز ". ثم يجب الوفاء بالمشروط إلى آخر المدة، إلا، يستشعر خيانة، فله أن ينبذ العهد إليهم، وينذرهم. النظر الثاني: في حكمه. وحكمه الوفاء بالمشروط الصحيح، ولا يجوز أن يشترط رد من جاءنا منهم مسلما عليهم، وذلك ممنوع في الرجل، كما هو في المرأة إذا جاءت غلينا مهاجرة مسلمة، فلا تحل ردهما، ولا يصح شرط ذلك. هل يرد عليهم من أسلم من رهائنهم؟ روى ابن وهب أن مالكا سأله أهل المصيصة، إذ رهنوا منهم سبعة، وارتهنوا من الروم سبعة حتى يفرغ ما بينهم، فأسلم الذين بأيدينا وأبوا الرجوع إلى بلدهم، فقالوا: يردون إليهم. قال ابن حبيب: قال من لقيت من أصحابه المدنيين: ومعنى ذلك: إن الروم حبسوا من عندهم من المسلمين، فيرد هؤلاء يستنقذ بهم أولئك، فإن رجي خلاص أولئك، ففلا يرد إليهم هؤلاء. ولو شرط أن يرد إليهم من أسلم، فقال ابن الماجشون وغيره، لا يوفى لهم بذلك، وهذا جهل من فاعله. وقال سحنون: مالك يرى أن يدر من أسلم من الرسل والرهن. وقال في المختصر: " إذا ارتهن المسلمون من المشركين رهائن، فأسلموا وأبوا أن يرجعوا، فليردهم إليهم ". وقال سحنون أيضا: لا يردون. تم بعون الله الجزء الأول من كتابا العقد الجواهر الثمينة ويليه الجزء الثاني وأوله كتاب قسم الفيء والغنائم

كتاب قسم الفيء والغنائم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب قسم الفيء والغنائم وفيه بابان: الباب الأول: في الفيء وهو كل مال فاء للمسلمين من الكفار من خمس وجزية أهل العنوة، وأهل الصلح، وخراج أرضهم، وما صولح عليه الحربيون من هدية، وما يؤخذ من تجار الحربيين، وتجار أهل الذمة، وخمس الركاز، وخمس الغنائم. وكيفية قسمته ما ذكر ابن حبيب أنها السيرة التي مضى عليها أئمة العدل في ذلك، وهي أن يبدأ بسد مخاوف المسلمين، وتثقيف حصونهم، واستعداد آلة الحرب، فإن فضل شيء أعطي قضاتهم وعمالهم، ومن للإسلام فيهم انتفاع، وتبني منه مساجدهم وقناطرهم إليه وما هم محتاجون، ثم يفرق على فقرائهم، فإن فضل شيء ورأى الإمام (تفرقته) على الأغنياء فرقه، وإن رأى حبسه لنوائب الإسلام فعل. قال: وذلك كبناء مساجد وقناطر وغزو، وفك أسير، وقضاء دين، ومعونة في عقل جراح، وتزويج عازب، وإعانة حاج، وإرزاق من يلي مصالحهم، وتدبير أمورهم. والتفرقة فيه بقدر الحاجة، لا على الحرمة والسابقة والبلاء في الإسلام. وروي اعتبار ذلك. وروي أن الأمر موكول إلى اجتهاد الإمام، فيقسم (على) ما يراه من مساواة أو تفضيل، بحسب الفضائل التي ذكرناها. ويعطي الإمام أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يراه، ولا يتعين لهم خمس ولا غيره، ويوفر سهمهم لأنهم يمنعون من الزكاة. وإذا بلغ (الإمام) عن بلد حاجة، نقل من الفيء والخمس إلى ذلك الموضع بقدر

الباب الثاني: في قسمة الغنائم

الاجتهاد، ولا ينقل مالاً من بلد إلا بعد إزالة حاجته وحاجة أهله، ويشيد حصونه، ويزيد في كراعه وسلاحه، ويقطع منه رزق عمال ذلك البلد وقضائه والمؤذنين، ومن يلي شيئاً من مصالح المسلمين، ثم يخرج عطاء المقاتلة الذين يدونهم من أهل ذلك البلد لجهاد عدوهم، ثم يعطي العيال والذرية وسائر المسلمين على قدر المال، فإن كان فيه سعة، دفع إلى كل ما يحتاج إليه، ويبدأ بالفقراء، فما فضل من جميع ذلك حمله إلى بيت المال يقسمه على من عنده من المسلمين، فيبدأ فيه بمثل ما بدأ في البلد الذي حمل منه، وإن لم يكن فيه ما يعم الفقراء والأغنياء آثر الفقراء كما بدأ الله بهم، فقال (تعالى): {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}. قال عبد الله بن عبد الحكم في قسم الفيء إذا صار في بيت المال: ((يبدأ فيعطي الرجال المقاتلة من جميع البلدان، ويعد فيهم من بلغ خمس عشرة سنة، ويحصي ذرية المسلمين فمن بلغ دون السن، ودون المحتلم من ذكر أو أنثى ويحصي النساء، ويعلم ما يحتاج الجميع إليه في عامهم، (ويبدأ) بالمقاتلة، فيسد بهم الثغور والأطراف وعورات المسلمين، ويفاضل بينهم في العطاء على قدر المغزى ومؤنته، ثم يعطي النساء والذرية والمنفوس لقوام عامهم، ولا يعطي المماليك، وليعط الأعراب وأهل البوادي ممن له قرار أو لا قرار له، كما يعطي النساء والذرية والزمنى، لا كما يعطي المقاتلة لأنهم حشو الإسلام، فيعطون لحرمته، وبقدر المؤونة، وكذلك الزمنى من أهل الحاضرة. وإنما العطاء للمقاتلة من أهل المدائن ممن تضرب عليهم البعوث)). الباب الثاني: في قسمة الغنائم والغنيمة: كل مال تأخذه الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة، وخمسها مقسوم كخمس الفيء. وأربعة أخماسها للغانمين. ويتطرق إلى الخمس النفل والرضخ والسلب. أما النفل فهو زيادة مال يخص به أمير الجيش من فعل فعلاً خطيراً، كتقدمه طليعة، أو تهجمه على قلعة، أو من رأى منه زيادة غناء، وحسن بلاء، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام.

ومحله الخمس، لا أصل الغنيمة، وقدره ما يقتضيه الرأي بحسب اجتهاد الإمام. وأما الرضخ، فهو مال تقديره إلى رأي الإمام أيضاً، يصرف إلى العبيد والصبيان والنساء على قول، حيث قلنا: لا يسهم لهم. ومذهب الكتاب: ((أنه لا يسهم لهم، ولا يرضخ)). ومحله الخمس كالنفل. ولو حضر الكافر بإذن الإمام وقاتل، ففي الإسهام له ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم، فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته، فيسهم له، فإن لم يقاتل، لم يستحق شيئاً. وحكم العبد حكم الذمي. وفي الصبي المطيق للقتال ثلاثة أقوال أيضاً: الإسهام، ونفيه، والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له، أو لا يقاتل فلا يسهم له. وأما المرأة فإن لم تقاتل لم تستحق، وإن قاتلت ففي استحقاقها قولان. وأما السلب، فهو ما يؤخذ مع القتيل من ثيابه وسلاحه، وما شابهه من السلب المعتاد دون ما ينفرد به عظماء المشركين. وقيل: بل يدخل فيه كل ما معه من ذلك وغيره. وحكم السلب أنه كسائر أموال الغنيمة، لا يستحقه القاتل، إلا أن ينفله الإمام إياه، حيث (يرى ذلك) مصلحة. ولا يجوز له أن ينادي به قبل القتال: لئلا يشوش على المقاتلة نياتهم، فإن فعل فقيل: يملكه القاتل بذلك، وقيل: لا يملكه به. والنداء بذلك يوم حنين، إنما كان بعد فراغ القتال، وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم. أما قسمة الغنيمة ففيها مسائل: الأولى: إذا ميز الإمام الخمس، قسم الأربعة الأخماس الباقية من الغنيمة على الغانمين. ويستثني عن ذلك العقار خاصة، فإنه يبقى لمن يأتي من المسلمين ليشترك الكل في منفعته، كما فعل عمر رضي الله عنه. وقيل: يقسم كغيره، وقيل: ذلك موكول إلى اجتهاد (إمام الوقت) كما تقدم. ولا تؤخر قسمة ما يقسم إلى دار الإسلام. وسبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصرة المسلمين، فلو شهد آخر الوقعة استحق، ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا، ولو غاب بانهزام فكذلك. فإن كان قصد التحيز إلى فئة أخرى، فلا يسقط استحقاقه.

واختلف فيمن خرج لشهود الوقعة، فمنعه العذر منه، كمن ضل، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال بعد الإدراب، وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش، فشغله ذلك عن شهود الوقعة، فإنه يسهم له. وروي: أنه لا يسهم له. فأما اشتراط كونه من جنس من يلزمه القتال، بأن يكون مسلماً حراً ذكراً مطبقاً للقتال بالبلوغ أو المراهقة، فقد تقدم الخلاف في فقد ذلك، هل يخل بالاستحقاق أم لا؟ وأما فقد العقل، فإن كان مطبقاً، فلا يسهم له إذا خرج كذلك من دار الإسلام، فإن كان ذلك طارئاً عليه في دار الحرب، ففي الإسهام له خلاف. وإن كان يفيق، فإن كان بحيث يتأتى منه القتال أسهم له، وإلا فلا. الثانية: إذا وجه الإمام سرية، فغنمت شيئاً، شارك في استحقاقها جيش الإمام، إذا كانت خرجت منه، وإن خرجت من بلد، فلا يستحق أهل البلد معهم شيئاً. الثالثة: من حضر لا يقصد الجهاد، كالأجير لسياسة الدواب والتاجر وشبههما، من لم يقاتل منهم لم يستحق، وإن قاتل استحق. وقال أشهب: لا يستحق أحد منهم، وإن قاتل. وإذا فرعنا على المشهور، فإنه يسقط للأجير من الإجارة بقدر ما اشتغل عن عمله، إذا كان مستغرق المنافع. الرابعة: يسوى بين الجميع في القسمة إلا الفارس، فإنه يعطى ثلاثة أسهم: (سهم له، وسهامن لفرسه)، وللرجال سهم. ويعطى لراكب الفرس دون سائر ما يركب، لما فيها من الكر والفر، إلا ما كان من البراذين والهجن، بمثابتها في ذلك، فإنه يسهم لها، وما لم يكن كذلك لم يسهم لهم. ويسهم للضعيف لأنه يرتجى برؤه، وقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له لأنه لا يمكن القتال عليه الآن فأشبه الكسير ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير. فأما المريض مرضاً خفيفاً مثل الرهيص وما يجري مجراه، مما لا يمنعه المرض عن

حصول المنفعة المقصود منه، فيسهم له. ولو أحضر فرسين لم يعط إلا لفرس واحد، وقال ابن الجهم: يعطي لهما. ورواه سحنون عن ابن وهب: ولا خلاف أنه لا يعطي لما زاد عليهما. ويعطي الفرس المستعار والمستأجر، وكذا المغصوب، وسهمه لغاصبه، إلا إذا غصبه من غاز ففيه خلاف، هل يكون لصاحبه، أو للغاصب؟ فأما لو أخذه من المغانم، أو من أحد ممن لم يغز ولا حضر في الجيش، لكان سهمه للغاصب. ويستحق السهم للخيل، وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لأنها مستعدة للنزول إلى البر. الخامسة: ذكر ابن المواز أن الخيار (إلى الإمام) في أن يقسم أعيان الغنائم أو أثمانها، يفعل من ذلك لم يراه الأصلح. وحكى ابن سحنون عن أبيه: يبيع الإمام ويقسم الأثمان، فإن لم يجد من يشتري قسم الأعيان. واختار القاضي أبو الوليد ((قسمة الأعيان دون بيع)).

كتاب السبق والرمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب السبق والرمي وفيه بابان: الباب الأول: في السبق وهو: عقد لازم كالإجارة، ويشترط في السبق ما يشترط في عوض الإجارة، وليس من شرطه استواؤه من الجانبين. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في صوره: وهي (ثلاث): الأولى: أن يجعل الوالي أو غيره مالاً للسابق. والثانية: أن يخرجه أحد المتسابقين. والثالثة: أن يخرج كل واحد منهما شيئاً، فمن سبق منهما أخذهما. الفصل الثاني: في أحكام هذه الصور الثلاث ولا يختلف في إباحة الأولى، وأما الثانية فإن كان المخرج لا يعود إليه المخرج بوجه، بل إن سبق أخذه السابق، وإن سبق كان لمن يليه، أو لمن حضر إن لم يكن معهما غيرهما، فذلك جائز أيضاً. قال الأستاذ أبو بكر: وهذا إنما يتصور على قوله: إن مخرج السبق لا يحرز سبقه أبداً، وهو قوله المشهور. فهذا إذا سبق يكون طعمه لمن حضر، سواء شرط ذلك أم لا، ومثال ذلك أن يكون فرسان لا أكثر، فيخرج أحدهما سبقاً. (فأما) على قوله الثاني، الصحيح أنه إذا شرط أن السبق لمن سبق، من مخرجه أو غيره جاز، على ما رواه ابن وهب عنه، فها هنا لا يكون طعمه لمن حضر، وإنما يكون للسابق. فلو شرط في هذه الصورة أن يكون طعمة لمن حضر، لم يجز في قول معظم العلماء. قال: وهكذا يجيء على قول مالك.

الفصل الثالث: في شروطه

وإن كان الشرط أن يرجع السبق إلى مخرجه إن سبق، فرويت الكراهية في ذلك، وأخذ بها ابن القاسم. وروى ابن وهب الجواز، وأخذ به أيضاً أصبغ. قال القاضي أبو محمد: ((وهو الصحيح عندي)). وأما الصورة الثالثة: فإن لم يكن معهما غيرهما، فلا يجوز قولاً واحداً، وإن كان معهما من لا يأمنان أن يسبقهما، يغنم إن سبق، ولا يغرم إن سبق. فالمشهور عن مالك منع ذلك. وأجازه سعيد بن المسيب وابن شهاب. قال ابن المواز: وهو الذي نختاره، وهو قياس قول مالك الآخر: إنه يجوز سبقه. الفصل الثالث: في شروطه وهي إعلام الغاية، وتبيين الموقف، إلا أن يكون لأهل المكان سنة في ذلك، فيستغنى بها. ومعرفة أعيان الخيل، ولا يشترط معرفة جزئها، ولا من يركب عليها من صغير أو كبير، ولا يحمل عليها إلا محتلم، وكره مالك حمل الصبيان عليها. فرع: كل ما ذكرنا من أحكام السباق، فهو بين الخيل أو الركاب أو بينهما، (وهما) المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((في خلف أو حافر))، ولا يلحق بهما غيرهما بوجه، إلا أن يكون بغير عوض، فتجوز فيه المسابقة، إذا كان مما ينتفع به في نكاية العدو ونفع المسلمين، فتدخل في ذلك المسابقة بين السفن وبين الطير، إذا كان لإيصال الخبر بسرعة للنفع به. وأما لطلب المغالبة فقمار، من فعل أهل الفسق. وتجوز المسابقة على الأقدام، وفي رمي الحجارة ويجوز الصراع. كل ذلك إذا قصد به الانتفاع والارتياض للحرب، جاز بغير عوض في جميعه. الباب الثاني: في الرمي وهو كالسبق بين الخيل والإبل، فيما يجوز ويكره، وما يختص الرمي به من كونهما يشترطان رشقاً معلوماً، ونوعاً من الإصابة معيناً، من خسق أو إصابة من غير خسق وسبق إلى عدد مخصوص من الإصابة، أو يشترط أن أحدهما لا يحتسب له إلا بما أصاب في الدائرة

خاصة. ويحتسب للآخر ما أصاب في الجلد كله، وغير ذلك مما يشبهه، فجميعه صحيح لازم، ويختص بالرمي عن القوس دون غيره. فرع: لو عرض للسهم نكبة من بهيمة عرضت، أو انكسر السهم أو القوس، فلا يكون بذلك مسبوقاً. وأما الفارس يسقط عن فرسه، أو يسقط الفرس فينكسر، فإن كان السباق بين جماعة، خرج هذا عنه، وإن لم يكن إلا هو وقرينه، فحكى محمد بن المواز أن الذي رأى أهل الخيل عليه أن يعدوا الذي بلغ الغاية سابقاً، ثم قال: وما لهذا عندي وجه. واختار هو أن كل ما كان من قبل الفارس من تضييع السوط، وانقطاع اللجام، وحرن الفرس، فلا يعذر به، وكذلك لو نفر من السرادق، فلم يدخله ودخله الآخر، سبق الممتنع. قال: وإن كان ذلك من غيره، كما لو نزع سوطه، أو ضرب وجه فرسه عذر [به]، ولم يكن مسبوقاً.

كتاب الإيمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الإيمان وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في نفس اليمين قال القاضي أبو بكر: ((اليمين عبارة عن ربط العقد بالامتناع والترك، أو بالإقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة أو اعتقاداً، لكن يختص إيجاب الكفارة من ذلك بما ربط باسم الله سبحانه، أو بصفة من صفاته النفسية أو المعنوية، دون الصفات الفعلية)). ولا تجب الكفارة في يمين الغموس، إذ الفعل ماض، ولا في اللغو، وهو الحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه، ثم [يتبين] له خلافه، وقيل: هو القول: ولا والله، بلى والله والجاري على اللسان من غير قصد. ولا تجب بالمناشدة: وهي أن يقسم غيره عليه، ولا تجب إذا قال عقيبه: إن شاء الله، قاصداً بذلك حل اليمين. ثم الألفاظ التي يحلف بها قسمان: أحدهما: تجريد الاسم المحلوف به، كقولك: الله لا فعلت، والآخر: زيادة عليه، وهي ضربان: متصلة وهي الحروف نحو: والله وبالله وتالله وأيم الله ولعمر الله. منفصلة وهي الكلمات، نحو: (أحلف) وأشهد وأقسم، فهذه إن قرنها بالله أو بصفاته نطقاً أو نية كانت أيماناً، وإن أراد بها غير ذلك، أو أعراها من نية، لم تكن أيماناً يلزم بها حكم، ولفظ ماضيها كمستقبلها. ولو حلف بمخلوق كالنبي والكعبة، أو قال: إن فعل فهو يهودي، أو برئ من الله، فليس بيمين. ولو قال: بالله أو بالرحمن أو بالخالق أو الرازق، وما لا ينطلق على غير الله، ثم حنث فعليه الكفارة.

(فلو قال): أردت بالله، وثقت بالله، ثم ابتدأت لأفعلن، دين. ولو قال: بالجبار أو الرحمن أو الرحيم أو الحق أو العليم أو الحكيم، كانت أيماناً، وكذا قوله: وحق الله، وحرمة الله، وقدرة الله، وعلمه، وكلامه. وكذلك قوله: وجلال الله، (وعظمته)، وكبريائه، كلها أيمان. ولو قال: بالشيء أو الموجود، وأراد به الإله سبحانه وتعالى، كان يميناً. (وكذلك) كل ما كان من صفات النفس أو المعنى، ولا تجوز اليمين بصفات الفعل، ولا تجب فيها كفارة، كقوله: وخلق الله، ورزق الله، وشبه ذلك. فرعان: الأول: إذا حلف بعدة من أسماء الله سبحانه؛ كقوله: والله والسميع والخبير ونحوه، لم تتكرر عليه الكفارة. وإن جمع في حلفه جملة من الصفات؛ كقوله: وقدرة الله وعزته وجلاله، فذكر عبد الحق أن مقتضى الروايات يقتضي أن ذلك على قولين في تكرر الكفارة عليه بذلك. وحكى القول بتعدد الكفارات عن الشيخ أبي عمران، وأنه فرق بأن عطف بعض الصفات على بعض لا يصلح إلا بالواو، ويصح أن يقال: والله السميع العليم اللطيف. الفرع الثاني: إذا قال: الأيمان تلزمني إن فعلت كذا، ثم فعل، فقال الأستاذ أبو بكر: ليس لمالك ولا لأصحابه فيها قول يؤثر، وإنما تكلم فيها المتأخرون من أهل مذهبه، فأجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه، والعتاق في جميع عبيده، فإن لم يكن له رقيق، فعليه عتق رقبة واحدة، والمشي إلى مكة في الحج، والتصدق بثلث جميع أمواله، وصيام شهرين متتابعين، قال: ثم اختلفوا في فرع، وهو الطلاق الواقع بها هل هو ثلاث أو واحدة؟ والأول: رأى أبي بكر بن عبد الرحمن رجل الأندلسيين. والثاني: رأي الشيخ أبي عمران، وسائر القرويين. ثم اختار هو أنه لا يلزمه أكثر من ثلاث كفارات على سنة اليمين بالله، وأن هذا اللفظ لا يدخل تحته إلا اليمين بالله تعالى دون جميع ما ذكروا من الطلاق والعتاق وغيره، إلا أن ينوي ذلك، أو يكون العرف جارياً في بلد يحلفون بهذه اليمين، وقد استمر العرف على أن المراد بها الطلاق والعتاق والصدقة والحج، فيلزمه حينئذ جميعها، قال: ولا فرق بين أن يقول: الأيمان تلزمني، أو لازمة لي، أو جميع

الباب الثاني: في الاستثناء والكفارة

الأيمان، أو الأيمان كلها تلزمه. وحكى الشيخ أبو الطاهر أن المذهب لم يختلف في أن جميع الأيمان تلزمه، إن لم تكن له نية في القصر على أحدها، وكان ممن ينوي لأن (النية) لم تحضره، قال: ((لكن اختلف الأشياخ: هل يلزمه الطلاق ثلاثاً بهذا اللفظ أو إنما تلزمه واحدة؟)). ثم حكي عنهم في ذلك ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يكون له مقصد في التعميم، (فتلزمه) الثلاث، وبين أن لا يكون له مقصد في ذلك، فلا يلزمه إلا واحدة، قال: ((ولا فرق بين أن يقول: كل الأيمان أو جميع الأيمان أو لا يقول ذلك)). هذا حكم الطلاق، فأما غير ذلك فيلزمه عتق من يملك قبل حنثه والمشي إلى بيت الله تعالى، والصدقة بثلث المال، وكفارة اليمين بالله، وصوم شهرين متتابعين. ومن اعتاد اليمين بصوم سنة، فإنه يلزمه ذلك. وهكذا يجري في حكم أيمان البيعة. واختلف فيمن حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد، فقال ابن وهب فيما روى عبد الملك بن الحسن عنه في العتبية: ((تكون عليه كفارة اليمين بالله))، وروي عن ابن القاسم أنه إن لم تكن له نية، فإنه تتعلق به جميع الأيمان، كما تتعلق بيمين البيعة. الباب الثاني: في الاستثناء والكفارة، وفيه فصلان [الفصل] الأول: في الاستثناء وقد اختلف الأصحاب: هل هو حل اليمن، أو بدل عن الكفارة؟ وهذا قول ابن القاسم، والأول قول ابن الماجشون: قال القاضي أبو بكر: ((وهو مذهب فقهاء الأمصار))، قال: ((وهو صحيح، لأنه تبين أنه غير عازم على الفعل)). وشرطه: أن يكون متصلاً، ولا يشترط أن يكون قصده مقارناً لبعض حروف اللفظ.

واشترط ابن المواز أن يكون قصد الاستثناء مقارناً ولو لآخر حرف، قال: فلو انقضى آخر يمينه وهو غير قاصد للاستثناء ثم أتبعها الاستصناء من غير صمات ولا نفس، لم ينفه، حتى يبدو له في الاستثناء قبل آخر حرف من يمينه، فيكون له ذلك، إذا لم يكن بين ذلك صمات إلا النفس. وقال القاضي أبو إسحاق: لا يكون الاستثناء أبداً سبقاً باليمين، إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتم اليمين. فأما إن لم يعزم عليه إلا بعد فراغه، فإنه لابد لذلك العزم من وقت يتخلل بين اليمين والاستثناء، فلا يصح معه [حكم] النسق، ويبرد حكم اليمين في ذلك الوقت. وإذا عزم على الاستثناء قبل آخر جزء من أجزاء يمينه، وإن قل، صح، لأنه لو قطع يمينه في هذا الموضع، وسكت عن تمامها، لم تلزمه. ثم الاستثناء قسمان: أحدهما: إخراج بعض ما تناوله اللفظ بصيغة إلا، ولا يجزئ فيه القصد عن غير نطق إن قيدت الحالف البينة، وكانت اليمين مما يقضي به، فإن كانت اليمين مما لا يقضي به، أو لم تقيده بينة، ففي الإجراء من غير نطق خلاف منشؤه النظر إلى أنه من باب تخصيص العموم فيجزي بالنية، أو النظر إلى أن له حقيق الاستثناء، فلا يجزي إلا نطقاً. وهذا كما إذا حلف على أشياء: لأفعلها، مثلا واستثنى بعضها، أو حلف بالأيمان تلزمه وحاشى الزوجة، وما أشبه ذلك. القسم الثاني: بمعنى حل اليمين، مثل الاستثناء بصيغة إن أو بصيغة إلا، أن كما إذا استثنى رأي نفسه أو غيره، واستثنى صفة من صفات الفعل، ولا يجزي ذلك إلا نطقاً؛ كقوله: إلا أن أرى غير ذلك، أو يبدو لي، فيكون الاستثناء في هذا القسم رافعاً لحكم اليمين عن كل ما تناولته وموقفاً لجملتها. وفي القسم الأول إنما رفع الحكم عن بعض ما تناولته اليمين دون سائره. وقال أبو القاسم بن محرز؛ لا فرق بين الصيغ، وإنما فرق الفقهاء بين الاستثناء والمحاشاة، لاختلاف معانيهما، ثم اختار إن ما كان بابه إيقاف حكم اليمين (كلها) ورفع حكمها، فلا يصح فيه الاستثناء إلا بالنطق، وما كان بابه رفع الحكم ن بعض ما تتناول اليمين، نظر فإن كان من أصل ما حلف عزله في نفسه، وعلق اليمين بما سواه، فذلك له، وهذا الذي يسميه الفقهاء: محاشاة. وإن كان لم [يعزله] في أصل عقد يمين، بل علقه يمينه بجميع الأشياء المحلوف عليها، ثم استدرك باستثناء بعضها، فلا ينعقد الاستثناء ها هنا حتى يحرك به لسانه، لأنه إنما

الفصل الثاني: في الكفارة

يريد حل ما قد انعقد بيمينه وإيقاف حكمه، وذلك ما لا يصح إلا بالنطق. قال: وسواء كان استثناؤه بإلا أو بغيرها من الألفاظ التي تتناول البعض. فرع: حيث قلنا: لابد من النطق بالاستثناء، فتحريك شفتيه يجزيه، وإن لم يجهر به. قال ابن حبيب عن أصبغ وغيره: هذا في غير المستحلف، فإن استحلف فلابد من الجهر. وقال ابن المواز فيما كان من الأيمان وثيقة في حق، أو شرطاً في نكاح، أو عقد بيع، أو ما يستحلفه أحد عليه، لا تجزيه حركة اللسان، حتى يظهره ويسمع منه. ولابد في الاستثناء من قصد حل اليمين، ولو قصد التفويض إلى مشيئة الله وامتثال أمره تعالى في قوله: {ولا تقولن لشئء إني فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله}، لم ينفعه استثناؤه. الفصل الثاني: في الكفارة والنظر في السبب والكيفية والملتزم أما السبب فهو يمين معقودة، فلا كفارة في الغموس، ولا في اللغو. وإنما توجب اليمين عند الحنث، وهل هو ركن أو شرط؟ فيه خلاف. فائدته جواز تقديمها بعد اليمين على الحنث. ولا يحرم الحنث باليمين، لكن الأولى أن لا يحنث، إلا أن يكون الخير في الحنث. . النظر الثاني: في الكيفية، وهي ثلاثة أنواع: الأول: عتق رقبة، يشترط فيها ما قدمناه في الصيام. النوع الثاني: إطعام عشرة أمداد لعشرة مساكين، إن كان بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف إذا كان ذلك في غيرها. فقال ابن القاسم: ((يجزيه المد بكل مكان))، وقال غيره: يخرج الوسط من الشبع. ثم قال بعضهم: هو رطلان بالبغدادي من الخبز، وشيء من الأدم، وعد ذلك الوسط من الشبع في سائر الأمصار. (وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف. وأشهب: بمد وثلث، قال: وإن مداً وثلثاً لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء). النوع الثالث: كسوة عشرة مساكين، ويكفي في الكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد.

الباب الثالث: فيما يقتضي البر والحنث

وأما في حق النساء فأقل ما (تجزئهن) فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار منهن، وقيل: يكسى صغارهن ما يكسى كبارهن قياساً على الطعام، فإن عجز عن جميع ذلك فصوم ثلاثة أيام، ولا يجب التابع فيه، وإن استحب. فرع: لو لفق الكفارة من النوعين (الأخيرين)، فأطعم خمسة مساكين وكسا خمسة، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((لا يجزيه))، وهو قول أشهب. قال محمد: وروي عن ابن القاسم أيضاً أنه يجزيه. النظر الثالث: في الملتزم، وهو كل مسلم مكلف حنث، حراً كان أو عبداً، لكن العبد ليس عليه إلا الصوم، فيجزيه بلا خلاف، ولا يجزيه العتق لأن الولاء لغيره. وأما الكسوة والإطعام، فقال في الكتاب: ((إذا كسا أو أطعم بإذن سيده رجوت أن يجزيه، وليس بالبين، والصوم أحب إلي)). وحكى المتأخرون في الإجزاء قولين، وعللوا المنع بأن السيد لم يملكه ما كفر به، وإنما أذن له في صرفه في الكفارة خاصة، فحصل العبد مكفراً بما لم يستقر ملكه عليه، وإنما أمر بالكفارة بما يملكه. الباب الثالث: فيما يقتضي البر والحنث، ويتهذب الغرض ... من هذا الباب بمقدمة وركنين: المقدمة: اعلم أن المقتضيات للبر والحنث أمور: الأول: النية، إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها، كانت مطابقة له أو زائدة فيه، أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه، وتخصيص عامه. الثاني: السبب المثير لليمين [ليتعرف] منه، ويعبر عنه بالبساط أيضاً، وذلك أن القاصد إلى اليمين لابد أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات، وينساها في بعضها، فيكون المحرك على اليمين وهو البساط دليلاً عليها لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهوراً لا إشكال فيه، وقد يخفى في بعض الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة. الثالث: العرف: أعني ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم.

الرابع: مقتضى اللفظ لغة ووضعاً. والمشهور أن هذه الأمور على ما ذكرناه من الترتيب. وقيل: ينتقل عند عدم السبب والبساط إلى وضع اللغة، ولا يعتبر العرف. وقال الشيخ أبو الطاهر: ((إذا فقدت النية والبساط، فهل يحمل اللفظ على مقتضاه لغة، أو مقتضاه عرفاً، أو متقضاه شرعاً إن كان له مقتضى في الشرع يخالف الأمرين؟ في ذلك ثلاثة أقوال)). قال الشيخ أبو الوليد: ((هذا كله فيما كان من ذلك مظنوناً))، قال: ((فأما ما كان معلوماً كقوله: والله لأقودن فلاناً كما يقاد البعير، ولأعرضن على فلان النجوم في القايلة، وشبه هذا، فهذا يعلم أن القصد به خلاف اللفظ)). قال: ((فلا خلاف في أنه يحمل على ما علم من مقصده به)). هذا تمام المقدمة، ولنشرع بعدها في الركنين. الركن الأول: في تنزيل مسائل أهل المذهب على ما قدمناه ذكره من الأمور، ويشتمل على أنواع: النوع الأول: النظر إلى المقاصد، أو إلى السبب المحرك لليمين، كمن حلف: لا ساكن إنساناً، فإنه ينتقل عن مساكنته حتى ينتقل حاله عن الحالة الأولى التي كانا عليها، فإن كان معه أولاً في دار واحدة انتقل عنها، فإنه ضرب بينهما حائطاً حتى تصير دارين ببابين إلى سكتين، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((قال مالك: ما يعجبني، وكرهه)). قال ابن القاسم: ((ولا أرى أنا به بأساً، ولا أرى عليه حنثاً)). ولو صار أحدهما في علو الدار، والآخر في السفل، فلا حنث. وقال ابن القاسم: ((إن أراد التنحي عنه جملة، فهو أشد، وإن اراد لما يدخل بين العيال، فهو أخف))، يريد: في القرب والبعد. ولو كانا في بيت واحد، فانتقلا إلى بيتين في دار، لم يحنث، وإن كانا في حارة واحدة انتقل عنها. ولو لم يكن بينهما تجاور في دار ولا حارة، بل كانا في بلد واحد، وظهر أنه قصد الانتقال عنه انتقل عنه، وهل يكفيه الانتقال عنه إلى مكان لا يلزمه إتيان الجمعة منه أو لابد من مسافة قصر الصلاة؟ قال محمد: القياس الأول، والثاني استحسان. ولو حلف ليسافرن، فالنص أنه يسافر مقداراً تقصر فيه الصلاة. وقال الشيخ أبو الطاهر: ((وهذا مقتضى اللفظ شرعاً، ولو نظر إلى مقتضى اللفظ وضعاً لكفاه أقرب سفر. أو إلى المقاصد العرفية لاعتبر ما يسميه الناس في ذلك القطر سفراً عرفاً)).

فروع ثلاثة: الأول: لو انتقل أو سافر، فلابد من إقامته بالمكان الذي انتقل إليه مدة لها تأثير، لكن اختلف في تحديدها، والتعويل فيها على ما يظهر من القصد. وقد قال ابن القاسم: لو رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إلي إلا أن ينوي الدوام. ورأى ابن المواز أن القياس إجزاء أدنى زمن، وهو على مراعاة الألفاظ، والأول على مراعاة المقاصد. الفرع الثاني: إذا حلف على الانتقال من مسكن، فتأخر مدة يضطر إليها في انتقاله، لم يحنث. فإذا تراخى زيادة على ذلك، فقال ابن المواز: أخاف عليه الحنث، وفي الواضحة: لا حنث عليه. الفرع الثالث: أن يحلف على ترك سكنى موضع، فتجب المبادرة بالانتقال، فإن تأخر حنث. وقال أشهب: لا يحنث بما دون اليوم والليلة. وكذلك لو انتقل بنفسه، وأبقى رحله بالموضع لحنث، إلا أن يبقى ما لا مقدار له كالمسمار وشبهه على أن لا يأخذه بعد ذلك. ورأى اشهب أنه لا يحنث، وإن أبقى رحله. النوع الثاني: النظر إلى المقاصد أو إلى مقتضى الألفاظ، كمن حلف: لا كلم إنساناً، فكتب إليه أو أرسل رسولاً، ففي تحنيثه بذلك خلاف: التحنيث بهما، وهو مذهب الكتاب، ونفيه فيهما، قاله أشهب في كتاب محمد. وروى ابن القاسم وأشهب التفرقة بين الكتاب والرسول، فحنثه بالكتاب دون الرسول، هذا كله مع عدم النية. فإن ادعى أنه أراد أن لا يشافهه ففي قبول ذلك منه وعدم قبوله ثلاث روايات، يفصل في الثالثة: فيقبل منه في الرسول دون الكتاب. وإن كتب إليه، فأخذ الكتاب قبل أن يصل إلى المحلوف عليه، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((قال مالك: لا أرى عليه حنثاً، وهو آخر قوله)). فرع: إذا قلنا: إنه يحنث بالكتاب، فوصل، فلم يقرأه المكتوب إليه، فحكى الشيخ أبو الطاهر في وقوع الحنث قولين، قال: ((وذلك كما لو حلف لا كلم إنساناً، فكلمه بحيث يسمعه، فلم يسمع المحلوف عليه. فأما لو كتب المحلوف عليه إلى الحالف: فإن لم يقرأ

كتابه، لم يحنث، وإن قرأه، فقال ابن القاسم: يحنث. وقال أيضاً هو وأشهب: لا يحنث)). ولو حلف: ليكلمنه لم يبر بالكتاب. وإن حلف: ليعلمنه أمراً، فعلمه من غيره، فقد نصوا على أنه لا يبر حتى يعلمه. ولو أسر إلى رجل سراً، وحلف على كتمه، ثم أسر إلى غيره، فتحادث الحالف مع من أسر إليه ثانياً، فأخبره بالسر، فقال الحالف: ذكر لي ذلك، وما ظننته ذكره لغيري، لحنث. ولو حلف: لا فارق غريمه إلا بحقه، ففر منه، فقال في الكتاب: ((إن كان إنما غلبه غريمه، وإنما نوى أن لا يفارقه مثل ما يقول: لا أخلي سبيله، ولا أتركه إلا أن يفر، فلا شيء عليه)). وإن غصب نفسه أو فرط، فهذا يحنث، إلا أن يقول: نويت إلا أن أغلب أو أغصب. وفي كتاب محمد: لا يحنث، وكذلك في المستخرجة لابن القاسم. ولو كان لفظه: لا فارقني، لحنث قولاً واحداً. ولو حلف أن لا يدخل دار فلان، فانتقلت عن ملكه، لم يحنث بدخولها. فإن قال: هذه الدار، حنث. ولو انهدمت وخرجت حتى صارت طريقاً، ودخلها، فقال ابن القاسم: أرى أن لا يحنث، قال: ولو بنيت بعد ذلك داراً، فلا يدخلها لأنها حين بنيت بعد فقد صارت داراً. ولو حلف: لأتناول طعام إنسان، فتناوله بعد أن ملكه آخر ممن يتصرف لنفسه، ولا نقص في ملكه، فلا حنث، فإن كان المتصرف له الحالف كابنه الصغير يأخذ من طعام المحلوف عليه شيئاً، فأكله الحالف حنث. وقال سحنون: لا يحنث لأن ابن الحالف ملك ذلك الطعام، وزال ملك المحلوف عليه عني. قال أبو إسحاق التونسي: لم يجعل ملك ابنه تقرر على ما أعطاه، فيصير الأب أكل مال ابنه لا مال المحلوف عليه. قال: ولعله أراد أن ذلك يصير للأب، إن يرده، فلما كان له أن يرده لم يتقرر للابن عليه ملك، إلا برضا الأب، فلهذا حنث. قال: وأما لو (وهبه) هبة كثيرة لها بال لا يقدر الأب على ردها، فأكل منها الأب لانبغى أن لا يحنث لأنه مال لابنه لا يقدر الأب على رده على الواهب.

وحكى الشيخ أبو الطاهر في هذه الصورة قولين، وكذلك حكى القولين فيما إذا كان الآخذ غير كامل الملك كعبد الحالف، وعلل عدم الحنث بالنظر إلى وجود الملك الآن، وعلل الحنث يكونه قادراً على الانتزاع منه، فكأنه غير ملك. ولو حلف أن لا تخرج زوجته إلا بإذنه، فأذن لها بحيث لا تسمع، فإنه لا ينتفع بذلك. قال أبو الجسن اللخمي: ((ولو قال: لا خرجت إلا أن آذن، لم يحنث قياساً على من حلف: ليقضين فلاناً حقه لأجل سماه إلا أن يؤخره، فأخره ولم يعلم)). ولو حلف: ليأكلن طعاماً غداً، فبادر لأكله الآن، حنث، إلا أن يكون مقصوده تعجيل أكله. ولو حلف: ليقضين غريماً له حقه الغد فقضاه اليوم، لبر؛ لأن المقصود التعجيل إلا أن يريد المطل. ولو حلف: لا آكل، فشرب سويقاً أو لبناً، حنث إذا قصد التضييق على نفسه بترك الغداء. ولو كان قصده الأكل دون الشرب، لم يحنث. ولو دفن مالاً فنسي مكانه، فبحث عنه، فلم يجده، فحلف على زوجته أنها أخذته، ثم وجده، لم يحنث لأن قصده: إن مر فهي آخذته. ولو حلف: ليضربن عبده عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة، لم يبر. ولو حلف: أن لا يتكفل بمال، فتكفل بوجه، حنث على المنصوص أيضاً. ورأى أبو الحسن اللخمي أن القياس عدم الحنث. ولو حلف: ليقضنه حقه إلى أجل، فقضاه فوجد نقصاً أو زيوفاً أو عيباً، حنث. قال أبو الحسن اللخمي: ((وهذا مراعاة للفظ، وأما على النظر إلى المقاصد، فلا يحنث)). ولو حلف: أن لا يفارق غريمه إلا بحقه، لم يبر بالرهن ولا بالكفيل ولا بالحوالة. وإن كانت (يمينه): إلا بثقة [من] حقه، بر بالرهن والكفيل والحوالة أيها كان. وإن حلف: أن

لا يفارق، وبينه وبينه معاملة، بر بالحوالة دون الكفيل والرهن. وإن حلف: (ليقضينه) حقه إلى شهر كذا، أو حين انقضاء الشهر، أو عند انسلاخه، أو بحلوله، فقيل: يكون له يوم وليلة من الشهر الثاني. وقيل: يجب الوفاء قبل انقضاء الأول، فإذا انقضى وقع الحنث. ولو قال: في الهلال، لكان له يوم وليلة. النوع الثالث: الالتفات على النظر إلى الأغراض أو إلى مقتضى الألفاظ في اللغة أو في الشريعة، كما لو حلف: لا كلم فلاناً، أو ليهجرنه الأيام، فالمنصوص أنه يهجره أبد الدهر. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وألزم أبو الحسن اللخمي أنه يبر بهجرانه أيام الجمعة من الخلاف. فمن حلف ليهجرنه الشهور، ففي قول: يهجره الدهر، وفي قول يهجره شهور السنة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}. قال: ((وهذا من أضعف ما يعول عليه من الألفاظ الشرعية)). (ولو حلف: ليهجرنه، غغي العتبية والواضحة: أنه يبر بهجران ثلاثة أيام، لأنها نهاية الهجران الجائز شرعاً. وفي كتاب محمد: لا يبر إلا بالشهر، لأنه الزمان المحدود في العقود، وكثيراً ما تقع الأيمان عليه، فكأنه المعتاد. ولو قال: لأطلبن هجرانه، فقال محمد: يهجره سنة. وقيل: شهر يجزيه. قال أبو الحسن اللخمي: ((وقول محمد احتياط، ليس أنه لا يجزي دون ذلك))، قال: ((فإن كان بينهما مصادقة ومصافاة فالشهر طويل، وتلحق فيه المشقة، وإن لم يكونا على ذلك، فالشهر قليل. ولو قال: لأهجرنه أياماً أو شهوراً أو سنين، للزمه أقل الجمع، وهو ثلاثة. ولو حلف: لا كلمه أو لا فعل حيناً، فالمنصوص أنه يكون مقتضى يمينه سنة؛ لقوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}. ورأي أبو الحسن اللخمي أنه ينطلق على اليسير من الزمن والكثير؛ لقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}.

قال الشيخ أبو الطاهر: ((لكن الحين ها هنا مفترق بالمساء والصباح، والحين الذي وقع الكلام فيه مطلق)). ومما سلك به مسلك الحين: الدهر والزمان والعصر، إذا كان منكراً، فإنه ينصرف إلى السنة. لو (عرفه) بالألف واللام، فقيل: (هو) كالأول، (ينصرف) إلى السنة. وقال الداودي: الأكثر في الزمان والدهر مدة الدنيا. قال أبو الحسن اللخمي: ((يريد الأكثر من القول)). وروي في كتاب ابن حبيب في الدهر أنه أكثر من سنة. قيل لمطرف: فسنتان؟ قال: قريب، وما أوقت فيها وقتاً. النوع الرابع: يلتفت على النظر إلى العرف، أو أصل التسمية في اللغة، كالحالف أن لا يأكل لحماً، فإنه يحنث بأكل لحم الحوث. وأشهب: لا يحنثه إلا بأكل لحوم الأنعام الأربع خاصة، دون الوحش وغيره. وكذلك لو حلف: أن لا يأكل بيضاً، فابن القاسم يحنثه حتى ببيض الحيتان، وأشهب: لا يحنثه إلا ببيض الدجاج، وما العادة تناوله كثيراً، واستحسن تحنيثه بأكل بيض سائر الطير، والقياس عنده الاقتصار على ما العادة أكل بيضه، كالدجاج وما في معناها. وكذلك الحالف لا أكل رؤوساً، فأكل رؤوس الطير والحيتان، يحنث عند ابن القاسم، ولا يحنثه أشهب إلا بأكل رؤوس الأنعام الأربعة. وكذلك لو حلف: لا آكل خبزاً، هل يحنث بأكل ما يصنع من الحنطة كالإطرية والهريسة والكعك، أم لا؟ قال الشيخ أبو الطاهر: ((والكعك أقرب إلى الحنث، لأنه ملحق بالخبز قطعاً)). قال: ((ولو بدا ما يدل على التخصيص، لم يختلف فيه، وكذلك لو بدا ما يدل على التعميم، بأن يقصد التضييق على نفسه لحنث)). ولو حلف: لا آكل عسلاً، فأكل عسل الرطب، فالمنصوص لابن القاسم تحنيثه، إلا أن تكون له نية. (وأجرى الشيخ أبو محمد على مذهب أشهب نفي الحنث).

ولو حلف: لا آكل أداماً، لجرى على الخلاف: هل يحنث بكل ما يؤتدم به، أو يجري الأمر على ما يؤتدم به في العادة؟ وكذلك لو حلف: لا آكل فاكهة، ففي الرواية يحنث بالباقلي الخضراء، وما أشبهها وهو يرجع إلى ما تقدم. وكذلك لو حلف: لا كلم إنساناً، فسلم عليه، فإن كان في غير الصلاة حنث، وإن كان في الصلاة، فهل يحنث أم لا؟ مذهب الكتاب: نفي الحنث، إذا كان مأموماً والمحلوف عليه هو الإمام فرد عليه. وفي كتاب محمد: أنه يحنث. ولو كان الإمام هو الحالف فسلم تسليمتين حنث، قاله في كتاب محمد. ورأى أبو الحسن اللخمي نفي الخلاف في التسليمة التي يخرج بها من الصلاة، قال: ((وإنما الخلاف فيما عدا ذلك، وقد أحنثه ابن القاسم إذا حلف على نفي الكلام، فصلى وراءه ففتح عليه)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((وعلى النظر إلى المقاصد لا يحنث)). ولو حلف: لا ((أكلمه))، فكلمه بحيث لا يسمع، لم يحنث. وإن كلمه بحيث يسمع، فلم يسمع لشغل أو غيره، أو كان نائماً فصاح به فلم يستيقظ، فهل يحنث لأنه قصد كلامه، أم لا يحنث إذ لم تحصل المواصلة بذلك؟ قولان لابن القاسم. النوع الخامس: النظر إلى التمادي على الفعل، هل يكون كابتدائه في البر والحنث، وقد قالوا فيكم حلف على ركوب دابة أو لباس ثوب، وهو راكب ولابس: أنه ينزع وينزل، فإن تمادى كان كما لو ابتدأ، وقد تقدم ما في السكنى. ولو حلف: لا يدخل داراً، وهو فيها، فهل يلزمه الخروج حينئذ؟ قولان. قال ابن القاسم: لا شيء عليه إن لم يخرج. وقال أشهب في كتاب محمد: إن لم يخرج مكانه حنث. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ومقتضى ما قالوه في اللباس والركوب ما قاله أشهب)). قال: ((والفرق عند ابن القاسم حصول التسمية في اللابس والراكب بالدوام، وعدم حصول اسم الدخول بالبقاء في الدار)). وأما لو قال للحائض: إذا حضت، أو للطاهر: إذا طهرت، (أو) للحامل: إذا حملت،

فأنت طالق. فقال سحنون: هو على وجود هذه في المستقبل. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ولا شك أنها تتصف بهذه الأسماء في الحال، لكن من حملها على الموجود في الاستقبال رأى أن المقصد وظاهر اللفظ يقتضي وجوداً مستأنفاً، لا ما هو حاصل الآن)). قال: ((ومبنى هذا النظر على مراعاة الألفاظ والمقاصد، لكن الخلاف: هل يعجل بالطلاق، أو يستأنى به حتى توجد هذه الأفعال؟ على أصل ثان، وهو من علق بيمينه على ما الغالب وجوده، (هل) يعد كالموجود أم لا؟)). ويلاحظ هذا الأصل أن يحلف: لا دخل على إنسان بيتاً، فدخل المحلوف عليه على الحالف، ففي تحنيثه بذلك خلاف، وفيه قال مالك: لا يعجبني. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ومقتضى لفظه نفي الحنث، إلا أن يريد أن لا يجتمع معه)). قال: ((ولم يحنثوه باجتماعه معه في المسجد، سواء حلف: لا دخل عليه، أو لا اجتمع معه في بيت، وفيه قال مالك: ليس على هذا حلف)). قال: ((وأحنثوه بالحمام. وفرق ابن المواز بأن الحمام لا يلزم دخوله، بخلاف المسجد، وتعقبه أبو الحسن اللخمي بأن له مندوحة أيضاً عن المسجد، بأن يصلي في غيره)). قال أبو الحسن اللخمي: ((قول مالك ليس على هذا حلف، حسن. وليس القصد المسجد والحمام)). ولو (دخل عليه (في بيت)، وهو ميت، فروى أشهب أنه يحنث. وقاله عبد الملك. وقال سحنون: لا يحنث. الركن الثاني: في التنبيه على خلافهم في الحمل على مقتضى اللفظ إذا عدم ما قبله من المحامل، ويشتمل على ثلاثة أنواع: النوع الأول: إذا حلف على فعل ما، فهل يحمل على أقل ما يحتمله اللفظ بناء على الأصل في براءة الذمة، أو على الأكثر بناء على عمارتها به؟ وهذا هو المشهور من المذهب. وعليه الخلاف فيمن حلف: لا آكل رغيفاً، فأكل بعضه، فإنه يحنث في المشهور. ولو حلف: ليأكلنه، لم يبر إلا بأكل جميعه قولاً واحداً، لأن كل جزء منه محلوف عليه.

ولو حلف بطلاق زوجته إذا وضعت ما في بطنها، فوضعت ولداً وبقي ثان، لجرى على القولين. وكذا لو علق الطلاق على الوطء، لحنث بمغيب الحشفة على المشهور، وعلى القول الآخر: لا يحنث بدون الإنزال. وكذا لو حلف: لا هدم حائطاً أو بئراً، فهل يحنث بفعل البعض أم لا؟ القولان، ولو حلف: لا آكل خبزاً وزيتاً، فأكل أحدهما، جرى على الخلاف عند فقد النية. النوع الثاني: أن يحلف على فعل شيء فينتقل. فإن انتقل إلى ما ليس هو معداً للانتقال إليه، كمن حلف ليأكلن طعاماً، ففسد فأكله، فقيل: لا يحنث لأنه قد أكله، وقيل: يحنث، لأنه لم يأكله طعاماً. ولو انتقل إلى ما هو معد للانتقال إليه، وقد ذكر في يمينه لفظه من كقوله: لا أكلت من هذا القمح أو اللبن، فإن قرب تغيره ولم يبعد، فالمذهب كله على أنه يحنث، وإن أكله منتقلاً، وإن بعد تغيره، كمن حلف أن لا يأكل من هذا الطلع، فأكل من بسره أو رطبه أو ثمره، فالمشهور أنه يحنث أيضاً. وقال محمد: استحسن أشهب أن لا حنث عليه، لبعد ما بينهما في الطعم والمنفعة والاسم. فلو كان المتناول ما يتولد من الشيء تولداً لا يكون جزءاً منه؛ كقوله: لا أكلت من هذه الشاة، فشرب من لبنها، لم يحنث، إلا أن يريد ترك الانتفاع منها من كل وجه. وفي حنثه بأكل ولدها خلاف حكاه ابن ميسر، سببه النظر إلى أنه ليس بجزء حقيقة فأشبه اللبن، أو النظر إلى أنه مشبه لها، فأشبه الجزء. ولو لم يذكر لفظة: ((من)) فإن نكر، فالمذهب أنه لا يحنث فيما يتولد من ذلك الشيء، إلا أن يقرب جداً، كالسمن من الزبد، ففيه قول بالحنث. وإن عرف، فأشار إلى معين وبعدت الاستحالة، فلا حنث، وإن قربت جداً، وكان الغالب أن ذلك الشيء لا يؤكل إلا بعد أن يصنع فيه ما صنع، حنث. قال ابن المواز: ولم يره ابن القاسم إلا في خمسة. من حلف: لا آكل هذا القمح فأكل خبزه، أو هذا اللحم، فأكل مرقته. وكذلك أجرى حكم من قال: لا أكلت هذا العنب، فأكل عصيره، أو الزبيب أو التمر، فأكل نبيذهما، لأن أجزاء هذه المعتصرة هي بعينها التي أكل، ولم تبعد الاستحالة، أو هذا اللحم، فأكل شحمه؛ لأن الاسم ينتظمه. ووقع لابن المواز: من حلف لا آكل هذا القمح، فأكله (خبزاً)، أنه لا يحنث. قال

الشيخ أبو الطاهر: ((ولعل هذا لبعد الاستحالة، أو يكون قولاً في أن ما انتقل إليه لا يحنث به)). قال: ((ولا يحلق بذلك السمن والزبد والجبن واللبن، والرطب من البلح والبسر عند ابن القاسم. وقال ابن وهب: إنه يلحق به)). النوع الثالث: إضافة المحلوف عليه إلى غيره، فإن لم يستهلك بالإضافة حنث بأكله، وإن استهلك جداً كالخل، يحلف لا أكله، فيأكله مطبوخاً، لم يحنث. وقيل: (يحنث). فإن لم تبعد استحالته كالسمن يلت به السويق، فإن لم تكن نية ولا بساط ووجد طعم السمن حنث بأكله قولاً واحداً، وإن لم يجد طعمه، فظاهر الكتاب أنه يحنث. وقال ابن ميسر: لا حنث عليه. وقد سئل الشيخان أبو عمران وأبو بكر بن عبد الرحمن عن الفرق بين مسألتي الخل يطبخ به، والسمن يلت به، فرأى الشيخ أبو عمران: أن السمن لا يستهلك مع اللت بل يبقى معه جزء قائم وإن قل، فيحنث بأكله. ورأى أبو بكر: أن السويق لو عصر لخرج منه سمن). ويتم الغرض من الكتاب بذكر أربع مسائل: الأولى: أن كل من حلف أن لا يفعل فعلاً حنث بحصول الفعل منه سهواً وعمداً وخطأ وقصداً. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ورأي أبو القاسم السيوري ومن اتبعه من محققي الأشياخ: نفي الحنث إذا سها عن اليمين، ففعل ناسياً لها كمذهب الشافعي)). قال: وراموا تخريجه من مسألتين:

إحداهما: من حلف بالطلاق ليصومن يوماً سماه، فأفطر فيه ناسياً، أنه لا شيء عليه)). ثم ضعف هذا الاستقراء بأنه يحتمل أن يريد: لا قضاء عليه. قال: ((وهو أحد القولين فيمن أفطر في النذر المعين ناسياً)). والأخرى: من حلف أن لا يبايع إنساناً، فباع ممن هو من سببه، أو ممن اشتراه للمحلوف عليه، ولم يعلم، أنه لا حنث عليه. قالوا: وهذا قد باع ممن حلف عليه ناسياً، ثم قال: ((وهذا الاستقراء أضعف من الأول، لأن مقتضى اللفظ نفي الحنث ولا قصد؛ إذ لا علم، فلا يحنث ولا بمقصود اللفظ ولا بمقتضى القصد. ثم رد المسألة إلى الخلاف في عمارة الذمة بالأكثر أو بالأقل، وما عزاه إلى المتأخرين من نفي الحنث للنسيان))، وهو اختيار القاضي أبي بكر. ولو فعل المحلوف عليه جهلاً حنث، كما لو حلف أن لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة وهو لا يعرفه. وأما لو أكره، كما لو حلف أن لا يدخل، فحمل قهراً وأدخل، لم يحنث، لكن إن قدر على الخروج فلم يخرج حنث. وكذلك إن حمل بإذنه حنث، وإن سكن مع القدرة على الامتناع حنث أيضاً. ولو حلف لا أكلم زيداً، ثم سلم على قوم فيهم زيد، فاستثناه بقلبه أو بلفظه، لم يحنث؛ وإن لم يستثنه ولا حاشاه حنث، وإن لم يعلم به، ولو قال: لا أدخل على زيد، فدخل على قوم هو فيهم، حنث. المسألة الثانية: أن كل حالف فإما أن يحلف على ترك الفعل، أو على الإقدام عليه، فالأول على بر حتى يقع منه الفعل فيحنث، والثاني على حنث حتى يقع منه الفعل فيبر. وهذا يعتزل زوجته حتى يقع منه الفعل، إلا أن يكون قد ضرب للفعل أجلاً، هل يلزمه الاعتزال. المسألة الثالثة: من حلف على شيء ليفعلنه، فحيل بينه وبين فعله، فإن أجل أجلاً فامتنع الفعل لعدم المحل وذهابه، كموت العبد المحلوف على ضربه، أو الحمام المحلوف على ذبحها، فلا حنث عليه، بلا خلاف منصوص. وإن امتنع الفعل بسبب منع الشرع، كمن حلف ليطأن زوجته أو أمته فوجدها حائضاً، فقيل: لا شيء عليه، وقيل: إن وطئ أثم وبر، لأنه وطئ؛ وقيل: لا يبر لأنه إنما قصد وطئاً مباحاً. وإن كان الامتناع بمنع مانع كالسارق والغاصب والمستحق، فإنه يحنث، لأن المحل باق، وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه. وقال

أشهب: لا يحنث، ورأى ذلك كالموت. وإن كان الفعل غير مؤقت بأجل، فإن فرط حتى تعذر الفعل حنث، وإن لم يفرط حتى عدم المحل فلا يحنث. وإن تعذر بغيره من الأعذار المتقدمة فالخلاف كما تقدم، وسببه: عمارة الذمة بالأكثر أو بالأقل. المسألة الرابعة: إن الحنث لا يتكرر الفعل، إلا إذا أتى بصيغة تقتضي التكرار، كقوله: كلما، ومتى ما، وشبه ذلك، أو يقصد التكرار، قاله في كتاب محمد. وعليه تخرج مسألة الحالف بصدقة دينار من ماله إن نام عن وتره، فنام فتصدق ثم نام بعد ذلك، أن التصدق يجب عليه كلما فعل، فإنه حمل الأمر على أن القصد دوام اليمين.

كتاب النذور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم تسليماً] كتاب النذور النذر: عبارة عن الالتزام والإيجاب، والنظر في أركان النذر وأحكامه. النظر الأول في الأركان: وهي ثلاثة: الملتزم، وصيغة الالتزام، والملتزم. أما الملتزم فكل مكلف له أهلية العبادة، فلا يلزم نذر الصبي والمجنون والكافر. وأما الصيغة فهي أن يقول: لله علي صوم أو صلاة أو غيرهما من القرب ابتداء [و] يعلق ذلك على وجود شيء ما كقوله: إن شفى الله مريضي، فلله علي كذا، فلو قال: إن كلمت زيداً فلله علي كذا للزم أيضاً على المعروف من المذهب. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وقد حكى الأشياخ أنهم وقفوا على قولة لابن القاسم: إن ما كان من هذا القبيل على سبيل اللجاج والحرج تكفي عنه كفارة يمين))، قال: ((وكان من لقيناه من الأشياخ يميل إلى هذا المذهب)). ولو قال: إن فعلت فعلي نذر، فعليه كفارة يمين. وكذلك لو قال: فعلي يمين أو كفارة يمين. ولو قال: لله علي نذر فعل كذا، أو أن أفعل كذا، فيخرج نذره ما سمى، فيفعله إن كان طاعة. قال ابن حبيب: من قال علي نذر أن أفعل كذا (و) كذا في يمين أو في غير يمين، فهذا فعله هو نذره، فإن كان طاعة لزمه، وإن كان معصية، فلا يفعل ولا يكفر. قال: فلو قال علي نذر إن لم أفعل كذا فهذا نذره غير فعله، فإن لم يجعل لنذره مخرجاً ولا نواه، فيؤمر أن يفعل الطاعة فيبر، ولا يفعل المعصية، ويكفر كفارة يمين.

ولو حلف بصدقة ماله، فقال: مالي نذر أو صدقة أو في السبيل، أو هدي، أو لوجه الله، قال: مالي أو جميعه، أجزأه من ذلك إخراج الثلث من العين والطعام والرقيق وغيره، إلا أن ينوي العين خاصة. ثم قال أصبغ: إذا قال لوجه الله فمخرجه الصدقة دون غيرها، ولو قال ذلك في عبده، لكان مخرجه العتق. وإن قال: في سبيل الله أو لسبيل الله، كان مخرجه الغزو والجهاد خاصة. ولو قال: نصف مالي أو ثلاثة أرباعه، أخرج جميع ما سمى. قال محمد: وكذلك إن قال: مالي إلا درهماً، أخرج جميع ذلك. قال: فإن عين فقال: عبدي أو داري، وذلك جميع ماله أو نصفه أو ثلاثة أرباعه، أخرج جميع ما سمى. وروى ابن وهب فيمن لم يعين، وسمى أكثر من الثلث أنه يقتصر على الثلث. وذكر الشيخ أبو القاسم في المعين إذا كان أكثر من الثلث روايتين. إحداهما: أن لا يلزمه أكثر من الثلث. وقال ابن حبيب: إذا حلف بجميع ماله فإنه يلزمه إخراج ثلثه إذا كان ملياً. فأما القليل المال الذي يجحفه الثلث، فيخرج قدر زكاة ماله، وأما الفقير فيكفر كفارة يمين. وقال سحنون في جميع ذلك، عين أو لم يعين، يخرج ما لا يضر به إخراجه. فروع: الأول: إذا حلف بصدقة ماله فحنث فلم يخرج شيئاً، حتى أنفقه، فقال أشهب: لا شيء عليه، ولا يتبع به ديناً. وقال ابن القاسم: يضمن إذا أنفقه أو ذهب منه كزكاة فرط فيها حتى ذهب ماله. وقال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال. (ضمن. وفي الواضحة: ومن حلف بصدقة ماله فحنث، ثم ذهب ماله باستنفاق، فذلك دين عليه). وإن ذهب بغير سببه، فلا يضمن، ولا يضره التفريط حتى أصابه ذلك. ولو حلف فحنث وقد زاد ماله، فليخرج ثلثه يوم حلف، وإن نقص، فثلثه يوم حنث. (قال في الواضحة: إن كانت الزيادة بمتجر، فلا يلزمه إخراج ثلثها. وإن كانت بولادة أخرج ثلثها مع ثلث الأصل). الفرع الثاني: (إذا حلف بصدقة ماله فحنث، فلم يخرج شيئاً، ثم حلف فحنث والمال الأول بيده لم يزد، ففي كتاب ابن حبيب وكتاب ابن المواز: ليس عليه إلا ثلث واحد. قال ابن حبيب: قاله مالك وأصحابه). وفي كتاب ابن المواز أيضاً: ومن حلف بصدقة ماله فحنث، ثم حلف بصدقة ثلثه فحنث، فيلخرج ثلثه الأول، ثم ثلث ما بقي. وقال مثله في الحالف مرتين بصدقة ماله، ثم قال: يخرج ثلثه مرة واحدة يجزئه، وقاله ابن كتانة، وبالأول أخذ محمد، وقاله أشهب.

النظر الثاني: في أحكام النذور

الفرع الثالث: إذّا حلف فحنث، وماله مائة، ثم حلف فحنث، وهو مائتان، ثم حلف فحنث، وهو ثلاثمائة، فليس عليه إلا مائة. زاد في كتاب ابن المواز: وقد نما ماله بالتجارة. ولو حنث أولاً وماله مائة، ثم حنث ثانية وماله ستون، ثم حنث ثالثة وماله أربعون، فليس عليه إلا ثلث المائة التي حنث فيها أولاً، إلا أن يبقى بيده أقل من ثلثها، فلا شيء عليه غير ما بيده، إلا أن يذهب بإتلافه أو إكله، فيلزمه ديناً. وقال محمد: إذا حلف إن فعل أو أن لا يفعل، لم يضمن ما أكل أو أتلف قبل الحنث. وإن حلف لأفعلن، أو إن لم أفعل، فهو كتلفه بعد الحنث، يلزمه ما ذهب بسببه، ولا يلزمه ما ذهب بغير سببه. الفرع الرابع: من قال: كل (ما) اكتسبه صدقة، فلا شيء عليه، كمن عم في الطلاق والعتق، ولو عين مدة أو مكاناً يكتسب إليها أو فيه، لزمه التصدق بثلث ما يكتسب إلى المدة، أو في المكان عند ابن القاسم وابن عبد الحكم. ولم يلزمه عند ابن الماجشون. وروي عن أصبغ القولان. ولو قال: كل ما أربحه في هذه السلعة (صدقة) جرى على الاختلاف، إلا أنه يلزمه التصدق بجملة الربح في القول الأول. ولو قال: ما أملكه إلى حد كذا، دخل في اليمين ما بيده الآن، بخلاف قول ما اكتسبه. وإن عقب النذر بقوله: إن شاء الله، لم يرتفع الذي في قوله: علي نذر، أو ما (يجري) مجراه مما فيه كفارة يمين فقط. ولو قال: إن شاء فلان، لم يلزمه شيء، حتى يشاء فلان، وأما الملتزم فهو الطاعة دون ما عداها. ثم هو قسمان: الأول: ما يوجبه على نفسه ابتداء شكراً لله تعالى على نعمه، وهو مستحب. والثاني: أن يربط النذر بحصول شيء أو ذهابه، كقوله: إن شفى الله مريضي، أو دفع عني شر كذا، فعلي كذا وهو مكروه، وكلاهما لازم. وكيفما تصرفت أحوال النذر، فلا يقضي به؛ لأنه له وفاء له إلا مع النية، فإذا قضي عليه بغير اختياره لم يكن وفاء. النظر الثاني: في أحكام النذور، والملتزمات أنواع: النوع الأول: الصوم، فإذا نذر مطلق الصوم كفاه يوم، إلا أن ينوي أكثر.

وكذا في الصلاة تكفيه ركعتان. وأما الصدقة، فيكفيه ما تصدق به، وإن قل. وفي الاعتكاف تكفيه ليلة ويوم. ولو نذر صوماً، فحكى الشيخ أبو الطاهر في لزوم التتابع ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، فيلزمه إن ذكر أعواماً أو شهوراً جملة أو آحاداً، ولا يلزمه إن ذكر أياماً. ولو عين يوماً للصوم تعين. ولو شرط التتابع في صوم لزمه، ولو قال: أصوم هذه السنة، لم يلزمه قضاء أيام العيد وأيام التشريق وأيام رمضان، إلا أن ينوي قضاء ذلك. وروي فيمن نذر صوم ذي الحجة، أنه يقضي أيام النحر، إلا أن ينوي أن لا قضاء لها. قال ابن القاسم: والأول أحب إلي، ويجب قضاء ما أفطر في السفر. ولو قال: علي صوم سنة، فلن يكفيه إلا أثنا عشر شهراً، ولا تنحط عنه أيام رمضان والعيد والحيض. ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، صام صبيحة تلك الليلة. وإن قدم نهاراً، فقال ابن الماجشون وأشهب وأصبغ: يصوم يوماً عوضاً عنه. وقال ابن القاسم: لا شيء عليه. ولو قدم في الأيام المحرم صومها، كيومي العيدين، فالمنصوص نفي القضاء. قال ابن الماجشون: ولو علم أنه يدخل أول النهار، فبيت الصوم لم يجزه؛ لأنه صامه قبل وجوبه. قال عنه ابن حبيب: وليصم اليوم الذي يليه، قاله أشهب وأصبغ. ولو نذر صيام يوم قودمه أبداً، لزمه، إلا أن يوافق يوماً لا يحل صيامه، فلا يصومه ولا يقضيه. وكذلك إن مرضه، وقال ابن حبيب: يقضي ما مرض فيه، لأنه إنما قصد أن يصوم شكراً، وقد نوى تعجيله، فليصمه في أول ما يصح. ولو نذر أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام، جاز له القعود. ولو نذر اعتكاف ليلة، فقال سحنون: لا يلزمه شيء، لأن بعض العبادة لا يقوم مقامها في النذور. قال القاضي أبو بكر: ((وقد خفي عليه وجه العربية التي علمها مالك وابن القاسم في قولهما: إنه يصوم يوماً يعتكف فيه الليلة، لأن العرب تعبر عن اليوم والليلة بالليلة، حتى تقول: صنماً خمساً)). قال: ((فأما من نذر صوم بعض يوم، أو صلاة بعض ركعة، فإنه يلزمه جميعها، كما لو طلق نصف طلقة)). قال: ((فهذا) آكد. وقول سحنون ضعيف)).

ولو نذر صوم يوم سماه، فوافق يوم عيد، أو يوم حيض، أو مرضاً، لم يلزمه قضاؤه، وقيل: يلزمه. ولو نذر صوم الدهر لزمه، ولا شيء عليه لأيام العيد والحيض ورمضان، وله الفطر بالمرض والسفر، ولا قضاء؛ إذ لا يمكن. ولو نذر صوم يوم العيد أو يوم الشك لغا نذره، كما لو نذر الصلاة في الأوقات المكروهة. النوع الثاني: في الحج. فإذا قال: إن كلمت فلاناً، فأنا أحرم بحجة أو بعمرة، فإن كلمه قبل أشهر الحج، لم يلزمه أن يحرم بالحج إلى دخول أشهر الحج، إلا أن ينوي أنه محرم من يوم حنث، فيلزمه ذلك. وإن كان في فير أشهر الحج. وأما العمرة، فعليه أن يحرم بها وقت حنثه، إلا أن لا يجد صحابة، ويخاف على نفسه، فليؤخر حتى يجد، فيحرم حينئذ. والإحرام في الجميع من موضعه لا من ميقاته، إلا أن ينويه، فله نيته. ولو قال: أنا محرم يوم أكلم فلاناً، فإنه يوم يكلمه محرم في رأي سحنون. ومذهب الكتاب: ((أنه لا يكون بحنثه محرماً)). وإن قوله: يوم أفعل كذا، فأنا أحرم بحجة بصيغة المضارعة، كقوله: ((فأنا محرم)) باسم الفاعل. ولو قال: إن فعلت كذا، فأنا أحج إلى بيت الله، للزمه الحج إن حنث. ولو نذر الحج ماشياً، لزمه؛ لأن المشي طاعة. ولو نذر المشي حافياً، لم يلزمه ولينتعل، وإن أهدى فحسن. ولو نذر أن يمشي إلى مكة ولم يذكر الحج، فقال: لله علي المشي إلى مكة، لزمه المشي إلى مكة في حج أو عمرة. وكذلك لو حلف به فحنث، فإنه يلزمه المشي إلى مكة في حج أو عمرة، على المعروف من المذهب، كما تقدم.

واختلف المتأخرون في علة (لزوم) الحج أو العمرة، فقال بعضهم: لأن العادة في التزام المشي إلى مكة قصد الحج أو العمرة. وقال آخرون؛ بل لأن ذلك يقتضي دخول الحرم، ولا يدخل إلا بإحرام، فصار قائل ذلك ملتزماً للإحرام. ويتخرج على تحقيق العلة فروع: الأول: لو قال: علي الذهاب إلى مكة، أو المسير أو المضي، أو ما [شاببهما]، فقال ابن القاسم: لا شيء عليه إلا أن يذكر الحج أو العمرة أو يقصدهما، وتردد قوله في الركوب، وأوجب أشهب الحج أو العمرة في جميعهما، كالمشي. الثاني: إذا حلف بالمشي إلى مكة أو البيت أو الكعبة أو الركن أو الحجر لزمه. وإن قال: إلى الصفا أو المروة أو المقام أو زمزم أو منى أو عرفات، لم يلزمه. وقال أصبغ: يلزمه في كل ما سمى مم اهو داخل في القرية، كالصفا والمروة والحطيم والأبطح والحجون وقعيقعان وأبي قبيس، وإن سمى ما هو خارج عن قرية مكة لم يلزمه. وقال ابن حبيب: يلزمه إذا سمى الحرم أو ما هو فيه، ولا يلزمه إذا سمى ما هو خارج منه ما عدا عرفات، فإنه وإن كان من الحل، فهو من مشاعر الحج، فإذا نذر عرفات فقد نذر الحج. الثالث: إذا كان الحالف من أهل الأقطار البعيدة، هل يتعين عليه الحج، أو يتخير بينه وبين العمرة؟ قولان للمتأخرين، مأخذهما ما تقدم من اعتبا رالعادة، أو دخول الحرم. ثم النظر في المشي في ثلاثة أطراف: مبدؤه ومنتهاه وحكم العاجز عنه. الطرف الأول: في مبدئه، وهو من حيث نوى، ولنقدم مقدمة جميلة، فنقول: المعتبر في (النذور) النية، فإن عدمت فالعرف، فإن عدم فمقتضى اللفظ، فإن كان له

[مقتضيات]، فهل يحمل على الأقل أو الأكثر؟ فيه الخلاف المتقدم. فإذا نذر المشي، فإن كانت له نية، فمن حيث نوى إذ هو التزام لا يقضي به، وإنما المكلف موكول فيه إلى ديانته. وإن لم تكن له نية، فإن اتحد موضع حلفه وحنثه مشى منه؛ إذ هو مقتضى اللفظ، إلا أن يكون هناك عرف فيرجع إليه. فإن كان الموضع الذي حلف فيه وحنث، لا يبلغ منه إلى مكة إلى بعد ركوب البحر، فهل يلزمه بعد الركوب إلى أقرب المواضع أن ينزل منه ويمشي؛ إذ هو مقتضى اللفظ، أو له أن يركب إلى الموضع المعتاد؛ إذ هو العرف؟ للمتأخرين في ذلك قولان. وإن كان موضع حنثه غير موضع حلفه ولا نية له، وهو على بر، مشى من حيث حنث أيضاً بناء على أن الحنث سبب. وقيل: من حيث حلف بناء على أنه شرط. فإن كانت يمينه بمكة، فإن كان في وقت اليمين في المسجد خرج إلى الحل، وأحرم من هناك. وإن كانت في غير المسجد، مشى إلى المسجد، فصلى هناك إن قصد الصلاة ورؤية المسجد (فيبصره)، فإن رؤيته عبادة. وقيل: يخرج إلى الحل، فينشىء منه حجاً أو عمرة، حملاً لنيته على قصد ذلك. وإذا مشى من غير مكة، فلا يتعين عليه موضع من البلد الذي مشى منه، إذ العادة عدم التعيين في ذلك. الطرف الثاني: منتهى المشي. وهو الفراغ من أفعال ما مشى فيه من حج أو عمرة، فينتهي في العمرة بفراغه من السعي، وفي الحج بطواف الإفاضة. وقال ابن حبيب: يمشي في رمي الجمار. الطرف الثالث: في حكم العجز عن المشي. ولا شك (في) أنه إذا أتى به في جميع الطريق دفعة واحدة، غير مفرق بين أجزائه بمقام خارج عن المعتاد، أجزأه وإن طال المقام، فإن كان مضطراً فكذلك، وإن كان مختاراً وطال به حتى تجاوز العام الذي خرج للحج فيه أو العمرة، وكانت يمينه متعلقة بعام بعينه، فقد أثم في التأخير ويلزمه القضاء على أصل المذهب. ويختلف في إجزاء ذلك المشي المفرق. وإن لم يكن العام معيناً لم يأثم، وجرى الخلاف في إجراء المشي.

وإن أقام ولم يفته الحج في ذلك العام أجزأه، وقال ابن حبيب: لا يجزئه إلا أن يأتي بمشي متوال. فإن ركب في بعض الطريق لعجز، وكان يسيراً جداً، فالمذهب أنه يجزئه، وعليه دم إن كان للركوب مقدار. (فإن) كان مشيه يسيراً وكان قادراً فيما بعد، ألغى المشي الأول ووجب عليه مشي ثان. وإن كان عاجزاً عن المشي اكتفى بالأول وأجزأه الهدي، لأنه غير مكلف بما لا يقدر عليه. فإن تساوى ركوبه ومشيه، أو كان كل واحد منهما كثيراً، وجب الرجوع لتلافي ما ركب. ويركب (المواضع التي) مشى، ويمشي (المواضع التي) ركب. وقيل: إن كان موضعه بعيداً جداً، لم يلزمه الرجوع لشيء مما ركب، فإن عجز في الثاني، لم يكلف العودة دفعة أخرى. وإن ركب مختاراً، ففي بطلان مشيه قولان، وإذا قلنا: لا يبطل، فإنه يرجع ويمشي ما ركب ويهدي. ولو مشى في الثاني الطريق أجمع، فقال ابن المواز: يسقط عنه الهدي، قال المتأخرون: كيف يسقط الهدى المقرر في ذمته بمشي غير واجب؟ فرع: من حلف بالمشي فحنث، فمشى في حج، ففاته الحج، أجزأه ما مشى وجعلها عمرة، وقضى الحج قابلاً راكباً وأهدى. النوع الثالث: إتيان المساجد. فإذا نذر إتيان مسجد من المساجد اللنائبة عنه، لم يلزمه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء. ولو ذكر المشي لم يزلمه في (إتيانها). وقال ابن وهب: يأتيها ماشياً، قال ابن المواز: وقد قيل: إن كان قريباً: الأميال ونحوها، أتى ماشياً. ثم إذا لزمه إتيان مكة للصلاة في مسجدها، فإنه لا يدخل إلا محرماً، قاله القاضي أبو الحسن.

ولو لم يذكر مساجد هذه المواضع، ولم ينو الصلاة فيها، لم يلزمه إتيانها، إلا في مكة، فيلزمه على التفصيل المتقدم. قال أبو الحسن اللخمي: ((وإن نذر مكي أو مدني الصلاة في مسجد بيت المقدس صلى في مسجد موضعه، وأجزأه. وإن نذر القدسي الصلاة في أحد هذين أتاهما. وإن نذر مدني الصلاة في المسجد الحرام، أو مكي الصلاة بمسجد الرسول أتاه، وذلك أحوط ليخرج من الخلاف))، قال: ((وقياد قول مالك، رحمة الله عليه، أن يأتي المكي المدينة، ولا يأتي المدني مكة)). ولو ذكر موضعاً غير هذه (الثلاث)، فإن تعلقت به عبادة تختص به، لزمه إتيانه، ولو كان بمكة أو المدينة أو البيت المقدس كرباط أو جهاد ناجز، لكن لا يلزمه المشي ها هنا إن ذكره، إذ لم يرد أنه في مثل هذا عبادة. النوع الرابع: الضحايا والهدايا. وقد مضى في الحج أحكام الهدايا، ونحن نتكلم الآن على ألفاظ. الأول: من نذر التقرب بسوق شاة إلى مكة، لزمه ذبحها بمكة. وكذلك لو لم يذكر لفظ الضحية والقربة، بل قال: علي ذبح شاة بمكة، لزمه أيضاً. فإن أضاف إلى بلدة أخرى فهل يلزمه النحر بها، أو يجزئه نحرها بمكانه؟ فيه روايتان. اللفظ الثاني: إذا قال: لله عليان أضحي ببدنة، لم تقم مقامها بقرة مع القدرة عليها. وأما مع العجز، ففي إجزائها عنها خلاف. وكذلك الخلاف في إجزاء سبع من الغنم عند عجزه عن البقرة. ومذبه الكتاب: الإجزاء فيهما. اللفظ الثالث: أن يقول: لله علي هدي (فإن نوى شيئاً، فله نيته، وإلا فبدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد وقصرت النفقة، رجوت أن تجزئه شاة). قال ابن

القاسم: كان مالك يزحف بالشاة كرهاً، قال أشهب: عليه بدنة، وأدنى ما يلزمه شاة، إلا أن ينوي أفضل منها. اللفظ الرابع: إذا قال: لله علي هدي هذا الشيء، أو حلف به، وهو من جنس ما يهدى، ويمكن وصوله من موضعه، وجب إخراجه بعينه، فإن كان معيناً، فهل يهديه أو يعوض عنه؟ قولان. وإن لم يمكن وصول المهدى باعه واشترى بثمنه، ثم قيل: لا يشتري إلا من جنس الأول، وقيل: له أن يخالف إلى الأفضل. فلو كان المنذور هديه من جنس ما لا يهدي، وهو ملك له، وجب عليه التعويض بثمنه هدياً، يبعثه يشتري به ثم؛ لأنه قصد صرف ثمنه في الهدي، ثم في جواز تقويمه على نفسه خلاف، هذا كله في ملكه، فلو كان المنذور ليس ملكاً له، فإن كان مما يتقوم، وهو ملك لغيره، فلا يلزمه لشيء، إلا أن يريد التزام ذلك متى ما ملكه، فيكون من باب العتق المعلق على الملك والطلاق المعلق على النكاح، والمشهور لزومه، وإن كان المنذور مما لا يتقوم، كالحر يلتزم هديه، فعليه هدي. ولو لم يذكر الهدي، لكن التزم نحر حر، فإن كان أجنبياً، فظاهر المذهب أنه لا شيء عليه فيه، وعد نذراً في معصية. وإن كان قريباً كالولد والوالدين، فإن ذكر ما يدل على الهدي، كذكر موضع من مواضع مكة أو منى، لزمه الهدي. وإن اقتصر على قوله: أنا أنحر ولدي، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((سئل مالك عنها، فأجاب بكفارة يمين، ثم سئل عنها بعد ذلك))، فقال: ((إن كان إنما أراد بذلك وجه الهدي أن يهيد ابنه لله، رأيت عليه الهدي، وإن كان لم ينو ذلك، ولم يرده، فلا أرى عليه فيه شيئاً: كفارة ولا غيره. قال ابن القاسم: وذلك أحب إلي)). فرع: قال أصبغ: قال ابن القاسم: لو كان لمن حلف بنحر (ولده) عدة أولاد أهدى عن كل واحد منهم هدياً، قال: وقد قيل: إن الهدي الواحد لجميعهم، والأول أحب إلي.

ولو قال: مالي في الكعبة أو في كسوة الكعبة أو في طيب الكعبة، فقال ابن القاسم: ((أرى أن يهدي ثلث ماله فيدفعه إلى الحجبة)). قال: ((وأما إذا قال: مالي في حطيم الكعبة، أو في الكعبة، أو في رتاج الكعبة، فلا أرى عليه شيئاً؛ لأن الكعبة لا تنقض. فتبنى بمال هذا، ولا ينقض الباب، فيجعل هذا فيه))، قال: ((وسمعت مالكاً يقول: رتاج الكعبة هو الباب.

كتاب الضحايا والعقيقة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً] كتاب الضحايا والعقيقة والضحية: سنة مؤكدة لكل قادر عليها، إلا الحاج بمنى، وليست بواجبة، هذا قول مالك على الحقيقة، وهو الذي حكاه العراقيون عنه. وكذلك الأستاذ أبو بكر لم يحك عنه سواه، وهو نصه في الموطأ والمختصر. قال يحيى بن يحيى: قال مالك: ((الضحية: سنة، وليست بواجبة)). وقال عبد الله بن عبد الحكم: قلت له: أرأيت الضحية أسنة هي؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت بالنحر، وهو لك سنة))، فذكر الحكم والدليل، وهذا كله نص، وقوله في كتاب ابن المواز: هي سنة واجبة، لفظ محتمل، يرد معناه إلى النص المتقدم. ((والمعنى بذكر الوجوب مع لفظ السنة التأكيد. وقد قال القاضي أبو محمد وغيره: المعني بإطلاق مثل هذا اللفظ أنها سنة مؤكدة)). وربما عبر بعض الأصحاب عنها بوجوب السنن. فأما ما نقل عن ابن القاسم وابن حبيب من تأثيم تاركها، فرأى لهما لا رواية.

النظر الأول: في الأركان

والنظر في أركانها وأحكامها: النظر الأول: في الأركان، وهي ثلاثة. الأول: الذبيح: وهو النعم فقط، ولا يجزئ من الضأن ما دون الجذع ولا من المعز ما دون الثني، وكذا من البقر، وهو سن المسنة. ولا يجزئ من الإبل ما دون السنة السادسة. ويجزئ الذكر والأنثى. وجملة من الصفات تمنع الأجزاء. فلا تجزئ المريضة البين مرضها وفي معناها الجرباء الكثيرة الجرب، دون الجرب اليسير، ولا العرجاء التي تمتنع بالعرج عن اللحاق بالغنم، ولا العوراء، وإن كانت الحدقة باقية. ولا بأس بالبياض في العين ما لم يكن على الناظر، ولا العجفاء التي لا نقي لها، ولا المجنونة جنوناً لازماً، ولا المقطوع من أذنها ما يزيد على الثلث، وفي الثالث خلاف. أما المقطوعة قدراً يسيراً من الأذن، أو المخروقة الأذن أو المشقوقة، فقد ورد النهي عن التضحية بها. وقال القاضي أبو الحسن: ((لا يمنع شيء من ذلك الإجزاء)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((هذا على القول بقصر العيوب المانعة من الإجزاء، على ما ورد في الحديث من العيوب الأربعة)). ويجزي المنزوع الخصية، والمنكسر القرن إذا كان لا يدمى، والتي لا قرن لها، وفي إجزاء ما سقطت أسنانه، لا لإثغار، خلاف. ويجزئ الفحل، وإن كثر نزواته، والأنثى وإن كثرت ولادتها.

ولا شركة في الدم، فلا تجزئ الشاة عن أكثر من واحد، وكذلك البقرة والبدنة، فلا يجوز أن يشترك جماعة في شاة أو بقرة أو بدنة، فيخرجون الثمن ثم يضحون بها عن جماعتهم. إلا أن الرجل يجوز له أن يضحي عنه، وعن أهل بيته شاة واحدة، أو بقرة أو بدنة وإن كان الأفضل له أن يضحي عنهم بكبش كبش. أما السنة: فالأحب الأسمن، والفحل أفضل من الخصي، والأقرن أفضل من الأجم. وأما الجنسية: فالغنم أفضل من البقر، والبقر أفضل من الإبل. وقال الشيخ أبو إسحاق: الإبل أفضل من البقر، ثم الضأن أفضل من المعز، وفحول كل جنس أفضل من إناثه. الركن الثاني: الوقت: وهو يوم النحر، يومان بعده. وأول الوقت فراغ الإمام من الصلاة والنحر، إن أبرز ذبيحته إلى المصلى، وينبغي له أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتدي به الناس، فيذبحون بعده. وإن لم يبرزها، ففي نفي إجزاء من ذبح قبله وإثباته قولان لابن القاسم وأبي مصعب. ومن كان بمكان لا إمام به، تحرى ذبح أقرب الأيمة إليه، ثم إن تحرى فوقع قبله أجزأه. وقيل: لا يجزئه. ويتحرى في اليوم الثاني والثالث الوقت الذي يذبح فيه الإمام في اليوم الأول، ولا يتقدم عليه، فلو ذبح بعد الفجر وقبل وقت ذبح الإمام بالأمس أجزأه، قاله أصبغ. وآخر الوقت غروب الشمس ثالث يوم النحر. (ولا يجزئ بالليل). وحكى القاضي أبو الحسن رواية بالإجزاء، ولا يجزئ في اليوم الثالث من أيام التشريق.

النظر الثاني: في أحكام الضحايا

الركن الثالث: الذابح: والأولى أن يتولى الذبح المضحي بنفسه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يمكنه ذلك وكل غيره، ولا ينبغي له أن يوكل مع القدرة، لما قلناه من الاقتداء. فإن كل كتابياً، لم يجزئه في رواية ابن القاسم؛ إذ ليس من أهل القرية. وروى أشهب: القول بالإجزاء. وإذا صححنا فلينو بنفسه، ولو وكل مسلماً بالتضحية والنية جاز. وأجزأت إذا نوى بها الذابح عن المالك، فلو نوى بها عن نفسه لأجزأت عن المالك أيضاً، وقال أصبغ: لا تجزئه. النظر الثاني: في أحكام الضحايا. وهي قسمان: قبل الذبح، وبعده. القسم الأول: ما قبل الذبح. فإذا قال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت. وحكى القاضي أبو الوليد في المذهب قولاً بأنها لا تجب إلا بالذبح، ثم على ملا القولين إن ماتت، فلا شيء عليه. ولو عينها من نذر سابق لزم إبدالها، ولو أتلفها أجنبي فليشتر بقيمته أخرى، وقيل: له أن يصنع بالقيمة ما شاء. وكذلك لو لم تف القيمة بشاة تصدق بها، أو صرفها فيما شاء على الخلاف المتقدم. وحيث لا يلزمه شيء بالتلف، فلا يلزم شيء بالتعيب. فإن كان التعيب مانعاً من الصحة خرجت عن الضحية. ولو قال ابتداء: جعلت هذه أضحية، وهي متعيبة، فهل تصرف إلى مصارف الضحية، أو يعوض بها سليمة؟ فيه الخلاف المتقدم في الهدي. وكذلك لو قال: لله علي أن أضحي بعرجاء، فهل تلزمه سليمة، أم لا يلزمه إلا العرجاء؟ الخلاف المتقدم. والضلال كالهلاك، ولكن حيث وجب البدل ووجد ثم وجدها قبل ذبح البدل، ذبحها دونه.

القسم الثاني: أحكامها بعد الذبح

ولو ولدت قبل الذبح، فروى ابن القاسم: يذبح معها. وقال أشهب: لا يضحى به ولا يحل. ومن مات قبل ذبح أضحيته فإنها تورث، واستحب ابن القاسم أن تذبح عنه، ولم يره أشهب. القسم الثاني: أحكامها بعد الذبح. ولا خلاف في وجوبها بالذبح، فلا يجوز التصرف فيها، ولا في شيء من أبعاضها بالمعاوضات، بل يتصرف فيها بالإطعام والأكل، والانتفاع. ولو مات بعد ذبحها، لم تورث ميراث الأموال، ولم تبع في دينه، لكن لورثته فيها من التصرف مثل ما كان له. وهل لهم قسمة اللحم؟ قولان: أجازه مالك في رواية مطرف وابن الماجشون، ورواه عيسى عن ابن القاسم. وفي كتاب محمد: المنع، وخرج القاضي أبو الوليد الخلاف في ذلك على اختلاف قول مالك وأصحابه في القسمة: هل هي تمييز حق أو بيع؟ قال: ((ويحتمل أن يريد إذا وقعت على وجه كانت بيعاً، فلم تجز في الأضحية. وإذا وقعت على وجه كانت تمييز حق، فجازت فيها)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((وإشارته بهذا إلى أن قسمة التراضي بيع، وقسمة الأسهام مختلف فيها على قولين: هل هي بيع، أو تمييز حق؟)). وإذا تصدق أو وهب شيئاً من الأضحية فهل للمعطى أن يبيعه أم لا؟ روايتان في كتاب ابن حبيب وكتاب ابن المواز. ولا تجوز إجارة جلدها، وأجازها سحنون. فإذا تعدى فباع شيئاً من الأضحية، نقض بيعه، فإن فات، فقال ابن القاسم: ((يتصدق بالثمن، ولا ينتفع به، وقال به ابن حبيب، وقال سحنون: يجعل ثمنه إن كان لحماً في طعام، وإن كان جلداً ففي طعام أو ما ينتفع به)). وقال محمد بن عبد الحكم: يصنع به ما شاء من إمساك أو غيره. ولو غصب شيئاً من أضحيته، أو تعدى عليه، أو تلف عند صانع فضمنه، فهل له أن

يغرمهم قيمة ذلك؟ استحب ابن القاسم أن لا يغرم وكأنه رآه بيعاً. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: له أخذ القيمة، ويصنع بها ما شاء، وكذلك قيمة الجلد. (واختلف في اختلاط الرؤوس عند الشواء، هل لصاحب الرأس طلب القيمة أم لا؟). وقال يحيى بن عمر في رجلين أمراً رجلاً أن يذبح لهما، فذبح واختلطا بعد الذبح، يجزيان من الأضحية، ويتصدقان بهما، ولا يأكلان منهما شيئاً. واعترض هذا أبو محمد عبد الحق، وقال: ((ما أرى المنع من أكلهما، وهي شركة ضرورية في أضحية مات صاحبها)). والأفضل الأكل والتفرقة، فلو اقتصر على أحدهما أجزأ وكره. وقال ابن المواز: لو اقتصر على الصدقة لكان أفضل. قال ابن حبيب: وليس لما يأكل ويتصدق حد يندب إليه، والاختيار عند الشيخ أبي القاسم أن يأكل الأقل، ويقسم الأكثر. قال: ((ولو قيل: يأكل الثلث ويقسم الثلثين، لكان حسناً. ولنختم الكتاب بباب العقيقة، وهي كالضحية في أحكامها وأصنافها وصفاتها، وكذلك هي في أجناسها على المشهور. وقال الشيح أبو إسحاق: ((لا يعق بشيء من الإبل ولا البقر، وإنما العقيقة بالضأن والمعز)). وروي مثله في العتبية. وأما وقتها فاليوم السابع من ولادة المولود إذا ولد قبل الفجر، ويسقط يوم الولادة إذا ولد بعد الفجر. وروي أنه يحتسب به، ولا يسقط. ولا يذبح في السابع الثاني أو الثالث، إذا فات الأول. وروى ابن وهب أن الأسابيع الثلاثة في العقيقة كالأيام الثلاثة في الضحايا. وفي مختصر الوقار: يعق عنه في الأسبوع الأول، فإن فات ففي الثاني، فإن أخطأه ذلك فلا عقيقة.

وتذبح ضحى، وقت ذبح الضحايا رواه محمد. (وقال ابن حبيب: لا تذبح العقيقة ليلاً ولا بالسحر، ولا بالعشي، إلا من الضحى إلى الزوال. وفي المبسوط: ومن ذبحها قبل الأوان الذي تذبح الأضحية فيه، لم أرها مجزئة). ولا يكره كسر عظامها، ويعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة. والإطعام فيها كما هو في الأضحية، وهو أفضل من الدعوة. قال ابن القاسم: ولا يعجبني أن يجعله صنيعاً يدعو إليه. وقال ابن حبيب: وحسن أن يوسع بغير شاة العقيقة لإكثار الطعام، ويدعو الناس إليه. (وفي المبسوط: قال مالك: عققت عن ولدي، فذبحت من الليل ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم، وهيأت طعامهم، ثم ذحبت ضحى شاة العقيقة، فأهديت منها للجيران، وأكل منها أهل البيت، وكسروا ما بقي من عظامها، فطبخنا فدعونا إليها الجيران، فأكلوا وأكلنا. قال مالك: فمن وجد سعة، فأحب [إلى] أن يفعل هذا، ومن لم يجد فليذبح عقيقته، ثم ليأكل وليطعم منها). وتلطيخ رأس المولود بدم الشاة مكروه، لكن يستحب أن يسمى في السابع، قال ابن حبيب: ويحلق شعره. (قال الشيخ أبو إسحاق: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأميطوا عنه الأذى)). وهل يتصدق بوزن شعره ذهباً؟ كرهه مالك مرة وأجازه أخرى. [وتم كتاب الضحايا والعقيقة والحمد لله].

كتاب الصيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً] كتاب الصيد وهو مباح، إلا أن يكون القصد به اللهو فيكره، وأجازه محمد بن عبد الحكم، ثم النظر في طرفين: الطرف الأول: في أركانه، وهي أربعة: الركن الأول: الصائد. وأجمعت الأمة على أن كل ذكر بالغ محكوم له الإسلام تصح منه النية، فإن ما اصطاده حلال. ومعنى ذلك أنه إذا مات الصيد بسبب جراح الجوارح أو السلاح التي اصطاده بهما حل أكله. فأما المرأة وغير البالغ إذا كان مميزاً، فالمشهور أنهما كالبالغ الذكر فيما صاده. وقال أبو مصعب: ((لا أحب ذلك)). وأما غير المسلم: فإن كان ليس بكتابي، فلا يحل صيده، أي لا يؤكل إذا مات بآلته، بل ما صاده فلم تدرك ذكاته فإنه ميتة. وأما الكتابي، ففي أكل ما صاده ثلاثة أقوال: المنع، وهو ظاهر الكتاب. والجواز، وهو قول أشهب وابن وهب. والكراهة، وهي قول مالك في كتاب محمد. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ويحتمل أن يبني ما في الكتاب على ذلك)).

الركن الثاني: الآلة، وهي صنفان: سلاح وحيوان. ويشترط في السلاح أن يكون له حد يجرح ولا يرض، فلو كان لحجر حد أصاب به، فإن أيقن أنه إنما قتل بالحد لا بالرض أكل، وإن لم يوقن بذلك، فقد روى ابن حبيب عن ابن القاسم فيمن رمى صيداً بحجر، مثله يذبح، فقطع رأسه وهو ينوي اصطياده: لا يعجبني أكله؛ إذ لعل الحجر قطع رأسه بعرضه. قال القاضي أبو الوليد: ((وهذا يحتمل أن يكون فيما شك فيه من أمره، فليس له أكله، لأنه لا يتيقن ذكاته)). قال: ((ولو علم أنه أصابه بحده لجاز له أكله)). ويشترط في الحيوان أن يكون معلماً، واختلف في صورة التعليم، فقيل: أن يكون إذا زجر انزجر، وإذا أغري أطاع. وقيل: يضاف إلى هذين أن يكون إذا دعي أطاع. وحكى ابن حبيب: أن ذلك في الكلاب، وأما الطير فلا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت. قال الشيخ أبو الطاهر: ((الذي ينبغي أن يقال في هذا: إن كل ما يمكن من التعليم في سباع الوحش وسباع الطير، فإنه مشترط فيهما)). قال: ((والمقصود من ذلك أن ينتقل الحيوان عن خلقه الأصلي حتى يصير مصرفاً بحكم الصائد، فحينئذ يكون آلة له لا صائداً لنفسه)). ولا يشترط في صفة التعليم أن يمسك الجارح ولا يأكل منه. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وحكى أبو تمام قوله عن المذهب باشتراطه في سباع الوحش، وإذا كان معلماً فجرحه أو نيبه أكل)). وإن فات بنفسه فإن مات دهشاً أو بهراً أو ما أشبه ذلك لم يؤكل، وإن مات من صدم الجارح أو ضرب بسيف فلم يجرحه ومات من ذلك، فقال ابن القاسم: لا يؤكل، وقال أشهب: يؤكل. الركن الثالث: المصيد، أعني: ما يصح اصطياده، وهو كل حيوان مأكول اللحم

معجوز عنه في أصل خلقته، احترازاً عن الناد من الأنعام، لأنها في أصل خلقتها متأنسة، فإذا ندت لم تؤكل بما يؤكل به الوحش. وأجاز ابن حبيب ذلك في البقر خاصة، قال: لأن لها أصلاً في التوحش، وألزمه أبو الحسن اللخمي مثل ذلك في الإبل والغنم على قوله: إنها إذا وقعت في مهواة، ولم يوصل إلى نحرها ولا ذبحها، أنها تطعن في جنب أو كتف. ولو صار المتوحش مقدوراً عليه، لم يؤكل، إلا بما يؤكل به المتأنس. وكذلك لم رمي فأثخن ولم تنفذ مقاتله. وكذلك لو وقع في موضع لا يطيق النجاة منه، أو انحصر في موضع على هذه الصفة، حتى يمكن تناوله من غير مشقة كبيرة. (وينخرط في هذا السلك أن يرسل على الصيد كلباً، ثم كلباً، ثم يمسكه الأول، ثم يقتله الثاني إذا كان إرساله بعد أن أمسكه الأول، فإن كان إرساله قبل أن يمسكه الأول، فالمنصوص أنه يؤكل. واستقرأ أبو الحسن اللخمي مما تقدم في الواقع في موضع لا نجاة له منه: أنه لا يؤكل). فرع: لو رمى صيداً أو أرسل عليه، فمر به إنسان، وهو قادر على ذكاته، فلم يذكه، فأتى صاحبه فوجده فات بنفسه، فالمنصوص ها هنا أنه لا يؤكل، وأن المار به يضمنه لصاحبه. وأجرى المتأخرون في الضمان ها هنا قولين مأخذهما: أن الترك فعل فيضمن، أو ليس كالفعل فلا ضمان عليه، وخرجوا على هذا عدة فروع، منها: أن يرى إنساناً تستهلك نفسه أو ماله وهو يقدر على خلاصة فلا يفعل. ومنها أن تكون عنده شهادة لإنسان، فلا يؤديها حتى يؤدي تأخيرها إلى هلاكه أو هلاك ماله، ومنها أن تكون عنده وثيقة بحق ولا يؤدها حتى يتلف الحق أيضاً. ومنها أن تجب عليه مواساة أحد من المسلمين، فلا يفعل حتى يهلك. ومنها أن يجرح إنسان جرحاً جائفة أو غيرها، فيمسك آخر عنه ما يخيط به حتى يؤدي إلى هلاكه، ومنها أن يكون لإنسان بجانب آخر زرع، فلا يسقيه بفضل مائة حتى يهلك. ومنها أن يكون له حائط مائل، ولآخر ما يقيمه به من خشب أو حجر، فلا يفعل حتى يقع الحائط، إلى أمثال ذلك مما ينخرط في هذا السلك.

الفصل الأول: ما يفعله الصائد

فأما لو قطع إنسان لآخر وثيقة حتى ضاع الحق الذي فيها، فقال الشيخ أبو الطاهر: ((هذا لا يختلف المذهب في ضمانه))، قال: ((وأصل هذه المسائل وشبهها: هو أن المباشر للتلف يضمن ما باشره. فإن فعل فعلاً أدى إلى التلف، إن قرب السبب من المسبب، ولم ينصرف الفعل إلا إلى المتلف، فلا يختلف في الضمان. وإن بعد السبب بعداً كثيراً، فلا ضمان. وإن قرب لكن المقصود من الفعل معنى آخر، أو لم يكن في غاية التقرب، ولا في غاية البعد، ففيه قولان)). قال: ((وكذلك من منع شيئاً بفعل فعله، وكذلك من ترك ما يجب عليه من الفعل، ففي كل ذلك قولان. والخلاف في ذلك كله راجع إلى هذا الأصل)). الركن الرابع: في صفة الصيد، وفيه يتسع الكلام، وتحصره ثلاثة فصول: الفصل الأول: ما يفعله الصائد وليقصد إلى اصطياده والذكاة بفعله أو بإرساله، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان الصائد ممن تصح منه النية كما تقدم، وكان الصيد مباح الأكل. وإذا كان الحيوان مما يصح فيه القصد إلى الذكاة، فرماه بنية ذلك، وعينه وقصد شيئاً فوجده كما قصد استباحه. فإن وجد غير ما قصد، لكنه مأكول اللحم على الجملة، كما إذا رمى ما ظنه أيلا فوجده بقرة وحش، ففي استباحته بذلك قولان لأشهب وأصبغ، سببهما أن الخطأ في الصفات هل يسري إلى الخطأ في الموصوف أم لا؟ وإن كان غير مأكول اللحم، فلا خفاء أنه لا يؤثر فيه القصد. ولو أرسل ولم يقصد شيئاً معيناً، وإنما قصد ما يأخذ الجارح، أو ما تقتل الآلة مما في جهة محصورة، كمن أرسل على جماعة يراها ولم ينو واحداً منها، أو رأى بعضها أو لا يرى شيئاً منها، لكنها محصورة بموضع لا تختلط بغيرها في الأغلب، كالغار فيه الصيد يرسل جارحة فيه، وينوي أن يأخذ واحداً مما فيه، فالمشهور من المذهب صحة الإرسال على هذه الصفة. وقال أشهب: لا يصح إلا على ما يراه معيناً. وسبب الخلاف: هل يكون تعيين الجملة كافياً عن الأبعاض، أم لا؟ ولو كان الموضع مما لا ينحصر ولا يمنع من دخول غيره فيه، كالمتسع من الأرض

والغياض، فأجاز أصبغ الإرسال على ما فيها. ومنع منه ابن القاسم وأشهب، فتنحل من هذا أن أشهب لا يبيح إلا المعين، وابن القاسم يبيح العين والمحصور. وأصبغ يبيح المعين بالجهة، وإن أمكن أن يختلط به غيره، أعني أن يكون غير محصور. ولا خلاف في المذهب أنه لا يباح الإرسال على كل صيد يقوم بين يديه. ولو رأى الجارح يضطرب، ولم ير الصائد شيئاً فأرسل عليه فأجازه مالك مرة، وكرهه أخرى. وقال: لعله غير الذي اضطرب عليه، قال الشيخ أبو الطاهر: ((وقد أبان مالك أن هذه الصورة جارية على أصل ثان: هل يحكم بالغالب فيجوز أكله؛ إذ الغالب أنه إنما أخذ ما اضطرب عليه أو لا يباح إلا مع اليقين؟)). قال: ((ويحتمل أن تبقى الكراهة على حقيقتها، أو تكون بمعنى التحريم)). ومن أفعال الصائد التسمية عند الإرسال، كما يسمى الذابح عند الذبح، فإن ترك التسمية، فحكمه حكم الذابح وسيأتي. ومن أفعاله أيضاً اتباع الصيد بعد الإرسال، فإن رجع أو تراخى، فإن أدركه وذكاه قبل أن تنفذ مقاتله، أكل بالتذكية لا بالصيد. وإن لم يدرك حتى أنفذت مقاتله لم يؤكل، إلا أن يتحقق أنه لو اتبعه لم يدركه إلا منفوذ المقاتل، وهذا ظاهر في السهم. فأما الجوارح، فإن كل له طريق إلى العلم بذلك أكل، وإلا فلا. ولو توارى عنه الصيد، ثم وجده منفوذ المقاتل، فإن تحقق أنه المقصود أكله. وإن شك فيه لم يأكله، وإن غلب على ظنه أنه هو، فهل يأكله؟ ظاهر المذهب على الخلاف، كما تقدم في مسألة اضطراب الجارح. (ولو بات عنه الصيد، ثم وجده في الغد (منفوذ) المقاتل، فمذهب الكتاب: إنه لا يؤكل، وسوى بين البازي والكلب والسهم. وقال ابن الماجشون: عند ابن حبيب يؤكل على كل أحواله، أصابه سهم أو جارح، قال: وإن لم تنفذ مقاتله لم يؤكل، مخافة أن يكون إنما قتله بعض هوام الأرض ودوابها أو أعان على قتله. وأجاز ابن المواز أكل ما أنفذ السهم مقاتله، دون ما قتله الباز والكلب. وحكى أبو الحسن اللخمي قولاً بالكراهة)). قال

الفصل الثاني: في الآلة

الشيخ أبو الطاهر: ((ويمكن أن يكون القائل بالكراهة عبر بها عن التحريم)). وإذا تبعه كما أمر، فوجده (منفوذ) المقاتل، لم يفتقر إلى تذكية، ولو وجده غير (منفوذ) المقاتل، فلم يكن معه ما يذكبه به حتى قتلته الجوارح أو فات بنفسه، لم يؤكل. ولو اشتغل بإخراج الآلة، ففات بنفسه، لم يؤكل. إن كانت في (موضع) يفتقر إلى طول، وإن كانت في يده أو في كمه أو ما في معنى ذلك أكل، لأنه مغلوب عليه. الفصل الثاني: في الآلة وقد تقدم اشتراط كون (الجارح) معلماً، وصفة التعليم. فإن كان غير معلم، لم يؤكل من صيده، إلا ما أدركت ذكاته مجتمع الحياة. فلو اشترك مع المعلم غيره، فإن تيقن أن المعلم هو المنفرد بالقتل، أكل الصيد. وإن تيقن غيره، أو شك فيه، لم يؤكل. وإن غلب على الظن أنه القاتل، جرى على الخلاف المتقدم. الفصل الثالث: في أفعال الجارح وليكن إنبعاثه بإرسال الصائد لا من نفسه، وليكن في يده، فإن انبعث بإرساله، وهو ليس في يده فهل يؤكل صيده، أم لا؟ ثلاثة أقوال، يخصص في الثالث جواز الأكل بما إذا كان قريباً دون ما إذا كان بعيداً. والتفرقة لابن حبيب، والقولان الأولان في الكتاب. فإن انبعث بغير إرساله، ثم زجره وأشلاه، فإن لم يلتفت إلى فعله، لم يؤكل إلا أن تدرك ذكاته. وإن رجع إليه ووقف ثم بعثه، فإن رجع إلى يده أكل الصيد، وإن لم يرجع إلى يده جرى على ما تقدم. ولو كان إنما أغراه وحرضه فاشتد في الطلب بذلك، فمذهب الكتاب ((أنه لا يؤكل)).

الطرف الثاني: في رسم فروع تكمل الغرض من الكتاب

وقال أصبغ: يؤكل مطلقاً. وحكى ذلك القاضي أبو الحسن رواية. وقال ابن الماجشون: إذا زاده ذلك قوة واشتداداً أكل. ولو بعثه فمر في الطلب، ثم عطف عنه، فإن كان راجعاً بالكلية، لم يؤكل. وإن كان طالباً لكنه تحير في مواضع الطلب، أكل. ولو مر بمثله فوقف عليه، أو بشيء يأكله فاشتغل به، فهو بمنزلة ترك الطلب. الطرف الثاني: في رسم فروع تكمل الغرض من الكتاب، وهي ستة: الأول: لا يؤكل ما أبانت الآلة أو الجارح من الصيد إذا كان ذلك في غير مقتل، ولو بقي لم يمت منه. ولو كان المبان نصفه أو الكثير منه فإنه يؤكل الجميع، إذا قصد بذلك اصطياده. ولو قطع يسيراً، لكنه لو بقي لم يعش، فإن كان موته من القطع، ففي أكل المقطوع قولان. المشهور: أنه لا يؤكل. ولو كان إنما يموت، بمعنى غير القطع، كما إذا قطع خطمه، فيموت جوعاً لتعذر الأكل عليه، فلا يؤكل ما قطع منه، إذ لم تحصل ذكاته بالقطع. الفرع الثاني: لو رمى صيداً على شاهق فتردى فوجده ميتاً، فإن كان سهمه قد أنفذ مقاتله قبل ترديه، فقد تمت ذكاته، ولا يضره التردي. وإن لم يمفذ لم يجز أكله، لأنه لا يدري من أي ذلك مات، ومثله لو رماه فسقط في ماء. فلو رماه بسهم مسموم، فروى في الموازية والعتبية أنه لا يؤكل، لعل السم أعان على قتله، قال: وأخاف على من أكله. الفرع الثالث: لا يستحق الصيد بالرؤية دون الأخذ، فلو رأى واحد من جماعة صيداً فأخبر به من معه، فبادر غيره فأخذه كان لمن أخذه. ولو كان الصيد غير قادر على النهوض، ولو تمانعوا أخذه، ولم يترك بعضهم بعضاً، ولو تركوا لقدر كل واحد منهم على أخذه فالصيد لجميعهم. ولو نصب ناصب في موضع، فطرد غيره الصيد حتى وقع فيما نصب، فإن كان الطارد قادراً على أخذه، ولم ينتفع بالحبالات ولا قصد الانتفاع، فالصيد له، ولا شيء عليه لرب الحبالات.

وإن كان منقطعاً عن الصيد وعلى (إياس) منه، ولم يقصد إيقاعه في الحبالات، فوقع فيها بنفسه، فهو لربها، ولا شيء عليه للطارد. وإن قصد الصائد إيقاعه فيها، ولولا هي لأخذه، فهو للطارد، وعليه لربها بقدر ما انتفع. وإن لم يحصل الصيد إلا بمجموع الطرد والوقوع، وقصد ذلك الطارد، فالصيد بينهما على قدر ما فعله الطارد ومنفعة المنصوب. الفرع الرابع: إذا ملك الصيد بالاصطياد فند منه، فصاده غيره بعد أن تأنس عند الأول، وقبل أن يتوحش، فهو للأول قولاً واحداً، فإن صاده قبل أن يتأنس، أو بعد أن توحش. فقال محمد بن عبد الحكم: يكون للأول على كل حال، كسائر أمواله. وقال في الكتاب: ((يكون للثاني على كل حال، لأنه عاد إلى ما كان عليه قبل اصطياد الأول له)). وروي أنه يكون للأول إن ند بعد أن تأنس، وإن أخذ بعد أن توحش، فإن ند قبل التأنس كان للثاني، وبه قال ابن الماجشون. وقيل: إن طال مقامه عن الأول فهو للثاني، وإن لم يطل فهو للأول. وإذا فرعنا على هذا القول فادعى الصائد آخراً طول المدة، وأنكره الأول، فقولان لابن القاسم وسحنون لتقابل الأصلين؛ إذ أصل الملك للأول، واليد للثاني. وكذلك لو قال الأول: لم يطل، وقال الثاني: لا أدري، فعول ابن القاسم على اليد، وعول سحنون على أصل الملك. الفرع الخامس: وهو مرتب. لو كان ملك الأول له بشراء، فقال ابن المواز: هو كالأول، وقال أبو القاسم بن الكاتب: بل يكون هذا للأول على كل حال قياساً على من أحيا ما دثر مما أحياه غيره بعد أن اشتراه، بخلاف الصورة الأولى، فإنها بمثابة من أحيا ما دثر مما أحياه غيره من غير شراء. الفرع السادس: في اتخاذ ما يسكنه الصيد. ولا يمنع أحد أن ينصب أبرجة أو أجباحاً في مواضع بها أبرجة وأجباح لغيره، إلا أن تعلم مضرته بالسابق بأن يحدثها بقرب السابق، ويقصد صيد المملوك فيمنع. فإن نصبها فحصل فيها حمام أو نحل لغيره، فإن قدر على ردها ردها، وإن لم يقدر على

ذلك، فقيل: يكون ما يتولد عنها للسابق، وقال ابن القاسم: ((لمن صارت إليه ولا شيء عليه فيه)). وأشار أبو الجسن اللخمي إلى إجرائها على مسألة ندود الصيد. وأخذ من القول بالرد إذا عرفت وقدر على ردها قولاً موافقاً لقول محمد بن عبد الحكم المتقدم. وإذا قلنا: بأن ما يتولد عنها للأول، فينبغي أن يكون عليه بقدر ما ينتفع من أمكنة الثاني. قال أبو الحسن اللخمي: ((وإن آوى حمام برج إلى دار رجل، ولم يكن حبسه، وعلم أنه برجي ولم يعلم صاحبه، جاز له ملكه، وإن عرف برجه رده على أصل قول مالك. وإن تعرضه بحبس أو اصطياد، فقال ابن القاسم وأشهب: يرده إن عرف برجه، وإلا تصدق بثمنه)). قال: ((ومحمل قوليهما على أنه طالت إقامته، ولو كان بحدثان ما أخذه ولم يقصه أرسله، وشأنه أنه يعود إلى وكره)). وأما حمام البيوت المملوكة، فهي كالحيوان الداجن من دخل إليه منها شيء فهو كاللقطة.

كتاب الذبائح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً] كتاب الذبائح (وقد تقدم في كتاب الصيد أن الحيوان لا يستباح إلا بذكاة، وأن الذكاة نوعان: ذبح، ونحر في المقدور عليه، وعقر في المعجوز عنه). وقد تقدم الكلام في ذكاة المعجوز عنه، وهذا الكتاب مقصوده النظر في ذكاة المقدور عليه. والنظر فيه: في المذكي والمذكى، والمذكى به، وصفة الذكاة. النظر الأول: في المذكي. ولا شك أن المسلم البالغ الذكر تصح ذكاته إذا صحت منه النية؛ إذ لا تصح الذكاة إلا بنية. (ويخرج عن هذا المجنون والسكران الذي لا يميز). والمشهور صحة ذكاة من لا يصلي. وعلى رأي ابن حبيب لا تصح ذكاته. وأما الكافر فإن كان غير كتابي، فلا تصح ذكاته. وإن كان كتابياً يقر على دينه ليس بمرتد، فإن ذبح لنفسه ما يستحله صحت ذكاته، وإن كان مما لا يستحله، فلا تصح ذكاته، إذا كان مما علمنا تحريمه عليهم بكتابنا، كذي الظفر. وقال ابن وهب وابن عبد الحكم: تصح ذكاتهم له لنسخ شرعهم بشرعنا.

فأما ما علمنا تحريمه عليهم من الشحوم، ففي كتاب محمد: تحريمه، وحكاه القاضي أبو الحسن عن ابن القاسم وأشهب. وفي المبسوط جوامه. وقاله ابن نافع. والمشهور من قول ابن القاسم: كراهيته. وإن كان مما انفردوا بالإخبار عن تحريمه عليهم، كالتي يسمونها الطريفة، ففي إباحتها وكراهيتها قولان في الكتاب. قال ابن القاسم: وأرى أن لا تؤكل. وكذلك في استباحة ما ذبحوه لمسلم ومنعه، قولان أيضاً، حكاهما الشيخ أبو الطاهر. ((وعلل منع الاستباحة بأنا إنما نستبيح طعامهم، وهذا ليس منه)). وقال أيضاً: ((أجاز أهل المذهب ذبيحة السامرية، وهم صنف من اليهود، وإن أنكروا بعس الأجساد)). قال: ((ومنعوا ذبائح الصابئين، قالوا: لأنهم بين النصرانية والمجوسية، ثم ذكر أن الذي يتحصل من مذهبهم (أنهم غير موحدين) يعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة)). ولو ذبح الكتابي لعيده أو لكنيسته، فقال ابن القاسم: ((كان مالك يكرهه كراهية شديدة من غير أن يحرمه))، قال الشيخ أبو الطاهر: ((وعند ابن حبيب ما يقتضي الجواز)). فإن غاب الكتابي على ذبيحته، فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى، أو شككنا في ذلك، لم نأكل ما غابوا عليه، وإن علمنا أنهم يذكون أكلنا. قال الشيخ أبو إسحاق: ((وأكره قديد الروم وجبنهم، وأكره جبن المجوس لما يجعلون فيه من أنافح الميتة)).

النظر الثاني: في المذكى

فرع: (ولا ينبغي للإنسان أن يقصد الشراء من ذبائح اليهود). (قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: ينهي المسلمون عن الشراء من جزاري اليهود، وينهي اليهود عن البيع منهم. فمن اشترى منهم من المسلمين فهو رجل سوء، ولا يفسخ شراؤه، وقد ظلم نفسه، إلا أن يشتري اليهود مثل الطريف وشبهه، مما لا يأكلونه، فيفسخ على كل حال). قال: وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلهذا فسخ الطريف، وإن كان غير محرم على الظاهر من المذهب. وقد نهى مالك أن يكونوا جزارين. فأما الصبي والمرأة، ففي الكتاب: ((يؤكل ما ذبحت المرأة من غير ضرورة، وإن لم يحضرها إلا نصراني، فلتل هي الذبح دونه)). ويؤكل ما ذبح الصبي إن أصاب وجه الذبح). وفي كتاب محمد: أكره ذبيحة الصبي والمرأة من غير ضرورة، وتؤكل إن فعلا. وقال أبو مصعب: ((لا أحب أكل ذبيحة الغلام، إلا أن يحتلم، ولا ذبيحة المرأة، وإن ذبحا في حال ضرورة، فلا أحب ذلك أيضاً)). النظر الثاني: في المذكى: ويجوز للإنسان تذكية سائر الحيوان، وكله يقبل الذكاة، إلا الخنزير، فإنه إذا ذكي صار ميتة.

النظر الثالث: في الآية المذكى بها

فأما سائر الحيوان، فيطهر بالذكاة جميع أجزائه من لحمه وعظمه وجلده، سواء قلنا: يؤكل أو لا يؤكل، كالسباع والكلاب والحمر والبغال إذا ذكيت طهرت على كلتا الروايتين: في إباحة أكلها ومنعها، وقال ابن حبيب: لا تطهر بالذبح، بل تصير ميتة. النظر الثالث: في الآية المذكى بها. وهي كل محدد يمكن به إنفاذ المقاتل، وأنهار الدم بالطعن في لبة ما ينحر، أو فري الأوداج فيما يذبح، فإنه تحصل الذكاة به. قال في الكتاب: ((بمروة أو عود أو عظم جاز إن احتاج إلى ذلك))، قال: ((ويكره ذلك من غير حاجة وتؤكل)). قال ابن حبيب: ويذكى بالليطة، وهي قشرة القصب، وبالضرر، وهو حجر له حد كحد السكين. وروي في المبسوط: كل شيء يصنع من فخار أو عظم أو قرن أو شيء يمر مراً، فإنه جائز. قال ابن حبيب: لا بأس بفلقة العظم ذكياً كان أو غير ذكي. فأما السن والظفر ففيهما ثلاثة مذاهب. أحدها: (أنه لا يجوز الذكاة بالسن ولا بالظفر، متصلاً كان أو منفصلاً. قال القاضي أبو الحسن: ((وهو الظاهر من قول مالك من رواية ابن المواز عنه)). والمذهب الثاني: جواز الذكاة بهما، متصلين كانا أو منفصلين، وهو الظاهر من رواية ابن وهب في المبسوط. قال القاضي أبو الحسن: ((وهو) الذي نختاره أن السن إذا كان عريضاً محدداً والظفر كذلك يمكن قطع الحلقوم به مرة واحدة، فإنه يصح)). وكذلك سائر العظام متصلة أو منفصلة، سواء كانت مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل)).

النظر الرابع: في صفة الذكاة

والمذهب الثالث: (أنه تجوز الذكاة بهما منفصلين، ولا تجوز متصلين، قاله ابن حبيب واختار القاضي أبو الوليد الرواية الأولى. وشرط القاضي أبو الحسن في صفة ما يذكي به أن يفري الأوداج والحلقوم في دفعة واحدة. قال: ((وما كان من ذلك لا يفريها (إلا) دفعات، فلا تجوز الذكاة به، وإن كان حديداً)). وقال ابن حبيب، في المنجل المضرس: لا خير في الذكاة به، لأنه (يردد) ولا إخاله يقطع، كما تقطع الشفرة، إذا (رددت) به اليد للإجهاز. النظر الرابع: في صفة الذكاة. وهي نوعان كما تقدم: ذبح، ونحر. فأما ما يختص بالذبح: فكل ما يجوز أكل، ما عدا الإبل والبقر، ويدخل في هذا الطير على اختلاف أنواعه، ومنه النعامة، فإنها تذبح عندنا. وأما ما يختص بالنحر، فالإبل. (وقال الشيخ أبو بكر: إذا نحر الفيل، فلا بأس بالانتفاع بعظمه وجلده. قال القاضي أبو الوليد: ((فخصه بالنحر مع قصر عنقه)). قال: ((ووجه ذلك عندي أنه لا عنق له ولا يمكن، لغلظ موضع حلقه في اتصاله بجسمه، أن يذبح، وكان له منحر، فكانت ذكاته فيه)). ويجوز في البقر الوجهان، والذبح أفضل. فرع: فإن ذبحت الإبل أو نحر غيرها مما ذكاته الذبح، للضرورة، لأنه وقع في مهواة، أو ما في معنى ذلك، جاز ذلك وحل أكلها، فإن لم تكن ضرورة لم تؤكل. وقال أشهب في مدونته: إذا ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح أكل إذا فعل، وبئس ما

صنع. وفرق ابن بكير، فأجاز أكل البعير إذا ذبح، ولم يجز أكل الشاة إذا نحرت. ومحل النحر: اللبة، ومحل الذبح: الحلق. ويستقبل فيهما جميعاً القبلة. وتنحر الإبل قياماً معقولة، ويجوز غير ذلك. (وأما الذبح فقال محمد: السنة أن تضجع الذبيحة برفق على الجانب الأيسر مستقبلة للقبلة، ورأسها مشرف، ويأخذ الذابح بيده اليسرى جلد حلقها من اللحى الأسفل بالصوف أو غيره، فيمده حتى تتبين البشرة، وموضع السكين في المذبح، حيث تكون (الخرزة) في الرأس، ثم يسمى الله تعالى (ويمر السكين مراً)، مجهزاً بغير ترديد، ثم يرفع، ولا ينخع ولا يردد، وقد حد الشفرة قبل ذلك، ولا يضرب بها الأرض، ولا يجعل رجله على عنقها، ولا يجر برجلها، ويقطع الحلقوم والودجين. ولا يعرف مالك المري). والحلقوم مجرى النفس، والمري: مجرى الطعام والشراب. فإن لم يستقبل القبلة ساهياً أو لعذر أكلت، ولو تعمد الترك أكلت أيضاً على المشهور. وقال ابن حبيب: لا تؤكل. وإن ترك التسمية تهاوناً، لم تؤكل ذبيحته، وإن تركها ناسياً أكلت. حكى الشيخ أبو الطاهر نفي الخلاف في الصورتين. وإن تركها عامداً غير متهاون، فالمشهور أنها لا تؤكل. وقال أشهب: تؤكل. ويشترط قطع الودجين والحلقوم، ولا يشترط قطع المري كما تقدم. وقيل: يشترط. وهل المشترك قطع الكل، أو النصف فأكثر؟ في ذلك قولان، يأتي بيانهما.

البري

ولو لم يقطع الذابح الخرزة، وهي الغلصمة، بل حازها إلى البدن، حتى لم يبق في الرأس منها ما يستدير، ولم ينقطع من الحلقوم شيء، (فحكى القاضي أبو محمد عن المذهب: ((أنها لا تؤكل))، وبه قال سحنون وابن حبيب والشيخ أبو إسحاق. ورواه المحمدان عن ابن القاسم ابن المواز والعتبي. ورواه ابن وضاح عن محمد بن عبد الحكم. ورواه محمد بن عمر عن مالك. ويقال لها: المغلصمة. وحكى العتبي أيضاً عن ابن وهب وغيره: أنها تؤكل. وكذلك روي عن أشهب ومحمد بن عبد الحكم أيضاً وأبي مصعب وموسى بن معاوية). فإن بقى في الرأس ما يستدير جاز الأكل. (ولا يؤكل ما ذبح من القفا). (قال محمد: وأما من أراد أن يذبح في الحلقوم فأخطأ فانحرف فإنها تؤكل. وقال ابن حبيب: لا يؤكل ما ذبح من القفا، ولا في صفحة العنق). فروع: الأول: في بيان ما يفتقر إلى الذكاة. والحيوان قسمان: بري وبحري، فأما البري فنوعان: النوع الأول: ما له نفس سائلة، ويفتقر جميعه إلى الذكاة، وصفتها ما تقدم، وذلك في صغيرها وكبيرها. فمن احتاج إلى ذكاة شيء من هوام الأرض مما له لحم ودم سائل، كالحية

والفأرة والحرباء والعظاية وشببها لدواء أو غيره، فإن كانت مقدوراً عليها ذكيت في الحلق كسائر الذبائح، وإن كانت معجوزاً عنها فتذكى بالعقر، كالصيد، رواه ابن حبيب عن مالك. وفي مختصر الوقار: ومن احتاج إلى حية، فليذكها ويلقي بطرفيها. النوع الثاني: ما لا نفس له سائلة. فأما الجراد منه، فالمشهور من المذهب افتقاره إلى الذكاة. وقال مطرف: يؤكل بغير ذكاة. وسبب الخلاف: أن الذكاة لإنهار الدم أو إزهاق الروح بسرعة. واختلف أيهما المقصود الأعظم بها حتى يكون الثاني كالتابع له. وأما ما عدا الجراد من هذا النوع، فهل المذهب مختلف فيه كاختلافه في الجراد أو هو على قول واحد في افتقاره للذكاة؟ للمتأخرين في ذلك طريقان. فرع: إذا قلنا بافتقار هذا النوع إلى الذكاة فما صفتها؟ أما إن قطعت رؤوسه أو شيء منه فأماته قطعه، فهو (ذكاة) له، فإن رمي في نار أو في ماء حار فهل يكون ذلك ذكاة أم لا؟ قولان: الأول لمالك وابن القاسم. والثاني لأشهب وسحنون. وكذلك لو مات من أي فعل فعله به المكلف قاصداً به الذكاة. وأما إن وقع بنفسه في ماء حار أو نار، فمات منه، فقال الشيخ أبو الطاهر: ((ظاهر الروايات أنه لا يؤكل)). ثم حكى عن القاضي أبي الحسن: ((أنه يؤكل)). قال: ((وكأنه طلب أن يتماوت موتاً يكون سبب، بخلاف ما مات حتف أنفه)).

البحري

وأما القسم الثاني من الحيوان وهو البحري، فنوعان أيضاً: الأول: ما لا تطول حياته في البر، ولا يختلف المذهب في أنه لا يفتقر إلى ذكاة. الثاني: ما تطول حياته في البر، فالمشهور أنه كالأول. وقال ابن نافع: لا يؤكل إلا بذكاة. وفي (المدونة) عن محمد بن دينار كذلك أيضاً. وفيها من رواية عيسى عن ابن القاسم: ((أن ما كان مأواه في الماء، فأنه يؤكل بغير ذكاة وإن كان يرعى في البر))، وما كان مأواه ومستقره في البر، فإنه لا يؤكل إلا بذكاة، وإن كان يعيش في الماء. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وما أظن هذا التفصيل يخالف المشهور)). وفي الكتاب: ((في ترس البحر يؤكل بغير ذكاة)). وفي مختصر الوقار: تستحب ذكاته؛ لأن له في البر رعياً. وفي كتاب محمد في السلحفاة: ترس صغيرة يكون في البراري هو من صيد البر، ولا يؤكل إلا بذكاة، ولا يؤكل طير الماء إلا بذكاة، بغير خلاف في المذهب. الفرع الثاني: أنه قد تقدم اشتراط القاضي أبي الحسن أن يؤتي بالذكاة في فور واحد. (فإن لم يفعل ذلك، بل رفع الآلة قبل الإجهاز، ثم ردها فأجهز، فقال ابن حبيب: إن رجع في فور الذبح قبل أن يذهب ويدع الذبيحة جاز. وإن رجع بعد أن تباعد لم تؤكل، قال سحنون: لا تؤكل وإن رجع مكانه، وتأول بعض المتأخرين على سحنون (أنه أراد: إذا) رفع يده على أنه قد أتم الذكاة ثم رجع، فإنها لا تؤكل. فأما لو رفع يده كالمختبر، أو ليرجع في فروه، فإنها تؤكل. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: لو عكس هذا الجواب لكان أصوب. وذكر أنه عرضه على شيخه الشيخ أبي الحسن فصوب قوله). الفرع الثالث: (لو قطع بعض الحلقوم، فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم

في الدجاجة أو العصفور أو الحمام إذا أجهز على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثيه، فلا بأس بذلك. وقاله ابن حبيب، وزاد: وإن لم يقطع منه إلا اليسير فلا يجوز. وقال سحنون: لا يجوز حتى يقطع جميع الحلقوم والأوداج). الفرع الرابع: اشتراط كون المذكى معلوم الحياة. فأما ما شك فيه هل موته من الذكاة أو من سبب آخر، فلا يؤكل لأنه متردد بين التحليل والتحريم، فإن غلب على الظن كون موته من الذكاة، ففي استباحته بذلك الخلاف الذي تقدم بيانه في كتاب الصيد. وعليه ينبني الخلاف أيضاً في ذكاته ما أنفذت مقاتله، أو أصيب بما لا يعيش بعده حياة مستمرة. والمريض المشارف للموت، وكل ما ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم في قوله: {والمنخنقة والموقوذة} إلى قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم}، فقيل: تعمل فيه الذكاة، وقيل: لا تعمل. (وأيضاً) فما تضمنته (هذه) الآية يخرج على تحقيق هذا الاستثناء: هل هو متصل، وهو أصل الاستثناء، فتحصل الاستباحة بالذكاة في جميع ما ذكره في الآية، أو هو منقطع، فيكون معناه: لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه؟ وهذا الخلاف إنما هو في التي لو تركت لم تعش في العادة، فإن شك في حياتها، رجعت إلى ما تقدم.

وإن لم يشك في حياتها لكن أنفذت مقاتلها، فإن كان الذي أصابها في موضع الذكاة، فلا خلاف أن ذكاتها فاتت. وإن كان في غير موضع الذكاة، فرأى أبو الحسن اللخمي جريان القولين في جواز أكلها. وأبى ذلك القاضي أبو الوليد، ورأى أن الخلاف مؤتنف فيها، وأن المذهب جميعه أنها تمنع الذكاة، وأن الخلاف إنما هو فيما إذا بلغت حد اليأس مما أصابها، ولم تكن المصيبة في شيء من مقاتلها. والمقاتل خمسة: 1 - انقطاع النخاع. 2 - انتشار الدماغ. 3 - فري الأوداج. 4 - انتقاب المصران. 5 - انتشار الحشوة. ثم إذا ذكيت المريضة، فإن بدا منها بعد الذبح ما يدل على أنه صادفها حية، أكلت. قالوا: وهو أن تطرف بعينها، أو تركض برجلها، أو تحرك ذنبها، أو يجري نفسها. وأما إن تحركت حركة يمكن أن تكون اختلاجية، فلا تؤكل. فإن غلب على الظن حياتها، فالقولان كما تقدم. الفرع الخامس: في ذكاة الجنين، وتحصل بذكاة أمه إذا علم أنه كان حياً، ودليل

حياته كمال خلقه ونبات شعره، ولابد منهما، فلا يكفي أحدهما. ولو ألقته قبل الذكاة حياً فلا يؤكل إلا أن يذكي وهو مستقر الحياة، وإن ألقته ميتاً لم يؤكل. (وإن) ألقته بعد الذكاة حياً، فإن كانت حياته تبقى حتى تمكن ذكاته، فلم يذك لم يؤكل، وإن بادروا إلى ذكاته ففات بنفسه، فقيل: هو ذكي، وقيل: ليس يذكى. وهما على ما تقدم إذا غلب على الظن وجود الذكاة، إذ هذا يغلب على الظن موته بذكاة أمه.

كتاب الأطعمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً] كتاب الأطعمة وفيه بابان: الباب الأول: في حال الاختيار، وجميع المطعومات ضربان: حيوان: ويحتاج بعضه إلى الذكاة على التفصيل المتقدم. ونبات غيره من الجامدات والمائعات: ولا يحتاج شيء منه إلى ذكاة. فما لا يحتاج إلى الذكاة من جميع الأطعمة المعتادة، فأكله جائز، ما لم يكن نجساً بنفسه، أو بمخالطة نجس له، ثم ما تخالطه النجاسة قسمان: مائع، فيطرح جميعه لوقوع النجاسة فيه. وجامد، فتطرح النجاسة وما حولها منه، ولا يلزم طرح سائر. وما خرج عن المعتادة فكان نجساً أو مضراً، فلا يؤكل. وقد كره ابن المواز أكل الطين، وقال ابن الماجشون: أكله حرام، وما كان طاهراً ولا ضرر في أكله، فلا بأس به. (وأما الحيوان فنوعان: بحري وبري. فأما البحري، فيؤكل جميعه، وفي كراهية خنزيره وكلبه خاصة خلاف. ثم لا يحتاج شيء منه إلى الذكاة على المشهور كما تقدم، (تلف بنفسه) أو بسبب مسلم أو مجوسي، طفا أو رسب.

وأما البري: فبهيمة الأنعام والوحش كله مباح، ما عدا الخنزير فإنه (محرم)، والسباع فإنها مكروهة على الإطلاق من غير تمييز ولا تفصيل، في رواية العراقيين، وظاهر الكتاب موافق لها. وأما الموطأ فظاهره أنها حرام. وقال ابن حبيب: لم يختلف المدنيون في تحريم السباع العادية: الأسد والنمر والكلب. فأما غير العادية كالضب والثعلب والضبع والهر الوحشي والأنسي، فيكره أكلها دون تحريم. وروى عبد الرحمن بن دينار عن ابن كنانة قال: كل ما يفترس ويأكل اللحم فلا يؤكل، وما كان سوى ذلك من دواب الأرض وما يعيش من نباتها، فلم يأت فيه نهي. وأما الإنسي من ذوات الحافر، فالخيل مكروهة، دون كراهية السباع. وقيل: محرمة. وحكى الشيخ أبو الطاهر فيها قولاً بالإباحة. والبغال والحمير مغلظة الكراهية جداً، وقيل: محرمة بالسنة؛ إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية والبغال في معنى الحمر. وام اختلف في أنه ممسوخ، كالفيل والدب والقنفذ والقرد والضب، فقد حكى أبو الحسن اللخمي أنه اختلف في جواز أكله وتحريمه لذلك. وقد قال ابن المواز: ((لا يحل ثمن القرد ولا كسبه، قال: وما سمعت من ناحية مالك ولا أصحابه شيئاً. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمنه. وجلب من (الشام) إلى

المدينة قرد، فأمر به عمر أن يخرج إلى الموضع الذي جلب منه)). وقال ابن شعبان: لا يباع القرد، وقد سئل عنه، فقال: ليس من بهيمة الأنعام، قال: وقد أجاز بعض أصحابنا ثمنه وأكله، إذا كان يرعى الكلأ. وفي الواضحة: أنه محرم. وقال القاضي أبو الوليد: ((الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه أنه ليس بحرام، واحتج بعموم الآية))،قال: ((وإن كانت كراهة، فالاختلاف العلماء)). وأما غير ذلك من الحيوانات، فالمستقذرات منها يحكي المخالفون عن المذهب جواز أكلها، قال الشيخ أبو الطاهر: ((والمذهب على خلاف ذلك)). واليطر كله مباح، ذو [المخلب] وغيره. وقال الشيخ أبو إسحاق: روى أبو بكر بن أبي أويس عن مالك أنه قال: لا يؤكل كل ذي مخلب، وهو المستعمل عندنا. . ووقع في المدونة كراهية الخطاف وما في معناه. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ولعل هذا لأنها لا كثير لحم فيها، فدخلت في باب تعذيب الحيوان لغير فائدة)). وقال الأستاذ أبو بكر: يؤكل جميع الحيوان من الفيل إلى النمل والدود، وما بين ذلك، إلا الآدمي والخنزير. قال: هذا عقد المذهب في إحدى الروايتين. وهي رواية العراقيين، قال: إلا أن منه مباحاً مطلقاً، ومنه مكروهاً).

الباب الثاني: في حال الاضطرار

الباب الثاني: في حال الاضطرار ولا خفاء بأن الميتة تباح في حال الضرورة، ولكن النظر في حد الضرورة وحد المستباح وجنسه، وحد الضرورة: أن يخاف على نفسه الهلاك. ولا شك أنه لا (يشترط أن) يصبر حتى يشرف على الموت، فإن الأكل بعد ذلك لا ينعش، والظن كالعلم ها هنا كما في المكره على الإتلاف. أما قدر المستباح، فلا يتقدر بسد الرمق، بل يشبع ويتصلع. وإن خاف العدم فيما يستقبل، تزود منها. فإن وجد عنها غنى طرحها. وقال ابن حبيب وابن الماجشون: إن كانت المخمصة دائمة تزود وشبع، وإن كانت نادرة وقعت له اقتصر على سد الرمق. وأما جنس المستباح، فكل ما يرد عنه جوعاً أو عطشاً فيدفع الضرورة أو يخففها، كالأطعمة النجسة والميتة من كل حيوان غير الآدني، وكالدم وشر بالمياه النجسة وغيرها من المائعات سوى الخمر، فإنها لا تحل إلا لإساغة الغصة، على خلاف فيها. فأما الجوع والعطش فلا؛ إذ لا يفيد ذلك، بل ربما زادت العطش، وقيل: تباح، فإنها تفيد تخفيف ذلك على الجملة ولو لحظة. وقال الشيخ أبو بكر: إن ردت الخمر عنه جوعاً أو عطشاً شربها، واختاره القاضي أبو بكر. فأما التداوي بالخمر، فالمشهور من المذهب أنه لا يحل. قال القاضي أبو بكر: ((ولا يأكل ابن آدم، (وإن مات). ((قاله علماؤنا)). فروع: الأول: إذا ظفر بطعام من ليس مضطراً، فيطلبه منه بثمن في ذمته ويظهر له حاجته إليه، فإن أبى استطعمه، فإن أبى أعلمه أنه يقاتله عليه، فإن امتنع غصبه منه، فإن دفعه

جاز له دفع المالك، ولو أدى إلى القتل، ويكون دمه حينئذ مهدراً، ولو قتله المالك وجب القصاص، فإن بذله له بثمن المثل لزمه شراؤه. وإن امتنع أن يبيع إلا بأكثر من ثمن المثل، فاشتراه للضرورة، فهو كالمجبر. والمالك إذا أوجر المضطر طعامه قهراً، استحق القيمة عليه، إن كان قصدها. الثاني: إذا وجد ميتة وطعام الغير، أكل طعام الغير، إذا أمن أن يعد سارقاً. ثم حيث قلنا: يأكل فإنه يضمن القيمة، وقيل: لا ضمان عليه. الثالث: (لو وجد المحرم الصيد والميتة أكل الميتة. وقال محمد بن عبد الحكم: لو نابني ذلك لأكلت الصيد. الرابع: لو وجد لحم الصيد، فهو أولى من الميتة، لأن تحريمه خاص. الخامس: إذا كان العصيان سبب الاضطرار، كالمتلبس بسفر المعصية يضطر فيه، هل يترخص بأكل الميتة، أم لا؟ قال القاضي أبو الوليد: ((المشهور من المذهب أنه يجوز له الأكل))، قال: ((ففرق بينه وبين القصر والفطر)). وقال بعض علمائنا: لا نص فيها عن مالك. قال: وأصحابنا يقولون: يجوز له الأكل. قال: وقال القاضي أبو الحسن: ((والأمر عندي محتمل)). وقال الشيخ ابن القاسم: ((لا يؤكل منها حتى يفارق المعصية)). وقال القاضي أبو بكر: ((الصحيح أنه لا يباح له مع التمادي على المعصية بحال، فإن أراد الأكل فليتب، ثم يأكل)). قال: ((وعجبنا ممن يبيح ذلك له مع التمادي على المعصية، وما أظن أحداً يقوله، فإن قاله أحد فهو مخطئ قطعاً)). السادس: إذا وجد ميتة وخنزيراً، حكى القاضي أبو الوليد ((أنه يأكل الميتة)).

كتاب الأشربة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا وآله وسلم تسليماً] كتاب الأشربة ولا يحرم من الأشربة إلا ما أسكر، فيحرم كثيره وقليله، من أي نوع كان، من عنب أو زبيب أو تمر أو رطب أو بسر أو حنطة أو شعير أو غير ذلك، نيأ كان أو مطبوخاً، وشرب الخليطين مما ذكرناه وانتباذهما مكروه. والانتباذ فيما عدا الدباء والمزفت جائز، وفيهما مكروه. وشرب العصير جائز، وكذلك العقيد الذي ذهب منه قوة الإسكار، قال مالك: ((وكنت أسمع أنه إذا ذهب ثلثاه لم يكره)). وروى ابن المواز: لا حد في طبخ العصير بذهاب ثلثيه، وإنما النظر إلى السكر، قال أشهب: وإن نقص تسعة أعشار. قال ابن المواز: وليس ذهاب وإنما النظر إلى السكر، قال أشهب: وإن نقص تسعة أعشار. قال ابن المواز: وليس ذهاب

الثلثين في كل بلد، ولا عن كل عصير، فأما المواضع المعروفة بذلك فلا بأس به. (وشرب السوبية حلال ما لم تدخلها الشدة المطربة فتحرم. وتخليل الخمر مكروه، وليرقها من ملكها من المسلمين، ولا يمسكها ليخللها، فإن فعل بها ما تخللت به فخلها طاهر حلال. وكره عبد الملك وسحنون أكله، قال الأستاذ أبو بكر: وصورة المسألة: إذا حللت بشيء طرح فيها كالخل والملح والماء الحار وشبهه. قال: فأما لو تركت حتى تخللت بنفسها، مع العلم بتحريمها، فلا خلاف في جواز أكلها).

كتاب النكاح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا وآله وسلم تسليماً] كتاب النكاح والنظر فيه تحصره خمسة أقسام: الأول: في المقدمات. والثاني: في مصححات العقد من الأركان والشرائط. والثالث: في موانع العقد من الكفر، والرق، والنسب، والمصاهرة وغيره. والرابع: في الأسباب المثبتة للخيار فيه. والخامس: في لواحق الكتاب وتوابعه. ويشتمل على فصول متفرقة شدت عن هذه الأقسام. القسم الأول: في المقدمات، وهي ثلاثة: الأولى: خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو بكر: ((وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحكام لم يشركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل، منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه. فخص من الواجبات بتسع: الضحى والأضحى، والتهجد، والوتر)). قال: ((وهو

يدخل في قسم التهجد، والسواك، وتخيير نسائه بين اختيار زينة الدنيا (أو) اختياره، وقضاء دين من مات معسراً، ومشاورة ذوي الأرحام في غير الشرائع، وأنه إذا عمل عملاً أثبته. ومن المحرمات بعشر، فحرم عليه وعلى آله الزكاة، وحرم عليه أيضاً صدقة التطوع، وفي آله تفصيل باختلاف، وأكل الثوم وغيره من الأطعمة الكريهة الرائحة، والأكل متكئاً، والتبدل بأزواجه، وإمساك من كرهت نكاحه، ونكاح الكتابية، ونكاح الأمة، وخائنة الأعين، وهي أن يظهر بخلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب، وحرم عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها، أو يحكم بينه وبين محاربه)). ومن التخفيفات والمباحات: بإباحة الوصال في الصوم، ودخول مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف، والقتال فيها، وأنه لا يورث. قال القاضي أبو بكر: ((وإنما ذكرته في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ماله، ولم يبق له إلا الثلث، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، والاستبداد بخمس الخمس، أو الخمس، والزيادة على أربع نسوة، وينعقد نكاحه بلفظ الهبة منها، وبغير المهر، وإذا وقع بصره على امرأة ورغب فيها، وجب على الزوج طلاقها لينكحها))، قال: ((هكذا قال إمام الحرمين وقد بينا الأمر في قصة زيد بن حارثة كيف وقع. وفي انعقاد نكاحه بغير ولي وبغير صداق، وفي حالة الإحرام. وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها وفيه اختلاف. ولم يجب عليه القسم في زوجاته، ونساؤه بعد وفاته محرمات على غيره، لأنهن أمهات المؤمنين، وفي بقاء نكاحه عليهن أو انقطاعه خلاف)). قال القاضي أبو بكر: ((وببقاء الزوجية أقول، ثم على القول بانقطاعها في وجوب العدة ونفيها خلاف أيضاً، منشؤه النظر)) إلى كونهن زوجات توفي عنهن زوجهن، وهي عبادة، أو النظر إلى أنها مدة تربص لا تنتظر بها الإباحة. واختلف أيضاً في مطلقته، هل تبقى حرمته عليها، فلا تنكح؟.

المقدمة الثانية: النكاح مندوب إليه لمن تاقت إليه نفسه، إذا كان مستطيعاً. قال الشيخ أبو محمد: وفي الواضحة وغيرها روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالباءة فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)). وحض على نكاح الأبكار ورغب في نكاح الولود)). قال القاضي أبو بكر: ((ولينظر إلى المخطوبة قبل العقد، ففي الحديث: أن المغيرة خطب امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يودم بينكما))، ولا ينظر إلا إلى وجهها وكفيها)). ويحتاج إلى إذنها في رواية ابن القاسم، وكره فيها أن يستغفلها. (وروى محمد بن يحيى في المدنية: لا بأس أن ينظر إليها وعليها ثيابها)). قال القاضي أبو الوليد: ((يحتمل أن يريد أن ينظر إليها مغتفلاً لها إذا علم أن عليها ثيابها، ويحتمل أن يريد أن ينظر إليها بعد إعلامها)). والنكاح والملك فيمن يبيح وطئها يبيحان النظر إلى الفرج من الجانبين. وقيل: ((يكره النظر إلى الفرج من ناحية الطب، إذ قيل: إنه يضعف البصر)). ويباح النظر إلى وجه المرأة لتحمل الشهادة، ويباح أيضاً إلى الفرج لتحمل شهادة الزنا في ظاهر المذهب.

المقدمة الثالثة: الخطبة مستحبة، والتصريح بخطبة المعتدة حرام، والتعريض جائز وهو القول المفهم لمقصود الشيء ليس بنص فيه، مأخوذ من عرض الشيء وهو ناحيته كأنه يحوم على النكاح ولا يسف عليه، ويمشي حوله ولا ينزل به. والتصريح هو التنصيص عليه، والإفصاح بذكره. قال القاضي أبو بكر: ((والذي مال إليه مالك في التعويض أن يقول: إني بك لمعجب، ولك محب، وفيك راغب))، قال: ((وهذا عندي أقوى التعريض، وأقرب إلى التصريح)). قال: ((والذي أراه أن يقول لها: إن الله سبحانه سائق إليك خيراً، وأبشري، وأنت نافقة. فإن قال لها أكثر من ذلك فهو أقرب إلى التصريح. وتحرم الخطبة على خطبة الغير بعد الإجابة والتراكن كالإجابة. ثم هل يقف التحريم على تقرير الصداق، أو يحصل بمجرد التراكن والتقارب في الرضى وإن لم يتفقا على صداق؟ (قولان: الأول لابن نافع. والثاني رواه ابن حبيب عن ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم ومطرف وابن الماجشون). قال القاضي أبو بكر: ((والأول أصح، لأن السكوت (عن) الصداق نادر وهو أصل الاتفاق، (فما) لم يذكر فليس (بركون مقاربة)، ثم قال: [قال] علماؤنا: هذا إذا كانا شكلين، فإن لم يكن الزوجان متشاكلين جاز للمشاكل أن يدخل عليه، قال: ((وهذا مما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف)). وقال ابن القاسم في العتبية: ((لا أرى على من دخل في مثل هذا شيئاً، ولا أرى الحديث

القسم الثاني من الكتاب في الأركان

إلا في الرجلين المتقاربين، وأما فاسق وصالح فلا)). فرعان: الأول: لو اقتحم النهي وخطب أثم، وأدب، فإن عقد لم يفسخ عقده، قاله ابن القاسم وعبد الملك. (وروى ابن مزين عن ابن نافع: يفسخ قبل الدخول، وروى عنه ابن حبيب: أن يفسخ بكل حال). قال القاضي أبو بكر: ((والصحيح عدم الفسخ)). وقال القاضي أبو محمد: ((الظاهر من المذهب الفسخ)). الفرع الثاني: وهو مرتب: (إذا قلنا: لا ينفسخ، فقد روى العتبي عن عيسى عن ابن وهب: ((أنه يستحب لهذا العاقد أن يتوب من فعله ويعرضها على الخاطب أولاً، فإن حلله رجوت له في ذلك مخرجاً، فإن أبى فليفارقها، فإن نكحها الأول، وإلا فلهذا أن يأتنف معها نكاحاً))، قال عيسى: وقال ابن القاسم: ((إن لم يحلله فليستغفر الله تعالى، ولا شيء عليه)). ويجوز الصدق في ذكر مساوي الخاطب ليحذر، وتستحب الخطبة، بضم الخاء، عند الخطبة بالكسر، وعند العقد. القسم الثاني من الكتاب في الأركان: وهي أربعة: الصيغة، والمحل، والصداق، والعاقد. الركن الأول: الصيغة، وهي كل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد في حال الحياة كالإنكاح، والتزويج، والتمليك، والبيع، والهبة، وما في معناها. قال القاضي ابو الحسن: ((ولفظ الصدقة أيضاً)).

وقال الأستاذ أبو بكر في لفظ الإباحة: قال أصحابنا: إن قصد بها النكاح صح، وتضمن المهر. ويكفي أن يقول الزوج: قبلت، إذا تقدم من الولي الإيجاب، ولا يشترط أن يقول: قبلت نكاحها. وينعقد النكاح بالاستيجاب والإيجاب، فلو قال لأبي البكر، أو لأبي الثيب، وقد آذنت له أن يزوجها: زوجني فلانة، فقال: قد فعلت، أو قال: زوجتك، فقال الخاطب: لا أرضى فقد لزمه النكاح. ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وبضع كل واحدة صداق الأخرى، لم يصح، لأنه الشغار المنهي عنه، لأنه اشتراك في البضع. ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ولم يجعلا بضع كل واحدة صداقا للأخرى، فسخ بعد البناء على المشهور من المذهب، وقبله بلا خلاف فيه. ولو سمي لكل واحدة منهما صداق، فلا يفسخ بعد البناء، ويفسخ قبله، وقيل: لا يفسخ. ولا يجوز تأفيت النكاح، وهو المتعة. الركن الثاني: المحل وهو المرأة الخلية عن الموانع التي تقتضي تحريمها، والتحريم ضربان: مؤبد، وغير مؤبد. فالمؤبد يرجع إلى عين المرأة، فلا تحل بوجه، وذلك بوجهين: أحدهما أصل، والآخر بمعنى طارئ على العين يحظرها بعد إباحتها. (وجملته) خمسة أشياء: نسب، ورضاع، وصهر، ولعان، ووطء في العدة على خلاف وتفصيل في هذا القسم يذكر عند بسط الكلام على هذه الموانع. فالأصل هو النسب، والفرع ما عددنا معه، فهذا قسم التحريم المتأبد. وأما التحريم غير (المؤبد)، فهو الذي يكون لعارض يزول بزواله، وذلك بأن تكون المرأة ذات زوج، أو في عدة من زوج، رجعية كانت أو بائنة، أو تكون مستبرأة من غير النكاح، أو حاملاً حملاً لا يلحق به، كان لاحقاً بالواطئ أو غيء لاحق، أو تكون مرتدة أو كافرة غير كتابية، أو تكون أمة كافرة أو تكون أمته، أو أمة ولدة، أو تكون سيدته، أو أم سيده، أو تكون في حال إحرام، أو تكون المرأة أمة مسلمة والناكح حر يجد الطول أو لا يخشى العنت، أو يكون عند الزوج من ذوات محارم المرأة من لا يجوز الجمع بينه وبينها، أو يكون

جامعاً بين أربع، أو تكون مريضة يحجر عليها فيه ويشتد الخوف عليها، أو تكون قد ركنت إلى غيره وتعهد الأمر بينها وبينه ولم يبق إلا العقد أو شبيه به، أو تكون يتيمة غير بالغ على أظهر الروايات وأصحها. الركن الثالث: الصداق، وهو مستحق في عقد النكاح، لا يجوز التراضي على إسقاطه، ولا النكاح المشترط فيه سقوطه. نعم، لا يلزم التنصيص عليه في العقد، بل يستوي كونه مذكوراً فيه أو مسكوتاً عنه غير منفي في صحة العقد، وسيأتي تفصيل القول في أحكامه مستقصى في كتابه إن شاء الله. الركن الرابع: العاقد، وهو الزوج والولي، إذ لا تعقد المرأة النكاح على نفسها ولا على غيرها، بكراً كانت أو ثيباً، شريفة أو دنيئة، رشيدة أو سفيهة، حرة أو أمة، أذن لها وليها، أو لم يأذن، لا يجوز ذلك بوجه. قال القاضي أبو محمد: ((ولا خلاف من قول أصحابنا أنها لا تكون ولية في عقد النكاح على امرأة)). قال: وروي عن ابن القاسم في العتبية: ((أنها تلي العقد على عبدها، أو من هي وصية عليه من أصاغر الذكور دون الإناث)). قال: ووجه التفرقة بينهما من ثلاثة أوجه. أحدها: ما ذكره ابن القاسم وهو أن الصبي من أهل العقد على نفسه بعد البلوغ، وكذلك العبد بعد العتق أو الإذن، بخلاف الأنثى. والثاني: أن الصبي قادر على رفع العقد إن كرهه بخلاف الأنثى. والثالث: أنه ى وىية عليه في طلب الكفاءة، وليس كذلك الأنثى، وتجوز مباشرة المرأة للعقد على من يعقد على نفسه بوكالته لها في ذلك. فروع: يجب للمدخول بها في النكاح بلا ولي مهرها المسمى، ولا حد في الدخول للشبهة، ويفسخ النكاح بعد العقد وبعد الدخول، وبعد الطول والولادة. قال القاضي أبو بكر: ((ويصلح أن يركب عليه تكرير البطلان في الحديث)). وهل يفسخ بطلاق أو بغير طلاق، روايتان لابن القاسم وابن نافع.

هذا تمام الأركان، وليس الإشهاد بركن في العقد ولا شرط فيه، نعم هو شرط في كمال العقد وجواز الدخول، والمقصود إعلان النكاح وإشهاره ليتميز من السر الذي هو الزنا. وإنما شرع الإشهاد لرفع الخلاف المتوقع بين الزوجين، وإثبات حقوقهما، فكانت كسائر الحقوق، لا تشترط الشهادة فيها شرعاً، وعلى هذا جرت أنكحة الصحابة رضي الله عنهم، ما كانت قط بشهادة وإنما كانوا يعلنون لأمنهم التدارؤ بينهم،، بل تقول: لو أشهد المتناكحان وتواصوا بالكتمان لفسخ العقد، وكان نكاح السر المنهي عنه في القول المشهور. وقيل: نكاح السر ما لم يشهد فيه.

الباب الأول: في الولي

وفي بيان أحكام الولاية بابان: في الولي، والمولى عليه الباب الأول: في الولي، وفيه فصول الفصل الأول: في أسباب الولاية والولاية قسمان: خاصة وعامة. فأما الخاصة، فأسبابها خمسة: الأول: الأبوة، وتفيد الولاية الإجبار، وهي معلولة بعلتين: الصغر والبكارة، فيجبر الأب الصغير وإن كانت ثيباً، والبكر وإن كانت بالغاً، لوجود إحدى العلتين، ولا يجبر الثيب البالغ لعدمهما. فإن عنست البكر اختلف في دوام الإجبار عليها وانقطاعه عنها على روايتين لمحمد وابن وهب. والعانس هي التي طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها ولم تتزوج، وبرز وجهها، وباشرت الأمور بنفسها، وعرفت مصالحها. وقد اختلف في مقدار سنها، ففي رواية ابن وهب في المدنية: الثلاثون، والخمس والثلاثون. وفي رواية عيسى عن ابن القاسم: الأربعون والخمس والأربعون، ثم حيث أجبرنا البكر البالغ، فيستحب استئذانها. والمعتبر في الثيوبة المانعة من الإجبار الوطء الحلال دون الحرام، وقيل: هما في ذلك سيان، ولا أثر لزوال الجلدة بالسقطة ونحوها. فرع: لو تزوجت البكر وأدخلت على الزوج، ثم فارقها قبل أن يسمها، لم يكن لأبيها أن يجبرها بعد ذلك إن طالت إقامتها مع الزوج وشهدت مشاهد النساء، لأنها تخبر بذلك مواضع حظوظها وتعرف مصالحها، فيقوم ذلك مقام الثيوبة. واختلف في تحديد هذا الطول المذكور، فقيل بتحيده السنة ونحوها، وقيل ينفي

التحديد بزمن معين، ورده إلى ما يشهد العرف بكونه طولاً. وإن كان أمراً قريباً فلا يمنعه من إجبارها. وحكي عن عبد الحكم أنه قال: يزوجها بغير رضاها وإن طالت إقامتها ما لم تمس. ولو التمست البكر الكبيرة البالغ التزويج وجبت الإجابة، وإن كانت مجبرة، فإن عضل الولي زوج السلطان. ويصير الولي عاضلاً إذا عينت كفؤاً فرده، إلا الأب في ابنته البكر، فإنه لا يكون برد أول خاطب أو خاطبين عاضلاً. والكفء الذي عينت المالكة لأمرها أولى ممن عينه الولي. السبب الثاني: خلافة الأبوة. فإذا فوض الأب الولاية في إنكاح بناته إلى الوصي ثبتت له الولاية وكان أحق من الولي. قال في الكتاب: ((لا نكاح للأولياء مع الوصي، والوصي ووصي الوصي أولى من الأولياء)). ولو رضيت الجارية، والأولياء، والوصي ينكر فلا نكاح لها، ولا لهم بالوصي، فإن اختلفوا في ذلك نظر السلطان فيما بينهم. وأما الثيب فلو زوجها الأولياء برضاها جاز، وإن أنكر الوصي. وكذلك إن أنكحها الوصي بإذنها جاز، وإن أنكر الأولياء. قال القاضي أبو محمد: ((الوصي في البكر أولى من سائر الأولياء بإذنها، وهو في الثيب واحد منهم)). وقال ابن حبيب: إن قال له: زوج ابنتي من فلان، أو ممن ترضى، نزل في ذلك منزلته، وكان له أن يزوجها قبل بلوغها وبعد بلوغها بغير أمرها، قال: وإنما يكون أحق بتزويجها من الأولياء بعد بلوغها ومؤامرتها، إذا قال: فلان وصيي فقط، أو قال: فلان وصيي على بضع بناتي، قال: وسواء كانت أبكاراً أو ثيباً. (وقال ابن الماجشون في مختصر ما ليس في المختصر ومحمد بن عبد الحكم: لا تزويج لوصي إلا أن يكون ولياً. وقال سحنون في السليمانية: قال غير ابن القاسم من أصحابنا: الأولياء أولى بالعقد من الوصي.

قال أبو الحسن اللخمي: ((وهذا القول أحسن، لأن الوصي أجنبي، وإنما هو وكيل على المال)). السبب الثالث: العصوية: كالبنوة، والإخوة، والجدودة، والعمومة، ولا تفيد إلا تزويج العاقلة البالغة برضاها الصريح إن كانت ثيباً، وبسكوتها إن كانت بكراً. (واستحب مالك في رواية ابن الماجشون، أو تعلم البكر أن إذنها صماتها، لئلا تجهل ذلك فتصمت في الكراهية. وقال الشيخ أبو إسحاق: يقال لها ذلك ثلاث مرات: إن رضيت فاصمتي، وإن كرهت فانطقي. قال القاضي أبو محمد: ((وليس ذلك شرطاً في صحة الإذن)). وحكي عن عبد الملك بن الماجشون أنه قال: وإن لم يفعل الولي ذلك مضى الأمر على ظاهره، وجاز النكاح. فرعان: الأول: إذا تقدم العقد على الإذن في صحة النكاح وبطلانه ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، فيصحح إذا تعقبه على قرب، ويبطل إذا تراخى. وقال القاضي أبو محمد: ((الصحيح أنه لا يجوز وإن تعقبته الإجازة)). الفرع الثاني: (البلوغ المعتبر في التزويج هو الحيض. قال ابن حبيب: أو بلوغ ثماني عشرة سنة. واختلف في الإنبات، ثم إن زوجت به، فقال ابن حبيب: يفسخ قبل البناء وبعده، وقال محمد: لا يفسخ إذا أنبتت). السبب الرابع: الولاء، فالمولى الأعلى كالعصابات عند عدمها، فيعقد المعتق، وتستخلف المعتقة من يعقد. ولا ولاية للأسفل، قال الشيخ أبو عمر: ((وقيل: إن له مدخلاً في الولاية))، ثم قال: ((وليس بشيء)). السبب الخامس: التولية، وإنما يزوج السلطان البالغة عند عدم الولي أو عضله أو غيبته، وليس له أن يزوج الصغيرة، ولا يزوجها غير الأب من سائر الأولياء، فإذا كانت يتيمة فلا تزوج أصلاً حتى تبلغ. وروي: أن لسائر الأولياء تزويجها، ولها الخيار إذا بلغت. وروي: إن دعتها ضرورة، ومستها حاجة وكان مثلها يوطأ، ولها في النكاح مصلحة جاز تزويجها. قال

الأستاذ أبو بكر: والأول هو المذهب الصحيح. وقال القاضي أبو محمد: ((أظهر الروايات وأصحها والمعمول بها والذي به نفتي أنه لا يزوجها غير الأب على أي وجه كان حتى تبلغ. قال: وإلى ذلك رجع مالك، ذكره محمد بن عبد الحكم. وقال الشيخ أبو الطاهر: ((وأما ما كانت ممن يخالف عليها الفساد، فلم يختلف أحد من المتأخرين أنها تزوج، وإن كان إطلاق الروايات يقتضي منع التزويج)). وإذا فرعنا على الرواية الصحيحة فزوجت، فروي: يفسخ النكاح ولا يقران عليه وإن بلغت، ما لم يدخل بها، وهذا مقتضى القول بالمنع من التزويج. وقيل: ينظر فيه الحاكم، فإن رآه صواباً أمضاه، وإلا فسخه. وقيل: الخيار لها، فإن رضيت مضى، وإلا فسخ. قال: ((وإنما يكون ذلك بعد بلوغها))، هذا حكم الولاية الخاصة. (فأما العامة، فسببها الدين، والأصل في ثوبتها قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ولا يقدم على العقد بها مع الخاصة، فإن أقدم عليه بها معها: فإن كانت الخاصة ولاية إجبار، كالأب والسيد، فسخ النكاح على كل حال، وليس للأب ولا للسيد إجازته. وحكى القاضي أبو محمد: ((إن في إجازة السيد روايتين))، وإن كانت الولاية الخاصة ليست بولاية إجبار، كالأب في الثيب، وسائر العصبة في البكر والثيب، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((إن أجازه الولي قبل البناء أو بعده جاز، وإن رده قبل البناء أو بعده رد، ما لم يطل ويكن صواباً)). وقد توقف مالك في الجواب عنه إذا أجازه الولي بالقرب، وقال ابن نافع وعلي بن زياد: لا يجوز وإن أجازه الولي. وقال القاضي أبو محمد: إن زوجها الأجنبي مع القدرة على ولي بالنسب أو بالحكم، ففيها روايتان: إحداهما: أن ذلك غير جائز.

والثانية: أنه ماض إذا تزوجت كفؤاً)). فرعان: الأول: (إذا قلنا: لا يجوز ذلك في ذات الحال فهل يجوز في الدنية؟ قال القاضي أبو محمد: ((في ذلك روايتان، إلا أن الأظهر أن النكاح جائز))، فإن لم تكن ولاية خاصة سوى ولاية الحكم، ففي الموازية من رواية أشهب في الدنية تولي رجلاً ينكحها نهى عن ذلك، وقال: إذا عمل بهذا ضاعت الفروج. وروى ابن وهب في المرأة لا ولي لها وتكون في البادية يجوز لها ذلك إذا لم تضع نفسها في دناءة، وليس كل امرأة تقدر على رفع أمرها إلى السلطان. وروى ابن القاسم في الواضحة في الدنية في الحال والموضع، لا ولي لها بقرابة ولا ولاء، يزوجها أجنبي دون الإمام. وأنكر ابن الماجشون رواية ابن القاسم، وقال: إنما قال مالك وعلماؤنا في مثل الأعجمية الوغدة تستند إلى الرجل ذي الحال فيصير لها كنفاً ومستنداً، ويأخذ لها القسم ويجري عليها النفقة ويلي منها ما يلي من مولاته، فلا بأس أن يعقد عليها بإذنها إذا لم يكن لها ولي، فأما ذات النعمة والحال والنسب والمال فلا. الفرع الثاني: إذا قلنا بالمنع من التزويج بالولاية العامة مع وجود الولاية الخاصة والفسخ إن وقع، فزوجها أجنبي وأولياؤها غيب، فقد قال ابن القاسم في الموازية: للولي وللسلطان فسخ ذلك، وكتب مالك إلى ابن غانم إذا زوجها الأجنبي، وأولياؤها غيب،

الفصل الثاني: في ترتيب الأولياء

فرفع إلى السلطان فلا ينظر فيه إلا أن يقدم الولي فيطلب الفسخ فيفسخ إلا فيما يطول مع الولادة. وأما التي لا خطب لها وليست من العرب فلا يفسخ وإن قرب. ثم حيث قلنا بالفسخ، فإن كان قبل الدخول فلا عقوبة عليهما إذا كان النكاح مشهوراً، إذا لم يوجد منهما سوى العقد بالقول، وإن بنى بها عوقبا جميعاً. ومن تولى العقد، ومن علم من الشهود، وانفسخ بتطليقة بائنة. الفصل الثاني: في ترتيب الأولياء. والأصل: القرابة، وحكم الوصية داخل فيها، ثم الولاء، ثم التولية، والمقدم من الأقارب الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب، وروي: الأب ثم الابن، ثم بعدهما الأخ، ثم ابنه وإن سفل، ثم الجد. وقال المغيرة: الجد وأبوه أولى من الأخ وابنه، ثم العم، ثم ابنه على ترتيبهم في عصوبة الإرث. وهل يقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب كما في الميراث أم يستويان؟ روايتان: والأولى لمالك وابن القاسم عند ابن حبيب، والثانية في الكتاب من رواية علي بن زياد. وكذلك يجري الخلاف في أبنائهما، وفي العمين وأبنائهما. وأما المعتق إذا مات فعصباته، ثم معتقه، ثم عصبات معتقه، وترتيب عصبات المعتق كعصبات القرابة، وابن المعتق مقدم على أبيه، وإذا أعتقت المرأة فلها الولاء، وتزويج العتيقة إلى مولاها فإن كان ولاؤها لامرأة استحلفت من يعقد. فرع: إذا أنكح الأبعد مع وجود الأقعد نفذ. (وقال سحنون: ((قال بعض الرواة: ينظر السلطان في ذلك. وقال الآخرون: للأقرب أن يجيز أو يرد إلا أن يتطاول الأمر، وتلد الأولاد)). وقال ابن حبيب: للأقرب أن يفسخه أو يمضيه، ما لم يبن بها ويطلع على عورتها.

الفصل الثالث: في سوالب الولاية

وسبب الخلاف: النظر إلى تقدمة الأقرب، هل هي من باب الأولى، أو ذلك حق له كالقيام بالدم؟ قال أبو الحسن للخمي: ((ولم يختلفوا أن النكاح صحيح لا يتعلق به فساد، وإنما الاختلاف في أنه هل يتعلق به حق آدمي أم لا؟)). ثم قال: ((فإن كانت المرأة لا قدر لها، مضى إنكاح الأبعد بنفس العقد قولاً واحداً)). الفصل الثالث: في سوالب الولاية، وهي ست: الأول: الرق، فلا ولاية لرقيق، وله عبارة في القبول لنفسه ولغيره بالوكالة بإذن السيد وبغير إذنه. الثاني: ما يقدح في النظر، كالصبا والجنون والعته الموجب للحجر، فجميع ذلك ينقل الولاية إلى الأبعد. واختلف في السفه، فقال ابن وهب: ينقل الولاية إلى ولي السفيه ويستحب حضوره، ولا تضر غيبته. وفي الموازية عن ابن القاسم: ((لا ينقلها، بل يعقد على ابنته بإذن وليه)). وقال أشهب: ((يعقد إذا كان ذا رأي إذا لم يول عليه وإن كان سفيهاً)). فرع: فإن عقد السفيه على ابنته، فقال ابن وهب: ((لوليه إجازته أو رده، فإن لم يكن عليه ولي، فعقده ماض إن كان ما فعل صواباً، وكذلك في أخته)). قال أصبغ: قول ابن وهب صحيح.

الفصل الرابع: في تولي طرفي العقد

قال محمد: إلا قوله: إن لم يكن عليه ولي، أنه جائز. قال: وذلك سواء له ولي أم لا، ينظر إلى ما فعل بالاجتهاد كنظر الولي. الثالث: غيبة الولي الأقعد غيبة بعيدة، (أو) لا ترجى لها أوبة سريعة، فإنها تنقل الولاية إلى الأقرب إليه، وإلى الحاكم، فيزوجها أحدهما. وقيل: إلى الحاكم فقط، فلا يزوجها غيره. الرابع: الفسق، وهو يسلب الولاية على قول. والمشهور أنه لا يسلبها، وإنما يقدح في كمال العقد دون صحته. الخامس: اختلاف الدين، والمشهور أنه يسلب الولاية في الجانبين، فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم، فلا يزوج الكافرة إلا كافر، فإن لم يكن لها ولي كافر (فأساقفتهم) وبعض ولاتهم، فيعقدون ولو من مسلم دون وليها المسلم. ولا يصح عقد المسلم عليها، إلا أن تكون معتقة فإن عقد عليها وهي غير معتقة فسخ إن كان لمسلم، ولا يعرض للنصراني. وقال أصبغ: ((لا يفسخ عقد المسلم، عقده أولى وأفضل)). وقيل: لا يجوز في إنكاحها للمسلم إلا عقد المسلم خاصة. السادس: الإحرام، وهو يسلب عبارة المحرم في النكاح والإنكاح، لكن لا يمنع الرجعة، ولا يسلب عبارته فيها. الفصل الرابع: في تولي طرفي العقد والأب يتولى طرفي عقد البيع في مال ولده، وكذلك الوكيل على البيع إذا اشترى السلعة لنفسه تولى طرفي العقد. وكذلك كل واحد من ابن العم والمعتق، ووكيل الولي، والحاكم يعقد لنفسه على من يتولى عليها بإذنها له في ذلك، فيتولى طرفي العقد، وليشهد كل منهم على رضاها وإذنها خوفاً من منازعتها. قال أبو عمر: ((ولفظه في العقد أن يقول لها: قد تزوجتك على صداق كذا وكذا،

الفصل الخامس: في التوكيل

فتقول: رضيت، أو تكون بكراً فتسكت رضاً بذلك)). الفصل الخامس: في التوكيل وللولي أن يوكل من يعقد على وليته بعد تعيين الزوج. وللزوج أيضاً أن يوكل من يعقد عنه، فلا يشترط في وكيله ما يشترط في الأولياء (من الصفات)، بل يصح توكيل العبد والصبي والمرأة والنصراني. وقيل: يشترط في وكيله ما يشترط في وليها، فلا يعقد عنه من لا يصلح للعقد عليها ولو كان وليها. ثم ليقل الولي للوكيل بالقبول: زوجت من فلان، ولا (يقل): زوجت منك، وليقل الوكيل: قبلت لفلان، ولو قال: قبلت، لكفى إذا نوى بذلك موكله. الفصل السادس: فيما يجب على الولي وتجب على الأخ الإجابة إذا طلبت أخته النكاح من كفء، إن كان متعيناً، فإن كان له أخ آخر، كان الوجوب عليهما، ويسقط بفعل أحدهما، فإن عضلا زوج السلطان بعد أن يأمرهما فيمتنعا. وعلى المجبر تزويج المجنونة إذا تاقت وخشي عليها الفساد، ورأى الولي المصلحة في تزويجها. ولا يجب تزويج الصغير وإن طلب التزويج، فإن عقد لنفسه، فقال ابن القاسم: إذا أجاز الولي نكاحه فهو جائز كبيعه. وأنكر سحنون ذلك وعلل إنكاره بأنه رآه غير محتاج إلى النكاح، بخلاف البالغ وبخلاف البيع والشراء، فإن الصغير يحتاج إلى ذلك. وقال بعض المتأخرين: وإنما أجاز ذلك ابن القاسم لأنه رآه نظراً مالياً؛ إذ يعود بالصلاح في المال في الحال وفي المآل. وإذا عقد الأب لابنه الصغير، لم يصر ضامناً للمهر، إلا أن يكون الابن عديماً غير مالك لأمره.

الفصل السابع: في الكفاءة والنظر في اعتبار أمور

الفصل السابع: في الكفاءة والنظر في اعتبار أمور الأول: الدين، وهو معتبر في الكفاءة بلا خلاف، فإن كان فاسقاً، فحكى الشيخ أبو الطاهر أنه لا خلاف منصوص أن تزويج الوالد من الفاسق لا يصح، قال: ((وكذلك غيره من الأولياء، وإن وقع وجب للزوجة أو لمن قام لها فسخه)). قال: ((وكان بعض أشياخي يهرب من الفتوى في هذا، ويرى أنه يؤدي إلى فسخ كثير من الأنكحة)). وإشارته بذلك إلى الفاسق بجوارحه، وأما الفاسق باعتقاده فقد نص عليه مالك، فقال في كتاب محمد: لا يتزوج إلى القدرية، ولا يزوجوا. الثاني: النسب، ولا يخلوا أن يكون حراً عربياً، أو مولى، أو رقيقاً. الأول: أن يكون حراً عربياً، فهو كفء. الثاني: أن يكون مولى، فمذهب الكتاب أنه كفء. قال ابن القاسم فيه: سألت مالكاً عن نكاح الموالي في العرب، فقال: لا بأس بذلك، ألا ترى إلى ما في كتاب الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وكذلك في كتاب محمد: قال مالك في المرأة، يريد الثيب، ترضى برجل دونها في الحسب، وهو كفء في الدين، ويرده الأب أو الوالي فرفعت ذلك إلى السلطان فليزوجها منه. ونقل بعض المتأخرين قولاً آخر عن المذهب أنه ليس بكفء. وقال عبد الملك بن الماجشون: إنما تفسير قول مالك في إجازة نكاح المولى من العربية أن ذلك على التقوى والدين، وأن يكون ذلك لله لقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وهديه فزوجوه وإن كان عبداً أسود أجدع أجذم)). قال عبد الملك: فإذا لم يكن على التقوى كان نكاحاً مردوداً، قبل البناء وبعده، لأنه لاحظ له في الآية التي في كتاب الله، ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجب على السلطان أن يعاقب الناكح والمنكح والشهود لما انهتك من الحرمة، وذلك إذا ابتنى أو مس. الثالث: أن يكون رقيقاً، فظاهر قول ابن القاسم في الكتاب أنه كفء. ونقل القاضي أبو محمد ذلك عنه نصاً. ونقل عن المغيرة وسحنون أنه لا يكون كفؤاً، ثم قال: ((وهو الصحيح)). ونقل بعض المتأخرين عن المغيرة أنه قال: ((يفسخ لأن للناس مناكح قد عرفت لهم وعرفوا بها))، ثم قال: ((وهذا الذي صوبه المتأخرون للقطع بكبير المعرة والمضرة في ذلك)). وفي الكتاب: ((وقال غيره: ليس العبد ومثله إذا دعت إليه إذا كانت ذات المنصب والموضع والقدر مما يكون الولي في مخالفتها عاضلاً؛ لأن الناس مناكح قد عرفت لهم وعرفوا بها)). الثالث: ما يرجع إلى البدن، فيؤمر الولي أن يتخير لها كامل الخلقة. قال عمر رضي الله عنه: لا يزوج الرجل وليته للقبيح الذميم، ولا للشيخ الكبير، فإن زوجها من ناقص، فإن كان نقصاً يضر بها كالجنون والجذام والبرص، أو يؤدي إلى نقط الوطء كأحد العيوب المثبتة لخيار الرد، لم يكن كفؤاً، وكان لها رد النكاح كما سيأتي. وإن كان النقص غير ذلك، لم يثبت لها به خيار. الرابع: المال، والفقر [المؤذن] بالعدم جملة حتى يعجز عن النفقة عليها والقيام بحقوقها يثبت لها متكلماً. وكذلك إن قدر على ذلك إلا أنه يؤذيها في مالها. فأما إن كان فقيراً إلا أنه بحيث يقدر على النفقة ولا يؤذيها في مالها، فظاهر الكتاب أن لها متكلماً أيضاً. وقيل: لا متكلم لها.

الفصل الثامن: في تزاحم الأولياء

قال بعض المتأخرين: ((ولعل هذا خلاف في حال، هل في ذلك معرة عليها أو لا؟ ولعله نظر إلى المحال أو المال)). ولنختم الفصل بما روي عن ابن القاسم مما يشير إلى اعتبار الكفاءة في القدر والحال والمال. فروى عنه أصبغ: أن من دعت إلى زوج وأبى عليها وليها، فنظر السلطان فلم ير منعه صواباً، ورأى منه عضلاً لها وإضراراً بها في ذلك، أمره بتزويجها ممن رضيته إذا كان كفؤاً لها في القدر والحال والمال، فإن أبى زوجها السلطان منه على ما أحب أو كره. قال عبد الملك: وعلى هذا القول اجتمع أصحاب مالك، لا أعلمهم اختلفوا فيه، ثم الكفاءة حقها وحق الأولياء، فإن رضيت هي وهم بتركها جاز. الفصل الثامن: في تزاحم الأولياء وإذا اجتمع أهل زوجة عقد أفضلهم، فإن تساووا في الفضل عقد أسنهم، فإن تساووا في السن اجتمعوا فعقدوا عليها، فإن اختلفوا فروى ابن القاسم أنهم إذا اختلفوا مع استوائهم في العقد رفع ذلك إلى السلطان فينظر فيه، فإن بادر أحدهم وعقد برضاها صح العقد ونفذ، ساواهم في الفصل أو نقص عنهم فيه. فرع: إذا أذنت لوليين ولم تعين الزوج، فعقد كل واحد منهما مع شخص، ولم يعلم أحد الزوجين بصاحبه حتى دخل بها أحدهما، فهي للذي دخل بها منهما، ويفسخ نكاح الآخر. قال المتأخرون: ((وهكذا قال في الكتاب))، إذا لم يعلم بعقد الأول حتى دخل، فلو دخل بعد علمه بذلك لم ينفعه الدخول، وكانت للأول)). فإن لم يدخل بها أحدهما فهي لمن سبق عقده عليها منهما، فإن اتحد زمن العقد تدافعاً، وكذلك إن جهل السبق وأمكن التوافق، أو علم السبق وجهل السابق. وقال ابن عبد الحكم: السابق بالعقد أولى، وإن دخل الثاني. ومعتمد المذهب في ذلك ما روي عمر والحسن ومعاوية ومن وافقهم على ذلك رضي الله عنهم أجمعين، فقضى عمر في الوليين ينكحان المرأة، ولا يعلم أحدهما بصاحبه أنها للذي

دخل بها، فإن لم يدخل بها أحدهما فهي للأول، فهذا حكمه بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه، ثم وافقه الحسن ومعاوية، فروى ابن أبي مليكة أن موسى بن طلحة أنكح يزيد بن معاوية أم إسحاق بنت طلحة وأنكحها يعقوب بن طلحة من الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم تمكث إلا ليلتين حتى جمعها الحسن، وكان موسى بن طلحة أنكحها من يزيد قبل أن ينكحها يعقوب من الحسن، فقال معاوية: امرأة جمعها زوجها فدعوها، ولم يظهر خلاف. وقال به ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة وعطاء ومكحول وغيرهم. فروع: الأول: إذا جهل السابق وقلنا: يفسخ النكاحان، فإن الفسخ بطلاق. وقال محمد: يكون الطلاق موقوفاً، فإن تزوجها أحدهما لم يقع عليه طلاق، ولزم الآخر، وإن تزوجها غيرهما وقع الطلاق عليهما. الفرع الثاني: (إذا مات الأول، أو طلق قبل دخول الثاني، فإن علم بذلك قبل دخول الثاني، فلا يكون دخوله فوتاً، وإن لم يعلم حتى دخل فهو فوت. الفرع الثالث: إذا ماتت المرأة بعد أن علم الأحق بها منهما بدخول أو سبق عقد، فلا شك في ميراثه، ولزوم الصداق له. فإن جهل الأحق بها، ففي ثبوت الميراث مع الجهل قولان للمتأخرين: ثبوته؛ إذ لابد أن يكون أحدهما زوجاً، ونفيه، إذ لا يورث بالشك). ويثبت الصداق حيث يثبت الميراث، وأما حيث ينتفي فإنما يكون عليه ما زاد منه على قدر الميراث. الفرع الرابع: إذا مات الزوجان أو أحدهما، فلا ميراث ولا صداق للشك في الزوجية في حق كل واحد منهما، وهي السبب. الفرع الخامس: إذا ادعى كل واحد أنه الأول، فصدقت أحدهما، ثبت لها الصداق لأنه إقرار بمال، ولم يثبت الميراث. ولو شهدت لكل واحد منهما بينة أنه الأول، تساقطتا، وكان الحكم كما إذا تداعيا من غير بينة. والمشهور أنه لا يرجح ههنا بمزيد العدالة، بخلاف البيع، إذ لا يثبت النكاح بالشاهد واليمين، ويثبت به البيع، فمزيد العدالة ههنا كشهادة شاهد واحد. وقال سحنون: يقضي بالأعدل كالبيع، وبه قال أبو إسحاق البرقي، واختاره أبو محمد عبد الحق.

الباب الثاني: في المولى عليه

الباب الثاني: في المولى عليه ولا يولى النكاح إلا على ناقص بصغر، أو جنون، أو سفه، أو رق، أو أنوثة، وقد سبق حكم الأنوثة والصغر. أما المجنون الكبير، فللأب التزويج منه عند ظهور الحاجة. وأما المجنونة فيزوجها عند الحاجة صغيرة كانت أو كبيرة، بكراً كانت أو ثيباً. وأما السفيه فيجبره الأب على النكاح، وإن كره، بما سمى من الصداق في ماله وذمته، ولا رد له إن بلغ الرشد. وكذلك وصي أبيه، والسلطان وخليفته، وليس له أن يتولى النكاح بنفسه بوجه، وقال عبد الملك: لا يزوجه من يلي عليه إلا برضاه. فرع: (إذا تزوج السفيه بير إذن وليه، فروى أشهب أن الولي إن أجازه مضى وإلا فسخ، وكانت طلقة. قال ابن القاسم، وهو في كتاب ابن حبيب: فإن لم يعلم وليه حتى مات أحدهما، فإن كان هو، فلا ميراث لها منه. قال ابن حبيب: ولا صداق، فإن ماتت هي، فالنظر لوليه قائم، إما أن يجيزه فيأخذ الميراث ويؤدي الصداق، أو يرد النكاح ويدع الميراث. وقاله مطرف وابن الماجشون. وذكر أصبغ عن ابن القاسم: أنهما يتوارثان ويمضي الصداق، لأن النظر قد فات فيه بالميراث. وذكر ابن المواز عنه خلاف هذا، قال ابن المواز: قال أصبغ: ((إن مات هو لم ترثه، وردت كل ما أعطاها، إلا ربع دينار إن أصابها، وكذلك في حياته إن فسخه)). قال أصبغ: هذا في الدنية. وقال ابن القاسم: ويجتهد في الزيادة لذات القدر. قال أصبغ: لما يرى مما لا يبلغه صداق مثلها. قال ابن المواز: وروى ابن وهب في السفيه: لا يترك لها شيء، لا ربع دينار ولا غيره،

وإن كان لها قدر. قال ابن حبيب: وهذا القياس). وأما الرقيق، فللسيد إجبار الأمة والعبد، ولا يجبر هو لهما، فلو طلبا النكاح لم تجب الإجابة. وسبب هذا التصرف الملك، حتى يزوج المسلم أمته الكافرة، والولي يزوج رقيق الطفل بالمصلحة، وأمة المرأة يزوجها وكيلها كما تقدم. ومن بعضه رقيق لا يجبر، ولا يستبد، من ذكر أو أنثى، ولا يجبر مالك بعضه على تزويجه إذا طلبه، ولا يقضي عليه به، ولو كان منعه ضراراً كالعبد والمكاتب. وأما من فيه عقد من عقود الحرية، فحكى الشيخ أبو الطاهر عن المذهب في إجباره أربعة أقوال: الإجبار، ونفيه، والتفرقة بين الذكور والإناث، فيجبر الذكور لقدرتهم على الحل عن أنفسهم. ولا تجبر الإناث لعدم قدرتهن على ذلك. والرابع: التفرقة بين من يقدر على انتزاع ماله، فيصح إجباره، وبين من لا يقدر على انتزاع ماله، فلا يصح إجباره. ثم حكى عن بعض أشياخه أنه أنكر هذه التفرقة، وقال: إنما رأى أبو الحسن اللخمي التعليل في منع إجبار المكاتبة بذلك، فأخذ منه إطلاقاً كلياً بين من ينتزع ماله، وبين من لا ينتزع ماله، وهو غير صحيح؛ إذ قد يعلل في مسألة بعلة، ويعلل في أخرى بغيرها)).

القسم الثالث من الكتاب

القسم الثالث من الكتاب: في الموانع: وهي أربعة أجناس الجنس الأول: ما يقتضي تأييد التحريم، ويشتمل على ثلاثة أنواع [النوع] الأول: المحرمية: أسبابها ثلاثة: قرابة، ورضاع، وصهر. السبب الأول: القرابة ويحرم منها سبع: الأمهات، والبنات والأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، والعمات، والخالات، ولا تحرم بنات الأعمام والأخوال. والأم عبارة عن كل امرأة ينتهي إليها النسب بالولادة ولو بوسائط، على أي العمودين كانت. وبنت الرجل عبارة عن كل امرأة ينتهي إليه نسبها، ولو بوسائط. والضابط أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا. فرع: إذا ولدت من الزنى لم يحل لها نكاح ولدها، وأما نكاح الزاني للمخلوفة من مائة، (فحكى القاضي أبو الحسن جوازه. قال القاضي أبو الوليد: ((وهو قول عبد الملك بن الماجشون))، قال: ((والمشهور من المذهب أن ذلك غير جائز)). قال سحنون: في قول ابن الماجشون هذا خطأ صراح، وما علمت من قاله من أصحابنا معه. وقال ابن المواز: لا يتزوجها، وأباه أصبغ، وابن عبد الحكم في ظني، ومكروهه بين اعتباراً بتحريم الأم من الزنى). ولا تحل المنفية باللعان. السبب الثاني: الرضاع، ((ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))، وكل امرأة أرضعت شخصاً، أو أرضعت من أرضعته، أو أرضعت من يرجع نسبه إليه فهي أمه. وكذلك

كل امرأة يرجع نسب المرضعة إليها، إذ أخت المرضعة خالة الرضيع، وأخوها خاله، وكذا في سائر أحكام النسب. السبب الثالث: المصاهرة، ويحرم منها بمجرد عقد النكاح الصحيح المباح أمهات الزوجة من النسب والرضاع، وزوجة الابن، والحفدة، وزوجة الأب والجد من جهتي النسب والرضاع. فأما العقد المكروه، وهو المختلف في جوازه، فقد قال ابن القاسم في الكتاب: ((كل نكاح لم يكن حراماً في كتاب الله، ولا حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اختلف الناس فيه، فهو عندي يحرم كما يحرم النكاح الصحيح الذي لا اختلاف فيه، وهذا الذي سمعت عمن أرضى)). وقال فيه أيضاً: ((إذا تزوج امرأة في عدتها، ففرق بينهما قبل البناء جاز لابنه أن يتزوجها)). وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون عن مالك: إن النكاح الفاسد على وجهين: أحدهما: ما يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده، كنكاح الشغار الذي سمي مهره، والنكاح بالصداق المجهول أو إلى أجل غير مسمى، أو إلى موت أو فراق، أو النكاح بالخمر والخنزير، فإن هذا كله إذا انعقد به حرمت الزوجة على أبي الزوج وابنه. وإن كان النكاح محرماً في كتاب الله أو سنة رسوله [صلى الله عليه وسلم]، كنكاح الخامسة، والنكاح في العدة ونكاح الأخت على الأخت، ونكاح المرأة على عمتها بنسب أو رضاع، ونكاح التحليل، ونكاح السر، فإن المرأة بذلك لا تحرم على أبي الزوج، ولا على ابنه. وأما بنات الزوجة، فلا يحرمن بمجرد العقد، بل الوطء فيه، وفي معنى الوطء مقدماته من القبلة والمباشرة إذا كان ذلك للذة، وكذلك النظر إلى باطن الجسد بشهوة على المشهور، وقيل: لا تنتشر الحرمة بذلك. ولا يشترط في تحريم بنات الزوجة كونهن في حجره، ثم لا يعتبر حل الوطء بعد تقدم العقد الصحيح أو شبهته. فإن انفرد الوطء عن العقد، فإن كان حلالاً كالوطء بملك اليمين فحكمه حكم الوطء في عقد النكاح. وإن كان حراماً محضاً، ففي الكتاب فيمن زنى بأم امرأته، قال ابن القاسم: ((قال لنا مالك: يفارقها ولا يقيم عليها، وهذا خلاف ما مال قنا مالك في موطئه.

قال سحنون: وأصحابه على ما قال في الموطأ، ليس بينهم فيه اختلاف، وهو الأمر عندهم. التفريع: إن قلنا بمذهب الموطأ، فوجود هذا الوطء كعدمه، وإن بنينا على مذهب الكتاب، فقد اختلف الأصحاب في مقتضى الأمر بالفراق فيه، هل هو على الوجوب أو (على) الندب؟ على قولين. فإن كان الوطء بالاشتباه مع عدم عقد النكاح وملك اليمين وشبهتهما. فقد قال (الشيخ أبو عمران): لا نعلم خلافاً بين أصحابنا في وطء الشبهة أنه يحرم، إلا ما روي عن سحنون أنه قال فيمن مد يده إلى زوجته في الليل فوقعت على ابنته منها فوطئها غلطاً: إن ذلك لا يحرم عليه زوجته. وإذا فرعنا على قول الأصحاب، فقد خرج عليه المتأخرون فرعاً اختلفوا في حكمه وكثر اختلافهم فيه حتى ألف بعضهم على بعض، وهو إذا حاول الرجل وطء زوجته أو التلذذ بها، فوقعت يده على ابنته منها، فالتذ بذلك، فمنهم من لم ير ذلك على الزوج. وعلى القول الأول الأكثر منهم كالشيخ أبي الحسن والشيخ أبي عمران، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي إسحاق التونسي وأبي حفص القطان، وأبي القاسم السيوري، وأبي محمد عبد الحميد، وبذلك أخذ الفقيه أبو بكر بن التبان ففارق زوجته حين نزلت به، ونص عليه الشيخ أبو إسحاق في كتابه الزاهي. وعلى القول الثاني أبو القاسم الطابثي وأبو سعيد بن أخي هشام، وأبو القاسم بن شبلون، وهو مقتضى ما روي عن سحنون، وروي نحوه عن الليث بن سعد، وهو إحدى الروايتين عن الشيخ أبي محمد، وروي عنه مثل (قول) الأولين أيضاً.

وهذا القول الثاني هو الذي اختاره الإمام أبو عبد الله في تأليفه الذي ألفه في هذه المسألة، وسماه ((بكشف الغطاء عن لمس الخطأ))، واحتج له بأنه لا رافع للحل المستصحب في الزوجة إلا آية تحريم المصاهرة، وهي لا تتناول البنت إذ ليست من نسائه في الحال، كالزوجة، ولا تصلح أن تكون من نسائه في المآل كالأجنبية. فروع: الأول: في بيان مقتضى المذهب فيما ذكر القائلون بالقول الأول. قال الإمام أبو عبد الله: وجمهورهم على أن المذهب فيه على قول واحد لا يختلف، بخلاف ما وقع من ذلك عن قصد وعمد، قال: وقال ضعفاؤهم: بل يتخرج على الروايتين في انتشار الحرمة بالزنى، وحكى عن شيخه أبي محمد عبد الحميد أنه كان يرى أنه وهم فاسد ممن حكي عنه. الفرع الثاني: في بيان مرادهم باجتناب الزوجة، والظاهر من إطلاقهم الأمر باجتنابها [تحريمها]، ووجوب فراقها والإجبار عليها وهو مذهب جمهورهم. ونقل عن الشيخ أبي الحسن والشيخ أبي عمران أنهما إنما كانا يريان الاجتناب والمفارقة على وجه الاستحباب والاحتياط لا على وجه الإيجاب والإجبار، وهو مذهب أبي الطيب عبد المنعم، فإنه أمر بالفراق وتوقف في الإجبار. الفرع الثالث: فيمن وطئ امرأة مكرهاً، هل تنتشر الحرمة بوطئه ذلك أم لا؟ قال الإمام أبو عبد الله: حكم هذه المسألة يتخرج على الخلاف في وطء المكره هل يعد زنى، فيحد فيه، أو يعذر بالإكراه فيسقط عنه الحد؟ قال: فإن قلنا بالأول، كانت المسألة على الروايتين في انتشار الحرمة بوطء الزنى، وإن قلنا بأنه يعذر ويسقط الحد عنه، جرى مجرى الوطء على وجه الغلط، وقد تقدم الكلام عليه. ويتم المقصود من بيان تحريم المصاهرة بذكر فروع متتالية في الجمع بين الأم وابنتها بعقد نكاح أو بملك يمين. أما عقد النكاح فإن عقد عليهما عقداً واحداً، فهو فاسد. ثم إن دخل بهما جميعاً حرمتا عليه على التأبيد. وكذلك الحكم في وطئه لهما جميعاً حيثما وقع بعقد نكاح، أو بملك يمين، أو بشبهة أحدهما، وقد تقدم حكم الحرام المحض. وإن لم يدخل بهما، ولا بواحدة منهما، فلا تحرم البنت عليه بلا خلاف.

وأما الأم، ففي الكتاب قولان: مذهب مالك وابن القاسم أنها لا تحرم. ومذهب الغير تحريمها. وإذا دخل بالبنت حرمت الأم، ولم يحرم عليه تجديد عقد على البنت. وإن دخل بالأم حرمت البنت. وفي تحريم الأم القولان المتقدمان. وإن عقد عليهما عقدين مفترقين، فإن بدأ بعقد الأم ولم يدخل بواحدة منهما حلت له البنت نكاح ثان، وفي تحريم الأم على التأبيد القولان. فإن دخل بالبنت خاصة، فسخ نكاحها وكان له أن يبتدئ العقد عليها، وحرمت الأم عليه. وإن دخل بالأم خاصة حرمت عليه على قول الغير، ولم تحرم على قول مالك وابن القاسم. أما البنت فتحرم عليه بالإجماع. وإن كان العقد أولاً على البنت، فإن لم يدخل بواحدة منهما أصلاً، لم تحرم البنت وحرمت الأم. وكذلك إن دخل بالبنت خاصة، فإن دخل بالأم حرمتا عليه جميعاً. وأما ملك اليمين، فلا يمتنع عليهخ جمعهما فيه للخدمة، أو إحداهما للخدمة والأخرى للوطء. ثم أيتهما وطئ حرمت عليه الأخرى على التأبيد. وإن جمع بينهما بالنكاح في إحداهما، والملك في أخرى، فإن وطئهما أو وطئ إحداهما، فالحكم كما تقدم في المملوكتين. وإن لم يطأ واحدة منهما فالمملوكة محرمة للجمع خاصة ما لم يدخل بالزوجة أو تكن الصغرى فيتأبد التحريم. النوع الثاني: اللعان. فإذا لاعن الزوج زوجته، ووقعت الفرقة بينهما، حرمت عليه على التأبيد، ولا تحل له أبداً، ولو أكذب نفسه. النوع الثاني: الوطء في العدة. وقد رأيت الاقتصار فيه على فصل ذكره أبو القاسم بن محرز، ونصه: كل امرأة معتدة من نكاح أو شبهة نكاح، فنكحت في عدتها تلك ووطئت، فإنها نحرم على واطئها، ولا تحل له أبداً، ولا أعلم في هذا اختلافاً بين أصحاب مالك. وإن كانت مستبرأة من زنى أو اغتصاب، فنكحت في ذلك الاستبراء، ووطئت فيه،

الجنس الثاني: ما يتعلق بتعد عددي لا تتأبد به الحرمة

فاختلف في ذلك، فقال مالك ومطرف: سبيله سبيل من تزوج في العدة. وذهب ابن الماجشون إلى أنها لا تحرم بالوطء في هذا الاستبراء. وإن كانت مستبرأة من وطء ملك في بيع أو هبة، فوطئت في ذلك الاستبراء بملك، فإن واطئها لا يكون حكمه حكم الوطء في العدة، وهذا مما لا يختلف فيه إن شاء الله. وإن وطئت في هذا الاستبارء بنكاح، فاختلف فيها، فقيل: تحرم عليه، وقيل: لا تحرم عليه. وإن عتقت جارية، وكان سيدها يطؤها، فتزوجت في استبرائها ذلك ووطئها زوجها، فإنها لا تحرم بذلك عليه عند ابن القاسم وأشهب جميعاً. وليست عندهما كأم الولد في الكراهة، وإن كانت في استبرائها قد أفضت إلى حرية، لما كان الوطء في ملك محض. وسبيل الوطء بشبهة نكاح في جميع الأوجه التي ذكرنا سبيل من وطئ في نكاح صحيح، وسبيل من وطئ بشبهة ملك سبيل من وطئ في ملك صحيح. فأما من وطئت بغير شبهة في عدة أو استبراء على وجه الزنى أو الاغتصاب، فإنه لا حرمة لذلك الوطء، فلا تقع به حرمة عليه ولا عليها. والأصل في هذا التحريم ما ثبت من قضاء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بذلك وقيامه به في الناس. قال القاضي أبو محمد: ((وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره)). والقياس على قاتل موروثه بعلة الاستعجال، وعلى الملاعن بعلة إدخال الشبهة في النسب. الجنس الثاني: ما يتعلق بتعد عددي لا تتأبد به الحرمة، ويشتمل أيضاً على ثلاثة أنواع: النوع الأول: الجمع. فيحرم الجمع بين الأختين قراءناً. وألحقت السنة بهما الجمع بين سائر المحارم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)). والضابط: أن كل امرأتين بينهما من القرابة أو الرضاع ما يمنع تناكحهما لو قدرت إحداهما ذكراً، فلا يجوز الجمع بينهما في العقد، ولا في الحل.

واحترزنا بذكر القرابة أو الرضاع عن الجمع بين المرأة وأم زوجها أو ابنته، فإن جمع في العقد بطل النكاحان وفسخا أبداً، وإن جمع بينهما في الحل ثبت نكاح الأولى، وثبت نكاح الثانية قبل الدخول وبعده إذا قامت على ذلك بينة، فإن لم تقم هنالك بينة قبل قول الرجل في ذلك، رواه محمد عن أشهب. قال محمد: وهذا أصوب، إلا أن تخالفه التي يترك، فإنه يحلف لأنه مدع لسقوط المهر أو فساده، فيكون فسخه حينئذ بطلاق. وفي معنى النكاح ملك اليمين، حتى لو اشترى أمة ووطئها حرمت عليه أختها وخالتها وعمتها، فإن ملك واحدة منهن، فما لم يحرم الموطوءه على نفسه ببيع أو عتق أو كتابة أو تزويج أو نحو ذلك، لا يحل له وطء من استجد ملكها، ولا تقوم العوارض المحرمة كالحيض والعدة بالشبهة والردة والإحرام مقام البيع وما ذكر معه. ولا يقوم مقامه أيضاً تحريم من وطئ بيمين يحدثها أو بظهارها أن لا يطأها أو بغير ذلك. قال ابن أبي سلمة: ولا بهبتها لمن يعتصرها منه، ولا لمن إذا شاء أخذها منه بثمن أو بغير ثمن بغير امتناع منه، ولا ببيع مفسوخ. وقيل: ولا ببيع صحيح دلس فيه بعيب، ولا ببيع فيه استبراء، ولا على العهدة أو الخيار حتى ينقضي ذلك كله. قال محمد: يريد عهدة الثلاث. فرع: (لو ملك عصمة إحداهما، ووطئ الأخرى بملك اليمين، فإن كان عقد النكاح هو السابق، فقد روى محمد عن ابن القاسم أنه يوقف عن الزوجة حتى يحرم فرج أمته عليه، ولا يفسد ذلك النكاح. وقال أشهب: بل يطأ الزوجة، لأن فرج أمته عليه حرام منذ عقد على أختها عقد النكاح. وإن كان الوطء هو المقدم، ثم تزوج قبل أن يحرم الأمة، فقال محمد: اختلف فيها أصحاب مالك، فقال عبد الله بن عبد الحكم وأشهب: نكاحه جائز، وله أن يطأ امرأته، ولا يحدث تحريماً لجاريته لأن نكاح أختها قد حرمها عليه. وقال ابن القاسم: لا يجوز أن يعقد النكاح حتى يحرم الأمة على نفسه، فإن فعل وقف بعد النكاح لا يقرب واحدة منهما حتى يحرم على نفسه أيتهما شاء. وقال عبد الملك: يفسخ النكاح، ولا يقر على حال).

النوع الثاني: الزيادة على أربع نسوة فيمتنع على الحر الزيادة على الأربع، وكذلك العبد. وروى ابن وهب: أن الثالثة في حق العبد كالخامسة في حق الحر، فلا يزيد العبد على اثنتين. وتحل الخامسة بطلاق بائن لإحدى الأربع دون الرجعي. ولو نكح خمساً في عقد، فالعقد باطل فيهن. فأما لو جمع بين أربع يصح جمعهن في الحل، وسمي لكل واحدة صداقاً، فمذهب الكتاب المنع. وقال ابن دينار وأصبغ بالجواز. التفريع: إذا قلنا بمذهب الكتاب، فوقع العقد، فللمتأخرين قولان: أحدهما: الرجوع إلى صداق المثل. والآخر: أنه يفض المسمى، ولهم القولان أيضاً في فسخه قبل الدخول. وسبب الخلاف في الموضعين مراعاة الخلاف، فمن راعاه صحح ورفض المسمى، ومن لم يراعه فسخ قبل البناء، ورد بعده إلى صداق المثل. وإن فرغنا على قول ابن دينار وأصبغ، فقد قال أصبغ: يعطي لكل واحدة منهن صداق مثلها. قال أبو القاسم بن محرز: يعني من تلك التسمية، قال: وحكاه عن ابن دينار. فرع: قال الشيخ أبو عمران: من ادعى نكاح رابعة، ولا بينة له، منع من نكاح خامسة لها حتى يطلقها. يريد: أو يطلق غيرها. النوع الثالث: استيفاء عدد الطلاق. وهو ثلاث للحر، واثنتان للعبد، فمن استوفاه منهما لم تحل له الزوجة حتى يطأها زوج غيره وطئاً مباحاً في نكاح صحيح لازم. وقال ابن الماجشون: يحصل الإحلال بالوطء في الحيض والإحرام والصيام إذا صح العقد، ولا تحل الذمية بنكاح الذمي لفساده على المشهور. وقيل: تحل، بناء على صحة أنكحتهم في الشاذ.

ولا يكفي نكاح الشبهة، ولا نكاح الدلسة، وهو نكاح المحل. قال مالك في المختصر: ومن نكح امرأة ليحلها لزوجها، فلا يحل ذلك ولا يقر على ذلك النكاح حتى يستقبل نكاحاً جديداً، ولها مهرها إذا أصابها، ولا ترجع إلى زوجها الأول إلا بنكاح رغبة غير دلسة يصيبها فيه. فنص رضي الله عنه على أن نكاح المحل لا يحل ولا يحل. وأن نكاح الدلسة لا يجوز ولا يفيد، فلا ينتفع بلطائف الحيل في تحصيل الإحلال عنده، بل لا يقع حلالاً ولا يفيد إحلالاً. وذلك مقتضى الحديث الصحيح، وهو ما خرجه أبو عيسى الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود، قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحل والمحلل له)). وخرج أبو الحسن الدارقطني عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بالتيس المستعار، قالوا: بلى، قال: هو المحل، ثم قال: لعن الله المحل والمحلل له)). ثم المعتبر في التحليل نية المحل دون نية المرأة والمطلق، فنية المحل للإحلال تنزل منزلة اشتراطه في العقد، فيفسد ولا يحل. ولو نكح بشرط الطلاق فسد العقد ولم يحل، ويفسد النكاح أيضاً باشتراط عدم الوطء. ثم حيث فسد العقد، لوقوعه على الوجه المنهي عنه، فرق بينهما قبل البناء وبعدة بطلقة بائنة، ولها المسمى في أظهر الروايتين. وروى ابن عبد الحكم أن لها مهر مثلها. فروع: في الوطء: ويكفي إيلاج الحشفة، أو مقدارها من مقطوعها، ولا يكفي وطء الصبي، ولا وطء من لم تنتشر الته، إذ انتشار الآلة مشترط في قول أكثر المتأخرين، وقيل: لا يشترط، بل يكفي الوطء بغير انتشار.

الجنس الثالث من الموانع: الرق

ويشترط كون الزوجة عالمة بالوطء عند ابن القاسم، ولا يشترط علم الزوج. واشترط أشه بعلم الزوج خاصة. فلو وطئها الزوج في حال جنونه وهي سليمة، أحلها عند ابن القاسم، ولم يحلها عند أشهب. ولو كانت هي المجنونة دونه، أحلها عند أشهب، ولم يحلها عند ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: يحلها كان الجنون به، أو بها، أو بهما جميعاً. ثم حيث وقع الوطء المعتبر، فاتفق الزوجان عليه حلت به، فإن ادعت الوطء وأنكره لم يحلها عند مالك. وقال ابن القاسم: ((يحلها)). وقال ابن وهب: إن كان الزوج ينكر عند الفراق لم يحلها، وإن قاله بعد الفراق لم يقبل، وقد حلت. وقال القاضي أبو الوليد: ((كل موضع تصدق فيه على الزوج في دعوى الوطء صدقت في الإحلال، وكل موضع لا تصدق فيه إذا ناكرها، فلا تحل بدعواها)). الجنس الثالث من الموانع: الرق، وهو نوعان: النوع الأول: مانع على الإطلاق من الجانبين، وهو الرق الثابت على أحد الزوجين للآخر، فلا يجوز للرجل أن ينكح أمته، ولو ملك مكنوحته انفسخ النكاح، وكذلك المرأة لا تنكح عبدها، وإن ملكت زوجها انفسخ النكاح. فرع: إذا وهب السيد لعبده زوجته أمة السيد، ففي الكتاب من رواية ابن نافع: ((إذا وهبها ليفسخ نكاحه، فلا يجوز ذلك له، وإن تبين أنه صنع ذلك لينتزعها منه وليحلها بذلك لنفسه أو لغير زوجها، أو ليحرمها بذلك على زوجها، فلا أرى ذلك له جائزاً، ولا أرى أن يحرمها ذلك على زوجها، ولا تنتزع منه)). وقال أصبغ: يكره للسيد ذلك، فإن فعل جاز. وقال ابن الماجشون: إن كان مثله يملك فذلك له وينفسخ النكاح، قال محمد: ولو لم يملك مثلها فالهبة باطلة، وقال ابن عبد الحكم: إذا قصد إلى الفرقة لم يجز.

قال أبو القاسم بن محرز: هذه المسألة تدل على أن للسيد أن يكره عبده على قبول الهبة. لولا ذلك لم يكن لهبة السيد تأثير، ولا كان يعتبر قصده فيها، لأن العبد قادر على أن لا يقبلها كيف ما كانت نية سيده فيها، ولكن لما كان له أن يجبره اعتبر في الكتاب قصده، وحمل الأمر على إرادته، فإن سلمت صحت هبته وفسد النكاح، وإن لم تسلم إرادته بطلت هيبته وثبت النكاح. النوع الثاني: مانع على الجملة في بعض الأحوال وهو الرق الثابت على الزوجة لغير الزواج، فلا ينكح الحر المسلم مملوكة الغير إلا بشروط، [عدمه] الطول، وخوفه العنت، وكونها مسلمة. وروي أنه يجوز للحر نكاح الإماء المسلمات مطلقاً من غير اعتبار بالشرطين الأولين، وإذا فرعنا على المشهور، فالنظر في الطول والعنت. أما الطول: فهو المال الذي يتزوج به الحرة، ولا تراعى قدرته على النفقة. وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: تراعى قدرته على النفقة حتى لو وجد صداق الحرة وعدم النفقة عليها تزوج الأمة. وروى أن الطول وجود الحرة نفسها في عصمته. وإذا فرعنا على أنه المال، فلو عدم ما يتزوج به الحرة لأبيح له تزويج الأمة، وإن كانت تحته ثلاث حرائر إذا خشي العنت معهن. قال القاضي أبو بكر: ((ولو قدر على طول حرة كتابية لنكح الأمة، ولو وجد حرة فغالته في المهر بمقدار بعد قبوله إسرافاً ولم يجد غيرها نكح الأمة، ولو قنعت بدون مهر المثل وهو قادر عليه لم ينكح الأمة)). وأما العنت، فهو الزنى، وإنما يتم بغلبة الشهوة وضعف التقوى. فإن قوي التقوى وأمن من نفسه، لم ينكح. فإن خاف العنت مع القدرة على الطول، كمن هوى أمة بعينها، ولم يمكنه الصبر عنها، فروى محمد وابن حبيب: أنه يجوز له أن يتزوجها. وخرج القاضي أبو الوليد هذه الرواية على رواية عدم اعتبار الشرطين، أو على أن المراد بالطول ما يصل به إلى استباحة ما خاف على نفسه العنت بالامتناع منه من ثمن أمة على اختيار مالكها، أو مهر حرة على اختيارها إن كانت معينة. والقادر على سرية لا يخاف العنت معها، لا يترخص بنكاح الأمة.

الجنس الرابع: الكفر

فروع متتالية: لو تزوج الأمة لكونه على الشرائط المعتبرة في الإباحة فلم تغنه، فله أن يضيف إليها من تغنيه إلى تمام الأربع. ولو استغنى بالأولى ففي إباحة ما زاد عليها خلاف. وإذا نكح الأمة على الحرة، فمذهب الكتاب جواز النكاح، وأنه إن وقع لم يفسخ، والرواية الأخرى أنه ممنوع. وسببهما الاختلاف في أن وجود الحرة تحته طول أم لا؟ واختلف في هذا المنع: هل هو التحريم أو الكراهة؟ ثم على القول بالتحريم يفسخ نكاح الأمة، وبه قال أشهب وابن عبد الحكم. وعلى القول بالكراهة لا يفسخ، لكن تخير الحرة. وهل يتخير في فسخ نكاحها وإبقائه؟ أو يتخير في فسخ نكاح الأمة وإقراره؟ مذهبان: الأول لمالك في الكتاب. والثاني لابن الماجشون والمغيرة. والحر الكتابي ينكح الأمة الكتابية، والعبد المسلم لا ينكحها. ثم إذا نكح الحر المسلم الأمة لكونه على الشرطين المعتبرين، ثم قدر على الحرة ونكحها، لم ينفسخ نكاح الأمة. وإن قلنا: إن الحرة طول؛ إذ لا تراعي الشروط إلا في ابتداء النكاح دون دوامه، ولأنه أيضاً لا يؤمن عودة الأمر بعد ذلك. لكن يكون للحرة الخيار إذا علمت بعد العقد. وقيل: لا خيار لها، لأنها فرطت في البحث. ولو جمع القادر بين حرة وأمة في عقد واحد بطل نكاح الأمة على الرواية المشهورة. وهل يبطل نكاح الحرة؟ في تلك قولان. ولو جمع بينهما في العقد، حيث أجزنا له الجمع بينهما في الملك، أما على الرواية الشاذة (فالإباحة) مطلقاً، وأما على المشهورة، إذا قلنا بأن الطول المال، وعدم طول حرتين ولم تكفه وتكفه واحدة، فإن النكاح يصح فيهما إذا سمى لكل واحدة منهما صداقها، وإن لم يسم ما لكل واحدة منهما جرى الحكم على القولين. الجنس الرابع: الكفر. والكفرة ثلاثة أصناف:

الأول: الكتابيون، ويحل نكاح نسائهم ويقرون بالجزية. الصنف الثاني: المعطلة والزنادقة ولا تحل مناكحتهم ولا يقرون بالجزية. الصنف الثالث: المجوس، ولا تحل مناكحتهم، لكن يقرون بالجزية. وقيل: يح لنكاح نسائهم. فرع: لو تنصر اليهودي، أو تهود نصراني، أقر. وحكى القاضي أبو بكر رواية، بأنه يقتل لخروجه عن العهد الذي انعقد له، إلا أن يسلم. (وأما لو تزندق يهودي أو نصراني، فقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: لا يقتل، لأنه خرج من كفر إلى كفر، وقاله مالك ومطرف وابن عبد الحكم. وقال ابن الماجشون: يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد، ولا تؤخذ عليه جزية. قال ابن حبيب: ولا أعلم من قاله غيره، ولا أقول به. قال القاضي أبو الوليد: ((يحتمل أن يريد بالزندقة ههنا الخروج إلى غير شريعة، مثل التعطيل ومذاهب الدهرية)). وحكى الشيخ أبو محمد عن أبي بكر بن محمد قال: ((روى عبد الرحمن بن إبراهيم الأندلسي في النصراني أو اليهودي يتزندق: أنه يقتل، لأنه خرج من ذمة إلى غير ذمة، ولو أسلم لقتل، كمسلم تزندق ثم تاب. فأما المسلم يرتد، فلا يقنع منه إلا بالإسلام أو السيف. ثم ردته تقطع العصمة بينه وبين زوجته ساعة ارتداده)). رواه ابن القاسم في الكتاب، ثم قال: ((,كذلك ردة المرأة عندي)). قال: ((وانقطاع ذلك تطليقة بائنة، ولا تكون عليها رجعة وإن أسلم في عدتها، لأنه قد تركها حين ارتد، ولم يكن يقدر في حال ارتداده على رجعتها)). وروى ابن أبي أويس وابن الماجشون: أن الردة فسخ. قال سحنون: والمخزومي يقول: إذا أسلم ورجع إلى الإسلام في عدتها فهو أحق بها. وقال ابن الماجشون: إن تاب وأدرك زوجته في عدتها كان أحق بها الطلاق كله،

كالمشرك تسلم زوجته، ثم يسلم في عدتها، فإن انقضت العدة كان إسلام هذه تطليقة، وارتداد هذه تطليقة. وسبب الخلاف: النظر إلى أن للردة أثراً فيما تقدم من عمله أم لا؟ ثم النظر في تعيينه على القول به، فالذين رأوا لها أثراً اختلفوا، فمنهم من رأى أن أثرها إحباطه، فقطع العصمة. ثم اختلف القائلون بذلك في كيفية قطعها، فمن نظر منهم إلى تقدم صحة النكاح جعل القطع ظطلاقاً. ومن اعتبر الغلبة على الفسخ جعله فسخاً بغير طلاق، ومنهم من رأى أثرها تشعيث العصمة لا قطعها، فحكم بطلقة رجعية. وأما الذين لم يروا للردة أثراً في العمل الماضي فرأوا أن حكمها يرتفع بالتوبة، حتى يعود إلى ما كان عليه قبلها، وجعلوه باقياً على زوجته، كما هو باق على ماله على المعروف من المذهب. فرعان: (الأول). إذا ارتد الزوج إلى دين زوجته اليهودية أو النصرانية، فقال ابن القاسم: ((تقع الفرقة بينهما كما لو كانت مسلمة))، وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: لا يحال بينه وبينها، ولا تحرم عليه إن عاد إلى الإسلام. الفرع الثاني: روى ابن سحنون عن أبيه، في المسلم يرفع زوجته المسلمة إلى الحاكم يدعي عليها أنها ارتدت عن دينها فتنكر، أن الحاكم يفرق بينهما لإقراره بارتدادها الموجب للفرقة، قال: وكذلك لو كانت الزوجة كتابية. ويتصل بهذا (باب) نكاح المشركان لانشعاب مسائله عن الموانع السابقة، وفيه: فصول: الأول: فيما يقر عليه الكافر من الأنكحة: وإذا أسلم الزوجان معاً [اقرأ] على نكاحها إذا خلا عن الموانع المتقدمة، فإن سبق الزوج بالإسلام، وتحته من لو ابتدأ العقد عليها في الإسلام لجاز، (أقر) عليها، أسلمت معه أو بقيت على دينها، فيقر على الكتابية الحرة دون غيرها، ويعرض على غيرها الإسلام، فإن أسلمت أو عتقت إن كانت أمة كتابية ثبتت معه، وإن بقيت على حالها وقعت الفرقة في الحال، كان قبل الدخول أو بعده.

وقال أشهب: ((تتعجل الفرقة، إن كان قبل الدخول، بإسلام الزوج))، ولم يقل يعرض عليها (الإسلام)، وقاله أصبغ. وهو أحب إلى محمد، قال: وينتظر فراغ العدة إن كان بعد الدخول. فرع: إذا بنينا على قول ابن القاسم فغفل عنها حتى مضى لها شهر، وما قرب منه، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((ليس بكثير، وتبقى على النكاح إن أسلمت في هذه المدة)). ثم حيث قلنا بالفراق، فمذهب الكتاب: ((إن الفرقة فسخ بغير طلاق))، وقاله ابن المواز، واختاره القاضي أبو بكر. وقال ابن القاسم في العتبية: ((هي طلقة بائنة)). وأما إن كانت المرأة هي السابقة إلى الإسلام، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة، وإن كان بعده وقف على انقضاء العدة، فإن أسلم قبل انقضائها ثبت عليها من غير رجعة يحدثها وإلا بانت منه. ثم حيث قلنا: يقر على النكاح لإسلامها أو لإسلامه على كتابية، فلا (نبحث) عن شرط (نكاحهما)، بل نقرهما على النكاح بلا ولي ولا صداق، وفي العدة، إلا إذا أسلما أو أحدهما قبل انقضاء العدة، فإن المفسد قارن الإسلام، فيندفع النكاح، كما لو أسلم على ذات محرم منه. ونقرهم على النكاح المؤقت إن أسلموا بعد الأجل، وإن أسلموا قبله فسخه، بنى

أم لا. ولا نقرهم على ما هو فاسد عندهم إلا إذا كان صحيحاً عندنا. ولو انعقدوا غصب المرأة أو مرضاتها على الإقامة مع الرجل بغير عقد نكاحاً أقررناهم عليه إذا أسلموا. وبالجملة فأنكحتهم فاسدة على المشهور، [و] لكن إذا أسلموا صحح الإسلام منها ما لو ابتدأوا عقده بعد الإسلام لجاز عندنا، ويعفى عما بنوها عليه من التحريم والإخلال بالشرائط. ثم المفسد إن قارن إسلام أحدهما كفى. وإذا طلق الكافر زوجته ثلاثاً، ثم أسلما في الحال كان له أن يبقى على نكاحها، ولو أبانها عنه بعد الطلاق مدة ثم أسلم. ثم أراد أن يعقد عليها بعد الإسلام، لم يفتقر إلى محلل. فإن قيل: ما حكم صداقهم الفاسد بعد الإسلام؟ قلنا: إذا أصدقها خمراً، وقبضت قبل الإسلام ودخل بها، ثم أسلما، فلا مهر لها. وإن لم تقبض ولم يدخل، فلها صداق المثل. وقيل: قيمة ما أصدقها من ذلك لو كان يجوز بيعه. وكذلك إن دخل ولم تقبض المهر. وإن قبضت ولم يدخل، فقال ابن القاسم: ((يجب لها صداق المثل))، وقال ابن عبد الحكم: قيمة المسمى. وقال أشهب: ربع دينار، وقال غيرهم: لا يجب لها شيء أصلاً. الفصل الثاني: في إسلام الكافر على (عدد) من النسوة (لا) يمكن الجمع بينهن فإذا أسلم على عشر نسوة، اختار أربعاً، فثبت نكاحه عليهن، كن أوائل أو أواخر، عقد عليهن في عقد واحد أو عقود متعددة، واندفع نكاح (الباقيات)، ولا مهر لهن إذا لم يدخل بهن، إذ هو مغلوب على الفراق. وقال ابن حبيب: لكل واحدة نصف صداقها، لأنه يعد في الاختيار كالمنتقل فيصير كالمطلق. وقال ابن المواز: لكل واحدة من صداقها خمسة، لأنه لو فارق الجميع ما لزمه لهن إلا صداقان. فإن مات قبل أن يختار، فقال محمد: سمعت من يقول: يرثن منه الربع بين جميعهن، إن لم يكن له ولد مسلم. ولكل من بنى منهن صداقها، ومن لم يبن بها فلها خمساً صداقها، قال محمد: لأنه لم يكن عليه إن لم يدخل بهن إلا صداق أربع يقسم بينهن.

قال الشيخ أبو الطاهر: ((أيجاب أربع صدقات لجميعهن بالموت هو المشهور، وهو الجاري على مذهب ابن المواز. قال: ((وقيل: عليه لكلهن سبع صدقات))، قال: ((وهو رأي ابن حبيب، تكون أربع صدقات لأربع منهن، وثلاث لست، يقتسمن الجميع أعشاراً)). وإن أسلم الكافر على امرأة وابنتها، وكان بعد الدخول فهما محرمتان. وإن لم يدخل بواحدة منهما اختار واحدة منهما في قول، وفارقهما جميعاً في (ثان)، وتعينت البنت في ثالث وهو قول أشهب. وإن كان بعد وطء البنت تعينت واندفع نكاح الأم. وإن كان بعد وطء الأم اندفع نكاح البنت وبقي نكاح الأم. وقيل: يندفع للعقد على البنت. وإن أسلم على أختين، أو من أشبههما ممن لا يجوز الجمع بينهما، اختار واحدة وفارق من سواها. الفصل الثالث: في الاختيار ولا تخفى صرائح ألفاظه، ويلحق بها ما أفاد معناها. فلو طلق واحدة تعينت للنكاح، قاله ابن عبدوس، وكذلك لو ظاهر، أو آلى، أو وطئ. ولو قال: فسخت نكاحها، انفسخ نكاحها، لأنه أوقع بالفسخ عليها أن لا يختار نكاحها. ولو اختار أربعاً، فإذا هن أخوات، فقال ابن الماجشون: له تمام الأربع ممن فارق منهن ما لم يتزوجن. وقال ابن عبد الحكم: له ردهن وإن دخل بهن أزواجهن. قال أبو الحسن اللخمي: ((يريد إذا اختار أربعاً، فوق الفراق على البواقي باختياره الأربع، ولم يوقع على البواقي طلاقاً، ولو أوقع عليهن الطلاق لم يكن له رد (في) من طلق وإن لم يتزوجن إذا كان طلاقه قبل الدخول، أو بعد انقضاء العدة)). فرع: لو أسلم على ثماني كتابيات، فأسلم أربع، ومات قبل التبيين، لا يوقف شيء من الميراث، لأنه ربما كانت المفارقات المسلمات، فلا يتقين حق الزوجية. وكذلك لو كانت تحته كتابية ومسلمة، فقال: (إحداكما) طالق ومات، ولم يعين لم يوقف لهما ميراث على القولين جميعاً في إيقاع الطلاق من غير تعيين محله. أما على المشهور فلعدم أصل الحق، وأما على القول الآخر فللشك فيه.

الفصل الرابع: في النفقة وإذا تخلفت ثم أسلمت لم تستحق نفقة لمدة التخلف، لأن الامتناع منها. ولو سبقت ثم أسلم، فروى أصبغ عن ابن القاسم: ((أن لها النفقة في عدتها)). وكذلك روى محمد قال: وذلك عليه، حاملاً كانت أو حائلاً، لأنه ممن له الرجعة لو أسلم في عدتها، بل إسلامه في العدة رجعة. قال محمد بن أبي زمنين: وروى عيسى عن ابن القاسم: ((أنه لا نفقة عليها لها، لأنها منعته فرجها، وجاء الفسخ من قبلها))، قال: ((وهي أحسن عند هل النظر من رواية أصبغ)). الجنس الخامس من الموانع: كون أحد الزوجين على حالة يتضمن العقد معها جناية على حق غيره، وذلك نوعان: النوع الأول: ما يتضمن الجناية على حق الله (سبحانه)، وهو الإحرام. فلا يجوز للمحرم بحج أو عمرة أن يباشر عقد النكاح على نفسه ولا على غيره، ولا أن يعقده له غيره، فإن عقده أو عقد له، فقال ابن حبيب: قال مالك وأصحابه: يفسخ وإن بنى وطال زمانه، وولدت الأولاد. وحكى الشيخ أبو القاسم في تأبيد التحريم عليه روايتين. (قال ابن حبيب: واختلف في فسخه بطلاق. وقال محمد: ((قال مالك. يفسخ بغير طلاق، ثم قال: يفسخ بطلاق)). وقال أشهب: بغير طلاق، ولا يمراث فيه. ومذهب

أشهب، أن كل ما يرى أنه وقت فسخه لا يقر، فهو فسخ بغير طلاق. قال ابن حبيب: ولم يختلف بالمدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم ((تزوج ميمونة وهو حلال)). قال ابن القاسم في كتاب محمد: قال مالك: ومن نكح بعد رمي الجمرة قبل الإفاضة فسخ بغير طلاق. ثم رجع فقال: بطلاق، وقاله ابن القاسم. ولو كان أفاض ونسي الركعتين، فإن نكح بالقرب فسخ نكاحه بطلقة، وإن تباعد جاز نكاحه. ولو نسي الإفاضة وطاف للوداع وخرج وأبعد، ثم نكح، فالنكاح جائز لأن طواف الوداع يجزيه. ومن أمر رجلاً أن يزوجه، ثم أحرم فزوجه بعد إحرامه، فسخ النكاح. قال ابن القاسم: ((وإذا نسيت امرأة من الطواف الواجب شوطاً ورجعت إلى بلدها وتزوجت، فإنه يفسخ ولا صداق لها، إلا أن يبني بها، فلها المسمى. وترجع على إحرامها، فإذا فرعت، فإن كان بنى بها اعتمرت وأهدت. وتعتد بثلاث حيض)). النوع الثاني: ما (يتضمن) الجناية على حق آدمي، وهو المرض. فلا يجوز نكاح المريض المخوف عليه في الغالب، الذي لا يحتاج إلى استمتاع وقد انتهى إلى حالة يحجر عليه في ماله، ويفسخ إن وقع، وكذلك نكاح المريضة. وذكر عن مطرف أنه روى إجازة ذلك عن مالك جملة من غير تفصيل. وإذا فرعنا على المشهور فصح قبل الفسخ، ففيه روايتان: روى ابن القاسم أنه صحيح لا يفسخ، وبذلك قال ابن الماجشون. والرواية الأخرى أنه يفسخ، وإن صح، وهي إحدى الروايتين عن ابن القاسم وابن عبد الحكم.

وخرج القاضي أبو محمد هذا الاختلاف على (الاختلاف) في أن فساده لحق الورثة، أو فساده في عقده، ثم مقتضى القول بأن فساده في عقده أن لا يصح النكاح وإن كانت الزوجة ممن لا ترث كالأمة، والنصرانية، ومقتضى كونه لحق الورثة، واعتبار ذلك أن يصح نكاحها نظراً لفقد العلة، وهو قول أبي مصعب. وقال عبد الملك وغيره: لا يصح، طرداً للقاعدة، ولجواز تغير حالهما بالعتق والإسلام قبل موته. التفريع: إن صححنا نكاح المريض، على ما ذكر من رواية مطرف، لزم فيه الصداق من رأس المال. وإن أبطلناه، على المشهور، فإن لم يدخل فلا صداق لها، وإن دخل فلها الصداق في الجملة. لكن اختلف هل هو المسمى، أو صداق المثل إن كان أقل من المسمى؟ والأول قول مالك في المختصر وكتاب محمد وكتاب ابن حبيب. وقال سحنون: إذا كان المسمى أكثر من صداق المثل، لم يكن لها إلا صداق مثلها في قول ابن القاسم. (وبنى بعض المتأخرين هذا الاختلاف على الخلاف في التوريث، قال: ((فمن ورثها أسقط الزائد لأنها وصية للوارث، ومن لم يورثها أثبته وجعله كالوصية لأجنبي)). ثم حيث أثبتنا الصداق واختلف في تبديتها بجملته، فقيل: تبدأ به، لأنه على الجملة عن استهلاك. وقيل: لا تبدأ به، لأنه وصية محضة. ثم يكون صداق المثل من الثلث، وحكى الشيخ أبو الحسن عن المغيرة من رأس المال. وقال الشيخ أبو عمران: أجمع أصحابنا أن صداق المريض لا يكون في رأس المال. وإنما ذكر الشيخ أبو الحسن شيئاً عن المغيرة، أنه قال: ذلك في رأس المال، وقد رأيت كتب المغيرة، فذكر فيها أنه من الثلث، قال: وما أدري أين رآه أبو الحسن للمغيرة. وقال الشيخ أبو الحسن: يكون ربع دينار من رأس المال، والباقي من الثلث. قال بعض المتأخرين: ((فمن رأى أن البضع غير متقوم، قال بالأول، ومن رآه متقوماً كالسلع قال بالثاني)). قال: ((وبني الشيخ أبو الحسن على أنه غير متقوم، لكنه رأى أن الشرع

القسم الرابع من الكتاب: في موجبات الخيار

قدر فيه ربع دينار لا ينقص عنه، تقديراً شرعياً، فيصير كالثمن المحقق، فيخرج من رأس المال)). واستحسن أبو محمد عبد الحق قول الشيخ أبي الحسن في أن ربع دينار من رأس المال. القسم الرابع من الكتاب: في موجبات الخيار وأسباب الخيار ثلاثة: العيب، والغرر، والعتق. السبب الأول: في الموجب، ويثبت الخيار لكل واحد من الزوجين بالعيوب الأربعة، وهي: الجنون، والجذام، والبرص، وداء الفرج. فالجنون: هو الصرع والوسواس الذي ذهب معه العقل، والجذام: ما تيقن منه، قليلاً كان أو كثيراً. وقال في البرص: (ما سمعت، إلا ما في الحديث، وما فرق بين قليل ولا كثير).

(قال) ابن القاسم: (ترد من قليله، ولو أحيط فيما خف منه أنه لا يزيد، لم ترد منه، ولكن لا يعلم ذلك فترد من قليله). وسوى ابن القاسم وابن عبد الحكم بين الرجل والمرأة في الرد بالبرص. وروى أشهب أن برص الرجل لا يثبت به الخيار للزوجة وإن غرها. وروي عن ابن القاسم أيضاً. أما في حديث البرص بالرجل، فلا خيار فيه لها وإن كان شديداً. وروى عنه عيسى إذا حدث به البرص الخفيف فلا يفرق فيه. أما ما فيه ضرر لا يصبر على المقام عليه، فليفرق بينهما. وداء الفرج يتنوع، فهو في حق الرجل ما يمنعه أن يطأ كالجب والخصاء، والعنة، والاعتراض، وما في معناها. فالمجبوب: هو المقطوع ذكره وأنثياه. والخصي: هو مقطوع أحدهما. والعنين: هو الذي له ذكر لا يتأتى الجماع بمثله للطافته، وامتناع تأتي إيلاجه. والمعترض: هو الذي لا يقدر على الوطء لعارض، وهو بصفة من يمكنه، وربما كان بعد وطء قد تقدم منه، وربما كان عن امرأة دون أخرى. ففي الجب والخصاء والعنة يثبت لها الخيار، وكذلك إن كان الخصي قائم الذكر بمكنه الوطء، إلا أنه لا ينزل، فلها الخيار، وكذلك في الحصور. قال ابن حبيب: وهو الذي يخلق بغير ذكر، أو بذكر صغير، كالزر وشبهه لا يمكن به وطء. وأما في المعترض فيصرب له أجل سنة من يوم ترفعه إن كان حراً، وإن كان عبداً، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((أجله ستة أشهر)). وقال القاضي أبو محمد: ((في أجله روايتان: إحداهما سنة، والأخرى ستة أشهر، ويخلى بينه وبينها، والقول قوله إن ادعى الوطء في السنة)). وروى في البكر أن النساء ينظرن إليها، فإن قلن: بها أثر إصابة، فالقول قوله، وإن قلن إنها على حال البكارة، صدقت عليه.

فإن مضت السنة وتقاررا على عدم الوطء، فالخيار حينئذ لها، وذلك إذا لم يكن منه وطء قبل الاعتراض، ولا يقبل قولها في دعوى ذلك إلا بتصديقه، ولها أن تستحلفه. وكذلك لو ادعى الوطء في الأجل حلف وصدق، فإن نكل حلفت، وثبت لها الخيار، وإن نكلت بطلت دعواها، ولا خيار لها. وروى ابن حبيب: أنه لا يحلف إلا بعد ضرب الأجل ودعوى الإصابة، فإن نكل [طلقت] عليه عند انقضاء الأجل. ثم حيث أثبتنا لها الخيار فأقامت عنده، ثم أرادت الفراق، ففي كتاب محمد: لها ذلك، وكذلك في رواية أبي زيد عن ابن القاسم في العتبية، واختلفا، فروى محمد: يوقف مكانه بغير ضرب أجل، وليس لها أن تفارق دون السلطان. وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أن لها أن تطلق نفسها متى شاءت بغير إذن من السلطان)). فرأى في الأول أنه أمر مختلف فيه، فلابد من حاكم يحكم بصحته. ورأى في الثاني أن الحاكم لما ضرب الأجل قد حكم بما يؤول إليه. ثم الطلاق الواقع عليه بائن لتعري النكاح (من) الإصابة. ولا يقع عليه أكثر من طلقة واحدة، إلا أن يوقع هو أكثر، فيلزمه ما يوقع، لأنه يؤمر بإيقاع الطلاق عند اختيارها للفسخ، فيوقع منه ما شاء. فإن امتنع من إيقاعه أوقع الحاكم عليه طلقة واحدة، وتقع بائنة لما ذكرناه. وإذا وقع الطلاق بعد الأجل؛ فلها الصداق كله كاملاً إذا أقام معها سنة، لأنه قد تلوم له، وقد خلا بها، وطال زمانه، وتغير صبغها، وخلقت ثيابها، وتغير جهازها عن حاله، وتلذذ منها، قاله في الكتاب. وقال القاضي أبو محمد: ((في تكميل الصداق روايتان: إحداهما: أنه يكمل، والأخرى: أنه إن طال مقامه معها وتلذذه بها واستمتاعه مثله بما يمكنه كمل عليه، وإن كان لحداثة دخولها عليه ولم يطل أمرها معه لزمه نصفه)). قال القاضي أبو إسحاق: هذا موضع الاجتهاد، إذ النص في كتاب الله تعالى المسيس، وقد أقر الزوجان بأنه لم يكن.

ثم ألحق المعترض بالمجبوب بعلة أنه خلا بزوجته، وأغلق باباً، وأرخى ستراً وكشفها، وتلذذ منها أقصى ما يمكنه من الاستمتاع بها، قال: فيجب عليه الصداق كاملاً إذا طلق بعد ذلك، وحمل قوله تعالى: {من قبل أن تمسوهن}، على من يقدر على المسيس، دون من لا يقدر عليه. قال: وهذا في هذه الزوجة المضروب له الأجل معها، كالمجبوب مع زوجته في عدم القدرة على المسيس. (أما داء الفرج في حق المرأة، فقال ابن حبيب: تفسيره ما كان في الفرج مما يقطع لذة الوطء، مثل العفل والقرن والرتق. وقال القاضي أبو محمد: ((داء الفرج هو القرن والرتق، وما في معناهما)). وزاد الشيخ أبو القاسم في تفريعه ((البخر، والإفضاء، وهو أن يكون المسلكان واحداً)). وروى ابن المواز عن مالك: إن كل ما يكون عند أهل المعرفة من داء الفرج، فإن للزوج الرد به وإن لم يمنع من الوطء، مثل العفل القليل والقرن، وحرق النار. قال: والمجنونة والجذماء والبرصاء يقدر على وطئها، ومع ذلك فللزوج ردها. قال ابن حبيب: ويثبت الخيار بالقرع الفاحش لأنه من معنى الجذام والبرص. قال القاضي أبو الوليد: ((ولم أر ذلك لغيره من أصحابنا)). قال: ((والأظهر من المذهب أنه لا يثبت الخيار، لأنه مما يرجى برؤه في الأغلب ولا يمنع المقصود من الاستمتاع، ولا يؤثر فيه كالجرب ونحوه)). ولا يثبت الخيار بشيء من العيوب سوى ما تقدم ذكره، إلا أن يشترط السلامة منه كالعمى، والعور، والعرج، والزمانة، ونحو ذلك من العاهات، فإن اشترط الصحة، فله الرد، وإلا لم يرد)). قال الشيخ أبو محمد: ((ولو كتب في العقد: صحيحة العقل والبدن، لم يكن ذلك

شرطاً)). قال: ((ولو قال: سليمة البدن، لكان شرطاً)). قال بعض المتأخرين: ((إنما فرق بينهما؛ لأن الأول عادة جارية من تلفيف الموثقين، ولم تجر العادة بالثاني)). وكذلك لو وجدها لغية، لم يكن له ردها، إلا أن يتزوجها على نسب. وكذلك إن وجدها مفتضة من زنى، فلا شيء له، رواه ابن حبيب عن مالك. قال ابن حبيب: إلا أن يشترط الخاطب لنفسه في ذلك، فيكون له، إلا السوداء فإنه يكون ذلك له وإن لم يشترطه إذا لم يكن في أهلها أسود؛ لأن ذلك كالشرط. قال القاضي أبو الوليد: ويجب على هذا أن يعلم الزوج بذلك، ويتزوج على أن أهلها لا أسود فيهم، وإلا فليس في معنى الشرط)). فروع: الأول: (إذا ادعى الزوج أن بالمرأة عيباً في الفرج وأنكرته، ففي كتاب ابن حبيب: ((ينظر إليها النساء)). وروى سحنون عن ابن القاسم: لا ينظر إليها النساء، وأنكر سحنون ذلك عليه، وقال: كيف يعرف إلا بنظرهن؟ وروى ابن سحنون عن أبيه: ينظر إليها النساء. الفرع الثاني: إذا ادعت هي عليه فأنكر، فقال ابن حبيب: أما الحصور والمجبوب

الممسوح ذكره وأنثياه، أو ذكره خاصة، أو أنثياه (خاصة)، فهذا يختبر بالجس على الثوب. وأما دعواها أنه عنين، وهو الذي ذكره لا ينتشر، وهو كالأصبع في جسده لا ينقبض ولا ينبسط، أو معترض، وأنكر، فهو مصدق. قاله مالك وعبد العزيز لما نزلت بالمدينة. الفرع الثالث: إن العيب المقتضى للخيار، هو الموجود حالة العقد، فأما ما طرأ بعد العقد، فلا يؤثر في ثبوت الخيار للرجل، وفي تأثيره فلي ثبوته للمرأة خلاف بالنفي والإثبات في العيوب الأربعة، وينفرد البرص بزيادة مذهبين آخرين. أحدهما: اختصاص التأثير بما يخاف تناميه منه دون ما لا يخاف ذلك فيه. والثاني: اختصاص التأثير بالكثير منه دون اليسير. الفرع الرابع: إذا ظهر بعد مدة حين عقد النكاح على عيب بها، فتداعيا في أنه كان موجوداً حالة العقد، فالبينة على الزوج. فإن لم تكن للزوج بينة، فروى ابن حبيب عن مالك: إن كان الوالي أباً أو أخاً، فعليه اليمين. وإن كان غيرهما، فاليمين عليها، فجعل محل اليمين محل الغرم. النظر الثاني: في حكم الخيار: وإذا فسخ من له الخيار، ووقع الطلاق. فالنظر بعد ذلك في سقوط المهر والرجوع به فيسقط جملة إن كان الفراق قبل المسيس. ويثبت إن كان بعده على التفصيل المتقدم. ثم إن كان العيب بها، فللزوج الرجوع بالصداق جميعه على الولي إن كان قريباً لا يخفى عليه مثل ذلك، كالأب والأخ ونحوهما؛ لأنه الغار، ثم لا رجوع للولي على الزوجة بشيء. وإن كان الولي بعيداً يخفى عليه مثل ذلك كابن عم، أو مولى ونحوه، رجع الزوج على المرأة بالصداق، لأنها هي الغارة، وترك لها ربع دينار لاستباحة فرجها. فروع: الأول (لو كان الولي القريب غائباً عنها غيبة طويلة بحيث يعلم أنه يخفى عليه

خبرها، فقد روى ابن المواز عن ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك أنه لا غرم عليه، وإنما الغرم على المرأة. زاد ابن حبيب عن ابن القاسم: بعد أن يحلف بالله أنه ما علم. وروي عن أشهب: أن ذلك على الولي وإن كان غائباً لا يعلم). وحكى بعض المتأخرين في رجوعه على الزوجة بعد استحلافه للولي على العلم قولين. الفرع الثاني: (إذا كان الولي من ظاهره أنه لا يعلم ما بها من ذلك كابن العم والمولى والرجل من العشيرة، فلا غرم عليه ولا يمين، قاله ابن المواز. وقال ابن حبيب: إن اتهم أنه علم حلف، وإلا فلا شيء عليه، وترد المرأة من الصداق ما أخذته، سوى ربع دينار. قال ابن حبيب: وإنما يرجع إليها العين بالذي دفعه إليها دون الجهاز). الفرع الثالث: إذا [أرجعنا] الزوج على الولي القريب، حيث قلنا: يرجع عليه، فكان فقيراً، ففي رجوعه على المرأة (إذا) كانت موسرة أو أيسرت قبله خلاف ينبني على أن كل واحد منهما غار، أم لا؟ الفرع الرابع: إذا فارق الزوج ثم اطلع على عيب المرأة يوجب الخيار، أو خالعت هي، ثم اطلعت على عيب به يثبت لها الخيار، فلا رجوع على المعيب منهما بما أخذ، ويغرم الزوج الصداق لها إن كان لم يدفعه حتى طلق. ولو مات أحدهما قبل الفراق وعلم العيب توارثا، والصداق لها، قاله مالك في الواضحة وكتاب محمد، ورواه ابن القاسم عنه أيضاً في العتبية.

وقال سحنون: يرجع الزوج على من غره بالصداق، وإن غرته هي رجع عليها. [قال]: وكذلك لو غرها من نفسه بعيب فخالعته ثم علمت، لرجعت عليه بما أعطته. السبب الثاني للخيار: الغرور، وفيه نظران: الأول: في حكم الغرور، وصورته، وثبوت الصداق وسقوطه، فنقول: إذا قال العاقد: زوجتك هذه المرأة المسلمة، فإذا هي كتابية، أو هذه الحرة، فإذا هي أمة، انعقد النكاح، وثبت الخيار للزوج، فإن أمسكها لزمه المسمى، وإن اختار فراقها ففارقها، فلا مهر عليه إن كان الفراق قبل أن يبني بها، وإن كان بعد البناء فلها المسمى، إلا أن يزيد على صداق المثل، فلترد ما زاد. فإن نقص المسمى عن صداق المثل، فقال ابن القاسم في غير الكتاب: ((على الزوج إتمامه)). وقال أشهب: لا شيء عليه فيما نقص عن ذلك، فيكون لها عنده الأقل. وقال غيرهما: ليس لها إلا ربع دينار. فروع: الأول: لو ادعى الزوج الغرور، وأنكره السيد. فقال أشهب: القول قول الزوج. وقال سحنون: القول قول السيد؛ لأن الأب مدع لحرية ولده، وهو ولد أمة. الفرع الثاني: إذا تزوج الحر امرأة، ولم يشترط الحرية فيها، فله الخيار إذا ظهر أنها أمة. قال أصبغ في العتبية: ((ولو أقر الآن أنه نكحها عالماً بأنها أمة، وقد فشا أنها غرته من الحرية، والسماع على ذلك أو الشك، فلا يصدق على ذلك الأب على ما يدفع عن نفسه من غرم قيمة ولده، ويريد من أرقاقهم)). الفرع الثالث: من تزوج نصرانية ولم يعلم، فلا حجة له في ذلك حتى يشترط أنها مسلمة، أو يظهر أنه إنما تزوجها على أنها مسلمة لما كان يسمع منها، فيكون منها الكتمان وإظهار الإسلام، فهذا كالشرط. وأما المسلم يغر النصرانية فيقول لها: إني على دينك، فتزوجته، ثم علمت، فقال

مالك: لها الخيار، لأنه غرها، ومنعها من كثير، من شرب الخمر وغيره. النظر الثاني: في حكم الولد إذا جرى التغرير بالرق، وله أحكام: الأول: أنه إذا غر الحر بحرية أمة فأحبلها، انعقد الولد على الحرية لدخوله على الحرية. وأما العبد فيكون ولده رقيقاً، إذ لابد أن يتبع أحد أبويه، ثم يرجع العبد على من غره بالصداق، ثم لا رجوع للغار عليها، وإن لم يكن غار، رجع عليها بالفضل على صداق مثلها، لحجته أنه رغب في حرية ولده. وهذا إن شرط أنها حرة، أو ظهر وجه علم به أنه عمل على أنها حرة، وإلا فلا يرجع بشيء من الصداق، بخلاف الحر لا يشترط حريتها ثم تبين أنها أمة. وقيل: يكون ولد العبد حراً كولد الحر لشرطه. الثاني: تجب قيمة (الولد) على الزوج لسيد الأمة، لأن الرق في الأم يوجب رق الولد واندفاعه (بظنه)، فهو (المتسبب) في عتقه. وإنما تجب القيمة إذا كان يوم الحكم حياً فتكون عليه قيمته حينئذ. وانفرد المغيرة فقال: يقوم يوم الولادة، فإن مات الولد قبل الحكم، أو وضع ميتاً بغير جناية، فلا قيمة على أبيه، لأنه إنما يدفع القيمة لثبات حريتهم ودفع سيد أمهم. (فأما) إن قتل الولد، فعلى أبيه الأقل من القيمة، أو الدية، لأن الدية عوض العين (الفائتة)، فتكون كقيام العين، وليس له سواها. كذلك إن طرح مجتناً بجناية أوجبت فيه الغرة، فعلى الأب عشر قيمة الأم للسيد، إلا أن يزيد ذلك على ما سلم له بالإرث من الغرة، فلا يلزمه سوى ما سلم له بالإرث (منها). ولو جنى على الولد جناية ذو النفس تزيد ديتها على قيمته لكان الفاضل عن القيمة للولد. الثالث: إذا كان الأب عديماً أخذت القيمة من الولد، وقال غير ابن القاسم: لا يتبع الولد بشيء.

فرأى ابن القاسم أنه كمن تعدى على مال لغيره فوهبه لرجل، وتلفت الهبة، فإن رب المال يرجع على الموهوب بالقيمة إن كان الواهب عديماً. الرابع: لو كانت الأمة يعتق عليه الولد، كالجد مثلاً، لم تجب له قيمة في الولد؛ إذ ليس له فيه شبهة رق يتعلق بها، إذ لو ملكه لعتق عليه، ولا يكون للجد في هذا الولد ولاء، لأنه لم يتقرر فيه رق ثم طرأت عليه الحرية. السبب الثالث للخيار: العتق، وفيه مسائل: الأولى: أنها إن عتقت تحت تحر فلا خيار لها، وإن عتقت تحت عبد فلها الخيار. وإنما يثبت لها الخيار إذا عتق جميعها بتلا، فلو عتق بعضها بتلا، أو جميعها إلى أجل، أو دبرت، أو كوتبت، أو صارت أم ولد لم تختر. الثانية: لو عتقت، ثم عتق الزوج بتلا قبل أن تختار، فلا خيار لها، كما لو عتقا معاً في كلمة واحدة. الثالثة: إذا طلقها الزوج قبل الفسخ طلاقاً رجعياً فلها الخيار، فإن كان بائناً فلا معنى للخيار معه. الرابعة: إذا عتقت قبل المسيس، واختارت الفراق، فلا صداق لها، ويرده السيد إن قبضه، إذ الفسخ من قبلها، فإن كان عديماً حينئذ فهل يسقط خيارها، لأن ثبوته يؤدي إلى إسقاطه وإبطال سببه، أو يثبت الخيار، ثم تباع في الصداق نظراً إلى موجب الأحكام، أو يثبت لها الخيار ولا تباع في الصداق؛ لأنه دين طارئ باختيارها، فلا يرد العتق المتقدم عليه؟ ثلاثة مذاهب. ولها المسمى بعد البناء أقامت أو فارقت، ويتبعها كمالها، إلا أن يكون السيد قبضه أو اشترطه، ولو كان تفويضاً ففرض لها بعد العتق، فهو لها دون السيد لأنه شيء لم يلزم الزوج قبل ذلك إن طلق أو ماتت. الخامسة: إنها حيث ثبت لها الخيار فاختارت الفراق، كان طلاقاً لا فسخاً، كسائر المواضع التي تخير المرأة فيها في الفراق كالتي تخير من أجل عيب زوجها، أو إعساره بالنفقة وشبه ذلك.

ثم محمل اختيارها على طلقة واحدة، فإن قبضت بأكثر منها، ففي لزوم ما قضت به أو الاقتصار على الواحدة دون الزائد روايتان. قال الشيخ أبو محمد: ((رجع مالك إلى إلزام جميع ما قضت به لحديث زبراء)). وحيث قلنا بالرواية الأخرى، أو اقتصرت على واحدة، فهي بائنة قاله في الكتاب. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: له الرجعة إن عتق في العدة. فرع: إذا ثبرت لها الخيار في حال الحيض أمرت بالتأخير إلى زمن طهرها، فإذا طهرت أوقعت إن شاءت. ويترتب على هذا الفرع فرعان: الأول: إذا وقفت عن الاختيار انتظاراً للطهر فعتق الزوج قبل أن تطهر، (فقال ابن القاسم في العتبية: ((هي على خيارها)). قال أبو الحسن اللخمي: ((وفي هذا نصر، والصواب أن لا خيار لها، لأنها زوجة بعد حين أعتق)). الفرع الثاني: أنها لو بادرت فاختارت وهي حائض، فأما على القول بأن طلقة بائنة، فيمضي الطلاق. قال بعض المتأخرين: ((وأما على القول بأنها رجعية، فينبغي أن لا يمضي، لأن حكم الرجعية أن يجبر الزوج. وتردد أبو الحسن اللخمي في هذا، لأن الطلاق ليس بيد الزوج، وإنما هو حق عليه فيشكل صحة رجعته، أو جبره عليها)).

المسألة السادسة: أنه حيث ثبت لها الخيار فيسقط بأن تصرح بإسقاطه، أو تفعل ما يدل على ذلك من التمكين من الوطء، أو ما في معناه، هذا إذا مكنت عالمة بالعتق والحكم، فإن مكنت جاهلة بالعتق، فلها القيام بلا خلاف. وإن كانت جاهلة بالحكم خاصة فالمشهور سقوط خيارها. والشاذ ثبوته. قال بعض المتأخرين: ((وهو الصحيح))، قال: ((وقد علل القاضي أبو الحسن سقوط الخيار باشتهار الحكم (في المدينة) حتى لم يخف عن أمة))، قال: ((وعلى ذلك تكلم مالك، وإلا فإذا أمكن أن تكون جاهلة، فتمكينها لا يسقط ما وجب لها من الخيار)). فروع: الأول: إذا أعتقت وهو غائب، فاختارت نفسها، فثبت أنه عتق قبل أن تختار، بطل اختيارها، ولو تزوجت فهل يكون تزويجها مفيتاً؟ أجراه بعض المتأخرين على ثلاثة أقوال: قال: كحكم المفقود تتزوج زوجته ثم يقدم. الفرع الثاني: في التداعي بينهما. فإذا اختلفا في المسيس، فإن أنكرت الخلوة، كان القول قولها مع يمينها، إن اعترفت بالخلوة كان القول قوله مع يمينه. وإن تصادقا على المسيس واختلفا هل كان بطوعها أو كانت مكرهة، كان القول قوله. وإن تصادقا على المسيس والطوع واختلفا هل علمت بالعتق؟ كان القول قولها، قال محمد: بغير يمين. الفرع الثالث: إذا عتقت قبل الدخول، فلم تعلم حتى بنى بها، فلها الأكثر من المسمى، أو صداق المثل على أنها حرة. وإن كان العقد فاسداً، كان لها صداق حرة، قولاً واحداً، وإن كان العقد صحيحاً وعلمت بالعتق وبالحكم ثم بنى بها، لم يكن لها إلا المسمى.

القسم الخامس من الكتاب في فصول متفرقة شذت عن الضوابط

القسم الخامس من الكتاب في فصول متفرقة شذت عن الضوابط، وهي سبعة: الفصل الأول: فيما يحل للزوج ويحل له كل استمتاع إلا الإتيان في الدبر. قال الأستاذ أبو بكر: ليس تحليله بمذهب لنا، بل هو حرام. ثم ذكر ما يحكى من نسبته إلى مالك رضي الله عنه في كتاب نسب إلى مالك يسمى بكتاب السر، ثم أبطل نسبه القول والكتاب المذكور إليه، وقد تقدم إبطال نسبة هذا الكتاب الذي يسمى بكتاب السر إلى مالك رضي الله عنه في كتاب الطهارة من هذا الكتاب بما أغنى عن إعادته. بل قد نص مالك رضوان الله عليه على تكذيب من نسب هذا القول إليه، فروى يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أنه قال: سألت مالك بن أنس، فقلت: إنهم قد حكوا عنك أنك ترى إتيان النساء في أدبارهن، فقال: معاذ الله، أليس أنتم قوماً عرباً؟ فقلت: بلى، فقال: قال الله جل ذكره: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إنى شئتم}، وهل يكون الحرث إلا في موضع الزرع، أو موضع المنبت. وكذلك روى الدارقطني عن رجاله عن إسرائيل بن روح أنه قال: سألت مالكاً فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: أما أنتم عرب؟ هل يكون الحرث إلا في موضع الزرع؟ ألا تسمعون الله يقول: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إنى شئتم}. قائمة وقاعدة على جنبها، لا يعدى الفرج. قلت: يا أبا عبد الله إنهم يقولون: إنك تقول بذلك، قال: يكذبون علي، يكذبون علي، يكذبون علي. وروى الدارقطني أيضاً عن رجاله عن محمد بن عثمان أنه قال: حضرت مالكاً وعلي بن زياد يسأله فقال: عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يحدثون عنك أنك تجيز الوطء في الدبر؟ فقال: كذبوا علي عافك الله.

الفصل الثاني: في وطء جارية الابن

فهذا مالك رضوان الله عليه قد صرح بكذب الناقل عنه في ثلاث روايات، فكيف تحل نسبته إليه بعد ذلك؟ ولا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا في الأمة الزوجة إلا بإذن أهلها، ولا يعتبر إذنها، ولا خلاف في جوازه بالسرية من غير إذنها. ثم الإتيان في الدبر في معنى الوطء في كثير من الأحكام كإفساد العبادات، ووجوب الغسل من الجانبين، ووجوب الكفارة والحد، ووجوب العدة، وحرمة المصاهرة، ولا يتعلق به التحليل ولا الإحصان، واختلف في تكميل الصداق به. الفصل الثاني: في وطء جارية الابن وهو حرام، لكن له في مال ابنه شبهة وجوب الإنفاق وفاقاً، ووجوب الإعفاف على قول كما سيأتي، فيسقط الحد، وتحرم على الابن بالمصاهرة، ويثبت النسب، وينعقد الولد على الحرية، وتصير مستولدة له، بل ينتقل الملك إليه بمجرد الوطء، وتثبت القيمة للولد من غير خيار له في ذلك. وقال عبد الملك وابن عبد الحكم: للابن التماسك في عسر الأب ويسره ما لم تحمل، إذا كان الابن مأموناً على غيبته عليها، ولا يسقط الأرش، فإن كانت الجارية موطوءة للابن ملكها الأب بالاستيلاد، ولكن يحرم عليه وطؤها لوطء الابن لها، فتعتق عليه لتحريم الوطء. الفصل الثالث: في إعفاف الأب والنص من صاحب المذهب على عدم الوجوب. وحكى بعض المتأخرين: أن أحد قولي الأصحاب الوجوب، فإن فرعنا عليه وجب على الابن أن يعف أباه الفاقد للمهر، المحتاج إلى النكاح.

الفصل الرابع: في تزويج الإماء

الفصل الرابع: في تزويج الإماء وحكمه في الاستخدام والنفقة والمهر أما الاستخدام فلا يبطل بالتزويج، ولكن يحرم الاستمتاع، فللسيد أن يستخدمها ويأتيها زوجها عنده، وليس على السيد أن يبوئها معه بيتاً، إلا أن يشترط ذلك، فإن تشاحا، ولم يكن بينهما شرط، حملا على (العرف) في ذلك. وقال ابن الماجشون: ترسل إليه ليلة بعد ثلاث، ويأتيها هو فيما بين ذلك عند أهلها. وللسيد المسافرة بها، ولا يمنع الزوج من الخروج ليصحبها. واختلفت الرواية في إلزامه نفقتها، فروي أنها تلزمه. وروي أنها لا تلزمه. وروي تخصيص إلزامه بأن تبوأ معه بيتاً. وروي تخصيصه بكونها تبيت عنده وإن كانت نهاراً عند أهلها. وقال عبد الملك: ينفق عليها حين يأتيه، ولا نفقة عليه حين تكون عند أهلها. واستحب مالك أن لا ينكح العبد حتى تشترط النفقة عليه بإذن سيده. وحيث قلنا بلزوم النفقة للزوج، فمهما سافر بها السيد سقطت نفقتها. والمهر للأمة مال من مالها ما لم ينتزعه السيد. ولو قتلها السيد لم يسقط المهر، وكذلك لو قتلها أجنبي أو ماتت. وكذلك الحرة لو ماتت، أو قتلها أجنبي، أو قتلت هي نفسها، فلا يسقط المهر بشيء من ذلك. قال محمد: وقال فيمن زوج أمته بمائة دينار، ثم قتلها السيد قبل أن يبني بها الزوج: إن له أن يأخذ من الزوج المائة، ويضرب السيد مائة ويحبس عاماً. وإذا باع السيد الأمة لم ينفسخ النكاح، وسلم المهر للبائع كسائر مالها، إلا أن يشترطه المبتاع. وحيث لم يشترطه فليس للبائع حبسها لأجل تسليم الصاداق؛ إذ لم يبق له فيها تصرف، ولا للمشتري أيضاً حبسها بذلك، إذ لا مهر [لها] فيستفيد الزوج بالبيع سقوط حق السيد من منع تسليم الزوجة. ولو زوج أمته من عبده، فلابد من مهر ولو أقله. ولو قال لأمته: أعتقك على أن تنكحيني، لم يلزمها الوفاء. ولو أتلف امرأة عبداً على رجل فنكحها بالقيمة المجهولة، فسخ نكاحه قبل الدخول، وفي فسخه بعده خلاف. ولو قالت السيدة لعبدها: أعتقتك على أن تنكحني، عتق، ولم يلزمه أن ينكحها.

الفصل الخامس: في تزويج العبد

الفصل الخامس: في تزويج العبد ولا ينكح إلا بإذن سيده، فإن عقد من غير إذنه صح، ثم للسيد أن يطلق عليه، بخلاف الأمة توكل من يعقد عليها من غير إذن أهلها، فإن عقدها باطل، ولا يصح بإجازتهم له. وروي أن للسيد فسخه وتركه كنكاح العبد، وهي شاذة. والمهر والنفقة لا زمان له، ومتعلقان بما يتحصل في يده مما ليس من خراجه، ولا من كسبه. ولا يكون السيد ضامناً للمهر بمجرد الإذن في عقد النكاح. فرع: إذا ملكت الحرة زوجها قبل المسيس سقط المهر جميعه، فإن اشترته بالصداق الذي ضمنه السيد، فإن ظهر قصد السيد بذلك إلى إفساد النكاح لم يصح هذا الفعل وإن لم يظهر قصده إلى ذلك وانفسخ النكاح، وبقي ملكاً لها، إن كان دخل بها، وإن لم يكن دخل بها عاد إلى ملك سيده. الفصل السادس: في النزاع ودعوى الزوجية صحيح من الزوجين، ولا يمين على المنكر منهما؛ إذ لا يقضي عليه بنكوله، ولو أتى أحدهما بشاهد واحد، ففي تعلق اليمين بالآخر لأجل الشاهد خلاف. ثم إن نكلت المرأة لم يثبت النكاح، لا تحبس، وإن نكل الزوج غرم الصداق. (وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن ((ادعى على امرأة أنها زوجته، فأنكرت، فلا تؤمر بانتظاره، إلا أن يدعي بينة قريبة لا يضر بالمرأة، ويرى الإمام لما ادعى وجهاً، فإن أعجزه، ثم (جاء) ببينة بعد ذلك وقد نكحت أو لم تنكح، قال: قد مضى الحكم. قال في كتاب محمد: ((ومن ادعي نكاح ذات زوج أنه تزوجها قبله، وأتى بشاهد، فليعزل عنها الزوج ليأتي هذا بشاهد آخر إن ادعى أمراً قريباً، فإن لم يصح له شاهد لم يلزم واحداً من الزوجين يمين)).

(قال أصبغ: قال أشهب: من أقام بينة أن هذه امرأته (فأنكرته)، وأقامت بينة أن فلاناً زوجها، وفلان منكر، ولم يؤقنا تاريخاً، وهم عدول، قال: لا [أنظر] إلى التكافؤ في العدالة، وأفسخ النكاحين. وقاله أصبغ ما لم يقع الدخول بأحدهما. قال محمد: وذلك أنه أقرت له المرأة وهو منكر. وقال أصبغ في الواضحة عن أشهب: فإن دخل بها أحدهما قبل الفسخ كانت زوجته، وقيل للآخر: أقم البينة أنك الأول. قال أشهب: ((ومن أقام بينة أنه تزوج فلانة، وهي تنكر، وأقامت أختها البينة أن هذا الرجل تزوجها وهو منكر، ولم يوقنوا، فإن النكاحين يفسخان، ولا ينظر إلى التكافؤ. قال: وكذلك لو شهدت كل بينة قبل البناء (لفسخا)، ولهما الصداق)). قال محمد: وهذا لإنكاره نكاح الأخرى، ولو كان مقراً، ويدعي أنها الأخيرة (لقبلت) قوله، لأن البينة لا تكذبه، ولا ينفع التي تزعم أنها الأولى جحودها، لأن البينة أثبتت نكاحها، قال: وهذا تقوية للمسألة الأولى حين ذكر عنه أنه جعل الإقرار كالإنكار)). وفي العتبية: ((من زوج ابنته البكر، لا ولد له غيرها، ثم مات، فأنكرت أن تكون ابنته، وقالت: كنت يتيمة عنده، ولا بينة للزوج على عينها إلا سماعاً أنه زوجه ابنته، ولا تثبتها البينة، أو لها إخوة غير عدول شهدوا عليها، وكيف إن رجعت عن ذلك؟ قال: لا يلتفت إلى قولها، وقول الأب عليها جائز، ونسبها لاحق، وميراثها واجب، والنكاح لها لازم)).

قال في كتاب ابن المواز: ومن زوج وليته قال: وهي أمرتني، فأنكرت، فلتحلف: ما أمرت ولا رضيت، ويسقط عنها النكاح. فرع: (روى ابن القاسم في كتاب محمد: قال مالك في المرأة البكر لا تعرف فلتكشف لمن يشهد على رؤيتها إذا زوجها وليها. قال محمد: وعلى قولها إن كانت ثيباً، وعلى صمتها إن كانت بكراً، ثم تزوج تلك التي عاينوا، أو شهدوا على عينها. قال ابن القاسم في العتبية: ((قال مالك) وإن لم يعرفها الشاهدان)). وإذا ادعت المرأة النكاح على ميت، وأقامت شاهداً واحداً، فقال ابن القاسم: ((تحلف معه وترث. ووقف عن ذلك أصبغ. وقال أشهب: ((لا ترث حتى يصح النكاح)). وقاله ابن القاسم أيضاً. وسبب الخلاف: أنها شهادة على ما ليس بمال تؤدي إلى مال. ولو أقر الزوج في صحته بزوجة، ثم مات، ورثته بذلك الإقرار إن كان طارئاً. وفي إرثها له بذلك إن لم يكن طارئاً خلاف، إلا أن يكون معها ولد اقر أنه ولده، فإنه يلحق به وترثه هي حينئذ. وكذلك لو أقر بوارث غير الزوجة لجرى الخلاف فيه. وسببه فيهما،. هل الإقرار بهما كالإقرار بالمال أم لا؟

وإقرار أبي الصبي وأبي الصبية بالنكاح بينهما مقبول عليهما، ملزم لهما العقد، كإقرارهما بعد البلوغ على أنفسهما. ومن اختصر فقال: لي امرأة بمكة، سماها، ثم مات، فطلبت ميراثها منه فذلك لها. وكذلك لو قالت امرأة: زوجي فلان بمكة، فأتى بعد موتها، ورثها بإقرارها ذلك. وإذا قال رجل لامرأة: ألم أتزوجك أمس؟ فقالت: بلى، ثم جحد الزوج، فهذا إقرار. ولو قال لها: قد تزوجتك أمس، أو قال: أليس قد تزوجتك أمس؟ أو قال: أو ما تزوجتك أمس؟ فقالت: بلى، ثم جحد الزوج، فهذا إقرار، ولو قال لها: قد تزوجتك، فأنكرت، ثم قالت: بلى، قد تزوجتني، فقال هو: ما تزوجتك، فلا يلزمه النكاح بهذا. ولو قالت امرأة لرجل: قد طلقتني، أو قد خالعتني، وهما طارئان، (فهو) إقرار منها بالزوجية. وكذلك لو قال الزوج: اختلعت مني، أو قالت هي: (طلقتني)، فقال ابن عبد الحكم: أو قالت له: خالعني، أو راجعني من طلاقك إياي، أو قد طلقتني اليوم، فهذا إقرار منها بأنها زوجته. قال ابن سحنون: وإن قال لها: اختاري، أو أمرك بيدك في الطلاق، فهو إقرار النكاح. وإن قال لها: أنت حرام، أو بائنة، أو بتة، فليس بإقرار بالنكاح، لأن الأجنبية عليه حرام، إلا أن تسأله الطلاق، فيجيبها بهذا، (فهو) إقرار النكاح في إجماعنا. قال: وكذلك لو قال لها: أنا منك مظاهر، بخلاف قوله: أنت علي كظهر أمي. وإذا ادعى رجلان نكاح امرأة، وأقام كل واحد منهما البينة على أنه نكحها، ولم يعلم الأول منهما، والمرأة مقرة بأحدهما أو بهما، أو منكرة لهما، فإن عدلت البينتان فسخ النكاح، وكانت طلقة، ونكحت من أحبت منهما، أو من غيرهما. قال محمد: أما قوله: أفسخه بطلقة، فإني لا ألزم ذلك من تزوجته الآن منهما، ولكن ألزم الذي لم تنكحه متى ما نكحها طلقة، قال: لأن من نكحته الآن إن كان هو الأول فهي امرأته بحالها، ولكن أحب إلي أن يأتنفا نكاحاً غبي من أمره. وإن كان هو الآخر فلم تكن له قط زوجة، ولو نكحت غيرهما للزمهما طلقة طلقة. قال ابن القاسم: ويقضي بالعادلة منهما إن كانت واحدة، ولا يقضي بأعدلهما بخلاف البيوع.

الفصل السابع: في تمييز ما يفسخ من الأنكحة بطلاق، عما يفسخ بغير طلاق

وقال سحنون وأبو إسحاق البرقي: إنه يقضي فيه بالأعدل كالبيع، وهو اختيار أبي محمد عبد الحق. الفصل السابع: في تمييز ما يفسخ من الأنكحة بطلاق، عما يفسخ بغير طلاق قال الشيخ أبو محمد: ((آخر قول ابن القاسم لرواية بلغته عن مالك: أن كل ما نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه لا يختلف فيه، فإنه يفسخ بغير طلاق. وكل ما اختلف الناس في إجازته ورده، فالفسخ فيه بطلاق. قال: وأول قوله، والذي عليه أكثر الرواة، أن كل نكاح للولي أو لأحد الزوجين أو لغيرهما إمضاؤه وله فسخه، فإن فسخه له بطلاق، وكل ما كانا مغلوبين على فسخه، وما فسخ قبل البناء وبعده، فإنه يفسخ بغير طلاق)). ثم تمييز ما يفسخ قبل البناء خاصة عن ما يفسخ قبله وبعده يعرف مما ننبه عليه، وذلك أن النكاح الذي ينظر في فسخه على ضربين: الأول: ما لا يختلف في فساده ومنع المقام عليه، فهذا يفسخ قبل وبعد. الضرب الثاني: ما وقع فيه خلل اقتضى فسخه، وهذا الضرب هو الذي يتنوع فسخه، فيكون قبل وبعد، ويكون قبل خاصة، فنقول في تنويعه: الخلل الواقع في النكاح يكون على وجهين. أحدهما: يرجع إلى العقد، فهذا لا خلاف أن ما وقع عليه يفسخ قبل الدخول، وفي فسخه بعده خلاف، وهذا كنكاح المريض والمحرم، ونحو ذلك. الوجه الثاني: يرجع إلى الصداق، وهذا فيه ثلاثة أقوال: الفسخ قبل الدخول وبعده، وترك الفسخ فيهما، وهما شاذان، والتفرقة، وهو المشهور، فيفسخ قبل، ويثبت بعد.

كتاب الصداق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً] كتاب الصداق وفيه خمسة أبواب: الباب الأول: في حكم الصداق الصحيح، في الضمان والتسليم والتقرير الأول: حكم الضمان وهو مضمون في يد الزوج، إن كان مما فيه حق توفية، وإن لم يكن فيه حق توفية فلا ضمان فيه. وحكمه في التلف و (التعيب) وفوات المنافع و (تفويتها) حكم المبيع قبل القبض؛ إذ الصداق عوض، ولذلك يؤخذ بالشفعة، ويفسد العقد بفساده في بعض الصور، ولا يجوز بمجهول ولا بما فيه غرر، إلا أن يخف الغرر فيغتفر، كما أجزنا النكاح على شورة بيت، أو خادم من غير وصف، أو على عدد من الإبل والغنم من غير وصف، فيكون لها من الشورة المعروفة بأمثالها الوسط، ومن الخدم الوسط حالاً، جميع ذلك إن لم يكن ضرب له أجلاً، ومن الإبل والغنم الوسط من الأسنان. ويصح النكاح في الجميع، ويؤخذ ما ذكرناه؛ إذ ليس المقصود من النكاح المغابنة والمكايسة كما في البيع، بل المقصود المكارمة والمحاسنة والألفة، فجاز في النكاح من ذلك ما لم يجز في البيع. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يجوز إلا على معلوم مقدر. الحكم الثاني: التسليم. قال ابن القاسم: ((للزوجة منع نفسها حتى تقبض صداقها، إن كانا بالغين. ولها أخذه

بعد تمام العقدة إن نكحها على النقد نكاح الناس. وإن نكح بنقد وأجل، فإن دفع النقد كان له البناء، فإن لم يجد تلوم له الإمام، وضرب له أجلاً بعد أجل، فإن لم يقدر فرق بينهما)). وإن أجرى النفقة إذا طلبت ذلك المرأة، وتسليم المرأة نفسها، موجب لتسليم الصداق إذا كانت مهيأة للاستمتاع، فإن كانت محبوسة أو ممنوعة لعذر آخر لم يلزم تسليم الصداق. وكذلك إن كانت صغيرة، إلا أن يكون الصداق معيناً كدار أو عبد ونحوهما، فلها أو لوليها طلب تعجيله، وإن لم تؤخذ بتعجيل الدخول، لأن ضمان ما كان بعينه منها. ثم إذا بادرت وسلمت، فلها طلب الصداق، وإن لم يطأها، نعم لو رجعت إلى الامتناع سقط طلبها، إلا إذا وطئها، فإن المهر يستقر بوطئها مرة واحدة، وليس لها بعد الوطء حبس نفسها لأجل الصداق؛ إذ أبطلت حقها بالتمكين من الوطء مرة واحدة. وكذلك إذا بادر الزوج فسلم الصداق، لزمها تسليم نفسها، لكن عليه أن يمهلها ريثما تستعد وتهيئ أمورها، ويعرف مقدار ذلك في حقها بجريان العادة في مثلها، ولا تمهل لأجل الحيض فإن له الاستمتاع بما فوق الإزار، فإن كانت صغيرة لا تطيق الجماع أو مريضة فليمهلها. فرع: قال أشهب فيمن ((نكح وشرط ألا يدخل إلى خمس سنين، قال: بئس ما صنعوا، والنكاح جائز، والشرط باطل، ويدخل متى شاء))، ورواه ابن وهب. وروى ابن القاسم فيمن شرط عليه أن لا يدخل إلى سنة، فإن كان لتغربه بها وظعنه، وهم يريدون أن يستمعوا منها، وكان ذلك لصغرها، وشبه ذلك، فذلك عذر، وإلا فالشرط باطل. قال أصبغ: وما ذلك بالقوي إذا احتملت الوطء. الحكم الثالث: التقرير فلا يتقرر شيء من الصداق بالعقد على المشهور من المذهب. وحكى بعض المتأخرين قولين آخرين: أحدهما: أنه يستقر نصفه بالعقد والطلاق، وغيره طارئ عليه. والثاني: أنه يستقر جميعه بالعقد، واستقرأه من قول الغير في الكتاب أن الغلة للمرأة كانت في يدها أو في يد الزوج، لأن الملك ملكها قد استوفته. وإذا فرعنا على المشهور، فإنما يتقرر كمال المهر بالوطء أو موت أحد الزوجين. أما الخلوة بمجردها فلا تقرر، إلا أن يطول المقام، فيتقرر الكمال على أحد القولين، لأن الجهاز

الباب الثاني: في الصداق الفاسد

قد تغير، واللذة قد حصلت ودامت، ثم اختلف قائلوا هذا في ضبط مدة الطول، فقيل: سنة، وقيل: ما يعد طولاً في العادة. ثم حيث قلنا: إن الخلوة بمجردها لا تقرر، فإنها تؤثر في جعل القول قولها في بعض الصور إذا تنازعا في الوطء لأجل التقرير، كما إذا خلا بها خلوة البناء، فالمذهب أن القول قولها، وقيل: إن كانت بكراً نظر إليها النساء. (فأما خلوة الزيادة، فقيل: القول قولها أيضاً. رواه ابن وهب، وقال به هو وأشهب وأصبغ. قال الشيخ أبو محمد: ((وهو أشبه بحديث عمر، سواء جمعتهما بإغلاق باب، أو إرخاء ستر، أو غيره، إلا أنها خلوة بينة. وقيل: القول قوله)). وفرق في المشهور، فجعل القول قول الزائر منهما جرياً على مقتضى العادة، وهو قول مالك وابن القاسم، فإن تصادقا على نفي الوطء، لم يكن لها عند الجميع إلا نصف الصداق، ثم يقبل قولها في نفي الوطء، وإن كانت مولى عليها بكراً، صغيرة كانت أو بالغة، أمة أو حرة، مسلمة أو كتابية، أو كانت يتيمة، فالقول قولها، لها وعليها، وكذلك فيما يفسخ من النكاح، لأن هذا مما لا يعرف إلا بقولين). الباب الثاني: في الصداق الفاسد، ولفساده ستة مدارك: الأول: أن يكون مما لا يجوز بيعه، لتحريم عينه، أو لغرره، كالخمر، والخنزير، والآبق، والشارد. فإذا عقد بذلك فسخ النكاح قبل الدخول، وثبت بعده على المشهور. وهل فسخه على الاستحباب أو الوجوب، قولان. وروي أنه يفسخ بعد الدخول أيضاً، وهو مبني على تعدي فساد الصداق إلى فساد العقد، فإذا فسد وجب فسخه قبل الدخول وبعده. فأما المشهور فهو مبني على قصر الفساد على الصداق، وعدم تعديه إلى العقد، والحكم بصحة النكاح، إلا أنه يفسخ قبل الدخول لا لفساد العقد الذي هو سبب الاستباحة والتناول، بل لفقدان شرطها ووجود مانعها، فيفسخ العقد ليستأنف عقده بعوض صحيح مقترن به، أو ليحصل العقد عارياً عن اقتران مانع الاستباحة. والأصل في هذا قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم}. فأما إذا حصل الدخول فقد ثبت

الصداف الصحيح، أعني صداق المثل، وبطل الفاسد، فوجد الشرط، وانتفى المانع، فلا يفسخ العقد حينئذ، وصار ذلك كزوال العيب الموجب لرد البيع قبل القيام به. فرع: من نكح بمغصوب فسخ قبل الدخول، وثبت بعده، ولها صداق المثل، رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن كنانة. وقال ابن القاسم: لا يفسخ بحال وإن تعمد ذلك، بل يجب عليه غرم المثل إن كان مثلياً، أو القيمة إن لم يكن مثلياً. وقيل: بل يغرم المثل أيضاً. وقيل: يغرم صداق المثل. وهذه الأقوال الثلاثة جارية أيضاً فيما إذا أصدقها معيباً فاختارت رده. المدرك الثاني: أن يكون الصداق على منافع الزوج، مثل أن يخدمها مدة معلومة، أو يعلمها القرآن، أو شيئاً منه، وشبه ذلك، فمنعه مالك، وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد. وأجازه أصبغ. فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وروى عنه يحيى: أنه إذا لم يكن مع المنافع صداق (فسخ) قبل البناء، وثبت بعده، ويكون لها صداق مثلها، وتسقط الخدمة، فإن كان خدم رجع عليها بقيمة الخدمة. وكذلك روى عنه يحيى أيضاً في نكاحها على إحجاجها، أنه يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده، ويجب صداق المثل، إلا أن يكون مع الحجة غيرها فيجوز. قال ابن حبيب: وليس يعجبني، ولا رأيت أصبغ وغيره من أصحاب مالك يعجبهم، ورأيتهم يرونه جائزاً، لأن ذلك يرجع إلى حجة مثلها في النفقة والكراء والمصلحة، مثل نكاح المرأة على شورة مثلها، أو على صداق مثلها، أن ذلك كله جائز، ويرجع ذلك إى الوسط من صداق مثلها. قال ابن حبيب: وأمنعه من الدخول حتى يحجها أو يعطيها مقدار ما يشبه مثلها من النفقة والمصلحة، والنوائب، في بعد سفرها أو قربه، فتكون قد قبضت صداقها، فإن شاءت حجت به، وإن شاءت تركته. قال فضل بن سلمة في قوله: أو يعطيها مقدار ما يشبه مثلها من النفقة والمصلحة هو قول مالك وخلاف مذهب ابن القاسم. قال أبو الحسن اللخمي: ((والقول بجواز)) جميع ذلك أحسن، والإجارة والحج كغيرهما من الأموال التي تتملك وتباع وتشتري، وإنما كره ذلك مالك، لأنه يستحب أن يكون

الصداق معجلاً، والإجارة والحج في معنى المؤجل، وأجازه أشهب في كتاب محمد، وإن لم يضربا أجلاً)). قال: ((وكل من تزوج بشيء فهو حال، فإذا حل زمن الحج، وجب ذلك عليه)). ((ثم حيث (أمضيناه) إذا كان معه شيء غيره، فاختلف في بنائه بها قبل أن يحجها، فمنعه ابن القاسم إلا أن يقدم ربع دينار. وقول أشهب: أن له أن يبني بها ويجبرها على ذلك لأنه قال: ذلك بمنزلة من تزوج بمائة دينار إلى سنة، فله أن يبني بها)). قال: ((يريد ويجبرها على البناء، فإذا أتى أوان الحج حج بها، إلا أن يأتي أوان الحج قبل أن يبني بها، فلا يكون له أن يبني بها حتى يحجها، كالدين يحل قبل البناء، فتمنعه نفسها حتى يدفع ذلك إليها)). المدرك الثالث: الشرط. وما فسخ النكاح من أجله من الشروط، فسد الصداق به تبعاً له. ولنذكر أقسام الشروط وأحكامها، وما يفسخ النكاح لأجله منها، فنقول: الشروط ثلاثة أنواع. الأول: ما يقتضيه عقد النكاح لو لم يذكر، كشرطه أن ينفق عليها، أو يبيت عندها، أو لا يؤثر عليها، ونحو ذلك، وهذا وجوده وعدمه سيان، ولا يوقع في العقد خللاً، ولا يكره اشتراطه، ويحكم به إن ترك أو ذكر. النوع الثاني: عكس هذا، وهو أن يكون مناقضاً لمقتضى العقد، كشرطه أن لا يقسم لها ونحوه، وهذا النوع ممنوع، وإن اشترط أدى إلى القدح في النكاح، وفسخ قبل الدخول. واختلف في فسخه بعده على ما تقدم. النوع الثالث: ما لا تعلق له بالعقد، فلا يقتضيه ولا ينفيه، وهذا كشرطه أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرر، أو لا يخرجها من بيتها، أو (من) بلدها، وهذا النوع مكروه، لكن لا يفسد النكاح، ولا يقتضي فسخه، بعد الدخول ولا قبله. وفيه قال في كتاب محمد: وكره مالك عقد النكاح على شيء من الشروط. وقال: لقد أشرت على القاضي أن ينهي الناس عن ذلك، وأن لا يزوج الرجل إلا على دينه وأمانته، وكره ما (يؤكد) من الإيمان فيها. قال: وكل شرط وإن كان في العقد فلا يلزم، إلا ما كان فيه تمليك أو يمين.

فرع: إذا شرط شيئاً من النوع الثالث ثم خالفه، فإن لم يكن علقه بيمين ولا تمليك، ولا وضعت لأجله شيئاً من صداقها، فله مخالفة الشرط بفعل ما شرط أن لا يفعله، وترك ما شرط فعله. وإن كان علق الشرط بيمين أو تمليك لزمه ذلك. وإن كانت وضعت له شيئاً من صداقها لأجله، فإن كانت عينت مهراً ثم أسقطت بعضه للشرط رجعت به، وإن كانت إنما خففت في المهر لأجل الشرط قبل التعيين، فقيل: ترجع بما تركته. وفي الكتاب لا ترجع. وقال علي بن زياد: ترجع إن كان ما وضعته من صداق المثل دون أن يكون من الزائد. ورواه ابن نافع. ولو كان الشرط إنما يعود بالفساد في الصداق كجعله إلى موت أو فراق ونحوع، لجرى على الخلاف المتقدم في تعميم حكم الفسخ أو تخصيصه أو نفيه. ولو شرط الأجل في الصداق، فقال عبد الملك: كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخراً، وكان مالك يقول: إنما الصداق فيما مضى ناجز كله، فإن وقع منه شيء مؤخر، فلا أحب أن يطول الأجل في ذلك. قال فضل بن سلمة: ذكر ابن المواز عن ابن القاسم في تأخير الأجل إلى السنتين والأربع. وذكر عن ابن وهب إلى السنة. ثم حكى عن ابن وهب أنه قال: لا يفسخ النكاح إلا أن يزيد الأجل إلى أكثر من العشرين. وحكى عن ابن القاسم أنه يفسخه إلى الأربعين فما فوق، ثم حكى أنه إنما يفسخه إلبى الخمسين والستين. قال فضل بن سلمة: لأنهم قالوا: إن الأجل الطول مثل ما لو تزوجها إلى موت أو فراق. قال عبد الملك: وقد أخبرني أصبغ أنه شهد ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك، فقالب ابن وهب: رأيي فيه العشر فدون، وما جاوز ذلك فمفسوخ، فقال له ابن القاسم: وأنا معك على هذا. فأقام ابن وهب على رأيه، ورجع ابن القاسم فقال: لا أفسخه أنا إلى الأربعين، وأفسخه فيما فوق ذلك. قال أصبغ: وبه أخذ، ولا أحب ذلك بدءاً إلى العشر ونحوها، وقد شهدت أشهب زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى إثنتي عشرة سنة. قال عبد الملك: وما قصر من الأجل فهو أفضل، وإن بعد لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيراً جداً. قال عبد الملك: وإن كان بعض الصداق مؤخراً إلى غير أجل، فإن مالكاً يفسخه قبل البناء، ويمضيه بعده.

وترد المرأة إلى صداق مثلها معجلاً كله، إلا أن يكون صداق مثلها أقل من المعجل فلا ينقص منه، أو أكثر من المعجل والمؤجل، فتوفي تمام ذلك، إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخر معجلاً كله مع النقد منه، فيمضي النكاح، فلا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده، ولا ترد المرأة إلى صداق مثلها، فإن كره الناكح أن يجعله معجلاً كله، ورضيت المرأة أن تسقط المؤخر، وتقتصر على النقد مضى النكاح، ولا كلام للناكح، هكذا أخبرني مطرف عن مالك. وقاله ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأضبغ. وقاله ابن القاسم، إلا في وجه واحد، إذا ردت المرأة بعد البناء إلى صداق مثلها، فوجد صداق مثلها أكثر من المعجل والمؤخر، فإن ابن القاسم قال: كما لا ينقص إذا قل صداق مثلها من مقدار المعجل، (كذلك) لا [يزاد] إذا ارتفع على مقدار المعجل والمؤخر. وأخذ به ابن عبد الحكم وأصبغ. قال ابن الماجشون: ولو أصدقها ثلاث مائة دينار، مائة معجلة، ومائة مؤجلة إلى أجل مسمى، ومائة إلى ميسرته، ففات النكاح بالبناء فرددتها إلى صداق مثلها معجلاً، فكان مائة فقط، أو أدنى من مائة، أو خسمين ومائة. أو أكثر، إلى أن يبلغ مائتين لم أنقصها من مائتين المائة المعجلة التي قبضت، وأقر لها المائة المؤجلة إلى أجلها، وأسقط المائة إلى ميسرته. ولو كان صداق مثلها أكثر من مائتين كان ما زاد على المائتين ثمناً للمائة الفاسدة فجعلناه لها مع المائة المعجلة، وأقرت المائة الآجلة إلى الأجل المسمى بحالها، ولا أجعلها حالة عليه، لأن الفساد لم يكن فيها، ولا من أجلها. قال ابن الماجشون: وسواء في هذه المسألة كان المؤخر إلى غير أجل مؤقت، أو إلى موت، أو فراق، أو إلى ميسرته، أو إلى أن تطلبه المرأة، وهو ملي أو معدم، النكاح به مفسوخ قبل البناء، ومردود إلى صداق مثلها بعد البناء، إلا أن يرضى الزوج بتعجيله، أو ترضى المرأة بوضعه، فيجوز. ولأنه إن كان إلى أن تطلبه المرأة أو إلى ميسرته وهو ملي، قد نحا به ناحية الأجل، قال: وكلمت به أصبغ فقال: كان ابن القاسم يجيزه إذا كان الزوج ملياً، ويراه حالاً، وليس يعجبني. قال فضل بن سلمة: كان ابن القاسم يجعله مثل بيع التقاضي. قال عبد الملك: وقولي فيه على قول ابن الماجشون، لأنه لما كان معه معجل، ويسمى الآخر إلى أن تطلبه المرأة، أو إلى ميسرته قد رمى به مرمى التأخير إلى غير أجل. ولو شرط الخيار في الصداق كأحد عبدين صح إن كان الخيار لها، فإن كان له فسخ قبل

البناء، وثبت بعده، وكان لها صداق المثل. ولو قال: نكحتها بألف، على أن لأبيها ألفا صح، وكان الألفان للزوجة، وكذلك لو قال: نكحتها بألف على أن أعطي أباها ألفاً. قال أشهب ولو تزوجها على أن يهب عبده لفلان، فذلك جائز، فإن طلق قبل البناء رجع بنصف العبد، فإن مات هذا الموهوب، رجع عليه بنصف قيمته. وقال محمد: هو كالحباء الذي وهبته للأب، لا رجعة لها فيه، في طلاق ولا غيره، ولا أرى أن يضمنه الموهوب له في الموت إلا بتعد منه. المدرك الرابع: تفريق الصفقة: فإذا أصدقها عبداً يساوي ألفين، على أن ترد له ألفاً، فنصف العبد مبيع، ونصفه صداق، وهما عقدان مختلفان، وفي جمعهما في صفقة واحدة خلاف، منعه مالك وابن القاسم في الكتاب، وعلل باختلاف حكم العقدين، وبالذريعة إلى إخلاء العقد من المهر، وأجازه عبد الملك في كتاب محمد إذا كان الباقي بعد ثمن المبيع ربع دينار فصاعداً بأمر لا يشك فيه. وكرهه في ثمانية أبي زيد، وأمضاه إذا نزل، وكان الثمن كثيراً، فيه فضل بائن عن ثمن المبيع. وحكى القاضي أو محمد عن أشهب إجازته جملة من غير اعتبار بفضل كالسلعتين. وقال مالك في المبسوط: يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ولها صداق المثل. ولو كانت السلعة من عند الولي لفسخ أيضاً، وكان من باب جمع السلعتين لرجلين، وسيأتي بيان الخلاف فيها إن شاء الله. وكذلك لو تزوجا بدنانير مسماة على أن أعطاه الأب داراً، فأما لو تزوجها على غير صداق مسمى على أن أعطاه الأب داراً، لصح النكاح. وفرق بينهما أبو القاسم بن محرز بأن الدار هنا هبة خالية عن العوض، وفي الصورة الأولى كانت مقابلة (لبعض) الصداق. فأما الجمع بين نسوة في عقد واحد، فقد تقدم الكلام عليه.

المدرك الخامس: أن يتضمن إثبات الصداق رفعه، كما إذا قبل النكاح لبعده، وجعل رقبته صداقها، فيفسد، لأنه لو ثبت وملكت زوجها، لانفسخ النكاح قولاً واحداً، فيفسد الصداق ويفسد النكاح أيضاً لأنه قرن النكاح بالرق المضاد له لو ثبت، بخلاف ما لو أصدق خمراً. المدرك السادس: مخالفة الأمر فيما سمى فإذا قال لوكيله: زوجني بألف، فزوجه الوكيل بألفين، فإن كان على قول الزوج بينة، وعلى التزويج بينة، فإن لم يدخل فقيل له: إن رضيت (بالألفين). وإلا فلا نكاح بينكما. ولو قال الوكيل: أنا أتمم الألف ويصح النكاح. ففي إجبار الزوج على الرضا بذلك قولان. ولو قالت المرأة: أنا أرضى بالألف، للزم الزوج ذلك. وإن كان وقع الدخول، فما الذي يلزم الزوج؟ في المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه ألف، ويلزم الرسول كمال الألفين. والثاني: أنه يلزمه الألف أيضاً، لكن لا يلزم الرسول شيء. والثالث: أنه يكون على الزوج صداق المثل، والزائد يكون على الرسول. وإن لم يكن على التسمية من الزوج، ولا في العقد بينة، فأما قبل الدخول فيقال للزوج: إن رضيت بالألفين لزم النكاح. فإن لم يرض، قيل للزوجة: إن رضيت بالألف لزم. فإن لم ترض فلها أن تحلف الزوج، فإن نكل رد عليها اليمين، فحلفت، واستحقت الألفين وصح النكاح. وأما إن وقع الدخول، فإن رضى كل واحد من الزوجين بما قال الآخر، كان الحكم ما اتفقا عليه، وإن أبيا، فإن أقر الوكيل بالتعدي لزمه الإتمام، وإن أنكره فللزوجة أن تحلف الزوج على أنه لم يأمر إلا (بألف)، فإن حلف برئ، وإن نكل غرم ألفين. قالوا: وهذه يمين لا ترجع، لأنها يمين تهمة. قال بعض المتأخرين: وهذا ظاهر، إلا أن تدعي المرأة تحقيق ما قالت، فترجع اليمين. قال: ويلتفت هذا على الخلاف فيمن سلط على ماله خطأ منه، هل تسقط الغرامة للتسليط، أم لا؟ لأن المرأة سلطت الزوج ها هنا خطأ منها، فمن لم يسقط الغرامة بالتسليط أوزجب صداق المثل، ومن أسقطها لم يوجب سوى الألف. فرع: إذا نكل الزوج غرم، فهل له أن يحلف الرسول؟ فإن حلف برئ، وإلا غرم؟

في ذلك خلاف سببه، هل تكون يمين الزوج على تصحيح قول فقط، أو على تصحيحه وإبطال قول الرسول؟ فإن كانت على تصحيح قوله فقط فنكل، فإنه يعد مقراً، ولا يكون له أن يحلف الرسول، وإن كانت يمينه على تصحيح قوله وإبطال قول الرسول كان له أن يحلف الرسول. قالوا: ويلتفت في هذا أيضاً إلى النكول، هل هو كالإقرار، فلا يكون له أن يحلف الرسول؟ أو يكون ليس كالإقرار فيحلف. فإن وقع الدخول، فليس على الزوج إلا الألف. ثم إن أقر الرسول بالتعدي، فيختلف فيه، هل يغرم أم لا كما تقدم؟، وإن أنكره فإن قلنا: بأنه يغرم، فللزوجة أن تحلفه، فإن نكل حلفت واستحقت. وإن قلنا: إنه لا يغرم، فلا شيء للزوجة. وإن كان على توكيل الزوج بالألف بينة، وليس على العقد بينة، فإن لم يقع دخول كان على المرأة اليمين: أن العقد كان بألفين، فإن حلفت قيل للزوج: ترضى بذلك وإلا فافسخ عن نفسك. وإن نكلت لزمها النكاح بألف، إلا أن يكون الزوج علم ما وقع به العقد، فاليمين ها هنا ترجع عليه. وإن كان على العقد بينة، وليس على قول الزوج بينة، فها هنا يحلف الزوج: أن التوكيل لم يكن إلا بما قاله، فإن حلف وكان ذلك قبل الدخول قيل للمرأة: إما أن ترضي بما قال، وإلا فافسخي عن نفسك. وإن نكل، فهي يمين لا ترجع إلا أن تدعي المرأة التحقيق فترجع. وهل للزوج أن يحلف الوكيل إذا نكل الزوج؟ يجري على ما تقدم من القولين. واختار محمد أنه لا يحلف له، فإن وقع الدخول، فكذلك يحلف الزوج، فإن حلف مضى النكاح بألف، وإن نكل، فهل له أن يحلف المرأة وتلزمه ألفان؟. أما إن كانت المرأة تدعي تحقيق الدعوى عليه، فإنها تحلف، وإن لم تتحقق فاليمين لا ترجع. ويختلف هل للزوج أن يحلف الوكيل أم لا؟، على ما تقدم. هذا إذا لم يعلم واحد من الزوجين بالتعدي، فإن وجد الالعلم، فله ثلاث حالات: الأولى: أن يعلم الزوج بالتعدي ولا تعلم المرأة به، فتكون عليه ألفان. الحالة الثانية: أن تعلم هي دونه، فلا يكون لها إلا الألف. الحالة الثالثة: أن يعلما جميعاً، وفيها صور: الأولى: أن يعلم كل واحد منهما بعلم الآخر، فإذا علما وعلم كل واحد منهما بعلم الآخر فعلى الزوج الألفان. الصورة الثانية: أن يعلما ولا يعلم أحد منهما بعلم الآخر، فها هنا الروايات على أن لها الألفين. قال المتأخرون: ((وهذا فيه نظر، لأنه متى قلنا: إن الزوج قد علم، وقد دخل

الباب الثالث: في التفويض

على الألفين، ففي مقابلته أن الزوجة قد علمت، وقد دخلت على ألف واحد. قال: وينبغي أن يكون لها ألف، وتقسم الألف الأخرى فيحط نصفها، ويكون على الزوج نصفها)). الصورة الثالثة: أن يعلم الزوج بعلم المرأة، ولم تعلم هي بعلمه، فيكون لها ها هنا ألف، لأنها على ذلك دخلت، وعليه دخل الزوج أيضاً. الصورة الرابعة: أن تعلم المرأة بعلم الزوج، ولم يعلم هو بعلمها، فتكون عليه ها هنا ألفان، لأنهما على ذلك دخلا. وأصل هذا جميعه أن يلزم كل واحد منهما ما دخل عليه. وإذا قالت المرأة لوليها: زوجني، ولم تعين مهراً، فزوج بأقل من مهر المثل لم يلزمها العقد. بخلاف ما إذا زوج الأب من ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل، أو من ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، فإن ذلك جائز إذا كان نظرا لهما. فرع: إذا تواطأ أولياء الزوجين على ذكر ألفين في العقد ظاهراً، وعلى الاكتفاء بألف باطناً، فالواجب مهر السر، ويكون النكاح به. فإن ادعت الزوجة الرجوع عنه إلى العلانية فإن كان في السر بيان أن العلانية لا أصل لها ولكن المعول على ما (أسرا) فلا يمين على الزوج، وإن لم يكن في العلانية ذلك ثبتت اليمين. الباب الثالث: في التفويض ونعني بالتفويض إخلاء عقد النكاح من تسمية المهر أو التصريح بالتفويض، فيقول: أنكحتك وليتي على التفويض. أو مع الإبهام بأن يذكر التزويج، ولا يذكروا المهر. والنكاح صحيح في الوجهين. فأما لو صرحوا باشتراط إسقاط المهر لما جاز، ويفسخ النكاح قبل الدخول. واختلف قول ابن القاسم في فسخه بعده. ثم المفوضة تستحق مهر المثل بالوطء وبالفرض، ولا تستحق بالعقد، ولا يجب بالموت على المعروف من المذهب. وحكى أبو محمد عبد الحميد قولاً شاذاً بالوجوب. ولا تستحق التشطير عند الطلاق إلا إذا جرى الفرض بعد العقد. ومعنى الفرض تعيين

الصداق وتقديره، فكان الواجب بالمسيس المنتظر مهر المثل، أو ما (يتراضى) به الزوجان أحدهما لا بعينه، ولو تراضوا بدون مهر المثل جاز على الثيب الرشيدة برضاها. وأما السفيهة فإن كانت غير مولى عليها، ففي جوازه عليها برضاها قولان. وإن كانت مولى عليها فإن كان الفرض قبل الدخول، وهو من حسن النظر، صح رضا الولي به. وإن كان بعد الدخول فهل يصح رضا الولي بدون صداق المثل أم لا؟ ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث، فيصحح في حق الأب دون غيره لأنه أكمل شفقة. وللمرأة طلب الفرض لتقرير التشطير، أو لتعرف ما سيجب بالمسيس، ولها حبس نفسها للفرض لا لتسليم المفروض. قال في الواضحة: إذا طلبت قبل البناء أخذ النقد، وأبى الزوج ذلك إلا عند البناء، فذلك للزوج، إلا أن تشاء هي تعجيل البناء، فلها قبضه. وقال القاضي أبو الحسن: الذي يقوى في نفسي أن الصداق يوقف، ولا تأخذه المرأة حتى تمكن من نفسها. لا يتعين مهر المثل عند الفرض، لكن إن بذله الزوج لزم الزوجة قبوله. ويجوز إثبات الأجل في المفروض ويجوز إثبات زيادة على مهر المثل، كان المفروض من جنسه، أو من غير جنسه. ويجوز عرض يساوي أضعاف مهر المثل، ولو أبرأت قبل الفرض لخرج على الإبراء، عن ما لم يجب وجرى سبب وجوبه. ولو فرض لها خمراً ألغي الفرض، ولم يؤثر في التشطير. ومعنى مهر المثل: القدر الذي يرغب به مثله فيها والأصل فيه اعتبار أربع صفات: الدين والجمال والحسب والمال. ومن شرط التساوي مع ذلك الأزمنة والبلاد، إلا أن تكون لهم عادة مستمرة في تعيين المهر، فيصار إليها. وفي كتاب محمد: يعتبر شبابها وجمالها في زمنها، ورغبة الناس فيها. وينظر في الزوج، فإن زوجوه إرادة صلته ومقاربته خفف عنه، وإن كان على غير ذلك كمل لها صداق المثل. والوطء في النكاح الفاسد يوجب مهر المثل باعتبار يوم الوطء، لا يوم العقد. وإذا اتحدت الشبهة اتحد المهر، وإن وطئ مراراً، وإذا لم تكن شبهة كوطئها الزاني المكره، وجب بكل وطء مهر. وفي معنى التفويض التحكيم، فلو قال: تزوجتك على حكمي، أو على حكمك، أو

الباب الرابع: في التشطير

على حكم فلان، جاز، ثم إن وقع الرضا بالحكم فيه، وإلا فسخ، ولا شيء لها، فإن فرض لها الزوج صداق المثل لزمها النكاح وإن كان قبل البناء كالتفويض. قال عبد الحق: وهذا مجمع عليه في كل ما ذكرناه، وإلا في قولهم: قد أنكحناك على حكمها، فابن القاسم يراه مثل السكوت أو تحكيمه، أو تحكيم الولي. وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال أشهب وعبد الملك: إن لم يرض بما حكمت به، لم يلزمها الرضا بصداق مثلها إن فرضه لها ما لم يبن بها. وبه يقول ابن حبيب. قال فضل بن سلمة: ابن الماجشون في ديوانه يجعله نكاحاً فاسداً. وقال ابن المواز: قال عبد الملك: أما على حكمها، فالنكاح يفسخ ما لم يدخل، وأما على حكمه، فهو التفويض الجائز. قال بعض المتأخرين: ((إذا تزوجها على حكم فلان، فمعنى قوله: إذا رضي الزوج بذلك، إنما يريد أن فلاناً حكم بزائد على صداق المثل. أما لو افتصر عليه للزمه، ولم يكن له فيه خيار)). ونقل عبد الحق وعبد الحميد عن الشيخ أبي محمد وغيره من الشيوخ إنهم قالوا: ((إذا تزوجها على حكمها، ففرضت صداق المثل، لم يلزم ذلك الزوج، إلا أن يرضى، بخلاف الزوج يفرض لها صداق المثل، قال وهذا كواهب السلعة للثواب، يلزمه أخذ القيمة، ولا تلزم الموهوب القيمة)). الباب الرابع: في التشطير وفيه فصول: الفصل الأول: في حله، وحكمه فنقول: اختيار الزوج لإيقاع الطلاق قبل المسيس يوجي تشطير الصداق الثابت بتسمية مقرونة بالعقد صحيحة، أو بفرض صحيح بعد العقد في المفوضة، ويستوي فيه عدد الموقع من الطلاق. وإنما يسقط جميع المهر قبل المسيس بالفسخ، أو باختياره ردها لعيبها، وفي اختيارها

الفصل الثاني: في التغيرات قبل الطلاق

لرده بعيبه خلاف، لأنه غار، ولا صداق لها فيما سوى ذلك. هذا عقد الباب، وفي تفصيل الفروع خلاف يأتي عند ذكرها في أبوابها إن شاء الله. ومعنى التشطير: أن يرجع الملك في شطر الصداق إلى الزوج بمجرد الطلاق، أو يبقى عليه على الخلاف المتقدم. ثم في معنى الصداق في التشطير كل ما نحله الزوج للمرأة أو لأبيها أو لوصيها الذي يتولى العقد، في العقد أو قبله، لأجله، إذ هو للزوجة إن شاءت أخذته ممن جعل له. فرع: لو تلف الصداق في يد أحدهما، ثم وقع الطلاق قبل البناء، فالحكم أن ما لا يغاب عليه منهما جميعاً وما يغاب عليه ولا يعرف بعينه ممن هو في يده إن لم تقم بهلاكه بينة، وإن قامت بهلاكه بينة، ففي إثبات الضمان صاحب اليد ونفيه خلاف بين أصبغ ومحمد. وما أنفق على الثمرة من سقي وعلاج فعليهما. وكذلك ما أنفق على العبد. وقيل: لا يرجع من أنفق على العبد بشيء. وقال محمد: إن كان له غلة فنفقته منها، وإن لم تكن له غلة فلا رجوع لها على الزوج بشيء. الفصل الثاني: في التغيرات قبل الطلاق وسواء كان ذلك بزيادة محضة، أو نقصان محض، أو زيادة من وجه، أو نقصان من وجه، فالزيادة لهما، والنقصان عليهما. وقيل: بل للمرأة وعليها، وهو على الخلاف في استقرار ملكها بالعقد على الك وعدم استقراره. الفصل الثالث: في التصرفات المانعة من الرجوع وكل تصرف أزال الملك بجهة لازمة كالبيع والهبة والعتق والتدبير، فهو مانع من الرد. ثم تتعين القيمة في الهبة والعتق والتدبير، ونصف الثمن في البيع. وإن جنى العبد خيرت، فإن فدته لم يأخذ نصفه إن طلق، إلا بدفع نصف ما فدته به. قال الشيخ أبو محمد: ((إلا أن تعطى أكثر من الأرش)). هذا في غير العين. فإن كان عيناً، اعتبر ما اشترت به، فإن كان خادماً، أو طيباً، أو شورة، أو غير ذلك مما هو لجهازها، فهو بمنزلة عين ما أصدقها، ونماؤه ونقصانه بينهما، فإذا طلقها قبل البناء، فليس له عليها إلا نصفه لا غير. وإن اشترت به غير الجهاز من دار أو عبد

الفصل الرابع: في هبة الصداق

وشبه ذلك فله عليها نصف ما قبضت منه، لا نصف المشتري، إلا أن يكون الشراء من الزوج. قال القاضي أبو الحسن: ((هذا إذا كان على وجه التخفيف عنه، وإلا فهو كالأجنبي)). الفصل الرابع: في هبة الصداق وإذا وهبت له جميع صداقها، ثم طلقها قبل البناء، لم يرجع عليها بشيء، وكأنها عجلت إليه بالصداق. ولأنها لما لم يستقر ملكها عليه العقد على المشهور، وانكشف الآن أنها إنما تملك منه النصف، وافقت هبتها ملكها وملكه، فنفذت في ملكها دون ملكه. ولو وهبت منه نصف الصداق، ثم طلقها، فله الربع. وكذلك إن وهبته أكثر من النصف أو أقل، فله نصف ما بقي لها بعد الهبة. ولو وهبته لأجنبي فقبضه، مضى له، ويرجع الزوج على الزوجة بالنصف، وهل ترجع به الزوجة على الموهوب له؟ كواهب السلعة تستحق من يد الموهوب، فإنها تؤخذ من يده، ولا يرجع على الواهب بشيء، لأن الغيب كشف له أنه وهب ما لم يملكه، أو لا ترجع بشيء لأنها وهبت ما عملت أنه معرض للارتجاع منها بوقوع الطلاق عليها قبل البناء، وأن الزوج يطلبها بما أفاتت وأتلفت، عليه نصفه، وقد كان حال تصرفها فيه ملكاً لها، فلا يكون لها عليه رجوع فيه، كما ليس لها نقص البيع لو باعته، ثم طلبها به الزوج. وإن لم يقبضه الموهوب له حتى وقع الطلاق، أجبرت على الإقباض إن كانت موسرة يوم الطلاق، ولم تجبر إن كانت معسرة يوم الهبة ويوم الطلاق. فإن كانت موسرة يوم الهبة، ومعسرة يوم الطلاق، فقال ابن القاسم: أنها لا تجبر. وقال غيره في الكتاب: ((تجبر)). وهو على الخلاف في ملك الصداق، هل هو غير مستقر؟ فينظر إلى حالها يوم وجب الرجوع، أعني يوم الطلاق. أو هو مستقر فينظر إلى حالها يوم الهبة. وعلى ذلك الخلاف فيما أحدثته في الصداق من عتق أو بيع أو نحو ذلك من وجوه إفاتته، هل تضمن قيمته يوم قبضه أو يوم إفاتته؟ وهو المشهور، فمن رأى (ملكها) غير مستقر جعل القيمة يوم الإفاتة، ومن رآه مستقراً جعلها يوم القبض. ولو اختلعت قبل المسيس بعشرة من صداقها، كان لها نصف ما بقي منه. ولو خالعته على عشرة مطلقاً، لزمتها، وبقي نصف الصداق. ولو بارأته على المتاركة، أو خالعته على أن أعطته عبداً أو مالاً، لم يبق لها طلبة بنصف الصداق، وترده إن كانت قبضته. وقال أصبغ: إن قبضته فلا ترده، إلا أن يشترط عليها رده.

الفصل الخامس: في المتعة

الفصل الخامس: في المتعة وهي مستحبة، ومشروعيتها لجبر قلب المرأة من فجيعة الطلاق. فيؤمر بها لكل امرأة اختار الزوج طلاقها، ولا اختيار لها فيه، ما لم تطلق قبل الدخول وقد فرض لها. ولا متعة إن كان الطلاق بسببها، أو كان الفراق جبراً. ولو كان مبدؤه من الزوج، وتمامه من المرأة، كالمخيرة، لم تكن لها متعة. وروي: لها المتعة، وهي شاذة. ولا متعة للرجعة إن ارتجعت، فإن وقعت البينونة ثبتت المتعة. قال فضل بن سلمة: وهذا يقتضي أنها لا تمنع إلا بعد كمال العدة. ولو كان الطلاق بائناً فردها الزوج فلها المتعة على المنصوص. واستقرأ أبو الحسن اللخمي نفي المتعة من إطلاقات وقعت في الرواية. ثم حيث خوطب الزوج بها، فمقدارها موكول إلى اختياره، والمستحب أن يكون ذلك على قدر حاله من عسره ويسره. الباب الخامس: في التنازع. وفيه مسائل: الأولى: إذا تنازعا في قد رالمهر، أو صفته، مع بقاء الزوجية بينهما، وذلك يقع قبل البناء وبعده. فإن كان قبله تحالفا وتفاسخا، كما في البيع، وبدئت المرأة باليمين كالبائع في المشهور. قال بعض المتأخرين: ((ويجري فيه ما يجري في البيع من الخلاف في الرجوع إلى قول مدعي الأشبه، وفي انفساخ النكاح بتمام التحالف، وفي الرجوع إلى قول المرأة إذا نكلا جميعاً، كما في البيع. وإذا كان التنازع بعد الدخول، فالقول قول الزوج، إذا الدخول كالفوت في البيع)). قال: ((وقد يجري فيه قول أشهب بالتحالف بعد الفوت، على القول الشاذ بأن صداق المثل فيه كالقيمة المقدرة في السلع)). ثم قال: ((وهو على الحقيقة تركيب خلاف على خلاف)). وقال ابن حبيب: إن اختلفا في نوع الصداق بعد الدخول، كان مما يصدقه، أو مما لا يصدقه، تحالفا وردت إلى صداق مثلها بالعين، إلا أن يرضى الزوج أن يعطيها ما ادعت البالغة الرشيدة، أو ادعاه أبو البكر.

وإن وقع التنازع بعد انفصال العصمة بطلاق أو فسخ أو موت، فالقول قول الزوج مع يمينه، لأنه مدعى عليه. ولو ادعت التسمية، فأنكر الزوج أصل التسمية، فالقول قوله، إلا أن تكون العادة خلاف قوله. المسألة الثانية: إذا تنازع أبو البكر والزوج في مقدار المهر تحالفاً، لأنه كوكيل مفوض إليه، فهو وليها دونها، ولم يكن لها فيه رأي ولا أمر. الثالثة: لو ادعت ألفين في عقدين جريا في يومين، وأقامت البينة عليهما لزما، وقدرنا تحلل طلاق، ثم هل يقدر بعد المسيس ويكون على الزوج أن يبين جريان سقوط النصف بإظهار الطلاق قبله، أو يقدر قبله، وعلى المرأة أن تبين وقوعه ليستقر لها ملك الكل؟ وفي ذلك خلاف، سببه هل المستقر بالعقد الكل أو النصف؟ الرابعة: إذا كان في ملك الزوج أبو الزوجة وأمها، فقال: أصدقتك أمك، فقالت: بل أبي، تحالفا وفسخ النكاح، قبل الدخول وتعتق الأم بإقراره وإن كان دخل بها حلف أيضاً وعتقت عليه الأم بإقراره فإن نكل حلفت المرأة وعتق الأب بقولها، وعتقت عليه الأم بإقراره، وإن نكلا قبل البناء، كان كما إذا حلفا. الخامسة: إذا اختلف في قبض معجل الصداق، فإن استقرت عادة صير إليها، وإن لم تكن فالقول قولها، إلا أن تكون مدخولاً بها، فالنص أنه تقبل دعواها، إلا فيما لم يحل منه. لكن اختلف الأصحاب في تنزيله. (فقال القاضي أبو إسحاق: ((إنما ذلك في بلد عرفه تعجيل النقد عند البناء. فأما بلد لا عرفه فيه بذلك، فالقول قول الزوجة)). قال القاضي أبو الحسن: ((وينبغي أن يكون هذا هو الصحيح)). وقال القاضي أبو محمد: ((إنما ذلك إذا لم يثبت ذلك في صداق ولا كتاب. وأما إن ثبت في صداق أو كتاب، فلا يكون القول قول الزوج بالبناء)). وقال القاضي أبو الوليد: ((إنما ذلك مبني على أن العادة جارية في معظم البلاد بل في جميعها أن معجل الصداق لا يتأخر قبضه عن البناء)). قال: ((وهذا أظهر مما تقدم)).

باب: الوليمة والنثر الوليمة: هي مأدبة العرس، ومحلها بعد البناء، وهي مأمور بها. قال القاضي أبو الوليد: ((نص مالك رحمه الله وأكثر العلماء على وجوب إتيان طعام الوليمة لمن دعي إليها)). قال: ((وصفة الدعوة التي تجب لها الإجابة، أن يلقى صاحب العرس الرجل فيدعوه أو يقول لغيره: أدع لي فلاناً، فيعينه. فإن قال له: ادع لي من لقيت، فلا بأس على من دعي بمثل هذا أن يتخلف. قال: وهل يلزم الأكل من لزمته الإجابة؟، لم أر لأصحابنا فيها نصاً جلياً. وفي المذهب مسائل تقتضي القولين)). وقال القاضي أبو الحسن: ((مذهبنا أن الوليمة غير واجبة، والإجابة إليها غير واجبة، ولكن تستحب)). ثم إنما يؤمر بالإجابة على القولين جميعاً، إذا لم يكن في الدعوة منكر ولا فرش حرير، ولا في الجمع من يتأذى بحضوره ومجالسته من السفلة والأراذل الذين تزري به مجالستهم، ولا زحام، ولا غلق باب دونه. فقد روى ابن القاسم: ((هو في سعة إذا تخلف لأجل ذلك. وكذلك إن كان على جدران الدار صور أو ساتر. ولا بأس بصور الأشجار)). فإن كان هناك لعب ولهو، وكان خفيفاً مباحاً غير مكروه لم يرجع وحضره. وروى ابن وهب: لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعاً فيه لهو. قال القاضي أبو بكر: ((والحق هو الأول)). فأما لهو غير مباح كالعود والطنبور والمزهر المربع، فلا تجاب الدعوة معه. ومن أتاها فوجد اللهو المحظور فليرجع. ولا تترك إجابة الدعوة بعذر الصوم، بل يحضر ويمسك. ويكره نثر السكر واللوز وشبهه.

كتاب القسم والنشوز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً] كتاب القسم والنشوز وفيه فصول: الفصل الأول: فيمن تستحق القسم، ولا يجب على من له زوجة واحدة أن يبيت عندها، لكن يستحب ذلك لتحصينها. ولا يجب القسم بين المستولدات وبين الإماء، ولا بينهن وبين المنكوحات، إلا أن الأولى العدل وكف الأذى. ومن له منكوحات يجب عليه العدل بينهن. وتستحق المريضة والرتقاء والحائض والنفساء والمحرمة، والتي آلى عنها زوجها أو ظاهر، وكل من لها عذر شرعي أو طبيعي، من القسم ما يستحقه غيرها، لأن المقصود الأنس والسكن. أما المباشرة فلا تستحق، ولا حرج عليه إن نشط للجماع في يوم واحدة دون أخرى، إلا أن يفعل لضرر مثل أن يكف عن هذه لوجود لذته في الأخرى، فلا يحل له ذلك. ويجب القسم على كل زوج مكلف، وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه. الفصل الثاني: في مكان القسم وزمانه أما المكان، فلا يجوز أن يجمع بين ضرتين في مكان واحد إلا برضاهن، وليفرد كل واحدة بمسكنها، ولا له أن يستدعيهن إلى بيته على التناوب إلا برضاهن، وليأتهن في بيوتهن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. (وأما الزمان فقال في كتاب محمد: له أن يبدأ بالليل قبل النهار، وبالنهار قبل الليل. قال القاضي أبو الوليد: ((لأن الذي عليه أن يكمل لكل واحدة يوماً وليلة، (وهو المخير

الفصل الثالث: في التفاضل

في البداية بأيهما شاء)). ثم قال: على أن الأظهر من أقوال أصحابنا أن يبدأ بالليل)). ولا يحل له أن يدخل في يومها على ضرتها ليقيم عندها، وله أن يأتي عائداً أو لحاجة، أو يضع ثيابه عندها إذا كان ذلك على غير ميل ولا ضرر. وقيل: لا يدخل إلا لعذر لابد منه، من اقتضاء دين أو تجارة أو علاج. وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يقف ببابها ويسلم من غير أن يدخل. ولا بأس أن يتوضأ، أو يشرب من ماء زوجته في غير يومها، ويأكل مما بعثت به إليه من غير تعمد ميل، ولا يكلف الوقاع، لأنه لا يدخل تحت الاختيار. وأما المقدار من الزمان فليلة، ولا ينصف الليلة، ولا يزيد عليها، إلا أن يرضين ويرضى بالزيادة، أو يكن في بلاد متباعدة، فيقسم الجمعة أو الشهر على حسب ما يمكنه، بحيث لا يناله ضرر لقلة المدة. الفصل الثالث: في التفاضل، وله سببان: الأول: تجدد النكاح. فإذا استجد نكاح بكر بات عندها سبعاً، وإن استجد نكاح ثيب بات عندها ثلاثاً. وتستوي في ذلك الحرة والأمة، [لأنه للألف]، والطبع لا يتغير بالرق. ثم لا يقضي الباقيات هذه المدة، بل يستأنف القسم بعد ذلك، وهل هو حق للجديدة أو للزوج؟، على اختلاف الروايتين. وقيل: هو حق لهما. ثم في وجوبه واستحبابه، روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم. وإذا فرعنا على أنه حق لها أو لهما، فهل يقضي لها به عليه أم لا؟ قال أصبغ في كتاب محمد: ((لا يقضي عليه. قال القاضي أبو بكر: ((والصحيح أنه يقضي عليه به)). قال القاضي أبو الفرج عن ابن

عبد الحكم: ((إن ذلك على الزوج وإن لم تكن (عنده) امرأة سواها)). قال القاضي أبو بكر: ((وهذا لا معنى له، ولا يتصور، فلا يلتفت إليه كما قال ابن حبيب)). فرع: لو بات عند الثيب ثلاثاً، فالتمست زيادة، لم يزدها، بل يستأنف القسم. وقال القاضي أبو الحسن: ((يكمل لها سبعاً إن اختارت التسبيع، ثم يقضي لسائر نسائه سبعاً سبعاً، لقوله صلى الله عليه وسلم وقد التمست أم سلمة ذلك: إن شئت سبعت عندك، وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت عليهن)). فكأن اقتراحها الزيادة عنده يبطل حقها من الثلاث. وروى محمد: أن الزوج لا يخبر الزوجة بحال، وإنما يكون لها الثلاث. السبب الثاني: الحرية على إحدى الروايتين: يكون للحرة ثلثا القسم، وللأمة ثلثه. فلها ليلتان، للأمة ليلة. والرواية المشهورة التسوية بينهما كالحرتين. وروى أبو زيد عن عبد الملك بن الماجشون: أن مالكاً رجع على التفاضل، وأخذ بذلك عبد الملك في نفسه. وإذا فرعنا على التفاضل، فبدأ بالحرة فعتقت الأمة في ليلتها، أو قبل انقضاء ليلة الأمة، التحقت بالحرة الأصلية، واستحقت تمام الليلتين. وإن عتقت بعد تمام ليلتها اقتصرت على ما مضى، وسوى بينهما بعد ذلك. ولو بدأ بها فعتقت قبل تمام نوبتها صارت كالحرة الأصلية، فإن عتقت بعد تمام نوبتها وجب توفية الحرة ليلتين، ثم يسوي بعد ذلك كله. ومهما ظلم في القسم، وأضاع على إحداهن يومها، ولم يعطه لضرتها، فلا قضاء،

الفصل الرابع: في المسافرة بهن

ويستأنف القسم. (وكذلك إن أقامه عند غيرها على المنصوص. وأوجب أبو الحسن اللخمي القضاء استقراء من السليمانية، إذ قال فيمن له أربع نسوة فأقام عند إحداهن شهرين، ثم أراد المحاسبة، فقالت من أقام عندها: ابتدئ، فحلف: لا وطئها ستة أشهر حتى يوفي الباقيات حسابهن: ليس بمول، لأنه لم يقصد الضرر، وإنما قصد العدل. قال: ((فأجاز المحاسبة)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((وهذا الذي يحتمل أن يكون مراده، ويحتمل أن لا يريد ذلك، بل يريد أنه يبتدئ، لكن لا يكون مولياً حتى يقصد الضرر، وهذا لم يقصده)). ولو غاضب إحداهن فصرفته، فهل له أن يبيت عند البواقي؟ فيه خلاف: وإذا وهبت المرأة يومها من ضرتها، فللزوج أن يمتنع من القبول، فإن قبل فليس للموهوبة الامتناع. وإن وهبت من الزوج نفسه، فليس له أن يخص واحدة، بل الواهبة كالمعدومة، ثم لها الرجوع متى شاءت. وما فات قبل بلوغ خبر الرجوع فلا يقضي. الفصل الرابع: في المسافرة بهن ((وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم بسفر أقرع بين نسائه رضي الله عنهم، فاستصحب واحدة حتى إذا عاد دار عليهن من غير قضاء)). واختلفت الرواية عن مالك، فروى عنه ابن عبد الحكم وجوب القرعة أخذاً بهذا الخبر. وروى تفويض الأمر إلى خبرته، وهي اختيار ابن القاسم، وعلل ذلك باختلاف أحوالهن، فمنهن من مصلحته ومصلحتها في إبقائها لثقل جسمها، وكثرة عائلتها، وحفظها لأمواله، ومنهن الخفيفة القليلة العيال، القليلة العناء، لو بقيت خلفه، إلا أن يستوين في جميع ذلك، فيقرع بينهن، وبهذا يعتذر القائل بهذه الرواية عن الحديث المتقدم، ويحملهن على استواء الحال فيما ذكر. وقيل: يقرع بينهن في الحج والغزو دون غيرهما من سفر التجارة وغيرها.

الفصل الخامس: في الشقاق

الفصل الخامس: في الشقاق وله ثلاث حالات: الأولى: أن يكون النشوز منها فيعظها، فإن هي قبلت، وإلا هجرها، فإن هي قبلت، وإلا ضربها ضرباً غير مخوف. فإن غلب على ظنه أنها لا تترك النشوز إلا بضرب مخوف لم يجز تعزيرها أصلاً. الحالة الثانية: أن يكون العدوان منه بالضرب والإيذاء، فيزجر عن ذلك، ويجبر على العود إلى العدل. الحالة الثالثة: أن يشكل الأمر، وقد ساء ما بينهما، وتفاقم أمرهما، وتكررت وشكواهما، ولا بينة مع واحد منهما، ولم يقدر على الإصلاح بينهما، فيبعث من جهة الحاكم أو من جهة الزوجين، أو من يلي عليهما حكمان لينظرا في أمرهما. ومن شرطهما أن يكونا عدلين فقيهين، والأكمل أن يكون حكم من أهله، وحكم من أهلها، فإن لم يكن لهما أهل، أو كان، ولم يكن فيهم من يصلح لذلك لعدم العدالة، أو لغير ذلك من المعاني، فإن الحاكم يختار حكمين عدلين من المسلمين لهما، أو عدلاً لأحدهما إن كان التعذر مختصاً به. ويستحب أن يكونا جارين. ثم المبعوثان حكمان لا وكيلان، وإن كان البعث من جهة الزوجين، ألا ترى أن للزوجة دخولاً في التحكيم، ولا مدخل لها في تمليك الطلاق. وقيل: بل هما وكيلان. وإذا فرعنا على الأول، فينفذ تصرفهما في التطليق والخلع إن رأياه، لعجزهما عن الإصلاح من غير افتقار إلى إذن الزوج، ولا إلى موافقة حكم حاكم البلد. والذي عليهما أن ينظرا، فإن قدرا على الإصلاح أصلحا، وإن لم يقدرا نظرا، فإن رأيا الإساءة من قبل الزوج فرقا بينهما، وإن كانت من قبل الزوج ائتمناه عليها، وإن رأيا صلاحاً أن يأخذا له منها شيئاً، ويطلقاها عليه فعلاً. وإن كانت منهما فرقا بينهما على بعض ما أصدقها، ولا يستوعبانه له وعنده بعض الظلم. فرع: لو كان الحكمان مستجرحين، وعلم القاضي بذلك، لم ينفذ حكمهما، وفي نفوذه إذا لم يعلم خلاف. وكذلك لو كانا عبدين، والمنصوص ها هنا أنه لا ينفذ. ولو تراضى بهما الزوجان وهما مستجرحان لم يمض حكمهما. وقيل: يمضي. قال بعض المتأخرين: ((والخلاف في أكثر هذه المسائل ينبىء على تردد حكمهما بين التحكيم والتوكيل)). ثم إذا حكما بالفراق مضى فعلهما، وكانت طلقة بائنة، وكذلك لو قالا: فرقنا أو طلقنا، أو حكمنا بالفراق أو الطلاق، فإن حكما بأكثر من واحدة، أو بثلاث، أو حكما بلفظة البتة، أو خلية أو برية، ونوى بها الحكمان ثلاثاً، لم يلزم في ذلك كله إلا واحدة فقط، دخل بها (أو لم

يدخل)، لأن ما زاد على واحدة خارج عن معنى الإصلاح. وقيل: ينفذ ما حكما به. ولو اختلفا، فحكم أحدهما بالطلاق، والآخر بالبقاء، أو حكم أحدهما على مال. والآخر على غير مال لم يلزم شيء إلا باجتماعهما؛ إلا أن ترضى الزوجة بالمال الذي قال أحدهما، وقد اجتمعا على الفراق فيلزم. ولو اتفقا على إيقاع الطلاق، واختلفا في العدد، فأوقع أحدهما واحدة، وأوقع الآخر الثلاث أو البتة، وقعت الواحدة فقط، لاتفاقهما عليها. وقيل: لا يقع شيء أصلاً لاختلافهما. وقيل: تمضي الواحدة إن حكم معها بالثلاث. فأما إن حكم بالبتة، فلا يمضي الحكم بشيء أصلاً. وهذا القول مبني على أن أبعاض الجمل كنوع آخر، وهو أصل نختلف فيه، وعليه يخرج حكم مطلق البتة إذا استثنى منها.

كتاب الخلع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الخلع وفيه أبواب: الباب الأول: في حقيقته وهو عبارة عن خلع العصمة بعوض من الزوجة أو غيرها. وفيه فصلان: الفصل الأول: في أثره. وهو الطلاق، فتقع طلقة بائنة فرعان: الأول: لو وقع التنصيص على أنها رجعية مع وجود البدل، فهل تمضي كذلك مراعاة للقصد ولما دخلا عليه؟، أو ترجع إلى الأصل؟ روايتان. والرجوع إلى الأصل مذهب الكتاب. وسبب الخلاف معارضة البدل للشرط الفرع الثاني: عكسه، وهو أن يعرى الطلاق من العوض، ويقصد البينونة، فحكى القاضي أبو محمد ((أن الطلاق يكون بائناً عند مالك، ورجعياً عند أشهب)). وقد روي فيمن قال: أخالعك على أن أعطيك مائة درهم، فقبلت، كانت بائنة، لا يملك رجعتها. وكذلك لو لم يعطها الزوج شيئاً، فخالعها، فهي بذلك أيضاً بائن، وفي الكتاب أنه سئل عن المطلق طلاق الخلع، أواحدة بائنة، أم واحدة وله الرجعة؟ فقال: لا، بل البتة، لأنه لا تكون واحدة بائنة أبداً إلا بخلع، وصار كمن قال لزوجته التي دخل بها: أنت طالقة

الفصل الثاني: في نسبة الخلع إلى المعاملات

طلاق الخلع. ومن قال ذلك، فقد أدخل نفسه في الطلاق البائن. ولا يقع في الطلاق بائن إلا بخل، أو يبلغ به الأقصى، وهي البتة. ثم عقب هذا في الكتاب بذكر اختلاف رواية ابن وهب عن مالك فيمن طلق وأعطى، أنها رجعية، أو بائن. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: صحيح المسألة خالع وأعطى. وكذلك ذكرها محمد عن الحرث عن ابن وهب عن مالك. وقال عبد الحق: ((الاختلاف الذي ذكر إنما هو في كتاب ابن وهب، فيمن صالح وأعطى وليس فيمن طلق وأعطى. وكذلك أيضاً في كتاب ابن المواز)). قال: ((هذا هو الصحيح. إذ من طلق وأعطى لا خلاف أن الرجعة له، لأنه إنما وهبها هبة وطلقها، فليس هذا من الخلع في شيء)). وقد نقل بعض المتأخرين فيمن طلق وأعطى إذا قصد بذلك طلاق الخلع ثلاثة أقوال: واحدة رجعية، واحدة بائنة، وثلاث. ثم قال: ((والأقوال الثلاثة جارية فيمن قال: أنت طالق طلاق الخلع)). فرع: قال ابن القاسم في العتبية: ((قال مالك فيمن طلق امرأتة واحدة، فأعطته مالاً في العدة على أنه لا رجعة له عليها، قال: أراه خلعاً، وتلزمه طلقة بائنة)). وقال عيسى عن ابن القاسم مثله. وقال: ((على أن لا يراجعها، قال: وتبني على عدتها)). وروى عبد الملك بن الحسن عن أشهب أنه قال: إن شاء راجعها ورد إليها المال. وفي كتاب محمد روى عبد الرحمن بن أبي جعفر الدمياطي عن ابن وهب أنه قال: لا يلزمه غير الطلقة الأولى، ولا رجعة له عليها. الفصل الثاني: في نسبة الخلع إلى المعاملات وهو يجري في ثبوت العوض في الذمة مجرى البياعات، فيقول: خالعتك أو طلقتك

الباب الثاني: في أركان الخلع

على ألف. فهو كالمعاوضة في اشتراط القبول. ولو قال: طلقت ثلاثاً على ألف، فقالت: قبلت واحدة على ثلث الألف، لم تقع. ولو قبلت الواحدة بكمال الألف وقعت. أما إذا أتى بصيغة التعليق فقال: متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق. فهذا تعليق محض، فلا يحتاج إلى قبولها، ولا إلى إعطائها في المجلس، ولا له الرجوع قبل الإعطاء. ولو قال: إن أعطيتني، فهو كذلك، إلا أن يظهر من قصده أنه أراد تعجيل الإعطاء في المجلس فيتقيد به، فإن أتت صيغة التعليق من جانب المرأة فقالت: متى طلقتني فلك ألف، لم تختص بالمجلس، إلا أن تكون قرينة تدل على ذلك. ولو قالت: طلقني ثلاثاً على ألف، فقال: طلقتك واحدة على ثلث الألف، استحق ثلث الألف. وكذلك لو قال: على الألف، نفذ واستحق الألف على المنصوص، ولا كلام لها، لأن مقصودها حاصل. الباب الثاني: في أركان الخلع وهي أربعة: العاقدان والعوضان. الأول: الموجب، وشرطه أن يكون مكلفاً زوجاً، أو من أقيم مقامه، كالأب في غير البالغ من بنيه إذا أخذ له شيئاً. فإن كان بالغاً سفيهاً، فقيل: يجوز حلع الأب عنه قياساً على نظره في أمواله. وقيل: لا يجوز قياساً على الطلاق وكالوالي في الصغير. وكالسيد في عبده وأمته. وقيل: لا يمضي خلع السيد عليهما بغير اختيارهما. ومنشأ الخلاف النظر إلى الإجبار على النكاح وهذا من توابعه، أو إلى كون العقد قد استقل ولا حكم للسيد فيه فلا يزيله بغير اختيارهما. وعن هذا رأى أبو الحسن اللخمي: أنه يخالع عن الأمة التي العصمة بيد غيرها، دون العبد الذي العصمة بيده. واختلف في صحة خلع السفيه. ثم إذا صححنا، فلا يبرأ المختلع بتسليم المال إليه، بل إلى الوالي. الركن الثاني: القابل وشرطه أن يكون أهلاً لالتزام المال، والتزام الأمة فاسد، واختلاعها بإذن السيد صحيح، ولا يكون السيد ضامناً للمال.

واختلاع السفيه فاسد لا يوجد المال، ويرد إن كان قبض، لكن إذا قبلت وقع الطلاق وإذا اختلعت الصبية لم يلزمها العوض، ووقع الطلاق. وروي عن ابن القاسم في التي لم تحض، وقد بنى بها الزوج، فصالحته على مال أعطته إياه، فذلك نافذ وله ما أخذ إن كان يصالح به مثلها. ((قال أبو بكر بن محمد: المعروف من قول أصحابنا، أن المال مردود، والصلح ماض)). ويصح صلح الأب عمن يجبر من بناته، وعن صغار ذكور ولده. واختلف في سفهاء بالغيهم، وفيمن لا يجبر، ولا تملك أمرها. ومنشأ الخلاف أن النظر فيه مشترك بين المال والبضع بأيهما يغلب؟ والمريضة إذا اختلعت بخلع مصلها مضى ذلك على ورثتها في رواية ابن وهب. ومذهب الكتاب في ذلك أنه لا يجوز للزوج منه إلا قدر ميراثه منها أو أقل. فرع: وهل يعتبر قدر ميراثه منها يوم الخلع أو يوم الموت؟ فيه خلاف. ثمرته الحكم برجوع الورثة على الزوج لو هلك مالها أو بعضه قبل الموت، وعدم رجوعهم. الركن الثالث: المعوض وشرطه أن يكون مملوكاً للزوج، فلا يصح خلع البائنة، والمختلعة، والمرتدة، ويصح خلع الرجعية.

الركن الرابع: العوض وشرطه أن يكون متمولاً. ولا يشترط في صحة الخلع كونه سليماً من الغرر والجهالة، بل لو خالع على مجهول صح الخلع، ووقع الطلاق، إذ ليس سبيله سبيل المعاوضات المحضة كالمبايعات التي تبتغي فيها الأثمان، وإنما [المبتغى] في هذا تخلص الزوجة من الزوج، وملكها لنفسها، وفارق النكاح لأن الصداق حق لله سبحانه، وتجويز الجهالة فيه ذريعة إلى إخلاء النكاح عنه، وليس كذلك الخلع. واختلف في حكم الإقدام عليه، فحكى فيه بعض المتأخرين ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة. أما لو اختلعت بخمر أو خنزير أو مغضوب، فلا يختلف المذهب في منعه ابتداء، ونفوذه إذا وقع، والمنصوص أنه لا شيء للزوج فيه. واستقرأ أبو الحسن اللخمي إيجاب خلع المثل من خلع المريضة. ولو خالعها على أن أخرته بدين واجب لها تعجيله، أو على أن أسقطته وأخذت ماله تأجيله، فالخلع ماض، والدين باق بحاله، يبطل فعلها، ويخرج على الخلاف المتقدم في إيجاب خلع المثل. وإن خالعته على حلال وحرام، كمال وخمر، جاز منه الحلال، ولا شيء للزوج غير ذلك. وإن خالعها على عبد آبق، على أن زادها ألف درهم، فجوزه في الكتاب، وقدر أن العبد يجعل في مقابلة العموم، وهي الدراهم، فإن فضل فضل كان الخلع. قال أبو محمد عبد الحق: ((وهو جار على مذهب ابن نافع في الموضحتين، أنه يجعل الشقص المصالح به لموضحة الخطأ. وأما على مقتضى قول ابن القاسم في قسمة المأخوذ بين الموضحتين، فيكون نصف العبد ها هنا في مقابلة نصف الألف، فيفسخ البيع فيه، وترد المرأة نصف الألف للزوج، ويبقى لها نصف العبد الآبق، وللزوج النصف الآخر بحق الخلع)). وإذا فرعنا على القول الأول، فهل تعتبر القيمة يوم الخلع، أو يوم قبض العوض، المشتمل على الغرر، وهو المشهور؟ قولان.

((ولو خالعها على ما في يدهل، ورضي، ففتحت يدها فلم يجد فيها شيئاً، فقال أشهب: لا يلزمه طلاق. قال: وكذلك إن وجد حجراً. وإن وجد ما ينتفع به كالدرهم ونحوه لزمه الخلع. وقال ابن الماجشون: يلزمه الخلع لأنه رضي بما غرته. وقاله محمد وسحنون)). قال عبد الملك: ولو قالت أخالعك بعبدي هذا، ثم استحق، فإن كان لها فيه شبهة ملك لزمه الطلاق، ورجع عليها بقيمته، وإن لم يكن لها فيه شبهة ملك لم يلزمه طلاق. قال: كذلك لو قالت: خالعني على عطائي، ولا عطاء لها، أو لها عطاء معوق عنها. فرع: حيث وقع الخلع بالغرر وأمضيناه، فالجعل في طلب الآبق والشارد على الزوج إذا لم تتحمل له المرأة النفقة على ذلك. (وأما الجنين والثمرة، فقال أبو محمد عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين: ((إذا خالعته على جنين في بطن أمه، فالنفقة على المرأة إلى خروج الجنين)). قال: وكذلك إذا خالعته على ثمر لم يبد صلاحه، فالنفقة على الأصول على المرأة، كالبيع على التبقية إذا أمضينا ذلك على غرره. وليس للمرأة أن تجبر الزوج على جد الثمرة، لأنه إنما دخل على بقائها. قال: وقال غيره من شيوخنا القرويين: سقي الثمرة على الزوج، وليس ذلك كالبيع، وجعل السقي كالجائحة)). ولو خالعها على أن ترضع ولده حولين، وتحضنه، صح، فإن أضاف إليه نفقة عشر سنين سقطت. وقال المخزومي: لا تسقط. قال أبو القاسم بن محرز: ومذهب المخزومي أظهر وأشبه بمذاهبهم في الخلع بالغرر. قال: وإنما فرق مالك بينه وبين من خالع بغرر كالآبق والشارد، ونحو ذلك، لأن هذا الذي خالع على الآبق والشارد، إنما خالع على عين إن أخذها، وإلا فلا شيء له. والذي خالع على نفقة الولد أكثر من عامين، شرط النفقة في ذمة على غرر، وقد لا يسلم الولد، فيؤدي الأمر إلى الخصومة فيما شرطت على نفسها لاشتباه الحكم في ذلك. وإنما سامح في العامين وما دونهما وإن كانت غرراً أيضاً، لأن الصبي مضطر إلى رضاع أمه في الحولين. ولو لم يشترط ذلك عليها لشق على أبيه تكلف من يرضعه له. وليس في النفقة بعد الحولين في

الباب الثالث: في موجب الألفاظ المعلقة بالإعطاء

الطعام والشراب ما يشق على الأب تكلفه. وإذا فرعنا على المشهور في قصر الصحة على الحولين، ثم ماتت الأم رجع الأب ذلك في تركتها. ولو كان الولد هو الذي مات قبل انقضاء مدة الرضاع، ففي رجوع الأب عليها بما بقي خلاف. ومما يتعلق بالعوض موافقة الوكيل ومخالفته، والنظر في وكيله ووكيلها. أما وكيله، فإن قال له: خالعها بمائة فخالف ونقص، بطل الخلع ولم يقع الطلاق. ولو قال مطلقاً: خالعها، فنقص عن خلع المثل، فادعى الزوج أنه أراد خلع المثل فالقول قوله. وأما وكيلها بالاختلاع بمائة، فإن زاد وقع الطلاق، ولزمتها المائة، والزيادة على الوكيل. وإن أضاف الوكيل الاختلاع على نفسه، صح، ولزمه المسمى. وإن لم يصرح بالإضافة إليها ولا إلى نفسه حصلت البينونة، وعليها ما سمت، والزيادة على الوكيل. وإن أذنت مطلقاً فهو كالمقيد بخلع المثل. الباب الثالث: في موجب الألفاظ المعلقة بالإعطاء وفيه مسائل: الأولى: إذا قال: إن أعطيتني ما أخالعك عليه خالعتك، فأعطته نصف دينار مثلاً، فقال: لم أرد هذا، وإنما أردت نصف ما [تملكين]، فلا يلزمه الخلع. قال في الرواية: ويخلى بينه وبينها. وعند الشيخ أبي إسحاق: أن له أن يطالبها بجميع ما تملكه. وأنكر هذا الشيخ أبو الحسن اللخمي، ورأى أن ذلك ليس من مقاصد الناس، وإنما يقصدون بعض المال لا كله. الثانية: إذا علق بالإقباض والأداء والإعطاء، لم يختص بالمجلس، إلا أن يظهر ما يدل على اختصاصه به. وإن كان بما يقتضي الجواب، وففي بقائه لها وإن تفرقا خلاف.

الباب الرابع: في سؤال الطلاق

ولو قال لها: متى ما جئت بكذا فارقتك، أو أفارقك، فأصل هذا أن ينظر فإن فهم عنه الالتزام لزمه، وإن فهم عند الوعد ففي المذهب قولان في وجوب الوفاء به. قال الشيخ أبو الطاهر: ((فأما لو أدخلها في شيء بذلك الوعد، فالمذهب اللزوم)). قال: ((وفي هذه المسألة قولان منصوصان، وهما منزلان على ما قلناه)). الثالثة: إذا قال: إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فأعطته ألفين، طلقت. وكذلك لو قال: خالعتك على ألف، فقالت: قبلت ألفين. الرابعة: إذا قال: إن أعطيتني ألف درهم، وفي البلد نقود مختلفة، والغالب واحد، فأتت بغير الغالب، لم يقع الطلاق، بل يختص وقوعه بالغالب، كالإقرار والمعاملة. ولو أتت بألف معيب لم تطلق، لوجوب تنزيل المطلق على المعتاد، وهو السليم. الخامسة: إذا كان الغالب دراهم عددية، قبل تفسير التعليق بالمعتاد، كما ينزل عليها البيع والإقرار. وكذلك الحكم في الدراهم المغشوشة إذا كانت هي الغالبة في التعامل. السادسة: إذا قال: إن أعطيتني عبداً فأنت طالق، ووصف العبد بما يميزه من الأوصاف، فأتت به على الصفة المذكورة طلقت، وملكه الزوج. وإن اقتصر على ذكر العبد مطلقاً، طلقت (بما) ينطلق عليه اسم العبد من السليم. ولو قال: إن أعطيتني هذا العبد، فأعطته، فخرج مستحقاً، رجع بقيمته. ولو خرج حراً رجع بقيمته أيضاً أن لو كان عبداً. وقيل: لا يرجع بشيء. ولو قال: إن أعطيتني هذا الحر وقع الطلاق بإعطائه رجعياً. ولو قال: إن أعطيتني هذا الثوب المروي فإذا هو هروي، طلقت إذا أعطته. الباب الرابع: في سؤال الطلاق وفيه فصول: الفصل الأول: في ألفاظه وفيه صور نذكرها متتالية. فنقول: إذا قالت: متى ما طلقتني فلك ألف، لم يختص الجواب بالمجلس، إلا أن يظهر من قرينة حالها ذلك. ولو قالت: طلقني ولك علي ألف، فطلق، لزمها الألف، وصلحت هذه الصيغة منها للالتزام، وإن لم يصلح منه للالتزام. ولو قالت: طلقني على ألف، فقال: طلقتك ولم يذكر

الفصل الثاني: في التماسها طلاقا مقيدا بعدد

المال لزمه الطلاق، وكان جواباً. ولو قالت: أبني بألف، فقال: أبنتك بعد الخلع، ولزمها الألف. ولو قالت: أبني، من غير ذكر مال، فقال أبنتك، وقع الطلاق الثلاث، ولم يلزمها مال. الفصل الثاني: في التماسها طلاقاً مقيداً بعدد فإذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فطلق واحدة، استحق الألف على المنصوص، وكذلك لو قالت: طلقني عشراً بألف، استحق الألف بالواحدة. ولو قالت: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثاً، استحق الألف، ولا كلام لها على المنصوص. ولو قالت: طلقني نصف طلقة، أو طلق نصفي بألف، فطلق، بانت، وعليها الألف. الفصل الثالث: في المعلق بزمان فإذا قالت: طلقني غداً ولك (ألف)، استحق الألف مهما طلق، إما في الغد، وإما قبله إذا فهم من مقصودها تعجيل الطلاق. وإن فهم منها تخصيص اليوم لم يستحق، ولو طلق بعده لم يستحق. ولو قالت له: لك ألف إن طلقتني في جميع هذا الشهر، ولم تؤخر، استحق الألف إن وافق. ولو قال: أنت طالق غداً على ألف، فقالت في الحال: قبلت، وقع الطلاق في الحال، واستحق الألف. الفصل الرابع: في اختلاع الأجنبي وهو صحيح، كاختلاعها، ولا يشترط رضاها، لكن المال يجب على الأجنبي، وإن كان وكيلاً من جهتها، يخبر بين أن يخلع مستقلاً، أو بالوكالة، ويعرف ذلك من لفظه ونيته. فإن لم يصرح بالسفارة ونوى النيابة، تعلقت به العهدة، كما في الشراء. ولو كان المختلع أباها وهي صغيرة، كان كالوكيل. وإن اختلعها بالبراءة من الصداق صح إذا رآه نظراً. الفصل الخامس: في النزاع، وفيه صور: (إحداها): أن يقع في أصل ذكر العوض، فالقول قولها مع يمينها إذا أنكرت أصل العوض، والبينونة تحصيل مؤاخذة له بقوله. وقال عبد الملك: القول قوله، وتعود زوجة بعد أن يحلف الزوج أنه خالع على ما ذكر، وتحلف هي أنه كان طلاقاً بغير عوض.

وقال أصبغ: إلا أن يقول الزوج: إنما أردت أن لا يتم الخلع حتى تعطيني إذا نسق ذلك بإقراره بالخلع، فأما إذا قاله بعد ذلك، فلا قول له. الثانية: النزاع في جنس العوض وقدره، والقول قولها فيهما مع يمينها. الثالثة: إذا توافقا على جريان الخلع بألف درهم مطلقاً، وفي البلد نقود مختلفة لا غالب فيها، ولكن نويا نوعاً واحداً، صح الخلع. الرابعة: النزاع في المعوض. فإذا قالت: سألتك ثلاث تطليقات بألف. فأجبتني، فقال: بل سألت واحدة. فقد اتفقا على الألف ووقوع البينونة بها وتنازعا في عدد الواقع من الطلاق، فالقول فيه قوله. الخامسة: إذا خالعته على عبد غائب، فمات، أو وجد به عيباً، فقال: كان ذلك قبل الصلح، وقالت هي: بل بعده. فهي مدعية، وعليها البينة. وإن ثبت أنه مات بعد الصلح، فلا عهدة، بخلاف البيع. قال عبد الحق: ((وقال غير واحد من شيوخنا القرويين: إذا خالعته على عبد آبق فثبت أنه مات قبل وقوع الخلع بينهما، لم يكن للزوج درك على المرأة، لأنه على الغرر دخل، إلا أن يثبت أن المرأة علمت بموت الآبق قبل الخلع، فتكون قد غرته، فعليها قيمة الآبق على غرره)). فروع: لو خالع ثم تبين كون النكاح فاسداً، رد ما أخذ منها إن كان النكاح مجمعاً على فساده. وإن كان مختلفاً فيه، جرة على القولين في مراعاة الخلاف. وإن تبين أن به عيباً يوجب الخيار، أو بها، فقال محمد: يمضي الخلع، وله ما أخذ في كل شيء يجوز المقام عليه. وإنما يرد ما أخذ في نكاح لا يقران عليه مثل الحرام ونحوه. وخالف عبد الملك بين عيوب الرجال وعيوب المرأة، فقال: إن كان العيب بالرجل، رد عليها ما أخذ منها. وكذلك في كتاب ابن سحنون. قال محمد: والحجة على عبد الملك أن الرجل يفارق امرأته، ثم يقول بعد ذلك: إنه قد كان بها من العيوب ما كان، له أو يردها به، فلا يكون له بذلك حجة، ولا ينتفع بشيء من ذلك. قال: أبو إسحاق التونسي: ولا يمتنع عبد الملك أن يقول ما قاله محمد إذا ثبت أن بها عيوبا قبل أن يفارقنا لو علم الزوج بها لفارقها، ولم يلزمه صداق، لأنه يقول: ظننت أنه لا عيب بها، فلهذا أعطيتها نصف الصداق حين طلقتها.

كما تقول المرأة إذا أعطت الزوج شيئاً على الخملع ثم ثبت أن به عيباً لو علمته لقدرت على فراقه بغير شيء، فتقول: لو علمت لاخترت فراقه، ولم أعطه شيئاً. ولا فرق بين السؤالين. قال: وقد اختلف في خلعها في النكاح المختلف فيه، مما يجب أن يفسخ لو علم به قبل خلعها، فقيل: يمضي الخلع، وقيل: يرد. ومسألة عيب الرجل أشد في الخلع من النكاح المختلف فيه، لإمكان أن يرفع إلى من يرى إثباته، فقد انتفعت بالخلع، إذ قد يمكن لو رفعته إلى حاكم لأقره. وأجرى الشيخ أبو الطاهر الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الرد بالعيب هل هو نقض للعقد من أصله، فيرد ما أخذ منها، أو هو نقض عند الرد خاصة فيمضي. ولو حلف بطلاقها إن خالعها، ثم خالع، فإن كانت يمينه بالثلاث، ففي الرواية أنه يرد ما أخذ منها، ويمضي عليه الطلاق الثلاث. وأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في حق من قال: إن بعث عبدي فهو حر، ثم باعه. والمشهور مضي العتق. والشاذ أن البيع ماض، ولا عتق، وعلى هذا يمضي الخلع، ولا ترجع عليه بشيء. وإن كان الطلاق المحلوف به دون الثلاث، ففي الرواية أنه يقع ما حلف به وطلاق الخلع. وأجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف فيمن أتبع الخلع طلاقاً، أو قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، نسقاً، هل يلزمه ما بعد الواحدة أم لا؟.

كتاب الطلاق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الطلاق والنظر في شرطين: الأول: في عموم أحكامه. والثاني: في التعليقات خاصة أما النظر الأول ففيه (ستة) أبواب: الباب الأول: في السنة، والبدعة، وفيه فصلان الفصل الأول: في بيان الطلاق السني والبدعي: وطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي أباح الشرع إيقاعه عليه. والبدعي نقيضه، وهو الواقع على الوجه الذي منع الشرع إيقاعه عليه. ولمنع إيقاع الطلاق أسباب: أحدها: الحيض فيمن تعتد به، فطلاق الحائض بعد الدخول بدعي. واختلف في منعه، هل هو لما فيه من تطويل العدة، إذ بقية الحيض لا تحتسب. أو هو غير معلل. ولا بدعة في طلاق غير الممسوسة من هذا الوجه. والخلع في الحيض كابتداء الطلاق فيه. وقيل: يجوز. واختلف في علة الجواز: فقيل: لأن ذلك تطويل برضاها. وقيل: إنه معلل بضرورة الافتداء. ويخرج على تحقيق العلة فرعان: جواز الطلاق برضاها، وإن لم يكن عوض. واختلاع الأجنبي. وفي التطليق على المولي في الحيض للضرورة روايتان. فرع: من واقع المكروه.، فأوقع الطلاق في حيض أو نفاس، ففي سياق كلام أشهب في كتاب محمد: [أجبر] على الرجعة سواء [ابتدأه] أو حنث فيه فإن أبى هدد بالسجن، فإن استمر على الامتناع حبس، فإن أصر ضرب بالسوط، ويكون ذلك كله قريباً في موضع

واحد، لأنه على معصية، فإن لم يطع ارتجع الحاكم عليه. ثم هذ الأمر بالارتجاع والإجبار عليه مستمر عند ابن القاسم ما بقي من العدة شيء. وقال أشهب: يجبر ما لم تطهر من الحيضة الثالثة (الحيضة) الطلاق، لجواز ابتدائه الطلاق حينئذ. فرع مرتب: إذا أجبر على الرجعة ولم ينوها، فقال الشيخ أبو عمران: ((له الوطء بعد ذلك وهو كالمتزوج على طريق الهزل)). قال عبد الحق: ((وهذا ظاهر ما رأيته لمن تقدم من أهل المذهب)). قال: ((ورأيت لبعض البغداد بين ما ظاهره خلاف هذا، وأنه لا يجوز له الوطء)). ثم المستحب بعد الارتجاع أن يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها بعد ذلك، لئلا تكون الرجعة للطلاق. فإن طلق في الطهر التالي للحيضة التي طلق فيها كره له ذلك، ولم يجبر على الرجعة. فرع: روى عيسى عن ابن القاسم، فيمن طلق امرأته فقالت: طلقتني في الحيض، وقال هو: بل وأنت طاهر. أن القول قوله. وروى ابن سحنون عن أبيه، فيمن طلق امرأته، فقالت: إني حائض، أنها مصدقة، ولا تكشف، ويجبر على الرجعة، ولا أرى أن ينظر إليها النساء. السبب الثاني: التعدد، فمن أوقع عدداً في دفعة واحدة إثنتين أو ثلاثاً، فطلاقه بدعي.

الفصل الثاني: في التعليق بالسنة والبدعة، وفيه مسائل

ولا يكون الطلاق سنياً إلا مع الاتحاد وعدم التعدد، فلا يوقع في دفعة واحدة ولا في طهر واحد أكثر من طلقة واحدة فقط. السبب الثالث: إمكان الحمل، فالطلاق في طهر جامعها فيه بدعي. ولو وطئها في الحيض، ثم طلقها فيه، فهو بدعي أيضاً. والآيسة والصغيرة لا بدعة في طلاقهن إلا من حيث العدد. ويخرج حكم طلاق غير الممسوسة والحامل في حال حيضها على الخلاف في تعليل منع الطلاق في الحيض، هل هو معلل أو غير معلل. الفصل الثاني: في التعليق بالسنة والبدعة، وفيه مسائل: الأولى: إذا قال للحائض: أنت طالق للبدعة طلقت في الحال، وأجبر على الرجعة. وكذلك لو قال: للسنة، للزمه (مكانها) طلقة، وأجبر على الرجعة، إذ كأنه قال: إذا طهرت فأنت طالق، (فيتنجز) عليه الطلاق الآن على المشهور من المذهب. ولو قال للطاهر: أنت طالق للسنة وقع في الحال. وكذلك إذا قال: للبدعة على الخلاف المتقدم. كما لو قال: لها أنت طالق إذا حضت. وللام فيما ينتظر للتأقيت، كقوله: أنت طالق لرمضان، فيقع الطلاق إذا كان التأقيت لما يأتي بلا بد. وكذلك إن كان غالباً، على المشهور. وإن كان الإمكان في إتيانه وعدم إتيانه على السواء لم يقع إلا بعد إتيانه. بخلاف قوله: أنت طالق لرضا فلان، فإنه للتعليل، فيقع في الحال وإن سخط فلان. الثانية: إذا قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، لزمه الآن ثلاث على المشهور، لأن ما عجل عليه يقع عليها على التنزيل قبل فراغ العدة، إذ كأنه قال: أنت طالق في كل طهر طلقة. الثالثة: إذا قال للطاهر المدخول بها، وهي ممن تحيض: أنت طالق ثلاثاً (بعضهن) للسنة، وبعضهن للبدعة، لزمه ثلاث مكانه. وكذلك لو قال ذلك لغير مدخول بها، لطلقت مكانها ثلاثاً أيضاً، لأن طلاق البدعة فيها يكون ثلاثاً. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة، فقال سحنون: لا يلزمه فيها إلا طلقة، لأنها لا عدة عليها، فكأن الطلقتين أوقعهما على غير زوجة، كما لو قال: أنت طالق اليوم، وطالق غداً، وطالق بعد غد، فهي قد بانت بالأولى.

الباب الثاني: في أركان الطلاق

الرابعة: إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة. طلقت واحدة، إن كانت غير مدخول بها. وإن كانت مدخولاً بها طلقت ثلاثاً الآن على الخلاف المتقدم. الخامسة: إذا قال: أنت طالق خير الطلاق وأجمله وأفضله وأحسنه، طلقت واحدة، إلا أن ينوي أكثر. ولو قال: أقبح الطلاق وأسمجه وشره، أو أقذره، أو أنتنه، أو أبغضه فهي ثلاث. ولو قال: أنت طالق واحدة عظيمة، أو قال: كبيرة، أو شديدة، أو طويلة، أو خبيثة، أو منكرة، أو مثل الجبل، أو مثل القصر، أو أنت طالق إلى البصرة أو إلى الصين. فذلك كله سواء، وهي طلقة، وله الرجعة، إلا أن ينوي أكثر. الباب الثاني: في أركان الطلاق ولابد لنفوذ الطلاق من أهل ومحل ولفظ أو ما يقوم مقامه من الفعل، وقصد إلى اللفظ، وولاية على المحل. فهذه خمسة أركان: الركن الأول: الأهل، وهو المطلق. وشرطه أن يكون مسلماً مكلفاً. فلا ينفذ طلاق الكافر، ولا الصبي، ولا من زال عقله (بجنون)، أو إغماء، أو نحو ذلك. من نوم أو غيره مما يذهب الاستشعار. أما السكران بخمر أو نبيذ، فالمشهور نفوذ طلاقه. قال الإمام أبو عبد الله: وقد رويت عندنا رواية شاذة، أنه لا يلزم)). وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله، إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه، فيخطئ ويصيب. قال: ((فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله، فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضاً، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه، بخلاف المجنون،

الركن الثاني: اللفظ

من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها)). الركن الثاني: اللفظ، وما يقوم مقامه من الفعل، وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في اللفظ، وينقسم إلى الصريح والكناية، وما عداهما أما الصريح، فما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه كان، مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق لي لازم، أو قد أوقعت عليك الطلاق، وأنا طالق منك، وما أشبه هذا مما ينطق فيه بالطلاق، فيلزم بهذه الألفاظ الطلاق، ولا يفتقر إلى النبية. ومطلقها واحدة، إلا أن ينوي أكثر. وأضاف القاضي أبو الحسن إلى ذلك قوله: ((سرحتك، وفارقتك، وأنت حرام، وبتة، وبتلة)). فأما لفظ السراح والفراق فيأتي حكمهما، وأما ما عداهما. فيقتضي الثلاث، إلا أن ينوي في غير الدخول بها دونها، فيقبل في الجميع، خلا البتة، فإن قبول ذلك فيها مختلف فيه. وأما الكناية فقسمان: ظاهرة ومحتملة. فأما الظاهرة، فهي ما جرى العرف أن يطلق بها في اللغة والشرع، مثل قوله: أنت خلية، وبرية، (وبائنة)، وبتة، وبتلة، وحبلك على غاربك، وأنت حرام، وأنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير. كذلك الفراق والسراح، واعتدي. فأما قوله: خلية وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وحرام، وحبلك على غاربك، فهذه جارية مجرى الصريح، لا يقبل منه أنه لم يرد (بها) الطلاق، ولا يقبل منه أنه أراد بها في المدخول بها دون الثلاث، إلا أن يكون على وجه الخلع. وتقبل دعواه في غير المدخول بها، وفي البتة خلاف. [و] قيل: إنها ثلاث، لا تقبل (دعوى) دونها بوجه. فأما اعتدي، فيقبل منه ما أراد من أعداد الطلاق. وإن قال: لم أرد طلاقاً، فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه. وإن كان ابتداءً كان طلاقاً. وأما خليتك، وفارقتك، وسرحتك، فدعواه ما دون الثلاث مختلف فيه، قال القاضي أبو

محمد: ((والصحيح أنه لا يقبل منه)). وأما المحتملة، فمثل قوله: اذهبي، وانطلقي، وانصرفي، واغربي، وما أشبه ذلك، فيقبل منه ما يدعيه من إرادة الطلاق، أو غيره، والثلاث فدونها. ويلحق بالكنايات المحتملة، قوله: أنت حرة، ومعتقة، كما أن قوله: أنت طالق، كناية في العتاق. أما ما عدا الصريح والكناية، فهو ما ليس من ألفاظ الطلاق، ولا محتملاته، كقوله: أسقني ماء وما أشبه ذلك. فإذا ادعى أنه أراد به الطلاق، فالمشهور أنه يكون طلاقاً. وقيل: لا يكون طلاقاً. فروع: إذا قال: ما أنقلب إليه من أهل حرام، أو ما أنقلب إليه حرام، لزمه الطلاق. ولو قال: ما أنقلب إليه حرام إن كنت لي بامرأة. ففي دخول الزوجة في ذلك قولان. ولو قال: وجهي من وجهك حرام، ففيه خلاف أيضاً. ولو قال لزوجته: يا حرام. فقال الشيخ أبو عمران: قال محمد بن عبد الحكم: لا شيء عليه. قال: وليس لغيره نص فيها. قال: وإذا كان في بلد لا يريدون به الطلاق، إنما ذلك كقول القائل: إنك سحت، أو حرام، وقوله لماله: يا حرام، يا سحت. (فلا) شيء عليه. أما إذا قال: ما أعيش فيه حرام، ولا نية له. فقال محمد: لا شيء عليه. قال عبد الحق: ((وأعرف (فيها) قولاً آخر: إن زوجته تحرم عليه، كالقائل: الحلال (عليه) حرام. وأظنه في السليمانية)). قال: ((ورأيت في بعض التعاليق: سئل الشيخ أبو عمران عن القائل: كل ما يعيش فيه حرام. وقيل له: قد صار هذا عند الناس طلاقاً في (عادتهم) ويقصدون به تحريم الزوجة. فقال: إذا صار ذلك عادة، لزم به الطلاق)). ثم إذا قلنا بدخول الزوجة في قوله: كل ما أعيش فيه حرام، وتحرم عليه بذلك، ما لم يحاشها بلفظه، أو بنيته، فإن فعل فلا شيء عليه. وأما إن حاشى الزوجة في قوله: الحلال عليه حرام، أو غيره من ألفاظ الحرام

(الشبيهة) بها، فإن كان مستفتياً، وذكر أنه نطق بها بلسانه، قبل قوله. وإن كان غير مستفت، أو كان مستفتياً ولم ينطق بها بلسانه، بل اعتقد ذلك بقلبه، فإن لم يقل: كل، نفعته المحاشاة، وإن قال: كل حلال علي حرام، أو شبه هذا اللفظ مما نطق (فيه) بلفظ كل، ففي انتفاعه بالمحاشاة خلاف. أما إذا لم يحاش الزوجة في قوله: الحلا علي حرام، أو ما أحله الله عليه حرام، (أو كل حلال)، أو كل ما أحله الله عليه حرام. أو قال للزوجة: أنت علي حرام، (أو أنت حرام)، فإنه يقع عليه الطلاق في زوجته، ولا يحرم عليه غيرها. (ثم) اختلف المذهب فيما يقع عليه من ذلك، فالمشهور من المذهب أنه ثلاث تطليقات، وينوي في أقل في غير المدخول بها خاصة. ولعبد الملك في المبسوط: لا ينوي في أقل، وإن لم يدخل. وعند أبي مصعب ومحمد بن عبد الحكم: في حق المدخول بها ثلاث، وفي حق من لم يدخل بها واحدة. وذكر ابن خويز منداد عن مالك أنها واحدة بائنة، وإن كانت مدخولاً بها. قال الإمام أبو عبد الله عقب ذكر هذه المسألة: وقد اختلفت أجوبة مالك وأصحابه في كنيات الطلاق، فسلكوا فيها طرقاً مختلفة، ففي بعضها يحمل اللفظ على الثلاث، ولا ينوي في أقل، وفي بعضها ينوي في أقل. وفي بعضها على الواحدة حتى ينوي أكثر منها. وفي بعضها ينوي قبل الدخول، ولا ينوي بعده. وفي بعضها فيمن لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث. قال: هذا جملة ما يقولونه (من) ذلك. ويختلفون في بعض الألفاظ، من أي هذه الأقسام هو؟ وتفصيل ذلك وذكر الروايات فيه، وتعديد الألفاظ فيه طول، ولكنا نعقد أصلاً يرجع إليه جميع ما وقع في الروايات على كثرتها، ويعلم منه سبب اختلافهم فيما اختلفوا فيه، ووجه تفرقتهم فيما فرقوا فيه، ووجه التنويه في بعض دون بعض. ثم قال: فاعلم أن الألفاظ الدالة على الطلاق بحكم الوضع واللغة، أو بحكم عرف الاستعمال، إما أن تتضمن البينونة والعدد جميعاً، كقوله: أنت طالق ثلاثاً، فهذا لا

يختلف في وقوع الثلاث به، وأنه لا ينوي، ولا يفترق الجواب في المدخول بها، وغير المدخول بها. أو تكون دلالتها على البينونة وانقطاع الملك خاصة، فينظر في ذلك، هل يصح انقطاع الملك والبينونة بالواحد، أم لا يصح في الشرع إلا بالثلاث، وهذا أصل مختلف فيه أيضاً إذا لم تكن معه معاوضة. أو يكون يدل على عدد غالباً، وقد يستعمل في غره نادراً، فيحمل مع عدم القصد على الغالب، ومع وجود القصد إلى النادر عليه إذا جاء مستفتياً فيه. وإن كانت عليه بينة (فتختلف) فروع هذا القسم. وإن كان يستعمل في الأعداد استعمالاً متساوياً، وقصد إلى أحد الأعداد قبل منه، جاء مستفتياً، أو قامت عليه بينة فإن لم يكن له قصد، فهذا موضع الاضطراب، فمن أصحابنا من يحمله على أقل الأعداد استصحاباً بالبراءة للذمة، وأخذاً بالمتيقن دون ما زاد. ومنهم من يحمله على أكثر الأعداد أخذاً بالاحتياط واستظهاراً في صيانة الفروج لا سيما على قولنا: إن الطلقة الواحدة تحرم، فكأن الاستباحة بالرجعة مشكوك فيها ها هنا، ولا تستباح الفروج بالشك. قال: فاضبط هذا، فإنه من أسرار العلم، وإليه ينحصر جميع ما قاله العلماء المتقدمون في هذه المسائل، وبه تضبط مسائل الفتوى في هذا الفن. ثم قال: وأقرب مثال يوضح لك هذه الجملة ما نحن فيه من مسألة القائل: الحلال علي حرام، فقولهم في المشهور: أنها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها في أقل بناء على أن هذا اللفظ وضع لإبانة العصمة، وأنها لا تبن بعد الدخول بأقل من ثلاث، وتبين قبله بواحدة، وكونها في العدد غالباً في الثلاث، ونادراً في أقل منه، فحملت قبل الدخول على الثلاث، ونوى في أقل. وقول عبد الملك: لا ينوي في أقل وإن لم يدخل، بناء على أنها موضوعة للثلاث، كقوله: أنت طالق ثلاثاً، ويلحق بأول الأقسام التي ذكرها. وقول أبي مصعب. (يجري) في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث. (بناء) على أنها لا تفيد عدداً، وإنما تفيد البينونة لا أكثر، والبينونة تصح في غير المدخول بها بواحدة، ولا يصح في المدخول بها إلا بالثلاث على إحدى الطريقتين اللتين ذكرنا. وقول ابن خويز منداد عن مالك: إنها واحدة بائنة وإن كانت مدخولاً بها. بناءً على أنها لا تفيد عدداً كطريقة أبي مصعب، ولكن عنده البينونة تصح بعد الدخول بواحدة، فمن ها هنا افترقت طرقهم.

الفصل الثاني: في الفعل

وما نقل عن (ابن) أبي سلمة من أنها واحدة رجعية (بناء) على أنها تفيد انقطاع الملك على صفة، ولا تستعمل غالباً في الثلاث، فحكم بكونها واحدة لصحة معنى اللفظ في الواحدة، وهي كونها محرمة عندنا وإن كانت الطلقة رجعية. قال: (وهذا) مجمل قول عبد الملك وربيعة في الخلية والبرية والبائن، أنها في غير المدخول بها واحدة مأخوذة من إحدى هذه الطرق التي ذكرنا. وينوية أشهب في الخلية والبرية وإن كانت مدخولاً بها على ما حكى عنه أبو الفرج تؤخذ أيضاً من إحدى هذه الطرق التي قدمنا. قال: وعلى هذا يخرج من المسائل ما لا يحصى كثرة، فاحتفظ به، فإنه عقد حسن. الفصل الثاني: في الفعل، وهو أنواع، منها: الإشارة المفهمة، وهي (معتبرة) من الأخرس في الطلاق، والظاهر منها في حقه كالصريح. وأما القادر، فإشارته كالكناية، ومنها (كتب) الطلاق من القادر على النطق، فإن كتب الكتاب بالطلاق، وهو عازم على الطلاق، وقع عليه ما كتب، وإن لم يخرج الكتاب عن يده. وإن كتبه غير عازم، بل ليشاور نفسه، ثم بدا له، لم يقع عليه طلاق، إلا أن يخرجه من يده عازماً. فإن أخرجه من يده غير عازم، فله رده ما لم يبلغ المرأة فيلزمه. وروي أنه إن أخرجه من يده لزمه وإن كان غير عازم، ويكون كالنطق به والإشهاد. قاله في كتاب محمد. قال: كان في الكتاب: أنت طالق، أو إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق. (ومنها لو باع امرأته فقال ابن القاسم: ((يقع على الزوج فيها طلقة بائنة)). قال: ((وبلغني ذلك عن مالك)). وروى عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب: ((أنه لا يكون طلاقاً)). وروى سحنون عن ابن نافع مثل قول ابن القاسم. قال سحنون: ((وسواء غاب عليها

الفصل الثالث: في تفويض الطلاق إلى الزوجة

المشتري أو لم يغب)). وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: تحرم عليه كالموهوبة)). وقال أصبغ أيضاً: إذا باعها هازلاً، أو زوجها هازلاً، فليس بطلاق. فإن كان جاداً في الوجهين فهو البتات. فرع: هذا حكم لقول (و) الفعل إذا اقترن به قصد الطلاق. فأما لو عقد الطلاق بقلبه جزماً من غير تردد، أي طلق بالنطق النفسي الذي هو كلام النفس، من غير أن يقترن به قول ولا فعل، لكان في وقوع الطلاق عليه بمجرد ذلك روايتان. الفصل الثالث: في تفويض الطلاق إلى الزوجة وللرجل أن يجعل إلى المرأة طلاقها، وذلك على وجهين: توكيل، وتمليك. ففي التوكيل، له أن يرجع ما لم تطلق نفسها. وفي التمليك ليس له ذلك، إلا (أن تبطل) تمليكها. والتمليك على وجهين: تمليك تفويض، وتمليك تحجير. فتمليك التفويض، هو أن يقول: قد ملكتك أمرك، أو أمرك بيدك، أو طلاقك بيدك، أو ما أشبه ذلك. ثم لا يخلو حالها، من أن يصدر عنها ما يقتضي الإجابة من قول أو فعل، أو لا يصدر عنها شيء من ذلك أصلاً، ثم القول صريح ومحتمل. فهذه أربعة أقسام: القسم الأول: النطق الصريح، ويتعين العمل (بما اقتضاه)، كان في اختيار الزوج، أو في إيقاع الطلاق، إلا أن توقع أكثر من واحدة، فتكون له المناكرة فيما زاد عليها إذا ادعى أنه نوى دون ما أوقعت، وأتى بالمناكرة على الفور حين سماعه لقولها من غير سكوت ولا إهمال. ولو قال: لم أرد طلاقاً، لم يقبل منه، ووقع ما أوقعته. فلو عاد بعد ذلك، وادعى أنه أراد دون ما قضت به، قبل منه مع يمينه. وقيل: لا يقبل منه، لاعترافه بأنه لم تكن له نية (الطلاق). هذا إن كان تمليكه طوعاً، فإن كان بشرط، شرط عليه، لم تكن له المناكرة. فرع: حيث قلنا: يحلف إذا ناكرها، فإنما ذلك عند إرادته الرجعة، لا قبل ذلك، إذ لا فائدة له فيها إلا هنالك. القسم الثاني: أن تجيب بنطق مبهم يحتمل الإيقاع وغيره، كقولها: قبلت أمري، أو

قبلت ما ملكتني، أو قبلت (بهما)، فإنها تسأل عن مرادها، ويقبل منها ما تفسر به من البقاء على الزوجية، فيبطل تمليكها، أو إيقاع الطلاق، فيكون على ما تقدم. أو قبول التمليك والتروي في البقاء أو الطلاق، فتؤخذ الآن (بالتنجيز) من إيقاع أو رد. القسم الثالث: أن يصدر منها فعل يدل على مرادها، مثل أن تنتقل وتنقل قماشها، وتنفرد عنه، ويظهر من فعلها ما يدل على سرورها بالعبد منه وزوال سلطانه عنها، فيحمل ذلك على الطلاق، ولا يقبل منها إن قالت: لم أرده. القسم الرابع: أن لا يصدر عنها قول ولا فعل يفهم أنه جواب، بل تمسك عن جميع ذلك إلى أن يتفرقا عن المجلس، أو يطول (بهما) طولاً يخرج عن أن يكون ما تأتي به جواباً، ففي إبطال حقها بذلك من التمليك، أو إبقائه، وأخذها بموجبه من تطليق أو رد، روايتان، فإن فعلت، وإلا رفعت ليحكم عليها بسقوط التمليك. وسبب الخلاف: حمل حكمه على حكم العقود التي (تبطل) بتراخي الجواب، أو على حكم التمليكات، كخيار المعتقة. على أن بين الأصحاب خلافاً في (حكم) طول المجلس بها أيضاً. وأما تمليك التحجير، فهو التخيير، وهو على ضربين: تخيير مطلق، وتخيير مقيد. فأما المقيد فهو أن يخيرها في عدد بعينه من أعداد الطلاق، فيقول: اختاريني أو اختاري طلقة أو طلقتين. فليس لها أن تختار زيادة على ما جعل لها. ولو قال: اختاري (من) تطليقتين، (اقتصرت على واحدة. ولو قال: اختاري من تطليقتين). ففي الكتاب: تقضي بهما، فإن قضت بواحدة، لم يلزمه شيء. وقال ابن سحنون: لها أن تقضي بواحدة. وأما المطلق، فهو التخيير في النفس، وهو أن يقول: اختاريني أو اختاري نفسك. فهذا يقتضي اختيار ما تنقطع به العصمة، وهو في المدخول بها الثلاث في المشهور.

فلو قالت: اخترت الثلاث، أو اخترت نفسي، بانت بالثلاث، ولم يكن له أن يناكرها. (وقال ابن الجهم: للزوج أن يناكرها في الثلاث، وتكون طلقة بائنة. قال ابن سحنون: وعليه أكثر أصحابنا. رواه ابن خويز منداد عن مالك، وحكى عن أبيه ما يشير إلى أنها تكون طلقة رجعية كالتمليك). وإذا فرعنا على المشهور، فأوقعت طلقة واحدة، لم تقع. ثم هل يبطل ما كان بيدها بذلك، أو يبقى لها استئناف إيقاع الثلاث؟. قولان لابن القاسم وأشهب. قال أبو الحسن اللخمي: ((وهذا إن سبقت فقضت، وإلا فمتى خيرها في إيقاع الطلاق الثلاث في دفعة واحدة، فذلك ممنوع، وينزعه الحاكم من يدها إلا أن تسبق بالقضاء بالثلاث، فيمضي)). وحكى الشيخ أبو الطاهر عن المتأخرين قولاً بجوازه، تمسكاً بآية التخيير. وفرق القائل الأول بأن لفظ الآية يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم المسرح، وأن لفظ السراح لا يقتضي الثلاث، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يندم، ولا يرتجع. هذا حكم التخيير في المدخول بها. فأما غير المدخول بها إذا خيرها فقالت: اخترت نفسي، ولم ينو هو ولا نوت هي عدداً، فإن محمله منهما عند مالك على الثلاث. وإن نوت واحدة أو ثلاثاً، كان ذلك على ما نوت إذا لم يناكرها. فإن قضت بالثلاث، وقال: أردت واحدة صدق. وقال ابن حبيب: قال أصبغ: إن نوت واحدة، فقال الزوج: لم أخيرك إلا في الثلاث، فله ذلك، ولا شيء لها. وكذلك لو لم تكن له نية. فروع: إذا ملكها الزوج أو خيرها كما تقدم، أو ملك غيرها، لم ينتقل بذلك الطلاق عن ملك الزوج، ولا خرجت العصمة من يده، بل للمملك أن يقضي فيه فقط، والعصمة باقية بيد

الزوج، بدليل أنه لم يقع عليه طلاق بمجرد التمليك، حتى يقضي من جعل له التمليك، وأن طلاقه لها بعد التمليك يلحقها. (ولا يشترط في الزوجة (المخيرة) بلوغ الاحتلام والحيض، بل لو خيرها قبل أن تبلغ وقبل البناء، فاختارت نفسها، فهو طلاق). قال ابن القاسم: ((إذا بلغت حد الوطء)). ((وقال أشهب وعبد الملك في الصغيرة: ذلك لها)). وروى عيسى عن ابن القاسم: ((إذا بلغت مبلغاً تعرف ما ملكت ويوطأ مثلها، فذلك لازم)). ومن ملك امرأته، ثم طلقها قبل أن تقضي، فبانت منه بوقوع الثلاث، أو بانقضاء العدة فيما دونها، ثم تزوجها لم يكن لها أن تقضي بحكم التمليك الأول، بل بطل ما كان بيدها، إذ مضمون التزويج الرضا بالإصابة به وتستحق الصداق، وذلك يسقط ما بيدها، كما لو رضيت به قبل الطلاق، لسقط ما بيدها وإن لم يصبها. فأما لو طلقها ثم ارتجعها في العدة بغير اختيارها لكان لها القيام بما جعل لها. ولو جعل ذلك بيد أجنبي، فغاب الأجنبي، فإن فهم عنه إسقاط ما جعل له من ذلك، سقط. وكذلك إن غاب ولم يشهد أنه باق على حقه، فإن أشهد أنه باق على حقه فللزوج أن يرفع إلى السلطان، فإن كان قريب الغيبة كتب إليه بإسقاط ما بيده، أو إمضاء ما جعل إليه، وإن كان بعيد الغيبة فقيل: يسقط ما بيده وينتقل إلى الزوجة، لأن المملك كالنائب عنها، وإذا لم يوجد جعل الأمر إليها. وقال في كتاب محمد: ذلك بيده، ولا يقربها الزوج، لأنه قد جعل الأمر في طلاقها إلى غيره، فيلزمه ما التزم. وإذا فرعنا على هذا، ثم قامت بحقها في الوطء ضرب (له) أجل المولي إذا رجي

الركن الثالث للطلاق: القصد

قدومه واستعلام ما عنده في الأجل، فأما (لو) لم يرج له ذلك، ففي ضرب الأجل له قولان للمتأخرين. ولو جعل أمرها بيدها إن غاب مدة يسميها. فلها أن تقوم بالفراق عند ذلك الأجل، فإن تراخت ثم قامت، فهل يكون ذلك بيدها ما لم يأت من طول الزمان ما يدل على الإسقاط أو لا يكون بيدها إلا أن تشهد أنها باقية على حقها؟ قولان. وإذا فرعنا على الأول، فهل تحلف أنها لم تسقط؟ قولان أيضاً، وهما خارجان على أيمان التهم. فإن تزوجت، ثم ثبت أنه قدم قبل ذلك، فقد فرقوا بين أن (تعلم) بقدومه، ثم تتزوج، أو لا (تعلم). فإن علمت فسخ نكاح الثاني، وإن لم (تعلم). جرى على الخلاف فيمن طلق ثم ارتجع فلم تعلم الزوجة برجعته حتى تزوجت. وفي ذلك قولان مذكوران في كتاب العدة. الركن الثالث للطلاق: القصد. ويتوهم اختلاله بخمسة أسباب: الأول: سبق اللسان، فمن سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه طلاق. ولو كان اسم زوجته طلاق، واسم عبده حر، فقال: يا طلاق، ويا حر، لم يعتق ولم تطلق إن قصد النداء. وإذا كان إسم زوجته طارق، فقال: يا طالق، ثم قال: التف لساني قبل ذلك في الفتيا. السبب الثاني: الهزل، ولا يؤثر ذلك في منع وقوع الطلاق والعتاق، بل يمضي عليه وينفذ وكذلك النكاح. وقال أبو بكر بن محمد: يلزم نكاح الهزل. وروي في السليمانية: نكاح الهزل لا يجوز. واختار أبو الحسن اللخمي (أنه) إن قام دليل على الهزل لم يلزم عتق ولا نكاح ولا طلاق، ولا شيء عليه من الصداق. (قال) وإن لم يقم دليل لزمه نصف الصداق. الثالث: الجهل، فإذا قال: يا عمرة، فأجابته حفصة، فقال: أنت طالق، ثم قال: حسبتها عمرة، طلقت عمرة، وفي طلاق حفصة خلاف. وإذا لقن الأعجمي لفظ الطلاق وهو لا يفهمه، لم يقع عليه.

الركن الرابع: المحل، وهي المرأة

الرابع: الإكراه: ولا يقع طلاق المكره، ولا يلزمه (منه) شيء. هذا مطلق الروايات. وقال بعض المتأخرين: الحكم كذلك، إلا أن يترك التورية مع العلم بها، والاعتراف بأنه لم يدهش بالإكراه عنها. ثم إذا أكره، فسواء أكره على إيقاع الطلاق، أو على الإقرار به، أو اليمين به، أو الحنث في يمين لزمت به، كل ذلك لا يلزمه. ولو حلف في نصف عبد له: لا باعه، فأعتق شريكه نصفه، فعتق عليه حنث، إلا أن ينوي إلا أن يغلب. وقال المغيرة: لا حنث عليه، إنما أراد لا بعته طوعاً. وحد الإكراه، ما فعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه من ضرب أو تخويف، كان ذلك من سلطان أو غيره، فإنه إكراه لا يلزم صاحبه حكمه ولا يجب عليه عقده. والتخويف بقتل الولد (إكراه). واختلف في التخويف بقتل أجنبي، هل يعد إكراهاً أم لا؟. والتخويف لذي المرءوة بالصفع في الملإ إكراه. والتخويف بإتلاف المال يعد إكراهاً في الطلاق. وقيل: لا يعد، وحمله بعض المتأخرين على القليل منه. وحكى محمد بن سحنون عن أبيه: إنما الإكراه في القول. (فأما) الفعل فلا إكراه فيه. كذلك ذكر عبد الملك في (كتبه). الخامس: زوال العقل بالجنون فلو شرب دواء فتجنن امتنع نفوذ التصرف. وأما السكران فقد تقدم حكم طلاقه. الركن الرابع: المحل، وهي المرأة فلو أضاف الطلاق إلى نصفها نفذ، وكذلك لو أضاف إلى عضو معين كالكبد والطحال والعين واليد والرجل ونحوه، نفذ أيضاً. ولو أضافه إلى شعرها أو كلاهما، فقال سحنون: ((لا تطلق. وقال أشهب وأصبغ: ((تطلق)). وفي إضافته إلى الروح والحياة خلاف أيضاً.

الركن الخامس لنفوذ الطلاق ووقوعه: الولاية على المحل

الركن الخامس لنفوذ الطلاق ووقوعه: الولاية على المحل. فإذا قال للزوجة أو (الرجعية): أنت طالق، نفذ الطلاق لتحقق الولاية عليهما. ولو قال لمختلعة أو أجنبية: أنت طالق، أو قال لإحداهما: إن دخلت الدار فأنت طالق. فنكحتها في الصور الأربع، لم يقع عليه طلاق، إذ لا ولاية على المحل تحقيقاً ولا تعليقاً. أما لو علق الطلاق على وجود تحقق الولاية كقوله: إن نكحتك فأنت طالق، فالمشهور من المذهب التسوية بين ترتبه عليها تحقيقاً وتعليقاً. فإذا نكحها وقع الطلاق عليها على الرواية المشهورة، لأن تحقق الولاية إنما يقف عليه نفوذ الطلاق ووقوعه. فأما التعليق فهو يمين بالطلاق لا نفوذ فيه ولا وقوع إلا بعمد تحققها، وصار كالصدقة بما يملك، والعتق لما في البطن. وقال القاضي أبو بكر: ((وروى ابن وهب والمخزومي: أنه لا شيء عليه)). وقال ابن عبد الحكم. وفي العتبية روى أبو زيد عن ابن القاسم: ((أن صاحب الشرط كتب إليه في رجل تزوج امرأة حلف بطلاقها إن تزوجها فتزوجها، هل أفسخ نكاحه؟ فكتب إليه: لا تفسخه)). وقد أجازه ابن المسيب. وكان المخزومي ممن حلف أبوه على أمه بمثل هذا. ولنفرع على الرواية المشهورة فنقول: قد قدمنا أنه إذا خاطب به امرأة لزمه الطلاق فيها إذا تزوجها. فلو أطلق القول فعمم من غير تخصيص ولا تعيين ولا تقييد، فقال: كل امرأة أتزوجها طالق، لم يلزمه شيء، ولا يقع عليه طلاق فيمن يتزوج لما في ذلك من تحريمه على نفسه جميع الاستمتاع بالزوجية، هو عقد معصية، ويوقعه في الحرج الذي ترفعه الشريعة، فلا يلزم الوفاء به، ولا يترتب عليه به حكم.

أما إذا أبقى لنفسه شيئاً، فإن كان كثيراً، كما إذا (خصص بأن) عين صفة من الجنس، من نسب أو خلقة، أو ما أشبه ذلك، أو عين مكاناً بعينه، كتعيينه الفسطاط أو أفريقية أو نحو ذلك، أو عين زماناً يبلغه عمره، كقوله: عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، إذا أشبه بلوغه لها. قال ابن الماجشون: والتعمير في مثل هذا تسعون سنة. لزمه الطلاق فيمن يتزوج ممن ذكر في جميع ذلك، ولا يلزمه فيمن تحته منهن، إلا أن يطلقها، ثم يتزوجها. وكذلك إن قال: كل امرأة أتزوجها من الموالي فهي طالق. لزمه الطلاق فيمن يتزوج منهن، ولا يلزمه فيمن تحته منهن. فإطلقتها ثم (تزوجها) طلقت عليه. وإن كان الذي أبقاه لنفسه قليلاً غير متسع، ففي لزوم الطلاق ونفيه قولان، قبيلة كان ذلك أو بلداً. وسبب الخلاف: الشهادة بوجود الحرج ونفيه. وإذا فرعنا على اللزوم، فهل يكون إبقاؤه امرأة واحدة ملحقاً بذلك أم لا؟ قولان، إذا كانت زوجة. فإن كانت أجنبية، فثلاثة أقوال: اللزوم مطلقاً. ونفي اللزوم وهو المشهور، ونفيه ما دامت (متزوجة) أو إذا تزوجت، ولزومه إن لم تكن (متزوجة). فروع: لو حلف بطلاق من ينكح من الإماء لزمه لبقاء الحرائر. ولو حلف بطلاق من يتزوجه من الحرائر، فقولان: اللزوم ونفيه. ولو قال: إن لم أتزوج من موضع كذا، لموضع سماه، فكل امرأة أتزوجها من غير الموضع المسمى طالق. فهل يكون بمنزلة القائل: كل امرأة أتزوجها من غير الموضع المسمى طالق، أو يكون بمنزلة المولي، فيوقف عن غير من يتزوج من الموضع المسمى حتى يتزوج منه. في ذلك قولان: المشهور أنه بمنزلة المستثنى. ولو قال: كل بكر أتزوجها طالق، ثم قال: كل ثيب أتزوجها طالق. لزمه ذلك في الأبكار، ولم يلزمه في الثيب. وقيل: يلزمه في النوعين جميعاً. وقيل: بنفي اللزوم فيهما جميعاً.

ولو قال: أول امرأة أتزوجها طالق، (فتزوج)، طلقت عليه، وانحلت يمينه عنها وعن غيرها. ولو قال: آخر امرأة أتزوجها طالق، فقال محمد: قال ابن القاسم: ((لا شيء عليه)). قال: ونحن نرى أن يقف عن وطء الأولى حتى ينكح ثانية، فتحل له الأولى، ويقف عن الثانية حتى ينكح ثالثة، (وهو) في التي يقف عنها كالمولي، فإن رفعته، فالأجل من يوم ترفعه، إذ هو بالحكم. وقال سحنون مثله في العتبية وفي كتاب ابنه. وقال: وكذلك لو تزوج رابعة لزمه فيها الإيلاء إلا أن يموت من عنده، أو يطلق (فيتزوج). (وفي المجموعة عن ابن الماجشون نحوه. وقال: فإن تزوج امرأة فماتت، أوقف ميراثه منها حتى يتزوج ثانية فيأخذه، أو يموت قبل أن يتزوج، فيرد إلى ورثتها. وإذا طلق عليه بالإيلاء فلا رجعة له، لأنه لم يبن بها). (وإن) قال: آخر ما أتزوج إلا واحدى طالق. يريد تطليق التي تلي الآخرة. فإن تزوج أوقف عنها، ثم إن تزوج ثانية أوقف عنها وعن الأولى، إذ لا يدري من يلي الآخرة منهما. فإن مات فالأولى المطلقة. وإن تزوج ثم مات، فالثانية المطلقة، وإذا تزوج ثالثة حلت له الأولى. ولو قال: فالتي

الباب الثالث: في حكم طلاق المريض

تلي التي تلي الآخرة طالق، حتى تكون ثالثة منها، فهذا يمسك عنها حتى يتزوج رابعة، فتحل له الأولى، فإن مات في هذه الحال، فالثانية من الأولى هي المطلقة. فرع مرتب: حيث قلنا: يقع عليه الطلاق في الزوجة التي علق طلاقها على تزويجها، فإنما ذلك على أثر الفراغ من العقد من غير تأخير ولا مهلة. ويجب (لها عليه) نصف الصداق إذا وقع الطلاق قبل الدخول. فإن دخل قبل أن ينظر في أمره، فإنما عليه صداق واحد. (فإن) كان قد سمى كمل المسمى، وإن كان لم يسم، فصداق المثل. وقيل: يجب عليه صداق ونصف، وهو شاذ. هذا تمام الكلام على هذا الركن، ويلتحق بالكلام عليه في اعتبار الولاية على المحل حالة النفوذ قول العبد لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثاً، ثم يعتق فتدخل الدار، فإنه يقع عليه الثلاث. وإن لم يملك الثالثة عند التعليق، إذ المراعى يوم الحنث. ومن قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق (ثلاثاً)، ثم أبانها، فدخلت، لم يقع الطلاق لكونها أجنبية في حال الدخول، فلو نكحها بعد ذلك فدخلت، وقد بقي من الملك الأول شيء طلقت. ولو استفوى الثلاث بالتنجيز لم يعد الحنث في نكاح بعده، لذهاب العصمة المحلوف بها. ومن طلق طلقة أو طلقتين فبانت، ووطئها زوج آخر، ثم عادت إلى الأول، عادت إليه ببقية الطلاق. ولم ينهدم الطلاق الماضي، وإنما ينهدم إذا نكحت بعد الثلاث زوجاً آخر. والحر يملك ثلاث تطليقات على الحرة (و) الأمة. والعبد يملك (إثنتين) على الحرة والأمة. الباب الثالث: في حكم طلاق المريض وطلاق المريض كطلاق الصحيح في النفوذ. وإنما النظر في عدم انقطاع الميراث به، لما فيه من الفرار عن التوريث قصداً. والمذهب أنه غير قاطع للميراث، وإن كان بائناً، وانقضت العدة قبل الموت، كما ورث عثمان بن عفان زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه منه

بعد انقضاء عدتها. والمعنى في ذلك المقابلة بنقيض القصد، وإن كان عبد الرحمن رضي الله عنه قد نزهه الله عن أن يقصد منعها، إلا أن الحكم إذا ثبت لعلة غالبة اكتفي بغلبتها عن تتبعها في آحاد الصور، وهذا في الشريعة كثير لمن تأمله، لا سيما على القول بحسم الذرائع، ولأن المريض ممنوع أن يتبرع بإخراج جزء زائد على ثلثه لحق الورثة (فأولى) أن يمنع من إسقاط بعضهم جملة. وقد روي مثل قول عثمان عن عمر وعلي رضي الله عنه عن جميعهم. ثم النظر في المريض والطلاق، وحال الزوجة أما المرض، فإن يكون مخوفاً يحجر عليه بسببه. وأما الطلاق فإن يكون من قبل الزوج، ولا سبب للزوجة فيه. فإن كان أصله من (الزوج) وكماله منها، أو من غيرها، كالمخبر والمملك، والحالف في صحته على زوجته، أو على غيرها، فيحنثه من حلف عليه وهو مريض، أو المتلاعن، أو ما أشبه ذلك ففي توريثها منه قولان. وسبب الخلاف في الموضعين مراعاة الطوارئ البعيدة، وحماية (الحماية) وقول ابن القاسم منهما أن ترث في جميع هذه الأحوال. أما الردة فلا ترث فيها، إذ لا يتهم أحد بالردة على منع الميراث. فرع: حيث قلنا: ترث منه، فلا ينقطع ميراثها بأن تتزوج غيره، (بل لو تزوجت عدة أزواج، وكل منهم يطلقها في مرض موته لورثت الجميع، وإن كانت في عصمة رجل حي). (وإنما ينقطع ميراثها ممن يطلقها، بأن يصح من المرض الذي طلقها فيه صحة بينة. فلو مرض بعد ذلك فمات بعد تمام العدة والطلاق غير بائن، أو في العدة والطلاق بائن، أو لم

يدخل بها والطلاق ثلاث، أو واحدة، لم ترثه في حال من هذه الأحوال، ولو طلقها واحدة ثم صح ثم مرض فأردفها طلقة أو أبتها لم ترثه إن مات، إلا أن يموت في بقية من عدة الطلاق الأول، فإنها ترثه. فإن ارتجع من الطلاق الأول عادت كزوجاته، ثم إن طلق في المرض الثاني ورثته). والإقرار بالطلاق في المرض كالإنشاء. إلا أن العدة من يوم الإقرار. فروع: جرت عادة الأصحاب بذكرها في باب طلاق المريض، وقع الإشكال فيها في وجوب الصداق وسقوطه، ووجوب الميراث وسقوطه. قالوا: والأصل فيها الرجوع إلى التداعي، والتفريع على المشهور من المذاهب. وذلك أن من ادعى أن له جميع مال، وادعى غيره أن نصفه له، فعلى المشهور، يقال لمدعي النصف: قد سلمت لمدعي الكل النصف، وإنما تنازعه في النصف الثاني، فيتحالفان، ويقسم النصف الآخر بينهما. ومذهب أشهب، أن الجميع يقسم بينهما بعد أيمانهما على قدر دعاويهما. وقد روي عن مالك. وهذه الفروع التي نذكر، جارية على المشهور كما قلناه. الفرع الأول: أن يتزوج امرأتين، فيطلق إحداهما، ويدخل بالأخرى، ويشكل الأمر في الطلاق والدخول، أو في أحدهما، ولذلك صور. الأولى: أن تجهل المطلقة والمدخول بها جميعاً، فيتحالفان ويقتسمان الصداق والميراث. الثانية: أن (تعلم) المدخول بها، (وتجهل) المطلقة، فللمدخول بها جميع الصداق وثلاثة أرباع الميراث، ولغير المدخول بها ثلاثة أرباع الصداق وربع الميراث. وذلك لأن المدخول بها تستحق النصف من الميراث على كل حال، لأنها لم تنقض عدتها، وتدعي في النصف الآخر، لأنها تقول للأخرى: أنت المطلقة، ولا تنازعها الأخرى إلا في النصف الآخر، فيقسم بينهما. وأما الصداق فللمدخول بها جميع صداقها بالدخول على كل حال. وأما غير المدخول بها، فينازعها فيه الورثة، فهي إن كانت مطلقة، فلا تستحق إلا نصفه، وإن كانت غير مطلقة فتستحق الكل، فالنصف لها مسلم، وهي منازعة في النصف الآخر. الصورة الثالثة: أن تعلم المطلقة وتجهل المدخول بها. فللتي لم تطلق جميع الصداق

وثلاثة أرباع الميراث، وللتي طلقت ثلاثة أرباع الصداق وربع الميراث. والوجه فيه ما تقدم. الفرع الثاني: والمسألة بحالها، إلا أنه فرض لإحداهما خاصة، ولم تعرف. فقال ابن سحنون عن أبيه: إذا كانت المدخول بها معروفة بعينها، فلها نصف صداق المثل، ونصف المسمى، لأنها تنازع الورثة (فيه، ويكون للتي لم يدخل بها ربع التسمية وثمنها، لأنها [أولى ولا تنازع] الورثة) في أنها المطلقة، فيكون لها ثلاثة أرباع الصداق، ثم ينازعونها في أنها (هي) المفروض لها، فتقسم الثلاثة الأرباع، فتأخذ نصفها ربعاً وثمناً. قال: وإن كانت المدخول بها مجهولة، أخذ نصف التسمية، ونصف صداق المثل، وربعه وثمنه، (فيقسم) بينهما. قال: وإن كان لم يدخل بواحدة منهما تحالفا، وقسم الصداق المسمى. قال أبو القاسم بن محرز: والصواب عندي في هذا الوجه الأخير إذا لم يدخل (بهما)، أن يقسم بينهما ثلاثة أرباع الصداق، لأن المسمى لها منهما لها نصف الصداق على كل حال، وتنازع الورثة في النصف الآخر، فيقسم بينهما وبينهم، فيتحصل لها نصف وربع، ثم هو متنازع فيه بين المرأتين، فيقسم بينهما. الفرع الثالث: أن يتزوج أما وابنتها في عقد واحد، أو في عقدين. فإن تزوجها في عقد واحد، فله حالات: الأولى: أن يدخل بهما جميعاً، فالصداق لكل واحدة، ولا ميراث. الحالة الثانية: أن لا يدخل بواحدة منهما أصلاً. فلا صداق، ولا ميراث. الحالة الثالثة: أن يدخل بإحداهما، ولها صورتان: الأولى: أن تعلم المدخول بها، فيكون لها الصداق على الخصوص. الصورة الثانية: أن لا تعلم، فيتحالفان، ويقسم بينهما. (وإن) تزوجهما في عقدين مترتبين فإن علمت السابقة منهما، ولم يدخل بواحدة، فلها الصداق كاملاً، بالموت، والميراث، ولا شيء للمتأخرة. وإن وقع الدخول وعلمت المدخول بها، وكانت الأولى، فلها الصداق والميراث. وإن كانت الأخيرة فلها الصداق، ولا

ميراث لواحدة منهما، لأن نكاح الأخيرة باطل، ونكاح الأولى قد فسخه الدخول بالأخيرة. وإن جهلت المدخول بها مع العلم بالسابقة (فلهما) صداق واحد تقتسمانه نصفين بعد يمين كل واحدة أنها هي المدخول بها، فإن نكلت إحداهما استحقت صاحبتها جميعه، ويختلف، هل يكون للأولى ميراث أم لا؟ لأنه ميراث بالشك. وإن جهلت الأولى فإن (علمت) المدخول بها، فلها الصداق كاملاً. واختلف في الميراث، هل يكون لهما شيء منه؟ إذ لابد أن تكون واحدة وارثة أو لا يكون لهما شيء، لأنه ميراث بالشك. ولا صداق للتي لم يدخل بها، لأنها إن كانت هي المتأخرة، فنكاحها باطل، وإن كانت هي السابقة، فقد أبطل نكاحها دخوله بالأخيرة. أما إذا جهلت الأولى والمدخول بها جميعاً، فلهما صداق واحد تقسمانه بعد أيمانهما، كما تقدم، ويختلف هل يكون لهما نصف ميراث يقتسمانه، أو لا يكون لهما شيء على ما تقدم؟. الفرع الرابع: (أن يموت عن خمس نسوة، ولا يدري أيتهن الخامسة، وقد تزوجهن في عقود مختلفة. فإن كان دخل بالجميع، فلكل واحدة صداقها. وأما الميراث، فهو بينهن أخماساً. وإن لم يدخل بواحدة منهم، فلهن أربع صدقات، لكل واحدة أربعة أخماس صداقها. وإن دخل بالبعض دون البعض، فلكل من دخل بها صداقها كاملاً. وأما من لم يدخل بها، فإن كانت واحدة، فلها نصف الصداق، لأنها مترددة بين أن تكون إحدى الأربع، فيكون لها صداق كامل، وبين أن تكون الخامسة، فلا يكون لها شيء. وإن كانتا اثنتين فلهما صداق ونصف، إذ واحد مقطوع به، والآخر مشكوك فيه [فيقسم]. وإن كن ثلاثاً، فلهن صداقان ونصف. وإن كن أربعاً، فلهن ثلاث صدقات ونصف. وأما الميراث فلا تختلف أحواله. وقال أبو القاسم بن محرز: إذا لم يدخل بهن، فيجيء على قول سحنون، أن لهن أربع صدقات ونصفاً. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ولعله يريد ما قيل فيمن أسلم على عشر نسوة، فأمر بفراق ست منهن، فإنه اختلف، هل يكون لهن صداق أم لا؟، وما مقدار الكائن لهن؟ [قال] وهو

الباب الرابع: في تعديد الطلاق، وفيه فصول

جار على ذلك الأصل)). الفرع الخامس: أن يتزوج ست نسوة، واحدة في عقد، واثنتان في عقد، وسمى لكل واحدة (منهن) صداقها، وثلاثاً في عقد رسمي لكل واحدة منهن صداقها، ثم يموت ولم يدخل بواحدة منهن، ولم يعلم السابق من عقودهن، فللمنفردة صداقها كاملاً، لأن نكاحها صحيح على كل تقدير، كان عقدها أولاً أو آخراً أو متوسطاً. وأما الخمس البواقي، فلكل واحدة منهن نصف صداقها، (لأنه) تارة يزول وتارة يثبت، فإن دخل بأربع فلكل واحدة من الخمس أربعة أخماس صداقها، وخمس ربع صداقها، لأنه لا شك أن ثلاثاً منهن دخل بهن لهن ثلاث صدقات، واثنتان قد حصل لهما نصف نصف كما تقدم قولنا، فذلك أربع صدقات، ونصف آخر يزول عنهن تارة إن كانت المنفردة هي من المدخول بهن الأربع، وتارة (يثبت) لهن إن كانت الرابعة من المدخول بهن من الخمس اللاتي ليس فيهن المنفردة، فيكون نصفه، وهو الربع بين خمس، فيصير لكل واحدة أربعة أخماس صداقها، وخمس ربع صداقها. وعليهن عدة الوفاة والإحداد، يستكملن في ذلك ثلاث حيض، ولا حيض على المنفردة. وأما الميراث، فقال سحنون: لما كان حال هذه المنفردة يتردد بين الثلث والربع، أعطيت نصف الثلث ونصف الربع، وأقل ما يقوم منه السدس والثمن أربعة وعشرون، فتأخذ السدس (والثمن) سبعة أسهم، ويبقى سبعة عشر بين الخمس، تسلم الإثنتان للثلاث سهماً، ثم يتنازع الجميع الستة عشر الباقية، فيقسم بين الفريقين نصفين، لكل فرقة ثمانية، فيصير للثلاث تسعة، لكل واحدة منهن ثلاثة، وللاثنتين ثمانية، لكل واحدة أربعة، وللواحدة سبعة. الباب الرابع: في تعديد الطلاق، وفيه فصول الفصل الأول: في نية العدد فإذا قال: أنت طالق أو طلقتك، ونوى عدداً، نفذ ما نواه، ولو قال: أنت طالق، في واحدة، ونوى الثلاث، وقعت. ولو قال: أنت واحدة، ونوى الثلاث، وقعت الثلاث. الفصل الثاني: في التكرار فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق ونوى التأكيد، لم تقع إلا واحدة. وإن نوى

التكرار ووقوع الثلاث، وقعت. وإن لم ينو شيئاً، فهو على التكرير. وإن قصد بالثالثة تأكيد الثانية، وبالثانية الإيقاع وقعت ثنتان. ولو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم كرر ذلك، فدخلت فهي طلقتان، حتى يريد واحدة. ولو قال: أنت طالق طلقة فطلقة، وقعت إثنتان، كما لو قال: علي درهم فدرهم، لزمه درهمان. ولو قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أو طالق فطالق فطالق، لزمته الثلاث ولا ينوي. (ولو قال: أنت طالق، وأنت طالق وأنت طالق، لزمته الثلاث، ولا ينوي). قال مالك: وفي النسق بالواو شك. قال ابن القاسم: ورأيت الأغلب على رأيه أنها مثل ثم، ولا ينوي، وهو رأيي. ولو طلق زوجته، فقال له رجل: ما فعلت؟ فقال: هي طالق، فإن نوى إخباره، فله نيته. فإن لم تكن له نية، فهل تلزمه طلقة واحدة أو طلقتان؟ قولان للمتأخرين. قال أبو القاسم بن محرز: (فإن) كان تقدم (له فيما قبل هذا الطلاق تطليقة حلف على ما ادعاه ليملك بذلك رجعتها الآن. وإن لم) يتقدم له فيها طلاق لم تلزمه يمين، لأنه يملك الرجعة في الوجهين جميعاً إلا أن يطلقها بعد هذا تطليقة، فلا يملك رجعتها، إلا بأن يحلف على ما ذكر. وهذا كله في المدخول بها، فأما غير المدخول بها، فإذا قال لها: أنت طالق، ثم طالق، بانت الأولى، ولم تقع عليها الثانية. وكذلك إذا قال: أنت طالق فطالق. أما إذا قال لها: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإن الثلاث تلزمه)، إذا كان ذلك نسقاً متتابعاً من غير سكوت ولا فصل. وقال القاضي أبو إسحاق: لا يلزمه سوى الأولى، لأنها بانت بها، إلا أن ينوي بقوله الأول: أنت طالق الثلاث، ثم كرر، بين ما أراد بقوله الأول. ولو (قال): أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة أو تحت طلقة، أو فوق طلقة،

الفصل الثالث: في الطلاق بالحساب

وقعت طلقتان بعد الدخول كان ذلك أو قبله. ولو قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو قبلها طلقة، أو بعد طلقة، أو بعدها طلقة، وقعت طلقتان. الفصل الثالث: في الطلاق بالحساب، (وهو ثلاثة أقسام) القسم الأول: حساب الضرب، قال ابن سحنون عن أبيه فيمن قال: أنت طالق واحدة في واحدة، أو قال: في إثنتين، أو إثنتين في إثنتين، أو إثنتين في ثلاث (أو ثلاث) [في ثلاث]، وهذا ونحوه، فإنه يجري مجرى ضرب الحساب، فواحدة في واحدة واحدة، وإثنتان في إثنتين أربعة، تبين منه بثلاثة. وكذلك بقية هذا المعنى. القسم الثاني: في التجزئة فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة، أو ربع طلقة، أو غير ذلك من الأجزاء، وقعت طلقة، وكملت. ولو قال: ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة أثلاث طلقة، وقعت إثنتان، لزيادة (الأجزاء). وإذا قال: أنت طالق نصفي طلقة، وقعت واحدة. وكذلك نصف طلقتين. ولو قال: ثلث وربع وسدس طلقة، فهي واحدة. ولو قال: ثلث طلقة، وربع طلقة، وسدس طلقة، فهي ثلاث. القسم الثالث: في الاشتراك: فإذا قال لأربع نسوة: بينكن طلقة إلى أربع، طلقت كل واحدة طلقة. وإذا قال خمس إلى ثمان، طلقت كل واحدة طلقتين. فإن قال: تسع إلى ما فوق ذلك، طلقت كل واحدة ثلاثاً. قال ابن سحنون عن أبيه: لو قال: شركت بينكن في ثلاث، طلقت كل واحدة ثلاثاً. وكذلك في إثنتين، تطلق كل واحدة إثنتين. ولو قال لإحدى نسائه: أنت طالق (ثلاثاً) وللثانية: وأنت شريكتها، وللثالية: وأنت شريكتهما، طلقت الأولى والثالثة ثلاثاً ثلاثاً والوسطى ثنتين. ولو عوض عن قوله ثلاثاً، البتة، فقال أصبغ: الثانية أيضاً مبتوتة كالأولى والثالثة.

الباب الخامس: في الاستثناء

قال يحيى: وأشهب وسحنون يقولان: الثلاث والبتة سواء. الباب الخامس: في الاستثناء فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، وقعت ثنتان. وشرطه الاتصال بالمستثنى عنه، وألا يكون مستغرقاً للمستنى منه. ولا يشترط أن يستثني الأقل على المنصوص. وينحصر الكلام عليه في فصلين: الفصل الأول: في الاستثناء المستغرق، وفيه مسائل: الأولى: إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، لم ينفع لبطلان الاستثناء. ولو قال: ثلاثاً إلا إثنتين وواحدة، لجمع ما فرقه، وجعل مستغرقاً. وكذلك لو قال: طالق البتة إلا إثنتين وواحدة، لزمته البتة. ولو قال: أنت طالق طلقة واحدة إلا واحدة، طلقت واحدة، إلا أن يعيد الاستثناء على الواحدة فقط، (فتقع) عليه (اثنتان)، ويلغى الاستثناء، إذ يصير مستغرقاً. وكذلك لو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة، طلقت إثنتين أو ثلاثاً على ما تقدم. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة وواحدة وواحدة، وقع الثلاث. الثانية: الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فلو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا إثنتين إلا واحدة، وقعت ثنتان. معناه إلا اثنتين لا تقع إلا واحدة تقع في الثنتين. لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة، وقعت ثنتان لأنه أخرجه عن الاستغراق بقوله: إلا واحدة. الثالثة: لو قال: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً. فقيل: تقع ثنتان وقيل: الزيادة تلغى، فيبقى الاستثناء مستغرقاً. وعلى هذا، لو قال: أنت طالق أربعاً إلا اثنتين، وقعت واحدة، وعلى الأول تقع ثنتان. ولو قال: أنت طالق مائة إلا تسعاً وتسعين، فقيل: تلزمه ثلاث، ولا ينفعه الاستثناء، لأنه أتى بما [يصح] له إيقاعه. وقيل: تلزمه واحدة. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا (نصفاً (وقعت) الثلاث، لأنه أبقى النصف فيكمل. ولو قال: أنت طالق البتة إلا واحدة، فقال أشهب: تطلق إثنتين. وقال سحنون: ثلاثاً. وروى عنه مثل الأول.

الفصل الثاني: في التعليق بالمشيئة

ومنشأ الخلاف أن البتة تفيد العدد مع البينونة، أو البينونة فقط؟ وأن أبغاض الجمل كنوع آخر أم لا؟ كما تقدم. ولو قال: أنت طالق الطلاق كله إلا نصفه، لزمه طلقتان. ولو قال: إلا نصف الطلاق، طلقت ثلاثاً من جهة أن هذا الطلاق يصح أن يكون واحدة، فيصير كأنه استثنى نصف طلقة، فتجبر فتصير ثلاثاً. وقيل: يصح أن تكون هذه المسألة كالتي قبلها، يكون الألف واللام في الطلاق للجنس. الفصل الثاني: في التعليق بالمشيئة فإن علق بمشيئة الله سبحانه، فقال: أنت طالق إن شاء الله، وقع الطلاق ولم تنفعه المشيئة. وللأصحاب في الفرق بين الطلاق واليمين بالله سبحانه طريقتان: الأولى: أنه (تعلق) بلفظه حكم الطلاق، فلا يرفع بالاستثناء، بخلاف اليمين بالله سبحانه، فإنه لا يتعلق بلفظها حكم. الثانية: قال البغداديون: المستثنى في الطلاق، إن أراد بذلك التأكيد، لم تنحل اليمين. وإن أراد حل اليمين، فلا يصح، لأنه بمنزلة أن يحلف بالله على ما مضى، فلا يصح الاستثناء فيه. وقال الإمام أبو عبد الله: تحقيق قوله: إن شاء الله، أنه [إن] أراد بذلك: إن شاء الله إيقاع هذا اللفظ مني، لزمه الطلاق عند أهل السنة، وإن أراد: إن شاء الله لزوم الطلاق للحالف به، فيلزمه قولاً واحداً. وإن أراد: إن شاء الله طلاقك في المستقبل، فأنت طالق الآن، فيجري على الخلاف في تعليق الطلاق (بالمشكوك) في وقوعه. وإليه أشار مالك رضي الله عنه بقوله: ((علق الطلاق بمشيئة من لا تعلم مشيئته)). وإن قصد بقوله: إن شاء الله، إلزام الطلاق مع الاستثناء، فهذا هو أشكل الوجوه. قال: والحق فيه أن يرجع إلى خلاف الأصوليين: هل لله تعالى في الفروع حكم مطلوب، ونحن غير عالمين به؟ فيرجع إلى القسم الثالث، وهو تعليق اليمين بالمغيبات، أو ليس له حكم، بل كل

الباب السادس: في الشك في الطلاق

مجتهد مصيب، فيكون الحق في المسألة معلقاً باجتهاد المفتي. فرع: إذا علق الطلاق على فعل واستثنى بمشيئة الله سبحانه، لم ينفعه كما تقدم. وقال عبد الملك بن الماجشون وأصبغ: إن أعاد الاستثناء على الفعل نفعه، وإلا فلا. وإن صرف الحالف المشيئة إلى غير الله سبحانه، وهو ممن تعرف مشيئته، فلا طلاق حتى تحصل المشيئة به. وإن صرفها إلى ما لا تعرف مشيئته من الخلق كالجماد، أو إلى الملائكة والجن، ففي وقوع الطلاق (به) خلاف. ولو أوقع الطلاق وصرف رفعه إلى مشيئة من تعلم مشيئته، كقوله: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، ففي وقوع الطلاق به خلاف أيضاً، وإن شاء زيد. الباب السادس: في الشك في الطلاق وللشك حالات: الأولى: أن يشك هل طلق أم لا، ولم يستند شكه إلى أصل، فلا يلزمه الطلاق ولا يؤمر به. الحالة الثانية: أن يستند شكه إلى أصل كمن حلف ثم شك هل حنث أم لا وكان سالم الخاطر؟ فإنه يؤمر بالفراق، وفي كونه على الوجوب أو الندب قولان. الحالة الثالثة: أن يتيقن أنه أوقع الطلاق على زوجته، ويشك فلا يدري كم طلقها، أواحدة أو إثنتين أو ثلاثاً؟ ففي الكتاب قال مالك: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره})). ((قال ابن القاسم: وأرى إن ذكر، وهي في العدة، أنه لم يطلق إلا واحدة أو إثنتين، أنه يكون أملك بها. فإن انقضت العدة قبل أن يذكر، فلا سبيل له إليها. (وإن) ذكر بعد انقضاء العدة أنه إنما كان طلق تطليقة أو تطليقتين، فهو خاطب من الخطاب، وهو مصدق في ذلك. قال: ولا أحفظه عن مالك)). وقيل: تقع عليه طلقة واحدة. وله الرجعة في المدخول بها، والعقد في غيرها دون زوج، لأن ملك الثلاث متيقن، وقد وقع الشك فيما زال منها، والأصل البقاء فيما لم يتيقن وقوعه، والواحدة هي المتيقنة فلا يقع غيرها.

ووجه المشهور: أنه قد تيقن وقوع ثلم في النكاح، وأن هناك (تحريماً)، ولا يرفعه إلا الرجعة إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، أو تجديد العقد إن كانت غير مدخول بها، وتلك الرجعة وذلك العقد مشترك في صحتهما أن يبقى بعض العصمة الأولى التي وقع الطلاق فيها، وبقاء بعضها مشكوك فيه، والشك في الشرط شك في (صحة) المشروط، فكل واحد من الرجعة والعقد المجدد مشكوك في صحته منه، فيبقى على الأصل المتيقن قبلهما، وهو التحريم والحاصل فيها بالطلاق الواقع عليها، ولم تبح له بالرجعة أو العقد المشوك في صحتهما. وإذا فرعنا على المشهور، فتزوجها بعد زوج، ثم بت طلاقها في النكاح الثاني، حلت له بعد زوج غيره. ثم إن طلقها دون الثلاث، فله الرجعة وإن لم يبت طلاقها، فمتى طلقها ولو واحدة، لم تحل له إلا بعد زوج، ويتكرر ذلك عليه هكذا أبداً لدوران الشك. وروي أنها تحل له بعد ثلاثة أزواج وتطليقتين، ويزول الشك فيها. وقاله أشهب وأصبغ. وقال ابن وهب: إذا طلقها ثلاث تطليقات مفترقات، كان كما لو طلقها ثلاثاً مجتمعة، وترجع على ملك مبتدأ. الحالة الرابعة: أن يحلف ثم يحنث، ويشك في المحلوف به (إذ) نسبه، فصارت يمينه أو عنده غير معلومة ما هي، فيؤمر بالتزام جميع الأيمان، إلا ما لم تجر عادته بالحلف به. وقيل: لا يؤمر بذلك. فروع: في الشك في محل الطلاق لو قال رجل: إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق. وقال آخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وأشكل الأمر فيه، فقد حنثا جميعاً إلا أن يدعيا أن ذلك يقينهما ويحلفا عليه، ويكون منهما بحيث يتبين لهما، فيدينان ولا يحنثان، إلا أن يقولا: حلفنا على ما ظنناه، أو يقول ذلك أحدهما، فيحنث قائله منهما. وكذلك لو قال رجل: (إن كان غراباً فعزة طالق، وإن لم يكن غراباً فزينب طالق لزوجتيه. وأطلق ابن المواز القول بأن من حلف يمين، ثم شك في بره أو حنثه، فهو حانث، ما لم تكن يمينه بالله عز وجل. ومن طلق إحدى امرأتيه ونسي عينها توقف ليتذكر، ولا يعجل عليه بالإيقاف لرجاء التذكر، فإن طال الأمر ورفعتاه، ضرب له أجل الإيلاء.

الفصل الأول: في التعليق بالأوقات

ولو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق، ثم قال: أردت الأجنبية، لم يقبل منه، وطلقت الزوجة. ولو خاطب بذلك زوجتيه، فإن نوى إحداهما طلقت، وإذا لم يكن نوى واحدة بعينها، لزمه الطلاق فيهما جميعاً. وقيل: له أن يعين من شاء منهما، فيقع عليها الطلاق. وفي كتاب محمد، ومن له نسوة، فقال: امرأته طالق في يمين، فحنث، فإن قال: نويت واحدة، دين، (وإن) لم تكن له نية، فقال أصحاب مالك المصريون أجمع، ورووه عنه: أنهن يطلقن كلهن. وقال المدنيون من أصحابه: يختار واحدة، مثل العتق، وقول المصريين أحب إلينا، لأن العتق قد (يتبعض)، ولا يتبعض الطلاق. ولو رأى واحدة تتطلع فخاطبها بقوله: أنت طالق، ثم لم يعرفها، طلقن كلهن. النظر الثاني: في التعليقات، وفيه فصول وفروع الفصل الأول: في التعليق بالأوقات وهي (ثلاثة): ماض. ومستقبل. وحال. فأما الماضي، فإن شرط بصفة ممكنة عادة وشرعاً كقوله: زوجتي طالق لو جئت أمس لأقضينك حقك، لزمه الطلاق عند ابن القاسم، ولم (يلزمه) عند عبد الملك. وإن شرط بصفة ممتنعة عادة أو شرعاً كقوله: لو جئت أمس لأدخلن (بزيد) في الأرض، أو لأقتلنه، فإن أراد حقيقة الفعل حنث، وإن أراد المبالغة لم يحنث. وأما المستقبل، فإن شرط بصفة يعلم وجودها بلا بد، كقوله: أنت طالق بعد سنة أو ستة أشهر ونحو ذلك، فهذا يتنجز عليه الطلاق إذا كان الأجل مما يشبه أن يبلغه عمره في العادة، فإن كان مما لا يبلغه عمره عادة لم يقع الطلاق. وقيل: يقع عليه الطلاق، وإن كان الأجل بعيداً جداً، ويعد نادماً. - ولو قال لها: (إذا مت، فأنت طالق، ففي تنجيز الطلاق عليه خلاف منتف في قوله: إن مت، إذ لا يختلف في أنه لا يتنجز عليه).

والفرق أن (موضع): ((إن)) لم يتوقع، (وموضع) ((إذا)) لما يتحقق. قال عبد الحق: والصحيح أنهما سواء، وإليه رجع مالك. فأما لو قال: يوم أموت، لعجل عليه الطلاق. وإن شرط ما يصح أن يوجد، وأن لا يوجد من غير غلبة، فلا يتنجز عليه الطلاق قبل وجوده. وإن شرط ما الغالب وقوعه كزمن الحيض أو الطهر أو الحمل أو الولادة كقوله: إذ حضت، وشبهه فالمشهور تنجيز الطلاق تنزيلاً للغالب منزلة المحقق. وعند أشهب: لا شيء عليه حتى تحيض الطاهر، أو تضع الحامل. فأما الحائض، فإن أراد بقوله: إذا طهرت، أي انقطع عنك الدم، فحتى ينقطع. وإن أراد إذا لزمتها الصلاة، طلقت في الحين، لأنها تلزمها بمضي مدة الحيض وانقطاع الدم، أو بالاستحاضة. وإذا فرعنا على الأول، فلا يفتقر في التنجيز إلى حكم على المشهور (أيضاً)، ولا إلى (كونه) على حنث. وقال أصبغ: يتنجز الطلاق إن كان على حنث، (وإن) كان على بر لم يتنجز، لأنه مستصحب للعصمة، فلا ترتفع إلا (بتحقق) الوقوع. (و) في الأولى ليست العصمة مستصحبة، فترتفع بالغالب. فرع: إذا قال لها: متى حضت فأنت طالق، وقلنا بوقوع الطلاق عليها الآن على المشهور، ففي عدد الواقع عليها بذلك خلاف: قال ابن القاسم: ثلاث. وقال سحنون: إثنتان، لانقضاء العدة بالدخول في أول الدم الثالث، فلا تلحقها الثالثة.

الفصل الثاني: في التعليق بالتطليق ونفيه

وكذلك لو قال لها: أنت طالق كلما جاء شهر، هل تتنجز عليها طلقة واحدة، ثم تتربص لعلها تخرج من العدة قبل الزمان الثاني، أم لا؟ وفيه الخلاف المتقدم. وكذلك القائل: غذا مت فأنت طالق، هل يعد الموت سابقاً، أو الطلاق؟ القولان. ويتفرع على القول الشاذ فرعان: الأول: إذا قال لها: إذا وضعت فأنت طالق، فوضعت ولداً، وبقي في بطنها ثان، فعل يتنجز الطلاق بوضع الأول، أو يقف التنجيز على وضع الثاني؟. وفي ذلك قولان. الفرع الثاني: (إذا قال لأربع نسوة له حوامل: من وضعت منكن فصواحباتها طوالق، أن الأولى تطلق ثلاثاً، وكذلك الرابعة، وأما الثانية في الوضع، فإنما تقع عليها طلقة واحدة بوضع الأولى، ثم تبين بوضعها، ويقع على الثالثة طلقتان بوضع الأولى والثانية، ثم تبين بوضعها. ويتبين ذلك بالالتفات إلى عدد صواحبات كل واحدة، وإلى انقضاء عدتها بولادتها). وأما على المشهور، أعني قول ابن القاسم، فينجز على كل واحدة ثلاثاً. ولو قال: من وضعت منكن فالبواقي طوالق. وأراد غير من وضعت فلا طلاق على الأولى، وحكم الثلاث ما تقدم. وأما الحال، فمثل أن يشترط صفة حالة، كقوله: أنت طالق إن كنت تبغضيني مثلاً، فهذا لا يختلف (المذهب) أنه يؤمر بالفراق، وهل يجب عليه أم لا؟، ثلاثة أقوال: الوجوب. ونفيه. والتفرقة، فإن أجابته بما يقتضي الحنث وجب الفراق، وإن كان الأمر بالعكس لم يجب. وقال أبو محمد عبد الحميد: ((إن قصد نفس لفظها فلا طلاق عليه إذا جاوبته بما لا يقتضي. وإن كان علقه بما في قبلها، فهو من باب وقوع الطلاق بالشك)). الفصل الثاني: في التعليق بالتطليق ونفيه وإذا قال: إن طلقتك، أو إذا، أو مهما، أو متى ما طلقتك فأنت طالق فقال سحنون: إذا طلقها واحدة، طلقت طلقتين بعد الدخول، وطلقة واحدة قبله، لأن المعلق يصادف حال البينونة. وكذلك إذا خالعها.

الفصل الثالث: في التعليق بالحمل والولادة

وإن قال لها: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، فقال سحنون: إذا طلقها واحدة لزمه الثلاث. قال ابنه: ثم رجع سحنون وقال: تلزمه ثلاث ثلاث في المسألتين. قال: فالأول لبعض أصحابنا. فإن علق طلاقها على صفة ووجدت، فهو تطليق. ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، لزمته مكانه طلقة، إذ لا (بر له) إلا بطلاق. وقيل: لا يلزمه حتى يوقف أو ترافعه. وإذا قلنا: يقف وقوع الطلاق على الرفع، فهل ينجز عليه الطلاق، إذ لا فائدة في التأخير، أو يضرب له أجل المولي لعل رأيها يتبدل، فترجع إلى الصبر عليه؟ فيه خلاف أيضاً. وكذلك لو علق ذلك بأجل مثل قوله: إن لم أطلقك إلى أجل كذا، فأنت طالق. ولو قال: إن لم أطلقك واحدة إلى شهر فأنت طالق الآن البتة، ثم أراد تعجيل الواحدة قبل الأجل، فقد وقف في ذلك مالك. وقال أصبغ: لا يجزيه. وقال محمد: إن سئل في الطلاق فلا يجزيه ذلك، وإن كان أراد أن يعمها بالطلاق، فإنه يجزيه. ولو حلف بطلاقها البتة ليطلقنها رأس الشهر البتة لجرى على الخلاف المتقدم. وقال محمد: لا يعجل عليه أحد الطلاقين، لأن له أن يصالح قبل الشهر، فلا (يلزمه) إلا طلقة. ولو قال: أنت طالق أن لم أطلقك، أو أن طلقتك، بتفح الهمزة فيهما، فهو للتعليل، فيقع في الحال، إلا إذا لم يعرف اللغة، فهو كالتعليق. ولو قال: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً، كان ذكر القبلية لغواً، فلو نجز طلاقاً وقع المنجز، ووقع تمام الثلاث من المعلق، ولغا لفظ القبلية. الفصل الثالث: في التعليق بالحمل والولادة، وفيه مسائل: الأولى: إذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق. ففي الكتاب: قد قال مالك في مثل هذا: ((هي طالق لأنه لا يدري، أحامل هي أم لا)). وقال أبو القاسم السيوري: إن كانت بينة الحمل، فبين أنها تطلق. وإن كان يطأ ويعزل عزلاً بيناً، فهو كالذي يطأ ولا ينزل (و) لا شيء عليه. وإن كان ينزل، فينبغي أن يوقف، لأن الحمل مشكوك فيه. وإن كانت ممن لا يمكن أن تحمل، فلا شيء عليه.

ولو عكس الأمر فقال: إن لم تكن حاملاً، فهي طالق، فحكمها في الكتاب حكم (الأولى). وفي غيره: إن لم يطأ في ذلك الطهر، أو وطئ ولم ينزل، عجل الطلاق. وإن أنزل جرى على القولين: هل يتربص، أو يكون على وشك في العصمة فيعجل بالفراق؟ ثم هل يتوارثان في (الصورة) الأولى، وفي (هذه)، إن قلنا بالصبر، ثلاثة أقوال: الحكم بالميراث لاستصحاب العصمة. ونفيه لأنه ميراث بشك. تخصيصها بإرثه، ولا يرثها لأنه مرسل للعصمة من يده بسبب يمينه. ثم المذهب أنه إذا قال: إن حملت، فهو محمول على حمل مؤتنف، وأنه لا يحنث بحمل تقدم يمينه. وقال أبو الحسن اللخمي: فيه قولان. وأخذ القول الآخر من قوله في الكتاب فيمن قال: إذا حملت فوضعت فأنت طالق، أنه إن كان وطئها في ذلك الطهر مرة فهي طالق مكانها. قال: فحنثه بما تقدم من الوطء. ورأى بعض المتأخرين أن مقصوده في الكتاب التعليق على الوضع لا على الحمل. المسألة الثانية: إذا قال: إن كان حملك هذا جارية فأنت طالق واحدة، وإن كان غلاماً فأنت طالق إثنتين. فولدت ذكراً وأنثى، وقع عليه الطلاق، لأنا نحنث (بالأقل). ثم يختلف الحال في عدد الواقع، فإن ولدت الغلام أولاً كان الواقع إثنتين وتنقضي العدة بوضع الجارية، ولا يلزمه به طلاق. وإن وضعت الجارية أولاً، لم تقع إلا طلقة واحدة، إذ تنقضي العدة بوضع الغلام، ولا يقع به طلاق. ولو قال: إن كان حملك كله جارية فأنت طالق واحدة، وإن كان كله غلاماً فأنت طالق طلقتين، فكان جارية وغلاماً، لم يقع عليه طلاق، وهو كمن قال: إن هدمت هذه الدار، فهدم بعضها، أو قال: إن هدمتها كلها، فهدم بعضها. المسألة الثالثة: إذا قال: إن ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولدين، طلقت بالأول، وانقضت عدتها بالثاني. ولو قال: كلما ولدت ولداً، فكذلك.

القسم الثاني: من التعليقات: في فروع متفرقة نذكرها إرسالاً وجملة نظرنا في تعليق الصفات إذا علق عليها، فلنذكر الصفات حتى لا نطول، فنقول: تعليق الطلاق بطلوع الشمس يقتضي تنجيزه، وليس حلفاً، سواء كان بصيغة إن أو إذا. وبالأفعال حلف بالصيغتين. وأكل رمانة يحنث في التعليق بها، وبنصف رمانة. وكذلك أكل نصفها. والبشارة هي الخبر الأول. (والكذب خبر) كالصدق. وإذا قال العبد لزوجته: إن مات سيدي، فأنت طالق طلقتين، فبت السيد عتقه في المرض، ثم مات بقيت معه بطلقة على حكم يوم الحنث. ولو علق طلاق زوجته المملوكة لأبيه على موت أبيه، لم ينفذ إن كان وارثه، لأنه وقت انفساخ النكاح بالملك. ولو قال: أنت طالق يوم يقدم فيه فلان، فقدم نصف النهار، تبين الوقوع أول النهار. ولو قدم ليلاً لم تطلق إلا أن تكون نيته تعليق الطلاق بالقدوم. ولو قال: أنت طالق هكذت، وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثاً. ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً إن دخلت الدار، فمعناه تعليق التعليق، فإذا كلم زيداً أو لا تعلق طلاقها بالدخول كتعليق التدبير. ولو قيل له: أطلقت زوجتك؟ استخباراً، فقال: نعم. كان إقراراً. ولو قيل له: ألك زوجة؟ فقال: لا، لم يقع عليه بذلك طلاق، إلا أن ينوي به الطلاق. ولنقتصر على هذا القدر المنبه على التفاصيل ها هنا، ونحيل طالب التفصيل على ما تقدم في كتاب الأيمان.

كتاب الرجعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الرجعة وفيه فصلان: الفصل الأول: في أركانها، وهي ثلاثة المرتجع: وسبب الرجعة. ومحلها. الأول: المرتجع. وكل من له أهلية النكاح فله الرجعة، ولا يمنع منها المرض و (لا) الإحرام، وإن منعا من ابتداء النكاح. ولا (تقف) على إذن السيد في العبد ولا في الأمة. الركن الثاني: السبب، وهو الصيغة، وما يجري مجراها. فالصيغة كقوله: رجعت، وراجعت، وارتجعت. وقوله: رددتها إلى النكاح. وكذلك لفظ يحتمل الإمساك. وكل لفظ (يحتمل) الارتجاع إذا نواه به أفاده، كقوله: أعدت الحل، ورفعت التحريم، وشبهه. ويجري مجرى الصيغة الفعل المقترن بالنية، كالوطء والاستمتاع وشبهه. فإن عري عن النية، فلا تحصل به الرجعة. وقيل: تحصل. وفي حصولها بمجرد القول من غير نية قولان مبنيان على صحة نكاح الهزل، وهذا أولى بالصحة لأنه رد لما انثلم من النكاح، بخلاف ابتدائه. ولا يشترط الإشهاد فيها. وإن استحب. وقال القاضي بكر بن العلاء: يجب.

وتأوله أبو القاسم بن محرز على أن معناه أن لا تثبت الرجعة إلا بالبينة عليها. قال أبو القاسم: وقال أشهب عن مالك: إذا قال: إذا كان غد فقد راجعتك، لم تكن هذه رجعة. قال أبو القاسم: مراده لا تكون رجعة الآن، لكن تكون رجعة في غد، وعلل بأنها حق له، فكان له تنجيزه وتعليقه بما شاء من مجيء غد، أو قدوم غائب، أو غيره. ثم ذكر الخلاف في الشفعة، إذا علق أخذها بشرط بعد معرفته بالثمن، ثم قال: وفيه نظر، أنها معاوضة. الركن الثالث: المحل، وهو المعتدة بعد الدخول بوطء جائز في نكاح صحيح عن طلاق تقاصر عن نهاية ما يملك منه الزوج، ابتدأ إيقاعه مجرداً عن العوض، وعن قصد البينونة، ولفظ يقتضيها على خلاف فيهما. ولم يشترط ابن الماجشون جواز الوطء. فروع: حيث أوجبنا العدة بالخلوة ثبتت الرجعة إن تصادقا على الوطء. وإن ادعاه وأنكرته، ففي ثبوت الرجعة خلاف. وإذا ادعت انقضاء العدة بوضع الحمل ميتاً أو حياً، (ناقصاً) أو كاملاً، صدقت إذا كان ذلك ممكناً. وإذا وضعت المعتدة انقضت العدة بوضعها. ويستوي في ذلك العلقة، والمضغة المخلقة، وغير المخلقة، وكل ما تعرف النساء أنه حمل. وإنما تقبل دعواها مع الإمكان. وإمكان الولد الكامل إلى ستة أشهر من وقت إمكان الوطء. وإمكان انقضاء الإقراء إذا طلقت في الطهر مختلف فيه على الاختلاف في أقل الحيض، وأقل الطهر في العدد والاستبراء. وروي عن سحنون في الحرة تقول: انقضت عدتي في شهر، قال: أقل ما تصدق فيه أربعون يوماً، ويقبل قولها في مدة الإمكان، على خلاف عادتها إذا لم يكن نادراً. وفي قبوله في النادر خلاف. وقال القاضي أبو بكر: ((عادة النساء عندنا مرة واحدة في الشهر، وقد قلت الأديان في الذكران، فكيف بالنسوان؟ فلا أرى أن تمكن المرأة المطلقة من التزويج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق، ولا يسأل عن الطلاق. كان في أول الطهر، أو آخره)). وإذا وطئها بعد قرءين، استأنفت قروء ولا رجعة إلا في الأول منها.

الفصل الثاني: في أحكام الرجعية

الفصل الثاني: في أحكام الرجعية وهي محرمة الوطء على المشهور، لكن لا حد في وطئها، وتصح مخالعتها، ويصح الإيلاء منها، والظهار، واللعان، والطلاق، ولا خفاء بجريان التوارث، ولزوم النفقة. ولو قال: زوجاتي طوالق، اندرجت تحته. وإذا ادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة وأنكرت، فالقول قولها، إذ الأصل عدم الرجعة، إلا أن تقوم له أمارة تصدقه من إقراره بذلك قبل انقضاء العدة، أو تصرفه إليها، أو مبيته عندها. فإن لم يكن ما يصدقه لم يقبل قوله وإن صدقته المرأة. ثم (تمنع) إذا صدقته من الأزواج لإقرارها بثبوت العصمة، ولا يمكن من وطئها، وتجب لها النفقة عليه لأنها محبوسة بسببه. فإن قامت بحقها في الوطء، ففي تطليقها عليه بسبب ذلك قولان، سببهما أن حقها ثابت في الوطء، وهو ممنوع منه بالشرع. قال أبو الحسن اللخمي: ((وإن أحب الزوج أن يعطيها ربع دينار ويحضر الولي جاز وله جبرها على ذلك)). قال: ((وإن كانت أمة واعترف سيدها بارتجاع الزوج بعد انقضاء العدة، لم يصدق السيد، ولم يملك الزوج الرجعة. قال أشهب في كتاب محمد: إلا أن يشاء الزوج أن يدفع ثلاثة دراهم فتكون امرأته، شاء السيد أو أبى، لأنه اعترف أنها امرأته. ويجبر السيد على أن يعقد نكاحها منه)). ولو قال: راجعتك الآن، فقالت: انقضت عدتي بالأمس، فأنكر. أو قالت: انقضت عدتي، فقال: راجعتك بالأمس، فأنكرت، فالقول قولها. وقال القاضي أبو بكر: ((لا يقبل قولها: انقضت عدتي، بعد قوله راجعتك، ويقبل قبل ذلك)). ولو ارتجع وأشهد، فلما علمت قالت: أسقطت مضغة، فهي مصدقة. ولو قالت: كنت حضت ثلاث حيض، فقال أشهب: تصدق في الأولى، وفي متى حاضتها، ثم يحسب ما بقي للحيضتين، فما أشبه صدقت فيه بغير يمين، وإن لم يشبه فرجعته رجعة. فرع: لو صدقناها في انقضاء عدتها بالحيض بعد دعواه الرجعة، فتزوجت، فاستمرت حاملاً، ووضعت لأقل من ستة أشهر، فلترد إلى الأول، وتكون رجعته رجعة، والولد ولده، وقد تبين كذبها، أو حاضت مع الحمل. ولا تحرم على الثاني، لأنه إنما وطئ ذات زوج.

كتاب الإيلاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الإيلاء وهو الحلف بيمين، يلزم بالحنث فيها حكم، على ترك وطء الزوجة، أو ما يتضمن ترك الوطء زيادة على أربعة أشهر بمدة مؤثرة. وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه، وهي أربعة: الركن الأول: المولي، وهو كل زوج مسلم، مكلف، يتصور منه الوقاع، حراً كان أو رقيقاً، كانت رجعية، أو في صلب النكاح، كان الزوج مريضاً أو صحيحاً، ولا يصح إيلاء الخصي والمجبوب. وقال أصبغ: يصح. ولو آلى، ثم جب، انقطع الإيلاء. ولو قال لأجنبية: والله لا أجامعك سنة، ثم نكحها قبل مضي ثمانية أشهر صار مولياً. فروع: في من يلتحق بالمولي. الفرع الأول: من حلف على أمر ممكن ليفعلنه، كقوله: لأدخلن الدار، فإنه يكون مولياً، كالحالف على الوطء، ويفترقان في ابتداء الأجل، فإنه في حق هذا بعد الرفع حين

الحكم، وفي حق الأول من حين الحلف. وقال غيره: ذلك إذا تبين ضرره، وأما إن لم يمكنه فعل ما حلف عليه لم أحل بينه وبينها، ولا أضرب له أجلاً حتى يمكنه ذلك. الفرع الثاني: إنه يحكم أيضاً بالإيلاء على من ترك الوطء مضاراً، وعرف ذلك منه، وطالت به المدة، وأجله أيضاً من حين الحكم كالسابق. وقيل: يفرق بينهما من غير أجل. وقيل: لا يكون بذلك مولياً، ولا يفرق به. الثالث: إذا أطال المسافر الغيبة عامداً للضرار أمر بالقدوم على امرأته، فإن أبى وأضر بها ذلك، فطلبت الفراق، فرق بينهما، لأن العلة عدم الوطء، كالحالف والعنين، وغيرهما. الركن الثاني: المحلوف به، وهو الله تعالى، أو صفة من صفاته النفسية، أو المعنوية، أو ما فيه التزام من عتق (و) طلاق، أو لزوم صدقة أو صوم، أو نحوه علق بالوطء، كل ذلك إيلاء. فإذا قال: والله إن وطئت فهو مول. وكذلك إن قال: إن وطئت، فلله علي صدقة أو صوم، فهو مول. ولو قال: إن جامعتك فعبدي حر، (كان) مولياً، فإن مات العبد أو زال الملك عنه، انحل الإيلاء. ولو اشتراه بعد، أو هب له فقبله، عاد الإيلاء عليه إن كان بقي من المدة ما يزيد على أربعة أشهر، ولو ورثه لم يعد الإيلاء عليه. ولو قال لغير المدخول بها: إن وطئتك فأنت طالق واحدة، فهو مول، وتقع بالوطء طلقة رجعية، لترتب الطلاق على المسيس. رواه ابن سحنون عن أبيه. ولو قال: إن وطئتك فضرتك طالق، فهو مول، فإن ماتت الضرة، انحلت اليمين وإن أبانها (فكمثل). فإن جدد نكاحها عاد مولياً إن كان بقي من طلاق الملك المحلوف به شيء، وبقي من المدة ما يزيد على أربعة أشهر.

ولو قال: إن وطئت إحداكما، فالأحرى طالق، وأبي الفيئة، فالقاضي يطلق عليه إحداهما. (ولو قال لأربع نسوة: والله لا أجامعكن، فإن جامع واحدة، لم يكن مولياً على البواقي، والكفارة تجب بوطء واحدة). ولو قال: والله لا أجامعك في السنة إلا مرة واحدة، فمضت منها أربعة أشهر ولم يطأ، فاختلف فيها قول ابن القاسم، فقال: ((يوقف إذا مضى من السنة أربعة أشهر، وقال: لا إيلاء عليه حتى يطأ. وقد بقى من السنة أكثر من أربعة أشهر)). ولو قال: لا أجامعك في هذه السنة إلا مرتين، ((فقال ابن القاسم: لا يكون مولياً، لأنه إذا شاء تركها أربعة أشهر ثم وطئها، ثم تركها أربعة أشهر، ثم وطئها، فلا يبقى من السنة إلا أربعة أشهر. وقال أصبغ: هو مول. قال محمد: غلط أصبغ رحمه الله)). وإذا وطئ ما حلف عليه من مرة أو مرتين صار مولياً إن بقي من السنة زيادة على أربعة أشهر. وكذلك إذا قال: (والله) لا أجامعك إلا عشر مرات أو مائة، فإذا استوفى العدد صار مولياً إن بقيت المدة. ولو آلي عن امرأته، ثم قال لأخرى: أشركتك معها، ونوى الإيلاء، صار مولياً [منهما]. ولو قال: والله لا أجامعك إن شئت، فقالت: شئت، صار مولياً. والإيلاء ينعقد في حال الغضب وغيره، ولا ينعقد بمثل قوله: إن وطئت فأنا زان أو يهودي، أو نصراني، أو أنت زانية، إذ لا يتعرض بسببه للزوم.

الركن الثالث: المدة، وهي ما زاد على أربعة أشهر مدة مؤثرة، فلو قال: والله لا أجامعك ثلاثة أشهر، أو أربعة أشهر، لم يكن مولياً. فلو أعاد اليمين في آخر الأشهر مرة أخرى، لم يكن أيضاً مولياً. فإن آلى خمسة أشهر كان مولياً. وكذلك ما زاد على أربعة أشهر، فلو آلى ثمانية أشهر، فرفعته بعد أربعة أشهر فلم يف، فطلق عليه، ثم ارتجع، فإن انقضت بقية المدة قبل تمام العدة، كانت رجعية (ثابتة). ((ولو حلف أن لا يطأها خمسة أشهر، ثم حلف ألا يطأها بعد الخمسة خمسة، فبخلاف الحالف أن لا يطأها عشرة أشهر، هذا إيلاء واحد، ووقف واحد. والأول يوقف مرتين، فإن طلق عليه في الإيلاء الأول، ثم ارتجع، فلم تتم العدة حتى مضت أربعة أشهر من الخمسة (الباقية)، فعليه إيقاف ثان، وإن انقضت العدة قبل ذلك، فلا إيقاف عليه)). ولو قال: والله لا أطأك حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال، أو يقدم فلان. وهو على مسافة يعلم تأخر قدومه عن أربعة أشهر، فهو مول. ولو قال: حتى يدخل زيد الدار، فمضت أربعة أشهر، ولم يدخل، كان لها إيقافه عند انقضائها. ولو قال: إلى أن أموت، أو تموتي، فهو مول. ولو قال: إلى أن يموت زيد، فهو كالتعليق بدخول زيد الدار. الركن الرابع: المحلوف عليه، وهو الجماع. فكل يمين منعت من الجماع فهو بها مول، كقوله: لا جامعتك، أو لا اغتسلت منك، أو لا دنوت منك، ونحو ذلك مما يتضمن ترك الجماع. فإن أتى بلفظ يحتمل غيره، كقوله: لا وطئتك، ثم قال: أردت بقولي الوطء بالرجل، أو شبه ذلك. قيل له: إن كنت صادقاً فحقق صدقك بالوطء، فإن امتنع حمل على الوطء وكان مولياً به. ولو قال: لا أجامعك في الحيض أو النفاس، أو في حالة (إرضاعك) لولدك، فليس بمول.

الباب الثاني: في أحكامه

الباب الثاني: في أحكامه، وهي أربعة: الحكم الأول: ضرب المدة فإذا قال: والله لا أجامعك، أمهلناه أربعة أشهر من يوم حلفه، فإن لم يطأ رفعته إلى القاضي إن شاءت ليأمره بالفيئة، فإن أبى وأصرت على المطالبة، طلق القاضي عليه. ولا تحتاج المدة إلى ضرب القاضي، بخلاف العنة، والإيلاء الحكمي كما تقدم فيهما. وتربص الأمة عن الحر أربعة أشهر كالحرة، والتربص عن العبد شهران. وقيل: هو كالحر يتربص عنه أربعة أشهر. الحكم الثاني: المطالبة ولها ذلك إذا مضت المدة من غير قاطع، فإن رضيت لم يبطل حقها، وكان لها العود، بخلاف العنة، بل هذا كرضاها بالمعترض وبإعسار الزوج، فإنها ترجع إلى طلب. ولا مطالبة لولي الصغيرة والمجنونة، ولا يسقط حقها منه إلا بإسقاطها، وهذا بخلاف سيد الأمة، فإن له الطلب وإن رضيت هي بتركه. ولا مطالبة للمريضة التي تحتمل الوقاع، ولا للرتقاء، ولا للحائض حالة الحيض. وإن كان للرجل مانع طبيعي كالمرض فلها مطالبته بالفيئة بالوعد واللسان وتكفير اليمين، وإن كان شرعياً كالظهار والصوم والإحرام فلها المطالبة، وعليه أن يطلق، إلا أن يعضي بالوطء. وقيل: لا تحصل الفيئة بالوطء المحرم. ولو كانت فيئته تقتضي وقوع الطلاق الثلاث عليه في التي (آلى عنها) كقوله: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، فروى أكثر الرواة أنه لا يمكن من الفيء بالوطء، إذ باقي وطئه لا يجوز. وروي أيضاً أن السلطان يطلق عليه حين ترافعه، ولا يضرب له أجل المولي، ولا يمكن من الفيئة. وقاله ابن القاسم. واستحسنه سحنون. وقال ابن القاسم أيضاً: يمكن من الوطء. وله أن يتمادى حتى ينزل، وأحب إلي أن لا يفعل. وقال غيره: ينزع بعد التقاء الختانين، ولا يتعدى ذلك.

الحكم الثالث: في ما يجب على الزوج وهو الوطء، أو الطلاق، فإن أبى، فالقاضي يطلق عليه: فإن (استمهل)، فإن كان لعذر ينتظر زواله، أمهل، وإن لم يكن له عذر لم يمهل، فإن قال: أنا أفيء، لم يعجل عليه بالطلاق، واختبر مرة وثانية، فإن تبين كذبه طلق عليه. الحكم الرابع: في ما به الفيئة وهو تغييب الحشفة في القبل إن كانت ثيباً، والافتضاض إن كانت بكراً. وفي كتاب الرجم: ((إذا جامع في الدبر حنث، وزال عنه الإيلاء، إلا أن يكون نوى القبل، فلا كفارة وعليه وهو مول بحاله)). قال الشيخ أبو محمد: ((طرحه سحنون، ولم يقرأه)). ولا تحصل الفيئة بوطئه مكرهاً. ولو جن فوطئ، لم ينحل الإيلاء بوطئه. وإذا جن الرجل، لم تنقطع المدة، ولكن لا يطالب قبل الإفاقة، لأنه ليس امتناعه لأجل اليمين. ولو قال الرجل: وطئت قبل انقضاء المدة، فأنكرت، فالقول قوله، كما في العنة، على خلاف قياس الخصومات، بكراً كانت أو ثيباً. وحكى الشيخ أبو عمران: أن القول قولها إن كانت بكراً.

كتاب الظهار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الظهار وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه، وهي أربعة: الركن الأول: المظاهر وهو كل مسلم عاقل بالغ. فلا يصح ظهار الذمي. ويصح ظهار السيد عن (الأمة) التي يباح له وطؤها. وفي لزومه في المكاتبة إذا عجزت فعادت خلاف. فأما السكران الطافح والمراهق فظهارهما كطلاقهما. ولا يلزم المجنون ظهار.

وفي لزوم ظهار من لا يقدر على الوطء أو لا يمكنه، وإنما يقدر على أوائله خلاف، منشؤه: هل الظهار تحريم لجملة المرأة، أو للوطء خاصة؟ الركن الثاني: المظاهر عنها وهي كل امرأة كان وطؤها جائزاً لمن ظاهر عنها، أو كانت ممن يلحقها طلاقه، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كتابية. الركن الثالث: اللفظ. وهو قسمان: صريح، وكناية فالصريح ما تضمن ذكر الظهر في محرم من النساء، كقوله: أنت علي كظهر أمي، أو أختي، أو عمتي، أو أمي من الرضاعة أو خنتني. والكناية نوعان: ظاهرة، وهي ما تضمن ذكر الظهر في غير المحرم، أو التشبيه بالمحرم من غير ذكر الظهر، كقوله: أنت علي مثل أمي، أو حرام كأمي، أو مثل أمي، أو كفخذها، أو بعض أعضائها. وكقوله: أنت علي كظهر فلانة لأجنبية، هي متزوجة أو غير متزوجة. وخفية، وهي ما لا يقتضي الظهار بوجه، كقوله: ادخلي الدار، أو اخرجي، أو تقنعي، وشبهه. فأما الصريح فظهار، فإن أراد به الطلاق لم يكن طلاقاً. وروي عن ابن القاسم أنه يكون طلاقاً ثلاثاً، ولا ينوي في أقل من ذلك. وقال سحنون: ينوي في دون الثلاث إن ادعى أنه أراده. وأما الكناية الظاهرة، فهي ظهار أيضاً، إلا أن يريد (به) التحريم، فتكون عليه حراماً، ولا يقبل قوله أنه لم يرد به شيئاً لا طلاقاً ولا ظهاراً. وأما الكناية الخفية، فإن أراد بها الظهار لزمه، وإلا لم يلزمه به شيء. ولو ترك الصلة فقال: أنت كظهر أمي، فهو كما لو قال: أنت طالق، ولم يقل: مني، أما لو قال: كعين أمي أو روحها، أو كامي، وأراد الكرامة، فليس بظهار. وإن قصد الظهار فهو ظهار. ولو قال يدك، أو نصفك علي كظهر أمي، فهو ظهار. الركن الرابع: المشبه بها وهي الأم، ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو صهر. ولو شبه بمحرمة لا على التأبيد، فإن ذكر الظهر، فهي الكناية الظاهرة، وقد تقدم حكمها، وإن لم يذكر الظهر، فقال أشهب: هو ظهار، إلا أن يريد به الطلاق.

وقال عبد الملك عكسه. وقيل: ظهار وإن أريد به الطلاق. وقيل: عكسه. (قال ابن القاسم: ((ولو قال: أنت علي كظهر ابني، أو غلامي، فهو مظاهر. وقاله أصبغ)). (وقال ابن حبيب: لا يلزمه ظهار ولا طلاق، وإنه لمنكر من القول). قال ابن القاسم: وإن قال: (كابني) أو كغلامي، فهو تحريم). ويقبل الظهار التعليق، فلو قال: إذا ظاهرت عن فلانة الأجنبية، فأنت علي كظهر أمي، صح، فإذا نكح الأجنبية فظاهر عنها حنث. وإن قال: إن ظاهرت عنها، وهي أجنبية، فإن أراد بذلك التعليق كقوله: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، حنث بوجوده. وكذلك إن أراد مجرد وجود الصيغة، وإلا فلا تحرم. ولو قال: أنت حرام علي كظهر أمي، وأراد مجرد الطلاق، أو مجرد الظهار، كان كما نوى. وأطلق القاضي أبو محمد أنه طلاق، ولم يشترط نية. ولو لم تكن له نية لكان ظهاراً. ولو نواهما جميعاً، وقدم الظهار في نيته كان مظاهراً، ثم مطلقاً، فإن عادت إلى النكاح لم يطأ حتى يكفر. ولو خاطب بذلك أجنبية معلقاً لهما على وجود العصمة لزماه جميعاً، سواء قدم في لفظة الطلاق أو الظهار. وقال ابن القاسم: ولو قدم الظهار لكان أبين، وهو بخلاف الزوجة، لأنه في الأولى ظاهر من مطلقة، ولم يرد أنه إذا تزوجها وقع عليها ذلك، بخلاف هذه المسألة، فإنه صرح بهذا فيها. نعم لو قال للزوجة: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثاً، وأنت علي كظهر أمي، فدخلت الدار، لزماه جميعاً لوقوعهما معاً. ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثاً، ثم أنت علي كظهر أمي، لم يلزمه الظهار للترتيب بثم، بخلاف الواو، فإنها لا ترتب، فيقعان معاً.

الباب الثاني: في حكم الظهار

الباب الثاني: في حكم الظهار، وله حكمان أحدهما: تحريم الجماع والاستمتاع تحريماً ممدوداً إلى التكفير، سواء كانت الكفارة بإطعام أو بغيره. وقال سحنون وأصبغ: يحرم الجماع فقط، ولا يحرم الاستمتاع، وإنما ينهى عنه خوف الذريعة. قال أبو القاسم بن محرز: والأول قول البغداديين. قال: وهو مقتضى الكتاب في إلزام الظهار في الرتقاء، (إذ) ليس فيها إلا التلذذ. وسبب الخلاف: هل الظهار تحريم للزوجة بالكلية؟ أو إنما هو عبارة عن الركوب للوطء خاصة فلا تحرم أوائله؟ وعلى الخلاف في ذلك ينبني تفسير العود ما هو، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإذا فرعنا على الأول، فلو ظاهر الشيخ الكبير الذي لا حراك عنده، ومن هو مقطوع الذكر، فإن الظهار يلزمه، لأنه يتعلق بما يتأتى له فعله من أنواع التلذذ. وعلى مذهب سحنون وأصبغ لا يكون مظاهراً. الحكم الثاني: وجوب الكفارة بالعود، والنظر في العود والكفارة. النظر الأول: في بيان العود والعود هو العزم على الإمساك والوطء معاً في رواية. وهي مذهب الموطأ واختيار

القاضي أبو بكر. والعزم على الإمساك خاصة في أخرى، وعلى الوطء خاصة في ثالثة، وهي مذهب الكتاب. وفي رواية رابعة، أن العود الوطء نفسه. فروع: الأول: لو قال: أنت علي كظهر أمي خمسة أشهر، لصح مؤيداً كالطلاق. وروي أنه يصح مؤقتاً. ولو قال: أنت علي كظهر أمي بعد خمسة أشهر، تنجز عليه الظهار كالطلاق. وقيل: يتأجل. وفرق بأنه تحريم يرتفع بالكفارة، فلم يكن فيه شبه بنكاح المتعة. الثاني: لو قال لأربع نسوة: أنتن علي كظهر أمي، فلو عاد في الكل أجزأته كفارة واحدة، كما لو عاد في واحدة فقط. ولو ظاهر عنهن بأربع كلمات على التوالي وعاد في الجميع لزمه أربع كفارات. ولو كرر لفظ الظهار على واحدة متوالياً، كقوله: أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، فليس عليه إلا كفارة واحدة وإن نوى تكرار الظهار. إلا أن ينوي بذلك ثلاث كفارات، فتكون عليه ثلاث كفارات، كاليمين بالله تعالى. قال القاضي أبو الوليد: ((هذا كله ما لم تلزمه الكفارة الأولى بالوطء، فلو وطئ ثم ظاهر منها مرة أخرى، ففي مختصر ابن عبد الحكم: عليه كفارة ثانية)). فرع: إذا قلنا: إن تكرار الظهار بمعنى تكرار الكفارة يوجب عليه الكفارة، فهل يجب تقديم جميعها على الوطء كالأولى، أم لا؟. قولان للشيخ أبي محمد وللشيخين أبي الحسن وأبي عمران. الثالث: إذا قال: إن لم أتزوج عليك، فأنت علي كظهر أمي، فإنما يصير مظاهراً عند اليأس أو العزيمة على ترك التزويج، إلا أن ينوي إلى مدة معلومة فيحنث بمضيها. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، ثم أعتق عن الظهار قبل الدخول لم يجزئه، كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا أكلمك، ثم أعتق قبله، لم يجزئه.

النظر الثاني: في بيان الكفارات، (وهي) ثلاث خصال: الأولى: العتق، ولا يجزي في الظهار إلا ما يجزي في الصيام والأيمان من كونها كاملة غير ملفقة، مؤمنة سليمة محررة، وتحريرها: أن يبتدئ إعتاقها من غير أن يكون مستحقاً بوجه سابق. ونعني بالسليمة السالمة من العيوب القادحة. والعيوب ثلاثة أنواع: الأول: ما يمنع من الكسب أو كماله، فهو قادح يمنع الإجزاء، وهذا كالمريض المزمن، والأقطع، والأعمى، والأبكم، والمجنون، والهرم العاجز، والمريض الذي لا يرجى برؤه. الثاني: ما لا يمنع الكسب، ولا يشين، فليس بقادح، ولا يمنع الإجراء، (وهذا) كالمرض الخفيف، والعرج الخفيف، وقطع الأنملة. الثالث: ما يشين ولا يمنع الكسب، ففي منعه الإجزاء خلاف ينبني على الشهادة بأنه قادح أو غير قادح، وذلك كاصطلام الأذن، والصم، والعور، والمرض الكثير الذي لم يبلغ إلى السياق، والبرص الخفيف، والعرج البين، والخصاء، وقطع الأصبع. شرح الخلاف: أما الاصطلام، فقال في الكتاب: ((لا يجزئ)). قال أبو الحسن اللخمي: وعلى قول أشهب يجزئ. وأما الصمم، فقال مالك في الكتاب: ((لا يجزئ، وقال أشهب: يجزئ)). وأما العور فقال مالك والمصريون: ((يجزئ)). وقال عبد الملك: لا يجزئ. وهو قول مالك في المبسوط. وأما المرض الكثير: فقال محمد: يجزئ ما لم ينازع. وقاله عبد الملك. واستقرأ أبو

الحسن اللخمي من قول الغير في الكتاب: إذا كان البرص خفيفاً، ولم يكن مرضاً، أن المرض يمنع الإجزاء. وأما البرص، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((لا يجزئ)). وقال عبد الملك: إذا كان خفيفاً ولم يكن مرضاً أجزأ. وقال أيضاً أشهب. وأما العرج البين، ((ففي الكتاب نفي الإجزاء)). وقال أشهب في كتاب محمد: يجزئ. وروي أيضاً عن مالك. وأما الخصاء فكرهه ابن القاسم في الكتاب وقال أيضاً: ((لا يجزئ)). ((قال: ولو كان (خصياً) غير مجبوب ما أجزأ)). وقال أشهب في كتاب محمد: يجزئ، ورواه في العتبية عن مالك. وأما قطع الأصبع، ففي الكتاب لابن القاسم: ((لا يجزئ)). وقال في غيره: يجزئ ويجزئ عتق الصغير وإن كان عاجزاً عن الكسب لصغره، ولكن الكبير أحب. ولا يجزئ عتق الجنين. وأما كمال الرق، فاحترزنا به عمن فيه عقد حرية، كالمعتقة إلى أجل، والمستولدة، والمكاتبة، والمدبرة، والتي بعضها حر. فإن اشترى المدبر أو المكاتب فأعتقه عن ظهار لم يجزئه. وقيل: بالإجزاء، بناء على قول من قال: إن من اشترى أحدهما فأعتقه مضى العتق، ولم ينقض البيع. فإن قلنا بنقضه، فلا يجزئ عتقهما ها هنا. ولو كانت الرقبة مشتركة بينه وبين غيره، فأعتق جميعها عن ظهاره، ففي

الإجزاء قولان، المشهور عدمه. ولو أعتق البعض وأكمل عليه الباقي، فالمنصوص أنه لا يجزيه. ولو كان مالكاً للجميع، فأعتق البعض، لم (يجزئه). وقيل: بالإجزاء. ولو علق عتق عبد على شرائه، ثم اشتراه، فأعتقه عن ظهاره، لم (يجزئه). ولو قال: إن اشتريته فهو حر عن ظهاري، ففي ثبوت الإجزاء ونفيه خلاف بين ابن القاسم ومحمد مبني على أن الحرية يتخيل وقوعها قبل كمال الملك أو معه، (أو) إنما تقع (مترتبة) على الملك. ولو اشترى من يعتق عليه، فأعتقه عن الظهار، لم (يجزئه). واستثنى بعض المتأخرين صورة واحدة، وهي ما لو كان عليه دين، فكان للغرماء أن يمنعوه، فأذنوا له أن يعتقه عن الظهار، قال: فإنه يجزئ، لأن الملك قد استقر عليه. وأما عتق المرهون والجاني إن نفذاه فيجزئ. وعتق نصفين من عبد واحد في دفعتين مختلف فيه، والمشهور نفي الإجزاء. وعتق نصفي عبدين غير مجزئ. ولو أعتق عبدين عن كفارتين، وقال: عن كل واحدة نصف من كل عبد لم يجزئه. والعبد الغائب المنقطع الخبر لا يجزئ. والعبد المغصوب يجزئ. وأما قولنا: (خالية) عن شوائب العوض فأردنا به: لو أعتقه عن كفارته على أن يرد ديناراً، عتق لا عن الكفارة. ولو قال لغيره: أعتق عبدك عن كفارتك، ولك علي ألف، لم ينصرف إلى الكفارة، وعتق. وفي إجزاء ما أعتق عنه الغير ونفيه ثلاثة أقوال: (الإجزاء ونفيه لابن القاسم وأشهب). وفرق عبد الملك في الثالث، فقال: يجزيه مع الإذن، ولا يجزيه مع عدمه. وقال ابن القاسم أيضاً: يجزيه ما لم يدفع إليه في ثمنه شيئاً على ذلك.

قال الشيخ أبو محمد: يريد كأنه اشتراه بشرط العتق). ومنشأ الخلاف في القولين الأولين، هل استقر الملك أولاً، ثم وقع العتق بعده، أو لم يستقر الملك عليه إذا لم يتملكه إلا إلى حرية. وأما اعتبار الإذن، فبناء على وجوب نية العتق في الكفارة، وهو المشهور من المذهب. وقيل: لا تجب. الخصلة الثانية: الصيام ولا يجوز العدول إليه، وإلا لمن عجز عن العتق، فلو ملك رقبة لم يكن له الانتقال إلى الصوم مع وجودها، وإن كان محتاجاً إلى خدمتها لمرضه أو لمنصبه الذي يأبى مباشرة الأعمال، أو لغير ذلك. ولو تظاهر من أمته وهو لا يملك غيرها، لم يجزئه الصيام، وهي تجزئه نفسها إن أعتقها عن ظهاره، فإن تزوجها حلت له. قال أبو الحسن اللخمي: يجزيه عتقها على القول: إن العود العزم على الإمساك، وأنه إن طلق بعد ذلك أو ماتت، لم تسقط عنه الكفارة. قال: ويجزيه أيضاً على القول أنه إذا ابتدأ بالكفارة، والزوجة في العصمة، وأتمها بعد انقضاء العدة، أنها تجزيه، وهو قول ابن نافع. (قال): ولا تجزيه على القول: إن من شرطها أن تكون بموضع يستبيح به الإصابة، لأن عتقها خلاف العزم على الإصابة. قال: فلا يجزيه العتق (لهذا)، ولا يجزيه الصوم، لأنه مالك لرقبة. ولو ملك داراً لا فضل فيها، أو ملك من العروض أو غيرها ما يشتري بثمنه رقبة، لم ينتقل إلى الصوم.

والاعتبار بوقت الأداء. وقيل: بوقت الوجوب إن كان فيه موسراً. (وقال بعض القرويين: إنما ذلك لمن وطئ فلزمته الكفارة بالعتق ليسره، فلم يكفر حتى أعسر فصام. فأما إن لم يطأها حتى أعسر فصام، ثم أيسر، فلا يلزمه العتق). (ثم حيث قلنا: ينتقل إلى الصوم، فلو شرع في الصوم ثم أيسر، لم يلزمه العتق)، وقيل: إن كان إنما صام يوماً أو يومين، أعتق. وقال في الكتاب: ((أرى أن ذلك حسناً أن يرجع إلى العتق. ولست أرى ذلك بالواجب عليه، ولكنه أحب ما فيه إلي)). فرع: فإن أفسد هذا الصوم، بوطئ امرأته بعد أن يبق عليه إلا يوم واحد، وكان حينئذ واجداً للرقبة، وجب عليه عتقها، ولا يجزيه الصوم. ومن قال: كل مملوك أملكه إلى عشر سنين حر، ثم لزمه ظهار وهو موسر، فطالبته امرأته، ففرضه الصيام. ولو لم تطالبه لما أجزأه الصوم، وصبر إلى انقضاء الأجل فأعتق. ولو تكلف المعسر الإعتاق، (جاز) ذلك، وأجزأ عنه. والعبد وإن كان يملك، فلا يصح منه التكفير بالإعتاق لمعنيين: أحدهما: حق السيد. والثاني: أن الولاء لا يقع له، وإن أذن السيد في العتق، وذلك يمنع وقوع العتق عنه، ولسيده منعه من الصوم إذا أضر ذلك به في خدمته، إلا أن يكون يؤدي الخراج فقوي على عمله وصومه، فلا يمنع منه. وقال ابن الماجشون: ليس له منعه وإن أضر به في الخدمة. قال في الكتاب: ((وأحب إلي أن يصوم، وإن أذن له سيده في الإطعام. قال ابن القاسم: والصيام عليه، وهو الذي فرضه الله على من قوي عليه. وليس يطعم أحد يستطيع الصيام)). واعتذر أبو القاسم بن محرز عن مالك بأن مقصوده الكلام على ما إذا منعه السيد الصيام، وأباح له العتق أو الإطعام، فتوفق مالك، هل له ذلك أم لا؟، فاستحب الصيام لأجل تردده،

ولو جزم بأن السيد ليس (له) منعه من الصيام، لجزم بأن الواجب عليه الصيام كما قال ابن القاسم، وإنما خرج كلامه على التردد. ومن نصفه حر ونصفه رقيق فهو كالرقيق. أما حكم الصوم، فهو أنه تجب فيه نية الكفارة ونية التتابع. وإذا مات لم يصم عنه وليه. ويصوم شهرين بالآهلة، فإن انكسر الشهر صام أحد الشهرين بالهلال، وتمم (الكسر) ثلاثين. وينقطع التتابع بوطء المظاهر ليلاً أو نهاراً، ولو في اليوم الأخير أو ليلته، ويجب الاستئناف. والحيض لا يقطع التتابع، وكذلك المرض، ويقطعه الفطر في السفر من غير ضرورة. وإن أفطر ساهياً أو مخطئاً، لم ينقطع (تتابعه .. وقيل: ينقطع بهما. وقيل: ينقطع) بالخطأ دون السهو. ولا خلاف في بطلان تتابعه بالفطر متعمداً من غير عذر. وكذلك لو ابتدأ قاصداً في وقت يعلم أن أيام الأضحى تمر به، فإن كان هذا لجهل، ففي قطع التتابع به خلاف. ثم إذا قلنا: لا ينقطع التتابع بذلك، فإنه يفطر أيام الأضحى، ويقضيها متتابعة متصلة بما قبلها. فرعان: الأول: لو صام شعبان ورمضان لكفارته وفريضته لم يجزئه رمضان عن واحد منهما، ولزمه قضاء ثلاثة أشهر. الفرع الثاني: لو جمع أربعة أشهر للصوم عن ظهارين، ثم ذكر يومين لا يدري هما من الشهرين الأولين أو من الثانيين أو منهما؟. ولا يدري هل هما مجموعان أو مفترقان؟ فإن قلنا: إن النسيان لا يضر، والتفرقة كذلك، فيأتي بيومين لا غير. وإن قلنا: إن (كلا هذين) مضر ومبطل للصوم، فروى سحنون عن ابن القاسم: ((أنه يصوم يومين يصلهما بآخر صيامه، خيفة أن يكونا من الشهرين الأخيرين، ثم يأتي بشهرين قضاء عن الأولين)).

(وقال ابن سحنون عن أبيه في ذكره ليومين متتابعين، أنه يصوم يوماً وشهرين يصل ذلك بصيامه، لأن الشهرين تنوب عن ذلك، وإنما أشد ما يقدر أنه ترك يوماً من آخر الشهرين الأولين، ويوماً من أول الشهرين الأخيرين. فيأتي بيوم تداركاً للأخيرين وشهرين قضاء عن الأولين. قال أبو محمد: ((يعني سحنون: أنه لو أيقن أنهما من إحدى الكفارتين لم يكن عليه غير شهرين فقط)). قال أبو محمد: ((يظهر) أن قول ابن القاسم أشبه، (لأنه) وإن أيقن أنهما من إحدى الكفارتين، فلا ينبغي له أن يخرج من كفارة هو فيها حتى يتمها بيقين، بأن يضيف إليها يومين، ثم يقضي الكفارة الأخرى. وكذلك إن لم يدر هل هما من إحدى الكفارتين، أو من آخر تلك وأول هذه، أن واحدة قد بطلت، غير أنه لا ينتقل من هذه التي هو فيها إلا بيقين من إصلاحها بيومين وذلك أكثر ما يمكن أن يكون عليه منها، كمن ذكر سجدة من إحدى ركعتين، فلا بد أن يصح هذه التي هو فيها بسجدة، وإن كان لا بد أن يعيد الأولى، إلا شيء رواه البرقي عن أشهب، أنه قال: يأتي بركعة، ولا يصلح هذه بشيء)). الخصلة الثالثة: الإطعام فينتقل إليه من عجز عن الصيام عاجلاً وآجلاً، فلو غلب على ظنه القدرة في المستقبل، فقال ابن القاسم: ينتظر القدرة ولا يطعم. وقال أشهب: يطعم ولا ينتظر. ثم النظر في القدر والجنس أما القدر، فهو إطعام ستين مسكيناً، ويشترط فيهم (ما يشترط) في من تصرف الزكاة إليه من المساكين، ويراعي العدد، فلا يجزيه أن يطعم ذلك المقدار لدون هذا العدد. واختلف في مقدار ما يعطى لكل مسكين. فروي: مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن حبيب: مد يده صلى الله عليه وسلم. وفي الكتاب ((مد بمد هشام)). ثم اختلف في مقداره.

(فروى العراقيون عن معن بن عيسى، أنه مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم. واستصح ذلك القاضي أبو الوليد بوجهين: ((أحدهما: أن معنا مدني، فهو أعرف به. والثاني: أن ذكر أنه شاهده، قال: وهو موجود إلى اليوم، وهو كيل السراة (وغيرهم من العرب). (وقال ابن حبيب: جعله هشام لفرض الزوجات وهو مد وثلث. وقال ابن القاسم: ((مد وثلثان)). وأما الجنس، فهو جنس زكاة الفطر، ويجب فيه التمليك. وقال ابن الماجشون: إن غدام وعشاهم خبزاً وإداماً أجزأه. قال أبو الحسن اللخمي: ((فجعله ككفارة اليمين بالله تعالى)). وهل يعتر عيش الكفر أو عيش أهل بلده؟ يخرج على ما تقدم في كفارة اليمين وزكاة الفطر من الخلاف في ذلك. ولو أعطى لدون الستين فليحتسب بذلك العدد، ويبني عليه، وإن قدر على استرداد الزائد، فله استرداده. ولو أعطى لأكثر من الستين، فإن أكمل لمن أعطاه أجزأه. وله استرداد ما دفع لمن زاد على الستين. وإن لم يقدر على الإكمال أتم الستين أو ابتدأ. ولو تناهبها المساكين، فإن كانوا أكثر من الستين ابتدأ الجميع. وإن كانوا ستين فأقل بنى على واحد وأتم عليه.

كتاب اللعان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب اللعان وفيه مقدمة وثلاثة أبواب: المقدمة: في ما يبيح اللعان، ونفي النسب، فنقول: الزوج كالأجنبي في القذف، إلا في أمور: منها: أنه قد يباح له ذلك، وقد يجب عليه لضرورة دفع النسب. ومنها: دفع العقوبة عن نفسه باللعان. ومنها: إيجاب عقوبة الزنى على المرأة. قال القاضي أبو بكر: ((ولا يمنعه من ذلك وجدان البينة، ولفظ الآية خارج مخرج الغالب، بل مخرج المعتاد، (فإنه) لم يحد أحد في الإسلام ببينة، ولا يحد في وطء أبداً، لما أراد الله من الستر على الخلق حتى يحكم فيه بحكمه. فذلك من قول الله تعالى صفة للحال، لا شرط في الحكم)). ثم للمرأة الدفع بلعانها. ويباح للزوج القذف إذا استيقن أنها زنت في نكاحه، وإن لم يكن ثم ولد (للتشفي) إذا ادعى الرؤية، فإن اقتصر على مجرد القذف من غير دعوى الرؤية، فروي أنه يلاعن، وروي أنه لا يلاعن، ويحد [للقذف]، وعليه أكثر الرواة. أما نفي الولد باللعان، فيصبح إذا قال: لم أصبها منذ كذا، لأمد لا يلحق فيه الولد، أو

الباب الأول: في أركان اللعان

لم أصبها بعدما وضعت ولداً كان قبل هذا، مما يعلم أنه بطن ثان، أو يقول: ليس ولدي، أو لم تلديه، أو يجمع بين الاستبراء والرؤية في دعواه، وتأتي به لستة أشهر فصاعداً بعد الرؤية. ورأى أبو القاسم السيوري: أنه ليس له نفيه بذلك. وذكر الداودي عن المغيره مثله. وإذا فرعنا على المشهور فتكفي حيضة واحدة. وقال عبد الملك: ثلاث حيض، ورواه. فأما لو اقتصر على أحد الأمرين، الاستبراء أو الرؤية، إذا أتت به لستة أشهر فأكثر بعد الرؤية، ففي صحة النفي بذلك روايتان. واختلف أيضاً، وإن كانت حين الرؤية ظاهرة الحمل، أو لم تكن ظاهرته، وأتت به لأقل من ستة أشهر منها، هل يكتفي بادعاء الرؤية وإن لم يدع الاستبراء أم لا؟ ولو كان يعزل عنها، لم يعول في النفي على العزل. ولا يجوز النفي بمجرد مشابهة الولد لغيره في الخلق والقبح. ولو كان الأبوان في غاية البياض، والولد في غاية السواد، أو بالعكس، لم يجز النفي بذلك. وإذا نكح المشرقي مغربية، وأتت بولد لستة أشهر، فلا حاجة إلى اللعان فإنه لا يلحقه إذ لا إمكان. ولو أتت بالولد لزمان الإمكان، ولكن رآها تزني، وأراد اللعان دون نفي الولد فله ذلك. الباب الأول: في أركان اللعان، وهي أربعة: القذف، والأهل، واللفظ، والثمرة الركن الأول: القذف، وهو نسبتها إلى وطء حرام في القبل أو الدبر، فلو نسبها إلى زنى وهي مستكرهة فيه، التعن هو لنفي الولد، ولم تلتعن هي إذا ثبت الغصب، إذ يمكن أن يكون منه. ويشترط أن لا يطأها بعد الرؤية وأن يقول في القذف واللعان: رأيها تزني، على إحدى الروايتين. وكذلك يقول استبرأتها في نفي الولد. وروي أن ذلك لا يشترط فيهما.

ثم اختلف الرواية في اشتراط ذكر الصفة على رواية اشتراط الرؤية. الركن الثاني: الملاعن، وله شرطان أحدهما: أهلية اليمين، فتصح من كل مكلفين، وإن كانا مملوكين، أو فاسقين، أو أحدهما، ويستثني الكافر. غير أن الذمية تلاعن (لتدفع) العار عنها، وينقطع النكاح بلعانها، فإن أبت فهما على الزوجية، وترد إلى أهل دينها بعد العقوبة، لأجل خيانة زوجها في فراشه، وإدخالها الإلباس في نسبه. الشرط الثاني: الزوجية، فلا لعان للأجنبي، نعم يلتحق بصحيح النكاح فاسدة. قال في كتاب محمد: وكل نكاح يلحق فيه الولد ففيه اللعان وإن فسخ. والطلاق الرجعي لا يمنع اللعان قبل الرجعة. وإن قذفها ثم أبانها لاعن لدفع النسب إن كان، وإلا (فيلاعن) لدفع الحد. وإن قذف بعد البينونة لاعن إن كان ولد، وإلا فلا، ويحد. وإن قذفها في عدتها من الطلاق البائن بالرؤية لاعن، وإن لم يكن بها حمل. وقال ابن المواز وسحنون: يحد و (لا) يلاعن. وإن قذفها في النكاح لم يلاعن وحد. فروع: لو لاعن ثم أبانها فقذفها بتلك الزنية فلا حد ولا لعان. وفي الكتاب عن ربيعة: ((يحد لها)). وإن قذفها بزنية أخرى، فإن كانت لم تلاعن وحدت، لم يجب الحد لسقوط حصانتها بتلك الزنية بموجب لعانه، وإن لاعنت وجب الحد إذ بقيت حصانتها بلعانها. وإن كان القذف من أجنبي، فإيجاب الحد أولى، لأن أثر لعان الزوج لا يتعدى إلى غيره. الثاني: إذا قذف أجنبية، ثم نكحها وقذفها فلاعن، اندفع الحد الثاني. أما الأول فيستوفي، لأن اللعان لا مدخل له في قذف متقدم على الزوجية، لأنه في حالة لا يلحق فيها نسب. الثالث: لا (ينتفي) نسب ملك اليمين باللعان، (فو اشترى زوجته، ثم ظهر بها حمل،

فإن علم أنها كانت يوم الشراء حاملاً لم ينفه إلا بلعان، إلا أن يكون وطئها بعد رؤيته للحمل، فلا ينفيه. [وإن] لم يعلم أكانت حاملاً يوم الشراء أم لا؟ حتى ظهر الحمل، وأنت به الأقل من ستة أشهر، فالولد للنكاح، ما لم يطأها بعد الشراء. قال الشيخ أبو محمد: ((قوله: لم يطأها بعد الشراء، يريد إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر. وقد روى (ابن سحنون): أنها إذا لم يطأها بعد الشراء بحيضتين قال: ولو وطئها بعد الشراء فلا ينفيه لعان ولا بغيره، استبرأها بعد الوطء، أو لم يستبرئها. إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد أن وطئها فهذا ينظر. فإن ولدته لأقل من ستة أشهر فهو للنكاح، ولا ينفيه إلا بلعان، وإن ولدته لستة أشهر فأكثر، فله نفيه بغير لعان، وإن ادعى استبراء بعد الوطء الذي هو بعد الشراء. وإن لم يدع استبراء فهو منه. قال ابن المواز: قال ابن عبد الحكم عن مالك فيمن تزوج أمة ثم لاعنها، ثم اشتراها، قال: لا تحل له أبداً)). الركن الثالث: اللفظ، والنظر في أصله ثم في تغليظاته، وسنته. أما اللفظ، فأن يقول أربع مرات في الرؤية: أشهد بالله، قال محمد: يزيد: الذي لا إله إلا هو، لرأيتها تزني. ويصف الزنى كما تصفه شهوده. وروي: ليس عليه ذلك. وفي نفي الجمل: أشده بالله لزنت. فقط ولفظ ابن القاسم عند ابن المواز: ما هذا الحمل مني. ويقول في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. والمرأة تشهد أربع مرات تقول في الرؤية: أشهد بالله ما رآني أزني. وتقول في الحمل: ما زنيت، وأنه منه. وتقول المغتصبة إذا التعنت في نفي الولد: أشهد بالله ما زنيت، ولا أطعت. وتقول في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ويتعين لفظ الشهادة، فلا (تبدل) بالحلف، ولا لفظ الغصب باللعان. ويجب الترتيب في تأخير اللعان.

ويصح لعان الأخرس وقذفه إذا كان يعقل الإشارة، أو يفهم الكتابة. ولو قال بعد انطلاق اللسان: لم أرد ذلك، لم يقبل (منه). فلو اعتقل لسان الناطق قبل اللعان، وكان ينتظر زواله على قرب أمهل. فرع: إذا (بدأت) المرأة باللعان، فقال ابن القاسم: لا يعاد عليها بعد لعان الزوج. وقال أشهب: يعاد. قال أبو القاسم ابن الكاتب: وهو أحسن. أما التغليظ، فهو بالزمان والمكان والجمع. أما الزمان فيلتعنان في دبر الصلوات. وقال في كتاب محمد: وأي ساعة شاء الإمام، وعلى إثر المكتوبة أحب إلي. (وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كان عندنا بعد العصر، ولم يكن سنة)، وأي ساعة شاء الإمام لاعن، وبعد العصر أحب إلي قال عبد الملك: لا يكون إلا في مقطع الحق بإثر الصلاة. ((قال القاضي أبو الوليد: فكأنه جعل ذلك شرطاً كالمكان)). فأما المكان، فأشرف مواضع البلد، وذلك مقطع الحق، وفي حق الذمية الكنيسة والبيعة. والحائض تؤخر بعد لعان الزوج حتى تطهر كالطلاق. والمريض منهما يبعث الإمام إليه عدولاً. وأما الجمع فهو أن تحضر جماعة لا تنقص عن أربعة. ولا يصح اللعان إلا في مجلس الحاكم. ثم التغليظ بالمكان واجب. وأما كونه بعد صلاة العصر فغير واجب. وظاهر قول عبد الملك بن الماجشون: الوجوب. وأما سنته، فإن يخوفا، فيقال للزوج: تب إلى الله عز وجل، تجلد ويسقط عنك المأثم. ويقال للمرأة أيضاً نحو ذلك. ويقال لكل واحد منهما قبل اللعان بالغضب: اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. الركن الرابع: الثمرة، وهي نفي النسب، وقطع النكاح، ورفع العقوبة، ودفع عار الكذب.

الباب الثاني: في فروع متفرقة

ويجوز للزوج اللعان بمجرد نفي النسب، ويجوز (لمجرد) إسقاط العقوبة وإن لم يكن له ولد، سواء كان حداً أو تعزيراً. الباب الثاني: في فروع متفرقة، وهي أربعة: الأول: إذا قذفها بأجنبي، وذكره في اللعان، فليس على الإمام أن يعلمه. وروي أن ذلك عليه. فإن علم المقذوف، وقام بالحد، فإنه يحد له. قال سحنون: ويسقط عنه اللعان، لتداخل حدود القذف. وإن لم يذكر معيناً لم يحد. الثاني: إذا قذف امرأتين بكلمة واحدة، فقامت عليه إحداهما، فقال: كذبت عليك، (فجلد)، ثم قامت الأخرى، فلا حد عليه للتداخل. فلو قال بعد الحد: صدقت عليكما، حد. وكذلك لو قال للتي قامت أخيراً: صدقت عليك. ولو قال للتي حد لها: صدقت عليك، حد لها ثانياً عند ابن القاسم. وقال محمد بن المواز وغيره: لا يحد لها ثانياً. الثالث: إذا ادعت القذف فأنكر، فقامت الحجة على القذف، حد، إلا أن يدعي رؤية، فيلتعن، ويقبل منه بعد جحوده، بخلاف الأجنبي، لأنه يقول: أردت ستراً، وأنا الآن ألتعن. وغير ابن القاسم لا يقبل ذلك منه. ولو أنشأ قذفاً آخر فله اللعان. ولو قامت بينة أنه أقر بولد لاعن منه، وهو منكر، لحق به، وحد. قال محمد: إلا أن يكون اللعان (على) الرؤية مع نفي الحمل، فلا حد عليه لأنه قد بقي لعان الرؤية. قال أبو القاسم بن محرز: ولو كانت الزوجة الملاعنة في نفي الجمل كتابية، ثم أكذب الملاعن نفسه، واستلحق الولد، ثم قام الولد يطلب الحد لقطع نسبه، لم يحد الأب بذلك إذ لم يقصد قصده، فيكون كمن صرح بقذفه أو قطع نسبه، وإنما رمى أمه، فكان في ذلك بمثابة من عرض لولده بالقذف فإنه لا يحد له لبعده من التهمة في ولده، فلا يقبل في حقه منه، إلا ما كان غير محتمل، كما في قتله. ولو امتنع الزوج عن اللعان، فلما عرض للحد التعن، فله ذلك.

الباب الثالث: في جوامع أحكام اللعان، ونفي الولد

واختلف في المرأة هل لها أن تلتعن بعد نكولها، أم ليس لها ذلك، ويتعين الحد عليها؟، على قولين للمتأخرين: (فالأول لأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي علي بن خلدون، وأبي محمد اللوبي، قالوا: ولا يكون نكولها عن اللعان أشد من إقرارها بالزنى، ثم ترجع عنه، فإن ذلك مقبول منها. والثاني: رأي أبي القاسم بن الكاتب، وأبي عمران الفاسي، ورأي هؤلاء أن النكول بخلاف الإقرار بالزنى، لما تعلق بالنكول من حق الآدمي، أعني الزوج. الرابع: إذا قال: زنيت وأنت صغيرة، أو أمة، أو نصرانية. فقال ابن القاسم: يحد، ورآه تعريضاً، وإن أقام بينة بما تقدم من ذلك. وقال أشهب: إن سمى، فقال: في رقك، أو نصرانيتك، أو صغرك، فإن كان في غير مشاتمة، فلا حد عليه، وإن كان ذلك في مشاتمة حد، إلا أن يقيم البينة. الباب الثالث: في جوامع أحكام اللعان، ونفي الولد ويتعلق بلعانه ثلاثة أحكام: سقوط الحد عنه. وانتفاء النسب. ووجوب حد الزنى عليها. ويتعلق بلعانها هي أيضاً ثلاثة أحكام: سقوط الحد عنها. والفراق. وتأبيد الحرمة. وقيل في هذين: إنهما يتعلقان بلعانه. وفي (حكم) نفي الولد مسائل: إحداها: أن اللعان يحتاج إليه إذا أمكن أن يكون الولد من الزوج، فإن لم يمكن، فلا لعان. وذلك إما لقصر المدة عن ستة أشهر، أو لطول المسافة بين الزوجين، أو لكون الزوج صبياً لا يولد لمثله، أو لكونه ممسوحاً مجبوب الذكر والأنثيين، فلا يلحقه. فأما الباقي الأنثيين، فيلحقه الولد إن (كان) (بولد) لمثله في العادة. وأما الخصي الباقي الذكر، فلا يلحق به الولد، إلا أن يكون ممن يولد له في العادة، ولو أقر الزوج بالوطء بين الفخذين مع الإنزال لحقه الولد، ولا لعان له.

وكذلك لو وطئ أمته، ثم وطئ امرأته قبل أن (يبول) وأكسل عنها، لزمه الولد، ولا لعان له، إذ قد يكون في إحليله فضل ماء من الأول. الثانية: اللعان عن الحمل جائز في صلب النكاح. وقال عبد الملك: إذا لاعن لنفي النسب لأجل استبرائه ولم يشاهد، فإنه لا يجب أن يلاعن وهي حامل، لجواز أن يكون ريح ينفش. وانفصل عن هذا في المشهور بأن الحمل قد يظهر ظهوراً يكون الغلط فيه نادراً، وقد علق الشرع عليه أحكاماً، كإيجاب النفقة، والرد بالعيب، واستدله بأن العجلاني لاعن عن الحمل وبعد البينونة له أن يلاعن إذا ادعى رؤية الزنى في العدة، أو نفي حملاً يلحق به إن لم ينفه. الثالثة: إذا أتت بتوأمين، فنفى أحدهما، لم ينتف، فإن نفاهما، ثم استلحق أحدهما لحقه الثاني، لأنه لا يتبعض، ويغلب جانب الإثنين. ولو نفى الحمل، فأتت بتوأمين انتفيا. وله أن ينفي أولاداً عدة بلعان واحد. وتثبت بين التوأمين المنفيين أخوة الأب مع أخوة الأم. الرابعة: إذا مات الولد، فله اللعان، وإن لم يكن للولد ولد حي ولو نفاه، فلما مات استلحقه، قبل إن كان للميت ولد، فإن لم يكن له ولد، لم يقبل، ولم يرث، لأنه يتهم لأجل الميراث. الخامسة: حق نفي الولد على الفور، ويسقط بالوطء بعد العلم به. ولو لم يعلم به إلا عند الوضع فنفاه، جاز. ولو ترك النفي بعد العلم بالوضع سقط حقه، ولم ينتف عنه.

كتاب العدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العدة والنظر في عدة الطلاق، وعدة الوفاة، والاستبراء أما عدة الطلاق ففيها بابان: الباب الأول: في عدة الحرائر والإماء، وأصناف المعتدات، وأنواع عددهن. وهن ثلاثة أنواع: القروء، والأشهر، والحمل. فالحرة تعتد بثلاثة قروء إذا طلقت بعد المسيس. وهذه العلة وإن كان المقصود الأعظم منها براءة الرحم، فإنه يكتفي فيها بسبب الشغل مع إمكانه عادة، ولا يشترط عينه، فلذلك تجب العدة بوطء الخصي القائم الذكر. قال أشهب: لأنه يطأ بما بقي من ذكره، وبمجرد تغييب الحشفة. وربط الأحكام بالأسباب الظاهرة في مظان التباس المعاني المقصودة هو دأب الشرع. كما علق البلوغ بالاحتلام، والإسلام بكلمتي الشهادة. أما حيث ينتفي الإمكان العادي، فلا تجب العدة، وذلك كالصغير الذي لا يولد لمثله، وإن كان يقوى على الجماع إذا دخل بامرأته، ثم صالح عنه أبوه أو وصيه وكالمجبوب الممسوح ذكره وأنثياه. وكذلك إذا كانت المرأة لم تبلغ أن يطبق الرجل، فلا يكون وطؤها موجباً للعدة. قال القاضي أبو محمد: ((لأنه إنما هو جرح وإفساد)). وقد قدمنا أن الحرة تعتد بثلاثة قروء. فأما الأمة، [فإنها تعتد] بقرءين: إذ لا يتنصف القرء الواحد فيكمل. فإن عتقت قبل الطلاق فهي كالحرة الأصلية. وإن عتقت في أثناء العدة فهي على حكم الأمة. واعلم أن النسوة أصناف: المعتادة. والمرتابة بتأخير الحيض. والصغيرة. والآيسة.

الأول: المعتادة، وعدتها بالقروء على العادة، والقروء هي الإطهار. وإذا وقع الطلاق في طهر كان في بقية الطهر قرء كامل، ولو كانت لحظة. وتحل المطلقة الحرة المستقيمة الحال بالدخول في الدم من الحيضة الثالثة. والأمة بالدخول في دم الحيضة الثانية إذا طلقتا في طهر. فلو طلقتا في حيض لم تحل الحرة حتى تدخل في دم الحيضة الرابعة من الحيضة التي طلقت فيها إن استمرت على العدة، ولم ترتجع، ولا الأمة حتى تدخل في دم الحيضة الثالثة من الحيضة التي طلقت فيها. فرع: لو كانت عادتها أن تحيض من سنة إلى مثلها، (أو إلى أكثر)، أو من ستة أشهر إلى مثلها، لكانت عدتها الإقراء. قال محمد: فإن انقضت السنة ولم يأت وقت حيضتها انتظرت وقت حيضتها بعد تمام السنة، فإن لم تحض عند (مجيئه) حلت وإن حاضت من الغد. الصنف الثاني: المرتابة بتأخير الحيض وهي من أهله، ولها حالتان: الأولى: أن يرتفع لغير عارض معلوم ولا سبب معتاد تأثيره في رفع الحيض، وهذه تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل استبراء. فإن حاضت في خلالها حسبت ما مضى قرءاً، ثم تنتظر القرء الثاني إلى تسعة أشهر أيضاً، فإن حاضت احتسبت به قرءاً آخر، وكذلك في الثالث، فإن مضت لها تسعة أشهر ولم تحض، استأنفت الاعتداد بثلاثة أشهر، وصارت حينئذ من أهل الاعتداد بالشهور، يكون الكل سنة. فإن حاضت قبل تمام السنة ولو بساعة استقبلت الحيض وحسبت جميع ما مضى لها من وقت الطلاق إلى وقت حيضتها قرءاً، ثم استأنفت تربص تسعة أشهر، ثم ثلاثة بعدها. وأي وقت مضى لها سنة لا حيض في خلالها فقد انقضت عدتها وحلت. ولا يراعى إذا حاضت بعد السنة بقليل أو كثير. الحالة الثانية: أن يرتفع الحيض المعتاد لعارض معلوم وسبب معتاد تأثيره في رفع الحيض. والأسباب المؤثرة في ذلك ثلاثة: الأول: الرضاع، فمن تأخر حيضها بسبب الرضاع، فعليها أن تنتظر الحيض، ولا يجزيها الاعتداد بالأشهر. قال محمد: ولم يختلف قول مالك وأصحابه في عدة المرضع أنها ليست ممن لها السنة، وعليها أن تنتظر الحيض أبداً ما أقامت ترضع، حتى ينقطع عنها الرضاع، فتستقبل ثلاث حيض، فإن لم تحض حتى تأتي عليها سنة من يوم قطعت الرضاع حلت.

(قال): لأنا قد عرفنا أن الرضاه هو الذي رفع حيضتها، فعدتها الأقراء كما قال الله تعالى. وإذا لم يدر بن رفعت حيضتها حكمنا فيها بما قضى به عمر، تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، وتكون بعد التسعة من اللائي يئس من المحيض. فرع: قال محمد: فإن طلب الزوج انتزاع ولده وهو صغير يرضع فراراً من أن ترثه، حكم له بذلك في كل طلاق يملك فيه الرجعة. قال: وكذلك لو أراد استعجال حيضتها ليتزوج أختها، (أو) مثل أن يكون له أربع نسوة إذا علم صدق ما قال: ولم يطلب ضرر الولد، ولم يكن علق أمه. السبب الثاني: المرض. وإذا تأخرت حيضتها (لمرض)، فروى ابن القاسم وغيره: تعتد بثلاثة أشهر بعد الاستبراء بتسعة. وبه يأخذ ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ وغيرهم. وقال أشهب: عدتها الإقراء، وهي كالمرضع، وليس الرضاع بأمنع للحيض من المرض. واختاره محمد. السبب الثالث: الاستحاضة: والمستحاضة قسمان: غير مميزة، ومميزة. فأما غير المميزة، فتقيم سنة، تسعة أشهر استبراء، وثلاثة أشهر عدة كالمرتابة)، لأن الاستحاضة ريبة. وأما المميزة ففيه روايتان: إحداهما: أنها كغير المميزة. والأخرى: أنها إذا ميزت بين الدمين، وكان (له) قرء معلوم اعتدت به. الصنف الثالث: الصغيرة واليائسة، وعدتهما بالأشهر، وتتمادى الصغيرة وأن تحيض، ولا مبالاة برؤيتها الدم في سن من لا تحيض، كبنت خمس وست سنين، فإن ذلك ليس بحيض. ولو طلقت فرأت الدم بعد مضي ثلاثة أشهر فليس عليها الاستئناف. وإن كان قبل تمام الأشهر استأنفت العدة بالإقراء واحتسبت بما مضى قرءاً. (وإن) لم يعاودها الدم صارت في معنى المرتابة، تعتد بالسنة من يوم ذهبت الحيضة. وأما الآيسة، فإذا حاضت سئل النساء عن ذلك، فإن قلن: إن مثلها تحيض، انتظرت

بعدها قرءين، فإن انقطع كانت مرتابة. وإن قلن: إن مثلها لا تحيض، لم تعتد به، ومضت إلى تمام الثلاثة الأشهر. ثم حيث كانت العدة بالأشهر، اعتبرت بالأهلة، فإن انكسر الشهر الأول، تمم ثلاثين من الشهر الأخير، واعتبر في الشهرين الأوسطين بالأهلة. وإن انكسر اليوم الأول، فقال مالك: تلغيه. بعد أن كان قال: تحتسب إلى مثل تلك الساعة. ويستوي في العدة بالأشهر الإماء والحرائر، والمسلمات والكوافر، إذ لا يبرأ رحم بأقل من ذلك. وقيل: يكتفي في الأمة بشهر ونصف. النوع الثاني: العدة بالأشهر، وذلك في الصغيرة واليائسة، وقد ذكرناه. النوع الثالث: الاعتداد بوضع الحمل، ولانقضاء العدة به شرطان: أحدهما: أن يكون الحمل ممن تكون منه العدة، أو يحتمل أن تكون منه كالمنفي باللعان. أما المنفي قطعاً كولد الزنى، أو ما تضعه المعتدة من وفاة الصبي الذي لا يولد له، أو الممسوح ذكره وأنثياه، فلا تنقضي به العدة. ولو أتت زوجة البالغ بولد لأقل من ستة أشهر، فلا يلحق به، ولا تنقضي به العدة. الشرط الثاني: وضع الحمل التام، فلا تنقضي العدة بوضع أحد التوأمين، ولا تنقضي بانفصال بعض الولد، بل بكل الجنين. ولا يعتبر كمال الخلق، ولا التخطيط، بل تنقضي العدة بإسقاط العلقة والمضغة، وكل ما يقول النساء: إنه ولد، كما في الاستيلاد، وفي الغرة. ثم يستوي في الاعتداد بوضع الحمل جميع المعتدات من الحرائر والإماء، والمسلمات والكتابيات، وفي الأسباب الموجبة له من الطلاق والفسخ، والشبهة والموت. فروع: الأول: المرتابة بالحمل بعد الإقراء، لثقل بطنها أو لتحريك، لا تنكح حتى (تنقضي) أقصى مدة الحمل، وهي خمسة أعوام في الرواية المشهورة، وأربعة في أخرى، وروي في ثالثة سبعة أعوام، وهي شاذة. قال أشهب: لا تحل أبداً حتى تيأس. الفرع الثاني: إذا أتت بعد العدة بولد لدون أقصى مدة الحمل، لحق الزوج إن لم تنكح زوجاً آخر، إلا أن ينفيه الحي بلعان، ويدعي أنه استبرأ قبل طلاقه. الفرع الثالث: إذا نكحت قبل الخمس بأربعة أشهر، فأنت بولد لخمسة أشهر من يوم نكحت، لم يلحق بأحد من الزوجين وحدت، وفسخ (نكاح) الثاني لأنه نكح حاملاً.

الباب الثاني: في تداخل العدتين

الفرع الرابع: إذا نكحت ثم أتت بولد لزمان يحتمل كونه من الزوجين ألحق بالثاني، وإن كانت وضعته بعد حيضة من العدة، إلا أن ينفيه باللعان، فيلحق بالزوج الأول، ولا يلزمها لعان، لأنه نفاه إلى فراش، فإن نفاه الأول ولاعن أيضاً، لاعنت وانتفى منهما جميعاً. ثم من استلحقه منهما لحق به، ويحد الملاعن آخراً إن استلحقه. وإن كانت وضعته قبل حيضة، فهو للأول إلا أن ينفيه باللعان، فيلحق بالثاني، ولا تلاعن هي، فإن نفاه الثاني أيضاً ولاعن لاعنت، وانتفى منهما جميعاً. ثم من استلحقه منهما بعد ذلك لحق به ويحد إن كان الملاعن آخراً. قال أبو إسحاق التونسي: وقيل من استلحقه منهما حد. ثم استحسنه وعلله بأن لعانها لهما جميعاً. الباب الثاني: في تداخل العدتين والعدتان المتفقتان بالقروء، أو بالأشهر (تتداخلان) إما من شخص واحد وذلك بأن يطأها الزوج في العدة، فيكفيها ثلاثة قروء من وقت الوطء. وكذلك في الأشهر. وإما من شخصين وذلك بأن يتزوج المرأة في عدتها، فيفرق بينهما فإن ثلاث حيض تجزيها من الزوجين جميعاً من يوم فارقها الأخير. وعند الشيخ أبي القاسم) تتم عدتها من الأول، ثم تستأنف العدة من الآخر. وتتداخل العدتان أيضاً وإن اختلفتا، إذا كانت إحداهما بالحمل، فتندرج فيها الأخرى، وتنقضي العدتان بالوضع، وتمتد الرجعة إليه إن كان من الأول. وروي اندراجها تحتها والكفارة من الثاني، وضعفها محمد. وإذا فرعنا على عدم الاندراج، فإنها تتم ثلاث حيض للأول. ونقل الشيخ أبو محمد في نوادره: ((إنها تأتنف ثلاث حيض)). قال عبد الحق: ولا تصح هذه العبارة، قال: ولظفها في الأمهات لم يكن بد من بقية الثلاث حيض. فروع: الأول: فيمن قدم من سفر، فزعم أنه كان طلق زوجته من سنة، فإن لم يكن إلا قوله، لم يقبل واستأنفت العدة من يوم أقر، وإن مات ورثته، وإن ماتت لم يرثها، وإن حاضت ثلاث حيض من اليوم الذي قال: إنه طلقها فيه، فلا رجعة له. وإن أقر بالبتة لم يصدق

عدة الوفاة، وحكم السكنى

في العدة، وإن مات لم يتوارثا. وإن شهد شاهدان أنه كان طلقها كانت العدة من يوم طلق، ليس من يوم بلغها. الفرع الثاني: قال في كتاب محمد، (فيمن) خالع زوجته، ثم نكحها في العدة، ثم طلقها قبل أن يمس: إنها تبني على عدتها الأولى. وأما إن طلقها طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في العدة، ثم طلقها قبل أن يمس، فإنها تأتنف العدة، لأن الرجعة هدمت العدة. قال القاضي أبو الحسن: ((إلا أن يريد برجعته التطويل عليها، فإنها تبني على عدتها الأولى)). الفرع الثالث: من أعتق أمته، أو أم ولده في عدة وفاة أو طلاق، حلت بتمامها، ولو لم يبق منها إلا يوم واحد. ولو أعتقهما بعد خروجهما من العدة، فأم الولد تأتنف حيضة، والأمة تحل مكانها، وحدوث العتق في العدة لا ينقلها إلى عدة الحرة، وحدوث الموت في طلاق الرجعة خاصة يوجب الانتقال إلى عدة الوفاة، ويهدم العدة من الطلاق كما تهدمها الرجعة. القسم الثاني من الكتاب: في عدة الوفاة، وحكم السكنى وفيه بابان: الباب الأول: في موجب العدة، وقدرها، وكيفيتها وفيه فصول: الفصل الأول: في الموجب والقدر فنقول: المتوفى عنها زوجها عليها عدة الوفاة، مدخولاً بها كانت أو غير مدخول بها، صغيرة أو كبيرة، حرة أو أمة، مؤمنة أو كافرة. فإن كانت حاملاً فمهما وضعت حلت، ولو في ساعة، ويحل لها غسل الزوج بعد العدة، وبعد نكاح زوج (آخر). وإن كانت حاملاً، فتعتد الحرة بأربعة أشهر وعشرة أيام. وروي في الحرة الذمية أنها تستبرئ بثلاث حيض فحسب.

الفصل الثاني: في المفقود زوجها

ويشترط على هذه الرواية كونها مدخولاً بها، وإلا فلا عدة عليها. وأما الأمة فعدتها شهران وخمس ليال. ولا خفاء بأن المعتدة تحل بمضي الشهور إذا حاضت في أثنائها، واختلف إذا لم تحض. فأما الحرة فقال ابن الماجشون: تحل. وروى أشهب أنها لابد لها من حيضة، كانت أيام طهرها أقل من مثل العدة أو أكثر. وروى مطرف: أنها إن كانت أيام طهرها دون أيام العدة فهي مسترابة، ولا تتزوج حتى تتم تسعة أشهر، إلا أن تحيض قبل ذلك. وإن كانت فوق أيام العدة فلا شيء عليها، لأنها لم تسترب بانقطاع دم. وقاله أيضاً أشهب. وأما الأمة فقال ابن القاسم في العتبية) ((تحل وإن كانت شابة يخشى منها الحمل)). وفي إحدى الروايتين عن مالك أنها تكمل ثلاثة أشهر، ولا تحل بدونها. وقال في كتاب محمد: إن كانت ممن يخشى منها الحمل فثلاثة أشهر، وإن كانت صغيرة، أو يائسة، أو لم يدخل بها، فشهران وخمس ليال على النصف. قال أبو الحسن اللخمي: وهو أحسنها. فرعان: الأول: ومن طلق إحدى امرأتيه، (فمات) قبل البيان، فعلى إحداهما عدة الطلاق، وعلى الأخرى عدة الوفاة، فعلى كل واحدة منهما أقصى الأجلين إن كن من ذوات الإقراء للاحتياط، وإن كن حوامل فيكفي الوضع، أو من ذوات الأشهر فتكفي أربعة أشهر وعشر. الفرع الثاني: من مات عن نسوة منهن من نكاحها فاسد، فمن تحقق صحة نكاحها (منهن)، فحكمها ظاهر، ومن تحقق فساد نكاحها، فعليها ثلاثة قروء إن كان دخل بها، ومن أشكل أمرها فعليها أقصى الأجلين. الفصل الثاني: في المفقود زوجها ومن أندرس خبر زوجها قبل دخولها بها أو بعده. فإن ترك النفقة فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم، فيضرب لها أجل أربع سنين للحرة، وسنتين للعبد، ومن يوم يعجز عن معرفة خبره بعد البحث عنه، ثم تعتد عدة الوفاة، وعليها فيها الإحداد على ما يأتي بيانه. وقال ابن الماجشون: ((لا تحد امرأة المفقود لأنه ليس بموت، وإنما هو طلاق)).

واستصحه القاضي أبو بكر. ثم تنكح، فإن جاء في الأجل أو في العدة أو بعدها، وقيل أن تتزوج فهي امرأته، وإن جاء بعد أن تزوجت، فإن كانت الثاني دخل بها، فهي له دون الأول. ثم إن كان الأول لم يدخل بها، ففي رجوعه عليها بنصف الصداق روايتان، وإن جاء قبل دخول الثاني فقال مالك مرة. ((عقد الثاني عليها فوت))، وبه قال المغيرة وغيره من الأصحاب. ثم رجع وقال: ((الأول أحق بها ما لم يدخل بها الثاني)). وبه قال ابن القاسم وأشهب. قال الأصحاب: فيتبين بالدخول وقوع الطلاق على المفقود. فرع: لو طلقها الثاني بعد دخوله بها، وقد كان الأول طلقها (تطليقتين) قبل أن يتزوجها الثاني لحلت للأول، وهو قول مالك في المبسوط. وقاله أشهب في السليمانية. وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: لا تحل بذلك. قال أبو الحسن اللخمي: والأول أحسن، لأن (دخول) الثاني (يبين) أنه قد وقع على الأول طلقة من وقت ابتدأت العدة، ولو كانت الطلقة إنما تقع بدخول الثاني: لكان نكاح الثاني نكاحاً فاسداً، ويفرق بينها وبينه. فروع: الأول: إذا كان له نساء، فرفعت إحداهن أمره إلى الحاكم وأبى سائرهن، فضرب للقائمة الأجل بعد البحث، فقال يحيى بن عمر: بلغني أن ابن القاسم سئل عنها: فتفكر ثم قال: أرى ضرب الأجل للمرأة الواحدة ضرباً لجميعهن، فإذا انقضى الأجل، تزوجن إن أحببن. الفرع الثاني: في النفقة. وتستمر النفقة عليها من ماله في مدة الأجل دون العدة. وأما ولده فتستمر النفقة عليهم حتى يعمر أو يثبت موته. الفرع الثالث: وهو مرتب. إذا أنفق عليها في الأجل، ثم جاء أنه كان مات قبل ذلك، ردت ما أخذت من النفقة بعد وفاته، وذلك الولد يردون ما أنفق عليهم بعد وفاته أيضاً. والأسير بخلاف المفقود، لا يضرب لامرأته أجل، بل تبقى إلى أن ينكشف خبره. ولو تنصر الأسير، ولم يعلم أذلك منه طوع أو كره، كما لو علم أنه طوع، فيفرق بينه وبين زوجته، ويوقف ماله، فإن مات على ذلك كان للمسلمين، وإن أسلم كان له. وإن ظهر

الفصل الثالث: في الإحداد

أنه تنصر مكرهاً بقيت في عصمته، وينفق عليها من ماله. والمفقود في المعترك بين المسلمين ليس فيه أجل، بل تعتد زوجته من يوم التقاء الصفين. وروي أيضاً: تتربص زوجته سنة، ثم تعتد. وروي أن العدة داخلة في السنة. وقال في العتبية: ((فيما قرب من الديار يتلوم الإمام لزوجته باجتهاده بعد انصراف من انصراف، وانهزام من انهزام، ثم تعتد وتتزوج. وفيما بعد مثل إفريقية ونحوها، ينتظر سنة)). وقال في كتاب محمد: فيما بعد هو على حكم المفقود، تتربص أربع سنين. وقال أصبغ: يضرب لامرأته بقدر ما يستقصى أمره، ويستبرأ خبره، وليس لذلك حد معلوم. التفريع: إن قلنا بالقول الأول: قسم ماله حينئذ، وإن قلنا: (تتربص) أربع سنين، أوقفنا ماله إلى التعمير كالأول. واختلف القائلون بأن زوجته تتربص سنة، هل يقسم ماله حينئذ، أو يوقف إلى التعمير؟ على قولين. وأما من فقد في المعترك بين المسلمين والكفار، فروي أنه كالأسير، وروي أن زوجته تتربص سنة من يوم ينظر السلطان في أمره، ثم تعتد. وفي كتاب محمد: إنه كفقيد أرض الإسلام، ينتظر أربع سنين. الفصل الثالث: في الإحداد ويجب الإحداد في عدة الوفاة دون عدة الطلاق. وقد تقدم الخلاف في إحداد زوجة المفقود. ويجب على الحرائر والإماء، وعلى الكتابية تحت المسلم. وقال ابن نافع: ليس على الكتابية إحداد.

الباب الثاني: في السكنى، والنظر في أمور

قال أبو القاسم بن محرز: والإحداد هو ترك الزينة المعتادة في الخلوات للأزواج، فتترك (التزين) بلبس المصبوغ للزينة دون الأسود والأدكن والكحلي. وصبغه قبل النسخ كصبغه بعده. ويجوز لها لبس الأبيض، ولو من الإبريسم. ولا تلبس رقيق عصب اليمين، ووسع في غليظه. ولا تلبس خزا. قال في المختصر: إلا الأبيض منه، أو الأسود. قال ابن القاسم: ولا ما صبغ من ثياب أو جباب، حرير أو كتان أو صوف، وإن كان أخضر أو أدكن، إلا أن لا تجد غيره، وتكون بموضع لا تجد استبدالاً، فإن وجدت بدلاً ببيع فليس ذلك (لها). ولا يجوز لها التحلي، فلا تلبس قرطاً ولا خاتماً ولا خلخاً ولا سواراً، ولا خاتم حديد، ولا خرص ذهب أو فضة. ولا تمس طيباً، ولا تدهن (بزنبق) أو بنفسج أو خيري، وتدهن (بالشيرج) والزيت، ولا تمتشط بدهن صريب، ولا حناء، ولا كتم، ولا ما يختمر، وتمتشط بالسدر وشبهه مما لا يختصر في رأسها. وقال أشهب: ولا تدخل الحمام، ولا تطلي جسدها، ولها أن تستحد ولا تكتحل إلا لسبب يحوج إليه ليلاً، وتمسحه نهاراً. وقال ابن عبد الحكم: لا تكتحل، وإن كان من ضرورة. وعليها ملازمة المسكن، فإن تركت جميع ذلك عصت، وانقضت العدة. الباب الثاني: في السكنى، والنظر في أمور: الأول: فيمن تستحق السكنى وتستحقه المعتدة عن طلاق، بائنة كانت أو رجعية، حاملاً أو حائلاً. وأما المتوفى عنها زوجها ففيها تفصيل يأتي في الباب إن شاء الله تعالى. وتستحق أيضاً المعتدة عن الفسخ، فحيث يجب كمال الصداق يجب السكنى، والصغيرة في ذلك البيرة.

وإنما (يجب) ملازمة مسكن النكاح، فلو طلقت بعد الانتقال لازمت المنتقل إليه، إلا أن يقصد بالانتقال إخراجها من مسكنها، حتى لا تعتد فيه، فقد قال في كتاب محمد فيمن اكترى منزلاً وانتقل إليه، فلما سكنه طلق زوجته، قال: ترجع إلى المسكن الذي كانت فيه. قال أبو الحسن اللخمي: محمله على التهمة. ولو أذن في سفره، (وطلق) قبل مفارقة عمران البلد، لم يكن لها الانصراف. ولو خرج بها إلى الحج فمات، فإنها ترجع من مثل اليومين والثلاثة ما لم تبعد أو تحرم فتنفذ. قال محمد: بخلاف غير الحج، فإنها ترجع فيه، وإن أبعدت إذا وجدت ثقة، وكان يبقى لها بعد الرجوع بقية. هذا إن كان السفر لغير الانتقال، فإن كان له، فتعتد في أقربهما، أعني ما فارقته وما أمته. وإن شاءت مكان الموت إذا أمكنها، فذلك لها، لأنها لما فارقت قرارها لم تتعوض عنه بعد، فأي مكان شاءت جعلته قرارها، إلا أنها تتوخى القريب منها. وتلتزم البدوية مسكنها، ولا تفارق، إلا إذا رحل أهلها، ولم يمكنها المقام بعدهم، لما يلحقها من الضرر بمفارقتهم، ولا تنتقل مع أهل زوجها إذا أقام أهلها. وتجوز مفارقة المسكن ليلاً بعذر ظاهر، كعورة منزل أو غيره، مما لا يمكنها المقام معه. ولها أن تخرج في حوائجها نهاراً، أو طرفي الليل. النظر الثاني: فيما يجب على الزوج وعليه أن لا يخرجها من ملكه، وكذلك في عدة الوفاة هي أيضاً أحق من الورثة والغرماء بمنافع مسكنها إذا كانت مملوكة له، ويستوي في ذلك اختصاصها بالملك إذا أدى كراءها مع تبعيتها لملك الرقبة، فإن لم يكن أدى الكراء (ففي الكتاب: ((لا سكنى لها في مال الميت، وإن كان موسراً)). وروى محمد عن مالك: الكراء لازم للميت في ماله، ولا تكون الزوجة أحق بذلك، وتحاص الورثة في السكنى، وللورثة إخراجها، إلا أن تحب أن تسكن في حصتها وتؤدي كراء حصتهم. وإن نقد بعض الكراء سكتت في حصة ما نقد بأسره،

(وكان) الحكم في ما لم ينقد كما ذكرنا. وإن شاء الورثة أن يكروا منها حيث يكون لها إخراجها، لزمها المقام، وكذلك صاحب الدار. قال في الكتاب: ((إذا كانت في دار بكراء، ولم يكن نقد الكراء، ورضي أهل الدار بالكراء، فليس لها أن تخرج من الدار إلا أن يكروها كراء لا يشبه كراء ذلك المسكن، فلها أن تخرج إذا أخرجها أهل ذلك المسكن)). (وروي أنه إن أكراهاً سنة بعينها، فهي أحق بها وإن لم ينقذ، وإنما يشترط النقد إذا كان قد أكرى كل سنة بكذا، ولم يسم مدة معينة. وهذه الرواية هي اختيار أبي محمد عبد الحق. وذكر عن بعض القرويين أنه حمل ما في الكتاب عليها، ورأى أن القياس التسوية بين ما نقد كراؤه، وما لم ينقد، إذا كان العقد في الإجارة على مدة معينة واستشهد بقوله في الكتاب: ((إلا أن يكروها كراء لا يشبه كراء ذلك المسكن)). ولا يجوز للزوج بيع الدار، إلا أن تكون عدتها بالأشهر، (فيشترط) نهايتها، لأن آخر القرء والحمل مجهول. وإن توقع طريان حيض ذات الأشهر، ففي جواز البيع إلى البراءة خلاف. والحكم في بيع دار المتوفى، واشتراط السكنى لزوجته الجواز، إذ عدتها بالأشهر. وقال محمد بن عبد الحكم: ((البيع فاسد لأنها قد ترتاب، فتطول العدة)). فرع: (فإن وقع البيع فيها بهذا الشرط فارتابت، فقال مالك في كتاب محمد: ((هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع وإمضائه، ولا يرجع بشيء لأنه دخل على العدة المعتادة، ولو وقع البيع فيه بشرط زوال الريبة كان فاسداً)).

وقال سحنون: ((لا حجة للمشتري وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين، لأنه دخل على العدة، والعدة قد تكون خمس سنين)). ونحو هذا رواه أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية. قال القاضي أبو الوليد: ((هذا عندي على قول من يرى للمبتاع الخيار. وأما على قول من يلزمه ذلك، فلا تأثير للشرط)). وإن كان المنزل مستعاراً أو مستأجراً، فعلى الزوج الإبدال عند رجوع المعبر في الوقت الجائز له، وانتهاء مدة الإجارة. وإن كان حبسا عليه حياته، كان لها السكنى في عدتها وإن تأخرت حتى تنقضي الريبة ولو إلى خمس سنين، لأن العدة من أسباب أمر الميت. ولو كانت سنين معلومة أسكنه إياها، فانقضت قبل تمام عدتها، لكان له إخراجها بخلاف الصورة الأولى. وأما امرأة الأمير المعتدة، فلا يخرجها الأمير القادم حتى تنقضي عدتها. وكذلك من حبست عليه دار، ثم على آخر بعده كإمام مسجد ونحوه. وقال أبو محمد عبد الحق: (رأيت في وثائق ابن العطار: وليست زوجة إمام المسجد الساكنة في دار المسجد بمنزلة المنزل المحبس على المتوفى حياته، لأن الأجرة هي كراء، فهي تخرج من الدار بعد وفاة زوجها إن أحب أهل المسجد).

الاستبراء

القسم الثالث من الكتاب، في الاستبراء وفيه فصلان الفصل الأول: في قدر الاستبراء وحكمه أما قدره، فهو قرء واحد. وللمستبرآت ثلاث حالات: إحداها: أن تكون من ذوات الأقراء، فاستبراؤها بقرء واحد، وهو الحيض على المشهور من المذهب، فإن يبعث الأمة في آخر أيام (حيضها) لم يكن ما بقي من حيضتها استبراء لها (من غير خلاف، وإن يبعث وهي في أول حيضتها فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يكون استبراء لها). وذكر الشيخ أبو إسحاق في زاهية قولين: أحدهما ما قدمناه. والآخر له أنه لا يجزئ. ثم قال: وبه أقول. قال الإمام أبو عبد الله: وهذه إشارة إلى أن الاستبراء إنما يعتد فيه بالطهر، فلا بد أن يحصل فيها شيء من [زمن] الطهر عند المشتري وهي في ملكه. وإذا فرعنا على المشهور، فقال محمد: المعتبر في ذلك أن لا يكون الذاهب من زمن الحيض مقدار حيضة يصح بها الاستبراء. ثم حيث قلنا: يحصل الاستبراء بالحيضة الواحدة، فذلك إن كانت جارية على الأمر المعتاد في زمنها وصفتها. واختلفت رواية عيسى ويحيى عن ابن القاسم إن كانت تحيض من ستة أشهر إلى مثلها، هل تكفيها ثلاثة أشهر، أم لا يبرئها إلا الحيضة؟ فإن شذت عن غالب عادة النسوان في زمنها بالقصر، فقد ذهب عبد الملك بن الماجشون وسحنون إلى أنها لا تحتسب في العدة والاستبراء، بأقل من خمسة أيام. وذهب محمد بن مسلمة إلى أن أقل ما تحتسب به ثلاثة أيام. قال الإمام أبو عبد الله: والمشهور عن مالك رحمه الله نفي التحديد وإسناد الحكم في هذا إلى ما يقول النساء أنه يكون حيضة فيهن.

قال: وفي الكتاب: ((إذا حاضت يوماً أو بعض يوم، أن النساء يسألن عن ذلك، هل يكون هذا عندهن حيضة أم لا؟)). وفي كتاب محمد: أنه سئل مالك عمن حاضت يوماً أو يومين؟ فقال يسأل النساء عن هذا. ولا تكون حيضة بيومين، وقد أشار ابن القاسم في كتاب محمد إلى أن هذا الاختلاف في الاعتداد بهذا الأمر القريب إنما يتصور فيما لم تكن عادتها قبل ذلك أكثر مما حدث الآن في هذه الحيضة القليلة، لا فيمن لها عادة قبل ذلك. وإن شذت الحيضة في زمنها بالطول، كالمستحاضة، انقلت عدتها إلى الأشهر، فتعتد بثلاثة أشهر، إلا أن تشك فترفع بها إلى تسعة أشهر قال: ((إلى هذه والتي رفعتها حيضتها سواء)). وتدخل في ذلك المريضة والمرضع (تتأخر حيضتها). (واختلفت الرواية إذا ميزت المستحاضة حيضتها المعتادة في اعتدادها بها، وإن لم تختلف الرواية أنها تمنع من الصلاة والصوم. فروى ابن القاسم أنها تعتد بها، وتنتقل عن الأشهر. وروى ابن وهب، أنها لا تعتد بها، ولا تنتقل عن حكم استبرائها بالأشهر الثلاثة. وقال في كتاب محمد: تستبرأ بتسعة أشهر. قال أبو الحسن اللخمي: ((والأول أصوب)). قال: ((فإن استبرأت بحسن بطن، لم تبرأ بثلاثة أشهر قولاً واحداً، وانتظرت أمد الوضع، وهو تسعة أشهر، إلا أن تذهب الريبة قبل ذلك، أو يتحقق الحمل فتنتظر الوضع)). الحالة الثانية للمستبرأة: أن تكون من ذوات الأشهر، فتعتد بثلاثة أشهر، وذلك فيمن تحيض لصغر أو لكبر على ما يأتي تفصيله. الحالة الثالثة للمستبرأة: أن تكون حاملاً، فاستبراؤها بوضع الحمل. فروع متتالية: إذا باع أمة وهي في عدة من طلاق فاستبرأت، فإذا مضت سنة من يوم الطلاق وليوم الشراء ثلاثة أشهر حلت. ومن ابتاع ذات زوج، فطلقت قبل البناء، فلا بد من

الحيضة. وقال سحنون: يطأها (مكانه). ومن ابتاع زوجته قبل البناء أو بعده، لم يستبرئها. وإن ابتاعها بعد البناء ثم باعها بعد أن وطئ فلتستبرأ للمبتاع بحيضة، لأن وطأه فسخ لعدتها منه. (ولو باعها قبل الوطء، ها هنا لم تحل إلا بحيضتين، لأنها عدة فسخ للنكاح). وكذلك لو طلقها بعد البناء واحدة، ثم ابتاعها في العدة، ثم باعها ولم يطأها فحيضتان من يوم طلاقه تحلها. وإن باعها بعد حيضة لم تحل إلا بحيضة ثانية. ولو باعها بعد انقضاء العدة، فاستبراؤها حيضة، كان الطلاق واحدة أو ثلاثاً. وقال غير ابن القاسم في كتاب ابن عبدوس، في التي باعها زوجها بعد أن اشتراها وقد كان بنى بها ولم يطأها بعد الشراء: إنها لا تحل إلا بحيضتين. وإذا اشترى مكاتب زوجته بعد البناء، ثم لم يطأها حتى مات أو عجز فعلى السيد فيها حيضتان من يوم الشراء. قال: وكان مالك يقول: ((حيضة))، ثم رجع إلى هذا، وهذا أحب إلي، لأنها معتدة كمن باع معتدة من طلاق. قال الشيخ أبو محمد: ((يريد أنها قولة لمالك في كل من اشترى زوجته من حر أو عبد، ثم باعها أو أعتقلها، ثم رجع عنه إلى حيضتين، ذكر ذلك في المختصر الكبير، وكتاب محمد)). ولو عجز بعد ما مضى لها حيضتان، أو مات، لم ينبغ للسيد أن يطأها حتى تحيض حيضة، وإن كان المكاتب قد قال: لم أطأها بعدهما. وإن هي خرجت حرة، ولم يكن المكاتب وطئها بعد الشراء، نكحت مكانها، لأنها خرجت من ملك إلى حرية، يريد عتقت بعد حيضتين. وأما حكم الاستبراء، فهو منع جميع وجوه الاستمتاع. وقال ابن حبيب: لا يحرم منها إن كانت حاملاً من زنى، أو كانت مسبية إلا الوطء خاصة.

الفصل الثاني: في أسباب الاستبراء

الفصل الثاني: في أسباب الاستبراء والمتفق عليه منها حصول الملك (أو زواله. واختلف في الاستبراء بسبب سوء الظن، وسيأتي بيانه. الأول: حصول الملك على أمة لا يعلم مالكها براءة رحمها ولا يظنها، فيجب فيها الاستبراء. وجميع أسباب الملك في ذلك سواء، الإرث والهبة والصدقة والوصية والبيه والفسخ والإقالة والغنيمة، وغير ذلك. ولا يسقطه كون الانتقال إليه من امرأة أو صبي. وقيل: يسقط فيهما، ويجب في البكر. ورواه أبو الحسن اللخمي مستحباً على جهة الاحتياط. ويجب في الصغيرة إذا كانت ممن قاربت سن الحمل، كبنت ثلاث عشرة وأربع عشرة. وفي إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تطبق الوطء، ويحمل مثلها، كبنت تسع وعشر روايتان: أثبته في رواية ابن القاسم، ونفاه في رواية ابن عبد الحكم. وإن كانت ممن لا يطبق الوطء، فلا استبراء فيها. ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سن المحيض ولم تبلغ سن اليائسة، مثل ابن الأربعين والخمسين سنة. فأما التي أسنت وقعدت عن الحيض ويسئت منه، فهل يجب فيها الاستبراء، أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم. ولا يجزئ الاستبراء قبل البيع، إلا في حالات، منها: أن تكون تحت يده للاستبراء أو بالوديعة، فتحيض عنده، ثم يشتريها حينئذ أو بعد أيام. وهي لا تخرج، ولا يدخل عليها سيدها.

ومنها أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وقال أشهب: إن كانت معه في دار وهو الذاب عنها والناظر في أمرها أجزأه كانت تخرج أو لا تخرج. ومنها إذا كان سيدها غائباً، فحين قدم اشتراها قبل أن تخرج، أو خرجت وهي حائض، فاشتراها منها قبل أن تطهر. ومنها، الشريك، يشتري نصيب شريكه من الجارية، وهي تحت يد المشتري منهما، وقد حاضت في يده. ولو باع الأمة بشرط الخيار، فعادت إليه بالفسخ، فلا يجب الاستبراء (عليه) لأن ملكه باق عليها، وضمانها منه، نعم، يستحب إن غاب عليها المشتري وكان الخيار له. (وقال القاضي أبو الفرج: القياس وجوب الاستبراء إذا غاب عليها المشتري. واستحسنه أبو الحسن اللخمي). والفروع: في هذا (الفصل) كثيرة وتتبعها يطول، والإيجاز أولى، وقد عقد الإمام أبو عبد الله عقداً جامعاً لمواقع لاستبراء وفاقاً وخلافاً، فلنحل عليه وهذا نصه: والقول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل، فلا يلزم فيها الاستبراء. وكل من غلب على الظن كونها حاملاً، أو شك في حملها، وتردد فيه، فالاستبراء لازم فيها. وكل من غلب على الظن براءة رحمها، لكنه مع الظن الغالب يجوز حصوله، فإن المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه. ثم خرج على ذلك الفروع المختلف فيها، كاستبراء الصغيرة التي تطيق الوطء، أو اليائسة، قال: لأنه يمكن فيها على الندور، أو لحماية الذريعة، لئلا يدعى في موضع الإمكان أن لا إمكان. وكاستبراء الأمة خوفاً أن تكون زنت وهو المعبر عنه بالاستبراء لسوء الظن. وفيه قولان. والنفي لأشهب. وكاستبراء الوخش لأن الغالب عدم وطء السادات لهن، وإن كان يقع في النادر. وكاستبراء من باعها مجبوب، أو امرأة أو ذو محرم، فالمشهور إثباته. وحكى القاضي أبو الفرج رواية سقوطه، لأنه يرجع إلى سوء الظن. وكاستبراء المكاتبة إذا كانت تتصرف، ثم

عجزت، فرجعت إلى سيدها، فابن القاسم يثبت الاستبراء، وأشهب ينفيه، وهو مبني على سوء الظن. السبب الثاني: زوال الملك. والأمة الموطوءة مستولدة كانت أو غير مستولدة، فهي في حكم المستفرشة (فإذا عتقت)، إما بالإعتاق، وإما بموت السيد، فعليها التربص بحيضة واحدة. ومن أراد تزويج الجارية الموطوءة، فعليه الاستبراء بحيضة قبل التزويج، فإن عقد قبل الاستبراء وقد وطئها كان فاسداً، وفسخ قبل الدخول وبعده، لوقوع العقد في حالة يحرم الاستمتاع بها لحق الغير. ولو استبرأها ثم أعتقها حلت مكانها للزوج من غير تربص. ولو استبرأها ثم مات عنها، لم ينتفع بذلك الاستبراء من تصير إليه، ولا بد من حيضة. وأم الولد إذا أعتقها أو مات عنها، فلا بد من استبرائها بحيضة، كان السيد قد استبرأها، أو لم يكن. وإذا زوج السيد أمته قبل قوله في براءة رحمها، وجاز للزوج الإقدام على وطئها. وينزل قوله فيها في حق الزوج منزلة قول الحرة في نفسها، ويؤتمن فيها كما تؤتمن الحرة في نفسها. لكن لو اشترى أمة فلم يستبرئها، وأراد تزويجها، فهل يجوز للزوج الاعتماد على قوله: إنه لم يطأها، وعلى قول البائع: إنها برئة الرحم، كما كان يصدق قبل عقد البيع أم لا؟ في ذلك قولان. والمستولدة المزوجة إذا مات سيدها وزوجها جميعاً، فإن مات السيد أولاً فعليها لوفاة الزوج عدة الحرائر، وإن مات الزوج أولاً فعليها عدة الإماء، وبعد ذلك عليها التريص للسيد بحيضة. فإن ماتا وجهل الأول منهما، فعليها أقصى الأجلين أربعة أشهر وعشر، ولا حيضة عليها، إلا أن يكون بين موتيهما أكثر من شهرين وخسم ليال، ولا يعلم أيهما مات قبل صاحبه، فيكون عليها أربعة أشهر وعشر وحيضة.

كتاب الرضاع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الرضاع وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في أركانه، وهي ثلاثة: الأول: المرضعة، وهي المرأة، فلا حكم للبن البهيمة، ولا لبن الرجل. وحكى الشيخ أبو إسحاق رواية كراهية نكاح من أرضعه الذكور. ويحرم لبن الميتة. وقال الشيخ أبو إسحاق: المص عن ثدي الميتة يحرم، وفحله أبوه. وقد قيل: لا يحرم، ولا فحل له. ويحرم لبن البكر واليائسة من الحيض، وغير الموطوءة، والصبية. وقد قيل: ما لم ينقص سن الصبية عن سن من توطأ. الركن الثاني: في اللبن، والمعتبر وصول عينه، سواء كان صرفاً أو مخلوطاً بمائع، ما لم يصر مغلوباً فلا يعتبر. وروي عن عبد الملك بن الماجشون ومطرف أنه يعتبر، وسواء في إيصاله الرضاع والوجور. وهذا إذا كان ما يخرج من الثدي لبنا، فلو كان ماء أصفر أو غيره مما ليس بغذاء، ولا يغني عن الطعام، فلا يحرم، قاله ابن القاسم في كتاب ابن سحنون. الركن الثالث: المحل، وهو جوف الصبي المحتاج للرضاع. فلا أثر للإيصال إلى جوف الكبير، أعني بعد الحولين بمدة بعيدة، وإن كان بمدة قريبة، والطفل مستمر الرضاع حرم.

الباب الثاني: فيمن يحرم من الرضاع

وفي تحديد المدة القريبة خلاف، قال في المختصر: إلا أن يكون بعد الحولين بأيام يسيرة. وقال في الحاوي: مثل نقصان الشهور. وإليه ذهب سحنون. وقال القاضي أبو الحسن: ((واستحسن مالك أن يحرم ما بعدهما إلى الشهر)). وقال في الكتاب: ((إنما ينظر إلى الحولين والشهر والشهرين بعد الحولين)). وروى الوليد بن مسلم في مختصر ما ليس في المختصر، أنه يحرم إلى ثلاثة أشهر. ولا أثر للإيصال إلى جوف المستغني، فلو ارتضع في الحولين بعد استغنائه بالغذاء عن اللبن، لم تنتشر الحرمة، إلا أن تكون زمن الرضاع قريباً من زمن الاستغناء، فيكون حكمه حكمه. ((وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ في كتاب ابن حبيب: تنتشر ما دام في الحولين)). وأما الحقنة والسعوط، وما يدخل من غير منفذ الطعام من المنافذ، ففيه خلاف، يرجع إلى أنه يحرم إذا تحقق وصوله إلى المعدة. وليس من شرط تحريم الرضاع العدد، بل تحرم المصة الواحدة بظاهر القرآن. الباب الثاني: فيمن يحرم من الرضاع ويحرم بالرضاع أصول وفروع. فالأصول الثلاثة: المرضعة وهي الأم. وزوجها وهو الأب. والمرتضع وهو الولد. ومنهم تنتشر الحرمة إلى الأطراف. ثم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. بيانه، (أنه) إذا حرمت المرضعة على الرضيع، حرم عليه أمهاتها نسباً ورضاعاً، فإنهن جدات، وأخواتها نسباً ورضاعاً، فإنهن خالات، وأولادها من (الجهتين) إخوة. وكذلك

الباب الثالث: في الرضاع القاطع للنكاح، وحكم الصداق

أولاد الإخوة. وكذلك أولاد الرضيع أحفاد المرضعة. ولا تحرم المرضعة على أب المرتضع، ولا على أخيه. وكذلك زوج المرضعة أبو المرتضع وأبوه جده، وأخوه عم، وولده أخ، وعلى هذا القياس. ولا يعتبر أن يكون اللبن من وطء حلال على أشهر الروايتين. والقول الضابط في ذلك أن كل وطء يلحق فيه الولد، ويدرأ الحد، فالحرمة تنتشر به، وإن كان الحد واجباً، والولد غير لاحق فلا (ينشر). وحيث لا يلحق ولد، ولا يجب حد، فهل ينشر الحرمة أم لا؟. روايتان الأخيرة منهما: أنها ينشر. وهذا كله في حق الواطئ. أما المرضعة، فهي أمه على كل حال. ولو وطئت المنكوحة بالشبهة، وأتت بولد يحتمل أن يكون منهما فأرضعت صغيرة، فهي ولد من يثبت له نسب الولد. وقال محمد: تحرم عليهما. ولو كان لبن المطلقة داراً، فرضيعها ابن المطلق ولو بعد عشر سنين إلى أن ينقطع لبنها، ثم يحدث لها لبن آخر، فإذ ذاك ينقطع نسبه عنه. وقيل: ينقطع الوطء زوج ثان، وإن دام لبن الأول. وإذا فرعنا على الأول فولدت، أو حملت، فقيل: ينقطع بالحمل. وفي مختصر الوقار: بالولادة ينقطع حكم الأول. وفي كتاب محمد: لا ينقطع إلا بانقطاعه. ثم حيث لم يحكم بانقطاعه، فالولد لهما. الباب الثالث: في الرضاع القاطع للنكاح، وحكم الصداق ويشتمل على أصلين: أحدهما: في حكم الصداق، والثاني: في التفاف المصاهرة بالرضاع. الأول: في حكم الصداق. وإذا كان تحته صغيرتان، فأرضعتهما أمه أو أخته حرمتا. ولو أرضعتهما أجنبية حرم عليه الجمع بينهما لأنهما أختان، ولا يجب عليه صداق لهما على المشهور. أما إذا كان تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة حتى صارتا أختين، حرم الجمع بينهما، فيفارق إحداهما، ولا يكون لها صداق. وقيل: يكون لها نصف الصداق.

وقيل: ربعه. وهو كالخلاف في حكم الكافر يسلم على أختين. ثم لا غرم على المرضعة وإن تعدت على المنصوص. واستقرأ أبو الحسن اللخمي ما استحق من الصداق على من تعمد الإرضاع. ولو نامت، فدبت إليها الصغيرة فارتضعت، انتشرت الحرمة بذلك ولا غرم، قولاً واحداً. الأصل الثاني: في التفاف المصاهرة بالرضاع. فمن نكح رضيعة حرم عليه مرضعتها، لأنها أم زوجته. كذلك لو أبان صغيرة، حرم عليه من أرضعها بعد طلاقه، ولا نظر إلى التاريخ في ذلك. ولو نكحت المطلقة صغيراً وأرضعته بلبان الزوج، حرمت المرضعة على المطلق، لأنها صارت زوجة الرضيع، وهو ابن المطلق. وكذلك المستولدة. ولو نكح زيد كبيرة، وعمرو صغيرة، ثم نكح كل واحد زوجة صاحبه، فأرضعت الكبيرة الصغيرة، حرمت الكبيرة عليهما، لأنها أم الصغيرة التي كانت زوجتهما، وأما الصغيرة فربيبته، فينظر إلى الكبيرة أمدخول بها أم لا؟ فروع: الأول: إذا كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعتها الكبيرة بلبانه، حرمتا أبداً، لأن الكبيرة أم زوجة، والصغيرة بنت. فإن كان بلبان غيره لم تصر الصغيرة بنتاً، بل ربيبة، فإن كانت الكبيرة مدخولاً بها حرمتا عليه، الكبيرة لكونها من أمهات نسائه، والرضيعة لأنها ربيبة مدخول بأمها، وإن كانت غير مدخول بها حرمت لكونها من أمهات نسائه، ولم تحرم الصغيرة بكونها ربيبة إذ لم يدخل بأمها. الثاني: لو كان مع الكبيرة ثلاث صغائر، فأوجرتهن لبنها المحلوب في دفعة، وكان اللبن لغيره، فإن كانت الكبرى مدخولاً بها، حرم الجميع على التأبيد، إذ الكبرى من أمهات نسائه، والأصاغر من الربائب المدخول بأمهن، وإن كانت غير مدخول بها حرمت، وحرم الجمع بين الأصاغر للأخوة بينهن، فيختار منهن من شاء واحدة فقط. ولو كان اللبن له، لحرمن على التأبيد، دخل بها أو لم يدخل. الثالث: تحته كبيرة، وثلاث صغائر، وللكبيرة ثلاث بنات، أرضعت كل واحدة صغيرة، صارت الكبيرة جدة الصغائر، وحرمت على التأبيد. وأما الصغائر فصرن ربائب، فيحرمن على التأبيد إن كان ذلك بعد الدخول بالكبيرة.

الباب الرابع: في النزاع والنظر في الدعوى والشهادة

الباب الرابع: في النزاع والنظر في الدعوى والشهادة أما الدعوى، فإن توافقا على الرضاع، أعني الزوجين، اندفع النكاح ولا مهر، إلا أن يكون دخل بها. وإن ادعى الزوج وأنكرت، اندفع النكاح ولا صداق، إن كان ذلك سمع منه قبل العقد، وإن كان إنما سمع منه بعد العقد، فعليه جميع الصداق إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله فنصفه. وإذا ادعت هي وأنكر الزوج، لم يندفع النكاح، إلا أن يشهد بسماع ذلك منها قبل العقد، أو يصدقها، ولا تقدم على طلب المهر، إلا أن يكون دخل بها. وإقرار أبوي الزوجين قبل النكاح كإقرارهما، ويفسخ النكاح بجميع ذلك. قال ابن حبيب: اجتمع على هذا مالك وأصحابه. قال: فأما بعد النكاح، فلا يقبل، إلا أن يتنزه عنها، إلا في قول الزوج وحده، فإنه يقر على نفسه. وأما الشهادة، فتثبت بقول شاهدين، ويمنع من النكاح ابتداء، ويفرق بين الزوجين إذا تناكحا. فإن شهدت امرأتان، وفشا ذلك من قولهما كان كالأول، فإن لم يفش من قولهما، لم يستقل بذلك الحكم، كما يستقل بالشاهدين. وقال ابن حبيب: ذهب مطرف وابن الماجشون وابن نافع وابن وهب إلى أنه يستقل بشهادة المرأتين، أو الرجل والمرأة الواحدة إذا قاموا حين علموا بالنكاح، ولم تأت عليهم حال يتهمون فيها. وقاله أصبغ: وعليه جماعة الناس. وإن شهدت واحدة، فإن لم يفش من قولها لم تنتشر الحرمة، وإن فشا، فهل تنتشر أم لا؟ فيه خلاف. ثم حيث قلنا: لا تنتشر الحرمة بالشهادة، فإنه يستحب التنزه، ولو في شهادة المرأة الواحدة وإن لم يفش ذلك من قولها. واختلف أيضاً في أن أم أحد الزوجين كالأجنبية، أو أرفع منها، فتقع التفرقة بقولها لنفي التهمة، وأن ذلك إنما يعلم من قولها. وكذلك أبو الزوجة أو الزوج، هل هو كالأجنبي، إذا لم يتول العقد أم لا؟ فإن كان هو متوليه، كان الزوج أو الزوجة. وإذا أخبر ثم تولاه فسخ، فإن لم يفسخ حتى كبر الولد وصار الحكم إليه، فهل يفسخ نظراً إلى تولية أو لا يفسخ، ويكون شاهداً نظراً إلى الحال؟ فيه خلاف.

كتاب النفقات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب النفقات وأسبابها ثلاثة: النكاح، والقرابة، والملك. السبب الأول: النكاح، وهو موجب بشروط: التمكين. وبلوغ الزوج، وإطاقة الزوجة للوطء. ولا يشترط في الزوجة البلوغ. وقيل: يلزمه الدخول والنفقة وإن لم يحتلم إذا بلغ الوطء. ثم في تفصيل أحكام نفقة المنكوحة ثلاثة أبواب: الباب الأول: في قدر النفقة وكيفيتها وفيه فصلان: الفصل الأول: في واجبات النفقة، وهي ستة: الأول: الطعام. وهو يختلف بحسب اختلاف أحوال الأزواج والزوجات، واختلاف البلاد. وقال مالك رحمه الله: والاعتبار في النفقات بقدر حال المرأة وحال الزوج في يسر أو إعسار، ولها من النفقة ما يكفيها. قال ابن القاسم: رب رجل ضعيف وسعر غال، فيكون الوسط من الشبع على قدر حال الوقت والزوجين، وقد قال مالك: المد. وقدر غيره من أصحابه مداً وثلثاً. (وقال ابن القاسم: يفرض لها في الشهر ويبتان ونصف إلى ثلاث ويبات، وفي ويبتين ونصف مكفاة. قال ابن حبيب: وفي الويبة إثنان وعشرون مداً بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حبيب: وأرى

قفيز بالقرطبي وسطاً عندنا في الشهر، وفيه أربعة وأربعون مداً. قال محمد في قول ابن القاسم: ليس هذا في كل إنسان ولا كل وقت، رب رجل ضعيف وسعر غال، فتكون ويبتان عليه اجتهاداً. قال: ومد مروان الذي قال مالك: هو عندي وسط من الشبع في الأمصار، هو مد وثلث، وهو قدر ويبتين في الشهر، بالويبة الليثية، وإن مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لوسط من عيشهم. قال المتأخرون من القرويين: ((وإنما تكلم ابن القاسم على نفقة أهل مصر. وتكلم مالك رحمه الله على حكم أهل المدينة، فيكون اختلافهم راجعاً إلى اختلاف الأحوال، لا أنه اختلاف أقوال)). وكذلك تختلف الحال في الجنس، فيفرض لها من البر أو الشعبر أو الذرة أو التمر أو نحو ذلك من الأقوات ما يشبه عيش الزوجين في العادة في وقتهم ذلك وبلدهم. وقد روى أشهب في العتبية وكتاب محمد: إذا أراد أن يطعمها الشعير فأبت، فإن كان الناس قد أكلوه، فذلك له، فأما إن كان القمح كثيراً يؤكل وهو شيء واحد، فذلك عليه. الواجب الثاني: الأدم، وهو ما يشبههما أيضاً، ويفرض لها الخل والزيت للأكل، والوقود والحطب واللحم في بعض الأيام، ولا يفرض عليه في كل ليلة، ولكن المرة بعد المرة، ويفرض الماء للشرب والغسل. قال محمد: ويجمع ذلك كله ثمناً، ويدفع مع القمح. قال: ولا يفرض العسل ولا السمن ولا الحالوم. قال عبد الملك: ولا القطنية ولا ما أشبه هذا من سائر الأدم ولا فاكهة خضراء ولا يابسة. (قال محمد: ولكن الخل والزيت وما لا غنى لها عنه بقدر الرجل والمرأة، ولمشط رأسها ودهنه، وسراجها، وهذا للموسر والمعسر، إلا أن الموسر يزاد عليه بقدرها من قدره. وإن كان العسر البين، فلا أقل مما تعيش به. وقد يختلف ذلك، ويكون الرجل يعمل بيديه في قلة كسبه، فيفرض عليه بمصر ويبتان

قمح في الشهر، مع حق طحين وخبيز ودريهمات لزيت وماء وحطب. والطبخة بعد الطبخة، وما لابد منه. وقال في موضع آخر: وما يكون لطحين وخبيز وماء، ودهنها، وحناء رأسها ومشطها. قيل لمالك: فإن قالت: لا يكفيني ما فرض لي وهي ترضع قال: ليس الموضع كغيرها، وليفرض لها ما تقوى به في [الرضاع]. الواجب الثالث: (نفقة الخادم لمن يقتضي منصبها الخدمة. فإذا كانت المرأة ذات قدر وشرف في نفسها وصداقها، والزوج ملي، فليس عليها من خدمة بيتها شيء، لا غزل ولا نسج ولا طحين ولا طبخ ولا كنس ولا غيره، وعليه أن يخدمها. فإن كانت إلى الضعة ما هي في نفسها وصداقها، وليس فيه ما يشتري به خادم، فليس على الزوج أن يخدمها، وعليها الخدمة الباطنة من عجن، وطبخ وكنس وفرش واستسقاء ماء إذا كان الماء معها، وعمل البيت كله. وإن كان زوجها ملياً، إلا أنه في الحال مثلها أو أشف، ما لم يكن من أشراف الناس الذين لا يمتهنون نساءهم في الخدمة، وإن كن دونهم في القدر. وأما الغزل والنسج، فليس له ذلك عليها بحال، إلا أن تطوع. وإذا كان معسراً، فليس عليه إخدامها وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة، كما هي على الدنية). (قال ابن خويز منداد: على المرأة أن تخدم خدمة مثلها، فإن كانت ذات قدر ومنزلة، فخدمتها الأمر والنهي في مصالح المنزل، وإن كانت دنية، فعليها أن تضم البيت، وتفرش الفراش، وتطبخ القدر، وإن كانت عادة البلد أن تستقي النساء الماء فعليها).

فروع: الأول: حيث أوجبنا الخدمة على الزوج فلا يجب عليه شراء خادم وتمليكها، ولكن يجب عليه أن يأتيها بخادم تخدمها. وإن أحب أن يستأجر لها من يخدمها من الحرائر كان ذلك له، ثم للخادمة ما يقوم بأودها مما يليق بمثلها. الفرع الثاني: لو أراد أن يبدل خادمتها المألوفة لم يكن له ذلك، ولزمه الإنفاق عليها، إلا أن تظهر ريبة. الفرع الثالث: لو كان هو وهي بحيث يخدمها خادمان فأكثر فروى سحنون عن ابن القاسم: يفرض لها نفقة خادم واحدة. ((وروى أصبغ عنه أنه قال: يؤدي الرجل زكاة الفطر عن خادمين من خدم امرأته إذا كان لها (غنى) وشرف. قال أصبغ: وذلك عندي حسن، لأن مثل هذه لا تكفي لخدمتها خادم واحدة، ولو ارتفع قدرها جداً، مثل بنت السلطان العظيم، لرأيت أن يزاد في عدد الخدم إلى الأربع والخمس، ويلزم الزوج الإنفاق عليهن، وإخراج زكاة الفطر عنهن)). قال محمد بن أبي زمنين: ((قال لنا إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون ما قاله أصبغ إذا طالبها بما تكثر به الخدمة في نفسها وبيتها وزينتها وملوكيتها ويحملها على ذلك ويرغبه منها، وأما إذا لم يرغب ذلك منها، وكان منزعه بنفسه إلى القصد، وعرف منه، لم يلزمه إلا خادم واحدة)). الفرع الرابع: حيث قلنا: لا يلزمه إلا خادم واحدة، إما تفريعاً على القول الأول، وإما لأنها ممن لا تستحق أكثر من الواحدة، فللزوج أن يخرج سائر خدمها سوى من تستحقه منهن. إذ ليس عليه سكناهن. (وليس للزوج منع أبوي المرأة وولدها من غيره أن يدخلوا إليها. وإن حلف على ذلك أحنث. ولا ينبغي له أن يمنعها من الخروج إلى أبويها في لوازم الحقوق، لكن إن حلف على ذلك لم يحنث).

قال عبد الملك: ((ولو كان لها خادم لكانت مخيرة في استخدامها ومطالبته بنفقتها، أو مطالبته بخادمة. قال عبد الملك: وإن كان للمرأة ولد صغير أو أولاد صغار، فرض لها السلطان لهم نفقتهم، وما يصلح مثلهم، ويضم ذلك لهم مع نفقة أمهم، فكانت واحدة، إلا أن (يكون) مضراً بالزوج لقلة ذات يده، فلا يضمون معها في النفقة. وينفق على ولده على قدر طاقته، لأن الرجل إذا لم يجد ما ينفق على ولده لم يكلف لهم شيئاً، وكانوا من فقراء المسلمين)). الواجب الرابع: الكسوة، وهي ما يناسب حاله وحالها في العادة، هذا هو المعتبر، إلا أنا ننقل بعض ألفاظ الأصحاب للتأنس بها. وقال بعضهم: وذلك قميص ووقاية وقناع، وهي من الجودة والرداءة على قدرهما. قال: ويزاد في الشتاء ما يدفع البرد. قال ابن القاسم: عليه ما يصلح للشتاء والصيف من قميص وجبة وخمار ومقنعة، والوسادة والسبنية والإزار وشبه ذلك مما لا غنى عنه. قال: ولا بد مع ذلك من الغطاء والوطاء، وذلك ملحفة وفراش ووسادة، ويزاد في الشتاء ما يدفع البرد. قال ابن القاسم: والسرير في الوقت الذي يحتاج إليه لخوف العقارب وشبهها. قال ابن حبيب: أو براغيث أو فأر. قال ابن القاسم: وإن كان مثلها تلبس القطن، ومثله يقدر عليه، فرض عليه. قال أشهب: ومنهن من لو كساها الصوف أنصف، وأخرى لو كساها الصوف أدب، وذلك على قدر أقدارهن. ونص مالك على أنه لا يلزمه الحرير، وإن كان متسع الحال. وأجراه ابن القاسم على ظاهره. وتأوله القاضي أبو الحسن على أن ذلك بالمدينة، وهم أهل قناعة، وألزمه في غيرها إذا كان العادة. قال بعض المتأخرين: ((وأصل هذا كله أن كل ما هو ضروري أو محتاج فإنه يفرض، وما ليس بضروري ولا حاجة تدعو إليه، وهو زيادة في معنى السرف فلا يفرض.

وكل ما يختص به الأملياء، وهو من التوسع الذي يكاد يكون في حقهم محتاجاً إليه، ففيه قولان)). قال: ((وهذا ينبغي أن يكون خلافاً في حال)). وقال عبد الملك بن الماجشون: إن كانت الزوجة حديثة عهد بدخولها عليه، وكانت شورتها التي شورت بها من صداقها عندها، فليس عليه لها سوى ذلك، لا في ملبس ولا في غطاء، ولا في وطاء، بل له عليها الاستمتاع بذلك معها، لا كلام لها فيه. ولهذا يصدق الرجال نساءهم ما أصدقوهن. قال: وإن كان العهد قد قال بهما حتى خلقت الشورة وذهبت، أو كانت ممن لم يكن لها في صداقها ما تتشور به لقلة ذلك، فعليه لها كسوتها للشتاء والصيف مما لا غنى للنساء عنه في ليلهن ونهارهن وشتائهن وصيفهن على أقدارهن وأقدار أزواجهن. قال: ونرى أن الوسط مما يفرض للمرأة من ذلك على زوجها فراش تنام عليه، ومرفقة تضع عليها رأسها، وإزار تستشعره، ولحاف تلتحفه، ولبد تفترشه على فراشها في الشتاء، وسرير يكون عليه فراشها)). وقال ابن حبيب: إن كان بموضع لا غنى عنه لعقارب أو حيات أو براغيث أو فأر. وإلا فلا سرير عليه. قال عبد الملك: ((وعليه من اللباس قميص تستشعره، وفرو على القميص لشتائها من لباس مثلها، وقميص يواري الفرو، وخمار ومقنعة وخفان. ثم يجدد ذلك لها متى خلق شيء منه، ولم يكن فيه منتفع، والدهن لرأسها. قال: وأما سوى ذلك من الكحل والحناء والصباغ، فليس عليه من ذلك شيء وإنما هو عليها إن أحبته)). الواجب الخامس: (آلة التنظف. قال ابن المواز: عليه حناء رأسها. وقال ابن حبيب: عليه دهن رأسها، ويسير حناء ومشط وكحل. وروى ابن المواز عن ابن القاسم: ليس عليه نضوح ولا صباغ ولا المشط

الفصل الثاني: في كيفية الإنفاق

ولا المكحلة. وروى يحيى عن ابن وهب: ليس عليه الطيب ولا الزعفران، ولا خضاب اليدين والرجلين)). قال القاضي أبو الوليد: ((معنى ذلك عندي أنه ليس عليه من زينتها إلا ما (تستضر) بتركها إياه، كالكحل الذي يضر تركه ببصر من يعتاده، والمشط بالحناء، والدهن لمن اعتاد ذلك، لأن تركه لمن اعتاده يفسد الشعر)). قال: ((والذي نفى ابن القاسم إنما (هو) المكحلة، ولم ينف الكحل نفسه، فتضمن القولان أن الكحل يلزمه دون المكحلة)). قال: ((وعلى هذا يلزمه ما تمتشط به من الدهن والحناء دون الآلة التي يمشط بها)). ولا تستحق الدواء للمرض، ولا أجرة الحجامة، وعليه أجرة القابلة عند أصبغ مطلقاً، ووافقه ابن المواز إذا كانت المنفعة بها للولد. قال: فأما إن كانت لها فعليها، أو لهما فعليها وعلى الزوج. قال القاضي أبو الوليد: ((والأظهر قول أصبغ، لأنها مما لا بد منه، كالنفقة والكسوة)). الواجب السادس: السكنى. وعليه أن يسكنها مسكناً يليق بها، إما بعارية أو بإجارة أو ملك. الفصل الثاني: في كيفية الإنفاق أما الطعام فيجب فدعه، وفي جواز أخذ الثمن عنه خلاف، مأخذه أن تحريم بيع الطعام من معارضة قبل قبضه غير معلل فيمنع، أو معلل بالعينة فلا يمنع لعدمها بين الزوجين. ويدفع ثمن ما يصحبه ويصلحه. وليس له أن يكلفها الأكل معه، فإن أكلت معه سقطت نفقتها. وفرض النفقة من الزمن على قدر ملاء الزوج، فمنهم من يفرض عليه باليوم، ويزاد بقدر اتساع الحال على هذا الترتيب.

(قال ابن سحنون في كتابه: سأل حبيب سحنون عن الرجل يكون قليل ذات اليد، ولا يجد ما يجري على امرأته رزق شهر كامل، هل يجري عليها رزق يوم بيوم من خبز السوق، وقد طلبته بالنفقة فقال: نعم يجري عليها رزق يوم بيوم بقدر طاقته. قيل: فإن كان له جدة، وليس بالملي، فطلب أن يرزقها جمعة بجمعة قال: يجري عليها بقدر ما يرى السلطان من جدته، فمن الناس من يجري يوماً بيوم، ومنهم جمعة بجمعة ومنهم شهراً بشهر). فروع: الأول: إذا خاصمت المرأة زوجها بالنفقة، فقضي لها عليه بها، فقال: أحبسوا لها بقدرها من ديني الذي عليها. فإن كانت معسرة فليس له ذلك، وقضي عليه بالنفقة، ويتبعها بالدين، وإن كانت موسرة، فله مقاصتها بالنفقة مما له عليها. الفرع الثاني: إذا غاب زوجها فطلبت النفقة، وله مال حاضر، فرض لها الحاكم فيه وباع عروضه إن لم يكن له عين، ولا تطلب بحميل بذلك. وقال عبد الملك: يفرض لها في مال زوجها الغائب بعد أن تحلف بالله الذي لا إله إلا هو لما ترك عندها نفقة، ولا أرسلها إليها، ولا وضعتها عنه. فإن لم يكن له مال حاضر، لكن عرف ملاؤه في غيبته، فرض لها عليه، وكان ذلك ديناً عليه، تأخذه به إذا قدم. الفرع الثالث: (إذا تنازعا في كونه معسراً في حال الغيبة. فقال ابن القاسم: إن قدم معسراً وقال: ما زلت كذلك منذ غبت، فهو مصدق مع يمينه حتى تقوم بينة. وإن قدم موسراً، وادعى أنه كان معسراً، لم يقبل قوله إلا ببينة. وفي العتبية عن ابن كنانة وسحنون: ((إذا قدن وقال: كنت معسراً في غيبتي، فالقول قوله، وعلى المرأة البينة)).

الباب الثاني: في مسقطات النفقة

وقال ابن حبيب: الغائب أبداً من أهل النفقة، حتى يقيم بينة أنه عديم يوم خرج، أو أعدم من وقت يذكره. وإذا خرج على حال من يسر أو إعسار، فالأصل اعتبارها، والبينة على من ادعى خلافها منهما. فإن أشكل أمره يوم خرج، فعليه البينة أنه معدم في غيبته). الفرع الرابع: إذا قدم الغائب، فطالبته بالنفقة، فادعى أنه ترك لها نفقته أو كان يرسلها إليها، فالقول قوله مطلقاً في قول. وقولها في ثان، والمشهور والتفضيل: فإن كانت رفعت أمرها إلى الحاكم، فالقول قولها. وإن لم تكن رفعت، فالقول قوله. فأما الحاضر، فمتى ادعى قبضها النفقة لماضي الزمان، فالقول قوله الشهادة العرف له. الباب الثاني: في مسقطات النفقة وقد تقدم أن وجوب النفقة بالعقد والتمكين، فإن امتنعت من التمكين لم تجب النفقة. ولو لم يظهر تمكين ولا امتناع، ففي إنزالها منزلة الممكنة، أو الممتنعة خلاف. وتسقط بالنشوز بعد التمكين. وروي أنها لا تسقط به. وإذا فرعنا على الرواية المشهورة، فموانع النفقة أربعة: المانع الأول: النشوز، ومنع الوطء والاستمتاع نشوز، والخروج بغير إذنه نشوز، وبإذنه ليس بنشوز. ((وفي كتاب محمد: وإذا غلبت امرأة زوجها فخرجت من منزله وأبت أن ترجع، وأبى أن ينفق عليها حتى ترجع، فأنفقت من عندها، قال مالك: فلها أتباعه بذلك)). قال عيسى في العتبية عن ابن القاسم: ((وكذلك لو حلف بطلاقها واحدة أو البتة إن

أرسل إليها حتى تكون هي التي ترسل أو تأتي، فعليه النفقة ما أقامت. ولو شاء لنقلها)). قال الشيخ أبو الحسن: إنما ذلك إذا كان قادراً على ردها، فأما لو عجز عن ردها لسقطت نفقتها عنه بنشوزها. وتجب النفقة للرتقاء والمريضة والمجنونة، فإن هذه أعذار دائمة. المانع الثاني: الامتناع. فإذا امتنعت عن الزفاف بغير عذر لم تجب لها نفقة كما تقدم. فإن كانت مريضة يضر بها الوطء، فمعذورة، ولا يؤتمن الرجل في قوله: لا أطأها. وإن أنكر كون الوطء مضراً ثبت ذلك بقول امرأتين ولا يثبت بقول واحدة. المانع الثالث: الصغر. وإذا زوجت صغيرة من بالغ، فلها النفقة إن كان مثلها يوطأ، ودعته للدخول. وإن كان لا يوطأ مثلها، فلا نفقة عليه. وإن زوجت بالغة من صغير، فلا نفقة لها حتى يبلغ. وإن زوجت صغيرة من صغير، فلا نفقة لها حتى يبلغ الزوج، وتطيق هي الوطء. المانع الرابع: العدة، والمعتدة المطلقة إن كانت رجعية فلها النفقة. وأما البائن فلها السكنى، وليس لها نفقة، إلا أن تكون حاملاً. فرع: يجب تعجيل النفقة قبل الوضع بظن الحمل، بظاهر الآية، فإن بان أن لا حمل استرد. وقيل: لا يسترد. وروي: إن أنفق بقضية رجع عليها، وإن أنفق بدعواها، أو بقول القوابل لم يرجع بشيء.

الباب الثالث: في الإعسار بالنفقة

الباب الثالث: في الإعسار بالنفقة وهو مثبت لحق الفسخ لمن توجهت لها المطالبة بالنفقة، ثم النظر في أطراف. أحدها: في العجز، ونعني به أن يعجز عن القوت بالفقر، وهذا إذا فقد ما ينفق جملة. وكذلك حكم الكسوة. فإن وجد يسيراً ولا يسد مسداً، فذلك يثبت حق الفسخ، فإن سد مسداً، وكان قدر ما يمسك الحياة والصحة، فحكى الشيخ أبو الطاهر في الفسخ قولين. (وقال ابن حبيب: ((إذا لم يجد غير الخبز وحده، وما يواري عريتها، ولو بثوب واحد، قال مالك: من غليظ الكتان، لم يفرق بينهما، كانت غنية أو فقيرة، فإن عجز عن هذين أو عن أحدهما فرق بينهما بطلقة)). فإن وجد في العدة يساراً بيناً مما يقدر فيه على رزق شهر بشهر، وما تستوجب من اللباس والوطاء، فله الرجعة. وإن لم يجد إلا مثل عيش يوم بيوم، وما يواري عريتها، فلا رجعة له. وهذا فيمن الفرض عليه شهراً بشهر. قال: فأما من كان الفرض عليه بالأيام، والذي به كانت تعرف حاله، فله الرجعة بوجود ما لو وجده أولاً لم تطلق عليه. قال: وقاله ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب). (وأما الغائب عن زوجته، ولا مال له ينفق عليها منه، فهل تطلق عليه بذلك أم لا؟ فيه قولان للمتأخرين. وقال الشيخ أبو الطاهر: ((والأكثر على الفراق)). قال: ((وهو أصل المذهب)). وقال الشيخ أبو الحسن: ((لا يفرق على الغائب، لأنه لم يستوف حجته. والمسألة

السبب الثاني للنفقة، القرابة

خلافية. والقادر بالكسب كالقادر بالمال، والعجز عن الإدام لا يؤثر، ولا العجز عن الصداق بعد الدخول، ولا يؤثر العجز عن نفقة الزمن الماضي، بل ذلك دين مستقر في ذمته، فرضه القاضي أو لم يفرضه). الطرف الثاني: في حقيقة هذا الفسخ، وهو طلاق. فترفع أمرها إلى القاضي حتى يأمره أن ينفق أو يطلق، فإن أبى طلق عليه القاضي طلاقاً رجعياً، لكن الرجعة موقوفة على الإيسار، فإن راجع وأنفق قبل انقضاء العدة صحت الرجعة، وإن انقضت قبل أن يقدر على الإنفاق بانت منه. الطرف الثالث: في وقت إيقاع الطلاق عليه، وقد اختلفت الأقوال في التلوم في ذلك. فقال في المبسوط: يؤحر اليوم ونحوه مما لا يضر بها الجوع. وقال في كتاب محمد: ما علمت أنه يضرب له أجل إلا الأيام. ثم قال: ولا أعلم له أجلاً. وقال محمد: الذي عليه أصحاب مالك في التلوم أشهر ونحوه. وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: الشهر والشهران. وقال أصبغ: إن لم يطمع له بمال، فالشهر إذا لم تجد هي ما تنفق، ثم إذا انقضت مدة التلوم على الخلاف فيها، ولم يقدر على الإنفاق طلق عليه. فرع: روى عبد الملك فيمن كان في حال والتزويج فقيراً معسراً، لا يجزي مثله على النساء نفقة لفقره، فتزوجته عالمة بذلك راضية به، فلا قيام لها. وقال في كتاب محمد: وإن علمت أنه فقير عند نكاحه إياها، فلها ذلك، إلا أن تعلم هي أنه من السؤال قبل نكاحه، فلا حجة لها. وقال في المبسوط: إذا تزوجته عالمة بفقره حالة العقد، فلا تطلق عليه، أرأيت لو تزوجت رجلاً من أهل الصفة، أكان يطلق عليه؟ السبب الثاني للنفقة، القرابة، وفيه بابان: الباب الأول: في شرائط الاستحقاق وكيفية الإنفاق، وفيه فصول: الفصل الأول: في شرائط الاستحقاق. والمستحقون صنفان: أولاد الصلب، الأبوان. ولا يتعدى الاستحقاق إلى أولاد الأولاد،

الفصل الثاني: في كيفية الإنفاق

ولا إلى الجدات والأجداد، بل يقتصر على أول طبقة من الفصول والأصول. ويشترط في المستحق الفقر والعجز عن التكسب. وتختص الأولاد بزيادة شرط الصغر على (تفصيل) يأتي في الإناث. ويشترط في المستحق عليه أن يكون موسراً بما يزيد على مقدار حاجته. ولا يباع عليه عبده وعقاره في ذلك إذا لم يكن فيهما فضل عن حاجته (لهما). ولا يلزمه الكسب لأجل نفقة القريب. ولا تشترط المساواة في الدين، بل ينفق المسلم على الكافر، والكافر على المسلم. ثم تستمر النفقة باستمرار شروطها، فلا تنتهي في حق الأبوين إلا بحدوث الموت أو المال. وتنتهي في ذكور الولد ببلوغهم أصحاء، فأما من بلغ منهم ذا زمانة لا حراك به، أو أعمى، أو مغلوباً، أو كان زمناً تمنع من السعي، فلا تسقط نفقته بالبلوغ، بل تستمر. وقيل: تنتهي النفقة عليهم بالبلوغ على أي حال كانوا. ولو بلغوا أصحاء فسقطت نفقتهم، ثم طرأ عليهم ما ذكرنا، لم تعد النفقة عليه. وقال عبد الملك: تعود النفقة عليه. ولا تنتهي في الإناث من الولد حتى يتزوجن، وتترتب النفقة لهن على أزواجهن، ثم إن طلقن بعد سقوطها عن الآباء فلا تعود عليهم إلا أن يعدن غير بالغات. ويستحق الأب نفقة زوجته كنفقته. وقيل: لا تجب على الولد نفقتها، إلا أن تكون أمه. وفي استحقاقه الإعفاف على الولد خلاف تقدم. الفصل الثاني: في كيفية الإنفاق ولا تقدير في ذلك، بل يجب مقدار الكفاية، ويحال في ما يعطيه من النفقة وما يتبعها من المؤونة والسكنى والكسوة على العوائد. ولا تستقر في الذمة، بل تسقط بمرور الزمان، (إلا) أن يفرضها القاضي، بخلاف نفقة الزوجة. فرع: حيث خوطب الأب بالإنفاق على ولده، فامتنع، فللأم إخذ النفقة من ماله. ويجب على الأم أن ترضع ولدها، إذا كانت تحت أبيه، إلا أن يكون مثلها لا يرضع

الفصل الثالث: في اجتماع الأولاد

لسقم أو قلة لبن، أو لشرف وعلو قدر، فذلك على الأب، إلا أن لا يقبل غيرها فيلزمها إرضاعه. وكذلك لو كان الأب عديماً، ولو لم يكن لها حينئذ لبن، لم يلزمها أن تستأجر له. وفي كتاب محمد: عليها أن تستأجر له، ولو كان الأب عديماً ووجد من يرضعه له مجاناً، (أو) بدون أجرة المثل، وطلبت الأم أجرة المثل، كان القول قول الأب، إلا أن ترضعه الأم كذلك. ولو كان الأب موسراً وقال: وجدت من يرضعه سوى الأم مجاناً، وطلبت الأم الأجر فالقول قولها. قال أبو القاسم بن الكاتب: إلا أن يجد من يرضعه عند أمه، فله ذلك. وكذلك إن وجد من يرضعه بدون ما رضيت به الأم، إذ إنما يراعي حقها في الحضانة. فرع: حيث استؤجر للولد من ترضعه غير الأم، فيستحب أن تكون ذات عقل وعفاف عن الفاحشة، سالمة من العيوب التي يتقى حدوث مثلها بالمرتضع. فتتوقى الحمقاء والفاجرة لأن اللبن يغير الطباع. وقد جاء الحديث بالنهي عن هاتين. وينبغي أن تتوقى الجذماء. وبالجملة فكل عيب يخاف منه أن يغير جسم الولد أو طباعه. والمنصوص أنه لا تسترضع الحامل، وتنفسخ الإجارة إن استؤجرت ثم حملت. وحكى أبو الحسن اللخمي قولاً ثانياً بجوازه. الفصل الثالث: في اجتماع الأولاد تختص النفقة بالموسر منهم. فإن كانوا كلهم موسرين، أو جماعة منهم، كانت النفقة على كل موسر. واختلف في كيفية التوزيع، فقال أصبغ: بالسوية. وأشار محمد إلى أنها على قدر اليسار والجدة. وقال مطرف: على قدر مواريثهم إذا كانوا أطفالاً لا يلون أموالهم بأنفسهم، فيكون على الذكر مثلاً ما على الأنثى لأنها إنما وجبت في أموالهم.

الباب الثاني: في الحضانة

الباب الثاني: في الحضانة، وفيه فصول: الفصل الأول: [في] (صفات) الحاضنة فنقول: الحضانة ولاية وسلطنة، لكنها بالإناث أليق لزيادة الشفقة، فالأم أولى من الأب، وإن كانت المؤونة على الأب. لكن بشرط أن تكون الأم عاقلة، ولا يشترط كونها مسلمة على المشهور، بل للذمية من الحضانة ما للمسلمة إن كانت في حرز، وتمنع أن تغذيهم بخمر أو خنزير، فإن خيف أن تفعل بهم ذلك ضمت بهم إلى ناس من المسلمين. وروى ابن وهب: أن لا حضانة لها. ولا تشترط الحرية. بل للأمة حضانة ولدها من زوجها عبداً كان أو حراً. ويشترط كون الحاضنة أمينة، إذ لا يوثق بالفاسقة. ويشترط أيضاً كونها فارغة، فإن كانت متزوجة، أو نكحت ودخلت، بطل حقها، إلا إذا كان الزوج جد الطفل، فإنها لا تسقط حضانتها. وقال ابن وهب: تسقط. قال أصبغ والحارث بن مسكين: العمل على ما قال مالك، ولا يؤثر رضى الزوج، ولا يرجع حقها إن طلقت. وقيل: يرجع. وإذا كانت في مسكن الزوج، فللزوج أن لا يرضى بدخول الطفل داره، ومهما امتنع الأولى أو غاب، انتقل حق الحضانة إلى البعيد، لا إلى السلطان. ويسقط حق الحضانة أيضاً الخوف على الولد في بدنه أو أخلاقه في الحال أو المال. فرع: اختلف في حق الحضانة، هل هو (للولد) أو للوالدة؟ فيه روايتان. وخرج الشيخ أبو الطاهر عليهما الخلاف في الأم إذا كانت ملية، والولد كذلك هل (تستحق) في ماله نفقة أو أجرة أم لا؟، فبنى نفي الاستحقاق على إثبات الحق لها، وثبوته على ثبوت الحق له. ثم تكون النفقة إذا استغرقت أوقاتها بالحضانة أو تفرغت إليها، وتكون الأجرة إذا لم تستغرق أوقاتها بذلك. أما صفة المحضون، فهو أن لا يستقل كالصغير والمجنون والمعتوه. ثم الأم أولى بالصغير الذكر إلى حيث يبلغ الاحتلام. وقيل: إلى حيث يثغر. وقال ابن الماجشون: إذا استغلط أو قارب الاحتلام، وأنبت واسود إنباته، فللأب ضمه

الفصل الثاني: في اجتماع الحواضن، والنظر في أطراف

إلى نفسه. وفي الصغيرة حتى تتزوج، ويدخل بها زوجها. وإذا سافر ولي الطفل أباً كان أو غيره سفر نقلة، سقط حق الأم وغيرها من الحضانة إن كان السفر بعيداً، وله أخذ الصغيرة منها وإن كان يرضع، إلا إذا رافقته في الطريق. وليس له ذلك في سفر النزهة ولا في التجارة وإن طالت المدة. وليس للأم أن ترحل بالولد عن مكان وليه، إلا إلى المكان القريب الذي يمنع الأب من خروج الولد معه إليه لقربه وإن قصد استيطانه. فرع: قال محمد: وأقصى ما للأب أن ينتجع بولده وأقر به، والذي لا ترتحل إليه الأم بالولد عن عصبتهم، المكان الذي لا يكاد يصل خبرهم، وأقرب ذلك ستة برد، قاله مالك في المرحلتين. وقال أصبغ: إذا انتجع من الاسكندرية إلى الكريون فله الرحلة بهم. قال محمد: وهذا قريب قدر بريدين، ولم أسمع من قاله، وإنما أصبغ. ولم ير أشهب للأم أن ترتحل به إلى ثلاثة برد. الفصل الثاني: في اجتماع الحواضن، والنظر في أطراف الأول: في النسوة، والأم أولى من سائرهن بالحضانة، ثم أمها، ثم جدة الأم لأمها، ثم الخالة. واختلف في خالة الخالة، هل هي كالخالة عند فقدها أم لا؟. ثم الجدة للأب، ثم جدة الأب لأبيه، ثم الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخ. الطرف الثاني: في الذكور. وأولاهم الأب، ثم الأخ، ثم الجد، ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم. ثم اختلف في (المولى) الأعلى والأسفل، هل لهما حق في الحضانة أم لا؟ الطرف الثالث: في اجتماع الذكور والإناث ولا شك في تقديم الأم (وأمها) على جميع الرجال. وتقدم جميع النساء على من عدا الأب من الرجال. فأما الأب ومن بعد الجدة للأم، فقد اختلف أيهم يقدم: فمذهب الكتاب أنه يقدم على من سوى الأخت. وقيل: إن جميع النساء مقدمات (عليه). وقيل: إنه لا يقدم عليه إلا الأم والجدة. وقيل: إن الخالة مقدمة عليه، وهو مقدم على أمه ومن بعدها.

فروع: الأول: في الوصي، وقد نصوا في الروايات على أنه مقدم على جميع العصبة. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وينبغي أن يجري الأمر فيه على قولين كما تقدم)). قال: ((وقد أشرنا في الصلاة على الجنازة، وفي ولي النكاح إلى ما يقتضي الخلاف في هذا الأصل، وهو أن هذه الحقوق هل تكون كالحقوق المالية، فلمالكها أن يتصرف فيها بالأخذ لنفسه، أو النقل إلى غيره، أو لا تكون كالحقوق المالية، لأنه إنما ملك بسبب موجود فيه، وفي المنقول عنه وليس بموجود في من نقله إليه، فالمنقول عنه أحق بذلك)). الفرع الثاني: وهو مرتب. (إذا قلنا بأنه أحق، فذلك في الذكور. وأما الإناث إذا كبرن، فإن كن ذوات محرم منه، فهو أولى، وإن لم يكن ذوات محرم منه، فهل يكون له حق في حضانتهن أم لا؟ فيه خلاف. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن كان مأموناً وله أهل، فهو أحق، وإلا لم يكن له حق)). الفرع الثالث: الأخ للأب، اختلف في أن له حقاً في الحضانة أم لا؟. واختلف أيضاً في أم الولد تعتق، هل تستحق الحضانة نظراً إلى حالها بعد العتق أو لا تستحقها نظراً إلى حالها قبله؟ قال الشيخ أبو الطاهر: ((والصحيح أنها تستحقها، لأن الأمة تستحق الحضانة على ولدها وإن كان حراً)). الفرع الرابع: (لو كان من ذوي القرابات أو من ذوات القرابة من هو في تعدد واحد، لكان الأولى منهم من هو أكمل صيانة ورفقاً، ولو تساووا في ذلك، فقد قالوا: إن الأسن أولى. ولا شك في أن الأقرب بدرجة، أو الشقيق أولى من الأبعد ومن غير الشقيق كما تقدم).

الفصل الثالث: في المستحق للمحضون الفقير على أبيه المليء

الفصل الثالث: في المستحق للمحضون الفقير على أبيه المليء وذلك ما يأكله ويشربه ويفتقر إليه من غسل ومؤن. والمرجوع في تقدير ذلك إلى العوائد كما تقدم، والنظر إلى قدر يسر الأب وعسره. ويلزم إخدامه إذا كان يليق بمثله. وقيل: لا تلزم الخدمة. وكذلك الخلاف في السكنى، والمشهور وجوبها (للحاجة) إليها. ورأى في الشاذ أنه فيها تبع. ويتفرع على المشهور نوعان: الأول: هل تلزم أجرة جميع المنزل، أو ما ينوب الولد؟ في ذلك قولان. الفرع الثاني: وهو مرتب على الأول. إذا قلنا: الواجب ما ينوب الولد، فهل بقدر الانتفاع، أو على عدد الرؤوس؟، فيه قولان أيضاً. وتخرج على هذا الأصل فروع كثيرة كأجرة كاتب الوثيقة، وكانس المرحاض، وحارس الأندر، والتقويم على المعتقين، والأخذ بالشفعة، وزكاة العبد المشترك. وحصر ذلك إن كان ما وجب بحقوق مشتركة، فهل يكون استحقاقه أو الاستحقاق عليه بقدر الحقوق، أو على عدد الرؤوس؟ القولان. السبب الثالث: للنفقة ملك اليمين وتجب على السيد نفقة الرقيق بقدر الكفاية على ما جرت به العادة. ولا يتعين ما يضرب على العبد من خراج، بل عليه بذل المجهود ولا (يكلفه) السيد إلا ما يطيق. فإن لم ينفق على عبده بيع عليه. ويجب على رب الدواب علفها، أو رعيها إن كان في رعيها ما يقوم بها. فإن أجذبت الأرض تعين عليه علفها، فإن لم يعلف أخذ بأن يبيعها، أو يذبحها إن كانت مما يجوز أكلها، ولا يترك وتعذيبها بالجوع وغيره. ولا يجوز أن ينزف لبنها بحيث يضر بنتاجها. والله أعلم. [كمل كتاب الحضانة].

كتاب البيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [صلى الله على سيدنا وآله وسلم تسليماً] كتاب البيع والنظر في حقيقته وأحكامه أما حقيقته فقال الإمام أبو عبد الله: هو نقل الملك بعوض. قال: وهذا الرسم يشمل الصحيح والفاسد، إن قلنا: إنه ينقل الملك، فإن قلنا: إنه لا ينقله، لم يشمله من جهة المعنى، لكن العرب قد تكون التسمية عندهم حقيقة، لاعتقادهم أن الملك قد انقتل على حكمهم في الجاهلية، وإن كان لم ينتقل على حكم الإسلام. وأما أحكامه فالنظر فيها يتعلق بخمسة أقسام: الأول: في صحته وفساده. الثاني: في لزومه وجوازه. الثالث: في حكمه قبل القبض وبعده. الرابع: فيما يقتضيه مطلق ألفاظه في الثمار والأشجار، واستتباع الأصول، الفروع. الخامس: في [مداينات] العبيد والتحالف.

القسم الأول: في صحته وفساده

القسم الأول: في صحته وفساده، وفيه خمسة أبواب الباب الأول: في أركانه، وهي ثلاثة: الأول: ما ينعقد في البيع، وهي صيغة الإيجاب والقبول، أو ما (يشاركهما) في الدلالة على الرضى الباطن من قول أو فعل قصد به ذلك. (فيكفي) المعاطاة والاستيجاب والإيجاب، وهو قوله، يعني يدل قوله: اشتريت، كما في النكاح. فرع: فإن تنازعا وجود قصد الدلالة به عليه، فقد روى أشهب في العتبية فيمن قال لرجل: بعني سلعتك هذه، فيقول: (نعم) بكذا، فيقول: قد أخذتها، فيقول ربها: لم أرد بيعها، إنما أردت اختيار بيعها، أنه قال: أما من وقف سعلته بالسوق يتسوق بها فذلك يلزمه، وإن لم يفترقا، وأما الذي يعلم أنه لاعب لا يريد بيعها، فلا يلزمه. وفي الكتاب من روياة ابن القاسم فيمن وقف بسلعته في السوق، فيقول له الرجل: بكم سلعتك هذه؟ فيقول: بمائة دينار فيقول: قد أخذتها، فيقول ربها: لا أبيعك وقد كان أوقفها للبيع إنه يحلف ما ساومه على إرادة البيع، وما مساومته إلا لأمر يذكره غير الإيجاب، ويكون القول قوله. وإن لم يحلف لزمه البيع. قال ابن القاسم: ((وكذلك إذا قال: بعني سلعتك بكذا، فيقول: قد بعتك فيقول الراغب: لا أرضى)). الركن الثاني: العاقد. وشرطه: التمييز، فلا ينعقد بيع غير المميز لصغر أو جنون أو إغماء، وكذلك السكران إذا كان سكره متحققاً. قال الشيخ أبو إسحاق: ويحلف بالله مع ذلك، ما عقل حين فعل، ثم لا يجوز عليه. وقال ابن نافع: ينعقد بيع السكران. والجمهور على خلافه.

قال الإمام أبو عبد الله: ((وهو بسكره يقصر ميزه في معرفة المصالح عن السفيه، والسفيه لا يلزمه بيعه، وإن كان يقام الحد عليه كما يقام على السكران)). ولا يشترط التكليف في الانعقاد، لكن يقف اللزوم عليه. أما إسلام العاقد فلا يشترط في شراء غير العبد المسلم والمصحف. ويشترط في جواز الإقدام على شرائهما. واختلف في اشتراطه في صحته. فروى ابن القاسم في الكتاب صحة شراء الذمي العبد المسلم والإجبار على بيعه، وإن لا ينفسخ. ثم قال: ((وكذا يجبر النصر على بيع المصحف، ولا يرد شراؤه على قول مالك في العبد المسلم)). قال الشيخ أبو محمد فيهما: ((وقال غيره: ينقض بيعه)). وقاله سحنون: وهو قول أكثر أصحاب مالك. وحكى الإمام أبو عبد الله رواية الفسخ أيضاً، وعزاها إلى مختصر ما ليس في المختصر للشيخ أبي إسحاق، وإلى كتاب ابن حبيب. فروع: إذا اشترى المسلم عبداً نصرانياً من نصراني، فأسلم في يد المسلم ثم اطلع على عيب فيه يقتضي الرد فهل له رده، أو يتعين الرجوع إلى الأرش؟ قولان لابن القاسم وأشهب. وخرج الإمام أبو عبد الله هذا الخلاف على الخلاف في الرد بالعيب: هل هو نقض للبيع من أصله، أو هو كابتداء بيع؟ ثم إذا رده على قول ابن القاسم أجبر النصراني على إزالة ملكه عنه، وطولب ببيعه من مسلم، كما إذا كان إسلامه في يد النصراني، فإنه يجبر على إزالة ملكه عنه، ويطالب ببيعه من مسلم، فإن أزال أحدهما الملك بالعتق كفى. وكذلك إن تصدق به على مسلم، أو وهبه منه. وحكى الإمام أبو عبد الله خلافاً بين المتأخرين في المرأة الذمية يسلم عبدها، فتهبه

لولدها الصغير من زوجها المسلم: هل يكتفي بذلك منها أم لا؟ ثم بنى اختلافهم في ذلك على الخلاف في من ملك أن يملك هل يعد مالكاً أم لا؟ ولا يكفي الرهن بل يباع بعد الرهن ويعجل الدين، إلا أن يأتي برهن ثقة. وقال سحنون: يعجل ثمنه للمرتهن، وإن أتى برهن آخر. قال أبو الحسن اللخمي: ((وقول ابن القاسم أحسن)) يعني الأول. ثم حيث أمرناه بإزالة الملك، فمات قبل إزالته انتقل الحكم إلى الوارث، وأمر بإزالة ملكه عنه كموروثه، ولا يؤخر المأمور منهما إلا بحسب الإمكان. قال الإمام أبو عبد الله: ((ويبقى النظر في أنه هل يجوز أن (يبيعه) على أن الخيار له أياماً أم لا؟)). ثم قال: ((وهذا مما ينظر فيه)). ولو باع النصراني عبده النصراني على الخيار أياماً، فأسلم العبد، فإنه إن كان الخيار للمشتري وهو نصراني استعجل استعلام ما عنده من رد أو إمضاء ولم (نمهله) إلى تمام مدة الخيار، لئلا يدوم ملك الكافر على المسلم. وإن كان المشتري مسلماً فظاهر الكتاب أنه يمهل إلى أن تمضي أيام الخيار. ولو كان العبد نصرانياً والمشتري كذلك، فأسلم العبد والخيار للبائع وهو مسلم فهل يجوز للبائع المسلم إمضاء البيع للنصراني أم لا؟ قال الإمام أبو عبد الله: ((هذا قد يجري على القولين في بيع الخيار إذا أمضي هل يقدر أنه إنما عقد من حين إمضائه فيقتضي هذا منع المسلم البالغ من إمضاء البيع، أو يقدر البيع كأنه لم يزل ماضياً من حين العقد، فيكون لهذا إمضاؤه، ولا يكون كمبتدأ بيع مسلم من كافر إذا عقد البيع في حال يجوز فيه العقد. وزمن العقد هو المعتبر على هذا القول، لأنه من إمضاء الخيار)). هذا حكم شراء الذمي للعبد المسلم وما اتصل به. فأما شراؤه للعبد الذي ليس بمسلم، فيختلف حكمه باختلاف صوره، وهي ثلاث: الأولى: أن يشتري بالغاً على دينه، فلا يمنع من شرائه إذا كان يسكن به بلد المسلمين،

ولا يباع لمن يخرج به عن (بلاد) المسلمين، لما يخشى من إطلاعه أهل الحرب على عورة المسلمين. الصورة الثانية: أن يكون هذا العبد صغيراً، ففي الكتاب وغيره: منعه لما يرجى من إسلامه، وسرعة إجابته إذا دعي إلى الإسلام، لكونه لم يرسخ في نفسه الكفر، بخلاف الكبير. قال في العتبية: (فإن بيع منه فسخ البيع)). وقال محمد: لا يمنع من شرائه، لأنا لسنا على يقين من إسلامه إذا اشتراه مسلم)). الصورة الثالثة: أن يكون العبد بالغاً على غير دين مشتريه، وفيها مسألتان: الأولى: أن يكونا كتابين، كيهودي يباع من نصراني، أو نصراني بياع من يهودي، فقال (ابن وهب) وسحنون بالمنع من شرائه (له) لما بينهما من العداوة والبغضاء فيكون إضراراً بالمملوك وإيجاداً للسبيل على أذيته. وقال محمد: لا يمنع لأنه ليس المنع لحق الله سبحانه، بل لمحض حق العبد، إذ لو رضي بذلك لجاز، ويمكن تدارك حقه بالمنع من أذيته دون فسخ البيع. المسألة الثانية: أن يكون العبد من المجوس أو الصقالبة أو السودان فأراد الكتابي شراءه،

فحكى الإمام أبو عبد الله في ذلك ثلاثة مذاهب. الأول: الجواز مطلقاً قال: ((وهو ظاهر الكتاب إذ قال فيه: ما علمته حراماً، وغيره أحسن منه)). قال: ((وأطلق الجواب في الصغير منهم والكبير)). الثاني: المنع مطلقاً في الصغير والكبير، وعزاه إلى ابن عبد الحكم. الثالث: التفرقة بينهما، فيمنع في الصغير ويجوز في الكبير وأسنده إلى العتبية. ثم قال: ((وقال فيها: فإن اشترى الصغير فسخ البيع))، قال: ((واشترط فيها في فسخ البيع أن لا يكون الصغير قد دان بدين)). ثم خرج الإمام الخلاف في منع بيعهم من النصارى واليهود على الخلاف في إجبارهم على الإسلام إذا سبيناهم، (ثم) حكى أن ظاهر المذهب على ثلاثة أقوال، (يفرق) في الثالث، فيجبر الصغير دون الكبير. الركن الثالث: المعقود عليه. ويشترط فيه أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، معلوماً، واختلف في اشتراط كونه مملوكاً للعاقد أو لمن عقد له. الأول: الطهارة: والمذهب أن الأعيان النجسة لا يصح بيعها، إلا أن في بعضها خلافاً يتبين بذكر آحاد الصور: فمنها العذرة والزبل، وقد روى ابن القاسم في الكتاب المنع من بيع العذرة، وخرج (عليها) بيع زبل الدواب، ورأى هو في نفسه أن لا بأ بيع الزبل، فأخذ أبو الحسن

اللخمي من قوله هذا أنه يرى جواز بيع العذرة. وقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العذرة، لأن ذلك من منافع الناس. وقال أشهب في الزبل: ((المشتري أعذر فيه من البائع يقول في اشترائه)). وقال ابن عبد الحكم: لم يعذر الله سبحانه أحداً منهما وهما سيان في الإثم. ومنها الزيت النجس. فقال ابن حبيب: لا يباع الزيت النجس. قال: وعلى ذلك مالك وأصحابه إلا ابن وهب فإنه أجاز بيعه إذا بين. قال الإمام أبو عبد الله: وشرط غير ابن وهب أن لا يباع من مسلم. واختلف في جواز الاستصباح به، فقال مالك: ((يجوز في غير المساجد للمتحفظ من نجاسته، ويعمل منه الصابون)). وقال عبد الملك: لا ينتفع به في شيء أصلاً، ولو طرحه في الكرياس يريد الانتفاع به لكرهته. ونحوه قال يحيى بن عمر. واختلف أيضاً هل يطهر بالغسل أم لا؟. فروى ابن نافع أنه يطهر. وروى ابن القاسم في الواضحة والمستخرجة نحوه. وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن فرغ عشر جرار سمن في زقاق ثم وجد في جرة منها فأرة ديابسة، ولا يدري في أي الزقاق فرغها: إنه يحرم أكل جميع الزقاق، وبيعها. قال: الأستاذ

أبو بكر: وظاهر هذا يقتضي أن لا يغسل. قال: فيصير في الغسل قولان، يعني لمالك وابن القاسم. وعلى ذكره خلاف ابن القاسم لمالك مسألة وقعت في المستخرجة. وروى عيسى عن ابن القاسم في اللحم يطبخ في الماء النجس قال: ((يغسل اللحم ويؤكل)). وروى أشهب عن مالك: ((لا يؤكل)). ومنها: عظام الميتة. وفي الكتاب من رواية ابن القاسم: ((لا أرى أن تشتري عظام الميتة ولا تباع، ولا أنياب الفيل، ولا يتجر فيها، ولا يتمشط بأمشاطها، ولا يدهن بمداهنها))، وعلل بنجاستها. فقال: ((وكيف يجعل الدهن في الميتة، ويمشط لحيته بعظام الميتة، وهي مبلولة؟)). وأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل مطلقاً. وأجازه ابن وهب وأصبغ، إذا أغليت. ومنها بيع جلود الميتة. وروى ابن القاسم في الكتاب أيضاً المنع من بيعه اوإن دبغت. ورأى الإمام أبو عبد الله أن هذا القول هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ. قال: وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة فإنا نجيز بيعها لإباحة جملة منافعها. ولنقتصر على هذا القدر في هذا الشرط. الشرط الثاني: أن يكون المبيع منتفعاً به فلا يصح بيع ما لا منفعة فيه، لأنه من أكل المال بالباطل، بل لا يصح تملكه. وفي معناه ما كانت فيه منافع، إلا أنها كلها محرمة، إذ لا فرق بين المعدوم حساً والممنوع شرعاً. فأما ما تنوعت منافعه إلى محلله ومحرمه، فإن كانت المنافع المقصودة من العين في أحد النوعين خاصة، كان الاعتبار بها (الحكم) تابعاً لها، فاعتبر نوعها وصار الآخر كالمعدوم. وإن توزعت في النوعين لم يصح البيع، (لأن ما) يقابل ما حرم منها من أكل المال بالباطل، وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولاً. وهذا التعليل يطرد في كون

المحرم منفعة واحدة مقصودة، كما يطرد في كون المنافع بأسرها محرمة. وهذا النوع وإن امتنع بيعه لما ذكرناه من الوجهين، فملكه صحيح لينتفع مالكه بما فيه من منفعة مباحة. فرع: لو تحقق وجود منفعة محرمة، ووقع الالتباس في كونها مقصودة، فمن الأصحاب من يقف في حكم جواز البيع، ومنهم من يكره ولا يمنع ولا يحرم. ويكفي من أمثلة هذا الأصل على اتساعها مسألة بيع كلب الصيد، فإذا بني الخلاف فيها على هذا الأصل، قيل: في الكلب من المنافع كذا وكذا، وعددت جملة منافعه، ثم نظر فيها. فمن رأى أن جملتها محرمة، منع ومن رأى جميعها محللة أجاز. ومن رآها متنوعة نظر: هل المقصود المحلل أو المحرم، ثم جعل الحكم للمقصود. ومن رأى أن منفعة واحدة منها محرمة وهي مقصودة منع أيضاً على ما تبين. ومن التبس عليه كونها مقصودة وقف أو كره كما تقدم. ثم إذا (تقرر) اشتراط المنفعة فيكفي مجرد وجودها وإن قلت، ولا يشترط كثرة القيمة فيها ولا عزة الوجود، بل يصح [بيع] الماء والتراب والحجارة لتحقق المنفعة وإن كثر وجودها وقلت قيمتها. ويجوز بيع لبن الآدميات، لأنه طاهر منتفع به. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وأجاز الأصحاب بيع السباع لأخذ جلودها)). ثم قال: ((وهو إما بناء على القول بالكراهة فيها فتطهر جلودها بالذكاة، إما لأن الدباغ يبيح استعمالها)). وقال ابن حبيب: بيع جلود السباع والصلاة عليها حرام. الشرط الثالث: أن يكون مقدوراً على تسليمه فلا يصح بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والأجنة والآبق والشارد والمغضوب، إلا أن يباع الآبق والشارد ممن [قد] وجدهما وحصلا تحت قبضته، والمغضوب من غاصبه ولم تبعد غيبة هذه عن مالكها، أو ثبت عنده بقاؤها على صفاتها، أو عرف ما انتقلت إليه، فيصح حينئذ بيعه لها. ولا يجوز شراء الإبل المهملة في الرعي وإن رآها المبتاع، لأنه لا يدري متى تؤخذ وهي تستصعب. قال ابن القاسم: وأخذها خطر. وكذلك المهاري والفلا الصعاب بالبراءة، وهي كبيع الآبق. وفي العتبية من رواية أصبغ عن ابن القاسم: ((أنه لا يجوز بيع الصعاب من الإبل وما لا

يؤخذ إلا (بالأوهاق) ولا يعرف ما فيها من العيوب، وربما عطبت في أخذها)). قال ابن حبيب: بيعت بالبراءة أو بغير البراءة. وفروع: هذا الشرط كثيرة، إلا أن الضابط لها أن كل ما عجز عن تسليمه حساً فلا يصح بيعه، فأما ما عجز عن تسليمه شرعاً لحق آدمي، فيصح البيع فيه، لكن يقف اللزوم على اختيار من تعلق حقه به، كالمرهون فإنه يصبح بيعه، ويقف اللزوم فيه على إجازة المرتهن إذ الحق له. فيكون اشتراطه في اللزوم لا في الصحة، إذ هي حاصلة بدونه. وكذلك العبد الجاني إذا تعلق برقبته أرش الجناية ثم باعه سيده بعد علمه صح البيع أيضاً، ووقف اللزوم، فإن دفع الأرش لأهل الجناية لزم البيع إن كان أعلم المبتاع بجنايته، وإن أبي أن يغرم الأرش أحلف ما أراد حمل الجناية، فإن حلف فالخيار لأهل الجناية في إمضاء البيع وأخذ الثمن أو في فسخه وأخذ العبد لهم. قال غير ابن القاسم: إلا أن يشاء المبتاع دفع الأرش إليهم فذلك له، ويرجع بالأقل من الأرش أو الثمن. قال ابن القاسم: ((ولو فداه البائع فللمبتاع رده بهذا العيب إلا أن يكون بينه له البائع)). قال غيره: ((هذا في العمد، فأما الخطأ فلا، وهو كعيب ذهب)). فروع جرى ذكرها في الكتاب تناسب ما نحن فيه فمنها أنه أجاز بيع عمود عليه بناء للبائع. قال الإمام أبو عبد الله: والذي ذكره من جواز هذا يفتقر إلى شرطين: أحدهما: أن يكون هذا البيع لا يتضمن إضاعة مال وفساده، مثل أن يكون البناء الذي على العمود كبيراً مقداره كثيراً ثمنه، بحيث يعلم أن هدمه وإفساده لأخذ ما يتعوضه في العمود من ثمن نزر لا يفعله إلا السفهاء ومن لا ميز له ولا يحسن تدبير المال. والشرط الثاني: أن يكون يؤمن على العمود إذا قلع ونقل من مكانه من فساده وكسره، فإنه إذا لم يؤمن ذلك عليه صارت المعاوضة على ذلك غرراً، إذ لا يعلم المشتري هل

يحصل له ذلك أم لا، وعلى أي صفة يحصل. واعتبار هذا الشرط لإمكان التسليم حساً، واعتبار الشرط الأول يرجع إلى إمكان التسليم شرعاً لما فيه من إتلاف المال. وأجاز أيضاً أن يشتري هواء فوق هواء، ويلزم (الأسفل) بالبناء ليتوصل صاحب الأعلى إلى بناء ملكه. قال الإمام: ويحتاج إلى معرفة صفة هذا البناء في القوة والضعف لينتفي بذلك الغرر. وأجاز أيضاً شراء غرر جذوع في حائط. قال الإمام: وذلك ينقسم إلى ما تذكر فيه مدة فيكون حكمه حكم الإجارة فينفسخ العقد بانهدام الجدار، وإلى ما لا تعين فيه مدة. بل يجعل على التأبيد، فيكون كالمضمون، فإن انهدم الحائط لزمه أن يعيده، ليغرز صاحب الخشب خشبه فيه. كما أن على صاحب السفل إذا انهدم أن يبنيه ليحمل صاحب العلو عليه علوه، فبناء الحائط هو تمكينه من التسلم. وكذلك بناء الهواء الأسفل. الشرط الرابع: أن يكون البيع معلوماً للمتعاقدين، ثم يتعلق العلم بعين المبيع وقدره وصفته. أما العين فالجهل بها مبطل، (ونعني) به: أنه، إذا قال: بعت منك عبداً من عبيدي أو شاة من هذا القطيع بطل. وأما إذا قال: بعت منك صاعاً من هذه الصبرة، فإن البيع يصح إذ أجزأه الصبرة متساوية، وليس المقصود من الحبوب أعيان آحادها. ويستوي في ذلك كون الصبرة معلومة الصيعان أو مجهولتها. وأما القدر، فالجهل به فيما في الذمة ثمناً كان أو مثموناً مبطل إذا جهل جملة وتفصيلاً كقوله: بعت (بزنة) هذه الصنجة وهي مجهولة الوزن.

وإن علمت جملة الثمن وجهل تفصيله، ففي الكتاب في صحة هذا البيع: قولان. ومثاله أن يشتري عبدين لرجلين في صفقة واحدة بثمن واحد، ولم يعين ما لكل واحد منهما منه، فلا يصح في أشهر قولي ابن القاسم لجهالة الثمن المختص بعبد كل واحد منهما عنده. ورأى في قوله الآخر، وهو قول أشهب وسحنون، صحة البيع فيهما لأن كل واحد منهما يحدس قدر ثمن سلعته، فلا يكون التفاوت إلا يسيراً مما لا يفسد البيع، بل يقع معفواً عنه. أما إذا جهلت جملة الثمن وعلم تفصيله فلا يمنع ذلك صحة البيع كما لو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، فإنه يصح وإن كانت مجهولة الصيعان، لأن تفصيل الثمن معلوم فينتفي الغرر عنه، وإن لم تعلم جملته. وإذا تعين المعقود عليه لم يشترط فيه كيل ولا وزن، بل يكفي عيان صبرة الحنطة وسائر الحبوب، وكذلك كل ما المطلوب منه مبلغه وتتساوى الأغراض في آحاده. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وعلى هذا يجوز بيع المكيلات والموزونات جزافاً)). قال: ((وأما المعدودات فإن قلت أثمانها جاز بيعها جزافاً، وإن كثرت أثمانها واختلفت آحادها اختلاف بينا كالثياب والجواهر وما في معنى ذلك لم يجز بيعها جزافاً)). قال: ((لأنها إذا طلبت آحادها وجملتها كان الغرر فيها من وجهين، فيمنع البيع لكثرة الغرر، بخلاف ما إذا كان المطلوب الجملة دون الآحاد فإن الغرر من وجه واحد، فيكون قليلاً، فلا يمنع صحة البيع)). قال: ((وأما العين فإن كان مكسوراً أو مصوعاً فهو بمنزلة العروض يرجع إلى الحصر قدمناه. وينظر هل المطلوب آحاده أو مبلغه. وإن كان مسكوكاً فها هنا جل أهل المذهب يرون أنه إذا كان التعامل فيه بالوزن جاز بيعه جزافاً، لأن المطلوب مبلغه، وإن كان التعامل فيه بالعدد لم يجز بيعه جزافاً، لأن المطلوب حينئذ آحاده ومبلغه)). قال: ((وحكى القاضي أبو الحسن الكراهية. قال: ((ولعل الغرر قل عنده لما تماثلت الآحاد)). قال: وانفرد أبو الوليد الباجي، فرأى أنه إن كان التعامل به بالعدد لم يجز الجزاف

قولاً واحداً، وإن كان التعامل به وزناً جرى على القولين، وهما على الخلاف في الدنانير والدراهم هل تتعين أو إنما تتعلق بالذمة؟ فإن قلنا: إنها تتعين، جاز بيعها جزافاً، وإن قلنا: لا تتعين، وإنما تتعلق بالذمة، فلا يجوز بيع ما يتعلق بالذمة جزافاً)). فروع: إذا اشترى (صبرة)، وتحتها دكة تمنع من تخمين القدر، فإن تبايعا على ذلك لم يصح البيع للغرر، وإن اشترى فظهرت ثبت له الخيار. ويستوي في صحة بيع المشتري جزافاً كونه ملقى بالأرض أو في ظروفه فيجوز شراء ما في الظروف جزافاً، وإن لم يعلم مبلغه إلا بالحدس. قال محمد: ولا يجوز شراء ملء الظرف الفارغ، وإن عين ما يملأ منه أو وصفه فلا يجوز. شراء ملء الغرارة الفارغة من قمح أو غيره مشاهداً كان أو موصوفاً، أو ملء قارورة من زيت أو غيره مشاهداً كان أو موصوفاً، بل لو اشترى ما في الظرف ففرغه له لم يصح أن يشتري منه ملته دفعة أخرى، وإنما يصح أن يشتري منه ما في الظرف بعد أن يملأ)). ووجه هذا أن المقصود تغير العقود. فإذا كان الظرف مملوءاً صار البيع جزافاً مرئياً (فالقصد) العقد على مرئي يحدس مبلغه. وإذا كان الظرف فارغاً فالمبيع غير مرئي والقصد العقد على مكيل بمكيال غير معلوم النسبة من المكيال المعتاد. واختلف الأصحاب إذا وقع التبايع بمكيال مجهول، هل يفسخ البيع أم لا؟. فقال أشهب: لا يفسخ، وقال غيره: يفسخ. ويشترط في بيع الجزاف مساواة المتابعين في عدم العلم، بمقدار المبيع جزافاً، فإن انفرد البائع بعلم المقدار عن المشتري فإن كان ذلك بعلم المشتري فسد العقد لأنه خطار وإن كان بغير علمه، لكن ظهر له بعد التبايع أنه كان يعلم كيل الصبرة، وكتمه عنه، ثبت للمشتري الخيار في التزام البيع ورده. وأما الصفة فلا تشترط معرفتها بالعيان، بل يقوم استقصاء الوصف مقامه على تفصيل نبيه، وهو أن العين الغائبة إن كانت بعيدة جداً كإفريقية من خراسان شوبه ذلك، لم يصح بيعها على الصفة بوجه لكثرة الخطر والغرر فيه، كذلك إن كانت قريبة جداً مع إمكان الاطلاع عليها من غير مشقة، ولا فائدة في بيعها على الصفة، (فإن المعروف من المذهب أنه لا يجوز بيعها

على الصفة)، لأنه عدول عن المعاينة إلى الخبر من غير مقتض لذلك، فيلحق بالمخاطرة والتغرير. فإن كان في رؤيتها كلفة ومشقة جاز بيعها على المشهور من المذهب. ونزل الأصحاب ما وقع في الكتاب من تجويز العقد بالسوق على سلعة في البيت على ما إذا كان في رؤيتها مشقة وكلفة. وأجازوا في المشهور أيضاً بيع ما كان على مسافة يوم، وبيع ما في الأعدال على البرنامج، وبيع الساج المدرج في جرابه لمشقة الحل والنشر. وروي في كتاب محمد المنع من العقد بالسوق على سلعة في البيت. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا تباع سلعة حاضرة ولا غائبة على مسيرة يوم على الصفة، ولا على البرنامج. وقال ابن حبيب: يجوز بيع الأعدال على البرنامج، ولا يجوز بيع الساج مدرجاً في جرابه. وفي المبسوط قال مالك في الساج المدرج في جرابه والثوب القبطي المدرج في طيه: لا يجوز بيعهما حتى ينشرا، وينظر إلى ما في أجوافهما، وقال: إن بيعهما من الغرر، وهو من الملامسة. قال مالك: ((بيع الأعدال على البرنامج مخالف لبيع الساج في جرابه، والثوب في طيه، وما أشبه ذلك. فرق بين ذلك الأمر المعمول به، ومعرفة ذلك في صدور الناس، وما مضى من عمل الماضين فيه، وأنه لم يزل من بيوع الناس (الجائزة) بينهم التي لا يروزن بها بأساً بيع الأعدال على البرنامج ولا ينشرونها، لأن ذلك لا يراد به الغرر، وليس يشبه الملامسة)). قال الشيخ أبو الطاهر: وسبب الخلاف النظر إلى (أن) اشتراط الرؤية في هذه المواضع المختلف فيها، هل فيه مشقة أم لا؟ قال: وهو خلاف في حال، فإن اقتضت ضرورة أو حاجة بيعه على الصفة جاز، وإلا لم يجز. هذا حكم طرفي البعد والقرب. فأما ما قصر على البعيد وارتفع عن القريب فكان بين ذلك، فجائز بيعه على الصفة أو الرؤية المتقدمة.

ووقع في الكتاب ما يقتضي جواز العقد على السلعة الغائبة من غير رؤية ولا صفة، ولكنه اشترط خيار الرؤية. وذهب القاضيان أبو الحسن وأبو محمد إلى منع هذا العقد. وأنكره أيضاً الشيخ أبو بكر، وقال: ((إنه خلاف الأصول)). فأما البيع على الصفة فتشترط في صحته شروط تتبين برسم فروع متتالية، وهي: حيث قلنا بجواز البيع على الصفة فيجب أن نذكر الصفات المقصودة التي تختلف الأغراض بسببها والأثمان باختلافها. إذ لا يرفع الغرر إلا ذكرها. ثم إذا ذكرت ففي كتاب محمد والعتبية أن الشرط في الصفة أن يصف غير البائع لأنه قد لا يوثق بصفته إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لينفق سلعته. قال أبو الحسن اللخمي: ويكون المشتري ممن يعرف ما وصف له. ثم إذا وافق المبيع الصفة فلا خيار لأحدهما، فإن اختلفا في الصفة التي وقع العقد عليها فالقول قول المشتري، وإن اتفقا في الصفة واختلفا في كون المبيع عليها رجع في ذلك إلى أهل المعرفة. ويصح بيع الأعمى وشراؤه لضرورة التعامل، ويعتمد على الصفة سواء طرأ عليه العمى أو ولد أعمى. وقال أبو جعفر الأبهري: لا يصح بيع من ولد أعمى ولا شراؤه، لأنه لا يقف على حقائق المدرك بمجرد الوصف. وأما البيع على رؤية متقدمة فيشترط في صحته أن لا تطول مدة الرؤية طولاً يتوقع (فيه)؟ تغير المبيع عادة. فرع: لو تبايعا على رؤية سابقة من مدة غير طويلة، ثم تنازعا في كون المبيع باقياً على الصورة المرئية، ففي الرجوع إلى قول البائع أو المبتاع قولان لابن القاسم وأشهب. وخرج الشيخ أبو الطاهر خلافهما على الخلاف في تبعيض الدعوى. ثم في معنى رؤية المبيع سابقة على عقد البيع أو مقارنة له رؤية بعضه إذا دل على الباقي لكونه من جنسه أو كان صواناً له خلقة كقشر الرمان والبيض وشبهه.

فروع: الأول: في ضمان الغائب. والظاهر من المذهب (أن) ضمان المبيع الغائب من بائعه إلا أن يشترطه على المشتري. وروي أنه من المشتري إذا أدركته الصفقة سالماً. وروي أن الضمان من البائع إلا في الديار والعقار. وقال ابن حبيب: الديار والعقار من المشتري، وما كان سوى ذلك قريب الغيبة يجوز اشتراط النقد فيه، فمصيبته من البائع. وما كان بعيد الغيبة لا يجوز النقد فيه، فمصيبته من المشتري. الفرع الثاني: وهو مرتب: حيث قلنا: إن الضمان من المشتري، فتلفت السلعة فتنازعا في سلامتها حين العقد ففي تعيين المدعي منهما قولان لتعارض [أصلي] السلامة والضمان. الفرع الثالث: في النقد: ويجوز النقد في بيع الغائب من غير شرط، (فإذا) كان بشرط فسد العقد، لأنه (خطار)، ويؤدي إلى أن يكون المنقود تارة سلفاً وتارة ثمناً، إلا فيما قربت غيبته من غير الحيوان للأمن من ذلك فيه غالباً، وكذلك في المأمون كالعقار ونحوه، وإن بعدت غيبته عند ابن القاسم. وسوى أشهب بين العقار وغيره، فمنع النقد في ما بعدت غيبته من جميع ذلك، وأما ما قربت غيبته من الحيوان فقيل: يجوز النقد فيه كغيره مما قربت فيبته، وقيل: لا يجوز ذلك فيه لسرعة تغيره بخلاف غيره. فرع: حيث اعتبرنا: قرب المادة وبعدها، فاختلف في تحديد القرب فيها على خمسة أقوال: اليوم - واليومان - ونصف اليوم - والبريد - والبريدان.

الباب الثاني: في الفساد بجهة الربا

الشرط الخامس: وهو المختلف في حكمه. كون المبيع مملوكاً للعاقد أو لمن عقد له. ومقتضى ما حكاه الشيخ أبو إسحاق أنه من شروط الصحة أيضاً كالتي تقدمت عليه، إذ حكى رواية بأن من باع ملك الغير من غير إذن لم يصح بيعه، وإن أجازه المالك. وأما على المشهور من المذهب أن البيع يصح ويقف اللزوم على إجازة المالك، فهو شرط في اللزوم والانبرام لا في الصحة والانعقاد. فرع: إذا باع الغاصب المغصوب فلم يجز المالك، لكن باعه من الغاصب، لم يكن للغاصب نقض البيع الذي باعه أولاً لأنه كمن عمل في إمضاء ما عقد فليس له أن يتسبب في نقضه، بخلاف المودع يتعدى على الوديعة فيبيعها ثم يرثها، فإن له نقض البيع إذ لا تسبب له في الميراث. الباب الثاني: في الفساد بجهة الربا قال رسول الله: الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والثمر بالثمر مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. (بيعوا) الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، (وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد). ومقتضى هذا الحديث أن من باع شيئاً من هذه الأعيان الستة بجنسه، فليرع المماثلة فيه بالمعيار الشرعي أو العادي إن لم يكن، والحلول أعني ضد النسيئة، والتقابض، فلا يتأخر القبض عن العقد، ولا يقبل في ذلك حوالة ولا حمالة ولا نظرة، بل لو طال بينهما المجلس من غير قبض لبطل لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء، يداً بيد)). فإن باعه بغير جنسه سقطت رعاية المماثلة في القدر. ثم في معنى الأعيان المنصوص عليها ما شاركها في المقتضى لحكمها. وقد اتفق أهل المذهب على اتحاد المقتضى في النقدين دون تحقيقه، واختلفوا في اتحاده في الأعيان الأربعة وفي تعيينه على ما سنبينه إن شاء الله [تعالى]. وقد اشتمل الحديث على بيان جنسي الربا، أعني ربا النسيئة وربا التفاضل في الأعيان

الستة، واندرج تحتها ما في معناها. ولنفرد كل جنس بالكلام عليه. أما الجنس الأول: وهو ربا النساء فعلة تحريمه ووجوب التقابض الطعم، فتطلب المناجزة في كل ما ينطلق عليه إسم طعام، ربوياً كان أو غير ربوي. ويدخل في ذلك رطب الفواكه والخضر والبقول. وإذا تقرر تعلق الحكم بالطعام لم يعم سائر ما يتطعم غذاء كان أو دواء، بل يخص منه الغذاء دون الدواء. وقد انقسم ما يتطعم بالإضافة إلى هذا الحكم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما اتفق على أنه طعام يجري فيه هذا الحكم كالذي ذكرناه من الفواكه والخضر والبقول والزرارع التي تؤكل غذاء، أو يعتصر منها ما يتغدى به من الزيت كحب القرطم وزريعة الفجل الحمراء، وما أشبه ذلك. والثاني: ما اتفق على أنه ليس بغذاء، بل هو دواء وذلك كالصبر والزعفران والشاهترج وما (يشبهها). والثالث: ما اختلف فيه للاختلاف في أحواله وعادات الناس فيه، فمنه الطلع والبلح الصغير، ومنه التوابل كالفلفل والكزبرة، وما في معناهما من الكمونين والرازيانج والأنيسون، ففي إلحاق كل واحد منهما بالطعام قولان، سببهما ما تقدم ذكره. ومنها الحلبة، وفي إلحاقها بالطعام ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فتلتحق به الخضراء دون اليابسة. ورأى بعض المتأخرين هذا التفصيل تفسيراً، وأن المذهب على قول واحد في إلحاق الخضراء بالطعام واليابسة بالدواء. ومنها الماء العذب، قيل بإلحاقه بالطعام لما كان مكما يتطعم وبه قوام الأجسام والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى القوت. وقيل بمنع إلحاقه به، لأنه مشروب وليس بمطعوم. وأما الجنس الثاني، وهو ربا الفضل، فالكلام عليه يتنوع إلى الكلام في النقدين وفي الأطعمة. النوع الأول: (في) بيان حكم الربا في النقدين، وهو: باب الصرف. والعلة في تحريم الربا في النقدين الثمينة.

وهل المعتبر في ذلك كونهما ثمينين في كل الأمصار، أو جلها وفي كل الأعمار، فتكون العلة بحسب ذلك قاصرة عليهما، أو المعتبر (تطلق) الثمينة، فتكون متعدية إلى غيرهما؟ في ذلك خلاف ينبني عليه الخلاف في جريان الربا في الفلوس إذا بيع بعضها ببعض أو بذهب أو بورق. ويعم جميع أنواع بيع النقد بالنقد طلب المناجزة ويخص بيع الصنف بعضه ببعض طلب المساواة والمماثلة. ولهذا انحصر مقصودنا من هذا الباب في ثلاثة أركان: الأول: في تحصيل المناجزة وذكر ما ينافيها. والثاني: في تحصيل المماثلة وما تصح به والاحتراز من فسادها. والثالث: النظر في خواص كل واحد من المبادلة والمراطلة وما يتعلق بذلك من أحكام الاقتضاء. الركن الأول: في أحكام المناجزة. وتنحصر في ثلاثة فصول: الأول: فيما يجري مجرى المقدمات، وينحصر في ثلاثة مسائل: الأولى: حكم المواعدة. وفيه ثلاثة أقوال: المنع والجواز والكراهة. فالمنع لأصبغ في كتاب أبي زيد. قال: ويفسخ إن وقع، وقاسه على المواعدة (في العدة). والجواز لابن نافع في السليمانية قال: وما سمعت أن أحداً كرهه، وقطع افلحاق بأن المنع ثم خشية إتمام العقد وهو المطلوب ها هنا. والكراهة لمالك وابن القاسم. وهو قول من أجاز، وراعى الخلاف). وحكى أبو محمد عبد الحق أن الكراهة للنهي عن اختلاف الوعد، فكأنها لهذا تشبه العقد، وأما (التعريض) فلا يمتنع. (المسألة) الثانية: الخيار. وفيه قولان: المشهور منعه. وحكى القاضي أبو الوليد وغيره جوازه.

وحكى الشيخ أبو إسحاق في زاهيه روايتين، وهما على الخلاف في حقيقة بيع الخيار، وهل ملك مستثنيه حل العقد فيكون عقداً متراخياً، أو ملك إبرامه (فيكون منحلاً؟). المسألة الثالثة: الوكالة على الصرف. وهي جائزة إن تولى الوكيل العقد والقبض، وأما إن تولى أحدهما خاصة. فأما القبض فإن غاب الموكل حين القبض فسد الصرف، وإن كان بحضرة الموكل صح. وقد روي المنع مطلقاً. وحمله القاضي أبو الوليد على إطلاقه وجعل المذهب على قولين في اشتراط قبض الموكل بنفسه في صحة الصرف. وأما العقد فحكم الوكيل فيه حكم الموكل في المسألة الأولى. الفصل الثاني: فيما يجري مجرى (الصورة) وله حالتان: حالة كمال، وحالة إجزاء. فحالة الكمال أن يبرز النقدين ويتناجزا سريعاً. وحالة الإجزاء أن يكون النقدان أو أحدهما في كم المصرف أو تابوته الحاضر ويتناجزا. فإن كان النقدان أو أحدهما غائباً يؤتى به من موضعه بطل الإجزاء. واختلف في ست مسائل: الأولى: صرف ما في الذمة. فالمشهور صحته إن كان حالاً. وحكى المتأخرون عن أشهب الإبطال، وأحالوه على المولدات. ولو تصارفا على ما في ذمة كل واحد منهما وقد حلا، جرى على القولين أيضاً. وإن كان مؤجلاً فالمشهور منعه، وأجازه القاضي أبو إسحاق. قال بعض المتأخرين: وهذا هو الأقيس. وإنما (قدر) في المشهور أن المعجل مسلف، (فإن) حل الأجل قبض من نفسه،

وهو بناء على تقدير الممنوع كوجوده. قال: وعلى هذا الأصل بناء كثير من (بيوعات) الآجال. الثانية: الصرف على الذمة. ومثاله: أن يعقد صرفاً ثم يتسلف ما عقد عليه، ولا شك في منعه إن طال. وإن قرب، فإن تسلفا جميعاً منع، وإن تسلف أحدهما فقولان، صحح ابن القاسم، وأبطل أشهب قياساً على تسلفهما، وفرق للتصحيح بأنه مبني على علم أحد المتبايعين بالفساد وفيه قولان. فإذا عقد على ما ليس (عندهما)، فقد علما فيبطل، وباتهام المتسلف أن يظهر ذلك ليبطل العقد فصحح نقضاً لغرضه، وبأنه متى كان التسلف منهما طال، بخلاف ما إذا كان من أحدهما. ويخرج على هذه التعاليل أن علمهما بتسلف أحدهما يبطل على التعليل الأول قولاً واحداً، وأن المتسلف إذا علم أنه محق أن لا شيء معه بطل على التعليل الثاني، وأنهما لو تسلفا معاً وكان كقدر تسلف أحدهما لصح على مقتضى التعليل الثالث. وكذلك هو عند ابن القاسم، وهو رأي أبي الحسن اللخمي. الثالثة: صرف المغصوب. وله ثلاث صور: الأولى: أن يكون مصوغاً قائم العين. فالمنصوص أنه لا يجوز صرفه حتى يحضر. والصورة الثانية: أن يكون مصوغاً غير قائم العين. فإن ذهبت عينه جملة فقد ضمن، وهل تضمن قيمته أو وزنه؟ قولان. التفريع: إن قلنا بضمان القيمة صرفت قيمته، وهذا هو المشهور. وإن قلنا بضمان الوزن صرف وزنه، وكان في القيمة أو في الوزن صرف ما في الذمة. وإن لم تذهب عينه حتى يكون لصاحبه الخيار في الأخذ أو التضمين، فيجري صرف القيمة على الخلاف في من خير بين شيئين فاختار أحدهما، هل يعد منتقلاً من كل واحد منهما إلى الآخر فلا يجوز صرف أحدهما، أو يعد كأنه لم يستحق غير ما اختار، فيجوز له صرف القيمة، وإن أراد صرف العين فيجري على ما قدمناه إذا كانت العين قائمة. الصورة الثالثة: المسكوك، والمنصوص جواز صرفه. قال القاضي أبو الوليد: ((وهذا مبني على أن الدنانير والدراهم لا تتعين في الغصب)).

قال: ((وقد ذكر القاضي أبو الحسن أن هذه رواية عن مالك)). قال الشيخ أبو الطاهر: وإشارته إلى أن من غصب مسكوكاً فطلب ربه أخذ عينه، فأراد الغاصب أن يعطيه غيره، قال: وهذا إن كان بينهما فرق في الحل والتحريم أو الشبهة، فلصاحبه أخذ العين بلا خلاف، وإن لم يكن بينهما فرق فقولان، والمشهور أن له أخذ عين شيئه. قال: فيقال: كأن على هذا يكون المشهور منع صرف المغصوب، وإنما رأى أن ربه إذا رضي بالصرف، والأصل التعلق بالذمة، إذ لا يعرف المسكوك بعينه، فأشبه صرف ما في الذمة. المسألة الرابعة: صرف المرهون. فإن كان مصوغاً ففيه قولان: المنع حتى يحضر، والجواز نظراً إلى إمكان التعلق بالذمة. وإن كان مسكوكاً فأجيز في رواية محمد، ومنعه ابن القاسم، والجواز لإحدى علتين حصول المناجزة بالقبول، والالتفات إلى إمكان التعلق بالذمة، فأشبه المغصوب إذ هو على الضمان إن لم تقم بينة بتلفه، وقولان إن قامت. والمنع نظراً إلى الحال، وهو على ملك ربه، وإنما يقبضه لنفسه عند حضوره فأشبه صرف الغائب. الخامسة: صرف الوديعة. وفي الكتاب: ((المنع منه)). ((وروى أشهب الجواز في المسكوك منها، واختلف في تعليله على (طريقين): أحدهما أنه مبني على أن يعتقد المودع التسلف ثم يصارف، قاله القاضي أبو الوليد)). قال: ((ويجب على هذا أن لا يجوز في الحلي قولاً واحداً)). والطريق الثاني النظر إلى حصول المناجزة بكمال القول والشيء تحت يده، فعلى هذا يجري الخلاف في المصوغ. وقد ظهر تعليل المنع مما قدمناه في المرهون. فرعان: أحدهما: العارية، ((وحكمها حكم الرهن. قاله القاضي أبو الوليد)). قال بعض المتأخرين: وهو ظاهر.

الثاني: المستأجر، حكمه حكم الوديعة. المسألة السادسة: الصرف على التصديق في الوزن أو الصفة أو فيهما. والمشهور: أنه لا يجوز، وأجازه أشهب. والخلاف في ذلك مبني على الخلاف في مراعاة الطوارئ. فمن راعاها لا سيما وهي قريبة هنا منع، ومن لم يراعها ونظر إلى أن القول قول الدافع في الوزن والعدد أجاز. الفصل الثالث: فيما يجري مجرى الطوارئ وهي ثلاثة أقسام: مفارقة. ووجود نقص - واستحقاق. القسم الأول: المفارقة قبل التقابض، فإن بعدت اختياراً أبطلت، وهذا هو الحكم في طول المجلس وإن لم يفترقا كما تقدم. وإن قربت فالمشهور الإبطال أيضاً، والتصحيح في كتاب محمد. وإن كانت غلبة فقولان: الإبطال والتصحيح، وهما على الخلاف في التناجز، هل هو ركن في عقد الصرف فيبطل مع التراخي كيفما تصور، أو هو شرط فلا يبطل مع الغلبة؟. التفريع: إن قلنا بالتصحيح في غلبتهما فأحرى به في غلبة أحدهما. لأنه قد يقصد إبطال الصرف فيقابل بنقيض قصده وإن أبطلتا فقولان. والتصحيح في الصورتين هو اختيار القاضي أبي بكر. مسائل ثلاث: إحداهما: أن يعقد على جملة فيجد بعضها. فإن كان الموجود الأكثر فظاهر الكتاب إبطال الجميع، وقاله محمد وأصبغ. وحكى محمد عن ابن القاسم أنه قال: ينتقض ما يقابل المتأخر خاصة. ونزل بعض المتأخرين الخلاف على أن التناجز شرط فيبطل ما فقد فيه خاصة، أو هو ركن فإذا فقد بطل العقد جملة. وإن كان الموجود الأقل أو النصف، فقولان أيضاً: أحدهما: النقض للكل، وسواء رضي الثاني بما وجد وتأخر الباقي أو لم يرض. وهو مذهب الكتاب. وقاله محمد وأصبغ كما قدمنا. والثاني: أن النقص بين المتعاقدين. فإن رضي أحدهما بما أخرجه الثاني من البعض

وإتباع الباقي انتقض صرف المتأخر. وإن لم يرض انتقض صرف الجميع. المسألة الثانية: أن يدخلا من الأول على قبض البعض دون البعض. فأما ما يقبض فلا شك في نقضه. وأما المقبوض فيجري على القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، والمشهور نقضها، والشاذ إمضاء الحلال. ومثار الخلاف: النظر إلى انحاد العقد أو إلى اختلاف حكم المعقود عليه. المسألة الثالثة: أن يدخلا على قبض الجميع ثم يؤخران شيئاً. فإن آخرا الجل أو ماله قدر بطل الجميع على المشهور. وإن آخرا الأقل فقولان: الصحة والفساد. وقال أصبغ: لو عجز الصرف حبة فأخره بها انتقض الصرف كله. فرع: لو صارفه بشيء ثم أودعه عنده بعد القبض، فإن كان مما يعرف بعينه كالمصوغ، أو كان مطبوعاً عليه، ولو كان مما لا يعرف بعينه صح الصرف. وإن كان مما لا يعرف بعينه غير مطبوع عليه فيفسد الصرف نظراً إلى حماية الذرائع. القسم الثاني: في وجود النقص وهو نوعان: نقص في المقدار، ونقض في الصفة. أما النوع الأول: وهو النقص في المقدار. فإن قام به بطل الصرف على المنصوص. وقد تقدم الخلاف إذا قبض البعض دون البعض، فيجري عليه. وإن لم يقم به ورضيه، فإن كان كثيراً فقولان: النقض والصحة، ويتخرجان على ما تقدم. وإن كان يسيراً فقولان مرويان. والمنع مأخوذ مما تقدم. والنظر إلى اليسارة إعطاء لها حكم التبعية. والمشهور أن الأتباع لا تراعى. وإن جمعت قلت: ثلاثة أقوال: الصحة مطلقاً. والإبطال مطلقاً. والتفرقة: فإن كان النقص يسيراً صح، وإن كان كثيراً بطل. فرع: وكم مقدار اليسير؟ أما إن كان الصرف في دينار واحد فقولان: أحدهما أنه الدانق والثاني: أنه النقص الذي تختلف فيه الموازين. وإن كان الصرف في أكثر من دينار (أو) النقص في (الدراهم)، فقالوا: هو أن

تنقص المائة درهماً، وهذه شهادة باليسارة ما هي. فرع مرتب عليه: وهو: إذا قلنا بالنقض، فقال مالك وابن القاسم: ((ينتقض صرف دينار واحد)). وقال ابن القاسم أيضاً في العتبية: ((ينتقض الجميع)). وقيل: ينتقض ما قابل النقص خاصة. وقال الشيخ أبو القاسم: ((إن كان سمى لكل دينار منها ثمناً انتقض صرف دينار واحد أو دينارين (إن زاد) النقص على دينار)). وإن لم يسم لكل دينار منها ثمناً انتقض الصرف كله. وبهذا قال القاضي أبو إسحاق وابن أبي زمنين، ومن المتأخرين القاضي أبو الوليد وأبو القاسم بن محرز. قال بعض المتأخرين: فأعروا التسمية من الخلاف، وأجروه في الإجمال. هذا إذا وجد النقص بعد المفارقة أو الطول، فإن وجد بالحضرة، فإن رضي بالنقص تم الصرف، وإن لم يرض ولكن أتم ناجزاً تم أيضاً. وإن اتفقا على التمام وافترقا قبل قبضه فقال أصبغ: ينتقض الصرف كله. وقال ابن القاسم: ينتقض صرف دينار خاصة. وأما النوع الثاني، وهو النقص في الصفة، فهو أن يجد ما يرد لعينه، ولا يخلو من أن يكون مما ليس فيه من النقدين شيء كنحاس ورصاص وشبههما، أو يكون مغشوشاً. فأما الأول فاختلف المتأخرون في إلحاقه بالمغشوش أو بالنقص في المقدار على قولين. وأما المغشوش فإن رضي واحده به صح الصرف. وإن رده فهل يجوز البدل أو ينتقض الصرف؟ قولان: المشهور: النقض. وقال ابن وهب وجماعة من المتقدمين بجواز البدل. ومثار الخلاف: الاختلاف في الرد بالعيب، هل هو نقض العقد من أصله فينتقض، أو نقض له عند القيام فيصح البدل؟ فروع: إذا قلنا بالنقض، فهل يختص بغير المعين؟ وأما المعين فيجوز فيه البدل بلا

خلاف، أو يجري في المعين وغيره؟ قولان. (والأول): رأى أبي الحسن اللخمي، وأصله لأبي بكر بن عبد الرحمن، وهو مستند إلى رواية أشهب. والثاني: رأى جل المتأخرين، وأصله لأبي القاسم بن الكاتب، وهو مستند إلى رواية ابن القاسم. وقد اختلف في هذا الأصل، وهو تعين النقدين بالتعيين، وفيه ثلاثة أقوال: التعيين مطلقاً. ونفيه. والتفرقة: فيتعين إن شاء (دفعه)، ولا مشيئة لقابضه. وخرجه المتأخرون على الخلاف في شرط ما لا يفيد. قالوا: إلا أن يكون اختصاص العين بكونه حلالاً أو خاصة لا توجد في غيره، فيتعين بلا خلاف. الفرع الثاني: إذا قلنا بالبدل، وأراد أن يعطيه به سلعة أو غيرها. أو قلنا بالفسخ، وأراد تأخير ما دفع، فهل له ذلك؟ فيه خلاف جار على (احتياج) الفسخ إلى حكم أو ثبوته برد المتعاقدين. الفرع الثالث: إذا قلنا بالنقض، فهل ينقض جميع الصرف، أو صرف ما يقابل الزائف إلى كمال ديناراً وأكثر منه، أو ما يقابله خاصة، أو يكون القول الأول إن كان لم يسم لكل دينار ثمناً، أو الثاني إن كان سمى لكل دينار ثمناً على ما تقدم. فإن اختلف الدنانير نقض ما يقابل الزائف إلى كمال أقلها، فينتقض الجميع بناء على نقض العقد من أصله. والاقتصار على دينار واحد التفات إلى القول بالبدل، ونظر إلى أن النقدين لا يراد بعضها لبعض بخلاف العروض. والاقتصار على قدر الزائف بناء على القول بجواز الصرف في بعض دينار. ووجه التفرقة ظاهر، والاقتصار على الأقل لأنا لا ننقض إلا ما تدعو الحاجة إلى نقضه، وذلك يحصل بنقض الأقل. الفرع الرابع: وهو مرتب على هذا: لو كان في الدنانير كسور أنصاف، وما في معناها، فقال في الرواية: (ينقض) كسر منها إن كان الزائف يقابله فأقل.

وقال القاضي أبو الوليد: ((إن كان أقل منه فيجري على القولين في جواز كسر القطع، فمن منع جاء منه ما في الرواية، ومن أجاز قطع بقدر الزائف)). الفرع الخامس: أن يكون المختلف حلياً ويكون الزائف فيما يقابله، فإن قلنا بنقض الجميع في المسكوك فأحرى ها هنا، وإن قلنا بنقض البعض فها هنا قولان، لابن القاسم: نقض الجميع، لأن هذا مما يقصد بعضه لبعض، ونقض الواحد إلا أن يكون معه أخوة فيتبعه. وسبب القولين: النظر إلى اتحاد العقد أو إلى تعدد المبيع. الفرع السادس: إذا تساوت الدنانير وسموا لكل دينار منها مقداره من الدراهم، فرأى العراقيون أن هذه الصورة لا يختلف فيها أنه لا ينتقض الكل (بوجود) التسمية وتساوي الأغراض، فيكون بخلاف التسمية في السلع. ورأى المتأخرون من المغاربة تساوي التسمية وعدمها. قال بعضهم: وهو مقتضى الروايات. وعلله بأن المعتبر إما بالتسمية بانفرادها، وأما تساوي الأغراض، والأول باطل بالتسمية في السلع فيتعين اعتبار الثاني، ثم يلزم عليه إن يكون وجود التسمية كعدمها. الفرع السابع: إذا قام بالرد فأرضاه عنه، فقال سحنون: القيام كالرد. والمشهور: التصحيح، بخلاف الرد. والقولان على الخلاف في الملحق بالعقود هل يعد كالمقارن فيجوز، أو لا يعد كذلك فيمنع، ويصير كتأخير بعض العوض؟ الفرع الثامن: مرتبع عليه، وهو: بأي شيء تجوز المصالحة؟ وقد أجازها أشهب مطلقاً، نقداً وإلى أجل، ورأى ذلك شراء نزاع. وخص ابن القاسم الجواز بما إذا أعطاه من جنس ما دفع أولاً وعجله، وهو حكم الإلحاق بالعقد الأول. الفرع التاسع: لو قال له بعد الصرف: استرخصت فزدني، فزاده، فهل تعد الزيادة هبة محضة، أو تعد ملحقة بالأصل، فيعتبر فيها ما يجوز في الصرف؟ قولان، وهما على ما تقدم من إلحاق ما بعد العقود بها أو قطعه عنها. الفرع العاشر: وهو مرتب عليه: لو وجد في هذا المزيد زائفاً، فهل يده أم لا؟ قولان منزلان على إعطائه حكم العوض أو حكم الموهوب؟

قال بعض المتأخرين: وقد يقال: إذا أعطيناه حكم العوض فيختلف في جواز البدل أو النقض به، وهو تركيب خلاف على خلاف. قال: وهذا كله إذا وجد (الزيف) بعد المفارقة أو التراخي، فإن وجد بالحضرة صح الرضى باطراحه، وصح البدل إن تراضيا عليه، فإن لم يتراضيا وكان الصرف على غير معين أجبر من امتنع إن لم يطل. وإن كان على معين فقولان: إجبار من أبى، وهو بناء على نفي التعيين. ونفي الإجبار، وهو بناء على التعيين. القسم الثالث: في الاستحقاق. ويقع في المسكوك والمصوغ: فأما المسكوك فإن استحق بعد العقد، وكان بالحضرة لم ينتقض الصرف إلا أن يعين، فيجري على ما تقدم. وإن كان بعد المفارقة أو التراخي، فإن كان الصرف على غير معين فسخ، قاله في الكتاب. وهو بناء على أن ما بعد العقود ملحق بها. والاستحقاق يقتضي كون الصرف لم تكمل مناجزته. وقال أشهب: يأتي بالمثل، ويصح الصرف. وهو بناء على إلحاق ذلك بالمقارن، أو على أنهما كالمغلوبين على التراخي، وقد تقدم الخلاف في انتهاض الغلبة عذراً. قال أشهب: وإن كان معيناً انتقض الصرف، وهذا على أصلخ في (التعيين). وأما المصوغ فإذا استحق انتقض الصرف مع عدم التراضي وطلب المستحق أخذ عين شبيه. فإن رضي بالتمام. فإن كان المصوغ حاضراً والمتعاقدان لم يفترقا، ففيه قولان: تصحيح الرضى، قاله في الكتاب. وإبطاله. قال أشهب: هو القياس. والذي في الكتاب: استحسان عنده. وهذا الخلاف جار على تنزيل الخيار الحكمي منزلة الشرطي. فروع: أحدها: لو غاب أحد المصطرفين والمصوغ حاضر، لجرى فيه قولان: الإجازة والمنع. وعد في الأول كالمبتدي صرفاً من الحاضر، وألحق في الثاني بالموكل يغيب. الفرع الثاني: لو فات المصوغ حتى يتعلق بذمة من كان في يده، فقد قالوا: له أن يأخذ ما صرف به، لأنه يكون كالمصرف لما في ذمته. قال بعض المتأخرين: هذا ظاهر إذا قلنا بضمان المثل، قال: وإن قلنا بضمان القيمة فإن جعل ما أخذ قيمة صح.

[الفرع]: الثالث: أنه لو صرف مسكوكاً تعدياً كالغاصب والمودع، فإن صرف لنفسه فإنما عليه مثل ما تعدى فيه، (فلصاحب) الشيء تغريمه المثل. فإن تراضيا على أخذ ما صرف به صح، ويكون صرف ما في الذمة، وكأنه إنما صرف من المتعدي. وصرف لربه فإن أخبر من صرف منه بذلك، فهذا صرف فيه خيار فيجري على حكمه. وإن لم يخبره فللمستحق إجازة الصرف. هذا مقتضى الكتاب. وقال محمد: ليس له ذلك. وسبب الخلاف: هل الخيار الحكمي كالشرطي أم لا؟ وأيضاً، فمن خير بين شيئين هل يعد منتقلاً أو آخذاً ما وجب له. تكملة: إذا تقرر اشتراط المناجزة (وحكمها)، فلنكمل المقصود منها بذكر فصلين: أحدهما: في بيان ما ذكره بعض المتأخرين، في ترتيب ما تطلب فيه المناجزة. قال: أضيق العقود فيها الصرف، وفي معناه بيع أحد النقدين بمثله، ثم يليه بيع الطعام بالطعام، لأنه في الحديث مقرون بالصرف. ثم تليه الإقالة من الطعام، إذ يحذر فيها من شيئين: بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين. ثم يليها فسخ الدين في الدين، أعني المحاذرة منه، وفي معناه الإقالة من السلم في العروض. ثم يليه بيع الدين إذا كان غير طعام من أجنبي، وفيه قولان: أحدهما: أنه كابتداء الدين بالدين فيجوز فيه من التراخي ما يجوز في رأس مال السلم. والثاني: أنه كالبيع ممن هو عليه، فيكون كفسخ الدين في الدين لا يجوز فيه تراخ. ثم يليه ابتداء الدين وهو عقد السلم، وفيه قولان: المشهور جواز تأخير رأس ماله بشرط ثلاثة أيام. والشاذ منع التأخير. فإن تأخر بغير شرط ففيه تفصيل يأتي بيانه. وتوجيه القولين في موضعه من السلم. الفصل الثاني: في توقع عدم المناجزة هل يكون كتحققه أم لا؟ وهو كإضافة البيع إلى الصرف، وفيه خلاف وتفصيل يتبين برسم الفروع. وقد اختلف في ضم ستة عقود إلى البيع، وهي: الصرف، والنكاح، والجعل، والقراض، والمساقاة، والشركة. فالمشهور: منع الضم.

والشاذ جوازه، وهو قول أشهب: واستقرأه أبو الحسن اللخمي من كتاب محمد. وقد اختلف في تعليل منع ضم العقود الستة إلى البيع على طريقين: أحدهما: أن البيع يختص بأحكام تخالف ما تختص به فتنافيا. والطريق الثاني: النظر إلى كل عقد هلى انفراده، فيعلل منع الجمع بين الصرف والبيع بمحاذرة الاستحقاق، وهو ينقض الصرف كما تقدم، ولا ينقض البيع مطلقاً. وأما النكاح والبيع، فلأن البيع مبني على المشاحة ولهذا يتقدر فيه العوضان، ويمنع من الجهالة فيهما، والنكاح بخلاف ذلك، فإن الاستمتاع بالبضع غير محدود بإجماع. وأما الجعل وما ذكر بعده ففيه من الإغرار والخطار ما لا يجوز في البيع لمصالح اقتضته. وإذا فرعنا على المشهور فليس ذلك مطلقاً، بل يجوز إذا كان أحدهما يسيراً. وتفصيل ذلك يعلم من فروع: أحدها: أن يكون ذلك في دينار واحد. واختل فيه: هل يطلب أن يكون أحدهما تبعاً للآخر: الصرف أو البيع؟ (و) المشهور أن ذلك لا يعتبر ليساره الدينار، وهو اعتبار لليساره في نفسها، وقيل: يعتبر، وهو اعتبار لليسارة بالنسبة. الثاني: مرتب عليه: وهو أن اليسارة متى اعتبرت، فكم مقدارها؟ قال في كتاب محمد: الثالث فما دونه، (وهو) اعتبار اليسارة بالنسبة. وقال القاضي أبو محمد: ((الدرهم فما دونه يعجز فيدفع إليه عوضاً بقدره أو يزيد الدينار أو الدرهم، وكسرة غير جائز، فيجوز دفع قدر ذلك للضرورة)). وهذا منع الصرف والبيع إلا عند الضرورة إلى جمعها في القدر اليسير جداً. قال المتأخرون: وكذلك يجري الحكم في بلد يتعامل فيه بالرباعية كصقلية ونحوها. وكذلك حكاه القاضي أبو الوليد عن بعض فقهاء الصقليين.

الثالث: أن يكون الصرف في أكثر من دينار، فيجوز إذا كان البيع يسيراً .. وكم مقداره؟. حكى أبو القاسم بن محرز عن بعض الأشياخ أنه يعتبر الثلث فدون. وقال أبو موسى بن مناس: يعتبر في العرض أن تكون قيمته أقل من صرف دينار، كما يعتبر في الدراهم قدر ذلك). فالنظر إلى الثلث قياس على قولهم في مراعاة الثلث في الأتباع، واعتبار بعض الدينار قياس على ما لو كان البيع الأكثر والصرف الأقل، فلا خلاف ها هنا أنه لا يجوز أن يكون الصرف إلا فيما دون دينار. وينخرط في سلك البيع والصرف أن يتعاقدا على سلطة بدينار إلا درهماً أو درهمين، فإن كان الجميع نقداً، فإنه جائز إلا على ما قاله القاضي أبو محمد، فإن لم يكن ذلك نقداً، فله أربع صور: إحداها: أن يتأجل الجميع وهو ممنوع لأنه الدين بالدين. الثانية: أن تتعجل السلعة ويتأجل الدينار والدرهم. فالجمهور على جوازه، اطراحاً لحكم الصرف، فإن الدينار والدرهم لما تأجلا ظهر أنهما غير مقصودين. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يجوز. قال بعض المتأخرين: وهو القياس، لا سيما إن راعينا الأتباع في أنفسها. فرع: إذا صححنا فما الذي يقضي به عند الأجل؟ قولان للمتأخرين: أحدهما: أنه يقضي على كل واجد بإخراج ما سمى، وهو ظاهر الكتاب. والثاني: أنه يقضي على من في ذمته الدينار بدراهم، ويتقاضان. ويتخرج الخلاف على حكم جزء الدينار: هل هو ذهب أو ورق. الثالثة: أن يتعجل الدينار والدرهم وتتأجل السلعة. فالمنع في الكتاب. والجواز لأشهب. فالمنع لأن التعجيل يشعر بالقصد إلى الصرف، فإذا قصد إليه وجب إلحاق ما معه (به) في التناجز. والإجازة قياس على ما لو تأجل الدينار والدرهم ونظر إلى اليسارة، فكان الورق كالعدم. الرابعة: أن تختلف حال الدينار والدرهم بالتعجيل والتأجيل. فالمشهور: المنع.

وروى ابن عبد الحكم الجواز. (فالمنع) نظر إلى تأخير عوض الصرف. والجواز اطراح لحكمه لليسارة. فروع: أحدها: في مقدار اليسير. وقد اختلف فيه، فروى الدرهمان، وروي الثلاثة. وقال الشيخ أبو بكر: مقدار ثلث دينار. (الفرع) الثاني: أن تكون دنانير، فيستثني من كل دينار منها مقدار اليسير من الدراهم، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: منعه، ولو كان الكل نقداً، وهذا بناء على اعتبار جملة الدراهم، وهي كثيرة. والمشهور: منع الصرف، والبيع مع الكثرة. والثاني: الجواز مطلقاً، وهو إما بناءً على جواز الصرف والبيع، وإما على اعتبار كل دينار في نفسه والدرهم بالنسبة إليه يسير. والثالث: جوازه في النقد خاصة، وهو بناء على ما تقدم في القول الثاني. ثم يحاذر من التأخير تردد الأمر: هل يعتبر صرف يوم القضاء، فيؤدي إلى الجهالة بما ينوب كل درهم، وذلك كثير لكثرة الدراهم إذا جمعت، أو يعتبر صرف يوم العقد، فيستعجل تحويل الدراهم في ذهب، فيكون صرفاً مستأخراً وصرف ما في الذمة قبل حلوله؟ الفرع الثالث: أن يستثني جزء من الدينار كالسدس وما في معناه، ففيه قولان: أحدهما: أنه كاستثناء الدراهم. والثاني: الجواز مطلقاً. وهما على (خلاف) في جزء الدينار، هل يحكم له بحكم الدراهم إذ بها يقضي عند المشاحة، أو بحكم المسمى وهو ذهب، حتى يقع القضاء. الفرع الرابع: أن يجد بالدرهم المدفوع زيفاً، فهل يتفق ها هنا على البدل لليسارة، أم

يكون حكم الصرف؟ قولان: وهما على الخلاف في الأتباع: هل هي مقصودة أم لا؟ فرع: يعم حكم البيع والصرف: وهو أن تستحق السلعة أو يوجد بها عيب يقتضي الرد، فإنه ينتقض الجميع. ولهذا منع في المشهور الاجتماع كما تقدم، هذا حكم ما يمكن فيه الإفراد. فأما ما لا يمكن ذلك فيه إلا بفساده، كالمحلى المباح للاتخاذ فينظر: هل العين تبع للمضاف إليه أم لا؟. ثم هو يقع على وجهين: أحدهما: البيع بالصنف، وهو ملحق بالركن الثاني إذ المحاذرة فيه من عدم المساواة. والوجه الثاني: البيع بغير الصنف، وهو ملحق بما نحن فيه، وله صورتان: إحداهما: أن يقع نقداً فلا خلاف عندنا في جوازه، كان تبعاً أو غير تبع. والصورة الثاني: أن يكون تبعاً، فيباع إلى أجل، وفيه قولان: المنع وهو المشهور، والجواز وهو لسحنون وغيره. وهما على الخلاف في الأتباع: هل لها قسط من الثمن أم لا؟ فروع أحدها: ما هو التبع؟. ثلاثة أقوال: أحدها: الثلث. والثاني: أنه دون الثلث. وهما على ما تقدم في عد الثلث كثيراً أو يسيراً. وحكى القاضي أبو الوليد عن بعض أصحابنا العراقيين أن النصف تبع، وبالزيادة عليه يخرج عن حد التبع. الفرع الثاني: اختلف المتأخرون في اعتبار التبعية، وهي ها هنا القيمة، وقد قال المتأخرون: فيه قولان: أحدهما: اعتبار القيمة. والثاني: اعتبار الوزن. وهذا إنما يصح بالنسبة إلى قيمة المحلى، لا إلى جوهره. الفرع الثالث: إذا منعنا التأخير فوقع. فهل يفوت بالعقد أو بما يفوت به البيع الفاسد؟ قولان: وتفويته بالعقد هو قول محمد، وهو مراعاة للخلاف. وإلحاقه بالبيوع الفاسدة نفي للمراعاة. الفرع الرابع: إذا فات، فهل (يقضى) متى وجب الرد، بالقيمة أو بالمثل؟ قولان، وقد تقدما.

تنبيه: أفات في الرواية بانكسار الجفن، والجفن تبع، وأصلهم أن فوات التبغ لا يؤثر، لكن اعتذر أبو القاسم بن محرز عن ذلك بأن مراد ابن القاسم أن الجفن ملتصق بالنصل، والنصل محتاج إليه، فكان الكل في حكم الشيء الواحد. الركن الثاني: في تحصيل المماثلة، وما تصح به، والاحتراز من فسادها. ولا خلاف في اعتبارها، وقد بالغ في مراعاتها في الحديث. حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((مثلاً بمثل ووزناً بوزن ولا تشفوا بعضها على بعض)). ولهذا نجعل توهم الربا كتحققه، فلا نجيز أن يكون مع أحد النقدين أو مع كل واحد منهما غير نوعه، أو سلعة، لأن ذلك يوهم القصد إلى التفاضل، ولهذا منع الدينار والدرهم بالدينار والدرهم. فرع: فإن كان المبيع حلياً مختلطاً فله حالتان: إحداهما: أن يكون الاختلاط من النقدين، كالمختلط من ذهب وورق. إما على مذهب من أجاز ذلك في السيف والمصحف، وإما أن يكون من حلي النساء فله صورتان: إحداهما أن لا يكون أحد الصنفين تبعاً، فلا يجوز بيعه بالعين. حكى بعض المتأخرين: أنه لا يختلف المذهب في ذلك. الصورة الثانية: أن يكون أحدهما تبعاً، فلا يجوز البيع بنصف الأكثر، وهل يجوز بنصف التبع؟ في الكتاب قولان: المنع، لأن التساوي لم يحصل وإلحاقاً له بحكم المتميز. والجواز نظراً إلى أن الأتباع تعطى حكم المتبوعات. فرع ثان مرتب على ما قبله، وهو: هل تعتبر اليسارة في القيمة أو في الوزن؟ قولان: والنظر إلى القيمة لأنها المقصودة. وإلى الوزن لأنه المعتبر في جوهر النقدين. قال بعض المتأخرين: والصحيح الأول. الحالة الثانية: أن يكون الاختلاط بين أحد النقدين وبين غيرهما من السلع، كالسيف المحلى بفضة يباع بفضة. ولا يخلو أن تكون فضته تبعاً أو نصله. فإن كانت فضته تبعاً

فالمشهور أنه جائز. ومنعه محمد بن عبد الحكم. والقولان على (الخلاف) في الأتباع: هل تعطى حكم متبوعاتها أم لا؟ فروع أربعة: أحدها: إنا إذا أجزنا البيع، فهل يجوز التأجيل؟ قولان: المنع، وهو المشهور، وهو على إعطاء التبع قسطاً من الثمن. والجواز، وهو رأي سحنون، فلم يعطه قسطاً من الثمن. ثم إذا منعنا، فهل منع تحريم أو كراهة؟ قولان: وفي الكتاب: ((التحريم)). وعند محمد: الكراهة، وهو حكم بالجواز لكن راعى الخلاف. الفرع الثاني: أن يكون النصل تبعاً للحلية، فهذا لا يجوز أن يباع بنصف ما فيه. فإن بيع: فهل يفوت بما يفوت به البيع الفاسد؟ قولان: والمشهور فواته بذلك. ورأى سحنون: أنه لا يفوت بشيء، وتنقض فيه البياعات، وترد مع فوات عينه قيمة عروضه ووزن فضته. وهذا أصله في البيع الحرام المتفق على تحريمه (لأنه) لا يفوت بشيء وتنقض فيه البياعات. الفرع الثالث: أن تكون الحلية مختلطة من الذهب والفضة على الوجه المتقدم، فهذا يجري على ما تقدم في المختلط، ولا سلعة معه، وأحرى ها هنا بالمنع لزيادة السلعة إلا أن يكون جميع ذلك تبعاً للعروض، فأحرى بالجواز. الفرع الرابع: حكم الثياب تكون فيها الأعلام، وهي على قسمين: أحدهما: ما تخرج منه عين عند السبك، وهذا بمنزلة المحلى، فيجري على حكمه. والقسم الثاني: ما لا يخرج منه شيء. قال بعض المتأخرين: وهذا هو المنطار. وقد تردد أبو الحسن اللخمي في حكمه: هل يلغى لأنه لا تحصل منه عين، أو يلتفت إليه لأن المقصود الذهب. ذكر غير أبي الحسن اللخمي عن المتأخرين قولين، وسببهما ما تقدم. قال بعض المتأخرين عقيب الكلام في هذه المسألة: وقد كنت سألت بعض أشياخي عن

حكم السكة الجارية ببعض مدن إفريقية: هل تكون بمنزلة المختلط، فيختلف: هل تباع بالأقل؟ وهل ينظر إلى الوزن أو القيمة؟ قال: فكان جوابه عن هذا أنها بخلاف المختلط، لأن ذلك يقصد ذهبه وفضته جميعاً، والمسكوك إنما يقصد ذهبه لا غير. ثم قال: وهذه شهادة وأظنها لا تطرد فإن هناك ذهباً يسمى اللواتية يقصد ذهبه وفضته. قال: وأما ما لا يخرج منه شيء، فلا شك أنه كالمنطار. ولنختم هذا الركن بذكر خمس مسائل: إحداهما: هل يمنع الاختلاط بالغش من جواز بيع الشيء بصنفه؟ وفيه قولان: حكى الشيخ أبو إسحاق: المنع. قال بعض المتأخرين: ومقتضى الروايات الجواز. وسبب الخلاف: النظر إلى صورة المماثلة، والحكم للغش بأنه تبع، فيطرح، أو ينظر إلى الحاصل من المغشوش، وهو دون ما في مقابلته، فيقع التفاضل. ولا يمكن أن يقال: ينظر إلى قدر الخالص فتقع المعاملة بمثله، إذ الغش سلعة وقد لا تتحصل حقيقة الخارج، فيبطل التماثل من كل وجه. فرع: وحكم المغشوش أن يكسر متى خيف المعاملة به. وإن لم يذهب الخوف كسره، فيبالغ في إذهاب ذلك. وإن لم يحصل إلا بالسبك سبك وأخرج خالصه. المسألة الثانية: حكم المسافر يأتي إلى دار الضرب بتبر وهو مضطر إلى الرحيل وخائف من المطل. فهل يجوز أن يدفع فضة أو ذهباً ويأخذ وزن ذلك من صنفه مسكوكاً، ويدفع الأجرة؟ قولان: الجواز والمنع. وقال أشهب في كتاب محمد: قال مالك: وهذا إنما كان حين كانت الذهب لا تنقش والسكة واحدة. وأما اليوم فلا، قد صار في كل بلد سكة يضربون فيها فليعطه جعله، وليضرب له ذهبه. وقال محمد: لما اتسع الناس بالضرب وزالت الضرورة لم تجز. وينخرط في هذا السلك مسألة دار الإسقالة وهي المعاصر: يأتيها من معه زيتون، فيقدر قدر ما يخرج فيأخذه زيتاً ويعيطهم الأجرة. ومسألة السفاتج وهي سلف الخائف من غرر الطريق، يعطى بموضع ويأخذ حيث يكون متاع الآخذ، فينتفع الدافع والقابض.

ومسألة السلف طعاماً مسوساً في الشدة يأخذ جديداً عند الرخص. وفي معناه مسف الأخضر يأخذ يابساً. والكل بشرط، وفي (كل) ذلك قولان. ولا يخفى ما فيها من مخالفة الأصول وحصول الربا، ومنفعة الدافع، لكنها ضرورات. وسبب الخلاف: في جميعها القياس على الرخص، فمن قاس أجاز، لأنها بمنزلة العرايا، ومن منع لم يجز. المسألة الثالثة: هل يطلب حكم المناجزة والمماثلة بين السيد وعبده، حتى لا يجوز له أن يرابيه؟ قولان. والمشهور: المنع. وأجازه ابن وهب. وسبب الخلاف، النظر إلى الصورة، وهي معاملة، والربا محرم، أو النظر إلى قدرته على الانتزاع، فلا يعطى حكم المعاوضة. وهذا يلتفت أيضاً على من ملك أن يملك هل يعد مالكاً حقيقة أم لا؟ قال الأصحاب: إلا أن يكون على العبد دين فلا تجوز مراباته بلا خلاف، لتعلق حق من له الدين، فلا يقدر على الانتزاع. المسألة الرابعة: قال مالك في الواضحة: نهى عمر الأعاجم أن يبيعوا في أسواقنا، حتى يتفقهوا في الدين. قال مطرف وابن الماجشون: يعني من لا يعرف تحريم الربا وكراهة الصرف من غير مناجزة، والدرهم بالدرهم بالدرهم، وبيع الطعام قبل استيفائه. وشبه ذلك من كبيرات الأمور وظاهر الفقه. فأما خفيات الفقه فلم يرده. وقال ابن القاسم في الكتاب: ((إن مالكاً كره أن تكون النصارى في أسواق المسلمين لعملهم بالربا واستحلالهم له)). قال: ((وأرى أن يقاموا من الأسواق)). وقال أبو الحسن اللخمي (عقب) هذا الكلام: ((قد تغير أمر الناس اليوم، وكثر العمل بالربا من غير النصارى، وإذا كان ذلك كذلك، وكان رجلان يعملان بالربا أحدهما مسلم والآخر نصراني كان الصرف من النصراني أخف، لأنه لو أسلم لحل له ما في يديه كان ذلك عن ربا أو عن ثمن خمر ولو تاب المسلم لم يحل له إمساك ما في يديه من ذلك)). المسألة الخامسة: النظر في اختصاص المناجزة والمماثلة بالعين، وجواز التفاضل والنساء في الفلوس، أو جريان ذلك في الفلوس وتحريم التفاضل والنساء فيها أو الكراهة

للمعاملة بها دون رعاية المناجزة والمماثلة. وفي المذهب ثلاث روايات: فأما الأوليان في الجريان ونفيه، فقد تقدم ذكر سببهما في أول باب الصرف. وأما الكراهة فسببها القول بالجواز مع مراعاة الخلاف. فرع: لو كان التعامل بالفلوس ثم قطعت، فهل يقضي فيها بالمثل، أو بالقيمة؟ المشهور المعروف من المذهب: القضاء بالمثل، وإن فسدت إذا وجدت. وحكى بعض المتأخرين عن كتاب ابن سحنون القضاء بالقيمة. ورآه أبو إسحاق التونسي وغيره قياساً. وهو نظر إلى كونها عادت إلى ما لا ينتفع به إلا منفعة لا كبير فائدة فيها، وقد دخلا على المنفعة، فالعدل القضاء بالقيمة، واختلاف الأحوال كاختلاف الأعيان في هذا. ونظر في المشهور إلى الأصول، وهي تقتضي القضاء بالمثل فيما يوجد مثله. فرع مرتب عليه: قال الأصحاب: فلو انقطعت فلم توجد، فله قيمتها يوم انقطعت إذا كان الدين حالاً. وإن كان إلى أجل، فيوم حلوله أن انقطعت قبله إذا لم يتوجه قبل الحلول طلب، ولو آخره بعد الحلول كانت القيمة يوم الحلول. ورأى بعض المتأخرين أنه إنما ينبغي أن تجب القيمة ها هنا يوم القضاء لا يوم توجه الطلب. الركن الثالث: فيما يخص المراطلة والمبادلة وحكم الاقتضاء فأما المراطلة فتجوز في سائر الأصناف، وإن اختلفت أشخاصها، كما إذا كان المسكوك في مقابلة المصوغ، وأو أحدهما في مقابلة المكسور أو التبر. وهل تعتبر فيها السكة والصياغة؟ ثلاثة أقوال: * الاعتبار كما في الاقتضاء، لأنهما مقصودتان. * ونفيه، لأن المقصود تساوي الوزن، إذ هو المعتبر في الحديث. ولا تعتبر السكة ولا الصياغة، ولو اعتبرنا لكانتا كسلعتين ضمتا إلى العين فيجب المنع. وهذا لم يقله أحد. والتفرقة، فتعتبر الصياغة لأنها صناعة مقصودة، ولا تعتبر السكة لأنها علامة، وهي كالختم في العين. ثم المراطلة لا تخلو من حالتين.

إحداهما: أن تتحد أشخاصها، مثل أن يكون كل واحد من العوضين ذهباً واحداً، فهذا تجوز فيه المراطلة مطلقاً، إلا أن يكون مسكوكاً في مقابلة مصوغ، فيجري على ما تقدم من النظر إلى مراعاة السكة والصياغة أو أطراحهما، فإن راعيناهما امتنع التساوي إلا أن يكون الفضل في طرف واحد وتتساوى الكفتان، وإن لم نراع ذلك نظرنا إلى عدم الغش فأجزنا على ما تقدم. الحالة الثانية: أن تختلف أشخاص العين، فذلك في مقصودنا ثلاث صور: إحداها: أن يكون الجيد كله في جهة، فهذا تجوز فيه المراطلة قولاً واحداً. والثانية: أن يكون أحد الذهبين مثلاً أفضل من المنفرد والثاني أدنى، فهذا يمنع المراطلة قولاً واحداً، لأنه قد اغتفرت رداءة الرديء لجودة الجيد، فخرج عن باب المساواة، وقدر ذلك بأن أحدهما زاد في مراطلة الجيد ونقص من مراطلة الرديء. والصورة الثالثة: (أن يكون المنفرد مساوياً لأحد المختلطين والآخر أدون منه أو أجود، ففيه خلاف: الجواز لابن القاسم لأن الفضل في جهة واحدة. والمنع لسحنون حماية للذريعة، وتوهما لقصد الزيادة للجيد، أو النقص للرديء، ولولا قصد ذلك لم يخلط بل يراطل المخالط ويبقى المساوي لنفسه. فروع ثلاثة: أحدها: أن ما تقدم من الخلاف في مراعاة السكة والصياغة، هل يختص باتحاد العوضين أو يجري مع الاختلاط؟ قولان للمتأخرين. قال بعضهم: ((والظاهر أنه لا يجري لوجود القصد إليه، فيتفق على اعتبارهما مع الاختلاط، ويختص الخلاف بالانفراد)). الفرع الثاني: المراطلة بالمسكوك قبل أن يعلم وزنه. وللمتأخرين في ذلك قولان: المنع لأنه من باب الجزاف. والجواز لأن التساوي حاصل. وأجرى القاضي أبو الوليد هذا على الخلاف في جواز بيعها جزافاً. قال بعض المتأخرين: وقد يكون اختلاف المتأخرين في هذا مبنياً على حالين. فإن كان التعامل بها عدداً لم يجز، وإن كان وزناً جاز.

الفرع الثالث: أن يكون المتراطلان شريكين في حلي أو نقره، فيبيع أحدهما حصته بمثل وزنها من صنفها، فقولان: الجواز والمنع، وعلل المنع بأن الكسر يقتضي تحيفاً، وإن قل فلا تقع المساواة. وعلل أيضاً بأن المراطلة يطلب فيها أن يكون كل واحد من العوضين في كفه. (قال بعض المتأخرين: وعلى هذا لا يجوز أن يتراطلا بصنجة يوزن بها كل واحد من العوضين ويلزم عليه أن لا تجوز مراطلة ما في الذمة إلا أن تجعل قضاء. قال: وهذا هو مقتضى لفظ المراطلة. وهذه الصورة التي ذكرها في المراطلة بصنجة يوزن بها كل واحد من العوضين قد ذكر الإمام أبو عبد الله أنها اختيار بعض المتأخرين من شيوخه، قال الإمام: ((وهو احتياط منه على التحفظ من الربا، وحسم مادة الشكوك في التفاضل لأن الميزان قد (يكون) لا يتساوى الوزن في كفتيه جميعاً (كما يشاهد) في بعض الموازين، فبين الإمام أن اختيار هذه الصورة احتياط للتساوي، كما أن اختيار الصفة الأخرى احتياط للتناجز)). وأما المبادلة فتختص بالمسكوكين، ويطلب أيضاً فيهما التساوي، إلا أنهم أجازوا أن يبدل اليسير بأوزان منه إذا كان القصد المعروف والتعامل بالعدد. ولذلك ثلاث صور: إحداهما: أن يكون الأنقص أجود، فهذا لا يجوز قولاً واحداً لخروجه عن باب المعروف. والثانية: أن تتساوى السكتان، فيجوز قولاً واحداً أيضاً لأن الفضل في أحد الطرفين. والثالثة: أن يكون الأرجح أفضل، فقولان: الجواز لابن القاسم، وهو الأصل لأنه أبلغ في المعروف. والمنع لمالك، وعلل بوجهين: أحدهما ما قاله الشيخ أبو الحسن من أن الشرع منع جواز التفاضل بين الذهبين، فحصل الاتفاق على جواز بدل الناقص بالوازن من سكة واحدة، وبقي ما سواه على أصله. قال الإمام أبو عبد الله: وهذا يقوى على القول بمنع القياس على الرخص. الثاني ما قاله (أبو الطيب بن خلدون من أن السكك يختلف نفاتها عند الناس، فتنفق مرة سكة ومرة غيرها. فمن التفت إلى الحال أجاز، ومن التفت إلى المآل منع).

وهذا سبب منع اقتضاء السمراء من المحمولة، واقتضاء القمح من الشعير إذا كان ذلك قبل الأجل وهو من قرض. فرعان: الأول: في مقدار ما يجوز ذلك فيه في المبادلة. أما الثالثة فيجوز قولاً واحداً، كما يمنع ما فوق الستة قولاً واحداً أيضاً. وأما ما بين ذلك ففيه قولان: المنع والجواز، وهما خلاف في شهادة باليسارة. الفرع الثاني: في مقدار ما يغتفر من النقص، وأبلغ ما قيل فيه: السدس في كل دينار، وقيل: الدانقان، وهو خلاف في شهادة أيضاً. وأما الاقتضاء فنعقد له أصولاً ونذكر ألفاظاً استعملها أهل المذهب في النقدين تختلف أحكامها. فأما أصول الاقتضاء، فنقول: إن الأمة أجمعت على جواز القرض وإن كان مخالفاً للأصول في أن المقرض شيئاً لا يعلم هل يرجع إليه عين شيئه أو مثله، إلى غير ذلك من عدم التناجز، وسننبه عليه عند الكلام على أحكام القرض. والذي نذكره الآن أن القضاء لا يخلو من أن يكون قبل الأجل أو عنده، وفي معناه مع بعد الأجل. ولا يخلو من أن يكون القضاء أكثر أو أقل أو مساوياً. والكثرة لا تخلو من أن تكون في المقدار أو في الصفة. فإن قضى مساوياً أو أفضل صفة جاز مطلقاً، وإن قضى أفضل مقدار فقد اختلف المذهب في ذلك على ثلاثة أقوال: 1 - المنع، إلا في اليسير جداً، وهو مذهب الكتاب. 2 - والجواز على الإطلاق، وهو (رأي) عيسى بن دينار وابن حبيب. 3 - والجواز ما لم يكثر، وهو رأي أشهب. وسبب الخلاف: القيا سعلى الرخص إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى جملاً عن بكر. ووقع الإجماع على جواز الأفضل في الصفة. فمن استعمل القياس عليها أجاز، ومن لم يستعمله منع إلا في اليسير، لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه، والتفرقة مراعاة للخلاف. فمن قضى أقل منه قبل الأجل منع، لأنه: ضع وتعجل. ويستوي في ذلك النقص في الصفة وفي المقدار، ويجوز بعد الحلول مطلقاً. هذا حكم القرض. فإن كان العين في الذمة من بيع فهو كالقرض إلا في قضاء الأكثر مقداراً فإنه جائز مطلقاً. هذا إذا كان الفضل في إحدى الجهتين.

فإن دار من الطرفين منع قولاً واحداً، إذ خرج من باب المكارمة إلى باب المكايسة. وأما الألفاظ فهي قولهم: القائمة، وهي الدنانير التي تزيد آحادها في الوزن. وقولهم: الفرادى، وهي التي تنقص. وقولهم: المجموعة، هي المجموع من ذهوب، ومن وازن وناقص. فللقائمة فضل الوزن والعيون. وللمجموعة فضل العدد ونقض الصفة. وللفرادى نقص الوزن، وقد تكون خالصة أو دون ذلك. ومن استعمالهم أيضاً الدراهم السود، وقد جعلها في بعض الروايات أفضل من البيض، وفي بعضها بالعكس، ومنها المحمدية واليزيدية، والمحمدية أفضل. ويتم المقصود من هذا النوع بفصلين. أحدهما: في تنزيل اقتضاء بعض هذه السكك من بعض على الأصول التي تقررت، وقد منع في الكتاب اقتضاء المجموعة من القائمة والفرادى وأجاز اقتضاء القائمة منهما، وأجاز أيضاً اقتضاء الفرادى من القائمة دون المجموعة. ووجه تنزيل هذا على ما تقدم من الأصول: أن المجموعة إذا اقتضيت من القائمة قابلت فضيلتا الوزن، والجودة فضيلة العدد، وكذلك في اقتضائهما من الفرادى تقابل فضيلة الجودة فضيلة العدد. وأما اقتضاء القائمة من الفرادى، فإن فضيلة الوزن انفردت من مقابل لها. وكذلك في اقتضائهما منها. وأما اقتضاء الفرادى من المجموعة فلمقابلة فضيلة الجودة لفضيلة الوزن. وأما اقتضاء القائمة من المجموعة فكان مقتضى ما علل به منع اقتضاء المجموعة منهما من مقابلة فضيلتي الجودة والوزن لفضيلة العدد المنع، لكن ما كانت المجموعة هي الثابتة في الذمة والاعتبار فيها بالوزن سقط اعتبار العدد، فتجردت فضيلنا الجودة والوزن عن مقابل لهما، فجاز الاقتضاء. الفصل الثاني: في اعتبار السكة والصياغة في الاقتضاء وقد قال الشيخ أبو الطاهر: لا خلاف في المذهب أن السكة والصياغة معتبرتان في الاقتضاء. ثم حكى عن أبي الحسن اللخمي أنه يجري ذلك على قولين: إذ أجرى الخلاف في الاقتضاء: هل بابه باب المراطلة أم لا؟، وعول على روايات منها قولهم: إذا أسلف قائمة

بمعيار، أو باع بقائمة وزنها كذا، فإنه يجوز أن يقتضي مجموعة بمثل ذلك الوزن، وإن كانت أكثر عدداً. قال: وهذا أحد القولين أن الاقتضاء كالمراطلة. قال الشيخ أبو الطاهر: وليس كما ظنه، الأصل أن العدد إنما يعتبر إذا لم يكن التعامل بالوزن. وإن تعاملا بالوزن فالعدد مطرح. هذا تمام باب الصرف، وقد نجز بنجاز أركانه. النوع الثاني: في بيان أحكام الربا في المطعومات. والكلام فيه يتعلق بأطراف: الطرف الأول: فيما يجري فيه الربا من الأطعمة. وهو كل ما تحققت فيه علته. وقد اختلف أهل المذهب في أن الأعيان الأربعة المنصوص عليها هل تنفرد كل عين منها بعلة تختص بها، ويلحق بها ما شاركها فيها، أو تشترك كلها في علة متحدة شاملة لجميعها. فأما من قال باختصاص كل عين بعلة، فقال: علة البر الاقتيات مع التوسع، علة الشعير الاقتيات مع ضيق الحال، وعلة التمر التفكه، وفيه معنى القوت، وعلة الملح إصلاح الأقوات، وهو أيضاً كالأدام فيها، فإن الخبز واللحم إذا لم يكن فيهما ملح نافرتهما الطباع. وهذه العل الأربع لا تنفك عن الإدخار. وأما القائلون باتحاد العلة فإنهم اختلفوا في تحقيقها. فمنهم من قال: هي الاقتيات، وهو اختيار القاضي أبو إسحاق. ومنهم من قال: هي الإدخار. ومنهم من جمع بين الوصفين فاعتبر مجموعهما. قال بعض المتأخرين: وهذا هو المعول عليه في المذهب. وأضاف القاضيان أبو الحسن وأبو محمد إليهما وصفاً ثالثاً، وهو كونه متخذاً للعيش غالباً. وأنكر أبو الحسن اللخمي هذا، وقال: ((إنما يحسن هذا التعليل لوجوب الزكاة، فإنها متعلقة بما هو أصل في العيش غالباً، ولهذا لم يوجبها في الجوز واللوز، وإن كان يحرم فيهما الربا، لأنهما وإن ادخراً فلا يدخران لأنهما أصل في العيش غالباً)). وأنكر أيضاً تعليل التمر بكونه متفكهاً به لأجل أنه كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوتاً. هذا تخليص طريق الأصحاب في تحقيق علة الربا، فيجري حكم الأطعمة على اختلافهم في تحقيق العلة. وينقسم الطعام بحسب ذلك ثلاثة أقسام: قسم اتفق أهل المذهب على أنه ربوي، وهو ما اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة فكان مقتاتاً مدخراً متخذاً للعيش غالباً، كالحنطة والشعير والسلت

والعلس والأرز والدخن والذرة والقطاني والتمر والزبيب واللحم والملح إلى ما في معنى ذلك. وقسم اتفق على أنه ليس بربوي لخلوه عن جملة الأوصاف المذكورة، فليس متخذاً للعيش غالباً ولا مدخراً ولا مقتاتاً، وهذا كالبقول مثل الخس والهنديا) والقطف، وما أشبه ذلك، كالفواكه التي لا تقتات ولا تدخر. وقسم اختلف فيه لاتصافه ببعض الأوصاف المذكورة وخلوه عن بعض، الجوز واللوز والفستق والبندق، وغيرها مما يدخر من الفواكه ولا يقتات. فمن اعتبر مجرد الادخار أجرى فيها الربا، ومن اعتبر الادخار (والاقتيات) لم يجره فيها. (قال الشيخ أبو الطاهر: ((وينخرط في سلك هذا الاختلال أيضاً الفواكه التي تدخر في قطر دون قطر كالخوخ والرمان والإجاص والكمثري والموز ونحوها)). قال الإمام أبو عبد الله: ((ورما كان سبب هذا الاختلاف منازعة في المختلف فيه هل هو مما يدخر، أو لماذا يدخر هل للدواء وما في معناه أو للأكل والائتدام)). قال: ((والنكتة التي تدور عليها فروع هذا الباب هي اعتبار الغرض في مقتضى العادة في الطعام هل يدخر للدواء والعلاج أو للاقتيات والأدم وإصلاح القوت)). فروع: من هذا القسم. الأول: في البيض. والمشهور من المذهب كونه ربوياً. وعند الشيخ أبي إسحاق قولان. وروى أبو الحسن اللخمي: ((أن كونه ربوياً أبين، لأنه مما يدخر، وإنما يسرع إليه التغير في بعض أزمنة الصيف)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((وهذا يقتضي كون الخلاف عنده على النظر إلى ما يدخر في قطر دون قطر أو في زمن دون زمن، وليس كذلك بل الخلاف على أن العلة هي الإدخار للأكل،

فيكون هذا ربوياً، أو للقوت فلا يكون ربوياً)). الفرع الثاني: في اللبن. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ولم يختلف (أهل) المذهب في كون اللبن ربوياً على اختلاف أصانفه، وهو إن كان لا يدخر على حالته فإنه يستخرج منه ما يدخر كالسمن والجبن)). وقال أبو الحسن اللخمي: ((يختلف في بيع المخض بالمخيض والمضروب بالمضروب متفاضلاً، لأنهما لا يدخران. فمن منع التفاضل بينهما منع أن يباع شيء منه بحليب أو سمن أو زبد أو ما في معناه لأنه كالرطب باليابس. ومن أجاز التفاضل أجاز بيعه بأي ذلك أحب من الحليب وغيره)). قال: ((وقال مالك في المدونة: ((لا بأس بالسمن)) باللبن الذي قد أخرج زبده)). وهذا لا يصح إلا على القول بأن التفاضل بينهما جائز، لأنه كالرطب باليابس، وأرى أن يجوز التفاضل في المخيض والمضروب، لأنه مما لا يدخر)). ومن مع (من) ذلك حمله على الأصل. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وهذا الذي ذكره وما عول عليه من المدونة فيه نظر، لأنه لا خلاف في المذهب أن لبن الإبل ربوي، وإن كان لا يدخر، ولا يستخرج منه ما يدخر للإقتيات (أو) للأكل وليس ذلك إلا لأنه مقتات، وهو غالب أقوات الأعراب الذين خوطبوا بمبتدأ الشرع)). والمخيض والمضروب فيه نوع من هذا المعنى. ولعل إجازته في الكتاب اللبن الذي قد أخرج زبده بالسمن بناء على أن السمن نقلته الصنعة والنار فصار كجنس ثان، وإذا احتمل ذلك فكيف لا يصح إلا على القول بجواز التفاضل؟ الفرع الثالث: في جريان الربا في الماء: قال الإمام أبو عبد الله: لا ربا فيه عندنا، هذا هو المعروف من مذهبنا. قال: ((وذكر

القاضي أبو محمد: أن رواية ابن نافع بأن بيع الماء بالطعام إلى أجل لا يجوز، يخرج منها إثبات الربا فيه)). قال: ((وهذا التخريج فيه نظر، فإن من المطعومات ما يحرم بيعه بالطعام إلى أجل، ويحرم بيعه قبل قبضه كالفاكهة التي لا تقتات ولا تدخر، ومع هذا المنع يجوز الربا فيها)). قال: ((فإن قلنا بتصحيح تخريج القاضي أبي محمد، وأثبتنا الربا فيه، فيبعث دار بدار، وفي كل دار منهما بئر حلوة، أو كان فيها عينان كذلك، فإن قلنا بأن الأتباع مقصودة في العقود منعنا هذا البيع، وإن قلنا: إن الأتباع لا حصة لها من الثمن، وإنها غير مقصودة في العقود جاز البيع وإن كان فيه الربا، لكون الماءين تبعاً في الدارين)). فرع من القسم الأول: وهو حكم العنب الذي لا يجف زبيباً، والرطب الذي لا يثمر، والتين الذي لا ييبس. وفي إجراء الربا (فيها) قولان، سببهما النظر إلى أنها أنواع من أجناس الغالب إدخارها، فتعطى أحكام أجناسها، أو النظر إليها في أنفسها، وهي لا تدخر فتعطي أحكام أنفسها. والنظران على مراعاة النوادر. ومما يعد من القسم الثالث التوابل: وفي جريا الربا فيها وعدمه قولان، لابن القاسم وأصبغ. فابن القاسم نظر إلى أنها مصلحة للقوت. وعلل أصبغ بأنها أكثر ما تستعمل على وجه التداوي. وأما البصل والثوم فمخالفان للبقول: إذ الغالب فيهما اليبس والادخار، فلا يجوز التفاضل، لا في رطبها ولا في يابسها. قال بعض المتأخرين: وبالجملة فالرجوع في هذا الفصل إلى العوائد، وحق المفتي أن يحيل في كل نازلة على أرباب العوائد، وإن حكم في شيء مطلقاً خرج عن باب الفتوى إلى باب، الشهادات. الطرف الثاني: في طريق الممثلة. وهي في الحبوب الجافة، ما اعتبره فيها من كيل (أو) وزن، وما لم يكن له فيه منها اعتبار اعتبر فيه العادة العامة إن كانت. فإن اختلفت العوائد فيه قدر بعادة أهل بلدة، ولا يخرج عن العادة، فإن جرت العادة فيه بالوجهين قدر بأحدهما أيهما كان.

فرع: اختلف في بيع القمح بالدقيق، فقيل بالجواز مطلقاً، وقيل بنفيه كذلك: وقيل بجوازه بالوزن لا بالكيل. ومثار الخلاف: النظر إلى التساوي وقد وجد، أو النظر إلى أن الدقيق له تخلخل، والقمح أزيد منه. وأما التفرقة فبناء على أن الوزن يؤمن من الزيادة بخلاف الكيل. وبعض المتأخرين يرى أن هذا تفسير القولين ويجعل المذهب على قول واحد. وبعضهم ينكر ذلك ويقول: هذه التفرقة قد توقع في جهالة إذا كانت العادة فيهما الكيل دون الوزن. فإن كانت العادة جارية فيهما بهما صح هذا القول. والمحاذرة عند الجميع من الخروج عن العادة لأنه انتقال من العلم إلى الجهالة، والجهالة حالة العقد بالمماثلة كتحقق المفاضلة. ولذلك لا يجوز بيع صبرة بصبرة جزافاً، وإن خرجتا متساويتين، ولا بيع مد ودرهم بمد ودرهم، لأن حقيقة المماثلة غير معلومة إذ لو وزع ما في أحد الجانبين على ما في الجانب الآخر باعتبار القيمة أفضى إلى المفاضلة. واختلف في فرعين: أحدهما: مد قمح ومد دقيق بمدي قمح أو بمدي دقيق، فالمشهور المنع. وأجازه محمد. وسبب الخلاف: هل يعد الدقيق كذهب مع ذهب أو كفضة أو سلعة مع ذهب؟ ولهذا شرط محمد في الإجازة أن يكون الفضل في أحد الجانبين كما تقدم في المراطلة بذهب مختلط. وكذلك الخلاف لو كان قمح ودقيق بقمح ودقيق. الفرع الثاني: مد قمح ومد شعير بمدي قمح أو بمدي شعير. والخلاف فيهما على ما تقدم. وأحرى ها هنا بالمنع كما صار إليه في المشهور، لأن الشعير كالنصف الآخر، والخلاف في عده صنفاً قائماً بنفسه أشهر منه في عد الدقيق صنفاً قائماً بنفسه. قال بعض المتأخرين: ولهذا لم يذكروا خلافاً إذا كان مد قمح ومد شعير بمد قمح ومد شعير، بل منعوا. فروع في التحري: الأول حيث فقدنا الميزان فيما يقدر بالوزن جاز التحري فيه إذا كان يسيراً. وقيل: لا يجوز كالكثير على المنصوص. واستقر الشيخ أبو الوليد جوازه في الكثير من جواز الشاة بالشاة مذبوحتين.

وحكى بعض المتأخرين جواز التحري مطلقاً من غير تقيد بوزن ولا يسارة، وهو بعيد جداً. الفرع الثاني: وهو مرتب هو مما بعده من الأول: وهو أن اللحوم متى تحريت أو وزنت، وبيع بعضها ببعض، فهل تعتبر نقية من العظم فيتحرى ما فيها منه حتى يسقط أو لا يلتفت إلى ذلك؟ قولان: المشهور: نفي الالتفات إليه، لأنه موجود في أصل الخلقة، وبه قوام اللحم، فأشبه النوى في التمر. والقول الثاني أنه شيء غير مقصود وهو مزال، فترك النظر فيه يؤدي إلى التفاضل. ذكره ذلك الشيخ أبو إسحاق. (الفرع) الثالث: من سلكه. وهو أن البيض إذا قلنا بأنه ربوي، فأجزنا بيع بعضه ببعض تحرياً، فإن كان فيه بيض نعام فهل تتحرى ويسقط قشره، حتى لا يجوز بيعه، إلا أن يستثنيه بائعه؟ قولان. والاستثناء لأنه كسلعة مع ربوي فلا يجوز بيعه وهي معه بصنفه. ونفى الاستثناء، لأنه غير مستقبل إلا بالقشر، ولا يمكن بقاؤه مفرداً، فهو من ضرورته، فيعطى حكم العدم أو حكم ما هو حافظ له. الرابع: بيع الشاة بالشاة مذبوحتين: وفي جواز ذلك تحريا قولان: وهما على ما تقدم من جواز التحري ومنعه، وفيه قول آخر أنه لا يجوز حتى يستثني كل واحد منهما جلد شاته، لأنه سلعة مع ربوي يقابل بمثله. ولم يلتفت إلى هذا في القولين الأولين، لأن الجلد حافظ كما قيل في القشر، أولاً لأنه تبع، أو لأنه لحم، إذ يؤكل مسموطاً. وعلى هذا عول القاضي أبو الوليد. الخامس: بيع الخبز بالخبز، ورطوبتهما مختلفة. وقد أجازوه تحرياً. واختلف في الذي يتحرى فيه: فرواية المتقدمين تحري دقيقه. وقال بعض المتأخرين: إنما يتحرى الدقيق إذا كان الخبزان مما لا يجوز فيه التفاضل، فأما إن كان مما يجوز التفاضل بينهما كالقمح والذرة مثلاً، فلا يلتفت إلى الدقيق، ولكن تحرى الرطوبة في الخبز.

ورأى الشيخ أبو الوليد أن النظر إلى تماثل الخبز في نفسه وزناً دون الالتفات إلى تحري الدقيق. السادس: إذا قلنا بأن الألوان كلها صنف واحد على ما سيأتي الخلاف فيه، فبيع بعضها ببعض، فهل يعتبر اللحم فيتحرى أو يعتر هو والمرقة؟ قولان للمتأخرين. ورأى بعضهم أن اعتبار المرق يخرج على الاختلاف في الأتباع هل تعطى أحكام أنفسها (أو أحكام) متبوعاتها؟. قال غيره: وهذه شهادة بأن الأمراق تابعة. الطرف الثالث: في الحالة التي تعتبر المماثلة فيها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟ فقيل: نعم. فقال: فلا إذن)). فقد نبه صلى الله عليه وسلم على اعتبار حالة الكمال. فإذا كان المبيع لا يقع فيه التماثل عندها منع بيعه بكامل. وعلى هذا نقول: لا يخلو الرطب من أن تكون رطوبته أصلية، وله كمال بعدها هو المقصود من نوعه، أو يكون كماله المقصود هو حال الرطوبة، وجفافه إنما يراد لمعنى آخر أو تكون رطوبة طارئة بعد الكمال. فهذه ثلاثة أقسام. أما القسم الأول: فلا يجوز بيعه (بكامل)، وقد نص في الحديث على منع بيع الرطب بالتمر ويلحق به ما في معناه من الفواكه والحبوب. ولمنعه سببان: توقع الربا، كما نبه عليه [النبي صلى الله عليه وسلم] في الحديث، والمزابنة، وهي تجري في الربوي وغيره. وهل يجوز الرطب بالرطب؟ أجازه في المشهور نظراً إلى الحال وهو مقصود. ومنع ابن الماجشون التفاتاً إلى حال الكمال. قال بعض المتأخرين، وكأنه (يرى) أن الرطوبة ماء إنضاف إلى التمر، وهو غير متساو

في الرطبين، وإذا لم يحصل متساوياً كان ذلك ربا في التمر. فروع: أحدها: بيع الحليب بالحليب. والمشهور: جوازه كالرطب بالرطب. وحكى القاضي أبو الفرج رواية بالمنع. قال بعض المتأخرين: وهو التفات إلى ما يخرج منهما. الثاني: إن السمن بالسمن والزبد بالزبد والجبن بالجبن، وما يتولد من اللبن كل واحد منها بصنفه جائز. وأما الجبن بالحليب، وبالجملة كل واحد بغير صنفه، فإنه لا يجوز، لأنه من باب الرطب باليابس. والتماثل على مراعاة المآل معدوم. قال بعض المتأخرين: وينبغي أن يختلف في الزبد بالزبد، لأن بعدهما حالة يبس، وهي السمنية. هذا حكم ما اتفقت الرطوبة فيه إذا بيع بصنفه، فأما إن اختلفت الرطوبة فإن جواز بيعه يجري على تحري المساواة على (كما) تقدم في الخبز. الفرع الثالث: البلح الكبير. والمشهور من المذهب إلحاقه بالربويات. ومال الشيخ أبو إسحاق إلى أنه غير ملحق بها، لأنه مما لا يدخر على حالته فأشبه الخضروات. قال بعض المتأخرين: (وقد يجري هذا الخلاف على الخلاف فيما لا يتمر، إلا أن ذلك يلحق بغالبه، وهذا لم يحصل في حد له غالب، ويمكن أن يلحقه في المشهور بالربويات احتياطاً. قال: وقد يكون في مبدأ البسرية، ولا خلاف في البسر أنه ربوي، وإن لم يمكن ادخاره). القسم الثاني: أن يكون كماله حالة الرطوبة كالزيتون، فأما بيع رطبه برطبه فجائز قولاً واحداً، إذ المقصود حاله لا مآله. وأما بيع رطبه بيابسه على تحري النقص ففيه خلاف ينبني على أن التحري يحيط بحقيقة النقص أم لا؟ وفي سلكه ببيع اللحم باللحم، فإن كانا رطبين فهو جائز وإن كان الرطب أحدهما فعلى ما قلناه.

قال بعض المتأخرين: إلا أن يكون الجاف إنصاف إليه من التوابل ما ألحقه بصنف آخر فسيأتي حكمه. فرع المشهور جواز بيع الجاف بالجاف، وقال ابن حبيب: لا خير في القديد بالقديد لأن يبسه يختلف، ولا في الشواء بالشواء، لأنه لا يعتدل، ولا بيع أحدهما بالآخر. قال بعض المتأخرين: وهذا اختلاف في شهادة بالتساوي أو بعدمه، ويختلف هل يجوز تحرياً على ما تقدم. القسم الثالث: أن تكون الرطوبة طارئة، كالقمح المبلول مثلاً بمثله. فالمشهور المنع، لأن البلل يختلف. وقيل بالجواز قياساً على الرطب بالرطب. الطرف الرابع: معرفة الجنسية. وقد ثبت في الحديث أن اختلاف الأجناس يبيح التفاضل. فالجنشية مشترطة بلا خلاف، والمعول فيها على تشابه المنافع أو تقاربها، فإن وقع التباين والتباعد انتفى التجانس. وقد انقسمت الربويات بحسب هذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما اتفق على عده جنساً واحداً كأصناف الحنطة وأصناف التمر على اختلافها وأصناف الزبيب، وما أشبه هذه. وأما اللحمان، فلحم ذوات الأربع جنس واحد، وحشيها وإنسيها، صغيرها وكبيرها. ولحم ذوات الريش جنس واحد، داجنها وشاردها، صغيرها وكبيرها. ودواء الماء جنس واحد. والجراد صنف رابع. قال الإمام أبو عبد الله: ((والمعروف من المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلاً جائز. وهكذا ذكر محمد عن أشهب. قال: وذكر ابن حارث عن سحنون أنه يمنع بعضه ببعض متفاضلاً. وإلى هذا مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر. وأما الألبان فما يتشابه في وجود الزبد وما يعمل منه جنس وغيره مختلف فيه، يأتي بيان حكمه)). القسم الثاني: ما اتفق على أنه مختلف كالبر والتمر والزبيب والملح والشعير واللحم. وهذا لا يخفى حكمه، ولا يحتاج إلى التطويل في تمثيله. القسم الثالث: ما اختلف فيه نصاً أو تخريجاً، وينحصر المقصود منه برسم مسائل.

إحداها: القمح والشعير. والمنصوص في المذهب أنهما صنف ويلحق بهما السلت. وقال الإمام أبو عبد الله: ((ولا يختلف المذهب في كون القمح والشعير والسلت صنفاً واحداً)). ورأى ابو القاسم السيوري أن القمح والشعير جنسان. ووافقه على ذلك بعض من تأخر عنه تمسكاً بحديث عبادة بن الصامت. ورأوا أيضاً أن المنفعة متباعدة. وتمسك أهل المذهب بما روي في الموطأ أن سعد بن أبي وقاص فني علف حماره، فقال لغلامه: ((خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيراً، ولا تأخذ إلا مثله)). وعن عبد الرحمن بن الأسود ومعيقب الدوسي مثله. وروى مسلم عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: ((بعه، ثم اشتر به شعيراً. فذهب الغلام فأخذ به صاعاً وزيادة بعض صاع. فما جاء معمراً أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثل بمثل)). وهذا دليل على أن الأمر كان عندهم فاشياً بأنهما جنس واحد. وأما حديث عبادة فقال القاضي أبو الوليد: ((ليس بالثابت)). ثم إن صح سنده ففيه وهن الانفراد إذ أكثر الطرق عارية عنه. وأما ما ذكروه من تباعد المنفعة فنظر منهم إلى الرفاهية الحاصلة بالحنطة، وهي غير مقصودة قصداً شرعياً، إنما المقصود من الصنفين الاقتيات. وتكلم مالك رحمه الله على عادة أهل الحجاز، لأن الأحكام عليهم أنزلت أولاً، والناس

تبع لهم، فيها فينبغي أن يلتفت إلى عوائدهم، ومطلوبهم القوتية من الجميع. المسألة الثانية: إذا ثبت أن القمح والشعير صنف واحد، فإن السلت يلحق بهما بلا خلاف منصوص في المذهب. وهل يلحق بهما العلس، وهو الاشقالية، وهو حب إلى الاستطالة مصوف عليه زغب، بين القمح والشعير في الصفة؟ ظاهر المذهب أنه غير ملحق بها، وألحقه في كتاب ابن حبيب بها. الثالثة: الأرز والذرة والدخن: والمشهور أنها لا تلحق بالقمح والشعير وما معهما. وألحقها ابن وهب بها. وسبب الخلاف: النظر إلى التباين في الخلقة والمنفعة أو إلى أن العادة اختيارها للقوت. فرع: إذا قلنا: إنها لا تلحق بها فهل تكون جنساً واحداً أو أجناساً؟. المشهور أنها أجناس. وألزم المتأخرون على مذهب ابن وهب أن تكون جنساً. ونقل القاضي أبو الوليد ذلك عنه من رواية زيد بن بشر. الرابعة: القطاني: وقد اختلفت (الرواية) في عدها جنساً واحداً أو أجناساً، وهو خلاف في شهادة، كما تقدم. فرع: إذا لنا: إنها أجناس، فهل ذلك جار في جميعها أو يستثني عن ذلك الحمص واللوبيا [فيعدان] جنساً واحداً، والبسيلة والجلبان أيضاً كذلك؟ في ذلك خلاف منشؤه التعويل على الشهادة (بالتقارب) أو التباين، وعلى ذلك أيضاً الاختلاف في الكرسنة، هل هي من القطاني أو هي صنف قائم برأسه؟ الخامسة: التوابل: إذا قلنا بأنها ربوية، هل هي جنس أو أجناس؟ قولان. والمشهور أنها أجناس. وكذلك اختلف في الأنيسون والشمار وفي الكونين.

(فحكى محمد عن ابن القاسم، أن الكمونين جنس، وأن الأنيسون والشمار جنس). وقال القاضي أبو الوليد: ((الأظهر عندي أن تكون أجناساً مختلفة لاختلاف منافعها وتباين الأغراض فيها، وأنها لا تتمازج في منبت ولا محصد، ولا يجزي بعضها عن بعض في شيء ولا تتقارب في صورة، وإنما يجمع الكمونين إسم الكمون. (قال): وليس بظاهر في الكمون الأسود، لأن اسم الشونيز أظهر فيه وأكثر استعمالاً)). وهذا كله راجع إلى الشهادة كما تقدم. السادسة: أخباز القطاني: هل هي أصناف مختلفة أو صنف واحد مع تسليم كون أصولها أصنافاً؟ قولان لابن القاسم وأشهب. وهما على الشهادة بالتباين أو التقارب. تقرير: نص أشهب على أن أخباز القمح والشعير والسلت والأرز وما ذكر معه (صنف)، وإن اختلفت الأصول. واختلف المتأخرون في الجاري على رأي ابن القاسم. فجعله أبو الحسن اللخمي وغيره موافقاً لأشهب لتقارب المنفعة في الأخباز. قالوا: وقد كره في العتبية خبز البر بخبز الأرز متفاضلاً. وهذا نص منه على تساوي الأخبار إذا جعلنا الكراهة بمعنى التحريم.

وجعله غيرهم مخالفاً له، واستشهدوا بقوله في أخباز القطاني. وقال يحيى بن عمر: قال أبو إسحاق البرقي: كل ما أصله مختلف فخبزه أيضاً مختلف تبعاً لأصله. وكل هذا جار على الشهادة كما تكرر تقريره. السابعة: نبيذ التمر والزبيب: هل هما صنف واحد أو صنفان؟. والمشهور: أنهما صنفان تبعاً لأصولهما. وعند الشيخ أبي الفرج: أنهما صنف واحد، وهو شهادة بتقارب المنفعة. تقريرات: أحدها: إن المذهب على أن الأمراق واللحوم المطبوخة صنف، ولا يلتفت إلى اختلاف اللحوم، ولا إلى اختلاف ما يطبخ به. وتعقب هذا بعض المتأخرين ورأى أن الزيرباج مثلاً مخالف للطباهجة مخالفة لا يتمارى فيها. وكذلك ما يعمل من لحم الطير مخالف لما يعمل من لحم المعز مثلاً. الثاني: أنه (قال في كتاب محمد: الهريسة بالأرز المطبوخ لا بأس بها مثلاً بمثل، فاشترط المثلية وجعلها صنفاً واحداً. قال أصبغ: وهو مثل عجينها يتحرى، ولا يصلح إلا بذلك. قال بعض المتأخرين: فإن أراد أن الهريسة عملت من الأرز فالذي قاله ظاهر على ما تقدم من الروايات، وإن أراد أنها عملت من القمح فهو بناء على أن المعمول من هذه الحبوب

وإن كانت أصنافاً يعد صنفاً واحداً). وقد تقدم الكلام على أخبازها فلتجر على ذلك. الثالث: أنه قد يصنع من الصنف الواحد ما يدخله صنعة أو معنى، فيختلف كالخبز بالكعك الذي فيه الأبزار، فقد أجازوا التفاضل بينهما. قال بعض المتأخرين: وانظر في هذا مع قولهم: إن الألوان كلها صنف. ومقتضى هذا أن يجعلوا الكعك والخبز صنفاً واحداً، قال وهذا مما يبين أن مبنى أقوالهم على الشهادات. الرابع: فيما ينقل من الصنعة والطول. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وقد اتفق أهل المذهب على أن طحن هذه الحبوب لا يخرجها عن أصولها، وكذلك العجن بعد الطحن. لأن الطحن تفريق أجزاء، والعجن إضافة. ماء فإن خبزت انتقلت فصارت كصنف ثان)). وهكذا جعلوا القلي في الحبوب. قال: وقد غمزه مالك حتى (يطحن). وأجازه ابن القاسم، وإن كان القلي لييس بصنعة (كبيرة)، لكن قد أعده ذلك لمعنى غير ما يتخذ له اليابس، والضابط أن الصنعة متى كثرت جداً أخرجت عن الأصل، ومتى (قلت) فهي على وجهين: أحدهما: أن يصير المصنوع معداً لغير ما أعد له الأصل فينتقل عن الأصل. والآخر: أن لا يتغير بالصنعة، والمقصود الأول منه كبير تغير، (فلا) ينتقل عن الأصل. وحيث اختلف في الشهادة بالتغيير اختلف في حكم النقل. ومن هذا يعلم أن التجفيف في اللحم بنار أو شمس لا يعد ناقلاً، وأن الطبخ أو التجفيف بإبراز يعد ناقلاً، وأن الاتخاذ من الحبوب سويقاً يعد ناقلاً. واختلف المتأخرون في الصلق على قولين: هل يعد ناقلاً أم لا؟. وعلى قياس ما تقدم ينبغي أن يعد ناقلاً. والتفت من لم يعده ناقلاً إلى خفة الصنعة. وقال بعض المتأخرين هو في الترمس: ناقل بطول أمده بخلاف الفول)). واختلف

الباب الثالث: في فساد العقد من جهة نهي الشارع [عنه]

هل يكون الطول من غير صنعة منع الانتقال عن مقصود الأصل ناقلاً أم لا، وهذا كالخل بالزيت أو العنب أو التمر، والمشهور أنه ناقل. وفي ثمانية أبي زيد: أنه لا يعد ناقلاً، وراعى فيه حكم المزابنة. ومقتضى ما تقدم عده ناقلاً، لكن نظر في القول الشاذ إلى قلة الصنعة، وأنه ليس فيه إلا تفريق أجزاء، فأشبه الدقيق. الباب الثالث: في فساد العقد من جهة نهي الشارع [عنه]: وعندنا أن مطلق النهي عن العقد يدل على فساده، إلا أن يقوم دليل. هكذا حكى القاضي أبو محمد عن أهل المذهب. فمن العقود المنهي عنها: بيع الحيوان باللحم. ومحمله عندنا عن الجنس الواحد من مأكول اللحم. قال ابن القاسم: ((ولم أر عند مالك تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان باللحم إلا من صنف واحد لموضع الفضل والمزابنة))، وهو عام في كل حي. وخصصه الشيخ أبو بكر والقاضيان أبو الحسن وأبو محمد بالحي الذي لا يراد إلا للذبح. واختلف فيما لا تطول حياته ولا تدخر لمنفعة فيه إلا اللحم هل هو كالذي يقتني لمنفعة التفاتاً إلى وجود الحياة وتعلقاً بظاهر الحديث أو كاللحم؟ والأول قول أشهب، والثاني قول ابن القاسم، وهو يأخذ بالأحوط، فيجعله مع الحي كاللحم، ومع اللحم يلتفت إلى حياته،

وهو نظر إلى تقدير المنع على تفصيل الأوجه وهو (أصله) في تقدير التهم فمتى أمكن توجهها حكم بها. قال بعض المتأخرين: والقولان مرويان. وإذا فرعنا على قول ابن القاسم، فكان الحيوان مما لا منفعة فيه إلا اللحم إلا أنه تطول حياته، فهل يلحق بما لا تطول حياته مما لا منفعة فيه سوى اللحم أم لا؟ قولان. وأما ما تطول حياته من الوحشي فهو كالإنسي في ذلك. وقال ابن حبيب: هو كالذي لا تطول حياته، ولو كانت المنفعة المستفادة من الحيوان يسيرة كالصوف في الكبش الخصي، فقال ابن القاسم مرة: هو كالحي. وجعله مرة كاللحم وروى في العتبية في التيس الخصي إن كان لا منفعة فيه ناجزة ولا منتظرة، فهو مثل ما ذكرنا. يريد في المنع. قال: ((وأرى أن يجوز، لأن العرب ترغب فيه لشعره، وغيرهم لزقه)). ويتنزل على الخلاف فيما لا تطول حياته الخلاف في بيعه بغير جنسه أو الطعام نسيئة. فرع: اختلف في اللحم المطبوخ هل هو مخالف في الحكم للنبي لدخول الصنعة فيه، فصار كجنس آخر، أو هو جار مجراه في المنع، لعموم الحديث على قولين لابن القاسم وأشهب. ومن العقود المنهي عنها بيع الطعام قبل قبضه. وسيأتي حكمه مفصلاً إن شاء الله. ومنها: بيع الكالئ بالكالئ، وهو الدين، بالدين لا خلاف في فساده. ومنها بيع الغرر. قال القاضي أبو الوليد: ((ومعناه ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر)). قال: ((فهذا الذي لا خلاف في المنع منه. وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد (عقد). بيع لأنه لا يكاد يخلو عقد منه، وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيه من الغرر، هل هو في حيز الكثير الذي يمنع الصحة، أو في حيز القليل الذي لا يمنعها؟)).

وعبر الإمام أبو عبد الله عن هذا المقصود بأمان ما كان من الغرر نزراً يسيراً غير مقصود، وتدعو الضرورة إلى العفو عنه فلا يؤثر في فساد البيع، ورأى أن هذا هو المتفق عليه، وأن (الخلاف) بين العلماء في المسائل المشتملة على الغرر راجع إلى هذا الأصل، فمن أجاز قدر أن الغرر فيما يسأل عنه غير مقصود، ومن منع قدر أن الغرر مقصود. إذا قرر هذا فقد ورد النهي عن بياعات بسبب اشتمالها على الغرر. فمن ذلك: بيع المضامين والملاقيح حبل وحبلة. (وفي الموطأ ((أن المضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال)). وقال ابن حبيب: المضامين ما في ظهور الفحول، والملاقيح ما في بطون الإناث، ولا يضر اختلاف التفسيرين، فإن البيعين فاسدان. وأما حبل حبلة، ففي الموطأ أنه كان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها. وقال ابن حبيب: حبل الحبلة بيه نتاج نتاج الناقة، ورواه عن مالك). فالتفسير الأول يرجع إلى جهالة الأجل، والثاني يرجع إلى أن المبيع ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه. وكذلك المضامين والملاقيح إلا أن وصف الملوكية لا ينتفي عما في البطن إذ ملكه تابع للملك أمه. ومنه: بيع الملامسة، وهو أن يلمس الثوب، فليزمه البيع بلمسه وإن لم يتبينه. ومنه: بيع المنابذة، وهو أن ينبذ ثوبه إلى الآخر، وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع بذلك. ومنه: بيع الحصاة، وصفته أن تكون بيده حصاة فيقول: إذا سقطت من يدي فقد وجب البيع. وقيل: تكون ثياب عدة، فيقول على أيها سقطت الحصاة فقد تعين. قال الإمام أبو عبد الله: لو كان المراد إسقاط الحصاة باختياره لكان كبيع خيار إذا قدر في ذلك أجلاً يجوز الخيار إليه. قال: وكذلك إذا أراد إن سقطت الحصاة على ثوب بعينه، فقد

عينت ذلك للبيع، وكانت الثياب متساوية، فإن هذا أيضاً كبيع ثوب من ثوبين بخيار البائع، فيكون محمل النهي على غير الصور التي ذكرناها. ومنه بيع عسب الفحل. ومحل النهي فيه على استئجار الفحل على عقوق الأنثى، وهو فاسد لأنه غير مقدور على تسليمه. فأما إن استأجره على أن يحمله عليها دفعات معلومة فذلك جائزة، إذ هو أمر معلوم في نفسه ومقدور على تسليمه. ومنه بيعتان في بيعه. كقوله: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو خمسة عشر إلى أجل، على أنه قد وجب بأحد الثمنين. ومما نهي عنه من العقود: بيع وشرط. ومحمل النهي فيه على شرط يناقض مقصود العقد أو يعود بغرر في الثمن. فالأول: كشرط أن لا يبيع ولا يهب، ونحو ذلك من منع التصرف، ويستثنى من هذا شرط تنجيز العتق للسنة الواردة. والثاني: كشرط السلف من أحد المتابعين، إذا شح مشترطة في اقتضائه ولم يسمح بإسقاطه. فأما إن نزل عنه وأسقطه فالمشهور أنه يمضي. وقيل: يفسخ. قال سحنون: ويمضي إلا أن يقبض السلف ويغيب عليه، فيرد وينقض البيع ويرد السلعة إذ تم الربا. وسبب الخلاف: في القولين الأولين: هل يعد الممنوع من منفعة السلف موهوباً، فإذا سمع مشترطة بإسقاطه تبين أن ما توهم من ذلك غير صحيح أو يعد معلوماً، فيكونان قد دخلا على الفساد، فيفسخ على كل الأحوال. فروع: الأول: لو رد السلف بعد القبض فهل يصح البيع برده؟، على القول بأن إسقاطه قبل القبض يصح به البيع أم لا؟ قولان. وسبب الخلاف: ما تقدم من عد المانع موهوباً، فإذا رد السلف بطل الموهوم، أو عد المانع معلوماً لا سيما أن القبض قد حقق ما كان موهوماً على النظر الآخر. الفرع الثاني: إذا فاتت السلعة في الصورة الأولى، وهي ما إذا أسقط السلف قبل القبض، فما الذي يكون فيها؟ هل القيمة مطلقاً، أو بنظر، فإن كان البائع هو المسلف كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن، وإن كان المشتري هو السلف كان فيها الأكثر منها. والتفصيل هو المشهور، فنظر في الشاذ إلى قياس البيع الفاسد، ونظر في المشهور إلى ما وقع التراضي به مع الالتفاف إلى أن البيع ليس بفاسد إذا رضي مشترط السلف بإسقاطه. الفرع الثالث: وهو مرتب: إذا قلنا بالتفصيل على المشهور، وكان المسلف هو المشتري، قيل: يكون له الأكثر من القيمة أو الثمن مطلقاً أو يشترط أن لا تزيد القيمة على

الثمن وجملة السلف. قولان: والإطلاق هو المشهور، والاشتراط شاذ. الفرع الرابع: إذا فاتت السلعة في الصورة الثانية، وهي ما إذا رد السلف بعد قبضه، فأما على القول الشاذ، فلا خفاء بوجود القيمة مطلقاً. وأما (على) المشهور قولان: أحدهما كالشاذ، وهو بناء على أن الفساد قد (تحقق) بالقبض. والثاني: وجوبها على التفصيل المتقدم، وهو بناء على القول بأن إسقاط السلف في هذه الصورة يقتضي تمام البيع. هذا محمل النهي. فأما شرط لا يناقض مقصود العقد ومقتضاه بل هو من مصلحته كشرط الرهن والكفيل والأجل المعلوم والخيار الصحيح، فكل ذلك خارج عن محمل النهي، ويصح البيع مع اشتراطه. ومنها بيع العريان: وصفته. أن يشتري سلعة بثمن معلوم ويعربن شيئاً على أنه إن رضي كان ذلك العربون من الثمن، وإن كره لم يعد إليه، وهو من أكل المال بالباطل. ومنها بيع الكلب. ولا شك في دخول المنهي عن اتخاذه تحت النهي والمنع من بيعه وعدم صحته. فأما المأذون في الانتفاع به فالنص على كراهة بيعه. واختلف الأصحاب في تنزيله على التحريم أو حمله ظاهرة. وقال القاضي أبو الحسن: ((يكره بيعه، فإن بيع لم يفسخ)). وقال القاضي أبو بكر: ((الصحيح عندي جواز بيعه)). ومنها: إفراد الأم بالبيع عن ولدها الصغير أو إفراده به عنها. واختلف في حد الصغر المانع من التفرقة.

فالمشهور عن مالك وابن القاسم: ((أنه ما لم يستغن عن أمه، والعلم على ذلك الإثغار، ما لم يعجل. قال مالك في تفسير الاستغناء: هو أن يستغني عن أمه في طعامه وشرابه وقيامه ومنامه)). وقال ابن حبيب: يفرق بينهما إذا بلغ سبع سنين. (وأشار في) كتاب محمد إلى العشر، لأنه علقه بوقت الأدب على الصلاة. وروى ابن غانم: لا يفرق بينهما (قبل) البلوغ، لأن التفرقة عنده إذا بلغ الاحتلام. ونقل عن (محمد بن عبد الحكم أنه ذهب إلى أنه لا يفرق بين الأم وولدها طول ما عاشا). فرعان: الأول: إذا وقع البيع على التفرقة المنهي عنها، فحكى ابن حبيب أن البيع يفسخ ويعاقبان. حكى ذلك مطلقاً من غير تقييد. وإليه ذهب القاضي أبو محمد فقال: ((إنه باطل كبيع الخمر والخنزير، ويفسخ ولو رضيا بالجمع بينهما)). واختار محمد إمضاء البيع على كل حال وإزالة سبب النهي بالبيع عليهما، إذا لم يتراضيا بالجمع طوعاً منهما. وقال ابن القاسم: إن تراضيا بالجمع لم يفسخ، وإن لم يتراضيا فسخ. وسبب الخلاف: هل النهي لحق الله تعالى فيخرج عليه القول الأول، أو لحق الأم في توليها، أو الولد في فقد رفق أمه على القولين فيهما، فيخرج على ذلك القولان الآخران. ثم سبب الخلاف بينهما تصور زوال سبب النهي من غير أن يتراضيا بالبيع عليهما، وعدم تصوره شرعاً، إذ يؤول إلى الوقوع في منهي عنه أيضاً، وهو جمع السلعتين لمالكين في عقد واحد. الفرع الثاني: إذا كانت الأم بيد مالك وولدها بيد غيره، وعلم أن ذلك عن بيع أو جهل كونه عن بيع أو هبة، فإن الحكم أن يجمع بينهما في ملك واحد، فإن كانا في أيديهما من غير

عوض كهبة أو صدقة، أو كان أحدهما بعوض والآخر بغير عوض، فقال مالك: ((إن جمعاهما في حوز جاز)). وقال في كتاب محمد: يجمعان في ملك أو يباعان. وقال مطرف وابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إذا كان شملهما واحداً ومسكنهما واحداً كالوالد والولد والزوج والزوجة والإخوة يكون شملهم واحداً ودارهم واحدة فإن الجمع في حوز يكفي. وإن لم يكن شملهما واحداً فلا بد من جمع الأم وولدها في ملك واحد. ومنها بيع الإنسان على بيع أخيه. ومحمل النهي فيه (على ما) إذا ركن البائع إلى المبتاع وقرب اتفاقهما. بيع النجش. وهو أن يزيد في (ثمن) السلعة، وهو غير راغب فيها ليغر المشتري بالترغيب. فروع: أحدها: (إذا وقع البيع على وجه النجش ففي المدينة من رواية عيسى عن ابن القاسم: (إن) علم بذلك المبتاع فله أن يرد ما لم يفت، فإن فاتت فله أن يأخذها بقيمتها ما لم تكن أكثر مما ابتاعها به فلا يزاد عليه). وقال الإمام أبو عبد الله: المشهور من المذهب أنه ليس بمفسوخ، كبيع المصراة. قال: وحكى القزويني عن مالك: أن البيع مفسوخ للنهي الوارد عن النجش، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. قال: وهكذا قال ابن الجهم. قالا ولا اعتبار بكون النهي لمعنى خارج عن معنى البيع كالنكاح في العدة والإحرام. الفرع الثاني: قال الإمام أبو عبد الله: ولو كان التغرير بالزيادة من جهة البائع لكان للمشتري مقال في رد البيع، مثل أن يقول البائع للمشتري اشتريت هذه السلعة بمائة، فاغتر المشتري بقوله ثم ثبت بالبينة أو الإقرار أن البائع إنما اشتراها بتسعين. الفرع الثالث: ما سئل عن مالك (من ثلاثة أشراك في سلعة أرادوا التفاضل فيها، فقال أحدهم لآخر منهم: أخرج منها إذا (تقاومناها) ليقتدي بك الثالث وتكون بيني وبينك

نصفين. فنهى مالك عن هذا، ورأى ذلك تغريراً وتدليساً على الثالث فصار في معنى النجش. وقال ابن حبيب: لم يأخذ بها أصبغ، ولم يره من النجش؛ وبه أقول، لأن صاحبه لم يرد أن يقتدي بزيادته، وإنما أمسك على الزيادة، ليرخصه على نفسه، وعلى صاحبه، فلا بأس بذلك). وبيع الحاضر للبادي. ويلحق به شراؤه على إحدى الروايتين. فروع: الأول: هل يتخصص النهي بالبيع للأعراب أهل العمود الذين يجهلون الأسعار أو يجري في كل وارد على مكان، ولو كان من أهل مدينة، روايتان: الأولى: مذهب الموطأ. والثاني: رواية محمد، إذ قال: لا يبع مدني لمصري، ولا مصري لمدني. وحمل الإمام أبو عبد الله هذه الرواية في حق المدني على ما إذا ورد على مدينة وهو جاهل بأسعارها يمكن غبته، وينتفع أهل المدينة بوروده عليهم كونه في الغالب ربح فيما أتى به، فلم يمنع استرخاصه. الفرع الثاني: وهو مرتب: إذا قلنا برواية محمد، فلو أرسل قريب أو صديق بضاعة من بلد آخر لقريبه أو صديقه ليبيعها له ببلده فلا يفعل. الفرع الثالث: إذا قدم البدوي المدينة فاستشار الحضري في البيع، فإن مالكاً قال: لا يشار على البادي فأجرى مشورته عليه مجرى بيعه له، لأنها تقوم مقام السمسرة له والنيابة عنه في البيع، وكره أيضاً أن يخبره عن السعر فرأى إخباره بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع. قال محمد: هذا فيما أتوا به للبيع. ومنها: البيع يوم الجمعة بعد النداء الموجب للسعي ممن تلزمهما أو أحدهما الجمعة. فروع: أحدها: إذا وقع البيت على الوجه المنهي عنه فإنه يفسخ على المشهور.

وفي المجموعة: لا يفسخ.؟ وفي ثمانية أبي زيد عن ابن الماجشون قال: يفسخ في حق من اعتاد ذلك وتكرر منه، ولا يفسخ في حق غيره. الفرع الثاني: إذا فات البيع فقال ابن عبدوس: يمضي بالثمن، إذ لا فساد فيه. وقال ابن القاسم: يمضي بالقيمة لئلا يتم ما دخلا عليه. الفرع الثالث: إذا (قلنا): يمضي بالقيمة، فهل يقوم بعد انقضاء الصلاة إذ لا قيمة في ذلك الوقت شرعاً، أو يقدر خلو الوقت عن النهي، ثم يقوم؟ فيه قولان: لأشهب وابن القاسم. ثمرتهما: تعين إحدى القيمتين عند اختلاف الأسواق بين هذين الوقتين. ومنها تلقي السلع قبل أن تورد الأسواق: فلا يجوز التلقي. فإن وقع البيع على وزجه التلقي فروى ابن القاسم: ((ينهى فإن عاد أدب، ولا ينتزع منه شيء، وهو اختبار أشهب. (وروى ابن وهب: ينتزع منه ما ابتاع، فيبتاع لأهل السوق، فما ربح فهو بينهم والوضيعة على المتلقي. قال ابن القاسم: ((أرى أن يشترك فيها التجار وغيرهم ممن يطلب ذلك، ويكون كأحدهم)). وقاله ابن عبد الحكم بالحصص بالثمن الأول. وقال أصبغ بقول مالك الأول، إن عاد أدب ونفي من السوق. واختار محمد أن يرد شراؤه وترد السلعة على بائعها. وبه قال

ابن حبيب. وروى أيضاً يؤدب المتلقى. قال ابن القاسم: إلا أن يعذر بجهل، وكذلك في الحاضر يبيع للبادي. وقال ابن وهب: يزجر ولم يبلغ به الأدب. فرع: اختلفت الروايات في حد التلقي، فروي: الميل، وروي: الفرسخان. وفي الواضحة: ((لا تتلقى السلع، وإن كانت على مسيرة يوم أو يومين)). خاتمة لهذا الباب: يذكر ما يترتب على العقد الفاسد، وما يتصل به من قبض أو فوات. والمقصود النظر في نقل الضمان، وفي نقل الملك. النظر الأول في نقل الضمان: ولا يحصل بمجرد العقد الفاسد، فإن مكن البائع المبتاع من قبض المبيع فتركه اختياراً، أو نقد المبتاع ثمن للبائع، فقال أشهب: ينتقل الضمان بكل واحد منهما. وقال ابن القاسم: لا ينتقل إلا بالقبض. ويتخرج خلافهما على أن تبدل النية مع بقاء اليد هل يؤثر في حكم الضمان أم لا؟ فإن اتصل بالعقد الفاسد القبض انتقل الضمان انتقالاً تقتضيه شبهة الملك لا حقيقته. وقال سحنون: إن كان البيع مجمعاً على فساده لم ينتقل الملك ولا شبهته ولا يضمنه المبتاع لا ضمان الرهان. ثم حيث أو جبنا عليه القيمة عند التلف تحت يده، فالمعتبر قيمته يوم القبض لا يوم العقد. فرع: لو عثر على العقد قبل الفوت ففسخ بعد أن استغل أو استعمل لم يلزمه عوض عن ذلك إذ الخراج بالضمان.

النظر الثاني: في نقل الملك. ولا ينتقل بمجرد العقد. ولا باتصال القبض به على المعروف من المذهب. وذكر محمد بن سلمة أن الفسخ بعد القبض استحسان. وهذا القول منه يشير إلى أن القياس منع الفسخ بمجرد القبض. ومقتضى هذا أن العقد الفاسد إذا اتصل به القبض نقل الملك. فأما إن تعقب القبض الفوات فإن الملك ينتقل، ويجب المثل في ما له مثل، والقيمة فيما لا مثل له. ثم النظر في الفوات يتعلق بحكمه وأسبابه. أما حكمه فنقل الملك كما بينا، وإيجاب المثل أو القيمة. لكن اختلفت الرواية في تعميم هذا الحكم في جميع البياعات الفاسدة ما اتفق على فساده منها. وما اختلف فيه، أو تخصيصه بما كان من الحرام البين، من الربا وغيره. فأما ما كرهه الناس إذا فات فيمضي بالثمن. والتعميم رواية ابن نافع، والتخصيص رواية ابن القاسم. قال القاضي أبو محمد: والأول أقيس. وأما أسباب الفوات فأربعة: تغير الذات، وتغير السوق، والخروج عن اليد بالبيع، وتعلق حق آخر بها. فأما السبب الأول وهو تغير الذات، فهو عامل في جميع أنواع المبيعات الأربعة: العقار، والعروض، والحيوان، وذوات الأمثال: (من) المكيلات والموزونات والمعدودات. فيفوت العقار بذهاب عينه واندراسه الذي يقوم مقام ذهاب عينه، إذ يستحيل رد العين بعد تلافها. وتفوت الدور منه بالهدم والبناء، والأرض بالغرس فيها، وقلعه منها، وحفر الآبار، وشق العيون، وما في معنى ذلك، لكون هذه الأحوال يتحول معه الغرض المقصود من العقار. وتفوت العروض أيضاً بذهاب عينها وتغيرها في (ذاتها)، وكذلك الحيوان وذوات الأمثال. وأما السبب الثاني فهو تغير السوق، فيختص عمله في المشهور بالنوعين المتوسطين: العروض والحيوان. وأعمله ابن وهب في الأنواع الأربعة.

قال الإمام أبو عبد الله: ومقتضى كونه مفيتاً في المكيل والموزون أن تؤخذ عنه القيمة إذا وقع الفسخ. وإنما كان تغير السوق مفيتاً للمعادلة بين المتبايعين لنفي الضرر عنهما، إذ لو قضينا بالرد بعد تغير السوق لخصصنا أحدهما بالضرر، مع اشتراكهما في سبب الفسخ ودخولهما فيه دخولاً واحداً. وبهذا يفارق الرد بالعيب. وأما السبب الثالث، وهو خروج المبيع عن اليد بالبيع، فهو عامل في أنواع المبيعات بأسرها، فمن اشترى شيئاً منها شراء فاسداً فقبضه ثم باعه بيعاً صحيحاً، فإن بيعه له ينفذ، ويكون فوتاً يمنع من الرد لكون البائع سلم المبيع للمبتاع، وقد أذن له في التصرف فيه، ومن التصرف في بيعه. ولو قدر أن الملك لم ينتقل ولا شبهته لكان ينبغي أن ينفذ هذا العقد الثاني لكون البائع أذن فيه وسلط عليه. قال الإمام أبو عبد الله: ومقتضى ما تقدم لسحنون في البيع المتفق على فساده من أنه يضمن ضمان الرهان، لا لشبهة الملك فيتقضي أن ينقض هذا البيع الثاني، لأنه عنده كبيع المرتهن، فأما البيع المختلف في فساده لاختلاف طرق الاجتهاد فيه فلا يخالف فيه. هذا حكم البيع بعد القبض. فأما لو باع ما اشتراه شراء فاسداً قبل قبضه، فقد رأى المتأخرون أن المذهب في نفوذ بيعه له وهو في يد بائعه منه، وكونه قوتاً على قولين. قالوا: وكذلك عكسه، وهو أن يبيع البائع ما باعه بيعاً فاسداً بعد قبض من اشتراه الشراء الفاسد له، وجعلوا سبب الخلاف كون البيع الفاسد نقل شبهة ملك أم لا؟ وأما السبب الرابع، وهو تعلق حق غير البائع والمبتاع بهذا المبيع بيعاً فاسداً، وذلك كرهن السلعة وإجارتها، وإخدامها إن كانت حيواناً ووقعت الخدمة إلى أجل محدود، حتى تجري مجرى الإجارة في حكم الفوت، فهو عامل أيضاً في الأنواع الأربعة. هذه الأسباب العامة للفوت. وقد وقع للأصحاب النص على أسباب آخر، بعضها يرجع إلى هذه الأربعة، وبعضهل يؤخذ من تعليلها ويقرب منها، فذكرناها لتكمل الفائدة بذكرها. منها: مجرد طول زمان يمر على الحيوان ولم يتغير في ذاته ولا سوقه، فاختلف فيه هل يكون فوتاً أم لا؟ ورأى الإمام أبو عبد الله أن المعتبر تغير البدن أو السوق. وإنما اعتبر طول الزمن لأنه لا يخلو عنه في العادة وصار الاختلاف في حد الزمن الدال بالعادة على ذلك. ومنها نقل العروض أو المكيلات والموزونات من بلد إلى بلد لا يتأتى رده منه إليه في غالب العادة إلا بتكلف سفر وإجازة على حملها. وهذا السبب يقرب من تغيير الأسواق بما يلحق من الغرامة في نقله وفي إعادته، فيقع

الباب الرابع: في الفساد من جهة تفريق الصفقة

الضرر على أحدهما لا محالة، ويختص به كما أشير إليه في تغير الأسواق. ومنها: مجرد وطء الأمة. ففي كتاب محمد أنه فوت، وهو قريب مما قبله، إذ يفتقر إلى إيقافها للاستبراء، ويمنع السيد من التصرف فيها الوطء والبيع، وغيره من وجوه نقل الملك خوف الحمل، فيلحق السيد أعني البائع الأول الضرر لا محالة. ومبنى هذا الباب على خمسة، كما تقدم. فرع: إذا تحقق السبب المفيت للبيع الفاسد، وحكم بموجبه لم يرتفع الحكم بارتفاع السبب ولو حصل السبب فلم ينظر فيه حتى زال، فهل يرتفع حكم الفوت بارتفاع السبب؟ اتفق ابن القاسم وأشهب على أن الفوت إذا كان بحوالة السوق لم يرتفع حكمه بعود السوق الأول. واختلف إذا كان الفوت بالبيع. فرآه أشهب كحوالة السوق. ورأى ابن القاسم أن حكم الفوت يرتفع برجوعه إلى يد بائعه. قال الإمام أبو عبد الله: وبقية هذا الباب تجري على (هذا) الخلاف كالعتق والتدبير يرده الغريم، والعيب يزول بعد حدوثه. قال: وكذلك لو أجره أو رهنه ثم أفتكه بالقرب، فإن هذا كله يجري على القولين. الباب الرابع: في الفساد من جهة تفريق الصفقة: وإذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، وكان الحرام مما لا يقبل البيع كالعقد على سلعة وخمر أو خنزير أو حر ونحو ذلك فالصفقة كلها باطلة. وقيل: يصح البيع فيما عدا المحرم بقسطه من الثمن. فأما لو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة لصح البيع فيهما على المشهور كما تقدم، ولزمه في ملكه، ووقف اللزوم في ملك غيره على إجازته ورده. ثم إن كان ملك الغير وجه الصفقة كأحد العبدين أو الثوبين، وشبه ذلك، ثبت الخيار للمبتاع في أخذ الباقي بقسطه من الثمن أو فسخ البيع فيه، وقد تقدم الحكم الجمع بين عقدين مختلفين في صفقة واحدة، وأن المشهور فساد الصفقة وتتعدد الصفقة بتعدد البائع، وفي تعددها بتعدد المبتاع أو بتعدد المعقود عليه خلاف. وحيث جرى العقد بوكالة فالاعتماد على الموكل في تعدده واتحاده [والله أعلم].

الباب الخامس: في الفساد من جهة تطرق التهمة إلى المتعاوضين

الباب الخامس: في الفساد من جهة تطرق التهمة إلى المتعاوضين: بأنهما قصدا إظهار فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز وتذرعاً بشيء جائز في الظاهر إلى باطن ممنوع في الشريعة، حسماً للذرائع وحماية لها. وقد أجمعت الأمة على جواز كل واحد من البيع والسلف بانفراده، وعلى المنع من جمعهما ولا سبب إلا الحماية. وذلك أن الأغراض لو صحت لأفرد كل واحد منهما. (فلما) جمعا اتهم المتبايعان أن يقصدا الزيادة في السلف، فإذا كان البائع هو المسلف فكأنه أخذ الثمن في مقابلة السلعة والانتفاع بالسلف. وإذا كان المبتاع هو المسلف فكأنه أخذ السلعة بما دفعه من الثمن وبالانتفاع بالسلف. وهذا إنما اعتبر اتهاماً لا تحقيقاً، فإذا منع الجمع بين جائزين محاذرة من الوقوعت في الممنوع أو التطرق إليه فكذلك تحمى الذرائع مما نذكره بعد محاذرة من الوقوع في الممنوع أو التطرق إليه. إذا ثبت هذا فلا يختلف المذهب في مراعاة ذلك وفسخ العقد إذا كان مما يكثر القصد إليه وتظهر التهمة عليه كبيع وسلف أو سلف حر منفعة، فإن بعدت التهمة بعض البعد وأمكن القصد إليها كشيء تختلف العوائد في القصد إليه، كدفع الأكثر مما فيه الضمان وأخذ أقل منه إلى أجل، فهذا فيه قولان مشهوران. فأما مع ظهور ما يبرئ من التهمة جملة لكن فيه صورة المتهم عليهم وهو من جنسه، كما لو تصور العين بالعين غير يد بيد، لكن تظهر البراءة من التهمة بتعجيل الأكثر وتأجيل ما هو دونه، فذلك جائز لأن المعول على التهمة وقد فقدت. وقيل: لا يجوز نظراً إلى حماية الباب جملة. وأصل هذا الباب وهو المعروف عند أهل المذهب ببيوع الآجال اعتبار ما خرج من اليد وما رجع إليها، فإن جاز التعامل عليه مضى وإلا بطل. فإذا كان المبيع ثوباً مثلاً أو غيره فجعله ملغى كأنه لم يقع فيه عقد أولاً ولا آخراً ولا تبدل فيه الملك، واعتبر ما خرج من اليد خروجاً مستقراً انتقل الملك به، وما عاد إليها وقابل أحدهما بالآخر، فإن وجدت في ذلك وجهاً محرماً لو قرأ بأنهما عقدا عليه لفسخت عقدهما، فأمنع من هذا البيع لما تقدم من وجوب حماية الذريعة. وإن لم تجد أجزت البياعات، ثم تتهم مع إظهار القصد إلى المباح وتمنع إن ظهر القصد إليه حماية أن يتوسلا أو غيرهما إلى الحرام. وعقد الباب: أن من باع سلعة تعرف بعينها إلى أجل، ثم اشتراها فلا يخلو أن يكون الثمنان من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، ولا يخلو أن يكونا عيناً أو طعاماً أو عرضاً.

فإن كانا من جنس واحد وهما عين، فلا يخلو أن يتفق النوعان كما إذا كانا ذهباً أو فضة، أو يختلفا كذهب وفضة. فإن تساويا في النوع فلا يخلو أيضاً من أن يتساويا في (الصفة) أو يختلفا. وقد حصل من هذا أقسام. القسم الأول: أن يتفقا في العين والصفة، ويتصور في هذا القسم اثنتا عشرة صورة، وذلك أن الثمن الثاني لا يخلو من أن يكون مساوياً للثمن الأول أو أقل أو أكثر. ولا يخلو من أن يكون البيع الثاني نقداً أو إلى أجل، والأجل إما (مساو) للأجل الأول، وإما أقل منه وإما أكثر. لكن ثلاث صور منها تدخل في مثلها لتساوي الأحكام، وهي أن يكون البيع إلى اقرب من الأجل، فإنها بمنزلة النقد. ويمنع من هذا القسم صورتان، ويجوز سبع، إحدى الصورتين أن يشتري السلعة نقداً بأل من الثمن. والثانية أن يشتريها إلى أبعد من الأجل بأكثر من الثمن. والمحاذرة في الصورتين من سلف جر منفعة بتقدير السلعة لغواً، إلا أن يشترط المقاصة فتجوز الصور التسع لارتفاع التهمة. هذا هو أصل المذهب. وقال أبو القاسم بن محرز: إذا اشتراها بمثل الثمن أو أقل منه إلى أبعد من الأجل وقد أقامت عند مشتريها ينتفع بها، فقد كان القياس أن لا يجوز ذلك أيضاً لأنه إن اشتراها بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل فقد أسلف المشتري مائة في مائة، وازداد ما انتفع به من ركوب السلعة أو استخدامها أو لباسها، وإن اشتراها بأقل من الثمن إلى أبعد من الأجل كان بيعاً وسلفاً، وكان قدر ما يرجع إلى المشتري سلف، وما زاد على ذلك يكون ثمناً للإجارة فيما انتفع بالسلعة وصار بيعاً وسلفاً. وكذلك إن اشتراها بأقل من الثمن إلى أقرب من الأجل لأنه يكون إجارة وسلفاً. قال أبو القاسم: ولم أر أحداً يذهب إلى هذا، وإنما يعتبرون بصورة الحال عند العقد الثاني، إلا أن أبا الفرج ذكر في كتابه عن عبد الملك بن الماجشون أنه قال: لا يجوز أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها بذلك الثمن أو بأكثر منه إلى أبعد من الأجل. قال أبو القاسم: ولا أعلم له وجهاً إلا ما ذكرت من الانتفاع بالسلعة. القسم الثاني: أن يختلف نوعا الثمنين كذهب وفضة. فإن كان البيع الثاني مؤجلاً منع مطلقاً، لأنه تعاقد على صرف بتأخير، وإن كان نقداً فإن كان المنقود أقل من صرف المتأخر منع قولاً واحداً، وإن كان مثله فأكثر فقولان منصوصان: المنع مطلقاً، قاله أشهب، لأنه صرف مستأخر. والمنع إن كان المنقود مثل صرف المتأخر أو

مقارباً له، والجواز إن كثر المنقود جداً حتى يسلما من التهمة، وهو مذهب الكتاب. ومثاله: من باع سلعة بأربعين درهماً إلى شهر، ثم اشتراها بدينارين، وصرف الدينارين أربعون درهماً، إنه لا يجوز. فإنه اشتراها بعشرين ديناراً جاز، لأنهما سلما من التهمة. واستقرأ أبو الحسن اللخمي قولاً ثالثاً، أنه يجوز وإن كان الشراء بدينارين. قال: وهو أحسن، لأنه يخسر الصبر، ولا يعود إلى يده أكثر مما خرج منها)). القسم الثالث: أن يتساوى نوع الثمن وقدره في العقدين وتختلف عينه بالجودة والدناء، فإن تعجل الأفضل وتأجل الأدنى جاز على مقتضى المعروف من المذهب لبعد التهمة، وإن كان بالعكس منه لأن محصول أمرهما دفع أقل ليأخذ أكثر مع ما يدخله من المبادلة بالتأخير. وكذلك إن تساوى الأجلان فالمذهب أيضاً المنع، لأن المقاصة ها هنا لا تمكن، وتصير الذمتان مشغولتين بذهبين مختلفين، فهو تعاقد على مبادلة ذهب بخلافه إلى أجل. وكذلك إن كان أجل الثمن الثاني أبعد من أجل [الثمن] الأول فأحرى بالمنع، لأنه تعاقد على مبادلة بتأخير. القسم الرابع: أن يكون الثمنان طعاماً، ولا يخلو أيضاً أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين. فإن كانا من نوع واحد تصورت فيهما الصور التسع. ومنع منها صورتان وهما: أن يكون البيع الثاني نقداً بأقل من الثمن الأول، أو إلى أبعد من الأجل بأكثر منه. وتجوز خمس صور بلا خلاف: ثلاث منها أن يكون البيع إلى الأجل الأول بمثل الثمن أو أكثر أو أقل، واثنتان: أن يكون البيع بمثل الثمن نقداً أو إلى أبعد من الأجل، ويختلف في الإثنين الباقيتين، وهما أن يكون البيع بأكثر من الثمن نقداً أو بأقل منه إلى أبعد من الأجل. وإنما سبب الخلاف في هاتين: المحاذرة من الضمان بالجعل هل يقصد في الغالب أم لا؟. وإن كان الطعامان من نوعين مختلفين فحمهما حكم العينين المختلفين. القسم الخامس: أن يكون الثمنان عروضاً، ولا يخلو أيضاً من أن تكون من جنس واحد أو من جنسين مختلفين. فإن كانت من جنس واحد فإذا تصورت الصور التسع منع منها اثنتان قولاً واحداً وجازت خمس كذلك. واختلف في اثنتين كما تقدم لأن العروض كإطعام في الضمان. وإن كان الثمنان من جنسين فلا خلاف ها هنا في الجواز، إذ لا ربا في العروض.

فروع: الأول: أن يشترطا المقاصة بين الثمنين فلا يبقى للمنع وجه إذ لا يخرج أحد شيئاً يرجع إليه أكثر منه. الثاني: أن يشترطا في العين عدم المقاصة، فإن كان الثمنان من جنس واحد منع مطلقاً إذا كان البيع الثاني إلى الأجل نفسه، لأنه يقتضي إخراج كل واحد منهما ما في ذمته من الذهب فيكون اشتراط التبادل (بذهبين) غير يد بيد، فيدخله التأخير إن كانا متساويين، فإن كانا مختلفين دخله التأخير والربا. الثالث: في تصور اشتراط السلف من كل واحد من المتبايعين، وهو الذي يعبر عنه أهل المذهب بأسلفني وأسلفك. ومثاله أن تكون البيعة الأولى بمائة مثلاً إلى شهر، والثانية بخمسين نقداً وخمسين إلى شهرين. (فالمشهور) جواز هذا إذا استوى الثمنان في النوع والصفة، إذ لا يخرج أحدهما شيئاً فيرجع إليه أكثر منه. وقال بالمنع عبد الملك بن الماجشون، وعد مخرج الخمسين مسلفاً لها، يأخذ عنها عند الشهر خمسين بشرط أن يسلفه الآخر خمسين يأخذ عوضها عند تمام الشهر الثاني. وهذا على مراعاة التهم البعيدة، وربما عبر عنه بحماية الحماية أيضاً. هذا مع استواء الثمنين، فأما مع اختلافهما فيمنع عندهما جميعاً. فلو كانت البيعة الثانية بخمسين نقداً وأربعين إلى الشهر بعينه لمنع عندهما جميعاً، وعند معجل الخمسين مسلفاً لها يأخذ عنها ستين، وتكون أربعين بأربعين. وهذا سلف جر منفعة. ولو اشتراها بخمسين نقداً وستين إلى الأجل نفسه لجاز عندهما لإخراجه الأكثر وأخذه الأقل. ولو اشتراها بخمسين نقداً وستين إلى شهرين لمنع باتفاقهما، لأن مخرج المائة عند الشهر دفع خمسين عن خمسين، وأعطى خمسين يأخذ عنها بعد شهر ستين. وكذلك لو اشتراها بخمسين نقداً وأربعين إلى شهرين لمنع عندهما أيضاً، لأن مخرج الخمسين يأخذ عنها ستين عند الشهر، ويدفع أربعين يأخذ عنها عند الشهر مثلها. الرابع: لو كان المبيع طعاماً أو شبهه مما يكال أو يوزن، ثم استرد بعينه أو مثله صفة ومقداراً، جاز بشرط مراعاة الثمن على ما تقدم. وإن استرد خلافه فهذا بيع حادث. ولو استرد من صنفه لكنهما اختلف في الصفة فالجودة مثل كثرة الكيل، والدناءة مثل قلته، وإن كان من

غير صنفه كالشعير أو السلت مع القمح أو المحمولة مع السمراء فحكى أبو محمد عبد الحق عن أشياخه القرويين جوازه مطلقاً، لاختلاف ما بينهما. وإن اتفقا في الصفة واختلفا في المقدار، فإذا تصورت فيها الصور التسع جعلت الزيادة في المردود أو النقص منه بمنزلة الزيادة والنقص منه بمنزلة الزيادة والنقص في الثمن يمنع منه ما تقدم. وبيانه: أن البيعة الثانية إن كانت بأقل من الثمن نقداً فيمنع أن يكون المردود أقل كيلاً، لأنه يكون رد إليه بعض الطعام، وأخذ بعضه ببعض الثمن، وأخذ المنقود سلفاً، فيصير بيعاً وسلفاً. فأما إن رد إليه أقل من المكيلة بمثل الثمن، فإن كان إلى أقرب من الأجل أو نقداً فلا تهمة. وإن كان إلى الأجل فقال في الكتاب: ((في من باع طعاماً بثمن إلى أجل فلما حل أخذ منه أقل من مكيلته بجميع الثمن، لا يعجبني ذلك)). وروى عيسى عن ابن القاسم: ((لا بأس به)). وقال عبد الحق: ((إنما يعتبر وجهان، أن يشتري بأقل من الثمن، يريد نقداً، فلا يجوز البتة، كان الذي اشترى مثل ما باع أو أقل أو أكثر، أو يشتري أكثر من كيل الطعام فلا يجوز، كان شراؤه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر)). قال: ((وما عدا هذين الوجهين فهو جائز)). قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا إنما تكلم به على الشراء نقداً، قال وأما إذا اشترى إلى أبعد من الأجل فتراعى فيه كثرة الثمن أو كثرة الطعام، فلا يجوز لأن أقل من الثمن نقداً بمنزلة أكثر إلى أبعد من الأجل. الفرع الخامس: لو كان المبيع عروضاً فردها بعينها، فقد تقدم حكمها. ولو كان إنما استرد من المشتري منه خلافها فلا شك في الجواز مطلقاً، ويعد كل واحد من البيعين مستقلاً بنفسه. وإن كان المردود مثلها فرآها ابن القاسم بمنزلة المختلفة لكون العروض تختلف الأغراض فيها. ورآها ابن المواز بمنزلة العين. واختلف إذا استرد السلعة بعينها بعد أن تغيرت تغيراً كثيراً، هل هي كسلعة أخرى فيجوز ذلك فيها مطلقاً؟ أو كالعين فيجري على ما تقدم.

ولو باع عبدين بمائة إلى سنة، ثم اشترى منه أحدهما بدينار لم يز، لأنه باعه ديناراً وعبداً بمائة إلى سنة. وكذلك لو اشترى أحدهما بتسعة وتسعين نقداً ما جاز، ولو كان ما يشتري به على شرط المقاصة لجاز. ولو باع ثوباً بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه منه بخمسة وثوب من نوعه أو (من) غير نوعه لم يجز، لأن البائع يخرج الآن خمسة عوضاً عن عشرة، يأخذها إذا حل الأجل بخمسة من هذه العشرة التي يأخذها إذا حل الأجل قضاء عن الخمسة التي كانت مع الثوب، والثوب الذي مع الخمسة مبيع بالخمسة الباقية من العشرة. الفرع السادس: أن يشتري البائع الأول السلعة بوكالة لغيره بأقل من الثمن نقداً، وفيه قولان: (قال ابن القاسم): لا يعجبني. وقال أشهب: يكره ولا يفسخ إذ نزل، وكان على الصحة. وكذلك قال لو اشتراها لولد له صغير. وكذلك قولان لو اشتراها عبد البائع، وكان يتجر لنفسه، المشهور جوازه. وكرهه أشهب. وإن كان يتجر لسيده لم يجز. الفرع السابع: إذا وقعت بياعات الآجال على الصفة المنهي عنها، كما إذا اشترى السلعة بأقل من الثمن نقداً أو بأكثر إلى أبعد من الأجل، فإن أدركت السلعة قائمة بيد المشتري الثاني فسخ البيع الثاني قولاً واحداً، ثم يقتصر على فسخه خاصة عند ابن القاسم وسحنون. وقال ابن الماجشون: تفسخ البيعتان سواء كانت السلعة قائمة أو فائته، إلا أن يصح أنهما لا يتعاملا على العينة، إنما وجدها تباع فابتاعها بأقل من الثمن. فهذا تفسخ فيه البيعة الثانية، وتصح الأولى. وسبب الخلاف: النظر إلى صحة البيع الأول، وأن الفساد إنما دخل من الثاني، فإذا أبطلناه بقي الأول على الصحة، أو النظر إلى أنا نجعل العقدين كالعقد الواحد، كأنهما إنما دخلا من الأول على الفساد، ويلتفت (في) هذا إلى مراعاة التهم البعيدة. وأما إن فاتت السلعة فالمشهور أنهما يفسخان جميعاً. وقال محمد بن مسلمة: يفسخ البيع الآخر إن كان قائماً، فإن فات مضى بالثمن. قال الشيخ أبو الطاهر: ولعل هذا مراعاة للخلاف.

وذكر ابن أبي زمنين تفصلاً، فقال: ((إن تضمن اختصاص الفسخ بالبيعة الثانية حصول الربا، وهو دفع قليل في كثير سرى الفسخ إلى الأولى، وإن لم يتضمن ذلك اختص بالثانية)). قال القاضي أبو الوليد: ((يعني أنها فاتت بعد أن قبضها المبتاع الثاني، وأما لو هلكت بيد المبتاع الأول، فعندي أن الثاني يبطل خاصة ويثبت الأول)). قال: ((ولم أر فيه نصاً)). وفصل إذا فاتت بيد المبتاع الثاني، فقال: لا يخلو أن يكون الثمنان قبضا أو لم يقبضا أو قبض أحدهما، قال: ((فإن قبضا وفاتت فعلى قول محمد وابن عبدوس يلزم البائع الأول أن يرد الزيادة. وإن لم يقبضا تتاركا. وإن قبض الأول فقال محمد: يرد المبتاع الأول على البائع الأول الذي قبض منه)). ونحو ذكر ابن عبدوس. قال القاضي أبو الوليد: ((ولم يذكر معجلاً ولا مؤجلاً قال: ونحو ذلك ذكر ابن عبدوس في المجموعة)). قال: ((والذي عندي أنه يكون معجلاً أو إلى أقرب من أجل الثمن الآخر)). ((وحكى عن شيوخه الأندلسيين ما ذكره ابن أبي زمنين من التفصيل، وهو أنه إذا باعه ثوباً بعشرة مؤجلة، ثم اشتراه منه بخمسة معجلة، فقبض المبتاع الخمسة، وفات الثوب عند المبتاع الأول فإنك تنظر إلى قيمة الثوب، فإن كانت عشرة فصاعداً غرم البائع الأول للمبتاع الأول تمام القيمة يقاصه منها بالخمسة التي قبض. وإن كانت قيمته أقل من عشرة فسخ البيع الأول والثاني، ورد المبتاع الأول الخمسة التي قبض منه)). قال الشيخ أبو الطاهر: ((فنظر ابن المواز وابن عبدوس إلى أن موجب الفساد هو العقد الثاني [فإذا] نقض زال الموجب)). ونظر الأندلسيون إلى أن القيمة متى كانت مثل الثمن الأول فأكثر ضعفت التهمة في أنهما عملا على ذلك فلم يفسخ إلا العقد الثاني.

وإن كانت القيمة أقل من الثمن فسخ البيع الأول أيضاً، لأنه الأصل، فيكون العقدان كالعقد الواحد فيفسخان. الفرع الثامن: في بيان أحكام بياعات قد عرفت بأهل العينة. فمنها أن يقول الرجل لأحدهم: اشتر لي هذه السلعة وأربحك فيها، فإن سمى الثمن وأوجب البيع إلى أجل منع، لأن يؤول إلى سلف جر منفعة، وإن كان على النقد، فهل يجوز ويكون له جعل المثل أو يمنع؟ فيه قولان. وإن لم يسم الثمن ولم يوجب البيع كره ولا يفسخ إن نزل، ويكون له جعل المثل. ومنها أن يشتري من أحدهم سلعة بعشرة نقداً وبعشرة إلى أجل، فيمنع منهم خاصة، ويقدر كأنه اشتراها ليبيع منها بعشرة يدفعها نقداً ويبقى له باقي السلعة يبيعه لينتفع بثمنه معجلاً، ثم يدفع عنه عشرة مؤجلة، والغالب أن السلعة لا تساوي العشرين فيؤول إلى ذهب في أكثر منها. ومنها أن يكون الإنسان منهما يشتري ليبيع، لا ليأكل، فيبيع منه إنسان طعاماً مثلاً بعشرة إلى أجل، فيقول المشتري: بعته بثمانية، فحط عني من الربح قدر الدينارين، فيمنع إذا كان المقصود البيع، وكانا أو أحدهما من أهل العينة. قال: لأن أهل (العينة) يتراضون على ربح العشرة اثني عشرة أو غيره، فإذا باعها فنقص ذلك عن تقديرهما حطه حتى يرجع إلى ما تراوضا عليه. وقد كرهه ابن هرمز. وبالجملة: فهؤلاء قوم علموا فساد سلف جر منفعة، وما ينخرط في سلكه من الغرر والربا، فتحيلوا على جوازه بأن جعلوا سلعاً حتى تظره فيها صورة الحل، ومقاصدهم التوصل إلى الحرام، وقد قمنا أن أصلنا حماية الذرائع وسحب أذيال التهم على سائر (المتعاملين) متى بدت مخايلها، أو خفيت وأمكن القصد إليها من المتعاملين. وقد قال الأصحاب: إذا كانت البيعتان الأولى منهما إلى أجل، اتهم في ذلك جميع الناس، فإن خرج ذلك إلى شيء من المكروه فلا تجزه. وإن كانتا نقداً فلا يتهم في الثانية إلا أهل العينة فقط. وكذلك إذا كانت الثانية هي المؤجلة. وقيل: بل يتهم في هذه جميع الناس. قال أصبغ: وإذا كان أحدهما من أهل العينة فاعمل على أنهما جميعاً من أهلها.

القسم الثاني من الكتاب: في لزوم العقد وجوازه

نجز الجزء الأول من كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة تأليف الشيخ الفقيه الإمام العالم جلال الدين وقدوة المهتدين أبي محمد عبد الله بن نجم ابن شاس رضي الله عنه. يتلوه في أول الثاني، القسم الثاني من الكتاب في لزوم العقد وجوازه، والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. القسم الثاني من الكتاب: في لزوم العقد وجوازه والأصل في بيع اللزوم، والخيار عارض. ثم هو متنوع إلى خيار التروي وإلى خيار النقيصة. النوع الأول: خيار التروي: وهو ما لا يقف على فوات وصف، وسببه الشرط دون المجلس، بل لا يثبت خيار المجلس بالعقد ولا بالشرط. وحكى القاضي أبو الوليد عن ابن حبيب إثباته تمسكاً بظاهر الحديث الذي رواه مالك في موطئه، وقد قال في عقب روايته: ((وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه)). قال القاضي أبو بكر: ((يريد أن فرقتهما ليس لها وقت معلوم)). قال: ((وهذه جهالة يقف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة والمنابذة أو كبيع على خيار إلى أجل مجهول، وما كان كذلك فهو فاسد قطعاً. ولا يعارض هذا الأصل بظاهر لم يتحصل المراد منه مفهوماً، إذ تفسير ابن عمر ليس بحجة، ولهذا عدل عن ظاهره الفقهاء السبعة وغيرهم من السلف، وأولوه على أنه قد روي في بعض طرقه: ((ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار))، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)). رواه الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن

أبيه عن جده عبد الله بن عمر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وظاهر هذه الزيادة مخالف لظاهر أول الحديث، فإن تأول من أخذ بظاهر الحديث لفظ الاستقالة باختيار الشيخ، تأولنا لفظ الخيار باختيار الاستقالة، وإذا تقابل التأويلان وقف الحديث والقياس في جانبنا. ثم النظر في خيار الشرط في مدته، وفي حكم الطوارئ فيها. النظر الأول: في مدته. وهي محدودة الأول بزمن العقد، وليست بمحدودة الآخر بزمن واحد، وإن كان لابد من تحديده في الجملة، بل تختلف الحال فيها باختلاف السلع المبيعة بحسب ما يشبه من الحاجة إلى التروي، ويطول ويقصر بحسب الحاجة إلى زيادة التروي نقصه والاختيار للمبيع والسؤال عنه مع سرعة استحالته وإبطاء ذلك فيه. هذا عقد التأصيل، ولنسرد الروايات في تفصيله: (ففي الكتاب: ((هو في الدار الشهر ونحو)). وفي الواضحة عن ابن الماجشون: الشهر والشهران. ووجهه أنه (يحتاج) النظر إلى حيطانها وأساسها ومرافقها واختيار جيرانها (ومكانها)، مع كونها مأمونة لا تسرع إليها الاستحالة. وفي الكتاب: ((في الرقيق الخمسة الأيام والجمعة وما أشبه ذلك)). وقال محمد: الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في عشرة أيام، وأفسخه في الشهر. وأجاز ابن القاسم في العبد عشرة أيام. وروى ابن وهب: (إجازته) في الشهر. وأبى ذلك ابن القاسم وأشهب.

ووجه رواية ابن وهب أن الرقيق ذو ميز، وربما ستر ما فيه من الأخلاق والعيوب التي تزهد فيه، ويستعمل ما يرغب فيه مدة (فيفسخ في مدة خياره) ما لا يكاد أن يستر فيه أمره غالباً، وإن أراد ستره. وأما الدابة، ففي الكتاب. ((تركب اليوم وما أشبهه)). ولا بأس أن يشترط (المسير) عليها البريد والبريدين ما لم يتباعد ذلك. والفرق بينهما وبين الرقيق، أنها لا تميز فتكتم (أحوالها)، وفي [مثل] هذه المدة يختبر (جنس سيرها وخلقها). قال القاضي أبو الوليد: ((ويحتمل أن يريد (بركوب) اليوم في المدينة: على حسب ما يركب الناس في تصرفاتهم، وسير البريد والبريدين (إن) خرج عن المدينة ليختبر بذلك بقاء سيرها وصبرها في حالها)). قال: ((ويحتمل عندي أن يضاف إلى ذلك الليلة ليختبر أكلها وحالها في وقوفها ووضع آلتها عليها، ونزعها عنها ولا يشترط من ذلك أكثر مما يحتاج إليه (فإنها) يسرع التغيير إليها)). وقال أبو محمد عبد الحق: ((يشترط) في الدابة اليومين والثلاثة، كالثوب من غير ركوب، وإنما شرط في المدونة اليوم في الركوب)). وأما الثوب، ففي الواضحة: يشترط فيه اليومين والثلاثة. ولا يشترط لباس الثوب، وإن اشترط استخدام الرقيق وركوب الدابة، لأن استخبارهما إنما يحصل باستعمالها بخلاف الثوب.

وأما الفاكهة كالبطيخ والقثاء والتفاح والرمان والخوخ فقد قال ابن القاسم في الكتاب: ((إن كان الناس يستشيرون في مثل هذا ففيه الخيار بقدر الحاجة)). ولا يغيب المبتاع على شيء مما لا يعرف بعينه من الفواكه وغيرها. وقاله ابن القاسم وأشهب لأنه يصير تارة سلفاً إن رده، وتارة بيعاً إن أبى رده). ولا يجوز في شيء من السلع أن تكون مدة الخيارفيه مجهولة، فإن عقدا على ذلك كقولهما: إلى قدوم زيد، ولا أمارة عندهم على قدومه، أو إلى أن يولد لفلان، ولا حمل عنده أو إلى أن ينفق سوق السلعة، ولا أوان يغلب على الظن عرفاً أنها تنفق فيه، إلى غير ذلك مما يرجع إلى الجهل بالمدة، فالبيع فاسد. لكن إن وقع العقد على أنه بالخيار ولم يعين مدة مجهولة ولا معلومة فالعقد صحيح، ويحمل على خيار مثل السلعة كما تقدم بيانه. ولو زاد في مدة الخيار على ما هو أمد خيارها في العادة فسد (العقد). قال القاضي أبو محمد: ((ولا يصح العقد بإسقاط مشترطه له، بخلاف مشترط السلف يسقطه))، إذ إسقاطه تمسك بالسلعة، وهو مقتضى الشرط الفاسد لأنه إنما اشترط أن يكون بالخيار بين الإمساك والرد طول هذا الأمد فإذا اختار الإمضاء فقد عمل بمقتضى الشرط الفاسد)). قال الإمام أبو عبد الله: وعندي أنه يد يختلف فيه تخريجاً من مسألة: من أسلم في تمر سلماً فاسداً، فلما فسخ عليه وقضي له برأس ماله أراد أن يأخذ تمراً مثل الذي منع منه، فقيل: ذلك لا يجوز، لأنه تتمة للفساد الذي منع منه، فكأن الفسخ لم يفد. وقيل: له ذلك. وإذا اشترط الخيار على الوجه السائغ فلا يتوقف الفسخ به على حضور الخصم أو قضاء القاضي.

ويجوز البيع على خيار غيره أو رضاه أو مشورته. وكذلك الشراء. فرع: قال في الكتاب: ((إذا اشترى على مشورة فلان أو باع على ذلك (فلمشترط) الخيار أن يأخذ أو يرد وإن لم يشاور)). وقال في مشترط الرضى: ((إن كان بائعاً فله الاستبداد بالرد والإمضاء دون رضى من اشترط رضاه، وإن كان مشترياً وقف فعله على رضى من اشترط له ذلك)). واختلف المتأخرون في إبقاء التفرقة على ظاهرها، وهو رأي الأكثر، أو المساواة بينهما. وحمل افتراق الجواب على افتراق السؤال. وهو رأى الشيخ أبي محمد. وقال بعض المتأخرين: ((إنما ينبغي أن ينظر، فإن كان اشتراط الرضى منهما جميعاً، ولهما في ذلك غرض، فهو كالوكيل لهما، ليس لأحدهما أن يمضي أو يرد دونه، وإن كان اشتراط الرضى لأحدهما فله أن يسقط رضاه إذا كان له الخيار)). قال غيره منهم: وهذا الذي قاله هو الأصل، لكن إن لم يظهر أحد القصدين فظاهر الكتاب أن له إسقاط الرضي. وقال ابن حبيب: ليس له ذلك. قال بعض المتأخرين: وهذا إنما ينبغي أن يكون في حق المشتري، وأما البائع فالأصل بقاء ملكه، فلا ينتقل عنه إلا بدليل يدل على أن واقف الأمر على رضى الآخر. وهذا المعنى هو سبب التفرقة بين البائع والمشتري كما وقع في الكتاب. (ولا يجوز اشتراط النقد في بيع الخيار بوجه لئلا يكون تارة ثمناً وتارة سلفاً فإن نقد بغير شرط جاز). فرع: لو عقدا على البت ثم جعل أحدهما الخيار لصاحبه، فقد أجازه في الكتاب.

قال المتأخرون: وإنما يجوز إذا انتقد، لئلا يعطى فيما عليه من الثمن سلعة بالخيار، ولا يثبت خيار الشرط في الصرف. فأما السلم فيجوز فيه خيار اليومين والثلاثة، وعلل بأنه يحتاج إلى السؤال والمشورة مع أن المعقود عليه لا يلحقه بذلك تغير، وإنما منع بعيد (الأجل) لما في ذلك من مشابهته للكالئ بالكالئ، وذلك مما عفي عن يسيره دون كثيره)). والملك في زمن الخيار للبائع حتى ينقل بالإمضاء، والخيار موضوع لتمام البيع واستقراره، لا للفسخ. وقيل: بل هو للمشتري حتى يرد بالفسخ، فموضوع الخيار على هذا للفسخ لا للإمضاء. النظر الثاني: في حكم الطوارئ في المدة. وحدوث الغلة في أيام الخيار للبائع، كما أن عليه ضمان المبيع. فأما لو اشترى كبشاً وعليه صوف فأمضى البيع لكان الصوف للمبتاع، لأنه مشترى. ولو ولدت الأمة في مدة الخيار، فإن فسخ البيع رجع الولد مع أمه إلى البائع، وإن أمضى البيع فهل يتبع أمه كالجزء من المبيع أو يبقى للبائع كالغلة واللبن؟ قولان لابن القاسم وأشهب. التفريع: إن بنينا على قول ابن القاسم أن الولد للمشتري فلا تفريع. وإن قلنا: إنه للبائع كقول أشهب، فهو بيع حصلت فيه تفرقة، فهل ينفسخ أو يجبران على الجمع بينهما؟. قولان: سببهما هل ما أوجبته الأحكام كالمدخول عليه أم لا؟ ثم إذا قلنا: إنهما يجمعان (بينهما)، فهل يكفي الجمع في حوز أم لابد منه في ملك؟ قولان أيضاً. قال الشيخ أبو الطاهر: ((والأصل أن يجمعا في ملك)). قال: ((وقد اعترض فضل بن سلمة هذه المسألة وقال: إنما أجاز ابن القاسم وأشهب البيع ها هنا، وإن كانت أشرفت على الولادة، لأن البائع لم يخبر المشتري بذلك، ولو أخبره لكان البيع فاسداً)). وحكى الفساد

إذا جاوزت ستة أشهر عن ابن الماجشون. قال أبو القاسم بن محرز: [و] هذا الذي قاله غير صحيح، لأن المشهور أن علم أحد المتبايعين بالفساد يوجب فساد البيع. قال: وإنما المسألة مبنية على أن البيع صحيح لأن المريض والحامل وإن بلغا إلى حد الخوف عليهما لا يمنع بيعهما، إلا أن يكونا في السياق. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وقد أنتج قوله وقول فضل أن الأصلين مختلف فيهما، وهما: علم أحد المتبايعين بالفساد، والخلاف فيه معروف في المذهب، والثاني أن المريض إذا بلغ حد الخوف ولم يبلغ السياق مختلف فيه هل يجوز بيعه أم لا؟)). قال: ((ويمكن بناء المسألة على كل واحد من الأصلين)). وإذا وهب للعبد مال في أيام الخيار، فقال: في الكتاب: ((هو للبائع)). قال أبو بكر بن عبد الرحمن: إلا أن يكون المشتري قد استثنى ماله، فالمال الذي وهب له للمشتري. بخلاف ما وهب للعبد الرهن، فإنه لا يدخل في الرهن. قال: والفرق أن المشتري ملك العبد وماله والمرتهن ليس حقه، إلا فيما جعل رهناً خاصة. هذا حكم التغيير بزيادة. فأما النقص فلا يخلو أن يكون جناية أو غيرها. فإن كان جناية فلا تخلو أن تكون من البائع، أو من المبتاع، أو من أجنبي. فإن كانت من البائع، فإما أن يكون الخيار له أو للمشتري، فإن كان له (وكان) عمداً فقولان، أحدهما: أن جنايته رد للبيع، وهو أصل ابن القاسم. والثاني: أنها ليست برد له، وهو مذهب أشهب. التفريع: إن قلنا: إنها رد، فإن كانت مثلة في الرقيق عقت عليه. وإن قلنا: إنها ليست برد، فيكون المشتري بالخيار أيضاً في القبول بذلك العيب أو الرد. وإن كانت الجناية خطأ فلا شك أنها ليست برضى، ويخير المشتري كما قلناه. وإن كان الخيار للمشتري فجنى البائع عمداً، فإن أتلف المبيع ضمن للمشتري الأكثر من الثمن أو القيمة، لأن له أن يأخذه بحكم التعدي، وإن لم يتلف المبيع كان للمشتري أن يغرم البائع قيمة الجناية، ويأخذه معيباً ويدفع الثمن أو يرده. وإن كانت الجناية خطأ فإن أتت على النفس أنفسخ البيع، وإن كانت دونها خير المشتري بين أخذه ناقصاً ولا شيء له، أو رده. وإن كانت الجناية من المشتري والخيار للبائع، فسواء كانت عمداً أو خطأ، البائع

مخير بين أخذه بحكم الغرامة أو إمضاء البيع. وإن كان الخيار للمشتري فإن جنى عمداً فقد تقدم الخلاف هل يعد ذلك رضى بالبيع أم لا. ولو كان المبيع من الرقيق لنظرت هل ما فعله مثله فيعتق عليه أو ليس بمثله فلا يعتق؟ وإن كانت جناية خطأ فقال في الكتاب: ((يرده إن شاء وما نقص. وإن كان عيباً مفسداً ضمن الثمن كله)). وقال سحنون: إنما يضمن بالقيمة. وأجرى أبو القاسم بن محرز هذا الخلاف على الخلاف فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، هل يضمن ثمنها أو إنما يضمن قيمتها؟ وإن كانت الجناية من أجنبي استوى الخطأ والعمد في الغرامة، وخير من له الخيار. فإن اختار إمضاء البيع فالأرش للبائع. وقال ابن حبيب: هو للمشتري. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وهو على الخلاف في المترقبات متى بعد حصولها أيوم ترقبت أو يوم تحققت؟ فإن قيل: بماذا ينقطع الخيار؟ قلنا: بأن ينطق وينص على أحد الوجهين، أو يكون منعه على ما يدل على ذلك وهو على وجهين: ترك وفعل. فأما الترك فمثل إمساكه عن القول والفعل الدالين على تعيين أحد الوجهين إلى أن تمضي مدة الخيار، ولا يكون ممن له الخيار نطق ولا إحداث فعل، فإنه يستدل بتركه على قصده، فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده كان ذلك دليلاً على أنه اختار الفسخ، وإن كانت في يد المبتاع كان ترك ارتجاعها واستدعاء البائع لردها دليلاً على اختياره الإمضاء، كما أن تركه لها في يد بائعها دليل على اختيار الفسخ، فتبقى السلعة في يد من هي بيده)). وأما الفعل، فإن أحدث المشترط للخيار فعلا في المبيع لم يخل من أحد أمرين: إما أن يدل في العادة على الإمضاء أو الرد. وإما أن يكون محتملاً ليس بظاهر الدلالة. فإن كان دالاً عمل بمقتضاه، وإن كان محتملاً بقي من له اختيار على حقه منه، ولم يسقط بالاحتمال إذ الأصل بقاؤه حتى يتحقق إسقاطه، فإن اتهم على أنه قصد الإسقاط استظهر عليه باليمين. وقد قسم بعض المتأخرين الأفعال في ذلك على ثلاثة أقسام: الأول: متفق على أنه يعد رضى كالعتق والكتابة والاستيلاد، وتزويج الأمة وأمثالها. فهذه من المشتري تدل على الإمضاء، ومن البائع تدل على الفسخ. القسم الثاني: لا يعد رضى باتفاق كاختبار الأعمال وشبهه فوجوده كعدمه. القسم الثالث: مختلف فيه، وهو كرهن المبيع وإجارته وإسلامه للصنائع، وتزويج العبد والسوم بالسلعة، وشبه ذلك من المحتملات.

فمذهب ابن القاسم أن ذلك يقطع الخيار. ومذهب أشهب (أن ذلك) ليس بقاطع له. قال بعض المتأخرين: وهو خلاف في شهادة هل ذلك دال على قطع الخيار فيكون قاطعاً أو هو محتمل فلا يكون قاطعاً؟ والاعتماد في هذا القسم على ما يظهر من قرينة الحال. قال سحنون: وكل ما يعد من المشتري قبولاً فهو من البائع إذا كان له الخيار فسخ. قال أبو الحسن اللخمي: ((ولا يجري ذلك مطلقاً، لأن الغلات للبائع، فإذا آجر أو أسلم للصناعة فإنما فعل بملكه ما يملكه)). قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا الذي قاله أبو الحسن يختلف الأمر فيه، فإن طول الإجارة ومدة التعليم، فيظهر مع هذا أنه قصد الرد. فرع: لو ابتاع عبداً بأمة بالخيار، ثم أعتقهما معاً في مدة الخيار تعين العتق في الأمة، لأنها باقية على ملكه، ويلزم من عتقها رد العبد، فلا ينفذ عتقه. فإن قيل: ما حكم من طرأ عليه في أيام الخيار ما يمنعه من الاختيار بالإمضاء أو الرد؟. قلنا: قد تقدم أن بانقضاء المدة من غير إحداث ما يقتضي الاختيار يلزم البيع وينتهي الخيار. وهذا مع سلامة من شرط له الخيار إلى انقضاء أمده. فأما إن طرأ عليه ما يمنعه من الاختيار فلا يخلو أن يطرأ عليه ما لا يرجى زواله كالموت أو ما يرجي زواله كالجنون والإغماء. فإن مات في المدة فإن الحق ينتقل إلى وارثه، فإن اختلف الوارث فليس لمن أجاز التمسك إلا بالجميع. وأما إن جن فالسلطان ينظر له في الإجازة والفسخ. واختلف إذا أغمي على المشتري. فقال ابن القاسم: ((يوقف حتى يفيق. وليس للسلطان أن يأخذ للمغمي عليه لكون الإغماء مرضاً يرجى زواله عن قرب، فلم يكن له الشراء لرشيد حال بينه وبين النظر لنفسه حائل يرجى زواله عن قرب. فإن طال به الإغماء فسخ البيع للضرر الذي يلحق الآخر في إيقاف صفقته)). وقال أشهب: له أن يقيم له من يجيز أو يرد في مدة الخيار قياساً على من جن. إلا أن تمضي مدة الخيار قبل أن يعثر على ذلك فلا بد من فسخ البيع.

النوع الثاني: خيار النقيصة، وهو ضربان: الأول: ما ثبت بفوات أمر مظنون، نشأ الظن فيه من التزام شرطي أو قضاء عرفي أو تغرير فعلي. والثاني: ما ثبت عن غبن فاحش. فأما الضرب الأول فالنظر فيه في الأسباب المثبتة والموانع المبطلة. النظر الأول: في الأسباب. السبب الأول: الالتزام الشرطي، وهو الأصل، وما عداه ملحق به، فمهما شرط وصفاً يتعلق بفواته نقصان مالية ككونه تاجراً أو صانعاً أو غير ذلك من الصفات المقتضية لزيادة الثمن في العادة، فإذا فقد ثبت الخيار للمشتري. ولو شرط ما لا غرض فيه ولا مالية لغا الشرط ولم يثبت له خيار. وقال الشيخ أبو الطاهر: يمكن تخريج الخلاف فيه من الخلاف في إلزام الوفاء بشرط ما لا يفيد. وإن شرط ما فيه غرض ولا مالية فيه، فقولان منصوصان في (إلزام) الوفاء به. فرع: لو ظهر المبيع أعلى مما شرط، كعبد شرط فيه جنساً فوجد من جنس أعلى منه، فلا خيار للمشتري بذلك، إلا أن يتعلق له بذلك الجنس غرض يظهر، فيثبت له حينئذ الخيار. السبب الثاني: القضاء العرفي. وهو العيب، لأنه دخل على السلامة (فيه). والمثبت للخيار منه ما أثر نقصاً في المبيع أو الثمن أو في التصرف أو خوفاً في العاقبة. ثم يكون ذلك بنقصان وصف أو زيادته، وقد يكون بنقصان عين. ثم منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه. ومنها ما يخص ومنها ما يعم، على ما يأتي تفصيل ذلك وبيانه في نقل الروايات، وذلك كالعمى والعور والقطع ونحوه. وكالخصاء فإنه عيب، وإن زاد في القيمة، لأن النقص محقق ولا يجبر بما زاد لأجل غرض آخر. وسقوط ضرسين فأكثر عيب، وكذلك الضرب [الواحد] في العلي دون الوخش، وكالحمل فإنه عيب في النوعين في رواية ابن القاسم. وروى أشهب تخصيصه بالعلي دون الوخش.

ونزل أبو بكر بن عبد الرحمن رواية أشهب على المجلوبة من العجم. قال: لأن المقيمة بالبلد يكون حملها من زوج أو زنا وكلاهما عيب. وأطلق في الكتاب: أن كون الأمة زلاء صغيرة الكفل والردف ليس بعيب، وقيده كثير من المتأخرين بالنقص اليسير الذي بفاحش ولا خارج عن العادة. وقد أشار في كتاب محمد إلى هذا التفسير، فقال: إلا أن تكون ناقصة الخلق. وفيه أيضاً من رواية أشهب أن المشتري إذا اطلع على أن الأمة صغيرة القبل إنه لا رد له به إلا أن يكون فاحشاً. وهذا يعضد التأويل المتقدم في مسألة الزلاء. والشيب الكثير في الرائعة عيب، والقليل منه فيها مختلف فيه. وليس الشيب بعيب في الوخش إذا لم ينقص الثمن. والإستحاضة عيب في العلي والوخش جميعاً. والبول في الفراش عيب في العبيد والإماء إذا كانوا في سن من يستنكر منه ذلك في العادة. وفي الكتاب: ((إن التخنث في الذكران والفحولة في النساء عيب. وشرط في الأمة أن تشتهر بذلك)). (وذكر ابن حبيب: أن ذلك إنما يكون عيباً إذا كان الذكر يؤتى، والأنثى فحلة لشرار النساء. وأما التأنيث من جهة التكسر في المعاطف والنطق [فإنه ليس] بعيب. واختلف المتأخرون: هل كلام ابن حبيب هذا خلاف لما في الكتاب أو تفسير له؟ على قولين:

الأول: للشيخ أبي محمد. والثاني: لغيره. ورد الشيخ أبو عمران قول ابن حبيب بأنه قد ذكر في الكتاب كون الأمة اشتهرت بذلك. قال: فلو كان المراد ما قال، لم يحتج إلى التكرار. قال: وإنما قيد في الأمة بالاشتهار لكون فحولتها لا تضعف شيئاً من أعمالها، لكن اشتهارها بهذا نقص وعيب. وقد جاء في الحديث أنها ملعونة. وأما الذكر فإنه يستدل بتخنثه في حركاته وألفاظه على ضعف قوته وعمله. وذلك عيب وإن لم يشتهر. والثيبوبة في الأمة ليست بعيب، ولا رد للمبتاع بوجودها ما لم يشترط البكارة، إلا أن تكون الأمة في سن من لا تفتض في العادة، فتكون البكارة كالمشتركة عادة. وكذلك نداء المنادي عليها أنها بكر يقوم مقام الاشتراط والعسر عيب، والأعسر هو الذي لا يعمل إلا بيساره. فأما الأضبط، وهو الذي يعمل بكلتي يديه، فليس بمعيب إلا أن ينقص عمل اليمين به عن المعتاد لأجل مشاركة الشمال لها في القوة، فيكون عيباً، ولا يجبر ضعف اليمين بقوة الشمال. ومن العيوب العامة في العبيد والإماء الزنا والسرقة وشرب الخمر والبخر في الفم والزوج. ومنها الاطلاع على أن لأحدهما قرابة قريبة كالوالدين أو الأولاد، فإنه عيب، لأن قوة

الألفة لهم والحنين إليهم تبعث على الإباق إليهم وإيثارهم بما في يده من القوت وغيره، فأما غير هؤلاء من الأقارب كالأعمام والأجداد والإخوة، فلا يرد بالاطلاع عليهم. ومال بعض المتأخرين إلى أن الجدة للأم في الحنين إليها كالأم. ورأى الإمام أبو عبد الله أن هذا ينبغي أن يرجع فيه إلى العادة. ومنها: الاطلاع على أن في آباء العبد أو الأمة مجذوماً، فإنه عيب لما يتقى من غائلته في النسل، إذ قد يكون فساد في النطف، فيتعدى في النسل. وكذلك الجنون إذا وجد بأحد الآباء من فساد الطباع. وأما إن كان من مس الجان فلا رد به، إذ لا يخشى منه التعدي في النسل. وأما كون أحدهما ولد زنا فإنه عيب في العلي من الذكور والإناث. واختلف في كونه عيباً في الوخش. ولو اطلع على أن في آباء الأمة أسود لم يكن عيباً في الوخش. واختلف في كونه عيباً في العلية لما يتوقع من كون الولد أسود. (ولو وجد العبد أقلف والأمة غير مخفوضة لاختلفت الحال، فإن كانت مجلوبة من رقيق العجم، ولم تطل إقامتها ببلدنا فلا رد للمشتري به، لأنه على ذلك دخل. فإن كانوا ممن طالت إقامتهم عندنا، أو ولدوا عند المسلمين فذلك عيب في العلي منهم، واختلف في كونه عيباً في الوخش). ولو قالت الأمة: ولدت من الذي باعني، فروى ابن القاسم أنها لا تحرم على المبتاع إلا أنه عيب. قال ابن القاسم: ((يريد إذا باعها هذا فليبين، إذ لا يقدم أهل الورع على هذا)). فروع: الأول: إن مقتضى ما تقدم من كون وجود العيب يقتضي ثبوت الخيار للمشتري في الرد ثبوته له إذا وجد بحائط الدار صدعاً ينقص من ثمنها، لكن قال في الكتاب: ((إن كان يخاف على الدار أن تنهدم بسببه كان له الرد به، وإن كان لا يخاف ذلك فلا رد له به)).

ووقف في الجواب عند هذا وتممه محمد فقال: لا يرد به، ولكن يرجع بقيمة العيب إذا كان يسيراً. قال: وكذلك في كل عيب. قال الإمام أبو عبد الله: وهذا الذي ذكره محمد هو الظاهر. والمراد بما أطلقه في الكتاب، فقد قال في كتاب القسم منه: ((إن أحد الشريكين إذا اطلع فيما صار إليه بالانقسام في الربع على عيب يسير قضى له بقيمته)). قال الإمام: وقد أكثر المتأخرون القول في الفرق بين الديار وما سواها من المبيعات. وذكر عنهم فروقاً عديدة، وقدح فيها. ثم قال: والنكتة التي يحوم الجميع عليها اعتبار الضرر بالعيب وحصوله والنظر في مقداره فيما يخف ويكثر. قال: وقد ذهب بعض الأندلسيين إلى أن الدور ترد بالعيب اليسير كسائر السلع. قال: وهذا هو مقتضى القياس والظاهر، وإنما سلك الآخرون ذلك لما تقدم من اختلاف أحوال المبيعات في حكم الضرر بالعيب ومقداره. فرع مرتب: إذا اعتبرنا الفرق بين اليسير والكثير، وقلنا: إنها لا ترد باليسير فما هو اليسير؟. اختلف المتأخرون في مقداره قال بعضهم: هو ما كان لا يأتي على معظم الثمن. وقال غيره: اليسير فيه ما نقص عن الثلث. وأشار غيرهما إلى اعتبار كون العيب شاملاً لجميع الدار من جهة التأثير والقصد، كبطلان بئرها بطلاناً لا ينصلح أو (مأجلها) أو سقفها أو قناتها. ورأى أن ما كان كذلك يوجب الرد، لأنه (كعيب) استولى على الكل. الفرع الثاني: في حكم العيوب التي لا يمكن أن يطلع عليها إلا بعد تغير هيئة المبيع كخشبة تشق فيوجد باطنها عفناً أو مسوساً. وكذلك الجوز والتين وشبه ذلك. وكذلك جلود اشتريت فلم يمكن الاطلاع على ما فيها من عيب إلا بعد دباغها. فما كان من هذا الجنس فلا يثبت للمشتري خيار الرد به في الرواية المشهورة.

قال فيها: لأنه أمر ثابت، عليه يدخل البائع والمشتري والتبايع عليه وقع. وروى أنه يرد به كغيره من العيوب)). وفرق ابن حبيب فلم يثبت الخيار من ذلك بما كان في أصل الخلقة، وأثبته بما طرأ منها بعد السلامة منه فيها لسبب اقتضاه. واختلف المتأخرون: هل هذا قول ثالث في المسألة أو هو خارج عن محل الخلاف؟ إذ يمكن الاطلاع على السبب الحادث وعلم البائع به، كوضع الخشبة في موضع ندي، وشبه ذلك. ووقع في كتاب محمد لأشهب وغيره: أن ما يمكن اختياره من ذلك والاطلاع عليه حال العقد كالجوزة والجوزتين والقثاءة والقثاءتين، فللمشتري الرد إذا وجد باطنه رديئاً. وفي كتاب محمد أيضاً: أن الأحمال لا يرد ما وجد منها فاسداً إلا أن يكون الحمل بكماله فاسداً، فإن ذلك لا يكاد يخفى على بائعه. الفرع الثالث: في اعتبار حالة حدوث العيب. والضابط فيه أن كل حالة يكون ضمان المبيع فيها باقياً على بائعه لم ينتقل إلى المبتاع بعد. فحدوث العيب فيها يقتضي الخيار للمبتاع في الرد به. وكل حالة انتقل الضمان فيها على المبتاع فلا رد له بما يحدث فيها من العيوب. السبب الثالث: التغرير الفعلي. وفيه فصلان: الأول في حد السبب، والثاني في حكمه. الفصل الأول: في حده وهو أن يفعل البائع في المبيع فعلاً يظن به المشتري كمالاً فلا يوجد كذلك. والأصل في اعتبار هذا السبب قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)). ومعنى التصرية: جمع اللبن في الضرع وترك حلابه حتى يعظم، فيظن المشتري لذلك غزارة اللبن، فنزل ذلك منزلة اشتراط الغزارة المظنونة، فوجب الخيار لفقدها وصار ذلك

بمنزلة من اشترط في الشاة أنها تحلب قسطا من اللبن، فوجدها على خلاف ذلك فإن له الرد. أما لو ظن غزارة اللبن لكبر الضرع، فكان ذلك لحماً، لم يثبت له بذلك خيار. وكذلك (إذا) اشترى غير مصراة فوجد حلابها قليلاً فلا رد له إلا أن يكون البائع يعلم مقدار حلابها، فباعها له في إبان الحلاب، ولم يعلمه ما لم يعلم منها، فله الخيار، لأن البائع صار كبائع طعام يعلم كيله، والمشتري لا يعلم، فله رده، ولو كان في غير إبان لبنها فلا رد له وإن علم البائع منها ما لم [المبتاع] وقال أشهب: بل يردها. وإن اشتراها في غير الإبان إذا حبسها حتى جاء الإبان وأقر (البائع) أنه كان عالماً بحلابها، حلب المشتري أو لم يحلب، إذا كانت شاة لبن. وقال محمد: إن زيد في ثمنها لمكان اللبن، كان المشتري مخيراً، لأن على البائع أن يعلمه إذا كان المقصود منها اللبن. ثم حكم الإبل والبقر حكم الغنم، إذا كان المقصود منها اللبن. وفي معنى التصرية تلطيخ ثوب العبد بالمداد ليخيل بذلك أنه كاتب. وكذلك كل ما أشبهه من التغرير بالفعل. الفصل الثاني: في حكم السبب وهو الخيار، فإذا علم المشتري أن الشاة مصراة قبل أن يحلبها كان له أن يردها قبل الحلاب، وأن يمسكها ويحلبها ثم يختبرها، وينظر كيف عادتها، ومقدار ما تنقص عن التصرية. وكذلك لو لم يعلم بالتصرية إلا بعد أن حلب، لكان له الخيار بين أن يرد أو يمهل حتى يحلب ثانية ويعلم عادتها. فإن احتلبها الثالثة فقال محمد: ((ذلك رضى)). وفي الكتاب من رأى ابن القاسم أنه إذا جاء من ذلك ما يعرف أنه (كان) قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك فهو رضى منه بالشاة ولا يكون له ردها. وقال مالك في كتاب محمد: له أن يرد ولو حلب [الثانية]. وهو مقتضى الحديث. والظاهر أن الثانية لا توقف على العادة لقربها من زمن التصرية.

ثم حيث كان له الخيار فاختار ردها فليرد معها صاعاً من التمر للحديث وهو بدل عن اللبن كائن في الضرع لدى العقد لعسر تمييزه، ولدفع الخصومة فيه. فلو أراد أن يرد اللبن بعينه عوضاً عن الصاع المأمور به لم يكن له ذلك، لأن الصاع لم يجب لفوات اللبن، بل لما ذكرناها. بدليل أنه لم يضمن بالمثل. قاله ابن القاسم. ثم قال: ((ولو وافق البائع المشتري على ذلك لم يصح إذ يدخله بيع الطعام قبل قبضه)). وقال سحنون: إذا رده بعينه فهي إقالة. والإقالة في الطعام جائزة. ثم قدر الصاع متعين، فلا يزاد عليه لكثرة اللبن وغزارته، ولا ينقص منه لقلته ونزارته، ولا يلتفت إلى غلائه ورخصه، بل قد قال بعض المتأخرين: إن كانت قيمته تساوي قيمة الشاة أو تزيد عليها، فظاهر المذهب أن عليه الإتيان به. وأما جنس المخرج فقال القاضي أبو الوليد: ((روى ابن القاسم (أنه يكون من غالب قوت البلد). ووجهه: أنه قد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث في رواية ابن سيرين: صاعاً من طعام فيحمل تعيين صاع التمر في المشهورة على أنه كان غالب قوت ذلك البلد. فرعان: الأول: إذا تعددت الماشية المصراة، فقال أحمد بن خالد الأندلسي فيما ذكر عنه: يكتفي فيه بصاع واحد لجميعها، كما اتخذ في لبن الناقة، وإن ساوى لبن عدة من الشاء. وقال أبو القاسم بن الكاتب: تتعدد الصيعان بتعدد الماشية. واعتبر ذلك بغرة الجنين، واعتذر من اتخاذ الصاع في لبن الناقة بأن الكثرة في لبنها مقابلة بالجودة في لبن الشاة. الفرع الثاني: لو رضي بعيب التصرية، ثم رد بعيب آخر غيره، فقال محمد: لا يرد عوض ما حلب، ورأى قصر الحديث على ما ورد فيه. وذكر عن أشهب أنه يرد الصاع. ومال إليه بعض المتأخرين. النظر الثاني: في مبطلات الخيار وموانعه. وهي صنفان: الأول: ما يبطل الرد على الإطلاق. وذلك أمور أربعة. الثاني: شرط البراءة من العيب. والمشهور من المذهب: جوازه والانتفاع به. وروي أنه لا ينتفع بالبراءة مطلقاً.

قال الإمام أبو عبد الله: من المتأخرين من يحكي هذه الرواية عن مالك حكاية مقيدة، فيقول: لم يختلف قلوه في جواز البراءة من العيب اليسير، ولا في ثبوت البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط عهدة الثلاث وعهد السنة في البيع الثابت فيه البراءة. قال: وسبب هذا الاختلاف أن النهي ورد عن بيع الغرر واشتراط البائع على المشتري ألا يرد عليه بعيب يطلع عليه يتضمن عقد الشراء على مبيع غير معلوم ولا محاط به، وبيع ما لا تعلم حقيقته لا يختلف في منعه كبيع الإنسان ما في يده أو ما في نهره من الحيتان، لكون المشتري دخل على العبد المشتري إن وجده أعمى أصم أبكم لزمه الشراء بالثمن الذي بذل، وإن وجده على صفة كمال سالماً من العيوب كان ذلك له. وأما وجه الجواز في الجملة فما أشار إليه ابن حبيب من حكم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما بإمضاء البيع المشترط فيه البراءة، ومن كون الضرورة قد تمس إلى ذلك وتدعو إليه الحاجة والمصلحة، فعفي عنه كما يعفى عن عقود تضمنت غرراً للضرورة الداعية إلى العفو عن ذلك. وإذا فرعنا على المشهور، فهل يعم الانتفاع بشرط البراءة جميع المبيعات أو يتخصص ببعضها؟ ذكر ابن حبيب عن مالك أنه يعم جميع البياعات عرضاً كان المبيع أو حيواناً. وحكاه أيضاً عن ابن وهب، وحكاه غيره عن ابن كنانة. وروي تخصيص حكم البراءة ببعض المبيعات. واختلف في تعيينه، فروي تخصيصه بالحيوان خاصة صامتاً كان أو ناطقاً، وهو مذهب الموطأ. وروي تخصيصه بالحيوان الناطق خاصة، وهو مذهب الكتاب. وسبب هذا الاختلاف أن بيع البراءة إنما عفي عنه لاستواء البائع والمبتاع في الجهل

بالعيب. ومقتضى ذلك جواز بيع البراءة في العروض وسائر التملكات، لكن من قصر ذلك على الحيوان رأى أن الحيوان تتلون أحواله بالصحة والسقم، ولا يكاد يحاط بعيوبه، فيقوى تصديق البائع بأنه جهل العيب الذي فيه، حتى يعتقد أنه استوى علمه وعلم المشتري في العيب، بخلاف العروض. وأما قصر ذلك على الحيوان الناطق فعلل بأمرين متقابلين: أحدهما أن الرقيق يخبر عن نفسه، لكونه من ينطق ويعرب عن نفسه، فإذا لم تقع منه شكوى لما أصابه من المرض لم يعلم سيده ما به، فعذر بكونه جاهلاً بالعيب وصدق فيما قال. والأمر الثاني أن الرقيق يكتم عيبه ويستره عن سيده مخافة أن يزهد فيه فيبيعه، فعذر سيده في جهله بعيبه، وصدق في أنه لم يعلم، بخلاف البهائم التي لا تكتم عيبها. فروع: الأول: إذا قلنا: إن (بيع) شرط البراءة ينفع فبيع السلطان وبيع الميراث إذا علم أنه ميراث جار مجرى بيع البراءة وإن لم يشترط. الفرع الثاني: حيث قلنا: إن البراءة تنفع، فإنما منفعتها في دفع الرد بعيب لم يعلم به البائع دون ما علم به كما تقدم، فلو ادعى على البائع العلم فاعترف رد عليه. وكذلك إن طلب باليمين حين توجهت عليه فنكل عنها. وإن حلف فلا رد عليه به. واختلف إذا باع الإنسن مال نفسه، هل يسوغ له أن يبيعه بالبراءة وإن لم يختبر المبيع وإنما باعه بحدثان ملكه، أو لا يسوغ له ذلك إلا بعد اختبار المبيع؟ فالمشهور أنه لا ينفعه التبري من العيوب إلا بعد اختبار المبيع. قال في الكتاب، في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم: ((هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلاً، لا تنفعهم البراءة)). وقال عبد الملك وغيره: تنفعهم البراءة في ذلك. الفرع الثالث: إذا تبرأ البائع من عيب، وذكره في جملة عيوب ليست موجودة في المبيع لم تنفعه البراءة، حتى يفرده بالبراءة منه، ويعين موضعه، ويعلمه جنسه ومقداره ظاهراً وباطناً، فلا يبقى للمبتاع فيه قول، وكذلك لو اقتصر به على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة به، أو تبرأ إليه منه بخبر ولفظ فيه احتمال لم يبرئه ذلك، كما لو باعه بعيراً وتبرأ إليه من دبرته، وهي منغلة مفسدة فأراه إياها، ولم يذكر ما فيها من نغل وغيره، فلا يبرأ حتى يذكره. وكذلك لو تبرأ في العبد من إباق أو سرقة، والمبتاع يظن إباق الليلة، أو إلى مثل العوالي

من المدينة، أو سرقة الرغيف، فيوجد بنقب، أو قد أبق إلى مثل مصر أو الشام من المدينة، فلا يبرأ حتى يبين أمره. تقرير: قال أبو القاسم بن الكاتب: لم يختلف قول مالك في أن بيع السلطان على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة وإن لم يشترطها. قال: وإنما كان كذلك لأنه حكم منه بالبيع، وبيع البراءة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به. قال الإمام أبو عبد الله: قول أبي القاسم بن الكاتب فيه نظر عندي، فإن السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ووفاق، ولا قصد إلى حكم بإنفاذ بيع على البراءة، فينفذ حكمه، وإنما فعل في نفسه فعلاً أوجبه الشرع عليه. ثم حكى عن بعض أشياخه أنه يرى إثبات الخلاف في بيع البراءة، ولو كان السلطان هو الذي يتولى البيع، وأنه تعلق في ذلك بقول سحنون، وكان قوله القديم أن بيع السلطان وبيع (المواريث) لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة. قال: فقوله: كان قوله القديم، إشارة منه إلى أن له قولاً آخر، ويتعلق أيضاً بقول ابن القاسم؛ إذا بيع عبد على مفلس، فللمشتري أن يرد بالعيب. قال: ففي هذا أيضاً إثبات الخلاف في بيع السلطان. قال الإمام: وأما بيع الورثة لقضاء ديون وتنفيذ وصايا، فإن فيه الخلاف المشهور. قال: فاقتصر مرة على ثبوت البراءة في بيع السلطان خاصة. وأضاف مرة إلى ذلك بيع أهل الميراث، ومراده من ذلك ما باعوه لقضاء دين أو نفاذ وصية. وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فلا حق ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة. وكذلك من باع للإنفاق على من في ولايته. فرع مرتب: إذا قلنا بأن بيع السلطان بيع براءة، فظن المشتري أن البيع واقع ممن لا تنفذ أحكامه، بل هو بيع رجل مال نفسه، فإنه لا يسقط مقاله في العيب، ويكون بالخيار بين أن يتمسك بالمبيع على البراءة من العيوب أو يرده. وقيل: لا مقال له في العيوب. وحمل هذا القول على أن قائله ادعى ما لا يشبه لكونه بيع السلطان مما لا يخفى لكونه في غالب العادة إنما يكون في مجمع واحتفال، وإنما حمل بيع الورثة لقضاء دين أو إنفاذ وصية على بيع البراءة لكون الديون كالوصايا يجب إنفاذها، ومن حق أهلها أن [تعجل] لهم حقوقهم إذا طلبوها، والسلطان والورثة والوصي غير عالمين بأحوال المبيع وهو مطالبون

باستعجال البيع فحمل بيعهم على البراءة لأجل ذلك، بخلاف بيع الإنسان مال نفسه. المانع الثاني: فوات المعقود عليه حساً بالتلف، أو حكماً بالعتق ونحوه من الاستيلاد والكتابة والتدبير. فلو اطلع على عيب بالعبد بعد فواته فلا رد إذ لا مردود. وإذا عجز عن الرد فله الأرش، وهو الرجوع إلى جزء من الثمن يعرف قدره بمعرفة نقصان العيب من قيمة المعيب، فيرجع من الثمن بمثل نسبته. فرع: فإن كان العذر رد عين المبيع مع بقاء الملك فيه لتعلق حق به، كالمستأجر والمرهون، فقال ابن القاسم: يرده متى عاد إلى يده. وقال أشهب: إذا لم يخلصه من الرهن معجلاً ولا من الإجارة، حكم له بقيمة العيب. واختار ابن حبيب مذهب أشهب إذا بعد زمن تخليصه من الإجارة والرهن. ومذهب ابن القاسم: إذا قرب ذلك كالشهر ونحوه. وإذا كان تعذر الرد لعقد انتقل به الملك إلى غيره، فإن كان بغير معاوضة كالعطايا رجع بقيمة العيب، وإن كان بمعاوضة كالبيع وما في معناه، فإن كان من البائع وقد أخذ منه فيه الثمن الأول فلا كلام له، وإن أخذ منه دونه استتم ما بقي منه. وإن باعه له بأكثر منه فإن كان مدلساً، أعني البائع الأول، فلا رجوع له، وإن كان غير مدلس رد على البائع الثاني، ثم رد عليه ليرجع له ما زاد على الثمن الأول. وإن كان البيع من غير البائع فروى ابن القاسم بلاغاً أنه لا يرجع بشيء. قال ابن القاسم: لأنه في بيعه على وجهين: إن باع بمثل الثمن فقد عاد إليه ثمنه. وإن باع بأقل فإن النقص لم يكن لأجل العيب. وقال أشهب: إذا باع ذلك ولم ينقص منه لم يرجع بشيء، وإن نقص منه شيئاً كان له أن يرجع (عليه) بالأقل مما نقص أو من قيمة العيب. وروي أيضاً أنه إن كان لم ينقص من الثمن في البيع لم يرجع بشيء، إذ ماله عند الرد إليه. وإن نقص من الثمن الذي اشترى به كان البائع مخيراً بين أن يكمل له الثمن أو يعطيه قيمة العيب من الثمن الذي قبض منه. وكأنه في هذه الرواية قدر المبيع فائتاً في حق البائع خاصة، فخيره إن شاء جعله قائماً فأكمل له ما نقص من الثمن إذ ليس له سواه، وإن شاء جعله فائتاً فأعطاه قيمة العيب. وما قاله في هذه الرواية هو مذهب أشهب، وهو اختيار ابن حبيب. وقال مالك في المختصر: يقضي للمشتري بقيمة العيب، وهو تقدير للفوت في حقهما جميعاً، كالحكم في

الموت وهو اختيار محمد بن عبد الحكم، وأضاف ذلك إلى الموطأ، فقال: قد قال مالك رضي الله عنه في موطئه: ((إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت كان فيه قيمة العيب)). قال: والبيع أحد وجوه الفوت. وهذا المذهب هو اختيار القاضي أبي محمد. فرع: فإن عاد المبيع إلى البائع المبتاع، فإن كان (الرد) من المبتاع الثاني لأجل العيب فله الرد على البائع الأول، لأن العائد هو المالك الأول. وإن عاد إليه بملك مستأنف فله رده على الأول أيضاً. وقال أشهب: هو بالخيار، إن شاء رده على من اشتراه منه، وإن شاء رده على البائع الأول. فإن رده على المشتري كان المشتري بالخيار بين أن يتمسك به أو يرده عليه، فيرده هو على البائع الأول إن شاء. وسبب الخلاف: أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد؟ المانع الثالث: ظهور ما يدل على الرضى بالعيب من قول أو سكوت أو فعل. أما القول فظاهر، وأن السكوت فهو التقصير عند الاطلاع على العيب، فإذا تمكن من رد المعيب فسكت عنه من غير عذر بطل خياره، ولم تبق له مطالبة بالأرش لتقصيره. وترك التقصير أن يرد مع التمكن وعدم العذر إن كان البائع حاضراً، فإن كان غائباً استشهد شاهدين بالرد، فإن عجز حضر عند القاضي فأعلمه، ثم القاضي يكتب إلى البائع إن قربت غيبته، وإن كانت غيبة بعيدة تلوم له إن رجا قدومه، فإذا لم يرج قدومه قضى عليه إن أثبت المشتري أنه اشترى على بيع الإسلام وعهدته. وأما الفعل فهو أن يتصرف في المبيع أو يستعمله بعد علمه بالعيب تصرفاً أو استعمالاً لا يقع في العادة إلا رضى من المشتري بالتمسك بالمبيع، وما كان من التصرف مشكلاً لم يقض عليه بكونه علماً على الرضى. هذا هو الأصل المعتبر في أمثال هذا. فأما اختلاف الرواية في تصرف المضطر فإن ابن القاسم روى أن المسافر إذا اطلع على عيب بالدابة فركبها إلى أن قدم بها على صاحبها فإن ذلك لا يسقط حقه في الرد [قال] وليس عليه أن يقودها، ويكري غيرها. وروى أشهب: أن ذلك رضى منه. وسبب الخلاف: هل يعد كالمكره أم لا؟ فرع: الاستعمال المأمور بتركه هو الاستعمال المنقص، كاستعمال الثوب يلبسه، فأما

ما لا ينقصه الاستعمال كالدار وشبهها، فلا يلزمه إخلاؤها، بل يبقى على استعمالها، وهو يخاصم لأن ذلك غلة وخراج، والخراج بالضمان، وضمانها منه. وأما الحيوان فإن كان جارية (فيترك) وطأها، لأن الوطء إنما يباح فيما يستقر ملكه فليس له وطؤها وهو يرد نقض البيع فيها. وأما الحيوان غير الجارية من عبد أو دابة فالمشهور أنه يترك استعمالها. وذهب ابن حبيب إلى أنه لا يمنع من استخدام العبد وركوب الدابة قياساً على (العقار)، لأن الخراج له والنفقة عليه، فلا يمنع من الانتفاع بالمبيع. وإذا فرعنا على المشهور فلينزل على الدابة إن كان راكباً، إلا أن يتعذر عليه القود، فيعذر في الركوب إلى مصادفة الخصم أو القاضي، على الخلاف المتقدم. المانع الرابع: زوال العيب قبل القيام به، فيسقط به حق الخيار. إلا إذا بقيت علقته كطلاق الزوج الأمة قبل علم المشتري به، فإن ذلك لا يسقط حقه من الرد إذ تبقى علاقة الزوج بها وتعلق قلبها به. وكذلك كل ما تبقى له علقة أو لا تؤمن عودته، فإن أمنت عودته ولم تبق له علقة، فلا خيار للمبتاع في الرد به. الصنف الثاني: ما يمنع (من) الرد على وجه دون وجه. وهو تغير ما يحدث في المبيع. وليس كل تغير يمنع. فلنفصل ضروب التغير، وهو على ثلاثة أضرب: الأول: ما يؤثر في المبيع تأثيراً بغير المقصود منه حتى يصيره كأنه ليس بالعين المبيعة. وهذا يلحق بالعيوب المفيتة للرد على الإطلاق إذ ذلك في معنى تلف العين لأن المقصود من الأعيان المنافع. الضرب الثاني: ما لا يؤثر تأثيراً له بال فيسقط حكمه ويكون وجوده كعدمه. الضرب الثالث: ما يؤثر تأثيراً له بال إلا أنه لا يغير المقصود من العين. وهذا هو المقصود بالكلام عليه الآن فيكون المبتاع فيه بالخيار بين أن يتماسك بالبيع ويأخذ أرش العيب القديم، أو يرده مع أرش العيب الحادث عنده، إلا أن يقبل البائع المبيع بالعيب الحادث بغير أرش فلا يلزمه دفع الأرش إن تمسك المبتاع بالمعيب وطلب الأرش. وحكى ابن مزين عن عيسى بن دينار أنه لا يسمع من البائع ذلك بل يبقى المبتاع على خياره.

واعلم أن هذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب وما وقع في المذهب من الخلاف في آحاد العيوب فراجع إلى الاختلاف في دخولها تحت أي ضرب من هذه الضروب الثلاثة. ولنذكر أمثلة لما وقع (فيه) الخلاف من ذلك وما نقل فيه من الروايات، فنقول: قد ذكر في الكتاب من أمثلة الضرب الثاني الرمد والحمى والوعك. ورأى أشهب أن الحمى والوعك من الضرب الثالث. وذكر من أمثلة الضرب الثالث العمى والشلل. ورآهما ابن مسلمة من الضرب الأول. وكذلك وأي قطع ذنب البلغة المركوبة والفرس المركوب. واختلف في عجف الدابة وهرم العبد أو الأمة، فالمشهور أن ذلك من الضرب الثالث، ورآه ابن مسلمة من الضرب الأول. وقيل في سمن الأمة الهزيلة: أنه من الضرب الثالث. وقيل: من الثاني. وذكر في الكتاب في كبر الصغير أنه من الضرب الأول. وذكر أيضاً أنه من الضرب الثالث. والوطء في الثيب من الضرب الثاني على المشهور. ولو كان في البكر افتضاض لكان من الضرب الثالث، يردها وما نقصها الافتضاض. وذكر ابن حبيب عن ابن نافع وابن وهب وأصبغ أنهم يرون الوطء في الثيبات من الضرب الأول. وتزويج الأمة من الضرب الثالث في المشهور. وقيل: من الضرب الثاني. [ورآه] ابن مسلمة: من الأول. فإذا قلنا: إنه من الضرب الثالث تفريعاً على المشهور فولدت من الزوج. [فإنه] يجبر نقص النكاح بزيادة الولد وقيل: لا يجبر. فرع: ما مضى من لزوم أرش العيب الحادث عند المبتاع إذا اختار الرد، وهو في حق غير المدلس. أما إذا كان البائع مدلساً بالعيب فإن المبتاع يرد المبيع من غير أرش للعيب الحادث عنده، إلا أن يفوت (فواتاً) يمنع من الرد، كهلاكه أو (فوات) أكثر منافعه، فيتعين أخذ أرش العيب القديم. وكذلك لو تصرف المبتاع في السلعة غير التصرف المعتاد بأن

أتلفها أكثر من منافعها، كمن قطع ثوباً نفيساً قلانس أو خرفاً صغاراً أو شبه ذلك. فأما لو تصرف فيها التصرف المعتاد، كما إذا فصلها أقمصة ونحوها مما جرت به عادة مثله في مثلها، فله الرد بغير أرش لما صنع فيها، إذ هو سلطة على هذا الفعل فيها. ولو كان الهلاك بسبب العيب المدلس [به] لرجع المبتاع بجميع الثمن كمن دلس في عبد بالسرقة فسرق عند المبتاع فقطعت يده، فله رده بغير أرش للقطع. وكذلك من دلس بالإباق، فأبق العبد عند المبتاع، فكان إباقة سبب هلاكه، مثل أن يخشى أن يدركه الطلب فيتردى من جبل فيهلك، أو يتوارى في غار، فيكون ذلك سبب هلاكه فإنه يرجع بجميع الثمن. ولو باعه المبتاع فأبق عند المبتاع الثاني، فهلك بسبب إباقه، لرجع الثالث على الأول بجميع الثمن، إلا أن يزيد على ما دفع الثالث للثاني، فيكون له أو ينقص عنه، فيكمله الثاني. قاله ابن القاسم، وكأنه قدر أن الثالث، وإن لم يدلس عليه من باشر البيع له، فإن المدلس على من باع منه يقدر مدلساً عليه، لأنه يقول: لو (أعلمت) الأوسط بالإباق لأعملني به فلم اشتره منه، أو كان مدلساً علي، فأنت سبب إتلاف الثمن علي. وقال أصبغ: يؤخذ الثمن من الأول، فيدع للثالث منه قيمة العيب [التي] يستحقها على الثاني لو انفرد به، ويسلم بقيته للأوسط. وقال محمد: لا تأثير لتدليس الأول على الثاني إذا لم يضره، وليس له عليه شيء إلا أن يرجع عليه الثالث بالأرش، فيكون (على الأول للأوسط) الأقل مما غرم للثالث، أو إكمال الثمن الذي دفعه أو قيمة العيب من الثمن الذي دفعه أيضاً. وكذلك يجب أن يكون للثالث أن يرجع ها هنا على الأول المدلس بما كان يرجع به عليه الثاني، إذا طالبه الثالث بالواجب عن الأرش. ويتم الغرض من هذا القسم بذكر فروع. الأول: إذا ابتاع حلياً بخلاف جنسه نقداً فوجد به عيباً فما دفع البائع للمشتري في الأرش من جنس المبيع أو من سكة الثمن جاز عند ابن القاسم وأشهب. وإن دفع ما يخرج عن جنس المبيع وسكة الثمن لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه أشهب. وقال سحنون: لا يجوز أن يأخذ منه شيئاً من جنس المبيع، وهي مسألة سوء لا يجوز الصلح فيها بوجه.

وسبب الخلاف: أن ابن القاسم رأى أن المبيع ما حصل في يد المبتاع من الحلي، وما أخذ منه من جنسه، وأن البيع إنما وقع بما بقي من الثمن. وعد ما أخذ كالمقبوض حالة العقد ما لم يدخلا على التأخير. وجرى أشهب على أصله في أن الصلح إنما وقع على أن لا يرد الحلي بالعيب. وأما سحنون فرأى أنه كصرف تأخر، لأنه دفع حلياً بالأمس مثلاً ودفع اليوم شيئاً من جنسه وأخذ عنهما جميعاً بالأمس خلاف جنسهما، وتأخر بعض الصرف لا يجوز. الفرع الثاني: إذا كانت الزيادة الحادثة صبغاً في الثوب، ثم اطلع على العيب، فله حبس المبيع وأخذ قيمة العيب أو رده ويكون شريكاً بما زادت (الصبغة) لا بقيمة (الصبغة) ولا بما ودى فيها، وسواء دلس في هذا أم لا. ولو كان الصبغ منقصاً لكان له ردها بغير مغرم، إن كان البائع مدلساً أو الحبس وأخذ الأرش. فإن كان غير مدلس كان كعيب حدث، وقد تقدم حكمه. الفرع الثالث: حيث تعين الأرش للمبتاع أو اختاره إذا ثبت له الخيار، وافتقرنا في ذلك إلى معرفة القيمة، فإنها إنما تعتبر يوم دخول المبيع في ضمان المبتاع وإن كان البيع صحيحاً. وكذلك لو أراد المبتاع الرد مع أرش العيب الحادث لكان التقويم يوم العقد فيما يضمن بالعقد. وقال أحمد بن المعذل: إنما يضمن ها هنا بالقيمة يوم الرد، بخلاف المسألة الأولى. الفرع الرابع: في تبعيض العقد من ناحية تعدد من باع أو من اشترى. وتعدد البائع لا يمنع من رد المشتري على أحد البائعين ما يخصه من المبيع والتمسك بحصة غيره، (فتتعدد) الصفقة بتعدد البائع. وأما تعدد المشتري فاختلفت فيه (الرواية): فقال مالك في رواية: إن أحد المشتريين يتمكن من رد نصيبه على البائع، وإن للبائع لمقالاً. وقال في رواية أشهب: إنه لا يمكن من ذلك. وسبب الخلاف: النظر إلى أن هذه الصفقة هل تكون في حكم الصفقتين وتتعدد بتعدد المشتري، كما تتعدد (الصفقة) بتعدد البائع أم لا؟. فأما تعدد المبيع، فإن كان مما لا يفترق في العادة كالخفين والمصراعين وشبه ذلك فليس له تخصيص أحدهما بالرد وإن اختص بالعيب، بل إما ردهما جميعاً وإما أمسكهما جميعاً.

وأما ما ليس بأخ لصاحبه من العروض والحيوان والسلع وغير ذلك، فله رد المعيب منها بحصته من الثمن، وليس له رد السالم ولا هو عليه، إلا أن يكون المعيب وجه الصفقة فليس له إلا الرضى بالعيب بجميع الثمن أو رد جميع الصفقة. والمراد بوجه الصفقة ها هنا: ما زاد ثمنه على النصف من جملة الثمن. الفرع الخامس: في النزاع في العيب، وهو في صورتين: الأولى: في وجوده، ولا تقبل دعوى المبتاع أن بالسلعة عيباً دون أن يثبته بالمشاهدة إن كان مشاهداً أو بالبينة إن كان غير مشاهد. الصورة الثانية: النزاع في قدمه وحدوثه. ولا يخلو أن يكون مما لا يحدث عند المشتري أو أن يكون مما يعلم أنه لم يكن عند البائع. والقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه. أو أن يكون محتملاً، فيثبته المبتاع بالبينة إن وجدت. ثم حيث كان العيب أو قدمه وحدوثه مما ينفرد أهل المعرفة بعلمه، ((فإن كان العدول من أهل المعرفة قهو أتم، وإن لم يوجد من يعرف ذلك من أهل العدل قبل فيه قلو غيرهم ولو كانوا على غير دين الإسلام. حكاه القاضي أبو الوليد وقال: ((لأن طريق هذا الخبر عما ينفردون بعلمه)). فإن لم توجد البينة فالقول قول البائع مع يمينه، إذ الأصل لزوم العقد فيحلف إني لبعته. ويزيد فيما فيه حق توفية: وأقبضته وما به عيب. وهل يحلف على البت في الظاهر وعلى العلم في الخفي أو على العلم فيهما؟ في ذلك قولان لابن القاسم وأشهب. فإن نكل البائع حلف المشتري. الفرع السادس: إنه إذا رد وقد كان انتفع أو استغل، فلا شيء عليه لأجل الغلة والانتفاع. وكذلك ثمرة (النخل) إذا كان حدوثها عنده، أو اشترى النخل وهي غير مأبورة. وفي المأبور منها خلاف، وكذلك في صوف الغنم. وأما الأولاد والنتاج فيرد ذلك مع الأمهات. الفرع السابع: حيث كان له أن يرد، فصرح بالرد، ثم (هلك) المبيع قبل وصوله إلى يد البائع فهل يكون ضمانه من البائع أو من المبتاع؟ ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث فيجعله على البائع إن حكم به حاكم، وإلا فمن المبتاع. قال الشيخ أبو الطاهر: والخلاف في هذا على ما يقوله المتقدمون على الخلاف: هل

الرد بالعيب (نقض بيع) فيكون الضمان من البائع على كل حال أو هو ابتداء بيع فيختلف فيه على الخلاف في اشتراط مضي قدر التسليم. وعلى ما يقوله المتأخرون: هل هو نقض للبيع من أصله، فيكون الضمان من البائع، أو نقض له الآن، فلا يتحقق النقض إلا بوصول إلى يد بائعه؟. قال: ولعل الخلاف مع وجود الحكم نظر إلى صفته، فإن كان الحاكم حكم بتخيير المشتري فالضمان منه، وإن حكم بالرد فهو من البائع. الفرع الثامن: إن العهدة في الرد على البائع، إلا أن يكون وكيلاً مصرحاً بالوكالة في العقد، فتكون العهدة في الرد على الموكل لا عليه. وفي معنى الوكيل المصرح بالوكالة في العقد الطوافون في المزايدة والنخاسون، ومن يعلم أنه يبيع للناس فلا عهدة عليهم. الضرب الثاني: من خيار النقيصة: ما ثبت بمغابنة في البيع خارجة عما يتغابن بمثله. وقد قال القاضي أبو محمد: ((اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من يرى أن يثبت الخيار للمغبون منهما، ومنهم من قال: لا خيار إذا كان من أهل الرشاد والبصر بتلك السلعة، وإن كانا أو المغبون منهما بخلاف ذلك، فللمغبون الخيار)). وقال الإمام أبو عبد الله: ليس الخلاف في الغبن على الإطلاق، وإنما هو مقيد بأن يكون المغبون لم يستسلم لمن بايعه، ويكون أيضاً من أهل المعرفة بقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلطاً يعتقد أنه غير غالط. فأما إذا علم القيمة فزاد عليها فهو كالواهب، أو فعل ذلك لغرض له فلا مقال له. وكذلك إن استسلم (لمبايعه) وأخبره أنه غير عالم بالقيمة، فذكر له البائع ما غره به، مثل أن يقول: أعطيت فيها كذا، وقيمتها كذا، ويسمي له بائعها منه. قال الإمام أبو عبد الله: فهذا ممنوع باتفاق، غبن المستسلم لا يجوز، فإن وقع كان للمغبون مقال، كما يكون له في النجش. ثم ذكر الإمام تعلق المثبت للخيار بقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وعد الاستثناء منقطعاً، وبنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وإضاعته إتلافه بغير عوض صحيح يقتضيه

العقل. قال: وأما ما اقتضاه رأي لغرض صحيح أخطأ فيه أو أصاب فغير مراد بهذا الحديث. وأشار إلى غير ذلك، ثم نبه على سبب الخلاف بأن قال: قد تقرر أن المستسلم وإن لم يشترط ألا غبن، فإن استسلامه لمن باع منه كالشرط عليه ألا بغبنه، فاتفق على أن للمغبون مقالاً، كما أن من علم القيم فزاد عليها لا مقال له لأنه كالواهب. والمغبون غلطاً على نفسه، هل يقدر أنه كمشترط في رضاه ألا يكون غبن، فيكون له الرد أو لا يقدر اشتراطه بل يكون راضياً بما عقد عليه كيف كان فيلزمه ذلك. فرع: إذا قلنا بإثبات الخيار بالغبن الفاحش، فقد اختلف الأصحاب في تقديره، فمنهم من حده بالثلث فأكثر، ومنهم من قال: لا حد له وإنما المعتبر فيه العوائد بين التجار فما علم أنه من التغابن الذي يكثر وقوعه بينهم ويختلفون فيه فلا مقال فيه للمغبون باتفاق، وما خرج [عن] (المعتاد) فللمغبون فيه الخيار. خاتمة للنظر (في) خيار النقيصة: [تشتمل] على ذكر العهدتين، وهما صغرى في الزمان كبرى في الضمان، وكبرى في الزمان صغرى في الضمان. فالأولى هي عهدة الثلاث من جميع الأدواء، مما يطرأ على الرقيق من نقص في بدن أو [فوات] عين في مدة ثلاثة أيام، وكأن هذه المدة مضافة إلى ملك البائع ولذلك تكون النفقة والكسوة عليه إلا أن الغلة ليست له. ورأى بعض المتأخرين أنها له، لأن الخراج بالضمان. والعهدة الثانية الكبرى في الزمان الصغرى في الضمان هي عهدة السنة من الأدواء الثلاثة: الجنون، والجذام، والبرص. وإنما قال بها مالك رضي الله عنه لجريان العمل بهما في المدينة بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقل الخلف (عن) السلف لهما قولاً وفعلاً إلى زمانه، كما نقل في كتابه. وروى فيه عن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل أنهما كانا يذكران في خطبهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشتري العبد والوليدة، وعهدة السنة.

والأمراء أيضاً يذكرون ذلك في المدينة على رؤوس الناس ولا ينكره أحد لكونه متقرراً في الشرع مشهوراً عندهم. ثم تختص عهدة الثلاث بما رواه الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عهدة الرقيق ثلاث ليال)). وروي أيضاً عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عهدة الرقيق ثلاث)). وبأن الرقيق يكتم عيبه، فيستظهر عليه بثلاثة أيام حتى يتبين للمشتري ما كتم عنه. وبأنه يختص بذكر عيبه، بخلاف غيره، فيمكن أن يكون ذكر ذلك لسيده، فبادر ببيعه خوفاً أن يتبين مرضه، فجعل الثلاث أمداً لبيان ارتفاع تدليسه، كما جعلت في التصرية التي دلس بها البائع، ولأن هذه المدة هي أمد حمى الربع. وتختص عهدة السنة بأن هذه الأدواء تتقدم أسبابها ويظهر ما يظهر منها في فصل من فصول السنة دون فصل بحسب ما أجرى الله تعالى العادة باختصاص تأثير ذلك السبب بذلك الفصل، فانتظر بذلك الفصول الأربعة، وهي السنة كلها، حتى يؤمن من هذا العيب، ومن التدليس به. فروع في أحكام العهدة: نذكرها متتالية، فنقول: اختلف في محلها من الأماكن. (فروى المصريون أنه لا يقضى بها حيث لم تجر بها عادة حتى يحملهم السلطان عليها. وروى المدنيون أنه يقضى بها (بكل) بلد، وإن لم يعرفوها ولا جرت فيهم، ويحملهم السلطان على ذلك ويحكم بها على من عرفها أو جهلها قبل التقدم بها (أو) بعده). واختلف أيضاً في تداخل العهدتين: فقيل: ((عهدة الثلاث تدخل في عهدة السنة)). وقيل: ((بل يبتدئ من حين انقضائها)).

القسم الثالث من الكتاب: في حكم العقد قبل القبض وبعده

واختلف أيضاً في ابتداء عهدة الثلاث. فمذهب ابن القاسم: أن الابتداء أول النهار التالي لزمن العقد، ليلاً كان أو نهاراً. قال القاضي أبو الوليد: ((مقتضى مذهب سحنون الاحتساب من حين العقد من ليل أو نهار فتنقضي العهدة بالانتهاء إلى مثله بعد انقضاء الثلاث أو السنة)). هذا حكم بيع البت، فأما بيع الخيار فينزل انقضاء الخيار منزلة العقد في البت. وإذا طرأ على المبيع أمر، فأشكل وقت حدوثه، ولم يدر أفي العهدة أو بعدها، فهل يكون ضمانه من المبتاع أو من البائع؟ مذهبان لتقابل أصلي السلامة والضمان: (فقال ابن القاسم في العبد يأبق في العهدة، وقد تبرأ بائعه من الإباق، فلم تعلم صحته ولا هلاكه: ((إن ذلك من المبتاع، حتى يعلم أنه أصابه في العهدة)). وروى ابن نافع أن ذلك من البائع حتى يعلم أنه سلم في العهدة. وللمبتاع أن يسقط العهدة بعد ثبوت العقد، ويسقط عن البائع الضمان والنفقة، ويبرم العقد. ولو لم يسقط العهدة، ولكنه أحدث في العبد ما يمنع رده أو يقتضي الرضى به كالعتق، ثم حدث بالعبد عيب في عهدة الثلاث: ففي كتاب محمد: تسقط بقية العهدة. وقال أصبغ وسحنون: العهدة ثابتة، وينفذ العتق ويرجع بقيمة العيب. وروى ابن حبيب عن ابن القاسم في عهدة السنة مثل هذين القولين، وقولاً ثالثاً، وهو رد العتق. قال القاضي أبو الوليد: ((وهذا في عهدة الثلاث أولى)). القسم الثالث من الكتاب: في حكم العقد قبل القبض وبعده. ولابد من بيان حكم القبض وصورته ووجوبه. أما الحكم فهو انتقال الضمان إلى المشتري فيما لا يضمن بمجرد العقد، إما مطلقاً وإما

بشريطة مضي زمن يتسع للقبض على الخلاف فيهما. وذلك ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدد، وما كان غائباً عن مرأة المتعاقدين حالة العقد عليه، على التفصيل المتقدم. وما بيع من الثمار على رؤوس النخل قبل كمال الطيب. وبالجملة، فكل ما لا يضمن قبل القبض فإنه يضمن بالقبض. ويستثني من ذلك ما بيع من الرقيق، حتى يخرج من عهدة الثلاث، وما بيع من الإماء مما فيه المواضعة حتى يخرج منها. وما سوى الرقيق من الحيوان والعقار والعروض المقصود أعيانها فالعقد عليه كاف في نقل الضمان فيه إذا كان متعيناً متميزاً. وقال الإمام أبو عبد الله: هكذا يورد أصحابنا نقل المذهب إيراداً مطلقاً. والذي تحقق من مذهبنا أن البائع إذا أمكن المشتري من قبض المبيع فتركه اختياراً سقط الضمان عن البائع. ويقدر بقاء المبيع في يده بعد التمكين، كقبض المشتري له ورده إليه على جهة الوديعة. قال: ومن المتأخرين من يحكي عن المذهب الاختلاف في الضمان مطلقاً، ولو كان البائع لم يمنع المشتري من القبض. فإن قيل: هل يشترط القبض في التسليط على التصرف بالبيع وغيره؟ قلنا: أما سائر وجوه التصرفات سوى البيع فلا يقف على القبض، وأما البيع فيختلف حكمه باختلاف الأعيان المبيعة وهي ضربان: طعام وغير طعام، فغير الطعام والشراب من سائر المبيعات من العروض والعبيد والحيوان والعقار، وما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول فبيعه جائز قبل قبضه في الجملة ما لم يعرض فيه ما يمنع منه. وأما الطعام فقد ورد النهي عن بيعه قبل قبضه، فلا يجوز فيما تعلق به منه حق توفية من كيل أو وزن أو عدد أن يباع قبل قبضه أو يعاوض عليه، إلا أن يكون على غير وجه المعاوضة كالقرض والبدل فيجوز. ثم لا يجوز لمن صار إليه ذلك أن يعاوض عليه قبل قبضه. وأما ما ابتيع منه جزافاً أو مصبراً فبيعه جائز قبل نقله إذا خلى البائع بينه وبينه. والمشهور من المذهب: أن المنع من بيع الطعام قبل قبضه خاص بجنس الطعام وعام فيه، فلا يعدوه إلى غيره ولا يقتصر على بعضه. ورأى ابن حبيب أنه يتعدى إلى كل ما فيه حق توفية. وأشار ابن وهب في روايته إلى تخصيصه بما في الربا من الأطعمة خاصة.

ثم حيث اشترطنا القبض، فليس لأحد أن يقبض من نفسه لنفسه، إلا من يتولى طرفي العقد كالأب في ولديه والوصي في يتيميه. فرع: إذا تقرر هذا، فقد أرخص في الشركة والتولية والإقالة، وينزل المشترك والمولي منزلة المشتري سواء. ولا يجوز أن يكون بين العقدين افتراق في مقدار ولا أجل ولا غيره. وذكر القاضي أبو الفرج رواية بأن الشركة في الطعام قبل القبض لا تصح، والدين الثابت في الذمة كالعين الحاضر في جواز الاستبدال عنه في الجملة، لكن حيث أجزناه اشترطنا قبض البدل عنه في المجلس. ويشترط في جواز بيعه من غير من هو عليه أن يكون من هو عليه حاضراً مقراً. فروع: في حكم ضمان المبيع: حيث قلنا: إن الضمان من البائع فتلف المبيع انفسخ العقد. وإتلاف المشتري قبض منه، وإتلاف البائع والأجنبي لا يفسخ العقد، بل يوجب القيمة. وإذا تعيب المبيع بآفة سمائية، وكان ضمانه من البائع فللمبتاع الخيار، فإن أجاز فبكل الثمن ولا أرش له. ولو كان التعيب بجناية جاز، لكان له مطالبته بالأرش، كان البائع أو أجنبياً. ولو كان التعيب والضمان من المبتاع لم ينفسخ العقد أصلاً. وتلف بعض الطعام يوجب الانفساخ في ذلك القدر فقط، وسقوط قسطه من الثمن، إلا أن يكون التالف جل الصفقة، فيكون للمشتري الخيار في فسخها بكمالها. وإن استوى التالف والباقي، ففي ثبوت الخيار له في الباقي قولان. هذا حكم عقد البت. أما عقد الخيار فالضمان فيه من البائع، إلا أن يكون المبيع (بيد) المبتاع، ويدعي هلاكه من غير بينة تصدقه، والمبيع مما يغاب عليه، فضمانه منه. قال ابن نافع: إلا أن يكون الخيار للبائع خاصة، فيكون الضمان منه لاختصاص المنفعة به. ثم إذا قلنا بالضمان، فهل يضمن بالثمن أو بالقيمة؟ أما إن كان الخيار للبائع، فعند ابن القاسم: أنه يضمن الثمن إلا أن تكون القيمة أكثر، فيطلب بها ما لم يحلف، فلا يضمن إلا الثمن. وعند أشهب: يضمن الأكثر من الثمن أو القيمة.

وأما إن كان الخيار للمشتري، فقال ابن القاسم: يضمن الثمن. وقال أشهب: يضمن الأقل من الثمن أو القيمة، إلا أنه يحلف إذا كانت القيمة أقل وأراد أن يغرمها: لقد ضاع. فإن نكل غرم الثمن. وسبب الخلاف: تغليب حكم البيع، أو تغليب حكم التعدي. فرع: من أخذ ثوبين على أن المشتري منهما واحد، فضاعا أو ضاع أحدهما: فإما أن يكون مخيراً في العقد [أو] التعيين بأن يكون بالخيار فيهما جميعاً، يأخذ أيهما شاء، أو يردهما. وإما أن يكون مخيراً في تعيين ما لزمه العقد فيه دون التخيير في العقد، بأن يكون أحدهما لازماً للمبتاع على كل حال ولكنه يرد الآخر. وإما أن يكون مخيراً في أحدهما في العقد والتعيين، وفي الآخر في التعيين خاصة دون العقد، بأن يكون قد لزمه أحد الثوبين، وهو بالخيار في أخذ الآخر. فهذه ثلاث صور. أما الصورة الأولى فإن ادعى ضياعهما جميعاً، فها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يضمن واحداً خاصة، وهو في الآخر أمين. قاله ابن القاسم، نظراً إلى المآل، وهو كون أحدهما مردوداً بلا بد، فهو أمانة. والقول الثاني: أنه يضمنها جميعاً، قاله أشهب، نظراً إلى الحال دون المآل، إذ وقع العقد على أنه لن التنقل من أحدها إلى الآخر بحكم مقتضى الخيار، والمبيع بالخيار مضمون، فكأن كل واحد منهما عقد عليه بانفراده على خيار. والقول الثالث: وهو لابن القاسم أيضاً: التفرقة، فإن كان البائع متطوعاً بدفع الآخر ابتداء منه لم يضمن المشتري إلا أحدهما، وإن سأله [المبتاع] في تسليمهما ليختار منهما ضمنهما. وأشار محمد إلى أنه لا فرق بين أن يقبضه المبتاع بسؤال منه، أو يتطوع من البائع لكونه إنما دفعه حرصاً على البيع. ومعتمد ابن القاسم في التفرقة اعتبار حصول المنفعة لأحدهما، وترتيب الضمان عليه واستدل على حصولها لأحدهما بما صدر منه من ابتداء أو استدعاء. ثم حيث قلنا بالضمان، فالواجب فيما ضمنه منهما عند ابن القاسم الثمن، على قوله في الثول الواحد إذا اشتري بالخيار، سواء كان الخيار له أو للبائع، لأنه قادر إذا كان له الخيار على أن يقبل أو يرد، وله القبول في قيامه وتلفه، كانت قيمته أقل من الثمن أو أكثر. وكذلك إن كان الخيار للبائع، فإن المشتري يضمنه بالثمن، لكون البائع سلمه إليه على أن عوضه الثمن الذي اتفقا عليه. فإن كانت القيمة أكثر من الثمن حلف المشتري على الضياع

ودفع الثمن فقط. وأما على قول أشهب فيضمن أحدهما بالقيمة إذ لا بد من رده، والآخر بالأقل من الثمن أو القيمة، إذ هو قادر على أن يلتزمه بالثمن وعلى أن لا يسلتزمه فيرد القيمة، لكن إن كانت القيمة أقل حلف: لقد ضاع، ودفعها، لأنه أقر بأنه لم يختر الإمضاء. وذهب ابن حبيب إلى طريقة أشهب في كون المبتاع ضامناً للثوبين جميعاً، وذكره عن أصحاب مالك. وقال: إنه ليس بأمين في واحد منهما لما أخذهما ليختار أحدهما، لكنه إنما ضمنه إياهما بالثمن. وإن ادعى ضياع أحدهما جرى حكم ضمانه على ما تقدم. فعلى قول ابن القاسم يضمن نصف ثمن التالف، لتردده بين أن يكون هو المشتري بالخيار فتلزمه جملة ثمنه، أو يكون هو الذي على حكم الأمانة فلا يزمه فيه شيء، فقسم الثمن لاعتوار حالتي الثبوت والسقوط عليه. وعلى قول أشهب: يضمن الضائع كله، (لأنه) يضمنهما جميعاً إذا ضاعا. قال أشهب في غير كتاب محمد، فإن أخذ الباقي كان عليه بالثمن والتالف بالقيمة، وإن رده فعليه التالف بالأقل من الثمن أو القيمة. وإذا فرعنا على قول ابن القاسم أنه يغرم نصف التالف، فله عنده أن يختار كل الباقي. وقال محمد: ليس له أن يختار إلا نصفه. وسبب القولين: تغليب حكم التلف أو تغليب حكم الإمساك. وأما الصورة الثانية فتجري على الخلاف المتقدم. فعلى قول ابن القاسم: يضمن واحداً. وعلى قول أشهب وابن حبيب: يضمن الاثنين. وعلى قول ابن القاسم الآخر: يضمن الراغب منهما، على ما تقدم. فإن شهدت البينة بالضياع فلا بد من ضمان واحد، لأنه لازم للمبتاع، ويحلف في الثاني. على قول ابن القاسم: لا ضمان فيه. وأما على أصل أشهب القائل بأن ما أخذ على الضمان لا يرتفع ضمانه بقيام البينة فيضمن، وإن ضاع أحدهما فقولان. أحدهما: أن التالف منهما، والسالم بينهما، وعليه نصف ثمنها. والقول الثاني: إنه يلزمه نصف التالف، وله أن يرد الباقي. فجعله بمنزلة ما إذا أخذهما، ليختار في العقد والتعيين. وأما الصورة الثالثة: فإن ضاعا ضمنهما إن لم تقم بينة. فإن قامت بينة بضياعهما ضمن واحد بغير خلاف في المذهب. وعلى مذهب ابن القاسم يسقط عنه ضمان الآخر. ويضمنه على مذهب أشهب. فإن ضاع أحدهم جرى الأمر في ضياعه على ما تقدم.

القسم الرابع من الكتاب: في موجب الألفاظ المطلقة في البيع، وتأثيرها فيه بمقتضى اللغة أو العرف

ويشترط في هذه الصور الثلاث، إذا كان قد وجب عليه أخذ أحد الثوبين تساوي الثمنين. فإن اختلفا كان من بيعتين في بيعة، فيضمن حينئذ ضمان المبيع بيعاً فاسداً. وأما صورة: القبض فتحكم فيه العادة، وهو فيها متنوع. بتنوع المبيعات. فأما المكيل والموزون فيعتبر فيهما الكيل والوزن. وفي اعتبار قدر المناولة في انتقال الضمان خلاف، سببه: هل المطلوب مجرد معرفة المقدار، وقد حصل، أو التوفية للمشتري، ولم تحصل؟ وثمرته: الحكم باستصحاب الضمان أو انتقاله إذا هلك المبيع بعد امتلاء المكيال واستواء الميزان.، وقبل التفريغ في وعاء المشتري، إذ فيه قولان مبنيان على الخلاف المتقدم. والمعتبر في المعدود العد. وأما في العقار فتكفي التخلية. وكذلك في ما بيع على الجزاف. وما سوى ذلك، فعلى حسب العادة فيه. وأما وجوب التسليم فيعم الطرفين، لكن بأيهما يكون الابتداء؟ قال القاضي أبو الحسن: ((يقوى في نفسي على المذهب أحد أمرين: إما أن يجبر المبتاع على التسليم، ثم يؤخذ من البائع الثمن، أو يقال لهما: أنتما أعلم: إما أن يتطوع أحدكما على الآخر، فيبدأ بالتسليم، أو تكونا على ما أنتما عليه)). قال: وأن يجبر المبتاع أقوى. القسم الرابع من الكتاب: في موجب الألفاظ المطلقة في البيع، وتأثيرها فيه بمقتضى اللغة أو العرف. وهي ثلاثة: الأول: ما يطلق في العقد. فمن اشترى شيئاً بمائة، فقال لغيره، قبل القبض أو بعده في الطعام أو غيره. وليتك هذا العقد، فقد انتقل الملك إليه بالمائة. وهو ملك متجدد، وتسلم الغلات المستجدة للأول، وتتجدد الشفعة بجريان هذا البيع. وهو حط عن المولي بعض المائة لحق الحط المولى، لأنه في حق الثمن كالبناء وفي حق نقل الملك كالابتداء. ولو قال: أشركته في هذا العقد على المناصفة، كان تولية في نصف المبيع. ولو لم يذكر المناصفة لنزل على الشطر على المنصوص لابن القاسم. الضرب الثاني: ما يطلق في الثمن من ألفاظ المرابحة. فإذا قال: بعتك بربح للعشرة أحد عشر أو اثني عشر أو أكثر من ذلك، على هذا النسق،

فلا خلاف أنه يحتسب لكل عشرة وزنها في الثمن أحد عشر أو اثني عشر بحسب ما يقوله. فإن باع بوضيعة: للعشرة أحد عشر أو أكثر من ذلك فللمتأخرين قولان: أحدهما: أنه يأخذ عن كل أحد عشرة عشرة وبحسب ما سمي. والثاني: أنه يقسم العشرة على أحد عشرة جزءاً فيحط ذلك الجزء من الثمن. وعلل ذلك بأنها لفظة فارسية، تفسيرها بالعربية ما ذكرناه من التقدير. وإن باع بوضيعة للعشرة عشرين، فكل عشرين وزنها يأخذ عنها عشرة، ويحط نصف الثمن باتفاق المتأخرين. وإن قال: بعتك بما قامت علي، استحق مع الثمن ما بذله من أجرة القصارة والكماد والطراز والخياطة والصبغ، وشبه ذلك مما له عين قائمة، ويستحق له قسطه من الربح إن سمى لكل عشرة ربحاً. فأما ما ليس له عين قائمة إلا أنه يؤثر في السوق زيادة فيه وتنمية للثمن، فإنه يستحقه. لكن لا يستحق له قسطاً من الربح وذلك كالإنفاق وكراء الحمولة. ولا يستحق ما خرج عن القسمين كأجرة الطي والشد وكراء البيت ونفقة البائع على نفسه، مالكاً للمال كان أو مقارضاً فيه، وأجرة السمسار كذلك. وقال بعض المتأخرين: أجرة السمسار لا بد منها، فكان القياس أن تحسب ويحسب لها الربح وإن لم تكن عيناً قائمة. ويشترط معرفة المبتاع بما اشترى به أو ما قامت به عليه. فإن كان مجهولاً عنده لدى العقد بطل عقده، ويجب على البائع حفظ الأمانة بالصدق في قدر ما اشترى به، وبالإخبار عما طرأ في يده من عيب منقص أو جناية، ويلزمه الإخبار عن الغبن بالعقد [ويقدم] تاريخ الشراء، وعن كل ما لو علم به المبتاع لقلل علمه به رغبته في الشراء. ولو نقد غير ما عليه عقد وجب عليه التبيين. ويجب ذكر تأجيل الثمن. وأما إن اغتل من ذلك ماله غلة من ربع أو حيوان فليس عليه أن يبين ذلك إذا لم يطل زمان ولا حالت الأسواق. وأما إن طال زمان أو حال سوق، فليبين. وأما الصوف يجزه فليبين، لأنه إن لم يكن يوم التبايع نابتاً فقد طالت مدة البيع وإن كان نابتاً فله حصة من الثمن، فلا بد من البيان على كلا الوجهين. فإن قيل: فلو كذب البائع في الثمن؟. قلنا: أما في قيام السلعة، فيخير المبتاع بين أخذها بجميع الثمن أو ردها إلا أن يحط البائع الكذب وربحه فالتزم المبتاع. فإن أبيا ما جعل لكل واحد منهما انفسخ البيع بينهما. وفي المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون: لا يلزمه البيع بحطيطة الكذب وربحه.

وأشار إلى أن الإطلاع على كذبه يشعر بخبث مكسبه، والمشتري يكره معاملة من كان كسبه خبيثاً. وفرق بعض المتأخرين فقال: إن اطلع على كذبه من غير أن يأتي متنصلاً كان كما قال عبد الملك، وإن أتى متنصلاً فلا يكون للمبتاع مقال. وأما في الفوت فعلى المبتاع قيمتها يوم قبضها، إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه. وروى علي: أن البائع مخير بين أخذ الربح على ثمن الصحة، وبين أخذ قيمتها، إلا أن يشاء المبتاع أن يثبت على ما اشتراها به، فإن أبى فعليه القيمة يوم ابتاعها، إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن بالكذب وربحه، فلا يزاد عليه، أو أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه. وقيل: أن الواجب مع فوت السلعة طرح الكذب وربحه من غير التفات إلى القيمة. وقدر قائل ذلك أنه العدل بين هذين المتبايعين. ثم فوت السلعة يكون بالزيادة والنقصان. وفي كون حوالة الأسواق فوتاً قولان: سببهما النظر إلى صحة البيع فيلحق بالعيوب الموجبة للرد أو النظر إلى أن المآل في هذا فساد، فيلحق بالبيوع الفاسدة. وعلى هذا أيضاً القولان في القيمة متى تكون؟ هل يوم البيع إلحاقاً له بالبيع الصحيح أو يوم القبض إلحاقاً له بالبيع الفاسد؟ ولو كانت السلعة مما يكال أو يوزن لكانت كالقائمة يرد مثلها صفة ومقداراً إن لم يرض بها بجميع الثمن إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما قابله من الربح، فيلزمه على المشهور كما تقدم. ولو غلط في الثمن بنقصان، وصدقه المشتري على ذلك أو قامت به بينة لخير المبتاع بين أخذها بما صدفقه عليه مع ربح ذلك، أو تركها. إلا أن يتركها له البائع بالثمن الأول وما يقابله من الربح. وإن تراضيا على غير ذلك جاز، فاعلم. الضرب الثالث: ما يطلق في المبيع. وهو في غرضنا ستة ألفاظ. الأول: لفظ الأرض، (وتندرج) تحتها الأشجار والبناء، كما تندرج هي تحت البناء والأشجار، ولا يندرج الزرع إن كان ظاهراً، كمأبور الثمار، ويندرج إن كان كامناً، على إحدى

الروايتين. والحجارة إن كانت مخلوقة في الأرض اندرجت، وإن كانت مدفونة فلا، إلا على القول بأن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها. اللفظ الثاني: البستان. وفي معناه الحديقة والجنان، وهو يستتبع الأشجار. اللفظ الثالث: الدار. ولا تندرج تحته المنقولات. وتندرج الثوابت، وما أثبت من مرافق البناء كالأبواب والأشجار والرفوف والسلالم المثبتة بالمسامير. اللفظ الرابع: العبد. ولا يتناول مال العبد، وإن كان المذهب أنه يملك، ويتناول ثيابه التي عليه، إذا كانت تشبه مهنته. فرع: قال الشيخ أبو إسحاق: ولو شرط في الأمة تسليمها عريانة، لم ينفعه شرطه، وعليه مواراتها. اللفظ الخامس: الشجر. وتندرج تحته الأغصان والأوراق وكذلك العروق. ويستحق الإبقاء مغروساً. فإن كان عليها ثمرة مأبورة لم تندرج تحته. وغير المأبورة [تندرج]. وفي معنى المأبورة كل ثمرة انعقدت وظهرت للناظرين. فرع: لو تأبر شطر الثمار حكم بانقطاع التبعية فيه دون الشطر الذي لم يؤبر. وإن تأبر أكثرها حكم بانقطاع التبعية في الكل. وروي أن غير المؤبر يتبع، وإن كان الأقل. وقال عبد الملك ما بيع من النخل التي لم تؤبر وفيه طلع، فإن كان حين باعه قد تبلح طلعه وظهر إريضه وبلغ مبلغ الإبار في غيره، فثمره في عامة ذلك للبائع، إلا أن يستثنيه المبتاع، وإن (كان) لم يبلغ هذا المبلغ فهو للمبتاع استثناه أو لم يستثنه. وليس لمشتري الأشجار أن يكلف البائع قطع الثمار، بل له الإبقاء إلى أوان القطاف، ولكل واحد أن يسقي الأشجار إذا كان يحتاج إليه إن لم يتضرر صاحبه بذلك. اللفظ السادس: بيع الثمار في رؤوس النخل. وموجب إطلاقه بعد الزهو استحقاق الإبقاء إلى أوان القطاف كما تقدم. وأما قبل الزهو

فيصح العقد بشرط القطع ويبطل شرط التبقية، لأنها تتعرض للعاهات، فلا يوثق بالقدرة على التسليم حال القطاف. واختلف في صحة العقد، إذا وقع عرياً عن الشرطين على قولين سببهما الخلاف في إطلاق العقد: هل يقتضي التبقية فيبطل كما في اشتراطها، أو القطع فيصح كاشتراطه؟ والأول: رأي البغداديين في حكايتهم عن المذهب، وتابعهم عليه الشيخ أبو محمد وأبو إسحاق التونسي ومن وافقهما من المتأخرين. والثاني: هو ظاهر الكتاب عن أبي القاسم بن محرز وأبي الحسن اللخمي ومن وافقهما من المتأخرين استقراء من قوله في كتاب البيوع الفاسدة من اشترى ثمرة نخل قبل أن يبدو صلاحها فجدها قبل بدو (صلاحها)، البيع جائز إذا لم يكن في أصل البيع شرط أن يتركها حتى يبدو صلاحها. ووجه هذا القول صرف الإطلاق إلى العرف الشرعي كما بعد الزهو، ولأن التبقية انتفاع بملك آخر لم يشترط ولم يقع البيع عليه. فرعان: الأول: إذا اشترى الثمرة والشجرة في صفقتين، فبدأ بالشجرة ثم اشترى الثمرة قبل الزهو، صح البيع، وكان كما لو اشتراهما معاً وكانت الثمار معها في حكم البيع. وقيل: لا يصح، وبه أخذ ابن عبد الحكم والمغيرة وابن دينار. وإذا فرعنا على المشهور، فله أن يبقيها عليها، ولا يجب القطع ولا يفسد به البيع. ولو باع الشجرة وبقي الثمرة لم يجب اشتراط القطع، لأن المبيع هو الشجرة، ولا خوف فيها، وكذلك لو باع الشجرة مع الثمرة لم يشترط القطع لفقد العلة المذكورة. الفرع الثاني: بدو الصلاح في البعض كاف، لكن يشترط اتحاد الجنس، ولا يشترط

اتحاد النوع، ولا البستان بل يباع بطيب الحوائط المجاورة له، لأن الكل في معنى الحائط الواحد (إذا) هدم الجدار الفاصلة يجعل الكل حائطاً واحداً. وقيل: بل يشترط اتحاد البستان. وقال القاضي أبو الحسن: ((إذا بدا الصلاح في جنس من الثمار في بستان في نخلة أو في بعضه ولو عدق في نخلة منه، جاز بيعه كله بطيب البعض، وجاز بيع ثمرالنخل الذي في البساتين حولها كلها وفي ذلك البلد، وإن لم يطب فيها غير الذي طاب في ذلك البستان إلا أن يكون الذي طاب في ذلك البستان من الجنس المبكر الذي يتقدم فلا يباع غيره بطيبه)). وهذا القول يرجع إلى إقامة وقت بدو الصلاح مقام نفسه. ولو كانت الأشجار مما يطعم بطنين في سنة، ففي جواز بيع البطن الثانية يبدو صلاح الأولى قولان، المشهور منهما المنع. وصلاح الثمار بأن يطيب أكلها، ويأخذ الناس في الأكل، وتظهر مبادئ الحلاوة. (وليحذر) من الربا، فلا تباع الثمار بجنسها. فلو باع الحنطة في سنبلها بالحنطة، فهي المحاقلة المنهي عنها، وهي ربا. ولا يمكن الكيل في السنابل. وفي معنى الحنطة كل ما لا يجوز بيعه بها متفاضلاً. وكذلك لو باع الرطب بالتمر فهي المزابنة المنهي عنها.

[كتاب العرايا]

[كتاب العرايا] وقد استثنى عنها العرايا. ووجه استثنائها وبيان محل الرخصة يتضح بالنظر في حقيقتها وقدرها ومحلها وكيفية بيعها وعلتها. فأما حقيقتها، فقال القاضي أبو محمد: ((هي أن يهب الرجل ثمرة (نخلة) أو نخلات من حائطه)). قال القاضي أبو الوليد: ((وهذا الحد إنما يجري على مذهب أشهب وابن حبيب، دون مذهب ابن القاسم)). وسنبين وجه ما ذكره عند الكلام على الزكاة والسقي: وأما قدرها، فلا يزاد على خمسة أوسق. وفي الخمسة روايتان: رواية المصريين: الجواز. وروى القاضي أبو الفرج تخصيص بما دون خمسة أوسق.

وسبب الخلاف: شك الراوي. ففي المشهور: جعل الخرص أصلاً إلا في محل تيقناً فيه المنع. وفي رواية أبي الفرج: بقاء على أصل المنع، حتى يتيقن النقل عنه. وإذا تقرر المنع فيما زاد عليها، فلو تعدد المشتري أو البائع لجاز، وإن اتحد الشق الآخر، فإن اتحدا وتعددت الحوائط وقد أعراه من كل حائط قدر العرية، فقال الشيخ أبو محمد: ((هي كالحائط الواحد لا يشتري من جميعها أكثر من خمسة أوسق)). وتابعه على ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن. وقال الشيخ أبو الحسن: يجوز أن يشتري من كل واحد خمسة أوسق. وقال أبو القاسم بن الكاتب: إن كانت العرايا بلفظ واحد فهي كالحائط الواحد، وإن كانت بألفاظ في أزمان متغايرة، فيجوز أن يشتري من كل واحد خمسة أوسق. وأما محلها من الثمار فالنخل والعنب محل ورودها. واختلفت الرواية في القصر عليها أو التعدية. والرواية المشهورة تعديتها إلى ما ييبس ويدخر من الثمار. وجعلوا ذلك علة الحكم في محل النص، وناطوا الحكم به وجوداً وعدماً، حتى قالوا: لو كان البسر مما لا يتمر و (العنب) مما لا يصير زبيباً لم يجز (اشتراء) العرية منه بخرصها، بل تخرج عن محل الرخصة لعدم العلة. وأما كيفية بيعها، فبيعها جائز بالدنانير و (الدراهم) والعروض ونحو ذلك من المعري وغيره، كانت قليلة أو كثيرة، مما ييبس ويدخر، أو مما لا ييبس ولا يدخر. وإنما محل الرخصة في بيعها مما يختص به المعري أو من ينزل منزلته في ملك بقية ثمن الحائط، ببيع أو هبة أو ميراث من شرائها ممن أعراها أو ممن انتقلت إليه عنه بأحد الأوجه المذكورة بخرصها من جنسها (يقبضها) عند الجداد، فهذا محل الرخصة في بيعها. وأما علة الرخصة، فقال ابن الماجشون: هي رفع الضرر عن المعري بدخول المعري الحائط وتكراره إليه لأجلها. وقال غيره: العلة قصد المعروف والإحسان. وعلل مالك وابن القاسم بهما جميعاً.

ويتخرج على تحقيق العلة فروع: الأول: شراء المعري بعض العرية. الثاني: شراء العرية وإن كانت جملة الحائط، إذا لم تتجاوز جملته خمسة أوسق. الثالث: إذا أعرى جماعة شركاء في حائط عرية؛ فهل يجوز لأحدهم أن يشتري من المعري ما يخصه من العرية أم لا؟ فابن الماجشون يمنع في هذه الفروع أن يشتري العرية بخرصها، ويراها خارجة عن محل الرهصة. وغيره يجيز ذلك. فرعان: الأول: في حوز العرية. ولما كانت عطية تبطل بموت المعطي قبل حوزها، افتقر إلى بيان الحوز فيها. (وقد روى ابن حبيب: ((أن الحوز فيها إنما يتم باجتماع أمرين: أن يكون فيها ثمرة، وأن يقبضها، لا يتم الحوز إلا بمجموعها)). وقال أشهب في كتاب محمد: ((إن الحوز يتم بأحد أمرين: الإبار أو تسليم الرقبة)). الفرع الثاني: في الزكاة والسقي. وقد اختلف فيهما، (فقال ابن حبيب: زكاة العرية والهبة وسقيهما على المعطي. وقال غيره: بل على المعطى. وقال سحنون: بل على من كانت الأصول بيده. وفرق ابن القاسم بين العرية والهبة، فجعلها في العرية على المعري، وفي الهبة على الموهوب له). وإلى هذا أشار القاضي أبو الوليد عند ذكره لحد العرية. قال: ((ومعنى العرية عنده أن يعطيه الثمرة على وجه مخصوص، وهي أن يكون على المعري ما يلزمها إلى وقت بدو صلاحها، وهو وقت يمكن الانتفاع بها. وإطلاق الهبة عنده لا يقتضي هذا وإنما يقتضي أن ذلك يلزم الموهوب له من يوم الهبة، ففرق في ذلك بين الهبة والعرية. ولذلك قال عن مالك: إن زكاة العرية على المعري، وزكاة الثمار الموهوبة على الموهوب له. (وقال: فرق) مالك بينهما في الزكاة والسقي.

وقال أشهب: زكاة العرية على المعري كالهبة، إلا أن يعريه بعد الزهو)). قال القاضي أبو الوليد: ((ويلزمه مثل ذلك في السقي، قال: وقد قال محمد: إنه لا خلاف بينهم أن السقي على المعري. ولعله أراد أنه لم ير لهم خلافاً ولا رأى فيها وفاقاً)). وسبب الخلاف: النظر إلى هاتين العبارتين: هل هما مشعرتان عرفا بالتزام ذلك. فيلزمان المعطي كما قال ابن حبيب، أو هما غير مشعرتين بذلك، فيرجع إلى الأصل في عدم الالتزام كما قال الثاني، أو يختص لفظ العرية بالإشعار بذلك دون لفظ الهبة، فيفترق الحكم فيهما كما قال ابن القاسم؟. وأما سحنون فرأى أن متولي القيام هو المخاطب بالزكاة لأنه لما وليها مع علمه بوجوب الزكاة فيها، فكأنه التزمها، ويخرج على هذا الخلاف حكم ما إذا كانت العرية جملة ثمر حائط. فإن قلنا: إنها على المعري، أخرج من الحائط. وإن قلنا: إنها على المعري، أخرج من غيره، لأن ثمرته استحقت بالعطية. وكذلك لو كانت العرية دون خمسة أوسق، فإنه يراعى في وجوب الزكاة فيها كمال النصاب من غيرها في ملك من أوجبنا الزكاة عليه منهما. هذا تمام الكلام على جواز بيع الثمار.

[كتاب الجوائح]

[كتاب الجوائح] ثم إذا انعقد البيع فيها فهي بعده من ضمان البائع فيما يطرأ عليها من الجوائح لما روى مسلم في صحيحه عن جابر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح)). وروي عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لو بعت من أخيك ثمراً فأصابه جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق)). ثم النظر في أحكام وضع الجوائح يتعلق ببيان حقيقتها وقدرها ومحلها. النظر الأول: في حقيقتها. (وقد روي عن ابن القاسم: أن الجائحة ما لا يستطاع دفعه وإن علم به. فلا يكون السارق عنده جائحة على هذا القول، وقاله في كتاب محمد. وأما في الكتاب، فقال: ((ولو أن سارقاً سرقها كانت أيضاً جائحة في رأيي)). والأول مذهب ابن نافع في الكتاب. وقال مطرف وابن الماجشون: الجائحة ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد أو عطش أو فساد، بحر أو برد أو بكسر الشجر، وأما ما كان من صنع آدمي فليس بجائحة.

النظر الثاني: في قدرها المعتبر

ومقتضى هذا أن الجيش ليس بجائحة. وفي الكتاب: من رواية ابن القاسم أن الجيش جائحة. النظر الثاني: في قدرها المعتبر. ولا تحديد فيها إن كانت بسبب العطش، بل يوضع قليلها وكثيرها، كانت تشرب من العيون أو من السماء. فإن كانت غير العطش فالقدر المعتبر فيها الثلث فما فوقه، فلا يوضع ما دونه إلا في البقول على رواية ابن القاسم في الكتاب أن فيها الجائحة، وأن جائحتها يوضع قليلها وكثيرها. وأما على رواية علي بن زياد وابن أشرس، فتعتبر جائحتها بالثلث كغيرها. وروى غيرهما: أنه لا يوضع منه شيء. ثم الثلث المعتبر هو ثلث مكيلة الثمرة عند ابن القاسم، ولو كان الثلث المذكور إنما يساوي عشر الثمن. ولا يوضع عنده ما دون ثلث المكيلة، ولو كان يساوي تسعة أعشار الثمن. وقال أشهب: إنما ينظر في البطون إلى ما أذهبت الجائحة، فإن كان يصير لقيمته ثلث الثمن وضع، وإن كان من الثمر عشرة، وإن كانت قيمة ما أتلفت الجائحة لا يصير لها من

الثمن ثلثه، بل أقل من ثلثه لم يوضع عن المشتري شيء وإن كان من الثمرة تسعة أعشارها. فنظر ابن القاسم [إلي] أن الثلث إنما اعتبر (ليميز) النقص الذي يكون جائحة من النقص المعتاد الذي لا يكون جائحة، وذلك إنما يكون باعتبار الثمرة. ونظر أشهب إلى أن المقصود القيمة، وبسببها يزيد الثمن وينقص، ومن أجل نقصه تلحق المضرة، وقد يكون اليسير من الثمرة له معظم الثمن، فإذا أصيب لحق الضرر، كما أنه لو أصيب الكثير من الثمرة ولا قيمة له لم يلحق بسبب ذلك كبير ضرر. فروع: الأول: (إذا كان المبيع من الثمار في عقد واحد أجناساً مختلفة عنباً وتيناً ورماناً وغير ذلك، فأصيب جنس منها بجائحة وسلم سائرها، فجائحة كل جنس منها معتبرة به، فإن بلغت ثلثه وضعت، وإن قصرت عنه لم توضع. رواه ابن حبيب عن مالك. وروى محمد عن أصبغ: أن جائحة المصاب معتبرة بالجملة، سواء كان ذلك في حائط واحد أو في حوائط مختلفة). (فعلى قول أصبغ: ينظر إلى قيمة الجنس الذي أصابته الجائحة. فإن كانت قيمته ثلث الجملة حكم بالجائحة، ولا يعتبر بثلث الثمرة إذا ذهب الجنس كله. فإن ذهب بعضه فابن القاسم ينظر إلى الجنس الذي أصيب بعضه وإلى القدر المصاب منه ويعتبرهما جميعاً، فإن كانت قيمته بقدر ثلث قيمة الجلمة وأصيب مع ذلك ثلث ثمرته حكم بالجائحة. وإن كان المصاب أقل من ثلث الثمرة لم تجب فيه جائحة. وكذلك إن كان ذلك الجنس أقل من ثلث الجملة في القيمة فلا جائحة فيه وإن أصيب جميعه. وقال أصبغ: إنما ينظر في ذلك إلى ثلث القيمة فقط، فإن أصيب من الجنس الواحد ما يفي بثلث قيمة الجملة فهي جائحة. وإن كان أقل من ذلك فليس بجائحة. الفرع الثاني: (إذا كان المبيع جنساً واحداً مختلف الأنواع فأصيب نوع منه فالاعتبار بثلث جميع المبيع باتفاق الأصحاب.

النظر الثالث: في محل الجائحة

ثم المعتبر في رواية محمد عن مالك و (عن) ابن القاسم وعن عبد الملك ثلث الثمرة. وفي روايته عن أشهب: ثلث القيمة). الفرع الثالث: إذا كان المبيع نوعاً واحداً، وكان يحبس أوله على آخره، كالتمر والعنب وما أشبههما في ذلك فالاعتبار في جائحته بثلث الثمرة. وحكى القاضي أبو الوليد: ((أن المذهب لا يختلف في ذلك. فإن كان مما لا يحبس أوله على آخره كالقثاء والبطيخ والخوخ والتفاح ونحو ذلك، فالاعتبار عند ابن القاسم بثلث الثمرة. وعند أشهب بثلث القيمة)). الفرع الرابع: إذا زادت الجائحة على الثلث حتى أصابت معظم الثمرة لزم المبتاع بقيتها. بخلاف من اشترى صبرة طعام فاستحق معظمها، أو اشترى طعاماً على الكيل، فذهب معظمه قبل الكيل فإنه لا يلزم المبتاع ما بقي. والفرق أن الجوائح معتادة، فلا تسلم الثمرة من يسيرها في العادة، وكثيرها متكرر فيها، والمشتري قد دخل على الرضى بما بقي منها، بخلاف الاستحقاق فإنه أمر نادر والمشتري لم يدخل عليه). النظر الثالث: في محل الجائحة. والثمرة المبيعة على ضربين: أحدهما: (يحتاج إلى بقائه في (أصله) لانتهاء صلاحه (وطيبه)، كثمرة النخل والعنب إذا اشتري عند بدو صلاحه، وكثمرة التفاح والتين والبطيخ والورد والياسمين والفول والجلبان.

والضرب الثاني: يحتاج [إلى ذلك]، لبقاء رطوبته ونضارته كثمرة العنب إذا اشتريت بعد انتهاء طيبها، وكالبقول والقصيل، والأصول المغيبة من الجزر و (السلجم) والبصل والثوم. فأما الضرب الأول، فلا خلاف عندنا في وضع الجائحة فيه، كما لا خلاف في أن ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولا لبقاء نضارته، كالتمر اليابس والزرع، لا جائحة فيه لأن تسليمه قد كمل، فصار بمنزلة الصبرة الموضوعة بالأرض. وأما الضرب الثاني من الضربين الأولين، وهو المحتاج إلى البقاء في أصله لحفظ نضارته كالعنب المشترى بعد تمام صلاحه وما ذكر معه)، فقال القاضي أبو الوليد: مقتضي رواية أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يراعى البقاء لحفظ النضارة وإنما يراعى تكامل الصلاح)). قال: ((ويجب أن يجري هذا المجرى كل ما كان هذا حكمه، كالقصيل والقصب والبقول والقرظ، فلا توضع جائحة في شيء في ذلك)). قال: ((ومقتضى رواية سحنون: أن توضع الجائحة في جميعه)). ويتم المقصود من النظر في أحكام الجوائح بذكر فروع: الأول: أن ما انتقل مما فيه الجائحة على وجه البيع المحض مفرداً عن أصله فالجائحة فيه موضوعة. فأما ما كان مهراً في نكاح فاختلف فيه أصحابنا: فقال ابن القاسم: لا جائحة فيه، لأنه عقد لا يقتضي المغابنة والمكايسة، وإنما يقتضي المواصلة والمكارمة، ووضع الجائحة لن يرد في ذلك. وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة، وقاسه على البيع بجامع الرد بالعيب). الفرع الثاني: (من اشترى عريته، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: توضع فيها

الجائحة. وقال أشهب: لا توضع فيها جائحة). وهذا إذا كانت العرية نخلاً معينة. فإن كانت أوسقاً من حائط، فلا يبقى إلا مقدار تلك الأوسق لزم المبتاع أداؤها، بمنزلة من أوصى بثمرة حائطه لإنسان، ولآخر منه بخمسة أوسق، فتلفت الثمرة إلا خمسة أوسق فإن جميعها له دون من أوصى له بجميع الثمرة. الفرع الثالث: من باع ثمرة حائطه واستثنى منها أصوعاً مقدرة فأجيحت، فقد روى ابن القاسم وأشهب: يوضع من العدد المستثنى بقدره. وقال ابن القاسم في الكتاب: ((إن قصرت الجائحة عن الثلث لم يوضع عن المشتري شيء، وإن بلغت الثلث وضع عن المبتاع مما استثنى البائع بقدر ما يوضع عنه من ثمن الثمرة. قال ابن القاسم: وهذا بخلاف الصبرة يبيعها ويستثني منها كيلاً يكون الثلث فأدنى فتهلك الصبرة إلا ما استثنى البائع منها، فإن له ذلك دون المبتاع)). وروى ابن وهب: لا يوضع من العدد المستثنى قليل ولا كثير، أجيح أكثر الثمرة أو أقلها. قال القاضي أبو الوليد: ((وهذا عندي مبني على ما يقتضيه اختلاف قول مالك في المستثنى من الثمرة كيلاً)). (فعلى ما يقتضيه قوله من أن المستثنى تناوله البيع وارتجع، بعد ذلك بعقد الاستثناء فلا جائحة فيه، لأن البائع ابتاع من المشتري ما استثناه من عدد الأوسق، فوجب أن يكون مقدماً في ثمرة الحائط، ولو لم يبق من الحائط غير ذلك. وعلى ما يقتضيه قوله: إن المستثنى لم يتناوله البيع، وإنما أبقاه الاستثناء على ملك البائع، وأن ذلك قد صار به البائع شريكاً للمبتاع، فوجب أن تكون الجائحة بينهما على قدر ما لكل واحد منهما من ثمرة الحائط). الفرع الرابع: إن مشتري الثمرة إما أن يقتصر على شرائها، وإما أن يشتري أصلها أيضاً، فإن اقتصر على شرائها فالحكم في وضع الجائحة (فيها) ما تقدم، وإن اشتراها

القسم الخامس من كتاب البيع: في مداينة العبيد والتحالف فيه

واشترى أصلها، فإن كان معها في صفقة واحدة فلا جائحة فيها. وإن كانا في صفقتين، فإن اشترى الأصل ثم الثمرة بعد بدو صلاحها صح العقد، واختلف في وضع الجائحة فيه، وإن كانت لم يبد صلاحها كان شراء مختلفاً فيه، ومن أجازه أسقط فيه الجائحة، وإن اشترى الثمرة ثم الأصل فإن كان بعد بدو الصلاح كان من البائع، والسقي باق عليه، ولو اشترط البائع ألا سقي عليه لم تسقط الجائحة عنه. ولو اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها على الجداد، ثم اشترى النخل جاز للمشتري أن يبقى الثمرة حتى تطيب ومصيبتها منه. وإن قال المشتري: أنا أجدها حسب ما اشتريت عليه كانت مصيبتها من البائع، إلا أن يتراخى بالجداد عن الوقت الذي كان يجدها فيه. القسم الخامس من كتاب البيع: في مداينة العبيد والتحالف فيه، وفيه بابان: الباب الأول: في معاملة العبيد. والنظر في المأذون له في التجارة وغيره. أما المأذون فالنظر فيما يجوز له وفي العهدة، وفيما تقضى منه ديونه. أما ما يجوز له من التصرف فهو كل ما يدخل تحت اسم التجارة، أو كان من لوازمها مما يعود بنماء المال. وحكمه في ذلك حكم الشريك المفاوض والوكيل المفوض إليه. وليس له أن يضع من المال عمن عامله ولا أن يؤخره به، ولا أن يعمل طعاماً يجمع عليه التجار، إلا أن يكون جميع ذلك منه استيلافاً للتجارة، أو يعلم من أهله أنهم لا يكرهون ذلك. وله أن يتصرف فيما اكتسبه بوصية أو هبة أو نحو ذلك. وله أن يعامل سيده. واختلف إذا أذن له في التجارة فأخذ قراضاً أو أعطاه فأجازه ابن القاسم. ومنعه أشهب. ورأى أن أخذه منه لنفسه ودفعه إيداع منه للمال، وليس له ذلك. ويقبل إقراره بالدين [فيما بيده]، ثم لا يتهم عليه قبل قيام الغرماء، وإن حجر عليه سيده. وقال ابن وهب في كتاب محمد: لا يجوز إقرار بعد حجر سيده، وإن لم يقم الغرماء عليه. وأما العهدة فإنه المطالب بديون معامليه دون سيده فيتعلق بذمته، إن لم يكن بيده ما يوفي منه، لا برقبته ولا بذمة سيده. وإن عتق طولب بها، ثم لا رجوع له بما غرم على السيد.

وأما قضاء ديونه فمن مال التجارة لا من رقبته، وتباع فيها أم ولده، ولا يباع فيها ولده، لأنهم ليسوا بملك له، إلا أن يشتريهم وعليه دين فإنهم يباعون فيه، لأنه يتلف أموال غرمائه، وليس له ذلك، وهم في هذا الموضع ملكه. فروع متتالية: قال أبو الحسن اللخمي: ((لا ينبغي للسيد أن يأذن لعبده في التجارة إذا كان غير مأمون فيما يتولاه، إما لأنه يعمل بالربا، أو خائن في معاملته، (أو) نحو ذلك. فإن تجر فربح وكان يعمل بالربا تصدق السيد بالفضل، وإن كان يجهل ما يدخل عليه من الفساد في بيعه ذلك استحسن له التصدق بالربح من غير إجباره)). (وقال مالك في الكتاب: ((لا أرى للمسلم أن يستتجر عبده النصراني ولا يأمره ببيع شيء لقول الله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه}. قال أبو الحسن اللخمي: ((فإن أذن له فيتجر مع المسلمين، كان الحكم فيما أتى به كالحكم في العبد المسلم. قال: ويختلف إذا تجر مع أهل دينه فأربى، أو تجر في الخمر، فعلى القول بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة يكون الجواب على ما تقدم إذا بايع مسلماً، وعلى القول بأنهم غير مخاطبين إلابعد تقدم الإسلام يسوغ للسيد ما أتى به من ذلك)). قال: ((وقد كان لابن عمر عبد نصراني يبيع الخمر. وهذا كله إذا كان (تجره) لنفسه، فإن كان (تجره) لسيده لم يجز شيء من ذلك، وصار بمنزلة ما لو كان السيد المتولي لذلك البيع، لأنه وكيل له)). وللسيد الحجر على عبده بعد الإذن له، وأن اغترق الدين ما بيده ويمنعه التجارة، ثم يكون ما بيده لغرمائه دون سيده، إلا أن يفضل عنهم شيء، فيكون له أو يكون هو أحدهم فيشاركهم. وليس للغرماء أن يحجروا على العبد لكن لهم القيام بدينهم فيفلسونه، وهو في هذا كالحر. (وإذا أراد السيد الحجر عليه فلا يفعل ذلك دون السلطان حتى يكون السلطان هو الذي

يوقفه للناس). ((قال مالك: ومن ذلك أن يأمر به السلطان فيطاف به حتى يعلم ذلك منه)). فإن حجر السيد عليه دون السلطان فقال ابن حارث: ابن القاسم يقول: ((لا يجوز رده إلا عند السلطان))، وغيره يقول: حيث رده السيد فهو مردود. وقال أبو الحسن اللخمي: ((إن لم تطل إقامته فيما أذن له فيه ولم يشتهر أجزأ حجر السيد، ويذكر ذلك عند (من) يخالطه أو يعامله في سفره. وإن طال ذلك واشتهر الإذن له كان الحجر للسلطان يسمع بذلك ويظهره)). وأما غير المأذون فملكه موقوف، لا تجوز فيه أحكامه، معاوضة (كانت) أو معروفاً. وأحكامه فيها أحكام المحجور عليه، ينعقد بيعه إن باع، ويقف الفسخ على اختيار السيد، ويجوز اتهامه وقبوله للوصية، ولا يقف ذلك على إذن (سيده)، ويخلع زوجته. ثم المأذون وغيره يملك ملكاً لا يساوي الحر فيه. فملكه غير مستقر، لأن للسيد أن ينتزعه منه متى شاء. ودليل كونه قابلاً للملك أن الله سبحانه أضاف إليه الغنى والفقر، وأضاف له رسول الله صلى الله عليه وسلم المال، ولأنه حي آدمي ويصح منه ملك الأبضاع، وهو أضيق أسباباً من الأموال. كيف وقد صح منه تعاطي أسبابه من قبول الوصية ونحوه، وقد اتفقنا على جواز تجارته ببيعه وشرائه بالغبن والدين، إذا كان مأذوناً، مع كون الدين لا يلزم السيد، ولو أتلف أموال الناس لتعلق الدين بذمته دون رقبته، كما تقدم، والدين [من] فروع الملك.

الباب الثاني: في اختلاف المتبايعين

الباب الثاني: في اختلاف المتبايعين وما يترتب عليه من التحالف وغيره وللأصحاب في الحكاية عن المذهب طريقان: أحدهما: التفصيل، وهو طريق المتأخرين، ويحصره النظر في كيفية الاختلاف وأحواله ثم في تنزيل الأحكام على الأحوال. النظر الأول: في كيفية الاختلاف. وينحصر في الثمن، وصفة العقد. أما الثمن، فالاختلاف فيه في خمسة أحوال: جنسه ونوعه ومقداره وتعجيله وتأجيله وقبضه. وأما صفة العقد فالاختلاف فيها في حالين: الخيار والبت، والصحة والفساد. النظر الثاني: في تنزيل الأحكام على الأحوال. أما الحال الأول من القسم الأول، وهو الاختلاف في جنس الثمن، مثل أن يقول أحدهما مثلاً: دنانير، ويقول الآخر: ثوب، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان على الإطلاق، إذ ليس أحدهما بتصديق قوله بأولى من الآخر، ولم يقر البائع بإخراج سلعته بما قاله المشتري جملة ولا تفصيلاً. وأما الحال الثاني منه، وهو الاختلاف في نوع الثمن، مثل أن يقول أحدهما مثلاً: قمح، ويقول الآخر: شعير، فقيل: ذلك يجري مجرى الحال الأول، وهو شهادة بتباعد الأغراض، وقيل: يجري مجرى الحال الثالث، وهو شهادة بتقارب الأغراض. وأما الحال الثالث منه، وهو الاختلاف في مقدار الثمن ففي المذهب فيه أربع روايات: إحداها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وما لم يقبض المشتري السلعة، فإن قبضها صدق في الثمن. الثانية: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها، ما لم يبن بها فيصدق حينئذ. والروايتان لابن وهب. والرواية الثالثة: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها وبان بها، ما لم تفت بتغير سوق

أو بدن، فيكون القول قول المشتري، وهذه رواية ابن القاسم في الكتاب وبها أخذ. والرواية الرابعة: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن فاتت في يد المشتري، ويرد القيمة بدل العين، وهذه رواية أشهب وبها أخذ. قال الإمام أبو عبد الله: وهذا المذهب الذي كان يفتي به شيخنا رحمه الله. قال: وأنا فتي به أيضاً. وسبب اختلاف: هذه الروايات أنه نظر في رواية أشهب إلى أن كل واحد منهما مدعى عليه، إذ البائع يقول: لم أخرج سلعتي إلا على صفة لم يقر بها المشتري، والمشتري يقول: لم أشتر إلا بما سميته. وهذا يقتضي التحالف والتفاسخ مطلقاً. وأما رواية ابن القاسم فنظر فيها إلى أن بفوات السلعة يفوت ردها، وإنما (تجب) على المشتري قيمة، فصار البائع يدعي عليه عمارة ذمته بشيء وهو منكر له. ونظر في روايتي ابن وهب إلى ترجيح جانب المبتاع، فتارة اقتصر على وجود اليد وتارة أضاف إليها البينونة حتى تتأكد بها. فروع: الأول: اعتبار الأشبه في الدعوى. وقد قال الشيخ أبو الطاهر: ((إن فاتت السلعة فلا خلاف في مراعاته)). قال: ((وأما إن كانت قائمة فقولان، المشهور أنه غير مراعى، لوجود السلعة والقدرة على

ردها، والبيع مظنة التغابن. والشاذ أنه يراعى. قال: ((وصوبه الأشياخ. ثم قال: وهذا ينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن ادعى أحدهما أشبه، وأبعد الآخر إلى ما لا يشبه، فينبغي أن لا يختلف أن القول قول من ادعى الأشبه. وإن ادعى الآخر ما هو ممكن، ويتغابن الناس [بمثله]، فلا يلتفت إلى الأشبه)). الفرع الثاني: حيث حكمنا بالتحالف، فالبداية بالبائع. وروى في المستخرجة أن البداية بالمشتري. وقال بعض المتأخرين: هما سيان، فيقدم بالقرعة. فنظر في المشهور إلى أن الملك في الأصل للبائع، والمشتري يدعي عليه إخراجه له بغير ما يقول إنه رضي به. ونظر في الرواية الأخرى إلى أن البائع مقر بالبيع ونقل الملك للمشتري ومدع في زيادة ثمن عليه ينكرها، ولما تقابل هذان الوجهان عند المتأخر المشار إليه قال بالقرعة. الفرع الثالث: وهو مرتب. إذا قلنا بتبدئة البائع على المشهور، فهل ذلك من باب الأولى أو هو واجب؟ في ذلك خلاف، ينبني عليه الخلاف في ما إذا تناكلا. فمن قال: إن التبدئة من باب الأولى حكم بالفسخ، كما إذا تحالفا، وبه قال ابن القاسم. ومن قال: إنها واجبة، أمضى العقد بما قال البائع. وبه قال ابن حبيب. التفريع: إذا بنينا على قول ابن القاسم فأراد أحدهما أن يمضي البيع بما قال الآخر وأبى صاحبه، فهل له ذلك أم لا؟ قولان، وإذا بنينا على قول ابن حبيب، فهل يفتقر البائع إلى اليمين؟ قولان أيضاً، أحدهما افتقاره إليها. وإليه ميل القاضي أبو الوليد: والثاني: عدم الافتقار إليها. قال الشيخ أبو الطاهر: ((وعليه حمل هذه الرواية أكثر الأشياخ)). الفرع الرابع: إذا حلفا فمذهب سحنون انفساخ العقد. وقال ابن القاسم وابن

عبد الحكم: بل يفتقر إلى إنشاء الفسخ. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا رضي أحدهما قبل الفسخ أن يمضي العقد بما قال الآخر. (فسحنون يمنع ذلك إذ حصل عنده الانفساخ بالفراغ من التحالف. وقال ابن القاسم في الكتاب: ((إلا أن يرضى المبتاع قبل الحكم بالفسخ بما قال البائع فذلك له)). وقال ابن عبد الحكم: إذا أراد البائع أن يلزمها المشتري بما حلف عليه المشتري، فذلك له، وإن شاء فسخ البيع). الفرع الخامس: حيث قلنا بالفسخ، فهل ينفذ ظاهراً أو باطناً، أو ظاهراً لا باطناً؟ فيه خلاف. فائدته: حل الوطء والبيع، على القول الأول دون الثاني، لأنه فيه وطئ أو باع ملك الغير، وليس له أخذها عوضاً مما له عليه من الثمن، إذ لابد من البيع قبل ذلك. الفرع السادس: في صفة اليمين: وليبدأ الحالف باليمين على إبطال دعوى خصمه، ثم هل يقتصر على ذلك؟ لأن موضوع الأيمان دفع الدعاوي وإبطالها دون تصحيحها، أو يضم إلى ذلك تحقيق دعوى نفسه، لأن أحد الفصلين يتضمن الآخر، ولأنه على تقدير نكول الخصم لا تكفيه اليمين الأولى، ما لم يجدد يميناً أخرى، فكان له أن يجمع الفصلين في يمينه ليجترئ بها. ولهذا قال أبو الحسن اللخمي: ((له أن يجمعهما إن شاء))، ففوض ذلك إلى خيرته لما رأى أن الحق له لا عليه. وأما الحال الرابع من القسم الأول في تعجيل الثمن وتأجيله، مثل أن يدعي البائع انعقاد

البيع على كون الثمن حالاً والمشتري يدعي خلافه. فالأصل فيه أنه جار مجرى الاختلاف في مقدار الثمن كما تقدم في الحال الثالث، إلا أنه قد اعتيد الشراء بالنقد في بعض السلع، حتى صار ذلك العرف فيها. فإن ثبتت عادة في مبيع ما تصرف عن الأصل، وإلا فالرجوع إليه. ولهذا نزل بعض المتأخرين ما وقع من الاختلاف بين الأصحاب في ذلك على شهادة بعادة. وقيل: القول قول البائع، وهو بناء على أن العادة التعجيل. وقيل بالتفرقة بين بعيد الأجل وقريبه، فيكون القول في دعوى الأجل البعيد قول البائع، و [في] دعوى القريب يتحالفان ويتفاسخان، كالاختلاف في قدر الثمن، وكذلك إن اتفقا في أصله واختلفا في قدره فهو كالاختلاف في قدر [الثمن]. وأما إن اتقفا في أصله وقدره واختلفا في انتهائه فالقول فيه قول من أنكر تقضيه. وأما الحال الخامس منه، وهو الاختلاف في قبض الثمن، فالأصل أن الثمن باق بيد المبتاع والمثمون باق بيد البائع حتى يثبت الانتقال عن يد ذلك بيده، إما بالبينة وإما بعادة مستقرة، وقد استقرت في بعض المبايعات بالقبض كالبقل واللحم وشبههما، يشتري من أصحاب الحوانيت، فإذا قبضها المشتري وبان بها، فالقول قوله في دفع ثمنها. وفي تصديقه إذا قبضها ولم يبن بها، خلاف سببه الشهادة بالعوائد. وأما الحال الأول من القسم الثاني، وهو الاختلاف في دعوى الخيار والبت، فروي عن ابن القاسم تصديق مدعي البت. وعن أشهب تصديق مدعي الخيار. وبنى المتأخرون هذا (الاختلاف) على القول بتبعيض الدعوى. وأما الحال الثاني منه، وهو الاختلاف في دعوى الصحة والفساد، ففي الكتاب: ((أن القول قول مدعي الصحة مطلقاً من غير تفصيل))، لكن نزل المتأخرون على أن الاختلاف في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في زيادة الثمن ونقصانه. فأما إن أدى إلى ذلك فحكمه حكم الاختلاف في قدر الثمن. قالوا: ((وأما لو كان لا يؤدي إلى ذلك كقول أحدهم: لم أر المبيع، أو وقع البيع وقت الجمعة، وشبه ذلك، والآخر ينكره، فالمذهب: القول بالصحة)). قالوا: ((لأنه الأصل في التعامل بين المسلمين.

وعلى هذا قال أبو محمد عبد الحميد وغيره من المتأخرين: لو كان الغالب التعامل على الفساد لكان القول قول مدعيه)). قالوا: ((وكذلك وقع لسحنون في المغارسة إذا تداعيا فيها الصحة والفساد، إن القول قول مدعي الفساد، لأنه شهد أن الغالب فسادها في زمانه)). فرع: قال الإمام أبو عبد الله: ذكر المتأخرون من أصحابنا أن كل معنى يؤدي إلى الاختلاف في الثمن فحكمه حكم الاختلاف فيه، ومثلوا ذلك باختلاف المتبايعين في الأجل أو شرط رهن أو حميل أو يقول أحدهما: شرطت الخيار لي، ويقول الآخر: شرطت الخيار دونك، أو عقدنا البيع بتلاً. قال الإمام: وهذا الذي مثل به مما يؤدي إلى الاختلاف في الثمن صحيح. لكن قوله في اختلافهما في شرط الخيار أو وقوع البيع بتلاً مما يفضي إلى تحقيق، وهو النظر فيما يختاره مدعي الخيار: هل الإمضاء فيوافق مدعي البت، فلا يفتقر إلى يمين، أو يختار رد المبيع فيختلف هل يكون القول قوله أو قول مدعي البت؟ هذا تمام طريق المتأخرين. أما الطريق الثاني، فقال القاضي أبو الحسن: ((إذا تبايعا شيئاً ثم اختلفا في مقدار الثمن أو اتفقا في الثمن ولكن اختلفا في المثمن، فقال البائع: بعتك هذا الثوب بألف درهم، وقال المبتاع: بل هذا الثوب وثوباً آخر ابتعت بألف. وكذلك إذا اختلفا في الأجل فقال البائع: نقداً، وقال المبتاع: إلى أجل، عينه. وكذلك لو قال البائع: بعتك على ألا خيار لك، وقال المبتاع: بل لي خيار، أو قال: بعتك على شرط الرهن، وقال المبتاع: لا، بل لا رهن، أو قال: على شرط التضمين، وقال المبتاع: بلا شرط التضمين. فالحكم في هذه المسائل كلها واحد. ثم ذكر أن المذهب فيها على ثلاث روايات، وترك رواية ابن وهب الثانية باعتبار البينونة مع القبض، فأسقطها وذكر سائر الروايات على ما تقدم في الطريقة الأولى)). وكذلك الأستاذ أبو بكر اقتصر أيضاً على الروايات الثلاث التي اقتصر عليها القاضي أبو الحسن بعد أن حكى قريباً مما حكى.

كتاب السلم والقرض

كتاب السلم والقرض القسم الأول: السلم. والأصل فيه قول صلى الله عليه وسلم: ((من أسلم في تمر، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)). وفيه بابان: الأول في شرطه، والثاني في أداء المسلم فيه. الباب الأول: في شروط السلم، وهي ستة: الأول: تسليم جميع رأس المال، حذاراً من الدين بالدين. ولا يشترط قبضه في المجلس، ولا يفسد العقد بتأخيره بالشرط: اليوم واليومين. وفي كتاب بيع الخيار: الثلاثة أيضاً. وحكى ابن سحنون وبعض البغداديين فساد السلم إذا افترقا قبل القبض. وهو خلاف في حكم المقارب للشيء هل هو كحكم الشيء أم لا؟. ويرجع الخلاف أيضاً إلى اعتبار ما يسمى ديناً بدين وما لا يسمى بذلك.

أما تأخيره بالشرط زيادة على الثلاثة فمفسد للعقد. وأما بغير شرط ففي الفساد به قولان في العين خاصة. ولا يفسد بتأخير العرض، إذ لا يتصور فيه دين بدين، لكن يكره إذا كان مما يغاب عليه كالطعام والثوب. قال بعض المتأخرين: لأنه يقرب شبهه بالدنانير والدراهم فضاهى الدين بالدين. قال غيره منهم: إنما يتصور هذا إذا كان الطعام لم يكل: والثوب غائباً عن مجلس العقد، وأما لو كيل الطعام وحضر الثوب لم تكن كراهية إذ لم يبق حق توفية، كما أجازوا أخذ سلعة حاضرة من دين (يتركها) مشتريها اختياراً مع (التمكن) من قبضها. ويستوي في إفساد العقد بجملته تأخير بعض المال وكله. ومهما فسخ السلم استرد رأس المال. ولو كان رأس المال غير الدنانير والدراهم وقد عين، وهو جزاف غير مقدر جاز العقد، كما يجوز مع البيع، وكما يجوز في الجهل بقيمته. وقال الشيخ أبو الطاهر: ظاهر قول القاضي أبو محمد منع كون رأس المال جزافاً. قال: والمذهب كله على خلافه. فرع: إذا اتحد جنس المسلم والمسلم فيه، فتشترط السلامة من التفاضل والنساء: بأن يكون غير طعام ولا نقد، ومن سلف جر نفعاً، بألا يسلم الشيء في ما يزيد عليه، كانت الزيادة من جنسه أو من غير جنسه، إلا أن تختلف منافعها، كإسلام الحمار الفاره النجيب في الحمر الأعرابية، والفرس الجواد الذي له سبق يسلم في حواشي الخيل، وكذلك ما عرف فبان بالنجابة والحمولة من الإبل في حواشيها، والبقرة الفارهة القوية على العمل والحرث في حواشي البقر، وكذلك الشاة الغزيرة اللبن في حواشي الغنم، ومثل كبار الخيل والبغال والحمير والبقر في صغارها، وكجذع نخل كبير غلظه وطوله كذا في جذوع صغار لا تقاربه، وكعبد له نفاذ وتجارة في نوبيين أو غيرهما لا تجارة فيهما. وكذلك في جميع أجناس الأموال. الشرط الثاني: أن يكون المسلم فيه ديناً، (فاعلم) فلا ينعقد في عين محاذرة من الغرر ببيع المعين إلى أجل، أو على تخليصه من يد مالكه، ولأن لفظ السلم للدين. ولو أسلم

بلفظ الشراء انعقد سلماً وعجل رأس المال. ثم يترتب على اشتراط التعلق بالذمة فرعان: الأول: إنه لا يجوز أن يسلم في نسل حيوان بعينه وإن وصفه صفة تحصره، نفذ أو لم ينفذ. وقال أبو القاسم السيوري: إذا لم ينفذ وشرط أنه إن سلم ووافق تم البيع، وإلا لم يتم، جرى على قولين تخرجا من مسألة كراء الأرض الغرقة. وكذلك من اشترى ما يخرج من شيء واشترط التمام إن خرج على صفة ولم ينفذ فيه الخلاف أيضاً، وينخرط في هذا السلك السلف في حديد معدن بعينه أو صوف غنم وألبانها، وما أشبه ذلك. فأما لو كانت الإشارة إلى نعم كثيرة لا يتعذر الشراء منها لمن أراد، وإنما أشير إليها لمعنى انفردت به لجاز السلم في نسلها إذا وصف. وكذلك يجري الحكم في ما ذكرناه من الحديد والغلات وما جرى مجرى ذلك. الفرع الثاني: السلف في تمر موضع مشار إليه، وله ثلاث صور: الأولى: أن يكون حائطاً بعينه. فهذا حكمه حكم البيع. والنص على أنه يلزمه، إن كان البيع بعد أن أزهى وصار بسراً على أن يأخذ بسراً أو رطباً ويضرب أجلاً لا يتمر إليه ويسمى ما يأخذ كا يوم. ولا يشترط أن يأخذ كل يوم ما شاء. ولو (اشترط) أخذ الجميع في يوم سماه لجاز. وقال بعض المتأخرين: إن سموه بيعاً لم يلزم ذلك فيه، وإن سموه سلماً لزم. الصورة الثانية: عكس الأولى، وهي أن يسلم في تمر مصر عظيم. فهذا حكمه حكم السلم المحض، فيجوز، وإنما يشار إلى الموضع، لكونه كالصفة لما يسلم فيه، كما تقدم في الحيوان. الصورة الثالثة: أن تكون القرية الصغيرة، وهذه الصورة قد أعطوها حكم السلم في اشتراط النقد وفي جواز السلم لمن لا يملك فيها تمراً على خلاف بين المتأخرين في هذا الوجه خاصة، وأعطوها أيضاً حكم الحائط بعينه، في أنها لا يجوز السلم فيها إلا بعد الزهو، وفي أن العاقدين يؤمران أن يشترطا أخذ ما أسلما فيه قبل بلوغه إلى أن يصير تمراً، وفي اشتراط تسمية ما يأخذ كل يوم كما تقدم. الشرط الثالث: أن يكون المسلم فيه مؤجلاً، لئلا يكون من بيع ما ليس عند الإنسان (وروى ابن وهب وابن عبد الحكم جواز السلم إلى يومين أو ثلاثة. وزاد ابن عبد الحكم عنه

الإجارة إلى يوم، فقيل: (هذه رواية في جواز السلم الحال). وقيل: لا يختلف المذهب في اشتراط الأجل، وإنما هذا الخلاف في مقداره. والمشهور من المذهب أنه المسافة التي تختلف فيها الأسواق غالباً، كخمسة عشر يوماً ونحوها. ويقوم مقام ضرب الأجل أن يعين القبض ببلد غير بلد العقد مما تتغير الأسواق بينهما كثلاثة أيام، ونحوها. ثم يجوز تأقيت الأجل بالنيروز والمهرجان وفصح النصارى وفطير اليهود، إن كان ذلك يعلم دون مراجعتهم. وكذلك يجوز بالحصاد والدراس وقدوم الحاج وشبهه مما نضبطه العادة، فيرجع إلى ميقات معلوم عند الناس، أو في حكم المعلوم عبر عنه بما يكون غالباً، لا أن المراد به وجود ذلك الفعل في أي زمان كان، وهذا كخروج العطاء مثلاً، فإن المقصود بذكره الزمن المعتاد خروجه فيه، وليس المراد به هروج العطاء في أي زمان خرج. ثم حيث أقت بالحصاد أو الدراس وشبههما، فيكون الأجل وجود معظم ذلك، لا أوله ولا آخره. ولو قال: إلى ثلاثة أشهر احتسب بالأهلة، إلا أن يكون الشهر الأول انكسر في الابتداء، فيكمل ثلاثين من الشهر الرابع. ولو قال: إلى الجمعة أو إلى رمضان حل بأول جزء. ولو قال: في الجمعة أو في رمضان، فهو من أوله إلى آخره، ويكره بدءاً.

فإن وقع فقال القاضي أبو الوليد: ((إن كان هذا المقدار إذا نسب إلى جملة الأجل زاد الثمن أو نقص فسخ السلم، وإن كان الأجل من البعد على حد تكون نسبة الشهر إليه في حد اليسير، ولا يؤثر في الثمن، فلا ينقص السلم)). ولو قال: إلى أول الشهر أو آخره جاز. ولو قال: إلى آخر يوم في أوله أو أول يوم في آخره لجاز، إذ الأول الخامس عشر، والثاني السادس عشر. الشرط الرابع: أن يكون المسلم فيه مقدوراً على تسليمه عند المحل؛ لئلا يكون (ذلك) تارة بيعاً وتارة سلفاً، فلا يصح السلم في المنقطع لدى المحل، ولا يضر الانقطاع قبله ولا بعده. ولو أسلم في وقت الباكورة في قدر كثير يعوز تحصيله لم يصح. فرع: إذا آخر المسلم إليه المسلم فيه حتى انقطع وخرج إبانة وأعوز وجوده، فالمسلم بالخيار في الفسخ أو الإبقاء إلى عام ثان. وإن قبض البعض ثم انقطع، فقال مالك: ((يتبعه إلى عام قابل)). ثم قال: ((لا بأس بأخذ بقية رأس ماله)). واختلف أصحابه وأصحابهم، فقال سحنون: يجب التأخير. وقال أشهب: تجب المحاسبة. وقال ابن القاسم: يجب التأخير إلا أن يتراضيا بالمحاسبة. وقال أصبغ: تجب المحاسبة إلا أن يتراضيا بالتأخير. وقال غيرهم: الخيار للذي له السلم في المحاسبة والتأخير. وحكى المتأخرون عن ابن القاسم أنه متى قبض الأكثر جاز تأخير الباقي إلى قابل، وإن قبض اليسير وجبت المحاسبة. قال بعض المتأخرين: وهذه الأقوال تجري على أصلين، أحدهما: من خير بين شيئين فاختار أحدهما: هل يعد كالمنتقل من أحدهما إلى الآخر أو يعد كالآخذ ما وجب له. والأصل الثاني: هل المقصود المشتري والأجل في حكم التبع أو المقصود المشتري في أجل محصور (و) لأنه إنما تحصل المنفعة الكبرى بتعجيله؟ فرأى سحنون وابن القاسم أن المقصود الأول هو المشتري، إلا أن سحنون عد المخير منتقلاً، فيصير كمن باع طعاماً قبل قبضه. ولم يعده ابن القاسم منتقلاً. وعلى هذه الطريقة يخرج قول مالك. وروى أصبغ وأشهب أن المقصود الثمرة في زمن محصور إلا أن أشهب عد المخير

منتقلاً، فيصير كمن وجب له دين معجل ففسخه في ثمرة إلى عام ثان. ولم يعده أصبغ منتقلاً. وكذلك القائل الخامس لم يعده منتقلاً، ورأى أن الآجل مملوك للمشتري، فيصرف الأمر فيخ إلى اختياره. وأما الرواية بالتفرقة بين قبض القليل والكثير فبناء على إعطاء الأتباع حكم متبوعاتها. الشرط الخامس: أن يكون معلوم المقدار بما جرت العادة بتقديره به من الوزن أو الكيل أو العدد أو الزرع أو غير ذلك من المقادير المعتادة فيه، فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد معلوم أو ذرع معلوم إلى أجل معلوم. ويكفي العدد في المعدودات ولا يفتقر إلى الوزن إلا أن تتفاوت آحاده تفاوتاً يقضي باختلاف أثمانها، فلا يكفي فيها حينئذ مجرد العدد والمعدود كالبيض والباذنجان والرمان، (وكذلك) الجوز واللوز إن جرت عادة بيعه بالعدد، وكذا التين، وكذا البطيخ إذا كان متقارباً غير بين التفاوت، وكذلك جميع ما يشبه ما ذكرنا. ولو عين في المكيل مكيالاً لا يعتاد كالكوز فسد العقد، إلا أن تعرف نسبته من المعتاد. وإن كان معتاداً صح العقد وبطل الشرط لأنه لغو. الشرط السادس: معرفة الأوصاف لرفع الخطر بجهل الصفة، فلا يصح السلم إلا في ما ينضبط فيه كل وصف تختلف به القيمة اختلافاً ظاهراً لا يتغابن الناس [بمثله] في السلم. ويصح في المصنوعات والمختلطات إذا أمكن ضبطها بالصفة. ويجوز في الحيوان للأخبار والآثار، فيتعرض للنوع واللون والذكورة والأنوثة والسن، وبالجملة فيتعرض لكل ما تختلف

الأغراض وتتفاوت الأثمان بسببه إذا لم يؤد إلى عزة الوجود. فيذكر في الرقيق الجنس، فيقول: رومي أو حبشي أو تركي أو غير ذلك. واللون فيقول: أحمر أو أسود أو ذهبي أو غير ذلك. والذكورة أو الأنوثة، ويذكر فيها البكارة أو الثيوبة إن كان الثمن يختلف بذلك عندهم اختلافاً مقصوداً. ويذكر السن فيقول: يفاع أو محتلم أو غير ذلك مما ينبي عن سنه، أو يذكر عدد السنين، ويذكر القد، فيقول: قصير أو طويل أو ربعة، ويذكر الجودة أو الدناءة. ثم يترك كل شيء على الغالب، فإن لم يكن فالوسط. ويقول في البعير: ثني أحمر من نعم بني فلان، ويتعرض في الخيل للون والسن والنوع أيضاً. ويتعرض في الطير للنوع والكبر والصغر من حيث الجثة. ويقول في اللحم: لحم بقر أو غنم ضأن أو معز ذكر أو أنثى، خصي أو غير خصي، رضيع أو فطيم، معلوفة أو راعية. ولا بد من بيان السن، فيقول: ثني، أو رباع، أو جذع إلى غير ذلك من أوصاف السن التي يختلف الثمن باختلافها. ولا يشترط تعيين الفخذ أو الجنب أو غيرهما. (قال ابن حبيب: فإن اشترطه فحسن). وقال ابن القاسم: إنما يشترطه أهل العراق، وهو باطل، قيل له: أفيعطيه من البطن؟ فقال: أفيكون لحم بلا بطن؟ فقيل: وما مقدار ما يعطيه من البطن؟ قال: قد جعل الله لكل شيء قدراً. قال الإمام أبو عبد الله: وإذا كان الثمن يختلف باختلاف هذه الأعضاء فالأولى اشتراطه. قال: ولعل الذي وقع في المذهب مبني على أن ذلك لا يختلف عندهم، أو يختلف ولكنه يعطيه من كل عضو بمقداره، حتى يجمع له ما بين الجيد والدنيء بالنسبة المعلومة فيها. وحمل قول ابن القاسم أنه يعطيه من البطن إذا أسلم في اللحم على عادة عندهم. قال: والعوائد عندنا بخلاف هذا. ويذكر المسلم في اللحم السمن أيضاً. ويصح السلم في المطبوخ والمشوي إذا كان يعرف تأثير النار فيه بالعادة، وكانت الصفة تحصره، ويصح السلم في رؤوس الحيوانات وفي الأكارع. ويجوز السلم في اللبن والسمن والزبد والمخيض، وفي الوبر والصوف والقطن والإريسم والغزل المصبوغ وغير

الباب الثاني: في أداء المسلم فيه،

المصبوغ، وكذا في الثياب بعد ذكر الرقة والغلظ والنوع والطول والعرض. وكذا في الحطب والخشب والحديد والرصاص وسائر أصناف الأموال إذا اجتمعت الشرائط التي ذكرناها. ولو اشترط الجودة جاز، ونزل على الغالب، فإن لم يكن فالوسط منها، وكذلك الدناءة. قال الإمام أبو عبد الله: والظاهر من مقتضى أصولنا جواز السلم وإن اشترط أجود الطعام أو أدناه. تكملة: قال الإمام أبو عبد الله: الصفات التي تجب الإحاطة بها هي التي يختلف الثمن باختلاف أحوالها، فيزيد عند وجود بعضها وينقص عند انتقاص بعضها، ولا طريق إلى العلم بهذه الصفات التي يختلف الثمن باختلافها وإلا بالرجوع إلى العوائد واعتبار المقاصد. قال: وقد تختلف العوائد باختلاف البلاد وأغراض سكانها، فيجب على الفقيه أن يجعل العمدة في هذا الإسناد إلى عوائد سكان البلد الذي يفتي أهله، فينظر ما يقصدون إليه من الصفات، ويزيدون في الثمن لأجله فيضبطه، ويشترط في صحة السلم ذكره. الباب الثاني: في أداء المسلم فيه، والنظر في صفته وزمانه ومكانه أما صفته: فإن أتى بغير جنسه فذلك اعتياض، وهو غير حائز في المسلم فيه إلا بثلاث شرائط: - أن يكون المسلم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه. - وأن يكون المقتضي مما يجوز أن يسلم فيه رأس المال. - وأن يكون مما يجوز بيعه بالمسلم فيه يداً بيد. وإن أتى بجنس وهو أجود وجب قبوله، وإن كان أردأ جاز قبوله ولم يجب. وإن زاده بعد الأجل دراهم على أن أعطاه أزيد في الثوب طولاً أو عرضاً، جاز إذا عجل الدراهم. قال في الكتاب: ((لأنهما صفقتان، كما لو دفعت إليه غزلاً ينسجه ثوباً، ثم زدته في الأجر على أن يزيدك في طول أو عرض)). وأنكره سحنون ورآه ديناً بدين، وأجازه في الإجارة لأنه شيء بعينه، والسلم مضمون.

القسم الثاني من الكتاب: النظر في القرض

وإن أتى بنوع آخر، فإن أسلم في الزبيب الأبيض فجاء (بالزبيب) الأسود جاز القبول. وأما الزمن: فلا يطلب به قبل محله، ولو جاء به قبله بالزمن الكثير لم يلزم قبوله. وألزمه المتأخرون قبوله في اليوم واليومين إذ لا تختلف فيه الأغراض ولا تتغير فيه الأسواق. وأما مكانه: فحيث يشترطان، ولا يقتصر على ذكر عمل كمصر مثلاً حتى يسمي أي موضع منها، فلو عين الفسطاط جاز. فإن تشاحا في أي موضع منه لزم في سوق السلعة المبيعة. فإن لم يكن لها سوق معروف لزمه القبض حيثما أعطاه. فإن لم يعينا في العقد مكاناً، فمكان العقد. فإن ظفر به في غيره وكان في النقل مؤونة حمل لم يطلب به، وإن لم تكن مؤونة حمل ففي ثبوت المطالبة خلاف. ولا يجوز أن يقضيه بغير المكان المعين، ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين، لأنهما بمنزلة الأجلين. القسم الثاني من الكتاب: النظر في القرض والنظر في حقيقته، ومحله وهو المقرض، وشرطه وحكمه. أما حقيقته: فهو دفع المال على جهة القربة لينتفع به آخذه، ثم يتخير في رد مثله أو عينه ما كان على صفته، ويجوز شرط الأجل فيه، ويلزم. وأما المقرض: فكل ما يجوز أن يثبت في الذمة سلفاً جاز قرضه، ما لم يؤد إلى عارية الفروج. وفيه احتراز عن قرض الجواري. وخصص محمد بن عبد الحكم المنع بقرضهن لغير ذي محرم منهن. قال الشيخ أبو الطاهر: ((ومر أكثر الأشياخ على أنه غير خلاف)). قال: ((وهكذا أجروا الحكم في استقراض النساء لهذا الصنف)). أو الصغير يقترض له وليه، أو الصغيرة التي لا تشتهي تقرض. فرع: فإن اقترضها حيث منعنا من قرضها فإن لم يطأها ردت، وإن وطئها فات الرد، ويكون على المقترض قيمتها على المنصوص. وقد اختلف المتأخرون فيما يقضى به في فاسد القرض، فأكثرهم على رده إلى البيوع الفاسدة، فيجب المثل في ما له مثل والقيمة في غيره. ورأى أبو القاسم بن محرز ألا يؤخذ المقترض إلا بما دخل عليه، فيغرم المثل، ثم يباع للمقرض ويعطى له إن كان مساوياً للقيمة أو

ناقصاً عنها، وليس له سواه. وإن زاد عليها وقف الزائد، فإن طال وقفه تصدق به عن من هو له. قال بعضهم: وقول أبي القاسم هذا يجري في مسألة الجارية. وأما شرطه: فهو ألا يجر المقرض منفعة، فإن شرط زيادة قدر أو صفة فسد، ولم يفد جواز التصرف، ووجب الرد إن كان المقرض قائماً، وإن فات وجب ضمانه بالقيمة أو بالمثل على المنصوص، وبالمثل فقط على قول أبي القاسم بن محرز. وسبب الخلاف: أن المستثنيات عن الأصول إذا فسدت هل ترد إلى صحيحها أو إلى صحيح أصولها التي استثنيت عنها؟. فروع: الأول: أنه متى تمحضت المنفعة للمقترض جاز، وإن تمحضت للمقرض منع لأنه سلف جر نفعاً. فإن دارت المنفعة من الطرفين منع أيضاً ما لم تكن ضرورة. فإن كانت كالسفاتج التي تدفع في بلد وتقتضى في غيره فينتفع المقرض بالسلامة من غرر الطريق ففيها روايتان: المشهور منهما المنع. (وروى) القاضي أبو الفرج الجواز. ومن هذا النمط سلف الطعام السايس والمعفون والمبلول والرطب والقديم، ليأخذ سالماً جديداً يابساً، فإن لم تكن مسغبة منع، بلا خلاف، وإن كانت وتمحضت المنفعة للقابض فقد أجازه في الواضحة. وإن كانت للدفاع بعض منفعة فهي كمسألة السفاتج. ومن ذلك الحج يتسلف الدقيق والكعك يحتاج إليه، ويقول للدافع: أو فيكه في موضع كذا، لبلد آخر منعه في المشهور. قال: ((لكن يتسلف ولا يشترط)). وحكى حمديس

عن سحنون جوازه. (ومن ذلك من أتى غلى رجل له زرع قد يبس، فقال: أسلفني فداناً أو اثنين أحصدهما وأذربهما وأكيلهما. وقد (روي) في هذه أنه لا بأس به إذا كان على وجه المرفق فيحصد اليسير من الكثير وما لا يخفف به عن صاحبه مؤونة. الفرع الثاني: إذا أهدى إليه مديانه لم يحل له أخذ الهدية، إذ قبولها ذريعة إلى التأخير بزيادة. فالمنع فيها محكي عن عمر رضي الله عنه وغيره. قال بعض المتأخرين: ((وهذا إذا لم تجر بين المتعاملين هدية، فإن كانت العادة جريان الهدية بينهما من غير معاملة أو كان بينهما من الاتصال ما يعلم أن الهدية له جازت. ثم إذا وقعت الهدية على الوجه الممنوع ردت مع القيام، فإن فاتت ضمنت بما يضمن به المبيع بيعاً فاسداً)). وهل يلحق بالهدية مبايعته؟ حكى أبو الحسن اللخمي قولين: الجواز والكراهة، وأشار إلى تنزيل الخلاف على حالين: فإن استوفى الثمن أو كانت الزيادة يسيرة مما يتغابن الناس بمثلها جاز، وإن كثر الغبن لم يجز. وألحق المتأخرون بذلك أن يهيد رب المال لمن عامله مقارضة، لئلا يقصد بذلك أن يديم العامل العمل، فيصير سلفاً جر منفعة. وأما هدية العامل لرب المال، فإن لم يشغل المال فهي ممنوعة باتفاق أهل المذهب، وإن شغله فقولان للمتأخرين فالمنع والجواز، وهما على النظر إلى الحال أو المآل.

وأما حكم القرض فهو التمليك وإن لم يتصرف. فلو أراد الرجوع في عينه لم يكن له ذلك إلا بعد انتهاء المدة المحددة للانتفاع بالشرط أو بالعادة. وكذلك لو طلب العوض عنه. فإن قيل: المقرض ماذا يؤدي؟ قلنا: المثل في المثليات، وفي ذوات القيم أيضاً للحديث: ((استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً ورد (بازلاً)). خاتمة: بذكر المقاصة في الديون. والمعتبر في أنواع المقاصة جنس الدينين في تساويهما واختلافهما وسببهما: في كونهما من سلم أو قرض، أو أحدهما من قرض والآخر من سلم، وأجلهما في الاتفاق والاختلاف والحلول في أحدهما أو كليهما أو عدمه. ومما تنبني عليه أحكام المقاصة أيضاً أن المؤجل (من الديون) إذا وقعت المعاوضة عنه هل يعد كالحال أو يجعل من هو في ذمته كالمسلف عنها ليأخذ منها إذا حل الأجل؟ ومنها أن الصور إذا تصور فيها مبيح وقصد إلى التعامل عليه، وتصور مانع هل يعطى الحكم للمبيع أو للمانع؟ وعليه اختلاف ابن القاسم وأشهب إذا كان الطعامات من سلم واتفقت الآجال ورؤوس الأموال: هل تجوز المقاصة وتعد إقالة؟ وهو مذهب أشهب، أو تمنع وتعد بيع الطعام قبل قبضه؟. وهو مذهب ابن القاسم. وعلى ما قدمناه تجري أحكام المقاصة بالديون. وقد جمعت المقاصة المتاركة والمعاوضة والحوالة وما يقع فيها من الخلاف، فالجواز تغليب للمتاركة، والمنع تغليب للمعاوضة أو الحوالة، ومتى قويت التهمة وقع المنع، ومتى فقدت فالجواز، وإن وجدت ضعيفة، فالقولان على ما تقدم من مراعاة التهم البعيدة. ولنبين ما أجملناه من أحكامها بتفضيل ذكره بعض المتأخرين واستوفى الكلام عليه، فلنورد ما ذكره، ونبدأ بحكم الدينين إذا كانا غينا من بيع فنقول: إن تساويا صفة ومقداراً وحل الأجلان أو كانا حالين فلا خلاف في الجواز، إذ لا يتصور ها هنا منع لوجه. وإن اختلف الصفة والوزن، أو اختلفت الوزن، وإن اتفقت الصفة فلا يختلف في المنع، إذ هو بدل العين بأكثر منه.

وإن اختلفت الصفة والنوع واحد أو مختلف، فإن حل الأجلان أو كانا حالين جاز أيضاً، إلا على القول بمنع صرف ما في الذمة، فينبغي أن يمنع هذا. وإن لم يحل الأجلان منع على المشهور من المذهب، إذ يقدر المعطي الان كالمسلف من ذمته ليأخذ منها، فيصير صرفاً أو بدلاً مستأخراً، ويجوز على رأي القاضي أبي إسحاق المقدر لذلك بالحلول. وإن اتفق العينان صفة ومقداراً ولم يحل أحدهما أو حل أحدهما والأجلان مختلفان أو متفقان، فابن القاسم يحيز وساعده ابن نافع إذا حلا أو حل أحدهما، ومنع إذا لم يحل واحد منهما، واتفق الأجل أو اختلف. وروى أشهب عن مالك أنه منع إذا اختلف الأجل، ووقف إذا اتفق. وقول ابن نافع أجرى على المشهور، إذ عد المؤجل على حالته، لكن إذا حل أحدهما عد حوالة، إذ تجوز بما حل في ما لم يحل. وكان ابن القاسم لاحظ تساوي الديون وعدم الضمان في العين، وكل واحد منهما له التعجيل، والتفت إلى بعد التهمة فأجاز. وقال أبو الحسن اللخمي: ((إذا كان أحد الدينين أجود وحل الأجلان أو حل الأجود منهما أو لم يحلا وكان الأجود أولهما حلولاً جازت المقاصة، وإن حل الأدنى أو كان هو أولهما حلولاً لم يجز ودخله ضع وتعجل)). قال: ((وكذلك إن كان أحدهما أكثر عدداً، فتتاركا على ألا يطلب صاحب الفضل تجوز المقاصة حسبما تقدم في الأجود)). قال: ((وهذا الذي ذكره في الجودة إن بناه على رأي القاضي أبو إسحاق فهو صحيح. وأما المشهور من المذهب فالجاري عليه ما قدمناه. وأما ما ذكره من اختلاف العدد فلا ينبغي أن يختلف في منعه لما ذكرناه من أنه مبادلة بتفاضل مع ما يدخل ذلك على المشهور من التراخي إذا لم يحل الأجلان أو لم يحل أحدهما. وإن كانا من قرض فإن اتفقا صفة ومقداراً وحل الأجلان أو أحدهما فلا شك في الجواز، وإن لم يحلا فالمنصوص الجواز أيضاً، وقد يجري على رأي ابن نافع. وما روى أشهب عن مالك، المنع. وإن اختلفت صفتهما والوزن واحد واختلف نوعهما فعلى ما قدمناه. إن حل أجلهما أو كانا حالين جاز. وإن لم يحلا لم يجز. قاله أبو القاسم بن محرز وغيره، وهو جار على

المشهور من المذهب وعلى رأي القاضي أبي إسحاق. وكذلك هذا إذا كان أحدهما من قرض والآخر من بيع. وإن اختلف الوزن، فإن كان يسيراً جازت المقاصة، لأنه زيادة من أحدهما، وزيادة اليسير في قضاء القرض جائزة. وإن كثرت جرى الخلاف في الزيادة في الوزن أو العدد إذا كثرت هل تجوز في القرض أم لا؟. وقال أبو الحسن اللخمي: ((إذا كانا من قرض جازت المقاصة إذا كان أكثرهما أولهما قرضاً، وإن كان الأكثر آخرهما منع عند ابن القاسم، فاتهم على سلف بزيادة. وأجازه ابن حبيب وغيره، وهذا يجري على قانون المذهب)). قال: ((وإن حل أحدهما وهو الأقل، أو لم يحل واحد منهما لكن كان أقلهما أولهما حلولاً لم تجز المقاصة وإن حل الأكثر أو كان هو أولهما حلولاً أولهما قرضاً جاز، وإلا لم يجز)) [قال]. ((فإن استوى الأجل جاز ما لم يكن الأكثر آخرهما قرضاً)). وهذا الذي قاله هو بناء على ما سلكه إذا كانا من بيع، وقد قدمنا ما فيه. قال أبو الحسن اللخمي: (وإن) كان أحد الدينين دنانير والآخر دراهم جازت المقاصة إن حل الأجلان، وأجراه إذا لم يحلا أو لم يحل أحدهما على الخلاف في حكم المؤجل)). وأما إن كان الدينان طعاماً من بيع، فإن اختلف الطعامان أو رؤوس الأموال لم يجز. وإن اتحد جنسهما واتفقت رؤوس أموالهما، فإن كانت الآجال مختلفة لم يجز أيضاً، وإن اتفق الأجلان فقولان: منع ابن القاسم وأجاز أشهب. وهو على ما قدمناه من النظر إلى المعنى الإقالة فيجوز، أو إلى صورة المبايعة ويتهمان على أن يكونا تعاملا على بيع الطعام بالطعام نسيئة، وعلى بيع الطعام قبل استيفائه فيمنع وإن حلت الآجال لاختلاف الأحوال في الذمم. والذي قلناه من المنع إذا اختلف الأجلان فهو جار على منصوص المذهب. وأما على ما قاله القاضي أبو إسحاق في إسقاط التأجيل فتجوز. وإن كان الطعامان جميعاً من قرض جازت المقاصة إذا اتفقا، حلت الآجال أو لم تحل. وإن كان أحدهما من قرض والآخر من بيع، فإن حل الأجلان جازت وإن لم يحلا أو حل أحدهما فثلاثة أقوال:

* المنع وهو مذهب ابن القاسم. * والجواز وهو مذهب أشهب. * والتفرقة بين أن يحل المسلم فيجوز، أو يحل القرض ولا يحل المسلم فيمنع. والجواز نظراً إلى حقيقة الإقالة، والمنع نظراً إلى صورة المبايعة. واختلاف الأجلين في الحلول أو عدم حلولهما يقتضي اختلاف الأثمان، والذمم أيضاً تختلف. والتفرقة لأن الأجل في السلم مستحق من الجهتين: جهة البائع وجهة المشتري، فهو مقصود وله قسط من الثمن، والأجل في القرض منفعة من جهة المعطي لا من جهة الآخذ فكان غير مقصود ولا له قسط من الثمن. وأما إن كان الدينان عرضين، فإن استويا في الجنس والصفة فالمقاصة بينهما جائزة على الإطلاق، من غير التفات إلى تماثل الآجال أو اختلافهما، ولا إلى تساوي الأسباب أو تباينها، وهذا لأنه لا غرض ها هنا يقتضي التهمة على القصد إلى الوقوع في بعض المحرمات التي تقدم ذكرها، لكون المتاركة ها هنا والمباراة لا يظهر فيها قصد إلى المكايسة والمغابنة في التعارض. وأما إن اختلفا في الصفة مع اتفاقهما في الجنسية، فإن اتفق أجلهما جازت المقاصة، لأن اتفاق الأجل تضعف معه التهمة بالقصد إلى التكايس. وأما إن اختلفت الآجال ولم يحلا فالالتفات ها هنا إلى تنوع الأسباب، فإن كان الدينان من مبايعة منعت المقاصة إذا كان أحد الدينين أجود من الآخر لأنا نمنع في العرض إذا كان ديناً مؤجلاً أن يعجل ما هو أدنى منه لأن ذلك: ضع وتعجل، أو يعجل ما هو أجود منه لأن ذلك معاوضة على طرح الضمان. وكذلك إذا كانا من قرضين، فإن أحدهما إذا كان أجود من الآخر صار من قبل الأدنى من حقه رضي بتعجيل بعض حقه وإسقاط باقيه. وإن كان مختلفي الأسباب أحدهما من بيع والآخر من قرض، فإن كان ما حل منهما أو ما هو أقرب حلولاً هو القرض لم تجز المقاصة على حال، لأن الذي حل أو كان هو الأقرب حلولاً إن كان خيراً من المبيع فقد حط الضمان الذي يجب عليه في السلم بما بذله من زيادة القرض الذي له، وإن كان القرض الذي حل هو الأدنى فقد وضع من السلم الذي له على أن عجل له. والضابط لهذا الباب أن ما حل أو كان أقرب حلولاً كالمقبوض المدفوع عن الدين الآخر الذي يتأخر حلوله، فيعتبر هل يوقع في أحد هذين الوجهين الممنوعين، فيمنع منه أو لا يوقع في أحدهما؟.

وقد علمت أن ما كان من (العروض) سلماً في الذمة (يمنع) تعجيل ما هو أجود في الصفة أو أدنى، وما كان قرضاً يمنع من تعجيل ما هو أدنى منه في الصفة لما يتصور فيه من ضع بشرط التعجيل إذ لا يلزم من عليه القرض أن يعجله قبل أجله إلا برضاه ولا يمنع تعجيل ما هو أجود منه في الصفة لكون من عليه القرض له أن يعجل، وإن كره ذلك من هو له. ويعتبر أيضاً في القرض وجه آخر، وهو كونه قد زيد في عدده عن أصل القرض، وقد قدمنا أن قضاء القرض لا تمنع فيه الزيادة في وجوه الصفات، وتمنع فيه الزيادة في العدد في المشهور من المذهب. وإذا استعملت هذه الوجود التي عددناها في المقاصة بالدينين اللذين حلا أو لم يحلا أو أحدهما أقرب حلولاً أو حل أحدهما دون الآخر وهما قرضان أو بيعان أو أحدهما قرض والآخر بيع لم تخل مسألة من هذه الأقسام، باعتبار ما نبهنا عليه مما يمنع أو يجوز.

كتاب الرهن

كتاب الرهن ومعناه: احتباس العين وثيقة بالحق، ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم. وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في أركانه. وهي أربعة: المرهون، والمرهون به، والراهن، وصيغة الرهن. الركن الأول: المرهون. وشرطه أن يكون مما يمكن أن يستوفي منه أو من ثمنه أو من ثمن منافعه الدين الذي رهن به أو بعضه. ولا يشترط أن يكون عيناً، فيصح رهن الدين [ممن] هو عليه، ومن غيره. ولا يشترط فيه الإبراز، بل يصح رهن المشاع ثم قبضه بحوز الجميع إن كان الباقي للراهن، فإن كان لغيره فبحلوله محل الراهن ويجوز جعله على يد الشريك. ولا يشترط أن يكون مما يصح بيعه في الحال فيصح رهن الثمار قبل بدو صلاحها، (وإن) احتيج إلى بيعا بيعت بعد بدو الصلاح، فإن مات الراهن قبل بدو الصلاح فقد حل الدين، فإن ترك ما يوفى منه الدين وفي منه وسلم الرهن للورثة، وإن لم يترك مالاً سوى الرهن

انتظر به بدو الصلاح، (فبيع) في الدين. وكذلك إن ترك ما لا يفي بالدين فإنه يقبضه في دينه، وينتظر بالرهن بدو الصلاح، فيباع لاستيفاء بقية الدين من ثمنه، وما فضل أخذه الورثة، فإن كان على الراهن ديون ومعه من المال ما لا يفي بها فقام الغرماء في الموت أو الفلس فإن المرتهن يحاصصهم بجملة دينه، (فما) (نابه) في الحصاص أخذه، وبقي الرهن بيده إلى أن [يبدو] صلاحه فيباع، فإن وفى ثمنه الدين رد ما أخذه في الحصاص، وإن فضل ثمنه عن الدين رد الفضلة مع ما أخذ في (الحصاص)، (وإن) نقص ثمنه عن الدين فمقدار النقص هو الذي كان يستحق الحصاص به، فما كان ينوبه لو حاصص به خاصة أخذه من جملة ما حصل له في الحصاص بجملة الدين، ثم رد باقيه (فتحاص) فيه هو وسائر الغرماء بما بقي له ولهم. ويجوز رهن غلة (الدار) والغلام، ويجوز رهن الأم دون ولدها، ويباع ولدها الصغير معها، ويكون المرتهن أولى بما يخصها من الثمن، وهو في الفاضل أسوة. وكذلك رهنه دونها، إلا أنها تكون مع الصغير عند المرتهن ليتم رهنه. وقيل: لا يرهن حتى يبلغ حد التفرقة، إلا أن ترهن معه أمه. ورهن ما لا يعرف بعينه من الدنانير والدراهم والفلوس وكل ما يكال أو يوزن جائز إن طبع عليه، وإلا فلا. ويجوز رهن الحلي وإن لم يطبع عليه. وقال أشهب: لا أحب ارتهان الدنانير والدراهم والفلوس إلا مطبوعة للتهمة في سلفها، فإن لم تطبع لم يفسد الرهن ولا البيع، ويستقبل طبعها إن عثر على ذلك. وأما على يد أمين فلا تطبع. ولم ير ذلك في الطعام (ولا الأدام)، (وما لا يعرف) بعينه. وفرق بأن النفع في

العين أخفى وأمكن. قال: وإنما هو موضع تهمة، فما قوي منها أبين فيما تبقى. ويجوز رهن المدبر، ويستوفى الدين من خراجه، وإن تأخر الوفاء إلى موت السيد بيع في الدين كله أو بعضه. ((ويجوز رهن العبد الآبق والبعير الشارد إن قبض قبل موت صاحبه، وقبل فلسه)). ومنع في الكتاب رهن الجنين. وأجازه ابن ميسر. قال أبو الحسن اللخمي: ((وهذا إذا كان في أصل عقد البيع)). ومنع في الكتاب من رهن جلود الميتة، وإن دبغت. قال: ((إذ) لا يحل بيعها أبداً)). وأجاز فيه رهن جلود السباع المذكاة، وبيعها وإن لم تدبغ. وعلى الرواية التي قال بها ابن وهب: إن جلود الميتة تظهر بالدباغ ويجوز بيعها إذا دبغت [و] يجوز رهنها. ((ولا يرتهن من الذمي خمر ولا خنزير)). ولا يشترط أن يكون المرهون ملكاً للراهن، بل يجوز أن يستعير ليرهن، ثم إن استوفى الدين من ثمن المرهون المعار فقال ابن القاسم: يرجع المعير على على المستعير بقيمة المرهون. وقال أشهب: إنما يرجع عليه بما أدى عنه من ثمنه. ولو فضلت عن الدين فضله بعد قضاء السلطان بالبيع والوفاء فأوقفها فضاعت، فذلك من ربها وليس على المستعير إلا ما قضي عنه. قال يحيى: كلام أشهب أحب إلي. قال ابن القاسم: ولو هلك في يد المرتهن لأتبع المعير المستعير بقيمته إن كان مما يغاب عليه وقاص المستعير المرتهن. فإن كان مما لا يغاب عليه فلا ضمان على المرتهن ولا على المستعير. ولو

أعرته عبداً ليرهنه في دراهم فرهنه في طعام، فهو ضامن له لتعديه. وقال أشهب: لا ضمان عليه في العبد، ويكون رهناً في عدد الدراهم التي رضي بها ربه. فرع: لو اشترط منفعة الرهن آجلاً مسمى جاز في (البيع) دون القرض. ونص في الكتاب على [كراهية] ذلك في الثياب والحيوان، إذ لا يدري كيف (يرجع) إليه. قال ابن القاسم: ((وأنا لا أرى به بأساً (كالإجارة، وهذه إجارة وبيع). قال في الكتاب: ((ولا بأس برهن المصحف، ولا يقرأ فيه، وإن أباحه له بعد السلف أو في أصله فذلك سواء، وكذلك لو رهنه إياه من بيع)). قال أشهب: أما في أصل البيع فجائز بأجل، وأما بعد العقد فلا يجوز. الركن الثاني: المرهون به. وله شرطان. الأول: أن يكون ديناً في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن، فلا رهن بعين مشار إليها ولا (بمنافع) معينة إذ لا يمكن استيفاؤها منه، وإنما الرهن فيما يتعلق بالذمة من ذلك، وحيث وقع في ألفاظ المذهب إضافته إلى عين مشار إليها فالمراد به أنه رهن بقيمة العين، كما ذكر في العارية. وفصل فيها بين ما يغاب عليه (وما) لا يغاب عليه لضمان القيمة فيما يغاب عليه دون ما لا يغاب عليه. الشرط الثاني: أن يكون لازماً أو صار إلى اللزوم بعد أن لم يكن لازماً، كالجعل بعد العمل. فأما ما كان في أصله غير لازم ولا مصير له إلى اللزوم كنجوم الكتابة فلا رهن به. وليس من شرط (الدين) أن يكون ثابتاً قبل الرهن به ولا (مقارناً) بل لو قال: قد رهنت عندك عبدي هذا على أن تقرضني غداً ألف درهم أو على أن تبيعني هذا الثوب، ثم

استقرض أو ابتاع فإن الرهن يلزم، ويجب تسليمه إليه، وإن كان قد أقبضه إياه في الحين صار بذلك القبض رهناً. ولا يشترط في (الدين) (ألا) يكون به رهن، بل تجوز الزيادة في قدر المرهون بدين واحد، وتجوز الزيادة في الدين على مرهون واحد، ويجوز من غير من هو مرتهنه. قال ابن القاسم: ((وإذا (رهنك) غضلة رهن له عند غيرك فإن رضي المرتهن الأول جاز وتم الحوز الثاني وبدئ الأول عليه، وإن لم يرض الأول لم يجز)). وقال أصبغ: لا يحتاج إلى رضاه، ولكن إذا علم جاز وإن كره، لأن بعلمه يتم الحوز للثاني، ولا حجة له، إذ لا مضرة عليه لأنه مبدأ قبل غيره. الركن الثالث: الصيغة وشرطها وموجبها. ولا يتعين لفظ الإيجاب والقبول فيها، بل يقوم مقامه كل ما شاركه في الدلالة على المفهوم منه. في الركن مسائل: الأولى: كل شرط يوافق مقتضى العقد كقوله: بشرط أن يباع في الدين أو يقبض فلا يقدح في العقد. وكذلك كل شرط لا يتعلق به غرض أصلاً. فأما كل شرط يناقض مقتضاه ويغير موجبه كقوله: بشرط ألا يقبض أو لا يباع في الحق، فهو مفسد. ولو شرط ما لا يقتضيه مطلق العقد ولا يناقضه لكن يتعلق به غرض كقوله: بشرط أن ينتفع به المرتهن لم يصح في القرض ويصح في غيره إذا عين المنفعة وحدد زمنها كما في الإجارة على التفصيل والخلاف المتقدم. المسألة الثانية: إذا قال: رهنتك الأشجار بشرط أن تحدث الثمار مرهونة، صح الشرط ولزم. الثالثة: لو شرط عليه رهناً في بيع فاسد فظن لزوم الوفاء به فرهن، فله الرجوع عنه،

كما لو ظن أن عليه ديناً فأداه، ثم تبين ألا دين، فإنه يسترد. ولو قال له: أقرضتك (هذا) الألف بشرط أن ترهن به وبالألف القديم الذي لي عليك شيئاً فالقرض فاسد، فإن جهل ذلك حتى قام الغرماء فلا يكون رهناً إلا بالسلف [الثاني]، ولا يكون الرهن في شيء من السلف الأول، لأنه سلف جر منفعة، قاله ابن القاسم. الرابعة: إذا رهنه أرضاً فيها نخل، ولم يسم النخل في الرهن، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((قال مالك في رجل أوصى لرجل بأصل نخل، فقالت الورثة: إنه أوصى لك بالنخل فالأرض لنا فقال مالك: الأصل من الأرض والأرض من الأصل، وكذلك في الرهن إذا رهنه الأصل فالأرض مع الأصل، وإذا رهنه الأرض فالنخل مع الأرض، قال: ((ومما يبين (لك) ذلك لو أن رجلاً اشترى نخلاً من رجل أن الأرض مع النخل)). الخامسة: إن الثمار لا تندرج في رهن الأشجار، كانت فيها يوم ارتهنت قد أزهت أو لم تزه، (أو) أبرت أو لم تؤبر، أو لم تكن فيها، لا تدخل في الرهن بوجه إلا بالشرط. ويندرج الجنين، كان حملاً عند الرهن أو حمل به بعد ذلك، ولو شرط في الجنين ألا يكون رهناً مع أمه لم يجز. واختلف في الصوف المستجز على ظهور الحيوان، فرآه ابن القاسم مندرجاً. وقال أشهب: لا يندرج. الركن الرابع: العاقد. ويصح الرهن ممن يصح منه البيع، فلا يرهن المحجور عليه. والمكاتب والمأذون له يرهنان ويرتهنان ولا يرهن أحد الوصيين إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الإمام.

الباب الثاني: في القبض والطوارئ (قبله)

الباب الثاني: في القبض والطوارئ (قبله) أما القبض فالنظر في صورته وحكمه. أما صورته فهي (في) الأعيان المشار إليها كالمنقول والعقار، (كما) ذكر في البيع. وأما في الدين (فتسليم) ذكر الحق والإشهاد والجمع بين الغريمين إن كان على غير المرتهن، ويكفي الاقتصار على الجميع بينهما والإشهاد إن لم يكن ذكر حق ويتقدم إليه بحضرة البينة ألا يقبضه إياه، حتى يصل إلى حقه. وإن كان الدين على المرتهن فهو قابض له. ويجوز للمرتهن أن يستنيب غيره في القبض، إلا عبد الراهن و [مستولدته] وولده الصغير، لأن يد كل هؤلاء يد الراهن. ويجوز أن يستنيب مكاتب الراهن دون عبد المأذون وغيره. وأما حكم القبض فليس يشترط في انعقاد الرهن وصحته، ولا في لزومه، بل ينعقد ويصح ويلزم، ثم يطلب المرتهن الإقباض ويجبر الراهن عليه، لكن يشترط القبض في استقرار الفائدة وتمام الوثيقة ليكون بقبضه أولى من الغرماء عند الفلس والموت. والعقود قد تنعقد وتصح ويقف بعض أحكامها على أمر في المستقبل، ألا ترى أن بيع الخيار يصح ويقف نقل الملك على انقضاء الخيار، وكذلك بيع البت يلزم، ثم يقف انتقال الضمان عند (المخالف) على القبض، وكذلك صحة تحمل الشهادة (لا تقف) على وجود العدالة وثمرتها وهي الانتفاع بأدائها تقف على وجودها. وبالجملة فهو كشرط في حكم الاختصاص به عن بقية الغرماء عند المزاحمة لا في (سبب) الحكم المذكور. فإن ترك القبض وتراخى في طلبه حتى وجد الفلس أو الموت فات الحكم المذكور، وكان أسوة الغرماء في الرهن. فأما لو كان مجداً في الطلب (لكن عجز عن القبض) مع استمرار الطلب

و (القيام) فيه حتى قام الغرماء، فظاهر الكتاب أنه يكون أسوة (الغرماء) فإنه أطلق الجواب فيه. وقال القاضي أبو محمد: ((حق الرهن ثابت له)). فروع: الأول: إن القبض المشترط هو القبض المستدام، فلو قبضه ثم أعاده إلى الراهن اختياراً بأي وجه كان بطل الحوز، (فإن قام المرتهن يريد رد ذلك، ليعود له الحوز، فقد روى (محمد وابن عبدوس) عن أشهب: له ذلك إلا أن يفوت بتحبيس أو عتق أو تدبير أو غيره أو قيام غرمائه. وقال ابن القاسم: إلا في العارية، إلا أن يكون أعاره على ذلك. وقاله أشهب في كتاب محمد في العارية. وقال بعض القرويين: إنما فرق ابن القاسم بينهما إذا كانت العارية (غير) مؤجلة، فليس له ارتجاع الرهن بعد أن يعيره، إلا أن يعيره على ذلك. ولو كانت (العارية) مؤجلة، لكان له أن يأخذ الرهن بعد الأجل كالإجارة). الفرع الثاني: في القبض المشترك. هل من شرط صحته أن يكون للرهن أم لا؟ (ففي كتاب محمد من رواية ابن القاسم، فيمن اكترى داراً أو عبداً سنة أو أخذ حائطاً مساقاة، ثم ارتهن شيئاً من ذلك قبل تمام السنة، فلا يكون محوزاً للرهن، لأنه محوز قبل ذلك بوجه آخر. وفي المجموعة، قال سحنون: ومذهب ابن القاسم: أنه يجوز أن يرتهن الرجل ما في يديه بإجارة أو مساقاة، ويكون ذلك حيازة للمرتهن، كالذي يخدم العبد، ثم يتصدق به على آخر فحوز المخدم حوز (للمتصدق) عليه)، ولا يبطل الحوز خروجه عن يده بغلبة. ويجوز أن يجعل الرهن على يد أمين يرضى به الراهن والمرتهن. الفرع الثالث: في إثبات الحوز المشترط. ولا يكفي في ثبوت حيازته الاتفاق على

الإقرار بذلك حتى تشهد البينة بمعاينته، لأن حق الغير متعلق به حين الحاجة إلى الحكم بكونه رهناً بعد موت الراهن أو فلسه ووقت حق تعلق الغرماء به. (وأما قبل ذلك فلا حاجة بهما إلى الإثبات، ولا يمتنع عليهما تصحيحه بكل وجه. ولو مات الراهن أو فلس ووجد الرهن بيد المرتهن أو بيد الأمين الموضوع على يده، ففي الموازية والمجموعة: (عن عبد الملك لا ينفع ذلك حتى تعلم البينة أنه [حازه] قبل الموت أو الفلس. قال محمد: صوابه لا ينفعه إلا معاينة الحوز لهذا الارتهان). قال القاضي أبو الوليد: ((وعندي أنه لو ثبت أنه وجد بيده قبل الموت والفلس، ثم أفلس الراهن أو مات لوجب أن يحكم له بحكم الرهن)). قال: ((ولعله أن يكون هذا معنى قول محمد: لا ينفعه إلا معاينة الحوز، بمعنى كون الرهن بيده في وقت يصح فيه الحوز، وظاهر اللفظ يقتضي ألا ينفع هذا حتى يعاين تسليم الرهن إلى المرتهن على هذا الوجه)). قال: ((وهو) وجه محتمل)). أما الطوارئ قبل القبض، فقال في كتاب محمد: ((إذا تعدى الراهن، فباع الرهن قبل أن يقبضه المرتهن، فالبيع نافد وإن قرب، فات أو لم يفت. ولا يحل الحق، والثمن للراهن (يأخذه)، ولا يعجل للمرتهن حقه، ويوضع له رهن مكانه، ولا ينقض ما بينهما من بيع أو سلف. وقد كان للمرتهن لو لم يبع أن يقوم فيحوزه)). قال فيه: وتعديه في العتق كتعديه في البيع عند مالك قبل حوز المرتهن أو بعده، إن كان ملياً. وقاله ابن القاسم وأشهب. (وقال أشهب أيضاً في الكتابة والتدبير: للمرتهن أن يقبض رهنه ويكون (محوزاً) وتكون الكتابة رهناً. ولا تكون خدمة المدبر رهناً معه إلا أن يشترطها، ثم كلما حل نجم من الكتابة أخذه من دينه، فإن وفى أو عجل الكتابة كان حراً. وقال محمد: الكتابة مثل الخدمة لا تكون رهناً، إلا أن يشترطها في أصل الرهن. قال

الباب الثالث: في حكم المرهون بعد القبض

أبو الحسن اللخمي: ((يريد فيأخذ السيد كل ما حل من نجومه، فإن أدى عتق ولا شيء للمرتهن، وإن عجز كان رهناً)). (وأما المدبر) فإن حل الأجل، وهو معسر، لم يبع ويبقى موقوفاً في الرهن إلى موت الراهن، فيباع إن لن يخلف ما يوفي [به] الدين. وإذا استلحق الراهن العبد الرهن أنه ابنه. ثم مات فإنه يلحق به، ويتبعه الطالب بحقه، وإن لم يكن له مال فليتبع ما عسى أن يطرأ له. ولا ينفسخ الرهن بموت أحد المتعاقدين أو كليهما، ولا بجنونهما ولا بالحجر عليهما (بالتبذير). وينفسخ بانقلاب العصير خمراً، ولا يقبض وهو خمر، ولو انقلب إلى الخمرية بعد القبض لخرج عن كونه مرهوناً. (فإن عاد خلا عاد مرهوناً). الباب الثالث: في حكم المرهون بعد القبض وقد تقدم في حقيقة الرهن أنه احتباس العين وثيقة بالحق، وذلك بمنع الراهن من كل ما يقدح فيه. والنظر الآن في أطراف ثلاثة: الأول: جانب الرهن. وهو ممنوع من كل تصرف يزيل الملك كالبيع والعتق والكتابة والتدبير وإيلاد الأمة. قال ابن القاسم في الكتاب: ((إن باع الراهن الرهن بغير أمر المرتهن فأجاز بيعه، تعجل حقه، شاء الراهن أو أبى، وإن باعه بإذن المرتهن وقال: لم آذن لأسلم ثمنه، لكن أذنت له لإحياء الرهن، وما أشبه ذلك، حلف على ذلك، وأتى الراهن بشبه الرهن الأول، وقيمته كقيمة الأول، فإن لم يجد بقي الثمن رهناً)). قال الشيخ أبو محمد: ((يريد مطبوعاً عليه إن كان عيناً)). يريد الشيخ أبو محمد، إن أبقي بيد المرتهن، وأما أن أبقي بيد عادل فلا حاجة إلى الطبع عليه، ولا يتعجله ها هنا. وهذا إذا بيع بإذنه ولم يسلم من يده إلى المبتاع وأخذ منه الثمن، فأما لو (سلمه) للراهن فباعه لخرج من الرهن.

قال محمد: وروي عن مالك أن الراهن إن باعه بمثل صفة الدين وبكفافه فأكثر، جاز لأن ذلك للمرتهن، ولا حجة ويتعجل حقه، إلا أن يبيعه بأقل من الدين أو بنصف مخالف للدين، فله أن يجيز أن يرد. قال: وهذا هو الصواب. قال ابن القاسم في الكتاب: ((وإن رهن عبداً ثم أعتقه أو كاتبه وهو بيد المرتهن، جاز ذلك إن كان ملياً وعجل الدين)). وروى ابن وهب مثله في التدبير إذا عجل حقه. وروى محمد عن ابن القاسم: أنه إن دبره بقي رهناً مدبراً. قال محمد: والكتابه مثله. وقال ابن القاسم وأشهب: ((الكتابة مثل العتق)). وروى ابن القاسم في الكتاب: ((إذا أعتقه قبل محل الدين وهو موسر، فليس له أن يرهنه سواه حتى يحل الأجل، وليعجل له حقه، وإن أعتقه وهو عديم بقي رهناً، فإن أفاد ربه قبل الأجل مالاً ودى الدين ونفذ العتق، وكذلك لو بذل العبد أو أجنبي الدين لنفذ العتق)). ولو بذل الراهن رهناً غيره إلى الأجل لم يلزم المرتهن قبوله ولم ينفذ العتق. وحكم التعليق على الصفة في دوام الرهن حكم الإنشاء، فإن وجدت الصفة بعد فكاك الرهن نفذ. فرع: لو استعار عبداً ليرهنه، فرهنه ثم أعتقه المعير، فإن كان ملياً نفذ العتق، وقيل له: عجل الدين لربه (إذا أفسدت) عليه رهنه، ثم يرجع بذلك على المستعير بعد محل الأجل. ويمنع الراهن أيضاً من وطء الأمة المرهونة، فإن فعل فحملت فالولد نسيب، ثم إن كان الوطء بإذن المرتهن أو كانت مخلاة تذهب وتجيء في حوائج المرتهن فوطئها الراهن بغير إذنه فولدت، فهي له أم ولاد لا رهن للمرتهن فيها، وإن كان على وجه الغصب والنشوز عجل ربها الحق إن كان ملياً وكانت له أم ولد، وإن لم يكن له مال بيعت بعد الوضع، ولا يباع ولدها إذ هو نسيب على كل تقدير، فإن نقص ثمنها عن دينه أتبع به. قال محمد: ولا تباع وإن وضعت حتى يحل أجل الدين. قال أشهب: وإن وجدت من يبتاع منها بقدر الدين فعلت وأعتقت ما بقي، وإن لم يوجد استوفي إلى الأجل. فإن وجد أيضاً ذلك وإلا بيعت كلها، وقضى الدين وكان ما بقي لربها يصنع به ما شاء. وروي أنها لا تخرج من الرهن حتى يطأها بإذنه.

قال سحنون: وطئها تسرراً أو وطئها وقد أطلقها المرتهن في حوائجه، فهو سواء. ولا يمكن الراهن من الانتفاع بالرهن مباشرة، مثل سكنى الدار أو إسكانها أو استخدام العبد أو استكسابه أو غير ذلك أصلاً. ولكن يتولى ذلك المرتهن بإذن الراهن، فإن باشره الراهن بطل الرهن إن كانت المباشرة بإذن المرتهن. الطرف الثاني: في جانب المرتهن. (وهو) يستحق إدامة اليد، ولا تزال يده إلا لأجل الانتفاع خوفاً من فوات منفعة مقصودة تقديماً لها على (اليد) التابعة (للحق)، فإنها لا (تراد) إلا لحفظ محل الحق، ثم ترد إليه عند فراغ العمل. ولو شرط التعديل على يد ثالث يثق كل واحد منهما به جاز، ثم ليس للعدل تسليمه إلى أحدهما دون إذن الآخر. فإن فعل ضمن له، ولو تغير حاله لكان لكل واحد (منهما) طلب التحويل إلى عدل آخر. فإن اختلفا في عدلين، فقال محمد بن عبد الحكم: يجعله القاضي على يد عدل. قال أبو الحسن اللخمي: ((وليس بالبين)). قال: ((وأرى أن يقدم قول الراهن إذا دعا إلى ثقة لأنه ماله وهو (أنظر) لنفسه في حفظه (ماله) ومن يثق به، وإن قال أحدهما: يكون على يد عدل، وقال الآخر: يكون على يد المرتهن، كان القول قول من دعا إلى العدل)). وللمرتهن استحقاق البيع مقدماً على الغرماء عند حلول الدين إن لم يرده الراهن من موضع آخر، ولكن لا يستقل به بل يرفع إلى القاضي حتى يطالب الراهن (أو) يكلفه البيع. فإن امتنع باعه عليه. ويستقل إذا أذن له عند الأجل، ولا يستقل به إذا كان مقدماً على زمن الحلول وحين البيع. فإن باع بالإذن المتقدم رد البيع ما لم يفت. وقيل إن أصاب وجه البيع نفد. وروي: يمضي في الشيء التافه ويرد فيها سواه وقيل: يمضي إن لم يكن بالمكان سلطان، أو كان وعسر الوصول إليه. ولو أذن الراهن للعدل وقت الرهن في البيع عند الأجل جاز. ولو قال الراهن لمن على

يده الرهن في مرتهن أو عدل: إن لم (آت) إلى أجل كذا فأنت مسلط على بيع الرهن، فلا يبيعه إلا بأمر السلطان، فإن باعه بغير أمره نفذه. وعلى الراهن مؤونة المرهون ونفقته من العبد والدابة، وعليه سقي الأشجار وكفن العبد إن مات ودفنه. فإن أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه أو بيغر أمره رجع بما أنفق على الراهن، ولا يكون الرهن بذلك رهناً وإن أمره، ولا له حبسه بذلك. نعم لو قال له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، لكان له حبسه بها، إلا أن يقوم الغرماء، فلا يكون أحق منهم إلا بقدر الدين في الرهن، حتى يقول له: أنفق والرهن بما أنفقت رهن، فيكون أحق به في الدين والنفقة. وقيل: إذا قاله له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، كان أحق به في الدين (و) النفقة (من) الغرماء. (قال: وأما المنفق في الضالة فهو أحق بها من الغرماء)، حتى يستوفي نفقته، إذ لا يقدر على صاحبها، فلا بد من النفقة عليها. والرهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع إلى الإمام. وقال أشهب: النفقة على الرهن كالنفقة على الضالة، وتكون فيه مبدأة. (قال ابن القاسم: ((ومن ارتهن نخلاً ببئرها أو زرعاً أخضر ببئره، فانهارت فأبى الراهن أن يصلح، فأصلحها المرتهن لخوف هلاك الزرع أو النخل، فلا رجوع له بما أنفق على الراهن، ولكن يكون له ذلك في الزرع والنخل إذا أنفق خوفاً أن يهلك، فيبدأ فيه بنفقته، فما فضل كان في دينه كالمساقي والمكتري للأرض للزرع سنين ينفق في مثل ذلك، فليس له ما زاد على كراء تلك السنة خاصة في الكراء، أو على حط رب النخل من ثمر تلك السنة)). ولو أخذ الراهن مالاً من أجنبي فأنفقه في ذلك، فالأجنبي أحق بمبلغ ذلك من ثمن الزرع من المرتهن، فإن لم يفضل للمرتهن شيء رجع بدينه على الراهن. وروي عن ابن القاسم في غير الكتاب أن الراهن يجبر على أن يصلح إن كان ملياً).

فإن قيل: هل ضمان المرهون من الراهن أو المرتهن؟. قلنا: ليس المرهون بأمانة محضة فيكون [ضمانه] على الإطلاق من مالكه، ولا هو مقبوض لمجرد منفعة قابضة فيكون ضمانه منه، وإذا أخذ شبهاً من الأمرين لم يثبت له حكم أحدهما على التجديد، بل نفصل فنقول: المرهون قسمان: أحدهما: ما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار ونحوهما، فهذا ضمانه من راهنه، ولا يضمنه المرتهن إلا أن يتعدى، والقول قوله في تلفه إلا أن يظهر كذبه في دعوى التلف مثل أن يدعي هلاك الدابة في قرية يكون بها أهل العدل. ولم يعلم أحد منهم موتها. ولو قالوا: ماتت دابة ولا نعلم لمن هي قبل قوله: إنها هي، ويحلف على ذلك. والقسم الثاني: ما يغاب عليه كالثياب والسلع ونحوها. فهذه إن كانت في يد غير المرتهن بإذن الراهن فهي كالأول، وإن كانت بيد المرتهن فلا يقبل قوله في هلاكها إلا ببينة على التلف، (فإن لم تقم بينة على التلف)، ضمن وإن أقامها لم يضمن عند ابن القاسم في قوله وروايته. وهو قول عبد الملك وأصبغ ومحمد. وضمنه أشهب في قوله وروايته أيضاً. ومأخذ القولين النظر إلى أنه متهم فتزول التهمة عنه بالبينة، أو إلى أنه دخل على الضمان فلا تبرئه البينة منه. فإن شرط في ما يغاب عليه ألا يضمنه، وأن يقبل قوله فيه، فهل يبطل شرطه ويضمن إن لم تقم بينة بالتلف، أو يصح ويصدق؟ قولان لابن القاسم وأشهب. وروى ابن القاسم قوله. فنظر ابن القاسم إلى أنه شرط خلاف مقتضى الحكم فلا يصح ولا يفيد. ونظر أشهب إلى أنه دخل على أنه لا يضمن فزالت العلة المقتضية للضمان عنده، والله أعلم. أما تصرفات المرتهن فهو ممنوع من جميعها، وليس له الانتفاع أصلاً، فإن وطئ فهو زان عليه الحد، ولا يعذر إن قال: ظننت أنها تحل لي. ثم هذه الأحكام تثبت في غير المرهون، فإن فاتت بالجناية (عليه) فأخذت (منه) القيمة، فقال ابن القاسم: إن جاء ربه برهن مثله أو بما فيه ثقة من الحق أخذ القيمة. قال محمد: وبه أقول، إلا أني أقول: إن كانت القيمة دراهم أو دنانير، وحقه من نوعها عجل له، وإن كان على غير ذلك كانت القيمة رهناً بحقه إلى أجله. ثم حيث عوض عن التلف

الباب الرابع: في النزاع بين المتعاقدين، وهو في أربعة أمور

برهن أو بالقيمة سرت أحكام الرهن إليه. الطرف الثالث: في غاية الرهن وما به انفكاكه. وهو حاصل بفسخ الرهن أو فوات عين المرهون إلى غير بدل، كفواته بآفة سمائية، حيث يكون من (راهنه)، وفي معنى ذلك. (ما) إذا جنى العبد الرهن وأسلمه الراهن والمرتهن فبيع في الجناية فإنه فات إلى غير بدل. وينفك الرهن أيضاً بقضاء كل الدين. فإن قضى بعضه (بقي) كل المرهون مرهوناً ببقية الدين. ولذلك نقول: إذا رهن عبدين وسلم أحدهما كان مرهوناً بجملة الدين، وكذلك لو تلف أحدهما لكان الباقي مرهوناً بكل الدين. وإذا قال الراهن للمرتهن: بع المرهون لي واستوف الثمن لي، ثم استوف لنفسك، جاز استيفاؤه لنفسه، ولا يضر اتحاد القابض (والمقبض). الباب الرابع: في النزاع بين المتعاقدين، وهو في أربعة أمور: الأول: العقد. ومهما اختلف فيه فالقول قول الراهن، إذ الأصل عدمه. وكذلك لو ادعى المرتهن أن مال العبد أو ثمرة النخل رهن، وأنكره الراهن فالقول قول الراهن أيضاً. الثاني: في مقدار الدين. والرهن كشاهد للمرتهن فيما (يدعيه) إلى مبلغ قيمته، لأنه حازه وثيقة له. إلا أنه لا يشهد إلا على نفسه، لا على ذمة الراهن، ولذلك لا يشهد ما هلك في ضمان الراهن من الرهان، فإذا قال الراهن: الرهن بعشرة، وقال المرتهن: هو بعشرين والرهن قائم بيده، فإن كانت قيمته عشرين فأكثر، حلف المرتهن أنه في عشرين وأخذه، إلا أن يفكه ربه بها. وإن كانت قيمته عشرة فأقل حلف الراهن أنه في عشرة ولم يلزمه غيرها وأخذه، فإن كانت قيمته خمسة عشر حلف المرتهن أنه على عشرين وحلف الراهن أنه على عشرة، وأخذ المرتهن الرهن، إلا أن يفكه الراهن بعشرين. وقال محمد: له أن يحلف على مقدار قيمة الرهن خاصة. واختلف إذا تنازعا أخذه بخمسة عشر فقال محمد بن عبدوس: إن شاء الراهن أن يعطيه ما ذكر المرتهن، وإلا بعته ودفعت له من ثمنه ما ذكر من ذلك.

وقال ابن القاسم في المستخرجة: ((إن كانت قيمته خمسة عشر (لم يكن للراهن أن يأخذه ويدفع خمسة عشر حتى يدفع العشرين ولو بذله المرتهن بخمسة عشر) لم يجبر الراهن على أخذه إلا أن يرضى المرتهن بعشرة، وإلا بقي للمرتهن)). وقال ابن نافع: للراهن أخذه إن غرم خمسة عشر، إذا شاء ذلك، ولا حجة للمرتهن. فإن تلف الرهن بيد المرتهن، وكان ضامناً له، ثم اختلفا في مقدار الدين، فقيمة (الرهن) قائمة في الشهادة مقامه، فإن اختلفا فيها تواصفاه، فإن اتفقا في الصفة قومت، وإن اختلفا في الصفة كان القول فيها قول المرتهن مع يمينه. فأما ما فات من الرهن غير مضمون على المرتهن كالذي لا يغاب عليه أو قامت بهلاكه بينة مما يغاب عليه على قول ابن القاسم وروايته فلا شهادة له، إذ شهادته على نفسه لا على ذمة الراهن، كما تقدم. وأما إن كان الرهن قائماً بيد أمين فهل يكون شاهداً لأنه على حكم الرهن ليستوفي منه المرتهن حقه كالذي يكون على يده، أو لا يكون شاهداً لأنه غير مسلم إليه ولا هو مؤتمن عليه؟ قولان لمحمد وأصبغ. فرع: (قال ابن نافع: ((المعتبر في قيمة الرهن يوم الحكم إن كان باقياً، ويوم (قبضه) إن كان تالفاً)). ورواه عيسى عن ابن القاسم في المدنية. قال القاضي أبو الوليد: ((وفي العتبية (من) رواية عيسى عن ابن القاسم أن الرهن يضمن بقيمته يوم الضياع. وقال في موضع آخر: يوم الرهن)).

قال: ((فعلى قوله يضمن باعتبار قيمته يوم الضياع يجب أن يعتبر بتلك القيمة في مبلغ الدين)). الثالث: في جناية العبد الرهن. وإذا اعترف بها الراهن دون المرتهن، فإن كان معدماً لم يصدق، وإن كان ملياً خير بين أن يفتديه أو يسلمه، فإن فداه بقي رهناً، وإن أسلمه لم يكن له ذلك حتى يحل الأجل، فيدفع الدين ويسلم العبد بجريرته. فإن فلس قبل الأجل فالمرتهن أحق به من أهل الجناية، ولو ثبتت الجناية ببينة خير أيضاً، فإن فداه كان رهناً، وإن أسلمه خير المرتهن أيضاً فإن أسلمه كان لأهل [الجناية بماله قل أو كثر. وليس للمرتهن أن يؤدي من مال العبد الجناية] ويبقى رهناً، إلا أن يشاء سيده، وإن فداه المرتهن بالأرش فقط لم يكن لسيده أخذه، حتى يدفع ما فداه به مع الدين، وإلا كان ما فداه به في رقبته دون ماله يبدأ على الدين، ولا يباع حتى يحل أجل (الدين). وقال سحنون: يباع قبل الأجل، لأن الراهن أسلمه، فإن سويت رقبته أقل مما فداه به لم يتبع السيد بما بقي وأتبعه بدينه الأول، وإن كان فيه فضل كان الفضل في رقبته في الدين. ولا يكون ماله رهناً بأرش الجناية ولا بالدين إذا لم يشترط في الدين أولاً. وروي أنه يدخل في الرهن بالأرش (لا) بالدين. فإن حل الأجل وللسيد غرماء فإنه يباع بماله، فإن كان ماله زاد فيه نصف هذا الذي بيع به مثلاً بدين بالجناية، وكان [نصف] ما بقي للمرتهن في دينه والنصف الثاني للغرماء يدخل فيه المرتهن أيضاً بما بقي له من الدين إن بقي له شيء. قال أبو إسحاق التونسي: وهذا هو القياس، لأن المال والرقبة كانا مرهونين في الجناية، فقد (فداهما المرتهن جميعاً، فيبدأ من جملة الثمن بهما). ولو فداه المرتهن بإذن الراهن لأتبعه بجميع ما فداه به، وإن أناف على قيمة رقبته وبدينه الأول. قال محمد: ثم لا يكون رهناً بما فداه به عند ابن القاسم وأشهب لأنه سلف. وقال

أيضاً: إذا ثبتت الجناية ببينة خير المرتهن (بين أن) يسلمه ويتبع الراهن بدينه أو يفتكه بزيادة درهم فأكثر على الجناية، ويتبع الراهن بدينه إلا قدر ما زاد على الجناية ويكون العبد للمرتهن رقاً. الرابع: فيما يفك الرهن، وفيه فرعان: الأول: فيما بين الراهن والمرتهن. فإذا قال الراهن: ما سلمته من المال كان على جهة الدين الذي به الرهن، فانفك الرهن وادعى المرتهن أنه عن جهة غيره، فإن المال المقبوض يوزع على الجهتين بعد أيمانهما. وقال أشهب: هذا إذا تقاررا بالإبهام، وأما لو تداعيا البيان لكان القول قول المرتهن. الفرع الثاني: في ما بين العدل والمرتهن. (فلو قال العدل الذي على يده الرهن: بعته بمائة ودفعتها للمرتهن، وقال المرتهن: بل بخمسين، وهي التي دفعتها إلي، لكان القول قول المرتهن مع يمينه أنه لم يقبض إلا خمسين، وكان على العدل غرم خمسين، ثم ينظر فإن قال المرتهن: لا أدري ما بعت به إلا من قولك، أخذ الخمسين الأخرى إن اغترفها دينه. وإن قال: كنت حاضراً لبيعك له بخمسين، فقال أشهب: لا يضمن الخمسين (الثانية) للمرتهن، لأنه أقر أنه بخمسين باع، ولكن يضمنها للراهن. وقال أبو الحسن اللخمي: ((إذا ادعى (حضور) البيع بخمسين، فهل يسوغ له أخذ الخمسين الأخرى أم تكون للغرماء دونه؟)). قال: ((وألا شيء له فيها أصوب، والله أعلم عز وجل)).

كتاب التفليس

كتاب التفليس والتماس الغرماء أو بعضهم الحجر بالديون الحالة على المديان الزائدة على قدر ماله سبب لضرب الحجر عليه بدليل الحديث. وأم الديون المؤجلة فلا حجر فيها، إلا أن تحل عليه ديون تستغرق ما بيده ويطلبها أربابها، فيطلب المؤجلة ديونهم الحجر فلهم ذلك، لأنهم يقولون: أخليتم ذمته ولم يبق لنا ما نأخذ منه ديوننا، وكذلك إن ظهر منه إتلاف يخاف معه ألا يجد عند الأجل قضاء، فيحجر عليه ويحل دينه إلا أن يضمن له، أو يجد ثقة يتجر له فيه ويحال بينه وبينه. ومتى حجر على المفلس حلت الديون المؤجلة عليه دون الديون المؤجلة له، والميت كالمفلس في ذلك كله. ولو قام الغرماء على الغريم فمكنهم من ماله فباعوه، واقتسموه، ثم داين آخرين، فليس للأولين دخول في ما بيده، إلا أن يكون فيه فضل ربح، ويكون هذا بمنزلة تفليس السلطان، رواه ابن القاسم في العتبية. ولو كان الغريم غائباً، فروى محمد عن ابن القاسم وأشهب في البعيد الغيبة لا يعرف ملأه من عدمه: أنه يفلس ويحل المؤجل من دينه. (قال ابن القاسم: وإن عرف ملأه لم يفلس، ولا يقضي إلا لمن حل دينه، قال أشهب: بل يفلس، إذ لا يدري ما حدث عليه. قال ابن القاسم: وأما القريب الغيبة على مثل الأيام، فليكتب في كشف أمره حتى يعلم ملؤه من عدمه، فيفلس أو لا يفلس.

الحكم الأول: منع التصرف في المال الموجود

ثم للحجر أربعة أحكام: الحكم الأول: منع التصرف في المال الموجود عن ضرب الحجر بوجوه التبرع كالعتق والهبة والوصية، والبيع بالمحاباة في معنى التبرع، أما ما كان من غير محاباة فهو موقوف على إجازة الغرماء. واختلف في (عتقه) أم ولده فأمضاه ابن القاسم في الكتاب. ورده المغيرة في كتاب ابن سحنون وقال: ليس هو كطلاقه لزوجته، بل هي كرقيقة في ارتفاقه بها. ثم إذا قلنا: يمضي عتقها، فقال مالك في كتاب محمد: يتبعها مالها. وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيراً. فأما ما لا يصادف المال من تصرفه كالطلاق والخلع واستيفاء القصاص، وعفوه، واستلحاف النسب ونفيه باللعان واختطابه واتهامه وقبول الوصية فهو صحيح. (وكذلك) شراؤه على أن يقضي الثمن من غير ما حجر عليه فيه. (وأما إقراره بالدين فإن (كان استحقاق غير) المقر له من الغرماء بغير بينة، بل بإقراره، فيجوز ذلك لمن أقر له في ذلك المجلس وبلفظ واحد أو قرب بعض ذلك من بعض. قاله مالك في كتاب محمد). وإن كانت الديون الأولى تثبت ببينة فلا يجوز إقراره لمن لم يثبت دينه من الغرماء في وقت الحجر عليه، لأنه يدخل نقصاً على من ثبت دينه بالبينة بمجرد قوله، وذلك غير جائز له مع الحجر عليه. ثم حيث قلنا: لا يقبل إقراره في المال المحجور عليه فيه فما أقر به من ذلك واجب في ذمته. فإن أفاد مالاً غير ما حجر عليه فيه قضى مما أفاد ما أقر به. وأما لو قال: هذا قراض فلان أو وديعته، وعلى أصلها بينة، فأجاز ابن القاسم إقراره، ولم يجزه أشهب إلا ببينة على التعيين، ورواه عن مالك.

الحكم الثاني: بيع ماله وقسمته

(وقال أصبغ: يقب في ما عين من وديعة أو قراض، كان عيناً أو عرضاً، كان على أصله بينة أو لم تكن، لأنه (إقرار) بأمانة ولم يقر بدين إذا أقر لمن لا يتهم عليه بالتأليج إليه). فأما إن لم يفسر ذلك، وإنما قال له: في مالي وديعة كذا وكذا أو قراض كذا، فلا يجوز لأن هذا إقرار بدين، وقاله ابن حبيب. والمال الذي يتجدد بعد الحجر لا يتعدى إليه الحجر، بل يحتاج في إلى استئناف حجر ثان، وأجرة الكيال والحمال وما يتعلق بمصلحة الحجر تقدم على جميع الديون. وإذا كان له دين وله به شاهد فليحلف، وكذلك إذا رد عليه اليمين. فإن نكل فللغرماء أن يحلفوا، قاله ابن حبيب. وإن أراد سفراً فلمن بقي له دين حال منعه، وليس لمن له دين مؤجل منعه ولا طلب الكفيل، ولا طلب الإشهاد، إلا أن يكون مما يحل في غيبته، فليوكل من يقضيه عند استحقاقه. الحكم الثاني: بيع ماله وقسمته. وعلى القاضي أن يبادر إلى بيع الحيوان، ولا يطيل مدة الحجر، بل يبيع ويقسم الثمن على أرباب الديون، إلا أن يكون المحجور عليه معروفاً بالدين (فليستأن) به في الموت. واختلف في (الاستيناء) في الفلس. قال ابن حبيب: قال أصبغ: وإذا فلس الغريم أو مات رجل وعليه دين فليأمر القاضي من ينادي على باب المسجد في مجتمع الناس: إن فلان بن فلان قد مات أو فلس، فمن كان له عليه دين أو عنده قراض أو وديعة أو بضاعة فليرفع ذلك إلى القاضي، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه في الأسيفيع. ويبيع الحاكم بحضرة المفلس، ويباع متاعه بالخيار إلى ثلاثة أيام طلباً للزيادة. وفي رواية مطرف: يستأنى في بيع ربعه، يتسوق به الشهر (والشهرين). فأما الحيوان فلا يؤخر إلا اليسير. قال مطرف: ويشترط السلطان فيما يبيع الخيار ثلاثاً. وفي كتاب محمد: (أما) الحيوان والعروض فيتسوق اليسير، والحيوان أسرع بيعاً، وأما

الدور والأرضون الشهر والشهرين ثم تباع. ولا يكلف الغرماء حجة على ألا غريم سواهم، ويعول على أنه لو كان لظهر مع استفاضة الحجر، إما مطلقاً وإما بعد الاستيناء على ما تقدم. ثم يقسم ثمن ما يبيع من ماله على نسبه الديون، فإن اختلفت أجناسها من العين والعرض والطعام المسلم إليه فيه، قوم لكل واحد قيمة دينه بقيمة يومه حين الفلس أو الموت وقسم ماله بينهم على تلك الحصص، واشترى لكل واحد (منهم) بما صار له من المحاصة سلعته أو ما بلغ منها، ولا يدفع إلى أحد من أرباب الطعام ثمن، وكذلك (أرباب) العروض إلا أن يكون أسلم عرضاً في عرض، ويعزل لمن كان غائباً من الغرماء نصيبه، فإن هلك بعد العزل فهو منه. ثم إن ظهر بعد القسمة غريم لم يشعر به فلا ينتقص، بل يرجع على كل واحد بما ينوبه مما يخصه على ما يقتضيه الحساب. ولا يرجع على مليء بمعدم، ولا على حي بميت. وكذلك لو خرج المبيع مستحقاً لرجع على كل واحد بجزء من (الثمن) يقتضيه الحساب. هذا إن كان الميت غير مشهور بالدين، فإن كان مشهوراً بالدين أو علم الورثة أن عليه ديناً ثم باعوا وأقبضوا بعض الغرماء، فلمن بقي أن يرجع على الورثة بما يخصه، ثم للورثة أن يرجعوا على من أخذ أولاً بما يغرمونه. وفي الكتاب أيضاً أن له أن يرجع على من أخذ فيأخذ منه ما يخصه. وحيث قلنا: يرجع على الورثة، فإنه يأخذ من الملي عن المعدم ما لم تجاوز حصته ما قبض الوارث، بخلاف الغرماء. فرع: اختلف في مال المفلس ممن يكون ضمانه إذا تلف. فروى أشهب أن مصيبته من المفلس، كان عيناً أو عرضاً. وروى ابن الماجشون أن ما أوقف من عين أو عرض مصيبته من الغرماء، العرض بقيمته والعين بوزنه، وبه قال، وشبهه بالثمن يهلك في المواضعة فيكون ممن تكون له الأمة. وروى ابن القاسم: أنه منه إن كان عرضاً أو ما يشبهه، ومنهم إن كان عيناً، وجد في التركة أو بيع به من العروض، [وقال بما روى]. وقال أصبغ: مصيبته منه إن كان حياً فلس، وإن كان ميتاً فمصيبته منهم. وإذا حيل بين المفلس وبين ماله وقبض الغرماء، تركت عليه كسوته المعتادة إلا أن يكون

فيها فضل عن لباس مثله، ولا ينزع رداؤه إذا كان نزعه يزري بمنصبه. وروى ابن نافع أنه لا يترك له إلا ما (يوارى به). وبه قال ابن كنانة. واختلفوا في بيع [كتب] العلم (عليه) على قولين، بناء على كراهية بيعها. وقال محمد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بعد موته بثلاثمائة دينار، وأصحابنا متوافرون فما أنكروا ذلك. وفي ترك كسوة زوجته له تردد. وقال سحنون: لا يترك له كسوة زوجته ولا يترك مسكنه ولا خادمه ولا غير ذلك من سرجه وخاتمه وثوبي جمعته ما لم تقل قيمتها، ويترك عيشه وعيش زوجته وولده الصغير الأيام نحو الشهر، وإن لم يجد له غيره ترك، وكذا ينفق عليه في مدة الحجر، ثم إن بقي شيء من الدين فلا (يستكسب)، ولا تؤاجر مستولدته، ويؤاجر مدبره، ولا يلزمه أن ينتزع لقضاء دينه مالهما ولا مال معتقه إلى أجل. فإن اختار هو ذلك جاز على المستحسن من القولين. (وتباع كتابة مكاتبه). ولا يجبر على اعتصار ما وهب لولده، ولا على الأخذ بشفعة له فيها فضل، إذ هو ابتداء الملك ولا يلزمه. وكذلك لو بذل له السلف لم يجبر على قبوله. وليس عليه العفو عن دم أبيه ليأخذ الدية، ولا له أن يعفو عن دية وجبت له. قال مطرف: ولا أن يجيز وصية أبيه بماله كله. وإن ورث أباه فالدين أولى به، ولا يعتق عليه منه إلا ما يفضل عن الدين. ولو وهب له (لعتق) وقدم عتقه على حق الغرماء، إذ لذلك وهب. ثم إذا لم يبق له مال واعترف بذلك الغرماء انفك الحجر عنه، ولا يحتاج إلى فك القاضي.

الحكم الثالث: حبسه إلى ثبوت إعساره

وقال القاضي أبو محمد: ((لا ينفك حجر عن محجور عليه بحكم أو بغير حكم إلا بحكم الحاكم)). الحكم الثالث: حبسه إلى ثبوت إعساره. وفي الكتاي: قال (مالك): لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولكن يستبرأ أمره، فإن اتهم بأنه قد حبأ مالاً أو غيبه حبسه، فإن لم يجد له مالاً ولم يخبئ شيئاً لم يحبسه وخلى سبيله، إلا أن يحبسه قدر ما يتلوم به من اختياره ومعرفة ماله، أو يأخذ عليه (حميلاً). وللقاضي إطالة حبسه إن ظهر عناده بإخفاء المال. قال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: وإذا تبين لدده حبسه، مثل أن يتهم بمال أخفاه، ومثل هؤلاء التجار الذين يأخذون أموال الناس، ثم يقولون: ذهبت، ولا يعرف ذلك، والرجل في السوق وفي موضعه لا يعلم أنه سرق له شيء ولا احترق منزله ولا أصيب بشيء، فهؤلاء يحبسون حتى يوفوا الناس حقوقهم أو يتبين أنه لا شيء لهم فيطلقهم ولا يلازمهم أحد. قال مالك في الدين يتفالسون ويقولون: ذهب لنا، ولا يعرف ذلك، فإنهم يحبسون، وإن شهد ناس: أنه لا شيء لهم، فهذا لا يعرف ولا يعجل سراحهم حتى يستبرأ أمرهم. قال في كتابي محمد وابن حبيب: وأرى في الذين يتفالسون في السوق، ولا يعرف ما يأتون به أن يخرجوا من السوق. وقال عنه مطرف: فإنه لا يزال يفعل ذلك الرجل منهم، ثم يظهر له مال ومتاع فلينف هؤلاء من السوق. فأما من حبس للاستبراء من التهمة أو للجهل بحاله، فإن أقام بينة على إعساره خلي في الحال، وانظر إلى ميسره، ويشهد من يخبر باطن حاله.

وقال القاضي أبو الوليد: ((ويشهد له)) الشهود أنهم لا يعلمون له مالاً ظاهراً ولا باطناً، ثم يحلفه مع الشهادة. [قال]: لأن شهادتهم على الظاهر، ويحلف هو على الباطن)). فإن لم يجد من يشهد له، وقد طال حبسه أخرج، والطول يختلف بالنسبة إلى كثرة الحق وقلته، وليس له أمد محدود. (وقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون: لا يحبس في الدريهمات أكثر من نصف الشهر. ويبلغ في الكثيرة أربعة أشهر، وفي ما بين ذلك الشهرين ونحوهما (بالنسبة). ويحبس في دين والده. قال مطرف: ولا يحبس في دين ولده، لأن مالكاً قال: ((لا يحلف القاضي الأب لولد، (إن طلب يمينه، فاليمين أيسر)، ولكن يأمره الإمام فيما ثبت له عليه أن يقضيه)). وقال ابن القاسم: فإن شح الابن في استحلاف أبيه أحلف له، وكانت جرحة على الابن. وقال محمد بن عبد الحكم: أصحابنا لا يرون حبس الوالد لولده في الدين يداينه. قال محمد: ويحبس الوالد لولده (في) دينه إذا امتنع من دفعه وشح الابن على ماله، ويحبس الوالد في امتناعه من الإنفاق على ولده، ويحبس أيضاً فيما على الولد من دين إذا كان له بيده مال. وكذلك الوصي يحبس في ما على الأيتام من الدين إذا كان لهم بيده مال. ويحبس النساء في الدين وغيره، هن كالرجال في ما يحبس فيه الرجال، ويكن بموضع لا يكون فيه رجل، والمؤتمن عليهن امرأة مأمونة لا زوج لها، أو لها زوج مأمون معروف بالخير. (قال سحنون: ((ومن سجن في دين لامرأته أو لغيرها فليس له أن تدخل إليه امرأته، لأنه

الحكم الرابع: في الرجوع إلى عين المال

إنما (يسجن) للتضييق عليه، فإذا لم يمنع لذته لم يضيق عليه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا حبس الحاكم الزوجين في حق وجب عليهما جميعاً أو كفالة تكفلا جميعاً بها، فقالا: نحبس جميعاً، وقال صاحب الحق: بل يفرق بينهما، فذلك للزوجين إذا كان المحبس خالياً، فإن كان فيه رجال غيرهما حبس (الزوج) مع الرجال (والمرأة) مع النساء. (وإذا حبس) الأب والابن في دين عليهما حبساً جميعاً لا يفرق بينهما. قال: ولا يمنع من حبس بالحقوق من زيادة المسلمين ممن يسلم. ويترك مع المحبوس من يخدمه، وإن مرض مرضاً احتاج فيه إلى جارية (لتوضئه) وتطلع على عورته، لم أر بأساً أن تصير معه جارية حيث يجوز ذلك. فرع: (من حل عليه دين فسأل أن يؤخر ووعد بالقضاء، فحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أن الإمام يؤخره حسبماً يرجو له ولا يعجل عليه. وقال في كتاب ابن سحنون: إن سأل أن يؤخره يوماً أو نحوه آخر، ويعطي حميلاً بالمال). الحكم الرابع: في الرجوع إلى عين المال. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل أفلس فأدرك رجل

مال بعينه فهو أحق به (من غيره)) فجعل رب المال أحق، وذلك عند اختياره الأخذ، وله الضرب. ويتعلق الرجوع بثلاثة أركان. - العوض. - والمعوض. - والمعاوضة. (أما العوض وهو الثمن) فشرطه أن يتعذر استيفاؤه بالإفلاس، فلو وفى المال به، فلا (رجوع). ولو دفع الغرماء إليه الثمن من مال المفلس، (قال ابن الماجشون: أو من أموالهم فلا رجوع أيضاً. وقال ابن كنانة: ليس لهم أن يدفعوا من مالهم، بل من مال المفلس إن كان له مال. وقال أشهب: ليس لهم أخذها بالثمن حتى يزيدوا على الثمن زيادة يحطونها عن المفلس من دينهم، ويكون نماء السلعة ونقصانها لهم وعليهم). فرعان: الأول: لو قبض بعض الثمن ثم وجد السلعة، خير في رد ما قبض وأخذ سلعته أو الضرب بما بقي له من الثمن. الفرع الثاني: لو قبض البعض ثم وجد من السلعة بعضها، فإما ضرب ببقية الثمن وإما رد ما قبض. مما يخص ما وجد وأخذ ما وجد وضرب ببقية ثمن ما فات بعدما أخذ. وأما المعوض فله شرطان: أحدهما: أن يكون قائماً في ملك المفلس، فلو (هلك) (لم يكن) للبائع إلا المضاربة بالثمن والخروج عن ملكه (مثل الهلاك والكتابة كزوال الملك). الشرط الثاني: ألا يكون متغيراً تغير انتقال، فإن تغير كالحنطة تزرع أو تطحن أو يخلط جيدها برديء، أو مسوس أو معلوث، أو يعمل الزبد سمناً، أو يقطع الثوب قميصاً أو الخشبة باباً، أو يذبح الكبش، فقد فات الرجوع. ولو لم ينتقل ولكن أضيف إليه صناعة أو عين

أخرى: كالعرصة يبتني فيها بيت أو الغزل ينسج، فلا يمنع (الرجوع). ثم يكون له أن يشارك الغرماء بقدر قيمتها من قيمة البنيان، وكذلك الغزل وغيره. وكذلك لو خلط السلعة بجنسها المماثل لها كالزيت على مثله والحنطة على مثلها، وغير ذلك، فله من ذلك قدر مكيلته. ولو ولدت الأمة (أو) الماشية فله أخذ الولد معها، بخلاف الثمرة والغلة إلا أن يكون الصوف على ظهورها واللبن في ضروعها والثمرة قد أبرت واشترطها المبتاع، فإنه يرد ما كان قائماً من ذلك ويضرب بمثل ماله مثل وقيمة ما لا مثل له. وقيل: إن جد الثمرة، وجز ذلك الصوف فهما كالغلة. وفي الرجوع في تمر بعد أن يبس من مبتاعه (منه) في رؤوس النخل إذا فلس روايتان: بالإجازة والمنع. وبالأولى أخذ أشهب. وإلى الثانية ذهب أصبغ. والروايتان مبنيتان على أصلين: أحدهما أن البائع إذا أخذ السلعة في الفلس، هل هو ناقض للبيع الأول، (أو هو مبتدئ بيع ثان؟). فعلى الأول يصح أخذه، وأما على الثاني فيختلف فيه بناء على (أصل أخر)، وهو أن ما كان من الذرائع إذا ألجأ (إليه) الحكم هل يعتبر في المنع أم لا؟ فرعان: الأول: إذا وجد بعض المبيع كأحد العبدين أخذه وضارب بما يخص الفائت من الثمن. ولو ولدت الأمة ثم مات أحدهما، فليس له إلا أخذ الباقي بجميع الثمن أو الترك. ولو بيع الولد وبقيت الأم أخذها بجميع الثمن في رواية ابن القاسم. وروي أنه يأخذها بحصتها ويحاص بما أصاب الولد من الثمن. ولو بيعت الأم وبقي الولد أخذه بحصته من الثمن كسلعتين في صفقة. قال يحيى: روى هذا ابن وهب وقال سحنون: ما أدري هذا. قال أبو الحسن: يريد أن القياس فيهما سواء. وقال الشيخ أبو القاسم: أخذ الباقي منهما بحسابه. (الثاني): إذا وجد العبد الذي باعه مرهوناً، فهو بالخيار بين أن يدعه ويحاص بالثمن،

أو يفديه ويأخذه بالثمن كله، زاد أو نقص، ويحاص بما فداه به. بخلاف ما لو وجده جانباً ففداه وأخذه بالثمن، فإنه لا يرجع بشيء مما فداه به، لأنه في الجناية لم يتعلق بذمة المشتري شيء يلزمه. وأما المعاوضة فشرطها أن تكون معاوضة محضة، فلا يثبت الفسخ في النكاح أو الخلع أو الصلح، بتعذر استيفاء العوض، لكن لو طلقها قبل البناء وفلست، فإن عرف المهر بيدها فهو أحق به حتى يأخذ نصفه. (فإن لم يوجد إلا نصفه) فإن كان ما هلك بغير سببها فليس له إلا نصف ما وجد ولا محاصة له بما بقي، وإن كان بسببها خاص بنصف ما ذهب. ويثبت الفسخ في الإجارة والسلم ويثبت الرجوع إلى رأس المال عند الإفلاس، إن كان باقياً عيناً كان أو عرضاً، وإلى المضاربة بقيمة المسلم فيه إن كان تالفاً، ثم يشتري بالقيمة جنس حقه، وأشهب لا يرى الرجوع في العين وبجه. وإذا أفلس المستأجر بالأجرة رجع المكري إلى عين الدابة أو الدار المكتراة. وإن كان قد زرع الأرض فربها أحق بالزرع من الغرماء حتى يأخذ كراءه في الفلس دون الموت. وقال ابن القاسم: هو أحق فيهما، ولو أقرضه سلعة لم يكن أحق بها. قال أبو محمد الأصيلي: هو أحق بها كالبيع. ولو وهب للثواب لكان له الرجوع في هبته، وإن تغيرت، إلا أن يبذل له الغرماء القيمة. والأجير. في سقي زرع أو نخل أو أصل إذا سقاه كان أحق به، بخلاف من استؤجر على رحيل إبل أو رعايتها أو علفها أو على رحى الماء والصباغ شريك بقيمة الصبغ، وكذلك النساج والبناء. وأما من دفع ثوبه إلى الصباغ ثم قبضه قبل دفع الأجرة، ثم فلس، فالصباغ أحق بما زاد الصبغ إن زاده، ثم يضرب بما فضل له. وقيل: يكون شريكاً بقيمة الصبغ زاده أو نقصه). وجميع الصناع أحق بما أسلم إليهم للصنعة، وكذلك مكري دابته لحمل متاع، فهو أحق بما حمل عليها وإن لم يكن معها.

والمكتري أحق بالدابة المعينة في العقد، وإن لم يقبضها دون الكراء المضمون إلا أن يقبضها فيه. وأرباب الحوانيت والدور أسوة غرماء مكتريها فيما فيها. ورب الأرض المكتراة أحق بما فيها من الزرع حتى يقبض كراءه لا يشاركه أحد من الغرماء، سوى من استؤجر للسقي فإنه يحاصه، ويقدمان على مرتهن الزرع. وقيل: رب الأرض أولى، ثم أجبر السقي، ثم المرتهن. فروع: الأول: (من ابتاع سلعة بيعاً فاسداً، ثم فلس البائع، فقال سحنون: هو أحق بالسلعة التي في يده وإن فسخ بيعها حتى يستوفي ثمنه. وقال محمد: لا يكون أحق بها. وقال ابن الماجشون: هو أحق بها في النقد دون الدين). (الثاني): قال ابن القاسم في المشتري يرد العبد بعيب، فلم يقبض ثمنه من البائع حتى فلس والعبد بيده، فلا يكون الراد له أولى به. (الثالث): قال مالك في المشتري للسلعة يفلس وقد نقد بعض ثمنها ورد البائع ما قبض وأخذها، ثم وجد بها عيباً، يرد مما حدث عند المبتاع، فله ردها ويحاص (أو يحبس ولا شيء له. قال محمد: لأنه لا يعرف ما كان رد من الثمن بعينه، ولو عرف بعينه مثل أن يكون طعاماً أو كتاباً أو غيره لكان أحق به ويحاص) بما بقي له من ثمنها فيها وفي غيرها. (الرابع): (قال ابن القاسم في العتبية: ((إذا فلس المشتر بعد بيعه للسلعة وحاص البائع الغرماء، ثم ردت بعيب، كان للبائع أن يرد ما أخذ في الحصاص، ويأخذ سلعته)). قال أبو الحسن اللخمي: ((ويصح أن يقال: ذلك حكم مضى فلا لا يرد)).

كتاب الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كبيراً كتاب الحجر وأسباب الحجر سبعة: الصبا والجنون والتبذير والرق والفلس والمرض والنكاح في حق الزوجة. فأما حجر الصبا فينقطع بالبلوغ مع الرشد (عند الابتلاء. ويشترط في ابتلاء الأنثى أن تتزوج ويدخل بها زوجها على المشهور، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد) لأن الذكر بتصرفه وملاقاته للناس في أول (نشئه) إلى بلوغه يحصل له الاختيار ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وأما المرأة فبكونها محجورة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل حياء البكارة وقف فيها على وجود الدخول في النكاح فيه تفهم المقاصد كلها، ثم تبتلى بعد ذلك. واختلف في (العانس)، فقال ابن القاسم في الكتاب: ((لا تجوز كفالة البكر ولا بيعها

ولا صدقتها ولا عتقها ولا معروفها. وإن أجازه الوالد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه. هذا قول مالك ورأيي)). قال: ((ولا تجوز عطيتها لوالديها، وهما في ذلك بمنزلة الأجنبيين، وكان مالك يقول فيما رأيت في كتاب عبد الرحيم: إنها إذا عنست جاز صنيعها)). قال ابن القاسم: فإذا بلغت (سن) التعنيس جاز صنيعها إلا أن تولى بوصي أو أب. وقال ابن عبد الحكم في البكر إن لم تول بأحد فبيعها جائز إذا كان على سداد، وأما هبتها وصدقتها فلا تجوز. وروى ابن عبد الحكم ومطرف وغيرهما أنها إذا عنست جاز صنيعها وإن كان لها أب أو وصي، ورواه عبد الرحيم. فرع: في تحديد المدة التي يقف الابتلاء على مضيها بعد الدخول على المشهور. وقد اختلف فيها، فقيل الخمسة الأعوام. وقيل: الستة والسبعة في ذوات الأب والعام الواحد في اليتيمة التي لا وصي عليها. وحكى الشيخ أبو الوليد رواية بأن الأنثى كالذكر يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بل بمجرد الحيض. ثم البلوغ في الذكور بالاحتلام أو الإنبات، أو بلوغ سن تشهد العادة ببلوغ من بلغه واختلف في مقداره. فقال ابن القاسم: هو ثمان عشرة سنة. وقال غيره: سبع عشرة. وذكر ابن وهب أن سن البلوغ خمسة عشرة سنة. وهو اختيار القاضي أبي بكر. وأما الإناث فيزدن على الذكور مع مساواتهن لهم فيما تقدم بالحيض والحمل. فرع: في طريق معرفة هذه العلامات:

أما السن فبالعدد. وأما الاحتلام فبقوله: إذا كان ممكناً إلا أن تعارضه ريبة. وأما الإنبات فقال القاضي أبو بكر: ((يكشف عنه، ويستدبره الناظر، ويستقبلان جميعاً المرآة وينظر إليها الناظر، فيرى الإنبات أو البياض المسطح)). وأما الرشد فبأن يكون مصلحاً لماله، حافظاً له، عارفاً بوجوه أخذ المال وإعطائه والحفظ له عن التبذير. وزاد ابن الماجشون: وأن يكون جائز الشهادة. ولم يعتبر ابن القاسم ذلك. ومهما حصل انفكاك الحجر فلو عاد إلى التبذير لعاد الحجر. صفة السفيه المستحق للحجر عليه: أن يكون يبذر ماله (سرفاً) في لذاته من الشراب وغيره، ويسقط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً. قال ابن القاسم: ويحجر على كل من لو كان في ولاء لم يعط ماله. وقال أشهب: لا يحجر إلا على البين أمره المبذر لماله ولا بحكم إمساكه. فرع: (اختلف في أفعال من يستحق الحجر إذا تصرف في ماله قبل الحجر. فقال ابن كنانة وابن نافع: تمضي. وقال ابن القاسم: تصرفه على الرد كالمحجور عليه. وقال مطرف وابن الماجشون: إذا كان سفهه قبل البلوغ ثم لم يأت عليه حال رشد كانت أفعاله مردودة، لأنه لم يزل في ولاء، وإن كان رشد ثم أحدث سفهاً كان فعله نافذاً، إلا أن يكون بيعة خديعة فباع ما يساوي ألفاً بمائة، فإنه يرده، وفرق بين هبته وبيعه). وحكى الإمام أبو عبد الله قولاً آخر فقال: ((وقيل يرد إن كان ظاهر السفه، ويمضي إن كان خفيه))، ثم قال: ((وكان المحققون من شيوخنا يختارون الرد، لأن السفيه المحجور

عليه يرد بيعه اتفاقاً (قال): فكأن المحققين من شيوخنا رأوا أن الرد من مقتضى السفه، فردوا أفعال المهمل)). ورأى بعض أصحاب مالك الرد من مقتضى الحجر، فأجازوا أفعاله إذ لا حجر عليه. قال: ((والأصح عند شيوخنا أنه من مقتضى السفه، لأن الحجر كان عن السفه، ولم يكن السفه عن الحجر، وإذا كان الحجر عن السفه ومن مقتضاه وجب أن يكون الرد في السفيه المحجور عليه لأجل السفه لا لأجل الحجر. وقال: وكان شيخي رحمه الله يقول: الدليل على أن السفه علة في رد الأفعال الاتفاق على رد أفعال الصغير والمجنون. وأن السفيه إذا ثبت رشده وجب تسليم ماله إليه، فدل ذلك على أن العلة وجود السفه)). قال (الإمام): ((وكذلك اختلف المذهب في المحجور عليه إذا رشد ولم يفك الحجر عنه، هل تمضي أفعاله وهو عكس السفيه المهمل)). قال: ((والنظر عند شيخنا يقتضي جواز أفعاله لوجود علة الجواز وهي الرشد، وارتفاع علة الرد وهي السفه)). قال: ((وهكذا يجري الاختلاف في المرتد إذا باع قبل الحجر عليه قياساً على السفيه المهمل)). ثم فائدة الحجر صرف استقلاله في التصرفات المالية كالبيع والشراء والهبة والإقرار بالدين، وسلب عمارته عند التوكيل. ويستثنى من ذلك وصية الصغير فإنها تنفذ إذا لم يخلط فيها. ويصح قبول المحجور عليه للهبة والوصية، ولا حجر عليه فيما لا يدخل تحت حجر الولي كالطلاق والظهار واستلحاق النسب ونفيه وإقراره بموجب العقوبات لأنه مكلف، والولي لا يتولى ذلك، فلا بد أن يتولاه بنفسه، ولا يقبل إقراره بإتلاف مال الغير. وولي الصبي أبوه، وعند عدمه الوصي أو وصيه، فإن لم يكن فالحاكم. ولا ولاية للجد ولا للأم ولا لغير من ذكرنا. ولا يتصرف الولي إلا على ما يقتضيه حسن النظر، ولا يبيع عقاره إلا لحاجة الإنفاق عليه أو لغبطة في الثمن أو لخشية سقوطه إن لم ينفق عليه من المال ما يكون معه بيعه وابتياع غيره بثمنه أفضل، أو لكونه في موضع حرب، أو يخشى انتقال العمارة من موضعه فيبيعه ويستبدل بثمنه في موضع أصلح منه.

ولا يستوفي الولي قصاصه ولا يعفوا عنه، ولا يعتق رقيقه، ولا يطلق نساءه إلا أن يكون بعوض على وجه النظر في غير البالغ من الذكور، أو يفعل ذلك الأب خاصة فيمن يجبر من الإناث، وفي مخالعته عمن لا يجبر (ممن تملك) أمرها خلاف، وكذلك في البائع السفيه على ما تقدم في كتاب الخلع. ولا يعفو عن حق شفعته إلا لمصلحة، ثم إذا تركها فليس للصبي الطلب بعد البلوغ. هذا حكم من حجر عليه لحق نفسه. أعني الصبي والمجنون والسفيه. فأما الباقون فالحجر عليهم لحق غيرهم، وقد مضي حكم المفلس منهم. فأما الرقيق فلساداتهم الحجر عليهم ومنعهم من التصرف في قليل أموالهم وكثيرها بمعاوضة وغيرها كانوا ممن يحفظها أو يضيعها. وأما المريض فمحجور عليه لحقوق ورثته إذا كان مرضه مخوفاً. ويلحق بالمريض من كان في معناه بحصوله في حالة يعظم الخوف عليه فيها كالزاحف (في) الصف والمحبوس للقتل والحامل إذا بلغت ستة أشهر، وفي راكب اللجة وقت الهول خلاف، تفصيله مذكور في الوصايا. وأما الزوجة مع الزوج فله منعها من التصرف فيما زاد على ثلثها بهبة أو صدقة أو عتق أو غير ذلك مما ليس بمعاوضة. قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجوز لامرأة أن تقضي في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها)) فرأى العلماء أن الثلث ذو بال، ولم تكون أسوأ حالاً من المريض. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة يملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذنه)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع)). فذكر المال، وذلك يفيد حقاً في تبقية المال بيدها،

ولأن العادة جارية بأن الزوج يتجمل بمال زوجته وله فيه معونة وترفيه، يبين ذلك أن مهر المثل يقل ويكثر بحسب قلة مالها وكثرته، كما يكثر ويقل بحسب بروزها في الجمال أو عدمه. وإذا ثبت ذلك (فليس) لها إبطال غرض الزوج مما لأجله رغب في نكاحها وحمل لأجله صداقها. فرعان: الأول: إذا تبرعت بأكثر من ثلث مالها، فقال ابن القاسم: ((هو جائز حتى يرده الزوج كعتق المديان))، ورواه. وقال مطرف وابن الماجشون: قد قال في الحديث: ((لا يجوز لامرأة)) فهو مردود في الأصل. قالا: وإذا قضت بأكثر من الثلث ولم يعلم الزوج بما فعلت حتى ماتت فذلك مردود. قالا: فأما إذا لم يعلم بما فعلت حتى تأيمت بموته أو طلاقه أو علم فرده، فلم تخرجه من ملكها حتى تأيمت فذلك نافذ عليها لانتفاء الضرر. وقال ابن القاسم: إن لم يعلم الزوج حتى تأيمت أو ماتت، فذلك ماض إلا أن يكون الزوج رده حين علم. وقال أصبغ: أقول بقوله في الموت، وأما في التأيم فيقول مطرف وابن الماجشون. وقال ابن حبيب بقولهما في كل شيء. (وقد) أجمعوا في التأيم واختلفوا في الموت. [الفرع] الثاني: إذا تبرعت بما زاد على ثلثها فالزوج بالخيار بين أن يجيز أو يرد جميعه. وقال المغيرة وابن الماجشون: يرد ما زاد على الثلث خاصة إذ هو المحجور عليها فيه كالمريض. قال ابن الماجشون: حاشا العتق، فإنها إذا زادت فيه على الثلث بطل جميعه لأنه لا يتبعض. ثم ليس لها التصرف في بقية المال الذي أخرجت ثلثه، ولها ذلك في مال آخر إن (طرأ) لها.

كتاب الصلح والتزاحم على الحقوق والتنازع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كتاب الصلح والتزاحم على الحقوق والتنازع وفيه (ثلاثة فصول) الفصل الأول: في الصلح. وهو ضربان: معاوضة كالبيع، فحكمه حكم البيع فيما يجوز ويمتنع، وإسقاط وإبراء. والصلح على الدين كبيع الدين، وإن صالح على بعضه فهو أبرأ عن البعض. ولو صالح من حال على مؤجل مثله أو أقل منه جاز، ولا يجوز على أكثر منه. وإن صالح من مؤجل على حلول بعضه وإسقاط بعضه لم يجز. وبالجملة، فهذا القسم من الصلح بيع، وحكمه حكم البيع في العين كان أو في الدين، ويقدر المدعى به والمقبوض كالعوضين فيما يجوز بينهما وما يمنع فتمتنع (الجهالة) والغرر والواحد باثنين من جنسه إلى أجل، والوضع على التعجيل وغيره مما يشبهه. فأما الصلح على ترك القيام بالعيب كمن اشترى سلعة ثم اطلع على عيب فصالح البائع على ألا يقوم به بشيء دفعه إليه فأصل ابن القاسم في المدفوع: الأخذ بالأحوط وصرف هذا الصلح إلى أنه استئناف مبايعة ثانية بعد تقدير كون الأولى قد انفسخت، فيعتبر ما يحل ويحرم

في المعاوضة الثانية، ويحذر فيه من بيع وسلف وفسخ دين في دين. وأصل أشهب: أن هذه المعاملة ليست بفسخ للعقد الأول تحقيقاً ولا تقديراً، وإنما هي معاوضة على ترك منازعة وإسقاط حق عن قيامه بالعيب، فيعتبر ما يجوز أخذه عوضاً عن الإسقاط. واختلافهم هذا يلاحظ أصلاً مختلفاً فيه في المذهب، وهو أن من خير بين شيئين هل يقدر أنه مالك لما يختاره قبل اختياره أم لا؟ فإن المتمسك بهذا العيب ملك أن يتمسك به وأن يرد، فهل يقدر أنه ملك الرد قبل اختياره فيكون الصلح على ما ملك في هذا العين أو لا يكون مالكاً إلا لما اختاره وهو التمسك. وبيان الأصلين بالتمثيل: أن من اشترى عبداً بمائة دينار مثلاً، ثم ظهر على عيب بعد النقد جاز أن يصالحه على الرد بكل شيء يدفعه إليه معجلاً، ويشترط فيما يدفعه من العين أن يكون من سكة الثمن لا من غيرها، فإنه على أصل ابن القاسم يقدر على أن المشتري رد بالعيب، ووجب له على البائع ارتجاع المائة، فإذا أخذ منه عرضاً أو طعاماً صار البائع كأنه دفع عن مائة وجب عليه ردها العبد وما دفع عن (العيب) من عرض أو طعام، وذلك جائز. ولو صالحه على دراهم كثيرة أكثر من صرف دينار نقداً، لم يجز على أصل ابن القاسم، لأنه بيع وصرف لا يجوز عنده إلا في ما قل. وأشهب يجيز ذلك، لأنه لا يمنع الصرف والبيع في عقد واحد، مع أنه لو منع ذلك لجازت المسألة على أصله أيضاً لكونه لا يرى الصلح معاوضة عن الثمن الذي قبضه البائع، وإنما يقدره معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب. ولو صالح على عشرة دنانير يدفعها للمشتري إلى شهر، لكان ممنوعاً عند ابن القاسم لأنه يقدر أن البائع فاسخ المشتري في البيع، ووجب رد المائة بأسرها، وأخذ عبده فقبل المشتري منه تسعين منها معاوضة على العبد الذي أبقاه المشتري في يده بشرط أن يؤخر البائع بالعشرة الباقية إلى أجل، فيصير هذا بيعاً للعبد بتسعين على أن يسلف المشتري البائع العشرة التي وجبت له معجلة فأخرها إلى أجل، وتأخيرها سلف للبائع، والبيع والسلف محرم، وإذا وقع هذا أجري على أحكام البيع والسلف. ومقتضى أصل أشهب جواز هذا لأن العشرة التي يدفعها البائع إلى شهر ليست معاوضة عن العبد، لكنها معاوضة عن إسقاط القيام، وذلك جائز. وكذلك لو صالحه على دراهم مؤجلة لجاز عند أشهب، ولم يره صوفاً متأخراً. ومنه عند ابن القاسم. ولو صالحه قبل النقد على دنانير فنقدها له لم يجز، لأنه أعطاه عبداً ودنانير في مائة دينار

يأخذها من المشتري، إلا أن يشترط المقاصة بها من الثمن فيجوز، وكأنه هضم بعض الثمن لأجل العيب. ولو صالحه البائع على تسعين ديناراً يأخذها منه وتبقى عشرة إلى أجل لانعكس حكم التفريع على المذهبين، فيجوز على أصل ابن القاسم لأنه يقدر أن البيع الأول قد انفسخ، وهذا عقد ثان على العبد بتسعين نقداً وعشرة مؤجلة. ولا يجوز على أصل أشهب، لأنه يرى أن العقد الأول على حاله لم ينحل، وإنما الصلح شراء الرد الذي وجب للمشتري، فصار البائع كأنه وجب له مائة دينار بحكم العقد الأول، فأخذ منها تسعين، وأخره بعشرة إلى أجل، (وجعل) التأخير عوضاً عن إسقاط قيام المشتري عليه بالعيب والتأخير سلف، فصار ذلك سلفاً جر نفعاً. وكذلك لو صالحه على تسعين ديناراً ودراهم يدفعها المشتري مؤجرة أو عرضاً مؤخراً لجاز على (أصل) ابن القاسم، ومنع على أصل أشهب، لأنه فسخ العشرة الباقية من المائة في عرض إلى أجل أو في دراهم إلى أجل. فأما حيث جرى الصلح على الإسقاط والإبراء، فهو وضع بعض الحق المدعى وإبراء منه، مثل أن يسقط بعض الحال ويأخذ باقيه. وتجوز المصالحة على ذهب من ورق، وبالعكس يشترط حلول الجميع وتعجيل القبض. والصلح على الإنكار جائز كالصلح على الإقرار، ويحل للمدعي ما يأخذه ويملكه إذا علم أنه مطالب بحق، إذ هو بعض ماله أو عوضه. والوضيعة في الصلح لازمة لا يجوز الرجوع (بها)، لأن ذمة الغريم قد برئت منها. وافتداء اليمين بشيء يبذله من لزمته جائز، فإن علم المبذول له أنه مطالب بغير حق لم يجز له أخذه. فرعان: الأول: إن من ادعى على رجل حقاً فأنكره فصالحه، ثم ثبت الحق بعد الصلح، فإن كان ثوبته بوجه واضح لا مخاصمة فيه كإقرار المطلوب بثبوت الحق الذي أنكره أولاً، فإن الصلح لا يلزم المقر له لأنه إنما التزمه كالمجبر عليه والمغلوب على حقه. قال سحنون: وله ألا ينقض الصلح ويتمادى عليه لأنه محض حقه. وإن ثبت ببينة لم يعلم بها حين

الفصل الثاني: في التزاحم على الحقوق

الصلح، ففي الكتاب: ((إن له القيام بها)). وفي رواية مطرف: أنه لا يقوم بها. فإن كانت البينة حاضرة حين الصلح، وهو عالم بها وقادر على القيام بها فالصلح له لازم، ولا قيام له بها إذا كان قد صرح بإسقاطها، فإن لم يصرح بإسقاطها فخرج المتأخرون فيها قولين من مسألة مستحلف خصمه مع علمه ببينته، وإن كانت بينته بعيدة، فإن كان شرط القيام بها متى حضرت وأعلم بذلك فلا يختلف المذهب في أن له القيام بها، وإن كان إنما أشهد سراً ففي انتفاعه به وتمكينه من القيام بها قولان. الفرع الثاني: قال سحنون فيمن أقر في السر وجحد في العلانية، وقال للمدعي: أخرني وأقر لك، فأشهد المدعي في السر أنه إنما يصالحه لأجل إنكاره، وأنه متى وجد بينة قام بها، فإن الصلح لا يلزمه إذا ثبت جحوده وثبت أصل الحق. قال: والظالم أحق أن يحمل عليه. الفصل الثاني: في التزاحم على الحقوق في الطرق والحيطان و [السقوف] وقد روى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع من طريق المسلمين أو أفنيتهم شبراً من الأرض طوقه الله يوم (القيامة) من سبع أرضين)). وقضى عمر بالأفنية لأرباب الدور. قال ابن حبيب: وتفسير هذا يعني بالانتفاع للمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة في الأفنية، وليس [بأن تحاز] بالبنيان والتحظير. ويجوز إخراج العساكر والرواشن والأجنحة على الحيطان إلى طرق المسلمين. قال سحنون في من له داران متقابلتان عن يمين الطريق ويساره فأراد أن يبني على جداري داريه (ساباطا) يتخذ عليه غرفة أو مجلساً: فذلك له، ولا يمنع من هذا أحد، (وإنما) يمنع من تضييق (السكة)، وأما ما لا ضرر فيه على السكة ولا على أحد من الناس فلا يمنع.

وليس لأحد أن يدخل شيئاً من طريق المسلمين في داره، فإن فعل هدم ما يضر بالمسلمين من ذلك، وفي هدم ما لا يضر خلاف. والسكة المنسدة الأسفل كالملك المشترك بين سكان السكة لا يجوز إشراع جناح إليها، ولا فتح باب جديد فيها إلا برضاهم. ولو فتح باب دار له أخرى إلى داره التي في السكة المنسدة ليرتفق به، لا ليجعله كالسكة (النافذة) للناس يدخلون من باب ويخرجون من آخر لجاز دون جعله كالسكة النافذة. أما فتح الكوة للضوء والرواح فلا يمنع، ولتكن بحيث لا يصلها المتطلع. وأما المتطلع على الجار فيمنع. وأما الجدار بين الدارين، فإن (كان) ملك أحدهما فلا يتصرف فيه الآخر إلا بإذن، فإن استعار لوضع جذعه لم تلزمه الإعارة وإن كان مندوباً إليها، فإن أعار فليس له أن يرجع عن ذلك إلا لحاجة تعرض له لجداره تلجئه إلى ذلك الأمر لم يرده به الضرر. وروي أنه ليس له أن ينتزعها طال الزمان أو قصر، احتاج إلى جداره أو استغنى عنه، مات أو عاش، باع أو ورث. ويلحق بعارية الجدار في الندب كل ارتفاق طلبه جاره منه مما يقف على إذن الجار ولا يضر به فعله من فتح باب أو إرفاق بناء أو مختلف في طريق أو فتح طريق وشبه ذلك. وأما [الجدار المشترك] بين الجارين، فلكل واحد منع صاحبع من الانتفاع دون رضاه، فإن تنازعا في قسمته أجبر عليها من أباها. وقال أصبغ: لا يقسم بينهما إلا عن تراض منهما. وإذا حزر بالتراضي أقرع على القسمين، فإذا طلب أحد الشريكين العمارة في ما لا ينقسم، قيل لمن أباها: إما أن تعم معه أو (تقاويه)، أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك من حقك بمقدار ما به يعمل باقي حقك، ولا يمنع شريكك من النفع بحظه بهذا الضرر. وأما ما ينقسم فيقسم بينهما. وعلى الجار أن يأذن لجاره في دخول داره لإصلاح حائطه أو طره. واختلف في الحائط بين الرجلين يحتاج إلى الإصلاح أو ينهدم، فيأبى أحدهما الإصلاح؟. قال سحنون: فمن أصحابنا من قال: يجبر عليه، ومنهم من قال: لا يجبر عليه، ويصلح من أراد في حقه. وإن هدمه أحدهما، فروى عيسى عن ابن القاسم: ((أن عليه أن يرده إن كان هدمه (على

الضرر، وإن كان هدمه) لإصلاح فعجز عنه، أو انهدم من غير أن يهدم فلا يجبر على بنيانه، ويقال للجار: استر (دارك) إن شئت)). وقال سحنون من رواية العتبي: ((يجبر على بنيانه كما كان)). وروى يحيى عن ابن القاسم ((أنه يجبر على بنيانه)) كان هو هادمه أو انهدم من غير هادم، إذا كان قوياً على بنيانه، (وإن) كان ضعيفاً عنه لم يجبر)). وإذا انهدم السفل والعلو، فلصاحب العلو إجبار صاحب السفل على أن يبني أو يبيع ممن يبني، حتى يبني رب العلو علوه، وكذلك أن يبيع ذلك من رجل على أن يبنيه فامتنع المشتري أيضاً من البناء أجبر أن يبني أو يبيع ممن يبني. وكذلك لو كان فرق العلو علو آخر لوجب على (صاحب) العلو الذي دونه البناء حتى يبني الأعلى. وإن اعتل السفل فإصلاحه على صاحبه، وعليه تعليق العلو حتى يصلح الأسفل لأن عليه أن يحمله على بنيان أو تعليق. وكذلك لو كان على العلو علو فتعليق الأعلى على صاحب الأوسط في إصلاح الأوسط، وعلى رب السفل الخشب والحديد. وقال أشهب: ((وعليه باب الدار)). قال ابن القاسم: ((والسلم بينهما على صاحب السفل إذا كان له علو إلى أن يبلغ به علوه، ثم على صاحب العلو الأعلى ما أدرك العلو الأول إلى علوه)). وقال الشيخ أبو محمد: ((وأعرف لبعض أصحابنا أن على أصحاب السفل بناء السلم إلى حد العلو، فإن كان عليه علو آخر فعلى صاحب العلو الأول من بناء السلم من حد علوه إلى أن يبلغ به سقف علوه الذي عليه علو الآخر)). ومن له حق إجراء الماء على سطح عيره فالنفقة على السطح على مالكه دون من له حق المسيل (والسقف) الحائل بين السفل والعلو لصاحب السفل، ويجوز لصاحب العلو

الفصل الثالث: في التنازع

الجلولس عليه إذ له حق الانتفاع به. ويجوز بيع حق الهواء (لإشراع) جناح من غير أصل يعتمده البناء، ويجوز بيع حق مسيل الماء ومجراه، وحق الممر، وكل الحقوق المقصودة على التأبيد. وإذا كان لرجل سفل دار ولآخر علوها، فقال أشهب وابن عبد الحكم على صاحب (السفل) كنس مرحاض السفل دون صاحب العلو وإن كان لصاحب العلو حق الانتفاع به. وقال ابن وهب وأصبغ: كنسه عليهما على عدد الجماجم. وليس لصاحب العلو أن يزيد في بنيان العلو شيئاً، ولا له أن يرفعه. وإذا كانت الرحى بين أشراك فانهدمت فأقامها أحدهم إذ أبى الباقون موافقته وعادت إلى حد الغلة، فقال ابن القاسم: الغلة كلها للذي أقامها، وعليه لأصحابه أجرة أنصبائهم خراباً. وقال ابن الماجشون: الغلة بينهم على الأنصباء، ويستوفي المنفق من أنصبائهم ما أنفق. قال ابن دينار وابن وهب: يكون شريكاً بما زاد عمله مع جزئه المتقدم في غلة الرحى، ويكون له أجر ما أقام في حصص أصحابه. قال عيسى: وتفسير ذلك أن تقوم الرحى غير معمولة فيقال عشرة، وتقوم بعد العمل فيقال: خمسة عشر، فيكون ثلث الغلة للعامل وثلثاها بينه وبين شريكه، وعلى الذي يعمل ما ينوبه من أجر العمل في قيامه بغلتها، ثم (إذا) أراد الذي لم يعمل أن يدخل مع الذي يعمل في الرحى أعطاه ما ينوبه من قيمة ذلك يوم يدفع ذلك إليه. وقال يحيى بن يحيى مثل ذلك كله. قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول مثل ذلك. الفصل الثالث: في التنازع، وفيه ثلاث مسائل: الأولى: إذا ادعى رجل على رجلين داراً، فكذبه أحدهما وصدقه الآخر فصالحه المصدق على مال، فأراد المكذب الأخذ بالشفعة فله ذلك. الثانية: تنازعا جداراً حائلاً بين مليكهما، فصاحب اليد منهما من كان إليه وجه الجدار أو الطاقات ومعاقد القمط، (أو) كان له عليه جذوع دون صاحبه. فإن لم يكن إلى أحدهما

شيء من ذلك، أو كان إليهما جميعاً فهو بينهما لأنه في أيديهما. وكذا راكب الدابة مع المتعلق بلجامها، الراكب مختص باليد. وكذا لو تنازع صاحب العلو وصاحب السفل في السقف لكانت اليد لصاحب السفل، لأنه على ملكه كالحمل على الدابة يدعيه مالكها وأجنبي، ولأن البيت إنما يكون بيتاً بسقفه، وأن الناس لا يسكنونه إلا مسقفاً. الثالثة: سفل الدار بيد رجل وعلوها بيد آخر، وطريقه في ساحة السفل، فادعى كل (واحد) أن الدار له، فقال أشهب: الدار كلها لصاحب السفل إلا العلة وطريقه فهو لصاحب العلو، بعد أيمانهما أو نكولهما، فإن نكل أحدهما قضي للحالف منهما.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة ومعناها: تحويل الدين من ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى، ما لم يكن غرور من عيب الثانية وتشتغل الثانية. وهي معاملة صحيحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)). رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ورواه سفيان الثوري بالإسناد المذكور أيضاً. وقال فيه: وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل)). والنظر في شرائطها وحكمها. أما الشرائط فثلاثة: الشرط الأول: رضى المستحق للدين والمستحق عليه، وهما المحيل والمحال. أما المحال عليه فلا يشترط رضاه، لأنه (محل) التصرف. ويشترط أن يكون على المحال عليه ديناً. وقال ابن الماجشون: لا يشترط. فتكون حقيقتها عنده تجويز الضمان بشرط براءة الأصل. ويلزمه على قوله هذا، أن يعتبر رضا المحال عليه في هذه الحوالة، بل لا يتصور إلا كذلك. ويتفرع على خلافهما ما إذا أحاله على من ليس له عليه دين، فأعدم المحال عليه، فإنه يرجع على المحيل على قول ابن القاسم، ولا يرجع (عليه) على قول ابن الماجشون إلا أن يعلم أنه لا شيء له عليه، ويشترط عليه براءة من الدين فيلزمه، ولا رجوع له عليه على القولين جميعاً.

الشرط الثاني: أن يكون الدين المحال به حالا

الشرط الثاني: أن يكون الدين المحال به حالاً. ولا يشترط حلول الدين المحال عليه. وتصلح الحوالة على نجوم الكتابة إن كانت الكتابة حالة، ولم يشترط غير ابن القاسم حلولها، وكذلك الحوالة بالنجوم اشترط ابن القاسم حلولها أيضاً، ولم يشترطه غيره. فرع: لو أحال المكاتب سيده على مكاتبه، جاز بشرط بت السيد عتق الأعلى عند ابن القاسم. وقال بعض المتأخرين: لا يحتاج إلى شرط التعجيل، ثم إن عجز الأسفل كان رقاً للسيد، لأن الحوالة كالبيع. الشرط الثالث: أن يكون ما على المحكال عليه مجانساً لما على المحيل قدراً ووصفاً. فإن كان بينهما تفاوت في أدائه عنه إلى المعاوضة أو إلى الرضا دون المعاوضة لم يجز، وإن لم يفتقر، بل كان مما يجبر على قبوله جاز، كأداء الجيد عن الرديء، فيتحول عن الأعلى إلى الأدنى. وكذلك إن تحول عن الأكثر إلى الأقل. أما حكمها فبراءة المحيل من دين المحال، وتحول الحق، إلى المحال عليه، وبراءة ذمة المحال عليه عن دين المحيل. فلو أفلس المحال عليه أو جحد لم يكن للمحال الرجوع على المحيل إذا حصلت البراءة مطلقة، إلا أن يكون الإفلاس مقترناً بالحوالة وهو جاهل به مع علم المحيل به. ولو أحال البائع على المشتري بثمن مبيع ثم رد عليه المبيع بعيب أو استحق، ففي انفساخ الحوالة قولان مشهوران: فأشهب يفسخها بناء، على أن الحوالة ليست كالبيع. وابن القاسم يمضيها، تقديراً لها كالبيع. والحوالة مترددة بين مشابهة المعروف والاعتياض. التفريع: إن قلنا: لا تنفسخ، لم يسقط حق المحال وطلبه على المشتري إن كان لم يقبض منه ثمن السلعة الذي أحيل به عليه. وإن قلنا بالفسخ، استرجع المحال عليه من المحال ما قبضه منه، ثم رجع المحال بالمسترجع منه على البائع. قال الإمام أبو عبد الله: ((ومذهب أشهب هو اختيار محمد وغيره من الأشياخ المحققين)). فرع في التنازع: وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: إذا جرى لفظ الحوالة وتنازعا

المسألة الأولى: إذا جرى لفظ الحوالة وتنازعا، فقال (أحدهما): أردنا به الحوالة، وقال الآخر: بل الوكالة. فقيل: القول قول مدعي الحوالة، نظراً إلى مقتضى اللفظ. (وقيل): قول مدعي الوكالة، نظراً إلى تصديق من يدعي إرادة نفسه ونيته، إذ هو أعلم بذلك. وقال ابن الماجشون في المبسوط فيمن تحول بدين له على رجل آخر، (فقال المحيل): ادفعه إلي، لأني إنما وكلتك في قبضه وتسليمه إلي، وقال المحال: بل كنت استحققته عليك ديناً قبل الحوالة، إن المدعي لكونه حوالة إذا ادعى من ذلك ما يشبه صدق، وإلا كان القول قول المحيل. وقال ابن القاسم في العتبية فيمن أحال رجلاً بدين له على رجل آخر فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي ليكون ذلك سلفاً عندم ترده إلي وقال القابض: أخذته (عوضاً) عن دين كان لي عليك: إن القول قول المحيل مع أنه ادعى أن هذه الحوالة كانت على غير دين يستحقه المحال). قال الإمام أبو عبد الله: ((إذا تقرر هذا فإن قضى القاضي بأن القول قول المحال: إنني قبضت ما استحق، فلا تفريع على هذا المذهب. وإن حكم بأن القول قول المحيل فهل للمحال أن يرجع عليه؟ (هذا مما) اختلف فيه العلماء. ثم حكى قولين في نفي الرجوع وإثباته، وعلل النفي بأنه معترف ببراءة ذمة المحيل بالحوالة وانتقال الاستحقاق إلى ذمة المحال عليه، وعلل إثبات الرجوع بأن غاية قول المحيل إقرار للمحال وهو يكذبه). ثم قال الإمام: ((وعندي أن وجه هذا القول يلتفت إلى النظر فيمن كان له حق على رجل فجحده إياه، ثم عثر المجحود له الحق على مال للجاحد وصار في يده، هل له أن يأخذه قضاء عن حقه المجحود أم لا؟ فإن المحال يقول: إني، وإن اعترفت ببراءة ذمة المحيل من ديني فقد

المسألة الثانية: إذا لم يجر لفظ الحوالة

ظلمني في أخذ الدين الذي أبرأته بسببه، فإذا أقر لي بشيء أخذته عوضاً عما ظلمني فيه، وإن كنت أنا لا أستحق عليه ولكنني استحقه عوضاً عما غصبني إياه وجحدني فيه)). المسألة الثانية: إذا لم يجر لفظ الحوالة، ولكن أتى بلفظ يحتمل أن يراد به الحوالة، ويحتمل أن يراد به الوكالة، كما إذا قال من عليه الدين لمن هو له (عليه): خذ الدين الذي لك علي من الدين الذي لي على فلان، ففلس فلان، فقال ابن القاسم: للمحال أن يرجع على المحيل، ويقول له: إنما طلبته نيابة عنك لا على أنها حوالة أبرأتك بها.

كتاب الضمان

كتاب الضمان وهو الحمالة. ومعناها: شغل ذمة أخرى بالحق. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي خمسة: الركن الأول: المضمون عنه: ولا يشترط رضاه، لأنه يجوز لغيره أن يؤدي دينه بغير إذنه، ويصح الضمان عن الميت والمفلس. الركن الثاني: المضمون له. ولا يشترط معرفته، بل لو مات من عليه (ديون) لا يدري (لمن) هي، وترك مالاً لا يدري كم هو، فتحمل بعض ورثته لجميع دينه إلى أجل على أن يخلى بينه وبين ماله على أنه مهما فضل كان بينه وبين سائر الورثة على فرائض الله تعالى، وما نقص فعليه، فذلك جائز لأنه منه على وجه المعروف، وطلب الخير للميت والورثة، كان الذي تحمل به عن الميت نقداً أو إلى أجل. ثم إن طرأ غريم لم يعلم به الابن فعليه أن يغرم (له)، ولا ينفعه قوله: لم أعلم به، وإنما تحملت بما علمت.

الركن الثالث: الضامن. ويشترط فيه صحة العبارة وأهلية التبرع. ويصح ضمان الزوجة دون إذن الزوج في الثلث فدون. ولا (يصح) ضمان عبد، مأذون ولا غير مأذون، ولا مدبر، ولا مكاتب، ولا أم ولد، بغير إذن السيد، فإن أذن السيد جاز، إلا في المأذون إذا كان مدياناً قد أحاط الدين به. وقيل في المكاتب: لا يجوز فيه، وإن أجازه لأن داعية إلى رقه. وما رده السيد من ذلك لم يلزمهم وإن اعتقوا، فإن لم يرد ذلك حتى عتقوا لزمهم. الركن الرابع: المضمون. وشرطه أن يكون حقاً يمكن استيفاؤه من الضامن، أو ما يتضمن ذلك كالكفالة بالوجه لمن عليه مال، وأن يكون ثابتاً مستقراً، أو مآله إلى ذلك، ((فلا تصح الحمالة بالكتابة، لأنها ليست بدين ثابت مستقر، ولا تؤول إلى ذلك، ولأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة)). ولا يجوز ضمان الجعل في الجعالة إلا بعد العمل. ويجوز ضمان إبل الدية، كما يجوز الإبراء عنها. وتجوز كفالة البدن، ممن وجب عليه الحق، وممن ادعى عليه، وإن لم تقم عليه البينة بالدين، إذ الحضور مستحق عليه. ومعناها: التزام إحضاره وما اتبعت بعينه لم يجز أن تأخذ به كفيلاً، كان حاضراً أو غائباً، على صفة قريب الغيبة أو بعيدها، كما لا يجوز للبائع ضمان مثله أن هلك، ويخرج الكفيل عن العهدة في ضمان البدن بتسليمه في المكان الذي شرطه، وإن كان عديماً، أراده المستحق أو أباه، إلا أن يكون دونه يد غالبة مانعة، فلا يكون تسليماً، ويلزمه اتباعه في غيبته إن عرف مكانه، فإن هرب أو اختفى لزمه غرم المال، إلا أن يقول: لست من المال في شيء. وقيل: لا يلزمه شيء. وإن مات المتكفل به لم يلزم الكفيل شيء، شرط أو لم يشرط. وروي عن ابن القاسم في غير الكتاب: ((أنه يضمن إن مات الغريم، والحق حال، إذا

مات غائباً بغير البلد)). وقال أشهب: لا يضمن شيئاً إذا مات الغريم، مات بالبلد أو بغيره. قال ابن القاسم: ((وإن كانت حمالة مؤجلة فمات بغير البلد، فإن كان موته قبل الأجل بأيام كثيرة لو خرج وراءه لجاء به قبل الأجل، فلا حمالة له عليه، ولا شيء عليه. وإن كان لو طلب فخرج لم يأت به إلا بعد الأجل فهو ضامن)). ثم قال عنه عيسى: ((وإذا مات بعد الأجل ضمن، قربت الغيبة أو بعدت. قال ابن القاسم: وإن كنت قلت غير هذا فأطرحوه)). فروع: الأول: ((قال ابن وهب: وإذا (غاب) الغريم قضى على حميل الوجه بالغرم، ولا يضرب له أجل ليطلبه. وقال أصبغ: يضرب له أجل خفيف في قريب الغيبة، كقول ابن القاسم)) الفرع الثاني: إذا أخذ بالغرم، فلم يقض عليه به حتى أحضره برئ، ولو كان قد حكم عليه بالمال بعد التلوم للزمه. وقال سحنون: إن لم يغرم حتى أحضره برئ. الفرع الثالث: إذا غرم بالحكم، ثم أصاب بينة بموت الغريم قبل الحكم رجع بما أدى على الطالب، وسقطت الحمالة. وإذا أخذ من الكفيل كفيل لزمه ما لزم الكفيل. قال غيره: وكذلك إن أخذ من كفيل بالوجه كفيل بوجهه. ولو حضر المكفول بنفسه، وأشهد: إني قد دفعت نفسي إليك براءة للحميل، لم يبرأ بذلك الحميل، وإن كان بموضع تنفذ فيه الأحكام حتى يرفعه الحميل بنفسه أو وكيله إلى الطالب، أو يوكله الحميل بذلك، فإن لم يفعل الطالب أشهد عليه، وكان له ذلك براءة. ولو دفعه إليه في السجن في دم أو دين أو غيره برئ، ويكفيه أن يقول: قد برئت [إليك] منه، وهو في السجن فشأنك به. ولا يشترط كون الدين معلوماً ولا متقدم الوجوب، بل لو كان قال لرجل: داين فلاناً وأنا ضامن لما تعطيه جاز ذلك، ولزمه ضمان ما يداين به مثله: وذلك مبني على أصول ثلاثة:

الباب الثاني: في حكم الضمان الصحيح

جواز ضمان الحق قبل وجوبه، وجواز ضمان المجهول: وحمل الإطلاقة (في) ذلك على العادة دون ما يخرج عنها. الركن الخامس: الصيغة. وهي قوله: تحملت أو تكلفت أو ضمنت، وكل ما ينبني على اللزوم كقوله: أنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي، فذلك كله حمالة لازمة، إن أراد الوجه لزمه أو المال لزمه ما شرط. وشرط الأجل في ضمان المال الحال جائز، إن كان الغريم موسراً بجملة الحق أو معسراً به، إذا أخره إلى أجل يرى أنه يوسر إليه أو لا يوسر، وإن كان مما يرى أنه يوسر في مثله فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب. وإن كان موسراً بالبعض، فدفع الحميل ليؤخره بالجميع لم يجز، ويجوز على أن يؤخره بما هو معسر به، ويقضيه ما هو موسر به. وكذلك إن كان بما هو موسر به خاصة ليؤخره به. ولو ضمن المؤجل حالاً جاز إن كان الدين عيناً أو عرضاً من قرض، ولو كان من بيع لجاز أيضاً، إلا إذا قصد إسقاط الضمان. ولو علق الضمان بالموت لم يلزمه شيء إلا بعد الموت. ولو علقه بعدم الوفاء من الأصيل تلوم السلطان له، ثم ألزمه المال، إلا أن يكون حاضراً ملياً. ولو تكفل بعضو من بدنه فقال بعينه أو بوجهه، فهي كفالة بالبدن. ولو قال: أنا حميل بطلبه، أو على أن أطلب، فليس عليه سوى ذلك، فإن أعجزه أو غاب عنه إلى موضع بعيد وليس من شأنه السفر إلى مثله لم يكن عليه شيء. ولو قال: أنا حميل لك ولم يذكر وجهاً ولا مالاً جاز، فإن قال بعد ذلك: إنما أردت الكفالة بالوجه، كان القول قوله. وقيل: قول خصمه. الباب الثاني: في حكم الضمان الصحيح، وله أحكام: الأول: تجدد مطالبة الكفيل. وله أن يطالبه من غير انقطاع الطلبة عن المضمون عنه، وهو حاضر مليء فيتخير في طلب أيهما شاء، على الرواية الأولى. وأما على الرواية الأخيرة وهي رواية ابن القاسم في الكتاب فلا يؤخذ الحميل بالغرم إذا كان عليه الدين حاضراً ملياً. وإنما يغرم إذا غاب أو فلس، ورأى فيها الكفالة توثقه كالرهن.

ولو كان غائباً ملياً أو حاضراً مدياناً يخاف إن قام عليه المخاصة، قال غير ابن القاسم: أو ملداً ظالماً، فله اتباع الحميل، إلا أن يكون للغائب مال حاضر يعدي فيه، فلا يتبع الضامن. وقال غيره: ما لم يكن في تثيبت ذلك بعد فيؤخذ من الحميل. ومهما أبرأ الأصيل برئ الكفيل، ولا يبرأ الأصيل بإبراء الكفيل. فرع: فإن كان الدين مؤجلاً، فمات الأصيل تعجل الطالب حقه من ماله. فإن لم يدع مالاً لم يطلب الكفيل به، حتى يحل الأجل. ولو مات ملياً والطالب وارثه، برئ الحميل، لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع بمثله عليه في تركة الميت وهي في يديه، فصارت كمقاصة. وإن مات معدماً ضمن الكفيل. وإن مات الكفيل قبل الأجل فللطالب تعجيل الدين من تركته، ثم لا رجوع لورثته على الغريم حتى يحل الأجل، أو يموت فيرجع في تركته، وله محاصة غرماء الحميل أيضاً. وروى ابن وهب أنه يؤخذ من تركة الحميل ويوقف إلى الأجل، فإن كان الأصيل يومئذ ملياً رجع ذلك إلى ورثة الكفيل، وإن كان عديماً أخذ الغريم. قال يحيى: هذه رواية سوء. وقالها عبد الملك. وقال أشهب مثل قول ابن القاسم، وروايته. الحكم الثاني: إن للكفيل إجبار الأصيل على تخليصه إذا طولب، وليس له ذلك قبل أن يطالب. ولا يلزم تسليم المال إليه ليؤديه، إذ لو هلك لكان من الأصيل. الحكم الثالث: الرجوع. ومن أدى دين غيره رجع عليه، كان الأداء بإذنه أو بغير إذنه. هذا إذا كان الدين لازماً للغير لا بد له من أدائه، وكان قصد الدافع بذلك فعل الخير والرجوع به، فإن فعل ذلك ليتسلط عليه أو ليحبسه لعداوة بينهما أو لغير ذلك من الأمور الشبيهة بهذا لم تكن له مطالبته ولم يمكن منه. ولو دفع عنه على وجه الحسبة لم يرجع عليه بشيء. وحيث ادعى قصد الرجوع فالقول قوله، إلا أن يظهر خلاف ذلك، كما لو تحمل عن ميت مفلس يعتقد فلسه ثم ظهر له مال أو نحو ذلك. فرع: إذا صالح الكفيل رجع بالأقل من الدين أو قيمة ما صالح به، وكذلك لو سومح بحط قدر من الدين أو صفة لم يرجع إلا بما بذل. هذا كله إذا أشهد المصالح على الأداء عن الغريم، فإن قصر في الإشهاد ولم يصدق لم يرجع (وإن صدقه) المضمون عنه، ويرجع إن صدقة المضمون له، لأن إقراره أقوى من البينة مع إنكاره، فإن أشهد رجلاً وامرأتين رجع، وكذلك في شاهد (واحد) يحلف معه.

الباب الثالث: في حمالة الجماعة بعضهم عن بعض وتراجعهم.

وبالجملة: فكل ما أثبت الوفاء أثبت الرجوع. الباب الثالث: في حمالة الجماعة بعضهم عن بعض وتراجعهم. ومقصوده: (بيان) رجوع بعضهم على بعض. وعقده: أن من غرم ثم لقي غيره أخذه بحصته من الدين، ثم أخذ منه شطر ما بقي على من بقي، إذ هو شريكه في الحمالة عنه، ثم إن لقي الثاني ثالثاً أخذه بما ينوبه مما بقي من الدين، ثم بنصف ما بقي بعد ذلك لشركته له في الحمالة عمن بقي، وحيث لقي أحدهم من ساواه في الغرم بالدين والحمالة لم يأخذ منه شيئاً، وإن كان أدى بالحمالة أكثر مما إذا رجع عليه بنصف الزائد. وهكذا أبداً حتى يستووا في الغرم. ولنمثل بمسألة الكتاب وهي: إذا اشترى ستة نفر سلعة بستمائة درهم، على أن بعضهم حميل عن بعض، وشرط أن يأخذ منهم من شاء بجميع حقه، فلقي البائع أحد الستة فأخذه منه جميع المال، ثم لقي الغارم أحد الخمسة الباقين أخذه بنصيبه من الدين، وهو مائة، وبنصيبه من الحمالة بما بقي بعد حصتهما (وهو) أربعمائة، وذلك مائتان إذ هي بينهما، فإن لقي أحدهما ثالثاً أخذه بما أدى عنه، وهو ما يخصه من المائتين اللتين أداهما بالحمالة وذلك خمسون، ثم يأخذ بنصف المائة والخمسين الباقية لأنهما حميلان بها، ثم إن لقي الثالث رابعاً أخذه بالخمسة والعشرين التي أداها عنه بالحمالة، ثم بنصف الخمسين الباقية لأنهما حميلان بها، فإن لقي الرابع خامساً أخذه باثني عشر درهماً ونصف درهم، وهي التي أدى عنه بالحمالة، ثم يأخذ منه نصف ما بقي، وهو اثنا عشر درهماً ونصف لأنهما حميلان بها، فإن لقي الخامس السادس أخذه بستة وربع، وهي التي أدى عنه بالحمالة، فإن لقي الأول هذا السادس أخذه بخمسين وهي التي تنوبه، لأن الباقي له مائتان على أربعة، هذا أحدهم، ثم أخذه بنصف ما بقي على الثلاثة، إذ هو (شريكه) في الحمالة عنهم، ثم على هذا السبيل يجري الحكم في لقاء بعضهم لبعض.

كتاب الشركة

كتاب الشركة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي ثلاثة: الأول: العاقدان: ولا يشترط فيهما إلا أهلية التوكيل والتوكل. فإن كل واحد متصرف لنفسه ولصاحبه بإذنه. الثاني: الصيغة الدالة على الإذن في التصرف، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على ذلك، ويكفي قولهما: اشتركنا، إذا كان يفهم المقصود [منه] عرفاً. الثالث: المحل، وهو المال أو الأعمال. (فأما المال) فعقد الشركة فيه بيع من البيوع، لأن كل واحد منهما باع نصف متاعه بنصف متاع صاحبه، وهو بيع لا يقع فيه مناجزة لبقاء يد كل واحد منهما على ماله بسبب الشركة، لكن الإجماع منعقد على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الجانبين، أو الدراهم من كليهما، وهو إجماع على غير قياس. وفي القياس عليه خلاف، وأجازه ابن القاسم. وقال بجواز الشركة بالطعامين إذا اتفقا في الكيل والصفة قياساً على الدنانير. ومنع ذلك في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، وفي الطعامين المختلفين.

وأما الشركة بالعرضين من صنف واحد فهي جائزة قولاً واحداً، ومنع مالك من الشركة بالطعامين من صنف واحد في إحدى الروايتين عنه، واختلف في تعليل ذلك، فقيل: إنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه، وقيل: لبعد الاستواء في الكيل والقيمة جميعاً. ويشترط في الذهبين، أن يكونا متفقي الصرف، وإن اختلفت سكتاهما. ولا يضر اختلاف العرضين، وفي الجنس ولا في القيمة، ورأس مال كل واحد منهما ما قوم به عرضه. ولو وقعت الشركة بالعرضين فاسدة لكان رأس مال كل واحد منهما ما بيع به عرضه. وتصح الشركة عند حضور المالين، وفي صحته مع غيبته أحدهما خلاف. وكذلك الخلاف في الشركة بالعرض من جانب والعين من جانب على حسب قيمة العرض، لكن المشهور ها هنا الجواز. ولا بد من خلط المالين مشاهدة أو حكماً، بأن يكونا في صندوق واحد (أو خرج واحد، وأيديهما عليه، أو يجمعا تحت يد أحدهما أو يشتريا بهما). أما الأعمال فتجوز الشركة فيها، بشرط اتحاد العمل والمكان. وقيل: لا يشترط اتحاد المكان. ومهما احتاجا إليه من أداة كانت بينهما بالنسبة، وإن كانت لأحدهما، فله على الآخر حصته من أجرتها، إلا أن يتطوع ربها بها، وتكون تافهة فيجوز. وكذلك إن كان بعض الآلات من عند أحدهما وبعضها من عند الآخر، إذا تساويا في الأجرة. ولا تصح شركة الوجوه، وهو في تفسير بعض أهل العلم: أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ليكون له بعضه. وقال القاضي أبو محمد في تفسير شركة الوجوه: ((هي مثال أن يشتركا على الذمم بغير مال ولا صنعة، حتى إذا اشتريا شيئاً كان في ذمتهما، وإذا باعاه اقتسما ربحه، (والشركتان) على الصورتين (باطلة).

الباب الثاني: في أحكامها

الباب الثاني: في أحكامها، وهي خمسة: الحكم الأول: تسلط كا واحد منهما على التصرف، إما بأن يكون العمل منهما جميعاً ولا يستبد أحدهما دون الآخر، وتسمى شركة العنان، وإما بإطلاق كل واحد منهما للآخر التصرف، غاب صاحبه أو حضر في البيع والشراء والضمان والكفالة والتوكيل والقراض، فما فعل أحدهما من ذلك لزم الآخر إذا كان عائداً إلى تجارتهما. ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما دون ما يتفرد به كل واحد من ماله. وسواء كانا شريكين في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما وتكون يد كل واحد منهما كيد صاحبه، وتصرفه كتصرفه، ما لم يتبرع فلا يلزم شريكه، إلا أن يكون شيئاً يسيراً يقصد به الاستيلاف، ويكون نظراً للتجارة، فيجوز (عليهما)، وتسمى شركة المفاوضة. الحكم الثاني: (في) توزيع الربح، وهو في شركة الأموال تابع لها، فيقسم على قدر رؤوس الأموال من مساواة أو مفاضلة، وليكن العمل التابع للمال على نسبته. فإن وقعت الشركة على التفاضل بين الأرباح وبين الأعمال ورؤوس الأموال سقط الشرط وفسد العقد، وكان الرابح والخسران على قدر رؤوس الأموال، ولزم التراد في العمل، فيرجع من قل رأس ماله على صاحبه بأجرة المثل في نصف الزيادة لأنه عقد جائز. فلو فضل أحدهما الآخر في قيمة ما يخرجه فإنما يسمح بذلك رجاء بقائه على الشركة معه، وذلك لا يلزم فيصير غرراً. وقيل: لأنه من باب الخطار والقمار. فعلى تقدير وجود الربح يغبن صاحب المال القليل، وعلى تقدير عدمه بغبنه صاحب المال الكثير فيمنع لذلك.

الباب الثالث: في النزاع

الحكم الثالث: تأمين كل واحد منهما، فيكون القول قوله أيضاً فيما يدعيه من تلف أو خسران ما لم يظهر كذبه. فإن اتهم استحلف، فلو قال: ابتعت سلعة وهلكت، صدق والقول قوله في ما اشترى، قصد به نفسه أو مال الشركة، فإن قال: كان هذا المال من مال الشركة فخلص لي بالقسمة، فالقول قول شريكه في إنكار القسمة. الحكم الرابع: إلغاء نفقتهما، كانا في بلد أو [في] بلدين وإن اختلفت الأسعار فيهما. وقيل: ذلك إذا كانا في غير أوطانهما، كانا ذوي عيال أو لا عيال لهما، فإن كان لأحدهما عيال وولد دون الآخر حسب كل واحد نفقته. وما ابتاع أحدهما مما يلغى من طعام أو كسوة له أو لعياله، فللبائع أن يتبع الثمن أيهما شاء، إلا ما لا يبتذل من الكسوة، كوشي أو قصبي ونحوه، فهذا لا يغلى. الحكم الخامس: انقطاع التصرف بموت أحدهما إلا بإذن وارثه لانقطاع الشركة بموته. الباب الثالث: في النزاع، وفيه فصلان: الفصل الأول: في النزاع بين الشريكين. والأصل في المتفاوضين أن جميع ما بأيديهما على ما تشهد به البينة من الأجزاء، فإن لم تعين جزءاً حمل على النصف، حتى يثبت خلافه. فلو تنازعا شيئاً بيد أحدهما، فقال صاحب اليد: هو لي؛ وقال شريكه: بل هو للمال الشركة؛ كان القول قول مدعي الشركة فيه، حتى يقيم صاحب اليد بينة أنه له، بإرث أو هبة أو صدقة عليه، أو كان له قبل التفاوض ولم يفاوض عليه، فيكون له حينئذ خاصة؛ والمفاوضة في ما سواه قائمة. ولو ابتاع أحدهما عبداً معيباً فكرهه الآخر [لزمهما]، وكذلك لو رد أحدهما عبداً معيباً ورضيه الآخر لزمهما جميعاً، كابتداء شراء عبد معيب. ولو اشترى أحدهما من المال جارية لنفسه وأشهد على ذلك، خير شريكه بين أن يجيز له ذلك أو يردها في الشركة، ومن فعل ذلك منهما فهو كمقارض أو مبضع معه إذا تعدى في الشراء، لا كمودع. ولو وطئ أحدهما جارية من مال الشركة، فقال ابن القاسم: ((يخير الشريك بين التقويم وبقائها بينهما)). وقال محمد: يتقاومان، إذا أراد الوطء.

الفصل الثاني: في نزاعهما مع غيرهما

(فأما إذا وطئ) أحدهما فقد لزمته القيمة إن شاء شريكه. وأما إن حملت فلا بد من القيمة، شاء شريكه أو أبى. وليس لأحدهما الدخول مع الآخر فيما اشتراه لأهله من مؤونة أو كسوة وعليه دخلاً. ولكل واحد منهما أن يبيع ويبتاع بالدين. ولا كلام للآخر في ذلك ما لم يحظر عليه. الفصل الثاني: في نزاعهما مع غيرهما ومهما قضى الغريم أحدهما برئ وإن كان غير الذي عامله، وكذلك إذا رد له ما أودعه شريكه من مال الشركة. وللبائع أن يتبع أيهما شاء بالثمن أو بالقيمة في (فوت) البيع الفاسد، وله ذلك وإن افترقا قبل حلول أجل دينه عليهما إذا حل يتبع أيهما شاء، من عامله أو غيره، ولإن قضى أحدهما بعد الافتراق، وهو عالم به، لم يبرأ من حصة الآخر، ولو لم يكن عالماً لبرئ منهما جميعاً. ولو ابتاع من أحدهما عبداً، فظهر على عيب قديم، فله الرد بالعيب على الآخر، إن كان الذي باع منه غائباً بعيد الغيبة، بعد البينة أنه ابتاع منه بيع الإسلام، وعهدته. قال أبو بكر بن اللباد: وأنه نقده الثمن. وإن كانت غيبته قريبة لانتظر، لعل أن تكون له حجة. ولو أقر أحدهما بعد الافتراق بدين لزمهما في أموالهما، عند سحنون. ولزم المقر حصته عند ابن القاسم. ولو أقام الحي منهما بينة أن مائة من المال كانت بيد الميت فلم توجد، ولا علم مسقطها، فإن قرب موته قبضها بحيث لا يظن به إشغالها في المال فهي في صحته، وإن تطاول ما بين قبضه لها وموته فلا تلزمه. قال محمد: ولو أشهد شاهدين على نفسه بأخذه المائة لم يبرأ منها إلا بشاهدين أنه ردها، طال ذلك أو قصر. وأما إن كان إقراراً من غير قصد الإشهاد، فكما ذكر ابن القاسم من طول المدة وقصرها.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي أربعة: الركن الأول: ما فيه التوكيل، وله شرطان: الشرط الأول: أن يكون قابلاً للنيابة، وهو ما يلا يتعين لحكمه مباشرة، كأنواع البيع والحوالة والكفالة والشركة والوكالة والمضاربة والجعالة والمساقاة والنكاح والطلاق والخلع والصلح وسائر العقود والفسوخ. ولا يجوز التوكيل في العبادات، إلا في المالية منها كأداء الزكاة، وفي الحج على خلاف فيه. ولا يجوز في المعاصي كالسرقة والغصب والقتل والعدوان، لأنها باطل وظلم، بل أحكامها تلزم متعاطيها. ويلتحق بفن العبادات الأيمان والشهادات. واللعان والإيلاء من الأيمان فلا تجوز الوكالة (فيهما)، وكذلك الظهار لا تجوز الوكالة فيه، لأنه منكر من القول وزور. ويجوز التوكيل بقبض الحقوق واستيفاء الحدود والعقوبات. ويجوز التوكيل بالخصومة في الإقرار والإنكار، يرضى الخصم وبغير رضاه، في حضور المستحق وفي غيبته. فرع: ((لو قال لوكيله: أقر عني لفلان بألف دينار، فهو بهذا القول كالمقر بالألف)).

قاله الإمام أبو عبد الله، واستقرأ من نص بعض الأصحاب. الشرط الثاني: أن يكون ما به التوكيل معلوماً في الجملة، ويستوي كونه منصوصاً عليه أو داخلاً تحت عموم اللفظ، أو معلوماً بالقرائن أو بالعادة. فلو قال: (وكلتك، أو أنت وكيلي أو فلان لم يجز، حتى يفيد بالتفويض أو بالتصرف في بعض الأشياء. ولو قال: وكلتك بما إلى من تطليق نسائي وعتق عبيدي وبيع أملاكي جاز). ولو قال: وكلتك بما إلي من قليل وكثير جاز، واسترسلت يد الوكيل على جميع الأشياء، ومضى فعله فيها إذا كان نظراً، لأنه إذا فعل غير النظر فكأنه معزول عنه بالعادة، إلا أن يقول له: افعل ما شئت، كان نظراً أو غير نظر. وأما إن قيد بالتصرف في بعض الأشياء دون بعض فالرجوع في ذلك التقييد إلى مقتضى اللفظ والعادة. ولو قال: اشتر لي عبداً، جاز: ولو قال: عبداً تركياً، (بمائة) فأولى بالجواز. والتوكيل بالإبراء لا يستدعي علم الموكل بمبلغ الدين المبرأ عنه، ولا علم (الوكيل)، ولا علم من عليه الحق. ولو قال: بع بما باع به فلان فرسه، فالعلم بما باع فلان مشترك في حق الوكيل، لا في حق الموكل. ولو قال: وكلتك بمخاصمة خصمائي، جاز وإن لم يعين. الركن الثاني: الموكل: (وهو) كل من جاز له التصرف لنفسه جاز له أن يستنيب عنه في ما يجوز النيابة فيه لأجل الحاجة (إلى) ذلك على الجملة. وكذلك حكم الوكيل، وهو: الركن الثالث: فإنه من جاز له أن يتصرف لنفسه في الشيء جاز له أن ينوب فيه عن غيره إذا كان قابلاً للاستنابة. هذا هو الأصل، إلا أن يعرض ما يمنع من توكيل شخص فلا يوكل. وقد نص في الكتاب على منع توكيل الذمي على سلم أو بيع أو شراء، أو يستأجره على قضاء أو يبضع معه، وكرهه ولو كان عبداً له. قال الإمام أبو عبد الله: ((وما ذاك إلا لأنه (قد) يغلظ على المسلمين الذين وكل عليهم

الباب الثاني: في حكم الوكالة الصحيحة

في التقاضي، ويستعلي عليهم قصداً لإذلالهم، ولا يجوز للمسلم أن (يعينه) على ذلك)). قال الإمام: ((وأما البيع والشراء فلئلا يأتيه بالحرام. ولهذا منع أن يعامل الذمي قراضاً لأنه يتخوف منه أن يعامل بالربا، وبما لا تحل المعاوضة به. وقد قال محمد: إن نزل هذا تصدق المسلم بالربح)). قال الإمام: ((وهذا الذي قاله محمد إنما يخلص مما يتخوف من الحرام، بأن يكون ما فعله الذمي من الربا، فيتصدق بما زاد على رأس المال لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}. وأما ما لو وقع بيع الوكيل الذمي أو المقارض الذمي في المعاوضة بخمر أو خنزير، وأتى الموكل بآثمان ذلك فإنه يتصدق بجميع ما أتى به، لأن العوض كله من ثمن خمر أو خنزير، وذلك حرام كله، وفي الربا إنما الحرام الزيادة)). ومن الموانع من التوكيل العداوة، فلا يوكل العدو على عدوه. الركن الرابع: الصيغة الدالة على معنى التوكيل، أو ما يقوم مقامها في الدلالة عليه. ثم لا بد من القبول، فإن وقع على الفور فلا خفاء بصحة العقد، وإن تراخى بالزمن الطويل، فقال الإمام أبو عبد الله: ((قد يتخرج عندي على الروايتين في قول الرجل لزوجته: اختاري، أو قوله: أمرك بيدك، فقامت من المجلس ولم تختر، ثم قال: والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار المقصود والعوائد، هل المراد في هذه الألفاظ استدعاء الجواب بداراً، فإن تأخر سقط حكم الخطاب، أو المراد استدعاء الجواب معجلاً أو مؤجلاً)). الباب الثاني: في حكم الوكالة الصحيحة، ولها ثلاثة أحكام: الأول: صحة ما وافق من التصرفات، وفساد ما خالف منها لفظاً أو عادة، (مما) يعود بنقص؛ فأما إن خالف بما يعود بزيادة فقولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على شرط ما لا يفيد، هل يلزم الوفاء به أم لا؟ وتعرف الموافقة باللفظ تارة، وبالقرينة أو العادة أخرى. وبيان ذلك بصور سبع: الأولى: إذا قال: بع مطلقاً، فلا يبيع بالعرض ولا بالنسيئة، ولا بما دون ثمن المثل إلا

قدراً يتغابن الناس بمثله. ويجوز له أن يبيع ويشتري من أقاربه وغيرهم إذا لم يحاب، وليس له أن يبيع من نفسه أو ولده أو يتيمه، ولا أن يشتري. وقيل له ذلك. ثم حيث قلنا: إن ذلك له بمطلق الإذن، أو أذن له فيه، فإنه يتولى طرفي العقد إذا باع أو اشترى من نفسه أو ولده الصغير أو يتيمه، كما في تولي ابن العم طرفي النكاح، وتولي من عليه الدين استيفاءه من نفسه بالوكالة. ويطرد في الوكيل من الجانبين في عقد النكاح والبيع، كما إذا كان وكيلاً من [جهة] الموجب والقابل جميعاً. وإن أذن له في البيع إلى أجل مقدر جاز. وإن أطلق فالعرف يقيده بالمصلحة. ولو قال له: اشتر لي ثوباً أو خادماً، فاشترى ما يصلح للموكل لزمه. وإن اشترى ما لا يليق به، فقال ابن القاسم: لا يلزمه. وقال أشهب: يلزمه. ثم هما أعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل، لا إلى الوكيل. الثانية: أن الوكيل لا يسلم المبيع قبل توفية الثمن، فإن سلم ولم يشهد فجحد الثمن ضمنه، لتغريره به. ويملك المطالبة بالثمن وقبضه، لأنه من توابع البيع ومقاصده. والوكيل بالشراء يملك قبض المبيع. وأما مطالبتهما بالثمن والمثمن (فيخرج على ما نفصله). وذلك أن الوكيل إذا لم يبين أنه وكيل كان مطلوباً بتسليم الثمن أو المثمن)، وكانت العهدة عليه. وإن بين أنه وكيل وصرح بأنه برئ من أداء الثمن أو المثمون لم يكن عليه أداء ولا عهدة. وإن صرح بالالتزام فلا شك في إلزامه ما صرح به؛ وإن لم يصرح بأحد الأمرين فإن كان العقد على شراء بنقد أو بيع به فالمنصوص في المذهب معاملته بالثمن أو المثمون. الثالثة: إن الوكيل بالشراء إذا اشترى معيباً بثمن مثله وجهل العيب وقع على الموكل، وكان للوكيل الرد بضمانه (لمخالفة) الصفة؛ وإن علم وقع عنه، ولم يكن له الرد إلا أن يكون عيباً يسيراً وشراؤها بذلك نظر، فيلزم الأمر. وإن كان بغبن فعلم لم يقع على الموكل، وإن جهل وقع عنه. ثم مهما جهل الوكيل فله الرد إلا إذا كان العبد معيباً من جهة الموكل فلا رد للوكيل. وقال أشهب: الموكل مقدم في الرد وإن كانت السلعة غير معينة، وله استرجاع السلعة بعد رد الوكيل لها إذا لم يمض رده.

قال ابن القاسم: إلا أن يكون وكيلاً مفوضاً فله الرد، والقبول في جميع ما ذكرناه على الاجتهاد بغير محاباة. وحيث يكون الوكيل عالماً فلا رد له، ولا يلزم الموكل إلا أن يكون العيب يسيراً؛ فإن كان كثيراً (ألزمها) الموكل للوكيل إن شاء. الرابعة: إن الوكيل بتصرف معين لا يوكل إذا كان ممن يلي ما وكل عليه بنفسه في العادة، إلا إذا أذن له فيه؛ ولو وكل بتصرفات كثيرة وأذن له في التوكيل وكل، وإن أطلق فله التوكيل (أيضاً) إن علم عجزه (عن) الانفراد بها أو علم مباشرة مثله لمثلها عادة، ثم لا يوكل إلا (أمينا) رعاية للمصلحة. فرع: إذا وكل بإذن الموكل ثم مات الوكيل الموكل فقال الإمام أبو عبد الله: ((الأظهر أن الثاني لا ينعزل بموت الأول، بخلاف انعزال الوكيل الأول بموت موكله، لأن توكيل الوكيل الأول كتوكيل موكله إذ تصرفه لازم له كتصرفه بنفسه. وذكر أن ابن القاسم وقع له ما يشير ظاهره إلى ذلك وهو إمضاء تصرف من أبضع معه أحد الشريكين بعد مفاصلتهما. الخامسة: يتبع مخصصات الموكل، فلو قال: بع من زيد، لم يبع من غيره، ولو خصص زماناً تعين. وإن خصص سوقاً تتفاوت فيه الأغراض تخصص. ولو قال: بع بمائة، فله أن يبيع بما فوقها، وليس له أن يبيع بما دونها بحال. فرع: فإن باع بدون ما سمى له فرب السلعة بالخيار بين أن يمضي فعله أو يفسخه، فإن أمضاه أخذ الثمن، وإن فسخه، فإن كانت السلعة قائمة أخذها، وهل له أن يطالبه بما سمى من (الثمن) قولانن. وإن كانت فائتة طالبه بالقيمة إن لم يسم ثمناً؛ فإن (سمى) فهل له مطالبته بما سمى أو بالقيمة؟ قولان، مبنيان على الخلاف فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن. وهذا فيما عدا الربويات؛ فإن كان العقد على ربوي بربوي كعين بعين أو طعام بطعام؛ فهل له أن يرضى بفعله؟ قولان مبنيان على الخلاف في الخيار الحكمي هل هو كالشرطي أم لا؟ ولو قال الوكيل: أنا أتم ما نقصت، فهل له ذلك ويمضي البيع أم لا؟ قولان، أيضاً: أحدهما: أن ذلك له، لأن مقصود الأمر قد حصل له؛

والثاني: أنه لا يلتفت إلى قوله، لأنه متعد في البيع، فيجب الرد. ولو قال: اشتر بمائة، فله أن يشتري بما دونها، وليس له أن يشتري بما فوقها إلا باليسير الذي جرت العادة بزيادة مثله كالدينارين والثلاثة في المائة، وشبه ذلك. ويقبل قول الوكيل في ذلك، إن ذكره قبل تسليم السلعة أو قرب التسليم، ولا يصدق في ذكره بعد الطول. فإن زاد كثيراً فالموكل بالخيار بين إمضاء فعله أو ترك المشتري له. ولو قال: بع بمائة نسيئة، فباع بمائة نقداً، أو قال: اشتر بمائة نقداً، فاشترى بمائة نسيئة؛ صح ذلك ولزم الآمر. قاله الشيخ أبو محمد: قال: وخالفني فيها أبو بكر بن اللباد، فاحتججت عليه بأن المبتاع لو عجل الثمن المؤجل للوكيل للزمه قبوله. ولو قال: بع الدنانير، فباع بالدراهم، أو بالعكس، ففي اللزوم قولان، مأخذهما أنهما كنوعي جنس واحد أو كجنسين. ولو سلم له ديناراً يشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع إحداهما بدينار، ورد الدينار والشاة؛ صح عقد الشراء والبيع، ولزما بإجازة المالك. وقد فعل ذلك عروة البارقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فدعا) له وشراء الشاة الأخرى. وبيع إحداهما يخرج على إجازة المالك تصرف الغير في ملكه، إذ رضي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى. ولو أمره أن يشتري له جارية على صفة بثمن معين، فاشترى جاريتين على الصفة (المعينة) بالثمن المحدود في الواحدة. فإن اشتراهما واحدة بعد أخرى، فالثانية له إن لم يجز الموكل عقده، ويسترجع منه حصتها من الثمن. وإن اشتراهما معاً في صفقة واحدة، فقال أصبغ: يلزمان الموكل، ولم يقيد جوابه. وقال ابن المواز: إن كان قادراً على الإفراد لم يلزم الأمر العقد، وإن كان غير قادر لزمه. وقال غيرهما: يثبت الخيار للموكل. ثم اختلف القائلون بذلك في محله؛ فقال ابن القاسم: محله الثانية فقط، فيتخير في

ردها أو قبولها. وقال ابن الماجشون: يتخير في قبولها أو ردها. ولو قال له: بع بعشرة، فباع بالعشرة بغير اشتهار، ففي الإمضاء والرد قولان، مأخذها النظر إلى أن الموافقة قد حصلت أو إلى أن المقصود ألا ينقص من (العشرة) وتطلب الزيادة. قال بعض المتأخرين: ولو ثبت أحد القصدين لارتفع الخلاف. السادسة: الوكيل بالخصومة لا يقر على موكله، كما لا يصالح ولا يبرئ، إلا أن يأذن له في ذلك كما تقدم. وليس للوكيل بالخصومة أن يشهد لموكله إلا إذا عزل نفسه قبل أن يخوض ثم يشهد، وإن كان قد خاصم لم يقبل، لأنه يتهم بتصديق نفسه. وإنما تكون الوكالة في الخصومة قبل الشروع فيها، فأما لو شرع فيها لم يكن له أن يوكل، إلا أن يخاف من خصمه استطالة بسبب (ونحوه). ثم حيث تجوز له وكالته، فليس له أن يعزله بعد الشروع في الخصومة وقال أصبغ: له أن يعزله ما لم يستوف حجته. قال أبو الوليد بن رشد: ((وإذا لم لم يكن له عزله، لم يكن له هو أن يعزل نفسه)). وإذا وكل رجلين فلكل واحد منهما الاستبداد، إلا أن يقصره على موافقة صاحبه. وكما لا يفتقر إلى حضور الخصم في عقد الوكالة لا يفتقر إلى حضوره في إثباتها عند الحاكم. السابعة: إذا سلم (إليه) ألفاً، فقال اشتر شيئاً بعينه، فاشترى في الذمة ونقد الألف، صح. وإن قال: اشتر في الذمة، وسلم الألف، فاشترى بعينه، فكذلك وأولى بالصحة. ثم الوكيل مهما خالف في البيع، وقف تصرفه على إجازة الموكل ورده. ومهما خالف في الشراء وقع على الوكيل إن لم [يرضه] الموكل. الحكم الثاني: للوكالة ثبوت حكم الأمانة للوكيل، لأن يده أمانة في حق الموكل حتى لا يضمن ما تلف بغير تعد ولا تفريط، سواء كان وكيلاً يجعل أو بغير جعل؛ ثم إن سلم إليه الثمن فهو مطالب به مهما وكل بالشراء، وإن لم يسلم إليه الثمن وأنكر البائع كونه وكيلاً

طالبه به، وإن اعترف بوكالته فليس له مطالبته ثم حيث طولب الوكيل رجع على الموكل. ولو وكل بشراء عبد فاشتراه وقضه فتلف في يده وخرج مستحقاً، فالمستحق يطالب الموكل دون الوكيل. وكذلك الوكيل بالبيع إذا قبض الثمن وتلف في يده فخرج المبيع مستحقاً، فرجع المشتري بالثمن على الموكل (دون الوكيل). الحكم الثالث للوكالة: الجواز من الجانبين إذا كانت بغير أجرة، وهذا مقتضى قول القاضي أبو الحسن: ((إن للوكيل عزل نفسه الآن)). واللزوم في قول بعض المتأخرين من جانب الوكيل بناء على لزوم الهبة وإن لم تقبض. وإن كانت الوكالة بأجرة على سبيل الإجارة فهي لازمة من الطرفين، ويجب حينئذ أن يكون العمل معلوماً كما في الإجارة. وإن كانت على سبيل الجعالة، فحكى الشيخ أبو الطاهر فيها ثلاثة أقوال: اللزوم من الطرفين، وعكسه وهو الجاز منهما، والتفصيل بأن يكون اللزوم من جهة الجاعل دون المجعول له. وإذا فرعنا على القول بالجواز فينعزل بعزل الموكل إياه في حضرته وغيبته، ما لم يتعلق بوكالته حق يمنع العزل، كما إذا نشب معه في الخصومة أو وكله في قضاء دين وجب عليه، ونحو ذلك. وهل ينعزل في الغيبة قبل بلوغ الخبر إليه أو بعده؟ في ذلك روايتان. وينعزل بيع الموكل العبد الموكل في بيعه وبإعتاقه، وينعزل بعزله نفسه في حضور الموكل وغيبته على القول بالجواز. وقيل: ليس له ذلك مع الغيبة. وينعزل بموت الموكل. وقال مطرف: إن كان مفوضاً إليه فهو على وكالته حتى يعزله الورثة. وإذا فرعنا على (القول) الأول، فمتى يعتبر العزل في حق من عامله؟ في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار حالة الموت. والثاني: اعتبار حالة العلم، فمن علم انفسخت الوكالة في حقه دون من لم يعلم. ونزل هذين القولين بعض المتأخرين على اختلاف الأصوليين في حكم النسخ، هل يكون من حين النزول أو من وقت البلاغ؟. قال: والموت ها هنا كالنزول.

الباب الثالث: في النزاع

الثالث: اعتبار [علم] الوكيل خاصة في حق من عامله، (فتنفسخ) في حقه بعلم الوكيل، ولا ينفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئاً بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه ليس بوكيل. الباب الثالث: في النزاع، وهو في ثلاثة مواضع: الأول: في أصل الإذن وصفته وقدره. والقول (فيه) قول الموكل. فلو قال: وكلتني، وقال: ما وكلتك؛ فالقول قوله. ولو اشترى جارية بعشرين، فقال: ما أذنت إلا بعشرة؛ حلف الموكل وغرم الوكيل عشرين، أنكر البائع الوكالة أو اعترف بها. ولو باع السلعة بعشرة، فقال ربها: ما أمرتك إلا بإثنى عشر؛ فالقول قول الأمر إن لم تفت، فإن فاتت فالقول قول المأمور ما لم يبع بما يستنكر. ولو اشترى من يعتق على الموكل وهو عالم بذلك ولم يعينه له الموكل، فلا يعتق على الموكل. واختلف في عقته على الوكيل، فقال يحيى بن عمر: يلزم المأمور ويسترقه، ويباع عليه في الثمن. وقال أبو إسحاق البرقي: يعتق العبد، ويضمن (المأمور) الثمن للآمر. فإن لم يكن له مال بيع العبد في ذلك أو بعضه، وعتق ما فضل منه، والولاء للآمر. وإن كان غير عالم صح البيع، وعتق على الموكل. الموضع الثاني: في التصرف المأذون فيه. فإذ قال: تصرفت كما أذنت [بي] من بيع (أو) غيره، فقال الموكل بعد: لم تتصرف، فالقول قول الوكيل لأنه أمين. ويلزم (الآمر) التصرف لأنه قد أقر بالوكالة. وكذلك لو ادعى تلف رأس المال لكان القول قوله، لأنه ينبغي دفع الضمان عن نفسه. وكذلك إذا ادعى رد المال، سواء كان بجعل أو بغير جعل.

ولو قال: قبضت الثمن وتلف في يد، فالقول قوله إن ثبت القبض ببينه، أو صدقه الموكل فيه؛ وإن لم يكن واحد منهما لم يبرأ الغريم من الدين، إلا أن يكون القابض ومكيلاً مفوضاً أو وصياً، فيبرأ باعترافه من غير بينة، بخلاف الوكيل المخصوص، وفي كلا الوجهين لا غرم على الوكيل. الموضع الثالث: إذا وكله في قضاء الدين فليشهد؛ فإن قصر ضمن بترك الإشهاد. (وقيل: لا يضمن إذا كانت العادة ترك الإشهاد). وكذا قيم اليتيم لا يصدق في دعوى رد المال، قال الله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم]. ومن يصدق في الرد إذا طولب بالرد فليس له التأخير بعذر الإشهاد إذا تحقق الوكالة أو باشره المستحق. ولمن عليه الحق بشهادة أن لا يسلم إلى المستحق أو وكيله إلا بالإشهاد. وإن اعترف به، فإن كان في يده تركة فاعترف لإنسان بأنه وارث صاحبها لا وارث له سواه لزمه التسليم، ولم يجز له تكليفه شهادة على ألا وارث له سواه. ولو اعترف أنه يستحق ألفاً عن جهة حوالة، ولكن خاف إنكار المحيل، فهو كخوف إنكار الوكيل. ولو ادعى الوكيل قبض الثمن فجحده، فأقيمت عليه بينة بالقبض، فادعى تلفاً أو رداً قبل الجحد لم تسمع دعواه. وقال محمد: الذي تبين لي أنه لو صرح بالإنكار، فقال: ما دفع إلي شيئاً؛ لغرم إذا قامت البينة أو أقر، وهو قول مالك وأصحابه فيمن عليه دين فدفعه أو وديعة ببينة (أو بغير بينة) فردها، وأشهد بينة بذلك فطولب فأنكر أن يكون كان له عليه دين أو قال: ما أودعتني شيئاً، ثم أقر أو قامت عليه بينة بأصل الحق فأخرج البراءة وفيها بينة عدول، فلا تنفعه شهادة البراءة، (لأنه) كذبهم بجحده الأصل.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في أركانه وهي أربعة: الركن الأول: المقر. وهو ينقسم إلى مطلق ومحجور، فالمطلق ينفذ إقراره في كل ما يقر به على نفسه في ماله وبدنه. والمحجور ستة أشخاص: أحدهم: الصبي، وإقراره مسلوب قطعاً مطلقاً. نعم لو ادعى أنه بلغ بالاحتلام في وقت إمكانه لصدق، إذ لا تمكن معرفته إلا من جهته. الثاني: المجنون، وهو مسلوب القول مطلقاً. الثالث: المبذر. الرابع: المفلس، وقد تقدم ذكر هذين. الخامس: العبد. وإقراره مقبول بما يوجب عليه عقوبة. ولو أقر بسرقة مال ووجب عليه القطع، لم يؤثر إقراره في وجوب المال عليه، إلا أن يكون مأذوناً فعليه الغرم، لأن إقراره بوصول الأموال إليه (جائز). ولو أقر بإتلاف مال وكذبه السيد، لم يتعلق برقبته بل يطالب به بعد العتق، ولو كان مأذوناً فأقر بدين معاملة تعلق

بما في يده ولا يؤدي من كسبه. وذلك لو (أقر) به بعد الحجر، إلا أنه إن كان عليه دين قبل الحجر قدم على الدين المقر به بعد الحجر. السادس: المريض، وهو محجور في الإقرار لمن يتهم عليه من أجنبي أو وارث؛ وغير محجور عليه في الإقرار لمن لا يتهم عليه منهما؛ (فالتهمة) في حق الأجنبي بكونه صديقاً ملاطفاً، والمقر يورث كلالة. وحكى القاضي أبو محمد في إقراره له روايتين: إحداهما: رده. والأخرى: قبوله وإخراجه من الثلث. والتهمة في الوارث بأن تكون قريباً، ومن معه بعيد، كالبنت مع ابن العم أو غيره من العصبة؛ فأما لو عكس فأقر لابن العم مع البنت لقبل لنفي التهمة، إذ لا يتهم أن يزيد في نصيبه ويتهم أن يزيد في نيصبها. ولو أقر بأنه كان وهب من الوارث في الصحة، لم يقبل، وحمل على الوصية. ولو أقر بدين مستغرق ومات، فأقر وارثه عليه بدين مستغرق أيضاً لقدم إقرار الموروث لوقوع إقرار الوارث بعد الجحد. ولو أقر بعين ما في يده لشخص، ثم أقر بدين مستغرق سلم العين للأول، ولا شيء للثاني لأنه مات مفلساً. الركن الثاني: المقر له، وله شرطان: أحدهما: أن يكون أهلاً للاستحقاق، فلو قال: لهذا الحجر علي ألف، بطل قوله. وكذلك قوله: لهذا الحمار. (ولو) أقر لعبد لزمه له كالحر. ولو أقر لصبي لا يعقل أو لمجنون بشيء لزمه. ولو قال: اشتريت منه هذا العبد، أو استأجرته، أو وهبته مني، كان إقراراً بالعبد، وما نسبه إليه من الفعل باطل. ولو قال: لحمل فلانة علي ألف من هبة أو صدقة أو وصية قبل إن وضعته لستة أشهر فأقل من يوم الإقرار، وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر وزوجها مرسل عليها لم يلزمه ما ذكر من وصية وهبة وصدقة. وإن كان معزولاً عنها، فقد قيل: يجوز له الإقرار إذا وضعت لأربع سنين فدونها. ولو وضعت توأمين لكان المقر (به) بينهما نصفين، ولو كان أحدهما ميتاً لكان الكل للحي منهما؛ ولو ولدت ولداً ميتاً بطل الإقرار. ولو أطلق ولم يذكر الجهة لزمه أيضاً، ولو قيل له: مماذا؟ فقال: أقرضينها، فهذا لا يمكن، ويعد منه ندماً ويلزمه الإقرار، ولو قال: أنا وصي أبيه عليه وترك مائة أو ألفاً فأكلتها، فالمائة دين عليه. فإن وضعت ذكراً وأنثى فالمال

بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. (فإن) كانت ذات الحمل زوجة فلها الثمن من ذلك؛ وإن ولدت ولداً ميتاً فالمال لعصبة الميت. الشرط الثاني: ألا يكذبه المقر له، فإن كذبه لم يسلم إليه ويترك في يد المقر، فإن رجع المقر فله ذلك، ثم لا رجوع للمقر له بعد ذلك إلى أن يعود المقر إلى الإقرار، فيكون للمقر له حينئذ التصديق (والأخذ). الركن الثالث: المقر به. ولا يشترط أن يكون معلوماً، بل يصح الإقرار بالمجهول، ويشترط أن يكون المقر به في يد المقر حالة الإقرار أو قبله، فلو أقر في عبد بيد زيد أنه لعمرو لم يقبل إقراره على من هو بيده، لكن (إن) كان خرج من يد المقر قيل له: خلصه للمقر له، فإن تعذر عليه ذلك دفع له قيمته. وإن كان لم يدخل تحت يده لم يلزمه شيء. ولو كان إنما أقر بحرية عبد في يد غيره، ثم أقدم على شرائه بعد ذلك صح الشراء تعويلاً على قول صاحب اليد، ثم يعتق مؤاخذة له بما قدم من إقراره بحريته. وقال ابن الماجشون: لا يعتق عليه. وقال أشهب: إن تمادى على إقراره عتق عليه، وإلا فلا. وقال المغيرة: يعتق عليه إن كان شهد بحريته، فردت شهادته لانفراده بها، ولا يعتق إن ردت لجرحته. ثم حيث قلنا: يعتق، على أي هذه الأقاويل فلا يكون ولاؤه له، بل للذي زعم هذا أنه أعتقه. الركن الرابع: الصيغة. فإذا قال: لفلان علي أو عندي ألف، فهو إقرار. وكذلك لو قال: أخذت منك، أو أعطيتني، فهو إقرار. ولو قال المدعي: لي عليك ألف، فقال: زن، أو خذ، أو حتى (يأتي) وكيلي يزن لك، لم يكن إقرار إن حلف. قاله محمد بن عبد الحكم. قال: وكذلك لو قال: اجلس فانتقدها أو اتزنها فهو كقوله: انتقد واتزن، لأنه لم ينسب ذلك إلى أنه الذي يدفع إليه. قال: ولو قال: اتزنها مني أو ساهلني فيها لزمته، لأنه نسب ذلك إلى نفسه. وقال في كتاب ابن سحنون: إذا قال له: أقضني العشرة التي لي عليك فقال له: اتزنها أو انتقدها، أو اقعد فاقبضها، فذلك إقرار. وكذلك قوله: اتزن أو انتقد. ولو قال: اتزن أو اتزنها، ما أبعدك من ذلك! أو قال: من أي ضرب تأخذها؟ ما أبعدك

الباب الثاني: في الأقارير المجملة

من ذلك! فليس بإقرار. ولو قال: لي عليك عشرة، فقال: بلى، أو أجل، أو نعم، أو صدقت، أو أنا مقر به أو لست منكراً له، فهو إقرار. ولو قال: ليست ميسرة، أو أرسل رسولك يقبضها، أو انظرني بها، فكله إقرار. ولو قال: أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى، لزمه. ولو قال: نعم، فكذلك أيضاً. ولو قال: اشتر مني هذا العبد، فقال: نعم، فهو إقرار بالعبد. الباب الثاني: في الأقارير المجملة، وهي سبعة: الأول: إذا قال: لفلان علي شيء، (يقبل) تفسيره بأقل مما يتمول، لأنه محتمل لكل ما ينطلق عليه شيء مما يتمول. وفي كتاب ابن سحنون، فيم أقر أنه غصب فلاناً شيئاً ولم يبينه، ثم قال: هو كذا؛ وقال الطالب: هو كذا، أو لم يقل شيئاً؛ فالقول قول الغاصب فيما يذكر مع يمينه. وإن ادعى الطالب غير ذلك، فإن نكل الغاصب فالقول قول الطالب مع يمينه، فإن أبى المقر أن يسمي شيئاً أجبر على أن يبين ما أقربه، وإلا سجن حتى يذكر شيئاً ويحلف عليه. ولو قال: له علي مائة درهم إلا شيئاً، لزمه أحد وتسعون. ولو قال: عشرة آلاف إلا شيئاً، لزمه تسعة آلاف ومائة. ولو قال: درهم إلا شيئاً، لزمه أربعة أخماس درهم. قال عبد الملك: والمعتبر في جميع ما ذكرناه أن ما يحسن استعمال الاستثناء فيه يستعمل، وما بعده مشكوك فيه فلا يثبت. وكذلك لو قال: له علي مائة وشيء، اقتصر على المائة، لأن الشيء الزائد لا يمكن رده إلى تقدير كرد الشيء المستثنى فبطل، إذ هو شك لا مخرج له. ولو قال: له في هذه الدار حق، أو في هذا الحائط، أو في هذه الأرض؛ ثم فسر ذلك بجزء من ذلك قبل تفسيره، قليلاً كان أو أكثر شائعاً كان أو معيناً؛ ولو فسره بغير ذلك، كتفسيره بهذا الجذع أو هذا الباب المركب، أو هذا الثوب الذي في الدار، أو هذا الطعام، أو بسكنى هذا البيت، فقال سحنون مرة: يقبل تفسيره في جميع ذلك، ثم رجع، فقال: لا يقبل منه، وقد أثبت له حقاً في الأصل. وكذلك الخلاف في تفسيره بثمرة هذه النخلة من الحائط، أو بأنه وهبه زراعة الأرض سنة، فالقولان لسحنون في جميع ذلك. فأما لو فسر في الحائط بنخلة بأرضها لقبل ذلك منه. ولو قال: إنما وهبتها له من غير

أرض، فقولان. (وقال محمد بن عبد الحكم: إذا أقر له بحق في الدار وقال: أردت سكنة بيت منها اكتريته منه أو اسكنته إياه سنة، أو أكريته منه قبل قوله مع يمينه. قال: وكذلك لو قال: له حق في هذا الثوب، ثم قال: أجرته منه، أو أعرته ثمراً، صدق مع يمينه. قال: وأما لو قال: له حق من هذه الدار أو من هذا الثوب، لم يقبل منه حتى يقر بشيء من الرقبة. قال: ولو قال: له في هذه الدار أو في هذه الدنانير، أو قال: في هذا الطعام؛ كان محمل ذلك من الرقبة قال: في، أو قال: من، وظاهر القصد في هذا عين الشيء). الثاني: (إذا قال: له علي مال، ولم يذكر مبلغه، فيلس عن مالك فيه نص. وقال الشيخ أبو بكر: يقبل منه ما فسر به، ولو قيراطاً أو حبة، ويحلف. وقال ابن المواز: لا يقبل في أقل من نصاب الزكاة. وقال القاضي أبو الحسن: ((عندي أنه يجيء على مذهب مالك أنه يلزمه ربع دينار، فإن كان من أهل الورق، فثلاثة دراهم. ويقبل تفسيره بالكلب وجلد الميتة والمستولدة)). ولو قال: علي مال عظيم، أو نفيس أو كثير، فقال الشيخ أبو بكر: هو بمنزلة مال على التجريد. وقال غيره: تلزمه ثلاثة دراهم أو ربع دينار. قال القاضي أبو الحسن: ((الذي يقوى في نفسي أن يلزمه مائتا درهم إن كان من أهل الدراهم، أو عشرون ديناراً إن كان من أهل الذهب)). وقاله سحنون وغيره في كتاب ابنه. وحمله القاضي أبو محمد (على) وجهين أخرين من التأويل: أحدهما: ألف دينار، وهو قدر الدية. والآخر: ما زاد على النصاب. فإن قال: أكثر مما لفلان على فلان، فما شهد به الشهود على فلان قبل تفسيره بما زاد عليه. الثالث: إذا قال: له علي كذا، فهو كالشيء، فلو قال: كذا درهماً، فقال محمد بن عبد الحكم: يلزمه عشرون درهماً. وقال: فإن قال: كذا وكذا درهماً، لزمه أحد عشر درهماً، وإن قال: كذا وكذا درهماً، لزمه أحد وعشرين درهماً.

(قال) سحنون: ما أعرف هذا، (فإن كان هذا) أقل ما يكون في اللغة هذا اللفظ فهو كما قالوه. وكان يقول: القول قول المقر مع يمينه. ولو قال: له علي كذا وكذا ديناراً ودرهماً، نظر إلى أقل ما يكون كذا وكذا من العدد، فيكون عليه نصفه دنانير ونصفه دراهم. وفي القول الآخر القول قول المقر ويحلف. ولو قال: له علي عشرة دراهم ونيف، لكان القول قوله في النيف، قل أو كثر؛ وله أن يجعله أقل من درهم، وإن شاء قال دانق فضة. وكذلك في نيف وخمسين. حكى الشيخ أبو إسحاق عن بعض الأصحاب: أنه إذا أقر له بعشرين ونيف، أن النيف ثلثها، وكذلك بمائة ونيف، أو بدرهم ونيف، أنه يكون مقراً بمائة وثلثها وبدرهم وثلثه. ثم اختار هو أن يكون القول في النيف قول المقر مع يمينه. (ولو قال: له علي ألف ودرهم، ولم يسم الألف من أي جنس هي، فقال القاضي أبو الحسن: ((لا يكون الدرهم الزائد تفسيراً للألف، بل يكون الألف موكولاً إلى تفسيره فيقال له: سم أي جنس شئت، فإن قال: أردت ألف جوزة أو ألف بيضة، قبل منه (وأحلف) على ذلك، (إن خالف) المدعي وقال: هي كلها (دراهم). وكذلك لو قال: له علي ألف وكر حنطة، أو ألف وجوزة، أو ألف وبيضة أو ألف وعبد، أو ألف وثوب، لم يكن في جميع هذا (العطف) تفسيراً للمعطوف عليه)).

وفي كتاب ابن سحنون: إذا قال مريض أو صحيح: لفلان علي عشرة ونصف درهم ولم يبين ما العشرة، فله عشرة دراهم ونصف. وكذلك قوله: مائة دينار فعليه مائة دينار ودينار، إذا ادعى ذلك الطالب مع يمينه. وإذا قال: له علي عشرة آلاف ووصيف، فالقول قول المقر، فإن قال: أردت عشرة آلاف وصيف ووصيفاً، فهو كذلك، وإن قال: أردت عشرة آلاف درهم ووصيفاً، صدق؛ وإن ادعى الطالب غير ذلك من دنانير أو غيرها، كلف بالبينة، وإلا حلف له المق ر. وكذلك قوله: ألف وشاة؛ فإن قال: إنها ألف شاة أو ألف درهم أو أقفزة حنطة، فهو مصدق مع يمينه. وإن مات ولم يسأل صدق ورثته مع أيمانهم. ولو قال: علي بضعة عشر، كان ثلاثة عشر، لأن البضع من الثلاثة إلى التسعة. ولو قال في وصيته: لفلان علي جل المائة أو قرب المائة أو أكثر المائة أو نحو المائة، (أو مائة) إلا قليلاً، أو مائة إلا شيئاً، فقال سحنون: (الذي عليه) أكثر أصحابنا: أن يعطى من ثلثي المائة إلى أكثر، بقدر ما يرى الحاكم. وقال بعضهم: تلزمه ثلثا المائة. وقال آخرون منهم: يلزمه النصف وشيء، وذلك أحد وخمسون. الرابع: لو قال: علي درهم لزمه درهم: عشرة منه تعادل سبعة مثاقيل، وهي درهم الإسلام. فإن فسر إقراره بالناقص في الوزن متصلاً، قبل منه؛ وإن كان منفصلاً لم يقبل إلا إذا كان التعامل به غالباً. وكذلك التفسير بالدراهم المغشوشة. ولو فسر بالفلوس لم يقبل بحال. ولو قال: علي دراهم، لزمته ثلاثة دراهم. وكذلك لو قال: دريهمات، (لأن التصغير) لا يؤثر في نقل المعنى عن أصله. ولو قال: دراهم كثيرة، فقيل: تلزمه أربعة، وقيل: تسعة، وقيل: تلزمه: مائتا دراهم. ولو قال: دراهم لا قليلة ولا كثيرة، للزمته أربعة. ولو قال: علي من واحد إلى عشرة، لزمته عشرة، قاله سحنون. وقال أيضاً: تلزمه تسعة. قال: ولو قال: ما بين درهم إلى عشرة، كان عليه تسعة. وقال أيضاً: يلزمه عشرة.

وقال أيضاً ثمانية. ولو قال: عشرة في عشرة، سئل المقر، فإن قال: أقرضني عشرة في عشرة أو في عشرين، أو باعني عشرة (بعشرة)، أو بعشرين، لزمته عشرة مع يمينه على ما زعم. وفي قول سحنون: أنه يؤخذ بمائة درهم من قبل الحساب. ولو قال: (علي) عشرة دراهم في عشرة دنانير، لزمته عشرة دراهم، إذ له مخرج بقوله: أعطانيها فيها. الخامس: إذا قال: عندي له زيت في جرة، كان مقراً بالزيت والظرف. ولو قال: ثوباً في صندوق أو في ثوب أو في منديل، فقال محمد بن عبد الحكم: يكون مقراً بالثوب دون الوعاء. وقال سحنون: يلزمه الوعاء أيضاً. ولو قال: له عندي عسل في زق، كان مقراً بالعسل والزق، إذ لا يستغني عنه. ولو قال: له عندي خاتم، وجاء به وفيه فص، فقال: ما أردت الفص، (لم يقبل) إلا أن يكون كلامه نسقاً. وكذلك لو أقر بجبة وقال: بطانتها لي، أو أقر بدار، وقال: بابها لي وشبه ذلك. ولو قال: وهذه الأمة لفلان، وولدها لي، كلاماً نسقاً، فهو كما قال. ولو قال: له في هذه الدار التي في يدي حق أو شرك، أو في هذا العبد، أجبر على (البيان)، وقبل تفسيره بما قل أو كثر، إلا أن يدعي المقر له أكثر، فيحلف المقر على نفي الزيادة على ما ذكره، فإن امتنع من الإقرار سجن أبداً، حتى يضطر بالسجن إلى الإقرار. السادس: إذا قال: علي درهم (درهم) أو درهم بدرهم، لم يلزمه إلا درهم واحد، وللطالب أن يحلفه: ما أراد درهمين. ولو قال: درهم ودرهم، أو درهم ثم درهم، لزمته درهمان. ولو قال: درهم مع درهم، أو تحت درهم، أو فوق درهم، لزمه درهمان. ولو (قال): درهم على درهم، فعليه درهمان، وقيل: درهم واحد، ولو قال: درهم قبل درهم أو [بعد] درهم، لزمه درهمان. (ولو قال: علي درهم فدرهم، (لزمه درهمان. ولو قال:

الباب الثالث: في تعقب الإقرار بما يرفعه

درهم بل درهمان، فدرهمان). ولو قال: درهم (لا بل) ديناران، فقال (ابن سحنون): يلزمه ديناران، ويسقط الدرهم. السابع: إذا قال يوم السبت: علي ألف، وقال ذلك يوم الأحد، لم يلزمه إلا ألف واحد، إلا أن يضيف إلى شيئين مختلفين. ولو أشهد له في ذكر حق بمائة وفي آخر بمائة، لزمه مائتان، وقال ابن سحنون: إن قول مالك اختلف في هذا وآخر قوله: وبه أقول: أن يحلف (المقر): ما ذلك إلا مال واحد، ولا يلزمه إلا مائة. وقال محمد بن عبد الحكم مثل ذلك. قال محمد: ولو اختلف الإقرار، فأقر له في موطن بمائة، وأشهد وفي موطن بمائتين، لزمته ثلاثمائة، وقال ابن حبيب عن أصبغ: إن كان الإقرار بالأقل أولاً صدق المطلوب أن الأقل دخل في الأكثر، وإن كان الإقرار بالأكثر أولاً فهما مالان. الباب الثالث: في تعقب الإقرار بما يرفعه، وله صور: الأولى: إذا قال: علي ألف من ثمن خمر أو خنزير (أو ميتة) أو حر، لم يلزمه شيء، إلا أن يقول الطالب: بل هي من ثمن بر أو شبهه فيلزمه مع يمين الطالب. فأما لو قال: اشتريت منك خمراً بألف، فإنه لا يلزمه شيء. ولو قال: علي ألف من ثمن عبد، ثم قال: لم أقبض العبد، فقال ابن القاسم وسحنون وغيرهما: يلزمه الثمن ولا يصدق في عدم القبض. وقيل: القول قوله، وعلى البائع البينة أنه سلم العبد إليه. وكذلك إن قال: اشتريت منه فلان سلعة بمائة درهم ولم أقبضها منه، فالقول قوله. ولو أقر على نفسه بمال من ثمن حرير مثلاً، ثم أقام بينة أنه ربا وإنما أقر أنه من ثمن حرير، لزمه المال بإقراره أنه من ثمن حرير، إلا أن يقيم بينة على إقرار الطالب أنه ربا. وقال ابن سحنون: تقبل منه البينة أن ذلك ربا، ويرد إلى رأس ماله، وبالأول قال سحنون.

ولو قال: علي ألف لا يلزم، أو زوراً أو باطلاً، لزمه إن صدقه غريمه في الملك، وكذبه في قوله: زوراً أو باطلاً؛ وإن صدقه فيهما لم يلزمه شيء. ولو قال: علي ألف قضيته، لزمه الألف، ولا يقبل قوله في القضاء. ولو ادعى القضاء قبل الإقرار وأقام البينة، لم تسمع دعواه ولا بينته إذ كذبهما بإقراره وإقراره أولى بالقبول من دعواه، إلا أن يقول بعد الإقرار بها: قضيتها إياه، ولم يقبل قبل الإقرار؛ فتقبل دعواه وتسمع بينته. (ولو قال: ألف إن شاء الله؛ لزمته الألف، ولم ينفعه الاستثناء). ولو قال: له علي ألف درهم فيما أظن، فهو إقرار يلزمه. وكذلك: فيما ظننت أو فيما حسبت، أو فيما أحسب، أو فيما رأيت، أو فيما أرى. (وقال محمد بن المواز وابن عبد الحكم: إذا قال: فيما أعلم، أو قال: في علمي، أو فيما (يحضرني) فهو شك، ولا يلزمه؛ واحتج محمد بالشهادة). ولو قال: ألف مؤجل؛ لزمه الألف على التأجيل، إذا كان الأجل غير مستنكر. وحكى الشيخ أبو إسحاق قولاً بأن المقر له يحلف ويكون الألف حالاً. ولو ذكر الآجل بعد الإقرار لم يقبل. ولو قال: علي ألف مؤجل من جهة القرض، قبل إلا أن يدعي الطالب أنها حالة فالقول قوله مع يمينه. ومن كتاب ابن سحنون: ومن قال: لفلان علي مائة درهم إن حلف، أو إذا حلف، أو متى حلف، أو حين يحلف أو مع يمينه، (أو في يمينه)، أو بعد يمينه؛ فحلف فلان على ذلك ونكل المقر، وقال: ما ظننت أنه يحلف، فلا يؤخذ بذلك المقر في إجماعنا. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا قال: لفلان علي مائة إن حلف فيها، أو إن ادعاها، أو مهما حلف بالعتق، أو الطلاق، أو الصدقة، أو قال: إن حلف مطلقاً؛ فلا شيء على المقر بهذا وإن حلف الطالب. وكذلك إن قال: استحل ذلك، وإن كان يعلم أنها له، أو قال: إن أعارني رداءه، أو دابته، فأعاره، أو قال: إن شهد بها علي فلان، فشهد بها عليه فلا شيء على المقر في هذا كله.

وأما إن قال: (إن) حكم بها فلان لرجل سماه، فتحاكما إليه فحكم بها عليه فيلزمه ذلك. الصورة الثانية: إذا قال: له علي مائة درهم وديعة؛ لا تكون إلا وديعة. وإن قال: ديناً كانت ديناً. ولو قال: له قبلي، أو قال: له علي مائة درهم ديناً وديعة لزمته ديناً. ولو قال: له قبلي مائة درهم وديعة ديناً لزمته ديناً، إذ لعله تسلفها أو استهلكها. الثالثة: (إذا قال لرجل: لك هذه الشاة، أو هذه الناقة، فإن الشاة للمقر له، ويحلف المقر ما الناقة له، فلو حلف ما له فيهما جميعاً شيء وادعى الطالب كلتيهما لم يقبل قوله في الناقة، ولا قول المقر في الشاة بل يأخذها المقر له، وتبقى الناقة في يد المقر). الرابعة: إذا أقر أنه غصب هذا العبد من فلان، ثم قال: لا، بل من فلان: (ففي كتاب ابن سحنون: إنه يقضى بالعبد للأول بعد يمينه، ويقضى للآخر بقيمته يوم الغصب في إجماعهم). الخامسة: قال ابن القاسم: ((من قال لرجل في ثوبين في يده: إن لك أحدهما ولا أدري أيهما هو، فإنه يقال للمقر: أحلف أنك لا تدري أن أجودهما للمقر له؛ فإن حلف قيل للمقر له: احلف أنك لا تعلم أيهما لك؛ فإن حلف كانا شريكين في الثوبين جميعاً؛ فإن نكل المقر من حلف المقر له وكانا شريكين في الثوبين، وكذلك (لو) نكلا جميعاً لكانا شريكين، إلا أن يقول المقر: لا أعرفه، ويقول المقر له: أنا أعرفه، فيؤمر بتعيينه، فإن عين أدناهما أخذه بغير يمين وإن عين أجودهما أخذه بعد أن يحلف)). ولو قال المقر: أدناهما هو ثوبه؛ حلف، ولم يكن للمقر له غيره. ولو قال لرجل: لك علي عشرة دراهم، أو على فلان؛ فليس بإقراره، ويحلف. قال الشيخ أبو محمد: ((وعلى أصل سحنون إن ذلك يلزمه دون فلان)).

الباب الرابع: في الإقرار بالنسب.

السادسة: إذا استثنى عن الإقرار ما لا يستغرق صح، كقوله: علي عشرة إلا تسعة، يلزمه واحد. وقال عبد الملك: لا يصح. وعلى المشهور: ولو قال: علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية، لزمه تسعة لأن الاستثناء من النفي إثبات، كما أنه من الإثبات نفي. وكذلك لو قال: علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحد، لزمه خمسة. السابعة: الاستثناء من غير الجنس صحيح، كقوله: علي ألف درهم إلا ثوباً أو عبداً، أو دابة. وقيل: استثناؤه باطل، ويلزمه ما أقر به كاملاً. وإذا فرعنا على المشهور، فيقال له: اذكر قيمة الثوب أو العبد الذي استثنيت، ثم يكون مقراً بما فضل من الألف (عن) قدر قيمته، فإن ذكر أن القيمة تستغرق الألف بطل استثناؤه ولزمه الألف. الثامنة: الاستثناء عن العين صحيح، كقوله: هذه الدار لفلان إلا ذام البيت، والخاتم إلا الفص، وهؤلاء العبيد إلا واحداً، ثم له التعيين. وكذلك لو قال: هذه الدار لفلان وبناؤها لي؛ فهو كما قال إذا اتسق الكلام. وكذلك: هذه الأرض لفلان ونخلها لي، نسقاً. وكذلك: هذه الدار إلا بناءها لفلان، أو قال: هذا البستان إلا نخلة فإنها لي، فإنه يصدق في جميع ذلك. وكذلك قال محمد بن عبد الحكم عن أشهب في قوله: غصبت هذه الدار لفلان وبناؤها لي، أو قال: بيت منها لي، أو قال في الجنة: بطانتها لي إذا اتسق الكلام؛ مثل قوله: هذا الخاتم لفلان وفصه لي. الباب الرابع: في الإقرار بالنسب. من هو من أهل الإقرار، إذا قال لعبده: هذا ابني؛ التحق به ما لم يكذبه الحس بأن يكون أكبر سناً منه، أو الشرع بأن يكون مشهور النسب، أو العرف بأن يستيقن الناس أنه ليس بولده، كما إذا كان الغلام سندياً والرجل فارسياً، قال مالك: فلا يلحق به. قال سحنون: ولا يكون حراً. فلو استلحق مجهول النسب لحق به عند ابن القاسم. وقال سحنون: لا يلحق إذا لم يتقدم له نكاح ولا ملك يمين على أمة يجوز أن يكون [منها]. (ثم) حيث يلحق به، فلا

ينظر إلى إنكار الولد صغيراً كان أو كبيراً. فروع: الأول: لو قال في أولاد أمته: أحدهم ولد لي وهم ثلاثة ولم تعرف عينه، فالصغير منهم حر وحده. وقال المغيرة: يعتق الأصغر، وثلثا الأوسط، وثلث الأكبر، إذ الصغير حر على كل تقدير، والأوسط حر في وجهين رقيق في وجه، والأكبر حر على تقدير واحد عبد على تقديرين: وقال ابن عبد الحكم: يعتق جميعهم بالشك. ولو أعتق الصغير وادعت عليه أمهم الأوسط والكبير فأنكرهما، فالقول قوله، فلو اعترف بالأوسط خاصة لزمه هو والأصغر إن ادعته الأم منه، إلا أن يدعي الاستبراء فيه، وإن اعترف بالكبير خاصة لزمه الجميع إن ادعت الأم الآخرين، إلا أن يدعي استبراء فيهما أو في أحدهما فالقول قوله، ولا يلحق به. ثم من لم يلحق به منهما كان ولد أم ولد. الفرع الثاني: (لو ولدت زوجة رجل غلاماً وأمته غلاماً وماتا، فقال الرجل: أحدهما ابني ولا أعرفه؛ دعي لهما القافة، فمن ألحقوه به لحق به ويلحق الآخر بالآخر. الفرع الثالث: لو نزل ضيف على رجل، وله أم ولد حامل، فولدت هي وولدت امرأة الضيف في (ليلة) صبيين، فلم تعرفر كل واحدة منهما ولدها، أو تداعتا أحدهما ونفتا الآخر، فإن القافة تدعى لهما). وقال سحنون فيمن ولدت امرأته جارية وأمته جارية، وأشكل عليهم ولد الحرة من ولد الأمة، ومات الرجل ولم يدع عصبة تستدل بها القافة على ولد الميت، ليس في هذا قافة، ولا تكون المواريث بالشك. وفي كتاب أحمد بن ميسر، في امرأة طرحت بنتها، ثم عادت لأخذها فوجدتها وأخرى معها، ولم تعرف بنتها منهما: فقال ابن القاسم: لا يلحق بزوجها واحدة منهما، وبه قال ابن المواز. وقال سحنون: يدعى لهما القافة. وقال عبد الملك وسحنون: لا تلحق القافة الولد إلا بأب حي، فأما إن مات الأب فلا قول للقافة في ذلك، إذ لا يعتمد على شبه غير الأب. الفرع الرابع: (إذا أقر عند موته بأن فلانة جاريته ولدت منه، وأن ابنتها فلانة ابنته، وللأمة ابنتان أخريان، ثم مات ونسيت البينة والورثة اسمها، وأقر بذلك الورثة، فهن كلهن

أحرار، ولهن الميراث، ميراث واحدة من البنات، يقسم بينهن، ولا يلحقه نسب واحدة منهن). فإن لم يقر الورثة بذلك، ونسيت البينة اسمها، فلا تعتق واحدة منهن. الفرع الخامس: إذا استلحق ولداً ثم أنكره، ثم مات الولد عن مال، فلا يأخذه المستلحق. قال ابن القاسم: ((ويوقف ذلك المال، فإن مات هذا المستلحق صار هذا لورثته، وقضي به دينه، وإن قام غرماؤه عليه وهو حي أخذوا ذلك المال في ديونهم)). هذا حكم الإقرار بالولد. ومتى تعداه الإقرار، مثل أن يكون بولد الولد أو بإخوة أو [بعمومه] أو غيره، فهو إقرار على (الغير) بالنسب، فلا يقبل ولا يثبت له بذلك [نسب]؛ ثم إن كان له وارث معروف لا يرث هذا منه شيئاً، وإن لم يكن له وارث معروف ولا موال غير هذا الذي أقر له، فإنه يرثه بذلك الإقرار، سواء كان ذلك في الصحة أو في المرض، إلا أن يأتي وارث معروف بالبينة، فيكون أحق بالميراث. قال سحنون ورواه عن المغيرة: إنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث معروف، لأن المسلمين يرثونه بذلك كالوارث المعروف، وهذا هو سبب الخلاف، (وهو) أن بيت المال كالورث المعروف المعين أم لا؟ وهذا هو سبب الخلاف (أيضاً) في تنفيذ وصية من لا وارث له إلا بيت المال بجميع ماله. وإذا شهدت بينة، أكثر من واحد، بالعتق، ثبت الولاء، وإن شهد به شاهد واحد، ففي كتاب محمد: لا يثبت بذلك الولاء، ولكن يستأنى بالمال، فإن لم يأت من يستحقه حلف هذا ودفع إليه، وقد قضى بذلك ببلدنا. وقال أشهب: لا شيء له حتى يثبت ذلك الولاء بشاهدين. ولو شهد شاهدان أنهما لم يزالا يسمعان فلاناً يذكر أن فلاناً ابن عمه أو مولاه، فقال ابن القاسم: هو شاهد واحد، فإن لم يكن للمال طالب غيره أخذه مع يمينه بعد الثاني، وإن كان له طالب غيره أثبت من هذا، كان أولى بالميراث. ولا يثبت للأول ها هنا نسب.

وروى أشهب أنه يثبت بذلك الولاء، ولكن لا يعجل، فلعل أحداً يأتي بأولى (من ذلك). وأما الوارث يقر بوارث آخر معه يشاركه فإن ذلك على ما ذكرناه يثبت له الإرث (ولا يثبت له النسب). فلو أقر ولد الميت بولد آخر لم يثبت نسبه وإن لم يكن له وارث سواه، لكن يقسم المال بينهما على (السوية) إن كانا من جنس واحد، وعلى التفاضل إن كانا من جنسين. فإذا كانا ابنين فأقر أحدهما بثالث، فإن وافقه الثاني اقتسموا المال بينهم أثلاثاً، وإن لم يصدقه الآخر أعطاه المقر مما بيده ما زادته القسمة على الإنكار عن القسمة على الإقرار. وإن كان المقر عدلاً أخذ باقي نصيبه من المنكر بعد يمين المقر له. ولو شهدا جميعاً بالنسب وكانا عدلين، ثبت نسبه وورث معهما. ولو ترك ولداً واحداً فقال لأحد شخصين: هذا أخي، لا بل هذا الآخر: فللأول نصف ما ورث عن أبيه، واختلف فيما يأخذه الثاني منه، فقيل: له نصف ما بقي في يده. وقيل: له جميعه، لأنه أتلف عليه مورثه. ولو ترك أماً وأخاً، فأقرت بأخ آخر، فإنها تخرج نصف ما في يديها، وهو السدس، فيأخذه الأخ المقر له وحده. قال محمد: وهو قوله في موطئه، وعليه الجماعة من أصحابه. وقال أيضاً في رواية أخرى: يقتسمه هو وأخوه.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة وحقيقتها: استنابة حفظ المال. وهي عقد أمانة، وهو جائز من الجهتين. ولا يشترط في المودع والمودع إلا ما يشترط في الوكيل والموكل. ومن أودع عند صبي شيئاً بإذن أهله أو بغير (إذنهم) فأتلفه الصبي أو ضيعه لم يضمن، لأنه مسلط عليه، كما لو أقرضه أو باعه. وكذلك السفيه. وأما العبد فلا يتعلق الضمان برقبته إذا أودع فأتلف، لكن يتعلق بذمته، إلا أن يسقطه السيد عنه، ما لم يكن مأذوناً فلا يكون له إسقاطه. وقال بعض أصحابنا: إن استهلكها فهي جناية في رقبته كسائر الجنايات. وقال أشهب في غير المأذون: إن كان مثله يستودع فهي في ذمته رق أو عتق، وإن كان مثله وغداً لا يستودع فلا شيء عليه في رقه، رد ذلك السيد عنه أو لم يرد، حتى يلي نفسه بالعتق. قال الشيخ أبو محمد: ((يريد فيتبع)). قال: ((وأنكرها سحنون)). (ثم) للوديعة عاقبتان: ضمان عند التلف، ورد عند البقاء. أما الضمان فلا يجب إلا عند التقصير. وللتقصير سبعة أسباب. الأول: أن يودع عند غيره لغير عذر، فإن فعل ذلك ثم استردها لم يضمن بعد ذلك، كرده لما تسلف منها. وله أن يودع عند العجز عند الرد إلى المالك، لخوف عورة منزله أو لسفره إذا أودعها في الحضر، إذ لو سافر بها مع القدرة على إيداعها عند أمين [لضمن]. فإن سافر بها عند العجز عن ذلك كما لو كان في قرية مثلاً لم يضمن. وكذلك لو أودع الأرض ما استودع، وكان ذلك جهده، فهو حرز لا يضمن ما ضاع منه.

وكذلك رفعه الوديعة عند زوجته أو خادمه التي عادته أن يرفع عندها متاعه، أو أجبره في عياله، لا يضمن به لأنه شأن الناس. وقال أشهب: إن أودع إلى عبده أو أمته ضمن. وكذلك أجبره في عياله. ومن أودع في السفر، فأودع (ضمن)، بخلاف الحاضر يسافر. ومن مات وعنده وديعة لم يوص بها ولم توجد في تركته أخذت من ماله. الثاني: نقل الوديعة، فإن نقلها من بلد إلى بلد ضمن. قال مالك في امرأة ماتت بالإسكندرية [فكتب] وصيها إلى ورثتها وهم ببلد آخر، فلم يأته منهم خبر، فخرج بتركتها إليهم فهلكت في الطريق فهو ضامن. قال أشهب وعبد الملك: وأما إن استودع جراراً فيها أدام، أو قوارير فيها دهن، فنقلها من موضع في بيته إلى موضع، فتكسرت في ذلك فلا يضمن. ولو سقط عليها من يده شيء فانكسرت، أو رمى في بيته وهو يرد إصابة غيرها، فأصابها فانكسرت، ضمن لأنها جناية لم تتعمد. (قال) أشهب في كتابه: ولو سقطت من يده فانكسرت لم يضمن. الثالث: خلط الوديعة بما لا تتميز عنه مما هو غير مماثل لها، كخلط القمح بالشعير وشبهه. (فأما) خلطها بجنسها المماثل لها جودة ورداءة، كحنطة بمثلها، أو ذهب بمثلها، أو بما تتميز عنه ولا تختلط به، كذهب بورق، فلا يضمن ذلك. الرابع: الانتفاع. فإذا لبس الثوب أو ركب الدابة فهلكت في حال الانتفاع ضمن. وكذلك إن سلف الدنانير والدراهم أو غيرهما مما يكال أو يوزن، فهلك في حال تصرفه فيه. ولو رد مثلها مكانها ثم هلك المثل، فقال يحيى بن عمر: اختلف قول مالك في الذي ينفق من وديعة عنده شيئاً، ثم يرده، فقال: لا شيء عليه. وأخذ بهذا ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وأصبغ. وقال أيضاً: إن ردها بإشهاد برئ، وإلا لم يبرأ. وبهذا أخذ ابن وهب. وقال أيضاً: لا يبرأ وإن أشهد، لأنه دين ثبت في ذمته. وهذا قول أهل المدينة من أصحابه، وروايتهم عنه، ورواه المصريون ولم يقولوا به. وقال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: إن كانت مربوطة أو مختومة لم يبرأ إلا بردها إلى ربها. وإن تسلف بعضها ضمن جميعها، لأنه متعد في حلها. وكذلك إن أخذ الدراهم ليصرفها في حاجته ضمن.

ولو استودعها منثورة فتسلف منها ثم تلقت، لم يضمن غير ما تسلف. وهو مصدق في رد ما تسلف منها، ولو تلفت بعد أن ردها لم يضمن شيئاً. وفي كتاب الشيخ أبي إسحاق: من أودع وديعة، وقيل له: تسلف منها إن شئت، فتسلف منها وقال: رددتها؛ فهذا لا يبرئه رده إياها إلا إلى ربها، لأن هذا مقترض لم يؤد ما اقترض. وأما ما لا مثل له من الثياب والحيوان وسائر العروض فلو تسلفه ثم رد مثله وفي صفته لم يبرأ، مذهباً واحداً. واختلف في تسلف الوديعة فمذهب الكتاب: ((الكراهة)). وروى أشهب: إن كان له مال فيه وفاء وأشهد على ذلك، فأرجو أن لا بأس به. هذا حكم تسلفها إذا كانت دنانير أو دراهم، وهو ملي. فأما إن كانت عروضاً فلا يجوز بوجه و (أما) إن كانت مما يكال أو يوزن، ولا يكثر الاختلاف فيه، كالطعام ونحوه، فهل يلحق بالنقود أو بالعروض التي تختلف آحادها؟ قولان. ولو كان معدماً لم يكن له أن يتسلفها بوجه. الخامس: المخالفة في كيفية الحفظ. فلو سلم إليه صندوقاً، وشرط عليه ألا يقفل عليه قفلاً (ففعل)، ضمن للشهرة. ولو قال له: أقفل قفلاً واحداً، فقفل قفلين لم يضمن إلا أن يكون في حالة أغرى عليه اللص فيضمن. ولو شرط أن يجعل الوديعة في جرة فخار فجعلها في نحاس ضمن (لأنه) شهرها. (وقيل): لأنه خالف إلى ما يقصد لسرقته. ولو شرط عليه أن يجعلها في نحاس، فجعلها في فخار لم يضمن. ولو سلم إليه دراهم وقال له: اربطها في كمك، فأخذها في يده، فأخذها غاصب في يده لم يضمن، لأن اليد أحرزها هنا، إلا أن يكون أراد إخفاءها عن عين الغاصب، فرآها لما تركا فيضمن، ولو جعلها في جيب قميصه فضاعت، فقال الشيخ أبي إسحاق: يضمن؛ وقيل: لا يضمن والأول أحوط. السادس: التضييع والإتلاف. وذلك بأن [يلقيها] في مضيعة، أو يدل [عليها] سارقاً، أو يسعى بها إلى من يصادرها فيضمن. ولو ضيعها بالنسيان، بأن تركها في موضع إيداعها ضمنها.

(ومن أودع بقراً أو أتناً أو نوقاً، فأنزى عليهن، فمتن من الولادة، أو كانت أمة فزوجها، فحملت فماتت من الولادة فهو ضامن، وكذلك لو عطيت تحت الفحل). (وقال أشهب: لا يضمن لأنه فعل صلاح، وكذلك لا يضمن الجواري). وأنكر يحيى بن عمر قول أشهب في الجواري. قال ابن القاسم: ((ويضمن ما نقص التزويج الأمة إن سلمت)). السابع: الجحود. وهو مع غير المالك غير مضمن، (ومع المالك بعد المطالبة والتمكن من الرد مضمن). ومهما جحد فالقول قوله. فإن أقيمت (عليه) البينة، فادعى الرد من قبل، فإن كانت صيغة جحوده إنكار أصل الوديعة لم يقبل قوله بغير بينة، وفي قبوله مع البينة خلاف؛ المشهور نفيه لتناقض كلامه. وإن كانت صيغة جحوده: لا يلزمني تسليم شيء إليك، قبل قوله في الرد والتلف، إذ لا تناقض بين كلاميه. العاقبة الثانية في الوديعة، رد العين عند بقائها، وهي واجبة مهما طلب المالك وانتفى العذر. (قال أصبغ: قال ابن القاسم فيمن طلب وديعة فاعتذر له المودع بشغل فلم يقبل عذره وتشاحا، فحلف لا يعطيه الليلة، فلما كان في غد قال: قد ذهبت؛ فإن قال: ذهبت قبل أن تلقاني، ضمن، لأنه أقر بها؛ وإن قال: لا أدري متى ذهبت، حلف ولا ضمان عليه. قال أصبغ: ويحلف: ما علم بذلك حين منعه. قال ابن القاسم: وإن قال: ذهبت بعدما حلفت وفارقتك، ضمنها لأنه منعه إياها، إلا أن يكون كان على أمر لا يستطيع فيه أن يرجع، أو يكون عليه فيه ضرر فلا يضمن. قال أصبغ: لا يضمن، كان في أمر حفزه عليه فيه ضرر (أو لم يكن فيه ضرر)، إذا لم يكن الأمر يمكنه بما لا طول عليه فيه عند بابه أو في يده، وما ليس فيه بحث ولا فتح ولا غلق ولا استخراج ولا أمر ينتظر فيه رجوع، فإن جاء مثل هذا فهو ضامن بمنعه، وإلا لم يضمن؛ وقد يعوق الناس عائق، وقد يثقل عليه في وقت يرد الناس مثل هذا من شغل وكسل وما يعذرون به فليحلف ويبرأ). وقال محمد بن عبد الكريم: ((إذا طلبه في وديعته فقال: أنا مشغول إلى غد ترجع فرجع إليه، فقال: تلفت قبل مجيئك الأول، أو بعده، فلا ضمان عليه. ولو قال له: لا أدفعها إليك

الفرع الأول

إلا بالسلطان، وترافعا إليه، فضاعت بين سؤاله إياه وبين إتيانه السلطان، فلا ضمان عليه، لأن له في ذلك عذراً، يقول: خفت شغبه وأذاه)). وروى أبو زيد عن ابن القاسم، ((في رب الوديعة يطلبها، فيأبى المودع أن يدفعها حتى يأتي السلطان فيقضي عليه بالدفع، فهلكت الوديعة قبل القضية وبعد الطلب: أنه إن كان دفع إليه بغير بينة فهو ضامن)). قال ابن القاسم: من طلبت منه وديعة فقال: ضاعت منذ سنين إلا أني كنت أرجو أن (أجدها) وأطلبها؛ ولم يكن يذكر هذا وصاحبها حاضر، قال: هو مصدق ولا ضمان عليه إلا أن تكون قد طلبت منه، فأقر أنها عنده ثم قال: قد ضاعت قبل ذلك فيضمن؛ وكذلك القراض. وقال أصبغ: بل هو ضامن إذا لم يعرف (منه) طلب لها ولا ذكر لصاحبها ولا لغيره ولا سماع وحضور ربها آكد، وكل سواء، إذا طال ذلك، ولم يكن له ذكر. وقال محمد بن عبد الحكم: أصحابنا يقولون: إن سمع ذلك منه قبل ذلك الوقت الذي سئلها فيه قبل منه، وإن لم يسمع ذلك منه إلا ذلك الوقت لم يقبل منه. قال محمد: وأنا أرى أن يحلف، ولا شيء عليه. فروع أربعة: الفرع الأول: إذا طولب المودع بالرد فادعى التلف، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك إن ادعى الرد، إلا أن يكون تسلمها ببينة فلا يقبل دعواه الرد إلا ببينة. وقيل عن ابن القاسم: ((إن القول قول المودع في الرد وإن قبضها ببينة يبرأ)). وقال أصبغ في العتبية ((في الوديعة يطلبها ربها، فيقول المودع: لا أدري أضاعت مني أو رددتها إليك، فلا ضمان عليه، لأنه ذكر أمرين وهو مصدق فيهما، إلا أن يأخذها ببينة فلا يبرأ حتى يقيم بينة أنه ردها إليه، وإلا ضمن)). وقال عبد الله بن عبد الحكم: لو قال المودع لربها: إن كنت دفعت لي شيئاً فقد ضاع، وقد قبض الوديعة ببينة، فليس عليه إلا يمينه.

الفرع الثاني

وقال أبو الحسن اللخمي: ((إن كان الإشهاد للتوثيق فلا تقبل دعواه الرد إلا ببينة، وإن كان خوف الموت، أو باستدعاء المودع خوفاً أن يقال: هي سلف، كان القول قوله في (الرد بغير بينة)؛ فأما دعواه الرد على غير من ائتمنه كدعوى الرد على وارث المالك أو وكيله، فلا يقبل إلا ببينة، وكذلك دعوى وارث المودع على المالك يفتقر إلى البينة أيضاً، وسواء كان القبض في جميع هذه الصور الثلاث ببينة أو بغير بينة)). الفرع الثاني: [إذا] ادعى رجلان وديعة عنده فقال: هي لأحدكما وقد نسبت عينه، فقيل: يتحالفان، فإن حلفا قسمت بينهما، وإن نكل أحدهما انفرد بها الحالف ولا ضمان عليه. وقيل: يضمن لكل (واحد منهما) ما ادعاه لنسيانه. قال الشيخ أبو إسحاق: الاختيار إغرامه، وبالآخر يقول أشهب. وقد قاله ابن القاسم مرة أخرى. الفرع الثالث: إذا طلب المودع عند الرد أجراً على حفظ الوديعة لم يكن له، إلا أن تكون مما يشغل منزله فيطلب أجرة الموضع الذي كانت فيه فذلك له. وإن احتاجت إلى غلق أو قفل، فذلك على ربها. الفرع الرابع: إذا أودع وديعة لشخص فخانه وجحده، ثم استودعه مثلها، فهل يحل له أن يجحده فيها أم لا؟. قال الشيخ أبو الوليد: ((في المسألة خمسة أقوال: الأول: المنع. وإشارته به إلى رواية ابن القاسم في الكتاب: ((لا يفعل)). والثاني: الكراهة، وإشارته به إلى رواية أشهب: لا آمره بذلك، ولا آمره إلا بطاعة الله، وإن أردت أن تفعله فأنت أعلم. والثالث: الإباحة، وإشارته به إلى قول ابن عبد الحكم، إذ قال له: أن يأخذه إن كان عليه دين. والرابع: الاستحباب، وإشارته (به) إلى ما حكاه عن ابن الماجشون من قوله: أرى له استعمال الحيلة بكل ما يقدر عليه حتى يأخذ حقه.

والخامس: أن هذا كله إذا لم يكن عليه دين، فإن كان لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة)). قال الشيخ أبو الوليد: والأظهر إباحة الأخذ، واستدل لذلك بحديث هند بنت عتبة)). تم بعون الله الجزء الثاني من كتاب عقد الجواهر الثمينة ويليه الجزء الثالث وأوله كتاب العراية تم بحمد الله

كتاب العارية

كتاب العارية (العارية: تمليك منافع العين بغير عوض. وهي مندوب إليها) والنظر في أركانها، وأحكامها، وفصل الخصومة فيها. أما الأركان فأربعة: الأول: المعير، ولا يعتبر فيه إلا كونه مالكًا للمنفعة، غير محجور في التبرع، فإن العارية تبرع بالمنافع، فتصح من المستعير والمستأجر. الثاني: المستعير، ولا يعتبر فيه إلا كونه أهلاً للتبرع عليه. الثالث: المستعار، وله شرطان: الأول: أن يكون منتفعًا به مع بقائه، فلا معنى لإعارة الأطعمة وغيرها من المكيلات والموزونات، وإنما تكون قرضًا، لأنها لا تراد إلا لاستهلاك أعيانها. وكذلك الدنانير والدراهم إذا أخذت ليتصرف فيها. قال أبو الحسن اللخمي: "لو استعيرت لتبقى أعيانها، كالصيرفي يجعلها بين يديه ليرى أنه ذو مال فيقصده البائع والمشتري، أو الرجل يكون عليه دين ويقل ما فيه يديه فيستعيرها لذلك، قال: "فهذه تضمن إذا لم تقم البينة على تلفها، ولا تضمن مع الشهادة على ذهابها". الشرط الثاني: أن يكون الانتفاع مباحًا، فلا تستعار الجواري للاستمتاع. ويكره استخدام الإماء إلا من المحرم أو النسوان، أو لمن لم يبلغ الإصابة من الصبيان. ولا يجوز استخدام أحد الأبوين بالعارية، بل تكون منافعها لهما تلك المدة دون ولدهما. ولا يعار العبد المسلم من الكافر.

أحكامها

الركن الرابع: ما به تكون الإعارة من قول أو فعل. وهو كل ما كان من ذلك يدل على تمليك المنفعة بغير عوض. فأما لو قال: أعني بغلامك أو ثورك في حرثي يومًا أو يومين، وأعينك بغلامي أو ثوري يومًا أو يوماً أو يومين؛ فليس بعارية بل ترجع إلى حكم الإجارة، لكن أجازه ابن القاسم ورآه من الرفق. ولو قال: اغسل هذا الثوب، فهو استعارة لبدنه لأجل العمل، فإن كان الغاسل ممن يعمل بالأجرة اعتيادًا استحقها. وكل ما كان من هذا القبيل فحكمه حكم الإجارة في الصحة والفساد. وأما أحكامها فأربعة: الأول: الضمان. والعارية في ضمان صاحبها إن تحقق هلاكها من غير تعد ولا تفريط من جانب المستعير إلا أنها نوعان: نوع يظهر هلاكه ولا يكاد يخفى، كالرباع والحيوان، فهذا النوع يقبل قول المستعير في هلاكه، ما لم يظهر كذبه وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله. والنوع الثاني: يخفى هلاكه ويغاب عليه، وهذا النوع لا يقبل قول المستعير في هلاكه ما لم تقم بينة به، فإن قامت فلا ضمان عليه فيه. وكذلك ما علم أنه يغير سببه كالسوس في الثوب صدقة فيه في كتاب محمد مع يمينه: أنه ما أضاعه ولا أراد فسادًا. قال أبو إسحاق التونسي: وكذلك الفأر (على هذا) يقرض الثوب. ووافق أشهب وابن عبد الحكم في النوع الأول، وخالفا في الثاني، فرأيا أنه مضمون على المستعير على كل تقدير، قامت بينة بهلاكه أم لا. وتمسكًا في ذلك بظاهر الحديث، وبأنه قبضها على الضمان فلا ينتقل حكمه.

قال القاضي أبو محمد: "والصحيح أنه لا يضمن". وقال الشيخ أبو إسحاق: العارية مضمونة على مستعيرها حتى يردها إلى معيرها. قال: وإنما تضمن الرقبة، لا ما نقص بالاستعمال المأذون فيه، إن أصيبت أو أصيب شيء منها غير ما أذن في استعماله من النقص بعد القدر الذي أطلق له الاستعمال فيه، ويضمن منها ما كان حيوانًا [أو] غيره ما لم يكن هلاكه بسبب ظاهر من أسباب السماء لم يكن هو سببه، قال: وفي هذا اختلاف. واختلف في الانتفاع باشتراط إسقاط الضمان فيما يضم، أو إثباته فيما لا يضمن هل ينتفع به أم لا؟. والمستعير من المستأجر لا يضمن إلا من حيث يضمن المستعير من المالك. والمستعير من الغاصب يضمن إذا تلفت العارية تحت يده. فرع: لو أتى بالسيف المستعار مكسوراً وذكر أنه انكسر في الضرب به، أو الفأس يأتي به مكسوراً ويقول: انكسر في استعماله فيما أذن لي بالعارية في استعماله فيه، فقال ابن القاسم: "لا يقبل قوله إلا أن تقوم له بينة في اللقاء بالسيف فيصدق". وقال سحنون: "لا يصدق (حتى تقول) البينة: إنه ضرب به ضربًا يجوز له". وقال عيسى: يصدق إذا جاء به مكسوراً، وقد أذن له في العمل به ما (لم) يمكن إذا عمل به أن ينكسر، مثل السيف والفأس". الحكم الثاني: في (التسلط) على الانتفاع: وهو بقدر التسليط، فإن أذن له في زراعة الحنطة لم يزرع ما ضرره مثل ضررها أو أدنى، إلا إذا نهاه. ولو أعار الأرض ولم.

يعين صح وزرع فيها ما العادة زرعه فيها. وكذلك الحكم في سائر الأعيان المستعارة. الحكم الثالث للعارية: اللزوم. ومتى كانت إلى أجل معلوم أو كان لها قدر معلوم، كعارية الدابة إلى موضع كذا، أو العبد ليبني بناء أو ليخيط له ثوبًان فهي له لازمة كهبة الرقاب. فإن لم يضرب أجلاً ولا كان لها مدة انقضاء فهي لازمة أيضًا بالقول والقبول، وليس له الرجوع فيها، ويلزمه إبقاؤها مدة ينتفع بها فيها الانتفاع المعتاد بمثلها عند استعارتها. وقال أشهب: المعير بالخيار في تسليم ذلك أو إمساكه ثم إن سلمه كان له أن يسترده وإن قرب. وقال القاضي أبو الفرج: أرى ما روي من وجوب العارية بالقول دون الإقباض إنما هو فيما عدا الأرضين. فرع: إذا أعار للبناء أو (للغرس) كان له أن يخرجه بعد فراغ المدة المشترطة أو المعتادة على ما تقدم، وله أن يعطيه ما أنفق (وقيل قيمة ما أنفق) قبل فراغ المدة المعتادة ويخرجه. وليس له إخراجه في المدة المشترطة. وروى الدمياطي عن ابن القاسم: "إنه ليس له إخراجه قبل فراغ المدة المعتادة، كما في المدة المشترطة. وله بعد فراغ كل واحدة من المدتين أن يدفع له قيمة البناء أو الغرس مقلوعًا إن شاء، أو يأمره بقلع بنيانه وغرسه وإخلاء عرصته من ذلك، اللهم إلا أن يكون ما لا قيمة له (من ذلك) بعد (النقض)، فلا يكون (للثاني) فيه شيء. ثم إذا اختار دفع القيمة فله أن يقتطع أجر القلع وإخلاء العرصة من النقض، ما لم يكن ذلك بغير أجر، أو يلي هو ذلك بنفسه". الحكم الرابع: فصل الخصومة. وفيه فروع: الأول: (إذا قال راكب الدابة لمالكها: أعرتنيها، وقال ربها: بل أجرتكها، فالقول قول

المالك مع يمينه، إلا أن يكون ممن لا يشبهه ذلك لعلو قدره وكبر منصبه وغيره، فيكون القول قول الراكب مع يمينه). وكذلك لو تنازع زارع الأرض ومالكها في إعارتها وإجارتها لكان الحكم ما تقدم، وكذلك لو قال: بل (غصبتها). الثاني: إذا اتفقنا على العارية، واختلفا في الموضع الذي وقعت (إليه) فقال المعير: إلى طرابلس وقال المستعير: إلى مصر، فإن لم يركب أو ركب إلى طرابلس خاصة فالقول قول المعير ويخلف، إذ هو مدعى عليه. وأما إن بلغ مصر فقال ابن القاسم: "القول قول المستعير". وقال أشهب: القول قول المستعير في طرح ضمان الدابة إن هلكت، والقول قول المعير في الكراء، لأنه لا يؤخذ بغير ما أقر به. الثالث: (من بعث رسولاً إلى رجل يعيره دابته إلى برقة، (فأعاره، فركبها إلى برقة)، فعطبت، فقال المعير: إنما [أعرته] إلى فلسطين؛ وقال الرسول: بل إلى برقة؛ فشهادة الرسول ها هنا لا تجوز للمستعير ولا عليه، لأنه إنما يشهد على فعل نفسه. ويحلف المستعير: أنه ما [استعارها] إلا إلى برقة، ويسقط عنه الضمان، ويحلف رب الدابة: ما أعاره إلا إلى فلسطين، (ويكن له على المستعير فضل ما بين كراء برقة على كراء فلسطين). الرابع: (لو قال المستعير للرسول: استعر لي دابة فلان إلى برقة؛ فمضى إليه فقال له: يقول لك فلان تعيره دابتك إلى فلسطين فأعاره، فركبها المستعير ولا يدري، فعطبت، فإن أقر الرسول بالكذب فهو ضامن لها، وإن قالت: بذلك أمرني، وأكذب (المستعير)، فلا يكون.

(الرسول) ها هنا شاهدًا، لأنه خصم والمستعير ضام، إلا أن يأتي ببينة أنه إنما أمره إلى برقة. وقال غيره: رب الدابة مدع بتضمين المستعير. قال أشهب: يحلف الراكب: ما أمره إلا إلى برقة ويحلف ربها: ما أعارها إلا إلى فلسطين؛ ثم يغرم الراكب كراء ما برقة وفلسطين. ولو أقر الرسول بالتعدي لضمن الدابة لربها). الخامس: إذا اختلفا في رد العارية فالقول قول المعير عند ابن القاسم في كل ما لا يصدق المستعير في ضياعه. الخامس: إذا اختلفا في رد العارية فالقول قول المعير عند ابن القاسم في كل مالا يصدق المستعير في ضياعه. قال في كتاب محمد: وسواء أخذه ببينة أو بغير بينة، ولا يقبل قوله في الرد إلا ببينة. قال محمد: وكل من يقبل قوله في التلف يقبل قوله في الرد. وقال ابن حارث: كل دافع دفع مالاً إلى غير من دفعه إليه فلا يبرئه منه إلا البينة التي تشهد له بالدفع، وإلا فهو ضامن، كان في الأصل ضامنًا أو مؤتمنًا. إن دفعه إلى دافعه إليه، فإن كان لذلك المال ضامنًا من قبل فلا يبرئه أيضًا منه إلا البينة، وإن لم يكن له ضامنًا فالقول قوله إذا كان قميصه بغير بينة، فإن كان قبضه ببينة فلا يبرأ إلا بالبينة.

كتاب الغصب

كتاب الغصب قال الشيخ أبو الوليد "الغصب أخذ المال بغير حق على وجه القهر والغلبة من غير حرابة". ولا خفاء بأنه عدوان، وهو سبب لضمان المغصوب، وعقوبة الغاصب المكلف بالأدب والسجن بقدر اجتهاد الحاكم. وقيل: يؤدب غير البالغ كما يؤديه المؤدب في المكتب، ويؤخذ بحق المغصوب منه. واختلف فيما أتلفه الصغير الذي لا يعقل، فقيل: ما أصابه من دم أو مال مهدر، كالعجماء؛ وقيل: ما أصابه من الأموال في ماله، ومن الدماء على عاقلته، إن بلغ الثلث كالخطإ؛ وقيل: الأموال مهدرة، والدماء على العاقلة كالمجنون. ثم النظر في الكتاب يحصره بابان: الباب الأول: في الضمان. والنظر فيه في ثلاثة أركان: الموجب، والموجب فيه، والواجب. الركن الأول: الموجب، وهو ثلاثة: التفويت بالمباشرة، أو بالتسبب، أو بإثبات اليد العادية. وحد المباشرة: اكتساب علة التلف كالقتل، والأكل (والإحراق) ونعني بالعلة ما يقال من حيث العادة أن الهلاك حصل به، كما (يقال) حصل بالأكل والقتل والإحراق

وحد السبب: اكتساب ما يحصل الهلاك عنده، لكن بعلة أخرى، إذا كان السبب هو الميئ لوقوع الفعل بتلك العلة. فيجب الضمان على المكره على إتلاف المال، والإكراه سبب؛ وعلى من حفر بئرًا في محل عدوان، فتردت فيه بهيمة أو إنسان؛ فإن (رداه) غيره فعلى المردي تقديمًا للمباشرة على التسبب. ولو فتح قفص طائر غيره بغير إذنه فطار حتى لم يقدر عليه، أو حل دابة من مربطها فهربت، أو عبدًا مقيدًا خوف الهرب فهرب، ضمن في جميع ذلك، لأن فعله سبب الإتلاف، وسواء كان الطيران والهرب عقب الفتح والحل أو بعد مهلة. وكذلك السارق يترك الباب مفتوحًا وما الدار من أحد، فيذهب منها بشيء. فأما من فتح باب دار فيه ادواب فهبت، فإن لم يكن فيها أربابها ضمن، وإن كانوا فيها لم يضمن. وقال أشهب: إن كانت الدواب التي ف يالدار (مسرحة) ضمنها وإن كان رب الدار فيها. وأما إثبات اليد العادية فهو مضمن؛ إلا أنه إذا كان بالقهر والغلبة سمي غصبًا، وإذا جحد المودع فهو في حالة الجحود متعد. وإثبات اليد في المنقول بالنقل إلا في الدابة فيكفي فيها الركوب. ويثبت الغصب في العقار بالدخول وإزعاج المالك، وبالاستيلاء (على العقار) وإن لم يكن. فأما لو غصب السكنى فقط فانهدمت الدار إلا موضع مسكنه لم يضمن، ولو انهدم مسكنه لغرم قيمته. ومهما أتلف الآخذ من الغاصب فالضمان عليه، حتى لو كان مغرورًا، كما لو قدم [الطعام للضيف فأكله ظنًا منه أنه ملك المقدم لضمن بالأكل وكذلك لو قدم] الغاصب الطعام إلى المالك فأكله مع الجهل بحاله، فإن الغاصب يبرأ من الضان، بل لو أكرهه على أكله فأكله كرهًا لبرئ الغاصب. الركن الثاني في الموجب فيه، وهي الأموال: وتنقسم إلى العين والمنفعة.

أما العين فتنقسم إلى الحيوان وغيره. فالحيوان كله، الرقيق وغيره، يضمن عند التلف بقيمته يوم الغصب. وقال ابن وهب وأشهب وعبد الملك بن عبد العزيز: يضمن بأرفع القيم ما بين زمني الغصب والتلف. واختاره الشيخ أبو إسحاق. وعند الإتلاف يخير ربه بين قيمته يوم الغصب أو يوم الجناية من الجاني إن كان غير الغاصب، وكذلك إن كان الغاصب على المشهور. فلو قطع إحدى يدي العبد كان ربه مخيرًا بين أن يأخذ الغاصب بقيمته يوم الغصب ويتركه له، وبين أن يأخذه ويأخذ أرش النقصان. وقال أشهب وسحنون: ربه بالخيار بين أخذه بغير أرش وبين أخذ قيمته يوم الغصب. وكذلك عين الفرس والبقرة وما أشبه ذلك. وأما الجمادات: فكل متمول معصوم لصاحبه مضمون، فلا تضمن الخمر للمسلم، وتضمن للذمي. وقال ابن الماجشون وأحمد بن المعذل: لا تضمن لمسلم ولا ذمي. ولا يضمن ما نقض من الملاهي بكسرها وتغييرها عن حالها، إذ يجب ذلك. ويضمن جلد الميتة بعد الدباغ، وقبله أيضًا، عند ابن القاسم وأشهب. وروى القاضي أبو الفرج: أنه لا يضمن. (وقال القاضي أبو إسحاق: إلا أن يكون لمجوسي. وقاله ابن القاسم أيضًا). وخرجه القاضي أبو الفرج على قول مالك في مسألة ضمان الخمر للذمي. والمستولدة والمدبر والمكاتب في الضمان كالعبد القن. وقال سحنون، لا تضمن المستولدة بمجرد وضع اليد عليها وإن ضمنت بالجناية. ويضمن الكلب المأذون في اتخاذه. وأما منفعة الأعيان فلا تضمن بالفوات تحت اليد العادية عند ابن القاسم. (وقال مطرف وابن الماجشون وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ في كتاب ابن حبيب: عليه الكراء إذا أغلق الدار، وبور الأرض، ولم يستخدم العبد، ووقف الدالة. وقال ابن حبيب: إذا باع الغاصب أو وهب غرم الغلة التي اغتل المشتري والموهوب له] 865]. [

فإن كان الغاصب معسرًا رجع المغصوب منه على الموهوب له إن كان حيًا أو على وارثه إن كان ميتًا، ولم يرجع على المشتري. قال أبو لحسن اللخمي: "وهذا مثل القول: إنه يغرم غلة الدار وإن أغلقها، لأن كليهما إنما يغرم ما حرم ربها من تلك الغلات (بغصبه)، لأن المسلط للمشتري والموهوب له. وأما التفويت فاختلف الرواية في حكمه، فروى أشهب وعلي بن زياد أن الغلة مضمونة من أي صنف كان المغصوب حيوانًا أو ربعًا أو غير ذلك، سكن أو أجر. وذكر القاضي أبو الحسن عكسها، "وهو أنها لا تضمن على الإطلاق". وروى ابن القاسم: أن الغاصب يضمن غلة الرباع والإبل والغنم، ولا يغرم غلة العبيد والدواب. وقال أيضًا يغرم ما استعمل. وقال ابن المعذل: يغرم غلة ما لا يسرع إليه التغير كالدور والأرضين و (النخل)، ولا يغرم غلة ما يسرع إليه التغيير) كالعبيد والحيوان. وقال القاضي أبو بكر: "الصحيح أن المنافع مال وأنها مضمونة، سواء تلفت تحت اليد العادية أو أتلفها المعتدي"، فأما منفعة البضع فلا تضمن إلا بالتفويت، فعليه في الحرة صداق المثل، بكرًا كانت أو ثيبًا، وأما الأمة فعليه ما نقصها، وكذلك منفعة بدن الحر لا تضمن إلا بالتفويت. فرعان: الأول: (قال محمد: إذا غصب داراً خربة لا يقدر على سكناها حتى يصلحها، فسقف فيها وحفر وردم وأصلح حتى سكن، وأغلت غلة كثيرة، فلربها أخذها مصلحة، وأخذ ما اغتل منها، وكراء ما سكن، ولم يكن عليه مما أصلح شيء إلا قيمة ما لو نزعه لكان له قيمة". (وإن غصب مركبًا خربًا لا يقدر على استعماله إلا بإصلاحه فعمره وأعده لحوائجه ثم اغتل غلة، كان جميع الغلة المستحقة، ولا غرم عليه في شيء مما أنفقه، إلا مثل صاري أو.

رجل أو حبل). قال: وأصبغ يذهب في ذلك إلى قول أشهب، ولم يعجبني. قال أبو الحسن اللخمي: "وقول أشهب أبين، فيقوم الأصل قبل إصلاحه فينظر ما يؤاجر به ممن يصلحه فيغرمه، وما زاد على ذلك فللغاصب". قال: "ولا أعلمهم اختلفوا فيمن غصب أرضًا فبناها، ثم سكن واستغل: أنه لا يغرم سوى غلة القاعة". الفرع الثاني: حيث ألزمنا الغاصب رد الغلات، فهل يرجع بما أنفق على العبد والدابة وبالسقي والعلاج أم لا". قال ابن القاسم: له أن يقاص بما سقى وعالج مما بيده من الغلة، فإن عجزت الغلة عنه لم يرجع بما زاد عليها. وروى أشهب: إن رب الدابة والعبد إذا أخذ رجع بالكراء والغلة، وقاصه في الغاصب بما أنفق على العبد أو الدابة. قال غيره: قال ولو أكر ذلك الغاصب وحابي فيه لأخذه بالمحاباة، فإن أعدم أخذ بها المكتري. الركن الثالث: في الواجب. وهو ينقسم إلى المثل والقيمة. وحد المثل: ما تماثلت أجزاؤه في الخلقة والصورة والجنس، وذلك مما يوزن أو يكال، كالذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والحنطة والشعير وجميع الأطعمة، وكذلك ما يعد مما (تستوي) آحاد جملته في الصفة غالبًا، كالبيض والجوز ونحوه. ثم إن لم يسلم المثل بعد أنتلف المغصوب حتى فقد المثل، (فقال ابن القاسم: ليس عليه إلا مثله. وقال أبو الحسن اللخمي: "يريد: أنه يصبر حتى يوجد. وقال أشهب: المغصوب منه بالخيار بين أن يصبر أو يأخذ بالقيمة الآن. قال ابنعبدوس: اختلف في ذلك كالاختلاف في السلم في الفاكهة بعد خروج الإبان".

ولو غرم القيمة ثم قدر على المثل لم يلزمه دفعه، لتمام الحكم بالبدل. ولو أتلف مثليًا وظفر به في غير ذلك المكان، لم يكن له (عليه) مثل ولا قيمة، بل يصبر حتى يرجع إلى البلد الأول فيأخذ المثل. وكذلك لو وجد الطعام المغصوب بعينه ببلد آخر لم يكن له على الغاصب إلا المثل في مكان الغصب، ولم يكن له أخذه. وبذلك قال ابن القاسم. (وروى محمد عن أشهب: أن ربه مخير بين أخذه أو أخذ الغاصب بمثله في مكانا لغصب. وقال سحنون: (لا أعرف قول أشهب هذا)، وإنما له أخذه بمثله في موضع الغصب. وكذل كروى أصبغ عن أشهب في الموازية والعتبية. وقال أصبغ: "إنكان البلد البعيد، فالقول ما قال ابن القاسم، وإن كان قريبًا كبعض الأرياف والقرى، أخذه ويحمل على الظالم بعض (الحمل) ولو كان المغصوب من الحيوان لم يكن لربه سوى أخذه حيث وجده. (وأما البز والعروض فربها مخير بين أخذه أخذ قيمته في موضع الغصب والسرقة. وقال أشهب: "إذا أصاب العروض والحيوان ببلد آخر فإن له أخذها، وإن شاء تركها

وأخذه بقيمتها يوم الغصب ببلد الغصب، يأخذ ذلك منه حيث لقيه، وقاله أصبغ: قال محمد: قول أشهب صواب. وقال سحنون: البز والرقيق عندي سواء، ليس له إلا أخذه بعينه بغير البلد، واختلاف البلدان في ذلك كتغير الأسواق. قال أبو القاسم: فإن اتفق المتعدي ورب الطعام على أخذه بعينه بغير البلد أو مثله أو الثمنا لذي بيع به فذلك جائز. وكذلك لو اتفقنا على أن يأخذ منه فيه ثمنًا نقدًا جاز، بمنزلة بيع الطعام القرض قبل قبضه؛ وقاله أصبغ. وأما على أخذ طعامالطعام يخالفه فلا يجوز. وأما من لك عليه طعام ابتعته بعينه فتراضيتما أن يعطيك مثله بغير البلد، فهذا لايجوز، لأنه بيع طعام بطعام ليس يدًا بيد. فرع: إذا حكم للمغصوب منه بالمثل في بلد الغصب، إما بالإلزام على قول ابن القاسم وسحنون، وغما لأنه اختاره، على قول أشهب، فلا يدفع الطعام المنقول إلى الغاصب حتى يتوثق منه. قال أشهب: يحال بينه وبينه حتى يوفي المغصوب منه حقه. وقال (أصبغ): يتوثق له بحقه، قبل أن يخلي بينه وبينه، وقاله محمد. (ومن أتلف حليًا فعليه قيمته، وقيل: مثله. ولو كسر الحلي فوجده ربه مكسورًا فله أخذه وأخذ قيمة الصياغة. ولو كسره ثم أعاده على حالته فلصاحبه أن يأخذه بلا غرم. وإن صاغه على غير صياغته لم يأخذه، ولم يكن له إلا قيمته يوم غصب، قاله ابن القاسم وأشهب. وقال ابن المواز: لا شيء له إلا قيمته، وإن أعاده (إلى) حاله، لأن الغاصب ضمن قيمته).

ولو لم يكن غاصبًا إلا متعديًا لكان له أخذه إذا صاغه على حاله بلا غرم. ولو اشتراه رجل من الغاصب فكسره ثم أعاده (إلى) حالته لم يكن لصاحبه أخذه، إلا أن يدفع إلى المشتري قيمته صياغته، لأنه لم يتعد في الكسر. ولو اتخذ من الحنطة دقيقًا لم يكن له إلا مثل حنطته. وقال أشهب: ربها بالخيار بين أن يأخذ مثل الحنطة أو يأخذ الدقيق، ولا شيء له في طحنه. وأما المتقومات إذا أتلفت فتضمن بقيمتها يوم الغصب. وقيل: بأقصى قيمتها (من) يوم الغصب إلى يوم التلف كما تقدم. ووقع في العتبية، من سماع ابن القاسم، "فيمن تسوق بسلعة فأعطاه غير واحد بها ثمنًا، ثم استهلكها رجل، فليضمن ما كان أعطى (بها)، ولا ينظر إلى قيمتها إذا كان عطاء قد تواطأ عليه الناس، ولو شاء أن يبيع به باع. وقال سحنونه: لا يضمن إلا قيمتها وقال عيسى: يضم الأكثر من القيمة أو الثمن. ثم حيث قلنا: يضمن القيمة، فإن أبق العبد المغصوب ضمن قيمته وأخذت منه، وصار العبد ملكًا له، والقيمة ملك للمغصوب منه، حتى لو وجد العبد بعد ذلك لم يكن له رجوع في القيمة، ولا للمغصوب منه الرجوع في العبد إلا بتراضيهما. وقيل: لربها لرجوع. ولا خفاء بأن الغاصب لو كتم العبد وادعى هلاكه حتى أخذت منه قيمته ثم أظهره، أن لربه أخذه منه (متى) شاء، شاء الغاصب أو أبى. وإن تنازعًا في تلف المغصوب فالقول قول الغاصب، لأنه ربما عجز عن البينة وهو صادق. وما اختلف فيه من جنس سالم مغصوب أو مبلغ كيله أو وزنه أو صفته فالقول قول الغاصب مع يمينه في جميع ما يشبه من ذلك. وقيل: في الصرة المنتهبة القول قول صاحبها إذا ادعى ما يشبه.

الباب الثاني: في الطوارئ على المغصوب، من نقصان أو زيادة أو تصرف

الباب الثاني: في الطوارئ على المغصوب، من نقصان أو زيادة أو تصرف وفيه فصول ثلاثة الفصل الأول: [في النقصان] فإذا غصب ما قيمته عشرة فعاد إلى درهم فرده بعينه فلا شيء عليه إذ لا يراعي انخفاض الأسواق كما لا يراعي ارتفاعها. وإن تلف قبل رده فالجواب عشرة، وهي قيمته يوم الغصب، وأعلى القيم. ولو دخله عيب، أو زوال جارحة، أو نقص قل أو كثر، في عرض أو حيوان، رقيق أو غيره، بأمر من الله سبحانه، فالمغصوب منه مخير بين أخذ ذلك بعينه ولا شيء له في نقصه، وبين (تركه) وأخذ قيمته يوم الغصب؛ وإن كان العيب أوزوال الجارحة بفعل من الغاصب، فقد تقدم حكم ذلك وبيان الخلاف فيه. وأما إن كان بجناية أجنبي ثم ذهب، فلا يؤخذ الغاصب بما نقصها، (ولربها) أن يضمنه قيمتها يوم الغصب، ثم للغاصب إتباع الجاني، "وإن شاء ربها أخذها واتبع الجاني دون الغاصب بما نقصها. ولو جنى العبد المغصوب جناية قتل بها قصاصًا، ضمنه الغاصب إذا حصل الفوات تحت يده، وإن تعلق الأرش برقبته فقال ابن القاسم: "إن شاء سيده أخذه من الغاصب قيمته يوم الغصب، وسلمه إلى المجني عليه؛ وإن شاء أخذه ولم يرجع على الغاصب بشيء. التفريع: إن أخذ القيمة من الغاصب، (فاللغاصب) أن يسلمه أو يفديه، (وإن أَخَذَهُ تخير بين أن يسلمه إلى المجني عليه أو يفديه).

وقال أشهب: يسلم العبد إلى ربه، يسلمه أو يفتكه، ثم يرجع على الغاصب بالأقل من جنايته أو قيمته. ولو حفر الغاصب بئراً في الدار فعليه ردم ما حفر فيها وإن بناها فله نقضها، إلا أن يشاء رب الدار أن يعطيه قيمة نقضه (مقلوعًا) بعد طرح أجر النقض والتنظيف إذا كان لا يباشر ذلك بنفسه فله ذلك. وإذا خصى العبد ضمن ما نقصه، فإن لم ينقصه ذلك أو زادت قيمته لم يضمن شيء وعوقب. (ولو هزلت الجارية ثم سمنت، أو نسي العبد الصنعة ثم تذكر حصل الخير). ولو غصب غصيرًا فعاد خمرًا ضمن مثل العصير لفوات المالية، ولو صار خلاً لكان ربه بالخيار بين أن يأخذه خلاً أو يغرمه مثله عصيرًا. (قال ابن القاسم وأشهب: ولو غصب خمرًا لمسلم فخللها، فلربها أخذها خلاً لا غير ذلك. قالأشهب: ولو كانت لذمي لكان مخيرًا في أخذها خلاً، أو قيمتها خمرًا يوم الغصب). وأما البذر إذا زرع والبيض إذا تفرخ، فالخارج ملك للغاصب وعليه مثل ما غصب. وقال سحنون في الفراخ: "هي للمالك وعليه للغاصب قدر كراء ما حضنته دجاجته".

الفصل الثاني: [في الزيادة]

("وفي المجموعة عن أشهب فيمن (اغتصب) دجاجة فباضت عنده فحضنت من بيضها، فما خرج من الفراريج فلربها أخذها مع الدجاجة كالوالدة. وأما لو حضن الغاصب تحتها بيضًا (من غير بيضها) فخرج من ذلك فراريج، وحضن بيضها تحت دجاجة له أخرى، فليس للمغصوب منه إلا دجاجته وحدها إن شاء، ولا شيء له مما خرج من البيض الذي حضنت من بيض غيرها، ولا مما حضنه غيرها من بيضها، ويغرمه المستحق بيضًا مثل بيضها. ومثل ذلك في كتاب محمد. ثم قال: ويكون له فيما حضنت من بيض غيرها كراء مثلها. قال الشيخ أبو محمد: "يعني محمد على قول أشهب". الفصل الثاني: [في الزيادة] وإذا غصب ثوبًا فصبغه، قربه بالخيار بين أخذ قيمته يوم الغصب، وبين أخذ الثوب. ثم (إذا) أخذه دفع للغاصب قيمة الصبغ. وقال أشهب: لا شيء له في الصبغ، وإن نقصه الصبغ فله أخذ قيمته يوم الغصب أو أخذه بغير أرش. ولو غصب طينًا فضربه لَبِنًا لرجع عليه بمثل الطين لانتقاله بالصنعة. (وإن غصب شاة فذبحها وشواها، ضمن لربها قيمتها. وكذلك لو ذبحها ولم يشوها. وقال محمد بن مسلمة إذا ذبحها ولم يشوها فلربها أخذها مذبوحة، وما نقصها الذبح). ولو غصب نقرة فصاغها حليًا (ضمن مثلها) ولم يأخذ الحلى. وقال ابن الماجشون: له أن يأخذ الفضة (المصنوعة) والثوب المصبوغ أو المخيط إن

الفصل الثالث: في تصرفات الغاصب

شاء في جميع ذلك، ولا حجة عليه بالصنعة، "إذ ليس لعرق ظالم حق"وإن شاء قيمة ذلك). وإن غصب زينًا وخلطه بزيته، وهو مثله، صار شريكًا بمكيلته، وإن خلطه بأدنى منه أخذه بالمثل من غيره. ولو غصب ساجة أو سارية وأدرجها في بنائه لم يملكها بل يردها على مالكها وإن أدى إلى هدم بنائه، وكذلك لو غصب لوحًا, وأدرجه في سقيفته لكان لصاحبه قلعه. الفصل الثالث: في تصرفات الغاصب وإذا بع الجارية المغصوبة، فوطئها المشتري وهو عالم لزمه الحد، وإن كان جاهلاً لم يحد. أما الولد فهو رقيق، ولا نسب له إن كان عالمًا، وإن كان جاهلاً انعقد على الحرية، وضمن المشتري قيمة الولد يوم الحكم إن كان باقيًا إلا أن يكون يومئذٍ جنينًا فتؤخذ قيمته يوم الوضع إذا وضع. وقال المغيرة: يضمن الولد بقيمته يوم الوضع وإن مات بعد ذلك، ويرد الأم. وروى أنه يأخذ قيمتها من المشتري، وتكون أم ولد له، ولا شيء للسيد في ولدها

فإن انفصل الولد ميتًا فلا ضمان، وكذلك لو انفصل حيًا ثم قتل قبل القيام، إلا أن يأخذ الواطئ فيه دية فيكون عليه الأقل منها أو من قيمته حياً. فرع: في بيان الفرق بين الغاصب والمتعدي. قال في الكتاب: "والمتعدي يفارق الغاصب في جنايته، لأن المتعدي إنما جنى على بعض السلعة، والغاصب كان لجميعها غاصبًا فضمنها يومئذ بالغصب، فلو تعدى رجل على صحفة أو عصا فكسرها، أو خرق ثوباً، فإن كان ما صنع قد أفسد ذلك فسادًا كثيرًا فربه مخير في أخذ قيمة جميعه أو أخذه بعينه ويأخذ ما نقصه من المتعدي. فإن كان الفساد يسيرًا فليس له إلا ما نقصه بعد رفء المتعدي للثوب. وقد كان مالك يقول: يغرم ما نقصه ولا يفصل بين قليل أو أكثر". ثم قال: "هكذا، وسواء كان ثوبًا أو حيوانًا أو غيره". وقال أشهب في الفساد الكثير: إنما له أن يضمنه قيمة جميع الثوب أو يأخذه بنقصه، ولا شيئ له مما نقصه. وقاله ابن القاسم مرة، ثم رجع عنه. وإذا فرعنا على الأول ففي معنى الفساد ما أتلف الغرض المقصود من العين عادة، وإن كانت الجناية في الصورة المشاهدة يسيرة، (مثل أن يقطع ذنب الدابة أو أذنيها، فلا يمكن من جهة العادة الانتفاع بها من الوجه المقصود منه، مما يركب مثله القضاة وذوو الهيئات. رواه ابن حبيب عن مطرف وابن المجشون وأصبغ). وهكذا إذا جنى على القلنسوة (أو) الطيلسان والعمامة جناية يعلم أن صاحبها ذا الهيئة والمروءة والمنزلة لا يلبسها على تلك الحال. وإن كان قد أتلف على المالك المنفعة المقصودة من العين فقد صار كمتلفها جملة بالإضافة إلى مقصوده، إذ الأعيان إنما تقصد وتقتني لمنافعها، فذهاب المنفعة المقصودة من العين التي اقتنيت من أجلها كذهاب العين جملة.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركان الاستحقاق وهي ثلاثة: المأخوذ، والآخذ، والمأخوذ منه الأول: المأخوذ. ومتى كان المبيع عقاراً منقسمًا غير تابع في الانتفاع به لغيره، كان مأخوذًا (باتفاق)، ويلحق به ما كان تابعًا لهو متعلقًا به مما هو ثابت فيه لا ينقل ولا يحول، وذلك كالجدران والبئر وفحل النخل، فتجب الشفعة في ذلك، ما دام أصله على صفة تجب فيها الشفعة، وهي: أن يكون مشاعًا غير مقسوم؛ واختلف في قسم ثالث كالثمار. فقال ابن الجاجشون: "لا تؤخذ بالشفعة". وقال أشهب: "للشريك الشفعة في الثمن، كان الأصل لهما أو لم يكن"

وفي الكتاب قال مالك في قوم شركاء في ثمرة: "إذا كان الأصل لهم أو [كانت] النخل في أيديهم مساقاة، أو كانت حبسًا على قوم، وأثمرت هذه النخل وحل بيعها، فباع أحدهم، فإن (شركاءه) في الثمرة يأخذون ما باع (بالشفعة) بما باع) به". قال محمد: وهو صواب ما لم (ييبس)، وإذا كان الأصل بينهما. واختلف أيضًا في مكاتبة المكاتب، وفي الأرض بين الشركين يؤاجر أحدهما حصته للزرع، وفي البناء القائم لقوم في عرصة ليست لهم، كأهل حبس بنوا فيه، ثم مات أحدهم، فباع ورثته حصته من البناء. وكذلك إن بنوا في عرصة معارة، فباع أحدهم حصته من النقص، فرب الأرض مبدأ، فإن شاء أخذ ذلك بالأقل من قيمته نقضًا أو الثمن، فإن أبي فلشريكه أخذها بالثمن. وقال أشهب: لا شفعة في ذلك لشريكه، إذا لا ملك له في العرصة، وهو بيع لا يجوز، باعا جميعاً أو أحدهما، لأن رب الأرض له أن يبقيه ويؤدي قيمته نقضًا؛ أو يأمر بقلعه، فلم يدر المبتاع ما اشترى نقضًا أو ذهبا. ورواه عن مالك فيمن بنى في عرصة رجل بإذنه، ثم باع بناءه أن ذلك لا يجوز، وكذلك إن بني في عرصة محبسة عليهما، لم يجز بيعهما ولا بيع أحدهما. واختلفت الرواية في أخذ ما لا ينقسم من الرباع والأرحية والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك. ومنشأ (هذا) الاختلاف: النظر إلى علة الشفعة هل هي ضرر القسمة فلا تجب فيما لا ينقسم، (أو ضرر الشركة فتجب فيما لا ينقسم) كما تجب فيما ينقسم؟ قال القاضي أبو الحسن: "والذي يقوى في نفسي أن فيه الشفعة". ولا شفعة فيما عدا هذا من الحيوان والعروض والطعام وغير ذلك من أعيان الأملاك، ولا في حق من حقوق الملك كالممر ومسيل الماء والطريق إلى العلو، وشبه ذلك.

الركن الثاني: الآخذ. وهو كل شريك بالملك، فلا شفعة للجار، وإن كان ملاصقًا، وثبت للشريك وإن كان كافرًا، إذا كان البائع مسلمًا، كان المشتري مسلمًا أو ذميًا، وقيل: "إن كان المشتري والشفيع ذميين فلا شفعة لأن المحاكمة بينهما". وقال أشهب: "تجب الشفعة إذا كان فيهم مسلم من غير تفصيل". فرع: من شارك بحصة موقوفة، فإن كان مرجعها إلى المحبس فالشفعة له، وإن كانت لا مرجع لها إليه فلا شفعة له، إلا أن يريد المحبس أو المحبس عليه أن يلحق ذلك بالمحبس فذلك له. وقيل: ليس ذلك له. قال أبو الحسن اللخمي: "وهو أقيس، إذ لا أصل له يستشفع به". الركن الثالث: المأخوذ منه. وهو كل (من) تجدد ملكه اللازم باختيار. وفي اشتراط / تجدده بمعاوضة روايتان، ثمرتهما نفي الشفعة في الصدقة والهبة لغير ثواب أو ثبوتها. احترزنا بالمتجدد عن رجلين اشتريا داراً معاً، فلا شفعة لأحدهما على الآخر، واحترزنا باللازم عن الشراء في زمن الخيار، فإنه لا يؤخذ فيه بالشفعة حتى يختار. واحترزنا بالتقييد بالاختيار عن الحاصل بالإرث. وتثبت الفعة في ما وراء ذلك من وجوه المعاوضات، بأي نوع كان من التمليكات، من مهر، أ, خلع، أو بيع، أو إجارة، أو صلح من أرش جناية، أو قيمة متلف، أو دم عمد أو خطإ، أو غير ذلك من المعاوضات، سوى المناقلة (فإنها) قد اختلف فيها. فقال ابن القاسم في العتبية، فيمن باع نصف أرضه بأرض أخرى وبزيادة دنانيره ففيه الشفعة

قال: "وقال بعض أصحابنا: إنه كان من قول مالك وغيره من المدنيين: إنه إن علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد البيع فلا شفعة، لأنه لم يكن يرضى أن يخرج من داره ويبقى لا دار له. وقاله ربيعة، وكرناه لمالك فلم يره، وقال: فيه الشفعة". قال العتبي: "وقال مطرف وابن الماجشون إنما قال مالك: لا شفعة، إذا كان بين أشراك داران أو حائطان، فيناقل أحدهم بعض أشراكه حصته من هذه الدار بحصته من الدار الأخرى أو الحائط، فيجتمع حظ كل واحد منهم في شيئ واحد، لأنه إنما أراد توسعة حظه وجمعه، وأما إن ناقل بنصيبه (من دار بنصيب) من دار أخرى لا نصيب له فيها ففيها الشفعة، عامل بذلك بعض أشراكه أو أجنبياً". وحكى مثله كله ابن حبيب عن مطرف عن مالك وقال: قد كان ابن القاسم يروي أن في ذلك كله الشفعة، والأول أحب إلي. ويأخذ بالشفعة في الإقالة والشركة والتولية كما يأخذ في ابتداء البيع سواء. وفي وجوب عهدته في الإقالة على المشتري أو تخبيره بين البائع والمشتري خلاف، منشؤه تنفيذ الإقالة والأول أحب إلي. ويأخذ بالشفعة في الإقالة والشركة والتولية كما يأخذ في ابتداء البيع سواء. وفي وجوب عهدته في الإقالة على المشتري أو تخييره بين البائع والمشتري خلاف، منشؤه تنفيذ الإقالة وعدم تنفيذها. فقال مالك في كتاب محمد: يأخذ الشفيع بعهدة بيع الإقالة. "قال أشهب: هو استحسان، كان المستقيل البائع أو المشتري، والقياس أن يأخذ من أيهما شاء، ولو قاله قائل لم أعبه. وقال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: إن ظهر من حال المتقايلين أنهما إنما قصدا قطع الشفعة فالعهدة على المبتاع لا تعدوه، وإن ظهر أن الإقالة لقصد صحيح لا لقصد قطع الشفعة فالخيار إلى الشفيع في أن تكون عهدته على أيهما شاء. وفي كتاب محمد وقاله أشهب وابن الماجشون في المجموعة، وقاله مطرف في الواضحة. وإذا سلم الشفيع الشفعة (ثم) تقايلا، كان للشفيع أخذها بالشفعة بعهدة الإقالة لأنه بيع حادث زالت فيها التهمة. قال ابن الماجشون في المجموعة ومطرف في كتاب ابن حبيب: وكذلك لو ولاه (أو) أشرك فيه فللشفيع الشفعة بذلك

قال أشهب في كتاب محمد: ولو تقايلا بزيادة أو نقصان قبل تسليم الشفيع فله الشفعة على أيهما شاء". وبالجملة، فحيث صححنا الإقالة ولم يتهما فهي بيع مؤتنف، فيرجع البائع مبتاعًا، فيؤخذ منه بالشفعة لا لكونه بائعًا. قال الشيخ أبو الوليد: "وإنما تكون العهدة (عندنا) على البائع للشفيع في المقارض يبتاع بمال القراض شقصًا هو شفيعه أو رب المال شفيعه، لأن رب المال إن كانت له الشفعة فالمال (ماله)، فلا يصح له أن يكتب العهدة على نفسه، وإن كان (للعامل) فلا يجوز له أن يجعل العهدة على رب المال فيما ابتاع بماله". ومن باع شقص طفل تحت نظره فله الأخذ لطفل آخر؛ وإن كان له شريك معهم فأخذ بحصته تعقب فعله: فإن كان البيع أحظ لليتيم أمضى وإلا رد. وكذلك لو كان هو الشريك وحده. وإن كان للمشتري في الدار شركة قديمة وطولب بالشفعة، فليترك له ما يخصه لو كان المشتري غيره، فأما لو بقي للبائع حصة، فأراد أن يأخذ بها لم يكن له ذلك. وليس لبائع فيما باع شفعة. (قال أشهب في المجموعة: من باع بعض حصته من دار فلا شفعة له مع الشريك بما بقي له لأنه باع راغبًا في البيع، وإنما الشفعة للضرر. قال غيره: لو باع السلطان على غائب بعض شِقْصِهِ في دَيْنٍ عليه، ثم قدم فلا شفعة له فيه، وهو كما لو باعه هو. قال الشيخ أبو محمد: "ويتبين لي أن رجلاً لو باع شقصًا له في دار، ثم إن المشترى من باع ذلك الشقص من رجل آخر، أن لبائعه الأول فيه الشفعة، لأن هذا بيع ثان لم يله البائع الأول، فأما ما وليه البائع الأول فلا حجة له فيه، وليس له أخذه بالشفعة من المشتري منه، لأنه ولي بيعه. (وإذا تساوى الشريكان إلى مجلس الحاكم، وزعم كل واحد أن شراء الآخر متأخر وله

الباب الثاني: في كيفية الأخذ

هو الشفعة عليه، فالقول قول كل واحد في عصمة ملكه عن الشفعة). فإن تحالفا تناكلا (تساقط) القولان. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى لمن حلف بالشفعة. فرع: بيع الشقص بيعًا فاسدًا رد، ولم تكن فيه شفعة إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد، وتجب فيه القيمة، فيستشفع فيه حينئذٍ بها، إن كان الفوات بغير البيع الصحيح. فإن كان به أخذ الشفيع بثمنه، وليس له أن يأخذ بالعقد الأول، لأنه إذا أزيل البيع الصحيح بقي البيع الفاسد لا فوت فيه فيرد. ولو أخذه من المبتاع الأول قبل الفوت رد. فإن فات عنده قبل الإطلاع عليه بقي بيده، وعليه فيه الأقل من قيمته يوم قبضه هو القيمة التي وجبت على المشتري الأول، لأنه لا يقدر على رده لفواته عنده، ولأن له أن يستشفع بالقيمة التي وجبت على المشتري الأول. الباب الثاني: في كيفية الأخذ. والنظر في أطراف: الأول: فيما يملك به. (ويملك تبسليم الثمن، وإن لم يرض المشتري، ويقضي القاضي له بالشفعة عند الطلب، وبمجرد الإشهاد على الأخذ)، وبقوله أخذت، وتملكت. ثم يلزمه إن كان علم بمقدار الثمن، وإن لم يكن علم لم يلزمه. الطرف الثاني: فيما يبذل من الثمن. وعلى الشفيع بذل (مثل) ما بذله لمشتري إن كان مثليًا، أو قيمته يوم العقد، إن كان من ذوات القيمة، وما لا تتحرر فيه القيمة فقيمة الشقص فيبذل في الممهور، وما عليه الخلع، وما صولح عليه من دم عمديمة الشقص يوم العقد

وقيل: يبذل في المهمور صداق المثل، كما في استحقاقه من يدها، وفي هبة الثواب يأخذ بقيمة الثواب أو بمثله، ولا يأخذ بالشفعة إلا بعد دفع الثواب، فإن أثابه أكثر من القيمة، (فقال ابن القاسم وعبد الملك: (يأخذ) بقيمة العوض، ما بلغ. وقال أشهب: ذلك فيما قبل الفوات، فأما بعده فيأخذ بالأقل من الثواب أو قيمة الهبة). وإذا باع الشقص بألف إلى سنة فللشفيع أخذه بمثل ذلك الدين من أجله إن كان مليًا، أو أتى بضامن ملي. وإن احتال البائع على الشفيع بالثمن لم يجز، لأنه دينه لم يحل. وإن عجل الشفيع الثمن قبضه المبتاع. ثم ليس عليه أن يعجل للبائع. ومن ابتاع شقصاً وعرضًا بألف أخذ الشفيع الشقص بما يخص باعتبار قيمته يوم العقد، ثم لا خيار للمشتري فيما فرق عليه من الصفقة. والأصل في المشتري أنه لا يضمن للشفيع شيئًا مما حديث في الشقص من (غصب) أو هدم في حرق أو غرف، أو ما غار من أعين أو بئر. ولا يحط الشفيع لذلك من الثمن شيئًا، بل إما أخذ بجميع الثمن، وإما ترك. وكذلك (لو) هدم البناء ليبينه أو ليوسع، فإما أخذ ذلك مهدومًا مع نقصه، أو ترك. وكذلك لو سكن حتى ينهدم البناء، فلا شيئ عليه. ولا يحط لذلك من الثمن شيئًا، بل إما أخذ بجميع الثمن، وإما ترك. وكذلك (لو) هدم البناء ليبينه أو ليوسع، فإما أخذ ذلك مهدومًا مع نقضه، أو ترك. وكذلك لو سكن حتى ينهدم البناء، فلا شيئ عليه. ولا يحط لذلك من الثمن شيئًا. وإن هدم المشتري ثم بنى، قيل للشفيع: خذ بجميع الثمن وقيمة ما عمر. قال أشهب: يوم القيامة، وله قيمة البناء الأول منقوضًا، قال ابن القاسم: وإلا فلا شفعة لك. وكذلك لو غرس لقيل له: خذ بجميع الثمن وقيمة الغرس. فرع: في تصوير هذه المسألة. وهي تصرف المشتري في الشقص قبل الشفيع، وذلك أنه لا يتصرف بالبناء في ملك مشاع، ولو فعل ذلك لكان حكمه حكم الغاصب. وإنما يبني ويغرس بعد القسمة، وبعدها شفعة، لكن فرض لها العلماء صورًا وقعت فيها القسمة بعد شراء الشقص

المشفوع من غير إسقاط الشفيع لحقه في الأخذ. منها: أن يكون الشفيع غائبًا، ويطلب الشركاء القسمة فيقاسم القاضي على الغائب. ومنها: أن يكون المشتري كذب في الثمن، فترك الشفيع الأخذ استغلاء، ثم قاسمه. ومنها: أن يكون أحد الشريكين غاب ووكل في مقاسمة شريكه، فباع شريكه نصيبه، ثم قاسم الوكيل المشتري، ولم يأخذ بالشفعة. ومنها: أن يكون الشفيع غائبًا وله وكيل حاضر على التصرف في أمواله فباع الشريك، فلم ير الوكيل الأخذ بالشفعة وقاسم المبتاع. ومنها: أن يقوم 0اتهبت) الشقص لغير ثواب ولم أشتره، فتسقط الشفعة على إحدى الروايتين فيقاسمه، ثم يثبت (الشراء). وليس للشفيع شئ فيما اغتل المبتاع من غلة دار أو أرض أو ثمرة نخل قبل قيامة. وله الشفعة في النخل بما) فيها من ثمر ما لم ييبس. قال سحنون: الشفعة في الثمر مع الأصل ما لم ييبس ويستغني عن الماء، بخلاف الزرع، لأن (الثمرة ولادة، ثم على الشفيع للمتباع قيمة ما سقى وعالج. وقال عبد الملك وسحنون: ليس عليه شيئ إلا الثمن)، لأن المنفق أنفق على مال نفسه. ولو اشترى الشقص بثمن ثم حط عنه بالإبراء بعضه نظر: فإن أشبه أن يكون (ثمن الشقص عند الناس ما بقى إذا تبايعوا بغير غب، أو بالغبن الجاري به العادة بينهم، وضع عن الشفيع ما) وضع عن المبتاع، لأن ما أظهرا من الثمن الأول يبين أنه إنما كان تسبيبًا لقطع الشفعة؛ وإن لم يشبه أن (يكون ثمنها ما بقي بعد الحطيطة لم يحط للشفيع شيئ. وقال ابن القاسم أيضًا: إن كان ما حط مما جرت العادة بحطه) في البياعات لحق الشفيع وإن كان كثيرًا مما لم تجر العادة بحط مثله لم يلحقه. وقال أشهب: يلحقه الحط على الإطلاق، من غير تفصيل. ولو وجد المبتاع بالشقص عيبًا، (وأراد رده على البائع قبل أخذ الشفيع فذلك له. وكذلك إن وجد البائع بالعبد الذي هو عوض الشقص عيبًا) فأراد استرداد الشقص قبل أخذ

الشفيع، فأما (إن) كان بعد أخذه فليس له ذلك، ولا تنقص صفقة الشفيع. ثم هل يقع الاستشفاع بقيمة العبد أو الشقص؟ قولان: الأول لابن القاسم، والثاني لعبد الملك وسحنون. فشبهة ابن القاسم بما لو كان قائماً بيد مشتريه ولم يرده، لأن ذلك الأخذ بيع حادث. ورأى عبد الملك وابن الماجون وسحنون أن القيمة عادت ثمنًا، وهي التي وزن المشتري فيه. وإذا فرعنا على قول عبد الملك وسحنون، فكانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد، كان الشفيع بالخيار بين الأخذ بذلك أو الرد، كما لو استشفع على ثمن ثم تبين أن الثمن أكثر منه. ولو وجد المشتري بالشقص عيبًا بعد أخذ الشفيع لم يكن له طلب أرض، فإن رد الشفيع عليه رد هو (حينئذ على البائع. ولو أطلع على عيب قبل أخذ الشفيع، إلا أنه حدث عنده عيب منع من الرد فأخذ أرشه)، فذلك الأرض محطوط عن الشفيع قولاً واحدًا. وإذا اشترى الشقص بكف من الدراهم لا يعرف وزنه، فليأخذ الشفيع بالقيمة وقيل: تبطل الشفعة. ولو خرج ثمن المبيع مستحقًا قبل أخذ الشفيع وهو متعين تبين بطلان البيع والشفعة. (ولو استحق بعد أخذ الشفيع فهو فوت، ومضى البيع والشفعة)، ثم لبائع الشقص على مبتاعه قيمته، كانت أكثر من الثمن أو أقل، ثم لا تراجع بينه وبين الشفيع. وقال سحنون: إن غرم الشفيع أقل رجع عليه بما بقى، وإن غرم أكثر خير الشفيع بين غرم المزائد أو رد الشقص. وإن كان الثمن مما يكال أو يوزن واستحق بعد أخذ الشفيع رجع البائع بمثل ذلك. وقال سحنون: يرجع بقيمة الشقص لقواته. وإن خرج ثمن الشفيع مستحقًا لزمه الإبدال، ولم يبطل ملكه ولا شفعته، وكذلك إذا خرج زيوفاً. فرع: من اشترى أرضًا فزرعها (واستحق) نصفها، وأراد المستحق أن يأخذ النصف الآخر بالشفعة والزرع لم يطلع، فأما النصف المستحق فزرعه للمشتري وعليه فيه الكراء في إبان الزرع، أما النصف المستشفع فهل يبقى زرعه للمشتري ولا كراء عليه فيه، أو يأخذ الشفيع

نصف الأرض بنصف الثمن وقيمة نصد البذر والعمل؟. قولان: سببهما: الخلاف في أن الأخذ بالشفعة كالاستحقاق أو حكمه حكم البيع. ولو تصرف المشتري بوقف أو هبة نقض، وأخذ الشفيع الشقص وكان الثمن للمشتري، وإن كان ببيع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ بالبيع الأول فينقضه، أو بالبيع الثاني. وكذلك لو توالت عليه بياعات كثيرة، كان له أن يأخذ بأيها شاء فينتقض ما بعده. ولو تنازع الشفيع والمشتري في العفو عن الشفعة فالقول قول الشفيع. وأما في قدر الثمن، فقال ابن القاسم: "القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه مع اليمين، فإن أتى بما لا يشبه فالقول قول الشفيع). وقال أشهب: القول قول المشتري (بلا يمين إن أتى بما يشبه، وباليمين إن أتى بما لا يشبه. وأما في كون الشفيع شريكًا فالقول قول المشتري) فيحلف أنه لا يعرف له [شريكًا]. ولو أقر المالك ببيع الشقص وأنكر الآخر الشراء حلف أنه لم يشتر، وتسقط الشفعة، لأن عهدة الشفيع على المبتاع، ولم يثبت له ابتياع. ولو أقر أنه باع من فلان الغائب فقدم فأقر كتب الشفيع العهدة عليه، وإن أنكر حلف ورجع، الشقص إلى البائع. وقال محمد: أحب إلي ألا يرجع وإن أنكر الغائب، لأنه مقر أن الشفيع أحق به بذلك الثمن. قال أبو الحسن اللخمي: وقول محمد أصوب. قال: وأرى أن الحاضر مثله. له الشفعة، لأن المالك مقر بانتقال ملكه، وأن الشفعة واجبة للشفيع، وأن المشتري ظلمه في جحوده. الطرف الثالث: في تزاحم الشركاء. وإن توافقوا في الطلب (واستوت) حصصهم وزع الشقص المشفوع بينهم على قدرها، وكذلك إن تفاوتت حصصهم، فإنه يقسم بينهم على قدرها أيضًا على المنصوص. واستقى أبو الحسن اللخمي من قول عبد الملك وتعليله في مسألة تقويم الحصة الرقيق من العبد المعتق بعضه على المعتقين المختلفي الحصص (أن تكون الشفعة بين الأشراك

المختلفي الحصص على السواء. فإن طلب بعضهم وترك البعض، فليس لمن طلب الاقتصار على ما يخصه لو طلب الجميع، بل إما أخذ جملة المبيع المشوفع، وإما ترك الأخذ جملة، واحدًا كان الشفيع أو جماعة. هذا إذا كانوا في الشركة سواء لا خصوصي لبعضهم على بعض، فأما إن كان فيهم من له شرك أخص من غيره من الإشراك فهو أشفع وأولى من غيره ممن له شرك أعم، وذلك كأهل المورث الواحد يتشافعون بينهم دون الشركاء الأجانب، ثم أهل السهم الواحد أولى من بقية أهل الميراث. وبالجملة: فكل صاحب شرك أخص ف هو أشفع، إلا أن يسلم فيشفع صاحب الشرك الذي يليه، أعني الذي هو أعم منه. فإن سلم الآخر شفع من هو أبعد منه، فإذا باعت إحدى الجدتين أ, الأختين أو الزوجتين شفعت الأخرى خاصة، فإن (سلمت) شفع بقية أهل السهام والعصبة، فإن سلموا شفعت الشركاء الأجانب. ولو باع بعض العصبة كانت الشفعة بني بقيتهم وبين أهل السهام، فيدخل ذوو السهام على العصبة، ولا يدخل العصبة على ذوي السهام، لأن العصبة ليسوا أهل سهم معين. وقال أشهب: لا (تدخل) العصبة على أهل السهام ولا أهل السهام على العصبة، بل أهل كل سهم أشفع فيما باع بعضهم مما ورث معهم. وروي عن مالك أيضًا، أن الشريك الأعم (كالشريك)، الأخص فيتشافع جميع الأشراك من أهل المورث وغيرهم، فكل من له ملك في المبيع فله حقه من الشفعة فيما يبيعه أحد الشركاء. قال القاضي أبو الحسن: "وهو القياس، والأول استحسان". فرع: (اختلف فيمن أوصى لهم بثلث حائط أو سهم معلوم فباع بعضهم حصته: فروى أشهب أن شركاءه أحق بالشفعة في ما باع من الورثة. قال محمد: وقاله أشهب وابن عبد الحكم. وقال ابن القاسم: للورثة الدخول معهم، كأهل السهام مع العصبة).

الباب الثالث: فيما يسقط به حق الشفعة

وإذا اتحدت الصفقة والشفيع فلا ينظر إلى تعدد البائعين والمشترين أو الأشقاص، بل إما أخذ الجميع وإما ترك، وكذلك لو اتحدت الصفقة والبائع والمشتري (وإن) تعدد الشفيع. وقال أشهب وسحنون: إذا تعددت الأشقاص والمشترون واتحد الشفيع، فله أن يأخذ من أحدهم وإن اتحدت الصفقة. وقاله ابن القاسم مرة، ثم رجع عنه. ولو تعدد الشفعاء والأشقاص لكان لكل واحد أن يأخذ ما هو شفيع فيه خاصة. الباب الثالث: فيما يسقط به حق الشفعة وللسقوط أسباب ثلاثة: الأول: الترك بصريح اللفظ. الثاني: ما يدل عليه كالمقاسمة، وكالسكوت مع رؤية المشتري يهدم ويبني ويغرس. وقيل: لا يكون ذلك قطعًا شفعته، لكن يكون مقصرًا لمدة المهلة له في الطلب. فأما ابتياع الشفيع الشقص من المبتاع أو مساومته له فيه، أو مساقاته، أو إكراؤه منه، فإن ذلك مسقط لحقه في الشفعة عند ابن القاسم. وقال أشهب في كتاب محمد: هو على شفعته في ذلك كله. واختلف أيضًا، في بيع الحصة التي يستشفع بها هل يسقط حقه من الاستشفاع بها أم لا؟ ثم إذا قلنا: إنه يسقطه ففي إسقاطه الاستشفاع في بعض الحصة المشتراة ببيع بعض الحصة المستشفع بها خلاف أيضًا. تركيب: قد تقدم في هذا الكتاب أن بيع الخيار لا يؤخذ فيه بالشفعة إلا بعد إمضائه، وتقدم في كتاب البيع الخلاف في أن بيع الخيار إذا أمضى هل يعد ماضيًا من حقين عقده أو من حين إمضائه؟ وعلى هذا الخلاف يتركب الخلاف في فرع. وهو: من باع نصف دار من شخص بالخيار، ثم باع النصف الآخر من شخص آخر على البتل هل تكون الشف عة لمبتاع الخيار أو لمبتاع البتل؟. ويتركب على الخلاف ف يالفرعين، أعني بيع الحصة المستشفع بها وحكم بين الخيار إذا أمضى الخلاف في فرع ثالث. وهو: ما إذا باع أحد الشريكين حصته بيع خيار، ثم باع الآخر حصته بيع بتل. وقد اختلف في تعيين من له الاستشفاع في هذا على أربعة أقوال مبنية على صور الخلاف الأربع.

وبيان ذلك: أنا إذا فرعنا على أن بيع الحصة المستشفع بها يسقط حق بائعها من الاستشفاع بها انحصر حق الاستشفاع (في جانب) من ابتاع في الصورة المفروضة، ثم كان في تعيينه لمبتاع الخيار أو لمبتاع البتل قولان منشؤهما الخلاف في إمضاء بيع الخيار: هل هو إمضاء له من حين عقده أو من حين إمضائه؟. وإن فرعنا على أن بيع الحصة لا يسقط حق الاستشفاع كان الأخذ بالشفعة من جانب من باع. ثم كان في تعيينه لبائع البت أو البائع الخيار قولان مبنيان على الخلاف المتقدم في أن إمضاء بيع الخيار إمضاء له من حين عقده أو من حين إمضائه. الثالث: ترك القيام بعد العلم من غير عذر. (فقال ابن وهب في كتاب الشيخ أبي إحسحاق: إذا علم بوقوع الشفعة فسكت فلا شفعة له. والمشهور من المذهب: أنه لابد أن يمضي من طول الزمان ما يعلم معه أنه تارك لها. واختلفت الرواية في تحديد ذلك الزمان: فروى أشهب في تحديده سنة، وقال بما روى وروي عنه أنه بالغ في تحديد التحديد حتى قال: إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة ولم يقم فلا شيئ له. وقال ابن ميسر: ما قارب السنة حكمه حكمها). وفي التعبية من رواية أصبغ عن أشهب أنه قال: "إذا علاج فيها المبتاع هدمًا أو مرمة فلا أرى إلا وستنقطع قبل السنة، وإن لم يكن كذلك فإلى سنة". وروى ابن القاسم: ما زاد عليها، وقال به. وقال أصبغ: السنتان والثلاث قليل. وقال ابن الماجشون: الخمس سنين قليل، إلا أن يحدث المشتري فيها بنيانًا أو غرسًا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك. وحمل عليه الشيخ أبو الوليد أنه رأى في ذلك (رأيه) في الحيازة وهو عشرة أعوام. (وقال): قال أحمد بن المعذل: (إن) ابن الماجشون رجع في شفعة الحاضر إلى العشرة

بعد كان يقول بأربعين سنة". وروي أن الشفيع على شفعته وإن طال ما لم يصرح بتركها. والأصل في هذا الباب شواهد أحوال الشفيع القائمة مقام التسليم، وعلى ذلك يخرج منها نقل من الخلاف. ومتى مضى من المدة ما يحتمل أن يكون سكوته فيها عن الطلب تركًا لحقه فللمشتري استحلافه على ذلك. وفي العتبية من رواية ابن القاسم "في شفيع قام بعد شهرين أيحلف؟ قال: "لا". "وروي عنه فيمن قام بعد تسعة أشهر، قال: يحلف". وروي في كتاب محمد أنه يحلف في سبعة أشهر أو خمسة ولا يحلف في شهرين. قال ابن عبد الحكم: وإذا قال الشفيع: لم أعلم بالبيع وهو بالبلد فهو مصدق ولو بعد أربع سنين. محمد: وإن الأربع لكثيرة، ولا يصدق في أكثر منها. وقاله (لي) ابن عبد الحكم. ثم للمشتري أن يرفع الشفيع إلى الحاكم متى شاء، فيلزمه بالأخذ أو بالإسقاط، فإن طلب مهلة ليروي في الأخذ أو الترك، ففي وجوب إسعافه بذلك خلاف: روي في المختصر: أنه يؤخر اليومين والثلاثة. وقيل: يجيز الآن على الأخذ أو الترك ولا يؤخر. ولو نجز الأخذ وطلب المهلة بالثمن آخر ما لا يضر بالمشتري. قال ابن القاسم؛: يتلوم له اليومين والثلاثة

هذا حكم الحاضر؛ أما الغئب فعلى شفعته وإن طال الزمان ما لم يصرح بإسقاطها إلى أن يحضر، فيعتبر في حقه من المدة ما اعتبر في حق الحاضر. وكذلك الصغير إذا استقل بالنظر لنفسه، فيوم استقلاله كيوم حضور الغائب. والسفيه والمجنون كالصبي والغائب، إلا أن يكون لأحد هؤلاء من ينظر في أمره، فيكون الاعتبار بحاله في الأخذ أو الترك وطول الزمان وقصره في حقه. فرعان: أحدهما: لو كان الشفيع حاضرًا فأنشأ السفر بعد علمه بالشراء، فإن كان سفرًا قريبًا لم تبطل شفعته وإن حبسه عذر عن قرب العودة. وأما إن كان سفرًا بعيدًا بحيث لا يرجع منه في العادة إلا بعد انقضاء أمد الشفعة على الخلاف المتقدم بطلب حقه. الثاني: إذا دفع المشتري للشفيع عوضًا، دراهم أو غيرها، على ترك الأخذ بالشفعة جاز له أخذها، وتملكها إن كان ذلك بعد الشراء، فإن كان كله قبله بطل ورد المال وكان على شفعته. وكذلك لو سلم إليه الشفعة على غير مال، (لاختلف) الحال، (فلزم) بعد الشراء، ولم يلزم (قبله).

كتاب القسمة

كتاب القسمة وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في القسام وأجرته أما القسام (فالواحد) يكفي، ويقبل القاضي قوله إن كان بتوليته، فإن (ولي) (القسم) اثنان فهو أحسن. وقال الشيخ أبو إسحاق: يلي القسمة اثنان فصادعدًا، لأن فعلهما يجري مجرى الشهادة إن شهدا به وهما قائمان. وترد بعد عزلهما، لأنهما حينئذ يشهدان على فعل أنفسهما. وأما الأجرة فقال (ابن القاسم): ("كره مالك ما جعل للقسام مع القضاة في قسمهم وحسابهم. ولكن يكن خارجة بن زيد ومجاهد يأخذان في ذلك أجرًا. قال ابن القاسم: وذلك رأيي. ولينظر الإمام رجلاً يرضاه بقيمة لذلك، ويجري له عطاءه مع الناس، كما يجري للقاضي وغيره ممن يحتاج إليه المسلمون.

الفصل الثاني: في كيفية القسمة

قال ابن حبيب: إنما كرهه لأن ذلك يأخذونه من أموال اليتامى وغيرهم، وأما إن أجري لهم من بيت المال، فلا بأس بذلك. وكذلك كل ما يحتاج إليه الناس في قسم غنائمهم. فإذا أجري له عطاؤه من بيت المال أو من الفيء لم يحل له أن يأخذ ممن يقسم بينهم شيئًا، لأنه كالقاضي (المرزوق). فإن لم يجر له رزق فلا بأس أن يأخذ منهم، ولو قسم احتساباً كان أفضل له. وقد أجازه مالك له ولكاتب الوثيقة. ويكون الأجر في ذلك على عددهم لا على أنصبائهم. وأرى المأخوذ منه المال الذي كان على يديه كواحد منهم في غرم الوثيقة، لأنه يوثق له ولهم. قال مالك: وكذلك لو طلب القسم أحدهم وأباه غير فألزمه، فعل الآبي والطالب أجر القاسم سواء). انتهى كلامه. وقال أصبغ: (أحر) القاسم بني الأشراك على قدر حصصهم لا على قدر رؤوسهم. الفصل الثاني: في كيفية القسمة "وهي في الأصل على ثلاثة أوجه: [الوجه الأول] الأول: قسمة مهيأة. وهي ضربان: مهيأة في الأعيان، ومهيأة بالأزمان. فالضرب الأول: أن يأخذ أحد الشريكين داراً يسكنها، ويأخذ الآخر داراً يسكنها أو هذا أرضًا يزرعها، وهذا أرضاً يزرعها. والضرب الثاني: أن تكون المهيأة في عين واحد بالأزمنة، كدار يسكنها هذا شهرًا وهذا شهراً، أو أرض يزرعها هذا سنة وهذا سنة. الوجه الثاني: قسمة بيع. وصفتها: أن يأخذ أحد الشريكين داراً على أن يأخذ الآخر داراً، أو بستاناً، أو دكاناً.

ومحصولها: بيع أحدهما حصته من الدار بحصة الآخر من الدار الأخرى أو البستان، أو الدكان". وهذه القسمة تجوز في المختلف والمتباين، كما تجوز في المتفق والمتقارب لأنها بيع. وحكمها حكمه. الوجه الثالث: قسمة قيمة وتعديل. وذلك إذا كانت الدار مختلفة البناء، والبستان مختلف الغراس، تختلف قيمة كل شيئ من نخل وشجر، وغير ذلك، فإنها تعدل بالقيمة ويضرب عليها بالسهم. وصفة ذلك: (أن) تقسم الفريضة وتحقق، وتضرب إن كان في سهامها كسر، إلى أن تصح السهام، ثم يقوم كل موضع منها وكل نوع من غراسها، ثم تعدل على أقل السهام بالقيمة، فربما كان مقدار من المساحة من موضع بإزاء ثلاثة أمثاله من موضع آخر على حسب اختلاف قيم الأرض ومواضعها فمن حصل له سهم من طرف، فإن كان بقدر حقه فقد استوفاه، وإن كان أقل من حقه ضم إليه مما يليه تمام حقه. ووجه ذلك: أن القيمة إذا عرفت وعدلت على أقل السهام نظر، فإن تراضوا على أن يحصل لأحدهم من طرف، والباقين من الطرف الآخر جاز. وإن (تشاجروا) ضرب بالسهم بينهم، فمن حصل، له سهم من جهة كانت له، فإن اختلفوا بأي الجهات يبدأ في الإسهام عليه أسهم على الجهتين، فأيتهما خرج سهمها أسهم عليها، ثم كان الحكم فيه على ما بيناه. وصفة القرعة: أن تكتب أسماء الشركاء في رقاع، وتجعل في طين أو شمع، ثم ترمي كل بندقة في جهة، فمن حصل اسمه في جهة أخذ حقه متصلاً في تلك الجهة. وقيل: تكتب الأسماء وتكتب الجهات، ثم تخرج أو بندقة من الأسماء، ثم أول بندقة من الجهات، فيعطي من خرج اسمه نصيبه في تلك الجهة" وإذا قسمت الفريضة فكان لجماعة سهم واحد، قسم له كأحد سهام الفريضة، ثم قسم بين أربابه قسمًا ثانيًا. فروع في الطوارئ على القسمة، وهي خمسة. الأول: العيب. فإذا أطلع أحد الشريكين على عيب في نصيبه رد الجميع إن كان المعيب

وحه ما نابه، إلا أن يفوت ما بيد صاحبه ببيع أو هبة أو حبس أو صدقة أو هدم أو بناء، فيرد قيمته يوم قبضه، فيقتسمان تلك القيمة مع الحاضر المردود. وإن كان المعيب الأقل رده ولم يجرع فيما بيد شريكه، وإن كان قائمًا لم يفت إذ لم ينتقض القسم ولكن ينظر، فإن كان المعيب قدر سبع ما بيده مثلاً ورجع على صاحبه بقيمة نصف سبع ما أخذ، يقتسمان هذا المعيب. الثاني: الدين، فلو ظهر من بعد قسمة التركة، نقضت القسمة، إلا إذا وفوا الدين. فإن دعا بعضهم إلى فسخ القسمة، ودعا الباقون إلى دفع الدين، فالقول قول من دعا إلى الفسخ. وقال سحنون: لا تنفسخ القسمة بطروء الدين. قال ابن عبدوس عنه: ولكن ينظر ما الدين من قيمة جميع التركة يوم الحكم، فيرجع باسم ذلك الجزء فيما بيد كل واحد من الورثة على النسبة بقيمة يوم الحكم، على قد مواريثهم. الثالث: إذا وارث بعد القسمة، فإن كانوا أملياء، والتركة عين أخذ من كل واحد ما ينوبه. واختلف إذا وجد أحدهم معسرًا، فقال ابن القاسم: "ليس له أن يأخذ الموسر إلا بالقدر الذي كان يأخذ منه لو كان جميعهم موسرين". وقال أشهب وابن عبد الحكم: له أن يقاسم الموسر فيما صار له، كأنه لم يترك الميت غيرهما، ويتبعان المعسر متى أيسر. ورأيا أن القسمة فاسدة وإن لم يعلموا بالطارئ. والظاهر من مذهب عبد الملك أنها جائزة، إلا أن (يكونوا) عالمين بالطارئ فتكون فاسدة. وأصل ابن القاسم: أن ليس لأحد الشريكين أن يقسم العين دون شريكه، وأمضى القسمة ها هنا لما كان غير عالم، ولو كان عالمًا لم يجز. وأصل أشهب: الجواز. وإن كانت التركة عقارًا، فإن [كانت] داراً واحدة اقتسماها نصفين، كان بالخيار بين أن يجوز القسم، ويكون شريكًا لكل واحد من أخويه بثلث ما في يده، أو يرد فيجمع سهمه. وإن كان دارين، فأخذ كل واحد منهما داراً، فليس للطارئ أن يرد القسم، وإنما يكون له أن يرجع على كل واحد من أخويه في ثلث الدار الذي في يده، لأنه لو أدركها قبل القسمة لم يكن له سوى ثلث كل دار. وإن كان العقار أكثر من ذلك استؤنف القسم.

واختلف في طروء الموصى له بعد القسم، هل حكمه حكم الغريم، أو الوارث؟ فرأى ابن حبيب أنه كالغريم لتقديم الوصية على الميراث. وفرق ابن القاسم فقال: إن أوصى له بالثلث فهو بمنزلة الوارث، وإن أوصى له بدنانير أو مكيل من طعام فهو بمنزلة الغريم. الرابع: الاستحقاق: فلو استحق بعض المال شائعاً لم ينتقض القسم، وأتبع كل وارث بقدر ما صار له من حقه إن قدر على قسم ما بيده من ذلك، ولا يتبع الملي بما على المعدم. وإن استحق بعض (معين)، فقال ابن القاسم: "إن كان كثيرًا كان له أن يرجع بقدر نصف ذلك في ما في يد صاحبه يكون به شريكًا في ما بيده إذا لم يفت. وإن كان الذي استحق تافهًا يسرًا رجع بنصف قيمة ذلك دنانير أو دراهم، ولا يكون (بذلك) شريكًا لصاحبه". هذا قول مالك، وقال ابن القاسم أيضًا: "إذا اقتسموا الدور فاستحق من نصيب أحدهم شيئ، فإن كان الذي استحق أو أوجد به العيب هو الجل مما في يديه أو أكثره ثمنًا [انتقضت] القسمة بينهم كلها؛ وإن كان ليس كذلك ردها وحدها، ورجع على شريكه في الاستحقاق بنصف قيمة ذلك مما في يد صاحبه". ثم قال ابن القاسم: "والدار الواحدة مخالفة في القسم للدور الكثيرة، لأن الدار الواحدة يدخل فيها الضرر عليه في ما يرد أن يبني أو يسكن". وقال أشهب: "إذا استحق بعض نصيب أحدهما، وكان الأكثر أو الأقل أو ما فيه المضرة أو لا مضرة فيه، رجع على صاحبه بنصف ما استحق في ما في يدي صاحبه، فكان شريكًا (به)، ولا ينتقض القسم إذا فات ما بقي في يد المستحق منه بالبناء لأنه لا يقدر على رده. الخامس: دعوى الغلط. (ومن ادعى غلطًا في القسمة لم يقبل قوله إلا بأمر يستدل به من تفاحش الغلط وشبهه، فيكون القول قوله مع يمينه، أو يقيم البينة فتعاد القسمة).

الفصل الثالث: في إجبار من أبي القسمة عليها، وتمييز ما يجمع في القسم مما لا يجمع

الفصل الثالث: في إجبار من أبي القسمة عليها، وتمييز ما يجمع في القسم مما لا يجمع أما الإجبار فمن طلب القسمة في ما لا ضرر في قسمته أجيب إلهيا وأجبر من أباها عليها، كانت مفتقرة إلى تعديل (بالقيمة)، أو انقسمت بأجزاء متساوية. واختلف في ما كان في قسمته ضرر من وجه، مثل أن يكون قابلاً للقسمة في الجملة، إلا أن تبطل صفته التي كان عليها وإن كان يتهيأ الانتفاع به من غير ذلك الوجه، كالحمام والرحى وشبههما، هل يجبر من أبي قسمته عليها أن لا؟ روايتان. ومن ملك (شقصاً) لا يصلح للمسكن لو انفرد (به) ليسارته، فطلب القسمة أو طلبها شريكه، وأباها هو، أجبر الآبي منهما. وروي أنه لا يجبر، واختار بعد القاسم هذه الرواية. والأولى أشهر عن مالك. وقال عيسى بن دينار: يجبر صاحب الكبير ولا يجبر صاحب اليسير. ثم حيث تنازع الشركاء في ما لا ينقسم وأصروا، فمن طلب البيع منهم أجبر الباقون على موافقته، إلا أن يكون بيع حصته منفردة لا ينقص عن حصته من ثمن الجميع كالفنادق والديار الكثيرة وشبهها، فلا يجبر من أبي البيع أن يبيع. وسبب الإجبار أن للشريك الانفراد بحقه، وذلك بقسمة العين إن أمكنت، فإن تعذرت فبقسمة البدل؛ ولا يستوفى حصته من الثمن الذي هو البدل كاملة إلا إذا بيع جميع المشترك إذا لم يكن على الصفة المستثناة. وإجبار (المالك) على بيع ملكه لتعلق حق الغير به دفعاً للضرر عنه بخارج عن تصرف الشرع كما في الشفعة، بل في أصل القسمة إذا قلنا: (إنها) بيع، وهو الصحيح عند مخالفنا. وأما تمييز ما يجمع في القسم مما لا يجمع، فيجمع فيه البز كله، من ديباج وحرير وثياب كتان وقطن، ويجمع مع ذلك ثياب الصوب والأفرية، إذا لم يكن في (كل) صنف من ذلك ما يحمل القسم في انفراده.

وقال ابن حبيب: قال لي مطرف وابن المجشون: البز صنوف مختلفة، فلا تجوز قسمته بالسهم، إلا ما كان منها صنفًا واحدًا أو متشابهًا، وإن عدل بالقيمة، إلا أن تكون قسمتهم على المراضاة، لا تقسم ثياب الخز والحرير أو الصوف والمرعزي بالسهم مع ثياب القطن والكتان، ولا مع الفراء ولا مع الديباج. قال عبد الملك: فثياب القطن والكتان من البياض صنف واحد عندنا في قسمتها بالسهم إذا عدلت بالقيمة، وإن كان بعضها قمصًا وبعضها أردية وبعضها عمائم وبعضها جببًا). ولا يجمع مع الأمتعة [والثياب] بسط أو وسائد. ولا يجمع في القسم بالسهم الخيل والبغال والحمير والبراذين، ولكن يقسم كل صنف على حياله. وتجمع الدور في (القسم)، إذا كانت في النفاق والرغبة في مواعضها والتشاح فيها سواء، وكان بعضها قريبًا من بعض؛ وأما إن اختلفت مواضعها فلتقسم كل دار على حدتها. وإذا كان في الشجر أو في النخل ثمر فلا تقسم مع النخل أو الشجر. وكذلك الزرع لا يقسم مع الأرض، ولكن يقسم النخل والشجر والأرض، ويترك الثمار والزرع حتى يحل بيع ذلك، فيباع ويقسم ثمنه، أو يقسم كيلاً.

كتاب القراض

كتاب القراض وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركان صحته، وهي خمسة: الأول: رأس المال. وشروطه أربعة: وهي أن يكون نقدًا، معينًا، معلومًا، مسلمًا. احترزنا بالنقد عن العروض (وعن النقرة) (التي) ليست مضروبة، على إحدى الروايتين، إذا كان التعامل بالمسكوك. فأما لو كان التعامل بها لجاز بها القراض قولاً واحدًا. حكى ذلك أبو الحسن اللخمي.

فإن عمل بثمن العرض فله أجر مثله في بيعه، وقراض مثله في العمل بثمنه. ولا يجوز بالفلوس عند ابن القاسم. وأجازه أشهب في إحدى الروايتين عنه. ولا بالدراهم المغشوشة، قاله القاضي أبو محمد. واستثنى القاضي أبو الوليد المسكوك منها في بلد يكون التعامل فيه بها، واستشهد بأنها صارت هناك أصول الأثمان وقيم المتلفات. [قال] وقد اتفق الأصحاب على تعلق الزكاة بعينها، وذلك يدل على إعطائها حكم العين لا حكم العرض. والضابط لهذا الحكم: أن كل ما تختلف قيمته بالارتفاع والانخفاض لا يجعل رأس مال، لأنه إذا رد بالأجرة إليه لم يتميز الربح، إذ ربما ارتفعت قيمته فيستغرق رأس المال جميع الربح أو بضعه، أو تنقص قيمته فيصير بعض رأس المال ربحاً. واحترزنا بالمعلوم عن القراض على صرة دراهم أو دنانير، فإن الجهل برأس المال يؤدي إلى الجهل بالربح، واحترزنا بالمعين عن القراض على دين في الذمة. أما لو كان له ألف وديعة في يده فقارضه عليه لكره ابتداء، فإن نزل مضى. ولو كان.

عليه دينًا في ذمته لم يجز كما تقدم. وكذلك لو أحضره حتى يقبضه، فإن نزل فليس له إلا رأس ماله. وروي عن أشهب: إن نزل مضى. وكذلك لو كانت الدنانير عنده رهنًا لم يجز أن يقارضه بها حتى يردها. وكذلك لو كانت تحت يد أمين، لم يقارض بها (إلا من) حين يردها إلى ربها. وأردنا بالمسلم أن يكون في يد العامل، فلو شرط المالك أن تكون له يد، أو يراجع في التصرف، أو يراجع وكيله، فسد القراض، لأنه تضييق للتجارة. ولو شرط أن يعمل معه غلام المالك، على أيكون للغلام نصيب من الربح جاز. وقال أشهب: لا يجوز. فرع: لو دفع له مالين على جزء متفق، أو جزءين مختلفين جاز، إن كان على أن يخلطهما، لأنه يؤول إلى جزء معلوم؛ وإن كان على أن لا يخالطهما لم يجز مع اختلاف الجزءين. (وإن) كانا بجزء متفق، فأجازه محمد، ومنعه ابن حبيب. قال: فإن نزل كان أجيرًا. ويستوي فيما ذكرناه دفعهما معًا أو متعاقبين، إذا دفع الثاني (قبل) (شغل الأول، ولو) شغل الأول لجاز، كان الجزء متفقًا أو مختلفًا. وروى في كتاب محمد في المختلف: لا يعجبني ذلك. ولا يجوز أخذ الثاني على الخلط بعد الشغل، كان الجزء متفقًا أو مختلفًا. ولو لم يشترط الخلط لجاز، ولا يكون على الخلط حتى يشترطه. ولو نض الأول وفيه خسارة أو ربح لم يجز عند ابن القاسم أن يأخذ منه قراضاً بحال، لا على الخلط ولا على الانفراد، كان الجزء متفقًا أو مختلفاً. وأجازه غيره بثلاثة شروط: وجود الربح، وموافقة الجزء، وعدم الخلط. الركن الثاني: في العمل. وهو عوض الربح. وشروطه ثلاثة: وهي أن تكون تجارة غير مضيقة بالتعيين أو التأقيب. احترزنا بالتجارة عن الطبخ والخبر والحرف، فإن عقد القراض على أن يعمل العامل بيده

في السلع كصياغة الفضة، أو خرز الجلود (خفافاً)، أو (نحوها)، فذلك فاسد، والتجارة هي الاسترباح بالبيع والشراء، لا بالحرفة والصناعة. ثم لو عين صنفًا من الخز خاصًا، أو نوعاً من البز كذلك، أو عين شخصًا للمعاملة فهو فاسد لأنه تضييق. ولو عين جنس البرز، أو غيره من الأجناس الكثيرة الوجود جاز لاعتياده. ولو ضيق بالتأقيب إلى سنة مثلاً ومنع من التصرف بعدها فهو فاسد، مثل أن يقول: قارضتك سنة. الركن الثالث: الربح. وشرطه أن يكون معلومًا بالجزئية، لا بالتقدير، احترازنا عما إذا قال: لك من الربح ما شرطه فلان لفلان. ولا يلزم تخصيصه بالعاقدين، بل ول شرطا جزءًا من الربح للمساكين لجاز. ولا يشترط اشتراكه، بل لو شرط الربح كله للعامل، ولا ضمان عليه في المال، أو لرب المال، جاز. ولو قال: على أن لك في الربح شركًا، ولم يقل: نصفًا ولا غيره؛ فإن كانت لهم عادة أن يكون على النصف أو على الثلث فهو على ما اعتادوه؛ وإن لم تكن لهم عادة مخصوصة، فقال ابن القاسم: "يكون على قراض مثله. وقال غيره: يكون له النصف". واحترزنا بالجزئية عما إذا قال: لك من الربح مائة أو درهم، فلا يصح، لأنه ربما لا يزيد الربح على ما ذكر. وكذلك لو قال: لك درهم أو لي درهم من الجملة والباقي بيننا، فكل ذلك فاسد، إذ ربما لا يكون الربح إلا ذلك القدر. فأما لو قال: على أن يكون لي دينار من كل عشرة من الربح، والباقي بيننا، على جزء يسميه، لصح، إذ مآله إلى الجزء، لأنه يؤول في قوله: والباقي بيننا نصفان إلى خمسة أجزاء ونصف له، وللآخر أربعة ونصف. ولو قال: على أن النصف لك وسكت عن نائب نفسه صح. وكذلك لو قال: على أن النصف لي، إذا فهم أن النصف الآخر للجانب الآخر.

الركن الرابع والخامس: العاقدان. ولا يشترط فيهما إلا ما يشترط في الوكيل والموكل. نعم لو قارض العامل غيره بغير إذن رب المال كان متعديًا. ولو تعدد العامل واتحد المالك، أو بالعكس فلا حرج، غير أنه يشترط في تعدد العامل توزيع الربح بينهم على قدر أعمالهم. فإن قيل: لو فسد القراض وفات فما المستحق به؟ قلنا: اختلف في ذلك على ثلاث روايات: (روى ابن عبد الحكم: أنه يرد إلى قراض المثل. وقال به أشهب وابن الماجشون. ورأى القاضي أبو محمد: "أنه الظاهر. وذكر هو أنه روى عن مالك: رد جميع ما فسد من القراض إلى أجرة المثل". وروى أن منه ما يرد إلى قراض المثل، ومنه ما يرد إلى أجرة المثل. حكاها ابن حبيب عنه، وقال بها ابن القاسم وابن عبد الحكم وابن نافع ومطرف وأصبغ). ثم اختلف في تفصيل ذلك وتعيينه على طرائق. الأولى: ما قاله ابن القاسم، وهو أن كل ما اشترط رب المال فيه على العامل أمرًا قصره به على نظره، أو شرطه فيه زيادة خالصة لنفسه، أو شرطها العامل كذلك فهو مردود إلى أجرة المثل، وما سوى ذلك كأخذه المال على الضمان أو إلى أجل وشبه ذلك فهو مردود إلى قراض المثل. الطريقة الثانية:؛ ما حكاه محمد بن حارث: أن كل قراض فسد في أصله لزيادة لا تحل، أو لتحظير لا ينبغي، فحكم العامل فيه أن يكون أجيرًا، وما سوى ذلك فمردود إلى قراض المثل حاشا مسألتين: إحداهما: إذا اشترط الضمان على العامل، والأخرى: إذا اشترط على العامل أن يمسك المال مدة معينة فقط كسنة أو غيرها، فإنه يرد في هاتين المسألتين إلى إقراض مثله. الطريقة الثالثة: ما ذكره أبو محمد عبد الحق. قال: "الأصل في ذلك أن كل زيادة أو

منفعة شرطها أحد (المتقارضين) هي للمال داخلة فيه ليست خارجة عنه ولا خالصة لمشترطها فو يرد إلى قراض [مثله]، وكل زيادة أو منفعة شرطها أحدهما لنفسه خارجة عن المال وخالصة لمشترطها فهو يرد إلى أجرة مثله؛ وكل خطر وغرر تعاملا عليه خرجا به عن سنة القراض الجائز؛ فهو يرد إلى أجرة مثله". وروى محمد العامل يشترط عليه الضمان: أن له الأقل من قراض المثل أو مما سمي من الربح. فرع: (والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل أن المستحق بقراض المثل متعلق بربح المال، (وإن لم يكن في المال ربح) فلا شيء له؛ والمستحق بأجرة المثل متعلق بذمة المال، ربح المال أو خسر. هذا قول أصحابنا إلا ابن حبيب، فإنه قال: له أجرة مثله من الربح، فإن لم يكن في المال ربح فلا شيئي له كالأول). قال القاضي أبو محمد: "ومن أصحابنا من يجعل قراض المثل مع الربح وعدمه، ويفرق بينهما بأن يجعل حظ العامل بقدر ما يساوي عمله مما رضيه عوضًا لو صح العقد فيكون له بقيمة ذلك". وسبب الخلاف: في إيجاب قراض المثل وأجرة المثل: الالتفات إلى أصل مختلف فيه في المذهب، وهو أن كل عقد مستثنى عن أصل إذا فسد: هل يرد إلى صحيح (العقد) المستثنى، أو إلى صحيح الأصل المستثنى عنه؟ والخلاف فيه مشهور. وأما التفصيل فقال القاضي أبو محمد: "تفصيل ابن القاسم استحسان وليس بقياس". قال: "ووجه (ما رواه محمد) أن قراض المثل إن كان الأقل فقد رضي به العامل، لأنه إذا رضى أن يعمل على أن يكون عوضه على العمل من الربح على الفساد بما ذكر، فقد رضي أن يكون في ما صح بحسابه، إن كان المسمى الأقل فليس له زيادة عليه".

الباب الثاني: في حكم القراض الصحيح

وأما طريقة ابن الحارث وعبد الحق فمستند كل واحد منهما النظر إلى صورة الفساد، فإن أبعدت العقد عن معنى القراض كثيرًا رجع الأمر فيه إلى أنها إجارة وألغى قصدهم (للقراض)؛ (وإن) لم تبعده (عنه) كبير إبعاد، بل كان الخروج عن معنى القراض قريبًا رد إلى قراض مثله. ثم اختلافهما في الصورة التي (نصا) عليها راجع إلى الاختلاف في الشهادة. الباب الثاني: في حكم القراض الصحيح، وله خمسة أحكام: الأول: أن العامل كالوكيل في تنفيذ تصرفه بالنقد، فلا يبيع بالنسيئة إلا بإذن، فإن فعل ضمن الخسارة، ولم يستبد بالريح، بل كان بينهما على شرطهما. ولا يشتري بالنسيئة وإن أذن له فيه، لكن يبيع بالعرض كما يبتاعه. وله الرد بالعيب وإن أبى ذلك المالك لتعلق حقه به، إلا أن يكون ثمنه جملة المال فاللمالك أن يمضي البيع ويقبله بجملة ماله وإن أبي العامل. ولا يشتري العامل من المالك للقراض خشية أن يتذرع بذلك إلى القراض بالسلع. ولا يشتري للقراض بأكثر من رأس المال، فإن اشترى لم يقع القراض، وانصرف إليه هو. فروع: الأول: إذا اشترى العامل بمال القراض من يعتق على رب المال، فإن كان عالمًا موسرًا عتق، وكان ولاؤه لرب المال، وعلى العامل له غرم ثمنه. وإن كان علامًا معسرًا بيع منه بقدر رأس المال وحصة ربحه، وعتق على العامل ما بقي منه. قال سحنون: هذا أحسن ما جاء في ذلك من الاختلاف. وإن كان غير عالم عتق على رب المال ولا غرم على العامل، بل يرجع العامل عليه بما يخصه فيه من فضله إن كان. الفرع الثاني: إذا اشترى العامل بمال القراض من يعتق عليه ولا ربح في المال لم يعتق عليه، كان موسرًا أو معسراً. ولو كان موسرًا وفي المال فضل لعتق عليه بقيمته إن كان غير عالم، وبالأكثر من قيمته أو ثمنه إن عالماً.

وقال المغيرة: يعتق قدر حظه منه، ويقوم عليه حظ رب المال يوم الحكم خلاف قول ابن القاسم. قال في الكتاب: "وإن كان موسرًا وقد علم، رأيت أن يعتق عليه، ويدفع إلى رب المال رأس ماله وربحه". قال الشيخ أبو محمد: "يريد إن كان فيه فضل. وإن كان معسرًا وفي المال فضل، عتق عليه منه مقدار ما خصه منه فقط". الفرع الثالث: إذا اشترى العامل بمال القراض أمة فوطئها فحملت، فإن كان مليًا كانت أم (ولد)، ولا فرق بين أن يبتاعها لنفسه بمال القراض على وجه الاستسلاف له، وبين أن تكون بيده لمال القراض فيطأها، [قاله] ابن حبيب. ثم اختلف أصحابنا فيالواجب عليه في مقابلتها. ففي كتاب محمد: قيمتها يوم الوطء. وقال ابن حبيب: الأكثر من ثمنها أو قيمتها يوم الوطء. وقال محمد: "الأكثر من الثمن أو قيمتها يوم الوء أو يوم حملت. وأما إن كان معدومًا، فإن كانت مشتراة للقراض كان رب المال بالخيار بين أن يضمنه إياها بقيمتها يوم الوطء في ذمته، وليس له من قيمة الولد، ولا مما نقصها الوطء شيء، وبين أن يبتاع جميعها إن لم يكن في المال ربح، فإن كان فيه ربح بيع بقدر رأس المال وحصة ربه من الربح وبقي ما يخصه هو من الربح بحساب أم ولد على الخلاف في ذلك. ولو نقص ثمن ما بيع منها على قيمتها يوم الوطء لأتبعه بذلك النقصان مع نصيبه من قيمة الولد، وإن شاء تماسك بنصيبه منها، وأتبعه بما يصيبه من قيمة الولد. قاله عيسى. قال القاضي أبو الوليد:"وهذا على ما اختاره ابن القاسم. وأما على ما اختاره أشهب، فإن من ضمن قيمة أمة بالوطء من شريك أو مقارض فإنه لا شيء عليه من قيمة ولدها". وإن كان اشتراها للوطء من فحملت، فقال ابن القاسم: "تكون له أم ولد، ويبتع بالثمن أو

بالقيمة، على اختلاف في ذلك عنه. وقال مالك: تباع". قال الشيخ أبو الوليد: "هذا إن لم يكن فيها فضل، فإن كان فيها فضل فعلى ما تقدم من الاختلاف". ثم قال: "والذي عندي أن الخلاف في بيعها بعد حملها إنما هو محمول على ما إذا شككنا هل اشتراها للمال أو للوطء". قال: "فأما لو قامت بينة بشرائه إياها للوطء لا للقراض لوجب ألا تباع، قولاً واحدًا". (ولو وطئها العامل فلم تحمل، فإن كان مليًا قرب المال بالخيار بين أن يضمنه قيمتها يوم الوطء، أو يلزمه إياها بالثمن)؛ (وإن كان معسرصا بيعت فيما لزمه من قيمة أو ثمن). الحكم الثاني: أن عامل القراض إذا تعدى، فإن قارض عاملاً آخر بغير إذن المالك، (ثم) كان في المال ربح، فإن [اتفق] الجزءان فالربح بين رب المال والعامل الثاني، ولا شيء للأول؛ وإن اختلفا، فكان الأول أكثر، فالزائد للمالك، وإن كان أقل، فلرب المال شرطه، ويرجع العامل الثاني على العامل الأول. وقيل: للعامل الثاني حصته كاملة، ويرجع رب المال على العامل الأول بباقي حصته. فرع: لو هلك بعض المال بيد العامل الأول، ثم دفع ما بقي لمن عمل فيه فزاد المال فربحه على ما كان، لأخذ المالك رأس ماله بكماله وحصته مما يزيد عليه. وقيل: يكون رأس ماله ما قبضه العامل الثاني، ويأخذ حصته من الربح، ويرجع بباقي ما كان يخصه لو قاسم على رأس (ماله) على العامل الأول. الحكم الثالث: للعامل أن يسافر بمال القراض، إلا أن يحجر عليه، وقال ابن حبيب: السنة ألا يخرج [بالمال]، إلا أن يأذن له صاحبه، فإن سافر به بعد التحجير كان ضامنًا، وله قسطه من الربح.

وإذا سافر بالإذن، أو بمقتضى إطلاق العقد من غير تحجير، فأجرة النقل على مال القراض، وليس على العامل إلا التجارة، وما جرت العادة بفعل مثله له من النشر والطي ونقل الشيء الخفيف. فإن استأجر على ما هو عليه فعليه الأجرة. ونفقته في الحضر على نفسه، وله في السفر نفقته بالمعروف ذاهبًا وراجعًا بالمال. قال ابن القاسم: "وله أن يكتسي منه في بعيد السفر، ولا يكتسي في قريبه، إلا أن يقيم إقامة يحتاج فيها إلى الكسوة". وقال ابن حبيب: من قول مالك إنه ينفق في قريب السفر في ركوبه وطعامه ولا يكتسي إلا في بَعِيِيدِه، وذلك كله في كثير المال، في فأما إن كان المال قليلاً فلا نفقة له، ولا كسوة، ولا ركوب. قال محمد: "وقيل في خمسين دينارًا كثير". قال ابن القاسم: "وله أن يؤاجر من يخدمه في سفره إن كان المال كثيرًا، وكان مثله لا يخدم نفسه". ولو قارضه على أن يتجر بالفسطاط وليست ببلده، فلينفق في مقامه، لأن المال حبسه بها إلا أن يوطنها، أو ينتقل لسكانها فلا ينفق وإن لم يكن له بها أهل. ثم النفقة ملغاة من الفضل، ويقتسمان الباقي على شرطهما، (ولو) لم يحصل ربح لكانت من رأس المال، وهي في ذلك كله كنفقات المال.

لو كان معه مال آخر، له أو لغيره، فخلطهما، توزعت النفقة على المالين؛ وكذلك ما زاد عليهما، ولا يكون متعدياً بالخلط. الحكم الرابع: في (ملك) العامل للربح. والمشهور من المذهب: أنه لا يملكه بمجرد الظهور، بل يقف ملكه له على المقاسمة، إلا أن له حقًا مؤكدًا، حتى لو مات لورث عنه. ولو أتلف المالك أو الأجنبي المال غرم حصته، ولو كان في المال جارية لم يجز للمالك وطؤها لحقه. وقيل: إن العامل يملك الربح بمجرد الظهور، لكن هو ملك غير مستقر، إذ هو وقاية (لرأس المال عن) الخسران، فلو وقع خسران لانحصر في الربح إلى أن يتجاوزه، بل لا يستقر إلا بالقسمة. الحكم الخامس: إن مال القراض إذا نقص بتلف أو وضيعة، وتمادى العامل (على العمل) بقيته، جبر رأس المال من الربح، ولو تكرر العمل والإنضاض، ما لم يحضر العامل بقية المال إلى ربه ويفاصله، ويقبضه منه، ثم يعيده إليه، فيكون رأس المال ما قبضه ثانيًا. "وقال ابن حبيب: لو لقي العامل رب المال (فأعلمه بنقص المال)، وسأله أن يسقط ذلك عنه من رأس المال، فقال: اعمل بما في يديك فقد أسقطت ذلك عنك، لكان قراضًا مؤتنفًا، لأنها محاسبة واستئناف للقراض، حضر المال أو لم يحضر، قبض منه أو لم يقبض. قال: وكذلك لو ربح فاقتسما الربح وتحاسبا، ثم قال له: اعمل بما في يديك، لكان قراضًا مؤتنفًا وإن لم يقبض منه المال. قال: وهو قول ربيعة ومالك والليث ومطرف وابن الماجشون. وجماعة من لقيته من أصحاب مالك، إلا ابن القاسم فإنه يقول: هما على القراض الأول أبدًا وإن تحاسبا وأحضر المال ما لم يقبضه ثم يدفعه إليه قراضًا مؤتنفًا. قال عبد الملك: وإذا لم يكن على ما فسرت لك، وإنما لقيه فأخبره بما نقص على حال (الإخبار)، ولم يوقفه على إسقاط ذلك عنه، فهما على القراض الأول. قال: وكذلك إذا كانا يقتسمان الربح على غير المحاسبة ولا اعتقاد مفاصلة، جبر المال

الباب الثالث: في التفاسخ والتنازع

بالربح الذي اقتسما إن كان فيه نقصان". وروى ابن وهب مثل رواية ابن حبيب. فروع متتالية: إذا سلم إليه (ألفين)، فتلفا بعد الشراء وقبل النقد، فإن أخلفهما كان رأس المال ما (أخلفه) خاصة، وإن لم (يخلف) كانت السلعة على ملك العامل. وقال المغيرة: يجبر رب المال على أن (يخلفهما). ولو تلف أحدهما قبل أن يشتري به شيءا، ثم عمل في بقية المال فرأس المال ألفان، (ولو) اشترى بألفين فتلف أحدهما قبل النقد فإن عوض عن التالف فرأس المال ثلاثة آلاف، وإن أبي عوض العامل وكان شريكًا بالنصف. ولو تسلف العامل نصف المال أو (أكله) فالنصف الباقي رأس المال، وربحه على ما شرطا، وعلى العامل غرم النصف فقط، ولا ربح لذلك النصف. ولو ربح في مائة مائة، فأنفق مائة تعديًا، تم تجر بمائة فربح مالاً، فمائة في ضمانه، وما ربح أولاً وآخرًا فبينهما. ولو ضاع ذلك ولم يبق إلا المائة التى في ذمته ضمنها لرب المال ولا تعد ربحًا، إذ لا ربح بعد رأس المال. وإن اشترى بمال القراض وهو مائة دينار عبدًا يساوي مائتين، فجني عليه رب المال جناية نقصته مائة وخمسين، ثم بيع بخمسين فعمل فيها فربح مالاً، أو وضع، لم يكن ذلك من رب المال قبضًا لرأس ماله ولربحه، حتى يحاسبه ويفاصله ويحسب عليه، فإذا فعل فذلك دين على رب المال (مضافًا إلى هذا المال) الباب الثالث: في التفاسخ والتنازع، وفيه فصلان: الفصل الأول: في التفاسخ والقراض جائز ينفسخ بفسخ أحدهما قبل الشغل. فإذا عمل وشغل المال لم يكن للعامل أن يرده حتى ينض، ولا لربه أخذه قبل (انضاضه). قال ابن القاسم: "ولرب المال رد المال ما لم يعمل به أو يظعن به.

الفصل الثاني: في التنازع

قال محمد: ولو اشترى مثل الزاد والسفرة لسفره، فإن رضي رب المال (بأخذ) ذلك فذلك له. قال ابن القاسم: "وليس له أن يقول بعد ظعنه: ارجع فأنا أنفق عليك. فإن شغل المال في سلع، فطلبه المالك بالانضاض، نظر السلطان، فإن كان تأجيرها نظرًا وإلا أمر العامل بإنضاضها، واقتسما ربحها إن كان فيها". ولو مات العامل، قيل لروثته: تقاضوا وبيعوا السلع؛ فإن لم يؤمنوا أتوا بأمين، وكانوا على سهم (موروثهم). بخلاف موت المستأجر المعين، لأن ذلك لورثته من عمله بحساب ما عمل، بخلاف ورثة العامل، فإنهم لا شيء لهم إلا بتمام العمل. فإن (لم) يأتوا بأمين سلموا ذلك لربه ولم يكن لهم من الربح شيء. ولو كان الوارث مولى عليه نظر وليه، فإن رأى في الاستئجار عنه فائدة استأجر عنه وإلا ترك. وكذلك في موت العاملين يقوم ورثتهما مقامهما على حسب ما ذكرناه في العامل الواحد. ولو مات أحد العاملين لقام ورثته مع العامل الآخر، إذا كان الشراء قبل موت موروثهم. وأما إذا مات المالك فإن العامل يبقى على قراضه، فإن أراد الورثة أخذه فذلك لهم إن كان المال عينًا، وليس ذلك لهم إن كان في سلع، وهم كوليهم سوءا. وإذا كان المال عينًا عند موت ربه لم ينبغ للعامل تحريكه بعد موته، فإن حركة (قبل علمه) بموته مضى على القراض حتى ينض، ولم يرد قبل الانضاض. وزمن هلك وقبله قراض أو ودائع ولم توجد، فذلك في ماله، ويحاص بذلك غرماؤه. ولو أقر بقراض بعينه أو وديعة بعينها في مرضه، فمن أقر له أحق بما عين جميع الغرما، كانت ديونهم ببينة أو بإقرار، في الصحة أو في المرض. الفصل الثاني: في التنازع وإذا تنازعا في ضاع المال أو خسارته فالقول قول العامل، لأنه أمين؛ وفي إلزامه اليمين عند طلب رب المال لها الخلاف الجاري في أيمان التهم. وكذلك لو ادعى رده، وكان قبضه بغير بينة، لكان القول قوله أيضًا، ولو كان بالبينة لم

يقبل قوله إلا ببينة. وقيل: يقبل قوله بغير بينة، (وإن قبضه بالبينة)، إلا أن اليمين في دعوى الرد متوجهة عليه لا محالة إن طلبها رب المال لأنه يدعي عليه التحقيق لا بمجرد التهمة. وإن اختلفا في قدر الجزء قبل الشغل، فإما عمل العامل على ما قال رب المال، وإلا رده، فإن كان بعد الشغل كان القول قول العامل إذا أتى بما يشبه وكان المال في يديه؛ فإن كان أسلمه ل ربه ليستوفى رأس ماله ونصيبه من الربح، كان القول قول رب المال، وإن أسلمه إليه ليبقى موقوفًا حتى يسلم رأس المال ثم يقتسمان الربح كان القول قول العامل. وإن اختلفا في الوجه الذي قبض المال عليه فقال رب المال: بضاعة بغير أجرة، وقال العامل: قراضًا على النصف، فالقول قول رب المال إذا كان مثل المبضع معه لا يستعمل نفسه في القراض، أو كانت البضاعة مما لا يدفع مثلها قراضًا ليسارتها. فإن كانت مما تشبه أن (تدفع) قراضًا، وكانت الإجازة أقل من نصف الربح، فالقول قول صاحب المال مع يمينه، وقال (محمد): يحلفان جميعًا، ويعطي العامل إجازة مثله. وإن قال العامل: بضاعة بأجر، وقال صاحب المال: قراضًا، كان القول قول العامل مع يمينه. ولو قال العامل: قراضًا، وقال رب المال: بضاعة بأجر، فإن استوى الأجر المدعى والحاصل من الجزء المذكور فلا يمين، وقد اتفقا في المعنى ولا يضر اختلافهما في اللفظ؛ وإن كانت الأجرة أقل من نصف الربح حلف العامل وحده وأخذ النصف إذا كان مما يشبه القراض عليه. فإن نكل حلف الآخر ودفع الأجرة. وإن قال صاحب المال: وديعة، وقال العامل: قراضًا، وقد ضاع المال، فإن ادعى ضياعه قبل أن يحركه لتجارة كانت مصيبته من ربه، لأنهما متفقان أنه كان أمانة؛ وإن تجر فيه فالقول قول صاحبه أنه لم يأذن له في التجر به، ويضمنه. وإن قال أخذ المال: هو في يدي قراض، أو وديعة، فقال ربه: بل أسلفتكه؛ فالقول قول رب المال مع يمينه. وإن قال ربه: قراض قراض، وقال العامل: قرض؛ قال محمد: أو وديعة، صدق العامل لأن ربه مدع للربح. ولو قال العامل: رأس مال القراض ألف، وقال ربه: ألفان؛ صدق العامل لأنه أمين، ولأن الأصل عدم القبض. ولو قال العامل: أنفقت في سفري من مالي كذا؛ صدق، ربح أو خسر، ويرجع به في

المال إذا أشبه ذلك نفقة مثله، وكان قبل المقاسمة، ولا يقبل بعدها. ولو خسر العامل في البز، فادعى رب المال أنه نهاه عنه فتعدى، فالقول قول العامل أنه لم ينهه. ولو اختلفا في الصحة والفساد لكان القول قول مدعي الحلال منهما فيما يشبه على أصل المذهب، ويجري فيها قول أبي محمد عبد الحميد.

كتاب المساقاة والمزارعة

كتاب المساقاة والمزارعة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركان المساقاة، وهي أربعة الأول: متعلق العقد، وهي الأشجار، وسائر الأصول المشتملة على الشروط التي يأتي بيانها، إذ عليها يستعمل العامل بجزء مما تخرج كما يستعمل عامل القراض، إلا أن المساقاة لازمة موقتة، وتستحق الثمار فيها بمجرد الظهور قولاً واحدًا بخلاف القراض. وأصلها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر على شطر ما أخرجت من ثمر أو حب. قال مالك: "وكان بياض خيبر يسيرًا بين أضعاف السواد" وللأصول شروط: الأول: أن تكون مما تجني ثمرته ولا تخلف. واحترزنا بقولنا: لا تخلف، عن الموز والقضب والقرط والبقل، لأنه بطن بعد بطن، وجزة بعد جزة. الشرط الثاني: أن تكون مما لا يحل بيعها، فكل ما (لا يحل) بيعه (تجوز) المساقاة فيه، فإذا حل بيع ثمار النخل وغيرها أو المقاثي لم تجز المساقاة عليها، وإن عجز عنها ربها. وقال سحنون: تجوز مساقاة ما جاز بيعه، وهي إجارة بنصفه.

الشرط الثالث: وهو مختص بالزرع والمقاثي، وغير ذلك مما عدا الكرم والنخل وسائر الأصول المثمرة أن يعجز ربه عنه، على أشهر القولين: ويشترط أيضًا فيه أن يكون ظاهرًا فلا تجوز المساقاة عليه قبل ظهوره من الأرض. فرع: إذا ساقى حائطًا فيه بياض، فإن كان البياض اكثر من الثلث لم يجز أن يدخل في المساقاة، ولا أن يلغي للعامل، بل يبقى لربه. وإن كان أقل من ذلك، فإن سكتا عنه، فقال مالك: "هو ملغي للعامل". وقاله محمد وابن حبيب. إلا أن ابن حبيب اشترط ألا تزيد قيمته على ثلث نصيب العامل خاصة. وقاله ابن عبدوس. وظاهر قول مالك في كتاب محمد: أن المعتبر ألا تزيد قيمته على ثلث الجميع. وروي في كتاب ابن سحنون: أنه لربه إذا سكت عنه. وإن شرط أن يكون داخلاً في حكم المساقاة فقال ابن القاسم: "لا بأس أن يشترط في المساقاة يزرعه العامل من عنده ويعمله، وما خرج منه فبينهما. ولا يجوز أن يشترط نصف البذر على العامل. وأحب إلي أن يلغى للعامل" وشرط في جواز ذلك أن يكون سهم العامل فيه كسهمه في المساقاة سواء. وقال أصبغ: يجوز أن يشترط ثلاثة أراعه وإن كان سهمه في المساقاة النصف. قال: وإنما الذي يكره أن يكون لصاحب الأصل أكثر من النصف. وقال مالك: أحله أن يلغي العامل، وأن شرط لربه يعمله لنفسه جاز. قال ابن حبيب: إلا أن يكون يناله سقي الحائط، إن كان الحائط يسقى فلا يجوز كاشتراط زيادة. ولا يجوز أن يتشرط على العامل أن يزرعه ببذره أو ببذر ربه، ويعمل فيه العامل على أن ما حصل فيه فلرب النخل كزيادة يسيرة تشترط على العامل. ولو ساقاه زرعًا فيه بياض، وهو تبع له، جاز (أن يشترطه العامل ليزرعه لنفسه خاصة، كبياض النخل. ولو كان في الزرع شجر متفرقة، وهي تبع له)، جاز أن يشترط على ما شرطنا في الزرع، ولا ينبغي أن يشترطها العامل لنفسه إن قلت، بخلاف البياض. ولا يجوز على أن ثمرتها لأحدهما دون الآخر. قال الشيخ أبو محمد: "قوله: هي تبع له يعني وإن كانت تبعًا فلا يشترطها العامل لنفسه بخلاف البياض، وكذلك زرع تبع للأصول، إلا

أن المساقاة فيها جائزة على جزء واحد، كان أحدهما تبعًا أو غير تبع". الركن الثاني: المشروط للعامل، وهو الثمار. ولتكن مشروطة على الاستفهام معلومة بالجزئية لا بالنقدين كما في القراض. ولا بأس أن يساقي الحائط على جزء واحد وإن كان مختلف الثمرة من جيد وردئ. ولا يجوز أن يساقي حائطه أربع سنين في عقد واحد، سنتين على النصف، وسنتين على الربع. ولا يجوز أن يساقيه حائطًا [بموضع] مرغوبًا فيه على أن ساقاه معه حائطًا له آخر بموضع غير ذلك الموضع، إلا أن يساقيهما على سقاء واحد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ساقى خيبر، وفيها أصناف كثيرة. وبالجملة: فتجوز مساقاة حوائط عدة في صفقات متعددة بجزء متفق أو مختلف، فأما في صفقة واحدة فبجزء متفق لا غير. ويجوز جمع الحائطين في السقا، وإن كان أحدهما نخلاً وفي الآخر أصناف الشجر، ما لم يكن من ذلك شيء طاب، إلا أن يكون ما طاب يسيرًا. وكذلك لو كان أحدهما بعلاً والآخر غير بعل لجاز. الركن الثالث: العمل. وشرطه أن يقتصر على عمل المساقاة، ولا يشترط عليه ضم عمل آخر ليس منها. وأن يستبد العامل باليد، فلا تشترط مشاركة المالك له فيها، ولا يعمل معه، بل ينفرد هو بالعمل. وقال سحنون: إذا كان الحائط كبيرًا بحيث يجوز اشتراط الغلام فيه جاز اشتراط عمل رب الحائط فيه. قال أبو محمد عبد الحق: "ليس وضع يد المالك كوضع يد غلامه، لأن يد المالك إذا بقيت معه فكأنه لم يسلم له ولا رضي بأمانته، بخلاف الغلام". ويجوز أن يشترط أن يعمل معه غلام المالك، ويصح إذا كان الحائط كبيرًا واشترط بقاءه مدة المساقاة، وأنه إن مات قبل انقضائها أخلفهم مالكه. ثم النفقة على العامل لنفسه ولدواب الحائط ورقيقه، كانوا له أو لرب الحائط. ولا يجوز

الباب الثاني: في (حكمها) في [حالتي] الصحة والفساد

اشتراط شيء من ذلك على رب الحائط. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: هي على رب الحائط. ويتشرط تأقيت المساقاة لأنها لازمة. قال ابن القاسم في الكتاب: "والشأن في المساقاة إلى الجداد، لا تجوز شهرًا ولا سنة محدودة، وهي إلى الجداد إذا لم يؤجلا، بسنين فيلزمه العمل إلى آخرها، ويعتبر في السنة الأخيرة بالجداد". وكذلك لو ساقاه سنة واحدة لكان منتهاها (الجداد)، فإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الأولى حتى تشترط الثانية. ويجوز أن يساقيه سنين ما لم تكثر جدًا، قيل: عشرة؟ قال: لا أدري تحديد عشرة، ولا ثلاثين، ولا خمسين. الركن الرابع: ما به تنعقد المساقاة. وهو إما الصيغة فيقول: ساقيتك على هذا النخل بالنصف أو غيره، أو عاملتك فيقول: قبلت: أو ما يقوم مقام ذلك من القول والفعل. واختل إذا عقد بلفظ الإجارة، فأبطله ابن القاسم وصححه سحنون، (وروى) محمد مثله. ولا يشترط تفصيل الأعمال فإن العرف يعرفه. الباب الثاني: في (حكمها) في [حالتي] الصحة والفساد، وفيه فصلان: الفصل الأول: إذا وقعت صحيحة فحكمها وجوب العمل والكف والنفقة في ما تحتاج إليه الثمرة المساقى عليها، وجميع المؤن على العامل، مثل السقي، والآبار وهو التلقيح، وسرو الشرب، وهي تنقية الحياض التي حول أصول الشجر، وتحصين خروقها، ومجرى الماء إليها، والجداد، وعلوفة الدواب، ونفقات الغلمان، وما يتعلق بمصلحة الثمر مما لا يبقى بعد انصراف العامل، ولا يجب عليه حفر بئر ابتداء، أو إنشاء غراس، أو بناء بيت تجنى فيه الثمرة، وشبه ذلك. ولا يجوز اشتراطها عليه.

فأما سد الحظار، وهو تحصين الجدر وتزريبها؛ وخم العين، وهو كنسها؛ ورم القف، وهو الحوض الذي يسقط فيه الماء من الدلو، ثم يجري منه إلى الضفيرة، وهي مجرى محبس الماء كالصهريج، فلا تجب على العامل، إن جاز اشتراطها عليه. فإن لم يشترط فهو على رب الحائط. وعلى العامل جميع المؤن، والأدوات من الآلات والأجزاء والدواب والدلاء والأداة من حديد وغيره، إلا أن يكون شيء من ذلك في الحائط يوم السقاء فللعامل الاستعانة به وإن لم يشترطه. وأجرة من كان من الأجراء على ربه دون العامل. ولا يجوز اشتراط أجرتهم على العامل، بخلاف نفقتهم وكسوتهم. ثم للعامل خلف من مات أو مرض من جميع ذلك على رب الحائط إذا كان مما هو فيه يوم السقاء وإن لم يشترطهم العامل. ولو شرط خلفهم على العامل لم يجز، ولا تنتقض المساقاة به. وأما ما رث أو خلق من دلو وحبل وغيره، فقيل: خلفها على العامل وقيل: على رب الحائط. وإن سرق ذلك فعلى رب الحائط الخلف. قال أبو الحسن اللخمي تفريعًا على القول بأن الخلف على العامل في حال التلف؛ ثم إذا أخلف ذلك تجديداً استعمله العامل إلى ما يرى أنه بقي من زمن استعمال المسروق، ثم يأخذه رب الحائط ويأتي العامل بما يستعمله. وإذا مات العامل (تمم) الوارث العمل من تركته، فإن لم يكن من الورثة أمين أتوا بآمين. ولو ادعى المالك سرقة أو (خيانة) على العامل لكان القول قول العامل (لأنه) أمين. فإن ثبتت خيانته فليتحفظ منه.

الفصل الثاني: فيما إذا وقعت المساقاة فاسدة

وللعامل أن يساقي غيره على جزء موافق للجزء الذي ساقى عليه أو أقل منه، عجز عن العمل أو لم يعجز. ولكن من يساقيه أمينًا. فلو لم يجد من يساقيه عند عجزه أسلم الحائط إلى ربه، ثم لا شيء عليه ولا له، لأنه إن ساقاه إياه جاز كالأجنبي، إلا أن يكون الثمر قد حل بيعه فلا تجوز المساقاة وليستأجر. فإن لم يجد إلا أن يبيع نصيبه وهو أجرته فعل، فإن كان فيه فضل فله، وإن نقص فعليه، إلا أن يرضى رب الحائط أخذه وإعفاءه من العمل فذلك له، ولهما أن يتقايلا على غير شيء يأخذه أحدهما من الآخر. ولا تنفسخ المساقاة بفلس رب الحائط، ولكن يباع الحائط وتبقى المساقاة على حالها. وقيل: ذلك في السنة و (شبهها) دون ما زاد على ذلك. وقيل: لا يجوز بيعه أصلاً ويوقف، إلا أن يرضي العامل بتركه فيعجل بيعه. ولو ساقى المريض حائطه لجاز، فإن حابى فالمحاباة في ثلثه. الفصل الثاني: فيما إذا وقعت المساقاة فاسدة، ولها ثلاثة أحوال: الأول: قبل الشروع في العمل فتفسخ. الحال [الثاني]: بعد الفوت بانتهاء العمل وفراغه، ويختلف في الواجب حينئذٍ على أربعة أقوال: أحدها: إجازة المثل جملة من غير تفصيل. الثاني: مساقاة المثل مطلقًا أيضًا. الثالث: إن العامل يرد إلى مساقاة مثله ما لم يكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان الشرط لمساقي، أو أقل إن كان للمساقي. الرابع: قول ابن القاسم، وهو التفصيل: فترد بعض الصور إلى أجرة المثل، كما إذا خرجا فيها عن حكمها إلى حكم الإجازة الفاسدة أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، مثل أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة من عين أو عرض أو غيرهما، فيكون رب المال مستأجراً بما يزيده مع جزء من الثمرة، أو العامل مشترياً بجزء الثمرة قبل بدو صلاحها بما زاده ويعمله، ويرد في بعضها إلى مساقاة المثل، كما إذا لم يخرجا عن حكمها وإنما عقداها على غرر، مثل أن يساقيه حائطًا على النصف وحائطًا على الثلث، أو مثل أن يشترط أحدهما على الآخر من عمل الحائط ما لا يلزمه مما لا يبقى لرب الحائط منفعة مؤبدة وشبه ذلك.

الشيخ أبو الويد: "المساقاة مع البيع في صفقة واحدة، والمساقاة سنة على الثلث وسنة على النصف. الحد [الثالث]: أن يعثر عليها في أضعاف العمل بعد الشروع وقبل الفراغ. وحكم هذه الحال أن يفسخ ما كان الواجب فيه إذا انتهى أجرة المثل على ما سبق من تفصيل ابن القاسم، ثم يكون للعامل أجرة مثله فيما عمل إلى حين العثور عليه. وأما ما كان الواجب فيه مساقاة المثل فلا يفسخ بل يمضي وتكون فيه مساقاة المثل. ولو كانالعقد على أعوام وبقي منها شيء بعد العثور عليه لبقي على مسافاته فيها وكان الواجب (فيها) مساقاة المثل دون المسمى.

الباب الثالث: في المزارعة والنظر في (شرطها) وحكمها

الباب الثالث: في المزارعة والنظر في (شرطها) وحكمها النظر الأول: الشرط، ولها شرطان: الشرط الأول: السلامة عن مقابلة منفعة الأرض أو بعضها بما لا يجوز كراء الأرض به، وسنرسم فيه مسألة في آخر الباب إن شاء الله تعالى. فلو كان البذر من عند أحدهما والأرض من عند الآخر، وما سوى ذلك بينهما أو من عند أحدهما، لم تجز لمقابلة الأرض البذر. فإذا كانت الأرض بينهما، يملكان رقبتها أو منفعتها، جاز أن يكون البذر من عندهما أو من عند أحدهما، لم تجز لمقابلة الأرض البذر. فإذا كانت الأرض بينهما، يملكان رقبتها أو منفعتها، جاز أن يكون البذر من عندهما أو من عند أحدهما، إذا كان في مقابلة ما يساويه من العمل والبقر. وكذلك لو كان البذر من عندهما جاز، وإن كانت الأرض من عند أحدهما، إذا قابلها ما يساويها من العمل والبقر. وأولى بالجواز إذا كانت من عندهما. وبالجملة: فمتى كانت المزارعة على أن البذر أو جزءًا منه في مقابلة منفعة الأرض أو جزء منها فسدت المزارعة. "وفي كتاب ابن سحنون وكتاب ابن حبيب: إذا اشترك اثنان فأخرج أحدهما الأرض وثلثي الزريعة والآخر ثلثها والعمل، على أن يكون الزرع بينهما نصفين، قال ابن حبيب: أو على الثلث والثلثين، قالا: فذلك جائز. قال سحنون: إذا كافأ عمله كراء ال أرض وما فضله من الزريعة. قال ابن حبيب: لأن زيادة الزريعة، بإجارة عمل العامل، قالا: فإن أخرج العامل ثلثي الزريعة وصاحب الأرض ثلثها، على أن الزرع بينهما نصفان، لم يجز. (قالا) لأن زيادة الزريعة ها هنا كراء الأرض. وإن أخرج أحدهما ثلثي الأرض وثلث البذر، والآخر ثلث الأرض وثلثي البذر والعمل والزرع بينهما نصفان لم يجز. قال سحنون: وكأنه أكرى سدس أرض بسدس بذر صاحبه".

فروع ثلاثة: الفرع الأول: قال سحنون: إنما يجوز في الشركة الصحيحة اشتراط العمل على أحدهما في عمل الحرث فقط لا في الحصاد والدراس، لأنه لا يدري هل يتم وكيف يكون؟ قال أبو إسحاق التونسي: هذا هو الصواب، لأنه إنما يعمل عملاً معلومًا، وما كان لا يدري كما يعمل ولا كيف المعمول؟ فلا يجوز. قال أبو إسحاق: وقد وقع في التعبية لابن القاسم في شرط الحصاد والدراس، خلاف هذا، وما قدمناه أولى. الفرع الثاني: إذا أخرج الشريكان في الشركة الصحيحة البذر من عندهما جميعًا، فقال سحنون: إنما تتم الشركة إذا خلطا ما أخرجا من الزريعة، أو جمعاها في بيت، أو حملاها جميعًا إلى الفدان، وبذر كل واحد في ظرفه، فزرعها واحدة ثم زرعا الأخرى، فهو كما لو جمعاها في بيت، وتصح الشركة. وروي عن سحنون أيضًا، أنه قال: إذا زرع كل واحد منهما بذرة في ناحية معلومة لم تجز الشركة، وإن لم يكن ذلك بشرط، ولكل واحد منهما ما أنبت بذره، ويتراجعان في الأكرية والعمل، وإنما تجوز الشركة إذا خلطا الزريعة كالشركة بالمال، وقاله أصبغ. قال: فأما لو لم يخلطاهما، فزرعا بذر هذا في فدان أو في بعضه، وبذر الآخر في الناحية الأخرى، ولم يعملا على ذلك، فإن الشركة لا تنعقد، ولكل واحد ما أنبت حبه، ويتراجعان في الأكرية والعمل، وإنما تجوز الشركة إذا خلطا الزريعة كالشركة بالمال، وقاله أصبغ. قال: فأما لو لم يخلطاهما، فزرعا بذر هذا في فدان أو في بعضه، وبذر الآخر في الناحية الأخرى، ولم يعملا على ذلك، فإن الشركة لا تنعقد، ولكل واحد ما أنبت حبه، ويتراجعا فضل الأكرية، ويتقاصان. الفرع الثالث: إذا حملاهما جميعًا إلى الفدان، فزرعا واحدة، ثم زرعا الأخرى، فصححنا الشركة، فنبت بذر أحدهما، ولم ينبت بذر الآخر، ف إن غر منه صاحبه وقد علم أنه لا ينبت، فعليه مثل نصف بذر صاحبه له والزرع بينهما، ولا عوض له في بذره، وإن لم يعلم أنه لا ينبتولم يغر، فإن على الذي ينبت بذره أن يغرم للآخر مثل نصف بذره على أنه لا ينبت، ويأخذ منه مثل نصف بذره الذي ينبت، والزرع بينهما على الشركة، غره أو لم يغره. الشرط الثاني: التعادل بين الأشراك في قدر المخرج أو قيمته بحسب حصص الأشراك. فلا تجوز على أن يكون لأحدهما الثلث أو الربع أو غيرهما من الأجزاء، على أن يخرج ما لا يكون قيمة ذلك الجزء من جميع المخرج، إلا أن يكون التفاوت يسيرًا لا قدر له فلا يفسد المزارعة وإن تعمد. وكذلك لو عقدت على التساوي لم تفسد بما فضل به أحدهم بعد ذلك وإن كثر.

النظر الثاني: في حكمها. ولا خفاء بأن حكم المزارعة الصحيحة التوزيع بينهم على الشرط المقدور. وأما حكم الفاسدة فالفسح إن عثر عليها قبل الفوات (بالعمل)، فإن فاتت به اختلف حكمها باختلاف صورها. فإن دفع له الأرضش، والعمل على الآخر، وقال الآخر: أخرج أنت جميع البذر على أن على نصفه، لم يجز لشرط السلف، فإن وقع ذلك فالزرع بينهما نصفان، لأنهما ضمنًا الزريعة وتكافأ في العمل وكراء الأرض، ويرجع مخرج الزريعة بنصفها معجلاً على الآخر. وقال ابن سحنون عن أبيه: الزرع لمسلف الزريعة وعليه كراء الأرض، قبض (رب) الأرض حصته من الزريعة أو لم يقبضها إذا وقعت الشركة على شرط السلف، إلا أن يكون أسفله على غير شرط بعد صحة العقد. وإن قال له: خذ بذري فازرعه في أرضك على النصف؛ ففي قول سحنون: الزرع لرب البذر، ولهذا أجر عمله وكراء أرضه. وفي قول ابن القاسم: الزرع للعامل وعليه مكيلة البذر لربع. وإن أخرج هذا البذر، وأخرج الآخر الأرض، ووليا جميعًا العمل، وتكافأ في ما سوى البذر والأرض على أن يكون الزرع بينهما نصفين، فهو بينهما على ما شرطا، وعلى صاحب البذر نصف كراء الأرض، وعلى صاحب الأرض نصف مكيلة البذر، ولا تراجع بينهما فيما سوى ذلك إذ قد تكافأ فيه. وحكى الشيخ أبو الوليد إذا وقعت فاسدة وفاتت بالعمل ستة أقوال، ولم يخص وجهًا من وجوه الفساد دون غيره. وقال: "الأول: إن الزرع لصاحب البذر ويؤدي لأصحابه كراء ما أخرجوه. الثاني: إن الزرع لصاحب العمل. الثالث: إنه لمن اجتمع له شيءان من ثلاث أصول: البذر، والأرض، والعمل. فإن كانوا

ثلاثة، واجتمع لكل واحد شيءان منها، أو انفرد كل واحد منهم بشيء واحد منها، كان الزرع بينهم أثلاثاً، وإن اجتمع لأحدهم شيءان منها دون صاحبيه، كان له الزرع دونهما، وهو مذهب ابن القاسم، واختاره محمد، على ما تأول أبو إسحاق التونسي. الرابع: أن يكون لمن اجتمع له شيءان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي: الأرض والبقر والعمل. السادس: قال ابن حبيب: إن سلمت المزارعة من كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع بينهم على ما اشترطوه، وتعادلوا فيما أخرجوه، فإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع لصاحب البذر". ولنختم الباب برسم المسألة الموعودة في كراء الأرض. مسألة: المشهور من المذهب أنه لا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام، كان مما تنبته أو مما لا تنبته، ولا ببعض ما تنبته من غير الطعام كالقطن والكتان والعصفر والزعفران، ويجوز بالقصب والخشب. (وقال ابن كنانة: لا تكري بشيء إن أعيد فهيا نبت، ولا بأس أن تكري بغير ذلك من جميع الأشياء، أكل أو لم يؤكل، خرج منها أو لم يخرج. به قال يحيي بن يحيي، وقال: إنه من قول مالك. وقال به ابن مزين. وقال ابن نافع: تكرى به خلاف ما يزرع فيها ما عدا الحنطة وأخواتها. قال عيسى بن دينار: فمن أكراها على أحد هذه الأقاويل الثلاثة أجزت كراءه ولم أفسخه. قال: وأما مذهب الليث في تجويزه كراء ها بالثلث أو بالربع مما تنبت، فإن وقع

فسخته، وإن فات أوجبت عليه كراء مثلها بالدراهم. قال الشيخ أبو محمد: "وشدد في كرائها بجزء مما يخرج منها فقال: قد قال قائل وأنا أيضًا أقوله، إن من فعل ذلك فهو جرحة في حقه. قال: يريد إن كان عالمًا إنه لا يجوز، إما لأنه مذهبه، أن اتبع فيه غيره ممن قلده من العلماء. قال سحنون: ولا يؤكل طعامه، ولا يشتري من ذلك الطعام الذي أخذ في كرائها". وقال اشيخ أبو إسحاق في استئجار الأرض بالعروض التي تتولد عنها، مثل الكتان والعصفر والخضر وما أشبه ذلك: قولان لأصحابنا، أحدهما: إنه لا يجوز، والآخر: إنه يجوز ولو بالحنطة والشعير والحبوب.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي ثلاثة: [الأول] العاقدان، ولا يخفى أمرهما. الركن [الثاني] في الأجرة، وهي كالثمن، إلا أنها لا تتعجل بمجرد العقد، إلا أن يكون شرط أو عادة، أو يقارن العقد ما يوجب التقديم، ويكون تأخيرها يؤدي إلى أمر ممنوع، مثل أن تكون الأجرة عرضًا معينًا أو طعامًا رطبًا أو ما أشبه ذلك. وما عدا هذا فلا يستحق تقديم جزء من الأجرة إلا بالتمكين من استيفاء ما يقابله من المنفعة. قال القاضي أبو الحسن: "كلما استوفى منفعة يوم استحق عليه أجرته، "إلا أن تكون هناك عادة من نقد أو تأخير، أو يشترطوا شرطًا فيلزم ذلك كله، ويحملوا عليه". فإن استأجر أجيرًا يعمل له شهرًا بثوب معين، ف إن كان العرف التقديم صح العقد وأجبر على التقديم؛ وإن كان العرف التأخير فسد العقد عند ابن القاسم، إلا أن يشترط النقد، وصح عند ابن حبيب.

وقال الأستاذ أبو بكر: وهذا أصل مختلف فيه بين ابن القاسم والمدنيين فعند ابن القاسم يحمل الإطلاق على العرف وإن كان العرف فاسداً. وعند ابن الماجشون وغيره من المدنيين: لا حكم للعرف الفاسد، وإنما التأثير للعرف الصحيح. ثم في معنى الاستيفاء التمكين منه، فإذا حصل التمكين فالأجرة مستحقة، استوفيت المنفعة أم لا. ولما كانت الأجرة كثمن المبيع وجب أن يراعى فيها شرائطه، ف لو آجر داراً بعمارتها وهي غير معلومة لم يجز. وكذلك إن استأجرها بدراهم معلومة، فشرط صرفها إلى العمارة بعمل المستأجر، وعمله غير مضبوط بلفظ أو إعادة لم يجز أيضًا. ولو كانت الأجرة صبرة مجهولة جاز كما في البيع. ولو استأجر السلاخ بالجلد، والطحان بالنخالة، والنساج بجزء من الثواب، لم يجز، إذ لا يدري كيف يخرج، ولأن ما استأجره به لا يسلمه إليه بعد مدة. ولا يجوز ذلك في المعين إذا خيف منه الغرر. وإن آجرته على تعليم العبد الكتابة أو القرآن سنة وله نصفه لم يجز، إذ لا يقدر على قبض ذلك قبل السنة وقد يموت العبد فيها فيذهب عمله باطلاً. ويجوز أن يؤاجر على تعليم العبد الخياطة أو القصارة أو غيرها بأجر مسمى، أو بعمله سنة. قال غيره: وبأجر مسمى أجوز. قال يحيي. والسنة محسوبة من يوم أخذه. ولو قال: احصد زرعي هذا ولك نصفه، أو جد تمري هذا ولك نصفه، فلك جائز، وليس له تركه لأنها إجارة. وكذلك لقط الزيتون، وهو كبيع نصفه. وإن قال: فما لقطت أو حصدت فلك نصفه، جاز، وله الترك متى شاء لأن هذا جعل. وغير ابن القاسم لا يجيز هذا. وإن قال له: احصد اليوم أو التقط اليوم، فما اجتمع فلك نصفه لم يجز، إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم فلا أجيزه ثمنًا، مع ضرب الأجل في الجعل، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء. ولم يجزه في العتبية في رواية عيسى عن ابن القاسم.

وقال ابن حبيب في الواضحة: إذ قال: احصد زرعي كله، أو اطحن قمحي كله ولك نصفه فلا يجوز ذلك ويفسخ. فإن طحنه وسلم كان لصاحبه وعليه أجر العامل. فإن لم يسلم وتلف فلا أجر له، قال مطرف وابن الماجشون وإن شرط أن يترك متى شاء. وإن قال: انفض شجري أو حركها، فما نفضت أو سقط فلك نصفه لم يجز لأنه مجهول. وإن قال: اعصر زيتوني أو جلجلاني، فما عصرت فلك نصفه لم يجز إذ لا يدري كيف يخرج، وغذ لا يقدر على الترك إذا شرع وليس كذا الجعل، والحصاد يدعه متى شاء إذا قال: ف ما حصدت من شيء فلك نصفه. وأما قوله: احصد ولك نصفه، ف تلك إجارة لازمة. قال ابن حبيب: قوله: احصده أو اعصره أو اطحنه ولك نصفه جائز كله حتى يقول: فما خرج فلك نصفه فلا يجوز. ومحمل الأول على أنه ملكه نصفه الآن، حتى يقول تصريحًا: فلك نصفه بعد الجداد أو القطاف أو (العصر)، فلا يجوز، لأنه لم يملكه منه (الآن شيءا)، وقد يهلك ذلك بعد أن عمل فيه فيذهب عمله باطلاً، ويصبر كمن أجر نفسه بنصف ما يخرج، وذلك كبيعه فلا يجوز. (قال ابن القاسم: "ولو قال: احصده وادرسه ولك نصفه لم يجز، لأنه استأجره بنصف ما يخرج من الحب، وهو لا يدري كيف يخرج، ولو باعه زرعاً جزافًا وقد يبس، على أن عليه حصاده ودراسه لم يجز، لأنه شراء حب جزافاً لم يعاين جملته". قال الشيخ أبو محمد: "يريد: ولم يعاين تصييره". واختلف إذا استأجر الطحان بصاع من الدقيق، فأجيز كبيعه. وقال محمد: لا يجوز، لأنه قد يهلك بعد العمل، فيذهب عمله باطلاً، بخلاف البيع إذ ملك في البيع ولم يملك ها هنا. وأطلق القاضي أبو الفرج أيضًا المنع. ولو شرط للمرضعة جزءًا من المرتضع الرقيق بعد الفطام فهو فاسد.

الركن الثالث: المنفعة. ومورد العقد: كل منفعة يسبتاح تناولها، ويجوز لمالكها منعها وبدلها. وشروطها خمسة: (أن تكون متقومة، غير متضمنة استيفاء عين قصدًا، وأن تكون مقدوراً على تسليمها، حاصلة للمستأجر، معلومة). الشرط الأول: أن تكون متقومة. فما لا تتقوم منفعته لا يصلح استئجاره. واختلف في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب عليها، فقيل فيه بإثبات الصحة ونفيها. ومنع ابن القاسم استئجار الدنانير (والدراهم) لتزيين الحوانيت. ومنع أيضًا استئجار كل ما لا يعرف بعينه. وصحح جميع ذلك الشيخ أبو بكر وغيره إذا كان المالك حاضرًا معه. واختلف في إجارة المصحف. فقال محمد "وابن حبيب: لا يجوز، بخلاف بيعه، وكأنه ثمن للقرآن، وفي البيع الثمن للرق والخط. قال ابن حبيب: وكره إجارته من لقيت من أصحاب مالك. قال: واختلف قول ابن القاسم فيه". والذي في الكتاب لابن القاسم إجازة إجارته. الشرط الثاني: ألا يتضمن استيفاء عين قصدًا. فلا يصح استئجار الأشجار لثمارها، والشاة لنتاجها ولبنها وصوفها، لأنه بيع عين قبل الوجود. ويستثنى من ذلك اشتراط ثمرة الشجرة التيفي الدار المستأجرة، إذا كانت قيمة الثمرة ثلث الكراء فأقل، مثل أن تكون قيمة

أجرة الدار دون شرط الثمرة عشرة، وقيمة الثمرة في ما عرف مما عرف مما تطعم كل عام إذا اعتبر الوسط من ذلك خمسة، فيشترطها المستأجر لرفع ضرر دخول الدار لجد الثمرة وسقيها وشبه ذلك من خدمتها، فأرخص له باشتراطها لأجل ذلك. فأما استئجار المرأة للإرضاع مع الحضانة فيصح، ويندرج اللبن تحتها وإن كان عيبًا للضرورة، بل يجوز استئجارها للبن على انفراده للضرورة، كما يجوز استئجارها للحضانة بمجردها. وقد تناول النص أخذ الأجرة على الإرضاع. واستئجار الفجل (للضراب) جائز، إذا عين في الإجارة (أكومًا) معلومة، فإن سمى أيامًا أو شهرًا لم يجز أن يسمي مع ذلك (نزوات) (معدودة). ولو استأجر على النزو حتى يعق لم يجز لأنه مجهول. وإن استأجره على أن [يحمله] عليها دفعة بعد أخرى فعقت في الأولى، انفسخت الإجارة فيما بقي. الشرط الثالث: القدرة على التسليم حسًا وشرعًا. فلا يصح استئجار العين لمنفعة لا تتصور منها، كاستئجار الأخرس للتعليم، والأعمى للحفظ، وكذلك استئجار قطعة أرض لا ماء لها للزراعة، ولو استأجرها للسكنى صح. وكذلك لو كان الماء متوقعًا، ولكن على النذور، لم يصح، ولو كان الغالب وجوده لصح. فأما إن كان وجوده معلومًا بالعادة، أو غالبًا على الظن غلبة يكون عدمه معها شاذاً نادراً، كمأمون أرض النيل، فالعقد صحيح والنقد جائز. وكذلك (أرض) المطر المأمونة في العادة يجوز فيها العقد والنقد. وقيل: لا يجوز النقد في (أرض) المطر وإن كانت مأمونة. ولو استأجر أرضًا والماء مستول عليها في الحال، ويعلم بالعادة أنه لا ينحسر عنها فالعقد باطل، فإن علم بها انحساره أو كان الغالب انحساره فهو صحيح. قال ابن القاسم: وكذلك إن استوى الاحتمالان. وقال غيره: لا يجوز الكراء إن خيف ألا ينحسر الماء عنها.

وإجارة الدار (السنة) القابلة صحيحة، كما لو أضافها إلى ما قبلها في عقد واحد، ويجوز النقد فيها لأمنها، فإن طال الأجل كره النقد وإن جاز العقد. ولو قال: استأجرت هذه الدابة لأركبها نصف الطريق وأترك لك النصف فأولى بالصحة. ثم العجز الشرعي كالعجز الحسي في الإبطال؛ فلو استأجر على قلع سن صحيحه، أو قطع يد صحيحة، أو استأجر حائضًا على كنس مسجد، فالإجازة فاسدة، لأن تسليمه شرعًا متعذر. ولو كان اليد متأكلة، والسن متوجعة صحت الإجارة. فإن سكن قبل القلع واستغنى عن القلع انفسخت الإجارة. ولو استأجر منكوحة الغير ظئرًا دون إذن الزوج كان للزوج أن يفسخ الإجارة عنها. وأن يسافر بها فتنفسخ، وكان له أن يطأها إن لم تختر الفسخ، والمستأجر بالخيار بين أن يرضى بالإجارة على أن الزوج يطأ أو يفسخ، فإن كان بإذنه صح، ثم لا يكون له أن يفسخ الإجارة، ولا أن يسافر بالمرأة، ولا أن يطأها، إلا أن يرضى المستأجر. وقال أصبغ: لا يمنع الوطء إلا أن يشترطوا ذلك عليه، وإلا لم يمنع إلا أن يتبين ضرر ذلك على الصبي فيمنع حينئذ. ولو استأجرها الزوج نفسه فهو صحيح، ويجوز استئجاره لها لإرضاع ولده منها أو من غيرها. الشرط الرابع: حصول المنفعة للمستأجر. فلا يصح الاستئجار على العبادات التي لا تجزئ النيابة فيها، كالصلاة والصيام ونحوهما. وقد تقدم الكلام في الاستنابة في الحج والإجارة عليه. فأما حمل الجنازة، وحفر القبر، وغسل الميت، فتجزئ فيها النيابة والإجارة. ويجوز الاستئجار على الإمامة مع الأذان، وكأن الأجرة إنما وقعت على الأذان والقيام بالمسجد لا على الصلاة. وقد أجرى عمر لسعد القرظي رضي الله عنهما رزقاً على الآذان. ولا تجوز على الصلة بانفرادها، فرضًا كانت أو غير فرض. (ومنع ابن حبيب من ذلك مجتمعًا ومفترقًا. قال: وما رروي من عطية عمر وغيره على ذلك، ف لأن ذلك من مال الله، ونفقة لهم على قيامهم بأمر المسلمين، وكذلك كان يجري للقضاة

والولاة زرقًا، وهم لا يجوز لهم الأخذ من مال من حكموا له بالحق جعلاً على حكمهم). وأجاز ابن عبد الحكم ذلك مجتمعًا ومفترقًا. ورأى أن الأجرة على ملازمة الموضع الخاص أوقات الصلوات وارتقاب الأوقات لا على أداء الصلوات أنفسها. الشرط الخامس: كون المنفعة معلومة. وتفصيلها ينقسم أقاسم الإجارة، وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: استصناع الآدمي: وذلك يعرف إما بالزمان، أو بمحل العمل، كما يستأجر الخياط يومًا، أو لخياطة ثوب معين. فلو جمع بينهما وقال: استأجرتك لتخيط هذا الثوب في هذا اليوم لم يصح، لأنه ربما يتم العمل قبل اليوم أو بعده. وفي تعليم القرآن يعرف بالزمان أو بالسور. وفي الإرضاع بعين الصبي؛ فأما الدهان وغسل الخرق ونحوه، ومحل الإرضاع فمحمول على المتعارف. (وقال محمد بن عبد الحكم: على الظئر أن تغسل خرق الصبي ولحافه وما يحتاج إليه، وتقوم من أمره بما تقوم به (الأم) وتحمله إلى طبيب إن احتاج إلى ذلك، وتدق ريحانه وغيره مما يحتاج إليه). القسم الثاني: في استئجار الأراضي، وفيه صور: الأولى: أن يستأجر (للسكنى)، فيحتاج أن يعرف من الدار والحانوت والحمام كل ما تختلف به المنفعة ويتعلق به الغرض، وتقل الأجر ويكثر بحبسه. ويعرق قدر المنفعة بالمدة، ولا تتقيد بالسنة الواحدة وشببهها، بل له أن يكري الدار إلى حد لا تتغير فيه غالبًا وينتقد. فأما ما لا يأمن تغيرها فيه لطول المدة أو ضعف البناء [وشبه ذلك]، فيجوز العقد دون النقد ما لم يغلب على الظن أنها لا تبقى إلى المدة المعينة فلا يجوز كراؤها إليها.

ولو آخر سنين ولم يقدر حصة كل (سنة) من الأجرة صح، كما في الأشهر من سنة واحدة. ولو قال: أجرتك كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا صح؛ ولكل واحد منهما الترك متى شاء. وقال ابن حبيب: السنة الأولى أو الشهر الأول لازم، ويثبت الخيار لهما فيما وراء ذلك خاصة. وقاله مطرف وابن الماجشون، (وروياه) عن مالك. ولو اشترط عليه نقد مبلغ من الأجرة (للزمهما) العقد في المدة التي يقابلها ذلك المبلغ. قال أبو الحسن اللخمي: "قولاً واحدًا". ولو قال: أجرتك شهرًا بدرهم وما زاد فبحسابه صح ذلك، ولزم في الشهر، وهما فيما وراءه بالخيار. ولو قال: أجرتك سنة، ولو يعين ابتداءها صح وكان من حين العقد. ولو قال: أجرتك الأرض ولم يعين للبناء أو (للزراعة) والغرس صح، وكان له أن يفعل من ذلكما يشبه. فإن أشبه الجميع، وكان بعضه أضر بالأرض من بعض لم يصح العقد ولو قال: لتنتفع بها ما شئت جاز. ولو قال: أجرتك (للزراعة) ولم يذكر ما يزرع صح العقد، ولم يزرع إلا ما يشبه. ولو سمي صنفًا بعينه يزرعه لكان له أن يزرع غيره مما ضرره كضرره أو دونه بالأجرة، دون ما ضرره أكثر. ولو شرط عليه أن لا يزرع فيها إلا صنفًا عينه لم يجز. قال ي كتاب محمد: فإن نزل فعليه قيمة الكراء. ولو قال: أجرتك، فإن شئت فازرعها، وإن شئت فاغرسها جاز وتخير. ولو اكترى الأرض للبناء لم يشترط تعريف قدر البناء أو وصفه ولاتعريف ارتفاعه، بخلاف ما إذا اكترى جداراً ليبني عليه. القسم الثالث: في استئجار الدواب، وهي تستأجر لأربع جها. الجهة الأولى: الركوب، فيشترط أن يعرف المستأجر الدابة بالرؤية أو بالصفة المشتملة على بيان ما تختلف أغراض المستأجرين بسبب اختلافه من صفات الدابة إن أورد عقد (الاستئجا) على الذمة. فيعين الجنس والنوع والذكورة والأنوثة، إلا أن تعرف العادة ذلك فيستغني بها عن ذكره.

الباب الثاني: في أحكام الإجارة الصحيحة

وأما الراكب فلا يحتاج إلى وصف، بل لو عين بالرؤية أو بالذكر لم يتعين، وكان له أن يجعل مكانه مثله لا أضر منه. ويعرف المحمل بالسعة والضيق، ويعرف تفاصيل المعاليق. فإن أطلق في جميع ذلك وكان معلومًا بالعادة صح العقد. ولو كانت مختلفة اختلافاً متفاوتًا لم يصح العقد إلا بالتفصيل دون الإطلاق. وأما كيفية السير وتفصيله، والسرى، ومقدار المنازل، ومحل النزول أهو في القرى أو هو ي الصحراء، فكل ذلك يتبع فيه العرف. الجهة الثانية: استئجار الدابة للحمل. وليعرف قدر المحمول بالرؤية إن كان حاضرًا، فإن كان غائبًا فيذكر الكيل والوزن أو العدد فيما لا كبير تفاوت بين آخاده. وحيث كان الكراء في المدة لم يشترط معرفة وصف الدابة، إلا إذا كان المنقول يختلف الغرض فيه باختلاف وصف الدابة كرجاج أو نحوه. الجهة الثالثة: الاستقاء، وليعرف قدر الدلاء، والعدد، وموضع البئر وبعد الرشاء إذا كان مباينًا للمتعارف فيها مباينة بينة، إلا أن يكون جميع ذلك أو بعضه معلومًا بالعرف فيجتزأ به. الجهة الرابعة: الحراثة: ولتعرف بالمدة، أو بتعيين الأرض، وتعرف صلابتها ورخاوتها. وعلى الجملة فيعرف كل ما يتفاوت به الغرض ولا يتسامح بمثله في المعاملة. الباب الثاني: في أحكام الإجارة الصحيحة، وفيه فصلان: الفصل الأول: في موجب الألفاظ المطلقة ويرتبط النظر فيه بأقسام موارد العقد، وهي أربعة: الآدمي، والدور، والأراضي، والدواب. القسم الأول: الآدمي. واستئجار الخياط لا يوجب عليه الخيط، بل هو على المالك إلا أن تكون العادة خلافه. واستئجار الحاضنة على الحضانة لا يستتبع (الإرضاع) وكذلك الاستئجار عليه لا يستتبعها ولا يستتبع واحد منها دهن الصغير، ولا غسل خرقة ولا شيءا من خدمته، إلا أن يكون في

ذلك عرف فيحمل عليه كما تقدم في المشهور، وقد ذكرنا قول ابن عبد الحكم. القسم الثاني: الدور. وإذا هطل البيت وأضر (ذلك) بالسكان فلا يجبر ربه على أن يطينه، بل إن طينه لزم المكتري الكراء، وإن أبى أن يطينه كان للمكتري الخروج. وليس للمكتري أن يطينه من كرائه ويسكن. وقال غير ابن القاسم: (التطين) وكنس (المرحاض) مما يلزم رب الدار. وحكى أبو الحسن اللخمي (عن ابن القاسم أنه قال في المدونة: "كنس الكنيف وإصلاح ما وهي من الجدران على صاحب الدار". قال: "وقال في المجالس: (ذلك) على السكان، وفي الفنادق على صاحبه دون المكتري". قال: "إلا أن يكون متقدمًا على العقد، ولا يصلح للسكنى إلا بإزالته، فيجبر صاحب الدار على إزالته، وأما ما ليس فيه ضرر على المكتري فيلزمه السكنى وجميع الكراء وإن لم يصلحه رب الدار. زاد أبو زيد: إلا أن يكون له (في ما انهدم) سكنى ومرفق فيحط عنه بقدره. ومن آجر داراً ليس لها باب وميزاب، فليس عليه تجديد ذلك، إلا أن يجهل ذلك المكتري، ويكون العرف وجوده، فيكون عليه تجديده. القسم الثالث: الأراضي، وفيها مسائل: المسلة الأولى: إذا استؤجرت الأرض للزراعة، ولها شرب معلوم، فالعرف فيه الاتباع وإن لم يذكر. المسألة الثانية: إذا مضت المدة والزرع باق، وقد كان ربه علم أن المدة تنقضي قبل

تمام الزرع بالأمد البعيد، فربها مخير بين قلع الزرع مجانًا وبين إبقائه بالأكثر من المسمى أو كراء المثل. وإن كان ظن أن زرعه ينقضي عند تمام المدة فزاد عليها الأيام أو الشهر ونحوه فليس لربها قلعه، وله فيما زادت المدة بنسبة كراء المدة المسى. وقال الشيخ أبو محمد: "له كراء المثل لا على ما اكترى". قال: "وفي الأم على حساب ما أكري. فطرح سحنون على حساب ما أكري في رواية يحيي، وأبقى كراء المثل". وإن استأجر لزراعة القمح شهرين، فإن شرط القلع بعد المدة جاز وكأنه لا يبقى إلى القصيل. وإن شرط الإبقاء فهو فاسد للتناقض بينه وبين التأقيت. وإن أطلق فسد إن كان العرف الإبقاء. ولو آجر للغرس أو للبناء سنة أو سنتين اتبع الشرط. ثم للمالك الخيار عند انقضاء الأمد في أخذ ما بني أو غرس بقيمته منقوضًا ومقلوعًا بعد إسقاط أجرة إخلاء العرضة من النقض إن كان المستأجر يحتاج إلى الاستئجار على ذلك، أو تكليف المستأجر القلع وإخلاء الأرض. المسألة الثالثة: إذا استأجر أرضًا ليزرع فيها صنفًا، فله أن يزرع فيها غيره مما هو أقل ضررًا بالأرض، وليس له أن يزرع ما ضرره بالأرض أكثر من ضرر ما استؤجرت له. وكذلك إذا استأجر حانوتًا لصنعة، فلا يباشر ما ضرره به فوق ضررها، ويفعل ما ضرره به دون ضررها أو مثله. فرع: لو استأجر للقمح أو غيره، فزرع ما هو أرض بالأرض منه، فللآجر القلع في الحال، فإن لم يقلع حتى مضت المدة فله أخذه بالكراء الأول، وما بين القيمتين. القسم الرابع: الدواب، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه يجب على مكري الدابة تسليم ما جرت العادة بتسليمه معها من أكاف وبرذعة وحزام وسراج وسرج في الفرس، وشبه ذلك مما هو المعتاد، إذ ما يقتضيه العرف فهو فهو كالمشترط

الفصل الثاني: في الضمان

المسألة الثانية: أنه يلزم الكري إعانة الراكب في النزول والركوب في المهمات المتكررة على ما هو المعتاد. وكذلك الحكم في رفع الحمل وحطه، وكذا في المحمل إذا كان جميع ذلك متعارفًا. المسألة الثالثة: يجب تقدير الطعام لمحمول، فإن فني رجع في البذل وعدمه إلى العرف. المسألة الرابعة: إذا تلفت الدابة المعينة انفسخت الإجارة، وإن أورد على الذمة فسلم دابة فتلفت، لم (تنفسخ): الإجارة، وكذا إن وجد بها عيبًا. المسألة الخامسة: أنه يجوز إبدال مستوفي المنافع، فله أن يركب مثل نفسه، بل له أن يؤاجر الدابة والدار غيره، واستثقل مالك إجارة دابة الركوب خاصة إلا أن يموت أو يبدو له عن السفر. وليس له إبدال الصبي الذي عين للإرضاع والتعليم. فرع: إذا استأجر ثوبًا للبس نزعه في الأوقات التي العادة نزعه فيها كالليل والقايلة. الفصل الثاني: في الضمان ويد المستأجر يد أمانة على المعروف من المذهب. وحكي في التضمين قول بعيد. أما يد الأجير على السلعة التي أسلمت إليه ليؤثر فيها بصناعة، كالثوب يسلم للخياطأو الصباغ أوالقصار وشبه ذلك، فيد كل واحد منهم يد ضمان إذا انتصب للصنعة، سواء عمل في حانوته أو بيته، عمل ذلك بأجر أو بغير أجر، تلف بصنعه أو بغير صنعة. فإن لم ينتصب فيده يد أمانة. وكذلك لو دعى إلى بيت رب السلعة يعمل له فيه، وكذلك لو لازمه صاحبه. وعلى هذا يختلف حاله بالإضافة إلى أرباب السلع، فيضمن لبعض ولا يضمن لبعض. والتضمين حيث قلنا به منقول عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم.

ثم الواجب بالضمان القيمة يوم دفع الثوب إلى الصانع وإن كان قد عمله ثم ادعى ضياعه إلا أن تقوم له بينة. فإن قامت بينة بهلاكه من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، وإن ثبت بالبينة هلاكه بعد عمله فلا شيء عليه من الضمان. قال ابن القاسم: ولا شيء له من الأجرة، إذ لم يسلم الصنعة إلى رب المتاع. وقال ابن المواز: تكون له الأجرة. فرأى وضع الصنعة في سلعة المالك كوضعها في يده. وقال أشهب: لا يسقط الضمان بقيام البينة: لأن (أصل) القبض2 على الضمان. ولو شرط نفي الضمان لن ينفعه الشرط في قول ابن القاسم وروايته. وروى أشهب: أنه ينفعه ويسقط الضمان عنه. فرع: لو كان للأجير المشترك أجراء أو صناع تحت يده، فتلف أو ضاع في أيديهم شيء من الأمتعة من غير تعد ولا تفريط لم يضمنوا، لأن (كلا منهم) أجبر خاص للأجير المشترك، لكن يضمنه الأجير المشترك لربه. ولا ضمان على الأجير على الحمل إن عثر، ا, سقط ما حمله، أو انقطعت أحبله، وهو مصدق فيما يدعيه من ذلك، ما لم يغر من عثار أو ضعف أحبل أو شبهه؛ أو يكون منه تعد أو تفريط إلا في الطام والأدام فإنه ضامن على كل حال، وإن لم يكن منه غرور ولا تفريط إذا لم تقم له بينة على تلفه. وإنما اختص الطعام بذلك لمسيس حاجة الناس إليه وضرورتهم، ولو لم يضمنوا لتسرعوا إلى أخذه إذ لا بدل عليهم فيه، فيؤدي ذلك إلى امتناع الناس من الحمل معهم، وتدخل المرة على الفريقين، فضمنوا دفعًا لها. وبتضمينهم قال ربيعة والفقهاء السبعة. فروع أربعة: الفرع الأول: في ضمان الصانع ما لا صنعة له فيه، إذا كان مما لا يستغني عن حضوره عند الصانع، مثل الكتاب المنتسخ منه، والمثال الذي يعمل عليه، وجفن السيف الذي يصاغ على نصله إذا كان بحيث لو سلم للصانع بغير جفن فسد، ومثل ظرف القمح والعجين. فقال محمد: يضمنه الصانع. وقال سحنون: لا ضمان عليه.

إذا غسل ثوب غيره، أو حلق رأسه، أو دلكه من غير استدعاء. وبالجملة فكل من عمل لغيره عملاً أو أوصل إليه نفعًا، من مال أو غيره، بأمره أو بغير أمره، فعلهي رد مثل ذلك المال، وأجرة المثل في ذلك العمل، إن كان من الأعمال التي لابد له من الاستئجار عليها، أو من المال الذي لابد من إنفاقه. فأما إن كان ذلك من الأعمال التي كان يليها بيده أو يليها عبده، أو كان المال من المال الذي يسقط مثله عنه، فلا شيء عليه منه. والقول قول العامل والمنفق: إنه لم يتبرع. وكذلك من دخل الحمام لزمته الأجرة، بل هو ألوى. ولا ضمان على صاحب الحمام إذا ضاعت الثياب بغير تقصير. الفرع الثالث: إذا استأجر دابة ليحمل عليها عشرة (أصوع) فحمل أكثر من ذلك، فعطبت الدابة، فإن كان زاد ما تعطب في مثله، خير ربها بين أخذه بقيمة كراء ما زاد على الدابة ما بلغ مع الكراء الأول أو قيمة الدابة يوم التعدي ولا كراء له. قال الشيخ أبو محمد: هذا إن زاد في أول حمله. وإن كانت الزيادة مما لا تعطب في مثله، فله كراء الزيادة مع الكراء الأول، ولا خيار له في غير ذلك". الفرع الرابع: في اختلاف الصانع والمصنوع له، وفيه مسائل: الأولى: أن يقول رب المتاع للصانع: لم أسلمه لك بل سرق مني، ويقول الصانع: بلا استعصتني فيه، فقال ابن القاسم: يتحالفان، ثم يقال لربه: ادفع له قيمة عمله وخذه؛ فإن أبي، قيل للعامل: ادفع إليه قيمة متاعه بغير عمل، فإن أبيا كانا شريكين، هذا بقيمة متاعه، وهذا بقيمة عمله. وقال غيره: العامل مدع، ولا يكونان شريكين. الثانية: إذا قال رب المتاع فيما عمل الصانع فيه صنعة: إنه أودعه إياه، وقال الصانع: بل استعملتني فيه، فقال ابن القاسم: الصانع مصدق، لا، هم لا يشهدون في هذا، ولو جاز هذا لذهبت أعمالهم. وقال غيره: بل الصانع مدع. الثالثة: إذا ادعى أنه [عمله] (باطلاً)، وقال الصانع: (بأجرة) كذا، فقال ابن القاسم: يصدق الصانع، فيما يشبه من الأجر، وإلا رد إلى (أجرة مثله. وقال غيره: يحلف ويأخذ الأقلمما ادعاه أو من أجر مثله.

الباب الثالث: في الطوارئ الموجبة للفسخ

الرابعة: إذا صاغ الصائغ سوارين، فقال ربهما: أمرتك بخلخالين، فالصانع مصدق. قال سحنون: لأن أرباب المتاع يدعون تضمينهم. فالقول قول الصناع مع أيمانهم، ولهم أجر عملهم، إلا أن يزيد على ما سموا فلا يزاد. الخامسة: إذا قال الصانع: عملت هذا الخلخال بخمسة، وقال ربه: بثلاثة. أو قال الخياط: خطت لك القميص بأربعة، وقال ربه: بدرهمين، فالقول قول الصانع ها هنا. بخلاف البناء يقول: بنيت هذا البناء بدينار، ويقول ربه: بنصف دينار، فالقول قول ربه مع يمينه، لأنه حائز لذلك، إلا أن يدعي ما لا يشبه. وكل من الصائغ والخياط ومن أشبهنهما حائز لعمله. السادسة: إذا ادعى على (صانع) أنهدفع له متاعًا للعمل فأنكره، أحلفه أو أقام البينة عليه، فإن أقر الصانع بقبضه، وقال: عملته ورددته إليك، كلف البينة، وإلا ضمنه. وعلى جميع الصناع البينة أنهم ردوا المتاع، عملوه بأجر أو بغير أجر، أخذوه ببينة أو بغير بينة، إذا أقروا به. وقال ابن الماجشون: القول قول الصناع في رد المتاع، إلا أن يدفع إليهم ببينة فلا يبرأ إلا ببينة. الباب الثالث: في الطوارئ الموجبة للفسخ، (وهي) ثلاثة أقسام الأول: ما ينقص المنفعة نقصًا يتضرر المكتري بالمقام معه، ويأبى الآجر إصلاحه، أو يكون على المستأجر، في الصبر [للإصلاح]، ضرر لطول مدة، أو ما لا يمكن البقاء معه من الضرر، فهو سبب للخيار في فسخ العقد قبل القبض وبعده. أما لو ظهر للعاقد عذر، بأن تخلف عن السفر بعد استئجار الدابة، أو تغيرت حرفته بعد استئجار الحانوت، أو مرض، لكان العقد لازمًا له، إذ لا خلل في المعقود عليه. وكذلك لو استأجر أرضًا للزراعة فزرعها، ففسد زرعها بجائحة أصابته في نفس الزرع، كالطير والجراد والجليد والبرد، وغيره مما عد في جوائح الثمار فلا يحط لشيء من ذلك شيء من الأجرة. وأما إن فسد الزرع من جهة فساد الأرض، قال أبو الحسن اللخمي: "فإن كانت كثيرة

الدود والفأر فكان ذلك سبب فساده، فإن الكراء يسقط (عنه)، كان هلاكه في الإبان أو بعده. وكذلك إن كان سبب هلاكه العطش. وأما إن كان من الغرق فتختلف الحال فيه، فإن كان في الإبان بحيث لو انحسر الماء عن الأرض لأمكن زرعها سقط الكراء عنه، وإن كان الغرق بعد الإبان فلا يسقط عنه شيء من الكراء". القسم الثاني: فوات المنفعة بالكلية، كموت الدابة والأجير المعينين، وانهدام الدار، (وهو) مقتض للفسخ، وكذلك انقطاع شرب الأرض. فأما موت أحد المتعاقدين أو كليهما فلا فسخ العقد، بل يقوم وارث كل عاقد مقامه. وأما الصبي المرتضع أو المتعلم فتفسخ الإجارة بموته. ولو هلك الثوب المستأجر على خياطته كان له أن يبدله بغيره، على الظاهر من المذهب. قال القاضي أبو محمد؛ "الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وأنه إن عين فذلك كالوصف لا ينفسخ العقد بتلفه، بخلاف العين المستأجر". وإذا غصبت الدار المستأجرة حتى انقضت المدة انفسخ الكراء، وسواء في ذلك غصب الرقبة أو المنفعة خاصة. وكذلك أمر السلطان بغلق الحوانيت. ولو أقر المكتري للغاصب بالرقبة قبل إقراره في الرقبة. ولا يفوت حق المنفعة تبعاً على المستأجر، بل له مخاصمة الغاصب لأجل حقه في المنفعة. ومهما حبس المكتري الدابة حتى مضت المدة المعينة استقرت الأجرة. ول لم تكن مدة الكراء معينة فحبسها ولم يستعملها، فعلهي كراء المثل لمدة حبسها، والكراء الأول قائم بينهما، ولو استعملها في غير ما استأجرها له، فعليه كراء ما استعملها فيه، والكراء الأول باق بحاله. وإذا أخلفه الكري حتى فاته تلقي رجل أو غيره فلا يفسخ الكراء بذلك، إلا في الحج فقط، لأن أيام الحج معينة، فإذا فاتت يفسخ. وكذلك مكري أيامًا بأعيانها، ولا يتمادى إن رضيا. القسم الثالث: ما يمنع من استيفاء المنفعة شرعاً، وهو يوجب الفسخ أيضًا، كما لو سكن ألم السن المستأجر على قلعه، أو عفي عن القصاص المستأجر على استيفائه

فروع: أحدها: إذا مات البطن الأول من أرباب الوقف بعد الإجارة وقبل تقضي مدتها انفسخت الإجارة في باقي المدة، لأنه تناول بالإجارة ما لا حق له فيه. وقيل: إذا أكرى مدة يجوز الكراء إليها لزم باقيها. الثاني: إذا أجر الولي الصبي مدة، فبلغ ورشد قبل انقضائها، انفسخت الإجارة عنه، ولم تلزمه باق يالمدة، إلا أن يكون أجرة مدة لا يظن به البلوغ فيها فبلغ على خلاف الظن ويكون الباقي من المدة كالشهر ويسير الأيام فيلزمه ذلك. وأما أن أكرى ربعه أو دابته أو رقيقه سنين، فاحتلم بعد مضي سنة، فإن كان يظن بمثله إلا يحتلم في تلك المدة، فعجل عليه الاحتلام وأنس منه الرشد، فلا فسخ له، ويلزمه باقيها. وقيل: لا يلزمه إلا فيما قل. وأما إن عقد عليه أمدًا يعلم أنه يبلغ قبله فلا يلزمه في نفسه، ولا فيما يملك من ربع وغيره. وأما السفيه البالغ يؤاجر عليه وليه أو السلطان ربعه أو رقيقه سنتين أو ثلاثًا، ثم تنتقل حاله قبل انقضاء مدة الإجارة إلى الرشد فتلزمه الإجارة. وقيل: إنما يجوز أن يكري على هذا مثل السنة ونحوها لأنه جل كراء الناس، ويرجى تغير حاله (كل يوم). وأما ما كثر فله فسخه. الثالث: لا تنفسخ إجارة العبد بعتقه، بل الإجارة أملك به، وهو حر بتمامها، ولا يلحقه دين، وأحكامه أحكام العبد. قال ابن حبيب: فإن اختلفا في إجارته، لمن هي؟، فقال يسأل سيده، فإن قال: أردت أن يكون حرًا بعد تمام مدة الإجارة صدق وكانت الإجارة له قبضها أو لم يقبضها. الرابع: لو ظهر من مستأجر الدار فسوق أو دعارة أو شرب خمر، أو تبين أنه سارق ويخشى على أبوابها أو غير ذلك منه، لم تنفسخ الإجارة بذلك، ولكن السلطان يكف أذاه عن رب الدار وعن الجيران، وإن رأى أن يخرجه يؤاجرها عليه فعل. ثم لا يقف إخراجه على حضور من يكتريها، بل يخرج ويؤدي الأجرة وينتظر حضور الراغب. قال في كتاب ابن حبيب في الفاسق يكون بين أظهر القو في دار نفسه: إن السلطان

يعاقبه ويمنعه، فإن لم ينته، وكان يتردد لأذى الجيران ويقول: إنما آتي لداري، وما أشبه ذلك، فإنها تباع عليه. الخامس: من آجر أمته فله أن يطأها، فإن حملت وجبت المحاسبة، ولا يمنع الوطء، كما لا يمنعه من استؤجر مع زوجته، إلا في الظئر على ما تقدم. السادس: إذا بيعت الدار المستأجرة من المستأجر صح البيع ولم تنفسخ الإجارة، واستوفى المبتاع المنفعة بحكم الإجارة. ولو باعها من غيره لصح أيضًا واستمرت الإجارة إلى آخر المدة. وروي تخصيص الصحة في ذلك بالمدة السيرة كالسنتين والثلاث، وما قارب ذلك، والكراهية في المدة الطويلة. وكذلك يصح بيع الرقبة واستثناء المنفعة مدة لا يتغير المبيع فيها، وتصح من المستأجر إجارة الدار للمالك، كما تصح للأجنبي. خاتمة الكتاب: بذكر فرعين في أحكام السفر الفرع الأول: اختلف أصحابنا في كراء ما تحمله السفن إذا عطبت في البحر قبل وصولها أو عرض لها عارض منعها من البلوغ فذهب ابن القاسم إلى أن كراء السفن إنما هو على البلاغ ولا شيء لربها إلا أن (تبلغ) الموضع، ولو غرقت بالساحل لم يكن له من الأجرة شيء. وذهب ابن نافع إلى حكمها حكم البر، ما سارت (ولربها) بحساب ذلك. وفرق أصبغ، فقال: إن لم يزل ملحجًا حتى عطبت لم يدرك مكانًا يمكنه النزول فيه عامرًا لا يخاف على نفسه ولا على إحماله شيءا، ويمكنه منه التقدم إلى الموضع الذي أكري إليه آمناً ولم يحاذه، فلا شيء له من الكراء، وإن أدركه أو خاذاه فله من الأجرة بحسابه.

الفرع الثاني: في ما يطرح من السفن: وغذا خيف على السفينة الغرق جاز طرح بعض ما فيها من المتاع إذا رجي بذلك نجاتها، ولكون المطروح بينهم على قدر أموالهم، أذن أرباب (الأموال في طرحه أو لم يأذنوا. ويتصدى النظر في صفته ما يطرح، وفي حين تقويمه وفي محل توزيع القيمة، أما ما يطرح فهو جنس الأموال سوى الآدمي، ويبدأ منها بما ثقل جسمه أو عظ جرمه دون ما خف وزنه وكثر ثمنه. وأما حين اعتبار [تقويمه]، فقيل: حين التلف في موضعه كسائر المتلفات، وقيل: بل في أقرب المواضع التي تتقوم فيه، إذ لا قيمة له حين التلف بموضعه. وقيل: قيمته في المكان الذي يحمل إليه، وقيل: المعتبر الثمن الذي اشترى به. وأما محل التوزيع فهو مال التجارة، أعني كل ما حمل في السفينة للتجارة كان مما يطرح أو مما لا يطرح.

كتاب الجعالة

كتاب الجعالة والنظر في أركانها وأحكامها. أما الأركان فأربعة: الركن الأول والثاني: المتعاقدان. ولا يشترط فيهما إلا أهلية الاستئجار والعمل. ولا يشترط في المجعول له التعيين لمصلحة العقد. بل لو قال الجاعل: من رد عبدي الآبق، أو جملي الشارد، فله كذا. فمن أحضر ذلك، بعد أن جعل ربه فيه ماجعل، فله الجعل، علم بما جعل فيه أو لم يعلم، تكلف طلب هذه الأشياء أو لم يتكلفها. وأما إن أحضره قبل أن يجعل ربه فيه شيءا، فإن كان ممن شأنه وعادته طلب [الآبق]، ويعلم أنهم ممن يتكسب به، فله أجر مثله في قدر تعبه وسفره وتكلف طلبه. وإن لم يكن ممن نصب لذلك نفسه، فليس له إلا نفقته. وكذلك قال ابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن الماجشون أيضًا في كتابه: إن كان ليس من شأنه طلب الآبق، فلا جعل له، ولا نفقة، قولاً مجملاً. (وفي العتبية، "فيمن جعل جعلاً في آبق، فأتى به، وقد أنفق عليه، فالنفقة من الذي جاء به، وله جعله فقط. ومن أخذ آبقاً ثم أرسله بعدما أخذه تعمدًا، ضمن قيمته. قال عيسى: قال ابن القاسم: ومن جعل في آبق خمسة دنانير، فذهب رجل، فأتى به من إفريقية، فلما صار في بعض الطريق أفلت منه، فأخذه آخر، فجاء به، قال مالك: إذا أفلت قريبًا فالجعل بينهما بقدر شخوص كل واحد". قال عبد الله بن عبد الحكم: وإن جاء به من يطلق (الإباق)، فقطع في سرعة، فإن كان ربه جعل فيه جعلاً، فهو لازم، وإن لم يجعل فيه جعلاً، وكان لهب العبد حاجة أخذه وأدى الجعل، وإن شاء تركه ولا شيء عليه

أحكام الجعالة

وفي كتاب محمد: إذا استحق بعد أن وجده وقبل وصوله إلى ربه، فالجعل على الجاعل، ولا شيء على المستحق. قال ابن القاسم في العتبية: "وكذلك إن استحق بحرية". وقال أصبغ: إن استحق بحرية من الأصل، فلا جعل له على أحد). الركن الثالث: العمل. وهو كل عمر يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا يشترط كونه معلومًا، فإن مسافة رد العبد لا تعرف. واحترزنا بالعمل الذي يجوز الاستئجار عليه عمن وجد آبقًا أو ضالاً من غير عمل، فليس له أخذ الجعل على رده، ولا على أن يدل ربه على مكانه، بل ذلك واجب عليه، ويشترط فيه أن لا تحصل للجاعل [فيه] منفعة إلا بتمامه. قال القاضي أبو محمد: "ولا يجوز في الشيء الكثير، لما فيه من الغرر بذهاب العمل الكثير باطلاً". وقال أبو الوليد بن رشد: "ولا يشترط ذلك ولا يجوز إلا في غير المقدر من الأعمال بزمن، فمتى قدر لم يكن جعلاً، وصار إجارة". الركن الرابع: الجعل. وشرطه أن يكون معلومًا مقدرًا كالأجرة، فلو قال: من رد عبدي الآبق، فله نصفه لم يصح، وكذلك في الجمل الشارد ونحو ذلك. فإن أحضره، فله جعل مثله. ولو قال: من رده فله دينار، ف اشترك في رده إثنان، فهو لهما. وإن عين واحدًا، فعاونه غير لقصده معاونة العامل، فالكل للعامل. وإن قصد طلب الأجرة، فهي بينهما. أما أحكام الجعالة، فخمسة: الأول: الجواز من الجانبين ما لم يشرع في العمل كالقراض، فإن شرع، لزم من جانب الجاعل خاصة. وحكى أبو الحسن اللخمي قولين آخرين: "أحدهما: أنها تلزم بالقول في حق الجاعل خاصة دون المجعول له. والآخر: أنها كالإجارة، تنعقد لازمة بالقول لهما جميعًا"

الثاني: جواز الزيادة والنقصان في الجعل قبل فراغ العمل. الثالث: وقوف استحقاق الأجرة على تمام العمل حتى لا يستحق بعضها ببعضه. بل لو مات العبد، أو هرب قبل التسليم لم يكن له شيء، إلا (على) ما فضل متقدمًا. الرابع: في النزاع بينهما. وإذا أنكر المالك سعي العامل في الرد فالقول قول المالك. وإن تنازعا في مقدار الجعل، تحالفا، ورجعا إلى جعل المثل. الخامس: حكم فساد الجعالة وقد اختلف فيه: (فقيل: ترد إلى حكم الإجارة، فيكون له إجارة مثله أتم العمل أو لم يتمه. وقيل: ترد إلى حكم نفسها في مسائل، وإلى حكم الإجارة في مسائل. قال أبو الوليد بن رشيد: "وقيل غير هذا". ثم قال: "وهذا هو الصحيح فيها"). فروع مترددة بين الجعل والإجارة: الفرع الأول: مشارطة الطبيب على برء العليل. الفرع الثاني: مشارطة المعلم على تعليم القرآن. الفرع الثالث: المعاقدة على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة من شدة الأرض ولينها، وقرب الماء وبعده.

الفرع الرابع: المغارسة، وهي أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس فيها عددًا من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا سعفة كانت الأرض والشجر بينهما. وكل هذه الفروع مختلف فيها. وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين المذكورين. وقد ألحق بها، أيضًا، كراء السفينة، وعليه الخلاف المتقدم في سقوط أجرتها إذا غرقت، على قول مالك وابن القاسم، وهو إنزال له منزلة الجعل المحقق. وقول ابن نافع: له قدر ما بلغ من المسافة. تنزيل له منزلة الإجارة المحضة. وقول أصبغ في التفرقة راجع إلى افتراق الحالين عنده، فأعطى أحدهما حكم الإجارة، وأعطى الآخر حكم الجعل.

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في ملك الأرض بالإحياء، وفيه فصلان: الفصل الأول: فيما يملك من الأراضي بالإحياء. وهي الموات، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ والموات: هي الأرض المنفكة عن الاختصاص والاختصاص أنواع: النوع الأول: العمارة. فلا يمتلك بالإحياء معمور، وإن اندرست العمارة إلا أن تكون عمارة إحياء ثم اندرست، حتى عادت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء، فإنها تملك بالإحياء ثانيًا. وقال سحنون: لا تتملك بالإحياء، بل هي كغيرها من المعمور. النوع الثاني: أن يكون حريم عمارة. فيختص به صاحب العمارة، ولا يملك بالإحياء. فإن قيل: وما حد الحريم؟، قلنا: أما البلدة، فكل ما كان قريبًا منها، تلحقه مواشيها بالرعي في غدوها ورواحها، وهو لهم مسرح ومحتطب، فهو حريمها، وليس لأحد إحياؤه. وأما الدار، فحريمها إذا كانت محفوفة بالموات مرافقها الجاري بها العادة، كمطرح التراث ومصب الميزاب، وموضع الاستطراق منها وإليها ..

وإن كانت محفوفة بالاملاك، فما بينها وبين سائر الأملاك لا يختص به واحد من الملاك، بل لكل واحد الانتفاع به على ما جرت به العادة، ولكل منهم أن ينتفع في ملكه بما شاء مما لا يتضرر به جاره. (وقال ابن القاسم: فأما ما يحدثه الرجل في عرصته مما يضر بجيرانه من بناء حمام، أو فرن للخبز، أو لتسييل الذهب والفضة، أو كير لعلم الحديد أو رحى تضر بالجدار، فلهم منعه. قاله مالك في غير شيء ممن ذلك، وفي الدخان، وأرى التنور خفيفًا). وقال أشهب: ما احتفره الرجل في ملكه مما يضر بجاره، فليس له ذلك إن كان يجد من ذلك بداً ولم يضطر إليه، فأما إن كان به إلى ذلك ضرورة ولم يجد عنه مندوحة، فله أن يحفره في حقه وإن أضر بجاره، لأنه يضر به منعه، كما أضر بجاره حفره، فهو أولى أن يمنع جاره أن يضر به في (منعه) له من الحفر في حقه لأنه ماله، وكذلك قال لي فيه مالك. وأما البئر فليس لها حريم محدود، لاختلاف الأرض بالرخاوة والصلابة، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها وهو مقدار ما لا يضر بمائها ولا يضيق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورد. ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر أن يبني بئرًا في ذلك الحريم. النوع الثالث: التحجير وفيه خلاف: قال ابن الماجشون ومطرف: إذا تحجر أرضًا، بحيث يجوز الإحياء من موات الأرض، فلا يحجر ما يضعف عنه، (قالا): فإن رأى (الإمام) بمن حجر قوة على عمارة ما حجر إلى عامين أو ثلاثة خلاه، وإلا أقطعه بغيره. (وقال أشهب: قد روي عن عمر رضي الله عنه أن ينتظر به ثلاث سنين قال: وأنا أراه حسنًا. وقال أيضًا: لا يكون أولى لأجل التحجير إلا أن يعلم أنه حجره ليعلمه إلى أيام يسيره، وليس يقطعه على الناس ويعمله يومًا (ما)، إلا أن يكون قصده العمارة بعد زوال مانع من

يبس الأرض، أو غلاء الأجراء، أو غيره من الأعذار، وهو أحق به). وإن حجر ما لا يقوى على عمله، كان له ما عمل، وشرع الناس فيما لم يعمل إذا لم يقو على الباقي. قال ابن القاسم: "ولا يعرف مالك التحجير إحياء، ولا ما قيل: من حجر أرضًا ترك ثلاث سنين، فإن أحياها، وإلا فهي لمن أحياها". النوع الرابع: الإقطاع وإذا أقطع الإمام رجلاً أرضًا كانت ملكًا له، وإن لم يعمرها، ولا عمل فيها شيء ا، يبيع ويهب ويتصرف، وتورث عنه، وليس هو من الإحياء بسبيل، وإنما هو تمليك مجرد. قال الأستاذ أبو بكر: هكذا روي يحيي بن يحيي عن ابن القاسم، سواء كانت في المهامة والفيافي، أو قريبة من العمران، ولا يطالبه الإمام بعمارتها، بخلاف الإحياء. النوع الخامس: الحمى وقد روى ابن وهب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المهاجرين، وهو قدر ميل في ثمانية أميال، ثم زاد الولاة فيه بعد ذلك. وحمى أبو بكر رضي الله عنه (الربذة) لما يحمل عليه في سبيل الله، وهي خمسة أميال في مثلها، وحمى ذلك عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة، يحمل عليها في سبيل الله. وحمى أيضًا (الشرف) وهو نحو حمى الربذة. وللإمام أن يحمي إذا احتاج إلى الحمى. قال سحنون: والأحمية (أيضًا) إنما تكون في بلاد الأعراب العفاء التي لا عمارة فيها بغرس ولا بناء، وإنما تكون الأحمية منها في

الأطراف، حيث لا يضيق على ساكن، وكذلك الأودية العفاء التي لا ساكن بها إلا ما فضل عن منافع أهلها من المسارح والمراعي. وفي ذلك تكون القطائع أيضًا لمن رأى الإمام أن يقطعه. وكذلك ما كان من الموات في أرض الصلح، أو أرض العنوة لم يعتمل ولا حيز بعمارة، ولا جرى فيه ملك لأحد ولا ميراث. ثم الموات قسمان: قريب، وبعيد. فأما القريب: فيفتقر ي إحيائه إلى إذن الإمام لوقوع التشاح فيه ولخشية الخصومة. وقال أصبغ وسحنون: لا يفتقر إلى إذن الإمام في إحياء ما قرب ولا ما وبعد، ورواه ابن عبدوس (عن) أشهب. وغذا فرعنا على المشهور، فإن أحيي بغير إذن الإمام نظر فيه، فإن رأى إبقاءه على من أحياه، وإلا أزاله أو جعله للمسلمين، أو أقطعه غيره. ويكون للأول إذا نزع من يده قيمة بنيانه مقلوعًا. وقال أشهب: من أحيى مواتًا فهو له على ما جاء في الحديث، قرب من العمران أو بعد، واستحب له فيما قرب أن يستأذنه، فيأذن له ما لم يكن فيه على أحد ضرر. وقال أصبغ إن أحيى بغير إذن الإمام أمضيته ولم أتعقبه. وأما البعيد: فلا يفتقر إلى إذن الإمام فيه، وهو ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاء يصلون إليه، ثم يعودون إلى منزلهم يبيتون بها، ويحتطب (المحتطب)، ثم يعود إلى منزله. وقال ابن نافع: يفتقر إلى الإذن فيه كالقريب. (وقال سحنون في كتاب ابنه: ما كان من العمارة على يوم، وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحها، فأراه من البعيد. وأما ما تدركه في غدوها ورواحها، أو أبعد من ذلك قليلاً، مما فيه المرفق لأهل العمارة فهو القريب، يدخله نظر السلطان، فلا يحيي إلا بإذنه)

الفصل الثاني: في كيفية الإحياء

الفصل الثاني: في كيفية الإحياء والمرجوع في حده إلى العرف بأن يفعل في الأرض ما تقضي العادة بكونه إحياء لمثلها. (قال مالك في المجموعة وكتاب ابن سحنون: إحياء الأرض أن يحفر فيها بئرًا، أو يجري فيها عينًا، ومن الإحياء غرس الشجر والبنيان والحرث. وقاله ابن القاسم وأشهب. وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن إحياء حفر الآبار، وشق العيون وغرس الشجر، وبناء البنيان، وتسييل ماء الزراعة من الأرض، وقطع الغياض والفحص على الأرض بما تعظم مؤونته، وتبقى منفعته حتى يصير ما لا يعتد به). ولا شك في مسلك المسلم لما أحيى على الشرائط المتقدمة. فإن أحيى الذمي فقال ابن القاسم: يملك كالمسلم لعموم الخبر. إلا أن يحيي في جزيرة العرب، فإنه يعطي قيمة ما عمر ويخرج عنه لقوله صلى اللهعليه وسلم: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب". وقال القاضي أبو الحسن: "ليس للذمي إحياء الموات في دار المسلمين". (وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن عمر فيما بعد (من) العمران (فذلك له، وأما ما قرب من العمران)، ولو أنه بإذن الإمام، فإنه يعطي قيمة ما عمر وينزع منه، لأن ما قرب من العمران بمنزلة الفيئ، ولا حق للذمي فيه)

الباب الثاني: في المنافع المشتركة في البقاع، كالشوارع والمساجد

الباب الثاني: في المنافع المشتركة في البقاع، كالشوارع والمساجد فأما الشوارع فللاستطراق وهو مستحق لكافة الخلق، وينتفع بها أيضًا للمجلس والمرابض والمصاطب، وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة في الأفنية. وليس بأن تحاز بالبنيان والتحظير. قال ابن حبيب: وقد مر عمر رضي الله عنه بكير حداد في السوق، فأمر به فهدم، وقال: تضيقون على الناس، ثم حيث قلنا بجواز الانتفاع بالجلوس في الطرق، فمن سبق إلى مكان مباح له الجلوس فيه، فهو أحق به، ولا يزعج منه لغيره. وأما المساجد فينتفع بها للصلاة والجلوس بها، لها ومن سبق إلى مكان منها لم يزعج منه، بل هو أحق به من غيره، ويجلس فيها للذكر وقراءة القرآن والاشتغال بالعلوم الشرعية والاعتكاف وما أشبه ذلك من الطاعات المشروعة فيها. وخفف في القايلة والنوم فيها نهارًا للمقيم والمسافر، وفي المبيت فيها للمار والمنتاب إلى أن يرتاد. ولا ينبغي أن يتخذ المسجد مسكنًا، إلا رجل قد تجرد للعبادة فيه لقيام الليل وإحيائه، فلا بأس أن يكون ذلك منه فيه دائمًا دهره إن قوي على ذلك. قال ابن حبيب: وأرخص مالك أن يطعم الضيق في مساجد البادية، وقال: ذلك شأن تلك المساجد. وكره أن يقوده فيها ناراً. وأجاز للرجل يكون له سفل وعلو، أن يجعل العلو مسجداً، ويسكن السفل. ولم يجز له أن يجعل السفل مسجدًا ويسكن العلوم، قال: لأنه إذا جعل السفل مسجدًا، قد صار لما فوقه حرمة المسجد. وروى مالك أنعمر بن عبد العزيز، كان إذ كان بالمدنية أميرًا، ربما بات على ظهر المسجد، فلا تقربه فيه امرأة. وكان أبو هريرة وغيره من الصحابة والتابعين يصلون على ظهر المسجد بصلاة الإمام في سفله. قال ابن حبيب: وإنما أرخص في مرور الرجل بالمسجد مجتازًا للمرة بعد المرة وما أشبه ذلك، وفي الخاص من الأمر ينوب، وليس على أن يتخذ طريقًا. وكره مالك أن يدخل المسجد بالخيل والبغال والحمير لما ينقل عليها إليه. وكان لا يرى بأساً بالإبل لكون أبوالها

طاهرة. قال: وكره أن يبصق في المسجد على الحصر، أو على التراب، ثم يحكه. وكره أن يتخذ الرجل فراشًا ي المسجد يجلس عليه، أو وساداً يتكئ عليه، قال: ليس ذلاك من متاع المسجد. وكان يرخص في الخمر والنخاخ والمصليات. قال: ولا يعلم فيه الصبيان، ولا يمكنون من دخوله، إلا أن يدخل صبي للصلاة، ثم يخرج. قال: ويكره البيع فيه والشراء، وسل السيف، ورفع الصوت، وإنشاد الضالة، والهتف بالجنائز، وكل ما يرفع فيه الصوت حتى بالعمل. فقد كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه، إذا استعلى كلامه وكلام أهل المسجد في العلم، فيقول: يا أبا مروان، اخفض من صوتك، وأمر جلساءك يخفضون أصواتهم. قال ابن حبيب: وحدثني الخزامي عن يحي بن سليم عن مكحول عن وائلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم، وبيعكم وشراءكم، وسل سيوفكم، ورفع أصواتكم وإقامة حقوقكم، وجمروها أيام جمعتكم، واجعلوا مطاهركم على أبوا مساجدكم". قال: وحدثني معاذ بن الحكم عن مقاتل عن نافع بن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المساجد: "لا يمر فيها بلحم، ولا [ينقر] فيها النبل، ولا تتخذ طريقًا ولا تمنع فيها القائلة، ولا تبني بالتصاوير، ولا تزين بالقوارير". قال ابن حبب: يعني (بتنقير) النبل إدارتها على الظفر ليعلم مستقيمها من معوجها" ويعني بالقوارير الزجاج. قال ابن حبيب: إنا لنكره الفوارة التي اتخذت في مسجدنا بقرطبة كراهية شديدة، وإنما كان الصواب فيها أن تتخذ خارجًا في رحاب المسجد وعلى أبوابه. قال: وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم". قال: وأقبح من ذلك ما فعله الناس عندنا بقرطبة من فتح أبواب المياضي في المساجد،

الباب الثالث: في الأعيان المستفادة من الأرض كالمعادن والمياه

قال: وإنما الصواب أن تفتح أبوابها خارجًا على حدة. الباب الثالث: في الأعيان المستفادة من الأرض كالمعادن والمياه أما المعادن فقسمان: القسم الأول: ما فيه الزكاة، كمعادن الذهب والفضة. فما ظهر منها في ملك إنسن معين، فقال مالك: هو له. وقال ابن القاسم: الأمر فيه إلى الإمام، يقطعه لمن يراه. وما ظهر فيما هو لجماعة المسلمين، كالبراري والموات والفيافي من أرض العرب وأرض العنوة، فالإمام يقطعه لمن يشاء. ومعنى إقطاعه إياها أن يجعل لمن يقطعه إياها الانتفاع بها مدة محدودة أو غير محدودة لا يملكه رقبتها، كما لا يقطع أرض العنوة تمليكًا، لكن قطيعة إمتاع، والأصل للمسلمين. وأما ما ظهر منها في أرض الصلح فقال ابن حبيب: يقطعها الإمام لمن يرى، وذكر ذلك عمن لقي من أصحاب مالك. وقال ابن القاسم وابن نافع: لا حق للغمام فيها، وهي لأهل الصلح. القسم الثاني: ما لا زكاة فيه، كمعادن النحاس والرصاص والقصدير والكحل والزرنيخ والجوهر، ونحو ذلك، فقال ابن القاسم: هي مثل معادن الذهب والفضة، والسلطان يقطعها لمن يعمل فيها. وقال سحنون وابن نافع: إنما كان السلطان يلي معادن الذهب والفضة لينظر في زكاتها ويحوطها، فأما هذه فليس فيها زكاة، ولو كان يلي هذه لكان له أن ينظر فيما يخرج من البحر من العنبر واللؤلؤ. وأما المياه فثلاثة أقسام: القسم الأول: خاص، وهو ما كان محرزًا في الأواني، أو في بئره التي احتفرها في ملكه، فهو كسائر الأملاك، يصح بيعه ومنعه. والقسم الثاني: عام منفك عن الاختصاص، لا يملك أصله، وهو ضربنان: الأول: أن يكون طريقه في أرض مباحة، مثل ما يسيل من شعاب الجبال وبطون الأودية [ونحوهما]، فهذا حكمه أن يسقي به الأعلى فالأعلى. (واختلف في كيفية ذلك، فروى ابن حبيب عن ابن وهب ومطرف وابن الماجشون: أن صاحب الحائط الأعلى يرسل جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء في الحائط

إلى كعب من يقوم فيه [أغلق) مدخل الماء. وقال (ابن كنانة): بلغنا أنه إذا أسقى بالسيل الزرع أمسك حتى (يبلغ النعل)، وإذا سقي النخل والشجر وما له أصل أمسك حتى يبلغ الكعبين، وأحب إلينا أن (يمسك) في الزرع والنخل وما له أصل حتى يبلغ الكعبين لأنه أبلغ في الري. وفي المدينة من رواية عيسى عن ابن وهب: أن الأول يسقي حتى يروي حائطه ثم يمسك بعد ري حائطه ما كان من الكعبين إلى أسفل، ثم يرسل). ((وروى زياد بن عبد الرحمن عن مالك)): يجري الأول الماء في ساقيته إلى حائطه قدر ما يكون الماء في الساقية إلى الكعبين حتى يروي حائطه أو بفني الماء، فإذا روي حائطه أرسله كله. قال سحنون: فإن كان الحائط مختلفًا بالارتفاع والانخفاض أمر صاحبه بتسويته، فإن تعذرت عليه التسوية سقى كل (مكان) (مستو) على (حدة). فرعان: الفرع الأول: أن هذا هو الحكم إذا لم يكن إحياء الأسفل قبل الأعلى، فلو أحييى (الأسفل) ثم أراد غيره إحياء ما فوقه، وأن ينفرد بالماء ويسقي به قبل الأسفل السابق بالإحياء، وذلك يبطل عمله ويتلف غرسه، لمنع. قال سحنون: إذا كان بعض الأجنة أقدم من بعض، فالقديم أحق بالماء، وهذا لأن فعل المتأخر يمنع المتقدم مما سبق إلى استحقاقه قبله، وليس له ذلك

الفرع الثاني: إذا كان الحائطان متقابلين فقال سحنون في كتاب ابنه: يقسم الماء بينهما، وذلك لتساويهما في الاستحقاق. فإن كان الأسفل مقابلاً لبعض الأعلى، حكم لما كان أعلى بحكم الأعلى، ولما كان مقابلاً بحكم المقابل). الضرب الثاني: (أن يكون جري الماء في أرض مملوكة، فهذا لمن صار في أرضه أن يمنعه ويحبسه [في أرضه] قل أو كثر، ولا يرسل منه شيء اإلى من تحته إلا أن يشاء، وهذا لأنه بدخوله في أره صار به أحق من غيره). (فإن كان المالكون جماعة مثل النهر يجتمع القوم على إخراج ماء منه، فيحملونه في أرضهم أو في أرض بور (ملكوها) بشق ساقيتهم فيها إذ ذلك نوع من الإحياء، فهم فيه سواء لا يقوم الأعلى على الأسفل، بل هو بينهم، كالماء الذي يملك أصله يقتسمون على قدر أملاكهم بالقلد، ولا يقدم أحد على أحد، بل يأخذ كل واحد ماءه يصنع به ما شاء). (فإن قيل: وما صفة القلد الذي يقسم به" قلنا: من صفته أن تؤخذ قدر فتخرق ي أسفلها وتملأ بالماء، ويكون قدر أقلهم نصيبًا مقدار ما يجري ماؤه على ذلك الخرق فتملأ، ولا يزال صاحب الحصة من الماء يأخذ ماء العين كله ويصرفه فيما شاء إلى أن يفني ماء القدر، ثم تملأ للذي يليه مرة أو مرتين أو أكثر بقدر حصته. ومن صفة القلد أيضًا: أن تؤخذ قدر فخار أو غيره، فيثقب في أسفلها بمثقب ثم يرفع المثقب، ثم تعلق القدر التي خرقت من أسفلها، وتجعل تحتها قصرية، ويعد ماء فلي جرار، فإذا انصدع الفجر صب الماء في القدر فيسيل الماء من الثقب، فكلما هم الماء أن ينضب صب حتى يكون جري الماء من الثقب معتدلاً النهار كله والليل كله، إلى أن يتصدع الفجر، ثم تنحى القدر ويقسم ما اجتمع من الماء على أقلهم سهمًا بينهم كيلاً أو وزنًا، ثم يجعل لكل واحد منهم قد تحمل سهمه من الماء، وتثقب كل قدر منها بالمثقب الذي ثقب به القدر الأول، فإذا أراد

أحد منهم السقي علق قدره بمائه، وصرف (النهر) كله إلى أرضه. فن تشاحوا في التبدية استهموا عليها). ومن صفته أيضًا: أن تنصب خشبة وتجعل فيها خروق متساوية يجري منها الماء، ثم يأخذ كل واحد منهما بقسطه هذا ونحوه مما يتوصل به إلى استيفاء كل واحد حقه. والعوائد في ذلك مختلفة، وكلها تفيد مقصودًا واحدًا، فيعتمد الإشراك على ما اتفقوا عليه منها. القسم الثالث: متردد بين الاختصاص والعموم: (وهو ماء البئر التي احتفرت في الفيافي والبوادي للماشية، فلا تباع ولا تورث، ولكن حافرها أحق بقدر كفايته من مائها هو أو ورثته من بعده). (قال ابن الماجشون: ولاحظ فيها لزوجة ولا زوج من بطن على بطن ثم ما فضل عن ذلك فليس لهم منعه، لأن العادة إنما جرت بأن تحفر لشرب ماشيته ويتصدق بما فضل من مائها ويبيحه للناس، إلا أن يختص المسافرون بضرورة، فيكونوا أحق بالشرق من المقيمين بالماء). وقد روي أن عمر رضي الله عنه جراحات أهل الماء وأغرمهم جراحات أبناء السبيل حين اقتتلوا عليه، وقال: أبناء السبيل أولى بالماء من الباقي عليه حتى يرووا. وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع طريق، ولا يمنع فضل الماء. ولابن السبيل عارية الدلو والرشاء والحوض، وإن لم تكن له أداة تعينه، ويخلى بينه وبين الركية فيستقي".

قال القاضي أبو الوليد: "واتفق مالك وأصحابه على أنه لا يمنع من ف ضل عن من مائها، حملاً لفعله على الغالب. قال: فإن بين وأشهد أنه يريد التملك فلم أر فيه نصًا. قال: والظاهر عندي أنه يكون على شرطه، ويكون بمنزلة من أحييى في القرب أو البعد". فرع في حكم توابع الأرض والماء: وهي الكلأ النابت في الأرض، والصيد الحاصل في الماء. ويختلف حكمها باختلاف محالهما. فحيث كان الأصل غير [مملوك]، فلا يمنع من يصيد، ولا من يحتش، وهذا كالأودية والأنهار والأراضي التي ليست بمملوكة. (فأما ما كان من ذلك في مملوك لمعين، فقال ابن القاسم: "سألت مالكًا عن بحيرات تكون عندنا بمصر لأهل قرى أرادوا بيع سمكنها ممن يصيد فيها سنة؟ فقال مالك: لا يعجبني أن تباع، لأنها تقل وتكثر، ولا يدري كيف تكون، ولا أحب لأحد من أهل تلك البحيرات والبرك أن يمنع أحدًا يصيد فيها ممن ليس له فيها حق". (وقال سحنون: له منعها. وقال أشهب: إن طرحوها فتوالدت فلهم منعها، وإن كان الغيث أجراها لم تمنع. وكذلك الخصب يكوني ملك لمعين تختلف فيه أيضًا، فقال أشهب: "لا يجوز بيع الكلأ بحال وإن كان في أرضه ومروجه وحماه، وإنما هو كالماء الذي يجريه الله (عز وجل) على وجه الأرض، فلا يملك ولا يباع، وهو لمن أنتبه الله في أرضه ينتفع به، ويحميه في رعيه خاصة، فإذا استغنى عنه لم يجز له بيعه ولا يمنعه ممن يحتاج إليه، إلا أن يكون يجزه، ويحمله كما يفعل الناس فيبيعونه. وأما ما كان قائمًا فلا". (وفي العتبية قال عيسى بن دينار: "سألت ابن القاسم عن قول مالك، وكذلك قال ابن حبيب: سألت مطرفًا عن قول مالك في هاتين المسألتين فقلت له: أي خصب يبيع، وأي خصب يبيحه للناس إذا استغنى عنه؟ فقال: أما الخصب الذي يبيعه ويمنع الناس منه وإن لم

يحتد إليه فما في مروجه وحماه ما يملك من الأرضين، وأما الذي لا يجوز بيعه ولا سمع الناس منه إلا أن يحتاج إليه فما سوى المروج والحمى من خصب فدادينه وفحوص أرضه البور والعفا، فإنه لا يجوز بيعه، ولا يمنعه إذا لم يحتج إلى رعية، قالا: وهذا يجبر على إباحته للناس إن استغنى عنه، إلا أن يكون عليه في توصل الناس إليه بمواشيهم ودوابهم ضرر، مثل فدان فيه خصب وحواليه زرع، فلا يصل إليه إلا بضرر زرعه، فله منعهم بالضرر، وإن لم يحتج إلى ذلك الخصب". (قال ابن حبيب: وسألت ابن الماجشون عن ذلك، فساوى بين الوجهين قال: هو أحق بخصب أرضه البيضاء كلها التي يزرعها، وإن لم تكن حمى ولا مروجًا، وإن شاء باع أو منع أو رعى، وإنما الذي لا يحل [له] بيعه ولا منعه إن لم يحتج إلى رعايته خصب العفاء من منزله).

كتاب الوقف

كتاب الوقف وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه ومصححاته، وهي أربعة: الركن الأول الموقوف: ولا شك في صحة وقف العقار: الأراضي وما يتعلق بها كالديار والحوانيت والحوائط والمساجد والمصانع والآبار والقناطر والطرق ونحو ذلك. ويصح منها في الشائع و (المفروز). (فأما وقف المنقول كالحيوان والعروض، فمهب الكتاب صحته أيضًا. وحكى القاضيان أبو الحسن وأبو محمد في ذلك رواتين. ثم قال القاضي أبو محمد: "ومن أصحابنا من يقول: إن حبس الخيل جائز وإنما الخلاف في تحبيس غيرها". وقال ابن القاسم في كتاب محمد: استثقل مالك حبس الحيوان، وقال في رجل حبس غلامًا على رجل وعقبه: أكرهه لأنه ضيق على العبد

قال أبو الحسن اللخمي: "يريد لما كان يرجى له من العتق. وظاهر هذا أنه يكره في العبيد والإماء، دون غيرهم". التفريع: إن قلنا بجواز حبس الحيوان وقع لازماً. وإن قلنا بالكراهة ففي الجواز واللزوم روايتان حكاهما القاضي أبو الوليد. ويجوز وقف الأشجار لثمارها، والحيوان لمنافعها: ألبانها وأصوافها واستعمالها، والأراضي لمنافعها. ولا يجوز وقف الدار المستأجرة، ولا يجوز وقف الطعام، فإن منفعته في استهلاكه. الركن الثاني: الموقوف عليه. ولا يشترط في صحة الوقف عليه قبوله إلا إذا كان معينًا، وكان مع ذلك أهلاً للرد والقبول. ثم اختلف هل قبوله شرط في اختصاصه به خاصة أو في أصل الوقفية، فقال في كتاب محمد فيمن قال: أعطوا فرسي رجلاً سماه، فلم يقبله، قال مالك: إن كان حبسًا أعطي لغيره. وقال مطرف، في كتاب ابن حبيب، فيمن حبس حجرًا، فلم يقبلها المحبس علهي لأجل نفقتها: ترجع ميراثاً. ويصح الوقف على الجنين، بل على من سيولد لزيد، وإن لم يكن حملاً حالة الوقف. ولا يشترط كون الموقوف عليه مسلمًا، بل يجوز الوقف على الذمي. قال القاضي أبو الوليد: "والأظهر عندي أنه لا يجوز الوقف على الكنيسة، لا، هـ صرف (صدقته) إلى وجه معصية محضة، كما لو صرفها إلى شراء الخمر وإعطائها لأهل الفسق". ولا يجوز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن شرك بينه وبين معين ليس بوارث، بطل نصيب الوارث خاصة فإن شرك معه غير معين مع التعقيب أو المرجع، فماخص من ليس بوارث، فهو حبس عليه، وإن كانوا جماعة، فهو بينهم، وما خص الوارث فهو بين جميع

الورثة على فرائض الله (عز وجل)، إلا إنه موقوف بأيديهم ما دام المحبس عليه من الورثة حيًا، فإذا انقرض خلص الجميع حبسًا لمن معهم في الحبس من غير الورثة. فرع: قال في الكتاب: "0إذا حبس في مرض هداراً على ولده وولد ولده، والثلث يحملها، ثم مات وترك أمًا وزوجة وولده، فإنها تقسم على عدد الولد ولد الولد، فما صار لولد الولد نفذ لهم بالحبس، وما صار للأعيان كان بينهم وبين الأم والزوجة على الفرائض موقوفًا بأيديهم حتى ينقرض ولد الأعيان، فتخلص الدار كلها لولد الولد حبسًا". ولو ماتت الأم أو الزوجة كان ما بيدها لورثتها موقوفًا. وكذلك يورث نفع ذلك عن وارثها أبداً، ما بقى أحد من ولد الأعيان. قال: وإذا مات أحد ولد الأعيان قسم نصيبه بالتحبيس على باقي ولد الأعيان، وولد الولد على عدتهم، فما أصاب ولد الأعيان دخلت فيه أم الميت الأول وزوجته بحق الميراث عنه، وكذلك ورثة ورثتهما بمثابتهما. وما بقي من نصيب ولد الأعيان من ذلك قسم بين من بقي من ولد الأعيان وبين الميت منهم، ف ماوقع للميت، فهو الذي يجب لورثته عنه يكون لهم بالميراث موقوفاً بأيديهم حتى ينقرض ولد الأعيان، فإن انقرض (ولد الأعيان وولد) الولد، رجعت إلى أقرب الناس بالمحبس. وقال سحنون في مسألة ولد الأعيان هذه: إذا مات أحد ولد الأعيان انتقض القسم. وقاله محمد في موت أحد ولد الولد، أو في ولد يحدث للوالد: ينتقض القسم. وكذلك إن شرط أن من تزوجت فلا حق لها، وأنها إن رجعت عادت فيه، فينتقض لرجوعها أو لتزويجها القسم. قال الشيخ أبو محمد: "ومن الزيادة في تقسيم هذه المسألة مستخرج أكثره من الأمهات: أنه إذا مات أحد من ولد الأعيان وهم ثلاثة وولد الولد أربعة، أخذ السبع من أصل الحبس من يده، ومن يد الأم والزوجة ما بأيديهم من ذلك السبع، فيقسم ذلك على من بقي من ولد الأعيان وولد الولد، فما ناب ولد الأعيان دخلت فيه الأم والزوجة، ويحيي الميت بالذكر، فيجعل له نصيبه من ذلك، ومما بأيدي الولدين الباقيين يجمع فيقسم ذلك على ثلاثة، سهمان للحيين وسهم للميت، فيكون سهمه لورثته من كانوا، وينال منه ولده ميراثه".

ثم إن مات ولده هذا كان ما بيده من أصل الحبس عن جده، وما أخذ من أبيه بمعنى التحبيس مقسوم على من ذكر من قسمة نصيب ولد الولد. وأما السهم الذي في يده عن أبيه بمعنى الميراث، فهو لورثته ميراثًا ما بقي أحد من ولد الأعيان. ولو مات أولاً واحد من ولد الولد، أخذ ما بيده فقط، فقسم على ستة، ولا يؤخذ ههنا من الأم والزوجة شيء، لأن السبع كاملاً بيد ولد الولد الذي مات، فما ناب ولد الأعيان ههنا دخلت فيه الأم والزوجة. وكذلك في انقراضهم عند ابن القاسم. وقال سحنون: إذا انقرضوا لم تدخل الأم والزوجة فيما كان بأيديهم، وذلك أنه رجع إلى ولد الأعيان بأنهم أولى الناس بالمحبس من حبس أنفذ بأمر جائز. قال أبو إسحاق التونسي: والذي قال ابن القاسم صواب، لأن مرجع الأحباس لا يصح أن يرجع مع وجود المحبس عليهم، فإن انقرض ولد الأعيان وولد الولد، رجع المحبس إلى أقرب الناس بالمحبس. ولا يصح وقف الإنسان على نفسه. وقال الشيخ أبو إسحاق: إن حبس على نفسه وغيره صح ودخل معهم. وإن أفرد نفسه بالوقف بطل. [وإذا] كان [الوقف] على جهة عامة، فإن كانت فيه قربة الوقف على الفقراء والعلماء والمساكين، فهو صحيح. وإن كان معصية، كالوقف على عمارة البيع، ونفقة قطاع الطريق، فباطل. وإن لم يشتمل على معصية، ولاظهرت فيه قربة، فهو صحيح أيضًا. وكره مالك، في رواية علي بن زياد، إخراج البنات من الحبس إذا تزوجن. وروى عنه ابن القاسم في كتاب محمد والعتبية: "ذلك من عمل الجاهلية". فرع: فإن وقع ذلك، ففي رواية ابن القاسم: "الشأن أن يبطل".وقال الشيخ أبو

إسحاق: من أخرجهن عنه بطل وقفه، وكذلك من شرط أن من تزوجت منهن بطل حقها، إلا أن يردها راد ينقض ذلك حتى يرد إلى الفرائض. وقال ابن القاسم: "أرى إن فات (ذلك) أن يمضي على ما شرط، وإن كان حيًا لم يجز عنه أن يرده ويدخل فيه البنات". وروى عيسى عن ابن القاسم: "أكره ذلك، فإن كان المحبس حيًا فليفسخه ويجعله مسجلاً. وإن مات لم يفسخ. وأنكر هذه الرواية سحنون) وفي مختصر الوقار: وجائز أن يحبس على الذكور دون الإناث، وعلى الإناث دون الذكور، وأن يساوي فيه بين الإناث والذكور. وجائز أن يقطع البنات بعد التزويج. وما شرط فيه من شرط مضى على شروطه. قال القاضي أبو الوليد: "والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف فيمن وهب لبعض بنيه دون بعض". الركن الثالث: الصيغة. أو ما يقوم مقامها في الدلالة على الوقفية، إذ ليست بمتعينة، بل يقوم مقامها ما يدل في العرف على معناها، كالإذن المطلق في الانتفاع على الإطلاق، كما لو أذن في الصلاة في المكان الذي بناه للصلاة إذنًا مطلقًا لا يتخصص بشخص ولا زمان لكان كاللفظ في الدلالة على الوقفية. فأما الألفاظ التي يطلقها الواقف فضربان: أحدهما: ألفاظ مجردة، وهي قوله: وقفت وحبست، وتصدقت. والآخر: ألفاظ يقترن بها ما يقتضي التأبيد. وهي أن يقول: محرم لا يباع ولا يوهب، أو أن يكون على مجهولين أو موصوفين كالعلماء والفقراء، فيجري مجرى المحرم باللفظ. ولفظ الوقف يفيد بمجرده التحريم. وأما الحبس أو الصدقة بمعناه، ففيهما روايتان. وكذلك في ضم أحدهما إلى الآخر خلاف أيضًا. إلا أن يريد بالصدقة هبة رقبة العين، فتخرج عن هذا.

التفريع: حيث قلنا: لا يتأبد، فإنه يرجع بعد انقراض الوجه الذي جعل فيه ملكًا لمالكه المحبس له، ثم ينتقل لورثته كسائر أملاكه. وقيل: لا يرجع إليه إذا سماه باسم الحبس. وحيث قلنا: يتأبد، فإذا انقرض الوجه الذي عين له رجع حبسًا على أقرب الناس إليهم من الفقراء. فرعان: الفرع الأول: قال عيسى عن ابن القاسم: "كل ما يرجع ميراثًا يراعى فيه من يرث المحبس يوم مات. وأما ما يرجع حبسًا فلأولاهم به يوم يرجع". الفرع الثاني: إن القرابة الذين يرجع إليهم هم عصبة المحبس، رواه ابن القاسم في العتبية. وروى عن ابن القاسم يرجع إلى أقرب الناس من ولد وعصبة. وقاله مالك في كتاب محمد. واختلف بعد القول برجوعه إلى العصبة، هل للنساء فيه مدخل، أم لا؟ فروى في كتاب محمد دخولهن فيه. وروى عيسى عن ابن القاسم في العتبية: "يرجع إلى عصبة المحبس. قيل له: إنها ابنة واحدة، قال: ليس النساء عصبة، إنما يرجع إلى الرجال". وقال أصبغ: هي كالعصبة، لأنها لو كانت رجلاً، لكانت عصبة، ورأى ذلك كله لها. وفي كتاب محمد عن مالك: كل امرأة لو كانت رجلاً كان عصبة للمحبس فهي ممن يرجع إليها الحبس. فرع مرتب: إذا قلنا بدخول النساء، فكان أهل المرجع بنات وعصبة، فهو بينهم إن كان فيه سعة، وإلا فالبنات أولى من العصبة، ويدخل مع البنات الأم والجدة للأب دون الزوجة والجدة للأم. قاله ابن حبيب عن ابن القاسم. فإن انقرض جميع أصحاب المرجع صار حبسًا على الفقراء والمساكين. الركن الرابع: في شرط الوقف: وشرطه: خروجه عن يد الواقف؛ وتركه الانتفاع به قبل فلسه وموته ومرض الموت. فإن حبس في صحته، ثم أبقاه في يده مدة حياته أو إلى أن أفلس، أو إلى مرض موته،

بطل الوقف، وعاد الموقوف ميراثاً إذا لم تكن منفعته تصرف في مصرفه، فإن كان يصرفها فيه، في صحته ففي بطلانه وصحته ثلاث روايات، بفرق في الثالث وهو مذهب الكتاب بين أن يكون إنما يخرج الغلة، مثل أن يكون حائطًا أو أرضًا أو ما يشبهها مما يستغل، وكان يقبض الغلة ويصرفها فيالوجه الذي حبس عليه، فيكون الحبس باطلاً، وبين أن يكون إنما يخرج الأصل المحبس في نفسه مثل أن يكون فرسًا أو سلاحًا أو ما أشبههما، فيكون الحبس صحيحًا. ويستثنى عن هذا الشرط حكم ما وقفه الواقف على من يلي عليه ممن لا يلي بنفسه، إذ قبضه له كقبضة لنفسه وحيازته إذا أشهد على ذلك، وكان يصرف الغلة في منافعه لا في منافع نفسه. ثم يشترط في الشهادة بالحوز أن تكون على معاينته، ولا تكفي الشهادة على الإقرار بالحوز. ولا يحتاج الوقف إلى شرط اللزوم، بل لا يقع إلا لازمًا، فلو قال: على أني بالخيار في الرجوع عنه وإبطال شرطه؛ لزم الوقف، وبطل الشرط. ولا يشترط فيه التأبيد، بل لو قال: على أن من احتاج منهم باع، أو أن العين المحبسة تصير لأحدهم ملكًا؛ صح واتبع الشرط. وكذلك لو حبس على معين حياته، أو أطلق ولم يقل حياته، صح. ولا يشترط أيضًا التخيير، بل لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفت، صح إن بيت العين المشار إليها بالوقف إلى رأس الشهر. وكذلك لو قال: وقفت على من سيولد من أولادي، صح وانتظروا. ولو قال: على أولادي، ولا أولاد له يومئذ، فله البيع ما لم يولد له. وقال ابن القاسم: ليس له أن يبيع حتى يأس له من الولد. (وقال ابن الماجشون: هو حبس يخرج من يده إلى يد ثقة، و (ثمرته) بعد ذلك حبس، فإن مات قبل أن يولد له رجع المحبس وغلته إلى أولى الناس بالمحبس يوم حبسها. قال القاضي أبو الوليد: "ووجه ذلك أنه لما كان عقد الحبس لازمًا، وقد يتعلق بمن لا يجوز له، لزم إخراجه من يده ليصح الحوز فيه. فإن حدث له بعد ذلك ولد رد إليه، لأنه يصبح حوزه له. قال غير ابن الماجشون: ولا يضر ذلك من مرجعه إليه لأن الحوز فيه قد تم". ولا

الباب الثاني: في حكم الوقف الصحيح

يشترط في الوقف إعلام المصرف، بل لو قال: وقفت، ولم يعين له مصرفاً، صرف إلى الفقراء، قاله مالك في الكتاب. وقال القاضي أبو محمد: "يصرف في وجوه الخير والبر". ومهما شرط الواقف في تخصيص الوقف أو إجارته أو مصارفه اتبع شرطه، فلو شرط تخصيص المدرسة أو الرابط أو المقبرة بأصحاب مذهب مخصوص، أو بأقوام مخصوصين لزم واتبع. ولو اشترط ألا يؤاجر الوقف، صح واتبع الشرط. ولو قال: على ألا يؤاجر إلا سنة سنة، أو شهراً شهراً، أو يومًا يومًا أو ما زاد على ذلك أو نقص، صح واتبع شرطه ولو قال: حبست على زيد وعمرو، ثم على المساكين بعدهما، فمات أحدهما، فإن كان ذلك الشيء الموقوف مما ينقسم ويتجزأ كغلة دار أو غلة عبد أو ثمرة، في حصته بعد موته للمساكين، وإن كان مما لا ينقسم كالعبد يختدم والدابة تركب، ففيها روايتان: إحداهما: أنه كالذي ينقسم، ترجع حصة الميت إلى الوجه الذي بعده. والأخرى: أنها ترجع على الحي منهما، فإذا انقرضا صارت إلى الوجه الذي بعدهما. الباب الثاني: في حكم الوقف الصحيح، وفيه فصلان: الفصل الأول: في أمور لفظية وهي تشتمل على مقتضى ألفاظ الواقف التي يعبر بها عن الموقوف عليهم، كالولد والعقب وغيرهما. ولنفرد كل لفظ منها ونبين حكمه. فأما لفظ الولد ففيه خمس مسائل: المسألة الأولى: إذا قال: وقفت على ولدي أو أولادي، فهو يتناول ولد الصلب وولد الذكور منهم دون ولد الإناث، ويؤثر البطن الأعلى. وقال المغيرة: بل يسوي بين الجميع. المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على ولدي وولد ولدي، أو على أولادي وولد أولادي. فروي في المجموعة أنه لا يدخل ولد البنات في ذلك لأنهم من قوم آخرين. قال القاضي أبو الوليد: "قال أبو عبد الله بن العطار: هذا قول مالك. وكانت الفتوى عندنا، يريد بقرطبة، أن ولد البنات يدخلون في ذلك، وقضى به محمد بن إسحاق بن السليم بفتيًا أكثر من كان في زمانه. المسألة الثالثة: إذا قال: وقفت على ولدي وأولادهم، أو على أولادي وأولادهم، فالخلاف في دخولهم أيضًا. وأولى بدخولم ههنا.

المسألة الرابعة: لو قال: وقفت على أولادهم ذكورهم وإناثهم، ولم يسمهم، ثم قال: وعلى أعقابهم، فالمنصوص دخولهم. المسألة الخامسة: أن يقول وقفت على أولادي، ويسميهم بأسمائهم ذكورهم وإناثهم، ثم يقول: وعلى أولادهم، فولد البنات يدخلون فيه باتفاق المتقدمين والمتأخرين من أهل المذهب. قاله الشيخ أبو الوليد، ثم قال: "إلا ما روي عن ابن زرب وهو خطأ صراح، لا وجه له". وأما لفظ العقب، فروي ابن القاسم: "أن قوله: على ولدي وولد ولدي، كقوله: على ولدي وأعقابهم سواء. والعقب: الولد من ذكر وأنثى، وولد ذكور الولد عقب آبائهم، وليس ولد البنات عقبًا، ذكرًا كان أو أنثى". وقاله عبد الملك: إن البنات دنيا، وبنات البنين من العقب. وقوله: على ولدي وعلت عقبي سواء. وكذلك ذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون ومطرف. وقال ابن الماجشون: ويجمع ذلك أن كل ذكر أو أنثى حالت دونه أنثى فليس بعقب. (وأما لفظ البنين، فإنه يتناول عند مالك الولد وولد الولد الذكور ذكورهم وإناثهم. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه، فإن بناته وبنات بنيه يدخلن في ذلك. وروى عيسى عن ابن القاسم: "فيمن حبس على بناته فإن بنات بنيه يدخلن بنات صلبه". قال القاضي أبو الوليد: "والذي عليه جماعة أصحابه، أن ولد البنت لا يدخلون في البنين". وأما لفظ النسل، فقال أبو عبد الله بن العطار: إنه كقوله: ولد ولده، على ما تقدم ذكره من خروج ولد البنات من ذلك في قول مالك، ودخولهم على ظاهر لفظ المحبس. وأما لفظ الذرية، فقال أبو عبد الله أيضًا: لا خلاف في دخول ولد البنات في ذلك لقول الله تعالى: (وَمِن ذُرِيَّتِهِ دَوُدَ وَسُلَيمَنَ وَأَيُوبَ وَيُوسُفَ) إلى قوله: "وَعِيسِى"

فجعل عيسى من ذرية إبراهيم، وإنما هو ولد بنت. وأما لفظ آل، فقال ابن القاسم: "آله وأهله سواء وهم العصبة والأخوات والبنات والعمات. ولا يدخل في ذلك الخالات". قال القاضي أبو الوليد: "ومعنى ذلك عندي العصبة ومن كان في قعددهم من النساء. قال: "هذا (هو) المشهور من المذهب. ("وقال الشيخ أبو إسحاق: يدخل في الأهل من كان من جهة أحد الأبوين بعدواً أو قربوا". وأما لفظ القرابة، ففي الموازنة والمجموعة عن مالك: فيمن أوصى بمال لأقاربه أنه يقسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد. وقال في العتبية: "ولا يدخل في ذلك ولد البنات وولد الخالات". وروى ابن عبدوس عن ابن كنانة: يدخل الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وروى علي بن زياد عن مالك: يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه. وقال أشهب في المجموعة: إن كل ذي رحم منه من قبل الرجال والنساء محرم أو غير محرم، فهو ذو قرابة. وأما لفظ الموالي، "فيشمل الذكور والإناث، واختلف فيمن يدخل معهم في الحبس، فروي أنه يدخل معهم موالي أبيه وموالي أمه وموالي الموالي. قال عنه ابن وهب: وأبناء الموالي يدخلون مع آبائهم. وفي العتبية من رواية ابن القاسم "فيما إذا كان لهم أولاد وله موالي لبعض أقاربه، رجع إليه ولاؤهم، فلا يكون الحبس إلا لمواليه الذين أعتق، وأولادهم يدخلون مع آبائهم ي الحبس، إلا أن تخصهم تسمية. وقال مالك بعد ذلك: إن موالي الأب والإبن يدخلون مع مواليه، ويبدأ بالأقرب فالأقرب

من ذوي الحاجة، إلا أن يكون الأباعد أحوج. وفي المختصر الكبير: أبناؤهم مع آبائهم. "وقد اختلف في موالي الأب والابن، فقيل: يدخلون معهم، وقيل: لا يدخلون معهم. ويدخلون معهم أعجب إلي". فرع: (إذا قلنا بدخول موالي أبيه وبنيه، ففي المجموعة فيمن حبس على مواليه فإنه يدخل فيه موالي ولد الولد والأجداد والأم والجدة والإخوة، ولا يدخل فيه موالي بني الإخوة، والعمومة، ولو أدخلت هؤلاء لأدخلت موالي القبيلة). فرع مرتب: إذا قلنا بدخول موالي هؤلاء، ففي المجموعة أيضًا أنه يبدأ بالأقرب فيؤثر على الأبعد إذا استووا في الحاجة، فإن كان الأقرب غنيًا أوثر المحتاج الأبعد عليه. وقاله مالك في العتبية في موالي الأب والابن. (وأما لفظ القوم، فقال الشيخ أبو إسحاق: لو حبس على قومه أو على قوم فلان، فذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء، واحتج بقوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم). ثم قال تعالى: (ولا نساء من نساء) ففرق بين القوم والنساء، ويقول زهير: وما أدري سوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء ومن وقف على إخوته دخل في ذلك الذكور والإناث من أي جهة كانوا، كقوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس).ولو قال: على رجال إخوتي ونسائهم، دخل في الأطفال من الذكور والإناث كقوله تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء). قال: ولو حبس على عصبته، لم يدخل فيه أحد من جهة الأم خاصة وإن قربوا، ودخل [

الفصل الثاني: في الأحكام المعنوية

نسب الأب من الذكور وإن بعدوا. ولو قال: على أعمامي، لم يدخل أولادهم معهم. ولو قال: على ولد ظهري، لم يدخل فيه ولد ولده ذكورهم ولا إناثهم. قال: ولو قال: على بني أبي، دخل فيه إخوته لأبيه أمه وإخوته لأبيه ومن كان ذكرًا من أولادهم خاصة مع ذكور ولده. وهذا يشعر بأنه لا يراد دخول الإناث تحت قوله: بني، وهو خلاف ما تقدم في الرواية في لفظ البنين. قال: ولو قال: على أطفال أهلي، تناول من لم يبلغ الحلم ولا المحيض. وكذلك لو قال: على صبيانهم أو صغارهم. ولو قال: على شبانه/ أو على أحداثهم، كان ذلك لمن بلغ منهم إلا أن يكمل أربعين عامًا، ولو قال: على كهولهم، كان لمن جاوز الأربعين من ذكورهم إناثهم، إلى أن يكمل الستين ولو قال: على شيوخهم، كان على من جاوز الستين من الذكور والإناث. (قال): ولو قال: لأراملهم، لكان للرجل الأرمل كالمرأة الأرملة، واستشهد بقول الخطيئة. هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر الفصل الثاني: في الأحكام المعنوية، وفيه مسائل: المسألة الأولى: إن حكم الوقف اللزوم في الحال إذا أنجزه، ولم يضفه إلى ما يستقبل من موته أو غير ذلك. ولا تقف صحته ولا نفوذه على حكم حاكم به. وتأثير إبطال تخصيص المالك بالمنفعة، ونقلها إلى الموقوف عليه، وسلب أهلية التصرف في الرقبة بالإتلاف والنقل إلى الغير. وأما ملك العين المحبسة فهو باق للمحبس، أعني رقبة الموقوف. ثم هي خارجة من رأس المال إن كان التحبيس في الصحة منجزًا، فإن كان فيها بوصية، أو كان في المرض، فهي من الثلث. المسألة الثانية: إن الموقوف عليه يملك الغلة والثمرة واللبن والصوف والوبر من الحيوان. "وروى ابن القاسم في بقرات محبسه تقسم ألبانها في المساكين فتوالدت، قال: وما

ولدت من الإناث فهو كسبيلها، وما ولدت من الذكور فلضرابها، إلا أن تكثر فيباع من الذكور ما فضل عن نزوها، ويشتري بالثمن إناث تكون مقامها، وما كبرت من الإناث حتى انقطع منها اللبن، فتباع كالذكور، ويرد ذلك في إناث تكون معها وفي علوفتها". وروى ابن حبيب عن ابن الماجشون في البعير أو الفرس أو التيس يحبسه للضراب، فينقطع ذلك منه لكبر، فلا أرى أن يباع ذلك، إلا أن يكون شرط ذلك في أصل الحبس. ونحوه عن ابن الماجشون في المجموعة، قال عنه فيها: وإن شرط إن هرم أو فسد بيع واشترى غيره، فذلك جائز، ولا أحبسه يجوز إن لم يشترط. المسألة الرابعة: إن نفقة الموقوف من غلته، إن كانت له غلة، كالدور والحوانيت والفنادق والبساتين والإبل والغنم والعبيد المقصود منهم الغلة. وإن كانت الدار للسكنى، فإما أصلح الساكن، وإما خرج فأكربت بما تصلح به. وأما ما وقف لا لغلة، كالفرس يجاهد عليه، والعبد لصنعة تراد منه، فالنفقة عليهما من بيت المال، فإن لم يكن بيع ذلك، واشترى بالثمن ما لا يحتاج إلى نفقة، كالسلاح والدروع ونحوها. وقال ابن الماجشون: لا يجوز بيع ذلك. وكالمساجد والقناطر، فالنفقة عليها من بيت المال، فإن لم يكن، ولم يوجد من يحتسب لله، بقي ذلك حتى يهلك، ولم يلزم الواقف

ولو شرط الواقف (للدار) أن إصلاح مارث على الموقوف عليه، لم يجز ذلك ابتداء. ولكن إن وقع ذلك مضى الوقف، وبطل الشرط، (والمرمة) من الغلة. وقال محمد: يرد الوقف ما لم يقبض. المسألة الخامسة: إذا علم شرط الواقف في المصرف لم يتعد، كان مقتضاة المساواة أو التفضيل، فإن تعذر العثور عليه قسم على الأرباب بالسوية، فإن لم يعرف الأرباب كان كوقف لم يعين له مصرف. المسألة السادسة: إذا أجر المتولي الوقف على وفق الغبطة في الحال، ثم ظهر طالب بزيادة لم يفسخ. المسألة السابعة: لا يجوز نقض بنيان الحبس لتبني فيه الحوانيت للغلة، وهو ذريعة إلى تغيير الحبس. ومن هدم حبسًا من أهل الحبس أو من غيرهم، فعليه أن يرد البنيان كما كان ولا تؤخذ منه القيمة. وأما إن قتل حيوانًا وقفاً، كالعبد والدابة، أخذت منه قيمة، فاشترى بها مثله، وجعل وقفًا مكانه، وإن لم يوجد مثله فشقص من مثله، وقيل: إذا لم تبلغ ثمن عبد قسمت كالغلة. وإذا انكسر الجذع لم يجز بيعه، بل يستعمل في الوقف. وكذلك النقض. (قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يباع نقض الوقف. قال: ومن أصحابنا وغيرهم من يرى بيعه، ولست أقول به). ولا يناقل بالوقف وإن خرب ما حواليه، وقد تعود العمارة بعد الخراب. قال محمد بن عبدوس: ولا خلاف في المساجد أنها لا تباع. قال: وبقاء أحباس السلف داثرة دليل على منع بيعها وميراثها، وكذلك حبس العقار عندنا، الدور وغيرها، لا سبيل إلى بيع شيء من ذلك وإن دثر وانتقلت العمارة عن مكانه، اللهم إلا أن يكون مسجد تحيط به دور محبسة، فاجتاح إلى سعة، فقد قالوا: لا بأس أن يشتري منها ليوسع بها فيه. (والطريق أيضًا كالمسجد في ذلك، لأنه نفع عام أعم من نفع الدار المحبسة. قال ابن حبيب عن مالك. قال ابن الماجشون: وذلك في مثل جوامع الأمصار دون مساجد القبائل.

وقاله مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ). وكذلك ما سوى العقار من الأعيان المحبسة مثل الحيوان والعروض على إحدى الرواتين، وبها قال ابن الماجشون، وإن ذهبت منفعتها. وروى ابن القاسم: "أن ما سوى العقار إذا ذهبت منفعته التي وقف لها كالفرس يكلب أو يهرم، بحيث لا ينتفع به فيما وقف له، أو الثوب يخلق بحيث لا ينتفع به في الوجه الذي وقف له وشبه ذلك أنه يجوز بيعه ويصرف ثمنه في مثله، ويجعل مكانه، فإن لم يصل ثمنه إلى كامل من جنسه جعل في شقص مثله". فروع: الفرع الأول: قال عبد الملك: ويجوز كراء ولي الصدقة بما يرى من النظر والحظ السنة والسنتين، وما يجوز مثله للوكيل، وأما أن يحابي بطول فلا يجوز لأنه إنما يليها ما دام حيًا. قال: ولا يجوز أن يكريها بنقد، لأنه قد يضع في ذلك وهو لا يقسم الكراء عليهم قبل كمال [سكني المكتري]، لأنه إنما يقسم على من يحضر يوم القسم فمن ولد قبل القسم ثبت حقه، ومن مات قبله سقط، وإذا قسمه قبل أن يجب بالسكنى فقد يموت من أخذ منه قبل أن يجب له، ويحرم من جاء قبل الوجوب ممن يولد بعد القسم. قال: وأما أن يكري من مرجع الرقبة لآخر بعده، فيجوز له أن [يعقد الكراء] مثل الأربع سنين والخمس. قال: وقد أكرى مالك رحمه الله منزله عشر سنين، وهو صدقة على هذا الحال. واستكثر المغيرة وغيره عشر سنين. الفرع الثاني: إذا بنى بعض أهل الحبس فيه، أو أدخل خشبة، أو أصلح ثم مات وقد أوصى به، أو قال: هو لورثتي، فذلك لهم، فإن لم يذكره فلا شيء لهم. قال ابن القاسم في المجموعة: قل البناء أو كثر، إلا أن يقول لورثته خذوه، فذلك لهم. قال محمد: وأخبرني ابن عبد الحكم عن ابن القاسم بخلافه، أنه قال: ذلك لورثته. ولم ير ما قال مالك. وقال: ما كان لأبيهم حيًا، فهو لورثته ميتًا. قال محمد: والأول من قول ابن القاسم أعجب إلي أن ذلك لورثته ما لم تكن مرمة. وقال المغيرة: أما الشيء اليسير من ستر

وميازيب، وما لا يعظم قدره، فهو للحبس. وأما المقترح كله، فهو له يورث عنه، ويقضي به دينه. وبه قال عبد الملك. قال أبو إسحاق التونسي: وهو الصواب، قال: ولعل ابن القاسم تكلم على عادة جرت عندهم. الفرع الثالث: إذا أراد أحد أن يزيد في حبس غيره أو ينقص، منعه من ذلك الواقف أو وارثه، أو الإمام إن لم يمنع الواقف ولا وارثه. ولو أطلقوا ذلك له في النقص ما جاز إطلاقهم، ومنعه الإمام. ولو خرب (فأراد) غير الواقف إعادته فمنعه الواقف، أو وارثه، كان ذلك له. الفرع الرابع: في قسم الحبس بين أهله في في الغلة والسكنى. "قال مالك في المجموعة فيمن حبس على قوم وأعقابهم، فإن ذلك كالصدقة، يوصي أن تفرق على المساكين، فلمن يليها أن يفضل أهل الحاجة والمسكنة والمؤونة والعيال والزمانة. وكذلك غلة الحبس يفضل أهل العيال بقدرهم، والكبير الفقير على الصغير لعظم مؤونة الكبيرة، والمأة الضعيفة تفضل بقدر ما يراه من وليها، ولا يعطي منها الغني شيء ا، ويعطي المسدد بقدر حاله، وإن كان للأغنياء أولاد كبار فقراء وقد بلغوا، أعطوا بقدر حاجتهم. ومن أوصى بداره أو بثمرة حائطه حبسًا على ولد رجل أو ولد ولده، أو على بني فلان، بدئ بأهل الحاجة منهم في الغلة والسكنى. قال ابن القاسم: وأما الوصايا بمال ناجز يفرق عليهم، فإنما يفرق بينهم بالسوية. قال سحنون: وقال غيره: ليس وصيته لولد رجل أو أخواله بمال ناجز يقتسمونه بمنزلة وصيته لهم بغلة نخل تقسم بينهم محبسة موقوفة، لأن القصد في الحبس مجهول من يأتي. وإذا أوصى لبني تميم، أو من لا يحاط بهم، فهذا وإن كان وصية ناجزة، فقد علم أنه لم يرد معينين، وإنما هو لمن حضر القسمة وعلى الاجتهاد. قال غيره في الأحباس على الموالي يريد أو الولد. أما إن استووا في الفقر والغنى، فليؤثر الأقرب، ويعطي الفضل لمن يليه. (وإن كان الأقعد غنيًا، أوثر الأبعد المحتاج، فيقسم على الاجتهاد في الغلة والسكنى. وأما ما حبس على قوم بأعيانهم من دار أو من زرع أو من نخل، فذلك فيما بينهم بالسواء، الذكر والأنثى والغني والفقير بالسوية)

(وقال ابن القاسم في كتاب محمد: قال مالك ومن حبس على الفقراء أو في سبيل الله وابن السبيل وذوي القربى وفي قرابته غنى، فلا يعطي منه، ولكن ذووا الحاجة. قال ابن حبيب: وقول مالك وأصحابه: إن الذكر والأنثى في الحبس سواء إلا أن يقع شرط. قال عبد الملك في كتاب محمد: لا يفضل ذوو الحاجة على الغني في الحبس إلا بشرط من الذي حبسه، لأنه تصدق على ولده، وهو يعلم أن منهم الغني والمحتاج. وفي العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم، وذكر مثله ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم في قسم الحبس بين أهله في الغلة والسكنى: "ليس على كثرة العدد والمبادرة والمقدم فيه أهل الحاجة منهم، وليس على عددهم، لكن بقدر كثرة عيال أحدهم إن كان سكني، أو عظم مؤنه وخفتها. وإذا كانت غلة فبقدر حاجتهم وأعظمهم فيها حظًا أشدهم فاقة، فما فضل بعد حاجتهم رد على الأغنياء، يسكن كل واحد على قدر ماله وكثرة حاجته، ليس الأعزب كالمتأهل المعيل. والحاضر أولى بالسكنى من الغائب. والغلة بين الحاضر والغائب سواء. والمحتاج الغائب أولى فيها من الغنى الحاضر؛ وذلك على الاجتهاد". ولا يخرج أحد من مسكنه ولو كان غنيًا لغيره، وإن كان الغير محتاجًا، ولم يكن في الدار سعة. ومن خرج من مسكنه، لسفر، فإن كان لتجارة أو لحاجة ثم يرجع، فهو كالحاضر، وإن كان ليستوطن غير البلد، وينقطع عن البلد الأول، وكان الحبس سكني ولم يكن غلة، فالميم أولى منه. ثم إن قدم لم يخرج له غيره وإن كان القادم أحوج منه، أو كان الذي أقام غنيًا. وروى ابن القاسم: "أن من حبس على ولده أو غيرهم حائطًا وسمى لبعضهم ما يعطى كل عام من الكيل، ولم يسم للآخرين، فيبدأ بالذين سمى لهم، إلا أن يعمل في ذلك عامل، فيكون أولى بحقه. (قال) ابن القاسم: وكذلك في غلة الدور".

كتاب الهبة

كتاب الهبة وفيه بابان: الباب الأول: في أركان الهبة وشرطها أما الأركان فثلاثة: الركن الأول: السبب الناقل للملك، وهو صيغة الإيجاب والقبول الدالة على التمليك بغير عوض، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على ذلك من قول أو فعل. ويتصل بالصيغة حكم العمرى والرقى. أما العمري: فصورتها أن يقول: أعمرتك داري أو ضيعتي، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته. وحكمها: الجواز والصحة والنفوذ. (فإذا) مات رجعت الرقبة إلى المالك الذي هو المعمر، وإن قال: أعمرتك وعقبك، فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقي منهم إنسان، فإذا لم يبق منهم أحد رجعت الرقبة إلى المالك الذي هو المعمر، لأنه وهب له المنفعة. ولم يهب الرقبة. وكذلك لو قال: أسكنتك هذه الدار عمرك، أو وهبتك سكناها عمرك. أو قال: هي لك سكنى، أو لك ولعقبك سكنى. فإذا مات المعمر أو انقرض العقب المعمر بعد وفاة المعمر (الواهب)، رجعت الرقبة إلى وارث المعمر يوم مات.

وأما الرقبى: فصورتها أن يقول إنسان لآخر: إن مت قبلك فداري لك، وإن مت قبلي فدارك لي، وحكمها عدم الجواز، لان كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له أو [يحصل] عليه، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه. وليس كذلك العمرى، لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذي أخرج عن يده. قال القاضي أبو الحسن: "وأما لو قال: إن مت قبلك فداري لك، وإن مت قبلي فهي لي، فهذا عند (لا يجوز، لأنها) وصية، إن مات الموصي فهي للموصي له من الثلث، وإن مات الموصي له قبل موت الموصي بطلت الوصية، قال: وهذه صفة الوصايا". الركن الثاني: الموهوب. وهو كل مملوك يقبل النقل، ولا يمتنع بالشيوع وإن قبل القسمة. وتصح هبة المجهول والآبق والكلب، وهبة المرهون تفيد الملك، ويجبر الواهب على افتكاكه له. وقيل: ليس عليه أن يجعل الدين إذا حلف أنه لم يرد التعجيل، ويكون المرتهن بالخيار بين أن يرضى بخروجه من الرهن، ويمضي هبته، أو يبقيه إلى الأجل، فإن حل والواهب موسر قضي الدين وأخذ الموهوب له الرهن. وإن كان مم يجهل أن الهبة لا تتم إلا بعد تعجيل الدين حلف على ذلك، ولم يجبر على التعجيل قولاً واحدًا. وهبة الدين تصح كما يصح رهنه، ثم قبضه كقبضه في الرهن مع إعلام المديان بالهبة. الركن الثالث: الوهب. (وهو) كل من له أهلية التبرع، فلا هبة لمحجور، وتصح هبة المريض من ثلثه، إذ لا حجر عليه فيه. وأما الشرط فهو الحوز، وقد روى ابن وهب: أن أبا بكر وعمر وعثمان وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا: لا تجوز صدقة ولا عطية إلا بحوز قبض، إلا الصغير من ولد المتصدق فإن إباه يحوز له. وإنما الحوز شرط في التمام والاستقرار، لا في الصحة واللزوم إذا ثبتا بوجود السبب. وكذلك يجبر الواهب عليه ويحصل من غير تحويزه، بل لا يعتبر علمه به، فضلاً عن إذنه فيه، ولو علم لم يشترط رضاه، لأنه لو منعه قضي عليه به وكذلك لو قهره عليه لصح له بذلك، نعم يشترط حصول الحوز مقارنًا لصحة جسمه وعقله وقيامه وجهه، كما يأتي تفصيل ذلك وعقود المرافق، مثل العارية والقرض، كالهبة في ذلك.

ثم النظر فيما يحصل به الحوز، وحكم ما يصدر عن الواهب مقارنًا له، أو متقدمًا عليه، أو متأخراً عنه، مما يمنع منه أو لا يمنع. ولنذكر فروع النوعين متوجهة كما ذكرها الأصحاب، ونورد ألفاظهم في ذلك طالت لمسيس الحاجة إلى استيعابها، وذكر ما فيها من الوفاق الخلاف فنقول: إذا مات الواهب قبل الحوز بطلت الهبة بشاهد أو شاهدين حتى يزكيا، فمات الواهب، فقال ابن لقاسم ومطرف وأصبغ: هذا حوز، وقد صحت الهبة. وقال ابن الماجشون: ليس هذا بحوز وقد بطلت. وأما إن مرض فيبطل القبض ولا تبطل الهبة إلا أن يموت من مرضه ذلك، فإن أفاق صحت ولزمت وأجبر الواهب على الإقباض. وأما إن جن فقال ابن القاسم في العتبية: "بطلت الهبة". قال الأصحاب: معناه إذا اتصل بالموت، فأما لو أفاق، فالصدقة صحيحة. وقال أشهب: إن وقع القبض في حال مرض الموت، أو في (حال) ذهاب عقل الواهب، قضي له الآن بثلثها، فإن صح قضي له بباقيها. ولا أرى قول من قال: يحوز كلها من الثلث، ولا يقول من أبطل جميعها. فأما إن استحدث دينًا ففلس، بطلت، والغرماء أحق. ولو بقي في الدار الموهوبة باكتراء أو بإرفاق أو إعمار أو نحوه حتى مات، فليست هذه حيازة وقد بطلت الهبة. قال ابن القاسم: إلا أن تكون الواهبة زوجة الموهوب له، فيتماديان على السكنى، فإن ذلك حيازة. ولو وهب الزوج لزوجته ثم (تماديا) على السكنى، لم تصح هذه الحيازة، لأن اليد في السكنى للزوج. فأما لو وهب أحد الزوجين للآخر خادمًا أو متاعاً من متاع البيت، فروى ابن القاسم فيمن تصدق على امرأته بخادمة وهي معه في البيت تخدمها بحال ما كانت، فذلك جائز.

وقال ابن المواز عن ابن عبد الحكم وابن القاسم وأصبغ: وكذلك متاع البيت. وروى أشهب: إذا أشهد لها بهذه الخادمة فتكون عندها كما هي في خدمتها، فهذا ضعيف، وما هذا بالبين. وكذلك لو وهبته هي خادمها أو متاعًا في البيت، فأقام ذلك على حاله بأيديهما، فهو ضعيف. وإذا حاز المتصدق عليه بالدار، ثم رجع المتصدق إليها بعد أن خرج منها، حازها الموهوب له باكتراء أو بإرفاق، فإن كان بعد مدة قريبة، فحكى الأستاذ أبو بكر اتفاق علماء أهل المدينة على أنها باطلة. وإن كان بعد طول المدة، فروى محمد عن مالك وأصحابه: إن رجع إليها بعد السنة لم تبطل الهبة. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنها تبطل وإن طالت المدة إذا مات فيها. فأما لو خاف الواهب، فاختفى عند الموهوب له في الدار وأضافه وأكرمه فمرض فيها فمات، فالصدقة صحيحة ولو كان ذلك بعد الحيازة بيوم. قاله مطرف وابن الماجشون. وأما إذا باع الواهب الهبة، فقال في الكتاب: "إذا علم الموهوب له فلم يقبضها حتى باعها المتصدق نفذ البيع، والثمن للمتصدق عليه، وإن لم يعلم فالبيع مردود ما دام المتصدق حيًا، فإن مات قبل أن يعلم فلا شيء له، والبيع ماض". قال أبو محمد: اضطرب فهيا قول ابن القاسم، فروى عنه أبو زيد" يرد البيع، ويأخذ الموهوب له صدقته. وكذلك لو وهبها وقال أشهب: بل البيع أولى وتبطل الصدقة. وأما إن وهبها الواهب لرجل آخر قبل القبض، فإن حازها الثاني فروى محمد عن ابن القاسم: الأول أولى، قال: وليس هذا ب شيء، بل الحائز عندي أولى. وهو قول الغير في الكتاب. فإن أعتق الواهب الأمة قبل القبض أو استولدها، فقال ابن القاسم: ينفذ العتق والاستيلاد، ولا شيء للمتصدق عليه. وقال ابن وهب: يرد العتق، وعليه قيمة الأمة المستولدة. وأما لو رهنها الواهب ثم مات، فقال ابن القاسم: يثبت الرهن وتبطل الهبة. ولو باعها الموهوب له فلم يقبضها المشتري حتى مات الواهب، فروى ابن وهب: إن البيع حيازة. وقاله مطرف وابن الماجشون. وقال أصبغ: ليس البيع حيازة ولا غير ذلك، إلا العتق وحده.

ولو وهبها الموهوب له، ثم مات الواهب، (فروى) ابن حبيب عن مالك ومطرف: أن الهبة حوز. وقال ابن القاسم وابن الماجشون: الهبة لا تكون حوزًا، لأنها محتاجة إلى حيازة. ومن حبس داراً فسكن في بيت صغير أو شيء يسير منها، أو دوراً عدة فسكن داراً منها يسيرة فيما بقي، حاز الكل، ما سكنه وما لم يكن، ويبطل ما سكن، ولم يفرق في الموضعين بين القليل والكثير. وقيل: يبطل الجميع. فروع: في هبة ما تحت يد الغير، ومقصودها النظر في أنه هل يقوم استمرار قبضه مقام قبض الموهوب له في حصول الحوز، أم لا؟ الفرع الأول:: إذا وهب ما تحت يد الغاصب، فقال ابن القاسم وأصبغ: لا تكون حيازته حيازة للموهوب له. وقال أشهب: بل هي حيازة. قال محمد: وهو أحسن، لأن الغاصب ضامن، فهو كدين عليه، فإن حوزه بالإشهاد. واختاره سحنون. وأنكره يحيي. فأما إن وهب المودع ما تحت يده، فلم يقل: قبلت، حتى مات الواهب، فقال ابن القاسم: القياس أن تبطل. وقال أشهب: بل هي جائزة، وهي حيازة، لأن كونها بيده أحوز الحوز. قال في كتاب محمد: إلا أن يقول: لا أقبل. قال محمد: وهو أحب إلي. وكذلك من وهبته هبة، فلم يقل: قبلت، وقد قبضها لينظر رأيه، فمات الواهب، فهي ماضية إن رضيها، وله ردها. وروى عيسى عن ابن القاسم "في امرأة تصدقت بمهرها على زوجها، فأعطته كتابها، فقبله، ثم تسخط بعد أيام فرد عليها الكتاب فقبلته بشهادة بينة، فلا شيء لها عليه، بمنزلة عطية منه لم تقبض". قال: "وإن تصدقت عليه بصداقها فقبله، ثم منت عليه، فجدد لها كتابًا يكون عليه حالاً أو إلى موته، فهذا إن لم تقبضه في صحته فهو باطل". وروى عنه، أيضًا، "فيمن سأل زوجته في مرضه أن تضع عنه مهرها، ففعلت، ثم رجعت بعد صحته أو موته: فليس لها ذلك، بخلاف وضع ميراثها. وقاله مالك".

الفرع الثاني: إذا وهبه ما تحت يد المودع، ثم مات الواهب، فهي حيازة إن علم المودع. قال: ولو كتب إلى وكيله: يدفع له مائة، فأعطاه خمسين، ثم مات الواهب، لم يكن له شيء غير ما قبض. ورواه ابن حبيب عن مطرف وأصبغ. والفرق أن الوكيل مأمور بالدفع، فهو فيه نائب عن المعطي، ويده كيده، والمودع ليس بمأمور بذلك وإنما هو مأمور بحفظ الوديعة، فإذا علم أنها صارت له صار حافظًا له، صارت يده كيده. الفرع (الثالث): المخدم والمستعير، وحيازتهما حيازة للموهوب له إذا أشهد. قال أبو إسحاق التونسي: وقد رأى (ابن القاسم) أنهما حائزان للموهوب، ولم يشترط علمهما بذلك كما شرط علم المودع. وقال عبد الملك: إذا تقدمت الخدمة لم يكن المخدم حائزاً للموهوب، ولم يشترط علمهما بذلك كما شرط علم المودع. وقال عبد الملك: إذا تقدمت الخدمة لم يكن المخدم حائزًا للموهوب، وإن أخدم ووهب في مرة واحدة كان ذلك حيازة للموهوب. قال أبو إسحاق: وقد لا يحتاج ابن القاسم إلى علم المخدم والمستعير لأنهما إنما حازا الرقاب لمنافعهما. ولو قالا: لا تجوز للموهوب ما التفت إلى قولهما، إلا أن يبطلا ما لهما من المنافع، وهما غير قادرين على ذلك لتقدم قبولهما، فلا يقدران على رد ما قبلاه، فصار علمهما غير مفيد والمودع لو شاء قال: خذ ما أودعتني لا أحوز لهذا، فله ذلك. الفرع الرابع: المترهن والمستأجر. ولا تكون حيازتهما حيازة للموهوب له، إلا أن يشترط أن الإجازة له مع الرقبة فيحوز. واختار أشهب حوز المستأجر وإن لم يهب الواهب الإجارة. الفرع الخامس: الرسول، مثل أن يرسل معه هدية أو صلة إلى غائب، فيموت المرسل أو المرسل إليه قبل وصول ما أرسل به، فإن أشهد على ما أرسل فهو للمعطي، وإن لم يشهد بذلك، ففي الكتاب: "إن مات أحدهما رجع المرسل به إلى الذي أعطاه أو لورثته.

الباب الثاني: في حكمها

وعلل ذلك بفوات الحوز أو عدم القبول. وروى يحي بين يحيي عن ابن القاسم أنه قال: إنما هو إذا اشتراه لصغار ولده وأبكار بناته ممن يجوز حوزه لهم، فهذا إن أشهد عليه وأعمله جاز. وفي كتاب ابن حبيب: من ما منهما رجعت إلى ورثته، ومعنى ذلك أنه إن مات المعطي بطلت العطية فرجعت إلى ورثته، وإن مات المعطي لم تبطل العطية وكانت لورثته. وأجرى الأصحاب مجرى هذا ما يستصحبه الحاج أو غيره من الهدية لأهله أو غيرهم. الباب الثاني: في حكمها، وهي قسمان: القسم الأول: ما قيد بنفي الثواب، وحكمه أن يلزم بالقبول، ويستقر بالقبض كما تقدم. ثم هذا القسم ضربان: ضرب يراد به المودة والمحبة. وض ب يراد به وجه الله تعالى من صلة الرحم والهبة للفقير واليتيم، ونحو ذلك. فأما الضرب الأول، فلا رجوع فيه، إلا للوالد فيما وهبه لولده، وفي معناه الوالدة. وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إن حازها الأب لم تعتصرها الأم، لأنها لا تعتصر ما ولايته إلى غيرها. وكذلك إن لم يكن له أب، ولم يكن في ولايتها. قال أبو الحسن اللخمي: وإنما نوى ذلك لها إذا لم تخرج العطية عن يدها والولد في ولايتها، ولا يلحق بهما الجد ولا الجدة. وروى أشهب: أنهما في معناهما. وقال به ابن عبد الحكم. وأما الضرب الثاني، فلا اعتصار فيه، ولا رجوع لأب ولا أم ولا غيرهما، وكون (الولد) صغيرًا عديم الأب في حال الهبة يمنع (الأم) من الاعتصار ولو بعد البلوغ. قال القاضي أبو الوليد: ("هذا قول جل أصحاب مالك". قال: "وروى محمد عن أشهب: إلا

أن يكون موسرًا، فلها أن تعتصر منه كما (تعتصر) من الكبير". ولو كان الأب موجودًا يوم العطية، فلم تعتصر الأم حتى مات الأب، كان لها أن تعتصر، لأنها لم تكن عل وجه الصدقة. وفي كتاب محمد: لا تعتصر إذا مات الأب قبل بلوغ الولد. قال أبو الحسن اللخمي: "والأول أحسن، لأن المراعي وقت العطية، هل كانت هبة أو صدقة؟ ". فروع متتالية: في الرجوع. ومهما تلف الموهوب أو زال ملك (المتهب)، أو تزوجت البنت، أو أدان الابن لأجل الهبة، أو مرض أحدهما، فات الرجوع. وروى أشهب في كتاب محمد: أن للأب أن يعتصر وإن كان مريضًا. وقال أيضًا: لا يعتصر لأنه حينئذ يعتصر لغيره، وإن كان الابن هو المريض فلا أدري. ولو وهب له وهو على حال من هذه الحالات، فقال ابن الماجشون: لا يعتصر كما لو تقدمت العطية على هذه الحوادث. وقال أصبغ: إذا كانت الحال واحدة، كالحال يوم العطية فله الاعتصار. وحيث منعنا الرجوع للدين، فلو قضاه لم يعد له حق الرجوع. (وهل يعتبر كونه كثيرًا يداين لمثله، قال ابن الماجشون: لا يعتبر ذلك. وروى مطرف اعتباره. وقاله ابن القاسم في العتبية. (وإذا منعنا الرجوع للمرض، فزال المرض، عاد حق الرجوع عند ابن القاسم. وقال أصبغ: ما زال به الاعتصار من مرض أو غيره يومًا واحدًا فلا يعود بزواله). وقال ابن الماجشون: من قول مالك جملة، إن العصرة إذا امتنعت ساعة لم ترجع.

وقال المغيرة وابن دينار: إذا صح المعطي أو المعطي رجعت العصرة، كما تنطلق يده من ماله فيماكان ممنوعًا منه. وتغير الهبة في قيمتها بتغير الأسواق لا يمنع من الرجوع فيها. ولو زادت في عينها أو نقصت منع ذلك من [الرجوع فيها]. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يمنع ذلك من اعتصارها. ولو ولدت الأمة كان له أن يرتجعها دون الولد. قال أبو الحسن اللخمي: "إلا أن يعتصره بفور الولادة". ووطء الابن الجارية الموهوبة له من أبيه يفيتها عن الاسترجاع وإن كانت ثيبًا ولم تحمل. والقول قوله في وطئها إذا غاب عليها. وقال المغيرة: لا يمنع الوطء الاعتصار. وبه قال ابن الماجشون. وقال: توقف تستبرأ، فإن حملت بطل الاعتصار). فرع: قال ابن القاسم: "من تصدق بصدقة، لم ينبغ له أن يرتجعها بعوض أو بغير عوض، وإن كانت نخلاً فلا يأكل من تمرها، أو دابة فلا يركبها، إلا أن ترجع إليه بميراث وذلك للنهي عن ارتجاعها، ولأنه ضرب من الرجوع فيها، لأن المعطي يستحيي منه، فيحط عنه من ثمنها ما لا يحط لغيره، فيكون رجوعًا عن ذلك القدر". القسم الثاني: الهبة المطلقة وهي على ما اتفقا عليه من اقتضاء الثواب أو عدمه، فإن اختلفا في مقتضاها نظر إلى شواهد الحال، فإن كانت بين غني وفقير، فالقول قول الفقير مع يمينه لشهادة العرف له، وكذلك الحكم حيث شهد لأحدهما، فإن استوت نسبتهما إليه,، فالقول قول الواهب مع يمينه.

فرعان: الفرع الأول: في نوع الثواب وقدره. أما نوعه الذي يلزم قبوله باتفاق فالدنانير والدراهم، ورأى أشهب انحصاره فيهما، إلا أن يتراضيا على غيرهما لأنهما أصول الأثمان وقيم المتلفات عند التشاح. وروى سحنون أن كل ما يتمول يصح أن يكون ثوابًا، ويلزم الواهب قبوله إذا كان فيه وفاء بقيمة هبته، لأن الغرض الثمن. ووافقه ابن لقاسم في عدم الاقتصار على العين، إلا أنه استثنى منها الحطب والتبن وشبههما مما لا يثاب في العادة بمثله. وأما قدر الثواب فمبلغ قيمة الموهوب. ولا يلزم الواهب قبول دونها، ولا الموهوب له بذل زائد عليها. وفي كتاب ابن حبيب عن مطرف من قوله وروايته، أن للواهب أن يأبى وإن أثابه أكثر من قيمة الهبة إذا كانت العين الموهوبة قائمة. قال مطرف: لأنه لو أراد قيمتها لباعها في السوق ولم يتعرض بها أحدًا، وإنما أهداها رجاء الفضل وعظم المثوبة. وقال ابن الماجشون: إذا أثابه القيمة لزمه ذلك على ما أحب أو كره، وإن لم تفت الهبة كالأول، وهو المشهور. ثم إذا أثابت فليس له الرجوع في الثواب بعد تعينه وإن لم يقبضه الواهب. الفرع الثاني: في التصريح بشرط الثواب. وإذا صرح به وكان معلومًا، فهو بيع، وتثبت فيه أحكامه. فإن كان لعوض غير معلوم مع التصريح باشتراطه، فصححه ابن القاسم، ومنعه ابن الماجشون في رواية ابن حبيب عنه، وأخذ به سحنون، وعلل بأنه يصير بيعًا فاسدًا للجهل، بثمنه، إذ هو كبيع سلعة بقيمتها.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة وفيه فصول: الفصل الأول: في الالتقاط هو عبارة عن أخذ مال ضائع ليعرفه الملتقط سنة، ثم يتصدق به أو يتملكه إن لم يظهر مالكه، بشرط الضمان إذا ظهر المالك. وليس بواجب إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين والإمام غير عدل، لكن إن وثق بأمانة نفسه فالأخذ مستحب له. وروي تخصيص الاستحباب بما له بال، فإن علم الخيانة من ننفسه خذ محرم عليه، وإن خافها كره له الأخذ. وروى ابن القاسم: "كراهية التقاطها، إلا أن يكون لها قدر". وروى أشهب: "أما الدنانير وشيء له بال، فأحب إلى أن يأخذه، وليس كالدرهم وما لا بال له، ولا أحب أن يأخذ الدرهم. وحكى القاضي أبو بكر عن مالك الكراهة مطلقًا، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق.

الفصل الثاني في ذات اللقطة

الفصل الثاني في ذات اللقطة وهي عبارة عن مال لمعصوم معرض للضياع، [كان] في عامر البلاد أو غامرها، وذلك جار فيكل جماد وحيوان صغير. (ويدخل) فيه الغنم على تفصيل يأتي بيانه. وأما ما كان أكبر من الغنم. فمنه الإبل، وحكمها أنها إن وجدت في الصحراء لم تلتقط لورود الخبر. ومنه البقر، وقد رأى مالك إلحاقها بالغنم في ضعفها عن الامتناع عند انفرادها. ورأى ابن القاسم إلحاقها بالإبل إذا كانت بمكان لا يخاف عليه فيه من السباع. (ومنه الخيل والبغال والحمير. وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط. وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط، وإلحاقها بالإبل إذا أمن عليها من الجوع والعطش والسباع والناس. وإن وجدت في العمران وخيف امتداد أيدي الناس إليها كان أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها أفضل له وآمن عليها). ومن وجد كلبًا التقطه إن كان بمكان يخاف عليه. وما (وجد) من المتاع بساحل البحر فهو لربه ولا شيء عليه لمن وجده. وقال مالك في الكتاب فيمن وجد متاعًا (بفلاة)، فحمله إلى بلد، فأتى ربه، فله أخذه بعد دفع كراء حمله. وفي الزاهي للشيخ أبي إسحاق: ومن هلكت راحلته بفلاة، فألقى متاعه فاحتمله

الفصل الثالث: في أحكام اللقطة

محتمل إلى نفسه أخذه ربه، وغرم أجرة الحمل. وفيه إذا طرحت الأمتعة خوف الغرق فأخذها آخذ فوق الماء، نضب الماء عنها مكان ذلك، فهي لأربابها. وفيه: وفي الخشبة يطرحها البحر قولان. أحدهما: إن تركها أفضل والآخر: إن واجدها يأخذها، فمتى جاء ربها غرم له قيمتها. وفيه إذا وقعت السمكة في سفينة فيها جماعة، فهي للذي سقطت إليه، كان رب السفينة أو غيره. الفصل الثالث: في أحكام اللقطة، وهي أربعة: الحكم الأول: حكم الضمان وهي أمانة في يد من قصد بأخذها أن يحفظها لمالكها ما دام على ذلك القصد. ومغصوبة مضمونة في يد من أخذها بقصد الاختزال. وأما من أخذها ليعرفها سنة ثم يتصدق بها أو يتملكهأ، فهي في يده أمانة في السنة، فإذا انقضت السنة فتصدق بها، فهي مضمونة عليه، إلا أن يختار ربها إمضاء الصدقة على نفسه. وإن أبقاها بعد السنة على التعريف، فهي باقية على الأمانة. ولو أخذها بنية الحفظ ثم ردها ضمنها إن تلفت، ولو ادعى ربها أن الملتقط أخذها ليتمولها لا ليعرفها وادعى الملتقط قصد التعريف، كان القول قوله. الحكم الثاني: التعريف. وهو واجب سنة عقيب الالتقاط فيما له بال، ينشدها في المواضع التي يجتمع الناس إليها. ودبر الصلوات على أبواب المساجد والجامع، وحيث يظن أن ربها هناك أو خبره، يعرفها كل يومين أو ثلاثة، ولكما تفرغ، لا يجب عليه أن يدع التصرف في حوائجه ويعرفها، وفي ذكر الجنس في التعريف خلاف. ثم له أن يعرفها بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام يعرفها إذا كان عدلاً أو يدفعها لمن يثق به ممن يقوم مقامه فيها يعرفها أو يستأجر عليها من يعرفها، ثم الأجرة في التعريف منها إن كان ممن لا يعرف مثله. ولا يجوز له أن يسافر بها إلى بلد آخر ليعرفها به. ولو وجدها في صحراء بين مدينتين لعرفها بينهما. ثم وجوب التعريف سنة بتخصيص بالمال الكثير الذي لا يفسد، فأما القليل الذي لا يفسد، فإن كان من القلة بحيث يعد تافهًا لا قدر له، ويعلم أن صاحبه في العادة لا يتبعه لقلته فلا يعرف أصلاً.

وإن كان على قلته له قدر ومنفعة، وقد يشح به صاحبه ويتبعه، فهذا يعرف، لكن اختلف في حده، فقيل: سنة كالذي له بال، وهو ظاهر رواية ابن القاسم في الكتاب. وفي العتبية من رواية عيسى عن ابن وهب: "أنه يعرفه أيامًا"، وهو قول ابن القاسم من رأيه في الكتاب. ولا تتحدد عدة الأيام بعدد معين، بل (بحسب) ما يظن أن مثله يطلب فيها، [وهذا] كالمخلاة والحبل والدلو. ومن سماع أشهب: "إذا وجد العصا والسوط إن أخذهما عرفهما، وإن لم يعرفهما فأرجو أن يكون خفيفًا". وأما ما يفسد وإن كان كثيرًا كالطعام وشبهه، فقد قال عليه السلام: "من التقط طعامًا فليأكله". وفي معناه الشاة الملتقطة بالبعد عن العمران حيث يعسر جلبها، ويخشى عليها إن تركها، فإنها طعام ويحتاج إلى العلف، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك أو لأخيك أو للذئب". فأما الجحش وصغار الحيوانات التي لا تؤكل، فينبغي أن تؤخذ خشية هلاكها. ولا شيء عليه في أكل الطعام بالفلاة، إلا أن يكون في رفقه وجماعة، فيكون له حكم الحاضرة. وإن وجد بقرية فقال ابن حبيب في الواضحة: إن تصدق به فلا غرم عليه لصاحبه، لأنه يؤول إلى فساد. وأن أكله غرمه لانتفاعه به. وظاهر قول أشهب أنه يغرمه لصاحبه تصدق به أو أكله. وظاهر ما في الكتاب أنه لا ضمان عليه فيه، أكله أو تصدق به. فروع: في أحكام غلات اللقطة ومنافعها في مدة التعريف، قال ابن حبيب: ذكرت امرأة لعائشة رضي الله عنها أنها وجدت شاة، فقالت لها: عرفي واعلفي واحلبي واشربي.

قال سحنون، فيمن وجد شاة اختلطت بغنمه: "فهي كاللقطة يتصدق بها، ثم إن جاء ربها ضمنها له"، قال: "ولد شرب لبنها، وهذا خفيف. وقال ابن نافع: قال مالك في الرجل يكون في غنمه وباديته فيجد شاة بفلاة من الأرض، فأرى أن حبسها مع غنمه لا يأكلها سنة أو أكثر منها، وله حلابها لا يتبع به إن جاء ربها إلا بها وبنسلها، فإن ذبحها قبل السنة ضمنها لربها، وإلا أن يخاف موتها فيذكيها، فلا شيء عليه إلا أن يقدر على بيع لحمها. وقال مطرف في ضالة البقرة والغنم: الصدقة بثمنها أحب إلي من الصدقة بها، والاستيناء بالثمن أحب إلي من الاستيناء بها وليس بواجب، ونسلها مثلها. وأما اللبن والزبد فأما بموضع لذلك ثمن فليبع ويصنع بثمنه ما يصنع بثمنها، وإن كان له بها قيام وعلوفة، فله أن يأكل منه بقدر ذلك، وأما (بموضع) لا ثمن له فليأكله. ولا بأس أ، تكري البقر في علوفتها كراء مأمونًا من العطب. وأما الصوف والسمن فليتصدق به، أو بثمنه. قال ابن حبيب: وضالة الدواب له أن يركبها من موضع وجدها إلى موضعه، فأما في حوائجه فلا، فإن فعل ضمنها. وله كراؤها في علفها كراء مأمونًا لا يجر إلى [عطب]. ما بينه وبين أن يبيعها ويتصدق بثمنها، أو يأتي صاحبها وليس لقدر حسبه إياها، هي والمواشي حد إلا على اجتهاده وصبره. وقال أشهب: إذا أنفق الملتقط على الدواب والإبل والبقر، فربها مخير بين غرم النفقة وأخذها أو إسلامها فيها، فإ، أسلمها فيها ثم بدا له أن يطلبها ويؤدي النفقة فليس له ذلك. الحكم الثالث: (في) (التملك) وهو جائز بعد انقضاء التعريف ومدته، والأحسن له بعد انقضاء ذلك أن يبقيها أو يتصدق، بها فإن اختار تملكها ثبت ملكه عليها. قال القاضي أبو الوليد: "هذا عندي حكم لقطة كل بلد سوى مكة"، فأما مكة

فلا تتملك لقطتها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لقطتها إلا لمنشد" معناها على الدوام، وإلا لم تظهر فائدة (للتخصيص). وهذا قاله رضي الله عنه هو اختيار القاضي أبي بكر والداودي، والمذهب أنها كغيرها، ومستنده العمومات الواردة في [اللقطة]. فأما ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لقطتها لا تحل إلا لمنشد" ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لقطة الحاج فمحمول على أنها لا تحل لمن يريد أن يتملكها دون تعريف، بل لا تؤخذ إلا لصاحبها أي لتعرف له. وسبب تنبيه الشارع: على هذا الحكم وتخصيصه بلفظ مكة، وهو عام فيها وفي غيرها، هو أن اللقطة توجد كثيرًا ي الحرم لاجتماع الناس فيه من كل فج، وأنه موضع نسك، وأن الغالب منه أن الحاج لا يعود لطلب اللقطة، إن كان من أهل الآفاق، فيصير الآخذ لها آخذاً لنفسه لا محالة، فخص النبي صلى الله عليه وسلم الحرم لهذا المعنى، وغلظ فيه. ونحن (كذلك) نقول: سبيل من وجد لقطة في الحرم وليس هو من أهله أن يدفعها للحاكم أو لثة في الموضع، فإن لم يفعل وخاف أن تكون لمن هو من أهل الآفاق، فأخذها على شرط اللقطة، جاز ذلك. الحكم الرابع: وجوب الرد. والنظر في ظهور المالك وفي قيام اللقطة وفواتها. أما الأول فيعرف بقيام البينة أو بالإخبار بالوصف، فإذا أقام البينة أنها له، أو أخبر بعفاصها، وهو ما تشد فيه، ووكائها وهو ما تشد به، وجب الردد له. ويقوم الوصف مقام البينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاءك أحد يخبر بوكائها وعفاصها وإلا فاستنفقها". أخرجه البخاري. وفي اعتبارمعرفة العدد إن كانت دنانير أو دراهم خلاف، اعتبره ابن القاسم ولم يعتبره أصبغ.

وسبب الخلاف: ذكره في حديث أبي والإضراب عنه في حديث زيد بن خالد، ولا يلزمه يمين مع الصفة. وقال أشهب: تلزمه اليمين معها. واختلف في وقوع ردها على إتيان ناشدها بهذه الصفات التي عددناها بجملتها، أو يجتزأ ببعضا: (فقال محمد بن عبد الحكم: لو أصاب تسعة أعشار الصفة، وأخطأ (العشر) لم يعطها إلا في معنى واحد، وهو أن يصف عددًا (فيصاب) أقل. وقال أشهب: إن عرف منها وصفين ولم يعرف الثلاث دفعت إليه. وقال أصغ: "إن عرف العفاص وحده فليستبرأ، فإنه جاء أحد وإلا أعطيها". ولو عرف رجل عفاصها أو وكاءها وحده، وعرف آخر عدد الدنانير ووزنها كانت لمن عرف (العفاص أو الوكاء)، قاله أصبغ في العتبية، وزاد ابن حبيب عنه أنه قال: ولقد استحسن أن تقسم بينهما، كما لو اجتمعنا على معرفة العفاص والوكاء، ويتحالفان، فإن نكل (أحدهما) دفعت إلى الحالف. قال القاضي أبو الوليد: "وهذا جنوح منه إلى إلحاق معرفة العدد بمعرفة العفاص والوكاء) ..

وإن وصفها رجلان تحالفا ثم قسمت بينهما إن حلفا، فإن نكل أحدهما انفرد بها الحالف عن النكال. ولو دفعت إلى من انفرد بوصفها، ثم ظهر واصف آخر لم يكن له شيء إلا أن يأتي بينة فيكون حينئذ أحق بها، إلا أن يأتي الأول، أيضًا، ببينة، وتتكافأ البينتان ولم تؤرخا، فيقضى بها لأعدلهما، فإن تكافأتا سقطتا وبقيت للأول بالصفة. ولو اختار لكاتب لأولهما تاريخًا. قال ابن القاسم: "وإذا وصفها الثاني وأقام بها بينة فلا شيء له على الملتقط، دفعها بقضية أو بغير قضية، لأنه فعل ما يجوز له". وقال ابن الماجشون: يضمن إذا قال: دفعتها لم وصفها ولا أعرفه، ولم يشهد لتفريطه. وأما النظر الثاني: في قيامها وفواتها. فإن وجدها قائمة أخذها، كانت بيد الملتقط في نوى تملكها أو ينو، [أو) كانت بيد المساكين المتصدق بها عليهم، كانت الصدقة بها عن نفسه أو عن ربها. وكذلك إن وجدها قائمة بيد المبتاع من المساكين. وإن وجدها المبتاع من الملتقط، فقال ابن القاسم: إذا باعها بعد انقضاء التعريف ومدته، فلا رجوع لربها فيها، وإنما يأخذ الثمن لا غير. قال: وسواء باعها بأمر السلطان أو بغير أمره". وقال أشهب: إن باعها بغير أمر السلطان فلربها نقض البيع وأخذها. قال: وإن وجدها بيد المساكين ناقصة وقد تصدق بها عن ربها، فله الخيار في أخذها أو أخذ قيمتها من الملتقط يوم تصدق بها. ثم إن أخذها فلا شيء له عليه، وإن أخذ قيمتها أخذها الملتقط من المساكين ولا شيء له عليهم لنقصها. قال: وإن كان تصدق بها عن نفسه، فربها بالخيار بين أن يأخذها على نقصها ولا شيء له على الملتقط، وبين أن يأخذها بقيمتها ثم لا شيء لملتقطها على المساكين. قال: وإن لم تفت عندهم بشيء فليس له سواها. وإن وجدها المالك فائتة العين، فإن كان الملتقط أكلها أو أتلفها غرم للمالك قيمتها يوم أتلفها، وإن كان تصدق بها فأكلها المساكين. فكذلك أيضًا عند ابن القاسم تصدق بها عن المال أو عن نفسه. وقال أشهب: إذا تصدق بها عن نفسه، فأكلها المساكين، فلربها تضمينهم مثلاً أو قيمة.

وإن تلفت بعد بيع الملتقط لها، فإن كان بيعه لها قبل تمام التعريف فعليه قيمتها في ذمته إن كان حرًا، وإن كان عبدًا ففيه رقبته كالجناية. وإن كان البيع بعد انقضاء التعريف ومدته، فليس عليه سوى الثمن في ذمته حرًا كان أو عبدًا، (كان ذلك) بأمر سلطان أو بغيره أمره. وقال أشهب في بيع الدواب بغير أمر السلطان: إن باعها الملتقط خوفًا من الضيعة عليها، فليس لربها إلا الثمن. قال: وأما إن باع الثياب وما لا مؤونة في بقائه فربه أحق به إن وجده بيد المبتاع، فإن لم يجده فله الخيار في أخذ الملتقط بالثمن أو بالقيمة يوم بيعه إذ لم يبعه بأمر [سلطان] ولا بضرورة إلى ذلك.

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط وفيه بابان الباب الأول: في الالتقاط وحكمه (وهو عبارة عن) كل صبي ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات. فمن وجده وخاف عليه الهلاك إن تركه لزمه أخذه (و) لم يحل له تركه. (ومن أخذه بنية أنه يربيه لم يحل له رده، قاله أشهب. قال: وأما إن أخذه ليرفعه إلى السلطان فلم يقبله منه فلا شيء عليه في رده إلى موضع (أخذه). قال القاضي أبو الوليد: "ومعنى ذلك عندي أن يكون موضعًا لا يخاف عليه فيه الهلاك لكثرة الناس فيه، ويوقن أنه سيسارع الناس إلى أخذه. ومن أخذ لقيطًا فليشهد عليه خوف الاسترقاق. وولاية اللقيط لجماعة المسلمين، لا يختص بها الملتقط إلا بتخصيص الإمام. وليس للعبد ولا للمكاتب الالتقاط بغير إذن السيد، فإن فعلاً لم يكن لهما ذلك، إذ الحضانة تبرع، وليسا من أهله.

ولو التقط الذمي نزع اللقيط منه لئلا ينصره، أو يدرس أمره فيسترقه. قاله مطرف وأصبغ. (وسئل سحنون عن نصرانية التقطت صبية فربتها حتى بلغت على دينها فقال: إن ثبت أنها لقطة فترد إلى الإسلام، وهي حرة). ولو ازدحم اثنان كل (واحد) منهما أهل، قدم من سبق، فإن استويا قدم الإمام من هو أصلح للصبي، فإن استويا في ذلك أقرع بينهما. ثم من التقط لزمته الحضانة ولم تلزمه النفقة من ماله إن وجد ما ينفق على الصبي، فإن عجز عن الحضانة سلم اللقيط للقاضي، فإن تبرم مع القدرة لم يكن له تركه إذا كان أخذه ليحضنه كما تقدم. وأما نفقة اللقيط ففي ماله، وهو ما وقف على اللقطاء أو وهب لهم أو أوصى لهم به، (أو) ما وجد تحت يد اللقيط عند التقاطه بكونه ملفوفاً عليه أو (مشكوكًا) على ثوبه، أو موضوعًا عليه، أو كان هوو عليه من فراش أو ثوب، أو دابة، أو كان معه كيس مال مشدود أو قوم على مال موضوع ونحو ذلك. وأما ما هو مدفون في الأرض تحته فيس هو له، إلا أن يوجد معه رقعة مكتوبة بأنه له، فيكون حينئذ له. ولو كان بالقرب منه مال موضوع أو دابة مشدودة، فذلك لقطة وضالة. فإن عدمت هذه الجهات كلها في حقه ولم يكن له مال، فإن تبرع أحد بالإنفاق عليه، وإلا أنفق عليه الإمام من بيت المال. (فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال) فروى في كتاب محمد: " (من التقط لقيطًا فعليه نفقته حتى يبلغ ويستغني، وليس له أن (يطرحه)، وذلك أنه أخذه ملتقطًا له فقد لزمه أمره وحفظه".

الباب الثاني: في أحكام اللقيط

ثم حيت لم يكن للقيط مال، فمن أنفق (عليه) حينئذ فلا رجوع له عليه إلا أن يأتي رجل فيقيم البينة أنه إبنه فيتبعه بنفقة إن كان طرحه متعمدًا، إلا أن يكون قد أنفق عليه حسبة فلا رجوع له عليه بحال. وقال أشهب: لا شيء على الأب بحاله، لا، المنفق (محتسب). وقال سحنون: إن أنفق ليتبعه، فطرأ له أب تعمد طرحه أتبعه، وإن أنفق حسبة لم يرجع. وكذلك لو ضل صبي من أبيه، فأنفق عليه إنسان، فلا يتبع أباه بشيء، إذ هو من باب الاحتساب. وحيث أشكل الأمر ولم تظهر علامة تدل على الحسبة أو التبرع، فالقول قول المنفق مع يمينه في أن ما أنفق إلا ليرجع. الباب الثاني: في أحكام اللقيط، وهي أربعة: الحكم الأول: إسلامه. والإسلام يحصل استقلالاً بمباشرة البالغ، وبمباشرة المميز أيضًا في ظاهر المذهب ظاهرًا وباطنًا. ويجبر عليه إن رجع عنه، حتى أنه إن بلغ وأقام على رجوعه كان مرتدًا يقتل. فأما إذا ارتد صغيرًا فتصح ردته عند ابن القاسم، ولا تؤكل ذبيحته ولا يصلي عليه. وقال سحنون: لا تصح ردته، وتؤكل ذبيحته، ويصلى عليه والاتفاق على أنه لا يقتل بردته صبيًا. وروي أنه لا يصير مسلمًا إلا بعد البلوغ. وأما الصبي الذي لم يميز والمجنون، فلا يتصور إسلامها إلا تابعًا. وللتبعية ثلاث جهات: الجهة الأولى: إسلام الأب، فيتبعه ولده، ولا يتبع أمه. وقال ابن وهب: يتبع من أسلم من أبويه. وحيث حكمنا بالتبعية فبلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مرتد. الجهة الثانية: تبعية السابي المسلم، فمتى استرق طفلاً دون أبيه حكم بإسلامه، وإن استرقه ذمي. لم يحكم بإسلامه. ثم حكم هذا الصبي المسترق حكم من قضي بإسلامه تبعًا لأبيه إذا بلغ.

الجهة الثالثة: تبعية الدار، وهي المقصود، فكل لقيط وجد في قرى الإسلام ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة وموضعهم فهو مشرك. وقال أشهب: إن التقطه مسلم فهو مسلم]. (ولو وجد في قرية ليس فيها إلا الاثنان والثلاثة من المسلمين فهو مشرك، ولا يعرض له إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه). وقال أشهب: حكمه في هذه، أيضًا، الإسلام، التقطه مسلم أو ذمي، لاحتمال أن يكون لمن فيها من المسلمين، كما أجعله حرًا، وإن كنت لم أعلم أحر هو أم عبد، لاحتمال الحرية، لأن الشرع رجح جانبها. الحكم الثاني: نسب اللقيط. وإن استلحقه الملتقط أو غيره، فلا يلحق إلا ببينة، أو يكون لدعواه وجه، كرجل عرف أنه لا يعيش له ولد، فزعم أنه رماه لأنه سمع: إذا طرح عاش. ونحو ذلك مما يدل على صدقه. وقيل: لا تثبت فيه دعوى إلا ببينة. وقال أشهب: يلحق بمجرد الدعوى. وإن لم يكن هذا ادعاه ملتقطه أو غيره، إلا أن يتبين كذبه. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الاختيار، قال: وربما طرح الناس أولادهم من الإملاق وغيره. وإذا استلحق الذمي لقيطًا وأقام بينة على تصديقه لحق به وكان على دينه، إلا أن يسلم قبل ذلك ويعقل الإسلام، فيكون مسلمًا. وإن استلحقت اللقيط امرأة ادعت أنه ولدها، فقال ابن القاسم: لا يقبل منها، وإن جاءت بما يشبه من العذر. وقال أشهب: يقبل قولها وإن قالت: من زنى، حتى يعلم كذبها. وقال محمد: تصدق في الزنى وتحد، وأما من زوج لها فلا، إلا أن يدعيه فيلحق به. الحكم الثالث: حريته ورقه. وهو على الحرية، لا يقبل فيه دعوى (الرق) من أحد إلا ببينة. قال مالك: ولا يقبل إقراره هو على نفسه بالرق، وليس له أن يرق نفسه. قال الشيخ أبو عمرو: "لم يختلف في ذلك أصحاب مالك". الحكم الرابع: جنايته وأرش خطئه على بيت المال. وإن جنى عليه فالأرش له.

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في التولية والعزل، وفيه فصلان: الفصل الأول: في التولية، وفيه مسائل المسألة الأولى: إن القيام بالقضاء والإمامة فرض على الكفاية لما فيه من مصالح العباد، من فصل الخصومات، ورفع التهارج، وإقامة الحدود، وكف الظالم، ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والحكم بالعدل من أفضل أعمال البر، وأعلى درجات الأجر، قال الله تعالى [فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابر من نور يوم القيامة". ولكن خطره عظيم، لأن الجور في الأحكام واتباع الهوى فيها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، قال الله عز وجل: (وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أعتى الناس على الله، وأبغض الناس إلى الله، وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من أمة محمد شيء اثم لم يعدل (فيهم). فالقضاء محنة، ومن دخل فيه فقد ابتلى بعظيم، لأنه عرض نفسه للهلاك، إذ التخلص منه على من ابتلى به عسير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين". وفي

رواية ابن أبي ذؤيب: فقد ذبح بسكين. فلا ينبغي أن يقدم عليه إلا من وثق نفسه وتعين له، أو أجبره الإمام العدل عليه. وللإمام العدل إجباره إذا كان صالحًا، وله هو أن يمتنع ويهرب بنفسه عنه، إلا أن يعلم تعينه له فيجب عليه القبول، وذلك إذا تحقق أنه ليس في تلك الناحية من يصلح للقضاء سواه، فلا يجوز له الامتناع حينئذ لتعين الفرض عليه. ولا يأخذه بطلب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا، والله، لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه". ولا يولي وإن اجتمعت فيه شرائط التولية خشية أن يوكل إلى نفسه فيعجز، كما تضمنه الحديث: "إن من طلب القضاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عزل وجل ملكًا يسدده" أخرجه أبو عيسى واستحسنه. المسألة الثانية: في صفات القاضي، وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يشترط في صحة التولية، ويقتضي عدمه الانفساخ وهي: أن يكون ذكرًا، حرًا، عاقلاً، بالغًا، مسلمًا، عدلاً، عالمًا، من أهل الاجتهاد والنظر، متوحدًا. فعدم شيء من هذه الصفات يمنع صحة العقد ابتداء، (ويفسخ) وينفسخ العقد بحدوثه، فلا تصح تولية المرأة والعبد وغير العاقل، والصبي، والكافر، والفاسق، والجاهل، ولا المقلد إلا عند الضرورة. قال القاضي أبو بكر: "فيقضي حينئذ بفتوى مقلدة بنص النازلة (قال): فإن قاس على قوله، أو قال: يجيئ من هذا كذا، فهو متعد". قال: "ولا تحل تولية مقلد في موضع يوجد فيه عالم، فإن) تقلد فهو جائر متعد، لأنه قعد في مقعد غيره، وليس خلعه سواه من غير استحقق". ولا تصح تولية حاكمين معافي كل قضية. ولا تصح تولية الفاسق كما تقدم. وقال أصبغ: تصح توليته ويجب عزله، فالحق وصف العدالة بالقسم الثاني. وجوز الشيخ أبو

الوليد تولية غير العالم، ورأى كونه موصوفًا بالعلم مستحبًا لا شرطًا في الصحة ولا في الإبقاء. القسم الثاني: ما يقتضي عدمه الفسخ وإن لم يشترط في الصحة، وذلك كاشتراط كونه سميعًا بصيرًا متكلمًا، فعدم بعض هذه، يقتضي أن يفسخ العقد سواء تقدمت أضدادها عليه أو طرأت بعده، وينفذ ما مضى من أحكامه إلى حين العزل وإن كانت موجودة حين الحكم. القسم الثالث: ما لا يشترط في الانعقاد ولا في الإبقاء، ولكنه يُسْتحبُّ في القاضي. قال الشيخ أبو الوليد: "مثل أن يكون ورعًا، غنيًا ليس بمديان ولا بمحتاج. من أهل البلد، معروف النسب، ليس بولد زنى، ولا بابن لعان، جزلاً نافذاً فطنًا غير مخدوع لغفلة، ليس محدودًا في زنى ولا قذف، ولا مقطوعًا في سرقة، ذا نزاهة عن الطمع، مستخفًا بالأئمة يدير الحق على من دار عليه، ولا يبالي من لامه على ذلك، حليمًا عن الخصوم، مستشيرًا لأولي العلم". وقال أبو القاسم بن محرز: ليس يتأتى له القيام بما نصب له حتى يكون ذا نزاهة ونصيحة ورحمة وصلابة. ليفارق بالنزاهة من يطمع ويتشوف لما في أيدي الناس، وبالنصيحة من يريد الظلم ولا يبالي بإيقاع الغش في الخطأ والغلط، وبالرحمة حال من يقسو قلبه فلا يرحم اليتيم والصغير، ولا ينهض بنصر المظلوم، وبالصلابة حال من يضعف عن استخراج الحقوق، وعلى الإقدام على (ذوي) السلطنة والقهر والظلم. وقال القاضي أبو محمد: "ينبغي أن يكون فطنًا متيقظًا، كثير التحرز من الحيل، وما يتم مثله على المغفل والناقص أو التهاون، وأن يكون عالمًا بالشروط عارفًا بما لابد منه من العربية واختلاف معاني العبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في الدعاوى والأقدار والشهادات، ولأن كتاب الشروط هو الذي يتضمن حقوق المحكوم له وعليه، والشهادة تسمع فيه، فقد يكون العقد واقعًا على وجه يصح أول لا يصح، فيجب أن يكون له علم (بتفصيل) ذلك ويجمله". قال: "وينبغي أن يستبطن أهل الدين والأمانة والعدالة والنزاهة ليستعين بهم على ما هو بسبيله، ويقوي بهم على (التوصل) إلى ما ينوبه، ويخففون عنه فيما يحتاج إلى الاستنابة من النظر في الوصايا والأحباس والقسمة وأموال الأيتام وغير ذلك مما ينظر فيه".

وقال الأستاذ أبو بكر: وليس يكتفي بالعقل الذي يشترط في التكليف وهو استدلاله بالشاهد على الغائب (وعلم) بالمدركات الضرورية، بل لابد أن يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيدًا من السو والغفلة، حتى يتوصل بذكائه إلى وضوح ما أشكل، وفصل ما أعضل. قال: وليس يستحسن، أيضًا، الزيادة في هذا الباب حتى يفضي بصاحبه إلى الدهاء والمكر والخبث الخدع، فإن هذا مذموم، محذر منه، غير مأمون إليه، والناس منه في حذر، وهو من نفسه في تعب. وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعزل زياد بن أبيه وقال له: كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك، وكان من الدهاة. فرع: قال المتأخرون. "ليس لأصحابنا في تولية الأمي الذي لا يكتب وإن كان عالمًا عدلاً، نص. وحكوا عن أصحاب الشافعي وجهين الجواز والمنع". ثم اختار القاضي أبو الوليد الجواز. وقال الشيخ أبو الوليد: "الأظهر عندي الجواز"، وذكر تعليله، "ثم قال: وإن للمنع من ذلك لوجهًا، لما فيه من تضييق وجوه الحكم". المسألة الثالثة: في استخلاف القاضي. وإذا نهى عن الاستخلاف لم يكن له أن يستخلف، وإن أذن له فيه استخلف على مقتضى الإذن، فن تجرد عقد التولية عن النهي والإذن جميعًا فقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ: ليس لقاضي الخليفة استخلاف قاض مكانه إذا كان حاضرًا يحكم ولا إن عاقه ما يعوق من

الشغل، فأما إن سافر قال في كتاب ابن حبيب: "إن مرض فله أن يجعل في مكانه من يقوم مقامه وينفذ أموره، ولا يكون متعديًا من استقضاه. وقال سحنون: لا يستخلف وإن سافر أو مرض إلا بإذن الخليفة. ثم تشترط في الخليفة صفات القضاة، إلا إذا لم يفوض إليه إلا سماع الشهادة والنقل فلا يشترط من العلم إلا معرفة ذلك القدر، وليس له أن يشترط على النائب الحكم بخلاف اجتهاده أو بخلاف معتقده إذا جوزنا تولية المقلد عند الضرورة. (قال الأستاذ أبو بكر: وللإمام إذا اعتقد مذهبًا من المذاهب مثل مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أن يولي القضاء من يعتقد خلاف مذهبه، لأن لواجب على القاضي أن يجتهد رأيه في قضائه، ولا يلزم أحدًا من المسلمين أن يقلد في النوازل والأحكام من يعتري إلى مذهبه، فمن كان مالكيًا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقوال مالك. وهكذا القول في سائر المذاهب، بل أينما أداه اجتهاده من الأحكام صار إليه". قال: "فلو شرط على القاضي أن يحكم بمذهب إمام معين من أئمة المسلمين ولا يحكم بغيره فالعقد صحيح، والشرط باطل، كان موافقًا لمذهب المشترط أو مخالفًا له". قال: وأخبرني القاضي أبو الوليد قال: "كان الولاة عندنا بقرطبة إذا ولوا القضاء رجلاً شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده". قال الأستاذ أبو بكر: "وهذا جهل عظيم منهم". المسألة الرابعة: لو نصب في بلدة قاضيان، كل واحد يختص بطرف جاز. وكذلك لو أثبت الاستقلال لكل واحد منهما، فن شرط اتفاقهما في لك حكم لم يصح، كما تقدم. ثم إذا تنازع الخصمان في لاختيار، أو ازدحم متداعيان، فالقرعة. المسألة الخامسة: في التحكيم. وهو جائز في الأموال وما في معناها. ولا يقيم لمحكم حدًا، ولا يلاعن، ولا يحكم في قصاص أو قذف أو طلاق أو عتاق أو نسب أو ولاء. ولا يشترط دوام الرضا إلى حين نفوذ

الفصل الثاني: في العزل

الحكم، بل لو أقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم، قضى بينهما، وجاز حكمه. وقال أصبغ: لكل واحد منهما الرجوع ما لم ينشبا في الخصومة عنده فيلزمهما التمادي فيها، كما ليس لأحدهما، إذا تواضعا الخصومة عند القاضي (و) (أن) يوكل وكيلاً أو يعزله. وقال سحنون في كتاب ابنه: لكل واحد منهما الرجوع ما لم يمض الحكم. وقال ابن الماجشون: ليس لأحد ما الرجوع، كان ذلك قبل أن يقاعد صاحبه أو بعدما ناشبه الخصومة، وحكمه لازم لهما. ثم إذا حكم المحكم فليس للقاضي أن ينقض حكمه وإن خالف مذهبه، إلا أن يكون جورًا بينًا لم يختلف فيه أهل العلم. فرعان: الفرع الأول: حيث قلنا: لا يحكم، فلو حكم بغير الجور نفذ حكمه، وينهي عن العود لمثله. ولو أقام ذلك بنفسه فقتل أو اقتص أو ضرب الحدود لأدب وزجر، ومضى ما كان صوابًا من حكمه، وكان المحدود بالقذف محدودًا والتلاعن ماضيًا. الفرع الثاني: قال مطرف وابن الماجشون: إذا حكم الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جورًا بينًا، قالا: وليس تحكيم الخصم خصمه كتحكيم خصم القاضي له. وقال أصبغ في تحكيم خصم القاضي له: لا أحبه، فإن وقع مضى ذلك، وليذكر في حكمه رضاه بالتحاكم إليه. وإذا حكم الخصمان عبدًا أو امرأة أو مسخوطًا وكافرًا أو معتوهًا أو صبيًا أو موسوسًا لم ينفذ حكمه. وقال أشهب: إذا كان حكم العبد أو المرأة أو الحر المسخوط مما يختلف فيه الناس فهو ماض. الفصل الثاني: في العزل، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الانعزال. وينعزل بطريان ما لو قارن التولية لمنع انعقادها كالكفر والجنون وما ذكر معهما، وكذلك طريان الفسق على المشهور، وهو رأي القاضي أبي الحسن. وقال أصبغ: لا ينعزل بطريانه، ولكن يجب على الإمام عزله عند ذلك. المسألة الثانية: في جواز العزل. "قال أصبغ: ينبغي للإمام أن يعزل من قضاته من يخشى عليه الضعف والوهن أو بطانة

السوء، وإن أمن عليه الجور في نفسه". "وقال مطرف: إذا كان قاضي الإمام مشهورًا بالعدالة والرضا فلا يعزله بالشكية فقط وإن منه بدلاً، وإن لم يكن مشهورًا بذلك فليعزله إذا وجد منه بدلاً وتظاهرت الشكية عليه، وإن لم يجد منه بدلاً كشف عنه، فإن كان على ما يجب أمضاه، وإن كان على غير ذلك عزله وولي غيره. وقال اصبغ: أحب إلي أن يعزله بالشكية وإن كان مشهورًا بالعدالة والرضا، إذا وجد بدلاً ف يحاله، لما في ذلك من صلاح الناس وكسر الولاة القضاة عنهم والتفريج لهم فيما بين ذلك. وقد عزل عمر سعدًا على الشكية فقط، وسعد (أنفذ) صحة (وأظهر) براءة من جميع من يكون بعده إلى يوم القيامة. قال: وإذا عمت الشكاية وتظاهرت فليوقفه بعد العزل للناس، فيرفع من يرفع، ويحقق من يحقق، فقد أوقف عمر سعدًا، فلم يصح عليه شيء من المكروه. رضي الله عنهما. "وقال أشهب ف يالمجموعة: إذا اشتكى القاضي في أحكامه وميله بغير الحق، فينبغي للإمام أن ينظر في أمره، قل شاكوه أو كثروا، فيبعث إلى رجال من أهل بلده ممن يوثق بهم، فيسألهم عنه سرًا، فإن صدقوا قول الشكاة عزله، ونظر في أقضيته، فيمضي ما وافق الحق، ويرد ما خالفه، وإن قال من سألهم عنه: لم نعلم إلا خيرصا، وهو عدل عندنا، أثبته، وتفقد أقضيته، فما خالف السنة رده، وما وافقها أمضاه، ويحمل على أنه لم يعتمد جورًا، ولكنه أخطأ. ثم قال: وقد عزل عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عن الكوفة بالشكية، وقال: والله لا يسألني قوم عزل أميرهم ويشكونه إلا عزلته عنهم. قال سحنون: وعزل عمر شرحبيل بن حسنة ف قال له: أعن سخطة عزلتي؟ قال: لا، ولكن وجدت من هو مثلك في الصلاح وأقوى على عملك منك، فلم أره يحل لي إلا ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، إن عزلك عيب، ف أخبر الناس بعذري، ففعل عمر. قال أشهب ومطرف: وينبغي للإمام أن لا يغفل عن التفقد لقضاته، فإنهم سنام أمره ورأس سلطانه، فلينظر في أقضيتهم ويتفقدها، وينظر لرعيته في أمورها وأحكامها، وظلم بعضها لبعض، فإن الناس قد دخلوا وصار بعضهم يشبه بعضًا، ليس لبعضهم، من الفضل على بعض، ما يسع الإمام أن يتخلى منهم وأن يكلمهم إلى قضاتهم

الباب الثاني: في جامع آداب القضاء

وكان عمر رضي الله عنه يقدم أمراءه كل عام ويقدم معهم من أهل عملهم رجالاً، فإذا أرادوا [إبدال] عاملهم عزله وأمر غيره. ثم حيكث عزل الإمام قاضيًا، فإن كان لريبة وعن سخطه فحق عليه شهرته وإذاعة سخطه، وإن كان عزله لغير ريبة فليخبر الناس ببراءته إن شاء كما فعل عمر رضي الله عنه بشرحبيل. وإذا مات الإمام الأعظم، فلا بأس أن ينظر قضاته وحكامه حتى يعلموا رأي من بعده. وكذلك القاضي يوليه والي المصر ثم يعزل الوالي، فهو قاض حتى يعزله الذي ولي بعده. ولو مات القاضي وقد استخلف مكانه رجلاً وقال له: سد مكاني ونفذ ما كنت صدرت فيه للقضاء، واقض إلى أن تصرف أو تثبت، فلا قضاء له ولا سلطان. وليس للقاضي أن يستخلف من يقضي بعد موته. المسألة الثالثة: لو قال بعد العزل: قضيت بكذا، لم يقبل كما قبل العزل، بل هو أولى بعدم القبول. ولو شهد مع عدل أنه قضى بكذا لم يقبل حتى يشهد عدلان في حالتي التولية والعزل. الباب الثاني: في جامع آداب القضاء وفيه فصول: الفصل الأول: في آداب متفرقة، وهي عشرة: الأدب الأول: أنه يبتدئ بالكشف عن حال المحبوسين، فيطلق من حبس في ظلم أو في تعزيز وبلغ حده. ثم ينظر في الأوصياء وأموال الأطفال إذ لا رافع لوقائعها إليه. قال أصبغ: ينبغي للقاضي إذا قعد للقضاء أن يأمر بمناد ينادي عنه في الناس: إن كل يتيم لم يبلغ ولا وصي له ولا وكيل، وكل سفيه مستوجب الولاية فقد منعت الناس من متاجرته ومداينته، ومن علم مكان أحد من هؤلاء فليرفعه إلينا لنولي عليه ونحجز. فمن داينه بعد منادي القاضي، أو باع من أو ابتاع، فهو مردود. الأدب الثاني: أن يروي بعد ذلك في ترتيب الكاتب والمزكي والمترجم. قال ابن سحنون: لما ولي سحنون القضاء بعد أن أدير عليه عامًا، وغلظ عليه، وحلف الأمير عليه، وأتى من عزمه عليه ما أخافه وأنصف في قوله، وخاف أن يكون أمرًا لزمه لا

يقوم غيره فيه مقامه، فولي في الثلث من شهر رمضان، فأقم أيامًا بعدما ولي لا ينظر من الناس في شيء يلتمس أعوانًا، ثم قعد في التاسع من الشهر المذكور. وليكن الكاتب عدلاً مرضيًا، قال أصبغ: ويكون مرضيًا مثله أو فوقه، ولا يغيب عنه على كتابه. ويشترط العدد في المزكي والمترجم دون الكاتب. وقال الشيخ أبو إسحاق: إن ترجم عنه واحد أجزأ. واختار القاضي أبو الحسن أنه إن كان الإقرار بمال قبل في الترجمة شاهد وامرأتان. وروى أشهب وابن نافع: يترجم للقاضي رجل ثقة مسلم مأمون. واثنان أحب إلينا، والواحد يجزي. ولا تقبل ترجمة كافر أو عبد أو مسخوطين، ولا بأس أن تقبل ترجمة امرأة إذا كانت عدلاً، وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون مثل ذلك، قالوا: إذا كان ذلك مما تقبل فيه شهادة النساء. الأدب الثالث: أن يتخذ للقضاء مجلسًا قريبًا من الناس، يصل إليه (فيه) الضعيف والمرأة. قال ي الكتاب: "والقضاء والقضاء في المسجد من الحق وهو من الأمر القديم". قال: "وهو إذا كان في المسجد رضي بالدون من المجلس، ووصل إليه الضعيف والمرأة، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس. ولا بأس أن يقضي في رحاب المسجد الخارجة"، بل قد استحب، في رواية مطرف وابن الماجشون، إذ يصل إليه الضعيف والمراة والذمي والحائض. (وقد قال مالك) كان من أدركت من القضاة لا يجلسون إلا في الرحاب خارجًا، إما عند موضع الجنائز، وإما في رحبة دار مروان، وما كانت تسمى إلا رحبة القضاة، وإني لأستحب

ذلك في الأمصار من غير تضيق ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض. وحيثما جلس القاضي المأمون فهو جائز). ولا تقام الحدود في المسجد، وإن جاز أن يعزر فيه الأسواط اليسيرة كالخمسة والعشرة ونحوها. وله أن يتخذ بوابًا وحاجبًا. الأدب الرابع: قال مالك: "وينبغي أن يجعل لجلوسه ساعات من النهار (إلا أني) أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه نهاره كله". (وقال مطرف وابن الماجشون: ولا بأس أن يتخذ القاضي أوقاتًا يجلس فيها للناس، وينظر في ذلك بالذي يرفق به وبالناس، وليس بالمضيق عليه في هذا حتى يصير كالمملوك أو الأجير، قالا: ولا ينبغي له أن يجلس بين المغرب والعشاء، ولا بالأسحار، إلا في الأمر يحدث ويرفع إليه لما لابد له منه، فلا بأس أن يأمر وينهي ويأمر بالسجن ويرسل [الأمين] أو الشرط، أو ما أشبه هذا من الأمر. (قالا: وكذلك قضاؤه في الطريق في ممره إلى المسجد، أو إلى بيته، لا ينبغي ذلك إلا أن يكون أمر عرض له واستغيث (به) ورفع إليه، فلا بأس أن يأمر فيه وينهي، ويأمر بالسجن إذا رآه صوابًا، فأما الحكم الفاصل فلا). وقال فضل بن سلمة: أما أشهب فأجاز أن يجلس القاضي بين المغرب والعشاء، وبعد أذان الظهر، وبعد صلاة الصبح، ما لم يجعله مجلسًا يجبر عليه العامة ولا بأس أن يحكم فيه

على الفداء الفذ شاء أو أبى. وأجاز أن يحكم بين الخصمين في ممره إلى المسجد، وخالفه سحنون. (وقال محمد بن عبد الحكم: لا ينبغي أن يجلس القاضي أيام النحر، ولا يوم الفطر، ولا ما قاربه مما يضر بالناس فيه في حوائجهم مما لابد لهم منه، مثل يوم عرفة والتروية وما أشبه ذلك مما جرى عليه أمر الناس. قال: وكذلك إذا كثر المطر والوحل وأضر ذلك بالطريق ترك الجلوس. وكذلك اليوم الذي يخرج فيه عامة الناس إلى الحج لكثرة من يخرج لتشييعهم. قال: وكذلك يوم يقدمون إن كان الناس يجتمعون فيه في البلد كما يجتمعون فيه بمصر. الأدب الخامس: لا يقضي في حالة غضب ولا جوع، ولا في حالة يسرع إليه الغضب، أو يدهش عن تمام الفكرز. وما حكم به فليكتب به محضرًا يشرح فيه الدعوى والإنكار، واسماء البينة، وأسماء المتداعين وأنساب الجميع، وما يعرفون به، وما حكم به بينهما، ويحفظه في خريطة أو جراب أو غيره، ويختم عليه حتى لا ينسى، ويكتب عليه خصومة فلان وفلان، في شهر كذا من سنة كذا، ويجعل [خصومة] كل شهر على حدة. الأدب السادس: أن يحكم بمحضر عدول ليحفظوا إقرار الخصوم خشية رجوع بعضهم عما يقول. ولو كان ممن يقضي بعلمه لكان أخذه بما لا خلاف فيه أحسن، وليكن حكمه بشهادتهم لا بعلمه. قال أشهب ومحمد: ولا نحب أن يقضي إلا بحضرة أهل العلم ومشاورتهم. قال محمد: وكان عثمان رضي الله عنه إذا جلس أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه. وقال مطرف وابن الماجشون: لا ينبغي للقاضي أن يجلس الفقهاء معه في مجلس قضائه، ولكنه يتخذهم مشيرين إذا ارتفع عن مجلس قضائه أرسل إليهم واستشارهم كفعل عمر رضي الله عنه مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. قال محمد بن عبد الحكم: وليس ينبغي لأحد أن يترك المشاورة، ولا ينبغي له أن يثق بأمر نفسه، ولا يدخل الإمام في ذلك عجب، ولا

يدخله من فعل ذلك استكبار، فغن سلف هذه الأمة وخيار الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون عما نزل بهم، فصعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر يسأل عن الجدة، وكان عمر رضي الله عنه يأتي زيد بن ثابت رحمة الله عليه في أمر الجد وميراثه، وسأل عمر أيضًا عن ميراث المرأة في دية زوجها. ولا يفتي القاضي فيما يختصم إليه فيه، ولا يمتنع من الفتوى في الزكاة والصلاة والطهارة والحج والمحيض وأنواع الفقه غير الخصومات، ولا يجيب من سأله فيما يتعلق بالخصومات، إلا أن يجيب المتفقهين في جميع ذلك. واختار بن عبد الحكم أنه لا بأس أن يجيب ويفتي في كل ما سئل عنه مما عنده فيه علم، واحتج بأن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم كانوا يفتون الناس في نوازلهم. ولا بأس أن يجلس القاضي في مجالس العلم، فيعلم أو يتعلم، كل ذلك حسن. الأدب السابع: أن لا يشتري بنفسه، ولا بوكيل معروف، حتى لا يسامح في البيع. قال محمد بن عبد الحكم: وليس بين شرائه بنفسه وبين توكيله بذلك فرق. قال: ولا يوكل إلا من يأمنه على دينه، لئلا يسترخص له بسبب الحكم وما أشبه ذلك. قال مطرف وابن الماجشون: وينبغي للقاضي أن يتورع عن طلب الحوائج والعواري من الماعون والدابة يريد ركوبها وما أشبه هذا، أو السلف، أو أن يقارض أحدًا، أو يبضع مع أحد. ولا يحضر ولائم الخصمين، ولا ينبغيله أن يحضر ولائم غيرهما الخاصة، فأما العامة، فإن كانت وليمة النكاح حضرها، ثم إن شاء أكل وترك ذلك أحب إلي من غير كراهية، وإن كانت لغير النكاح فأجيز له الحضور وكره، إلا ما كان من جهة ولده أو والده أو شبههما من خاصته. ولا يقبل الهدية ممن له خصوم’ ولا ممن ليست له خصومة، ولو كان ممن يقبلها منه قبل الحكم، أو كافأ عليها أضعافها، إلا من والده أو ولده ومن أشبههم من خاصة القرابة، فإن قبلها [فهي] سحت. قال مطرف وابن الماجشون: ولا ينبغي للقاضي أن يتضاحك مع الناس، ويستحب أن تكون فيه عبوسة من (غير غضب)، وأن يلزم التواضع والتقرب في غير وهن ولا ضعف ولا ترك لشيء من الحق، ولا يرى الناس منزلة لأحد عنده، ولا يدعو إلى أحد في عدالة ولا

شهادة، ولا ينبغي له أن يكثر الداخلون إليه، ولا الركاب معه، ولا المستخلون به في غير ما خاصة كانت منهم به قبل ذلك، إلا أن يكونوا أهل أمانة ونصيحة وفضل في أنفسهم فلا بأس به. وقالا أيضًا: وينبغي للقاضي، (أيضًا)، أن يمنع أهل الركوب معه في غير حاجة ولا رفع مظلمة ولا خصومة، فإن ذلك إذا وافقه كبرت نفسه وعظم عنده سلطانه، ويحسب القاضي من معرفة الرجل بحال قبيحة أن يصحبه في غير حاجة ولا رفع مظلمة ولا خصومة، وحق عليه أن يمنع من ذلك، لأنهم إنما يلزمون ذلك لاستنكال الناس به، واختداعهم عليه بإظهار المنزلة عنده. قالا: وينبغي للقاضي أن يتقدم إلى أعوانه والقوام عليه في الخرق والشدة على الناس، ويأمرهم بالرفق واللين والق ب منهم في غير ضعف ولا تقصير عن شيء مما ينبغي ولو كان يستغني عن الأعوان أصلاً كان ذلك أحب إلينا، إلا أن يضطر فيخفف منهم ما استطاع. الأدب الثامن: قال مطرف وابن المجاشون: إذا شتم أحد الخصمين صاحبه عند القاضي أو أسرع إليه بغير حجة، مثل قوله: يا ظالم، يا فاجر، ونحو هخذا، فعليه أن يزجره (عنه)، (ويضرب) على (مثل) هذا، ما لم تكن فلتة من ذي مروءة، فيتجافى عن ضربه، حتى يكون جلوسهما عنده بسمت ووقار، فإنه (من) م ينصف الناس في أعراضهم لم ينصفهم في أموالهم. (قالا: (و) ينبغي للقاضي إن لمزه أحد الخصمين بما يكره أن يعزره، والأدب في مثل هذا عندنا من العفو عنه. وليخف الناس بلزوم الحق واتباعه. قال محمد بن عبد الحكم: وإن قال له الخصم: اتق الله في أمري وأذكرك الله، أو ما أشبه هذه الأفلاظ، فلا يعظم ذلك عليه، ولا يغلظ في القول، ولا يضرب عن سماع حجة إن ظهرت له، بل ينبغي له أن يثبت ويجيبه بجواب لين كقوله رزقني الله تقواه، وما أمرت إلا بخير، وإنه يجب علي وعليك أن نتقي الله، ويبين له من أين يحكم عليه، ويقول: إني أرى من تقوى الله أن آخذ منك الحق إذ بان، أو يقوله له: لولا تقوى الله ما حكمت عليك، وشبه هذا. قال: وأحب أن يجعل القاضي رجالاً من إخواته، يثق

بدينهم ويصدقهم ومعرفتهم، يخبرونه بقول الناس فيه من أخلاقه وما ينكرونه عليه، وإنكار حكم إن حكم به فأنكروه، وشاهد إن أجازه أو طرحه فأنكروه. فإذا أخبروه بذلك سأل عن ذلك وفحص واستقصى فيه، فإن ذلك قوة له على أمره إن شاء الله). وإذا ظهر للقاضي كذب الشاهد عزره على الملإ، ونادى عليه، ورأى القاضي أبو بكر أن يسود وجهه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا صح على رجل أنه يشهد بالزور، وأنه يأخذ على شهادته الجعل ويشهد، رأيت أن يطاف به، ويشهر في المجالس والخلق، وحيث ما يعرفه جماعة الناس، ويكتب بذلك القاضي عليه كتابًا يشهد فيه وينسخه نسخًا، ويستودعه من يثق به في دينه وأمانته، ويضربه مع ذلك ضربًا موجعًا، ولا يحلق له رأسًا ولا لحية. قال: ولست أرى أن تجوز له شهادة أبدًا إذا كان ظاهر العدالة حين يشهد، لأن هذا منه رياء ليس على الديانة، وهذا لا تكاد تعرف توبته. الأدب التاسع: قال مطرف وسحنون: لا يقضي لولده ولا لأحد ممن لا تجوز شهادته له. وقال أصبغ في كتابه: يجوز حكمه للجميع. وقال ابن الماجشون: يجوز للجميع إلا لزوجته ويتيمه الذي يلي ماله، ولا يتهم في الحكم كما يتهم في الشهادة. وقال أصبغ أيضًا مثل قول مطرف: إذا قال: ثبت له عندي، ولا يدري أثبت أم لم يثبت، ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرة بحق بين فحكمه له جائز، ما عدا زوجته وولده الصغير، ويتيمه الذي يلي ماله، لأن هؤلاء كنفسه. ولا يقضي على عدوه، بل يحيل على غيره. الأدب العاشر: إنه لا ينقض قضاء غيره إذا كان عدلاً عالمًا ولا يتعقب أحكامه إلا إذا خالف قاطعًا، فإنه ينقض ما خالف فيه القاطع من أحكامه. فأما القاضي العدل الجاهل المتحري، فإنه يتعقب أحكامه، فما وافق الحق نفذه، وما خالفه رده. وأما القاضي الجائر المتعسف، فلا يتعقب له حكمًا، وليبتدئ النظر فيما حكم فيه مما وقع إليه، ولا ينظر إلى سجله، لأنه لابد أن يتحلى فيه بالعدل. وقال أصبغ: يتصفح أحكامه أيضًا، فما كان صوابًا أمضى. قال أبو القاسم بن محرز: والمعروف لابن الماجشون في المجموعة والمبسوط مثل مذهب أصبغ: أنه لا يرد من أقضية إلا ما عرف فيه جور. قال:

وكذلك قال سحنون في كتاب ابنه في القاضي يعزل على جور. فروع: الفرع الأول: في تمييز الحكم عما ليس بحكم. وما قضى به الحاكم من نقل الأملاك وفسخ العقود ونحو ذلك، فلا شك في كونه حكمًا. فأما إن لم يكن تأثير القاضي في الحادثة أكثر من إقرارها لما رفعت إليه، مثل أن يرفع إليه نكاح امرأة زوجت نفسها بغير ولي، فأقره وأجازه، ثم عزل وجاء غيره، فهذا ما اختلف فيه: فقال ابن الماجشون: ذلك ليس بحكم، ولمن يأتي بعده أن يفسخه. وقال ابن القاسم: طريقة طريق الحكم، وإمضاؤه والإقرار عليه كالحكم بإجازته، ولا سبيل إلى نقضه. واختاره أبو القاسم بن محرز قال: لأنه حكم في عين (باجتهاده)، ولا فرق بينة أن يكون حكمه بإمضاء أو فسخ. وأما لو رفع هذا النكاح إلى قاضي فقال: أنا لا أجيز النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بعينه، فإن هذا ليس بحكم، ولكنه فتوى، ويكون لمن يأتي بعده أن يستقبل النظر فيه. وكذا لو رفع إليه حكم بشاهد ويمين، فقال: أنا لا أجيز الشاهد واليمين مطلقًا، هكذا، لكان سبيل ذلك سبيل الفتوى ما لم يوقع حكمه على عين الحكم. قال: (وما) أعلم في هذا الوجه اختلافًا. وإن كان حكم الأول باجتهاد فيما طريقه التحليل والتحريم، ليس نقل ملك من أحد الخصمين إلى الآخر، ولا فصل خصومة بينهما، ولا إثبات عقد بينهما ولا فسخه، مثل أن يرفع إلى قاض رضاع كبير، فحكم بأن رضاع الكبير يحرم ويفسخ النكاح من أجله، ف القدر الذي ثبت من حكمه هو فسخ النكاح فحسب، وأما تحريمها عليه في المستقبل فإنه لا يثبت بحكمه، بل يبقى (ذلك) معرضًا للاجتهاد فيه. وكذلك لو رفع إليه حال امرأة نكحت في عدتها ففسخ نكاحها وحرمها على زوجها، لكان القدر الذي ثبت من حكمه فسخ النكاح فحسب، وأما تحريمها في المستقبل فمعرض للاجتهاد. ومن هذا الوجه أن يحكم بنجاسة ماء أو طعام أو شراب، أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة، فإنه لا يثبت حكم في ذلك الجنس من العقود ولا المبايعات على التأييد، وإنما له أن يعين من ذلك ما شاهده وما حدث بعد ذلك، فهو معرض لمن يأتي من الحكام والفقهاء. الفرع الثاني: في نقض القاضي أحكام نفسه.

وإذا ظهر له أنه أخطأ فيما حكم به فلينقض قضيته، وإن كان قد أصاب قول قائل من أهل العلم. قال سحنون: إن كان الحكم مختلفًا فيه، وله هو فيه رأي فحكم بغيره وهلاً وسهوًا، فله نقضه، وليس لغيره نقضه، وإن كان قد رأى بعد الحكم رأياً سواه لم ينقضه، بل يأتنف رأيه ل [في] ذلك، فيما يستقبل. وقسم أبو القاسم بن محرز حال القاضي [إلى] أربعة أقسام. القسم الأول: أن يخالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع، فهذا يفسخه هو وغيره. القسم الثاني: أن يقصد إلى الحكم بمذهب فيصادق غيره سهوا، فهذا يفسخه هو دون غيره، إذ ظاهره الصحة لجريانه على مذهب بعض العلماء، ووجه غلطه لا يعرف إلا من قوله. إلا أن تشهد بينة أنها علمت قصده إلى الحكم بغيره فوقع فيه، فينقضه من بعده، كما ينقضه هو. القسم الثالث: أن يجتهد فيظهر له الصواب في غير ما حكم به من طريق الاجتهاد، أيضًا فمذهب ابن القاسم وغيره أنه يرجع إلى ما ظهر له ويفسخ الأول. ومذهب عبد الملك بن الماجشون وسحنون وغيرهما، أنه لا يجوز له فسخه. قال أبو القاسم: وهذا أقوى من الأول لجواز تغير رأيه الثاني أيضًا والثالث، ولا يقف إلى حد، وشبهة بالمجتهد في القبلة إذا تحقق الخطأ، أو تغير اجتهاده بعد الصلاة. وكذلك قال محمد بن مسلمة في المبسوط: لو أن سلطانًا قضى برأيه في أمر لم يخالف فيه السنة التي لا شك فيها، والقرآن الذي لا يختلف في تأويله، مضى ذلك ولم يرد. ولم ينبغ له، ولا السلطان غيره، إذا كان قد مضى ذلك، أن يرده، وإن رأى أن غير ذلك أصوب منه لأنه لا يرد رأي إلى رأي. القسم الرابع: أن يحكم بالظن والتخمين من غير قصد إلى الاجتهاد في الأدلة، فذلك باطل، لأن الحكم بالتخمين فسق وظلم وخلاف للحق. ويفسخ هذا الحكم هو وغيره، إذا ثبت عند الغير أنه على هذا حكم. الفرع الثالث: قال مطرف: إذا حكم القاضي بفسخ قضية ولم يذكر أنه رجع عن القضية الأولى لما رآه أحسن، ولا فسر وجه فسخه، فليس ذلك يفسخ إذا كان الأول صوابًا غير مختلف فيه، حتى يلخص ما أوجب فسخه ويرجع إلى ما هو أحسن منه، إلا أن يقول: تبين لي أن الشهود شهودًا بزور، فإن ذلك يكفيه. وقاله ابن نافع. وقال ابن الماجشون: إشهاده لي أن الشهود شهودًا بزور، فإن ذلك يكفيه. وقاله ابن نافع. وقال ابن المجشون: إشهاده لي أن الشهود شهودًا بزور، فإن ذلك يكفيه. وقاله ابن نافع. وقال ابن الماجشون: إشهاده على الفسخ يكفيه إن كان مأمونًا، ولو لم يقل: إلا أني رجعت عن الحكم الأول لكان رجوعًا،

الفصل الثاني: في مستند قضائه

ثم هما على خصومتهما، لو قال مع ذلك: قد قضيت للآخر لم يجز قضاؤه وصح الفسخ، لأنه لا يقضي إلا بعد الإعذار إلى المقتضي عليه وضرب الآجال [له] وقاله أصبغ: وإنما الفسخ الذي لا يكون شيء احتى يلخص ما رد به القضية إذا فسخ حكم غيره، فهذا لا يكون إشهاده بالفسخ ماضيًا حتى يبين وجه فسخه، ولم يختلفوا في هذا. الفرع الرابع: إن القضاء، وإن لم ينقض، فلا يتغير به الحكم في الباطن، بل هو على المكلف على ما كان قبل (قضاء) القاضي، (وإنما القضاء إظهار لحكم الشرع لا اختراع له، فلا تحل للمالكي شفعة الجوار أن قضى له بها الحنفي، ولا يحل لمن أقام شهود زور على نكاح امرأة، فحكم له القاضي، لاعتقاد عدالتهم، بنكاحها وإباحة وطئها، أن يطأها ولا أن يبقى على نكاحها). الفصل الثاني: في مستند قضائه وإنما يقضي بالحجة. (قال محمد بن عبد الحكم: يقضي القاضي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة رسول اله صلى الله عليه وسلم قضى بما قضى به أصحابه رضوان الله عليهم، فإن لم يكن ي الحادثة شيء من هذا ولا إجماع من

المتقدمين اجتهد رأيه بعد ذلك، ومثل الأشياء بعضها ببعض من النظائر والأشباه، وشارو ثم حكم. وإذا أشكل على القاضي الأمر، ولم يتبين له شيء يحكم به فيه تركه أبدًا، لا يحكم في شيء وفي قلبه منه شك ولا ريب). قال سحنون في كتاب ابنه: إذا كانت شبهة وأشكل الأمر، فلا بأس أن يأمرهما بالصلح. وقال مالك في كتاب محمد في بعض المسائل: لو اصطلحا. ولا يقضي القاضي بعلمه في المدعى به بحال، سواء علمه قبل التولية أو بعدها، في غير مجلس قضائه، أو فيه قبل الشروع في المحاكمة أو بعده. وقال عبد الملك وسحنون: يحكم بما علم بعد الشروع في المحاكمة. فرع: فإن حكم بعلمه حيث قلنا: لا يحكم، فقال القاضي أبو الحسن: "لا ينقض عند بعض أصحابنا". قال: "وعندي أنه ينقض". ولو أنكر الخصم بعد الحكم عليه وقال: ما كنت أقررت، ففي قبول حكم الحاكم عليه في ذلك خلاف. وقال أبو إسحاق التونسي: لم يذكر في كتاب محمد خلافًا فيما رآه القاضي أو سمعه في غير مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به ينقضه هو وغيره، وإنما الخلاف فيما يتقاضى به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به فينقضه هو ولا ينقضه غيره. وعبد الملك وسحنون يريان أنه يحكم به مثل قول أهل العراق للضرورة إلى ذلك، كما استعمل علمه في عدالة البينة وتجريحها، ويحكم بعلمه في ذلك. وقال أبو الحسن اللخمي: "قد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر، فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه. وقال عبد الملك وسحنون: يحكم، ورأيا أنهما إذا جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصدا، فإن لم ينكر حتى حكم، ثم أنكر بعد الحكم، وقال: ما كنت أقررت ب شيء، ولم ينظر إلى إنكاره، قال: وهذا هو المشهور من المذهب". وقال ابن الجلاب "إذا ذكر الحاكم أنه حكم في أمر من الأمور وأنكر المحكوم عليه لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة". قال أبو الحسن اللخمي وهو أشبه في قضاة اليوم لضعف عدالتهم. وقال أيضًا: "ولا أرى أن يباح هذا، اليوم لأحد من القضاة".

الفصل الثالث: في التسوية

ولا خلاف في اعتماد القاضي على علمه في الجرح والتعديل، فإذا علم فسق الشاهد أو كذبه وقف عن القضاء، ويغنيه علمه بعدالة الشهود عن المزكين. وأما الخط فلا يعتمده إذا لم يتذكر، كما ذكر القاضي أبو محمد. وحكى الشيخ أبو عمر رواية، أنه لا يلتفت إلى البينة بذلك ولا يحكم بها. ولو شهد الشاهدان على قضائه عند غيره لحكم بشهادتهما ونفذ قضاؤه. قال ابن حبيب: أخبرني أصبغ عن أبن وهب عن مالك في القاضي يقضي بقضاء ثم ينكره، فيشهد عليه به شاهدان، فلينفذ ذلك، وإن أنكره الذي قضى به، معزولاً كان أو لم يعزل. الفصل الثالث: في التسوية وليس بين الخصمين في المجلس، والنظر، وجواب السلام، وأنواع الأكرام. والمسلم والذمي في ذلك سواء. وله، في قول، أن يرفع المسلم على الذمي في المجلس. فإذا استقر بهما المجلس، فإن بدر أحدهما بالدعوى (طالب) الآخر بالجواب، فإن أقر ثبت الحق، وإن أنكر قال المدعي: ألك بينة؟ فإن قال: لا بينة لي واستحلفه، ثم جاء ببينة سمعت، على إحدى الروايتين، ولم تسمع على الرواية المشهورة، إلا أن يظهر له عذر من نسيان أو غيره. قال محمد بن عبد الحكم: وإن لم يبدر واحد منهما، سألهما: من الطالب منكما؟، فإذا

الفصل الرابع: في التزكية

عرفه سأله عما يدعي، وأمر المدعي عليه ألا يتكلم حتى يفرغ المدعي من كلامه، ثم يسأله: أيقر أم ينكر، فإن أقر قال للطالب: أشهد على إقراره إن شئت لئلا يرجع عنه. فإن تنازعا في تعيين المدعي، فإن ادعى كل واحد (منهما) أنه هو، نظر إلى الجانب منهما لصاحبه، فإن لم يعرف أمرًا بالانصراف، فمن أبى إلا المحاكمة فهو المدعي، فإن أبيا أقرع بينهما، وإن قال كل واحد منهما لصاحبه: أنت المدعي، أمرا بالانصراف، أيضًا، حتى يأتي أحدهما فيكون المدعي. ثم حيث تعين المدعي وتمت حجته، وانتهت حجة المدعى عليه، فأراد الحكم عليه، فليقل له: أبقيت لك حجة؟ فإن قال: لا، حكم عليه. قال محمد: وإن قال: نعم، وقد تبين للقاضي أن حجته نفذت وهو في طريق اللدد، فإنه يضرب له أجلاً غير بعيد، فإذا تبين لدده أنفذ الحكم [عليه] ولو ادعى بينة بعيدة مثل أن يقول: بالعراق أو مصر، فإنه يقضي عليه، متى (جاءت ببينة) فهو على حجته عند هذا القاضي وعند غيره، وينبغي له أن يذكر في القضية أنه زعم أن له بينة غائبة على بعد من البلاد. فمتى حضرت شهوده كان على حجته. فرع: لو حكم عليه بعد قوله: إنه لا حجة له، ثم أتى بحجة، مثل أن يأتي بشاهد آخر عند من لم يحكم بشاهد ويمين، أو يأتي بينة لم يعلم بها، فجعل ذلك له في الكتاب. وقال محمد: إنما ذلك إذا كان هو القاضي بنفسه، وأما غيره فلا. وقال سحنون: لا يقبل منه وإن كان لذلك وجه. قال أبو إسحاق التونسي: والأشبه ما في الكتاب، وإن غيره من القضاة ينظر في ذلك. وإذا تزاحم المدعون قدم السابق، فغن تساووا أقرع بينهم. ولا يقدم الشرف ولا لغيره إلا المسافر المستوفز إن رأى في تقديمه مصلحة، وما يخشى فواته. وينبغي له أن يفرد للنساء يومًا، أو وقتًا من كل يوم. وكذلك يفعل المفتي والمدرس عند التزاحم. الفصل الرابع: في التزكية ومن كان مشهورًا بالعدالة والفضل لم يسأل عنه، وأجاز شهادته وكذلك من عرفَهُ بِجُرْحّةَ أو كان مشهورًا بذلك، فإنه يرد شهادته. وإنما يجب عليه الاستزكاء مهما شك وإن

سكت الخصم. إلا أن يقر بعدالتهما. وليكتب للمزكين أسماء الشاهدين والخصمين فلعلهم يعرفون بينهم عداوة. وقال محمد بن عبد الحكم: ويجعل أصحاب مسائل يسألون عن الشهود، وأحب له أن لا يعرفوا. وإذا أخرج أسماء الشهود لأصحاب المسائل كتب أسماء الشهود، واحتاط بالأسماء والأنساب والكنى والصفة والتحلية والصناعة والقبائل، والخضاب إة كان يخضب، والمنازل لئلا يوافق إسم إسمًا أو نسب نسبًا، ويكتب لهم لمن شهدوا، وعلى من شهدوا، لئلا يسألوا عنهم من شهدوا له أو عليه. (قال مطرف وابن الماجشون: ولا يجتزأ بتعديل العلانية دون تعديل السر، وقد يجتزئ بتعديل السر دون تعديل العلانية). وقال أصبغ: وليكن التعديل سرًا وعلانية. ولا أحب أن يجتزئ بتعديل العلانية دون تعديل السر. قال مالك: "ولا أحب أن يسأل في السر أقل من إثنين" إلا في مثل (الفائقين) في العدالة والعلم بالتعديل. (قال سحنون: ولا يقبل تعديل الأبله، وليس كل من تجوز شهادته يجوز تعديله، ولا يجوز في العدالة إلى المميز النافذ الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يستزل في رأيه). ويشترط في المزكي أن يكون خبيرًا بباطن من يعدله بطول المحنة والمعاشرة، ولا يحتزي باليسير من ذلك. قال مالك: "والرجل يصحب الرجل شهرًا فلا يعلم منه إلا خيرًا لا يزكيه بهذا، وهو

كبعض من يجالسك، وليس هذا باختيار. ويقال أيضًا: كان يقال لمن مدح رجلاً: أصحبته في سفر؟ أو خالطته في مال؟. وقال سحنون: يزكيه من يعرف باطنه كما يعرف ظاهره ممن صحبه الصحبة الطويلة، وعامله بالأخذ والعطاء. قال ابنه عنه: في السفر والحضر، فإذا عرف منه اجتناب الكذب والكبائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة زكاة". فروع: الفرع الأول: إن التعديل من جيران الشاهد، وأهل سوقه، وأهل محلته مقبول، ولا يقبل من غيرهم، لأن توقفهم على تعديله، مع كونهم أقعد به وأعلم ريبة في عدالته، إلا أن لا يكون فيهم عدل فيقبل من غيرهم من سائر بلده. الفرع الثاني: في صفة المزكي. (وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: لا يجوز تعديل الرجل وإن كان عدلاً حتى يعرف وجه التعديل. ورواه مطرف. وفي الكتاب: "لا يجوز أن يكون (المعدلان) غير معروفين عند الحاكم إذا كان شاهد الأصل من البلد، وإن كان غريبًا جاز". الفرع الثالث: إن الجرح يسمع في الرجل المتوسط العدالة، ويسمع أيضًا في المبرز المعروف بالصلاح والفضل من باب العداوة أو الهجرة أو القرابة وما أشبه ذلك. واختلف هل يقبل تجريحه من وجه القدح في العدالة، فمنعه أصبغ. وأجازه سحنون، وقال: يمكن من التجريح فيه، ولا يفرق بين وجوه التجريح. الفرع الرابع: وهو مرتب إذا قبل تجريحه، فقال سحنون: لا يقبل ذلك إلا من الرجل المميز العدالة. وقال أصبغ: لا يمكن الخصم من جرحة العدلين الفائقين بالعدالة بجرحه الإسقاط إن ادعى ذلك، إلا بجرحة عداوة أو هجرة، فقد يكون ذلك في الصالح والبارز. وقال ابن الماجشون: يجرح الشاهد من هو مثله وفوقه، ولا يجرحه من هو دونه إلا بالعداوة والهجرة. وأما القدح في العدالة فلا.

(وقال محمد بن عبد الحكم: إذا كان الرجل مبرز العدالة لم يقبل جرحه، إلا أن يكونوا معروفي العدالة وأعدل منه، (ويذكرون) ما جرحوه به مما يثبت بالكشف، ولا يقبل تجريحه إلا بأهل العدالة البينة. وقال مطرف: يجرح الشاهد بمن هو مثله وفوقه ودونه بالإسقاط والعداوة إذا كان عدلاً عارفاً بوجه التجريح. قال أبو الحسن اللخمي: "وهذا أحسن، لأن الجرح يكتمه الإنسان من نفسه، فيطلع عليه بعض الناس، وهي شهادة وعلم عنده يؤديه مثل سائر الشهادات". الفرع الخامس: قال ابن كنانة في المجموعة: لا ينبغي للحاكم أن يسأل عن الشاهد في التجريح قبل تعديله، ولا يقبل الجرح فيمن لم تثبت عنده عدالته، فإذا عدل الشاهد قال الحاكم للمطلوب: جرح، وإلا حكمت عليك. وروى أشهب فيها: لا يقول للمطلوب: دونك فجرح، وفي ذلك توهين للشهادة. وقال ابن نافع: أرى أن يقول له ذلك ويمكنه منه، وقد يكون العدل عدوًا للمشهود عليه. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يحكم على الخصم، جاهلاً كان أو عالمًا، حتى يطلبه بجرحه من شهد عليه ويؤجله في ذلك، فإن عجز حكم عليه، وذكر ذلك في كتاب حكمه عليه. الفرع السادس: في التجريح سرًا. في المجموعة: قيل لابن القاسم: أيجرح الشاهد سرًا وقد يقول: من يجرحه: أكره عداوة الناس؟، قال: نعم، إذا كانوا أهل عدالة. وقال سحنون مثله، وذكر في موضع آخر: إن المشهود له إذا سأل القاضي أن يخبره بمن جرح شاهده أن عليه أن يخبره بذلك. الفرع السابع: في لفظه التزكية. وليجمع المزكي في لفظه بين [ذكر] العدالة والرضا، فيشهد أنه عدل رضا، ولا يقتصر على أحد الوصفين. (قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: ويجزيه أن يقول: أراه عدلاً رضا رضا، وليس عليه أن يقول: هو عدل رضا عند الله، تعالى ولا أن يقول: أرضاه علي ولي. ورواه أشهب. [وروى] ابن كنانة: التعديل أن يقول: أعرفه وأعلمه عدلاً رضا جائز الشهادة. ولا

يقبل منه إذا قال: لا أعلمه إلا عدلاً رضا. قال سحنون: ولا يقبل منه حتى يقول: إنه عدل رضا)، ولا يجب ذكر سبب العدالة. واختلف في ذكر سبب الجرح، فقيل: يجب، وقيل: لا يجب. وفرق مطرف وابن الماجشون باعتبار حال الشاهدين، فأوجباه إذا كانا غير عارفين بوجوه التجريح، ولم يوجباه إذا كانا عالمين بذلك. واعتبر أشهب حال الشاهد، فأوجب ذكر سبب الجراح إذا كان مشهور العدالة، ولم يوجبه إذا كان غير مشهورها، وإنما قبل بالتزكية. الفرع الثامن: إذا ارتاب القاضي بعد التزكية لتوهم غلط الشاهد، فليبحث ويسأل عن التفصيل، فربما يختلف كلام الشاهد، فإن أصر على إعادة الكلام الأول أمضاه. وعلى القاضي أن يحكم بعد البحث استصحابًا للعدالة. الفرع التاسع: بينة الجرح مقدمة على بينة التعديل. وقيل: يقدم الأرجح منهما. واختار أبو الحسن تفصيلاً، فقال: "إن تقابلت البينتان في مجلس واحد قدم الأرجح، وإن (كانتا) في مجلسين متقاربين قدمت بينة الجرح، وإن تباعد ما بين المجلسين قضى بالأخيرة منهما، كان جرحًا آو تعديلاً". وقول واحد في الجرح لا يقابل بينة التعديل، إلا أن يكون مقامًا من جهة الحاكم للكشف عن ذلك فيخبره عن عدلين فأكثر، ولا يجوز الجرح والتعديل بالتسامح. الفرع العاشر: في تكرير التزكية. (وفي المجموعة من رواية أشهب، في الرجل يشهد فيزكي، ثم يشهد ثانية: إن شهادته تقبل بالتزكية الأولى، وليس الناس كلهم سواء، منهم المشهور العدالة، ومنه من يغمص فيه بعض الناس). وقال سحنون: "إذا عاد المزكي فيشهد مرة أخرى رجع المزكي ثانيًا وثالثًا حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته فيقبل بغير تزكية". وقال الشيخ أبو الوليد: "هذا

الباب الثالث: في القضاء على الغالب

استحسان من سحنون، حتى لو مات المزكيان الأولان أو غابا، ولم يوجد غيرهما، وجب الحكم بتعديلهما الأول". (وروى ابن حبيب عن مالك ومطرف وابن الماجشون: لا يحتاج إلى إعادة المزكي إلا أن يغمز فيه ب شيء أو يرتاب فيه. وقال ابن كانة: لا يحتاج إلى الإعادة في المشهور العدالة في تزكيته). وقال محمد بن عبد الحكم: أحب أن يعيد القاضي من الشهود في المسألة من إنما يعدل بالمسألة عنه في كل سنة أو أقل، ليس في ذلك حد على قدر الاجتهاد. الباب الثالث: في القضاء على الغالب، وهو نافذ ويتعلق النظر فيه بأركان: الركن الأول: الدعوى، ولتكن معلومة، أعني جنس المدعى به وقدره، ولتكن مع المدعي بينة. الركن الثاني: المدعي، ويحلفه القاضي بعد البينة على عدم الإبراء، والاستيفاء والاعتياض والإحالة والاحتيال والتوكيل على الاقتضاء في جميع الحق ولا في بعضه، ولا يجب التعرض في اليمين لصدق الشهود. وقال الشيخ أبو إسحاق: يقول في آخر اليمين: وإنه لحق ثابت [له] عليه إلى يومه ذلك. الركن الثالث: في كيفية إنهاء الحكم إلى القاضي الآخر، وذلك بالإشهاد والكتاب والمشافهة. أما الإشهاد فبأن يشهد شاهدان على تفصيل حكمه. قال سحنون: ولو أشهد على كتابه وخاتمه رجلاً وامرأتين جاز فيما تجوز فيه شهادة النساء. ويستحب أن يكتب ذلك في كتاب مختوم، والاعتماد على الشهادة، فلو شهد بخلاف ما في الكاتب جاز إذا طابق الدعوى، ولو شهد بما فيه وهو مفتوح بغير ختم لجاز أيضًا. ولو قال القاضي: أشهدتكما على أن ما في الكتاب خطي، كفى ذلك على إحدى الروايتين. وكذلك لو قال: ما في الكتاب حكمي. وكذلك لو قال المقر: أشهدتك على ما في القبالة وأنا عالم به،

كفى، حتى إذا حفظ الشاهد القبالة وما فيها، وشهد على إقراره، جاز أيضًا على إحدى الروايتين، ووجه الجواز أن الإقرار بالمجهول صحيح. ثم للشاهد على الحكم أن يشهد عند المكتوب إليه وعند غيره، وإن لم يكتب القاضي ي كتابه: إلى من يصل إليه من القضاة، وكذلك يشهد، وإن مات المكتوب إليه والكاتب. ولتكن عدالة شهود الكتاب ظاهرة عند المكتوب إليه، ولا يكفي تعديلهما في ذلك الكتاب الذي إنما يثبت بشهادتهما. وليذكر في الكتاب اسم المحكوم عليه واسم أبيه وجده وحليته ومسكنه وصناعته أو تجارته وشهرة إن كانت له بحيث يتميز بذلك. فإن كان في ذلك البلد رجل يلائمه ي ذلك كله لم يحكم له حتى يأتي ببينة، تعرف أنه المحكوم عليه بعينه. ولو كان أحد المتلايمين قد مات لم يستحق على الحي منهما ما في الكتاب حتى تشهد البينة أنه الذي استحق عليه، إلا أن يطول زمان الميت، ويعلم أنه ليس هو المراد بالشهادة لبعده، فيلزم الحي. وأما الكتاب المجرد من غير شهادة على القاضي فلا أثر له. قال ابن القاسم وابن الماجشون: ولابد من شهود بأن هذا الكتاب كتاب فلان القاضي. وزاد أشهب: ويشهدون أنه أشهدهم عليه، وروى ابن وهب: ويشهدون أنه أشهدهم بما فيه. وقال ابن نافع عن مالك: كان من الأمر القديم إجازة الخواتم حتى إن كان القاضي ليكتب للرجل بالكتاب إلى القاضي، فما يزيد على ختمه فيجاز له، حتى أحدث عند اتهام الناس الشهادة على خاتم القاضي: أنه خاتمه. وقال ابن كنانة: كان إذا جاء كتاب من قاضي مكة إلى قاضي المدينة أنفذه بغير بينة، ثم نظر أهل العلم في ذلك، فخافوا أن تملك الأموال وتستحل الفروج بغير بينة، فألزموا الناس البينات على الكتب التي يأتي من كورة إلى كورة، وإذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضي المدينة قبلوه بغير بينة يجتزئون في ذلك بمعرفة الخط والخواتم والجواب، إذا كان ذلك في الحقوق اليسيرة. وكذلك قال عبد الملك نحو هذا، ولم يذكر ما قال ابن كنانة في الحقوق اليسيرة. وأما الشفاهة، ف لو شافه القاضي قاضيًا آخر لم يكف، لان أحدهما في غير محل ولايته، فلا ينفع سماعه أو إسماعه، إلا إذا كانا قاضيين لبلدة واحدة، أو تناديا من طرفي ولا يتهما، فذلك أقوى من الشهادة فيعتمد. ولو كان المسمع في محل ولايته دون السامع ورجع السامع إلى محل ولايته فهي كشهادة يسمعها في غير محل ولايته، فلا يحكم بها إذ لا يحكم بعلمه. ولو اقتصر القاضي على سماع البينة على الغائب وكتب إلى قاض آخر حتى يقضي

المكتوب إليه جاز مهما ذكر أسماء شهود الواقعة وعلى المكتوب إليه أن يبحث على عدالة الشهود، وكأن الأول ناب عنه في سماع البينة فقط، فعليه هو التعديل والحكم، ولو كتب الأول عدالتهما وأشهد عليه جاز ذلك. ثم إن ادعى الخصم جرحًا فليظهره ويمهل، فإن قال: لا يمكن جرحهم إلا في بلدهم فلا يمكن منه، بل يسلم المال، ثم إن ظهر الجرح استرد. فرع: إذا ورد كتاب قاض على قاض، فإ عرفه بأنه أهل للقضاء قبله. قال في المجموعة: إذا كتب قاض إلى قاض، فإن ثبت عنده أن الذي كتب إليه مستحق للقضاء في فهمه ومعرفته بأحكام من مضى وآثارهم مع فضله ودينه وورعه وانتباهه وفطنته، وغير مخدوع في عقله، فليقبله، وإن عرفه بأنه ليس بأهل لذلك لم يقبله. قال أشهب في رواية سحنون عنه: إذا كتب إليه غير العدل أن بينة فلان ثبتت عندي، فلا يقبل كتابه، لأنه ممن لا تجوز شهادته. وإن لم يعرف حاله، فروى ابن حبيب عن أصبغ: إن جاءه بكتاب قاض لا يعرفه بعدالة ولا سخطه، فإن كان من قضاة الأمصار الجامعة، مثل المدينة ومكة والعراق والشام ومصر والقيروان والأندلس، فلينفذه وإن لم يعرفه، وليحمل مثل هؤلاء على الصحة. وأما قضاة الكور الصغار، فلا ينفذه حتى يسأل عنه العدول وعن حاله. الركن الرابع: المحكوم به، وذلك لا يخفى في الدين، وكذلك العقار الذي يمكن تعريفه بالحد، إذا قلنا: قضي على الغائب في العقار، إما لبعد الغيبة، أو مطلقًا على الرواية الأخرى. أما العبد والفرس وما يتميز بعلامة، فقال ابن القاسم وسحنون: يحكم فيه بذلك إن كان غائبًا. وقال ابن كنانة: إن كان العبد لا يدعي الحرية ولا يدعي أحد ملكه حكم فيه بالصفة، وإن كان يدعي الحرية أو يدعيه من هو في يده فلا يحكم فيه بذلك. الركن الخامس: المحكوم عليه، وشرطه أن يكون غائبًا عن البلد. واشترط محمد بن عبد الحكم أن يكون له بالبلد الذي يحكم عليه فيه مال أو حميل أو وكيل. قال: إذ لم يول الحكم على جميع الناس، إنما ولي على أهل بلد خاص، قال: ولكن ينقل [الشهادات] إلى غيره من القضاة. وإذا كان المدعى عليه في البلد فقال سحنون: لا تسمع البينة دون حضوره، إلا أن يتوارى أو يتعذر فيقضي عليه كالغالب. وقال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: العمل عندنا أن يسمع القاضي بينة الخصم ويوقع شهاداتهم، حضر الخصم أو لم يحضر، فإذا حضر قرأ عليه الشهادة، وفيها أسماء الشهود وأنسابهم ومساكنهم، فإن كان عنده لشهادتهم مدفع، أو

لعدالتهم مجرح أطرده ذلك، وإلا لزمه القضاء. وإن سأله أن يعيد عليه البينة حتى (يشهدوا) بمحضره فليس ذلك له، ولا ينبغي للقاضي أن يجيبه إلى ذلك. ولو سأله الخصم بدءا ألا يسمع من بينة صاحبه إذا أتى بها إلا بمحضره، فإن خشي القاضي عليه في ذلك دلسة أو استرابة ورأى أن اجتماعهم أجمع للفصل وأبرأ من الدخل فليجبه، وإن أمن فلا يجبه، فإن أجابه، حين سأله ذلك من غير شيء خافه عليه، فليمض له ذلك، لاختلاف الناس فيه، فقد قال بعض العراقيين: لا يكون إيقاع الشهادة إلا بمحضر الخصم المشهود عليه. قال ابن حبيب: وقال مطرف وأصبغ مثله. وقال فضل بن سلمة: سحنون لا يرى إيقاع الشهادة إلا بمحضر الخصم، إلا أن يكون الخصم غائبًا غيبة بعيدة. واختتام البا بذكر فروع: الفرع الأول: إذا غاب الخصم ولم يكن موضعه يزيد على مسافة العدوى أحضره القاضي. قال محمد بن عبد الحكم: إذا استعدى الرجل على الرجل، فإن كان في المصير معه أعطاه عدواه، بخاتم يختمه له، أو رسول يرسله حتى يجلبه إليه، وكذلك إن كان في القرب من المصر، فأحب إلي أن يجلبه إذا كان يقدر على أن يأتيه وينظر بينه وبين خصمه، ويرجع فيبيت في منزله. قال محمد: وإنما هذا إذا كان السبيل مأمونًا لا يخاف على الذي يجلبه إليه في طريقه الخوف الذي يقل معه الأمن، فأما إذا كان الأغلب السلامة وإنما يقع الخوف الفلتة والمرة في الزمان، فإنه يجلب لأن هذا أمر لا تخلو منه الدنيا. الفرع الثاني: إذا كان موضعه يزيد على المسافة المذكورة، فقد قال محمد: وإذا كان بعيدًا من المصر، على ما فسرت لك، لم يجلبه، إلا أن يثبت عليه شاهدان أو شاهد بحق، فيكتب إليه مع ثقة: إما أن يرضي خصمه، وإما أن يحضر معه. الفرع الثالث: إذا كان للغائب مال في البلد وجبت التوفية منه. الفرع الرابع: يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في العقوبات وفي القصاص والحدود

الفرع الخامس: المخدرة لا تحضر مجلس الحكم لتحلف في اليسير، بل يبعث الحاكم إليها من يحلفها، والمعني بالمخدرة من يزري بمثلها حضور مجال الأحكام، وإن كانت تتصرف وتخرج إلى غير ذلك، فأما فيما له بال من الحقوق فتخرج إلى المسجد ليلاً. الفرع السادس: ليس للقاضي أن زوج امرأة خارجة عن ولايته، إلا إذا دخلت ولايته. الفرع السابع: إذا كان في ولايته يتيم قد مسته الحاجة وله أموال بعمل آخر في ولاية غيره، فإنه يكتب إلى الغير يعلمه بحال الطفل وحاجته. ويقتضي منه بيع ماله وتنفيذه لنظر له، فإذا ورد كتابه باع المكتوب إليه من مال اليتيم أقل رباعه رداً عليه وأحقها بالبيع، وصير الثمن لينظر فيه.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات وفيه ستة أبواب: الباب الأول: فيما يفيد أهلية الشهادة، وما يفيد قبولها وما يمنع منه. فأما ما يفيد أهليتها فثلاثة أوصاف، وهي: التكليف، والحرية والإسلام. فلا تقبل شهادة غير مكلف، ولا يستثنى من ذلك إلا شهادة الصبيان [بعضهم] على بعض في الدماء على شروط يأتي بيانها، وإنما استثنيت لأن الشرع ندب إلى تعليمهم الرمي والثقاف والصراع إلى سائر ما يدربهم على حمل السلاح والطعن والضرب، والكر والفر وتوقيح أقدامهم وتصليب أعضائهم، وتعليمهم البطش والحمية والأنفقة من العار والفرار، ومعلوم أنهم في غالب أحوالهم يخلون بأنفسهم في ذلك وقد يجني بعضهم على بعض. فلو لم يقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم، لا سيما وقد احتاط الشرع (فحقن) الدماء حتى قبل فيها اللوث واليمين وإن كان لم يقبل ذلك في درهم واحد. وعلى قبول [شهادتهم] تواطأت مذاهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، فلقال به من الصحابة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. ومن التابعين سعيد بن المسيت وعبد الله وعروة إبنا الزبير ومحمد بن علي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز

والشعبي والنخعي وشريح وابن أبي ليلى وابن شهاب وابن أبي مليكة، وقال: ما أدركت القضاة إلا وهم يحكمون بقول ابن الزبير وأبي الزناد، وقال: هي السنة وهو مذهب أهل المدينة. إذا ثبت ذلك فالشروط: كونهم يعقلون الشهادة، أحرارًا، ذكورًا محكومًا لهم بالإسلام، اثنين فصاعدًا، متفقين غير مختلفين، يكون ذلك بديهتهم قبل تفرقتهم وتخيبهم. ويكون ذلك لبعض على بعض، ويكون في القتل والجراح خاصة. ولا تقبل شهادتهم على كبير أنه قتل صغيرًا، أو على صغير أنه قتل كبيرًا. فإذا شهدوا ثم رجعوا عن شهادتهم أخذ بالشهادة الأولى، ولم يلتفت إلى ما رجعوا إليه. واختلف من هذه الأوصاف في اثنين: أحدهما الذكورية، فروي اشتراطها، وبه قال أشهب. وحكى سحنون في المجموعة اختلاف قول ابن القاسم في اشتراطها. وقال المغيرة في كتاب ابن سحنون: تجوز شهادة إناثهم. والآخر قبول شهادتهم في القتل، فروي ابن القاسم قبولها فيه، وبه قال المغيرة. وأشهب يمنع من ذلك ويخصها بالجراح. فرع: اختلف في العداوة والقرابة هل تقدح في شهادتهم أم لا؟ ولم يختلف أنه لا يعتبر فيهم تعديل ولا تجريح. عدنا إلى الأصل. ولا تقبل شهادة عبد، ولا كافر أصلاً، ولا على كافر، ولا شهادة مبتدع كالقدري والخارجي وشبههم من أهل [الضلالات]، وإن كانوا يصلون بصلاتنا، ويستقبلون قبلتنا. قال القاضي أبو الحسن: "وذلك (لفسقهم)، والفسق يوجب رد الشهادة، ولو كان عن تأويل غلط فيه متأول". وأما ما يفيد قبول الشهادة وهو ما يشترط الاتصاف به بعد ثبوت الأهلي فوصفان: الوصف الأول: العدالة، والمراد بها الاعتدال والاستواء في الأحوال الدينية، وذلك بأن يكون ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوفيًا (للإثم)، بعيدًا من الريب، مأمونًا في الرضا

والغضب. قال بعض علمائنا: وليست العدالة أن يمحض الرجل الطاعة حتى لا تشوبها معصية، وذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه، وهو مجتنب للكبائر، محافظ على ترك الصغائر، فهو العدل. قال في الكتاب: "لو ثبت على الشهود أنهم شربة خمر، أو أكلة ربا، أو معروفون بالكذب في غير شيء، أو أصحاب يان، أو مجان يلعبون بالنرد والشطرنج فذلك يسقطهم، وغيره مما يشبه، وكذلك اللاعب بالحمام إذا كان يقامر عليها، وكذلك لو كان يعصر الخمر وإن كان لا يشربها، أو يكري (نفسه) من (الخمار). واشترط في تجريح لاعب الشطرنج أن يكون مدمنًا عليه. وكره اللعب بها وإن قل، وقال: هي أشد من النرد. وقال غيره: لا تجوز شهادته وإن لم يكن مدمنًا. الوصف الثاني: المروءة، فيشترط في العدل أن يكون مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، وكل من صدر منه فعل أذن بسقوط الدين أو المروءة، فهو قادح في شهادته. فأما حقيقة المروءة فقال القاضي أبو بكر: "الضابط في المروءة ألا يأتي الإنسان ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل". وقال أبو القاسم بن محرز: ليس المراد بالمروءة نظافة الثوب، وفراعة المركوب، وجودة الآلة، وحسن الشارة، ولكن المراد بها التصون ولاسمت الحسن، وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون، والارتفاق عن كل خلق ردئ يرى (أن) من تخلق به لا (يحافظ) (معه) على دينه وإن لم يكن في نفسه جرحة، وذلك كالإدمان على لعب الحمام والشطرنج وإن لم يقامر عليها، وشبه ذلك من الأمور. وقال: وقد رأى بعض الناس أن شهادة البخيل لا تقبل، قالوا: وذلك أن إفراط البخل يؤديه إلى منع الحقوق وأخذ ما ليس بحق. ولا ترد شهادة أرباب الحرف الدنيئة كالكناس والدباغ والحجام والحائك، (وما)

أشبهم، إلا أن يكون التحرف بذلك على جهة الاختيار لها ممن لا يليق به، فإنها تدل على خبل في العقل، وتخرم المروءة. قال القاضي أبو الوليد: "ويشترط فيمن اجتمع فيه هذان الوصفان أن يكون عالمًا يتحمل الشهادة، لأنه من لم يكن عنده علم بتحملها لم يؤمن عليه الغلط فيها وترك ما هو شرط في صحتها. وأن يكون متحرزًا فيها ليؤمن عليه التحيل من أهل الحيل فيشهد بالباطل وهو لا يعلم. وقال محمد بن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفًا لا يؤمن عليه، لغفلته، أن يلبس عليه، فإذا كان كذلك لم يجز للإمام قبول شهادته. وأما ما يمنع من قبول الشهادة بعد وجود الوصفين المقتضين للقبول فالتهمة، ولها أسباب: السبب الأول: أن يجر إلى نفسه بشهادته أو يدفع. أما الجزء، فكمن يشهد أن فلانًا جرح موروثه، وكمن شهد بدين له ولغيره. فالمشهور أنها لا تقبل له ولا لغيره. وفي كتاب محمد أنها لا تجوز، إلا أن يكون الذي له يسيرًا جدًا. وكذلك لمن يتهم عليه، وإن كان الحق المشهود به وصية، فإن كان ماله فيها كثيرًا لم تجز شهادته له ولا لغيره. وإن كان يسيرًا، ففي الكتاب: "تجوز له ولغيره"، وكذلك قال مطرف. وروى غيره لا تجوز له ولغيره، وبهذا قال ابن عبد الحكم. وروي أيضًا: لا تجوز له، وتجوز لغيره، وبها قال ابن الماجشون. وألحق بالجار إلى نفسه شهادة الوصي بدين الميت إذا كان يلي ما يقبض منه. وأما الدفع، فكشهادة بعض العاقلة بفسق شهود القتل الخطأ، فأما لو شهد رجلان لرجلين بدين لهما على رجل، وشهد المشهود لهما أيضًا للشاهدين لهما بدين على رجل آخر لقبلت الشهادتان. وكذلك شهادة رفقة القافلة في قطع الطريق بعضهم لبعض على قول ابن القاسم وروايته في الكتاب. السبب الثاني: (البعضيه) وما يلحق بها في تطرق التهمة من جهة النسب والسبب وما ف معناهما. فلا تجوز شهادة الولد لوالده و [لا] الوالد لوده، ولا الجد لولد ولده، ولا ولد

الولد لجده، وذلك يتضمن عمودي النسب الأعلى والأسفل، والأجداد والجدات من قبل الأب والأم والولد وولد الولد من ذكور وإناث. وأما شهادة الأخ لاخيه، فأجازها في الكتاب من رواية ابن القاسم إلا أن يكون في عياله. وقدال بعض أصحابنا: "لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز على شرط، ثم اختلف في تحقيق ذلك الشرط، ففي كتاب محمد لا تجوز شهادته له إلا أن يكون مبرزًا. وقيل: تجوز إذا لم تنله صلته. وقال أشهب: تجوز في اليسير دون الكثير، إلا أن يكون مبرزًا فتجوز في الكثير". وقال غير هؤلاء: "تقبل الشهادة للأخ إلا فيما تتضح فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفًا وجاهًا، أو يدفع به معرة، أو تقتضي الطباع والعصبية فيه الغضب والحمية، كشهادته بأن فلانًا قتله، أو بجرح من جرحه). وفي جواز تعديله له ومنعه قولان "لابن القاسم وأشهب". فرع: قال محمد بن عبد الحكم: أصحابنا يجيزون شهادة الأب والابن والزوج والزوجة

على أنه وكل فلانًا، ولا تجوز شهادتهم أن فلانًا وكله، لأن الذي يوكل لا يتهمان عليه في شيء. (وقال ابنالقاسم في المجموعة: لا تجوز شهادة القرابة والموالي في الرباع التي يتهمون [بجرها] إليهم أو إلى بنيهم اليوم أو بعده، مثل حبس مرجعه إليهم أو إلى بنيهم. وقال أيضًا: لا تجوز شهادة الرجل لابن امرأته أو لابنتها، وكذلك المرأة لابن زوجها. وكذلك شهادة الرجل لزوج ابنته وزوجة ابنه، ورواه عيسى عنه. وقال سحنون: ذلك جائز. استحسن بعض المتأخرين في الشهادة لزوج البنت وزوجة الابن أن تقبل إن كان الشاهد مبرزًا في العدالة، وألا تقبل إ لم يكن كذلك. قال أبو القاسم بن محرز: وقد اختلف في شهادة الأب لبعض ولده على بعض، والولد لأحد أبويه على الآخر، قال: والصواب إجازة ذلك، لأن الشاهد قد استوت حاله فيمن شهد له ومن شهد عليه، فصار بمنزلة شهادته لأجنبي على أجنبي، ما لم يكن هنالك ميل ظاهر إلى المشهود له مثل أن يكون باراً به أو صغيرًا أو سفيهًا في ولايته، أو يكون المشهود عليه عاقًا له، أو تكون حالة الشاهد مع أحد أبويه حالة توجب تهمة، فيمنع ذلك من قبول شهادته بينهما لمن يتم له منهما. وهذا كله إذا اعتبر عند نزوله لم يخف وجه الصواب. ورأى الإمام أبو عبد الله أن هذا مقتضى التعليل بالتهمة، ثم قال: "لكن سحنون يمنع قبول شهادته، هذه وإن وقعت للأكبر من ولده على (الأصغر)، [والرشيد] منهما على السفيه الذي في ولايته". قال: "وكأنه لم يطلب مقتضى هذه العلة، بل أشار إلى أنه كالحكم الذي ليس بمعلل فقال: ترد الشهادة، لأن رد شهادة الوالد لابنه من السنة". قال الإمام: وأما إن كان الأمر بالعكس بأن (شهد) للصغير على الكبيرة، ولمن في ولايته على من خرج منها، وللبار على العاق، فإنه لا يختلف عندنا في رد شهادته لظهور التهمة

بكون المشهود له آثر عنده، وأحب إليه من المشهود عليه". فرع مرتب: إذا اعتبرنا اختلاف أحوال المشهود له والمشهود عليه، ورتبنا القبول والرد عليهما، فلو فرضنا خفاء علم ذلك عنا، ولم يظهر لنا منه ميل إلى أحد الأولاد، وكانوا في السن والرشد على حالة واحدة، وكذلك في البر والعقوق، فاختلف في شهادته بينهما: فقيل: تُقْبَلُ، لان الأصل قبولها ولم يتحقق سبب التهمة، وهذا القول موافق لما اختاره أبو القاسم بن محرز. وقيل: ترد، لأنه قد يحب أحد بنيه أكثر، ويخفي ذلك إشفاقاً على قلوب إخوته، فالتهمة ها هنا متطرقة بخلاف شهادته لأجنبي. تتمة لهذا الوصف: اختلف في أخوة الصداقة، هل تلحق بالقرابة المانعة من قبول الشهادة، أم لا؟ والمشهور أنها لا تلحق إذا كان ليس في نفقته ولا يشتمل عليه بره وصلته، وحكى ابن سحنون عن ابن كنانة أن شهادته إنما تقبل لصديقه في المال اليسير، ورأى أن الصداقة ربما كانت كأخوة من جهة النسب. قال الإمام أبو عبد الله: "وهكذا كل من كان في عيال إنسان ونفقته لا تقبل شهادة المنفق عليه للمنفق، لأن منفة المنفق بالمشهود به في النفقة وهو شريكه فيها، فكأنه شهد لنفسه. وأما شهادة المنفق للمنفق عليه فنص ابن حبيب على قبولها. ورأى بعض المتأخرين أنه إذا شهد لأخيه الذي في عياله لم يقبل"، قال: "لأنه (يدفع) بها نفقته عنه، إذ لو تركه بغير إنفاق للحقته معرة وسوء أحدوثة، فهو يدفع ذلك عن نفسه بشهادته له". ومما تطرق إليه التهمة شهادة المديان المعسر لمن له عليه الدين، فلا تقبل لأنه كأسيره فيصانعه بها. وكذلك شهادة رب الدين له لا تقبل، لأنه يريد الاستيفاء مما يتحصل بشهادته له، فالأول دافع عن نفسه والثاني جار لها. السبب الثالث: العداوة. فلا (يقبل) العدو على عدوه، لكن يقبل له، فإن قيل: ما العداوة التي تمنع قبول

الشهادة؟ قلنا: هي التي تكون لسبب من أسباب الدنيا، كالمنازعة في مال أو جاه أو ما في معنى ذلك، وهي التي تظهر التعصب وتحمل على الفرج بالمصيبة والغم بالسرور. (فأما إن كانت العداوة غضبًا لله سبحانه فلا تمنع القبول، فأن الغضب لله، لكون المغضوب عليه كافرًا أو فاسقًا، يدل على قوة الإيمان، فهو أولى بان يؤكد العدالة. قا الإمام أبو عبد الله: "لكن لو سرى ذلك إلى إفراط أذى من الفاسق المعادي لفسقه لمن غضب عليه وهجره لله سبحناه، حتى أوغر صدره وأحب من أجله ضرره، لوجب الوقف عن شهادته، إذ تحققت التهمة بينهما لخروجه عن العداوة الدينية إلى عداوة دنيوية، ولا، العداوة الدينية لو كانت تمنع لما قبلت شهادتنا على الكفار"). فرعان: الفرع الأول: قال أبو الحسن اللخمي: "اختلف فيمن كان عنده شهادة وكان يذكرها، ثم عاداه المشهود عليه فاحتج إلى القيام بالشهادة قال: وقبولها ها هنا أخف إذا كانت قيدت". قال: "واختلف في شهادة الرجل على ابن عدوه بمال أو بما لا يلحق الأب منه معرة، فأجازها محمد وإن كان الأب حيًا والابن في ولاء أبيه. وقال ابن الماجشون: لا ترد إذا لم يكن في ولائه. وقال أيضًا: لا تجوز بمال إذا كان الأب حيًا، يريد: وإن كان رشيدًا". قال: "وإن شهد بعد موته بمال على الصبي جازت. وإن شهد بمال على الأب لم تجز، وإن كان المال صار للولد. وقال ابن القاسم: إذا كانا أعداء لأب الصبي لم تجز شهادتهما ولو كانا مثل ابن أبي شريح وسلميان بن القاسم". الفرع الثاني: كل من لا تجوز شهادته على رجل فلا تجوز تزكيته لمن شهد عليه، ولا تجريحه لمن شهد له. وكذلك كل من لا تقبل شهادته لرجل فلا تقبل تزكيته لمن شهد له ولا تجريحه لمن شهد عليه. السبب الرابع: التغفل. قرب عدل لا يكون مطلعًا بفهم ما شهد فيه، (وتذهب) الأمور فيحمل الشيء على خلاف ما هو عليه. وقد يلقن فيقبل التلقين. ورب شيء يحمله (فهم) بعض الناس ولا

يحمله فهم بعضهم. ورب شيء خفيف يفيئ بتحمله كل أحد، فما كان مثل ال شيء الذي لا يكاد يلتبس، [أو] اللفظة التي لا تتعلق بغيرها ولا يطول الخطاب معها قبلت فيه شهادة كل عدل، وما كان من القصص الطويلة والأمور التي فيها مراجعة، ولا يؤمن على الشاهد إذا كان مغفلاً أن يذهب عليه بعضها، ولعل ما فهم متعلق بما ذهب عليه، فإن هذا وشبه لا يقبل فيه إلا من المتيقظ المميز. السبب الخامس: الحرص على زوال (التعبير) اللاحق للشاهد، وذلك من وجهين: الوجه الأول: إظهار البراءة مما رمي به، وذلك مثل دفع عار الكذب، فمن ردت شهادته لفسق [فتاب]، [ثم شهد] بشهادته التي رد فيها، لم تقبل منه، لأنه يدفع بها عار التكذيب. وكذلك الشهادة المعادة من العبد والصبي والكافر إذا زال نقصهم الذي ردت شهادتهم من أجله لا تقبل أيضًا، لما في الطباع البشرية من شدة الحرص على غسل المعرة بالتكذيب للشاهد. الوجه الثاني: قصد التأسي والتسلي بأن يجعل غيره مثله ليتسلى بذلك عند عجزه عن براءة نفسه كقصة زليخا. وقد قال عثمان رضي الله عنه: "ودت الزانية أن النساء كلهن زنين". وقد نبه الله تعالى على التسلي بالاشتراك بقوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون). إذا تقرر هذا: (فمن أتى [كبيرة] فحد (لها) كزان بكر جلد، أو سارق قطع، أو شارب حد، أو قاذف جلد، ثم تاب هؤلاء وصلحت أحوالهم حتى صاروا عدولاً، فإن شهادتهم لا تقبل في مثل ما حدوا فيه، هذا مذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون. زاد مطرف وابن الماجشون في الزاني والمنبوذ رد شهادتهما فيما يتعلق بالزنى أيضًا كاللعان والقذف. وقال ابن الكنانة بقبول شهادة هؤلاء كلهم فيما حدوا فيه. قال الإمام أبو عبد الله: "وهو ظاهر الكتاب، وظاهر إطلاق غيره من الكتب المذكور

فيها قبول شهادة هؤلاء مطلقًا". قال: "وأما ولد الزنى فلم يختلف المذهب في رد شهادته في الزنى، وقبولها فيما سوى ذلك مما لا تعلق له بالزنى) والفرق على قول ابن كنانة وظاهر الكتاب أن المعرة بإتيان كبيرة يكفرها الحد وتمحوها التوبة والورع والعفاف فيصير فاعلها كأنه لم يأت قبيحًا، "إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له". وأما ولد الزني فالمعرة لاصقة به أبدًا ما عاش، ولا تصح منه توبة عنها، إذ لم تكن من فعله، فافترقا. السبب السادس: الحرص على الشهادة، وذلك في التحمل والأداء والقبول. أم الحرص على التحمل فمثل أن يجلس مختفيًا في زاوية لتحمل شهادة، ينبني قبول شهادته على جواز تحمل الشهادة على المقر من غير أن يشهد على نفسه بما أقر به وهو المشهور. وإذا فرعنا عليه ففي كتاب محمد: تقبل شهادة المختفي إذا لم يكن المشهود عليه ضعيفاً أو مخدوعًا أو خائفًا، فقيل له: أيجوز أن يختفي له ليشهد عليه؟ فأجاب بأنه يتخوف ألا يحيط الشاهد علمًا بما كان من الخصمين، ثم قال: ولكن إن تحقق الإقرار كما يجب فليشهد. وحيث أجزنا شهادته فلا تحمل على الحرص. وأما الحرص على الأداء فهو الابتداء به قبل طلبه، حيث لا تجب الابتداء به. والحقوق المشهود بها قسمان: حق الله تعالى، وحق لآدمي. وحق الله سبحانه نوعان: نوع (يستفاد) فيه التحريم، ونوع لا (يستفاد) فيه. فأما ما يستفاد فيه التحريم فتقبل فيه الشهادة مع المبادرة، إذ تجب المبادرة بها وتأخير القيام بها من غير عذر جرحة، وهذا كالطلاق والعتاق والخلع والعفو عن (القصاص) وتحريم الرضاع والوقف على غير المعينين وشبه هذا، ولا يحمل ذلك على الحرص [على) الشهادة إذ هو مأمور به. أما النوع الثاني وهو ما لا (يستفاد) تحريمه كالزنى وشرب الخمر وشبههما، فلا يجب الابتداء بها ولا يضر إخفاؤها، لأنه ستر وقد أمر به. وقال ابن القاسم في المجموعة: يكتمها

ولا يشهد بها إلا في تجريح إن شهد على أحد. وأما القسم الثاني: وهو ما كان حقًا لآدمي فلا يبتدئ به وإن كان صاحب الحق لم يعلم بشهادته له، لكن إ1اعلم ذلك منه أعلمه بما له عنده من الشهادة، فإن طلبه بأدائها، أداها، وإن سكت عنه تركها، فإن بادر بها (دون طلب) لم تقبل. وأما الحرص على القبول، فقال الإمام أبو عبد الله: "قد قيل في الشهادة: إنه إذا شهد وحلف على صحة شهادته إن ذلك يقدح في شهادته، بكون اليمين كالعلم على التعصب والحميدة وشدة الحرص على إنقاذها. قال: "وكذلك اختلف ابن القاسم (ومطرف في حقوق الله عز وجل، إذا قام بها شهود وخاصموا المشهود عليه فيها، فرأى ابن القاسم) أن ذلك يمنع من قبول شهادتهم، لأن المخاصمة علم على شدة الحرص على إنقاذ الشهادة والحكم بها، وشدة الحرص على إنفاذها قد تحمل على تحريفها أو زيادة فيها أو نقص منها لتنفيذ الشهادة بالتحريف. ورأى مطرف أن ذلك غير قادح لأن هذا تصرف فيه التهمة لأمور الآخرة، وقد تقدم أن العداوة لله سبحانه لا تؤثر في الشهادة، ولذلك قبلت شهادة المسلمين على الكفار، وإن كانوا أعداء من ناحية الدين. ا لسبب السابع: (تطرق التهمة من جهة الشذوذ في الشهادة ومخالفة العادة، كشهادة البدوي على القروي، وفيه ورد النص، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقبل شهادة البدوي على القروي. وفي طريق أبي داود: "ولا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية". قال محمد بن عبد الحكم: تأوي لمالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال، ولم ترد (به) الشهادة في الدماء و [ما] في معناها مما يطل به الخلوات)، فلهذا قلنا: لا تقبل شهادة البدوي على القروي أوله في الحقوق التي يمكن

الإشهاد عليها في الحضر دون القتل والجراح [وشبههما]. قال الإمام أبو عبد الله وشيخه: والمراد بالحديث قصر الرد على موضع تحقق التهمة، قالا: وذلك إذاكتب خطه في الوثيقة أو في الصداق وهما في الحضر، فالعدول عن إشهاد العدول إلى إشهاده ريبة، قالا: فأما لو قال: مراً به فسمعتهما يتقارران، أو كانوا في سفر، فلا تهمة تقتضي الرد. قال الإمام: "وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر فيما ذكره في الكتاب في شهادة السؤال أنها لا تقبل إلا في التافه، اليسير، لأن العادة مطردة أن مثلهم لا يستشهدون ويوثق بشهادتهم، فالعدول إليهم في المعاملات عن الأغنياء (المشهورين) ريبة، وكذلك يسترابون في غير الأموال أيضًا لما استولى عليهم من كدية الناس، وتطلب أدنى محتقر من الطعام منهم، وتذللهم لهم في ذلك، فتنخرم الثقة بهم في كل ما له بال وقدر مما يشهدون به، اللهم إلا أن يكونوا فقراء لا يسألون ولا يقبلون الصدقة إن أعطوها، فإن شهادتهم تقبل في الظاهر من المذهب. وقال ابن كنانة: لا تقبل في المال الكثير كخمسمائة دينار إذا لم يكونوا ظاهري العدالة. قال الإمام أبو عبد الله: "وهذا الذي انفرد به بعيد عن ظاهر الشرع وقواعده. وأشار بعض الأشياخ إلى تأويل هذه الرواية والاعتذار عنها بأن المراد بها كون إشهاد مثل هؤلاء فيما له بال والاستعداد بشهادتهم من الشاذ النادر، فرجعت إلى معنى الشذوذ". قال: "وأما المتكفف فحكمه ما ذكر في الكتاب". "وأما من يسأل ولا يشهر بالمسألة، ولكن يسأل عند نائبه تنوبه الإمام أو رجلاً شريفاً، فإن ذلك يلحق أيضًا بالفقير المقبول الشهادة. وأما من اشتهر بالمسألة وعرف بها وإن لم يكن متكففًا، فظاهر الرواية أنه يلحق بالفقير المتكفف

فروع: الفرع الأول: إن هذه الأسباب إذا زالت قبلت الشهادة، ولا يخفى حكم زوال الصبا والرق وأمثاله، وإنما يحتاج إلى النظر في زوال الفسق والعداوة، فإن التوبة مما تخفى، ولا يكفي قول الفاسق: تبت ولا أعود، ولا إقرار القاذف على نفسه بالكذب، بل يجب استبراء حالهما، وكذلك كل فاسق يقول: تبت، فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة يظهر بقرائن الأحوال صلاح سريرته فيها، ويغلب على ظن أنه قد ندم عليها وكفرها بالتوبة والأعمال الصالحة. قال الإمام أبو عبد الله: "وقد حد بعض العلماء أمر الاستبراء لحال هذا التائب بمضي سنة من حين إظهاره التوبة. وأشار إلى ما أشار إليه من حد أجل العنين بسنة من أجل اختلاف أحوال الأزمان وجعل تأثيره في العزائم والشهوة في حق التائب كتأثيره في الطبائع والقوى في حق العنين". قال الإمام: "وهو ضعيف"، ثم قال: "ومنهم من وقت بستة أشهر، وهو أضعف. ثم قال: "والتحقيق أن يستند في ذلك إلى قرائن أحوال الرجال، فإن منهم من لا يظهر معتقده وباطنه على طول الدهر، ويغالط الحذاف بظاهره حتى يظنوه صالحاً وإن كان فيالباطن (زنديقًا). ومهم من هوب العكس من ذلك لا يقدر أن يظهر خلاف ما يبطن إلا زمنًا قليلاً يتكلف [فيه] استعمال نفسه"، قال: " (فالصحيح) الرجوع إلى قرائن الأحوال، وإسناد غلبة الظن، في الانتقال إلى العدالة، إليها، لا إلى مجرد مضي زمن". الفرع الثاني: إذا ظهر للقاضي بعد الحكم أنه قضى بشهادة عبدين أو كافرين أو صبيين نقض الحكم. وفي نقضه إذا كانا فاسقين خلاف، نقضه ابن القاسم، ولم ينقضه أشهب وسحنون. الفرع الثالث: إذا حدثت التهمة بعد أداء الشهادة لم تبطل الشهادة، وذلك كالرجل يتزوج المرأة بعد أن شهد لها، أو تقع بينه وبين المشهود عليه خصومة بعد أن شهد عليه. وأما حدوث الجرحة في الشاهد بعد أداء شهادته فإنها تبطل شهادته فيها، وتبطل فيما

الباب الثاني: في العدد والذكورة.

يستقل أيضًا. قال ابن الماجشون: لا تبطل شهادته هذه إ1اكانت الجرحة شيء اظاهرًا كالجراح والقتل ونحو ذلك. خاتمة للباب: يذكر عبارة جامعة أوردها أبو القاسم بن محرز عن الشيخ أبي بكر في صفة من تقبل شهادته، قال: هو المجتنب للكبائر، المتوقي لأكثر الصغائر، إذا كان ذا مروءة وتمييز مستيقَظا، متوسط الحال بين البغض والمحبة. قال أبو القاسم: وقد أتت هذه الصفة على جميع ما ينبغي في الشاهد العدل. الباب الثاني: في العدد والذكورة. والعدد مشترط في كل شهادة، فلا يثبت بشهادة واحد حكم أصلاً، ثم الشهادات في العدد على ثلاث مراتب. المرتبة الأولى: بينة الزنى، ويشترط فيها العدد والذكورة، وهي أعلى البينات، وعددها أربعة، قال يثبت إلا بأربعة رجال يشهدون أنه أدخل فرجه في فرجها كالمردود في المكحلة، وقد أتوا مجتمعين غير مفترقين. قال الإمام أبو عبد الله: "وظاهر المذهب أن للعدل النظر إلى العورة قصدًا لتحمل الشهادة". واللواط في الشهادة كالزنى، وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين أم لابد من أربعة كما في الرؤية؟ فيه خلاف على القول بأنه إذا رجع عن إقراره لغير عذر لم يقبل رجوعه. المرتبة الثانية: ما عدا الزنى مما ليس بمال ولا يؤول إلى مال كالنكاح والجرعة والطلاق والعتق والإسلام والردة والبلوغ والولاء والعدة والجرح والتعديل والعفو عن القصاص وثبوته في النفس وفي الأطراف على خلاف فيها، وثبوت النسب والموت والكتابة والتدبير وشبه ذلك، وكذلك الوكالة والوصية عند أشهب وعبد الملك، فهذه كلها أيضًا يشترط فيها الوصفان فإنما تثبت بشهادة رجلين، ولا تثبت برجل وامرأتين. وقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يجوز في الوكالة بطلب المال، وإسناد الوصية التي ليس فيها إلا المال، شاهد وامرأتان. أما ما لا يظهر للرجل كالولادة وعيوب النساء والرضاع، فإنه إنما يشترط فيه العدد

فحسب، ويقول النساء فيه مقام الرجال، فيثبت بامرأتين، وكذلك الاستهلال والحيض. المرتبة الثالثة: الأموال وحقوقها، كالأجل والخيار والشفعة والإجارة وقتل الخطأ وكل جرح لا يوجب إلا المال، فلا يشترط فيها أيضًا إلا العدد، فيثبت برجل وامرأتين. وكذا فسخ العقود، وقبض نجوم الكتابة، حتى النجم الأخير، وإن ترتب العتق عليه. فرعان: الفرع الأول: إذا شهد على السرقة رجل وامرأتان ثبت المال وإن لم تثبت العقوبة. وكذلك لو شهد على النكاح بعد الموت رجل وامرأتان أو رجل مع يمين الطالب ثبت الميران عند ابن القاسم. وقال أشهب: لا يصح الميراث إلا بعد ثبوت النكاح، ولا يثبت بذلك. الفرع الثاني: من أقام شاهدين وطولب بالتزكية فله أن يطلب الحيلولة، فيوقف الحيوان والعروض التي تعرف بعينها ويشهد عليها، وما خشي عليه في الإيقاف الفساد من طعام وشبهه بيع (ووقف) ثمنه، فإن ضاع فهو ممن ثبت له. وأما العقار فيمنع فيه من الإحداث والهدم والبناء، ولم هو بيده قبض أجرته إلى حيث [ما] ينفذ القضاء. وللعبد طلب الحيلولة إقامة الشاهدين على العتق. وأما الأمة فيفعل القاضي فيها ذلك وإن لم تطلب، إلا أن يكون السيد مأمونًا فيؤمر بالكف عنه. وقال أصبغ: إن كانت من الوخش رأيتها مثل العبد، وإن كانت رائعة فلا يؤتمن عليها. وينزل شاهد واحد منزلة شاهدين في إيجاب الحيلولة إلا في الطعام الذي يخشى فساده، فلا يباع، ولكن إذا خشي عليه خلي بينه وبين من كان في يديه بعد استحلافه.

الباب الثالث: في مستند علم الشاهد وتحمله وآدابه

الباب الثالث: في مستند علم الشاهد وتحمله وآدابه، وفيه فصلان: الفصل الأول: في مستند علمه. والأصل فيه اليقين الواضح كالشمس، ولكنا قد نلحق الظن به للحاجة فنقول: المشهود به قسمان: القسم (الأول) ما يدرك بالحاسة فيستند إليها كالإبصار (المجرد) في الأفعال، والسمع المجرد في الأوقال، فتقبل شهادة الأصم في الأفعال، والأعمى في الأقوال. وأما اعتماد الشاهد في الخط [فمختلف] فيه، وهو ينسم إلى ثلاثة أوجه: الوجه الأول: الشهادة على خط المقر، وهو أقواها في جواز الشهادة. ويليه: الوجه الثاني: وهو الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب. ويليه: الوجه الثالث: وهو شهادة الشاهد على خط نفسه، وهو أضعفها في إجازة الشاهد، فمن يجيزها (فيه يجيزها) في الوجهين الأولين أيضًا، ومن لا يجيزها في شهادة الشاهد على خط المقر لا يجيزها في شيء من الأوجه الثلاثة. وفي حكاية الخلاف في قبول الشهادة على الخط طريقان: الطريق الأول: على جهة الجمع، فنقول: المذهب في قبول الشهادة في الأوجه الثلاثة على أربعة أقوال: القول الأول: نفي الجواز في شيء من الأوجه الثلاثة. القول الثاني: تخصيص الجواز بالشهادة على خط المقر خاصة. القول الثالث: تخصيص نفي الجواز بشهادة الشاهد على خط نفسه. القول الرابع: جوازها في الأوجه الثلاثة. الطريق الثاني: على جهة التفصيل: فنقول: أما الشهادة على خط المقر فالمذهب أنها جائزة مقبولة، وأنها كالشهادة على إقراره، فيحكم له بمجرد الشهادة على الخط.

وحكى الشيخ أبو القاسم رواية بأنه لا يحكم له بها حتى يحلف معها، فرأى في (الأولى) أنها كالشهادة على الإقرار. ورأى في الثانية أنها لم تتناول المال، وإنما تناولت ما يجر إليه. ويخرج على الروايتين ما إذا أقام على الخط شاهدًا واحدًا هل يحلف معه ويستحق أم لا؟. قال الشيخ أبو الوليد: "والمشهور من المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائز عاملة، لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من قوله: لا تجوز الشهادة على الخط، هكذا مجملاً، ولم يخص موضعًا من موضع". وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو لغائب فقال الشيخ أبو الوليد "لم يختلف" في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها". قال: "وروي عنه أيضًا أنها لا تجوز، وإليه ذهب محمد، وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على (شهادته) إذا سمعها منه، ولم يشهده عليها". قال: "وقد يكتب خطه بما قد يستريب فيه عند الأداء وقد يكتب على من لا يعرفه إلا بعينه، وقد لا يعرفه ولا باسمه. والفرق على المشهور أن الرجل قد يخبر بما لا يتحققه، ولا ينبغي للرجل أن يكتب شهادته حتى يحقق ما يشهد عليه، ويعرف من أشهد بالعين والاسم، مخافة أن يموت أو يغيب فيشهد على خطه، فأشبه ذلك من يسمع رجلاً يؤدي شهادته عند الحاكم أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته بما سمع منه وإن لم يشهده عليها". قال الشيخ أبو الوليد: "والقول الأول أظهر، إذ قد قيل، وهو قول محمد: إنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته حتى يشهده عليها، وإن سمعه يؤديها عند الحاكم أو يشهد عليها غيره مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتاب لا قوى قوة ذلك. قال: "وقد قال ابن زرت: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أنه كان يعرف من أشهده معرفة العين". قال الشيخ أبو الوليد: "وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه لما قد يتساهل الناس فيه

من وضع شهادتهم على من لا يعرفون. قال: "والذي جرى عليه العمل عندنا، على ما اختاره الشيوخ، إجازتها في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس هو بحد". فرعان: الفرع الأول: اختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد الغائب عند من يجيزها، فقال ابن الماجشون: قدر ما تقصر فيه الصلاة. وحكى ابن مزين عن أصبغ أنها مثل مصر من إفريقية، أو مكة من العراق. وقال سحنون، في رواية ابنه عنه: الغيبة البعيدة، ولم يحدها. (الفرع الثاني: إذا قلنا بقبول الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فقد قال مطرف وابن الماجشون: إنها تجوز في الأموال خاصة، حيث تجوز اليمين مع الشاهد. وقاله أصبغ). في العتيبية، سئل مالك عن امرأة كتب لها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له، فوجدت المرأة من يشهد أن هذا خط زوجها، فقال: إن وجدت من يشهد لها بذلك نفعها، واختلف في مراده بقوله: نفعها، هل تطلق عليه أو تستحلفه؟. وأما شهادة الشاهد على خطه، إذا لم يذكر الشهادة، فروى مطرف في الواضحة: إن عرف خطه ولم يذكر الشهادة ولا شيء اً منها، فإن لم يكن في الكتاب محو ولا ريبة فليشهد بها، ون كان الرق طلسًا أو مغسولاً أو فيه محو فلا يشهد. قال مطرف: ثم رجع فقال: لا يشهد، وإن عرف خطه، حتى يذكر الشهادة أو بعضها، أو ما يدل منها على أكثرها. قال: وبالأول أقول ولابد للناس من ذلك. وبه قال ابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار، وإن لم يحط بما في الكتاب عدداً فليشهد،

وبه قال أيضاً ابن وهب وابن عبد الحكم، وهو اختيار سحنون في نوازله. وقال ابن القاسم وأصبغ بالقول الثاني أنه لا يشهد. قال ابن حبيب: هذا أحوط، والأول جائز. التفريع: أما على القول الأول فقالوا: يشهد، ولا يقول للسلطان إنه لا يعرف منه إلى خطه. ويشهد أن ما فيه حق، وذلك لازم له أن يفعله قالوا: وإن ذكر للحاكم أنه لا يعرف من الشهادة شيء اوقد عرف خطه ولم يرتب، فلا يقبلها الحاكم. وأما على القول الثاني الذي رجع إليه مالك، فروى أشهب "عنه أن الشاهد يرفعها إلى السلطان على وجهها، ويقول: إن كتابًا شبه كتابي وأظنه إياه ولست أذكر شهادتي ولا أني كتبتها، يحكى ذلك على وجهه ولا يقضي بها. قيل: فإن لم يكن في الكتاب محو ولا شيء، وعرف خطه، قال: قد يضرب على خطه ولم يذكر الشهادة، فلا أرى أن يشهد، وقد أتيت غير مرة بخط يدي أعرفه ولم أثبت الشهادة عليه، فلم (أشهد). قال الشيخ أبو محمد: "قال أبو بكر: كان القاسم بن محمد إذا شهد بشهادة كتبها، وكان مالك بفعله". ومن لا يعرف نسبه فلابد من الشهادة على عينه. ولا يجوز تحمل الشهادة على المرأة المنتقبة، بل لابد من أن تكشف عن وجهها ليعرفها ويميزها، عند الأداء، عن أمثالها بالإشارة والمعرفة المحققة، ولو عرفها رجلان فلا يشهد عليها بل على شهادتهما بأن فلانة أقرت، وذلك عند تعذر الأداء منهما لأنه فرعهما. وقال ابن نافع: يشهد، ورواه عن مالك. قال الشيخ أبو الوليد: "والذي أقل به: أنه إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين ليشهد له عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة، فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها". قال: "وكذلك لو سأل عن ذلك رجلاً واحدًا يثق به أو امرأة لجاز له أن يشهد". قال: ولو أتاه المشهود له بجماعة من لفيف النساء يشهدن عنده أنها فلانة لجاز له أن يشهد إذا وقع له العلم بشهادتهن.

وإذا شهدت بينة على عين امرأة بدين وزعمت أنها بنت زيد، فليس للقاضي أن يسجل على بنت زيد حتى يثبت بالبينة أنها بنت زيد. القسم الثاني: ما لا يدرك بالإحساس، وإنما يثبت بقرائن الأحوال أو بالتسامع. أما القرائن فكالشهادة بالإعسار، فإنه إنما يدرك بالخبرة الباطنة، وقرائن الأحوال في الصبر على الضر والجوع، ولا يعلم ذلك بيقين، لكن إذا حصل ظن قريب من اليقين جازت الشهادة. وكالشهادة للمرأة بضرر زوجها، ففي العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم أن ذلك جائز بالسماع من الأهل والجيران. وأما التسامع، فهو أن يقو الشهود: سمعنا سماعًا فاشيًا من أهل العدل وغيرهم. وقال محمد: يقولون: إنا لم نزل نسمع من الثقات. وقال مطرف وابن الماجشون: يقولون: سمعنا سماعًا فاشيًا من أهل العدل. قالا: ولا يجوز من غير أهل العدل من سامعين أو مسموع منهم، ولا يسمون من سمعوا منه، فغن سموا كان نوقل شهادة لا شهادة سماع. قال أبو إسحاق التونسي: وشهادة السماع أجيزت للضرورة، ولا يستخرج بها شيء من يد حائز، وإنما تصح للحائز، مثل أن يثبت رجل على رجل حائز لدار أنها لأبيه أو لجده، وهذا الطالب غائب، فيقيم الذي هي في يده بينة على السماع في تطاول الزمان أنه اشتراها من أبي هذا القائم، أو جده، أو ممن صارت إليهم عنهم، فيثبت له بقاؤها في يده بهذه الشهادة، (أو إن أباه هو أو جده اشتراها من أبي هذا القائم أو جده أو ممن صارت إليه عنهم، فيثبت له بقاؤها في يده بهذه الشهادة). قال: وكذلك السماع في الأحباس أن تكون داراً ليست في يد (مشتر لها)، وإنما هي في يد حائزين لها، فتشهد بينة على السماع أنها حبس على الحائزين لها وعلى أعقابهم، أو تكون لا يد عليها لأحد، فتشهد بينة أنها حبس على بني فلان، أو حبس لله تعالى ما بقيت الدنيا، فهذا الذي تصح فيه شهادة السماع طال الزمان. وقال أبو القاسم بن محرز، بعد أن ذكر (مثل) ما ذكر أبو إسحاق: ولن يقضي لأحد من هؤلاء؛ بما وصفنا من شهادة السماع، إلا بعد يمينه. قال: وذلكم أن السماع إنما هو نقل وإن لم يكن من شرطه إذن المنقول عنهم الشهادة، ولعل أصل السماع عن شاهد واحد،

فالشاهد الواحد لا يقوم به الحق إلا مع اليمين. قال: ولن تقبل شهادتهم إلا مع السلامة من الريب، فلو شهد رجلان على السماع، وفي القبيل مائة رجل من أسنانهما لا يعرفون شيء امن ذلك، لم تقبل شهادتهما، إلا أن يكون العلم بذلك فاشيًا فيهم، قال: فأما لو شهد شيخان قديمان قد باد جيلهما لقبلت شهادتهما وإن لم يشهد بذلك غيرها. كذلك قال ابن القاسم. إذا تقرر هذا فيثبت بشهادة السماع إذا وقعت على هذه الأوصاف الوقف والملك. والمشهور في المذهب: الاجتزاء فيها بقول عدلين. وقال عبد الملك في المبسوط: أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء، قال: وذلك أنه شبيه بالشهادة على الشهادة، فاحتيط في شهادة السماع، ثم حيث قلنا بقبولها في لوقف والملك، فتقبل في الدور والأرضين والحيازات والصدقات وفي الموت فيما بعد من البلاد، ولا يكون جميع ذلك إلا (فيما تطاول فيه) الزمان. واختلف في الخمس عشر سنة، فلم يرها في كتاب محمد طولاً، (ورآها) طولاً في كتاب ابن حبيب. وقيل: إن كان وباء فهي طول وإلا فلا. وفي ثبوت النكاح والنسب والولاء بها خلاف. (فأما النكاح فقال سحنون في العتبية: "جل أصحابنا يقولون في النكاح إذا انتشر خيره في الجيران: أن فلانًا تزوج فلانة وسمع الدفاف، فله أن يشهد أن فلانة زوجة فلان". زاد (محمد بن عبد الحكم): وإن لم يحضر النكاح). (وأما الولاء والنسب فقال محمد: اختلف قول مالك في شهادة السماع في الولاء والنسب. وذهب أصبغ إلى أنه يؤخذ بذلك المال ولا يثبت له نسب به. ولا يعجبنا هذا. وأكثر قول مالك وابن القاسم أنه يقضي له بالسماع بالولاء والنسب، وكذلك في الأحباس والصدقات فيما تقادم. وفي العتبية من رواية أبي زيد عن ابن القاسم: "يقضي له بالميراث ولا يجر بذلك ولاء، ولا يثبت له نسب، إلا أن يكون أمرًا منتشرًا، وفي بعض الروايات: سماعًا فاشيًا ظاهرًا مستفيضًا يقع به العلم فيرتفع عن شهادة السماع، ويصير في باب الاستفاضة والضرورة، وذلك مثل أن يقول: أشهد أن نافعاً مولى ابن عمر وأن عبد الرحمن بن القاسم وإن لم يعلم الشاهد

الفصل الثاني: في وجوه التحمل والأداء

لذلك أصلا. وفي آخر المسألة قيل لابن القاسم: أفتشهد أنك ابن القاسم ولا تعرف أباك ولا أنك ابنه إلا بالسماع، قال: نعم يقطع بهذه الشهادة، ويثبت بها النسب". وأما الملك، فإنما يشهد به إذا طالت الحيازة وكان يفعل فيه من التصرف ما يفعل المالك من البناء والهدم ونحو ذلك، ولا ينازعه فيه أحد، وإن لم يعلم حين دخوله في ملكه وليس يكتفي بشهادة هؤلاء أنه يحوزها وإن طالت حيازته حتى يقولوا شهادتهم: إنه يحوزها بحقه، وإنها لم ملك. فأما من رأى من يشتري شيء امن سوق المسلمين، فلا يجوز له أن يشهد له بالملك، لأنه قد يشتري من غير مالك. الفصل الثاني: في وجوه التحمل والأداء أما التحمل: فحيث يفتقر إليه ويخشى تلف الحقوق لعدوه، فهو من فروض الكفايات، لأن إباية الناس كلهم عنه إضاعة للحقوق، وإجابة الكل إليه إضاعة للأشغال. وأما الأداء: فيجب على من تحملها إذا كان متعينًا ودعي لأدائها من مسافة قريبة كالبريد والبريدين، فإن دعي من مسافة بعيدة لم يلزمه. وحيث قلنا باللزوم بقرب المسافة، فلو كانوا أكثر من إثنين فأدى منهم إثنان، واجتزأ بهما الحاكم لسقط الفرض عن الباقين، فإن لم يجتزي بهما تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات إذا دعاهم صاحب الحق لإحياء حقه. (وإن كانوا اثنين فقط تعينا، فإن امتنع أحدهما وقال: أحلف مع الآخر، أثم). وكذلك لم يتعين وامتنع جميعهم لأثموا. ولا يستحق الشاهد أجرة، لكن إن كانت المسافة بعيدة بحيث لا يلزمه الإتيان منها، فيجوز أن ينفق على الشاهد في إتيانه. وأما إن كانت المسافة مما يلزمه الإتيان منها، فلا يجوز له أن ينتفع من جهته، إلا ألا تكون له دابة ويشق عليه المشي، فيجوز له أن يركب دابة المشهود له لا غير. وقال الشيخ أبو الوليد: "إذا ركب دابة المشهود له وله دابة، أو أكل طعامه والمسافة قريبة فقيل: تبطل شهادته، وقيل: لا تبطل. ولو كان الشاهد لا يقدر على النفقة ولا على اكتراء دابة، وهو ممن يشق عليه الإتيان راجلاً، فلا تبطل شهادته (إن أنفق عليه المشهود له أو اكترى له دابة، وقيل): تبطل شهادته)

الباب الرابع: في الشاهد واليمين

بذلك. إذا لم يكن مبرز العدالة. وكذلك لو كان الشاهد بمكان بعيد لا يلزمه الإتيان للأداء، قيل: لا يضره أكل طعام المشهود له وإن كان له مال، ولا ركوب دابته وإن كانت له دابة. وكذلك في انتظاره للأداء إذا احتجب السلطان فأنفق عليه المشهود له مدة الانتظار إذا لم يجد من يشهده على شهادته وينصرف. وقيل: إن شهادتهم تبطل بذلك لأنهم يوفرون به النفقة على أنفسهم". قال الشيخ أبو الوليد: "وهو الأظهر، قال: فانظر على هذا أبدًا إذا أنفق المشهود له على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه (جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه) فلا يجوز ذلك إلا فيما يركب الشاهد إذا لم تكن له دابة ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف في أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له إذا لم تكن له دابة [وشق] عليه المشي. جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد ولا موسر ولا معسر، وإنما يفترق ذلك حسبما ذكرناه في النفقة وفي الركوب إذا كانت له دابة". وأما الكاتب فيستحق الأجرة. الباب الرابع: في الشاهد واليمين والأموال وحقوقها، الخسيس منها والنفيس، العين وغيره، من مشار إليه أو في الذمة، يثبت بشاهد ويمين. قال محمد بن عبد الحكم: الشاهد العدل البين العدالة. ولا يثبت بهما النكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك من الحقوق الخارجة عن الأموال. لكن إن شهد عليه بالطلاق أو بالعتاق فلا تلغى الشهادة حتى يكون وجودها كعدمها، بل يطالب المشهود عليه بأن يقر أو يحلف، فإن امتنع منهما، فهل يحكم عليه بمقتضى الشهادة أو يحبس ليقر أو يحلف؟، روايتان: وبالأولى قال أشهب ومحمد بن عبد الحكم، وبالثانية أخذ ابن القاسم وأكثر الأصحاب وهي الأخيرة. ثم إذا قلنا بأنه يحبس، فهل تحدد مدة حبسه بالسنة فيخلى سبيله بعدها إن تمادى على الامتناع من الإقرار واليمين، أو يتمادى حبسه أبدًا حتى يحلف أو يقر؟، قولان: والأول لابن

القاسم، والثاني قاله مالك، وأخذ به سحنون. ومن ادعى عبدًا في يد غيره أنه كان ملكه فأعتقه فلا يكفيه شاهد ويمين، لأنه يثبت الحرية دون الملك، فأما إن اتفق اجتماع الصنفين بترتب أحدما على الآخر مثل أن تكون الشهادة بمال إلا أن ثبوت يتضمن (معنى آخر) لا يحكم فيها بالشاهد واليمين كالشهادة بشراء الزوجة الأمة، أو عكس هذا بأن يشهد الشاهد بما ليس بمال، لكن يتضمن مالاً في المآل كالشهادة بالوكالة على قبض مال مثلاً، فهل تقبل الشهادة حينئذ أم لا؟. أما المثال الأول: وهو مباشرة الشهادة للمال فتقبل وإن آلت إلى غير مال، لأن ترك قبولها يؤدي إلى مخالفة أحد أصلين متقررين وهما: قبول الشاهد واليمين في بيع الإماء، وفسخ النكاح بملك أحد الزوجين للآخر. وأما المثال الثاني: فاختلف فيه كما تقدم، فقال ابن القاسم: تقبل فيه لأن المقصود البراءة من المال، وما قبله في حكم اللغو إذ ليس المقصود منه إلا ما ذكرناه. وقال أشهب وابن الماجشون: لا تقبل. وسبب الخلاف: الاعتبار بالمآل أو بالحال. قال الإمام أبو عبد الله: "ولا خلاف في أن شهادة الواحد دون اليمين معه لا يقضي بها من باب الشهادة، كما أن يمين المدعي دون شهادة من يشهد له لا يقضي بها، وإنما يقضي بمجموعها على اضطراب بين العلماء هل القضية مستندة إلى الشاهد واليمين مع شهادته كالتقوية له، أو مستندة إلى اليمين والشاهد كالمقوي لها، أو مستندة إليهما؟ فأما إذا رجع الشاهد عن شهادته غرم نصف الحق كرجوع أحد الشاهدين. ثم قال: ولو أسندت القضية إلى اليمين لكان لتغريم الشاهد وجه، لان بشهادته صارت اليمين في جنبة الحالف. قال: فينظر في هذا، كرجوع المزكين عن التزكية. إذا تقرر أنه لا يحكم بمجرد شهادة الشاهد الواحد حتى يقترن به اليمين، فلليمين أربعة أحوال: الأول: أن تكون ممكنة، فيحلف الطالب ويستحق، واحدًا كان أو جماعة، مؤمنًا أو كافرًا، حرًا أو عبدًا، ذكراً أو أنثى، فإن نكل ردت على المطلوب، فإن حلف برئ، وإن نكلك غرم. فرع: لو حلف المطلوب ثم وجد الطالب شاهدًا آخر فهل يحكم له به أم لا؟ قولان: الأول: في كتاب محمد.

والثاني: لابن القاسم وابن كنانة، وعدا نكوله قاطعاً لحقه. وإذا فرعنا على الحكم له به، فالمراد بذلك أنه يحلف معه، لا أنه يضم إلى الأول. وإن نكل فهل يحلف المطلوب مرة ثانية، لأنه لم يستفيد باليمين الأولى سوى إسقاط الشاهد الأول، أو يسقط حقه بدون يمين المطلوب، لا، يمينه قد تقدمت فلا تتكرر اليمين عليه؟ قولان أيضًا. الأول: في كتاب محمد. والثاني: لابن مسير. الحال: [الثاني] أن تكون اليمين ممتنعة غير مرجوة الإمكان، كما إذا شهد الشاهد، مثلاً، على رجل أنه حبس ربعًا على الفقراء أو تصدق عليهم بمال، فلا يمكن أن يستحلف جميع الفقرا، إذ ذلك ممتنع عادة، ولا سبيل إلى التحكم بتخصيص بعضهم باليمين، إذ لا يستحلف إلا من يستحق الملك أو القبض، وليس في الفقراء من يشار إليه إلا ويمكن أن تصرف الصدقة عنه إلى غيره، فلا يتعين لأحد منهم استحقاق ملك ولا قبض، فإذا ظهر امتناع اليمين لحق هذا القسم بقيام الشاهد الواحد في الطلاق والعتاق، لا، تعذر هذا عرفًا كتعذر الأول شرعًا، فلا جرم تنتقل اليمين إلى جانب المطلوب كما تقدم. الحال: [الثالث] أن تكون اليمين ممتنعة الآن، مرجوة الإمكان في الاستقبال كشاهد شاهد لصبي بحق، فإن اليمين تمتنع من الصبي حتى يبلغ, (لكن) لا بد لشهادة الشاهد من أثر ناجز، والمنصوص في المذهب والمعروف منه تحليف المطلوب كما في القسم الثاني، فإن حلف ففي إيقاف المشهود به إذا كان معينًا كدار أو عبد، أو كان مما يخشى تلفه إن لم يوقف، قولان مبنيان على الخلاف في أن القضية مستندة إلى الشاهد، وإنما اليمين كالمقوية، فيوقف المطلوب إذا وجد سببه، أو ليس استنادها إليه فلا يوقف لعدم السبب. وإن نكل المطلوب أخذ المشهود به منه لكن هل يؤخذ أخذ تمليك أو أخذ إيقاف؟ قولان: الأول: في كتاب محمد الثاني: في كتاب ابن حبيب. ويتخرج على هذا الخلاف استحلاف الصبي وعدم استحلافه. فروع: الفرع الأول: إذا قلنا: يؤخذ أخذ إيقاف، استحلف الصبي بعد البلوغ، فإن نكل حلف المطلوب حينئذ ويرى، فإن نكل أخذ الحق منه.

الفرع الثاني: إذا استحلف المطلوب فحلف، ثم استحلف الصبي فنكل، اكتفي بيمين المطلوب [الأول]. هذا هو المشهور من المذهب، وأشار بعض المتأخرين إلى إمكان إجراء الخلاف في ذلك (على الخلاف المتقدم). الفرع الثالث: (إذا شهد الشاهد واستحلف المطلوب فحلف أو نكل، فلم يحكم عليه، (على الخلاف المتقدم)، فإن الحكم يكتب شهادة الشاهد ويثبتها ويسجلها للصغير صيانة لحقه خوفاً من موت الشاهد أو تغير حاله عن العدالة قبل بلوغ الصبي. ولو مات الصبي قبل بلوغه لحلف وارثه الآن واستحق). الفرع الرابع: (لو كان الصغير لا مال له، وإنما ينفق عليه من مال أبيه بالحكم عليه، فطلب الأب أن يحلف هو مع شهادة شاهد قام لولده الصغير الذي في كفالته ونفقته، فأشار في كتاب محمد إلى أن الأب لا يمكن من ذلك، ورآه كالحالف على مال ليملكه غيره. وروي أن له أن يحلف مع الشاهد لما له في ذلك من المنفعة لسقوط النفقة عنه). قال الإمام أبو عبد الله: "وكأن هذا الخلاف يلتفت إلى ما تقدم من الخلاف في كون القضية مستندة إلى مجرد شهادة الشاهد أم لا؟ ". الحال [الرابع] أن تكون اليمين ممكنة من بعض من له الحق، وممتنعة من بعضهم، وذلك كشهادة شاهد على رجل بأنه وقف داره على بنيه وعقبهم بطنًا بعد بطن، فإن من لم يلحق من الأعقاب يستحيل أن يستحلف إلا مع شهادة من شهد له، والموجودة من ولد الصلب لا تستحيل يمينهم، فاختلف المذهب ها هنا لكون هذه الشهادة وقعت ب شيء واحد تصح اليمين فيه مع الشاهد من وجه وتتعذر من وجه آخر. فذكر محمد أن الذي يذهب إليه أصحابنا امتناع اليمين مع هذه الشهادة على الإطلاق. وروى ابن الماجشون أنه إذا حلف الجل من أهل هذه الصدقة ثبت جميعها على حسب ما أطلقه المحبس. وروى ابن وهب ومطرف وابن الماجشون أنه إذا حلف واحد ممن يستحق هذه الصدقة ثبت جميعها للحاضر والغائب ومن يولد بعد. وسبب الخلاف: أن الشهادة اشتملت على ما تصح اليمين معه وما لا تصح، فمن التفت إلى جانب تعذرها أبطل الحبس، ومن التفت إلى جانب الصحة صحح الحبس. (ثم اختلف على القول بالتصحيح، هل يكتفي بيمين الجل لكونهم يقومون مقام الكل،

أو يكتفي بواحد لان الجل إنما يستحق بيمينهم غيرهم ممن لم يحلف، لأن يمين الحالف تنسحب على حقوق غيره لما كانت لا شهادة بشيء واحد لا يتبعض في الحكم [تصحيحًا] لها على الإطلاق، وكذلك يمين الواحد. قال الإمام أبو عبد الله: "وربما هجس في نفسي تعليل آخر، وهو أنه حلف واستحق نصيب طالبه بقية طبقته بنصيبهم مما أخذ، إذ حقهم فيه على الشياع وهو مقر لهم، فإذا أخذ منه شيء عاد (اليمين) لإكمال نصيبه، فلا يزال هكذا حتى يؤخذ الحبس كله، فاكتفى بيمينه وحده يمينًا واحدة، لأنه حلف على الجميع لحق نفسه على هذا التخريج"). وروى بعض القرويين، تفريعًا على ثبوت هذا الحبس بيمين الحاضرين مع الشاهد، أنه إن حلف الجميع ثبت الحبس، وإن نكل الجميع لم يثبت لواحد منهم حق، وإن حلف بعضهم ونكل البعض، فمن حلف استحق نصيبه، ومن نكل لم يستحق شيء ا، وقدر أن كل نصيب كحق منفرد شهد به شاهد لرجل واحد، فإن حلف استحق، وإن نكل لم ستحق. قال: "وكذلك إذا انقرض البطن الأول ووجد البطن الثاني، فإنهم لا يستحقون شيء اإلا بالإيمان كالبطن الأول. وقيل فيمن لم يحلف أبوه: إنه لا يستحق شيء اوإن أجاب إلى اليمين"). وسبب الخلاف: هل يلتقي البطن الثاني منافع الوقف عن الواقف أو عن الأول؟ وعلى تحقيق هذا المعنى أيضًا يتخرج حكم ما لو حلف واحد من البطن الأول ونكل سائرهم، وقلنا بأنه يستحق نصيبه دون غيره، ثم مات هو وبقي إخوته الناكلون، هل يرجع نصيبه إلى بقية أهل طبقته أو إلى البطن الثاني؟ قال الإمام أبو عبد الله: "وقدج قيل: إن نكولهم يصيرهم (كالموتى)، ويرجع الحق إلى البطن الثاني". قال: "والأظهر عندي أن المحبس إذا شرط أن لا يأخذ البطن الثاني إلى أهل البطن الثاني". قال: "والأظهر عندي أن المحبس إذا شرط أن لا يأخذ البطن الثاني شيء اإلا بعد انقراض البطن الأول وموت جميعهم، فما دام أحد من الناكلين حيًا لا يستحق أهل البطن الثاني شيء ا، فإذا مات جميعهم، من حلف ومن نكل، انتقل حكم الشهادة إلى البطن

الباب الخامس: في الشهادة على الشهادة

الثاني، فمن حلف استحق، ومن لم يحلف لم يستحق شيء ا. ويتخرج على تحقيقه، أيضًا، أنه هل يفتقر أهل البطن الأول في استحقاق ما يرجع إليهم عمن مات من طبقتهم إلى يمين مجدة، كما في استحقاق البطن الثاني بعد انقراض البطن الأول؟ قولان، سببهما ما تقدم. فرع: فيما يقوم مقام الشاهد واليمين. ويقوم مقامهما الشاهد والنكول، والمرأتان واليمين، والمرأتان والنكول، واليمين النكول. الباب الخامس: في الشهادة على الشهادة وهي تجري في كل شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الأدميين من مال أو حد أو قصاص. ثم النظر في أربعة أطراف. الطرف الأول: في التحمل. ولا يجوز تحمل الشهادة على الشهادة إلا إذا قال الشاهد: أشهد على شهادتي. أو رآه الفرع وهو يشهد بين يدي الحاكم، فله أن يشهد على شهادته وإن لم يشهده. وقال محمد: لا يشهد على شهادته وإن رآه يؤيدها حتى يشهده، ولو قال في غير مجلس (الحاكم) لفلان على فلان كذا وعندي به شهادة لم يجز التحمل لأنه يتساهل في غير مجلس الحكم، وكذلك لو قال: أشهد أن له عليه كذا، لم يتحمل أيضًا. الطرف الثاني: (في) الطوارئ على شهود الأصل. ولا يضر موت شاهد (الأصل) وغيبته ومرضه، بل هو المراد من شهود الفرع. أما إذا طرأ عليه الفسق أو العداوة أو الردة امتنعت شهادة الفرع، ولو طرأ الجنون لم تمتنع. فرع: إذا أكذب شهود الأصل شهود الفرع قبل الحكم بطلب شهادة الفروع. قال أبو الحسن اللخمي: "واختلف إذا كان إكذابهم لهم بعد حكم القاضي بشهادتهم، فقال محمد في رجلين نقلاً عن أربعة أنهم أشهدونا أنهم يشهدون على فلان بالزنى، فلم يحد الناقلان حتى قدم الأربعة فأنكروا أن يكونوا أشهدوهم، قال: يحد الأربعة القادمون حد القذف، ويسلم الاثنان لأنهما صارا شاهدين على الأربعة بالقذف. قال: فأثبت النقل وجعل إنكار الأربعة رجوعاً. وقال مالك، في كتاب ابن حبيب، في رجلين نقلاً عن غائب فحكم بشهادتهما مع يمين

الطالب، ثم قدم الغائب فأنكر الشهادة فإن الحكم ينقض ويرد. وقال ابن القاسم ومطرف: الحكم ماض ولا غرم عليه ولا على الناقلين. قال: ولو قدم قبل الحكم بها لكان أحق بشهادته". الطرف الثالث: في العدد. ويشهد على كل شاهدان. وإن شهدا على شهادتهما جميعًا جاز في غير الزنى. وقال عبد الملك: لا تجوز أن يشهد على الآخر اثنان سوى الاثنين الذين شهدا على الأول ولا يجوز أن يشهد أحد شاهدي الأصل مع شاهد آخر على شهادة الأصل الآخر. وأما شهادة الزنى فلا تثبت بالنقل، على رواية مطرف، إلا بستة عشر شاهدًا على كل شاهد أربعة غير الأربعة الذين يشهدون على غيره. وقال ابن الماجشون: "إذا شهد أربعة على كل واحد من الأربعة جاز، فإن تفرقوا فثمانية على كل واحد اثنان". وحكى القاضي أبو محمد، رواية ثانية بالاكتفاء بشهادة اثنين على كل واحد من شهود الأصل، ثم قال: "والأولى هي الصحيحة". وقال محمد: "إن شهد اثنان على شهادة واحد واثنان على شهادة ثلاثة تمت الشهادة. قال: وإن شهد اثنان على رؤيتهما ونقل الاثنان عن اثنين جازت الشهادة". الطرف الرابع: في العذر المرخص لشهادة الفرع. وهو الموت والغيبة والمرض ونحوها من الأعذار، فلا تسمع شهادة الفرع إلا إذا مات الأصل أو مرض مرضصا يشق عليه الحضور، أو غاب بمكان لا يلزمه الحضور منه لأداء الشهادة. قال محمد: ولا تنقل في الحدود إلا في غيبة بعيدة. فأما اليومان والثلاثة فلا، إلا المرأة فإنه ينقل عنها مع حضورها بالبلد. ورواه ابن حبيب عن مطرف قال: ولم أر بالمدينة امرأة قط قامت بشهادتها عند الحاكم، ولكنها تحمل عنها، وذلك لأن ما يلزمها من الستر عذر يسقط عنها فرض الجمعة، فكان كالمرض وخوف الغريم فكل ما تترك به الجمعة كالمرض. وليس على شهود الفرع تزكية شهود الأصل، لكن إن زكوهم ثبتت عدالتهم وشهادتهم بقولهم، وليس عليهم أن يشهدوا على صدق شهود الأصل. فرع: يجوز أن يشهد النساء على شهادة غيرهن فيما تجوز شهادتهن عليهن، وليكن مع

الباب السادس: في الرجوع عن الشهادة

وقال أشهب وعبد الملك: لا يجوز نقلهن (للشهادة) بحال، لا في مال ولا في غيره، إذ النقل لا يجوز فيه الشاهد واليمين، وإنما تجوز شهادتهن حيث يحكم بالشاهد واليمين. الباب السادس: في الرجوع عن الشهادة قال محمد: لم يحفظ أصحاب مالك عنه في غرم الشاهد جوابًا، إلا أن جميع أصحابه يرون أن يغرم ما أتلف بشهادته إذا أقر بتعمد الزور. قال عبد الملك بن الماجشون: وإن رجع ولم يقر بالتعمد لم يغرم. وقال ابن القاسم وأشهب: إن شهدا على رجل بحق واحد ثم قالا قبل الحكم: بل هو هذا، لرجل غيره وقد وهمنا، لم يقبلا في الأولى ولا في الأخيرة. ثم النظر في المشهود به يتعلق بأطراف. الأول: القصاص، وللرجوع ثلاث حالات. الحالة الأولى: أن يكون قبل القضاء، فيمتنع القضاء ولو لم يصرح الشاهد بالرجوع ولكن عاد فقال للقاضي: توقف في قبول شهادتي، ثم عاد وقال: اقض فقد ذهب عني التشكك، فقال الإمام أبو عبد الله: "لا يبعد أن يجري في قبولها القولان الجاريان في التشكك قبل الأداء، كما لو سئل عن شهادة فلم يذكرها ثم عاد فقال: تذكرتها"، قال: "، قال: "ولكن اشترط مالك رضي الله عنه في قبول هذه الشهادة البروز في العدالة"، قال: "والواجب قبولها على الإطلاق لأن التشكك يعرض للعالم بال شيء ثم يذهب عنه ويرجع على اليقين. الحالة الثانية: الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، وفي ذلك خلاف، قال أصبغ: لا يستوفي. وقال ابن القاسم: يستوفي كما في الأموال. وقال أيضًا: القياس نفوذه، واستحسن ألا ينفذ لحرمة الدم، ورأى فيه العقل. ويقرب من قوله هذا قول محمد، في رجوع الشهود بزنى المحصن بعدا لحكم وقبل تنفيذه: إنه لا يرجم ولكن يجلد حد البكر. الحالة الثالثة: الرجوع بعد الاستيفاء، كما لو شهدا بقتل واستوفى، ثم رجعا، فإنهما يغرمان الدية في الخطأ، وكذلك في العمد أيضًا عند ابن القاسم. وقال أشهب: يقتص منهما في العمد. ثم حيث قلنا: لا يقتلان، فلا خلاف في عقوبتهما في العمد إذا ظهر عليهما أنهما تعمدا الزور ولم يأتيا تائبين. ولو علم القاضي بكون الشهود كذبوه وحكم، (فأراق) الدم لكان

حكمه كحكمهم إذا لم يباشر القتل بنفسه، بل أمر به غيره ممن تلزمه طاعته. ولو علم ولي القصاص أن الشهود تعمدوا الكذب وأن القاضي علم ذلك منهم، ثم باشر قتل قاتل وليه بهذا الحكم لكان عليه القصاص أن اعترف بالعمدية، والشاهد معه كالشريك. الطرف الثاني: الحدود. وإذا رجع الشاهد قبل الحكم ردت شهادتهم وحدوا، وإن رجعوا بعد إقامة الرجم، فإن اعترفوا بتعمد الزور حدوا، ثم هل يقتلون، أو تؤخذ الدية من أموالهم، قولان لأشهب وابن القاسم، وإن لم يتعمد فالدية على عواقلهم. فروع: الفرع الأول: إذا شهد أربعة بالزنى ثم رجع أحدهم قبل الحكم حدوا، ولو كان رجوعه بعد الحكم وإقامة الحد على الزاني لحد الراجح بغير خلاف. واختلف هل يحد الباقون، لأن الزنى لم يثبت بأربعة أو لا يحدون لأن الحكم نفذ بشهادتهم وهم الآن باقون عليها لم يكذبوا أنفسهم؟ الفرع الثاني: لو كان الشهود ستة فرجع اثنان منهم، لم يحد الباقون لاستقلال الحد بشهادتهم وهم لم يرجعوا عنها. واختلف قول ابن القاسم في وجوب الحد على من رجع. وسبب الخلاف: النظر إلى أنهما معترفان بالقذف ومقران بأن من شهد معهما شهدوا بزور، أو النظر إلى أنهما كالقاذفين شهد لهما أربعة بأن المقذوف زنى، قال الإمام أبو عبد الله: "والتحقيق أن يكشف الراجعان، فإن قالا: إنهما كذبا وكذب من شهد معهما، حدًا، وإنقالا: لا نعتقد كذب من شهد معنا بل الغالب صدقهم لعدالتهم عندنا لم يحدا". الفرع الثالث: لو انكشف بعد رجوع الاثنين أن أحد الأربعة الذين بقوا عبد فقال في كتاب محمد: يحد الراجعان، ويغرمان ربع الدية لكون الحد أقيم بأربعة بطل أحدهم بكونه عبدًا، ولا غرامة على العبد لأنه لم يرجع عن شهادته، ولكن عليه الحد لأن الشهادة لم تتم، ولا يلزم الثلاثة حد ولا غرامة. ولو لم يشهد عليه إلا أربعة فرجم بشهادتهم ثم وجد أحدهم عبدًا، فإن عليهم الحد أجمعين للقذف، وعلى العبد نصف حد الحر. قال الإمام: "وهذا قد يعترض بأن العبد إذا حد لأن الشهادة لم تتم بأربعة، فكذلك يجب الحد على الأحرار الثلاثة أيضًا. قال: "ويفرق ههنا بين بطلان شهادة الرابع الحر برجوعه وبين بطلان شهادة العبد، لأجل أن العبد لم يرجع عن شهادته فيوهن شهادة الثلاثة، وإنما ردت شهادته شرعاً.

الفرع الرابع: إذا رجع من لستة اثنان بعد إقامة الحد فقد تقدم حكمهما، فلو رجع ثالث لزمه غرم ربع الدية، يدخل معه فيه من سبقه بالرجوع قلوا أو كثروا، مع الحد على كل واحد منهم، سواء رجعوا معًا أو مفترقين. فإن رجع آخر، أيضًا لزمه ربع الدية، يشاركه فيها كل من رجع قبله ويشركهم فيما غرموا قبله، فيصير نصف الدية بين جميعهم على عددهم، فإن رجع ثالث لزمه مع كل من رجع قبله ثلاثة أرباع الدية. الفرع الخامس: (إذا رجم المشهود لعيه، فلما فقئت عينه في الجرم رجع واحد من الستة ثم تمادى الرجم عليه، فأوضح موضحة، فرجع ثان ثم تمادى الرجم عليه فمات فرجع ثالث، فقال محمد: إنه لو يرجع هذا الثالث ما كانعلى من تقدم من رجوعه شيء، وأرى على الراجع الأول سدس دية العين، وعلى الثاني مثل ذلك وخمس دية الموضحة، وعلى الثالث ريع دية النفس فقط، قال: وقيل مضافاً إلى السدس والخمس المتقدمين، والأول أصح). الفرع السادس: إذا شهد أربعة بالزنى واثنان بالإحصان، ثم رجع الجميع، فهل يختص غرم الدية بالأربعة أو يعمم الجميع؟، قولان: القول الأول: قول ابن القاسم واختاره سحنون وأصبغ، ووجهه أن شهادتهم لم تباشر ما يوجب الحد، لأن السبب هو الزنى، وشهوده مختارون لأداء الشهادة، إذ لو شاءوا لم يشهدوا. والقول الثاني: ذهب إليه أشهب وابن الماجشون ومحمد، ووجهه أن السبب مركب [من مقتضى الشهادتين، إذ لو انفردت الشهادة بالزنى عن الشهادة بالإحصان لم تقبل. ثم [إذا فرعنا] على القول الثاني فهل تقسم الدية على آحاد الجنسين فتكون بينهم أسداسًا أو على الجنس فيكون على كل جنس نصفها، فيخص كل واحد من الأربعة ثمن الدية، وكل واحد من الاثنين ربعها؟ قولان، أيضًا: الأول: لأشهب وعبد الملك، ووجهه أن الستة اشتركوا في الموجب للحد وأيهم قدر عدمه بطل الموجب، فكانوا كلهم فيه سواء. والقول الثاني: لمحمد، ووجهه أن الموجب مركب من وصفين: الزنى والإحصان، والمقصود بعدة الشهود إنما هو ثبوت كل واحد منهما، وليس العدد بمقصود في نفسه فعتبر، وإنما يعتبر المقصود وهو ثبوت الوصفين.

الفرع السابع: إذا شهد شاهدان على رجل بأن قد قذف رجلاً، فحد المشهود عليه بشهادتهما، ثم رجعا وأكذبا أنفسهما، فقال سحنون: لا غرم في ذلك ولا قود عند جميع أصحابنا، وإنما في ذلك الأدب. وكذلك لو شهد بأنه شتمه أو لطمه أو ضربه سوطًا، ثم رجعا بعد الحكم، بها فإنما في ذلك الأدب. قال بعض المتأخرين: لأنهما لم يتلفا مالاً فيغرماه، ولا نفسًا بتعمده شهادة الزور [فيطلبان] بديتها عند ابن القاسم، أو بالقصاص عند أشهد. الفرع الثامن: إذا ادعى المقتضي عليه أن الشهادتين عليه رجعا عن شهادتهما وقالا: شهدنا بزور، وطلب إقامة البينة مكن منه، فإن أقامها قضي عليهما بالمال. وكذلك في قيام البينة برجوع أحدهما يغرم نصف المال، فإن طلب يمينهما أنهما لم يرجعا، ففي إلزامهما اليمين له قولان: الأول: رواية ابن سحنون عن أبيه، قال: إذا أتى بلطخ يوجب عليهما اليمين. والثاني: لمحمد بن عبد الحكم. ولو رجعا عن الرجوع لم يقالا، بل يقضي عليهما بما يقضي به على الراجع المتمادي في رجوعه. ووجه ذلك أن رجوع الشاهد عن شهادته ليس بشهادة، وإنما هو إقرار على نفسه بما أتلف بشهادته، وقد نص على ذلك محمد، وكان عن ابن القاسم وعبد الملك وابن عبد الحكم وأصبغ، وعليه يخرج قول سحنون في استحلاف الشاهد إذا ادعى عليه بالرجوع فنكل. الفرع التاسع: في ذكر ما يلحق برجوع الشهود، وهو ظهور كذبهم وإن لم يعترفوا بالكذب، وفي ذلك صور: الأولى: إذا شهد شاهدان على رجل أنه قتل ابن رجل عمدًا، فحكم له بالقصاص وقتل المشهود عليه بأنه قاتل، ثم قدم الابن حيًا بعد ذلك، وتبين كذب الشهود، فذكر الإمام أبو عبد الله أن المذهب لم يختلف في تعلق الغرامة بالشهود، وإنما الخلاف في البداية والترتيب في الغرم وفي رجوع من غرم بما غرم على من لم يغرم. والذي أشار إليه هو أن ابن القاسم وسحنون قالا: تؤخذ الدية من الشهود إلا أن يكونوا فقراء فتؤخذ من الأب القاتل. وروي نفي الترتيب، وأن ولي الدم يخير: إن شاء اتبع بالدية الشاهدين، وإن شاء اتبع بها الولي القاتل. ثم إن اتبع الشهود فليس له العدوان عنهم إلا أن يجدهم فقراء، وإن ابتدأ باتباع القاتل لم يكن له العدول عنه مليًا كان أو فقيرًا. وروي أيضًا أنه لا يرجع على الولي بشيء، وأما الرجوع فقال سحنون: من غرم لا يرجع على غيره بما غرم، كان ولي الدم أو الشهود.

وفي رواية التخيير: أن الشهود يرجعون بما أدوا على القاتل، ولا يرجع هو عليهم بما ودى. ولو كانت الشهادة بقتل الخطأ فأخذت الدية من العاقلة ثم قدم المشهود بقتله حيًا لردت الدية، فإن أعدم آخذها غرمها الشهود، ثم لا يرجعون بها على الأخذ، ولا يرجع هو بها عليهم إن أخذت منه، وأما إن كانت الشهادة إنما هي على إقرار القاتل فلا يلزم الشهود غرم ولا عقوبة، والدية على آخذها. وكذلك ولو كانوا فروعًا ناقلين عن غيرهم. الصورة الثانية: أن يشهد على رجل بالزنى فيرجم بالحكم المرتب على الشهادة، ثم يطلع بعد الرجم على أنه مجبوب، ويتبين كذب الشهود، ففي الكتاب: "يغرم الشهود الدية في أموالهم". وذكر محمد عن أشهب أنه يرى الدية على عاقلة الإمام. وبه قال محمد بن عبد الحكم. الصورة الثالثة: (قال محمد بن عبد الحكم في رجل قيد عبده وحلف، قال الشيخ أبو محمد: "يعني بحريته ألا ينزع عنه القيد شهرًا لفعل استوجب [به] ذلك، وحلف بحريته أن في القيد عشرة أرطال، ثم جاء شاهدان فشهدا أنه ليس في القيد إلا ثمانية أرطال"، قال الشيخ أبو محمد: "أراه يريد، فحكم القاضي بعتق العبد"، قال: "ثم إن السيد نزع القيد"، قال الشيخ أبو محمد: "يريد بعد الشهر"، قال: "فوجد فيه عشرة أرطال، قال محمد: فلينقض القاضي حكمه لأنه ظهر كذب الشاهدين. الطرف الثالث: في البضع. وإذا رجع الشاهدان بعد الشهادة على الطلاق وبعد القضاء نفذ الطلاق، ولا غرم عليهما إن كانت مدخولاً بها، لأنهما إنما أتلفا وفوتا (عليه) بشهادتهما منافع بضع، وذلك ما يتقوم. وإن كانا شهد أنه تزوج بامرأة ثم طلقها قبل الدخول، فقال،

ابن القاسم: يغرمان نصف الصداق. قال: وكذلك لو شهد على دخوله بزوجة عنده مع إقراره بالطلاق وإنكار الدخول، لغرما النصف، أيضًا، إذا رجعا. وقال أشهب وابن عبد الحكم: إذا شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول فلا غرم عليهما بحال. وسبب الخلاف: النظر إلى أصلين: أحدهما هل منافع البضع مما يتقوم أم لا؟. والأصل الآخر هل الصداق كله يثبت بالعقد، أو كله مترقب؟، فابن القاسم بنى على أن الصداق كله مترقب لجواز أن ترتد المرأة قبل الدخول فيسقط جملة، وقد ألزمه الشهود بشهادتهم، على هذا القول، مال لم يكن لزمه وحالوا بينه وبين الزوجة، فصاروا كمن ألزمه الثمن وحال بينه وبين المثمن. وبنى أشهب وابن الحكم على أن منافع البضع مما لا يتقوم، وأن الصداق كله واجب بالعقد، والشهود إنما يغرمون ما (أتلفوه) بشهادتهم، وإنما حالوا بينه وبين ما اشتراه بالصداق من منافع البضع وذلك مما يتقوم، وصار ذلك كمن شهد على مستحق لقصاص أنه عفا، فإنه لا يغرم شيء الأنه إنما فوت بشهادته استحقاق دم، وذلك مما لا يتقوم. ولو شهد بطلاق زوجة ثابت نكاحها بشهادة غيرهما، وشهد آخران بأن الزوج دخل بها، ولا يعلم شاهدا الطلاق هل أوقعه قبل البناء أو بعده، وكذلك الشاهدان الآخران لا يعلمان أنه طلق، فإن شاهدي الطلاق إن رجعا لا غرامة عليهما على مذهب الجماعة أشهب وعبد الملك ومحمد وغيرهم. وذكر ابن سحنون أن أصحابنا على هذا المذهب وإن بعض الرواة خالف فيه، قال: وأكثر الرواة على خلافه. ولو رجع الشاهدان بالدخول لغرما نصف الصداق، بينهما نصفين، لأنه الثابت بشهادتهما. وإن رجع أحدهما غرم ربع جميع الصداق. فروع: الفرع الأول: إن الشاهدين بالدخول إذا غرما نصف الصداق لرجوعهما ثم ماتت الزوجة قبل الدخول استرجعاه، لاعتقاد الزوج أنها ماتت في عصمته لأنه منكر للطلاق. الفرع الثاني: إذا شهد شاهدان على الزوج أنه طلق قبل البناء فقضي عليه بنصف الصداق على قول ابن القاسم، ثم مات الزوج فرجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يغرمان للمرأة ما حرماها من ميراثه وما أسقطا من صداقها. ولو كان إنما ماتت هي لرجع الزوج عليهما بميراثه فقط لا شيء مما غرم من الصداق. وهذا الجواب إذا كان كل واحد من الزوجين منكرًا ما شهد به الطلاق. الفرع الثالث: إذا شهدا بطلاق أمة من زوجها ففرق القاضي بينهما بشهادتهما، ثم جاء شاهدان آخران فشهدا بأن الأولين مزوران، إما لعلمهما بغيبتهما عن البلد الذي فيه

الزوجان أو لغير ذلك، ثم رجع الشاهدان المكذبان غرما للسيد ما نقص من ثمنها بما ألصقا بها من عيب الزوج فتبقى معه، ويغرمان للسيد ما بين قيمتها ذات زوج وخالية من زوج. الفرع الرابع: إذا شهدا على امرأة أنها اختلعت من زوجها بمال، وهي تنكر ذلك وتذكر أنه طلقها من غير عوض، فإذا غرمت بشهادتهما ثم رجعا غرمًا لها ما غرمت للزوج. الفرع الخامس: وهو مرتب على الرابع: لو كان الخلع المشهود به على ثمرة لم يبد صلاحها فقضي بذلك للزوج، ثم رجعا، (فقال عبد الملك: عليهما قيمة الثمرة على الرجاء والخوف، قساسًا على من أتلف الثمرة قبل زهوها. وذهب محمد إلى أنها لا ترجع عليهما بشيء حتى يجد الزوج الثمرة ويقبضها، فيطالب الشاهدان حينئذ بالغرامة. وإن كان الخلع بعبد آبق أو بعير شارد، فقال عبد الملك: يغرمان قيمة الآبق والشارد على أقر صفاتهما. فإن ظهر بعد ذلك أنهما كانا معيين عند الخلع استردا مما غرماه ما يقابل العيب. وعلى قول محمد إذا كان حصول الآبق أمرًا قريبًا أخذت الغرامة إلى حصوله حسبما قاله في الثمرة، وإن كان بعيدًا غرم الشاهدان قيمته على الصفة التي أبق عليها. ثم رجع محمد فقال: لا غرامة على الشاهدين في هذا ولا في الجنين، إذا وقع الخلع به، ورجع الشاهدان، إلا بعد خروج اجنين وقبضه، وبعد وجدان العبد الآبق والبعير الشارد وقبضهما، فيغرمان قيمة ذلك يومئذ، وقد كان قبل ذلك تالفًا. وكذلك الجنين وكذلك الثمرة قبل بدو صلاحها. الفرع السادس: (إذا شهد شاهدان على امرأة أن فلانًا تزوجها على مائة دينار، وصداق مثلها مائتان دينار، وهي تجحد، فقضى القاضي بذلك ودخل بها الزوج، ثم أقرأ أنهما شهدا بزور، فالنكاح ماض بالحكم وعليهما ما أتلفا عليهما من صداق مثلها. ولو كان صداق مثله مائة دينار فأقل لمترجع عليهما بشيء. وإن طلقها الزوج قبل البناء فإنها تسأل عما أنكرت، فإن ثبتت على أنه لم يكن نكاح قط فلا شيء لها، وإن قالت: قد كان نكاح وجحدته كراهية للزوج، فلها أخذ نصف الصداق منه كالمرأة تدعي أن زوجها طلقها ثلاثًا ولم تجد بينة فبقيت تحته حتى مات وصارت وارثة، فإنها إن تمادت على تلك الدعوى فلا ميراث لها، وإن قال: كنت كاذبة كراهية للزوج، كان لها الميراث. قال الشيخ أبو محمد: "يريد وتحلف").

الطرف الرابع: في العتق وما يتصل به: وإذا شهد شاهدان على مالك لعبد أنه أعتقه عتقًا ناجزًا، والمال يجحد، فقضي عليه بعتقه بشهادتهما، ثم رجع الشاهدان، فإنهما يغرمان للسيد قيمة عبده، لأنهما منعاه من بيعه والانتفاع به، فصارا بذلك كالمانعين له بقتله، ويكون الولاء لسيده لأنهما معترفان بذلك، والسيد يستحق ماله على مقتضى إنكاره، فإن لم يكن له وارث أخذ السيد ماله على مقتضى قوله وقول الشاهدين. وإن كان العتق في أمه وهي تعلم أن الشاهدين مزوران فلا يحل لهما أن تبيح فرجها بالتزوج لأحد. وإن كان الشهادة بأنه أعتقه إلى أجل فقضى عليه بذلك، ثم رجعا، غرما قيمته حالة، أيضًا، لا، المعتق إلى أجل امتنع فيه البيع، وهو من أعظم المقاصد في الأملاك، وقد حالا بين السيد وبينه، إلا أن السيد إذا أخذ قيمته وقد دخلت فيها قيمة خدمة العبد للسنة التي يعتق لانقضائها، فلا يجمع له بين أخذ الشيء وأخذ قيمته، والشاهدان يقولان: نحن نستحق منافع العبد إلى أجل عتقه لكون السيد أخذ منا قيمتها فيما أخذ، فيستحق الرجوع على السيد بمقدار ما أخذ منا من قيمة هذه المنافع التي أثبتناها حين شهادتنا في يده. فههنا وقع الخلاف في المذهب. فذهب عبد الله بن عبد الحكم إلى أن هذه المنافع تقوم على غررها وتجويز أن يموت العبد قبل الأجل أو يعيش إليه فيخرج حرًا، فتحط القيمة على هذه الصفة من جملة القيمة التي يغرمانها، وتبقى منافع العبد لسيده على حسب ما كانت قبل أن يرجعا عن الشهادة. قال محمد: وهذا الذي قاله ليس بمعتدل، لأنه قد تكون قيمة هذه المنافع أوفى من قيمة رقبته فيكون الشاهدان أتلفا عليه العبد ثم لا يغرمان شيء ا. قال الإمام أبو عبد الله: "وهذا الذي قاله محمد صحيح من جهة الفقه لو أمكن تصوره، ولكنه كالممتنع من جهة العادة لأنه إذا حكم بقيمة الرقبة التي تباع بها ويبقى العبد مملوكًا طول أيام حياته فقد علم قطعًا أن قيمة المنافع المؤجلة قد دخلت في هذا التقويم فلا يصح أن تكون أكثر منه". (ورأى) سحنون أن تسلم منافع العبد إليهما إلى أن ينقضي الأجل يؤاجران العبد أو يستخدمانه ويحسب ذلك عليهما حتى يستوفيا ما غرما، وما بقي من منافع المدة فللسيد. وإن لم تف منافع المدة بما غرما لم يرجعا بشيء مما بقي على أحد. وكذلك لو مات في أضعاف المدة أو بعد فراغها ولم يستوفيا لم يرجعا بشيء، إلا أن يترك مالاً فيأخذا منه مقدار ما غرماه أو بقي منه بعدما قبضًا في حياته. وكذلك لو قتل لم يكن لهما شيء إلا أن تؤخذ قيمته من قاتله

قاتله فيأخذا منها، لأن السيد معترف أن ما يستحقه من مال العبد فيه دين، وهو مقدار ما أخذ منهما. ورأى محمد أن سيد العبد بالخيار بين أن يسلم خدمته إليهما، كما قال سحنون، وبين أن يتمسك بها ويدفع إليهما قيمة هذه المنافع وقتًا بعد وقت، بحسب ما يرى في ذلك من مقتضى الاجتهاد، وبهذا قال عبد الملك بن الماجشون. ومنشأ هذا الاختلاف: النظر إلى تقابل الحقوق، فمن حق السيد أن يتمسك بالعبد أو الأمة ليأمن عليهما ويدفع القيمة إلى الشاهدين، ومن حق الشاهدين أم يقولا: نحن غرمنا قيمة المنافع في قيمة الرقبة فكأنها اشتريناها (منه)، فنحن أحق بعين المنافع. وإن كانت الشهادة بأن دبر عبده فقضي عليه بذلك ثم رجعا، فإنهما يغرمان قيمته ناجزًا ويقال لهما: ادخلا فيما أدخلتماه فيه فاقبضا من الخدمة التي أبقيتما بيده من رقة ما وديتما، ثم ترجع خدمته لسيده. ثم حكمهما في موته في مدة حياة السيد أبو بعدها، ولم يستوفيا ما غرم حكمهما في المعتق إلى أجل، فإن خرج بعد موت السيد حرًا فلا شيء لهما، وإن رق منه شيء فهما أولى به حتى يستوفيا منه، وإن رده دين فهما أولى من صاحب الدين، وهما كأهل الجناية. وإن كانت الشهادة بالكتابة وقضى بها ثم رجعا فليؤديا قيمته ناجزة أيضًا. (قال محمد: قيمته يوم الحكم، ثم يتأديانها من الكتابة على النجوم حتى يستوفيا، ثم يتأدى السيد ما بقي منها، ولو رق (بعجزه) قبل أن يستوفيها لبيع لهما منه بتمام ما بقي لهما، فإن لم يبلغ ما بقي فلا شيء لهما). (قال محمد: هذا قول عبد الملك. وروي عن ابن القاسم أنهما يغرمان القيمة فتوضع بيد عدل ويتأدى السيد الكتابة، فإن استوفى من الكتابة مثلها رجعت إلى الشاهدين، وإن كانت الكتابة أقل أو مات المكاتب قبل الاستيفاء دفع (للسيد) من تلك القيمة تمام قيمة عبده). (قال محمد: ويقول عبد الملك: أقول وعليه أصحاب مالك، لأن السيد في قول ابن القاسم مظلوم، قد منع منه عبده، وما كان له فيه من التصرف، ولم تدفع له القيمة، ولإراحة

الشاهدين، أيضًا، في إيقافها، إذ لعلها تنوي فيغرمانها ثانية. قال: ولو استحسنت قول ابن القاسم لقلت: فكلما قبض السيد من الكتابة شيء ارد مثله من القيمة الموقوفة إلى الشاهدين، ولم أوقفها كلها إلى انقضاء الكتابة كما في ظاهر قوله). (وقال سحنون: إذا رجعا بيعت الكتابة بعرض، فإن كان فيها وفاء بقيمة العبد أو أكثر فللسيد، وإن كان أقل رجع عليهما بتمام القيمة، والقول الأول أكثر. وإن كانت الشهادة أنه استولد أمته فحكم بذلك ثم رجعا، فعليهما قيمتها للسيد، لما قدمناه من التعليل، ولا شيء لهما إذ لم يبق فيها خدمة يرجعان فيها بما يغرمانه إلى أن تجرح أو تقتل فيؤخذ لذلك أرض فلهما الرجوع فيه بما غرماه، وما فضل للسيد. قال سحنون: وكذلك إن أفادت مالاً فليرجعا فيه بما وديا. وقال محمد: لا يرجعان فيما تفيد من مال بعمل أو بهبة أو بغير ذلك، بل ذلك للسيد مع ما أخذ. وقال محمد بن عبد الحكم: عليهما قيمتها، ويخفف عنهما لما بقي له فيها من الاستمتاع. وكذلك إن كانت حاملاً غرما قيمتها على التخفيف. ولو كان لها ولد وكانت شهادتهما أنه أقر أنها ولدته منه فألحق به، ثم رجعا فعليهما له قيمته. قال الشيخ أبو محمد: "وروي عن بعض مشائخنا: أنه لا شيء عليهما إذا رجعا بشهادتهما عن استيلاد الأمة، قال: وهي رواية ما أدري ما حقيقتها، ولا أرى ذلك. وإن كانت الشهادة أنه أعتق أم ولده فقال محمد: قال عبد الملك، وأخبرنا أصحابنا مثله عن أشهب: إنه لا شيء على الشاهدين لأنه لم يبق له فيها غير الوطء ولا قيمة له. وقال ابن القاسم: على الشاهدين قيمتها للسيد كما لو قتلها رجل، قال محمد: والقول الأول أقوى وأصح. وقال محمد بن عبد الحكم: يغرمان له قيمتها ويخفف عنهما من ذلك بقدر ما كان بقي له فيها من الرق". الطرف الخامس في النسب، والولاء، وإرقاقالحر. أما النسب: فمن ادعى أنه ابن رجل، والرجل ينفيه، فأقام بينة أن الأب أقر به أنه ابنه فحكم بذلك، ثم رجعا وأقرا بالزور بقرب ذلك، ولم يمت الأب، فلا شيء عليهما في تثبيت النسب قبل أن يؤخذ [بشهادتهما] المال بالميراث، بأن يموت الملحق به فيرث المقضي له وتمنع العصبة، فحينئذ يغرمان للعصبة ما أتلفا عليهم. وإن كان المشهود (ببنوته) عبدًا لرجل

فقضي بإلحاق نسبه وحريته، ثم رجعا والسيد صحيح البدن، فالحكم بالنسب ماض، وعليهما للسيد قيمة العبد، فإن مات الأب بعد ذلك وترك ولدًا آخر غير المستلحق فليقسمان تركته، إلا قدر قيمة المستلحق التي أخذ الأب من الشاهدين فإنها تعزل من التركة فتكون للابن الأول خاصة، لأن المستحلق مقر أن أباه ظلم فيها الشهود، وأنه لا ميراث له فيها، وينظر إلى ما حصل للمستلحق من الميراث من غير القيمة فيغرم الشاهدان مثله للابن الأول بما أتلفاه عليه. "قال محمد: وإنما جعلنا القيمة للابن الأول، لا، الو قسمناه بينهما لرجع الشاهدان على المستلحق فيما أخذ منهما فأخذاه منه، لأنه مقر بأنه لا رجوع لأبيه عليهما لصحة نسبه عنده، فإذا أخذا ذلك منه قام عليهما الابن الأول فأخذه منهما، لأنه يقول: لو بقي ذلك بيد المستلحق لوجوب لي عليكما الرجوع بمثله لأن عليهما أن تغرما كل ما أخذ من التركة. قال: ولو طرأ على الميت بعد ذلك دين مائة دينار لرجل، فإنه يأخذ من كل واحد من الولدين نصفها، فإن عجز عن ذلك [تم] قضاء الدين من تلك القيمة التي انفرد بها الأول ورجع الشاهدان (عليه) فأغرماه مثل الذي غرمه الملحق للغريم، لأنه أخذه منهما عوضًا عما أخذه الملحق من تركة أبيه، والآن فقد صرف في دين أبيه فلم يتلفا عليه شيء اً بشهادتهما. وقال: ولو لم يكن للميت غير المستلحق وحده، وقد ترك مائتي دينار، مائة من كسبه ومائة أخذها من الشاهدين في قيمة المستلحق، فالمائة الواحدة له فقط والمائة الاخرى للعصبة فإن لم يكونوا فلبيت المال ويغرم الشاهدان مائة أخرى للعصبة أو لبيت المال [لأنهما] لولا شهادتهما أخذ العصبة مائتين. فإن طرأ على الميت دين مائة دينا أخذها من الملحق وحده، ورجع الشاهدان فأخذا المائة التي وديا للعصبة أو لبيت المال بعد موت الميت". وأما المواريث: فمن ترك مائة دينار فورثها مولاه، ثم قدم رجل فأثبت أنه ابن عمه فنزعها من المولى، ثم قدم آخر فأثبت أنه أخو (الميت)، فأخذها من يد أبن العم، ثم قدم آخر فأثبت أنه ابن الميت فانتزعها من يد الأخ، ثم رجع جميع الشهود، فعلى شهود تلابن غرمها للأخ لا، هم أتلفوها عليه، وكذلك على شهود الأخ غرمها لابن العم وعلى شهود ابن العم غرمها للمولى. وأما الولاء: فإذا شهد شاهدان أن فلانًا مولي فلان، والمشهود عليه ينكر، فقضي

بالولاء، ثم رجعا وأقرا بالزور، فلا شيء عليهما إلا أن يموت ويترك مالاً ولا يرثه غير ذلك المولي المحكوم له، فإنهما يغرمان لمن أتلفا ذلك عليه حتى صار لهذا إن أقرا أنهما انتزعا ولاءه من الذي نازع الآخر فلي الولاء إن كان أحد نازعه. وأما إن لم يعرف فيه منازع فيوقف ما (يضمنانه) حتى يثبت مستحق وإنما يضمنان تركته التي مات عنها، كانت أكثر مما كان معه يوم الحكم أو أقل. وأما إرقاق الحر: فقال محمد بن عبد الحكم: إذا شهدا على رجل أنه عبد لفلان وهو يدعي الحرية فقضي عليه بالرق، ثم رجعا، فلا قيمة عليهما في الرقبة، ولكنهما يلزمان للعبد كل ما استعمله سيد، وكل خراج أدى إليه من عمله وإن كان له مال فانتزعه، فهذا كله يلزم الشهود للعبد. ثم ليس لمن قضى له (بملكه) أن يأخذ ذلك منه، لأنه إنما هو عوض مما أخذ منه. ولو مات المشهود له وذلك في يده لم يأخذه السيد بل يوقف حتى يستحق ذلك مستحق يرثه بالحرية. ولو أعتق منه العبد قبل موته عبدًا لجاز عتقه وكان ولاؤه بعد لمن كان يرث عنه الولاء لو كان حرًا، ويرث العبد إن مات ومعتقه حي. وإن أوصى منه العبد كان ذلك في الثلث منه، وإن وهب منه أو تصدق جاز ذلك، ويرث باقيه ورثته وإن كان له من يرثه لو كان حرًا، وليس للعبد أن يتزوج منه لأن النكاح ينقص رقبته". الطرف السادس: في المال. وقد تقدم ما يعرف منه حكم الرجوع فيه على الجملة، غير أن المقصود ههنا ذكر فروع. الفرع الأول: في رجوع الشهود عن بعض الشهادة. "قال محمد بن عبد الحكم: وإذا شهد شاهدان لزيد وعمرو بمائة دينار فأخذاها كل واحد خمسين، ثم رجعا وقالا: المائة كلها لزيد، واعترفا بالكذب في اشتراك عمرو معه فيها، فإنهما يغرمان خمسين للمشهود عليه، لأنهما أقر أنهما أخرجاه من يده إلى ما لا حق له فيها، ولا تقبل شهادتهما للآخر أن المائة كلها له، ولا يغرمانها له، لا، هما إنما أخذا خمسين من مال المشهود عليه دفعاها لمن لا شيء له عليه، وإن (كان) لزيد عنده خمسون أخرى فقد بقيت على من هي عليه. قال: ولو كان المشهود به ههنا عبدًا معيناً، شهدا بأنه لزيد وعمرو، ثم رجعا بعد أن قضي بذلك فقالا: إنما العبد كله لزيد، فإنهما يغرمان نصف قيمة العبد لزبد إن كان الذي أخرج العبد بالشهادة من يده يصدقهما في أن جميعه لزيد على حسب ما قالاه في

رجوعهما، وإن كان ينكر الشهادتين ويقول: كله لي، فغرامة النصف المذكور يقضي بها للمشهود عليه". الفرع الثاني: في رجوع بعضهم عن الشهادة، أو عن بعضها. "قال ابن القاسم وعبد الملك وابن عبد الحكم وأصبغ، في شاهدين قضي بشهادتهما في حق، ثم رجع أحدهما: فإنه يغرم نصف الحق. قال محمد: ولو رجع أحدهما عن نصف ما شهد به لغرم ربع الحق، وإن رجع عن الثلث غرم لسدس. ولو رجعا جميعًا كان الحق عليهما نصفين. فإن اختلف رجوعهما لزم كل واحد غرم [نصف] ما رجع عنه، لأنه هو الذي أتلف". الفرع الثالث: في رجوع بعضهم مع ثبات من يستقل بهم الحق. وإذا كانت البينة ثلاثة فقضي بها ثم رجع أحدهم، فقال محمد: لا يغرم شيء الاستقلال الحق بمن بقي، فإن رجع ثان غرما نصف الحق. "وقال محمد بن عبد الحكم: بل يغرم الراجع أولاً ثلث الحق. ثم حكى عن أشهب أنه قال: لو شهد أربعة بدراهم، ثم رجع منهم ثلاثة لغرموا ثلاثة أرباع الدراهم. وقال محمد في ثلاثة شهدوا بثلاثين دينار فقضي بها، ثم رجع أحدهم عن الثلثين، ورجع آخر عن عشرين منها، ورجع ثالث عن عشرة منها: فعشرة على الجميع غرمها أثلاثًا، وعشرة لا يغرم أحد منها شيء الاستقلال ثبوتها بشاهدين، وهذا على القول الأول بأن الراجح لا يغرم إذا بقي ممن شهد معه من يثبت معها لحق، وتبقى عشرة على الأولين منها خمسة بينهما نصفين، ولا شيء على الثالث منها. الفرع الرابع: "في رجوع بعض البينة المشتملة على جنسي الرجال والنساء، وكيفية توزيع الغرامة. وإذا حكم لرجل ونساء، ثم رجع الجميع، فعلى الرجل نصف الحق، وعلى جماعة النساء نصفه بينهن بالسوية، ولو رجعن وحدهن لكان عليهن النصف. ولو كن عشرًا فرجع منهن واحدة إلى ثمان فلا شيء عليهن، فإن رجع منهن تسع، أو رجع ثمان ثم رجعت واحدة بعدهن، فعلى التسع ربع المال بينهم بالسوية، لانه بقي من أحيى ثلاثة أرباع الحق، وذلك في كل ما تجوز فيه شهادتهن مع الرجال". فأما ما ينفردن به ويقبلن فيه منفردات عن الرجال، فكل امرأة منهن كرجل، فلو شهد

رجل وعشر نسوة على رضاع، ثم رجع الكل بعد الحكم، فعلى الرجل سدس ما يجب من الغرامة عما أتلفت الشهادة، وعلى كل امرأة نصف سدس إذ لا يتوقف الشرط على الرجل. لو رجع الكل إلا امرأتين لم يجب غرم على القول باعتبار ثبات من يستقل به الحق. ولو رجع الكل إلا واحدة وزع نصف الحق على جميع من رجع. الفرع الخامس: في طلب المشهود عليه من الشهود ألزم غرمه بشهادتهما قبل أن يغرمه. "قال في كتاب محمد: إذا حكم بشهادتهما ثم رجعا، فهرب المقضي عليه قبل الأداء، فطلب المقضي له أن يأخذ الشاهدين بما كانت يغرمان لغريمه لو غرم له، قال: لا يلزمهما غرم حتى يغرم المقضي عليه فيغرمان له حينئذ، وإن أقر بتعمد الزور. وقال محمد بن عبد الحكم: للمقضي عليه أن يطلب الشاهدين بالمال حتى يدفعاه عنه إلى المقضي له، ثم قال: وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم على الشاهدين حتى يؤدي المقضي عليه، وفي هذا تعرض لبيع داره وإتلاف ماله واللذان أوجبا عليه ذلك قيام، أرأيت لو حبسه القاضي في ذلك أيترك محبوسًا ولا يغرم الشاهدان بل يؤخذان بذلك حتى يخلصاه، فإن لم يفعلا حبسا معه، ولو شهد عليه بمائة دينار فحكم عليه بها وضرب له الإمام فيها أجلا عشرة أيام أو أكثر أو أقل، ثم رجعا قبل تمام الأجل، فإنهما يغرمان ذلك الآن للمقتضي له ويبرئ المطلوب". خاتمة الكتاب: يذكر اطلاع القاضي بعد الحكم على خلل في الشهود. وإذا حكم بشهادة اثنين ثم ظهر أن أحدهما عبد أو ذمي أو مولى عليه، فعلى المقضي له بالمال رده على المحكوم عليه، إلا أن يحلف مع الشاهد الباقي فيتم له ما أخذ، فإن نكل حلف المحكوم علين، إن شاء، وأخذ ماله، فإن نكل فلا شيء له. قال سحنون: والحكم ههنا ينتقض، بخلاف رجوع البينة، وبخلاف أن يظهر أن أحدهخم مسخوط، وبهذا قال أشهب. قال محمد: ولا أعلم إلا وقد قاله لي عبد الملك. وقال ابن القاسم: ينقض الحكم كما لو كان عبدًا أو ذميًا. وذكر الشيخ أبو محمد اختلافاً في قبول شهادة المولى عليه لسوء نظره في المال لا لجرحة فيه. "قال سحنون: وإن كان الحكم في قصاص في قتل أو قطع يد، فإن حلف المقضي له بالقصاص في اليد مع (شاهده الباقي)، أو حلف المقضي له بالقتل مع رجل من عصبته خمسين يمينًا قسامة تم له الحكم الأول، وإن نكل عن القصا في اليد، ولم يعلم بأن شاهده

عبد لظاهر حريته، فليحلف المقتص منه في اليد أن ما شهد عليه به باطل. وإذا (نكل) المقضي له بالقتل عن القسامة، فالنكول في مثل هذا ترد به الشهادة وينقض به الحكم. ثم قال بعض أصحابنا: لا ضمان على الحاكم وهو لم يخطئ، وقد اجتهد وفعل ما عليه من العمل على ما ظهر إليه ولا ضمان على المحكوم له بالقصاص لأنه لم يأخذ ثمنًا فيرده، وغرم ذلك على الشاهدين إن كانا جهلاً رد شهادتهما عنه بأن أحدهما عبد أو ذمي. وقال بعضهم: إن ذلك على عاقلة الإمام. وقيل: إن ذلك هدر، لا على الإمام ولا على البينة ولا على المحكوم له، وإنما خطأ الإمام الذي يكون على عاقلته ما جاوز ثلث الدية منه ما يخطئ به في نفس الحكم، مثل أن يقتل أو يقص من لا يجب ذلك عليه، أو يجيز شهادة العبد والذمي والمولى عليه، وهو يرى أن ذلك يجوز، أو يقطع من سرق من غير حرز، أو من سرق ثمرًا أو كثرًا. وأما يظهر له ما لم يعلمه، وما بالغ فيه في الإعذار والاجتهاد، فهذا الذي عليه. وكذلك لو حكم بالرجم في الزنى، ثم ظهر أن أحد الشهود عبد أو ذمي أو مولى عليه، فالحكم زائل، كأنه لم يكن، ويجلدون للقذف. وقال بعض أصحابنا: الغرم على الحاكم إن كان الشهود لم يعلموا أن الذين شهدوا معهم كما ظهر من أمرهم، وإن كانوا يعلمون ذلك فعليهم الغرم. وقال بعضهم: لا شيء عليهم ولا على الحاكم، جهلوا من معهم، أو كانوا عرفوا بهم وجهلوا أن شهادتهم لا تجوز، فأما لو علموا بهم وعلموا أنهم لا تجوز شهادتهم فهم ضامنون للدية".

كتاب الدعوى والبينات ومجامع الخصومات

كتاب الدعوى والبينات ومجامع الخصومات وهي تدور على خمسة أركان: الدعوى، والجواب، واليمين، والنكول، والبينة. الركن الأول: الدعوى، وفيه مسائل: الأولى: من يحتاج إلى الدعوى. ومن غضب منه شيء وقدر على استرداده مع الأمن من تحريك فتنة أو سوء عاقبة بأن يعد سارقًا أو نحو ذلك، جاز له أخذه ولم يلزمه الرفع إلى الحاكم. فأما إن كان حقه عقوبة فلابد من الحاكم. ولو كان حقه ديناً، ومن هو عليه ممتنع من أدائه، وحصل له في يد صاحب الحق شيء من جنس ما عليه أو غير جنسه، فقد اختلفت الرواية في ذلك، فروي أن له مقدار دينه من الجنس إن كان الغريم غير مديان، أو مقدار ما يخصه لم حاصص بدينه، إن كان مديانًا. وروي أنه ليس له ذلك من الجنس ولا غيره، على أي تقدير كان. وروي: له ذلك وإن كان غير جنس حقه، يتحرى قيمته ويأخذ مقدار ما يستحق، حكاها القاضيان أبو الحسن وأبو بكر، واختاراها، واستدل عليها القاضي أبو الحسن بقصة هند. ولو جحد من عليه الحق، وله على المستحق مثله، والحقان حالان. لجاز له أن يجحد على الرواية الأولى والأخيرة ويحصل التقاص. الثانية: في حد المدعي.

الركن الثاني: جواب المدعى عليه

وهو مت تجردت دعواه عن أمر يصدقه، أو كان أضعف المتداعين أمرًا في الدلالة على الصدق، أو اقترن بها ما يوهنها عادة، وذلك كالخارج عن معهود، والمخالف لأصل، وشبه ذلك. ومن ترجح جانبه ب شيء من ذلك فهو المدعى عليه. فإذا ادعى أحدهما ما يخالف العرف، وادعى الآخر ما يوافقه، فالأول المدعي. وكذلك كل من ادعى وفاء ما عليه أو رد ما عنده من غير أمر يصدق دعواه، فإنه مدع، إلا المودع إذا ادعى رد الوديعة فإنه يصدق لترجح جانبه بالاعتراف له بالأمانة. فإن أشهد عليه فهل هو باق على ائتمانه أم لا؟ فيه خلاف ينبني عليه الخلاف المتقدم في كتاب الوديعة. ثم الدعوى المسموعة هي الدعوى الصحيحة، وهي أن تكون معلومة محققة، فلو قال: له عليه شئ، لم تسمع دعواه. وكذلك لو قال: أظن أن لي عليك شيء. أو قال: لك علي كذا وأظن أني قضيته، لم تسمع. الثالثة: من قامت عليه البينة فليس له أن يحلف المدعي ما لم يقدم الدعوى الصحيحة ببيع أو إبراء. الرابعة: إذا قال من قامت عليه البينة: أمهلوني فلي بينة دافعة، أمهل، ما لم يبعد فيقضي عليه، ويبقى على حجته إذا أحضرها. ولو قال: أبرأني فحلفوه، فليحلف قبل أن يستوفي. ولو قال: أبرأني موكلك الغائب، فقال ابن كنانة: يحلف الوكيل أنه ما علم أنه أبرأه ويقبض الدين ولا ينظره، إلا أن يكون الطالب قريبًا على مثل اليومين فيكتب إليه ويحلفه. وقال ابن القاسم: لا يحلف الوكيل، وينظر حتى يجامع صاحبه. الخامس: إذا ادعى في النكاح أنه تزوجها تزوجًا صحيحًا سمعت دعواه ولا يشترط أن يقول بولي ويرضاها، بل لو أطلق سمع أيضًا. وكذلك في البيع، (بل) لو قال: هي زوجتي لكفاه الإطلاق. السادس: المسترق إذا ادعى أنه حر الأصل صدق مع يمينه، إلا أن يكون بيد من هو له حائز حوز الملك. وإن ادعى الإعتاق فعليه البينة. والصغير المعرب عن نفسه يدعي الحرية، فإن تقدمت لمن هو في يده فيه حيازة وخدمة لم يصدق في دعوى الحرية، وإن كان متعلقًا به لا يعلم له فيه قبل ذلك حيازة ولا خدمة صدق في دعوى الحرية. الركن الثاني: جواب المدعى عليه. وهو إقرار أو إنكار، فإن قال: لا أقر ولا أنكر، ولكن يقيم البينة على دعواه، أو قال للحاكم: لا أحاكمه إليه، أجبره على أن يقر أو ينكر، فإن أبى حبسه حتى يقر أو ينكر، رواه أشهب. وقال أصبغ: يقول له القاضي: إما أن تحاكم، وإما أحلفت هذا المدعي وحكمت له عليك.

هذا إذا كانت الدعوى مشبهة وكانت تستحق باليمين مع النكول، لأن نكوله عن الكلام نكول عن اليمين. وإن كانت الدعوى فيما لا يثبت إلا بالنية دعا خصمه بها وحكم عليه أن تمادى على ترك الكلام. وقال محمد: أحكم عليه بغير يمين من المدعي. وقال أبو الحسن اللخمي: "المدعي بالخيار بين ثلاث: إما أن يأخذ المدعي به بغير يمين، على أنه متى عاد إلى الإنكار كان ذلك له. وإما أن يحلف الآن، ويحكم له به ملكًا، بعد أن يعلم المدعى عليه أ، هـ إن لم يقر أو ينكر حكم عليه كما يحكم على الناكل، ولا ينقض له الحكم بعد إن أتى بحجة إلا أن يأتي ببينة لم يكن علم بها. وإما أن يسجن له حتى يقر أو ينكر لأنه يقول: هو يعرف حقي، فإذا سجن أقر واستغنيت عن اليمين". فروع: الفرع الأول: (قال محمد: من ادعي عليه بستين دينارًا فأقر بخمسين وتأبى في العشرة أن يقر أو ينكر، فإنه يجبر بالحبس حتى يقر بها أو ينكر إذا طلب ذلك المدعي، فإن أصر على الامتناع والتمادي عليه حكم عليه بغير يمين. قال محمد: لأن كل مدعى عليه لا يدفع الدعوى فإنه يحكم عليه بغير يمين. قال: وكذلك المدعى عليه بدور في يده لا يقر ولا ينكر، فإذا أجبر على ذلك فتمادى حكم عليه للمدعي [بلا يمين]. [الفرع] الثاني: لو قال المطلوب: تقدمت بيني وبين الطالب مخالطة فمن أي وجه يدعي هذا؟ لزم أن يسأل عن ذلك الطالب، فإن بين وجه طلبه وقف على ذلك المطلوب، وألزم ما يدعيه، إذ لعله بذكر السبب يجد مخرجًا، وإن امتنع عن ذكر السبب من غير أن يدعي نسيانًا لم يسأل المطلوب عن شيء. الفرع الثالث: لو ذكر السبب فقال المطلوب: أنا أحلف أنه لا شيء عندي من هذا السبب، فقال أشهب: لا يجزيه بحال حتى يقول: ولا أعلم له شيء ابوجه من الوجوه،

ونحوه في كتاب ابن سحنون". قال القاضي أبو الوليد" (وكان) الظاهر أن يجزيه يمينه أن لا شيء له عنده من جهة مطلبه، لا، الطالب لم يطلبه بغير ذلك". وفي الركن مسائل: الأولى: لو قال: لي عليك عشرة، فقال: لا تلزمني العشرة، لم يكلف اليمين مطلقًا، بل يحلف أنه ليس عليه عشرة ولا شيء منها. الثانية: لو قال: لي عليك عشرة، فقال: لا تلزمني العشرة، لم يكلف اليمين مطلقًا، بل يحلف أنه ليس عليه عشرة ولا شيء منها. الثانية: إذا ادعى سلفًا أو بيعًا لم يجزيه من الجواب أن يقول: لا حق لك عندي حتى يقول: لم تسلفني ما تدعيه، أو لم تبع مني شيء امما ذكرت، رواه ابن سحنون عن أبيه. وقال: هو مقتضى قول مالك. قال: وكان ربما قبل منه: ما له علي حق. وإلى القول الأول رجع أخيرًا مالك. الثالثة: إذا ادعى عليه ملكًا، فقال: ليس لي، إنما هو وقف على الفقراء (أو) على ولدي، أو هو ملك لطفل، لم يمنع ذلك من إقامة البينة للمدعي ما لم يثبت ما ذكر فتقف المخاصمة على حضور من تثبت له عليه الولاية، ولو قال: ليس هو لي، أو هو لمن لا أسميه، فأولى ألا يمنع من تمام المحاكمة. ولو قال: لفلان، وهو حاضر، فحضر، فللمدعي أن يحلف المقر له، فإن نكل حلف المدعي وأخذ المدعى به. وإن حلف المقر (له) فللمدعي أن يحلف المقر لأنه أتلفه عليه بإقراره، فإن نكل حلف المدعي وأخذ قيمة المقر به من المقر. ولو أضاف إلى غائب، فإن أثبت ذلك بينة انصرفت الخصومة عنه إلى الغائب، وإن لم يثبت ذلك لم يصدق وحلف، فإن رجع المدعي به إلى المدعي بغير يمين، فإن جاء المقر له فصدق المقر أخذه، لأن من هو في يده يتهم أن يكون أراد صرف الخصومة عن نفسه. الرابعة: إذا خرج المبيع مستحقًا فله الرجوع على البائع بالثمن، فإن صرح في نزاع المدعي بأنه كان ملك البائع لم يرجع عليه لأن الغاصب ظلم البائع. الخامسة: جواب دعوى القصاص على البعد يطلب من العبد، ودعوى الأرض يطلب جوابها من السيد. السادسة: إذا ادعى ولم يحلف، فقال: لي بينة قريبة فاطلبوا منه كفيلاً، أخذ منه كفيل

الركن الثالث: اليمين والنظر في الحلف، والمحلوف عليه، والحالف، والحكم

بنفسه ما بينه وبين خمسة أيام إلى الجمعة، كذلك إذا قامت البينة، فله طلب الكفيل قبل التعديل. ولو ادعى عليه خلطة وادعى بينة قريبة على اللطخ كاليوم ونحوه وكل بالمطلوب، وقال سحنون: يؤخذ منه كفيل. الركن الثالث: اليمين والنظر في الحلف، والمحلوف عليه، والحالف، والحكم. أما الحلف، فهو: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزاد على ذلك في شيء من الحقوق ولا تغليظ بالألفاظ. (وفي كتاب ابن سحنون من رواية ابن كنانة: يحلفون فيما يبلغ من الحقوق ربع دينار، وفي القسامة واللعان عند المنبر: بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أن الإيمان في الحقوق والدماء واللعان وفي كل ما فيه اليمين على المسلمين، بالله الذي لا إله إلا هو. قال القاضي أبو الوليد: "وهذا هو المشهور من مذهب مالك، وبه قال ابن القاسم، ورواه عن مالك في المدونة. قال ابن القاسم: "ولا يزاد على الكتابي: الذي أنزل التوراة والإنجيل، ولا يحلفون إلا بالله". وروى الواقدي عن مالك: أن اليهود يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ويحلف النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عسى، ويحلف الكافر حيث يعظم من كنيسته أو بيت ناره). قال ابن حبيب عن مالك: إن الكافر يحلف بالله الذي لا إله إلا هو. وتغلظ اليمين بالمكان في الأموال وغيرها من الحقوق على الطالب والمطلوب. (واختلف في التغليظ بالزمان، ففي كتاب ابن سحنون من رواية ابن كنانة: يتحرى بأيمانهم في المال العظيم وفي الدماء واللعان الساعات التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة، وما سوى ذلك من مال وحق ففي كل حين.

وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: لا يحلف حين الصلاة إلا في الدماء واللعان، وأما في الحقوق ففي أي وقت حضر الإمام استحلفه، وقاله ابن القاسم وأصبغ). وتخرج المخدرة فيما له بال من الحقوق إلى المسجد وتحلف فيه، والتي لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً، وتحلف في اليسير في بيتها إن لم تكن ممن تخرج ويبعث إليها من يحلفها، ويجزي رجل واحد. وأم الولد مثل ذلك فيمن تخرج أو لا تخرج. وقال محمد بن عبد الحكم: والإماء في ذلك كالحرائر أمهات الأولاد وغيرهن. قال: فإن احتاج الحاكم أن يحلف امرأة في بيتها من علة أرسل إليها رجلين عدلين أحب إلي ممن يعرفها. قال: وإن أرسل واحدًا أجزأ ذلك إن شاء الله. والعبد ومن فيه بقية رق كالحر في الأيمان. ويحلف الحالف قائمًا مستقبل القبلة، روى ذلك ابن الماجشون. وحكى ابن حبيب أن ذلك يختص بالحلف في المساجد، وأما في غيرها فيكونون قعوداً. وحكى ابن عبدوس عن أشهب أن القيام في الأيمان إنما هو في اللعان والقسامة دون سائر الحقوق. قال ابن القاسم: "ولا يعرف ملك اليمين عند المنبر إلا في منبر الرسول صلى الله عليه وسلم في ربع دينار فأكثر. قال مالك: ومن أبى أن يحلف عند المنبر فهو كالناكل عن اليمين". فرعان في صفة اليمين: الفرع الأول: قال في الكتاب: "وشرط اليمين أنتطابق الإنكار". وقال محمد بن عبد الحكم: إذا شهد الشاهد بإقرار المدعى عليه لم يكن للطالب أن يحلف أن عليه كذا، ولا أنه عصب كذا، ولكن يحلف بالله لقد أقر له فلان بكذا. وقال: فإن كان المدعى عليه غائبًا زاد في يمينه: إن حقه عليه لباق ولا عنده به رهن ولا وثيقة، ثم يقضي له بذلك. وإن كان ميتًا زاد، بعد قوله: ما عنده به رهن ولا وثيقة: ولا أبرأه منه، لا من شيء منه، ولا أحال به ولا شيء منه أحدًا، ولا أحتال به ولا بشيء منه على أحد وإنه عليه لثابت إلى يومه هذا، ثم يقضي له به. قال: وإن كان صاحب الحق قد مات أحلف من بلغ من ورثته على مثل ذلك مما كان هو يحلف عليه، إلا أنهم يحلفون على العلم، وليس على من لم يبلغ يمين، ويقضي لهم جميعًا بالحق.

الفرع الثاني: (لو جحد البائع قبض الثمن وادعى به على المبتاع فأنكره وأراد أن يحلف: ما له عنده شيء، لم ينفعه حتى يحلف ما اشترى منه سلعة كذا، وبه قال مطرف. وقال ابن الماجشون: إذا حلف: ما له عليه شيء من كل ما يدعيه. فقد برئ، واختاره ابن حبيب. وروي عن ابن القاسم القولان). وقال ابن حارث: قال أحمد بن زياد.: قلت لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس: إذا أسلف الرجل الرجل مالاً فقضاه إياه بعد ذلك بغير بينة وجحد القابض، فإن أراد أن يحلفه أنه ما أسلفه، وقال المسلف: بل أحلف ما له عندي شيء، وقال: لابد أن يحلف: ما أسلفه شيء ا، قال: قلت له: فقد اضطررتموه إلى يمين كاذبة، أو إلى غرم ما لا يجب له عليه، قال: فقال: يحلف: ما أسلفه، فإن علم باطن أمره أنه قد قضاه عني في ضميره سلفًا يجب علي رده إليك في هذا الوقت، وبرئ من الإثم في ذلك. وأما المحلوف عليه، فيحلف الحالف على البت في كل ما ينسبه إلى نفسه من نفي أو إثبات. ويحلف على البت، أيضًا، في الإثبات المنسوب إلى غيره. وأما في النفي، فيكفي الخلف على نفي العلم، فيقول: لا أعلم على موروثي دينًا، ولا أعلم منه إتلافًا وبيعًا. ويحلف من ادعى عليه: أنه دفع رديئًا في النقد، ما أعطاه إلا جيادًا في علمه. ولو قال: ما أعرف الجيد من الردئ,، فقال بعض الأصحاب: يحلف: ما أعطيته رديئًا في علمي. وأما النقص، فإنما يحلف فيه على البت، على العلم. ثم الحالف تحل له اليمين بظن غالب يحصل له من خط أبيه، أو خط نفسه، أو من يثق به، أو قرينه حال من نكول خصم، وغير ذلك، وقيل: لا يحلف إلا على ما يتيقنه. وذكر الإمام أبو عبد الله (عن بعض أشياخه) إضافة هذين القولين إلى مالك رضي الله عنه. ثم النظرفي اليمين إلى نية القاضي وعقيدته، فلا يصح تورية الحالف ولا ينفعه قول: إن شاء الله، بحيث لا يسمع القاضي.

وأمال الحلاف، فهو كل ما توجهت عليه دعوى صحيحة مشبهة. والدعاوي على مراتب: الأولى: وهي أعلاها، ما يشهد العرف بأنها مشبهة. والثانية: ما شهد بأنها غير مشبهة، إلا أنه لم يقض بكذبها. والثالثة: ما قضي بكذبها. أما الأول: فمثل أن يدعي سلعة معينة بيد رجل، أو يدعي غريب وديعة عند خير، أو يدعي مسافر أنه أودع أحد رفقته، وكالمدعي على صانه منتصب للعمل أنه دفع إليه متاعًا يصنعه والمدعي على بعض أهل الأسواق والمنتصبين للبيع والشراء أنه باع منه أو اشترى وكالرجل يذكر في مرض موته أن له دينًا قبل رجل، ويوصي أن يتقاضى منه فينكره، وما أشبه هذه المسائل. وهذه الدعوى مسموعة من مدعيها، وله أن يقيم البينة على مطابقتها، أو يستحلف المدعى عليه، ولا يحتاج في استحلافه إلى إثبات خلطة. وأما المرتبة الثانية: وهي التي تليها، فمثل أن يدعي الرجل على رجل دينًا في ذمته، ليس داخلاً في الصور المتقدمة. وهذه الدعوى أيضًا تسمع، (ولمدعيها) أن يقيم البينة على مطابقتها، فأما استحلاف المدعى عليه فليس له ذلك إلا بإثبات خلطة بينة وبينه. ثم النظر في الخلطة، في تفسيرها، وما تثبت به، ودليل اعتبارها. الأول في تفسيرها: وقد اختلف أصحابنا فيه، فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: هي أن يسالفه أو يبايعه ويشتري منه مرارًا، وإن تقابضا في ذلك الثمن والسلعة وتفاصلا قبل التفرق، وقاله أصبغ. وقال سحنون: لا تكون الخلطة إلا بالبيع والشراء من الرجلين، يريد المتداعيين. (وقال الشيخ أبو بكر: معنى ذلك أن ينظر إلى دعوى المدعي، فإن كانت تشبه أن يد عي بمثلها على المدعى عليه أحلف له، وإن كانت مما لا تشبه وينفيها العرف لم يحلف، إلا أن يأتي المدعي بلطخ. وقال القاضي أبو الحسن: "ينظر إلى المتداعيين، فإن كان المدعى عليه يشبه أن يكون يعامل المدعي أحلف". ومنهم من قال: المسألة على ظاهرها، ولا يحلف إلا بثبوت الخلطة بينهما أو المعاملة. فرع: وإذا لم تكن خلطة، وكان المدعى عليه متهمًا، لم يستحلف. وقال سحنون: يستحلف المتهم وإن لم (تكن) خلطة.

(وثبت بإقرار الخصم بها، وبالشاهدين واليمين. وقال ابن كنانة في المجموعة: تثبت بشهادة رجل واحد، [و] امرأة واحدة. وروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية مثل ذلك وقال محمد: لا تثبت بالشاهد بغير يمين. وفي تحليف من قامت عليه بينة فدفعها بعداوة قولان، المشهور منهما أنه لا يحلف). النظر الثالث: في دليل اعتبار الخلطة. والدليل على لزوم اعتبار الخلطة، حيث قلنا بلزوم اعتبارها، النص والمعنى. أما النص، فما روى سحنون عن ابن نافع عن حسين بن عبد لله عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر" إذا كان بينهما خلطة وبإثباتها أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفقهاء السبعة والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.

وأما المعنى، فلما في ذلك من صيانة أهل الفضل والمنزلة عن البذلة وكف الأطراف عنهم. فأما الحديث المنقول بدون الزيادة [المذكورة] في الحديث الذي استدللنا به، وإن كان هو الأشهر من حيث النقل، فإنه لم يرد لإرادة باين العموم والاستغراق لمن تجب عليه اليمين أو لخصوصه، وظهور هذا القصد فيه يمنع من التعلق بعمومه، إذ المعتمد في المفهوم من ألفاظ العموم وشبهها ما يظهر من قصد (مطلقها)، لا [مجرد] صيغة العموم، ولهذا المعنى قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنصح أو دالية نصف العشر": "إن المقصود منه تمييز النوعين، وتخصيص كل واحد منهم بحكم، الاستغراق في مقتضى الصيغة ولذلك لم نعمم الحكم في الجنس ولا في القدر. فإن قال قائل: إن هذا لا يمنع من التعلق به في الجملة، فلا [يمكنه] أن يجحد ضعفه لما ذكرناه، فإذا تنزلنا على صحة التعلق به مع ضعفه خصصناه بالمعنى الجلي في صيانة الأعراض كما تقدم. ثم الحديث الذي استدللنا به يقضي (عليه)، على جميع الأحوال، بالاتفاق، لتقييده وإطلاق هذا. وأما المرتبة الثالثة: فمثالها أن يكون رجل حائزاً لدار يتصرف فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، هو مع ذلك لا يعارضه ولا يذكر أن له فيها حقًا، ولا مانع يمنعه مطالبته من خوف [سلطان]، أو ما أشبه ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في (ميراث)، (و) ما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أخذهم أموال الشركة إلى نفسه، ولا منعته غيبة، بل كان عرياً عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويزعم

أنها له. ويريد أن يقيم بذلك، فدعواه غير مسموعة أصلاً، فضلاً عن بينته، وتبقى الدار بيد حائزها، لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة مرفوضة غير مسموعة، قال الله تعالى: (وأمر بالعرف) وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوي كالنقد والحمولة والسير، وفي الأبنية ومعاقد القمط ووضع الجذوع على الحائط وغير ذلك، فكذلك في هذا الموضع، ولان ذلك خلاف العادات، لأن الناس لا يسكنون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر. فرع: إذا اعتبرنا طول المدة، فقد اختلف في تحديدها، فحدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين، واستدل لهم بما ذكره سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حاز شيء اعشر سنين فهو له". وقال ابن القاسم أيضًا: إن التسع والثمان وما قارب العشر مثل العشر. ولم يؤقت مالك، ورأى أن ذلك على قدر ما ينزل ويجتهد فيه الإمام، فرب حائظ يغتل ويخدم ويبني ولا يدع المالك ملكه ويتجافى عن هذا. قال: وما اغتل من ذلك أقصر مدة في الحيازة مما يحاز بالسكنى والحرث. وقال مطرف بقول ابن القاسم. وقال ابن الماجشون بقول مالك، وكان يرى من ورث عمن حاز أقوى من موروثه ي الحيازة، إلا أن يأتي الطالب ببينة على إسكان أو إعمار أو مساقاة ونحوه فيكون أولى. فرع: كل دعوى لا يقبل في إثباتها إلا شاهدان فلا تجب فيها اليمين بمجرد الدعوى، ولا ترد على المدعى، ولا يجب فيها شيء، وذلك مثل القتل العمد والنكاح والطلاق والعتاق والنسب والولاء والرجعة وشبه ذلك. وأما حكم اليمين، فهو انقطاع الخصومة في الحال لا براءة الذمة، بل لملدعي بعد ذلك أن يقيم البينة ويعتذر بأنه لم يعلم بأن له بينة، أو بأنها كانت غائبة. أما إذا كان علامً بها وهي حاضرة، ففي الحكم له بها روايتان، المشهورة منها: أنه ليس له أن يقيمها ولا تسمع بعد يمين المدعى عليه. قال القاضي أبو الحسن: "وقد قال به مالك. (قال). وهو (الأحود

الركن الرابع: النكول

والأصح. وبالأولى قال ابن القاسم، وبالثانية قال ابن وهب وأشهب. الركن الرابع: النكول. ولا يثبت الحق بمجرده، لكن ترد اليمين على المدعى إذا تم نكول المدعى عليه. ويتم نكوله بأن يقول: لا أحلف، أو أنا ناكل، أو يقول للمدعي: احلف، أو يتمادى على الامتناع من اليمين، فيحكم القاضي بنكوله. ثم حيث تم نكوله، ثم قال: أنا أحلف، ليم يقبل منه. وينبغي أن يعرض القاضي اليمين على المطلوب ويشرح له حكم النكول. ثم المدعي إن نكل فنكوله كحلف المدعى عليه، وإن حلف استحق. ولو قال: أمهلوني، أمهل. وإن قال المدعى عليه: إن بيني وبينه حسابًا، وسأل المهلة حتى يراجع حسابه، أمهل اليومين والثلاثة، بعد إقامة كفيل بوجهه. وقال محمد بن عبد الحكم: يمهل على قدر ما يرى من ذلك. الركن الخامس: البينة. وقد ذكرت شروطها وصفاتها في الشهادات. والمقصود ههنا النظر في تعارض الينتين، ومهما أمكن الجمع بينهما جمع، وإن تناقضتا وأمكن الترجيح رجعنا إليه، وإن استوتا تساقطتا وبقي المدعي في يد من هو في يده مع يمينه إن كان من المتداعيين. واختلف إذا كان من غيرهما، فقيل: يبقى في يده، وقيل: يقسم بين مقيمي البينتين لأنههما قد (اتفقا) على إسقاط ملك الحائز. وروى مطرف وابن الماجشون أنه يقضي بأكثرهما عددًا عند التكافؤ في العدالة، إلا أن يكون هؤلاء كثيرًا يكتفي بهم فيما يلتمس من الاستظهار، والآخرون أكثر جدًا، فههنا لا تراعى الكثرة. ولو أقر من هو في يده لأحدهما لتنزل إقراره منزلة اليد للمقر له حتى ترجح البينة. ولو كان في أيديهما جميعًا لقسم بينهما بعد أيمانهما. فرع: حيث قلنا: يقسم بينهما، فإن لم يكن في أيديهما قسم على قدر الدعاوي، وإن كان في أيديهما، فاختلف أصحابنا على وجهين. أحدهما: أنه يقسم بينهما على قدر الدعاوي أيضًا، كما لو كان خارجًا عن أيديهما. والآخر: أنهما لا يتفاضلان بمجرد تفاضل الدعاوي، إذ سبب الاستحقاق بعد تساقط البينتين الحيازة وهما فيها سيان، بل يقسم بينهما نصفين لتساويهما فيها، إلا أن يسلم أحدهما للآخر بعد حيازته. وكذلك لو كانوا جماعة لقسم بينهم على عدد رؤوسهم، إلا أن يسلم أحدهم بعض ما تخص حيازته.

فرع مرتب: إ1اقلنا بأن القسمة على قد الدعاوي إما تفريعًا على القول بذلك مطلقًا وإما لأن المدعى خارج عن أيدي المتداعيين. فقد اختلف في كيفية ذلك. فروى ابن حبيب عن مالك: أن المدعى به يقسم جميعه على قدر الدعاوي، وإن اختلفت الحصص المدعى بها كعول الفرائض. وبه قال مطرف وابن كنانة وابن وهب وأشهب وأصبغ. وقال ابن القاسم وابن الماجشون: إن اختلفت الدعوى فإنما يقسم ما اشتركوا في الدعوى فيه، فيقسم بينهم على السواء، أما ما اختص بالدعوى به بعضهم فلا يقاسمه فيه من اختص عنه بدعواه. ثم اختلف في اعتبار الاختصاص على طريقتين، يأتي بيان كل طريق منهما وفائدته في أثناء التمثيل، وذلك في صورتين. مثال الصورة الأولى: إذا تداعى رجلان في شيء، فادعى أحدهما جميعه، وادعى الآخر نصفه، وأقاما بينتين متكافئتين، فعلى قول مالك ومن وافقه (عليه): يقسم المدعى بينهما على ثلاثة أسهم، لمدعي الكل سهمان، ولمدعي النصف سهم واحد. وعلى قول ابن القاسم وابن الماجشون: يقسم بينهما على أربعة أسهم، لمدعي الكل ثلاثة أسهم، ولمدعي النصف سهم واحد، لأن مدعي النصف قد سلم لمدعي الكل النصف، وبقي النزاع بينهما في النصف الآخر فيقسم بينهما نصفين. ومثلا الصورة الثانية: إذا كانوا ثلاثة [وادعى أحدهم الجميع، وادعى الآخر النصف] وادعى الثالث الثلث، فعلى قول مالك: يقسم بينهم على أحد عشر سهمًا، لمدعي الكل ستة أسهم، ولمدعي النصف ثلاثة، ولمدعي الثلث سهمان، وذلك على ما تقدم من التشبيه بعول الفرائض. وعلى قول ابن القاسم وابن الماجشون: تنقسم من إثنى عشر، وتصح من ستة وثلاثين على إحدى الطريقتين. وبيان ذل ك: أن مدعي الكل قد سلم له النصف على هذا الطريق إذ لا ينازعه فيه أحد من صاحبيه، وسلم مدعي الثلث السدس، وهو الثلث من النصف الآخر وهو متنازع فيه بين مدعي الكل ومدعي النصف فيقتسمانه بينهما نصفين، ويبقى الثلث يقتسمونه كلهم، فيخص مدعي الكل النصف ستة أسهم، ونصف السدس سهم، وثلث الثلث سهم وثلث، تكون الجملة ثمانية أسهم وثلث سهم، ويخص مدعي النصف نصف السدس سهم وثلث، الثلث سهم وثلث تكون الجملة سهمين وثلث سهم، ولا يخص مدعي الثلث سوى ثلث سهم، فيضرب أصل

المسألة في مخرج الكسر تبلغ ستة وثلاثين كما تقدم. وأما على الطريق الثاني، فتقسم من أربعة وعشرين سهماً، ومنها تصح، وبيان ذلك أن مدعي الكل إنما سلم له على هذا الطريق السدس لا غير، إذ لا ينازع فيه بوجه، وذلك أربعة أسهم من أربعة وعشرين سهمًا تبقى عشرون، مدعي الكل يدعيها وصاحباه يدعيانها، فتقسم بينه وبينهما نصفين، له نصفها عشرة أسهم يصير له أربعة عشر سهمًا، وتبقى لهما عشرة أسهم، مدعي الثلث يسلم منها سهمين، لزيادتهما على الثلث، يأخذهما مدعي النصف، ثم يقتسمان الثلث الباقي بينهما نصفين، فيحصل لمدعي النصف ستة أسهم، ولمدعي الثلث أربعة، ف هذا فرق بين الطريقتين وثمرته. أما إذا وجد الترجيح فمداركه أربعة: المدرك الأول: زيادة المزية في العدالة دون زيادة العدد، على الرواية المشهورة. المدرك الثاني: قوة الحجة، قال أشهب: يقدم الشاهدان على الشاهد واليمين، وعلى الشاهد والمرأتين، إن استووا في العدالة. وقال ابن القاسم: لا يقدمان. قال: ولو كان الشاهد أعدل من كل واحد منهما لحكم به مع اليمين، وقدم على الشاهدين. وفي العتبية من رواية أصبغ عنه تقديم الشاهدين. وأخذ أصبغ بقوله الأول. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يقدم، وإن كان أعدل أهل زمانه. ولو اقترنت اليد بالحجة الضعيفة لم تعتبر اليد، وقد بينا أن زيادة العدد في الشهادة لا تؤثر في الترجيح، على مشهور العدالة بخلاف الرواية. فرع: إذا قدمنا الأعدل، فلو كانت البينة من الجانبين مقبولة بالتعديل، فهل ينظر إلى كون المعدلين في أحد الجانبين أظهر عدالة، أو أعرف بوجوهها من المعدلين في الجانب الآخر أم لا؟ لم يعتبر ذلك ابن القاسم وابن الماجشون، واعتبره مطرف، وروى نحوه. المدرك الثالث: اليد، فتقدم بينة الداخل على بينة الخارج، عند التكافؤ، مع يمينه على الرواية المشهورة لو ترجحت بينة الخارج لقدمت مع يمينه على الخلاف أيضًا. وذهب عبد الملك إلى أن الحائز لا ينتفع ببينته، وأن بينة المدعي أولى لتخصيص البينة به في الحديث. فرعان: الفرع الأول: إذا قامت (البينة) على الداخل فادعى الشراء من المدعي، أو ثبت

الدين، فادعى الإبراء، فإن كانت البينة حاضرة سمعت قبل إزالة اليد وتوفية الدين، وإن كانت غائبة غيبة قريبة أمهل (ليأتي) (بها)، وإن كانت بعيدة طولب ف يالوقت بالتسليم، ثم إذا أقام البينة استرد. الفرع الثاني: من أقر لغيره بملك، ثم عاد إلى الدعوى لم تقبل منه دعواه حتى يدعي تلقي الملك من المقر له. المدرك الرابع: استمال إحدى البينتين على زيادة تاريخ أو سبب ملك. فإذا شهدت بينة أنه ملكه منذ سنة والأخرى منذ أكثر من ذلك قدم السابق. وإن كانت إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، قدمت المؤرخة على المطلقة. وحكى أبو الحسن اللخمي فيها خلافًا. ولو كانت إحداهما مطلقة والأخرى مضافة إلى سبب من نتاج أو زراعة أو غيره لقدمت المضاف إلى السبب. فروع: الفرع الأول: لو شهدت البينة بملكه بالأمس، ولم تتعرض للحال، لم تسمع حتى يقول في الشهادة: إنه لم يخرج عن ملكه في علمهم. ولو شهدت أنه أقر له بالأمس ثبت الإقرار ويستصحب موجبه. ولو قال المدعى عليه: كان ملكك بالأمس، نزع من يده، لأنه يخبر عن تحقيق فيستصحب. كما لوا قال الشاهد: هو ملكه بالأمس، أو اشتراه من المدعى عليه بالأمس. ولو شهد على أنه كان في يد المدعي بالأمس لم يأخذه بذلك حتى تشهد البينة أنه ملكه. ولو شهدوا أنه انتزعه منه أو غصبه أو غلبه عليه هذا، فالشهادة على هذا جائزة، ويجعل المدعي صاحب اليد. الفرع الثاني: لو شهدت بينة أحدهما بالملك وبينة الآخر بالحوز، قضي لمن شهد له بالملك، ولو كان تاريخ الحوز متقدمًا. الفرع الثالث: إذا ادعى ملكًا مطلقاً، فذكر الشاهد الملك والسبب لم يضر. الفرع الرابع: ابن مسلم وآخر نصراني، ادعى المسلم أن أباه أسلم ثم فالقول قول النصراني، والمقدمة بينة المسلم إن تعارضتنا لأن الناقلة أولى من المستصحبة. وكذلك لو ادعى الابن الإرث في دار، وادعت زوجة أبيه أن أباه أصدها إياها أو باعها لها قدمت بينتها.

ولو شهدت بينة النصراني أنه نطق بالتنصير ومات عقيب ذلك، فهما متعارضتان. ولو كان الميت مجهول الدين، فادعى كل واحد أنه ما مات على دينه، فلا ترجيح لبينة المسلم. وقيل: ترجح. وإن لم تكن بينة، فليست دعوى أحدهما بأولى من دعوى الآخر بالتصديق، فيجعل كأن المال في أيديهما فيقسم بينهما. ولو كان في يد أحدهما لم يخص في التصديق بعد إقراره بأنه من جهة الإرث. ولو كان عوض الاثنين جماعة واختلفت الدعوة منهم وقلنا بالقسم بينهم، قسم المال عليهم نصفين وإن تفاوتت أعدادهم، بل لو كان في إحدى الجهتين جماعة وفي الأخرى واحد، لكان لهم النصف وله النصف، لأن استحقاق من في إحدى الجهتين كاستحقاق من في الجهة الأخرى على حد سواء. فإن كان مع الولدين المتداعيين في دين أبيهما طفل، فقال سحنون: "يحلفان ويوقف ثلث ما بيد كل واحد منهما حتى يكبر الصغير فيدعي دعوى أحدهما فيأخذ ما أوقف من سهمه، ويرد إلى الآخر ما أوقف له من سهمه". وقال أصبغ في التعبية: "كلامها مقر للصغير، فله لنصف، ويجبر على الإسلام، ولهذين جميعًا النصف بينهما. قال سحنون: " فإن مات قبل أن يبلغ حلفًا واقتسما ميراثه، وإن مات أحدهما قبل بلوغه وله ورثة يعرفون فهم أحق بميراثه وإلا ترك، فإذا كبر الصبي وادعاه كان له". الفرع الخامس: إذا مات النصراني في رمضان، وادعى أحد ابنيه أنه أسلم في شوال فيرثه، وقال الآخر: له بل أسلمت في شعبان فلا ترثه، فبينة النصراني أولى لأنها ناقلة، والقول قول المسلم إذا لم تكن بينة، لأن الأصل بقاء الكفر. ولو اتفقا على أن أباهما مات مسلمًا وأن أحدهما كان حينئذ مسلمًا، وادعى الآخر أنه كان أيضًا مسلمًا قبل موت أبيه وناكره أخوه في ذلك فعلى المدعي البينة، لإنكار أخيه ما ادعاه من تغيير الأصل، ويرث المتفق على إسلامه والله أعلم ..

كتاب الجراح

كتاب الجراح الدماء خطيرة القدر في الدين، عظيمة الحرمة عند الله تعالى، وأدلة الشريعة من الكتاب ولاسنة والإجماع (مطابقة) على أن القتل كبيرة فاحشة موجبة للعقوبة في الدنيا والآخرة. وموجباتها في الدنيا خمسة: القصاص، والدية، والكفارة، والتعزير، والقيمة. والنظر في القصاص في [النفوس] والأطراف. ومن النفس في الموجب والواجب والموجب للقصاص له ثلاثة أركان. الركن الأول: القتل. وهو كل فعل عمد محض عدوان من حيث كونه مزهقًا للروح. والنظر في أطراف. الأول: في العمد المحض. والخطأ: ما لا قصد فيه إلى الفعل، كما لو سقط على غير فقتله، أو ما لا قصد فيه إلى الشخص، كما لو رمى إلى صيد فأصاب إنسانًا. والعمد: ما خلف الخطأ، وهو الذي قصد به إتلاف نفس الشخص، وكان ما قصد به مما يقتل مثله من محدد أو مثقل، أو بإصابة المقاتل كعصر الإنثيين، وشدة الضغط، أو بأن يهدم عليه بيتًا، أو يضربه بحجر عظيم، أو بخشبة لها حد أو لا حد لها، أو يصرعه، أو يجر برجله على غير اللعب، أو يغرقه في الماء أو يحرقه بالنار، أو يخنقه، أو يطبق عليه بيتًا، أو يمنعه الطعام والشراب حتى يموت جوعًا. فأما إن لطمه أو وكزه فمات، فيتخرج على الروايتين في نفس شبه العمد وإثباته، فعلى رواية النفي هو عمد يجب فيه القصاص وهو مذهب الكتاب. وعلى الرواية الأخرى في إثباته يكون الواجب

فيه الدية دون القود ولو قتله بالسحر واعتراف بذلك لقتل. الطرف الثاني: في بيان المزهق، وهو نوعان، تسبب ومباشرة. فالتسبب كحفر البئر حيث لا يؤذن له فيه، قصد الإهلاك به، وكالإكراه وشهادة الزور في القصاص على إحدى الرواتين، وتقديم الطعام المسموم إلى الضيق، وحفر بئر في الدهليز وتغطية رأسه عند دخول الداخل، وكذلك لو حفره ليقع فيه لص فوقع فيه فهلك. وأما المباشرة فما يقتضي الموت، إما بغير واسطة كحز الرقبة، وإما بواسطة كالجراحات المقتضية للموت، أو ما يقوم مقامها في اقتضائه كالخنق والرض والتحريق والتغريق وشبه ذلك. الطرف الثالث: في اجتماع السبب مع المباشرة، وذلك على مراتب. الأولى: أن يغلب السبب على المباشرة، وذلك ظاهر إذا لم تكن المباشرة عدوانًا، كمن حفر بئراً على طريق رجل أعمى، وليس فيها غيره ولا طريق أخرى له، فوقع فيها فمات، أو طرح رجلاً مع سبع في مكان ضيق، أو أمسكه على ثعبان مهلك، أو فعل ما قدمناه من تقديم الطعام المسموم، أو تغطية رأس البئر. واتفقت الرواية على تغليب السبب أيضًا في شهود القصاص إذا رجعوا بعد الاستيفاء، واختلف هل تأثيره في إيجاب القود أو العقل على روايتي أشهب وابن القاسم، هذا (إذا) كان الولي غير عالم بتزوير البينة، فأما لو علم بذلك وبأن الحاكم علم بذلك وحكم مع علمه بتزويرهم لكان الولي معهم كالشريك لاعتدال السبب والمباشرة ولحقت هذه الصورة بالمرتبة الثالثة. وقال مالك فيمن حفر بئرًا للص ليهلك فيها فهلك فيها، أو حفرها في طريق المسلمين، أو وضع (فيها) سفًا أو سكينًا أو شيء ايطلب به هلاكهم فهلك فيها أحدهم: فإنه يقتل به. قال البغداديون: من أصحابنا: أو طرح قشور البطيخ في طريق المسلمين قصدًا لإهلاكهم فهلك بها بعضهم، فإنه يقتل به. قال بعض الأصحاب: ولو كان إنما فعل حيث يجوز له فعله، أو لم يقصد بذلك أذية أحد، لم يجب عليه قصاص.

فأما قول مالك في المجموعة وكتاب محمد فيمن حفر بئراً على الطريقين أو ربط فيها دابة مما لا يجوز له: إنه ضامن لما أصاب في ذلك، وجعله فيه الدية دون القصاص، فلأنه لم يفعله لقتل أحد. وكذلك قوله: لو حفر بئرًا أو سربًا للماء، مما يعمل مثله للماء، في أرضه أو داره، فعطب به إنسان فمات فلا يضمن، إنما قال ذلك لأنه فعله في ملكه. وكذلك رواية ابن وهب عن مالك فيمن حدد قصبًا أو عيدانًا فجعلها في باب الجنان والثغرة لتدخل في رجل الداخل إلى حائطه، من سارق أو غيره، إنه يضمن ما أصاب فيه، فجعل فيه الدية دون القود، لأنه فعله في ملكه. وكذلك قوله: لو اتخذ فيه كلبًا عقوراً لكان ضامنًا لما أصاب. وكطذلك قول أشهب فيمن احتفر بئراً في داره أو أرضه ليسقط فيها إما سارق أو طارق، أ, عدو، فإنه يضمن من أصيب فيه من هؤلاء وغيرهم. قال: وكذلك من جعل على حائطه شركًا، أو تحت عتبته مسامير ليصيب فيها من دخل، فهو ضامن لما أصاب بذلك. وإلى ما ذكرناه أشار الأستاذ أبو بكر فقال عقب ذكره لهذه المسائل: ليس هذا بخلاف لما تقدم من كلام العراقيين لأنه دائر بين من عمل ذلك في محله، وبين من لم يعمل في محله، ولا قصد قتل إنسان. (واختلف في الإشارة بالسيف، فقال محمد: من أشار على رجل بالسيف وكانت

بينهما عداوة فتمادى بالإشارة عليه وهو يهرب منه فطلبه حتى مات، فعليه القصاص. قال: وإن مات مكانه من أو إشارة فالدية على عاقلته. وقال ابن القاسم فيمن طلب رجلاص بالسيف ليضربه، فما زال يجري حتى سقط فمات، فليقسم ولائه لمات خوفًا منه ويقتلونه، قال ابن القاسم: ولو أشار عليه بالسيف فقط فمات وبينهما عداوة فهذا من الخطأ). وقال ابن الماجشون فيمن طلب رجلاً بالسيف فعثر المطلوب فمات، ففيه القصاص، وقاله المغيرة وابن القاسم وأصبغ. وقال أحمد بن ميسر: لا قصاص في هؤلاء. واستحسنه طائفة من شيوخ القرويين، وقالوا: لا قصاص في هذا الأصل، اعني المشير بالسيف والجاري خلفه قالوا: إذ لا يدري هل مات من شدة الخوف أو من شدة الجري أو من مجموعهما، ولا وجد تعمد القتل، قال: ولا يمكن إثبات القصاص على نفي شبه العمد وثبوت القصاص في ذلك الأصل. (وقال أصبغ: ومن طرح على رجل حية مسمومة على غير وجه اللعب، مثل هؤلاء الحواة الذين يعرفون الحيات المسمومة والأفاعي التي لا يلبث لديها فإنه يقتل به، ولا يقبل قوله: أردت اللعب، وإنما معنى اللعب مثل ما يفعل الشباب بعضهم مع بعض، فيطرح أحدهم على الآخر الحية الصغيرة التي لا تعرف بمثل هذا، فهذا خطأ. فأما من يعرف ما هي ويتعمد طرحها، فإنه يقتل، ولا يقبل قوله: لم أرد قتله). المرتبة الثانية: أن يصير السبب مغلوبًا بالمباشرة، كمن حفر بئرًا في داره لمنفعة نفسه لا يهلك فيها أحد، فوقف عليها رجل فرداه فيها غير الحافر، فالقود على المردي ولا شيء على الحافر تغليبًا للمباشرة. المرتبة الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة، فيجب القصاص على المسبب والمباشر جميعًا، كالإكراه على القتل، فإذا قتل المكره المستضعف قتل هو ومن أكرهه. ويلحق بالإكراه أمر من لا تتهيأ مخالفته من الأمرين مثل السيد يأمر عبده، والسلطان يأمر أحدًا من الناس، أو من لا يقدر المأمور على مخالفته ويخاف من شره، فأما [أمر] الأب ولده، أو المعلم بعض

صبيانه، أو الصانع بعض متعلميه، فإن كان المأمور محتلمًا قتل وحده دون آمره، وإن كان لم يحتلم فالقتل على الآمر، وعلى عاقله الصبي نصف الدية. وقال ابن نافع: لا تقتل الأب ولا السيد إذا أم رعبده، وإن كان أعجميًا بقتل إنسان. قال ابن حبيب: وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما. فأما أمر من لا خوف على المامور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه، فليقتل المأمور دون الآمر، ويضرب الآمر ويحبس. وكالإمساك للقتل، فإذا أمسك علىالقاتل للقتل فالقصاص عليهما للاعتدال. وشرط القاضي أبو عبد الله بن هارون البصري من أصحابنا في وجوب القاص على الممسك شرطًا آخر، وهو أن يعلم أنه لولا الممسك لم يقدر على ذلك. وكالحافر عدوانًا مع المردي، كمن حفر بئرًا ليقع فيها رجل فيهلك، فجاء ذلك الرجل فوقف على شفير البئر فراده غير الحافر فيها، فإن القاضي أبا الحسن قال: "يقتلان جميعًا للاعتدال"، وقال القاضي أبو عبد الهل بن هارون: يقتل المردي دون الحافر تغليبًا للمباشرة، فعدها من المرتبة الثانية. وكشهود القصاص مع الولي المباشر للقتل، كما سبق بيانه. الطرف الرابع: في طريان المباشرة على المبشرة والحكم تقديم الأقوى، فلو جرح الأول وحز الثاني الرقبة، فالقود على الثاني. ولو أنفذ الأول المقاتل ثم أجهز عليه آخر، فالقصاص على الأول خاصة بغير قسامة، ويبالغ في عقوبة الثاني، قاله ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم: وقد أتى عظيمًا. وروى أبو زيد عن ابن القاسم: "أنه إنما يقتل المجهز وإن كان لا يحيا من ذلك، ويعاقب الأول". ولو اجتمع جماعة على رجل يضربونه، فقطع رجل يده، وفقأ آخر عينه، وجدع آخر أنفه، وقتله آخر، وقد اجتمعوا على قتله فمات مكانه، قتلوا به كلهم، وإن كان جرح بعضهم أنكأ من جرح بعض. ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمدوا المثلة مع القتل. وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل واحد بجرحه، وقتل قاتله. ومن قتل مريضًا مشرفًا وجب عليه القود. فإن قيل: ظن الإباحة هل يكون دارئًا للقصاص؟ قلنا: من قتل رجلاً في دار الحرب على زي أهل الشرك فإذا هو مسلم فلا قصاص، وتجب الكفارة والدية. قال محمد: من قتل رجلاً عمدًا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه

قصاص، فهو من الخطأ، لا قصاص فيه. الكرن الثاني: القتيل. وشرط كونه مضمونًا بالقصاص أن يكون معصومًا، والعصمة بالإسلام، والجزية والأمان ينزلان منزلته، والحربي مهدور، والمرتد كذلك. قال سحنون: "لا قصاص ولا دية على قاتل المرتد، إلا الأدب في افتياته على الإمام" وقاله أشهب. وكذلك من قتل زنديقًا أو زانيًا محصنًا، أو قطع سارقًا قد توجه عليه القطع، لأن هذه حقوق، لابد أن تقام، ولا تخيير فيها ولا عفو. فأما من عليه القصاص فمعصوم في حق غير المستحق، فإن عدا عليه أجنبي فقتله، فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول آخرًا: أرضوا أولياء الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل والعفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء الأول قتله أو العفو عنه، ولهم أن لا يرضوا بما بذل لهم من الدية أو أكثر منها. وروى ابن عبد الحكم في المختصر: أنه لا دية لأولياء المقتول أولاً ولا قود، لأنه قد ذهب حقه، بمنزلة ما لو مات القاتل. قال عبد الله: والأول أعجب إلينا. ولو كان القتل الثاني خطأ لكان الخلاف في الدية كالخلاف في القود. والعين واليد بمنزلة النفس في ذلك. فأما من فقأ عين رجل ففقأ آخر عين الفاقئ ثم مات الفاقئ الثاني فلا شيئ للمفقوء الأول. ومن قطع يد رجل من المنكب، ثم قطعت يد القاطع من الكف، فالأول مخير إن شاء قطع كف قاطع قاطعه، وإن شاء قطع من الممنكب بقية يد قاطعه. ولو قتل زيد عمراً عمدًا، فحبس زيد للقتل، ففقأت رجل عينه أو جرحه في السجن عمدًا أو خطأ، فله القود في العمد، والعقل في الخطأ، وله العفو في عمده، ولا شيئ لولاة المقتول في ذلك كله، وإنما لهم سلطان على من أذهب نفسه. وكذلك لو أسلم إليهم للقتل، فقطع رجل يده قبل أن يقتلوه، فله القود بها، ويقتل هو بما قتل. فإنه كان ولي الدم هو القاطع، ففي المجموعة من رواية ابن القاسم وأشهب: أنه يقتص له منه. وروى أصبغ في الواضحة عن ابن القاسم: لا يقاد من أولياء الدم، لا، النفس كانت لهم، وليعاقبهم الإمام. الركن الثالث: القاتل. وشرطه أن يكون ملتزمًا للأحكام، فلا قصاص على الصبي والمجنون والحربي.

ويجب على الذمي والسكران، ووراء هذا خصال يتصدى النظر فيها، يفضل القاتل بها القتيل، وهي ست: الخصلة الأولى: الدين، فلا يقتل مسلم بكافر قصاصًا، ويقتل الكافر بالمسلم والكافر، ويقتل كل واحد من اليهودي والنصراني والمجوسي بالآخر، وبالجملة فكل من لا يقتص له من مسلم لنقصه عنه في الدين فيقتص لبعضهم من بعض وإن اختلفت مللهم وأحاكمهم. الخصلة اثانية: الحرية، فلا يقتل حر برقيق، ولا من بعضه رق، ولا بمن فيه عقد من عقود الحرية من مكاتب أو مدبر أو أم ولد أو معتق إلى أجل، كما لا تقطع يده بيد أحد منهم. ويقتل الرقيق بالحر إن اختار ذلك أولياؤه، وإن شاؤوا استحياءه فلسيده فداؤه منهم بدية القتيل، وتقتل السمتولدة والمكاتبة ومن فيه عقد من عقود الحرية بمن ليس هو كذلك من الرقيق. وكل من لا يقتص لهم من الحر لنقصان حريتهم بالرق فدماؤهم متكافئة، يقتص لبعضهم من بعض. وإن رجح بعضهم على بعض بعقد من عقود العتق، أو بحصول بعض الحرية، ولا يقتصر من العبد المسلم للحر الذمي، ويخير سيده في أن يفتكه بدينه أو يسلمه فيباع على أولياء القتيل. ويقتص للعبد المسلم منه عند ابن القاسم، في رواية محمد ويحيكي بن يحيي وعبد الملك بن الحسن عنه، ورواه عبد الملك أيضًا عن أشهب. قال: وإن قال سيده: لا أريد قتله وآخذ قيمة عبدي فذلك له. وقال سحنون: إنما عليه قيمته وهو كسلعة. وقال محمد أيضًا: اختلف فيه قول ابن القاسم، فقال: يضرب ولا يقتل. وقاله أصبغ. قال ابن القاسم: وليس لسيده أن يعفو على الدية، وهو كلاحر يقتل الحر فليس فيه إلا القتل، أو يصطلحان على شيئ. وقال أصبغ: لا عفو فيه إن كان على حد الحرابة والغيلة، وإلا ففيه العفو الصلح جائز، ويصير كالنصراني يقتل الحر المسلم على العداوة والنايرة، فلأوليائه العفو على الدية أو القتل. قال محمد: وأحب إلي أن يخير سيد العبد، فإن شاء قتل النصراني وإن شاء أخذ قيمة عبده منه، لأنه ماله أتلف عليه، وقاله أصبع. فرع: إذا صادف القتل تكافؤ الدماء من القاتل والمقتول لم يسقط القصاص بزواله بعد، كالكافرين يقتل أحدهما الآخر ثم يسلم فلا يسقط القصاص بذلك. وكالعبدين يعتق أحدهما بعد أن يقتل الآخر. الخصلة الثالثة: الأبوة، وهي عند أشهب دارئه للقصاص على الإطلاق، فلا يقتل الأب بابنه عنده بحال. والمذهب أنها إنما تكون دارئة إذا كان القتل على وجه تثبت فيه الشبهة، وذلك إذا أمكن عدم القصد له، وادعى ذلك الأب، وإن كان غيره يقتل بمثل ذلك ولا تسمع دعواه، وهذا كمال لو حذفه بالسيف أو بغيره فقتله، ثم ادعى أنه لم يرد قتله وإنما أراد أدبه، لا،

شفقة الأبوة شبهة (منتصبة) شاهدة بعد م القصد، ولو شركه غيره في هذه الصورة لقتل الغير، لان القتل عمد، وإنما سقط القود عن الأب لمعنى فيه لا لمعنى في القتل، ألا ترى أن مكره الأب على قتل ابنه يقتل، لأن فعله منقول إليه فأما لو فعل به ما تنتفي معه الشبهة ويظهر كذبه لو ادعى أنه لم يقصد القتل فإنهن يقتل به، وهذا كما إذا أضجعه فذبحه، أو شق جوفه، أو حز يده فقطعها، أو وضع أصبعه في عينه فأخرجها، فإنه يقتص منه في جميع ذلك. وكذلك لو اعترف بقصد القتل، وإن كان الاحتمال قائمًا، وهذا لأنه كشف الغطاء عن قصده فرتب الحكم عليه. ثم حيث جعلناها دارئة. ففي معناها الجدودة، فكما لا يقتل الأبوان عند قيام الشبهة فكذلك لا يقتل الأجداد ولا الجدات من قبل الأب والأم من يرث منهم ومن لا يرث. وبهذا قال عبد الملك. وقال ابن سحنون عن أبيه: اتفقوا على أنها تغلظ في الجد والجدة من قبل الأب واختلفوا في الجد والجدة من قبل الأم، فقال ابن القاسم: هما كالأم، وبه قال سحنون وقال أشهب: هما (كالأجنبيين). ثم حيث لم تكن دارئة وأثبتنا القصاص بذلك إذا كان القائم بالدم غير ولد الأب مثل العصبة وما أشبه ذلك، قاله في كتاب محمد. الخصلة الرابعة: التفاوت في تأبد العصمة، وذلك لا يعتبر، فيقتل الذمي بالمعاهد. الخصلة الخامسة: فضيلة الذكورة، ولا تعتبر أيضًا، بل يقتل الرجل بالمرأة كما تقتل به. الخصلة السادسة: التفاوت في العدد، ولا يؤثر أيضًا، بل تقتل الجماعة بالواحد، والواحد بالجماعة، إلا أن يكون القتل بالقسامة، فلا يقتل بها أكثر من واحد. وشريك المخطئ أو الصبي أو المجنون عليه القصاص في أحد قولي ابن القاسم، وهو قول ابن الماجشون. وقال ابنالقاسم: وذلك بعد القسامة، مات القتيل قعصًا أو تأخر موته. وقال ابن الماجشون: إن مات مكانه اقتص له بغير قسامة، وشركة من شركه من هؤلاء سبب لثبوت حظه من الدية. وأما شريك السبع فقال فيه ابن القاسم مرة يقسم فيه على العمد، ومرة قال: على المتعمد نصف الدية في ماله بغير قسامة، ويضرب مائة ويحبس سنة. فروع: إذا صدرت جراحتان من واحد، وإحداهما غير موجبة، (للعقوبة) لم تمنع القصاص كما لو جرح عمدًا وخطأ.

الفصل الأول: في تغيير الحال بين الرمي والجرح، وبين الجرح والموت

فأما إذا جرح نفسه عمدًا وجرحه غيره عمدًا، أو جرحه مسلم، وجرحه حربين أو جرحه آدمي وسبع، فالمسألة على قولين. ولو جرحه إنسان ثم ضربته دابة فمات فلا يدري من أي ذلك مات، فقال ابن القاسم: نصف الدية على عاقلة الجارح، قيل: أبقسامه؟، قال: وكيف يقسم في نصف درية، وقال ايضًا في المجموعة: إن فيه القسامة. وقال: إذا جرح ثم مرض فمات ففيه القسامة وقال: إذا جرحه رجل ثم ضربته دابة أو وقع من فوق جدار فأصابته جراح أخر، ثم مات فلا يدري من أي ذلك مات، فلهم أن يقسموا لمات من جرح الجارح وهو كمرض المجروح بعد الجرح، قال محمد: ولو كان إنما طرحه إنسان من على ظهر بيت أقسموا على أيهما شاءوا على الجارح أو على الطارح وقتلوه وضرب الآخر مائة (وحبس) عامًا. وقال مالك: إذا مرض المجروح فمات فليقسموا لمات من ضربه في الخطأ والعمد. وإذا تملأ جمع على واحد، وضربه كل واحد سوطًا فمات، وجب القصاص على الجميع. الفصل الأول: في تغيير الحال بين الرمي والجرح، وبين الجرح والموت ولنسرد الفروع ممتزجة متتالية، فنقول: إذا تغير حال (الرمي) قبل إصابة السهم ثم أصابه، فالاعتبار عند ابن القاسم بحال الإصابة، وعند سحنون بحال الرمي، فلو رمي عبدًا ثم عتق ثم أصاب سهمه فقال سحنون: الجناية في رقبته اعتبارًا بحال الرمي. قال الأستاذ: أبو بكر: ومن يعتبر حال الإصابة يجعل الدية على عاقلته. وعكس هذا لو رمي إلى عبد فعتق قبل الإصابة، فعلى الأصل الأول تجب دية حر، وعلىالأصل الثاني قيمة عبد. ولو رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل إصابته، ف على الأصل الأول الدية عليه، وعلى الأصل الثاني لا شيئ عليه. ولو رمى إلى مرتد فأسلم (أو حربي) فأسلم ثم أصابه السهم فقتله أو جرحه، فقال سحنون: لا قصاص على الرامي لأنه رمى ي وقت لا قود فيه ولا عقل. قال ابن سحنون: وعليه، في قول ابن القاسم، الدية إن مات حالة في ماله، وإن لم يمت فدية الجرح حالة في ماله، لأنه لو جرح وهو مرتد ثم نزي في جرحه فمات بعد أن أسلم، فإن ولاته يقسمون لمات منه، وتكون ديته في ماله ألا ترى أنه لو رمى صيدًا وهو حلال، فلم تصل إليه الرمية حتى أحرم ثم أصابته، فعليه جزاؤه.

قال الاستاذ أبو بكر: وأعلم أن الذي منه ألزم ابن سحنون لابن القاسم وجوب الدية في هذه الصورة أصل نذكره: وذلك أن ابن سحنون روى عن ابن القاسم في النصراني يسلم بعد أن جرح ثم يموت فيه دية حر مسلم في ماله حاله اعتباراً بما يؤول إليه أمره. وقال أشهب إنما علهي دية نصراني (لأني) إنما انظر إلى الضربة في وقتها لا إلى الموت، ألا ترى لو أن مسلمًا قطع يد مسلم ثم ارتد المقطوع فمات مرتدًا أو قتل، أن القصاص قد ثبت على الجاني فتقطع يده بيده، وليس لورثته أن يقسموا على الجاني فيقتلوه، لأن الموت كان وهو مرتد. قال الأستاذ: فيجئ من هذا إلزامنا لابن القاسم أن الاعتبار في مسائل الرمي بآخر الأمر، وهو الإصابة، فلو رمى مرتد، ثم أسلم، ثم أصاب سهمه رجلاً خطأ، فقال سحنون أنا وإن كنت أعتبر وقت الرمي فأقول في هذه: إن الدية على العاقلة وإن كان ليس من أهل العاقلة وقت الرمي إذ لا عاقلة للمرتد، فإنما أنظر إلى الدية يوم ترفض على العاقلة، وهنا لم يحكم فيها حتى أسلم، وله وقت الإسلام عاقلة، وذلك عليهم كالخطأ. قال: وقد قال أصحابنا: أجمع ابن القاسم وغيره إن جنى خطأ ثم أسلم أن عاقلته تحمل ذلك، فكذلك هذا عندهم. قال ابن سحنون: وفي قوله الأول هي في ماله نظرًا إلى الجناية يوم وقعت لا يوم الحكم. قال ابن سحنون: واختلف أصحابنا في دية هذا المرتد، أعني إذا جرح المرتد ثم نزا في جرحه فمات بعد أن أسلم، فمن أصحابنا من (يقول): ديته دية من على الدين الذي ارتد إليه. وقال ابن القاسم: ديته دية مسلم، وبه قال سحنون. وكذلك لو كان المرمي إليه نصرانيًا فأسلم قبل وصول السهم إليه، أنه لا قصاص فيه، وفيه دية مسلم في قول ابن القاسم، وفي جرحه، إن لم يمت، دية جرح مسلم. وفي قول أشهب: دية نصراني. قال سحنون: وينبغي، على قوله، أن لو كانمرتدًا فأسلم قبل وقوع (السهم) ف يه، أنه لا قود على الرامي ولا دية، لأنه وقت الرمي مباح الدم. وقد قال سحنون في عبد رمى رجلاً ثم عتق قبل وصوله رميته: إن جنايته جناية عبد. قال ابن سحنون: وقد قال أصحابنا أجمع في مسلم قطع يد نصراني ثم أسلم ثم مات: إنه لا قود على المسلم، فإن شاء أولياؤه أخذوا دية يده دية يد نصراني، وإن أحبوا أقسموا ولهم دية مسلم في مال الجاني حالة، في قول ابن القاسم وسحنون. وقال أشهب: دية نصراني. لأني أنظر إلى وقت الضربة. وإن كانت الجناية خطأ ولم

يقسم ورثته فلهم دية يد نصراني على عاقلة الجاني. وإذا أقسموا دية نصراني على عاقلة الجاني مؤجلة. وفي قول ابن القاسم وسحنون: دية مسلم على عاقلته. ومما أجري على هذا الأصل أن رجلاً لو قطع يد عبد، ثم أعتقه سيده، ثم ارتد فسرى إلى النفس، ففي قول سحنون الأول: عليه لسيده ما نقضته الجناية. وعلى قوله الثاني: لا شيئ على القاطع لأنه صار مباح الدم يوم مات. وكذلك من رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عن القصاص قبل الإصابة، فعلى قول سحنون الأول، أيضًا، لا يجب عليه شيئ اعتبار بحال الرمي. وعلى القول الثاني: يجب اعتبارًا بحال الإصابة. وكذلك لو جنى مسلم على نصراني، فتمجس النصراني ثم سرى إلى النفس، أو جنى المسلم على مجوسي ثم تهود المجوسي ثم سرى الجرح إلى النفس، فعلى قول أشهب [ديته]: دية أهل المذهب الأول في المسألتين. وعلى القول الثاني: دية المذهب الذي انتقل إليه. فأما مسلم جرح مسلمًا فارتد المجروح ثم سرى الجرح إلى النفس فأجمع الناس على أنه لا يقاد منه لأن صار إلى ما حل دمه فيه، والذمي لم يصر إلى ما يبيح دمه، وفروع هذا الأصل كثيرة، فلنقتصر على ما ذكرناه، فهو منبه على ما سواه. الفرع الثاني: القصاص في الطرف. وهو في شرط القطع والقاطع والمقطوع كما ذكرنا في شروط القتل والقاتل والمقتول. قال الأستاذ: أبو بكر: وعقد الباب أن كل شخصين يجري بينهما القصاص في النفوس من الجانبين يجري في الأطراف. قال: فأما إذا كان أحدهما يقتص منه للآخر ولا يقتص للآخر منه في النفس، فقال مالك: لا يقتص في الأطراف، وإن كان يقتص منه في النفس، كالعبد يقتل الحر والكافر يقتل المسلم يقتلان. ولو قطع العبد أو الكافر الحر المسلم لم يكن له أن يقتص منهما في الأطراف في ظاهر المذهب. قال محمد بن عبد الحكم: المسلم بالخيار، إن شاء أن يقتص أو يأخذ الدية. قال: وجعل أصحابنا هذه رواية مخرجة في العبد والكافر، فقالوا: للمسلم أن يقتص منهما، وخرجوا هذه الرواية من قول مالك في النصراني يفقأ عين المسلم. وروى ابن الحكم عن مالك قال: "يجتهد السلطان في ذلك أيضًا". قال أصحابنا: تحتمل هذه الرواية وجوب القود، قالوا: وهذا هو الصحيح. قال الأستاذ أبو بكر: وهو كما قالوا.

وفي العتبية من سماع أشهب "أنه توقف فيه". وقال ابن نافع: المسلم مخير إن شاء استقاد، وإن شاء أخذ العقل". ولا يشترط في القصاص في الأطراف التساوي في البدل، وإن اشترط التساوي في المنفعة، بل تقطع يد الرجل بيد المرأة، ولا تقطع اليد السليمة بالشلاء لعدم التساوي في المنفعة لا لتفاوت البدل. ولا يشترط التساوي في العدد، بل تقطع الأيدي باليد الواحدة عند تحقق الاشتراك بأن يضعوا السكين على اليد ويتحاملوا كلهم عليها حتى تبين. فأما لو تميزت الجنايات بأن يقطع أحدهما بعضًا وبينهما الآخر، أو يضع أحدهما السكين من جانب ويضع الآخر السكين من الجانب الآخر حتى يلقيا، فلا قصاص على واحد منهما في جميع اليد، ولكن يقتص من كل واحد بمساحة ما جرح إذا عرف ذلك. والجنايات ثلاث: جرح وإبانة طرف. وإزالة منفعة. أما الجرح: ففي الموضحة، وهي التي توضح العظم من الرأس (أو) الجبهة، القصاص. وكذلك ما قبلها من الحاصرصة، وهي التي تشق الجلد. والدامية، وهي التي تسيل الدم. والسمحاق: وهي التي تكشط الجلد. والباضعة، وهي التي تبضع اللحم. والمتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم غوصًا بالغًا وتقطعه في عدة مواضع. والملطاة: وهي التي يبقى بينها وبين العظم ستر رقيق. ولا قصاص فيما بعد الموضحة من الهاشمة للعظم والمنقلة له على خلاف فيها خاصة. والآمة: وهي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: "لا قود فيها لأنها لابد تعود منقلة". وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنتقل فتصير منقلة فلا قود فيها. وأما الأطراف: فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها، وفي معنى الفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين والشفرين، لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظم إلا ما كان متلفًا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه.

الفصل الثاني: في المماثلة

وبالجملة فلا قصاص في شيئ مما يعظم الخطر فيه كائنًا ما كان. ولو قطع اليد من المرفق لم يجز القطع من الكوع وأن رضي المقتص. وإن كسر عظم العضد ففيه القصاص. ولو قطع من المرفق وكانت يده مقطوعة من الكوع فطلب المجني عليه القطع من المرفق ففي وجوب إسعافه بذلك خلاف، أثبته ابن القاسم ونفاه أشهب. وأما المعاني: فالسمع والبصر يجب القصاص فيهما بالسراية عند إضياح الرأس بأن يقتص منه في الموضحة، فإن ذهب سمعه وبصره فقد استوفى منه، إلا فعليه دية ما لم يذهب من ذلك في ماله عند ابن القاسم وأشهب. وقال أشهب أيضًا: على عاقلته. وكذلك لو سرت إلى ذهاب يد أو رجل، ولو كان ذهاب عينه مثلاً من لطمة أو غيرها مما لا قصاص فيه كالضربة بعصا من غير أن تدمي، فإن انخسفت عينه أقيد له من عينه فقط، وإن لم تنخسف فليس فيها إلا عقلها. الفصل الثاني: في المماثلة والتفاوت في ثلاثة: الأول: تفاوت المحل والقدر. فلا تقطع اليمنى باليسرى، ولا السبابة بالوسطى، ولا إصبع زائدة بمثلها عند اختلاف المنبت. والتفاوت فيالموضحة يؤثر، أعني في سعتها لا في غوصها، فلو كان رأس الشاج أكبر لأخذ من رأسه مقدار طولها عند ابن القاسم. وقال أشهب: يؤخذ من رأس الجاني ما نسبته إليها نسبته موضحة الجناية من رأس المجني [عليه]، واختاره محمد. وإذا فرعنا على قول ابن القاسم، فكان رأس الشاج أصغر؛ استوعب رأسه، ولم يكمل بالقفا ولا بغيره ولو زاد الطبيب المقتص على ما استحق قصاصًا فذلك على عاقلته إن بلغ ثلث الدية، وعليه إن قصر عن ذلك. التفاوت الثاني: في الصفات. ولا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء، ولا تقطع الشلاء بالصحيحة وإن قنع بها، إلا أن يكون لها بها انتفاع ولا يضم إليها أرش، فأما عديمة الانتفاع بالكلية فلا. وروى يحيي بن يحيي عن ابن القاسم: "أن المجني عليه يتخير في قطع اشلاء أو تركها وأخذ عقل يده".

وقال في كتاب أسد: ليس له إلا العقل. وكذلك ذكر محمد عن مالك وابن القاسم وأشهب، وذكره عنهم ابن عبدوس. قال أشهب في الكتابين: إن كان شللاً يابسًا أو كثرًا أذهب أكثر منافع يده. وأما في الخفيف فله أن يقتص. والذكر المقطوع الحشفة، والحدقة العمياء، ولسان الأبكم كاليد الشلاء. وإذا قعلت سن الرجل فردها فثبتت فإن هـ العقل في الخطأ، والقود في العمد عند ابن القاسم. وقال أشهب والمغيرة: له القود في العمد، وليس له في الخطأ عقل. ووجه الفرق عندهما أن المعتبر في القود الجرح ساعة الجناية، وفي العقل الاعتبار بيوم النظر، فأما لو قلعت سنة فأخذ العقل، ثم نبتت لم يلزمه رده. ولا تقلع سن البالغ بسن صبي لم يثغر، لأن سن الصبي فضلة في الأصل، وسن البالغ أصل. ولو عادت الموضحة ملتئمة لم يسقط القصاص. التفاوت الثالث: في العدد. فإن كانت يد الجاني ناقصة بأصبع قطعت ولا شيئ للمجني عليه سوى ذلك. وروي أن له دية الأصبع الناقصة. وإن كانت ناقصة أكثر من إصبع، فقال مالك وابن القاسم: "المجني عليه بالخيار في أن يأخذ العقل تامًا أو يقتص. وقال ابن الماجشون وأشهب: ليس له أن يستفيد. قال ابن الماجشون: لأنه من وجه التعذيب. وإذا فرعنا على الأول فاختار القصاص، فهل له أخذ دية ما نقص من الأصابع أم لا؟. قولان لابن القاسم من رواية عيسى ومحمد، ورويا أيضًا عن مالك. وإن كانت يد المجني عليه هي الناقصة، فإن كان النقص أصبعًا واحدة، فقال مالك وابن القاسم: "يقتص"، كانتالإبهام أو غيرها، أخذ لها عقلاً أو قصاصًا أو غيره. واختلف في ذلك قول أشهب. قال محمد: والثابت عندنا من قول أشهب وروايته أن ليس له إلا القصاص. وقال ابن الماجشون: حد ما لا يرفع القصاص في اليد والرجل من النقص أصبع واحدة، هذا أقصاه. قال: وزاد المغيرة على ذلك، وقول مالك أحوط. قال: إلا أن تكون الإبهام

فلا قصاص. قال سحنون: في كتاب ابنه: وما علمت من فرق بين الإبهام وغيرها غيره. وإن كانت ناقصة أصبعين، فقال محمد: لا قصاص له، لم يختلف في هذا قول مالك وأصحابه. وأما العين الضعيفة فتؤخذ بها العين السليمة إذا كان الضعف من أصل الخلفة، أو من كبر. وأما إن كان نقصهامن جدري أو كوكب أو قرحة أو رمية أو غيرها، أخذ فيها صاحبها عقلاً أو لم يأخذ، فلا قود فيها. وحمل عبد الملك هذا على ما كان نقصًا فاحشًا كثيرًا، قال: وأما النقص اليسير فله القصاص على كل حال. وقال ابن القاسم في الكتاب: "إذا أصيبت العين خطأ فأخذ لذلك عقل، وصاحبها ينظر بها، ثم أصيبت عمدًا ففيها القصاص". وأما صحيح العينين إذا جنى على عين من ليس له إلا عين واحدة ففقأها عمدًا، فقال مالك: "هو مخير إن شاء اقتص منه وإن شاء أخذ ديتها ألف دينار من ماله. وقد قال بأن ديتها ألف دينار الخلفاء الأربعة وابن عباس، وقال به سعيد بن المسيب وعروة وسليمان بن يسار وسليمان بن حبيب وعبد الملك بن مروان وابن شهاب وربيعة والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وإن فقأ صحاب العين الواحدة عين ذي العينين التي مثلها له، ف للصحيح الخيار في القود منها أو أخذ ألف دينار ما ترك له، ولا قول له إن أبى إلا القصاص، والخيار للمجني عليه. وكان مالك يقول قبل هذا: "إن أحب الصحيح اقتص، وإن أحب أخذ دية عينه خمس مائة دينار". وكان يقول أيضًا: إما اقتص وإلا فلا شيئ له". وبهذا قال أشهب، قال: إلا أن يصطلحوا على شيئ فيلزم إلا أن يكون ما قيل من الألف دينار سنة فتتبع. وإن فقأ صاحب العين الواحدة عين الصحيح المعدومة له فليس عليه إلا خمس مائة دينار، كأقطع اليمين يقطع يمين رجل. وإ فقأ عيني صحيح فله القصاص من عينه ونصف الدية في العين الأخرى. قال أشهب:

حكم القصاص الواجب

هذا إن فقأهما في فور واحد، وأما إن فقأ واحدة بعد أخرى، فإن بدأ بالمعدومة له فعليه خمس مائة دينار مع القصاص، وإن بدأ بالتي هي باقية له فعليه مع القصاص ألف دينار لأنها عين ليس لصاحبها سواها. الفن الثاني في حكم القصاص الواجب، وفيه بابان: الباب الأول: في الاستيفاء، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: فيمن له ولاية الاستيفاء إذا كانوا جماعة فهو لجميعهم على فرائض الله تعالى. فإن كان فيهم نساء، فاختلف في دخولهن فيه، فروي أنه لا دخول لهن فيه، وروي أنهن يدخلن إذا لم يكن في درجتهن عصبا. ثم إذا فرعنا على دخولهن فهل في العفو دون القود، أو في القود دون العفو؟ روايتان أيضًا. وإن كان في المستحقي غائب انتظر وكتب إليه، إلا أن تطول غيبته جدًا، أو ييئس منه كالأسير بأرض الحرب وشبهه فلا ينتظر، ولمن حضر القتل. وإن كان فيهم صغير فقال عبد الملك: ينتظر. وقال ابن القاسم: لا ينتظر. وقال سحنون: إن كان مراهقًا أو قريبًا من المراهق انتظر، وإن كان دون ذلك فلا ينتظر. وإذا اجتمع مستحق النفس ومستحق الطرف، وطلبا القود، قتل ولم تقطع يده. وكذلك لو قطع يد شخص ثم قتله، قتل به ولم يقطع به، إلا أن يكون قصده التمثيل به بذلك فيفعل به كما فعل. ولا ينبغي للمستحق أن يستقل بالاستيفاء دون الرفع إلى السلطان، فغن فعل عزره ووقع الموقع، والسلطان يفوض إليه القتل. وقال أشهب: لا يتولى القتل بنفسه مخافة أن يتعدى فيقطع يده. وأجرة من يستوفي القصاص في الجراح والغبانة، والقتل عىل المستحق، إذ الواجب على الجانب التمكين. وحكى الشيخ أبو إسحاق قولاً بإيجابها على الجانب، ثم اختاره وعلله بأن الحق عليه وعليه الخروج منه، فرأى أن الواجب عليه التمييز، ورأى في المشهور أن الواجب عليه إنما هو التمكين لا غير.

الفصل الثاني: في تأخير القصاص

الفصل الثاني: في تأخير القصاص ولا يؤخر باللياذ إلى الحرم، بل يقتل فيه. ويخرج من المسجد إن كان فيه فيقتل خراجه. ويؤخر قصاص الطرف وسائر الجراحات حتى تندمل وتبرأ، فيقتص منه. فإن أفضى إلى النفس قتل الجاني ولم يقتص منه في الجرح ولا في القطع إلا عند قصد المثلة كما تقدم. وإن ترامى الجرح إلى زيادة على المفعول ولم ينته إلى النفس بل اندمل اقتص منه. فإن سرى إلى حيث سرى إليه الأول فقد استوفى حقه، وإن وقف دونه أخذ أرش الزائد، والفرق أن النفس تطلب في كل عضو، وإنما يطلب سائر الأعضاء من مكان أعيانها. ويؤخر القصاص فيما دون النفس للحر المفرط والبرد المفرط ومرض الجاني. ويمنع من الموالاة في قطع الأطراف قصاصًا خوفًا من قتله. وتؤخر الحامل في النفس لعذر الحمل عند ظهور مخائله، ولا يكفي مجرد دعواها. قال محمد: وفي القصاص قال الشيخ أبو محمد: يريد في الجراح المخوفة، ثم تؤخر إلى الوضع، فإن لم يوجد سواها ترضعه فإلى أن يوجد، وتحبس الحامل في الحد والقصاص. ولو بادر الولي بقتلها فلا غرة في الجنبين إلا أن يزايلها قبل موتها فتجب فيه الغرة إن لم يستهل". الفصل الثالث: في كيفية المماثلة وهي مرعية في قصاص النفس، قال القاضي أبو بكر: "فمن قتل بشيئ قتل به، إلا في وجهين وصفتين: الوجه الأول: المعصية، كالخمر واللواط. والثاني: النار والسم. (وقيل: يقتل بالنار والسم). وأما الصفة الأولى: فروى ابن نافع: إن كانت الضربة بالحجر مجهزة قتل بها، وإن كانت ضربات فلا. وقال مالك [أيضًا]: ذلك إلى الولي فروى ابن وهب: يضرب بالعصا حتى يموت ولا يطول عليه، وقاله ابن القاسم. وقال أشهب: إن رجي أن يموت بالضرب ضرب، وإلا أقيد منه بالسيف. وقال عبد الملك: لا يقتل بالنبل ولا بالرمي بالحجارة لأنه من التعذيب.

الباب الثاني: في العفو

وأما الصفة الثانية: فإذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل ذلك به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن فعله بالرعاء حسب ما روي في الصحيح عن أنس قال: "إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أولئك لانهم سملوا أعين الرعاء". وإن كان مدافعة ومضاربة قتل بالسيف. قال القاضي أبو بكر: "والصحيح من قول علمائنا أن المماثلة واجبة إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف، وإلى هذا ترجع جميع الأقوال. ثم مهما عدل المستحق إلى السيف من غيره مكن، لأنه أسهل. الباب الثاني: في العفو، والنظر في طرفين الأول: في حكم العفو، وهو مبني على أن موجب العمد القود أو الدية أحدهما لا بعينه، أو موجبه القود فقط، وفيه روايتان. التفريع: إن قلنا: الواجب أحدهما لا بعينه، وهي رواية أشهب، فلو عفا الولي عنهما صح، وإن عفا عن الدية فله القصاص، ولو قال: اخترت الدية سقط القود، ولو قال: اخترت القود لم يسقط اختيار الدية، بل له الرجوع إليه، وإن قلنا: الواجب القود فقط، على رواية ابن القاسم وهي المشهور من المذهب، فلو عفا على ما ثبت المال إن وافقه الجانب، ولو مات قبل الإقباض ثبت المال، وإن عفا مطلقًا سقط القصاص والدية، ولو كان مفلسًا لكان له العفو عن القصاص إذ ليس بمال، نعم ليس له العفو عن الدية بعد تقررها، ولو كان استحقاق الدم [الوليين] مفلسين فعفا أحدهما ثم عفا الثاني صح عفو الأول ولم يصح عفو الثاني إلا فيما زاد على مبلغ دينه. الطرف الثاني: في العفو الصحيح والفاسد، وفيه ثلاث مسائل: الأولى: إذا أشهد له أنه قتله فقد وهبه دمه فقتله، فروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه قال: اختلف فيه أصحابنا، وأحسن ما رأيت ا، يقتل به، لأنه عفا عن شيئ قبل أن يجب، وإنما يجب لأوليائه، بخلاف عفوه عنه بعد علمه أنه قتله. ولو أذن له أن يقطع يده ففعل، لم يكن عليه شئ سوى العقوبة. ولو عفا عن جرحة العمد ثم نزى منها فمات فلولاته أن يقسموا أو يقتلوا لأنه لم يعف عن النفس. قال أشهب: إلا أن يقول عفوت عن الجرح وعما ترامى إليه، فيكون عفوًا عن النفس.

ولو صالحه عن موضحة على مال ثم نزى منها فمات فلولاته أن يقسموا ويقتلوا في العمد ويأخذوا الدية في الخطأ من العاقلة ويردون ما أخذ وليهم في الصلح. المسألة الثانية: أن يدعي القاتل على رب الدم العفو، فله أن يستحلفه، فإن نكل ردت اليمين على القاتل يمينًا واحدة لا خمسين يمينًا لأنها المردودة عليه، فإن حلف برئ. فإن ادعى القاتل بينة غائبة على العفو تلوم له الإمام. وقال أشهب في كتاب محمد: لا يمين على ولي الدم، لأن اليمين لا يكون في استحقاق الدم إلا خمسين يمينًا، فهذا يريد أن يوجب عليه قسامة مع البينة أو مع قسامة أخرى قد كانت. ولو قال القاتل: يحلف لي يمينًا واحدة، لم يكن له ذلك، أرأيت إن استحلفه فلما قدم ليقتل قال: قد عفا عني، أيستحلفه؟. ولو تأخر القصاص حتى مات أحد ورثة المقتول، فكان القاتل وارثه بطل القصاص، لأنه ملك من دمه حصة، فهو كالعفو ولأن كل من ورث قصاصًا على نفسه أو قسطًا منه سقط عنه القصاص، مثال ذلك في فروع: الفرع الأول: أن يقتل أحد الأولاد أباه فيثبت القصاص عليه لجميع الإخوة، ثم يموت أحد الإخوة فيسقط القصاص عن القاتل لأنه ورث من دمه حصة (فهو) من العفو، ولبقية الإخوة (عليه) حظهم من الدية. الفرع الثاني: إذا قتل أحد الإبنين أباه، وقتل الآخر أمه، فالقصاص عليهما، ولكل واحد منهما أن يقتل الآخر، لأن أحدهما ورث أباه والآخر ورث أمه، فإن بادر أحدهما فقتل الآخر استوفى حقه، وكان لورثة المقتول أن يقتلوا القاتل. فإن تنازعا بمن يبدأ منهما اجتهدالسلطان في ذلك حسب ما يرى. وإن عفا كل واحد عن صاحبه، جاز، ووجب لأحدهما دية أبيه وللآخر دية أمه. وقال خلف بن زرقون: سألت عنها محمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس فقالا: نرى أن يعفى عنهما [جميعًا] لأنا إن ذهبنا نقتل أحدهما ورث الباقي الدم، فلا يكون عليه قتل، فكل واحد (يقول): يقتل هذا قبلي، فلا بد من أن يعفى عنهام. الفرع الثالث: أربعة إخوة، قتل الثاني الكبير، ثم قتل الثالث الصغير، وجب القصاص على قاتل الصغير، لأن الثاني لما قتل الكبير ثبت القصاص عليه للثالث وللصغير، فلما قتل الثالث الصغير ورثه الثاني وحده، فورث ما كان له عليه من القصاص فسقط، وسقطت حصة الشريك إلى نصف الدية، وكان له قتل الثالث بالصغير، فغن عفا كان له عليه الدية يقاصه بنصفها.

المسألةى الثالثة: عفو الوارث صحيح، فإن تعددت الورثة فعفا بعضهم سقط القود إن كان العافي مساويًا لمن بقي ي الدرجة أو أعلى، وإن كان أنزل درجة لم يسقط القود بعفوه، فإن انضاف إلى (العلو) الأنوثة كالبنات مع الأب أو الجد فلا عفو إلا باجتماع الجميع، فإن انفرد الأبوان فلا حق للأم في عفو ولا قيام. وكذلك الإخوة والأخوات معه. فأما الأم والإخوة فلا عفو إلا باجتماعهم معها، فغن اجتمعت الأم والأخوات والعصبة فاتفق العصبة والأم على العفو مضى على الأخوات، وإن عفا العصبة والأخوات لم يمض على الأم، ولو كان مكان الأخوات بنات لمضي عفو العصبة والبنات على الأم، ولم يجز عفو العصبة والأم على البنات لانهن أقرب، ومتى اجتمع البنات والأخوات فلا كلام للعصبة لأنهن يجوز الميراث دونهم، ولا تجري الجدة مجرى الأم في عفو ولا قيام. هذا كله على الرواية بأن لهن مدخلاً في الدم، ولا تفريغ على الأخرى.

كتاب الديات

كتاب الديات والنظر في أربعة أقسام القسم الأول: في الواجب، وفيه بابان: الباب الأول: في النفس ودية النفس الكاملة عند الخطأ مختلفة الجنس بحسب الجاني، فإن كان من أهل البوادي أهل العمودج فهي مائة من الإبل مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة وعشرون جذعة. وإن كان من أهل الذهب كأهل الشام ومصر والمغرب ومن لحق بهم في ذلك فألف دينار. وإن كان من أهل الورق كأهل العراق وفارس وخراسان فإثنا عشر ألف درهم. وأما دية العمد إذا وجبت فمربعة، خمسة وعشرون من كل سن من لاإناث بعد إسقاط بني اللبون. ولوجوبها سببان: العفو على دية مبهمة، أو عفو بعض الأولياء، هذا على الرواية المشهورة. وفي رواية محمد: إذا عفوا على دية مبهمة، أو عفا بعض الأولياء فرجع الأمر إلى الدية، فهي كدية الخطأ، إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئًا، وتنجم على الجاني في ثلاث سنين، وإنما تفترق من دية الخطأ بأن العاقلة لا تحملها. وقال في المجموعة (و) كتاب محمد: إذا قبلت لم تنجم وكانت في مال الجاني حالة. وقال ابن نافع في العتبية: يؤديها كما قال تعالى: (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان). وتغلظ الدية في موضعين: في شبه العمد، إن قلنا به، وفي مثل فعل المدلجي

بابنه. وذلك في الإبل بالتثليث عوض التخميس، وهو أن تكون ثلاثين حقة وثلاثين جذعة، وأربعين خلقة وهي الحوامل، وبحلولها وإيجابها في مال القاتل. وقال أشهب وعبد الملك: تجب علىالعاقلة حالة. وقال ابن حبيب: قال مطرف: هي على الأب حالة، إلا أن لا يكون له مال فتكون على العاقلة حالة، لئلا يطل، كقول مالكف ي المأمومة والجائفة: وإن لم يكن له مال فهي على العاقلة يريد في أحد قوليه. (و) (في) تغليظ الدية على أهل الذهب والورق روايتان: فإذا قلنا. تغلظ، فروي: تؤخذ قيمة الإبل المثلثة ما بلغت إلا أ، تنقص عن ألف دينار أو إثنى عشر ألف درهم. وروي: ينظر ما بين دية الخطأ وبين المغلظة من الإبل، فيجعل ذلك جزءًا من دية الذهب والورق ويزاد عليهما. فروع: الفرع الأول: في التغليظ في الجراح. وفي المجموعة: (و) التغليظ والجراح عند مالك وإن ذكر عنه غير ذلك، فالثابت عنه وما عليه أصحابه: أن فيها التغليظ، إذا كان مثل ما فعل المدلجي بابنه، فيما صغر منها أو عظم. (قال سحنون: "إلا أن تكون من الجراح التي لا يقتص منها بوجه كالجائفة والمأمومة فلا تغليظ فيها. وحكاه القاضي أبو محمد عن عبد الملك. وفي المدينة عن مالك أنها تغلظ في ذلك أيضًا).

الباب الثاني: فيما دون النفس

الفرع الثاني: إن دية العمد لا تغلظ، عند ابن القاسم، على أهل الذهب والورث. وقال أشهب: تغلظ فيزاد فيها ما بين التربيع والتخميس، فيضاف إلى العين ما نسبته إليها نسبة زيادة التربيع على التخميس إليه. الفرع الثالث: قال عبد الملك: إذا قتل المجوسي ابنه لا تغلظ عليه الدية لانها ليست مستخرجة من دية. وأنكر سحنون قول عبد الملك هذا وقال: أصحابنا يرون أن تغلظ عليهم إذا حكم بينهم. ولأن علة التغليظ سقوط القود، ولم أر قوله في شيئ من لاسماعات. وأما المنقصات للدية عما ذكرنا فأربعة. الأنوثة: فإنها ترد إلى الشطر. والاجتنان: (فإنه) يرد إلى غرة عبد أو [أمه]. والرق: فإن يرد إلى قدر القيمة ثم لا ينقص منها، وإن زادت على دية الحر. والكفر: فإن دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم، ودية المجوسي ثمان مائة درهم، والمعاهد كالذمي. ودية نساء كل [جنس] على النصف من دية رجالهم. ودية المرتد، في قول، دية المجوسي، في العمد والخطأ، في نفسه وفي جراحه، رجع إلى الإسلام أو قتل على ردته. وذكره ابن القاسم وأصبغ. وروى سحنون عن أشهب: أن عقله عقل أهل الدين الذي ارتد إليه. وروي عنه أيضًا: لا شيئ على (عاقلته) لأنه مباح الدم. الباب الثاني: فيما دون النفس وهذه الجناية إما جرح أو إبانة أو إبطال منفعة. الأول: الجرح. وقد تقدم بيان ترتيبه، وفي جميعه الحكومة، إلا الموضحة ففيها خمس من الإبل. فأما الهاشمة فلا دية فيها، بل حكومة. وقال القاضي أبو الحسن: ("ولم يذكرها مالك رحمه الله، والذي يلوح من مذهبنا أن

فيها أرض الموضحة حكومة، وكان شيخنا أبو بكر رحمه الله يناظر على أن فيها ما في المنقلة، ويقول: "إذا كسرت العظم بعد أن أوضحته حصل فيها معنى المنقلة، وإنما الخوف في كسر العظم، وإنما يخرج العظم عند العلاج بعد كسره وخوف المنقلة قد حصل). وقال القاضي أبو الوليد: "فيها ما في الموضحة". فإن صارت (منقلة) فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. وكذا الثلث في الجائفة وهي ما أفضى إلى الخوف ولو مدخل إبرة. وهذه الموضحة تختص بعظم الرأس والوجه دون الأنف واللحي الأسفل، كما تختص الجائفة بالبطن والظهر. قال أشهب: كل ما لو ثقب فيه (وصل) إلى الدماغ فهو من الرأس. فأما المنقلة والهاشمية وغيرهما في سائر البدن ففيها الاجتهاد. ونعني بخمس من الإبل في الموضحة نصف عشر الدية، فتجب بمثل نسبته في الذمي والمجوسي، ومهما اتحدت الموضحة فأرض واحد وإن استوعبت الرأس. وفي الجائفة إذا انفذت ثلثا الدية دية جائفتين. قال ابن القاسمفي المجموعة: وهو أحب قول مالك إلي. قال في كتاب محمد: وهو لأشهب في المجموعة. ولكن لو انخرق ما بينهما ما كان فيها إلا دية جائفة واحدة كالموضحة (تعظم) فتكشف من قرنه إلى قرنه وإن كان ذلك من ضربات، إلا أنه في فور واحد. وكذلك المنقلة والمأمومة، ولو لم ينخرق الجلد حتى يتصل ذلك، ولو كانت ضربة واحدة حتى تصير تلك الضربة مواضح، فإن كان ما بين ذلك ورمًا أو جرحًا لا يبلغ العظم، أوصارت الضربة منافل وما [من] المنافل مثل ذلك أو صارت الضربة موائم وما [منها] مثل ذلك ولم ينخرق ذلك، فله دية تلك الواضح والمناقل والموائم. قال أشهب: قد قضى الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجانب الآخر بدية (جائفتين بعد البرء. وقاله مالك في العمد والخطأ وإن كان روى عنه غير هذا. قال ابن القاسم (وأشهب في) الكتابين، بقول مالك أن فيها (جائفتين)، [قال

محمد]: وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. فإن قيل: ما معنى الحكومة؟، قلنا: الحكومة أن يقدر المجني لعيه عبدًا فيقال: قيمته دون الجناية عشرة ومع الجناية تسعة، فالتفاوت عشر، فيجب مثل نسبته من الدية. وهذه الحكومة تقدر بعد اندمال الجرح، ولو لم يبق شين لم تجب، فإن بقي حوالي الجرح شين وكان أرض الجرح مقدرًا اندرج الشين، إلا في موضحة الوجه والرأس، فإنه يزاد على عقلها بقدر ما شانت بالاجتهاد. وروى أشهب: لا يزاد على عقلها شيئ، وقال بما روى، ورواه ابن نافع أيضًا، واختاره القاضي أبو بكر. فرع: وليس أجر الطبيب بأمر معمول به، وقد سئل مالك عمن انكسرت فخذه ثم انجبرت مستوية أله ما أنفق في العلاج؟، فقال: ما علمته من أمر الناس أرأيت إن برئ على شين أيأخذ ما شأنه وما أنفق؟ النوع الثاني: القطع المبين للأعضاء. والمقدر من الأعضاء إثنا عشر عضوًا. الأول: الأذنان، وفي كل واحدة نصف الدية، في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى ليس فيها سوى حكومة. الثاني: العينان، وفي إحداهما إذا فقئت نصف الدية. وفي عين الأعور الدية كاملة. وفي عين الأخفش كمال ديتها لا ينقص لضعفها كاليد الضعيفة. الثالث: الأنف، وفي استئصاله الدية، وكذلك في استئصال المارن كل الدية. وروى ابن نافع أنه لا دية في الانف حتى يستأصله من أصله. قال أبو إسحاق التونسي: وهذا شاد، والمعروف الأول. وإذا فرعنا على المعروف ففي

بعض المارن من الدية [بحسابه] من المارن. الخامس: اللسان، وفي لسان الناطق كمال الدية إذا استؤصل أو قطع منه ما منع الكلام، فإن لم يمنع من الكلام شيئًا، ففي المقطوع من الاجتهاد. وفي لسان الأخرس حكومة. السادس: الأسنان، وفي كل سن خمس من الإبل من غير تفاضل، قلعت من أصلها أو بقي (سخنها). ويكمل العقل بأسودادها أيضًا، فأما إن اخضرت أو اصفرت ففيها من عقلها بنسبة بعدها من البياض وقربها من لاسواد، فإن اسود بعضها (ففيه) بحسابه من الجملة. ولو انكسر البعض واسود الباقي أو اشتد اضطرابه لتم عقلها. قاله أشهب. وإن انكسر نصفها واسود نصف ما بقي منه أو اضطربت فذهب نصف قوتها ففيها ثلاثة أرباع العقل. ثم إن طرحت السن بعد اسودادها ففيها كمال العقل. وفي الشاغية حكومة. وفي قطع نصف السن بحسابها. ولا يدخل النسخ في حساب النسبة. وبقية الذكر من الحشفة وقصبة الأنف من المارن كالسنخ من السن في أن حكومتها تندرج تحتها عند الاستئصال. وسن الصبي الذي لم يثغر إذا جني عليها وقف العقل، فإن نبتت فلا شيئ على الجاني، وإن لم تنبت تم للصبي العقل الذي وقف له، فإن مات الصبي قبل ذلك ورث عنه. وكذلك

لو يئس من نباتها لأخذه الصبي. ولو لم ينبت قدرها أخذ من ديتها بقدر ما نقصت. (قال ابن القاسم: وإن نبت بعضها ثم مات دفع إلى ورثته عقلها). قال ابن اقاسم وأشهب وهو مروي في العتبية: وإن نزعت عمدًا وقف العقل ولا يعجل بالقود. فإن نبتت فلا عقل ولا قود، وإن لم تعد اقتص منه، وإن عادت أصغر من قدرها أعطى عقل ما نقصت. قال ابن القاسم: "وفي قياس قول مالك: إن مات الصبي ولم تعد اقتص منه ولا عقل فيها". قال سحنون: لا يوقف جميع العقل ولكن يوقف منه ما إذا نقصت السن إليه لم يقتص له. كما أن ضعف العين والنقص اليسير في اليد لا يمنع من القصاص فيهما. قال أشهب: فغن كانالصبي حين قلعت سنه قد أثغر ونبتت أسنانه فله تعجيل العقل في الخطأ والقود في العمد. ولو أخذ المثغور الأرض2 في الخطأ ثم ردها فثبتت فلا يرد شيئًا. وقال ابن القاسم. قال محمد: لكن السن عنده بخلاف غيرها لأنه يرى فيها ديتها وإن ثبتت قبل أن يأخذ. قال: والفرق بين الأذن ولاسن أن الأذن تستمسك وتعود لهيئتها ويجري فيها الدم، والسن لا يجري فيها الدم ولا تعودت كما كانت، وإنما تراد للجمال. وقال أشهب: هي كغيرها من الجراح لا شيئ له، وكذلك لو رد أذنه فثبتت، إلا أن يكون ذلك قبل أن يأخذ لها عقلاً فلا شيئ إلا في العمد فله القصاص. والموضحة إذا برئت وعادت لهيئتها لم يسترد أرشها. وكذلك سائر الجراحات الأربع. وكذلك لو جرح ثانية في الموضع نفسه، لكان فيه ديته أيضًا. والبصر إذا عاد تسترد ديته عند ابن القاسم. وقال أشهب: لا ترد. وقال محمد: إن كانت بقية قاض بعد الاستيفاء والاستقصاء فلا ترد، وإن كان بغير ذلك ردت. والسن بخلاف العين عند ابن القاسم. وسن الشيخ الهرم إذا تحركت ففيها العقل، فأما لو أصابها رجل فتحركت، فله بحساب ما نقصت، وإن تآكلت السن كثيرًا ففيها بحسابها، وإن كان يسيرًا فعقلها تام. ولو (قلع) جميع الأسنان وكانت اثنتين وثلاثين أو قل أو أكثر بضربة

واحدة، أوقلعها (متفرقة) مع تخلل الاندمال، ففي كل سن خمس من الإبل. وكذلك إن (كان) على التعاقب. السابع: اليدان، وفيهما مع (الكفين) كما الدية. وتكمل الدية بلفظ الأصابع، ففي كل أصبع عشر من الإبل، فلو قطع الكف مع الساعد أو المرفق أو العضد أو جميع ذلك اندرجت الحكومة. وفي كل أنملة ثلث العشر، إلا في الإبهام فهو أنملتان، وفي كل واحدة منهما نصف الأرض. قال سحنون: روى ابن كنانة عن مالك في الإبهام ثلاث أنامل، في كل أنملة ثلث دية الأصبع. قال: وإليه رجع مالك، وأخذ أصحابه بقوله الأول. الثامن: الثديان من المرأة، وفيهما دية كاملة. وفي حلمتي المرأة الدية إذا أبطل مخرج اللبن. التاسع: الذكر والأنثيان، وفيهما ديتان إذا قطع الجميع معًا بضربة واحدة. فإن قطع أحدهما بعد اندمال الأول، ففي الثاني دية أيضًا، وقيل: حكومة. وإن [قطعا] متعاقبين بضربة واحدة فديتان. وقال عبد الملك: دية وحكومة. وروي عنه أيضًا: أن ذلك إذا قطع الذكر أولاً دون الأنثيين. وفي ذكر الخصي والعينين دية، وقيل: حكومة. قال في المجموعة، عقب قوله: في ذكر الخصي حكومة. قال مالك: وذكر هذا عسيب قطعت حشفته، وأما مقطوع الأنثيين فقط

ففي ذكره الدية كاملة. وتكمل بقطع الحشفة، ولا تزيد بالاستئصال. العاشر: الأليتان من المرأة، وفيهما الدية عند أشهب. وقال ابن القاسم وابن وهب "فيهما حكومة". الحادي عشر: الشفران. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أنهما إذا سلا حتى يبدو العظم ففيهما الدية. الثاني عشر: الرجلان، وهما كاليدين. ورجل الأعرج كرجل الصحيح، إذا كان العرج خفيفًا، ولم يكن عن جناية أخذ لا أرشًا. ويجب في شللهما ما يجب في قطعهما، وكذلك البدان. النوع الثالث من الجنايات: ما [يفوت] المنافع. والنظر في عشر منافع: الأولى: العقل: وإذا أزاله بالضرب فدية واحدة، ولو أزاله بقطع يديه فديتان، دية له ودية لهما، ولو قطع يديه ورجليه فزال عقله فثلاث ديان إن وقفت الجراحة دون النس. الثانية: السمع: وفي كما الدية، وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل: إن أحد السمعين يسمع ماي سمع السمعان فهوعندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاحب به من مواضع عدة ويقاص ذلك، فإن تساوت أو تقاربتأعطي بقدر ما ذهب من سمعه، ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله، فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيئ. وقال عيسى بن دينار: إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه. الثالثة: البصر: وفي إبطاله من العينين مع إبقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش والأخفش وفي (إبطاله) من أحدهما مع بقائها النصف ويمتحن

نقصانه بأن يعرف نهاية ما يبصر بعينه الصحيحة بعد أن يبدل عليه الأماكن فتسد، ثم ينظر نهاية ما يبصر به من العين المصابة وتبدل عليه الأماكن ثم تقاس إحداهما بالأخرى. فإذا عرف قد النقص كان فيه بحسابه، وإن ادعى أن جميع بصره ذهب صدق مع يمينه، والظالم أحق بالحمل عليه. الرابعة: الشم: وفيه كمال الدية إن انفرد، فإن ذهب (يقطع) الأنف اندرج تحت ديته. الخامسة: النطق: وفي إبطاله كمال الدية، وإن بقي في اللسان فائدة الذوق والإعانة على المضغ. وفي نقص الكلام نفض الدية على الكلام، ويكون عليه من ذلك بمقدار ما يظن أنه نقصه من الكلام على الاجتهاد. وقال أصبغ: تجزأ الدية ثامنية وعشرين جزءًا على حروف المعجم، فما نقص من الحروف نقص من الدية بقدره. السادسة: الصوت: وفي إبطاله كل الدية. السابعة: الذوق: وفيه كما الدية أيضًا، ويجرب بالأشياء [المرة] [المنقرة] الثامنة: قوة الجماع: فلو ضرب فادعى (ذهابها) منه، فإن استطاع اختبار ذلك منه اختبر، وإلا حلف وأخذ الدية كاملة، ثم إن رجعت إليه هذهالقوة رد الدية، قرب رجوعها أو بعد. التاسعة: الإفضاء. وفيه حكومة، وقيل: كمال الدية، ثم ذلك على الزوج والجاني جميعًا. والإفضاء: هو أن يرفع الحاجز بين مخرج البول ومسلك الذكر ويصير المسلكان واحدًا. ولا يندرج تحت المهر، ويندرج أرش البكارة تحت المهر. ولو أزال بكارة زوجته

بأصبعه ثم طلقها فعليه قدر ما شأنها مع نصف الصداق، وينظر ما شأنها عند الأزواج في حالها وجمالها. فرع: إن كان الإفضاء من الزوج فالحكومة في ماله إن نقصت عن الثلث، وإن بلغت الثلث فعلى عاقلته، لأن أصل فعله مأذون فيه، فكان [له حكم الخطأ، وأما إن كان من أجنبي اغتصبها فالأرض في ماله بالغًا ما بلغ، لأن فعله غير مأذون فيه فكان) من باب العمد، ولا يندرج المهر تحته، بل يجتمعان مع الحد. العاشرة: منفعة القيام والجلوس: وفيه كما الدية، فلو ضرب صلبه فبطل قيامه وجلوسه وجب كمال الدية. وإن بطل قيامه فقط فروى ابن القاسم وأشهب أن فيه الدية كاملة أيضًا. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون: إنما الدية في الصلب إذا انكسر فلم يقدر على الجلوس، ثم مهما نقص من القيام أو الجلوس، على القولين، فله من الدية بحساب ما نقصه من تمام القيام أو الجلوس على الخلاف المتقدم. ولو ضرب صلبه فبطل قيامه وقوة ذكره حتى يذهب منه أمر النساء لم يندرج ووجبت ديتان. هذا حكم جراح الحر الذكر وأطرافه. أما جراح العبد فمعتبرة بما ينقص من قيمته إلا ي الشجاع الأربع: الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، ففي كل شجة منها من قيمته بنسبة ما يجب فيها في حق الحر من ديته، فيكون في موضحته نصف عشر قيمته، وكذلك سائرها ولو جبة ضمن ما [نقصه]، وإن لم ينقصه أو زادت قيمته لم يكن عليه غرم، وعوقب إن تعمد ذلك. وأما جراح المرأة الحرة، فإنهاتعاقل [فيها] الرجل ما لم تبلغ ثلث ديته (أي)

تساويه، فإن [بلغته] ردت إلى قياس ديتها، ففي ثلاث من أصابعها ثلاثون من الإبل، وفي الأربع عشرون نصف ما فيها من الرجل وكذلك في ثلاث وأنملة نصف ما فيها من الرجل، وكذلك المأمومة والجائفة. فأما الموضحة والمنقلة ففيهما [مثل] ما فيهما من الرجل، ثم يعتب رالواجب باتحاد الفعل كضربة واحدة أو ضربات في معنى الضربة الواحدة من واحد. وكذلك لو اتحد المحل كالكف الواحدة. وإن تعدد الربات وتباينت ففي الضربة المبلغة للحد المذكور أوالزائد عليه نصف ما يجب فيها من الرجل. فحيث اتحد الفعل، أو كان في معنى المتحد لم يعتبر اتحاد المحل، بل لو ضربها ضربة واحدة أو ما في معناها فقطع لهاأصبعين من يد [وأصبعين] من يد أخرى، أو ثلاثة من يد وأصبعًا من الأخرى لكان لها في الأربع وعشرون بعيرًا. وكذلك حيث اتحد المحل لم يعتبر اتحاد الفعل وتعدده، بل لو قطع لها من كف واحدة ثلاثة أصابع في ضربة أو ضربات فأخذت لها ثلاثين بعيرًا ثم قطع منها بعد ذلك أصبعًا أو أصبعين في ضربة أو ضربتين لكان لها في كل أصبع خمس، وأصابع الرجلين كأصابع اليدين في ذلك. وبالمعاقلة التي ذكرناها قال عمر وعلي وعائشة وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وربيعة، ورويت عن سائر الفقهاء السبعة وهي إجماع أهل المدينة، نقلاً متواترصا وعملاً متصلاً، وكذلك روى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: "سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ فقال: [عشر] من الإبل، فقلت: كم في أصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، فقال سعيد: أعراقي أنت؟، قال: فقلت: بل عالم مثبت أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا ابن أخي".

القسم الثاني من الكتاب: في الموجب من الأسباب

وهذا منه إشار بأنه هو ومن وافقه من أهل عصره قائلون بها من جهة النقل والاتباع، وأن الخلاف فيها معاندة للسنة. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية" وهذا نص في المسألة. القسم الثاني من الكتاب: في الموجب من الأسباب والنظر في ثلاث أطراف: الأول: في تمييز السبب عن غيره، وكل ما يحصل الهلاك معه. فأما أن يحصل به فيكون علة كالتردية في البئر، أو يحصل عنده لعلة أخرى، ولكن لولاء لم تؤثر العلة كحفر البئر مع التردية فهو (سبب). (فلو) ضرب حاملاً فأجهضت وجبت الغرة لأنه سبب. وكذلك التهديد والتخويف فإنه سبب أيضًا، وقد وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فشارو الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدب ولا شيئ عليك. فقال علي: إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد فقد أخطأ، أرى عليك الدية. الطرف الثاني: في اجتماع العلة والسبب، كالحفر والتردية. ومهماكانت العلة عدواناً، فالضمان على المردي لا على الحافر، وإن لم تكن عدوانًا [بأن يخطئ] إنسان [فيردى] جاهلاً، نظر إلى الحفر، فإن لم يكن عدوانًا فلا ضمان، وإن كان عدوانًا أحيل الضمان عليه. فإن قيل: بم يكون الحفر عدوانًا؟ قلنا: من حفر البئر في ملكه لتجرية الماء أو لغير ذلك من منفعة ملكه ومصالح نفسه فليس بعدوان، وسيأتي في ذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. منفعة ملكه ومصالح نفسه فليس بعدوان، وسيأتي في ذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. الطرف الثالث: فيما يوجب الشركة. كما إذا حفر رجلان بئراً فانهارت عليهما فمات أحدهما، فقد قال أشهب: على عاقلة الآخر نصف الدية لأنه شرك في قتل نفسه، وأما إن (ماتا) فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف الدية. وكما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمت، وجب له أرض ما قابل فعل الغير، ولا يجب له في مقابلة فعله شيئ.

(فأما لو اصطدم فارسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، وإن مات الفرسان فقيمة فرس كل واحد منهما في مال الآخر). قال أشهب وقال بعض العراقيين: على عاقلة كل واحد منهما (نصف) دية الآخر لاشتراكه في قتل نفسه. وسواء كان المصطدمان راكبين أو ماشيين، أو بصيرين أو ضريرين، أو أحدهما ضرير أو بيده عصا. وإن سلم أحد الفارسين بفرسه، ففي ماله فرس الآخر، وعلى عاقلته دية راكبة، فإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض يثبت القصاص وأحكامه. وكذلك لو كانا صبيين ركبا بأنفسهما أو ركبهما أوليائهما، فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص. (فأما لو اصطدمت سفينتان فلا ضمان على أصحابهما، إلا أن يتعمدوا ذلك. ولو كان الملاحون قادرين على صرفهما (فلم) يصرفوهما ضمنوا، وسواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر من خوفهم على أنفسهم الغرق أو غيره، أو من أجل الظلمة وهم لو (رأوهم) قدروا على صرفهما أو غير ذلك). فروع: من ارتقى في بئر بجذبه رجل من أسفل فوقعا جميعًا فيها فماتا، فعلى عاقلة الأسفل دية الأعلى. وإذا قاد بصير ضريرًا فوقعا في بئر، فإن وقع كل واحد منهما ناحية عن صاحبه فماتا جميعًا، فدية الضرير على عاقلة البصير، ودم البصير هدر. وكذلك لو كان البصير وقع فوقه. وإن وقع الضرير فوق البصير فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر. وإن وقع الضرير وحده فالضمان على البصير. وإن وقع البصير وحده فلا ضمان على الضرير.

القسم الثالث من الكتاب: في بيان من عليه الدية

وكذلك لو وقع بصيران في بئر، فإن الأعلى ضامن للأسفل، ولا ضمان على الأسفل إلا أن يكون (الوقوع بسببه). ولو جذب رجلان حبلاً ف انقطع فتلفا، فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر. فإن تلف أحدهما فديته على عاقلة الآخر. وإن وقع أحدهما على إنسان أو متاع فأتلفه فالضمان عليهما. القسم الثالث من الكتاب: في بيان من عليه الدية وهي الجاني إن كانت الجناية عمدًا، أو العاقلة إن لم تكن عمدًا. واختلف في جراح العمد التي لا قود فيها، وفي مثل فعل المدلجي بابنه كما تقدم، والنظر في ركنين: الأول: في جهات العقل، وصفة العاقلة أما الجهات فثلاث: العصرية والولاء، وبيت المال، أما الموالاة والمخالفة فلا توجب (تحمل) العقل. الجهتة الأولى: القرابة. وهي كل عصبة، ويدخل فيها الأب والابن. وفي دخول الجاني فيالتحمل روايتان. وألحق بالقرابة الديون (بعلة) التناصر، فإذا كان القاتل من أهل ديوان مع غير قومه حملوا عنه دون قومه، وحمل عنهم كما يحمل عنه قومه سواء كانوا أهل ديوان أم لا، ثم إن اضطر أهل ديوان إلى (معونة) قومهم لقتلهم أو لانقطاع ديوانهم أعانوهم. وقال أشهب: إنما يحمل عنه أهل الديوان إذا كان العطاء قائمًا، وإلا فأهله يحملون عنه. الجهة الثانية: الولاء. فإذا لم تصادف عصبةفعلى معتق الجاني وهو المولى الأعلى، فغن لم يكن، فاختلف في المعتق الأسفل، فقيل: يحمل، وقيل: لا يحمل شيئًا. الجهة الثالثة: بيت المال. وإذا لم تجد العصوبة والولاء أخذنا من بيت المال إن كان الجاني مسلمًا، وإن كان ذميصا رجعنا على الذين يؤدون معه الجزية، أعني أهل إقليمه الذين يجمعه وإياهم أداء الجزية. فإن لم يستقلوا ضم إليهم أقرب القربى منهم من كورهم كلها حتى يتسعوا. وإن كانوا أهل صلح فالدية على أهل ذلك الصلح. أما الصفات فيشترط فيمن تضرب عليه: الحرية والتكليف والذكورة والموافقة في الدين واليسار. فلا تضرب على عبد ولا صبي ولا امرأة وإن كانت معتقة، ولا على مخالف في الدين، فلا يتحمل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ولا تضرب على فقير وإن كان يعتمل.

ولا حد للمال إذا ملك استحق مالكه الضرب عليه، ولا لما يؤخذ من كل واحد حد، وقيل: يؤخذ من (أصحاب) الديوان من كل مائة درهم من العطاء درهم ونصف. قال ابن القاسم: وكذلك كان يؤخذ من أعطيات الناس. الركن الثاني: في كيفية التوزيع. والنظر في الترتيب والأجل. أما الترتيب، فالبداية بأقرب العصبات، ولا يضرب على كل واحد إلا على قدر ما تحتمله حاله ولا يضر به. ثم إن فضل عن الأقربين شيئ ترقينًا إلى من بعدهم أولاً أولاً، ف نبتدئ بالفخذ، فإن لم يستقل الفخذ ضممنا إليه البطن، فغن لم يستقلا ضممنا إليهما العمارة، فغ، لم ستقل الجميع ضممنا إليهم الفصيلة، فإن لم يستقلوا ضممنا إليهم القبيلة، فإن لم يستقلوا لفقرهم وقلة جدتهم استعانوا بأقرب القبائل إليهم. قال ابن القاسم في الكتاب: "ولا يعقل أهل البدو مع أهل الحضر وإن كانوا قبيلة واحدة، لانه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعين". وروى ابن وهب في كتاب ابن سحنون: أنهم يعقلون. (وقاله) أشهب وعبد الملك: قال ابن القاسم: "وأهل مصر لا يعقلون مع أهل الشام، ولا أهل الشام مع أهل العراق، وإن كانوا أقرب إلى الجاني ممن معه في أفقه، بل بعد من كان في غير أفقه كالمعدوم، ويضم إلى من في أفقه من يليهم من القبائل، وإن كانوا أبعد من الخارج عن أفقه. قال أبو الحسن اللخمي: يريد ابن القاسم بأهل مصر أهل الكور. قال ومصر من أسوان إلى الإسكندرية. وقال سحنون: في إفريقية يضم عقلها بعضها إلى بعض من طرابلس إلى (طبنه). وقال أشهب فيمن وجبت عليه دية وهو من أهل الفسطاط: لا يؤخذ في ذلك جميع عمل مصر، وذلك على من هو بالفسطاط. وما دون ثلث دية الجاني والمجني عليه لا يضرب على العاقلة بل يكون في مال الجاني حالاً، وذلك لما روى ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقل بين قريش والأنصار فجعل على العاقلة ثلث الدية فصاعدًا.

القسم الرابع من الكتاب: في غرة الجنين

واختلف فيما نقص عن ثلث دية المجني عليه وإن ساوى دية الجاني أو أناف عليها كمجوسية شجت مسلمًا موضحة ونحوها، هل تحمله العاقلة أم لا؟ على روايتين لابن القاسم وأشهب. وأما الأجل فهو في دية كاملة ثلاث سنين، يؤخذ ثلثها في آخر كل سنة. وفي بعض الدية خلاف، هل يكون حالاً أو منجمًا؟، ثم تنجيمه إذا قلنا به يكون على النسبة منها، فالثلث في سنة والثلثان في سنتين. وفي النصف روايتان، وكذلك في النصف والربع، إحدهما: أن ذلك في سنتين، والأخرى: (أن) الأمر فيه مردود إلى نظر الحاكم. وتنجم دية المرأة ودية الكافر في ثلاث سنين. ومن مات ممن جعل عليه بقدره لم يزل عنه ما جعل عليه وكذلك أو أعدم. ولا يدخل فيها من يبلغ من صغير، أو يقدم من غائب أو منقطع. ولا تزاد على من أيسر منهم. وقال أصبغ: من مات منهم بعدما جدعلت عليه فلا يكون ذلك في ماله، بل يرجع على بقية العاقلة. وأول الحول يحسب من يوم الحكم. قال القاضي أبو الحسن: لانها تحتاج إلى تمييز العاقلة، والتوظيف على من تجب عليه منهم وكانوا غير متعينين، وإنما يتعينون بالحكم. فرع: لا تحمل العاقلة جناية العبد ولا الجناية العمد سوى جراح العمد التي لا قود فيها. والدية المغلظة على الخلاف المتقدم في ذلك. ولا تحمل من الجناية ما لم يثبت إلا باعتراف الجاني. القسم الرابع من الكتاب: في غرة الجنين. والنظر في أطراف: الأول: في الموجب، وهي جناية توجب انفصال الجنين ميتًا في حياة أمه. قال الأستاذ أبو بكر: الاعتبار في وجوب غرته بحياتها، وفي كمال ديته بحياته فإن لم ينفصل وماتت الأم فلا شيئ فيه، وإن انفصل بعد موتها فكذلك أيضًاً. وقال أشهب: إذا انفصل بعد موت الأم وجبت الغرة. قال: وأما إن انفصل حيًا

فاستهل، فإن كانت الجناية خطأ وتراخى الموت عن الاستهلال فالواجب فيه الدية بقسامة، وإن (كان) الموت عقب الاستهلال فقال أشهب: لا يفتقر في استحقاق الدية إلى قسامة. وقال ابن القاسم: لابد من القسامة. وإن كانت الجناية عمدًا فقال القاضي أبو الوليد: "المشهور من قول مالك أنه لا قود فيه. وقال ابن القاسم في المجموعة غيرها: إذا تعمد الجنين بضرب البطن أو الظهر أو موضع يرى أنه أصيب به ففيه القود بقسامة. وأما ضرب رأسها أو يدها أو رجلها ففيه الدية بقسامة"" وهي في ماله، لأن موته عن سبب عمد. ولو ألقت جنينين أو أكثر من ذلك ففي كل واحد غرة أو دية. ولو خرج راس الجنين وماتت الأم، ففي إيجاب الغرة فيه قولان. الطرف الثاني: في الموجب فيه. وهو ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد وإن لم يكن مخلقًا، مضغة كان أو غيرها، نفخ فيه الروح أو لم ينفخ فيه بعد، إذا علم النساء أنه ولد، وإن لم يتبين من خلقه عين ولا أصبع ولا غير ذلك. ولا يفترق الحكم بأن يكون ذكراً أو أنثى. هذا أصل الجنين، أما صفته فإن كان حرًا مسلمًا ففيه غرة، وفي الجنين الحر الذمي نصفها، أما الجنين الرقيق ففيه عشر قيمة الأم. وقال اصبغ عن ابن وهب في كتاب محمد: في جنين الأمن ما نقصها، قال محمد: وقول مالك أحب إلينا. الطرف الثالث: في صفة الغرة. وهي عبد أو وليدة. والأحسن أن يكون من الحمر، ويجزي من أوسطهم. قال في المجموعة: إلا أن يقلوا، فمن أوسط السودان. ومهما بذل من ذلك ما قيمته خمسون دينارًا أو ستمائة درهم وجب قبوله. ويؤخذ من أهل الذهب خمسون دينارًا، ومن أهل الورق ستمائة درهم. واختلف في المأخوذ من أهل

الإبل، فقال أشهب: تؤخذ منهم الإبل وهي خمس فرائض: بنت مخاض وبنت لبون وابن لبون وحقة وجذعة. وقال ابن القاسم: ليس للإبل فيها مدخل، لان أصلها الغرة، ثم قومت بالذهب وبالدراهم، وليست الإبل بقيمة. ثم مصرف الغرة لوارث الجنين على فرائض الله تعالى.

كتاب كفارة القتل

كتاب كفارة القتل وكل حر مسلم قتل حرصا مؤمنًا معصومًا خطأ فعليه تحرير رقبة مؤمنة سليمة من العيوب، ليس فيها شرك ولا عقد من عقود العتق، كما قدمنا في الصيام والظهار. فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. [فإن] لم يستطع انتظر القدرة علىالصيام أو وجود الرقبة. ولا مدخل للإطعام فيها. فتجب الكفارة في مال الصبي والمجنون. ولا تجب في قتل الصائل، ولا على من قتل نفسه. وتجب في شبه العمد على الرواية المثبتة له. وتستحب الكفارةف يالعبد والذمي وقاتل العمد إذا عفي عنه. والشريك في القتل عليه كفارة كاملة. ولا تجب الكفارة في الجنين يسقط ميتًا بالضرب أو بقتل الأم، وروى استحسانها فيه. خاتمة لموجبات القتل بذكر التعزيز والقيمة: أما التعزيز فالنظر في صفته ومحله: أما الصفة: فضرب مائة وحبس سنة.

وأما المحل: فكل من قتل عمدًا ولم يقتل، كمت قتل من لا يكافئه، كالمسلم يقتل الكافر، والحر يقتل العبد، وكمن وجب عليه القود فعفي عنه. ويدخل في العبد يقتل الحر فيعفى عنه ويستحيي. وقال اصبغ: لا يحبس العبد ولا الامة، ولكن يجلدان. وكجماعة أقسم عليهم فقتل أحدهم، فليضرب سائرهم ويحبسوا. وأما القيمة فإنما تجب في قتل غير الحر، وقد سبق ذكرها في كتاب الديات

كتاب دعوى الدم

كتاب دعوى الدم والنظر في القسامة والشهادة بالدم النظر الأول: في القسامة وفيها أربعة أركان: الركن الأول: في مظنتها، وهو قتل الحر المسلم في محل اللوث إذا لم يثبت القتل ببينةولا بإقرار من مدعى عليه. فلا قسامة في الأطراف والعبيد والكفارة. واللوث: هو أمارة يغلب معها على الظن صدق مدعي القتل كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل. وفي شهادة من لا تعرف عدالته، أو العدل يرى المقتول يتشحط في دمه والمتهم نحوه، أو قربه عليه آثار القتل، خلاف، تفصيله: (أن محمد بن عبد الحكم قال: يوجب القسامة ما يدل على قتل القاتل بأمر بين مثل أن يرى يجره ميتًا، أو يرى خارجًا متلطخًا بالدم من منزل يوجد فيه القتيل وليس معه غيره، فمثل هذا يوجب القسامة. ومثل أن يعدو عليه في سوق عامر فيقتله فيشهد بذل من حضر. قال الشيخ أبو محمد: "يريد وإن لم يعرفوا، إن تظاهرت ذلك كاللوث تكون معه القسامة. قاله من أرضى. وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. (وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث شدون شهادة المرأة الواحدة. وروى محمد أيضًا عن أشهب عن مالك: أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. قال محمد: ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن العبد ولاصبي والذمي ليس بلوث.

وذكر القاضي أبو محمد في معونته: "أن من أصحابنا من يجعل شهادة العبيد والصبيان لوثًا". وقال القاضي أبو الوليد: "اللوث عند مالك هو الشاهد العدل في معاينة القتل". وقال القاضي أبو بكر: "اختلف في اللوث اختلافاً كثيرًا، فمشهور المذهب أنه الشاهد العدل". وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم. (وروى ابن حبيب عن مطرف قال: سألت مالكاً عن اللوث؟ فقال: اللوث اللطخ البين مثل اللفيف، من السواد والنساء والصبيان يحضرون ذلك، ومثل الرجلين أو النفر يشهدون على ذلك وهم غير عدول، فتكون القسامة معهم). قال مطرف: فقلنا لمالك: فالشاهد العدل؟ فقال: وذلك لوث. وهو أعلى اللوث وأحقه وأبينه. قال ابن حبيب: قال لي مطرف: وقد كان بعض أصحاب مالك روى عنه أنه قال: لا يكون (لوثًا) إلا الشاهد العدل، وإنما ذلك وهم ممن روى ذلك، فاحذر هذا القول لا تقبله، فإني ظننت أ، هـ قد انتهى إليك، وإنما (قال له) ابن أبي حازم يومًا، ونحن جميعًا معه، يا أبا عبد الله ترى الشاهد العدل لوثا؟ فقال: نعم. فحمله بعض من سمعه معنا أن تفسير اللوث الشاهد العدل لوثاً؟، فقال: نعم. فحمله بعض من سمعه معنا أن تفسر اللوث الشاهدل العدل، وإنما معناه أن لوث أيضًا، وهو أبين اللوث وأظهره، وإنما اللوث بعينه اللطخ البين، والشاهد الواحد من اللوث (والنفر غير (الجائر) الشهادة من اللوث)، والسواد والصبيان والنساء) إذا حضروا ذلك أيضًا من اللوث. وقد قيل بذلك عندنا بالمدينة. واللوث هو الالتباس من الأمر واختلاطه، ألا ترى أنك تقول: قد التاث [هذا] الأمر فاعرف هذا، وإياك أن تقبل غيره. وقول المقتول في العمد: دمي عند فلان، لوث يوجب القسامة، إذا كان بالغاً مسلماً

حرًا. ولا يشبه ذلك الدعوى بالمال [أو غيره [، لأن أهل هذا أصل قائم بنفسه. ومن يتحقق مصيره للآخرة وأشرف على الموت فلا يتهم في إراقة دم مسلم ظلمًا، وغلبة الظن في هذا تنزل منزلة غلبة الظن في الشاهد، وكيف لا والغالب من أحوال الناس عند الموت التوبة والاستغفار والندم على التفريط ورد المظالم، فكيف يتزود من دنياه قتل النفس المحرمة، هذا خلاف الظاهر وغير المعتاد. واحتج أصحابنا أيضًا بقصة بقرة بني إسرائيل، واعترض عليهم بأن ذلك شرع من قبلنا، وبأنه آية _نبي). فأجابوا عن الأول بأنه غير المذهب. وعن الثاني بأن موضع الحجة غير موضع الآية. وفي كونه لوثاً في الخطأ روايتان، قال الإمام أبو عبد الله: والأصح عندنا أنه يقسم مع دعواه في الخطأ. ولو شهد شاهدان بالضرب أو الجرح ثم مات المجروح أو المضروب بعد أيام، وقد أكل وشرب كان ذلك لوثًا، يقسم معه لمن ضربه أو جرحه مات. فرع: فإن لم يقم على الضرب أو الجرح إلا شاهدًا واحدًا فقال ابن القاسم: يقسم معه. وقال غيره: لا يقسم على ذلك حتى يثبت أصل الجرح أو الضرب، ثم يقسم الورثة أنه مات من ذلك. وإذا انفصلت قبيلتان عن قتيل لا يدرون من قتله، فالعقل على الذين نازعوه ونازعوا أصحابه، فتضمن كل فرقة من أصيب من الفرقة الأخرى، فإن كان من غيرها فعقله عليهما ولا قسامة في ذلك ولا قود في هذا. قال أشهب: وهذا إذا لم يثبت دمه عند أحد بعينه. قال ابن القاسم: "قول مالك: لا قسامة في هذا المعنى بدعوى الأولياء أن فلانًا قتله. وأما لو قال الميت: فلان قتلني، أو قام شاهد عدل أن فلانًا قتله، لكانت فيه القسامة" وقاله أشهب. قال: وكذلك لو (أقام شاهدين) بأن فلانًا قتله بين الصفين لقتل به. فرع: فحيث شهد شاهد عدل على رؤية القتل، وقلنا: يقسم معه، [فقال] محمد: إنما يقسم مع شهادته إذ ثبت معانية القتيل فشهد بموته وجهل قاتله، كقصة عبد الله بن

سهل. قال ابن الماجشون: لأن الموت يفوت، والجسد لا يفوت. وقال أصبغ: ينبغي أن لا يعجل السلطان فيه بالقسامة حتى يكشف، ف لعل شيئًا أثبت من هذا، فإذا بلغ أقصى الاستيناء قضى بالقسامة مع الشاهد وبموته. قال ابن القاسم: "وإن شهد شاهدان أن فلانًا جرحه، ثم مات بعد أيام من تلك الجراحة ففيه القسامة" وقال سحنون في المستخرجة عن ابن القاسم: "لا قسامة فيمن قتل بين الصفين وإن شهد على قتله شاهد أو على إقراره". قال محمد: رجع ابن القاسم عن هذا إلى أنه يقتل بالقسامة من ادعى عليه المقتول، قال: وهو قول مالك وأشهب وابن عبد الحكم وأصبغ. فرع: قال القاضي أبو محمد "هذا كله إذا كان القتل من غير تأويل دين، فإن كان بخلاف ذلك فلا قسامة ولا دية ولا قود". وأما مسقطات اللوث فأربعة: الأول: أن يتعذر إظهاره عند القاضي، فلو ظهر عنده في جمع، بأن تشهد البينة بأنه قتل ودخل في هؤلاء الجمع ولم يعرفوه منهم بعينه، فللمدعي أن يستحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا ويغرمون الدية بلا قسامة من الأولياء. ومن نكل منهم كان العقل عليه. وقال سحنون: لا شيئ عليهم وشهادة البينة أنهم رأوه دخل فيهم ولا يعرفونه بعينه باطل. الثاني: إذا ظهر اللوث في أصل القتل دون وصفه كما لو قال: دمي عند فلان، ولم يقل: عمدًا ولا خطأ، فإن اجتمع الأولياء على عمد، أو خطأ على إحدى الروايتين، أقسموا

الركن الثاني: في كيفية القسامة

عليه واستحقوا ما يجب فيه، وإن اختلفوا فقال بعضهم: عمدًا، وقال بعضهم: خطأ، ثبت حكم الخطأ. ولو قال أحدهم: قتله عمدًا وقال غيرهم: لا علم لنا، بمن قتله، أو نكلوا على اليمين، سقط حقهم من القسامة وردت على المدعى عليه، ولو قال بعضهم: قتله خطأ، وقال بعضهم: لا علم لنا، بمن قتله، أو نكلوا عن اليمين، حلف مدعو الخطأ، واستحقوا أنصباءهم من الدية، ولا شيئ للآخرين. وقال الشيخ أبو بكر: "القياس ألا يقسموا". الثالث: دعوى الورثة خلاف ما قال الميت من عمد أو خطأ يسقط حقهم من القاسمة والدم والدية، ولا يقبل رجوعهم إلى قوله. قاله أشهب. وقال ابن القاسم: إذا ادعوا خلافه فليس لهم أن يقسموا إلا على قوله، ولم يره. الرابع: أن يدعي الجاني كونه غائبًا، ويقيم البينة على ذلك فيسقط أثر اللوث. الركن الثاني: في كيفية القسامة وهي ا، يحلف الوارث، إن كان واحدًا، في الخطأ خمسين يميناً متوالية. وإن كانوا جماعة وزعت عليهم الأيمان على قدر مواريثهم، وجبر كسر اليمين بإكمالها على من عليه أكثرها، أو على جميع المشتركين فيها إن تساوت أنصباؤهم منها، وقيل: يجبر على الجميع وإن اختلف أنصباؤهم منها. فإن نكل بعضهم أو كانغائبًا فلا يأخذ الحاضر حصته ما لم يتم خمسين يمينًا. ثم من حضر منالغيب حلف حصته من الأيمان لو اجتمع الجميع وأخذ حصته من الدية، ومن نكل منهم سقط حقه. وأما العمد فلا يحلف فيه أقل من رجلين. قال ابن القاسم: وكأنها من ناحية الشهادة. ولا مدخل للنساء في العمد بوجه، بل تحلف العصبة، فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينًا واحدة، فإن اقتصروا على رجلين منهم فحلفا خمسين يمينًا فهل يجزيهم ذلك أو لا يجزيهم ويعدون ناكلين إن لم يحلف كل واحد منهم يمينًا؟ قولان لابن القاسم وعبد الملك. قال محمد: [و] قول ابن القاسم صواب، لأن أيمان بعضهم تنوب عن البعض. وإن زاد عددهم على الخمسين حلف منهم خمسون. وحكى القاضي أبو محمد رواية

الركن الثالث: في حكم القسامة

بأنهم يحلفون جميعهم. وإن نقص عددهم عن الخمسين ردت عليهم الأيمان حتى تكمل خمسين. وإن كان الولي واحدًا استعان ببعض عصبته، ويجتزي في المعنيين بالواحد. ثم نكول المعينين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود. قال القاضي أبو محمد: "وهذا في الولد والإخوة رواية واحدة. وفي غيرهم من العصبات روايتان: إحداهما مثل هذه، والأخرى أن الباقين يحلفون ويستحقون الدم". ثم حيث قلنا بسقوط القود في إحدى الصورتين فيحلف من بقي ويستحق نصيبه من الدية. وروي ترد الأيمان على المدعى عليه، فإن نكل لزمته الدية في ماله. وقال محمد: قد اتفقوا على أن هذا يحبس إلى أن يحلف. وروي إن طال حبسه خلي. الركن الثالث: في حكم القسامة وهو القود في العمد والدية في الخطأ. فإن كان المقسم عليهم جماعة لم يقتل منهم بالقسامة إلا واحد. قال عبد الملك: لانا لا ندري أقتله الكل أو البعض، والمتحقق منهم واحد والزائد عليه مشكوك فيه (فترك). وقتل المتحقق. وقال المغيرة: تقتل (به) الجماعة. وإذا فرعنا على المشهور فلا يقسم إلا على واحد بعينه ويقتل. وقال أشهب: لهم أن يقسموا على الجماعة، ثم (يقتلوا) واحدًا منهم يختارونه، ثم يضرب كل واحد ممن بقي مائه (سوط) ويحبس سنة كما قدمنا. وإذا فرعنا على الأول فروى ابن القاسم أنهم يقولون فيالقسامة: لمات من ضربه، ولا يقولون من ضربهم. الركن الرابع: (في من) يحلف وهو في العمد من له حق القصاص من الأولياء الرجال المكلفين. وأما في الخطأ فيحلف جميع المكلفين من الورثة، رجالاً كانوا أو نساء، ويحلفون على قدر مواريثهم كما سبق. ومهما قتل من لا وارث له فلا قسامة إذ تحليف بيت المال غير ممكن. ولا قسامة إلا بورثة نسب أو ولاء. ولا يقسم من القبيلة إلا من التقى معه إلى نسب ثابت ببينة. ولا يقسم المولي

النظر الثاني: في إثبات الدم بالشهادة

الأسفل، ولكن ترد الأميان على المدعى عليه فيحلف خمسين، فغ، حلف ضرب مائة وحبس سنة، وإن نكل سجن أبدًا حتى يحلف أو يموت. فرع: قال ابن القاسم في ابن الملاعنة يقول: "دمي عندفلان، فإن كانت أمه معتقة أو أعتق أبوها أو جدها أقسم موالهيا في العمد". قال أشهب: وعصبتها. وأما في الخطأ (فليقسم) ورثته بقدر مواريثهم من رجال ونساء، ويستكمل من حضر منهم خمسين يمينًا، وأما إن كانت من العرب فلا قسامة فيه. قال محمد: لان العرب خؤولته ولا ولاية للخؤولة، وكذلك من لا ولاة له ولا موالي، لأن ماله لبيت المال. النظر الثاني: في إثبات الدم بالشهادة: ولا يثبت القتل الموجب للقصاص برجل وامرأتين، ويثبت بذلك موجب الدية، ويشترط ألا تتضمن الشهادة بالدم جرصاولا دفعًا، فلو شهد على جر (الموروث) لم يقبل، كما تقدم في الشهادات. وإذا شهد [بعض الورثة بعفو بعضهم سقط] القصاص بإقراره، وإن كان فاسقصا لا من حيث أنها شهادة. ولو اختلف قول [الشاهدين في صفة القتل] فقال أحدهما: ذبحه وقال الآخر: إنه حرقه، والمشهود عليه منكر للشاهدين، (فإن قام الأولياء بالشهادتين] بطل الدم، وإن قاموا بأحدهما أقسموا معه، واقتصوا، وسقطت شهادة الآخر لاجتماع الأولياء والقاتل على تكذيبه، وإن اعترف القاتل بالذبح وقام الأولياء بشاهد التحريق فإن كان هو الأعدل أقمسوا معه وحرقوه على القول بالقصاص بالتحريق، وإن كان الآخر أعدل حلف معه القاتل وقتل ذبحًا بغير تحريق.

كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات

كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات وهي سبع: البغي، والردة، والزنى، والقذف، والسرقة، الحرابة، والشرب الجناية الأولى: البغي، والنظر في صفات البغاة وأحكامهم: أما الصفات: فقال القاضي أبو بكر: "بناء غ ي في لسان العرب للطلب، قا الله تبارك وتعالى: (ذلك ما كنا نبغ)، ووقع التعبير بها ههنا عمن يبغي ما لا ينبغي، على عادة اللغة في تخصيص الأهم ببعض متعلقاته. وهو (في) الذي يخرج (على) الإمام يبتغي خلعه، أو يمتنع من الدخول في طاعته، أو يمنع حقًا وجب عليه بتأويل. قال: وقد قاتل الصديق رضي الله عنه البغاة وهم مانعو الزكاة بالتأويلز قاتل علي رضي الله عنه من البغاة، طائفة أبت الدخول في بيعته وهم أهل الشام، وطائفة خلعته وهم أهل النهروان. أما أحكام البغاة: فإن لوا قاضيًا أو أخذوا زكاة أو أقاموا حقًا، فقال مطرف وابن الماجشون: ينفذ ذلك كله. قال ابن القاسم: لا يجوز ذلك بحال. وروي عن أصبغ القولان. وما أتلفوه في الفتنة فلا ضمان فيه من نفس ولا مال، هذا إن كانوا خرجوا على تأويل. وأما أهل العصبية: وأهل خلاف لسلطانهم بغيًا بغير تأويل، فيؤخذون بالقصاص ورد المال قائمًا كان أو فائتًا. وأما كيفية قتال البغاة: ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه: إذا خرجوا بغيًا ورغبة عن حكم الإسلام، فغن الإمام يدعوهم أولاً إلى الرجوع إلى الحق، فإن فعلوا قبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا قاتلهم وحل له سفك دمائهم، حتى يقهرهم. فإن تحققت الهزيمة عليهم وظهر الإمام عليهم ظهورًا بينًا وبئس من عودتهم، فلا يقتل منهزمهم، ولا يذفف على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم فلا بأس بقتل منهزمهم وجريحهم، ولا بأس أن يقتل الرجل

في قتالهم أخاه وقرابته مبارزة، وغير مبارزة وجده لأبيه وأمه، فأما الأب وحده فلا أحب قتله على العمد مبارزة أو غيرها. وكذلك الأب الكافر مثل الخارجي. وقال أصبغ: يقتل فيها أباه وأخاه. قالا: ولا تصاب أموالهم ولا حريمهم، وإذا أصيب منهم أسير فلا يقتل، بل يؤدب ويسجن حتى يتوب. وإن ثبت عليه أنه قتل أحدًا قتل به إن كانوا أهل [عصبية] بغير تأويل. وإن كان خروجهم بتأويل فلا قصاص عليهم. وأما ما أصيب من سلاحهم وكراعهم فقال ابن حبيب: إن كانت لهم فئة قائمة استعان به الإمام ومن معه على قتالهم إن احتاجوا إليه، فإذا زالت الحرب رده إلى أهله. وما سوى الكراع والسلاح فيوقف حتى يرد إلى أهله ولا يستعان بشيئ منه. وإن لم تكن لهم (فئة) قائمة رد ذلك كله من كراع وسلاح وغيره إليهم وإلى أهليهم عند الأمن منهم لا قبله. وإذا امتنع أهل البغي، [من كانوا أهل بصائر] وتأويل أو أهل عصبية، من الإمام العدل، فله فيهم من رمي المجانيق وقطع (المير) والماء عنهم، وإرساله عليهم ليغرقهم، مثل ما له في الكفار، وإن كان فيهم النساء والذرية. ولا يرميهم بالنار إلا أن لا يكون فيهم نساء ولا ذرية فله ذلك، إلا أن يكون فيهم من لا يرى رأيهم ويكره بغيهم، أو خيف أن يكون فيهم فلا يفعل فيهم شيئ مما ذكرناه. وإذا استعان أهل التأويل بأهل الذمة ردوا إلى ذمتهم، ووضع عنهم مثل ما وضع عن المتأولين الذين هم معهم. وإن كان المستعينون بأهل الذمة أهل عصبية وخلاف للإمام العدل فهو نقض لعهدهم موجب لاستحلالهم. وإن كان السلطان غير عادل وخافوا جوره واستعانوا بأهل الذمة، فليس ذلك نقضًا لعهد أهل الذمة. فرعان: الفرع الأول إذا قاتل النساء مع البغاة بالسلاح فلأهل العدل قتلهن في القتال، فغن لم يكن قتالهن إلا بالتحريض ورمي الحجارةفلا يقتلن، إلا أن يكن قد قتلن أحدًا بذلك فيقتلن. ولو أسرن وقد كن يقاتلن قتال الرجال لم يقتلن إلا أن يكن قد قتلن فيقتلن. قال الشيخ أبو محمد: يريد في غير أهل التأويل.

الجناية الثانية: الردة

الفرع الثاني: إذا سأل أهل البغي الإمام العدل تأخيرهم أيامًا أو شهرًا حتى ينظروا في أمرهم، وبذلوا له على ذلك شيئًا، لم يحل له أن يأخذ شيئًا منهم، وله أن يؤخرهم إلى المدة التي سألوها ما لم يكونوا يقاتلون فيها أحدًا، أو يفسدون فلا يؤخرهم حينئذ. الجناية الثانية: الردة، والنظر في حقيقتها وحكمها. الطرف الأول: في الحقيقة، والردة عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، وفي غير البالغ خلاف وتفصيل تقدم بيانه في كتاب اللقيط. وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، [إما] بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه. ولا ينبغي أن تقبل الشهادة على الردة مطلقًا دون (تفصيل)، لاختلاف المذاهب في التفكير. وإذا أظهر الاسير في دار الحرب التنصر ولم يدر أمركه هو أم طاعئ، والتبس ذلك علينا بعد البحث عن حقيقة أمره، فهو محمول على الطوع حتى يثبت الإكراه، ولو ثبت إكراهه لم يكن مرتدًا، كما أنه لو ثبت أختياره التنصير من غير إجبار لكان مرتدًا. فرع: (روى ابن القاسم فيمن أسلم ثم ارتد عن قرب، وقال: إنما كان إسلامه عن ضيق ضيق عليه: إن عرف أنه عن ضيق ناله أو مخالفة أوشبهة، فعسى أن يعذر. وقاله ابن القاسم. وقال اشهب: لا عذر له ويقتل، وإن علم أن ذلك عن ضيق كما قال. وقال أصبغ: قول مالك أحب (إلي)، إلا أن يقيم على الإسلام بعد ذهاب الخوف، فهذا يقتل. وقاله ابن وهب وابن القاسم إذا كان على ضيق أو عذاب أو غرم أو خوف. قال أصبغ: وذلك إذا صح ذلك، وكان زمان يشبه ذلك في جوره). وقال محمد في النصراني يصحب القوم في سفر فيظهر الإسلام ويتوضأ ويصلي وربما قدموه، فلما أمن أخبرهم وقال: أصنع ذلك تحصنًا بالإسلاملئلا يؤخذ ما معي أو تؤخذ ثيابي ونحو ذلك، فذلك له إن أشبه ما قال، ويعيدون ما صولا خلفه في الوقتوبعده. وروى يحيي بن يحيي عن ابن القاسم عن مالك مثله.

وقال سحنون: "إن كان في موضع يخاف على نفسه فدرأ عن نفسه وماله فلا شيئ عليه، ويعيد القوم صلاتهم. وإن كان في موضع هو فيه آمن فليعرض عليه الإسلام، فإن أسلم لم يكن على القوم إعادة. وإن لم يسلم قتل ويعيدون". الطرف الثاني: في الحكم: وذلك يظهر في نفس المرتد وولده وماله وزوجته وجنايته. والجناية عليه أما نفسه فتهدر إن لم يتب، فإن تاب عصمها. وتوبته رجوعه [وتغير حاله عما كان عليه]، وذلك يعرف من المتظاهر بكفره برجوعه (عن) التظاهر الذي كان عيه بأن يظهر من الإيمان ضد ما كان يظهر من الكفر فيعرف تغير حاله عما كان عليه. وأما الزنديق الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر أي كفر كان، إذا ظهرنا عليه وهو في حال زندقته يبدي لنا أنه مؤمن فادعى التوبة عما كان عليه والرجوع عنه، فلا يرجع إلى مجرد دعواه إذ لم يظهر صدقه ورجوعه عما كان عليه بما أبداه من دعوى الرجوع عنه، لأنه بما أبداه لم يخرج عن عادته ومذهبه، فإن التقية عند الخوف عين الزندقة. ولذلك نقول: لم تظهر توبته وتعرف فتقبل ولا نقلو: لا تقبل توبته، وإلى هذا أشار مالك رضي الله عنه بقوله: إن توبته لا تعرف نعم لو ظهرت لنا توبته لقبلناها، كما لو جاء تائبًال قبل أن يطلع على ما كان عليه إذا ظهرت التوبة بقوله، كما ظهر الكفر بقوله. ومن قال من أصحابنا: لا تقبل توبته إذا جاء تائبًا قبل الظهور عليه، فقوله شاذ بعيد عن المذهب. فرع: اختلف في الساحر إذا طلع عليه، فقيل: لا يقبل منه ما يدعيه من التوبة التي لا يعرف صدقه في دعواها إلا أن يأتي تائبًا منه قبل أن يطلع عليه، وهذا اختيار القاضي أبي محمد. وقال ابن عبد الحكم وأصبغ ومحمد: هو كالذنديق إن أظهر سحره قبلت توبته وإن كان مستتراً به قتل ولم يستتب. قال عبد الحكم وأصبغ: (فإن) كانو لسحره مظهرًا فقتل (إذ) لم يتب، فماله لبيت

المال، ولا يصلى عليه. وإن استسر بسحره فماله بعد القتل لورثته من المسلمين، ولا أمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم. ثم عرض التوبة على المرتد (واجب)، والنص أنه يمهل ثلاثة أيام، وفي كون الإمهال واجبًا أو مستحبًا روايتان. قال مالك: وما علمت في استتابته تجويعًا ولا تعطيشًا، وأرى أن (يقات) من الطعام بما لا يضره، ولا عقوبة عليه إذا تاب. وروى ذلك أشهب ف يالعتبية وكتاب محمد. ولا فرق قدمنا بين أن يكون المرتد حرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، ارتد عن إسلام أصلي أو طارئ. وأما ولد المرتد، فلا يلحق به في الردة إذا كان صغيرًا، إذ تبعية الولد لأبيه إنما تكون في دين يقر عليه، فإن قتل الأب على الكفر بقي الولد مسلمًا، فإن أظهر خلاف الإسلام أجبر على الإسلام. فإن غفل عنه حتى بلغ ففي إجباره على الإسلام. فإن غفل عنه حتى بلغ ففي إجباره على الإسلام خلاف إذا ولد قبل الردة، ثم في كونه بالسيف أو بالسوط خلاف أيضًا، وإن ولد بعدها أجبر إن بلغ. وقيل: إن بلغ ترك، ولا يكون كمن ارتد. فرع: قال: قال ابن حبيب في قوم ارتدوا وتناسلوا، ثم ظهر بهم أنهم وذراريهم لهم حكم المرتد، يستتاب الأكابر منهم، فإن تابوا وإلا قتلوا. وكذلك من بلغ من ذراريهم، ولا يرقون ولا يحل استرقاقهم بالسبي، وكل ما ولد للمرتد بعد ردته فلهم حكم المرتد، فلا يسترق تناسل منهم، ويجبر الصغار على الإسلام، ويستتاب من بلغ، فإن لم يتب قتل. قال ابن حبيب: وكذلك ذكر لي من كاشفته من أصحاب مالك. وأما مال المرتد فيوقف، فإن عاد أخذه. وروى الشيخ أبو إسحاق: أن ماله لا يعود إليه، بل يكون فيئًا وإن عاد إلى الإسلام. وقال بها ابن نافع. فأما إن مات أو قتل على ردته فماله فيئ، إلا أن يكون عبدًا فماله لسيده. وأما حكم زوجة المرتد فقد تقدم في كتاب النكاح. وأما حكم جنايته ففي كتاب محمد قال في المرتد: إذا قتل مسلمًا أو ذميًا عمدًا أو خطأ لم أجد لمالك فيه ما يتضح لي، واضطرب فيه أصحابه، فيجعله ابن القاسم مرة كالمسلم [إن رجع، ومرة كالنصراني]، ثم قال: أحب إلي إذا رجع أن يكون كأنه فعل ذلك وهو مسلم.

وكذلك فيما جرح أو جنى على عبد، أوس سرق أو قذف، فليقم عليه إن تاب ما يقام على المسلم إذا فعله، وتحمل عاقلته من الخطأ الثث فأكثر، ويقتص منه الحر في جراح العمد، ويحد في قذفه، ويقطع إن سرق. وأما إن لم يتب فليقتل ولا يقام عليه من ذلك إلا الفرية. ولو قتل حرًا عمدًا في ردته وهرب إلى بلد الحرب، لم يكن لولاة المقتول في ماله شيئ، ولا ينفق على ولده وعياله منه، بل يوقف، فإن مات فهو فيئ، وإن تاب ثم مات كان لورثته، وإن كان القتيل عبدًا أو ذميًا أخذ ذلك من ماله. وأشهب يرى لولاة المسلم أخذ الدية من ماله إن شاءوا عفوًا على القصاص وإن شاءوا صبروا حتى يقتلوه. وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه إن قتل مسلمًا خطأ فديته في بيت المال، لأن ميراثه للمسلمين. وإن قتل نصرانيًا أو جرحه اقتص منه في القتل والجراح. وإذا جرح مسلمًا لم يقتص منه، وإن قتله قتل به. قال محمد: والذي آخذ به أنه إن قتل مسلمًا عمدًا لم أعجل بالقصاص حتى أستتيبه، فإن لم يتب وقتل سقط عنه ذلك، إلا الفرية، وإن تاب اقتص منه. وإن قتل عبدًا أو نصرانيًا عمدًا، فذلك في ماله، قتل أو تاب. وقال ابن حبيب: قال أصبغ: إذا قتل المرتد في ارتداده أو جرح أحدًا، عبدًا أو حرًا، مسلمًا أو نصرانيًا، أو افترى أو زنى أو سرق، أو شرب خمرًا، فإنه إن قتل فالقتل يأتي على ذلك كله، إلا الفرية فليحد للمقذوف ثم يقتل. وقتله الخطأ وجراحاته الخطأ في بيت المال إن قتل على ردته، وإن رجع إلى الإسلام سقط عنه ما كان من حد، وأخذ بالسرقة والفرية، وإن قتل عمدًا قتل ويقتص منه في الجراح العمد، ويحمل على عاقلته الخطأ في النفس. ولو جرح عبدًا أو نصرانيًا أو قتله، لم يقتص منه في عمد، وغرم ديته أو ثمنه في مال. وأما حكم الجناية عليه، فإن قتل عمدًا، فقال ابن القاسم: ديته في مال القاتل دية أهل الدين الذي ارتد إليه. وقال سحنون: لا قصاص ولا دية على عاقتله إلا الأدب فيما افتات على الإمام. وقاله أشهب. وقال أشهب في كتاب ابن سحنون: إذا قتله رجل فلا قصاص عليه ولا دية، ولو قطع يده ثم عاد إلى الإسلام فدية يده له دية الدين الذي كان ارتد إليه من مجوسي أو كتابي. قال ابن القاسم: وإذا جرح عمدًا أو خطأ فعقل جراحاته للمسلمين غ، قتل، وله إن تاب، وعمد من جرحه كالخطأ لا يقاد منه. ولو جرحه عبد أو نصراني فلا قود له، لأنه ليس على دين يقر عليه، وفيه العقل.

الجناية الثالثة: الزنى

كتاب حد الزنا الجناية الثالثة: الزنى، وهي جريمة موجبة للعقوبة. والنظر في طرفين: الأول: في الموجب والموجب: والضابط أن انتهاك حرمة الفرج المحترم بالوطء المحرم في غير ملك، إذا انتفت عنه الشبهة، سبب لوجود الحد. والحد نوعان: رجم وجلد. ثم الجلد ضربان: منفرد بنفسه، ومضموم إلى غيره، وهو تغريب عام. فأما الرجم، فعلى الزاني المحصن، وعلى اللائط وإن لم يكن محصنًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا". وفي بعض طرقه إسقاط هذه الزيادة. فهو دال بنصه أو بعمومه. رواه الشيخ أبو إسحاق من طرق عديدة متفقة ومختلفة، وعموم اللفظ يقتضي رجمهما وإن كانا عبدين أو كافرين، وهو المشهور. وقال أشهب: يجلد العبدان خمسين خمسين، ويؤدب الكافران. وأما الجلد فعلى غير المحضن. والمنفرد بنفسه منه ما كان على المرأة أو العبد. وأما المضموم إلى التغريب، ففي حق الحر الذكر.

وفي الرابطة قيود لابد من كشفها بعد بيان الإحصان، وهو عبارة عن خمس خصال: [التكليف، والحرية]، والإسلام، والتزويج الصحيح، والوطء المباح فيه. والذي يخصه على الحقيقة ثلاثة: الحرية، والتزويج، والوطء، وما عدا ذلك [مشترط] في أصل الزنى. وأما الوطئ بالشبهة أو في النكاح الفاسد فلا يحصن. ويشترط وقوع الإصابة بعد الحرية. ولا يشترط حصول اإحصان في الواطئين، بل إن كان المحصن أحدهما رجم وجلد الآخر كما لا يشترط بلوغ الموطوءة في حد اللواطئ، بل يحد إذا كان يوطأ مثلها، وإن كنا لا نجد الموطوءة حتى يكون الواطئ بالغًا. وانتفاء الإحصان يسقط الرجم. وانتفاء الحرية يسقط شطر الجلد، وأصل التغريب، نظرًا للسيد ثم في التغريب مسائل. إحداها: أن يبعد به فينفى من مصر إلى مث شعب وإلى مثل أسوان وإلى ذويها، ومن المدينة إلى مثل فدك وخيبر، (وكراؤه في ذلك عليه في ماله، فإن لم يكن له مال فمن بيت المال). الثانية: أنه يسجن في البلد الذي يغرب إليه سنة، ويكتب إلى والي البلد أن يسجنه، ويؤرخ (لسجنه) لتكمل له السنة من يوم دخوله السجن. الثالثة: لو عاد المُغَرَّربُ أَخْرَجْنَاهُ (ثَانِيَةً). ولنعد إلى قيود الرابطة. أما قولنا: انتهاك حرمة الفرج، فيتناول اللواط، وقد تقدم بيان موجبه، والغلام المملوك كغير المملوك على القطع. وأما إتيان الأجنبية في دبرها فروى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه زنى وليس بلواط. وقال محمد، فيرجم المحصن منهما،

ويجلد من لم يحصن، وإن كان الرجل غرب. وقال القاضي أبو الحسن: "حكم ذلك حكم اللواط، يرجمان جميعًا، أحصنا أو لم يحصنه". اختلف في عقوبة المتفاعلتين من النساء، فقال ابن القاسم في العتبية: "ليس في عقوبتهما حد محدود، وذلك إلى اجتهاد الإمام. (وقال أصبغ: تجلدان خمسين خمسين). وقولنا في الرابطة: المحترم، يشمل فرج الميتة فيحد واطئها ولا يدخل فيه فرج البهيمة، فلا يحد واطئها، لكن يعزر. وفي كتاب الشيخ أبي إسحاق: عليه الحد. قال الأستاذ أبو بكر: ولا يختلف مذهب مالك أن البهيمة لا تقتل ولا تذبح، وأنها إن كانت مما يؤكل فذبحت أكلت. وقولنا: بالوطء المحرم، احترزنا به عن الوطء الحلال. وقولنا: في غير ملك، احترزنا به عن وطء الحائض والمحرمة والصائمة في الملك. وقولنا: لا شبهة فيه، احترزنا به عن شبهة في المحل أو الفاعل أو الطريق. أما شبهة المحل بأن تكون مملوكة. وإن كانت محرمة بسبب رضاع أن نسب، أو شركة أو عدة، أو تزويج، فلا حد عليه في وطئها. وأما في الفاعل فإن يظن أنها مملوكته أو زوجته. وأما في الطريق بأن يختلف العلماء في إباحته كنكاح بلا ولي أو بغير شهود إذا استفاض واشتهر، فإن جميع ذلك يدرأ الحد. واختلف في درء الحد عن الواطئ في نكاح المتعة، ومذهب الكتاب أنه يدرأ عنه الحد. وأما من نكح خامسة، أو أخته من رضاع أو نسب، أو غير الأخت من ذوات المحارم، أو طلق امرأته ثلاثًا ثم تزوجها قبل زوج، أو طلقها قبل البناء واحدة، ثم وطئها بغير نكاح، أو طلقها بعد البناء ثلاثًا، ثم وطئها في العدة، أو أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة منه، فإن يحد

في جميع ذلك، ولا يلحق به الولد إلا أن يدعي الجهالة بتحريمهن عليه، ومثله يجهل ذلك. قال أصبغ: مثل الأغتم، ومن يجيئ من بلاد السودان وشبهه، فلا حد عليه. وأما من نكح امرأة في عدتها، أو دخل بها فيالعدة، أو نكحها على عمتها أو خالتها، فوطئها أو وطئ بملك اليمين من ذوات محارمه من لا يعتق عليه إذا ملكه، [فلا يحد، وإن كان علامًا بتحريم ذلك] أدب. وكذلك إن وطئ أم ولده بعد أن ارتدت. قال محمد: وإن وطئ من يعتق عليه بالملك حد، إلا أن يعذر بجهل. وروى علي بن زياد فيمن نكح في العدة ووطئ فيها ولم يعذر بجهل: أنه يحد. وقال أبو إسحاق التونسي: إذا كان التحريم من القرآن لسبب ولم تحرم ليعنها، وقد تحل يومًا ما، ففي الحد قولان، وكذلك في الخامسة لأنها تحل له إن طلق إحدى الأربع، وليست بمحرمة العين. واختلف فيمن ادعى الجهل بتحريم الزنى، وهو ممن يظن به ذلك هل يحد أو يدرأ عنه الحد؟ " على قولين، لابن القاسم وأصبغ. ومن أحلت له أمة فوطئها لم يحد، لأن شبهة الإذن فيها كالبيع. وتقوم على الواطئ حملت أو لم تحمل، شاء محلها أو أبى. وإن كان الواطئ عالمًا بالتحريم أدب. ومن استأجر امرأة للزنى، لم يكن عقد الإجارة دارئًا عنه الحد، بل يحد. ولا يسقط الحد عن أحد الزانين بجنون الآخر. وكذلك إكار أحدهما لا يسقط الحد الآخر، ولا كون الزاني يستحق على الزانية القصاص، وكذلك كونها حربية أو من المغنم. وإن كان له (فيها) نصيب لا يسقط الحد عن ابن القاسم. وقال أشهب: لا يحد. وقال عبد الملك: لا حد على من زنى بحربية. وفي كون الإكراه على الزنى دارئًا خلاف. قال القاضي أبو بكر: "لا حد عليه، وحكى

بعض اأصحاب وجوب الحد". وقال القاضي أبو الحسن: "عندي أنه ينظر في حاله، فإن انتشر قضيبه حين أولج فعليه الحد سواء أكرهه سلطان أو غيره. وإن لم ينتشر قضيبه فلا حد عليه. والمكرهة على التمكين لا حد عليها. فرع: قال ابن القاسم "فيمن أصابته مسغبة قباع امرأته، وأقرت له بالرق، ووطئها المبتاع: إنهما يعذران بالجوع، ولا تحد". وقال ابن وهب: "إن طاوعته وأقرت أن المشتري أصابها طائعة، فعليها الحد". هذا بيان موجب الحد، وليظهر للقاضي بجميع قيوده. والأسباب التي بها يثبت الزنى ثلاثة، وهي: الإقرار، والبينة، وظهور الحمل. فأما الإقرار، فتكفي منه مرة يقيم عليها، فإن رجع عنه إلى شبهة أو أمر يعذر به قبل، وإن أكذب نفسه، ففي (القبول منه) روايتان. وأما البيئة فشهادة أربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين، لا تراخي بين أوقات إقامتهم الشهادة، على معاينة الزنى الواحد، ورؤية فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وما جرى مجرى ذلك. فإن قصر عددهم في الابتداء، أو يتوقف أحدهم عن الشهادة، أو برجوعه بعد

إقامتها وقبل الحكم بها، لم يحد المشهود عليه، وحد الشهود كلهم، وإن كان ذلك بعد إقامة جميعهم الشهادة حد الرابع وحده. ولو شهد أربعة بزنى شخص فرجم، ثم ألفي مجبوبًا لم يحد الشهود لأنهم إنما قذفوا محبوبًا، وعليهم الدية في أموالهم مع وجيع الأدب وطول السجن. ولو شهد أربعة على زناها، فشهد أربع نسوة على أنها عذراء، لم يسقط الحد عنها. ولو شهد أربعة على أنه زنى، وعين كل واحد زاوية [أخرى] من البيت غير التي عين الآخر، فلا حد إذ لم يتفقوا على قول واحد. ولو شهد اثنان على (أنه) زنى بها مكرهة، وغثنان على أنه زنى بها طائعة لم يجب عليها الحد. وأما الحمل فإن يظهر بحرة أو أمة ولا يعلم لها زوج ولا سيد الأمة مقر بوطئها بل منكر، والحرة مقيمة ليست بغريبة، فإنها تحد، ولا يقبل قولها، إن قالت: غصبت أو استكرهت، إلا أن تظهر أمارة على ذلك بأن يرى بها أثر دم، أو يشاهد منها استغاثة أو صياح، أو ما أشبه ذلك مما يعلم (منه) في الظاهر صدقها. واعتبار ظهور الحمل على الوجه المذكور سببًا لوجوب الحد، هو مذهب أمراء المؤمنين الثلاثة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. وقال عمر: الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء (إن) ترجم، فقال له علي: ليس ذلك عليها، واستدل بقوله تعالى: (وحمله وفصله ثلثون شهرًا)، فحكم] عثمان برجمها بظهور الحمل.

واعتذر علي رضي الله عنه [عن] توجه الرجم عليها بإمكان كون الحمل من فراش النكاح، فبين أن دراءة الحد للإمكان المذكور لا لقصور في السبب. الطرف الثاني: في كيفية الاستيفاء ومتعاطيه: أما الكيفية: فلا يقتل بالسيف، بل ينكل بالرجم بالحجارة، ولا يقتل بصخرة كبيرة في دفعة واحدة، كما لا يعذب بالتطويل عليه بحصيات خفيفة، بل بما بين ذلك. قال الشيخ أبو إسحاق: يرجم بأكبر حجر يقدر الرامي على حمله، [قال] ويتقي الوجه. ولا يؤخر الرجم لمرض الزاني. ويؤخر الجلد إلى البرء، وينتظر بالحامل وضع الحمل. ثم المعتبر ظهوره إن كان من الزنى، فأما إن كان الزوج مرسلاً عليها فإنها تستبرأ ثم ترجم، لان طالب النطفة قائم. ولا يقام الحد في فرط الحر والبرد، بل يؤخر إلى اعتدال الهواء، وهذا التأخير واجب إذا غلب على ظن المستوفي هلاكه عند إقامة الحد. وروي أنه إنما يؤخر في البرد خاصة دون الحر. وأما مستوفي الحد فهو الإمامفي حق الأحرار، والسيد في حق الرقيق فقيم حد الزنى على عبده وأمته بالبينة أو الإقرار أو ظهور الحمل. وفي حده لهما بالرؤية روايتان. قال في المختصر الكبير: وإنما يحد السيد أمته إذا كانت غير ذات زوج أو كان زوجها عبده. قال أبو إسحاق التونسي: وكذلك العبد إذا له زوجة حرة أو أمة لغير سيده، فلا يقيم الحد عليها حنئذ إلا الإمام لحق الزوجين. قال الشيخ أبو محمد عقب هذه المسألة: "وكل من فيه بقية رق من كتابة أو تدبير أو أمية أم ولد أو من بعضه حر، فحدهم حد العبيد في جميع الحدود. ولا يقيم السيد على عبده حر السرقة، لكن إن شهد هو وأجنبي عليه بالسرقة عند الإمام قطعه. وإذا كان للسيد إقامة الحد، فأولى أن يكون له التعزير. وليس له استيفاء القصاص من عبده لعبد له آخر [له] أو لأجنبي، ولا يقتص منه إلا عند الحاكم إذا ثبت الحق عنده". فرع: كل من قتل حدًا أو لترك صلاة، غسل وكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين.

الجناية الرابعة: القذف

كتاب حد القذف الجناية الرابعة: القذف، وفيه بابان: الباب الأول: في ألفاظه، وموجبها، وفيه فصلان الفصل الأول: في الألفاظ، وهي ثلاثة: التصريح. والنفي. والتعريض الأول: اللفظ الصريح، وهو مثل أن يقول: زنيت أو لطت، أو يا زان ويا لائط، وكذلك كل لفظ يدل على الزنى واللواط صريحًا. اثاني: النفي، كقوله: لست لأبيك، أو لست ابن فلان، يعني أباه أو جده، أو أنت ابن فلان، يعني غيرهما. وفي معنى ذلك الكناية، كقوله للعربي: يا نبطي، أو يا بربري، أو يا ورمي، أو لفارسي يا رومي، أو لرومي يا فارسي، أو يقول: يا ابن الخياط، ولم يكن من آبائه من هذه صفته. ففي جميع ذلك الحد. ولا يشترط في [توجه] الحد على النافي أن يكون أبو المنفي عن أبيه ممن يحد قاذفهما، بل لو كان عبدين أو كافرين لوجب الحد للمنفي لا لهما، نعم يشترط أن يكون المنفي ممن يحد قاذفة. (ومن قال لرجل: لا أب لك، ففي كتاب محمد: لا شيئ عليه، إلا أن يريد النفي، وهذا مما يقوله الناس على الرضا، وأما من قاله على المشاتمة والغضب، فذلك شديد، وليحلف ما أراد نفيه).

الثالث: التعريض، وأما أنا فلست [بزان، فو تعريض، وحكمه] حكم الصريح إذا فهم منه القذف أو النفي. ثم فيه مسائل: إحداها: لو قال لامرأة: زنيت بك، فهذا إقرار وقذف. ولو قال لها: يا زانية، فقالت: بك زنيت، فعليها حد الفرية والزنى، إلا أن ترجع عن الزنى فتحد للقذف فقط، ولا يحد الرجل لأنها صدقته. وقاله مالك. قال محمد: قال أشهب: إلا أن تقول: ما قلت ذلك إلا مجاوبة، ولم أرد قذفًا ولا إقرارًا، فلا حد عليها، ويحد الرجل. وقال أصبغ: يحد كل واحد منهما لصاحبه وإن نزعت، لأن ردها عليه ليس إقراراً بالزنى وهو وجوب، تقول: إنك كنت زنيت فبك. الثانية: لو قال لرجل: يا زان، فقال: أنت أزنى مني، حدًا جميعًا حد القذف. وقال أصبغ: قوله: أزنى مني، إقرار منه بالزنى، ومحمله محمل الرد لما قال له، ولو قال لغيره: أنت أزنى الناس، كان قاذفًا. الثالثة: إذا قال للرجل: يا زانية، بإثبات الهاء، فهو قاذف. كما لو قال للمرأة: يا زان، بإسقاطها، قاله القاضي أبو الحسن. الرابعة: لو قال: زنى فرجك، فهو قذف، وكذلك لو قال: زنت (عينك) أو يدك، فإن يحد عند ابن القاسم، ورآه من التعريض. وقال أشهب: لا يحد. الخامسة: (إذا قال الأب لابنه في منازعة: أشهدكم أنه ليس بابني، فطلبت الأم أو ولدها من غيره الحد وقد كان فارقها فعفاه ولده، فقال مالك: يحلف ما أراد قذفًا، وما قاله إلى بمعنى أنه لو كان ولدي لم ينصع ما صنع، ثم لا شيئ عليه. فأما الجد والعم والخال. فروى ابن القاسم ي العتبية، يحدون له في الفرية إن طلب

ذلك وأما إ شتموه فلا شيئ عليهم، إذا كان على وجه الأدب، ولم ير الأخ مثلهم). ومن قذف ولده بالزنى فقام بطلب حده، فله ذلك. وقال أصبغ: لا يحد الأب لولده. وإذا فرعنا على المشهور فحده، فإن ذلك يسقط عدالته، رواه محمد، قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: (فلا تقل لهما أف)، وهذا يضربه. ومن نفى ولد الملاعنة عن أبيه في مشاتمة حد، وإن كان على وجه الخبر لم يحد، ويحد قاذفها هي، لاعنت عن غير ولد أو عن ولد، والولد الذي لاعنت منه معها أو ليس معها. فروع متتالية: من قذف مجهولاً فلا حد عليهز (قال محمد في رجل قال لجماعة: أحجكم زان، أو ابن زانية، لا يحد، إذ [لا] يعرف من أراد. وإن قام به جميعهم فقد قيل: لا حد عليه. وإن قام به أحدهم فادعى أنه أراده لم يقبل منه إلا ببيان أه أراده. ولو عرف من أراده لم يكن للإمام أن يحده إلا بعد أن يقوم به، لأن من (شرط) وجوب حد القذف أن يقوم به وليه. وفي العتبية والواضحة عن ابن لاقاسم فيمن قال لرجل: يا زوج الزانية وتحته امرأتان، فعفت إحداهما وقامت الأخرى تطلبه، يحلف ما أراد إلا التي عفت ويبرأ، فإن نكل حد، وهذا لأن عفو المقذوف قبل القيام لازم له وجائز عليه. ورأى القاضي أبو الوليد أنه يحتمل أن يفرق بين المسألتين، بأن الجماعة كانوا كثيرًا فخرجوا بكثرتهم عن حد التعيين، وأن الاثنين وما قرب من ذلك في حد المعين. قال: ويحتمل أن يكون اختلافًا من القولين". وإذا بنينا على هذا الاحتمال فيجريان في كل مسألة منهما بالنقل والتخريج. (ومن قال لرجل: ما لك أصل ولا فصل، فروي في العتبية: "لا حد في هذا). وقال

أصبغ: عليه الحد. وقيل: إلا أن يكون من العرب، فعليه الحد. ومن قال: يا ابن منزلة الركبان، ففي لواضحة: يحد. وكذلك من قال: يا ابن ذات الراية). ومن قال لابن أمة أو كتابية: يا ابن الزانية، فلا حد عليه. ولو قال يا ابن زنية، لحد. والفرق بينهما أن لفظ الثاني نفى له من نسبه وإضافته إلى فعل لا يلحق الولد فيه، وقوله الأول قذف لأمه لا نفي لنسبه. وذكر القاضي أبو عبد الهل بن هارون المالكي البصري أن من قال لرجل: يا نغل، فإنه [يحد، لأنه قذف، قال: ولو قال] الرجل لنفسه: أنا نغل، فإنه يحد، لأنه قذف أمه وكذلك لو نسب إلى بَطْنِ أو نسبٍ أو عشيرة غير بطنه ونسبه وعشيرته فإن قذف أمه. قال الشيخ أبو إسحاق: لو قال مولى لعربي: أنا خير منك، (حد). وكذلك لو كانا ابني عم قاله أحدهما لصاحبه. قال: وفي هاتين المسألتين اختلاف، وبهذا أقول. (ولو قال لرجل: أنا أفتري عليك، أو أنا أقذفك، فلا حد عليه، ويحلف ما أراد الفاحشة. ومن قال لرجل: أنت ابن فلان، فنسبه إلى غير أبيه أو غير جده، فقال ابن القاسم: عليه الحد، وإن لم يقله على سباب ولا غضب، إلا أن يقوله على وجه الإحسان. وقال أشهب: لا يحد، إلا أن يقوله على وجه السباب، لأنه قد يقوله وهو يرى أنه كذلك. ولو نسبه إلى جده في مشاتمة لم يحد عند ابن القاسم. وقال أشهب: يحد. قال محمد: قول ابن القاسم أحب إلي، إلا أن يعرف أنه أراد القذف، مثل أن يتهم الجد با/هـ ونحوه، وإلا لم يحد، فقد ينسب إليه لشبهه له في خلق أو طبع.

الفصل الثاني: في موجب القذف إذا صدر من مكلف

(ولو) نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه فعليه الحد عند ابن القاسم. وقال أشهب: لا حد عليه إلا أن يقوله في مشتمة. وقاله أصبغ ومحمد. قال أصبغ: وقد سمى الله عز وجل العم أبًا في كتابه الكريم فقال: "إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق). هذا بيان ألفاظ القذف، ونعني به موجب الحد. أما التعزيز فيجب بأكثر من هذه الكلمات. الفصل الثاني: في موجب القذف إذا صدر من مكلف وهو التعزير. إذا قذف محصنًا فموجبه ثمانون جلدة، وهو الحد الكامل. ويتنصف على الرقيق. والمحصن هو المكلف المسلم الحر العفيف عما رمي به. ولا يشترط البلوغ في حق الأنثى، بل المطبقة للوطء كالبالغ في ذلك. قال الأستاذ أبو بكر: ومعنى العفاف هو ألا يكون معروفًا بالقيان ومواضع الفساد والزنى، فلو قذف معروفصا بالظلم والغضب والسرقة وشرب الخمر وأكل الربا والقذف لحد له، إذا كان غير معروف بما ذكرنا ولم يثبت عليه ما رمي به، فإن ثبت أو كان معروفًا بذلك لم يحد قاذفه. ثم يسقط الإحصان المذكور بكل وطء موجب للحد. أما الحرام الذي لا يوجب الحد كوطء المملوكة المحرمة بالرضاع، أو الجارية المشتركة، أو جارية الإبن، أو المنكوحة لحر، أو لعبد له أو لغيره، فلا يسقط الإحصان. وكذلك الوطء بالشبهة. والوطء في الصبا، ووطء الحائط والمحرمة الصائمة لا يسقط. ويسقط إحصان المقذوف بالزنى الطارئ بعد القذف، ومتى سقط الإحصان بالزنى لم يعد بالعدالة بعده. وروى ابن الماجشون فيمن قذف من حد في الزنى بعد أن حسنت توبته لم يحد.

الباب الثاني: في مجامع أحكام القذف

ولو مات المقذوف قبل استيفاء الحد قام ورثته مقامه. وكذلك لو قذف موروثه بعد موته لكان للوارث القيام بالحد. الباب الثاني: في مجامع أحكام القذف وإذا قذفه بزنيتين، وقد تخلل بينهما الحد، تعدد. وذكر الشيخ أبو عمر: "أنه لا يحد له ثانيًا، بل يزجر عن ذلك فقط". ولو ضرب بعض الحد فقذف الأول أو غيره، (فقال ابن الماجشون: إن كان إنما مضى مثل السوط أو الأسواط السيرة، فإنه يتمادى ويجزيه لهما. قال أشهب: والعشرة الأسواط يسيرة. وقال ابن القاسم: يستأنف إلا أن يبقى من الحد الأول مثل سوط أو أسواط فيتم. ثم يبتدئ [حدًا ثانيًا]. وقال محمد: "إذا لم يبق إلا أيسر الحد مثل العشرة والخمسة عشر فليتم الحد، ثم يؤتنف. قال القاضي أبو الوليد: "ويجيئ على قول أشهب أنه إن ذهب اليسر تمادى وأجزى الحد لهما، وإن مضى نصف الحد أو ما يقرب منه استؤنف لهما، وإن لم يبق إلا اليسير فيتمه ثم يستأنف حدًا آخر للقذف الثاني. وإن لم يتخلل بين القذفين حد ولا شيئ منه تداخلاً. وكذلك لو قذف جماعة". وبالجملة [فحده للقذف يجزي عنه] لكل قذف تقدمه، لواحد أو لجماعة. قال القاضي أبوالوليد: "سواء قذفهم متفرقين أو مجتمعين". وقال الشيخ أبو إسحاق: بعض أصحابنا يقول: إن قذفهم فقام به أحدهم حد له، ثم من قام حد له أيضًا هكذا. وقال رجل من أصحابنا: سواء كان متفرقًا أو بكلمة واحدة يحد بعدد من رماه. قال: وبالأول أقول. وخرج الأستاذ أبو بكر هذا الخلاف على الخلاف في أن حد [القذف] هل هو من حقوق اللهتعالى أو من حقوق الآدميين.

وحكى القاضي أبو محمد في هذه المسألة روايتين، وخرج عليهما جواز العفو عنه بعد بلوغه إلى الإمام، ثم قال: "والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف، وحقوق اللهتعالى لا تورث، وأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي. (يوتخرج على الروايتين أيضًا حكم العفو قبل بلوغ الإمام، فروى ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم جوازه. وروى أشهب أن ذلك ليس بلازم له، وله القيام متى شاء، إلا أن يريد سترًا. وعلل القاضي أبو الوليد الأول "بأنه حق لمخلوق ولم يبلغ الإمام فلزم العفو وعلل الثاني بأنه حق لله تعالى يجوز القيام به، ولا يزلم العفو عنه بعد بلوغ الإمام، فلا يلزمه قبل بلوغه كحد الزنى"). (ولو أعطى القاذف للمقذوف دينارًا على أن يعفو عنه، ففي العتبية من رواية أشهب: لا يجوز ذلك، ويجلد الحد"). (وفي كتاب محمد: قال مالك: للمقذوف أن يكتب بالقذف كتابًا أنه متى شاء قام به. قال وإني لأكرهه. قال اقاضي أبو الوليد: "ومعنى ذلك، عندي، قبل أن يبلغ الإمام". قال: "وقد رأيت لمالك نحو هذا". وقال: "هذا يشبه العفو"). فرع: إذا ادعى على رجل أنه قذف ولا بينة للمدعي، لم يكن له أن يحلف المدعى عليه، لكن إن أقام شاهدًا واحدًا أحلف له، فإن نكل سجن أبدًا حتى يحلف. قال محمد: ولم يختلف أصحاب مالك أنه يحبس أبدًا حتى يحلف.

الشرط الأول: النصاب، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي الثلاثة (درام). وقيل: ما يساوي أحدهما إذا كانا غالبين. وتأوله الشيخ أبو بكر [عن] ابن القاسم، ونزل كلامه عليه. وقال القاضي أبو الوليد: "يجب أن يكون الاعتبار في قيمة العرض بما يباع به غالبصا في بلد التقويم. كقيم المتلفات". ويقطع في خاتم وزنه ثلاثة دراهم وإن لم يساو ربع دينار، واختار القاضي أبو بكر الاقتصار على اعتبار الذهب خاصة. ولو سرق دنانير وظنها فلوسًا لم تبلغ نصابًا قطع. وكذلك من سرق ثوبًا لا يساوي ثلاثة دراهم، فيه دنانير أو دراهم مصرورة وهو لا يشعر، فقال مالك: أما الثوب وشبهه مما يعلم الناس أنه يرفع ذلك في مثله، فإنه يقطع، وإن لم يدر ما فيه، (وأما ما لا) يرفع ذلك في مثله كالخشبة والعصى والحجر، ف لا يقطع إلا في قيمة ذلك دون ما رفع فيه من ذهب أو فضة. فأما لو سرق مالاً قطع فيه فلم يعلم به حتى سرق ما يكون [فيه مع الأول القطع]، فقال أشهب في كتاب محمد: لا يقطع حتى يسرق في مرة واحدة نصابًا. قال: ولو سرق قمحًا من بيت، فكان يدخل إلى البيت عشر مرات في ليلة، يخرج (في) كل مرة بقيمة درهم أو درهمين، فإنه لا يقطع حتى يخرج في مرة واحدة ثلاثة دراهم.

وقال سحنون: إذا كانفي فور واحد فإنه يقطع. وهذا من باب الحيلة والتسبب إلى أخذ أموال الناس. ولو أخرج نصابًا من حزرين، فقال عبد الملك: لا يقطع حتى يسرق من حرز واحد. قال محمد: ولو كان لرجل تابوتان في دار، فسرق السارق من كل تابوت درهمًا ونصفًا لم يقطع إذا كانت دارًا مشتركة، ولو خرج بذلك من الدار كلها. ولو لم تكن مشتركة، وخرج بذلك من جميع الدار لقطع، وإن أخذ فيها لم يقطع. ولو اشترك رجلان في حمل ما يساوي نصف دينار قطعًا. ولو كان إنما يساوي ربع دينار فقط، فقال ابن الماجشون: يقطعان إذا كان المسروق بحيث لا يمكن أحدهما إخراجه دون الآخر. فا/الو اشتركا فيما يستقل أحدهما بإخراجه، فلا قطع على واحد منهما، إلا أن يكون في نصيبه نصاب. وقال غيره: بل يقطعان، وإن كان المسروق مما يستقل أحدهما بحمله إذا ساوى بجملته نصاباً، لو خرج كل واحد منهما بشيئ لم يقطع إلا من أخرج نصابًا. قال ابن القاسم: "ومن سرق هو وصبي أو مجنون شيئًا قيمته ثلاثة دراهم، لم يقطع الصبي والمجنون، وقطع الذي معه. وينبغي أن تكون القيمة بالغة نصاباً بقول عدلين من أهل المعرفة بقيمة جنس المسروق. فرع: المعتبر في القيمة المنعفة المقصودة من المسروق عادة وشرعًا، فلو سرق حمامًا عرف بالسبق، أو طائرًا عرف بالإجابةإذا ادعي، قوم ذلك على أنه ليس فيه ذلك ولا سواء مما هو للعب والباطل. وأما سباع الطير المعلمة، فينظر إلى قيمتها على ما فيها من ذلك. وذكر عن أشهب: أنه يقوم ذلك كله بغير ما فيه، كان بازيًا معلمصا أو غيره. قال: وهو نحو قول مالكف ي قتل المحرم إياه. الشرط الثاني: أن يكون مملوكًا لغير السارق، فلو سرق ملك نفسه من المرتهن أو المستأجر، فلا قطع. ولو طرأ الملك بإرث قبل الخروج من الحرز، فلا قطع، وبعده لا يؤثر. وكذلك نقصان القيمة باأكل والإتلاف قبل الإخراج يؤثر، وبعد لا (يؤثر).

ولو قال عن متاع في يده: سرقته من فلان، فكذبه فلان لقطع بإقراره، يبقى المتاع له، إلا أن يدعيه ربه فيأخذه. ومن سرق متاعًا مستسرًا لرجل غائب، فقام به أجنبي، فقال: بعثني (به) ربه، قطع، وإن صدقه ربه أنه بعثه، كان معه في بلد أو لم يكن. (وقال مالك "فيمن أخذ ف يجوف الليل ومعه متاع أخذه من منزل رجل، وقال: وهو أرسلني بذلك، وصدقه ربه، فإن عرف منه انقطاع إليه وأسبه ما قال، لم يقبطع، وإلا قطع ولم يصدق". وقال عيسى: "أحب إلي، إذا صدقه، ألا يقطع". وقال أصبغ: معنى قول مالك: ويشبه ما قال، أن يدخل إلى المتاع من مدخله غير مستسر وأتى في وقت أن يدخله فيه". الشرط الثالث: أن يكون محترمًا، فال قطع على سارق الخمر والخنزير، (ولا على سارق الطنبور والملاهي من المزمار والعود، وشبهه من آلات اللهو، إلا أن يكون في قمية ما يبقى منها، بعد إفساد صورتها وإذهاب (المنفعة) المقصودة بها، ربع دينار فأكثر). وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته [على نجاسته نصابًا]. وقال غيره: إنما يقطع فيه إذا كانت قيمة ما فيه من الصنعة نصابًا. وروي أنه لا يقطع في جلد ميتة أصلاً وإن دبغ.

ولا يقطع سارق الكلب عن ابن القاسم. (وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه. (ومن سرق لحم أضحية أو [جلدها] قطع، إذا كانت قيمة ذلك ثلاثة دراهم، وقاله أشهب. وقال ابن حبيب: قال أصبغ، إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع لأنها لا تباع. ولو سرقت ممن تصدق بها عليه لقطع إن كانت قيمة ما سرق نصابًا، قولاً واحدًا). ومن سرق سبعًا يذكى لجلده وينتفع به، على ما تقدم، قطع فيه، إلا أن الاختلاف واقع في المعتبر في نصاب القطع، هل هو قيمة جلده ذكيًا أو قيمة عينه حيًا، على قولين بين ابن القاسم وأشهب. الشرط الرابع: أن يكون الملك تامًا قويًا، فلو كان للسارق فيه شركة ولو بجزء يسير، ولم يحجب عنه، بل يده جائلة مع شريكه، فلا قطع. وأما ما حجب عنه فسرق منه ما يزيد على نصيبه من المسروق نصابًا كاملاً، فعليه القطع، أما مال بين المال، وأهداء المسلمين، والمغانم بعد حيازتها، فيقطع سارقها وإن لم يزد ما أخذ على النصاب، إذ لا بال لما يستحقه من ذلك. وقال عبد الملك: لا قطع عليه، إلا أن يسرق ربع دينار زيادة عىل سهمه. ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما. ويقطع في سرقة مالهما. واختلف في الجد، فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع.

قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. وقال مالك: "أحب إلي أن لا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم لأنهم آباء وإن لم تجب لهم نفقة، والدية تغلظ على أبي الأب. ولا يقطع العبد في ماله سيده". وقال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه. الشرط الخامس: أن يكون المال خارجًا عن شبهة الاستحقاق في حق السارق، فلا قطع على مستحق الدين إذا سرق من غريمه المماطل جنس حقه. وأما الزوجان فمن سرق منهما من مال الآخر نصابًا من بيت حجر عنه، وفي الدار ساكن [غيرهما)، فعليه القطع، وإن لم تكن الدار مشتركة وليس معهما ساكن غيرهما، ففي وجوب القطع خلاف، وحكم الضيف حكم أحدا لزوجين للإذن. وما سرق عبد أحد الزوجين من مال الآخر من حرز لم يؤذن له في دخوله، فعليه القطع. وكذلك ولد كل واحد منهما إذا سرق من مال الآخر مما أحرز عنه فعليه القطع. ولا يسقط القطع كون المسروق مباح الأصل، كالحطب وشبهه، بل قال في كتاب محمد: يقطع في كل شيئ، حتى الماء إذا أحرز لوضوء أو شرب أو غيره. وكذلك العلف والتين والحطب وشبهه إذا بلغ نصابًا وسرق من حرزه، ولا كونه طعامًا رطبًا متعرضًا للفساد كاللحم والسمك والأمراق والهرائس والثرائد، ونحوه من الفواكه مثل الرطب والعنب والتين والقثاء والبطيخ وما أشبهه، ولا كون المسروق قطع فيه دفعة أخرى، بل يقطع ثانيًا. (ويقطع بسرقة المال من يد المودع والوكيل، والمرتهن والمستعير).

الشرط السادس: أن يكون محرزًا، ومعناه أن يكون في مكان هو حرز لمثله في العرف والعادة، وذلك يختلف باختلاف عادات الناس في إحراز أموالهم، وهو في الحقيقة كل مال لا يعد صابح المال في العادة مضيعًا لماله بوضعه له فيه. وجملة القول فيه: أن كل شيئ له مكان معروف به، فمكانه حرزه، وكل شيئ معه حافظ، فحافظه حرزه، فمن ذلك أن (الدور) والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب أهلها [أو حضروا. وكذلك ظهور] الدواب حرز لما جملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في الموقف للبيع، وإن لم يكن هناك حانوت، [كان معه] أهله أم لا، سرقت في ليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق، مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان أهلها معها (أم) لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لن تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربط دابة بفنائه، أو اتخذ موضعًا مربطًا لدوابه، فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها، وسواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها، فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فرباطها حرز. وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة كالدابة باب المسجد معها حافظ، إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلاً فيربطونها فهو حرز لها، كان صاحبها معها أم لا. (وأما حصر المسجد، فروي عيسى عن ابن القاسم: "أن سارقها يقطع وإن لم يكن للمسجد باب، ورآها محرزة. وإن سرق الأبواب قطع أيضًا". قال أصبغ: ويقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه، (كما) لو سرقث بابه مستسرًا أو خشبة من سقفه أو من حوائزه. وروي عن ابن القاسم: "إن كانت سرقته للحصر نهارًا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلاً قطع".

وذكر عن سحنون في غير العتبية: إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع. وقال ابن القاسم: أيضًا: "من سرق من المسجد الحرام أو مسجد لا غلق عليه لا يقطع. ومن سرق القناديل ليلاً أو نهارًا قطع". وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شيئ من حصر المسجد وقناديله وبلاطه. قال ابن حبيب: وقال ابن الماجشون: وإن سرق من ذهب باب الكعبة قطع. ويقطع في القناديل والحصر والبلاط. وإن أخذ في المسجد، كان في ليل أو نهار وحرزها مواضعها. وكذلك الطنفسة ببسطها الرجل في المسجد لجلوسه إذا كانت تترك فيه ليلاً ونهارًا كالحصر. وقاله مالك. وأما الطنافس تحمل وترد، فربما نسيها صاحبها وتركها، فلا يقطع فيها، وإن كان على المسجد غلق، لا، الغلق لم يجعل من أجلها). (وقال ابن القاسم في العتبية "فيمن سرق من بسط المسجد التي تطرح فيه في رمضان، فإن كان عنده صاحبه قطع، وإلا فلا. وكذلك قال مالك في محارس الإسكندرية يعلق الناس فيها السيوف والمتاع فيسرق. قال: إن كان صاحبه عنده قطع سارقه. قال مالك: لأن صفوان لم يقم عن ردائه ولا تركه"). (وفي العتبية، من رواية محمدب ن خالد عن ابن القاسم، "فيمن جعل ثوبه قريبًا منه، ثم قام يصلي فسرقه رجل: إنه يقطع إذا أخذ وقد قبضه قبل أن يتوجه به، قال: ولو قلت: لا يقطع حتى يتوجه به، لقلت: لا يقطع حتى يخرج من المسجد". وقد قال أصبغ في غير رواية ابن حبيب: يقطع، كان معه حارس أو لم يكن، كقناديل المسجد وحصره).

وما كان على راس رجل في قفة أو غيرها، فهو محرز به. وكذلك ما كان في جيبه، فالجيب حرز لما فيه، وكمه، أيضًا، حرز لما فيه، كان مشدودًا في كمه أو غير مشدود. وهذا كله إذا استسر في أخذه، فأما إذا أخذه اختلاسًا أو مكابرة، فقال ابن القاسم: "لا يقطع إلا أن يؤخذ المكابر بحكم الحرباة". ولو دخل الحرز فأخذ منه إزارًا فاترز به، ثم أخذ في الحرز والإزار عليه، فانفلت من أيديهم، وخرج هاربصا والإزار عليه، وقد علم أصحاب الحرز به أو لم يعلموا، لم يقطع. وأما لو أدرك [صاحب البيت فيه سارقًا] فتركه حتى أحضر من يشهد عليه، ولو شاء لمنعه الأخذ، فتركه حتى خرج بالمسروق، فهل يقطع أم لا؟ ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن يشعر برؤيتهم له فيقر، فلا يقطع لانه مختلس، وبين أن لا يشعر بذلك فيقطع لأنه سارق. والقطع لأصبغ. ونفيه لمالك. والتفرقة لبعض المتأخرين. ولو سرق شيئ من بين يدي صاحبه لقطع سارقه، لأن ذلك حرزه. (ومن سرق متاعًا من الحمام، فإن كان دخل من بابه لم يقطع، إلا أن يكون عند الباب حارس يحرسه). وفي الكتاب: "إن دخل الحمام من غير بابه، مثل أن ينقب أو يتسور على الحائط ونحوه، فإنه يقطع، وإن لم يكن معه ربه والحمام مشترك لمن دخله، والموضع الذي فيه الثياب مشترك، بمنزلة (الصنيع يصنع) في البيت فيدخله القوم ويسرق أحده من البيت، فإنه لا يقطع". وخباء المسافر حرز لما فيه ولما خارجه. وإن كان ربه قد ذهب لحاجته. وكذلك لو سرق الخباء نفسه، فإن سارقه يقطع. وكذلك القطار من الدواب حرز لما فيه، من سل منها شيئًا أو أخرجه من القطارقطع، سواء كانت سائرة أو واقفة، كان معها حافظ أم لا. والمحمل حرز لما فيه، من أخذ منه ستسرًا، أو أخذ من ظهر البعير شيئًا استسر يأخذه ولم يختلسه قطع. وأما الثوب المنشور على الحائط إلى الزقاق، فلا قطع فيه. وروي عن ابن القاسم رواية

ارخى: أنه يقطع. وقاله غير ابن القاسم. واختلف الرواية في ما على حبل الصباغين والقصارين. ما الرفقاء في السفر يكون كل واحد على حدته، فإن سرق أحدهم من الآخر قطع. وأهل الدار الواحدة ذات المقاصير يسرق أحدهم من بعضها يقطع. وإذا كانت دار مشتركة مأذون فيها، وبيوتها محجورة على الناس، فإن السارق إذا أخرج المتاع من بيت منها إلى الساحة المشتركة قطع. وقال سحنون: وذلك إذا كان السارق من سكانها، وإلا لم يقطع حتى يخرجه من جميع الدار. وقال محمد: يقطع وإن لم يكن من أهل الدار. ولا يختلفان أن أحد ساكنيها لو سرق مما في العرصة المشتركة وأخرجه من الدار قطع. والقبر حرز لما فيه، سواء كان في الدور أو في الصحراء. فيقطع النباش إذا سرق منها ما يساوي ربع دينار بعد الإخراج. ولا يقطع حتى يخرجه إلى وجه الأرض. ولو مات في البحر فكفن وطرح في البحر لقطع من أخذ كفنه، سواء شد في خشبة أم لا. وهكذا المطامير في الجبار والصحاري هي حرز لما فيها، فيقطع من سرق منها نصابًا، سواء كانعليها حائط أو م يكن. الكرن الثاني: نفس السرقة، وهي الإخراج، والنظر في ثلاثة أطراف. الطرف الأول: في إبطال الحرز، (فلو نقب وأخرج غيره، [فإن] كانا متعاونين قطعاً، وإن انفرد كل واحد بفعله دون اتفاق بينهما فلا قطع على واحد منهما)، وإن تعاونا في

الطرف الثاني: في وجوه النقل

النقب، وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة. ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة. ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز، فأدخل اآخر يده فأخذه، فعليه القطع، ويعاقب الأول. وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه خارج الحرز، فعليه القطع لا على الآخر. وإن وضعه في سوط النقب وأخذه الآخر، والتقت ايديهما في النقب قطعًا جميعًا. الطرف الثاني: في وجوه النقل. ولو رمي المال إلى خارج الحرز قطع، أخذه أو تركه. ولو أخذ داخل الحرز بعد رمي المتاع إلى خارجه، فقال ابن القاسم: "يقطع". ووقف فيه مالك. وروى أشهب وابن عبد الحكم أنه يقطع. وروى مثله ابن القاسم. ولو استخرج من الحرز بمحجن لقطع. ولو ربطه أحدهما بحبل وجذبه الآخر قطعًا جميعًا [وروي أنه يقطع الجاذب] فقط. ولو أكل في الحرز لم يقطع. ولو ابتلع درة في الحرز وخرج لقطع). ولو ادهن بالدهن داخل الحرز وخرج، فإن كان يخرج عنه بالسلت وغيره ما يساوي نصابًا قطع. ولو وضع المتاع في الماء حتى خرج به إلى خارج الحرز لقطع. وكذلك لو فتح أسفلا الكندوج حتى أنصب ما فيه من حب ونحوه. ولو وضع المتاع على ظهر دابة فخرجت به، فكذلك أيضًا. ولو أشار إلى شاة بالعلف فخرجت من حرزها لم يقطع في رواية أشهب،] ويقطع] في قوله وقول ابن القاسم. ولو حمل السارق عبدًا صغيرًا من دار رواية أشهب، [ويقطع] في قوله وقول ابن القاسم. ولو حمل السارق عبدًا صغيرًا من دار سيده قطع لأنه حرزه. ولو دعاه وخدعه وهو مميز، فلا قطع، وإن لم يكن مميزًا قطع،

الطرف الثالث: في المحل المنقول إليه

ولو أكره بالسيف على الخروج فلا قطع. الطرف الثالث: في المحل المنقول إليه، ولا يقطع بالنقل من زاوية الحرز إلى زاوية أخرى، وإنما يقطع بنقل المسروق عن الحرز إلى ما ليس بحرز له. فإن نقل من البيت إلى صحن الدار، فإن كانت مشتركة قطع على الخلاف المتقدم، وإن لم تكن مشتركة فال قطع. وعرصة الخان حرز لبعض الأمتعة. وكذلك ساحة الدار المشتركة، ولكن في حق السكان ليس بحرز إلا أن يكون مثل اشيئ الثقل والأعكام التي قد أنزلها مالكها، فيه وجعله موضعها، فيقطع، وإن كانت الدار مشتركة. وكذلك الدابة على مذودها. فإن لم يكن في الدار ساكن أو لم يكن فيها سوى ساكن واحد ولم تكن مشتركة، فلا قطع في شيئ من ذلك حتى يخرج به من جميع الدار. الكرن الثالث: السارق، وشرطه التكليف، فلا قطع على الصبي والمجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي، إذا دخل إلينا بأمان ثم يستوفي، قهرًا سرق مال مسلم أو دمي، وإن لم يترافعوا إلينا، لأن ذلك من الحرابة، ولا يقرون عليها بينهم. ويستوىي في القطع الرجل والمرأة، والحر والعبد، إلا أن يكون ملكًا للمسروق منه. النظر الثاني من الكتاب: في إثبات السرقة. وثبت بالإقرار والشهادة. الحجة الأولى: الإقرار مع الإصرار، فإن رجع لم يسقط الغرم، ويسقط الحد إن رجع إلى شبهه. وفي سقوطه إن رجع إلى غير شبهة روايتان، كما لو أقر باستكراه امرأة على الزنى ثم رجع، لسقط الحد ولم يسقط المهر. ولو أقر السارق قبل الدعوى قطع، ولم يقف على دعوى الملك. ولو رد اليمين فحلف الطالب ثبت الغرم دون القطع. أما البعد إذا أقر بسرقة توجب القطع فإنه يقطع، ولا يقبل في المال ولو أقر بسرقة دون النصاب فأولى [أن لا] يقبل في المال أيضًا. الحجة الثانية أيضًا للسرقة: الشهادة، وثبت برجلين، فإن لم يشهد إلا رجل وامرأتان ثبت الغرم دون القطع. وكذا في شاهد ويمين. ولا تقبل الشهادة على السرقة مطلقًا. بل لابد من التفصيل. النظر الثالث: في الواجب، وهو القطع ورد المال مع قيامه، فأما مع تلفه بالغرم إن كان

موسرًا من حين السرقة إلى حين القطع عند ابن القاسم. وعند أشهب إلى حين القيام عليه فأما إن [تغير] حاله من يسر إلى عسر، أو سرق وهو معسر ثم أيسر، أو تكرر ذلك من أحواله في الوجهين لم يضمنها إن لم تكن قائمة. قال محمد: ولو قطع وهو ملي فلم يغرم حتى أعدم، فقال أشهب: لا يتبع، وقال ابن القاسم: يتبع. قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل: أنه يتبع بها مع القطع، كان موسرصا أو معسرًا، قال: وهو قول غير واحد من أهل المدينة، واستدل على] صحته بأنهما حقان لمستحقين، فلا يسقط أحدهما الثاني. ثم قال: وبهذا القول أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيم علىالسارق الحد، فلا ضمان عليه". وأسنده في كتابه، وفسر الضمان بما يلزم الذمة ولا يسقط بالعسر. وأول ما (يقطع) اليد اليمنى من الكوع، قال في المختصر: "ويسحم موضع القطع بالنار". قال في موضع آخر: وكذلك في الرجل. فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فغن عاد فيده اليسرى، فإن عاد فرجله اليمنى، فغن عاد عزر وحبس. وقال أبو مصعب:

"يقتل" هذا مع سالمة الأعضاء، ولو نقصت يده إصبعًا [اكتفينا] بها. وقيل: يكتفي بها ما بقي أكثر الأصابع، أما لو يبق إلا لكف أو الأقل، فإنها لا تقطع، بل ينتقل إلى ما بعدها. ولو كانت شلاء، أو كان لا يمين له فسرق، قطعت يده اليسرى، في الرواية الأخيرة. وفي الأولى تقطع رجله اليسرى. وقال أبو مصعب: "تقطع الشلاء". وقال ابن وهب: تقطع إذا كان ينتفع بها. ولو سرق فسقطت يمناه بآفة سقط الحد. (ولو بادر الجلاد فقطع اليدي اليسريى عمدًا، فعليه القصاص والحد باق)، وكذلك إن فعل ذلك الإمام. ولو كان غلطًا لأجزأ ذلك عنه. وقال ابن الماجشون: لا يجزيه وتقطع اليمنى، ويكون عقل الشمال في مال السلطا، أو المباشر في الخطأ. قال: وإليه رجع مالك. وإذا فرعنا على الأول، ثم سرق، قطعت رجله اليمنى عند ابن القاسم، واليسرى عند ابن نافع. فرع: في تداخل الحدود وسقوطها. وما تكرر من الحدود من جنيس واحد، فإنه يتداخل كالسرقة إذا تكررت، أو الزنى، أو الشرب، أو القذف، فمتى أقيم حد من هذه الحدود أجزأ عن كل ما تقدم على الحد من جنس تلك الجناية التي حد عليها، ثم لا يحد حتى يستأنف [ارتكاب الجناية] دفعة أخرى. ولا تسقط الحدود بالتوبة، ولا بصلاح الحال، ولا بطول الزمان، [بل] لو قامت البينة

الجناية السادسة: الحرابة

عليه، أو أقر بأنه كان أتى جناية من هذه الجنايات، ولو يقم عليه حدها لأقيم عليه الآن، وإن كان من أحسن الناس حالاً، وأجملهم سيرة، وأجلهم قدرًا، ولو طال الزمان وتمادى الأمر البعيد. الجناية السادسة: الحرابة، والنظر في ثلاثة أطراف: الطرف الأول: في صفة المحاربين، وحكم قتالهم. أما صفتهم، فإن المشهرين السلاح قصد السلب محاربون، كان ذلك في مصر أو قفر، صدر من ذي شوكة، أو ممن لا شوكة له، ولا تشترط الذكورة، ولا آلة مخصوصة، فقد يقتل المحارب بالحبل أو [بالحجر]، وقد يقتل بغير آلة كالخنق باليد وبالفم وبغير ذلك، وهو محارب وإن لم يقتل، وقد يخرج بالسلاح، وقد لا يحتاج إليه. وكل من قطع الطريق ,اخاف الناس، فهو محارب. وكذلك من حمل عليهم السلاح بغير عداوة ولا نايرة، فهو محارب. وقتل الغيلة أيضًا، من الحرابة، وهو أن يغتال رجلاً أو صيباً فيخدعه حتى يدخله موضعًا فيأخذ ما [معه]، فهو كالحرابة. ولو دخل دارًا بالليل (وأخذ) المال بالمكابرة ومنع الاستغاثة، فهو محارب. والخناقون، والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون. وكل من قتل أحدًا على ما معه، قل أو كثر، فهو محارب، فعل ذلك بعبد أو حر، مسلم أو ذمي. وأما حكم قتالهم، فقال مالك وابن القاسم: "جهادهم جهاد". وفي كتاب محمد قال: ولم يختلف قول مالك وأصحابه في إجازة [قتال] المحاربين. (قال مالك: ويناشد المحارب الله تعالى ثلاثًا، وإن عاجله قاتله. وقال عبد الملك: لا يدعوه، وليبادر إلى قتله. "وفي كتاب ابن سحنون وغيره: قال مالك: يدعى اللص إلى التقوى، فإن أبى (فقاتله)،

الطرف الثاني: في العقوبة والغرم

وإن طلبوا مثل الطعام والثوب وما خف فليعطوه ولا يقاتلوا. وقال عبد الملك: لا تدعه وقاتله واقتله وأجهز عليه. وقال سحنون: وأنا أرى ألا يعطوا [شيئًا وإن قل، ولا يدعوا]، وليظهر لهم الصبر والجلد، والقتال بالسيف، فهو أكسر لهم، وأقطع لطمعهم". الطرف الثاني: في العقوبة والغرم. ما العقوبة، فما (ذكر) الله سبحانه في محكم كتابه من القتل، والصلب، وقطع الأيدي والأرجل والنفي. فأما القتل والصلب فيجمع بينهما، ويقدم الصلب عند ابن القاسم، ويؤخر عند أشهب. وروى ابن حبيب تقدمه الصلب كقول ابن القاسم. وأما قطع اليد والرجل فمن خلاف. وأما النفي ففي حق الحر كما تقدم في الزاني البكر، ينفي إلى بلد ويحبس فيه حتى تظهر توبته. ثم التعيين موكول إلى اجتهاد الإمام على ما يراه كافيًا في ردعه وزجره، فإن كان ذا قوة وبطش ورأي وتدبير، ويجتمع إليه، ويتحير إلى جهته، فهذا حده القتل، وإن كان ذا قوة وبطش فقط، قطع من خلاف، وإن كان الذي ليس فيه ذلك، وإنما فعل مرة ولعله أن يتوب، فهذايضرب على ما يراه الإمام، وينفي إلى غير بلده فيحسن (به) حتى تظهر توبته بعد طول السجن. قال أشهب: وإن جلده مع النفي لضعيف، وإنما استحسنه لما خفف عنه من غيره. ولو قال به قائل لم أعبه. وروى مطرف: أنه يسجن ببلده. "وقال ابن الماجشون: معنى النفي أن يطلبوا فيختفوا فيدون الطلب عليهم حتى يظفر بهم، فيقام عليهم القتل أو الصلب أو القطع".

وقال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل: إن النفي أن ينفي من قراره، ثم يطلب ويختفي، ثم يطلب فلا يزال هكذا أبدًا، ولا ينفي إلى بلد الشرك. قال: وبهذا أقول، وهو المفعول كان ببلد الرسول صلى الله عليه وسلم. ويجوز قتل المحارب وإن لم يكن قتل. ويجوز قتل الربيئة كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (وإذا تاب المحارب، وقد كان زنى أو سرق في حرابته، فقال عبد الملك بن الحسن: قال أشهب: "لا يوضع ذلك عنه". وفي كتاب محمد: قال مالك وابن القاسم وأشهب: وإذا ولي أحد المحاربين قتل رجل ممنن [قطعوا] عليه، ولم يعاونه أحد من أصحابه على قتله؛ فإنهم يقتلون كلهم، ولا عفو (فيهم) للأولياء ولا للإمام). وكذلك لو ولي أخذ المال وأخذ منهم ثم ظفرنا بغيره، فإنه يلزمه غرم جميع ذلك المال، كان قد أخذ من ذلك حصة أو لم يأخذ. "قال مالك: ولو تاب واحد منهم ثم ظفرنا بغيره، فغنه يلزمه غرم جميع ذلك المال، كان قد أخذ من ذلك حصة أو لم يأخذ. "قال مالك: ولو تاب واحد منهم، وقد أخذ كل واحد منهم حصته من المال، فإن هذا التائب يضمن جميع المال، لأن الذي ولي أخذ المال إنما قوي بهم. قال ابن القاسم: وكذلك القتل عندي، يقتل من لم يل القتل منهم، ولا أعان [فيه]. وقال في العتبية: "وقد استوجبوا القتل كلهم، ولو كانوا مائة ألف". قال في كتاب محمد: وكذلك لو تابوا كلهم قبل أن يقدر عليهم كان للأولياء قتلهم كلهم، وإن شاءوا عفوا عن بعضهم على الدية. ولو ظفر بهم الإمام قبل التوبة قتلهم أجمعين. وقال أشهب: إن أخذوا قبل أن يتوبوا قتل جميعهم ولا عفو فيهم. وأما إن تابوا قبل أن يقدر عليهم، فقد سقط عنهم حكم الحرابة كله، ولم يقتل منهم إلا

الطرف الثالث: في حكم هذه العقوبة

من ولي القتل، ومن أعان عليه، ومن أمسكه له، وهو يعلم أنه يريد قتله، ولا يقتل الآخرون، ولكن يضرب كل واحد منهم مائة، ويحبس عامًا". أما الغرم، فحكم المحارب فيه في حال ثبوت الحد، وسقوطه في حالتي اليسر والعسر، وتبدلهما، حكم السارق، على ما تقدم. قال سحنون في العتيبة: "إذا أقيم على المحارب الحد، فحكمه حكم السارق فيما وجب عليه من مال إن كان وفره متصلاً، أخذ كل ما لزمه من استكراه النساء، واستهلاك مال، ودية النصراني، وقيمة العبد، وإن لم يتصل وفره لم يتبع بشيئ. وإن لم يقم عليه حد الحرابة اتبع بذلك، يلزمه في ماله وذمته، [ويلزمه القصاص لمن] له قصاص". الطرف الثالث: في حكم هذه العقوبة، ولها حكمان: أحدهما: أنها تسقط بالتوبة قبل الظفر بهم لا بعده. ثم إنما يسقط الحد دون القصاص والغرم، كما تقدم. الحكم الثاني: أن القتل حق لله تعالى، حتى لو عفا ولي الدم قتل حدًا، ولا يثبت حق القصاص، ويقتل بمن ليسوا كفؤاً. ولا يتحتم قتل المحارب على الإمام إلا إذا قتل. فروع: الفرع الأول: الجرح الساري يوجب قتلاً منحتمًا. الفرع الثاني: أنه يوالي بين قطع اليد والرجل، ومن استحق يساره بالقصاص، ويمينه بالسرقة، قطعت يمينه بالسرقة، فغ، عاش قطعت شماله قصاصًا، وإن مات سقط اقصاص، ويجمع ذلك عليه، إلا أن يخشى هلاكه فيفرق. الفرع الثالث: إذا اجتمعت عقوبات الآدميين، كحد القذف والقطع والقتل، وطلبوا جميعًا، جلد، ثم قتل، ودخل القطع في القتل. الفرع الرابع: إذا اجتمعت حدود الله (تعالى)، كجلد الشرب والزنى وقطع السرقة والقتل، قتل، وهو يأتي على ما قبله. ولو اجتمع حد القذف وحد الشرب، تداخلا، وأجزأ عنهما جلد ثمانين أو أربعين. من زنى وهو بكر، ثم زنى وهو ثيب، اندرج الجلد تحت الرجم

الجناية السابعة: الشرب

الفرع اخامس: إن قطع الطريق يثبت بشهادة رجلين ولو من الرفقة، إذا لم يضيفا في الشهادة الجناية إلى أنفسهما، فتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً، إذ لا سبيل إلى غير ذلك، ولأن المحاربين إن قالوا: ما قطعنا عليكم، فقد أزالوا عنهم الظنة، وإن أقروا فقد صدقوهم في [قطعهم] الطريق عليهم، شهدوا بقتل أو بأخذ مال أو غيره. ولا تقبل شهادة أحد منهم لنفسه، وتقبل شهادة بعضهم لبعض. (وإذا كان المحارب مشهورًا، كان حاله في الحرابة مستفيضًا، فشهد عليه من يعرفه بعينه أن هذا هو فلان المشهور، (بعينه) أقام الإمام عليه الحد بهذه الشهادة وقتله، وإن لم يشهد عليه هؤلاء الشهود بمعاينة القتل والسلب وقطع الطريق). وإذا أخذ المحاربون ومعهم أموال، فادعاها قوم لا بينة لهم، فلتدفع إليهم بعد الاستيناء في استبراء ذلك من غير طول، فإن لم يأت من يدعيها دفعت إليهم بعد أيمانهم بغير حمل، ولكن يضمنهم الإمام أياها ويشهد عليهم. قال أشهب: وذلك إذا أقر اللصوص أن ذلك المتاع مما قطعوا فيه الطريق، فإن قالوا: بل هو من أموالنا، كان لهم، وإن كان كثيرًا لا يملكون مثله، حتى يقيم مدعوه البينة. قال محمد: وما لم يأت له به طالب فهو كاللقطة، كضوال الإبل وغيرها. فإن أضاف الشهود على المحاربين من الرفقة الشهادة لأنفسهم مع الشهادة لغيرهم كقولهم: أخذ مال رفاقتنا ومالنا، لم تقبل شهادتهم، إلا أن يكون مالهم يسيرًا، فتجوز لهم ولغيرهم. وقال المغيرة وابن دينار: لا يجوز في ذلك أقل من شهادة أربعة، قالا: وإنما تجوز في القطع في الرفقة وفي أموالهم غير الشهداء. ولا تجوز في شهادتهم لأنفسهم. الجناية السابعة: الشرب، والنظر في الموجب والواجب. النظر الأول: في الموجب، فكل مسلم مكلف شرب ما يسكر جنسه، مختارًا من غير ضرورة وعذر، لزمه الحد. ولا يستثنى عن ذلك من كان حديث العهد بالإسلام، بل يجب الحد عليه وإن لم يعلم التحريم. (رواه محمد عن مالك وأصحابه، إلا ابن وهب فإن أبا زيد روى عنه أنه قال: إذا كان كالبدروم الذي لم يقرأ الكتاب ولم يعلم ويجهل مثل هذا، فإنه لا يحد ويعذر. قال محمد: واحتج مالك بأن الإسلام قد فشا، ولا أحد يجهل شيئًا من الحدود، فأما لو علم التحريم وجهل وجوب الحد لحد قولاً واحدًا. ولا حد على الحربي والذمي والمجنون والصبي. من تأويل في المسكر من غير الخمر، فرأى أن ما دون الإسكار منه حلال، فلا عذر له في ذلك، وعليه الحد. رواه محمد).

النظر الثاني: في الواجب

قال القاضي أبو الوليد: "ولعل هذا فيمن ليس من أهل الاجتهاد والعلم، فأما من كان من أهل العلم والاجتهاد، فالصواب أنه لا حد عليه إلا أن يسكر منه". قال: "وقد جالس مالك سفيان الثوري وغيره من الأئمة ممن كان يرى شرب النبيذ مباحًا، فما أقام على أحد منهم الحد، ولا دعا إليه، مع إقرارهم بشربه، وتظاهرهم به، ومناظرتهم (عليه"). ولا يجب على المكره، ولا على من شرب لاضطراره إليه في إساغة الغصة، إذ يجوز له ذلك على الخلاف المتقدم. ولا يجوز التداوي بالخمر: ولا بالأعيان النجسة. وأما الدواء الذي فيه الخمر فقال القاضي أبو بكر: "تردد في ذلك علماؤنا"، قال: "والصحيح أنه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بدواء، ولكنها داء". ثم يجب الحد بشرب النبيذ المسكر جنسه وإن قل المشروب منه. ومن شرب المسكر على ظن أنه شراب آخر غير مسكر، فلا حد عليه، وإن سكر وهو كالمغمى عليه. ولا يحد الشارب ما لم يظهر الموجب للقاضي بشروطه، ويظهر ذل ك بشهادة رجلين أو إقراره، ويلحق بذلك إن شم منه رائحة المسكر ويشهد بها من يتيقنها ممن كان شربها في حاله كفره أو فسقه، ثم تغيرت حاله إلى الإسلام والعدالة. وقد يعرف كثير من الأشياء بالرائحة، مثل الزنبق والخيري والبان وزيت الزيتون، وكل ما ثبتت معرفته بالروائح، ولولا ذلك لم يجب على سكران حد أبدا، لعله سكران من علة أو من غير شراب إذا كان الشراب لا تعرف رائحته، والخل والخمر لا يعرفان إلا برائحتهما لأن لونهما واحد (و) يشتبهان. وقد حكم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقبل فيه شهادة العدول على الرائحة. وهو قول عائشة وابن مسعود. ثم يكفي في الشهادة أن يقول الشاهد: شرك مسكرًا، أو شرب شرابًا شربه غيره فسكر. النظر الثاني: في الواجب، وهو ثمانون جلدة، وتيشطر بالرق. وكيفية [الجلد] أن

يضرب بسوط معتدل بين السوطين. قال ابن القاسم: ضربا بين الضربين، ليس بالخفيف ولا بالمبرح. ويضرب قاعدًا، ولا يربط، ولا يمد، وتخلى يداه. ويضرب على الظهر والكتفين دون سائر أعضاء. وتضرب المرأة قاعدة، وعليها ما يستر ولا يقي. قال: واستحسن أن تقعد في قفة. ويوالي بين الضرب، ولا يفرق على الأيام، إلا أن يخشى من تواليه هلاك المجلود. ولا يجلد في حاله سكره. ولا يجلد المريض إن خيف عليه، بل يؤخر إلى برئه. ولا يجلد في البرد والحر الشديدين الذين يخشى من جلده فيهما هلاكه، بل يؤخر إلى حيث يؤمن ذلك فيه غالبًا، كما تقدم في الزاني. هذه هي الجنايات الموجبة للحد، وما عداها ومقدماتها فتوجب التعزيز. والنظر في موجب التعزيز وقدره وجنسه ومستوفيه. أما موجبه، فهو ما يعصى به العبد ربه من جناية على حق الله سبحانه، أو حق آدمي. وأما قدره، فلا يتقدر أقله ولا أكثره، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام بحسب ما يراه في جناية جناية، ولا يلزمه الاقتصار على ما دون الحدود، ولا له الانتهاء به إلى القتل. وأما جنسه، فلا يتخصص بسوط، أو يد أو حبس أو غيره، إنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. قال الأستاذ أبو بكر: وفي أخبار الخلفاء المتقدمين أنهم كانوا يابلون الرجل على قدره وقدر جنايته، فمنهم من يضرب ومنهم من يحبس، ومنهم من يقاوم واقفًا على قدميه في تلك المحافل، ومنهم من تنزع عمامته، ومنهم من تحل أزراره. قال أصحابنا: ويلزم النكال على قدر القائل والمقول له والقول. فإن كان القائل ممن لا قدر له، أو عرف بالأذى، والمقول له من أهل الخير والصيانة، كانت العقوبة أشد، وإن كانا من أهل الخير والصيانة كانت العقوبة أخف، إلا أن يكون مضمون القول الأمر الخفيف فلا يعاقب، ويزجر بالقول. وإن كان القائل ممن له قدر، وهو معروف بالخير، والمقول له غير ذلك زجر بالقول. قال مالك: وقد يتجافى السلطان عن الفلتة التي تكون من ذوي المروءات. قال في الكتاب: "ومن قال لرجل: يا سارق، نكل، وأما إن قال له: سرقت متاعي، وكان ممن يتهم، فلا شيئ عليه، وإن لم يكن ممن يتهم نكل. وإن ناداه (يا شارب) الخمر، أو آكل الرباء أو خائن، نكل. وكذلك إن ناداه بثور أو خنزير أو حمار وابن الحمار، أو ناداه بيهودي أو

نصراني أو عابد وثن أو مجوسي، ففي ذلك كله النكال. ولم يحد مالك في النكال حدًا ولكنه يختلف في الناس". وأما الحدود فالناس فيها سواء. ويجوز العفو في النكال، والشفاعة، وإن بلغ الإمام، وقد قال مالك فيمن توجه عليه التعزيز وانتهى إلى الإمام: إن كان من أهل العفاف والمروءة، إنما هي طارئة منه فيتجافى عن عقوبته، وأما من عرف بالأذى والتسلط فلا يقله ولينكله. قال الأستاذ: أبو بكر: وظاره هذه الأمالي والغطلاقات (يقتضي) أن التعزيز واجب إذا قام به صاحبه (الذي)، وإن لم يطالبه لم يعزز. قال: ولم يفصل أصحابنا هل ما يتعلق من العزيرات بما سوى حقوق الآدميين واجب كالمتعلق به منها أم لا، بل أطلقوا القول أن التعزير واجب في الجملة، ولمي فصلوا هذا التفصيل. فرع: قال الأستاذ: والمعتبر في الرفيع القرآن والعلم والآداب الإسلامية. والمعتبر في الدناءة الجهل. وأما المستوقى، فهو الإمام والأب والسيد والزوج. لكن الأب يؤدب الصغير (دون الكبير)، ومعلمه، أيضًا، يؤدبه بإذنه، والسيد يعزر في حق نفسه وفي حق الله عز وجل. والزوج يعزر في النشوز وما يشبهه مما يتعلق بمنع حقه. والتعزير جائز بشرط سلامة العاقبة، فإن سرى ضمنت عاقلة المعزر، بخلاف الحد. فلو كانت المرأة لا تترك النشوز إلا بضرب مخوف لم يجز تعزيرها أصلاً.

كتاب موجبات الضمان

كتاب موجبات الضمان والنظر ي ضمان سراية الفعل المأذون في عينه أو جنسه، وضمان الصائل وإتلاف البهائم. النظر الأول: في ضمان السراية. "قال ابن القاسم: لا ضمان على الطبيب والحجام والخاتن والبيطار إذا مات أحد مما صنعوا [به]، إن لم يخالفوا. قال مالك: ومعلم الكتاب أو الصنعة إن ضرب صبياً ما يعلم أنه من الأدب فمات فلا يضمن، وإن ضربه لغير الأدب تعديًا، أو أدبه فجاوز به الأدب، ضمن ما أصابه من ذلك. وكذلك الطبيب يعالج إنسانًا فيؤتي على يده، فغن لم يكن له بذلك علم ودخل فيه جرأة وظلمًا، وكان مثله لا يعمل مثل هذا ولا يعرفه، فليستأدى عليه، وليقدم إليهم الإمام في قطع العروق وشبه ذلك ألا يتقدم أحد منهم على مثل هذا إلا بإذنه، وينهوا عن الأشياء المخوفة التي يتقى منها الهلاك، ولا يتقدموا فيها إلا بإذن الإمام. وأما المعروف بالعلاج فلا شيئ عليه". وقال القاضي أبو محمد: "ما أتى على يد الطبيب مما لم يقصده فيه روايتان، إحداهما: أنه يضمنه لأن قتل خطأ؛ والأخرى: أنه لا يضمنه لأنه تولد عن فعل مباح مأذون له فيه، كالإمام إذا حد إنسانًا فمات". وقال محمد بن حارث: انظر فكل من فعل فعلاً يجوز له أن يفعله بلا تخطير، ففعله على وجهه فعلاً صوابًا، فتولد من نفس ذلك الفعل هلاك [نفس] أو ذهاب جارحة أو تلف مال، فإنه لا ضمان على ذلك الفاعل. وإن كان إنما أراد أفعل الفعل الجائز فأخطأ ففعل فإنه لا ضمان على ذلك الفاعل. وإن كان إنما أراد أن فعل الفعل الجائز فأخطأ ففعل غيره، أو جاوز فيه الحد، أو قصر فيه عن المقدار، ف ما تولد عن ذلك فهو ضامن له، قال: وما خرج من هذا الأصل فمردود إليه. وفي العتبية قال عيسى: "من غر من نفسه لم يضمن، ودية ذلك على عاقلته. قال

النظر الثاني: في دفع الصائل

أشهب عن مالك فيمن سقاه طبيب دواء فمات وقد سقى أمه قبله فماتت أيضمخن؟ قال: لا. ولكن لو تقدم إليهم في ذلك وضمنوا لكان حسنًا، ويقال لهم: أي طبيب سقى أحدًا فمات أو بطه فمات فعليه الضمان. "وفي المجموعة عن مالك في الحجام يقطع حشفة صغير أو كبير، أو يؤمر بقطع يد قصاصاً فيقطع غيرها، أو زاد في القصاص، فهو من الخطأ، على عاقلته إلادون الثلث فهو في ماله، عمل ذلك بأجر أو بغير أجر. ولو أمره عبد أن يختنه أو يحجمه أو يقطع عرقه ففعل فهو يضمن ما أصاب العبد من ذلك إن فعله بغير إذن سيده، علم أنه عبد أو لم يعلم". ومن حفر في مكله، أو في ما أذن له الحفر فيه لمنفعة كفناء دار، فأسقط جدار جاره ضمنه. ومن أوقد نارًا على سطحه في ويم ريح عاصف ضمن ما أتلف مما كان يغلب على الظن عند الوقود وصولها إليه، ولو كان إنما أججها في حالة لا يظن بها ذلك، فعصفت ريح بغتة فنقلتها، فلا ضمان. ومن سقط ميزابه على رأس إنسان فلا ضمان عليه، (بل هو هدر). وكذلك الظلة والعسكر. ومن كان جداره مائلاً إلى الشارع، فإن بناه مائلاً فهو ضامن، وأما إن مال في الدوام فإن لم يتدارك مع الإمكان والإنذار والإشهاد وجب الضمان، وإن لم ينذر ففي الضمان خلاف. ومن رش الماء في الطريق [لأن تزلق] به دابة، فهو ضامن لما عطب به، وإن كان إنما رش تبردًا وتنظفًا، ولم يرد إلا خيرًا لم يضمن ما عطب بذلك. النظر الثاني: في دفع الصائل، وهو في المدفوع والمدفوع عنه (والدفع). أما المدفوع، فكل صائل، إنسانًا كان أو غيره. فمن خشي من شيئ من ذلك فدفعه عن نفسه فهو هدر، حتى الصبي والمجنون إذا صالا، وكذلك البهيمة، لأن من صالت عليه ناب عن صاحبها في فدفعها، إذ لو حضر لوجب عليه، ذلك فمحال أن يجب له عليه غرم مع ذلك. وأما المدفوع عنه. فكل معصوم من نفس وبضع ومال. قال القاضي أبو بكر: "وأعظمها

النظر الثالث: فيما تتلفه البهائم

حرمة النفس، قال: وأمره بيده، إن شاء أن يسلم نفسه أسلمها، وإن شاء أن يدفع عنها دفع". قال: "واختلف الحال، فإن كان زمن فتنة فالصبر أولى، وإن كان مقصودًا وحده فالأمر سواء"، قال: "وبعد ذلك الأهل والمال، وأعظم من هذه حرمة، إلا أنه أقوى رخصة الدين، قال الله (تبارك) وتعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمن). وأما كيفية الدفع، فقال القاضي أبو بكر: "لا يقصد القتل، وإنما ينبغي أن يقصد الدفع، فإن أدى إلى القتل فذلك". قال: "إلا أن يعلم أنه لا يندفع عنه إلا بقتله، فجائز له أن يقصد القتل ابتداء". لو قدر المصول عليه على الهرب من غير مضرة تلحقه لم يجز له الدفع بالجراح، فإن لم يقدر فله أن يدفعه بما قدر، ولا يتعين قصد العضو الجاني. (ولو عضن إنسان يد غيره فسل اليد حتى ندرت أسنانه ضمن السال [يده] الأسنان، وقيل: لا ضمان عليه). ولو نظر إلى حرم إنسان من كوة أو صير باب، لم يجز أن يقصد عينه بمذراة أو غيرها، وفيه القود إن فعل. ويجب تقديم الإنذار في كل دفع، ولو كان الباب مفتوحًا فأولى ألا يجوز قصد عينه. النظر الثالث: فيما تتلفه البهائم. وما أكلته البهائم من المزارع بالنهار فلا ضمان على أربابها، لأن على أهل الحوائط إحراز حوائطهم وكرومهم بالنهار. قال محمد بن حارث: وهذا الكلام محمول على أن أهل الماشية لا يهملون مواشيهم بالنهار، وعلى أنهم يجعلون معها حافظًا (و) راعيًا. وأما إن أهملت المواشي فأهلها ضامنون. وأما ما أفسدت المواشي بالليل، فيجب الضمان على أربابها، وإن كان

ذلك أضعاف قيمتها، كان ذلك الزرع أو الكرم محجرًا عليه أو غير محجر، محروسًا أو غير محروس، لأن على أهل المواشي إحراز مواشيهم بالليل. فرعان: الفرع الاول: قال القاضي أبو الوليد: "هذا الحكم يختص عندي بالموضع الذي يكون فيه الزرع [أو] الحوائط مع المسارح. قال: "فأما لو كان الموضع مختصًا بالمزارع خاصة دون المسارح لضمن ربها ما (أتلفت)، ليلًا كان أو نهارًا. كما أنه لو كان مختصًا بالمسارح دون المزارع، فزرع فيه إنسان على خلاف العادة، لم يضمن أربابها ما أتلفت في ليل أو نهار". الفرع الثاني: روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك: أن على أربابها قيمة ما أفسدت على الرخاء والخوف أن يتم أو لا يتم. زاد أشهب وابن نافع عنه: وإن لم يبد صلاحه: وزاد عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه، وقال في رواية مطرف: ولا يستأنى بالزرع أن ينبت أو لا ينبت، كما يصنع بسن الصغير).

كتاب العتق

كتاب العتق وهو من أفضل الأعمال وأعظم القربات نفاذاً ويشهد لنفوذه الكتاب والسنة والإجماع. والنظر في أركانه وخواصه. [النظر الأول: في أركان العتق] أما الأركان فثلاثة: الأول: المعتق، وهو كل مكلف لا حجر عليه. الثاني: الرقيق، وهو كل إنسان مملوك، لم يتعلق بعينه حق لازم، ولا وثيقة، على خلاف وتفصيل في عتق الرهن. الثالث: الصيغة، وصريح لفظها التحرير والإعتاق، وفك الرقبة فهو صريح أيضًا. وأما الكناية [فكقوله]: وهبت لك نفسك، أو اذهب، أو اغرب، أو نحو ذلك، ولا يعمل بدون اقتران نية العتق به. وألحق ابن القاسم بذلك: اسق الماء، وادخل الدار، وغيره من سائر الحروف إذا اقترنت بذلك نية العتق. ولو قال في حال المساومة: هو عبد جيد حر، لم يلزمه شيئ لصرف القرينة له إلى المدح دون الإعتاق. ولو قال: إن بعتك فأنت حر، عتق عليه حين باعه ورد ثمنه على مبتاعه. ولو قال البائع: إن بعته فهو حر، وقال المبتاع أيضًا: إن ابتعته فهو حر، ثم تبايعاه عتق على البائع. النظر الثاني: في خواص العتق، وهي ستة: السراية والحصول بالقرابة. والحصول بالمثلة. والامتناع من المريض فيما جاوز الثلث. والقرعة. والولاء. الخاصية الأولى: السراية، ومن أعتق بعض عبده سرى إلى الباقي وفي عتقه بالسراية أو بالحكم روايتان. (وكذلك) لو أعتق عضوًا معينًا. وإن أعتق شركاء له في عبد قوم عليه الباقي بشروط:

الشرط الأول: أن يكون موسرًا بمال فاضل عن قوت الأيام وكسوة ظهره، كما في الديون التي عليه، ويباع عليه منزله الذي يسكنه، وشوار بيته. (وقال أشهب: إنما يترك له ما يواريه لصاته. وقال عبد الملك: يترك له ما لا يباع على المفلس) ولو كانعليه دين بقدر ماله فهو معسر، والمريض معسر، إلا في قدر الثلث، والميت معسر مطلقًا حتى إذا قال: إذا مت فنصيبي منك حر لم يسر، لأن [ميراثه] صار للورثة. وقيل: هو موسر بعد الموت فيقوم في ثلثه. ولو كان المعتق موسرًا بالبعض لسرى بذلك القدر، ولو رضي الشريك المتمسك باتباع ذمة المعتق المعسر لم يكن له ذلك عند ابن القاسم. وروي في كتاب محمد أن ذلك له. قال مطرف وابن الماجشون قال مالك ولا يستسعى العبد إذا كان المعتق معسرًا، إلا أن يتطوع سيده بذلك، فذلك له. وكذلك لو عرض العبد أن يعطي ماله ويعتق لم يكن ذلك له. وكذلك ما استفاد من ذي قبل. فرع: لو رفع إلى الحاكم فحكم بسقوط التقويم لإعساره فلا تقويم عليه بعد وإن أيسر، فإن لم يرفع حتى أيسر، ففي إثبات التقويم بعد ذلك ونفيه روايتان. الشرط الثاني: أن يحصل العتق (باختياره) أو بسببه، فلو ورث نصف قريبه فعتق لم يسر، ولو اتهبه أو اشتراه لسرى. الشرط الثالث:: أن يوجه العتق إلى نصيب نفسه، أو [إلى] الجميع حتى يتناول نصيبه. أما لو قال: أعتقت نصيب شريكي، للغا قوله. ولو قال: أعتقت نصيبي من هذا العبد لعتق نصيبه منه وكذلك لو قال: (أعتق) هذا العبد كله، عتق نصيبه منه، وقوم عليه بقيته في الوجهين. ثم إذا وجدت الشروط فتتعجل السراية في إحدى الروايتين. قال القاضي أبو محمد: "وأظهر الروايتين أن السراية إنما تحصل بالتقويم ودفع القيمة [إلى الشريك]. ويتفرع على الروايتين مسائل:

إحداهما: زمن اعتبار القيمة فعلى أظهر الروايتين يوم الحكم إذا قصر العتق على نصيبه، وإن عمم في جملة العبد فيوم العتق. وقال مطرف وابن الماجشون: بل يوم الحكم، كالمقتصر على نصيبه. وروي عن أشهب وأصبغ وابن عبد الحكم. وأما على الرواية الأخرى فيوم العتق على كل حال. الثانية: لو مات العبد قبل التقويم، فعلى أظهر الروايتين لا تقويم، وعلى الأخرى يقوم. الثالثة: عتق الشريك لحصته، ينفذ على أظهرهما، ولا ينفذ على الأخرى، بل [يلزم] التقويم. وأجرى الأستاذ أبو بكر بيعه لصحته قبل التقويم أيضًا على ذلك، وقال: على المشهور يقوم للمشتري كما يقوم للبائع. وفي الكتاب إذا أعتق أحدهما ثم باع الآخر رد بيعه للتقويم على المعتق. قال ابن حبيب: وراه المصريون والمدنيون من أصحاب مالك عنه. قال الأستاذ: ويجب أن يكون سائر أحكامه في شهادته وجنايته وحدوده إلى غير ذلك، على هاتين الروايتين، على المشهورة: أحكامه في جميع ذلك أحكام العبيد حتى يقوم، وعلى الأخرى: أحكامه أحكام الحر من يوم العتق. فرعان: الفرع الأول: في اختلاف أحوال السادة والعبيد. وللاختلاف صورتان. الصورة الأولى: في الدين، بأن يكون أحدهما مسلمًا والآخر ذميًا، فإن أعتق المسلم كمل عليه مسلمًا كان العبد أو ذميًا. وإن أعتق الذمي فقال أشهب ومطرف وابن الماجشون: يقوم عليه. وقال في المختصر الكبير: "لا يقوم عليه". وفرق ابن القاسم، فألزم التقويم إن كان العبد مسلمًا، وأسقط إذا كان ذميًا.

لو كان الشريكان ذميين والعبد مسلم ففي التقويم روايتان. ولا خلاف في إثبات التقويم إذا كان السيدان مسلمين، وإن كان العبد ذميًا وأولى إذا كان الثلاثة مسلمين، كما لا يختلف في أنهما لا يلزمهما التقويم إذا كانوا ذميين. الصورة الثانية: (أن يختلف السيدان في الرق والحرية، فإن أعتق العبد حصته، ففي كتاب محمد: لا عتق له إلا بإذن [السيد] فإن أذن قوم في مال السيد، كان للعبد مال أو لم يكن. وكذلك لو كان بغير إذنه ثم أجاز قال سحنون في كتاب ابنه: ويستوعب في ذلك مال السيد وإن احتيج إلى بيع رقبة العبد. قال ابن القاسم: "لو قال السيد قوموه على العبد فيما بيده، لم يقوم عليه". الفرع الثاني: (لو أعتق بعض عبده إلى أجل، ففي كتاب ابن سحنون: من أعتق حصته من عبد إلى سنة، قال مالك وابن القاسم والمغيرة: يقوم عليه الآن فيعتق إلى الأجل. قال سحنون: إن شاء المتمسك قوم الساعة وكان جميعه حرصا إلى سنة، وإن شاء تماسك وليس له بيعة قبل السنة إلا من شريكه، فإذا تمت السنة قوم على مبتدئ العتق بقيمة يوم التقويم. وقال عبد الملك. هذا إن تماسك الثاني، وإن عجل الثاني العتق، فقال ابن القاسم: "تقوم خدمته إلى سنة فتؤخذ من الذي عجل العتق وتدفع إلى صاحبه. ثم رجع فقال: يقضي عليه بعتق نصفه الآن ونصفه إلى سنة، ولا يؤخذ من هذا قيمة خدمته، وولاؤه لغيره". فأما لو بتل الأول وأجل الثاني، فقال ابن القاسم في الكتاب: "يفسخ ويضمن

الشريك حصته". وكذلك لو دبر حصته. قال القاضي أبو محمد: "وهو كمن لم يعتق وتدفع إليه القيمة، وينجز العتق". وقال عبد الملك: يقع العتق منجزًا منهما". ورواه ابن سحنون عن المغير، قال: لأن الثاني ترك التقويم، واستثنى من الرق ما ليس له. وحكى الشيخ أبو القاسم: "إن أعتق الثاني حصته إلى أجل أو كاتب أو دبر، وشريكه موسر، لم يكن له ذلك. ولو كان معسرًا جاز ذلك". فروع في التقويم على الرواية المشهورة: الفرع الأول: أن العبد إنما يقوم على من ابتدأ التبعيض فيه، فلو كان العبد بين جماعة، فأعتق أحدهم نصيبه، ثم أعتق آخر بعده قبل التقويم على الرواية المشهورة، فالتقويم على الأول خاصة إذ هو المبتدئ بالتبعيض. وكذلك من ورث حصة موروثه فعتق عليه بالملك فلم يسر إذا لم يختر العتق ولا سببه، ثم اشترى منه حصة أخرى عتقت عليه ولم تقوم عليه بقيته إذ لم يبتدئ بها التبعيض. الفرع الثاني: إن المعتق يقوم كاملاً لا عتق فيه. وقيل: يقوم نصفه على أن نصفه الآخر حر. قال الشيخ أبو عمران: وليس بالجيد. قال: والذي اتفق عليه أصحابنا أنه إنما يقوم على أن جميعه مملوك، ثم يقوم العبد على ما يساوي في مخبرته وصنعته وبماله و (ما) حدث له من ولد بعد العتق أو مال، والأمة كذلك بولدها ومالها. (قال: ولو كان العبد زراعًا إن قوم بالقساط كان أقل قيمة فليقوم بموضعه ولا يجلب إلى الفسطاط). ولو تقاوى الشريكان العبد والأمة فبلغاه أضعاف قيمته، فعمد أحدهما فأعتقه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنها نزلت بالمدينة في جارية بين رجل [وزوجته] فحكم

فيها بعض العلماء بأن ينادي عليها، فإن زادت على ذلك وإلا ألزمه الزوج، فاستحسنه مالك. ولو تعيب العبد قبل التقويم قوم بعينه. فأمر مجرد دعوى المعتق أن العبد سارق أو آبق فلا يقبل منه. فإن ادعى أن الشريك عالم بذلك فأنكر شريكه، ففي توجه اليمين عليه وعدم توجهها قولان لأشهب وابن القاسم. وروي عن ابن القاسم أنه رجع إلى مثل قول أشهب في إيجابها عليه، وهو اختيار أصبغ، والأول اختيار محمد. الفرع الثالث: إذا أعتق شريكان معًا ما يخصهما، وبقي لهما في العبد شريك أو أشراك، قوم محل السراية عليهما معاً، ثم [إن] استوى نصيبًا المعتقين فالقيمة بينهما نصفان، وإن اختلفا وزعت على قدر النصيبين في رواية أشهب، وهي اختيار القاضي أبي بكر. (وقال المغيرة: هي بينهما نصفان. ولو كان أحدهما معسرًا لوجب على الآخر كمال القيمة. وقال عبدالملك: علهي بقدر نصيبه خاصة). الفرع الرابع: قال ابن حبيب: قال مالك: لا يقوم على الأول حتى يعرض على شريكه أن يعتق، فغن أعتق ذلك له، وإن أبى قوم على الأول، فإن رجع بعد إبائه قبل التقويم على الأول فذلك له ما لم يقوم، وقاله ابن الماجشون ورواه ابن القاسم وابن وهب. قال مالك: سواء أعتق بإذن شريكه أو بغير أذنه، فلابد أن يقوم أو يعتق. وكذلك لو قال العبد: لا حاجة لي بعتق ما بقي مني، لم يلتفت إليه. قال ابن القاسم: إذا قال شريك الملي: أنا أقوم، ثم قال: أعتق، فليس له إلا التقويم ولو قال: أنا أعتق، ثم قال: أقوم، فلا رجوع له. وعند ابن حبيب له أن يرجع. الخاصية الثانية: عتق القرابة. ومن دخل في ملكه أحد عموديه، أعني أصوله، وهو العمود الأعلى: الآباء والأمهات والأجداد والجدات وآباؤهم وأمهاتهم من قبل الأب ومن قبل الأم وإن علوا، وفصوله وهو العمود الأسفل، أعني المولودين الولد وولد الولد، ذكورهم وإناثهم وإن سلفوا، عتق عليه. وسواء دخل عليه قهرًا بالإرث أو اختيارًا بالعقد. ويلحق بالعمودين الجناح، وهو عمود الإخوة والأخوات، من أي جهة كانوا، دون أولادهم. وزاد ابن وهب العم خاصة.

وروى أنه يلحق بهم ذي رحم محرم عليه بالنسب، وهو كل من لو كان امرأة لم يجز له نكاحها. وروي أنه لا يعتق عليه إلا أصوله وفصوله. ولا يشتري للطفل قريبه، ولكن يتهب الولي له جميعه. ولا يقبل له بعضه إن كان موسرًا، فإن قبل له نصف قريبه مع الإيسار لم يعتق عليه إلا ذلك النصف فقط. وكذلك لو ورثه. ولو لم يقبل الهبة للطفل أبوه ولا وصبه لعتقت الحصة الموهوبة له عليه. والمريض إذا اشترى قريبه عتق إن وفى به ثلثه، وإلا لم يعتق. وإن ملكه بغرث فيحسب من رأس المال. وإن اشترى نصفه قريبه عتق، وسرى إن وجدت شروط لسراية. ولو [ورثه] لم يسر. ولو وهب له جزء فقبله عتق وسرى. قال في كتاب الولاء: فإن أوصى له بأبيه، والثلث يحمله، عتق عليه، قبله أو رده، والولاء له، فإن لم يحمل إلا بعضه أو لم يوص له إلا ببعضه، فإن قبله قوم عليه باقيه، وإن رده فروى علي عن مالك: أن الوصية تبطل. قال محمد: وروي عن مالك: أن ذلك الشقص يعتق قبله أو لم يقبله. قال ابنالقاسم: والولاء للموصى له قبله أو رده، وكأن يقول: إن لم يقبله فولاؤه لسيده، ثم رجع فقال: للموصى له. وكذلك في الهبة والصدقة في الصحة به أو ببعضه. وقاله أصبغ في الوصية. وأما الصدقة فقال: لا يعتق إلا أن يقبله كله أو بعضه. قال محمد: بل الصدقة والوصية واحد، والصدقة آكد في صدقه بعضه أنه قبله عتق عليه كله، وإن لم يقبله فهو حر كله على سيده. ولو وهب لصغير أخوه، أو أوصى له به فقبله أبوهما عتق عليه، ولو كان شقصًا منه عتق ذلك الشقص ولم تقوم على الصبي بقيته ولا على الأب الذي قبله عنه والوصي مثله وإن لم يقبل ذلك له أب أو وصي عتق ذلك الشقص على الصبي. فرع: إذا ورث من يعتق عليه وعليه دين، فروى محمد عن ابن القاسم: يباع في دينه مثل اشترائه، ولا يعتق عليه وعليه دين. وأما إذا وهب لغير ثواب فهو معتق ولا سبيل لأهل الدين فيه، لأن صاحبه لم يهبه إلا (ليعتق): وقال أشهب فيما وهب له لغير ثواب أو ورثة أو وصي له به: لا سبيل لأهل الدين فيه، وهو حر يمكله إياه. قال محمد: ما ورث لا يباع أيضً، مثل قول أشهب. قال أبو محمد عبد الحق: قال بعض شيوخنا: معنى المسألة فيالهبة أن الواهب علم أنه ممن يعتق عليه، فكأنه إنما قصد عتقه إياه عنه، فلا سبيل لأهل دينه عليه. وأما لو لم يعلم أنه ممن يتق عليه لبيع للغرماء على قول ابن القاسم، ويكون كالميراث. قال عبد الحق. وكلام

ابن القاسم على هذا يدل، لأنه قال في كلامه: لأنه صاحبه لم يهبه إلا ليعتق، فدل هذا على أنه ممن يعتق عليه. الخاصية الثالثة: العتق بالمثلة: فمن مثل بعبده عتق عليه إذا كانت مثلة بينة، والمعتبر في ذلك أمران: أحدهما: أن يكون الفعل عمدًا. والثاني: أن يبلغ بذلك الشين، قاله أشهب وعيسى بن دينار. (قال في كتاب محمد: من تعمد قطع أنملة أو طرف أذن أو أرنبة؛ أو قطع بعض الجسد، عتق عليه وعوقب، قاله أشهب، ويسجن. وهكذا روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم وأصبغ: من قطع طرف أنملة عبده، أو قطع ظفره، أو شرق أذنيه عتق عليه قال سحنون: فأما ما يعود من الجراح فليس بمثله. يعني فيما عاد على غير شين. فأما ما عاد على شين فاحش فقال أشهب وابن وهب وأصبغ: من أبق عبده فوسمه في جبهته، كتب فيه: آبق، يعني بالنار، فإنه يعتق عليه لأنه شين فاحش. قال أصبغ: فأما لو فعل ذلك في ذراعيه أو باطن جسده لم يعتق عليه. وروى ابن حبيب عن ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: من وشم وجه عبده

عتق عليه، ولم يفرق بين نار وغيره. وقال في كتاب محمد: قلع الأسنان (مثله)، يعتق عليه، وقاله ابن القاسم وأصبغ: في جل الأسنان. وأما قلع الضرس الواحد فقال مطرف وابن الماجشون في الواضحة: يعتق عليه. (قال مالك: " من سحل أسنان عبده عتق عليه. يعني أن يبردها حتى تذهب". قال عيسى بن دينار: وكذلك لو سحل له سنًا واحدة وقال أصبغ: "لا يعتق في السن الواحدة بحال". قال مالك: وأما حلق الرأس واللحية فيس ذلك بمثله في عبد ولا حلق الرأس بمثله في الأمة. وقال ابن وهب: يؤدب من فعل ذلك بعبده، أو حلق رأس جارته على وجه الغضب. وروى ابن الماجشون: إلا أن يكون العبد التاجر الوجيه اللاحق بالأحرار في هيئته، فحلق سيده لحيته. والأمة الفارهة الرفيعة يحلق سيدها رأسها، فإنها مثلة). (ومن حلف ليضربن عبده مائة سوط، قال أصبغ: هذا مما يخافيه العطب فليجعل عتقه. وقال مطرف وابن الماجشون: قد أساء، ويترك وإياه، فإن ضربه بر. وإن كانت أمة حاملاً فقال ابن الماجشون: يمنعه السلطان، فإن ضربها بر في يمينه وأثم. ولو كانت اليمين على أكثر من مائة سوط مما فيه الشنعة، لعجل عتقه عند مطرف وابن الماجشون).

فرعان: الفرع الأول: (قال ابن القاسم: من يعتق [بالمثلة] لا يعتق إلا بالحكم. وقال أشهب: بالمثلة يصير حرًا. وإن ماتالسيد قبل أن يعلم به فهو حر من رأس ماله. وقال ابن عبد الحكم: أما المثلة المشهورة التي لا يشك فيها فهو حر بنفس المثلة، وأما ما يشك فيه فلا يعتق إلا بالحكم، كالإبلاء البين أجله من وقت اليمين، وما يدخل بسبب يوم الحكم). وروى سحنون عن مالك في العتبية: "من مثل [بامرأته] طلقت عليه، كما لو باعها، لأنه لا يؤمن على غيبها. فأما لو وقعت المثلة على وجه الخطأ فلا يعتق عليه". (قال ابن لقاسم: "من ضرب عبده بسوط في أمر عتب عليه فيه ففقأ عينه لم يعتق عليه. قال سحنون: "من ضرب رأس عبده فنزل الماء في عينه فليس بمثله تقتضي أن يعتق عليه". الفرع الثاني: (لو حصلت المثلة، ثم تنازع السيد والعبد في أ، ها على وجه العمد أو

الخطأ، فقال سحنون: "القول قول العبد والزوجة، ثم رجع إلى أن القول قول السيد والزوج، لأن الأصل عدم العداء"). قال أشهب: وإن مثل الذمي بعبده النصراني عتق عليه. ولو كان معاهدًا حربيًا لم يعتق عليه. وقال ابن القاسم: لا يعتق على الذمي إلا أن يمثل به بعد أن يسلم. ولو مثل السفيه بعبده لعتق عليه عند ابن وهب وأشهب وأصبغ، ولم يعتق عليه عند ابن القاسم. وإذا مثلت ذات الزوج بعبدها فهل يعتق عليها إذا [جاوزت] الثلث وإن كره زوجها أم لا؟ قولان لابن وهب وسحنون، ورواه عن ابن القاسم. وهل يعتق على العبد المديان بالمثلة أم لا؟ قولان لابن القاسم. الخاصية الرابعة: امتناع العتق بالمرض: فمن أعتق عبدًا لا مال له غيره عتق ثلثه فقط. وإن كان عليه دين مستغرق لم يعتق منه شيئ. ولو أعتق ثلاثة أعبد من جملة عبيدة عتق منهم جزء مساو لنسبتهم من الجملة. ولو مات بعضهم قبل موت السيد، فهل يعتق ذل الجزء من الجملة الأولى أو ممن بقي؟ فيه خلاف بين ابن المواز وابن الماجشون. الخاصية الخامسة: القرعة: ومحلها أن يعتق عبيدًا معًا في المرض، أو يوصي بعتقهم إذا لم يكن له مال سواهم. (قاله ابن القاسم وابن نافع وعيسى بن دينار ومطرف. في رواية ابن مزين عنه قال: فقلت له: هل هو قول مالك؟ فقال: هذا الدي لا يعرف غيره. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن بتلهم في مرضه أو بتل بعضهم أو أوصى بعتقهم، فلم يحملهم الثلث فليقرع بينهم، كان له مال سواهم أو لم يكن. وقال أصبغ: لا يقرع بينهم في البتل.

ولو اعتق على ترتيب فالسابق مقدم. ولو نص على أسمائهم واحدًا واحدًا فال تدخل القرعة حينئذ، بل يعتق منهم بالحصص، قاله سحنون. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: سواء سماهم بأسمائهم، أو قال: عبيدي أحرار، أو غلماني أحرار، أقرع بينهم. وقاله لي أصبغ عن ابن القاسم. ولو قال: الثلث من كل واحد منهم حر لم تجر القرعة، وعتق من كل واحد بحصته). وطريق القرعة إذا جزؤوا ثلاثة أجزاء أن يكتب اسم كل جزء، واحدًا كان أو أكثر في رقعة، وتدرج في بنادق متشابهة، وتجعل في كم أحد، صغير أو كبير، ثم تخرج واحدة فيعتق من فيها، ولا يتعني الكاغد، بل يجوز بالخشب والنوى. ولا يجوز بشيئ فيه خطر كقولهم: أن طار غراب ففلان يتعين للحرية، أو ما يشبه هذا. أما كيفية التجزئة فتسهل إذا أمكن تجزئتهم بثلاثة أجزاء متساوية في القيمة، ولا بأس (أن) يتساوى عددهم بأن يجبر الخسيس بالنفيس، فإن لم يمكن كما لو كانوا ثمانية أعبد قيمة كل واحد مائة أقرع بين جميعه، فمن خرج سهمه عتق، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه حتى ينتهي إلى كمال الثلث بواحد أو ببعضه. وصورته أن تكتب أسماؤهم في رقاع أو غيرها كما ذكرنا، ثم يخرج منهم أول وثان وثالث، إلى حيث تنتهي القيمة في واحد بكله أو ببعضه. فروع: الفرع الأول: إذا أبهم العتق بين جاريتين ولم يقصد واحدة بعينهأ، وقلنا بتخيير في تعيين أيتهما أحب، على إحدى الروايتين، فوطئ إحداهما، كان ذلك تعيينًا للملك في الموطوءة. وكذلك في اللمس بالشهوة. الفرع الثاني: إذا قال: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت توأمين، كان الأول منهما حرًا، وإن ولدت الأول ميتًا انحلت اليمين، ولم يعتق الحي بعده. الفرع الثالث: إذا قال للمملوك: أنت ابني، عتق عليه ولحقه، إلا أن يكذبه الحسن، بأن يكون أكب رمن السيد سنًا، أو الشرع، بأن يكون مشهور النسب من غيره، فلا يلحق به، ولا يعتق

الفرع الرابع: إذا قال: إن أعتقت غانمًا فسالم حر، ثم أعتق غانمًا، وكل واحد ثث ماله، عتق غانم ولا قرعة، لا، هـ ربما يخرج على سالم فيعتق من غير وجود الصفة. الخاصية السادسة: الولاء، والنظر في سببه وحكمه. أما السبب فهو زوال الملك بالحرية، فمن زال ملكه بالحرية عن رقيق فهو مولاه، سواء أنجز أو علق أو دبر أو استولد أو كاتب أو أعتق العبد بعوض أو باعه من نفسه أو أعتق عليه، إلا أن يكون السيد كافرًا والعبد مسلمًا أو يكون السيد عبدًا أعتق بإذن سيده له في ذلك في حالة يجوز له فيها أن ينتزع ماله. فإن كان اسيد كافرًا فلا ولاء له على عتيقه المسلم، بل يكون ولاءه لجميع المسلمين. ثملا يعود إليه بإسلامه. وأما لو أعتق الكافر كافرًا ثم أسلم العتيق، فمتى أسلم السيد فولاؤه عليه باق. وإن مات العتيق قبل إسلامه ورثه أقرب الناس إلى الكافر المعتق من المسلمين. وإما العبد إذا أعتق في الحالة المذكورة فلا يرجع إليه الولاء أبدًا. وإن عتق وهو مخالف للمكاتب في هذا وأما ما أعتقه بغير إذن سيده ثم لم يعلم به السيد حتى عتق العبد المعتق فالولاء له دون السيد. وحقيقة الولاء أنه لحمة كلحمة النسب فإن المعتق سبب لوجود الرقيق لنفسه كما أن الأب سبب لوجود الولد إذا كان العبد مفقودًا لنفسه موجودًا [لسيده]، فقد أوجده لنفسه بالعتق. وعلى هذا المعنى نبه الحديث، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "لن يجزئ ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه" لأنه إذا أعتقه فقد كافاه إذ صار سببًا لوجوده الحكمي، كما كان الأب سببًا لوجوده الحسي، ولذلك تحرم الصدقة على موالي بني هاشم في قول. ولو أوصى لبني فلان لدخل مواليهم فيالوصية على قول أيضًا. وكذلك لو شرط نفي الولاء أو ثبوته لغير المعتق عن نفسه للغي. فأما إن أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه إن كان معينًا، كان بإذن أو بغير إذنه. واختلف فيه إذا كان عن جماعة المسلمين، كما إذا قال لعبده أنت سائبة، فمعناه العتق عن جماعة المسلمين فيكون الولاء لهم. قاله ابن القاسم ومطرف. وقال ابن حخبيب عن نافع وابن الماجشون: ولاؤه لمعتقه. وفي المدنية من رواية يحيي بن يحيي عن ابن نافع: لا سائبة عندنا اليوم في الإسلام. ومن أعتق سائبة فولاؤه له. ولا يثبت الولاء بالموالاة والعهد. ويسترسل الولاء على أولاد المعتق وأحافده، ومعتقه ومعتق معتقه، فالمولى

[إما] المعتق أو معتق الأب أو معتق الأم أو معتق المعتق، وما قدمناه من استرسال الولاء على أولاد المعتق فذلك في من لم يمسه رق، فأما من مسه الرق فلا ولاء عليه إلا لمعتقه أو لعصبات معتقه أو لمعتق معتقه لأن المباشرة أقوى. ومن كانت أمه حرة أصلية فثبوت الولاء عليه من جانب الأب. هذه قاعدة الولاء، والنظر بعدها في التقديم والتأخير، والأصل فيه أنه لا ولاء مع مباشرة العتق لغيره، فإن لم يكن مباشرًا فالولاء لمعتق الأب. فإن كان الأب رقيقًا بعد فلمعتق الأم [إلا] أن يعتق الأب فيجر إلى معتقه ويستقر عليه. وإن كان الأب رقيقًا فأعتق (أبو) الأب انجر الولاء إلى معتقه، ثم ينجر منه إلى معتق الأب إن أعتق. "ومن أعتق ما في بطن أمه الحامل من زوج عبد لغيره ثم عتق، ثم وضعت بعدعتقه فولاء الولد لسيده المعتق له، لأنه مباشر لا لمعتق الأب، ولو أعتق أمه بعد عتقه للجنين، ثم عتق الأب قبل أن تضع فولاء الولد لسيد الأمة لا يجره معتق الأب وذلك إن ولدته لأقل من ستة أشهر من يوم عتق الأم، وإن كان بستة أشهر فأكثر، قال الشيخ أبو محمد: "يريد وليست بظاهرة الحمل، والزوج مرسل عليها، فغن الأب يجر ولاءه إلى معتقه". قال في كتاب محمد: وإن ادعى معتق الأب أنها حملت بعد أن عتقت، وقال معتقها: بل كانت حاملاً به يوم العتق، فمعتق الأب مصدق وولاؤهما له، إلا أن تكون بينة الحمل يوم عتقت، أو تضعه لأقل من ستة أشهر من يوم عتقت، فيكون ولاؤه لمعتق الأم، ولا ينظر إلى قول الأب والأم في ذلك. النظر الثاني في الحكم: وحكم الولاء العصوبة، فيقيد الميراث وولاية النكاح وتحمل العقل والولاء للمعتق. فإن مات فميراث (العتيق الأولى) عصابته يوم موت العتيق، فلو خلف أبًا وأمًا فلا شيئ للأم. وكذلك لو خلف ابنًا وبنتًا فلا شيئ للبنت. بل لو خلف أباً وابنًا فلا شئ للأب، لأنه ليس عصبة مع الابن، والميراث لعصبة المعتق. ولا يعصب الأخ أخته في باب الولاء. وعلى الجملة فيورث به ولا يورث هو في نفسه، وإنما يرث به العصبات، فيقدر موت المعتق بدل موت العتيق، فكل من يأخذ ميراثه لعصوبته فيأخذ ميراث عتيقه. ولا يثبت الولاء لامرأة أصلاً إلا إذا باشرت العتق فلها الولاء على من اعتقت، وعلى من

جر ولاءه لها بولادة أو عتق، فيسترسل ولاؤها على أولاده وحدته ومعتقيه كالرجل. والأخ لا يقاسم الجد في الولاء، بل الأخ أولى، وابن الأخ أيضًا أولى من الجد لقوة البنوة. والأخ من الأب والأم مقدم على الأخ للأب. وإذا اجتمع أب المعتق (ومعتق) الأب فلا ولاء لمعتق الأب أصلاً، لأن على الميت ولاء مباشرة، فالولاء لعصبات [معتقة] وهو الأب. وكذلك قد يظن أن معتق أبي المعتق أولى من معتق المعتق لأنه يدي بالولادة حيث توسط الأب وهو غلط، لان الميت عليه ولاء مباشرة فلا حق فيه لمن يدلي بإعتاق أبيه. فروع في جر الولاء: قال الشيخ أبو محمد: "قال مالك ي ابن وابنة اشتريا أباهما فعتق عليهما، ثم أعتق الأب عبدًا فمات الأب، ثم مات مولاه، فميراث الأب بينهما على الثلث والثلثين، وميراث الولاء للابن وحده". "وكذلك لو كانت البنت هي معتقة الأب كله، لأنه إنما يورث بالولاء إذا عدم الميراث بالنسب، فولد الرجل يرث مواليه دون من أعتق أباه. ولو كان موضع الأخت أجنبيًا أعتق نصيبه لكان ميراث موالي الأب للابن دون الأجنبي الذي شاركه في عتق أبيه. ولو أن الابن والابنة اللذين أعتقا أباهما مات الابن أولاً فورثه أبوه، ثم مات الأب أو كان موضع البنت أجنبيًا اعتق نصيبه وترك الأب موالي، فأما الابنة فترث من أبيها النصف بالرحم ونصف النصف الباقي بالولاء. والباقي لأخيها الميت، ولها، في ولائه نصف فلها نصف ذلك الربع، فصار لها سبعة أثمان المال، والثمن لموالي أم أخيها، لها من موالي أبيها النصف، والنصف الذي لأخيها لها فيه نصفه فقط. وأما الأجنبي فإن لم يدع الأب وارثًا غيره فله ثلاثة أرباع ما ترك. وكذلك (من) مات بعد من مواليه، قال: وإن هلك الابن أولاً وترك بنتًا، وهلكت ابنة الأب وتركت ابنًا ذكرًا، ثم هلك الأب عن مال وموال، فلبنت ابنه النصف بالرحم فقط، ولابن البنت ثلاثة أرباع النصف الباقي، والثمن الباقي لموالي أم أخيها، لأن ابن البنت ورث ما لأمه من الولاء ولها نصف ولاء الأب، والنصف لأخيها، فجر إليها الأب نصف ولاء أخيها فورث (ابنها) نصف نصيبه أيضًا". وقال الشيخ أبو محمد أيضًا: "ابنتان اشترتا أباهما، ثم اشترت إحداهما مع الأب أخًا لها

هو ابن الأب، فعتق عليهما، ثم ماتت التي لم تشتر الأخ فمالها لأبيها، ثم ماتالأب فماله بين الابن والبنت أثلاثًا بالنسب، ولا مدخل للولاء. فإن مات الأخ، فلأخته النصف بالنسب وما بقي لمواليه، ومواليه: هي وأبوه الميت، فهو بينهما نصفان صار لها ثلاثة أرباع المال، وللأب الريع فهو لمواليه، ومواليه ابنتاه: هذه والتي ماتت قبله، فهو بينهمانصفان، صار لهذهسبعة أثمان المال، وللميتة قبل الأب الثمن يكون موروثصا عنها لموالي أبيها، وموالي أبيها: هي نفسها وأختها، صار للباقية سبعة أثمان المال ونصف ثمن، وللميتة قبل الأب نصف ثمن يكون لموالي أمها. وتصح المسألة من ستة عشر، فقد ورثت هذه الأخت مرة واحدة بالنسب وثلاث مرات بالولاء، مرة بصريح عتق أخيها، ومرة بصريح عتق أبيها، ومرة بما جر إليها أبوها من ولاء أختها. وقال أيضًا: "ابنتان اشترتا أباهما فعتق عليهما، ثم اشترت إحداهما مع الأب أما لها، فأعتق الأب نصيبه منها، ثم اشترت الأم مع التي اشترتها أخًا لها وهو ابن الأب والأم. ثم ماتت التي لم تشتر غير الأب فورثها أبواها: لأمها السدس ولأبيها ما بقي، ثم مات الأب فماله لابنه وابنته: للذكر مثل حظ الأنثيين بالنسب، ولا حق للمولى، ولا شيئ للزوجة، لا، نكاحها قد انفسخ بملكه بعضها. ثم ماتت الأم فميراثها بين ابنها وابنتها: للذكر مثل حظ الأنثيين بالنسب أيضًا. ثم مات الأخ، فلأخته النصف بالنسب، وما بقي لمواليه، وموالية: أخته هذه وأمه، فيصير للأخت ثلاثة أرباع المال، وللأم ربعه، وهي ميتة، فهو موروث عنها لمواليها، ومواليها: ابنتها هذه وزوجها، فهو بينهما نصفان، صار لها سبعة أثمان المال وللأب الثمن، فهو موروث عنه يكون لمواليه، ومواليه: ابنته هذه والميتة نصف ثمن، فهو موروث عنها لموالي أبيها، [وموالي أبيها]: وهي نفسها وأختها، فيصير للحية سبعة أثمان المال وثلاثة أرباع الثمن وربع الثمن وهو واحد من اثنين وثلاثين سهمًا للميتة، فهو (يورث) عنها لموالي أمها، وموالي أمها: أختها هذه وأبوها فهو بينهما نصفان، فتصير المسألة من أربعة وستين سهمًا، للبنت الباقية ثلاثة وستون سهمًا، وللأب سهم، فيختزل، إذ من يده خرج وإليه رجع، ويصير جميع المال للبنت الباقية، فقد ورثت مرة بالنسب وخمس مرات بالولاء، ثلاثًا بالصريح واثنين بالجر، فالأولى بصريح عتق أخيها، والثانية بصريح عتق أمها، والثالثة بصريح عتق أبيها، والرابعة بما جر إليها أبوها من ولاء أخيها، والخامسة بما جرت إليها أمها من ولاء أخيها".

كتاب التدبير

كتاب التدبير وهو إيجاب وإلزام. والنظر في أركانه وأحكامه [النظر الأول: في أركانه] أما الأركان فهي: اللفظ، والأهلية. أما اللفظ: فصريحه [قوله]: دبرتك، أو أنت مدبر، أو أنت حر عن دبر مني، أو أنت حر بعد موتي تدبيرًا، أو أنت عتيق عن (دبر). وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تفيد تعليق عتقه بموته على الإطلاق لا على وجه الوصية، كما إذا قيد بوجه مخصوص كقوله: "إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا، فإن هذا يكون وصية لا تدبيرًا، فأما لو اقتصر على قوله: أنت حر بعد موتي أو يوم أموت، فهذا يكون وصية ما لم ينو به التدبير. وقال أشهب: إذا قال هذا في صحته من غير إحداث وصية لسفر، أو لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة". فهو تدبير. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت مدبر، فلا يصير مدبرًا ما لم يدخل الدار. ولو قال: أنت حر قبل موتي بسنة، نظر، فإن كان السيد مليًا أسلم إليه لخدمته، فإذا مات نظر أيضًا، فإن كان الأجل حل والسيد صحيح كان العبد من رأس ماله ورجع بكراء خدمته بعد الأجل من رأس مال السيد، وإن حل وهو مريض فهو من ثلثه ولا رجوع له بخدمته. وإن كانالسيد غير ملي خورج العبد [وأوقف] خراجه، فإذا مضت السنة وشهر بعدها من السنة الثانية أعطي السيد خراج شهر من السنة الماضية (بقدر ما ينوب كل شهر من الخراج، فكلما مضى شهر من هذه أعطي خراج شهر) من [تلك].

النظر الثاني: في أحكامه

الركن الثاني: [الأهلية]. ولا يصح التدبير من المجنون وغير المميز. وينفذ من المميز، ولا ينفذ من السفيه، وينفذ من ذات الزوج، وإن لم يكن لها سوى ما دبرت. قال ابنالقاسم: لأنها لا يخرج [من] يدها شيئ، بخلاف العتق. وقال سحنون: لا يجوز لها ذلك إلا بإذن زوجها. وقاله مطرف وابن الماجشون. وأما الكافر الأصلي فيصح تدبيره لعبده بعد إسلامه، ثم يعتق عليه في قول مطرف لأنه منعنا من بيعه. ويؤاجر عليه في قول ابن القاسم. ومن دبر نصيبه من عبد مشترك لم يسر إلى الباقي، لكن يتقاويانه فيكون رقيقًا كله أو مدبرًا كله. وروي: إن شاء الشريك قوم عليه، وإن شاء قاواه. وروي أيضًا: إن شاء ترك نصفه مدبرًا. وكذلك لو دبر بإذن شريكه بقي نصفه مدبرًا، ولا حجة للعبد في التقويم. وروى ابن حبيب عن مطرف: أنه إن شاء (قاوى) أو (قوم) أو تماسك. قال مطرف: سواء كان الذي دبر موسرًا أو معسرًا. وروى أشهب في من دبر حصته بإذن الشريك أو بغير إذنه، أنه ليس للشريك الرضا بالتماسك، ولابد من المقاواة. النظر الثاني: في أحكامه: وله أحكام: الحكم الأول: ويرتفع بقتل سيده عمدًا، أو باسترقاق الدين له وللتركة، أو بمجاوزة الثلث. وهذا القسم يرفع كمال الحرية لا أصلها، فإذادبر عبدًالا مال له غيره عتق بموته ثلثه. وكذا لو دبر في الصحة. ولو ضاق الثلث وكان للسيد دين مؤجر على حاضر بيع بانقد فإن كان على غائب قريب الغيبة، وهو حال استوى بالعتق حتى يقبض الدين. وإن كان بعيد الغيبة، أو على حاضر معدم، بيع المدبر للغرماء الآن. فإن حضر بعد ذلك الغائب، أو أيسر المعدم، والعبد بيد الورثة، أعتق في ثلث ذلك بعد قضاء الدين. واختلف إذا خرج عن أيديهم ببيع، فقال ابن القاسم فيالعتبية: "يكون ما يقتضي من الدين للورثة ولا شيئ فيه للمدبر". وقال عيسى وأصبغ: "يعتق منه حيث كان". قال الشيخ أبو محمد: "والذي قال عيسى

هو المعروف عن مالك وأصحابه في كل ديوان ذكرناه. قال أبو الحسن اللخمي: "وهو ظاهر الكتاب، والأول أقيس"، ولا يرتفع بإزالة الملك، إذ لا يجوز له بيعه ولا المعاوضة عليه ولا الوصية به، ولا يخرجه (عن) ملكه إلا بالحرية، ولا له رفعه بالرجوع عنه إذ هو إيجاب لازم لموجبه. ولو جنى لم يبع في جنايته، وأسلمت خدمته فيختدمه المجني عليه بقدر أرض الجناية. إن شاء السيد، وإن شاء افتدى خدمته بقدر أرض الجناية. ثم إن استوفى من خدمته أرش الجناية والسيد حي رجع إليه مدبرًا على حاله. وإن مات السيد قبل ذلك وله مال يخرج المدبر من ثلثه، عتق، وكان ما بقي من أرش جنايته دينًا في ذمته. وقيل: لا شيئ عليه مما يبقى من أرش جنايته. فإن لم يكن لسيده مال غيرهعتق ثلثه ورق ثلثاه، وكان عليه ثلث ما بقي من أرش جنايته دينًا في ذمته، على ما تقدم، وكان ثلثًا ما بقي متعلقًا برقبته، وخير الورثة بين إسلام ثلثيه في الجناية وافتكاكه بثلثي ما بقي من الأرش. فإن جرح اثنين تحاصًا في خدمته. ولو جرح واحدًا فأسلم إليه ليختدمه فجرح آخر بعد إسلامه تحاصًا أيضًا في خدمته ببقية جناية الأول، وجملة جناية الثاني بخلاف القن لأنه قد ملكه المجني عليه إذا اسلم إليه، فإذا جنى خير هذا الذي قد ملكه كما خير الأول. والمجني عليه في المدبر لم يملك الخدمة لأنه إنما تجب له أولاً فأولاً، ولايكون أولى بما يأتي من الثاني. وخرج فيها الشيخ أبو القاسم وجهًا آخر وهو: أن يخير المجروح الأول في افتكاكه أو إسلامه، فإن افتكه اختص بخدمته، وإن أسلمه بطل حقه من خدمته. فرع: روى أشهب أنه إذا جنى المدبر الصغير الذي لا عمل عنده لم يسلم حتى تبلغ (الخدمة)، فإن مات قبل ذلك سقط حق المجني عليه. وكذلك المدبرة لا عمل عندها ولا صنعة، قيل: فلم تؤخر المدبرة الكبيرة التي لا عمل عندها، قال: قد يموت سيدها أو يصيب مالاً أو يكون شيئ. الحكم الثاني: السراية. وولد المدبر من أمته بمنزلته، وكذلك ولد المدبرة من غير سيدها بمنزلتها. وإذا مات السيد والمدبرة حامل عتق معها حملها. وإن كانت حاملاً عند التدبير فولدها

أيضاً بمنزلتها، علم بحملها أو لم يعلم. واختلف في أمة المدبر إذا حملت منه بعد التدبير ثم عتق هل [تصير بذلك] أم ولد أم لا؟ الحكم الثالث: فيمن دبر عبيدًا، فإن حمل الثلث جميعهم خرجوا منه، وإن ضاق بهم، فإن كانوا مترتبين قدم الأول فالأول وإن كانوا مدبرين في كلمة واحدة تحاصوا في الثلث بلا سهم. الحكم الرابع: في ماله في حياة سيده وبعد وفاته. أما في حياة السيد، فللسيد أخذ ماله ما لم تحضره الوفاة أو يفلس وليس للغرماء أخذ ماله. وأما حكمه بعد وفاة سيده فإنه يقوم به. (قال ابن القاسم: "إن حمله الثلث بماله عتق، وإن لم يحمله بماله عتق منه بحمل الثلث، وأقر ماله بيده". قال سحنون عن ابن القاسم: إذا كان قيمة المدبر مائة دينار وماله مائة دينار وترك سيده مائة دينار، فإنه يعتق نصف ويقر ماله بيده، لأن قيمته بماله مائتان، ولاينزع منه شيئ، هذا قول مالك. وقال ابن وهب: "يجمع المدبر وماله إلى مال الميت، فإن خرج المدبر بماله في ثلث ذلك عتق وكان ماله في يديه، وإن كان الثلث يحمل رقبته وبعض ماله عتق وكان له من ماله ما حمله الثلث مع رقبته. وإن لم يدع غير المدبر وماله، وقيمة رقبته مائة وله [ثمان] مائة، عتق المدبر وكان له مائتا دينار من ماله، هكذا يحسب وكذلك يضم ماله إلى ما ترك الميت).

كتاب الكتابة

كتاب الكتابة وهي غير واجبة علىالسيد، فلا يجبر عليها إن طلبها العبد، بقيمته أو بأكثر أو بأقل، ولا يجبره السيد عليها، قاله ابن القاسم وأشهب وعبد الملك. وروى بعض البغداديين أن له إجباره عليها. ثم لها أركان وأحكام. النظر الأول: في أركانها، وهي أربعة: الركن الأول: الصيغة وهي أن يقول: كاتبتك على خمسين في نجم أو نجمين فصاعدًا، كل نجم كذا، وإن لم يقل: إن أديته فأنت حر. ولو قال: أنت حر على ألف، فقيل، عتق في الحال والألف في ذمته. ولو باع العبد من نفسه صح، وله الولاء. وكذلك لو دس من اشتراه، أو اشترط أنه يوالي من شاء. الركن الثاني: العوض. وشرطه أن يكون دينًا منجمًا أو مؤجلاً. قال الأستاذ أبو بكر: ظاهر قول مالك أن التنجيم والتأجيل شرط في الكتابة، وذلك أن مالكًا قال: لو كاتبته على ألف [درهم]، ولم يذكر أجلاً، نجمت عليه، وإن كره السيد، بقدر سعاية مثله. قال:

وعلماؤنا النظار يقولون: إن الكتابة الحالة جائزة، ويسمونها قطاعة، قال: وهو القياس. ثم إذا تقرر الأجل فهو لعبد لا عليه، وليس من شرطه أن يكون مما يصح أن يكون ثمنًا (المبيع) أو أجرة لمستأجر، بل تجوز الكتابة على الوصفاء من حمران أو سودان وإن لم يصفهم، ويكون للسيد الوسط من ذلك. ويجوز على قيمة المكاتب، وتكون عليه قيمته وسط من ذلك، وتجوز على عبد فلان، عند ابن القاسم، وقال أشهب: لا تجوز وتفسخ إلا أن يشتريه قبل الفسخ. وقال محمد: فإن لم يبعه أدى قيمته. وقال ابن ميسر: لا يتم له شيئ إلا به. وأما إن كاتبه على غرر كالعبد الآبق والبعير الشارد والجنين، أو على دين على غائب لا تعلم حياته، فقال أشهب: لا تنفسخ الكتابة وإن كنت أكره ما فعلا، لإجازة غير واحد الربا بين العبد وسيده. ولا يعتق حتى يقبض السيد ما شرط. ولو شرط في الكتابة أن يشتري منه شيئًا مضت الكتابة ولم يلزمه الشراء. ولو كاتبه وباعه شيئًا على عوض واحد دفعة واحدة صح، ولزم البيع والكتابة، ولو كانت ثلاثة أعبد على ألف في صفقة لصح. الركن الثالث: السيد وشرطه أن يكون مكلفًا أهلاً للتصرف ولا يشترط أن يكون أهلاً للتبرع. فتجوز كتابة القيم لعبد الطفل. وإذا كاتب المريض عبده بغير محاباة صح، كالبيع. وقيل: هو كالعتق، فيخير الورثة بين إمضاء الكتابة وبين عتق ما حمل الثلث منه إن قصر عن قيمته. وقيل: إن كانت محاباة كان كذلك، وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض اعتبرنا خروج الأقل من الثلث. فإن كانت قيمة الرقبة أقل اعتبر خروجها من الثلث. وإن كانت النجوم أقل فليس لهم اعتبار سواها. وكذلك لو أوصى بإعتاقه أو وضع النجوم عنه. ولو اقر في المرض بقبض نجوم من كاتبه في الصحة جاز إقراره إن ترك ولدًا ولم يتهم، فإن ترك كلالة، والثلث لا يحمله، لم يصدق إلا بينة، وإن حمله صدق كما لو أعتقه. وقال غير ابن القاسم: لا يصدق وإن حمله الثلث إذا ورث كلالة (إذ) لم يرد به ثلثًا، وقاله ابن القاسم أيضًا. والكافر تصح كتابته إلا أن يكون اشترى عبدًا مسلمًا فكاتبه فلا تصح كتابته، على إحدى الروايتين، بل يفسخ العقد. ولو كاتب عبدًا كافرًا ثم أسلم العبد بيعت الكتابة من مسلم. الركن الرابع: العبد، وله شرطان

النظر الثاني: في أحكامها

الشرط الأول: أن يكون قويًا على الأداء، واختلف في الصغير الضعيف عن الأداء إذا لم يكن له مال، (فقال ابن القاسم: لا بأس أن يكاتب. وقال أشهب: إن كاتب فسخت كتابته، إلا أن يفوت بالأداء، أو يكون له مال يؤدي منه فيؤدي عنه ويعتق. وكذلك الأمة التي لا صنعة لها. رواه محمد عنها). وإذا فرعنا على قول أشهب في منع الصغير من الكتابة، (فقد روى الدمياطي عن أشهب: أن ابن عشر سنين لا تجوز كتابته) قال القاضي أبو الوليد: "وهي حد بين الصغير والكبير في الضرب على الصلاة والتفريق في المضاجع، لقوته على العمل والانفراد. فمن زاد عليها زيادة بينة احتمل أن يجيز أشهب كتابته لقوته على العمل والسعاية". الشرط الثاني: أن يكاتب العبد كله، فلو كاتب نصف عبده لم يصح. ولو كاتب من نصفه جزء جاز لحصول الاستقلال. ولو كاتب أحد الشريكين لم يصح وإن أذن شريكه. ولو كاتباه على مال واحد جاز، وانقسمت النجوم على قدر ملكيهما. فإن شرطًا تفاوتًا في القسمة فقد انفردت كل صفقة فلا تصح، وإن كانت بإذن الشريك. هذا بيان ما يصح من الكتابة. ثم الفاسد يساوي الصحيح في أنه يحصل العتق بالأداء، ويفارقه في أنه إذا أخذ ما علق به الأداء رده، إن كان مما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير والميتة، ورجع على العبد بالقيمة لفساد العوض. النظر الثاني: في أحكامها، وهي خمسة: الحكم الأول: ما يحصل به العتق، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أن يحصل في اصحة بأداء النجوم وبالإبراء وبالاعتياض. ولا يحصل بجزء من النجوم جزء من الحرية حتى يؤدي الكل. ولو كاتب عبدين دفعة واحدة، لم يعتق أحدهما بأداء نصيبه قبل أداء الثاني، لأنهما حميلان. وكذلك لو كاتب الشريكان عبدًا، لم يعتق نصيب أحدهما ما لم يؤد جميع النجوم إليهما. المسألة الثانية: إذا كاتبا عبدًا ثم أعتق أحدهما نصيبه، فمحمله محمل وضع المال، لأنه

انعقد لشريكه عقد عتق، فلا ينقل عنه ما عقد من معاني الولاء بالتقويم. قال ابن سحنون عن أبيه: أخبرني بعض أصحابناعن مالك أنه قال: فيمن أعتق نصف مكاتبه: إنه وضيعة، إلا أن يريد العتق ويعمد له فهو كذلك. وفي كتاب محمد: في من قال لعبده: نصفك حر إن كلمت فلانًا فكاتبه، ثم كلم فلانًا، فليوضع عنه نصف ما بقي من الكتابة يوم حنث، فإن عجز رق كله ولا يلزمه حنث. المسألة الثالثة: [إذا] قبض العبد الموصوف الذي كاتبه عليه فوجده معيبًا اتبعه يمثله ولا يرد عتقه. ولو كان بعينه رجع بقيمته ولم يرد العتق. المسألة الرابعة: إذا قاطعه على عبد فاعترف مسروقًا، رجع على المكاتب بقيمة العبد، فإن لم يكن له مال عاد مكاتبًا، عند ابن نافع. وقال أشهب: لا يعود مكاتبًا إذا تمت حريته ويتبع بذلك. قال مالك: وإن قاطعه على وديعة أودعت عنده فاعترفت، رد عتقه. قال ابن القاسم وغيره:" إن غره بما لم يتقدم له فيه شبهة ملك رد عتقه، وإن تقدمت له فيه شبهة ملك مضى عتقه وأتبع بقيمة ذلك العوض. الحكم الثاني: حكم الأداء وفيه سبع مسائل: المسألة الأولى: إنه يندب إلى الإيتاء بحط شيئ من آخر النجوم ولا يجب عليه. المسألة الثانية: لو عجل النجوم قبل المحل أجبر السيد على القبول، إذ الأجل حق للمكاتب لا عليه، كما تقدم. فإن كان السيد غائبًا ولا وكيل له دفع ذلك إلى الأمام ونفذ له عتقه. "وإن كان السيد شرط عليه مع الكتابة سفرًا أو خدمة فعجل الكتابة فهل يسقط عنه ما شرط عليه أم لا؟، فيها روايتان. وإذا فرعنا على عدم السقوط فما الذي يلزمه؟ روايتان، أيضًا، إحداهما: أنه يؤديه بعينه. والأخرى أنه يؤدي قيمته. ومن الأصحاب من يقول: إن كان

خدمة أو منفعة سقطت، وإن كان نوعًا آخر من المال لزم ولم يسقط". فرع: ولو قال السيد للمكاتب: إن عجلت بعض النجوم فقد أبرأتك (عن) (الباقي)، فعجل، صح الإبراء والعتق. ولو عجل البعض [بشرط] الإبراء [صح] الأداء وعتق أيضًا. وكذلك له أن يفسخ ما على المكاتب من عرض أو عين، حل أو لم يحل، في عرض مخالف للعرض2 الذي عليه أو من صفته، ولا بأس أن يؤخره ويزيده، أو أن يفسخ الدنانير التي عليه في دراهم إلى أجل، ويعجل عتقه، بخلاف البيوع إذ الكتابة ليست بدين ثابت يحاص (به) الغرماء. المسألة الثالثة: لتعذر النجوم أسباب أربعة: السبب الأول: العجز، فإذا عجز عن أداء النجوم، أو عن أداء نجم منها رق، وفسخت الكتابة بعد أن يتلوم له الإمام بعد الأجل. ويجتهد الإمام في أمر التلوم فيمن يرجى له دون من لا يرجى له. السبب الثاني: إذا غاب وقت المحل بغير إذن السيد فله الفسخ عند السلطان. وكذلك لو شرط عليه: إنك إن عجزت عن نجم من نجومك فأنت رقيق، لم يكن عاجزًا إلا عند السلطان، والشرط في ذلك باطل. السبب الثالث: إن امتنع مع القدرة لم يكن له الفسخ وأخذ النجم ما له. إذ ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر. وقال ابن كنانة وابن نافع: له أن يعجز نفسه وإن كان له مال ظاهر. فأما إذا لم يكن له مال ظاهر فله تعجيز نفسه. وقال سحنون: لا يجوز تعجيزه إلا عند السلطان. ولو أراد السيد تعجيزه، ولم يرد هو ذلك وقال: أنا أودي، فليس للسيد ذلك إلا عند السلطان. السبب الرابع: الموت. وتنفسخ الكتابة بموت العبد وإن خلف وفاء، إلا أن يكون معه من يقوم بها من ولد دخل معه فيها بالشرط أو بمقتضى العقد، فيؤدي الكتابة حالة إن ترك

وفاء، ثم له ما بقي إرثاً دون سائر ولده الأحراروالذين لم يدخلوا معه في كتابته من العبيد. وروي: أنه يرثه من يعتق على الحر، وهم الآباء والأبناء والإخوة في مشهور المذهب. وروي أيضًا، أنه يرثه كل من يرث الأحرار. قال محمد: وآخر قول مالك: إن الزوجة لا ترثه، ولكنها تعتق في ما ترك. وكذلك روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، أنها لا ترثه ولا يرثها، ولا يرجع أحدهما على الآخر بما أدى عنه في الكتابة. وهذا كله ففي من كان معه في الكتابة أو ولد له فيها وإن لم تعقد عليه. فأما من لم يكن معه في الكتابة فلا يرث من هذا المال شيئًا، حرًا كان أو عبدًا، ولدًا كان أو غيره، لأن المكاتب مات مكاتبًا مكاتبًا لا حرًا ولا عبدً. فإن لم يترك وفاء، وقوي ولده على السعي، سعوًا وأدوا باقي الكتابة. وإن كانوا صغارًا أدى عنهم إن كان في المال وفاء، وإلا تجر لهم فيه وأدى على نجومه إلى بلوغهم، فإن قووا على السعي وإلا رقوا. المسألة الرابعة: في ازدحام الديون والنجوم ولا يحاص السيد غرماء المكاتب بالكتابة أو بالقطاعة في موت أو فلس، وأهل ديون المكاتب أولى من السيد في محل النجم. ثم للسيد تعجيزه بذلك أو تأخيره، ولو أدى كتابته وعتق، ثم أراد غرماؤه رد ذلك، فإن علم أن ما دفع من أموالهم فلهم أخذه ويرجع رقا، وإن لم يعلم ذلك مضى عتقه ولا طلب على سيده. المسألة الخامسة: إذا كاتبا عبدًا فليس لأحدهما أن يفرد بقبض نصيب نفسه لأن كل ما في يد العبد كالمشترك بينهما. ولو شرطا أن يكون لكل واحد أن يقبض دون صاحبه كان الشرط فاسدًا. ولو عقدا الكتابة مفترقين فسدت، وإن كانت متساوية في العدد والنجوم. فإن نزلت فابن القاسم يسخها، وغيره بمضيها، ويسقط الشرط فيكون اقتضاؤهما واحدًا. وقد قال ابن القاسم: إنه إذا شرط أن يصيب مكاتبته، أو استثنى ما في بطنها، أن الكتابة ماضية والشرط باطل، فأما إن رضي أحدهما بتقديم الآخر على قبض نصيبه فذلك جائز. ثم إن عجز العبد أتبعه شريكه بحصته مما قبض. ولا يجوز أن يقاطعه أحدهما دون الآخر، فإن أذن له فقاطعه من عشرين مؤجلة، هي حصته، على عشرة معجلة، ثم مات

المكاتب عن مال، فللآخر أن يأخذ منه جميع ما بقي له من الكتابة بغير حطيطة، حلت أو لم تحل، ثم يقتسمان ما بقي. ولو عجز قبل أن يقبض هذا مثل ما أخذ المقاطع، خير المقاطع بين رد ما فضل به شريكه إليه ويعود العبد بينهما، وبين إسلام حصته من العبد إلى شريكه رقا. قال محمد: ولو اقتضى مثل ما أخذ المقاطع فأكثر، ثم عجز المكاتب، وقد قاطع بإذن شريكه، فلا رجوع للمقاطع عليه. ولو مات المكاتب ولم يدع شيئًا لم يرجع على المقاطع بشيئ. ولو ترك شيئًا أخذ منه الذي لم يقاطع ما بقي له، وقسما ما بقي. ولو بقي للمقاطع شيئ لتحاصا فيه بما بقي لكل واحد. قال: ولو قاطعه بغير إذن شريكه، ثم عجز أو مات، وقد استوفى الآخر مثل ما أخذ المقاطع، أو ترك المكاتب الميت ما يأخذ منه الآخر ما بقي له أو مثل ما أخذ المقاطع، فلا حجة له، لا يختلف في ذلك ابن القاسم وأشهب. فرع: لو ادعى أنه وفاهما النجوم، فصدق أحدهما وكذب الآخر وحلف، فله أن يشارك المصدق فيما أقر بقبضه، ولو أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، ثم لا تراجع بين المصدق والمكاتب بما يأخذه المكذب من أحدهما، إذ موجب قولهما أنه ظالم. المسألة السادسة: في مكاتبة الجماعة. ولا بأس بمكاتبة السيد عبيده في كتابة واحدة، ثم كل واحد منهم ضامن عن بقيتهم وإن لم يشترط ذلك، بخلاف حمالة الديون. ولا يعتق أحد منهم إلا بأداء الجميع، وللسيد أخذهم بذلك، فإن لم يجد فله أخذ الملي منهم بالجميع، ولا يوضع عنهم شئ لموت أحدهم. وإن أدى أحدهم عن بقيتهم رجع من عتقوا بأدائه على بقيتهم على الحصص، بقدر قسمة الكتابة عليهم بقدر قوة كل واحد منهم على الأداء يوم الكتابة، لا على قيمة رقبته، ولا يرجع من يعتق عليه منهم لو ملكه بشيئ، لأنه افتكه من الرق، فكان ذلك كالشراء. وإن أدى أحدهم الكتابة حالة رجع بها على النجوم. وأما عبد لك وبعد لغيرك فلا يجوز لكما جمعهما في كتابة واحد لغرر الحمالة. ولو أعتق السيد أحد العبيد ممن له قوة على الكسب، لم يتم عتقه إلا بإجازة معه في الكتابة، إذا كان المجيز قويًا على السعاية، ويوضع عنه حصة المعتق ويسعى فيما بقي. وله عتق من أزمن منهم ثم لا يوضع عمن بقي بسببه شيئ. المسألة السابعة: في النزاع، وله صور: أحداها: أن يختلف السيد والعبد في أصل الكتابةن أو أصل الأداء، فالقول قول السيد. وثبت دعوى العبد بشاهد وامرأتين في الأداء، ولا تثبت دعوى الكتابة بذلك، ولكن تثبت

دعوى قبض النجم [الأخير]، وإن تعلق به العتق، كما تقدم. الصورة الثانية: إن تنازعا في قدر النجوم أو جنسها أو أجلها، فقال ابن القاسم: القول قول المكاتب، لا، العتق قد حصل بالاتفاق وهو مدعى عليه. وروى محمد بن عبد الحكم عن أشهب: أنه يرى أن اقول قول السيد، قال: والحجة له أن يقول: هو مملوكي، ولا يخرج إلى الكتابة إلا بما أقر له به. الصورة الثالثة إذا مات المكاتب وله ولد من معتقه، فقال السيد: عتق قبل الموت وجر إلي ولاء ولده، فالقول قول الأم، لأن الأصل بقاء الولاء لهم. الحكم الثالث: حكم التصرفات، إما من السيد، وإما من العبد. أما السيد، فلا يصح له بيع رقبة المكاتب، ولا انتزاع ماله، لكن يبيع كتابته ويبقى مكاتبًا، فإن وفي كتابته لمشتريها عتق وولاؤه لعاقدها، وإن عجز استرقه مشتريها. ويشترط في الثمن التعجيل، والمخالفة لجنس ما عقدت الكتابة به، فإن كانت ذهباً أو ورقًا فبعرض، وإن كانت عروضًا فبذهب أو ورق، أو بعرض مخالف لها. هذا حكم الأجنبي. أما السيد فيصح أن ينقله إلى أي عوض اتفقا عليه، ولا يجوز بيع نجم من نجومها، وفي بيع الجزء منها روايتان، إحداهما: المنع. والأخرى: الجواز. ولو أوصى بالنجوم حاز من الثلث، وليس للوارث تعجيزه. ولو أوصى بكتابته لرجل، وأوصى بعنقه دخل في الثلث الأقل من قيمة رقبته أو قيمة كتابه. وقال بعض الرواة: الأقل من قيمة الرقبة أو الكتابة. أما تصرفات المكاتب، فهو فيها كالحر، إلا ما فيه تبرع أو خطر، فال ينفذ عتقه، وهبته وشراؤه قريبة أو بالمحاباة وبيعه بالغب، وله أن يكاتب على وجه النظر، ولا يتزوج (بغير) إذن سيده، وله التسرر من غير [إذنه]. ثم إن حملت منه أمته وعتق كانت له أم ولد بذلك الحمل. ويرى (أنها) لا تكون له أم ولد به. والمكاتبة لا (تزوج). وكل ذلك لو جرى بإذن السيد جاز. ولا يكفر المكاتب إلا بالصيام. وليس للمكاتب السفر البعيد الذي يحل عليه فيه نجم إلا بإذنه. ولو اشترى المكاتب من يعتق على سيده صح، فإن عجز رجع إلى السيد وعتق عليه.

الحكم الرابع: حكم الولد. وتسري الكتابة من المكاتبة إلى ولدها الذي تلده بعد الكتابة من زنى أو نكاح. وكذلك ولد المكاتب الذين حدثوا من أمته بعد عقد كتابته يتبعونه كماله، دون من كان قبل عقد الكتابة لولادة أو حمل أو من زوجة، إلا أن يشترطهم معه في كتابته فيعتقون بعتقه. فرع: إذا وطئ السيد مكاتبته فقد تعدى، ولا حد عليه، ويعاقب إن لم يعذر بجهل، ولا يجب المهر ولا ما نقصها إن طاوعت. وإن أكرهها فعليه ما نقصها. وهي بعد وطء السيد على كتابتها. فإن حملت خيرت في التعجيز، وتكون أم ولد، أو البقاء على كتابتها، فإن اختارت التعجيز ولم يكن معها أحد في الكتابة أو كان معها أقوياء فرضوا حط عنهم حصتها من الكتابة، وكانت أم ولد، وإن اختارت البقاء على كتابتها فهي مستولدة ومكاتبة، ونفقة حملها على سيدها، كالمبتوتة، ثم إن أدت النجوم عتقت، وإلا عتقت بموت السيد. الحكم الخامس: حكم الجناية. وإذا جنى المكاتب على أجنبي أو على سيده لزمه الأرض، فإن أداه بقي على كتابته، وإن عجز عنه رق، ثم يخير سيده، إن كانت الجناية على أجنبي، بين إسلامه أو فكاكه بالأرض. ولو جنى عبد من عبيد المكاتب فله فداؤه على وجه النظر. ولو أعتق السيد مكاتبه بعد الجناية لزمه الفداء. ولو قتل المكاتب انفسخت الكتابة، وللسيد القيمة على أنه عبد مكاتب في قوة مثله على الأداء وصفته.

كتاب أمهات الأولاد

كتاب أمهات الأولاد والنظر فيما تصير به [الأمة] فراشًا، وفيما تكون به أم ولد، وفي أحكامها بعد الاستيلاد. النظر الأول: فيما تصير به الأمة فراشاً، وذلك بالإقرار بالوطء. فمن أقر بوطئ أمته صارت له فراشًا، ولحق به ما أتت به من ولد لمدة لا تنقص عن ستة أشهر ولا تزيد على أكثر مدة الحمل. وسواء أتت به في حياته أو بعد وفاته أو بعد أن أعتقها، إلا أن يدعي استبراء يطأها بعده فيصدق ولا يلحقه الولد. ولو ادعت أنها حملت منه بعد الاستبراء لانه وطئها بعده، وأنكرها فطلبت يمينه لم يكن لها تحليفه أنه ما وطئها بعد الاستبراء. وقال المغيرة: إذا أقر بوطئها لم يزل الولد من فراشه إن أتت به، إلا أن يقول: إنه استبرأها بثلاث حيض، ويحلف على ذلك. قال سحنون: أصحابنا كلهم يقولون: يجزيه من الاستبراء حيضة، ولا يلزمه في ذلك يمين. قال الشيخ أبو محمد: "لو أتت بالولد بعد الإقرار بالوطء لمدة تزيد على أكثر مدة الحمل، فهذه أولى أن لا يلحق من صورة دعوى الاستبراء. وكذا في الولد الثاني الذي لا يمكن إلا من وطئ آخر، وكأن هذا يرجع إلى أنها تصير فراشًا بمجرد الإقرار". ولو ادعى العزل لم يندفع عنه (الحوق) الولد، ولو أقر بإتيانها في غير المأتي، كالدبر وبين الفخذين، مع الإنزال لحق به الولد. النظر الثاني: فيما تكون به أم ولد. ومن استفرش أمته فأتت منه يولد حي أو ميت،

النظر الثالث: في أحكامها

مخلق أو غير مخلق مما يقول النساء: إنه منتقل في أطوار الخلقة كالعلقة والمضغة، فهي بذلك أم ولد. وكذلك لو ادعت أنها أسقطت، ورأى النساء عليها أثر ذلك. ومن أقر في مرضه يحمل أمته، وبولد أمة له أخرى، وبوطء أمة ثالثة لم يدع استبراءها فأتت بولد يشبه أن يكون من وطئه، أولادهن أجمع لاحقون به، وهن أمهات أولاد له. ومن قال في أمة: هذه ولدت مني ولا ولد معها، فإن كان ورثته ولده صدق، وعتقت من رأس المال، وإن لم يترك ولدًا لم يصدق ورقت، إلا أن يكون معها ولد أو بينة تثبت. وروي أيضًا: لا تعتق وإن ورثه ولده إذا لم يكن معها ولد كقوله: أعتقتها في صحتي، فإنها لا تعتق في ثلث ولا رأس مال، وعلى هذا أكثر الرواة. ولو نكحجارية فولدت ولدًا رقيقًا، ثم اشتراها لم تصر بذلك أم ولد. وكذلك لو ولدت منه ولدًا حرًا في نكاح غرور أو وطء شبهة، ثم اشتراها، لم تصر بذلك أم ولد له. أما إذا اشترى زوجته حاملاً منه فولدت عنده، فإنها تصير بذلك أم ولد له، على الرواية المشهورة. النظر الثالث: في أحكامها. وإذا صارت الأمة أم ولد تثبت لها حرمة تمنع من بيعها وهبتها وإجارتها وإسلامها في جناية، بل يفكها سيدها بالأقل من أرش الجناية يومها، أو قيمة رقبتها يوم الحكم. وكذلك لو غنمها المسلمون من يد العدو وقد كان سباها، فإن سيدها يجبر على فدائها بجميع ما وقعت به في القسم، وإن كان فقيرًا أتبع به دينًا. وقال المغيرة: يفتديها بالأقل من قيمتها أو مماوقعت به في القسم كالجناية، ولا يجزيه عتقها عن سبب موجب للعتق، ولا يبقى لسيدها فيها سوى الاستمتاع وما يقرب من الاستخدام الذي لا يشق مثله، فإذا مات عتقت عليه من رأس ماله لا يردها دين كان قبل حملها أو بعده، وولدها بعد الاستيلاد دون من ولدت قبله، أعني من غير سيدها حكمهم حكمها، إلا في الاستمتاع (والخدمة، فلا يحل له) الاستمتاع بمن هو محل له من ولدها، وله استخدام ولدها، ثم يعتقونبموته. وما جني عليها أو على ولدها فأرش الجناية له. وكذلك القيمة في جناية القتل فيها وفيهم له، واختلف في إنكاحه لها بغير رضاها. ثم حيث صححنا أو رضيت فهو مكروه للدناءة. فروع: الفرع الأول: إذا باع أم ولده فسخ بيعه وإن أعتقها المشتري، ولو ماتت قبل ذلك لكانت مصيبتها من البائع.

الفرع الثاني: لو حني عليها فمات سيدها قبل قبض الأرش من الجاني، فهل يكون له فيورث عنه، أو يتبعها كمالها؟ في ذلك روايتان. الفرع الثالث: إذا وطئ الأمة أحد الشريكين فحملت، فإن كان موسرًا غرم نصف قيمتها يوم الحمل، وإن كان معسرصا قومت عليه وأتبعه بنصف قيمتها إن شاء الشريك، أو بيع ذلك النصف المقوم فيما يجب علهي من القيمة، ويتبعه بنصف قيمة الولد. الفرع الرابع: إذا وطئها جميعًا فحملت، فادعى كل واحد منهما أنه منه، فلتدع لها القافة فبأيما ألحقته كان إبنًا له، وكانت الأمة أم ولد له، مسلمًا كان أو ذميًا، حرًا أو عبدًا فإن أشركهما القافة فيه (وإلى) إذا كبر أيهما شاء، عند ابن القاسم، ثم لا يكون إلا مسلمًا. وكذلك في وطء البائع والمشتري في طهر واحد، فإن مات قبل الموالاة فهو ابن لهما. وقال مطرف وابن الماجشون وابن نافع: يلحق بأنصحهما شبهًا، ولا يترك وموالاة من أحب. وقال محمد بن مسلمة: إن عرف الأول منهما لحق به، لا، هـ كان حملاً قبل أن يصيبها الآخر، وإنما إذا ولد غيره قال: وإن جهل الأول لحق بأكثرهما شبهًا فيما يرى من الرأس والصدر لأنه الغالب. وحكي عن سحنون قول رابع: إنه يبقى ابنًا لهما جميعًا، ولا يوالي (أحدًا).

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في أركانها وهي أربعة: الركن الأول: الموصي. وتصح الوصية من كل حر مميز مالك، ولا تصح من العبد ولا من المجنون والصبي الذي لا يميز. وتصح من السفيه المبذر، إذ لا يخاف عليه الفقر بعد موته. وتصح وصية المميز إذا كان يعقل وجه القرب وأصاب وجه الوصية. وذلك بأن لا يكون فيها اختلاط. والكافر تنفذ وصيته، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم. ولا تنفذ وصية المرتد وإن تقدمت على حال ردته. الركن الثاني: الموصى له وتصح الوصية لكل من يتصور له الملك، فلو أوصى لحمل امرأة فانفصل حيًا صحت الوصية. ولو أسقطته بعد موت الموصي ولم يستهل صارخًا بطلب الوصية. ولو أوصى (لحمل) سيكون صح، وهو ظاهر إطلاق القاضي أبي محمد. وتصح الوصية للعبد. ثم الموصي به له دون سيده، إلى أن ينتزعه منه، ولا يفتقر في القبو ل إلى إذن سيده، فإن كان عبد وارث فلا تصح الوصية له إلا باليسير التافه، كالثوب وغالدينار وشبه ذلك مما يرى أنه نحا به ناحية العبد. ومن أوصى لعبده بثلث ماله، والثلث بحمل رقبته، عتق كله عند ابن القاسم، لأن ثلثه معتق بملكه له بالوصية له به، وملك ثلث التركة، يقوم عليه ثلثاه فيما يملكه من المال، فغن بقي من الثلث بقية أخذها. ولو كان الثلث لا يحمل رقبته، فعجز ما بقي له من الثلث عن تتمة ثلثية، فعند ابن القاسم: تقوم بقيته في ماله، إن كان له مال، وعند ابن وهب: لا يقوم في ماله، ويرق البقية منه. وقال المغيرة: لا يعتق إلا ثلثه فقط، لا، ما ملك من ثلث نفسه لا يقدر على رده فأشبه

الميراث، وبقية الثلث مال له فأشبه من ورث بعض من يعتق عليه لأنه لا تقوم عليه البقية. وقال عبد الملك: يعتق ثلثه في نفسه، ويستتم عتقه فيما أوصى له من بقية ماله، ويبدأ على الوصايا إلى تمام رقبته وما فضل يعاول له به. وتصح الوصية لأم الولد والمكاتب والمدبر إن عتق من الثلث، وإلا فلا لأنه عبد وارث. أما المسجد والقنطرة والجسر وما أشبه ذلك، وإن لم تملك فالوصية لها صحيحة، إذ هي منزلة علىالصرف في مصالحها، لأنا نعلم أنه لم يرد [بها] التمليك فصار كالوقف عليها. وكذلك لوصية للميت، إذا أوصى له بعد العلم بموته، فإنها تصح له، فإن كان عليه دين صرفت الوصية فيه. وكذلك إن كانت كفارات أز زكوات قد وجبت، فإن لم يكن شيئ من ذلك كانت لورثته، لأن هذا قصد الموصي بها. وتصح الوصية للذمي. قال القاضي أبو الحسن: "وتكره المحربي عندي". وتصح الوصية للقائل، إذا أوصى له بعدعلمه بأن قاتله، أعني إذا كان بعد جريان سبب القتل وعلم أنه فاعله. أما لو لم يعلم أنه القاتل، ففي صحتها خلاف. وأما إنأوصى له، فقتله بعد الوصية عمدًا مجهزًا، فإن الوصية تبطل. وإن كان القتل خطأ نفذت من المال دون الدية. ولو ترامى الموت عن سببه، وعلم تعمده لقتله ولم يغير الوصية لكان ذلك رضا بتماديها. وتصح الوصية للوارث، وتقف على إجازة باقي الورثة وردهم، فغ، ردوها رجعت ميراثًا، وإن أجازها نفذت. ثم اختلف، بعد تنفيذها بإجازتهم، هل ذلك تنفيذ لفعل الموصي، أو ابتداء عطية منهم؟، والأول هو الذي نقله القضاة الثلاثة عن المذهب أبو الحسن وأبو محمد وأبو الوليد. ورأى أبو الحسن اللخمي أن الثاني هو مقتضى قول ابن القاسم. ومن أوصى لوارثه بشيئ وقال: إن لم تجزه الورثة فهو في المساكين أو في نوع من سبل البر، فلم تجزه الورثة، كان مردودًا ميراثًا. وإن أجازوه للوارث جاز في روايةابن أبي أويس. وروى ابن القاسم أنها مردودة على كل حال وإن أجازها.

ولو قال: عبدي حر، وثلث مالي في السبيل إلا أن يجيزه الورثة لابني، فهذا يجوز على ما قال عبد الملك وابن وهب وابن القاسم وابن كنانة وابن نافع، وهو قول المدجنيين. قال أصبغ: وأنا أقول به استحسانًا واتباعًا للعلماء. وأما القياس فهو كالأول. وقال أشهب: لا يجوز، وهو من الضرر كالأول. وفرق الأولون بأنه في الصورة الثانية باشر الحرية ورجوعه إلى الوارث من قبل الورثة، وفي الأولى باشر بالوصية تصييره إلى المواريث. فروع: الفرع الأول: إن إجازة الورثة بعد موت الموصي صحيحة نافذة، فن [أجازوا] قبله في الصحة لسبب، كخروجه للغزو أو السفر، لزمهم ذلك في رواية ابن القاسم وقوله، كالمريض. وقال أصبغ: قال لي ابن وهب: كنت أقول هذا، ثم رجعت إلى أن لا يلزمهم ذلك لأنه صحيح. قال أصبغ: وهو الصواب. وإن كان لغير سبب وصية فلا يلزمهم، لأنها حالة لم تتعلق حقوقهم فيها بالتركة. وإن [أجازوا] في المرض، فإن تخللت بينه وبين الموت صحة فلا تلزمهم الإجازة. قال ابن كنانة: وتلزمهم اليمين أنهم ما سكنوا رضا بذلك. وإن لم يتخلل بين الإذن والوفاة (وقت) صحة لزمهم ذلك. قال القاضي أب محمد: "وذلك في المرض المخوف". قال: "وإنما يلزمهم إذا كان طوعًا لا خوفًا من إضرار بهم، مثل أن يكون الوارث في عيال الموصي ونفقته، وفيخاف، إن لم يأذن له، قطع به، أو يكون له عليه دين يلزمه به، أو يكون سلطانًا يرهبه، أو ما أشبهه ذلك، فمتى كان الإذن على بعض هذه الوجوه لم يلزمهم وكان لهم الرجوع". وروي عن عبد الملك: أن الإجازة لا تلزمهم إلا بعد موت الموصي. الفرع الثاني: لو أجاز الورثة الصوية لوارث، ثم قام بعضهم فقال: لم أعلم أن الوصية لا تجوز، حلف أنه ما علم، وكان له نصيبه، إذا كان مثله يجهل ذلك. الفرع الثالث: من أوصى أن يباع عبده من فلان نفذ، فلإن أبى فلانإلا بوضيعة ثلث قيمة العبد، وضعت له إن حملها الثلث ولو أبى أن يشتريه بوضيعة الثلث لقطع له بثلثه، عند ابن القاسم. وقا غيره: لا شيئ له. الفرع الرابع: إذا أوصى لوارث فحجب عن ميراثه، أو أوصى لغير وارث فصار

وارثًا، فالاعتبار بالمال لا بحال الوصية، فتصح وصية الأول دون الثاني، هذا إن كان الموصي عالمًا بتغير حال الوارث إلى الحجب، فإن لم يعلم، ففي صحة الوصية وبطلانها قولان لأشهب وابن القاسم. الركن الثالث: الموصي به. وتصح الوصية بكل مقصود يقبل النقل، ولا يشترط كونه موجودصا أو عينًا، بل تصح الوصية بالحمل وبثمرة الشجرة والمنفعة، ولا كونه معلومًا أو مقدوراً عليه، بل تصح بالحمل كما تقدم، وتصح بالمغصوب (وبالمجاهيل)، ولا كونه معيناً، إذ تصح بأحد العبيد. ولا تصح بما لا يجوز تملكه كالخمر والخنزير. وينبغي أن لا يكون الموصي به زائدًا على ثلث المال الموجودعند الموت، ثم هل ذلك مطلوب للصحة أو للنفوذ؟، يخرج على القوين المتقدمي، هل هي إجازة الوارث ابتداء عطية أ, تنفيذ للوصية؟ فرع: من ال وارث له إذا أوصى بجميع ماله بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، وحكى الطابثي في كتاب اللمع عن بعض أصحابنا جواز الوصية بالجميع. ومنشأ الخلاف: هل بيت المال وارث أو إنما يصرف المال إليه لأنه مال ضائع، لا لتعلق حق بيت المال به؟ وثمرته: معرفة الحكم في ثلاثة فروع، هذا أحدها. وثانيها: صرف المال إليه أو إلى ذوي الأرحام. وثالثها: هل يرد إليه ما فضل عن ذوي السهام أو يرد عليهم؟ قال الاستاذ أبو بكر عقب كلامه في هذه المسألة: هذا كله إذا كان للمسلمين بيت مال. فإن لم يكن لهم بيت مال صحت الوصيةله على كل حال. قال: وقد قال بعض أصحابنا المتأخرين: يكون للموصي له بالمال ثلثه، وباقي ذلك للفقراء والمساكين. قال الأستاذ: (ورأيت لابن القاسم، في كتاب محمد، فيمن مات ولا وارث له، قال: يتصدق بما ترك، إلا أن يكون الوالي يخرجه في وجهه، مثل عمر بن عبدالعزيز فيدفع إليه). ("ولو أوصى نصراني بجميع ماله للكنيسة، فقال ابن القاسم: يدفع إلى أساقفتهم ثلث ماله وثلثاه للمسلمين. ووجه ذلك أن الذمي إذا لم يكن له وارث كان ماله للمسلمين،

فالحكم في تركته بين المسلمين وبين الناظر في الكنيسة، فيجرى على حكم الإسلام، فلا تجوز له وصية في أكثر من ثلثه). وكل تبرع في مرض الموت فهو محسوب من الثلث وإن كان منجزًا. وكذلك إذا وهب في الصحة ثم أقبض في المرض. ومهما هجم عليه المرض المخوف حجرنا عليه في التبرعات في الزيادة على الثلث، فإن سلم تبينا الصحة. وإن لم يكن المرض مخوفًا لم يحجر. فإن قيل: وما المرض المخوف؟ قلنا: كل مرض لا يؤمن ترقية إلى الموت كثيرًا، كالحمى الحادة والسل والقولنج وذات الجنب والإسهال المتواتر مع قيام الدم، وشبه ذلك مما يقضي أهل صناعة الطب بأن الهلاك يسببه كثير. وأما الجرب ووجع الضرس وحمى يوم ورمد العين والبرص والجنون وحمى الربع وشبه ذلك فليس بمخوف. ومهما أشكل شيئ من ذلك حكم [فيه] يقول أهل المعرفة بالطب كما يحكم بقولهم في العيب. وأما المفلوج والمجذوم فما كان من ذلك قد ألزمهم الفراش وأقعدهم فأحكامهم أحكام المرضى. وما كان من جذام يابس وفالج غير مقعد، وكان أصحابه يدخلون ويخرجون ويتصرفو، فأحكامهم أحكام الأصحاء. فرع: إذا ثبت أن المرض يعلق حق الورثة بالمال، ويقبض يد المريض عن التصرف فيه، وتحققنا أن سبب ذلك وعلته الخوف على المريض من المنية في الأكثر أو في الكثير، فإنه قد ينزل بالأصحاء أحوال تحقق فيهم هذه العلة، فيجب أن تكون أحكامهم كأحكام المرضى في تصرفهم على الثلث، وذلك كالحامل في أخريات أمرها كستة أشهر فأعل، وكالمحبوس للقتل في قصاص أو حد، وحاضر الزحف في ملتطم القتال والتعرف للحتف، ويلحق بهذه الأحوال عند ابن وهب وأشهب حال الملجج في البحر وقت الهول، فقالا حكمه في هذه [الحالة] حكم المريض ومن ذلك معه. وقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. قال القاضي أبو محمد: "وقولهما أقيس، لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. فإن قيل: فما الذي يتعلق به الحجر؟ قلنا: هو ما زاد على قدر حاجته من الغنفاق في الأكل والكسوة والتداوي والعلاج، كشراء ما يحتاج إليه من الأشربة والأدوية وأجرة الطبيب، ويمنع

ما سوى ذلك مما يخرج على غير بدل يحصل للورثة من هبة أو صدقة، ويكون ما فعل من ذلك موقوفًا على موته فينفذ من الثلث، وعلى صحته فينفذ على ما بينا. ولا يمنع من التصرف بالمعاوضة في التجارة لتي لا محاباة فيها كالبيع والشراء بثمن المثل. وكالإجارة والرهن والأخذ بالشفعة وما أشبه ذلك". فأما قضاء الديون فمن رأس المال، أوصى بها أو لم يوص. وأما الكفارات والزكوات المفرط فيها، فمن الثلث. وإذا باع بثمن المثل نفذ من رأس المال، فإن كان فيه محاباة فقدر المحاباة من الثلث. فإن نكح المريض ودخل فالصداق من الثلث أيضًا. وإن أجر دوابه وعبيده بأقل من أجرة المثل فالمحاباة من الثلث. فإن قيل: كيف تحتسب من الثلث؟ قلنا: إن ضاق الثلث قدم آكدها على ما دونه، فيقدم المدير في الصحة على الزكاة المفرط فيها إن أوصى بها، إلا أن يعرف حلولها عليه، وأنه لم يخرجها فتكون من رأس ماله، ثم الرقبة البتولة في المرض والمدبر في المرض معًا. ويقدم الواجب على التطوع. ويقدم عتق العبد المعين على المطلق، ثم المكاتب، ثم الحج، والرقبة بغير عينها. قال أشهب: وزكاة الفطر بعد الزكاة المفروضة. واختلف في المدبر في الصحة وصداق المنكوحة في المرض المدخول بها فيه، فبدأ ابن القاسم بالمدبر لأنه ليس له أن يرجع عن تدبيره، فكذلك ليس له أن يدخل عليه ما يبدأ عليه، وبدأ عبد الملك بالصداق وقال: صداقها من الثلث مقام الدين من رأس المال. واختلف أيضًا في الجزء والدنانير المسماة إذا ضاق عنها الثلث على ثلاث روايات: التبدئة بالجزء، والتبدئة بالتسمية، والمحاصة بينهما، وبها قال ابن القاسم في المجموعة، واستدل سحنون عليها بأنه قد انتقض كل واحد منهما بما أدخل عليه من صاحبه. واختلف في الوصية بعتق رقبة غير معينة، والوصية بدنانير أو دراهم لرجل، فقال ابن القاسم: يتحاصان. وقال عبد الملك يبدأ العتق والذي ذكره عبد الملك في الترتيب: البداية بالمدبر في الصحة، ثم العتق البتل، ثم التدبير في المرض، ثم الزكاة، ثم الموصي له بالعتق. ثم الذي أوصى أن يشتري بعينه. قال في الكتاب: "وإنما ينظر في هذا إلى الأوكد فيقدم في الثلث، وإن تكلم به في آخر الوصايا، ولا ينظر إلى لفظه إلا أن يكون أوصى فقال: بدأوا كذا، ثم كذا، فإنه يبدأ بما قال.

وإن كان الذي لم يبدئه الميت هو آكد، فإنه لا يقدم في الثلث، لا، الميت قد قدم غيره، وهذا قول مالك". هذا حكم ما تأكد بعضه على بعض من الوصايا، فإن استوت في الرتبة تحاصوا، وإن كان فيها مجهول كوقود مصباح في مسجد على الدوام، أو سقي ماء، أو تفرقة خبز، ضرب لهذا المجهول بالثلث، ووقفت له حصته. وقال ابن الماجشون: لو اجتمع عدة من هذا الجنس لضرب لها كلها بالمثلث، وكأنها لصنف واحد. وفي المجموعة قال عبد الملك: ولو لم يوص بغير المجهولات قسم الثلث على عددها. وقال أشهب: يضرب للمجهول بالمال كله. وإن أعتق عبيدًا وضاق المال أقر ع بينهم. فرع: من أوصى بشيئ من ماله بعينه، عينًا كان أو عرضًا، وله ديون وعروض وعقار وأموال غائبة، والعين الموصى بها قدر ثلث جميع المال أو أقل، بحيث تخرج الوصية من الجميع ولا تخرج مما حضر، فقال الورثة: لا نجيز ولا نعطيه هذا، لأ، الا نأمن أن يتلف رأس المال قبل قبضه وتحصيله فيفوز بالعين دوننا، فهم باخليار بين أن يعطوه هذا الشيئ بعينه ويبقى لهم باقي التركة بالغة ما بلغت، وبين أن يسملوا جميع ثلث مال الميت من حاضر وغائب وعين ودين، فيكون شريكًا لهم في جميع التركة، وإن كان ذلك أكثر قيمة من العين الموصى بها. ثم هل يقطع بثلثه في جمع التركة أو في الشيئ الموصي بعينه" في ذلك روايتان. فإن كانت التركة كلها حاضرة، وهي عروض كلها، فأوصى له بدنانير، فقال ابن القاسم: لا تخيير فيها، بل تباع عروضه وتعطى الدنانير. ولا يخلع له الثلث. قال محمد: وهذا عندي كالعين الحاضرة، بخلال الدين والمال الغائب، قال: وهكذا لو ترك مائة دينار وعروضًا، وأوصى بمائة دينار، لعجلت له المائة ولا ينتظر بيع العروض. قال أشهب: شواء كانت الدنانير معينة أو غير معينة. وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن لم يترك إلا ثلاثة أدوار (وأرضا) وأوصى لرجل بخمسة دنانير، يلزم الورثة أن يعطوه إياها، أو يقطعوا له بثلث الميت، ولا يبيع السلطان من دوره بخمسة دنانير، قال: وقاله مالك فيه وفي المال الغائب والمفترق. ولو كان بعض التركة عروضًا وبعضها عينًا، فأوصى له بعرضش معين يحمله الثلث، فروى علي بن زياد: ليس للورثة منعه من أخذه إلا فيما لا يسعه ثلثه أو يشكل هل يسمعه أم لا؟

[فيتخيروا] بين الإجازة أو القطع، وهكذا حكم هذه المسألةلو كانت التركة كلها عروضًا. وإذا أنجز الكلام على تفاصيل هذه المسألة، وهي المعروفة يخلع الثلث، فدليلها هو أنه قد ثبت أنه ليس للموصي أن يوصي بأكثر من الثلث، وليس له أن يعين الثلث في نوع بعينه منالتركة إلا بإذنهم، كما أنه ليس له أن يزيد على الثلث إلا بإذنهم، فإذا ثبت ذلك ثم خلف الميت ناضًا ألف دينار وعروضًا بمثلها وديونًا بمثلها وعقارًا بمثلها، فحقه من الثلث شائع في كل نوع منها، فليس له أن يفرد الوصية بالناض ويحيل الورثة على عروض وديون، فمتى فعل ذلك كان متعديًا آخذًا ما لبس له، فإذا لم يجز الورثة ذلك كان لهم الامتناع وإزالة الضرر بما لا يبخص الميت حقه، وليس إلا أحد هذين، إما ما قلناه أو يدفع إليه قيمة الألف من جميع التركة، وهذا القسم غير جائز لأن فيه بخس الميت حقه وإزالة تعد وضرر بمثله، وذلك لأنا قد علمنا أن للميت أن يوصي بجميع الثلث، فإذا عدل عن استيفاء الثلث إلى الوصية ببعضه وعينه في شيئ بعينه. فإنما ترك الاستيفاء ليسلم له التعيين، فإذا لم يسلم له وجب رد تعديه إلى ما كان له لا إلى بعضه، لأنه لم يرد أن يؤخذ من غير هذه العين من التركة بعض الثلث، وإنما أراد أن تؤخذ نفس العين، ففي إعطاء قيمتها من غير تبديل الوصية، وذلك غير جائز، فإن قيل: في إعطائه جميع الثلث أعطاؤه ما لم يوص له به، قيل: جل إلى ذلك منع الورثة من أخذ ما أوصى له به وذلك غير ممتنع، إذ لا شيئ يرجع إليه غيره. ومن أوصى بعتق عبده، وله مال حاضر وغائب، ولا يخرج من ثلث الحاضر، فروى أشهب: أنه يوقف العبد لاجتماع المال، فيقوم إذا اجتمع ويعتق. وقاله ابن القاسم. وهذا فيما يقبض إلى أشهر يسيرة أو عرض يباع، فأما ما يبعد جدًا وتبعد غيبته فليجعل العتق في ثلث ما حضر، ثم إذا قبض ما بقي أتم فيه. قال محمد: وقال أشهب: بل للعبد أن يعجل منه عتق ثلث الحاضر حتى لو لم يحضر غيره لعجل عتق ثلث ويوقف باقيه، فكل ما حضر شيئ من الغائب زيد فيه ثلث ذلك، حتى يتم أو ييئس من المال الغائب. قال: ولا أرى أن يوقف جميع العبد لاجتماع المال، وإن كان قد قاله لي مالك. وقال سحنون: إنما يعجل منه ثلث ما حضر إذا كان في ذلك ضرر على الموصي والموصي له فيما يشتد وجه مطلبه ويعسر جمع المال ويطول ذلك. الركن الرابع: ما به تكون الوصية: وتكون بالإيجاب، ولا يتعين له لفظ مخصوص، بل كل لفظ فهم منه قصد الوصية

الوضع أو بالقرينة حصل لاكتفاء به، مثل قوله: أوصيت، أو أعطوه، أو [جعلت] له. ولو قال: هو له، وفهم من مراده بقرينة قصد الوصية فهو وصية. ولو كتب بخطه وصيته فوجدت في تركته وعرف أنها خطه بشهادة عدلين، فلا يثبت شيئ منها حتى يشهد عليها وقد يكتب ولا يعزم، رواه ابن القاسم في المجموعة والعتبية. قال محمد عن أشهب: ولو قرأها ولم يأمرهم بالشهادة فليس بشيئ حتى يقول: إنها وصيتي، وإن ما فيها حق، وإن لم يقرأها، وكذلك لو قرأها وقالوا: أتشهد أنها وصيتك وأن ما فيها حق، فقال: نعم، أو قال برأسه: نعم، ولم يتكلم، فذلك جائز. قال محمد عن مالك: وإن لم يقرأها عليهم فليشهدوا أنها وصية أشهدنا على ما فيها. والقبول شرط ولا أثر له في حياة الموصي، فإن الوصية إنما تجب بموت الموصي وقبول الموصي له بعده، ولا يشترط فيه الفور بعد الموت، فلو مات الموصى له بعد موت الموصي لانتقل حق القبول والملك إلى الوارث. (وقال الشيخ أبو بكر: الأشبه أن يكون لورثة الموصي، لا، ها على أصل ملك موروثهم إلى أن تخرج عنه بقبول الموصي له. قال القاضي أبو محمد: "وكأن الأول أقيس"). فأما إن أوصى للفقراء أو من لا يتعين فلا يشترط القبول. وإذا مات الموصي كان الموصي به موقوفًا، فإن قبل تبينًا أن العين الموصى بها دخلت في ملكه بموت الموصي، وإن ردها تبينًا أنها لم تزل عن ملك الموصي. ومن أصحابنا من يقول: إن العين الموصى بها باقية على حكم ملك الميت. وعلى هذا الخلاف تخرج أحكام الملك كصدقة الفطر إذا وجبت بعد الموت وقبل القبول. وكما إذا أوصى له بزوجته الأمة فأولدها ثم علم، فقيل: ما حكم الولد، وهل تصير به الأمة أم ولد للموصي له أم لا؟ وكذلك حكم ما أفادته الأمة أو العبد بعد الموت من المال، وحكم الولد المستحدجث بين الموت والقبول، وحكم ثمرة النخل والبساتين الحادثة بين الزمانين. فرع: إذا فرعنا على الغلات تبع للأصول، فاختلف في كيفية التقويم، فقيل: تقوم للأصول بغير غلات، فإن خرجت من الثلث اتبعتها ولا تقوم الغلات. وقيل: تقوم الأصول بغلاتها. قال أبو إسحاق التونسي: وكان هذا أشبه في الظاهر. وذلك أن نماء العبد يختلف فيه

الباب الثاني: في أحكام الوصية الصحيحة

أنه إنما يقوم على هيئته يوم التقويم. وكذلكم ولد الأمة لم يذكر فيه اختلاف أنه يقوم معهاكنماء أعضائها. [قال] (وكذلك) يجب أن يكون تقويم الغلات مع الرقاب لأنها كالنماء في الموصي به. الباب الثاني: في أحكام الوصية الصحيحة وهي تنقسم إلى لفظية ومعنوية وحسابية. [القسم الأول: في المسائل اللفظية] أما اللفظية فلها طرفان: الطرف الأول: في الموصي به. وإذا أوصى بجارية دون حملها صح. وكذلك بالحمل دونها يصح. وعند الإطلاق يتناول الحمل باسم الجارية. ولو أوصى بقوس حمل على ما يرمي به النشاب دون قوس القذف والبندق، إلا إذا قال: قوس من قسي، ولم يكن له إلا قسي الندف إذ تعينت. وكذلك لو عينتها قرينة مع وجود غيرها. ومن أوصى بشاة من ماله فالموصي له شريك بواحدة في عددها، ضأنها ومعزها، ذكورها وإناثها، صغارها وكبارها، فلو كانت مثلاً مائة لكان له جزء من مائة جزء من جملة غنمه، فإن هلكت كلها فلا شيئ له. وإن لم يكن له غنم، فله في ماله قيمة شاة من وسط الغنم إن حملها ثلثه أو ما حمل منها. ولو قال: أعطوه شاة من غنمي، فمات ولا غنم له، فلا شيئ للموصي له. ولو مات وليس له إلا شاة واحدة، صغيرة أو كبيرة، علاية أو دنية، فهي له إن خرجت من الثلث أو ما خرج منها. ولو قال: أعطوه ثلث غنمي، فله ثلثها، فإن مات منها شيئ، فله ثلث ما بقي. ولو قال: أعطوه عددًا سماه، فكان مساويًا لثلث عدد الغنم، فهل يكون كقوله: أعطوه ثلثها، فيكون شريكًا بالثلث فيمازاد أو نقص، أو لا يكون كذلك، بل لو لم يبق إلا ذلك العدد لأخذه، فيكون شريكًا بالثلث فيما زاد أو نقص، أو لا يكون كذلك، بل لو لم يبق إلا ذلك العدد لأخذه، وإن بقي أكثر منه أخذ بحصة عدته، وأخذ الورثة بحصة ما زاد عليها؟ مثال ذلك. لو أوصى (له) بعشرة من غنمه، وعددها خمسون مثلاً، فعلى القول الأول: إن هلك بعضها فله خمس ما بقي منها، ولو زادت لكان له خمس الزيادة أيضًا، كما لو أوصى [له] بالخمس تصريحًا به وعلى القول الثاني: لو هلك منها مثلاً عشرة ضرب فيما بقي بالربع، وإن بقي ثلاثون أخذ ثلثها، وإن بقي عشرون أخذ نصفها، ولو لم يبق إلا عشرة لأخذها كيف كانت،

أعلى أو أدنى أو متوسط، ولا ينظر إلى صفتها إذ تعينت (إلا ألا) يحملها الثلث فيأخذه منها محمل الثلث. قال أشهب: (وإن) أوصى بتيس من غنمه، فلينظر إلى كل ما يقع عليه اسم تيس منها، ولا يقع ذلك على البهيم والإناث، فينظر إلى عدد ذلك فيكون فيها وحدها شريكًا بواحد من عددها. وأما إن قا: شاة من غنمه، فالتيوس والنعاج والضأن والمعز، والصغير والكبير، يدخل في العدد. ولو قال: كبشًا، لم يدخل ي ذلك إلا كبار ذكور الضأن، ولو قال: نعجة، لم تكن إلا ي كبار إناث الضأن. فإن قال: بقرة من بقري، دخل فيه ذكور البقر وإناثها. وإن قال: ثور، لم يكن إلا ي ذكور الكبار. فإن قال: عجل، لم يكن إلا في ذكور العجول. فإن قال: بقرة من عجولي، كان في الذكور والإناث من العجول. ولو قال: شاة من بهمي، أو ضانية من خرفاني، لم يدخل في ذلك كبارها. وإن قال: أعطوه رأسًا من رقيقي، وما وله رأس واحد تعين، فإن كان له عدة فماتوا أو قتلوا قبل موته انفسخت الوصية. وإن قتلوا بعد موته (انتقلت) الوصية إلى القيمة. ولو قال: اعتقوا عني رقابًا، فأقلها ثلاثة. الطرف الثاني: في الموصي له: فإذا قال: لحمل فلانة كذا، فأنت بولدين، وزع عليهما بالسوية، واستوى الذكر والأنثى في المقدار. ولو قال: إن كان في بطنها غلام فأعطوه، واستحق الغلام دون الجارية. وإذا أوصى لجيرانه أعطى أهل جواره. والجوار الذي لا شك فهي ما كان يواجهه، الجوبة المستقبل بعضها لبعض يجمعهم الطريق والمدخل والمخرج، وما وراء ذلك مما لصق بالمنزل من ورائه وجنباته. وأما إن تباعد ما بين العدوتين حتى يكون بينهما السوق المتسع، فغنما الجوار في ما دنا من إحدى العدوتين، وقد تكون داراًا عظمى ذات مساكن كثيرة، كدار معاوية وكثير بن الصلت، فإذا أوصى بعض أهلها لجيرانه اقتصر علىأهل الدار. قال عبد الملك: وجوار البادية أوسع من هذا وأشد تراخيًا إذا لم يكن دونه أقرب منه إلى الموضع، فرب جار وهو على أميال إذا لم يكن دونه جيران إذاجمعهما الماء في المورد والمسرح للماشية. فرع: قال عبد الملك: إذا أوصى لجيرانه، أعطي الجار الذي إسم المسكن له، ولا يعطى أتباعه ولا الصبيان، ولا ابنته البكر ولا ضيف ولا نزيل ولا [التابع] له، وتعطى

زوجته، ولا يعطى خدمه إلا أن ينصهم، ويعطى الولد الكبير البائن عنه بنفقته. وأما الجار المملوك، فإن كان يسكن بيتًا على حدة فليعط، كان سيده جاراً أو لم يكن. وقال ابن سحنون عن أبيه: يعطى ولد الجار الأصاغر وأبكار بناته. (وإذا أوصى للفقراء دخل المساكين) وكذلك لو أوصى للمساكين لدخل الفقراء، إذ يطلق (الإسمان) على الفريقين. ولو أصوى لسبيل الله فهو للغزو ثم لا يجب الاستيعاب. ولو أوصى لزيد وللفقراء بثلثه، فلا يعطى له النصف، ولكن يعطى بالاجتهاد بقد رحاجته وحاله. وإن مات قبل أن يقسم فلا شيئ لورثته. والثلث للمساكين، قاله محمد. ولو قال: ثلثي لفلان ولبني فلان ففلان كرجل من بني فلان يأخذ كأحدهم. ولو أوصى للعلويين وللهاشميين أو قبيلة عظيمة صحت الوصية، ثم تفرق بالاجتهاد بقدر حاجتهم، وليس عليه أن يعمهم. واختلف في دخولي الموالي معهم، فروى ابن القاسم في الكتاب: "أنهم لا يدخلون معهم". وقال ابن الماجشون: يدخلون وقال أشهب: إن قال: لتميم دخلوا، وإن قال: لبني تميم، فلا يدخلون، لان قوله: بني تميم، هم أنفسهم. وعاب ابن الماجشون هذا على أشهب، وقال: قد [تكون] قبائل لا يحسن أن يقال فيها: بنو فلان، منهم: قيس وربيعة ومزينة وجهينة وغيرهم، قال: والأمر واحد حتى يقول: الصليبة دون الموالي. ولو أوصى لأقارب زيد لدخل [فيهم] الوارث، والمحرم وغير المحرم، ويدخل فيه كل قريب من جهة الأب ولاأم، ويؤثر ذوو الحاجة، ولا يؤثر الأقرب علىالأبعد، بل يؤثر الأحوج على غيره. ولو أوصى للأرحام فكوصيته للقرابة سواء. ولو أوصى (لقرابة) نفسه خرج ورثته بقرينة الشرع، وكانت الوصية كلها للآخرين ولو أوصى للأقرب فالأقرب وترك أبويه وجده وأخاه وعمه، فليقسم عليهم بقدر حاجتهم إليه، ويفضل الأقرب فالأقرب. قال محمد: قال مالك: ما لم يكونوا ورثة، فإنا نرى أنه لم يرد بوصيته ورثته، والأخ أقرب من الجد، ثم الجد يبدأ بالأخ فيعطى أكثر من الجد وإن كان الأخ أيسرهما، ثم يعطى الجد أكثر من العم وإن كان أيسر منه، ثم يعطى العم، ولا يعطى الأخ جميعه. ولو كان

القسم الثاني: في المسائل المعنوية

ثلاثة إخوة مفترقين لكان الشقيق أولى، ثم الذي للأب، وإن كان الأقرب موسرًا والأبعد معسرًا، فليعط الأقرب على وجه ما أوصى، ولا يكثر له. وإن كانت [وصيته] على وجه الحبس، فالأخ أولى وحده، ولا يدخل معه غيره، فإذا هلك صارت لمن بعده. القسم الثاني: في المسائل المعنوية، وفيه فصلان: الفصل الأول: في الوصية بالمنافع والوصية بمنافع الدار وغلة البستان وثمرته صحيحة، وكذا منافع العبد. وحيث أطلق فهو تمليك منفعة بعد الموت لا مجرد إباحة، حتى إذا مات الموصي له ورثه عنه، لأن الموصي به خدمة العبد حياته. إلا أن يظهر من قوله أنه أراد حياة المخدم. وقال أشهب: الموصي به خدمته حياة الموصي له. فروع: في العبد المخدم. ونفقة العبد المخدم على الموصي له بخدمته. ولا يملك الوارث بيعه إن أوصى بخدمته أبدًا، أو إلى عمر أحدها. وإن كان مؤقتًا بزمن محدود، فهو كبيع المستأجر. ولا يجوز في الحيوان إلا في الزمن اليسير، بخلاف الماشية الموصي بنتاجها للغير، فإنه يجوز بيعها لبقاء بعض المنافع. وإذا قتل العبد عمدًا ففلوارث استيفاء القصاص ويحيط حق الموصي له. وكذلك إن رجع إلى القيمة فإن الوارث يختص بها، وإن جنى هو تعلق الأرض برقبته، فإن أسلمه الورثة بطل حق الموصي له، وإن فدوه استمر حقه. وطريق احتسابه من الثلث أن تعتب رجملة قيمة العبد، فإن خرجت من الثلث نفذت الوصية، وإن لم تخرج من الثلث خير الورثة بين الإجازة أو القطع له بثلث الميت كله. الفصل الثاني: في فروع متفرقة الأول: إذا ملك قريبه في مرض الموت بالإرث عتق عليه من رأس ماله، وإن ملكه بالشراء عتق من الثلث، وحكم الابن في ذلك حكم غيره. قال ابن القاسم: "من اشترى ابنه في مرضه جاز إن حمله الثلث، وعتق وورث باقي المال إن انفرد، أو حصته إن كان معه غيره. ولو أعتق الأب مع ذلك عبدًا له لبدئ الابن وورث إن حمله الثلث".

وقال محمد بن مسلمة وعبد الملك وسحنون: له شراء الابن خاصة، ولو بكل المال إذ له أن يستحلفه بخلاف الأب، وإن ملكه بقبول وصية أو هبة فهو كملكه بالبيع. ثم إذا عتق من الثلث أو من رأس المال ورث. وقال أصبغ: لاي رث بحال، لأنه لا يعتق إلا بعد الموت. وقال اشيخ أبو بكر: "في توريثه نظر، لأنه إخراج لورثته عن الميراث بعد ثبوت سببه لهم". الثاني: إذا قال: اعتقوا عبدي بعد موتي، لم يفتقر إىل قبول العبد، لأن الله حقًا في العتق. وكذلك لو أوصى له برقبته. ووقع في الكتاب: "إذا اوصى ببيع جاريته ممن يعتقها فأبت، فإن كانت من جواري الوطء فذلك لها، وإلا بيعت ممن يعتقها. وقيل: لا يلتفت إلى قولها، كانت رائعة أم لا، وتباع للعتق إلا ألا يوجد من يشتريها بوضيعة ثلث الثمن". قال أبو إسحاق التونسي: لما لم ينجز عقها، وإنما أوصى أن تباع ممن يعتق، وهي لا تكن حرة بعد موته إلا بأن تعتق، وكان العتق ضررًا عليها، ردت وصية الميت عند ابن القاسم، كمن أوصى بإضرار. وأوجب غيره عتقها، لانه أمر فرط منه ومات عليه، فأشبه قوله: إن مت فهي حخرة. ولو قال في وصيته: اشتروا عبد فلان لفلان، أو فاعتقوه، أو بيعوا عبدي من فلان، أو ممن أحب، أو ممن يعتقه، نفذ، فإن امتنع المشتري أن يشتريه بمثل الثمن، أو امتنع الذي يبتاع منه أن يبيعه بمثل الثمن، فإنه يزاد في المشتري وينقص في المبيع ما بينك وبين ثلث ثمنه لا ثلث الميت، لا، النظزر إلى تغابن الناس في (بياعاتهم)، فإن أبى الذي يبتاع منه أن يبيع إلا بأكثر من الثمن أو ثلثه، ف إن كان الشراء للعتق فيستأنى بالثمن، فإن بيع وإلا رد الثمن ميراثًا. وفي رواية ابن وهب وغيره: إن الثمن يوقف ما لم يمت العبد أو يعتقن وعليه اكثر الوراة. وإن كان الشراء لفلان دفع المبذول إلى فلانإن كان الامتناع من البائع ليزداد ثمنًا، وإن امتنع ضنًا بالعبد عاد المبذول ميراثاً. وقال غيره وهو أشهب: إن امتنع لزيادة أو ضنانة فذلك سواء يكون الثمن موقوفًا حتى ييئس من العبد فيكون ميراثًا، لانه أوصى له برقبة لا بمال. وأما الذي يباع للعتق فيخير الورثة بين بيعه بما سئلوا أو يعتقوا ثلث العبد. وأما الذي يباع ممن

أحب فكذلك حكمه عند ابن القاسم، وروى غيره: أن الورثة إذا بذلوه لمن أحب بوضيعة الثلث فأبى، فليس عليهم غير ذلك. وأما الذي يباع من فلان فيخير الورثة بين بيعه بما سئلوا أن يعتقوا ثلث العبد. وأما الذي يباع مخمن أحب فكذلك حكمه عند ابن القاسم، وروى غيره: أن الورثة إذا بذلوه لمن أحب بوضيعة الثلث فأبى، فليس عليهم غير ذلك. وأما الذي يباع من فلان فيخير الورثة بين بيعه منه بما أعطى أو القطع له بثلث العبد. الثالث: من أوصى بثلث ماله فاستحق ثلثاه، فالوصية ثلث الثلث بحكم الشيوع. الرابع: فيما يدخل فيه الوصايا. قال في كتاب محمد، وفي المجموعة نحوه، قال مالك وأصحابه: لا تدخل وصايا الميت إلا في ثلث ما علم به من ماله. ولا يدخل في كل ما بطل فيه إقراره في مرضه لوارث؛ أو ما أقر في مرضه أنه كانأعتقه في صحته أو تصدق به أو أوصى به لوارث فرده الورثة. وأما ما كان يعلمه مثل المدبر ي امرض، وكل دار ترجع بعد موته من عمري أو حبس هو من ناحية التعمير، فالوصايا تدخل فيه، ويرجع فيه من انتقص من وصيته ولو بعد عشرين سنة. وكذلك ما رجع بعد موته من عبد آبق أو بعير شارد وإن كان يئس منه، وأما إن اشتهر عنده في الناس غرق سفينته وموت عبده، ثم ظهرت سلامة ذلك بعد موته فروى أشهب فيه عن مالك قولين، قال: لا تدخل فيه الوصايا، وقال: تدخل. وقد ينعى إليه العبد وهو يرجوه. هذا كله فيما عدا المدبر في الصحة، فإنه يخرج مما علم به الميت ومما لم يعلم به. الخامس: إذا أراد الورثة كشف حال الموصي في تفرقته الثلث، فليس لهم ذلك إلا فيما يبقى لهم نفعه خاصة، مثل الولاء وشبهه. القسم الثالث: ي المسائل الحسابية: فإذا قال: أوصيت له بمثل نصيب ابني، أو بنصيب ابني، وله ابن احد، [فهي] وصية بجميع المال، فإن أجازها الابن وإلا نفذت في الثلث خاصة. ولو كان له ابنان وأوصى بنصيف واحد فهي وصية بالنصف، وإن كانوا ثلاثة فبالثلث. وبالجملة يكون له نصيب أحد البنين في الميراث. وكذا إذا أوصى بنصيب ابن ثالث لو كان، ولم يكن في الحال، فهو كما لو كان أوصى بمثل نصيبه. وقيل: يقدر الموصى له في هذه الصورة كزائد عليهم، ش (معهم) فيكون له مع الثلاثة الربع، ومع الخمسة السدس، وعلى هذا الحساب. ولو كان له بنون وغيرهم من الورثة قسمت التركة على الفرائض، فميا خص أحد البنين

الباب الثالث: في الرجوع عن الوصية

أخذ مثله، ثم يضم ابقي من المال أجمع فيقسم على الفرائض كأنه جملة المال. ولو أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى جزءًا سميًا لعدد رؤوسهم كثلث إن كانوا ثلاثة، أو أربع، وشبه ذلك. ولو أوصى بجزء من ماله أو سهم أعطى سهمًا مما بلغته سهام الفريضة، وقيل: له الثمن، لأنه أقل سهم سماه الله تعالى في كتابه الكريم، وقيل: له الأكثر من السدس من سهم من سهام الفريضة، لأن السدس أقل السهام في الأصول، لأن الثمن إنما يستحق بالحجب. ومن أوصى بضعف نصيب ولده، فقد قال القاضي أبو الحسن: "لست أعرف حكمها نصوصة، غير أني وجدت لبعض شيوخنا أنه مثل نصيب ولده مرة واحدة، فإن قغال: ضعفين، أعطي مثل نصيبه مرتين. ثم حكى عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنهما يقولان: إن ضعف النصيب مثله مرتين. ك ثم قال: "وهذا ي نفسي أقوى من جهة اللغة". ولو قال: فلان وارث مع ولدي أو مع عدد ولدي، أو ألحقوه بولدي، أو ألحقوه بميراثه، أو ورثوه في مالي، ويكون له ابن ابن قد مات أبوه فيقول: ورثوه مكان أبيه، ففي هذا كله إن كان البنون ثلاثة فهو كابن رابع، وإن كانوا أربعة فهو كالخامس، ولو كان له ثلاثة ذكور وثلاثة بنات لكان كرابع من الذكور. ولو كانت الوصية لأنثى لكانت كرابعة من الإناث. الباب الثالث: في الرجوع عن الوصية ويصح الرجوع عنها متى شاء الموصي، لأنها إنما تتم بالموت والقبول بعده، كما تقدم. وللرجوع أسباب. أولها: صريح الرجوع، كقوله: رجعت، ونقضت، وفسخت، وهذا لوارثي، وشبه ذلك. الثاني: ما يتضمن الرجوع كالبيع والعتق والكتابة والاستيلاد، فإن ذلك ضد الوصية. وقال أشهب: لو باع الموصي به ثم اشتراه عادة الوصية ونفذت للموصي عليه. (وأما لو أوصي به بزرع ثم حصده، أو بتمر ثم جده، أو بصوت ثم جزه، فليس شيئ من

هذا كله برجوع، إلا أن يدرس القمح ويكيله ويدخله بيته فذلك رجوع. ولو أوصى له بثوب فصبغه، فقال ابن القاسم وأشهب: الثوب يصبغه للموصى له، قال أشهب: وكذلك لو غسله، أو كانت داراً فجصصها أو زاد فيها بناء، أو بسويق فلته، لأنه لم يتغير بتغيره الإسم. وقال أصبغ: يكون الورثة شركاء بقدر اللتات، وكذلك صبغ الثوب وبناء الدار. أما إذا أوصى بعبد لزيد، ثم أوصى به لعمرو، فهو تشريك بينهما، كما لو قال: أوصيت لهما. ولو قال: الذي أوصيت به لزيد فقد أوصيت به لعمرو، فهو رجوع. ولو أوصى بثلث ماله لرجل، وبجميعه لآخر، فليس برجوع، والثلث بينهم على أربعة أسهم. ولو أوصى بثلث ماله ثم باع جميع ماله يكن رجوعًا، لأن الثلث المرسل لا ينحصر في العين الحاضرة. الثالث: مقدمات الأمور، كالعرض للبيع، وكمجرد الإيجاب في الرهن، فإنه لا يكون رجوعًا، (بل نفس الرهن لا يكون) رجوعًا وليبدأ من رأس المال. (وتزويج الأمة والعبد. وتعليمهما ليس برجوع الوطء مع العزل ليس برجوع). الرابع: ما يبطل اسم الموصي به. كما لو أوصى بغزل فحاكه ثوبًا، (أو ببرد فلقطعه قميصًا، فهو رجوع. قال أشهب: وكذلك لو أوصى بقميص ثم قطعه فباء، أو بجبة فردها قميصًا، أو ببطانة ثم بطن بها، أو بظهارة ثم ظهر بها ثوبًا، أو بقطن ثم حشا به أو غزله، أو بفضة ثم صاغها خاتمًا، أو بشاة ثم ذبحها، فهذا كله رجوع. قال أشهب: وإن أوصى له بعرصة فبناها داراً، فذلك رجوع).

الباب الرابع: في الوصية. والنظر في أركانها وأحكامها

وقال غيره: بل يكونان شريكين بقدر قيمة البناء من العرصة. ولو أوصى له بدار فهدمها حتى صارت عرصة فليس برجوع فيها، لأنه موصى له بعرضة وبنيان فأزال [البنيان] وأبقى لعرصة. قال محمد: ولا وصية له في النقص الذي نقص. وقال ابن القاسم: العرصة والنقص للموصى له. الخامس: في اجتماع وصيتين للشخص الواحد: ومن أوصى لشخص بوصية بعد أخرى، فإن كانتا من صنف واحد فزادت إحداهما، كما إذا أوصى لرجل بشي (لا) بعينه من صنف، ذكرمنه كيلاً أو وزنًا أو عددًا من طعام أو عروض أو عين أو غير ذلك، أو بعدد بغير عينه من رقيق عنده أو غنم أو دور، ثم أوصى له من ذلك الصنف بأكثر من تلك التسمية، فله أكثر الوصيتين. وكذلك لو أوصى له ثانيًا بأقل منها، على رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم، لأنه يحتمل أن يكون الأقل بعدها ردجوعًا عنها إلى الأقل، ويحتمل أن يكون زيادة مضمونة إليها، والأولى متيقنة فكانت أولى من الأقل. وروى مطرف وابن الماجشون، وهو في المجموعة من رواية علي بن زياد: أن له الوصيتين جميعًا، إذ لا تناقض واللفظ يقتضيهما. وقيل: إن كانت الأولى أكذ أخذهما جميعًا، وإن كانت أقل أخذ الأخيرة فقط، لأن مقصوده الزيادة على الأولى. وأما إذا كان أوصى له أخرى بصنف آخر، فله الوصيتان جميعًا. ولو أوصى لع بعشرة دنانير تارة وتارة بالثلث فله الأكثر. قال أصبغ وسحنون: هذا إن كان ماله عينًا كله. قال محمد: قال أصبغ: فإن كان فيه عين، فله ثلث العرض والأكثر من ثلث العين أو التسمية، وهو قول أشهب. الباب الرابع: في الوصية. والنظر في أركانها وأحكامها أما الأركان فأربعة: الأول الوصي. وشروطه أربعة: الأول: التكليف. فلا تصح إلى مجنون أو صبي، لأنهما يحتاجان إلى الموصي فكيف تفوض إليهما الوصية.

الثاني: الإسلام. فلا تجوز الوصية إلى كافر، ويعزل إن وصى إليه ولو كان ذميًا. قال ابن القاسم في الكتاب: "قال مالك في المسخوط: لا تجوز الوصية إليه، فالذمي أحرى ألا تجوز الوصية إليه". وقال فيها أيضًا: "قال مالك: لا يجوز ذلك أوصى إلى غير عدل، فالنصراني غير عدل". وقال في بعض مجالسه: إلا أن يرى الإمام لذلك وجهًا. وقال في العتبية: "كره مالك الوصاية إلى اليهودي والنصراني، وكان قد أجازها قبل ذلك". قال: "وإذا كان قريباً، كالأب والأخ والخال، فيوصيه على الصلة والرحم، يصل بذلك رحمه، فلا بأس (به). وأما الأباعد فلا، أو مولاه، أو تكون زوجته ومن يرجى منه حسن النظر لولده من أقاربه أو ولاته، فإن ك ان كذلك فأرى أن يجعل معه غيره، ويكون المال بيد المجعول معه، ولا تفسخ وصية الآخر. وقاله مطرف وأصبغ". الثالث: العدالة. قال في الكتاب: "ولا تجوز الوصية إلى ذمي أو مسخوط، ومن ليس بعدل. ويعزل إن أوصى إليه. ولو ولي العدل ثم طرأ الفسق عليه وجب عزله عنها". الرابع: الكفاية والهداية في التصرف: فلا يفوض إلى العاجز في التصرف على وفق امصحة. ولا تشترط الحرية، بل تجوز الوصية إلى العبد، كان له أو لغيره، ويتصرف بإذن مولاه. ولا تشترط الذكورية أيضًا، فلو أوصىإلى زوجته، أو غيرها ممن يصلح للوصية، صحت الوصية إليها، بل لو أوصى إلى مستولدته أو مدبرته لصحت الوصية إليهما. ولا يشترط نظر العين، بل يجوز أن تستند الوصية إلى الأعمى إذا كان على الشروط المذكورة. الركن الثاني: الموصي: وهو كل من كانت له ولاية على الأطفال شرعًا كالأب والوصي، فلا تصح الوصية من الأم. وروي تصحيحها في اليسير كخمسين دينارًا أو نحوها. قال ابن القاسم: "وذلك من مالك استحسان وليس بقياس". قال: وذلك عندي فيمن ليس له

أب ولا وصي" ومنعها أشهب في اليسير والكثير. قال سحنون: "قول أعدل". ولا يجوز نصب الوصي على ذكور الأولاد البالغين، إلا أن يكونوا محجورًا عليهم، نعم ينصب وصيًا في فضاء الديون وتنفيذ الوصايا. ويجوز نصب الوصي في حياة الجد، إذ لا ولاية له، إلا أن ينصب من قبل من يصح نصبه. الركن الثالث: الموصى فيه: وهو التصرف في المال بقضاء الديون وتفريق الثلث، وغير ذلك مما سيأتي تفصيله، وفي صغار الولد بالولاية عليهم، وإنكاح من يجوز إنكاحه من الأولاد، كما تقدم. الكرن الرابع: الصيغة. وهي أن يقول: أوصيت إليك، أو ما يقوم مقام ذلك في الدلالة على [تفويضه] الأمر إليه بعد موته، كقوله: فوضت إليك أمر أموالي وأولادي، وأسندت أمرهم إليك وأقمتك فيهم مقامي، أو ما يشبه ذلك مما يدل على التفويض إليه. ثم النظر في طرفين. الأول: في تعدد ما يوصى فيه. وإطلاق لفظ الوصية يتناول نوعي الوصية وحقوقها جميعًا. وتخصيص اللفظ وتقييده بنوع من الحقوق مخصوص دون غيره يقتضي القصر عليه. فأما إن أوصى إليه بنوع، ولم يذكر قصره عليه ولا أنه ليس له النظر في غيره، فروى ابن القاسم: أنه لا يكون وصيًا إلا فيما عين له ونص عليه، لأن الأصل منعه من التصرف إلا بإذن، والإذن قاصر. وروى ابن عبد الحكم: أنه إذا قال له: أنت وصيي في هذا، لأحد النوعين، أو لشيئ مما يدخل تحت أحدهما، فهو وصيه في كل شيئ، كما لو أطلق. فأما إن أوصى إلى أحد الوصيين بأمر خاص، مثل قضاء دينه وأوصى إلى الآخر بأمر خاص أيضًا، كالنظر في أمر ولده وشبه ذلك فليس أحدهما النظر فيما رده إلى الآخر، بغير خلاف في المذهب، حكى ذلك المتأخرون. الطرف الثاني: في أحكام تعدد من يوصي إليه. وإذا أوصي إلى رجلين فمطلقه منزل على التعاون حتى لا يستقل أحدهما بشيئ، إلا إذا صرح الموصي بإثبات الاستقلال. (وإذا لم يثبت الاستقلال) فمات أحدهما انفرد الآخر، إلا أن يخشى عجزه وعدم استقلاله فيقام معه عوض المتوفى. وكذلك إن لم يكن ظاهر العدالة، فاحتيج إلى الاستظهار عليه

ولو أوصى أحدهما عند موته، ففي انتقال ما كان إليه إلى وصيه خلاف، منعه سحنون في الكتاب وأجازه أشهب، ورواه علي بن زياد. ولو أوصيا جميعًا بما إليهما لصحت الوصية ونفذت. ومهما اختلف الوصيان في تعيين من تصرف إليه الوصية من الفقراء، أو في حفظ المال، تولى القاضي الأمر المتنازع فيه. ولا يقسم المال المتنازع في حفظه بينهما، بل إن رأى أن يضعه عند أعدلهما أو أملاهما، إن استوت عدالتهما، أو يجتمعا عليه جميعًا، فعل، وإلا نزعه منهما جميعًا وجعله تحت يده، أو يد من يثق به. قال ابن كناة: إذا جعله السلطان عند أحدهما ختمًا عليه جميعًا. وقال علي: أعجب إلي أن يقسموا إن تشاحوا، ولا ينزع [منهم] وقال أشهب: أكره لهما قسمة المال، وليكن بيد أعدلهما. فإن اقتسماه واتكل فيه أحدهما على صاحبه، ولا بأس به عنده، لم يضمناه. وقال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: إذا اقتسما المال ضمناه، ف إن هلك ما بيد أحدهما ضمنه صاحبه حين أسلمه إليه. أما أحكام (الوصاية)، فهي أنها عقد جائز في حال حياة الموصي، ولازم بعد وفاته. فللموصي عزل الوصي، وللوصي عزل نفسه بعد القبول في حياة الموصي. وظاهر إطلاق القاضي أبي محمد وشيخه الشيخ أبي القاسم منعه من الرجوع بعد القبول مطلقًا، إلا أن يعجز أو يكون له عذر في تركها. وقال القاضي أبو الحسن: "إذا قبل الوصي الوصية في حياة الموصي لم يكن له أن يرجع بعد موته، ولعل هذا مرادهما". وقال ابن القاسم: ولو لم يقبلها حتى مات فإنم ذلك إليه. وقال أشبه: لا رجوع له وإن قبلها بعد موته. ومن أبى قبول الوصية في حياة الموصي وبعد وفاته، ثم أراد قبولها، فليس ذلك له إلا أن يجعله السلطان لحسن نظره. ثم الوصي يقضي ديون الصبي، وينفق عليه بالمعروف، ويزكي ماله، ويدفعه قراضًا وبضاعة في البر والبحر.

واختلف في عمله هو فيه قراضاً، فمنعه أشهب وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح يشبه قراض مثله فيه أمضى كشرائه شيئًا لليتيم يتعقب فيكون أحسن لليتيم. يتعقب فيكون أحسن لليتيم. قال محمد بن عبد الحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى نظرًا. قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب ومصلحته بقدر حاله وحال من تزوج إليه، وبقدر كثرة ماله. قال مالك: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان، فيأمره بالقصد. وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز. ولا ينبغي لولي أن يشتري مما تحت يده شيئًا، لما يلحقه في ذلك من التهمة، إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يشتري من التركة، ولابأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله. وروى ابن القاسم في الكتاب: "وأما الوصي فلا يشتري وكيل له، ولا يدس من يشتري له. وقال ابن كنانة: لا يتشري منها، ولا يدس من يشتري له، إلا أن يأمر الغمام ببيع ذلك لدين أو لوصية فله أن يبتاع إلا أن يخاف أن يكسر سلع الميت لولايته. ولا يباع ريع الأيتام إلى من حاجة، أو يعطى فيه ما فيه غبطة من الثمن، مثل الملك يجاوزه أو ما أشبه مما يرى المصلحة في البيع لأجله. وإذا كان في الورثة كبار لم يبع الوصي شيئًا إلا بحضرتهم. قال ابن القاسم: "ولا [يقسم] الوصي على الكبار إذا كانوا غيبًا حتى يأتي السلطان". وأجاز أشهب أن يقسم عليهم في غيبتهم، ورده سحنون. وقال ابن القاسم أيضًا: "ينبغي للوصي ألا يقسم بين الأطفال، ولكن يأتي السلطان فيقسم عليهم، فغ، لم يأته وقسم هو عليهم جاز ذلك إذا كانت قسمة عدل. وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من مال الميت بقية تفي بما بقي عليه من الدين كان فعل الوصي جائزًا، فإ، تلف باقي المال فلا شيئ لباقي الغرماء على الوصي وعلى الى الذين اقتضوا. وإن قضى الغرماء جميع مال الميت ثم أتى غرماء آخرون، فإن كان عالمًا بالدين الباقي، أو كان الميت موصوفًا بالدين ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في

المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك، وإن لم يكن عالمًا ولا كان الميت معروفًا بالدين فلا شيئ على الوصي. وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن. وأما إن أشهد فطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيئ عليه. ومهما نازع الصبي الوصي في قدر النفقة ونسبه إلى دعوى الزيادة فيه، أو نسبة إلى الخيانة في بيع، فالقول قول الوصي لأنه أمين، والأصل عدم الخيانة. هذا إذا كان الصبي في حجره وادعى من الإنفاق ما يشبه، فإن زاد عليه حسب له ما يشبه وغرم الباقي، لأنه فيه كالمعتدي. ولو كان لليتيم حاضن، أم أو غيرها، لم يصدق في دفع شيئ من النفقة إلا بينة، أو يأتي بما لا يشك في صدقه فيه. وإن نازعه في تاريخ موت الأب إذ به تكثر النفقة أو في دفع المالي إليه بعد البلوغ والرشد، فالقول قول الصبي، إذ الأصل عدم ما ادعاه الوصي، وإقامةالبينة عليه ممكن مأمور به. فلم يقبل قوله فيه.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض وقال رسول الله صلى الهل عليه وسلم: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وإني امرؤ مقبوض، وسينزع العلم من أمتي حتى يختلف الرجلان في فريضة فلا يجدان من يعرف حكم الله فيها". وفي الكتاب أبواب: الباب الأول: في بيان الوراثة والتوريث: إما بسبب، وإما بنسب. والسبب إما عام كجهة الإسلام في صرف الميراث إلى بيت المال على المشهور. وإما خاص كالإعتاق، ولا يورث به إلا بالعصوبة، أو كالنكاح، ولا يروث به إلا بالفرضية. وأما النسب: فالقرابة. والمستحقون بها نوعان: نوع يستحق بغير واسطة وهم البنون والبنات والآباء والأمهات، ونوع يستحق بواسطة بينه وبين الميت، وهم أربعة أصناف: الصنف الأول: ذكور يتسببون بذكور، وهؤلاء هم العصبة، كبني البنين وإن سلفوا، وآباء الآباء وإن علوا، والإخوة وبينهم وإن بعدوا، والأعمام وبنيهم وإن بعدوا، فهؤلاء لا يرث منهم إلى من تسبب ذكر. وأما من تسبب بأنثى فلا ميراث له، كالجد للأم وبني الغخوة للأم، وبني البنات، ومن في معنى ذلك إلا الإخوة للأم، لكن لا يرث هؤلاء بالتعصب. الصنف الثاني: إناث يتسببن بإناث، ولا يرث من هذا الصنف إلى إثنتان: الجدة للأم والأخت للأم. الصنف الثالث: ذكور يتسببون بإناث، ولا يرث هذا الصنف إلا واحد وهو الأخ للأم. الصنف الرابع: إناث يتسببن بذكور، ويرث من هذا الصنف ثلاثة: الأخوات للأب، وبنات البنين، والجدة أم الأب. وقد تحصل من هذا أن الوارثن من الرجال عشرة: الابن، وابن الابن وإن سفل،

والأب، والجد للأب وإن علا، والأخ وابن الشقيق، أو للأب وإن بعد، والعم الشقيق أو للأب وابنه وإن بعد والزوج، ومولى النعمة. والوارثت من النساء سبع: البنت، وبنت الإبن وإن سفل، والأم، والجدة وإن علت، والأخت، والزوجة، ومولاة النعمة. ومن عدا هؤلاء كأبي الأم وأمه، وأولاد البنات وبنات الإخوة (وأولاد) الأخوات وبني الإخوة للأم، والعمل للأم وأولاده، والعمات والأخوال والخالات (وأولادهم)، وبنات الأعمام، فهم من ذوي الأرحام، ولا شيئ لهم ولا لمن أدلى بهم. ولنذكر ما به تكون الوراثة: وتكون بنوعين: تعصيب، وسهام مقدرة. ومعنى التعصيب من يرث (به) يستغرق المال إذا انفرد، ويستحق الباقي عن ذوي اسهام إذا كان معه ذوو سهام. ويرث به كل ذكر يدلي بنفسه أو بذكر. وأما السهام، وهي الفروض المقدرة، فيرث بها ثلاثة أصناف: صنف لا يرثون إلا بها خاصة، وهؤلاء ستة: الأم والجدة والزوج والزوجة والأخ للأم والأخت للأم. وصنف يرثون بها وبالتعصيب، وقد يجمعون بينهما .. وهؤلاء اثنان: الأب والجد، فغن الأب يفرض له السدس مع الولد أو ولد الابن، ثم إن فض2ل له شيئ أخذه بالتعصيب، وكذلك الجد، وسيأتي له مزيد بيان. وصنف يرثون تارة بها وتارة بالتعصيب، ولا يجمعون بينهما. وهؤلاء أربع، وهن: البنات وبنات الابن والأخوات الأشقاء والأخوات للأب. فإن البنات يفرض للواحد منهن النص، وللاثنتين فصاعدًا الثلثان، فإن كان لهم أخ لم يرثن بالسهام وورثن بالتعصيب. وكذلك حكم بنات الابن إذا استحققن الوراثة، كحكم البنات إذا انفردن أو كان معه ذكر في درجتهن أو أسفل منهن. وكذلك الأخوات الأشقاء أو اللاتي للأب مع عدم الأشقاء: فللواحدة منهن النصف، وللاثنتين فصاعدًا الثلثان. ويعصبهن أربعة أصناف: الجد، والأخ في درجتهن، وبنا الصلب، وبنات الابن

ولنبين الفروض المقدرة، وهي ضربان: فرض هو أصل مقدر بالنص، وفرض ليس باصل ولكنه ثبت لعارض أوجب خروجه عن الأصل. (فأما) الفروض التي هي أصول، فهي ستة: النصف ونصف وربعه والثلثان ونصفهما وربعهما. فالنصف: فرض خمسة: بنت الصلب، وبنت الابن من عدمها، والأخت للأب والأم، أو للأب مع عدمها، والزوج مع عدم الحاجب. والربع: فرض صنفين: الزوج مع وجود الحاجب، والزوجة أو الزوجات مع فقده. والثمن: فرض الزوجة أو الزوجات مع وجود الحاجب. والثلثان: فرض كل اثنتين فصاعدًا، تستحق إحداهن إذا انفردت النصف. والثلث: فرض صنفين: الأم مع فقد الحاجب، والاثنتين فصاعدًا من ولد الأم ما كانوا. والسدس فرض سبعة: الأب مع وجود الحاجب، والأم أيضًا مع وجود الحاجب، والجدة انفردت أو كان معها أخرى تشاركها، والواجدة من بنات الابن فأكثر إذا كان هناك بنت الصلب، والأخت للأب فأكثر، مع وجود الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرًا كان أو أنثى، والجد مع الولد أو ولد الابن، وقد يفرض له [أيضًا] مع الأخوة وذوي السهام. وأما الفرض الخارج عن هذه، فهو ثلث ما بقي في ثلاث مسائل، وهي: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان ثلث ما بقي عن ذوي السهام أحظى له. ثم كل واحد من ذوي الفروض فذلك فرضه إذا انفرد عمن يحجبه عنه. والحجب على قسمين: حجب إسقاط وحجب نقل. فأما حجب الإسقاط فلا يلحق من يتسبب (إلىالميت) بنفسه أصلاً كالبنين والبنات والآباء والأمهات، وفي معناهم الأزواج والزوجات، ويلحق من عداهم. ولترتب الحجب على ترتيب الوارثين والوارثات، فنقول: أما ابن الابن فلا يحجبه إلا الابن. والقريب من ذكور الحفدة يحجب البعيد. وأما الجد فلا يحجبه إلا الأب، وإذا رتبت الأجداد فالقريب يحجب البعيد. وأما الإخوة فيحجبهم الابن، وابنه وإن سفل، والأب. وأما بنو الإخوة فيحجبهم آباؤهم ومن يحجبهم، والجد لأنه كالأب معهم. وأما العمومة

فيحجبهم بنو الاخوة ومن حجبهم. وأما بنو العمومة فيحجبهم آباؤهم وهم حجبهم. هذا ترتيب الذكور في الطبقات، فإن اختلف ذوو طبقة واحدة في القرب، فالأقرب أولى كالإخوة مع بنيهم، والعمومة مع بنيهم، وإن تساووا في الطبقة والقرب ولأحدهم زياد ترجيح بمعنى مناسب لجهة التعصيبن قدم الأرجح كالأخ الشقيق مع الأخ للأب، والعم شقيق الأب مع غير الشقيق. أما ولد الأم فيحجبهم عمودا النسب: الأب والجد والولد وولد الابن. وأما الإناث فيحجب بنات الابن الواحد من ذكور ولد الصلب، ويسقطن أيضًا مع الاثنين فصاعدًا من بنات الصلب، إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن أو تحتهن. وكذلك الأخوات للأب يحبهن الواحد من الأشقاء، ويسقطن أيضًا بالشقيقتين إذا لم يكن معهن ذكر. فأما الأخوات للأب والأم فلا يسقطهن إلا الأب أو الابن وابن الابن وتسقط الجدات، من أي جهة كن، بالأم، وتسقط التي من جهة الأب] به]، وتسقط البعدي من جهته بالقربى من جهة الأم. والمولى المعتق يحجبه عصبة النسب، ويسقط إذا استغرقت الفرائض التركة، كسائر [العصبة]. وكذلك موالة النعمة. هذا جملة حجب الإسقاط. وأما حجب النق فهو على ثلاثة أقسام: نقل من فرض إلى فرض دونه. ونقل من تعصيب إلى فرض. ونقل من فرض إلى تغصيب. فأما النقل من فرض إلى فرض، فيختص بخمسة أصناف: الأم ينقلها الولد، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وولد الابن ما كانوا، والاثنان فصاعدًا من الإخوة، ذكورًا أو إناثًا، من أي جهة كانوا، فيردونها من الثلث إلى السدس. والصف الثاني: الأزواج، ينقلهم الأولد، وأولاد ذكورهم، من النصف إلى الربع. والصنف الثالث: الزوجان ينقلهن عن الربع إلى الثمن من ينقل الأزواج. والصنف الرابع: بنات الابن تنقل الواحدة منهن عن النصف، والاثنتين فأكثر عن الثلثين، الواحدة فوقهن، فيأخذن السدس. والصنف الخامس: الأخوات للأب ينقلهن إلى السدس الأخت الشقيقة. وأما النقل من تعصب إلى فرض فيختص بالأب والجد، فينقلهما الابن وابنه إلى السدس، ولا يرثان مع هذين بالتعصيب، وكذلك أيضًا إن استغرقت السهام المال فإنه يفرض لأيهما كان السدس، كزوج وابنتين وأم وأب أو جد، وسيأتي حكم الجد مع الإخوة.

وأما النقل من فرض إلى تعصيب فقد تقدم في البنات وبنات الابن والأخوات الأشقاء الأخوات للأب، وذكرنا من يعصبهن. وشذ من هذا القسم مسألة تسمى الغراء لانفرادها بحكم يختص بها، وتسمى الأكدرية، واختلف في علة تسميتها بذلك، فقيل: لأن قول زيد تكدر فيها وقيل: لأن إنسانًا يسمى أكدر سئل عنها فأخطأ فيها. وهي: زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو [الأب] فمقتضى ما تقدم أن الجد يعصبها، فإذا عصبها فلا يفرض لها شيئ، لكنه لما كان حقيق التعصيب أن تقسم معه، و (القسم لا يمكن) ها هنا لأنه ينقص الجد عن السدس، ولا يمكن نقصهعنه، لم يكن بد من أن يفرض لها النصف، وتعول الفريضة بنصفها، فتصير تسعة تأخذ ثلاثة أسهم [من تسعة]، وللجد سهم، ثم يرجع الجد فيقاسم الأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وأربعة على ثلاثة غير منقسمة ولا موافقة، فتضرب ثلاثة في تسعة فتبلغ سبعة وعشرين، يكون للجد والأخت أربعة أسهم مضروبة في ثلاثة بإثني عشر سهمًا، يأخذ الجد ثمانية وتأخذ الأخت أربعة. ويشترط في هذه المسألة شرطان: أحدهما: اقترن الانوثة بالأخوة، فلو كان مكان الأخت أخ لم يأخذ شيئًا، لأنه عاصب بنفسه، فلا يفرض له شيئ. الشرط الثاني: ألا يكون للميت أخت أخرى من جهة من الجهات، فإنه متى كانت أخت ثانية أو أخوات، من أي جهة كن، فإن الأم لا تأخذ ي هذه المسألة إلا السدس، ويبقى للأخوات سهم يقاسمهن الجد فيه، ما لم تنقصه المقاسمة عن السدس على ما يأتي تفصيله. ومما ينخرط في سلك الشذوذ أيضًا مسألة تسمى الحمارية. وأصل هذه التسمية: أن الإخوة الاشقاء لم يبق لهم بعد أهل القسمة شيئ فقالوا لعمر رضي الله عنه: هب أبانًا كان حمارًا، [ألسنا] نشارك الغخوة للأم في الأم؟ وتسمى أيضًا المشتركة، لمشاركة الإخوة الأشقاء، وهم يرثون بالتعصيب للإخوة للأم، وهم يرثون بالفرض المسمى. وتتصور في مسألة فيها زوج وأم أو جدة وإخوة لأم، ذكورًا أو إناثًا، وأخ أو إخوة أشقاء. فغن الزوج يأخذ النصف، والأم أو الجدة السدس، والذين من قبل الأم اثلث، فيفرغ المال، فييسقط الإخوة الأشقاء (الوراثة) بالأب، ويشاركون الإخوة للأم في الثلث، فيقتسمونه على حكم (الوراثة) للأم، حتى لو كان معهم أخوات أشقاء وإخوة كذلك،

يتساوى الذكر والأنثى. ويشترط في هذه المسألة وجهان. أحدهما: أن يكون الأشقاء ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا، فأما لو كن إناثًا فقط لورثن بالفرض، يفرض للواحدة منهن النصف وللاثنتين فصاعدًا الثلثان. والوجه الثاني: أن يكون أشقاء حتى لو كانوا للأب فحسب لم يرثوا شيئًا، لأن هؤلاء لو أسقطوا أباهم لم يكن بينهم وبين الموروث قربى غيره. هذا ترتيب الموايث على الفروض، ولنعد ترتيبها على النسب لتكمل الفائدة. أما بنو الصلب، فإن الابن الواحد يحوز المال إذا انفرد، والاثنان والجماعة يقتسمونه بالسواء. وغذا اجتمع الذكور اقتسموا المال للذكر مثل حظ الأنثين. وفرض الواحدة، إذا انفردت، النصف، وفرض الأثنتين فصاعدًا الثلثان. وأما ولد الابن فميراثهم مع عدم ولد الصلب على سبيل ميراث ولد الصلب جملة (من غير) تفصيل. وميراثهم مع إناث ولد الصلب أن يأخذ ذكورهم ما فضل عن فرض الإناث بالتعصيب، فإن كان معهم إناث تقاسموا للذكر مثل حظ الانثيين. فأما إناثهم (فيأخذن) مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين، الواحدة والجماعة، ويسقطن مع الاثنتين فصاعدًا، إلا أن يكون معها أو أنزل منها ذكر فيعصبها أو يعصب من معه في درجته معها، وإن كان مع الوسطى ذكر أخذ المال الباقي معها مقاسمة، ويسقطن من بعده، وإن كانت الطبقة العليا اثنتين استكملنا الثلثين، وسقطت الوسطى ومن بعدها، إلا أن يكون معه ذكر في درجتهن أو أنزل منهن. وأما الأب فإذا انفرد حاز المال بالتعصيب، فإن كان معه ذو فرض، سوى إناث ولد الصلب وولد الابن، أخذ ذو الفرض فرضه، وأخذ هو الباقي بالتعصيب، فأما ميراثه مع ولد الصلب وولد الابن فيفرض له من ذكورهم وإناثهم السدس، ثم إن فضل عن إناثهم فضل أخذه بالتعصيب. وأما الأم: (فيفرض) لها الثلث، إلا مع الولد وولد الابن و (الاثنين) من الإخوة والأخوات، فإن فرضها مع هؤلاء السدس؛ وإذا كان معها أب وزوج أو زوجة ففرضها بعد أخذ

وأما الجد فحكمه، إذا انفرد، أن يحوز المال كله ولا يسقطه جملة إلا الأب، كما تقدم؛ ويرث السدس مع ذوي السهام، إلا أن يفضل له شيئ فيأخذه بالتعصب، ويحدب ولد الأم ما كانوا، كما تقدم؛ فإن كان مع أخوة أو أخوات أو مجموعهم، وكانوا أشقاء أو الأب، فإنه يأخذ معهم الأفضل من الثلث، أوالمقاسمة لهم. فإن كان معهم ثلاث أخوات فأقل، أو أخر واحد فالمقاسمة أفضل، وإن كن خمس أخوات أو ثلاثة إخوة فأكثر فالثلث أفضل له، وإن كن أربع أخوات أو أخوين فتستوي المقاسمة والثلث. ثم حيث قاسمهم على المعادة فكان بعض مقاسميه أشقاء وبعضهم لأب، رجع الأشقاء على الذين من قبل الأب، فيأخذ الذكور كل ما في أيديم وتستوفي الأنثى والأنثيان نصيبهم. مثال ذلك: أن يترك الميت جدًا وأخًا شقيقًا وأخًا لأب، فإن الأخ الشقيق يعد الجد بالأخ للأب، فيكون للجد الثلث وهو الذي تعطيه المقاسمة، ثم يرجع الأخ الشقيق فيأخذ سهم للأب فيكون في يده سهمان، وفي دي الجد سهم. وإن كان مع الأخ الشقيق أخت لأب فإن القسمة تكون ها هنا من خمسة: للجد سهمان وللأخ سهمان، وللأخت سهم، ثم يرجع الأخ فيأخذ ما بيدها. وإن كانت الأخت شقيقة والأخ للأب فالقسمة على خمسة، كما تقدم، ثم ترجع الأخت تأخذ تمام فرضها من يد الأخ، وهو ها هنا سهم ونصف، فيكمل لها به النصف من أصل المال. وعلى هذا القانون يجري الأمر في المعادة، فإن كان الأشقاء يستوفون الثلثين لم تقع ها هنا معادة. هذا حكم الجد إذا كان معه إخوة، ولم يكن معهم ذوو سهام، فغن كان (مع) ذوي سهام وإخوة، فإنه يعطي الأفضل من ثلاثة أشياء: السدس من رأس المال، أو ثل ما بقي بعد ذوي السهام، أو المقاسمة فيه. مثل ذلك: أن يترك الميت زوجة وأخاً شقيقًا أو لأب وجدًا، فإن مقاسمة الأخ ها هنا أفضل للجد. فإن ماتت امرأة وتركت زوجًا وأمًا وجداص وثلاثةإخوة أشقاء أو لأب، فإن السدس من رأس المال أفضل من في هذا للجد، لأن الزوج يأخذ النصف، وهو ثلاثة من ستة، والأم السدس وهو سهم، وتبقى سهمان، فالأفضل للجد أن يأخذ واحدًا منهما، وهو السدس. وإن مات رجل وترك زوجة وجدًا وأربعة إخوة، فإن ثلث ما بقي أفضل للجد في هذا من المقاسمة، ومن السدس من رأس المال.

ثم إن كان الإخوة أشقاء ولأب، فحكمهم في المعادة وفي رجوع الأشقاء على الذين للأب، كما تقدم، إذا لم يكن معهم ذوو سهام. ولا يفرض للأخوات مع الجد شيئ مسمى إلا في الأكدرية. ولا يسقط الأخ مع الجد، إلا إذا كان عوض الأخت فيها، كما تقدم. ثم حيث كان الأخ عوضها، وكان معه فيها إخوة لأم، وكان الأخ للأب خاصة، فقال القاضي أبو بكر: "قال مالك: للزوج النصف، وللأم السدس فريضة، وللجد ما بقي. قال: لأن الجد يقول: لو لم أكن كان للإخوة للأم ما بقي، ولا يأخذ الأخ للأب شيئًا، فلما حجبت إخوة الأم كنت أنا أحق به". قال القاضي: "وروي عنه وعن زيد أن للجد السدس وللأخ للأب السدس، كهيئة المقاسمة". وأما الجدات ففرضهن السدس، في الانفراد والاجتماع، كما تقدم. ولا يرث منهن إلا اثنتان: أم الأم وأمهاتها، وأم الأب وأمهاتها. ولا يرث أم جد. فأما ميراث الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب فعلى سبيل ميراث ولد الصلب وولد الابن. فالأخ للأب والأم إذا انفرد حاز المال، وإن كانوا إخوة ذكورًا اقتسموه بالسواء، فإن كان معهم إناث اقتسموا للذكر مثل حظ الأنثيين،. وفرض الواحدة إذا انفردت النصف، والاثنتين فصاعداً اثلثان. وفرض ولد الأب إذا انفردوا كميراث ولد الأب والأم، فأما إذا اجتمعوا معهم، فإن ذكور ولد الأب والأم يسقطون ولد الأب جملة. وأما إذا اجتمع ولد الأب مع إناث ولد الأب والأم فإن ذكورهم يأخذون ما بقي بالتعيب بعد فرض الإناث، ويأخذ إناثهم مع الواحدة من إناث ولد الأب والأم السدس تكملة الثلثين، يسقطن مع الاثنتين فصاعدًا إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن خاصة فيعصبهن. وأما ولد الأم فللواحد السدس، وللاثنين فصاعدًا الثلث، والذكر والأنثى سواء. ويتم المقصود من الباب بذكر فرعين. الفرع الأول: إذا اجتمع في الشخص الواحد سببان، يورث بكل واحد منهما فرضًا مقدرًا، فإنه يرث بأقواهما ويسقط اأضعف، سواء اتفق ذلك في المسلمين أو المجوس، وذلك كالأم أو البنت تكون أختًا.

الباب الثاني: في موانع الميراث

ولا يلزم، على ما قلناه، ابنالعم يكون أخًا لأم، لانه يكون ابن العم لا يرث فرضًا مقدرًا، وإنما يرث بالتعصيب. الفرع الثاني: إذا عدمت العصوبة من جهة القرابة، فالعصوبة لمعتق الميت، فغن لم يكن حيًا فلعصبات المعتق، فإن لم يكن فلمعتق المعتق، فإن لم يكن فلعصبات معتق المعتق إلى حيث ينتهي. فإن لم يكن واحد منهم فالمال لبيت المال، وهو أيضًا عصوبة على المشهور، ويستغرق إذا لم يكن وارث، ويأخذ ما بقي من أصحاب الفروض، إذا لم يكن للميت إلا ذو فرض. قال الشيخ أبو عمر: "فإن لم يكن عصبة ولا ولاء (فبيت مال المسلمين)، إذا كان موضوعًا في وجهه. ولا يرث ذوو الأرحام، ولا يرد على ذوي السهام. قال الأستاذ أبو بكر: قال أصحابنا: هذا في زمان يكون الإمام عدلاً، فإن كان غير عدل فينبغي أن يورث ذوو الأرحام، وأن يرد ما فضل عن ذوي السهام عيهم. وقال أيضًا: رأيت لابن القاسم في كتاب محمد: قال: من مات ولا وارث له قال:"يتصدق بما ترك، إلا أن يكون الواي يخرجه ف يوجهه مثل عمر بن عبدالعزيز، فيدفع إليه. هذا حكم المسلم، فأما الكافر فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا هلك الكافر المؤدي للجزية ولا حائز لماله بميراث يعلم، فماله لأهل دينه، يخص به منهم أهل كورته الذي جمعه وإياهم ما وضع عليهم من الجزية. وإن كان ذميًا مصالحًا كان ما ترك لمن جمعه وإياه ذلك الصلح الذي كان، أو من بقي من أعقابهم الموجودين. قال: وفيها قول ثان أن ميراثه للمسلمين. قال: وبه يقول ابن القاسم محمد بن مسلمة. الباب الثاني: في موانع الميراث، وهي ستة: المانع الاول: اختلاف الدين. فلا يتوارث الكافر والمسلم. ولا يثبت التوارث بني اليهودي والنصراني، ولا بين أهل ملة وأهل ملة أخرى أصلاً، إن تحاكموا إلينا. والمرتد لا يرث ولا يورث بل ماله فيئ. هذا حكمه إذا قتل أو مات على ردته بعد

الاستتابة. فأما لو أسر النصرانية أو اليهودية وأظهر الإسلام، فإنه يقتل ولا يستتاب، ويكون ميراثه لورثته من المسلمين. وكذلك من عبد شمسًا أو قمرًا أو حجرًا أو غير ذلم مستسرًا به مظهرًا للإسالم، فظهر عليهم وهم يقرون بالإسلام وأحكامه، فهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عيه وسلم، فكل ما لا يستتاب فإن ورثته من المسلمين يرثونه، وتنفذ وصيته في ماله. قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك عمن أثق به، وكتب يستفتيه فيمن صلبه أمير المؤمنين من الزنادقة؟ فرأى مالك أن يورث منهم ورثتهم من المسلمين. قال: وأخبرني ابن أبي زنبر أن رجلاً جاء إلى مالك فقال: إن أبي كان يعبد الشمس، يريد سرًا، ويظهر الإسلام، أفترى أن أرثه؟ فقال: نعم، أرى ذلك لك. واختار رواية ابن القاسم هذه أصبغ والشيخ أبو إسحاق. وروى ابن نافع أن سبيل مال الزنديق سبيل دمه، وماله للمسلمين. ولا يرثه ورثته من المسلمين ولا من الزنادقة. وبهذه الرواية قال ابن الماجشون وأشهب وسحنون. قال القاضي أبو الوليد: "فرواية ابن القاسم تقتضي أن يقتل حدًا، ورواية ابن نافع تقتضي أنه يقتل كفرًا". فرع: لو تحاكم إلينا ورثة الكافر، فإن تراضوا بحكمنا قسمنا [بينهم] على حكم الإسلام، وإن أب بعضهم فإن كانوابأجمعهم كفارًا لم يعرض لهم، وإن كان منهم من أسلم قسمنا بينهم، في رواية ابن القاسم، على مواريثهم، إن كانوا كتابيين، وعلى قسم الإسلامإن كانوا من غير أهل الكتاب. وقال ابن نافع وسحنون: أهل الكتاب وغيرهم سواء، يقسم بينهم على حكم الإسلام. المانع الثاني: الرق. فلا يرث الرقيق ولا يورث. ويستوي في ذلك المكاتب والمدبر وأم الولد والقن، ومن بعضه حر كمن كله رق، ولا يرث ولا يورث. ومامات عنه فهو لمن يملك (الرقيق) منه، لا يستثني من هذا الجنس إلا ما تقدم من حكم المكاتب إذا مات على مال ومعه في الكتابة ولد، على ما بين في كتابه.

المانع الثالث: القتل: فلا ميراث للقالت إن كان القتل عمدًا، لا من المال ولا من الدية إن قبلت منه، فإن كان خطأ ورث من المال دون الدية. المانع الرابع: انتفاء النسب باللعان. فينقطع التوارث بين الملاعن والولد، ويبقى الإرث بينه وبين أمه، فترث منه الثلث أو السدس فرضها في كتاب الله، ويرثه إخوته لأمه، وما فضل من ميراثه فلموالي أمه إن كانت معتقة، فغن لم تكن فلبيت المال. وإن أتت بتوأمين فهما يتوارثان بأنهما لأب وأم، إذ انقطاع أبوتهما بالتعان الزوج منه، لا بينهما. وولد الزنا كالمنفي باللعان، فلا يرث الزاني ولا يرثه ورثة الأم ويرثها، إلا إذا ولدت توأمين فإنهما يتوارثان بأخوة الأم فقط. واختلف في توأمي المغتصبة: هل يلحقان بتوأمي الملاعنة أو بتوأمي الزانية؟ على قولين: الأول مروي عن مالك، والثاني اختيار الشيخ أبي إسحاق. المانع الخامس: استبهام التقدم والتأخر في الموت: كما إذا مات قوم من الأقارب في سفر أو تحت هدم أو بغرق، فإنا نقدر في كل واحد كأنه لم يخلف صاحبه، وإنما خلف الأحياء إذا عسر التوريث للاشتباه. وكذلك نفعل إن علمنا أنهم ماتوا على ترتيب، ولكن تعذرت معرفة السابق. المانع السادس: ما يمنع من الصرف في الحال. وهو الإشكال إما في الوجود أو في [الذكورة] أو فيهما جميعًا. أما الإشكال في الوجود فصورته: المفقود والاسير الذي انقطع خبره، إن كان له مال حاضرن فال يقسم على ورثته ما لم تقم بينة على موته أو تمضي مدة لا يعيش إلى مثلها غالبًا، وحدها: سبعون، وقيل ثمانون، وتسعون، فيقسم على ورثته الموجودين عند الحكم. (فإن) مات له قريب حاضر توفقنا في نصيبه، حتى تعلم حياة المفقود، فيكون المال له أو يممضي تعميره، فيكون مال الميت لورثته دون المفقود وورثته.

وإذا قسمنا على الحاضرين أخذنا في حقهم بأسوأ الأحوال حتى لا نورث بالشك. وكيفية العمل فيه ما نبينه: فلو ماتت امرأة وتركت زوجًا وأمًا وأختًا وأبًا مفقودًا، فالفريضة، على أن المفقود ميت، من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأخت ثلاثة، ويعال للأم بالثلث، فتصير ثمانية. والفريضة، على أن المفقود حي من ستة، أيضًا: للزوج ثلاثة، وللأم ثلث ما بقي سهم، وللأب سهمان، فالفريضتان تتفقان بالنصف، فيضرب نصف إحداهما في كامل الأخرى، تكون أربعة وعشرين: فنقول للزوج: لك، يقينًا بلا شك، ثلاثة من ثمانية مضروبة في ثلاثة نصف الفريضة الأخرى، وإنما يكون لك ثلاثة من ستة بصحة حياة الأب، ولا يعلم ذلك، ويقال للأخت: لا ميراث لك من أختك إلا بصحة موت أبيك قبل أختك، ولا يعلم ذلك، فليس لك ميراث بالشك، ويقال للأم: لك من ابنتك السدس يقينًا، سهم من ستة مضروب في أربعة نصف فريضة ثمانية، وإنما يكون لك الثلث بالعول بصحة موت زوجك قبل ابنتك، ولا يعلم ذلك، فليس لك بالشك شيئ. ويبقى من الفريضة أحد عشر سهمًا موقوفة، ليس يعلم لمن هي يقينًا، فإن صح أن الأب كان حيًا يوم موت ابنته، قيل للزوج: لك يقينًا ثلاثة من ستة مضروبة في أربعة بإثنى عشر، في يدك تسعة، الباقي لك ثلاثة، فتدفع إليه من الموقوف. ويقال للأم: لك سهم من ستة مضروب في أربعة، ففي يدك جميع حقك. وللأب سهمان من ستة، مضروبة في أربعة بثمانية، فتدفع إليه الثمانية التي بقيت من الموقوف. وإن ثبت أن الأب مات قبل ابنته، أو لم يعلم له موت، فموت بالتعمير فالحكم في ذلك سواء، فيقال للزوج: لك يقينًا ثلاثة من ثمانية، في ثلاث بتسعة، ففي يدك جميع حقك. ويقال للأم: لك إثنان من ثمانية، في ثلاثة بستة، في يدك من ذلك أربعة، فيدفع إليها السهمان من إحدى عشر الموقوفة. ويقال للأخت: لك ثلاثة من ثمانية، في ثلاثة بتسعة، فتدفع لها التسعة الباقية. وأما إشكال الذكورة، فبأن يخلف ولدًا خنثى، فإنه يعتبر، إذا كان ذا فرجين: فرج الرجل وفرج المرأة، ن بالمبال منهما، فيعطى الحكم لما بال منه، فإن بال منهما اعتبرت الكثرة من أيهما، فإن تساوى الحال اعتبر السبق، فإن كان ذلك منهما معًا اعتبر نبات اللحية أو كبر اثديين ومشابهتهما لثدي النساء، فإن اجتمع الأمران اعتبر الحال عند البلوغ، فإن وجد الحيض حكم به. وإن جد تالاحتلام وحده حكم به. وإن اجتمعا فهو مشكل، وكذلك لو لم يكن فرج، لا المختص بالرجال ولا المختص بالنساء، بل كان له مكان يبول منه فقط انتظر به البلوغ، فإن ظهرت علامة مميزة، وإلا فهو مشكل. ثم حيث حكمنا بالإشكال فميرانه نصف نصيبي ذكر وأنثى. ووجه العمل فيه أن يؤخذ مخرج التذكير ومخرج التأنيث، ثم يضرب أحدهما في الآخر إن تباينا أو يستغنى به عنه إن كان الآخر مثله أو داخلاً فيه، فما تحصل من ذلك ضرب في حالتي الخنثى أو عدد أحوال الخناثي،

إن زادوا على الواحد وعدد الأحوال بالتضعيف، كلما زدت خنثى أضعفت جميع الأحوال التي كانت قبله، فللواحد حالان، وللاثنين أربعة أحوال، وللثلاثة ثمانية، وللأربعة ستة عشر، وللخمسة إثنان وثلاثون، وعلى هذا الترتيب كلما زدت واحدًا أضعفت ما كان من الأحوال قبله، فما انتهى إليه الضرب في الأحوال فمنه تكون القسمة، ثم لها طريقان. الطريق الأول: أن ينظر في المجتمع من الرب: كم يخص الخنثى منه على تقدير (الذكورة)، وكم (يخصها) منه على تقدير لأنوثة؟ فيضم أحدهما إلى الآخر ثم يقسمه نصفين فتعطيه نصفه، وكذلك يفعل بسائر الورثة. والطريق الثاني: أن تضرب نصيبه من فريضة (التذكير) في جملة فريضة التأنيث ونصيبه من فريضة التانيث في جملة فريضة التذكير، ثم يجمع له ما يخرج فيهما فهو نصيبه. مثال ذلك: ولد خنثى وعاصب، وفريضة التذكير من واحد، إذا يجوز الذكر جميع المال، وفريضة التأنيث مناثنين والواحد داخل فيها، فتضرب اثنين في حالتي الخنثى بأربعة، فعلى الطريق الأول تقول: للخنثى على تقدير الذكورة جميع المال، وهو الأربعة بكمالها، وعلى تقدير الأنوثة نصف المال. فذلك مال ونصف يدفع له نصف ذلك وهو نصف وربع المال، وهو ثلاثة من الأربعة، والسهم الباقي للعاصب، لأنه على تقدير ذكورة الخنثى لا يكون له شيئ، وعلى تقدير أنوثته يكون له النصف، فملا ثبت له تارة وسقط أخرى أعطي نصفه، وهو الربع. وأما على الطريق الثاني، فنقول: للخنثى من فريضة التذكير سهم، مضروب له في اثنين فريضة التأنيث، باثنين، وله من فريضة التأنيث سهم مضروب له في فريضة التذكير وذلك سهم بسهم، فيجتمع له ثلاثة أسهم وهي ثلاثة أرباع المال، وللعاصب سهم من فريضة التأنيث، مضروب له في سهم فريضة التذكير، بسهم، وليس له شيئ من فريضة التذكير. مثال آخر: ولدان أحدهما ذكر والآخر خنثى، ففريضة التذكير من اثنين، وفريضة التأنيث من ثلاثة، وهما متباينان، فإثنان في ثلاثة بستة، ثم في حالتي الخنثى باثنتي عشر. فعلى الطريق الأول نقول: للخنثى على تقدير الذكورة ستة، وعلى تقدير الأنوثة أربعة، فله خمسة، وللذكر على ذكورة الخنثى ستة، وعلى أنوثته ثمانية فله سبعة. وعلى الطريق الثاني: للخنثى من فريضة التذكير سهم، مضروب له في ثلاثة فريضة التأنيث، بثلاثة، وله من فريضة التأنيث سهم، مضروب له في فريضة التذكير، وهي إثنان،

باثنين، فذلك خمسة، وللذكر من فريضة التذكير سهم، في ثلاثة فريضة التأنيث، بثلاثة، وله من فريضة التأنيث سهمان، في اثنين فريضة التذكير، بأربعة، فجميع ذلك كله سبعة، وهي حصته. مثال آخر: ولدان خنثيان وعاصب، فللخنثيين أربعة أحوال، فالفريضة، على أنهما ذكران من اثنين، وعلى أنهمنا أنثيان من ثلاثة، وكذلك في الحالين الآخرين أعني أن يكون ذكرًا وأنثى من الجانبين، فيستغنى بثلاثة عن ثلاثة، فيضربها في اثنين، بستة. ثم في الأحوال الأربعة، بأربعة وعشرين. فعلى الطريق الأول نقل: لكل واحد من الخنثيين، علىتقدير انفراده بالذكورة، ستة عشر، وعلى تقدي رمشاركته فيها، إثنا عشر، وعلى تقدير انفراده بالأنوثة، ثمانية، وكذلك على تقدير مشاركته فيها، وجملة ذلك أربعة وأربعون في الحالات الأربع، وإنما يرث بحالة واحدة، فيكون له ربع الجميع، وهو أحد عشر سهمًا، ويبقى للعاصب سهمان، لأن الحاص له، في حالة من جملة الأحوال الأربعة، الثلث، فله ربعه وهو سهمان من أربعة وعشرين. وعلىالطريق الثاني نقول: لكل واحد منهما من فريضة تذكيرهما سهم، مضروب له في فريضة التأنيث وهي ثلاثة، بثلاثة، وله من فريضة تأنيثهما سهم، مضروب له في اثنين فريضة تذكيرهما، باثنين، وله من فريضة تذكيره خاصة سهمان، في اثنين فريضة تذكيرهما، بأربعة، وله من فريضة تأنيثه خاصة سهم، وفي اثنين أيضًا، باثنين، وجملة ذلك أحد عشر، فهي تصيب كل واحد منهما، وللعاصب سهمان إذ ليس له شيئ في الفرائض الثلاث المستملة على المذكورة، وإنما له في فريضة تأنيثهما خاصة سهم واحد، مضروب له في اثنين فريضة التذكير، باثنين، وعلى هذا النحو يعمل فيما زاد على الاثنين. ولنقتصر على هذا القدر المنبه على كيفية العمل، فإن القصد الاختصار لا سيما مع قلة وقوع هذا الفرع. وأما إشكال الذكورة والوجود جميعًا، فبأن يخلف الميت زوجة حاملاً ويرغب الورثة في التعجيل، فذكر الشيخ أبو إسحاق أنه لا تنفذ وصاياه ولا تأخذ زوجته أدنى سهميها حتى تضع. ثم حكى عن أشهب: أنها تتعجل أدنى السهمين. قال: وهو الذي لا شك فيه. ثم قال: قد قال قائل: يوقف من ميراثه ميراث أربعة ذكور. قال: وحجته في ذلك: أن أكثر ما تلد المرأة أربعة. قال: وقد ولدت أم ولد أبي إسماعيل أربعة ذكورًا محمداً وعمر وعليًا وإسماعيل. بلغ محمد وعمر وعلي الثمانين. وإذا فرعنا على ما حكاه عن أشهب وارتضاه، وبيننا على أن أكثر الحمل أربعة تعين

الباب الثالث: في أصول الحساب وبيان المخارج

حكى عن القائل، فإنما نأخذ بأضر الاحتمالات في حق سائر الورثة. وأقصى المحتمل حيث العدد والنصيب أن يقدر أربعة بنين. الباب الثالث: في أصول الحساب وبيان المخارج اعلم أن المسألة الواقعة إن تجرد فيها العصبات، فالعدد الذي تصح المسألة منه يؤخذ من (عددهم). فإن تمحضوا ذكورًا: فالمسألة تقام من عدد رؤوسهم. وإن كانوا ذكورًا وإناثًا، فمن عدد الإناث وضعف عدد الذكور، لأن الذكر في التعصيب باثنين. فإن اشتملت المسألة على ذي فرض مقدر، فالأصول التي تنشأ منها مسائل [الفروض]، على قول المتقدمي، سبعة أعداد: الاثنان، وضعفهما (وهي) الأربعة، وضعفهما (وهي) الثمانية. والثلاثة، وضعفهما وهو الستة، وضعفهما وهو الاثنا عشر، وضعفهما وهو الأربعة والعشرون. ولا مخارج لها عند المتقدمين سوى هذه. ومقصود الفرضين بتحرير هذه المخارج شيئان: أحدهما: قسمة السهام على أعداد صحا من غير كسر. والثاني: طلب أقل عدد تصح فيه، فيعولون عليه. فالاثنان لكل مسألة اشتملت على نصف ونصف، كزوج وأخت، أو على النصف وما بقي كزوج وأخ. والأربعة: لكل فريضة اشتملت على ربع وما بقي، كزوج وابن؛ أو ربع ونصف وما بقي، كزوج وبنت وأخ؛ أو ربع وثلث ما بقي، وما بقي كزوجة وأبوين. والثمانية: أصل لكل فريضة فيها ثمن، وما بقي، كزوجة وابن، أو ثمن ونصف، وما بقي، كزوجة وبنت وأخ. ولا يتصور اجتماع الربع والثمن في فريضة، ولو كان متصورًا لخرجا منها. وأما الثلاثة: فلكل فريضة فيها ثلث وثلثان، كإخوة لأم وأخوات لأب، أو ثلثوما بقي كأم وأخ، أو ثلثان وما بقي، كبنتين وعم. والستة: لكل فريضة فيها سدس وما بقي، كجدة وابن، أو سدس وثلث وما بقي، كجدة

وأخوين لأم وأخ لأب، أو سدس وثلثان وما بقي كأم وابنتين وأخ، أو نصف وثلث وما بقي، كأخت وأم وابن أخ. والاثنا عشر: لكل فريضة فيها ربع وسدس وما بقي، كزوج وأم وابن، أو ربع وثلث وما بقي، كزوجة وأم وأخ، أو ربع وثلثان وما بقي، كزوج وبنتين وأخ. والأربعة والعشرون: لكل فريضة فيها ثمن وسدس وما بقي، كزوجة وأم وابن، أو ثمن وثلثان وما بقي كزوجة وبنتين وأخ. ولا يتصور اجتماع الثمن والثلث، ولو كان متصورًا لخرجا منها. وهذه الأصول منقسمة، فمنها ما يقوم بانفرادالفرائض، وإن كان قد يشتمل على أكثر من فرض كالاثنين والثلاثة والأربعة والستة والثمانية، ومنها لا يقوم إلا بتعداد (الفروض) كالاثنين عشر والأربعة والعشرين. وطريقة إقامة هذا التقسيم أن ينظر إلى مخرجي الفريضتين، فإن كانا متباينين ضربنا أحدهما في الآخر، فما انتهى إليه الضرب فهو مخرجها؛ فإن كان بين مخرجيهما توافق ضربنا وفق أحدهما في كل الآخر، فما انتهى إليه الضرب فهو مخرجهما، كثلث وربع مخرجهما اثنا عشر وكذلك ربع وسدس. وكسدس وثمن مخرجهما أربعة وعشرون. ثم هذه الأصول تنقسم أيضًا، إلى عائلة وغير عائلة: فغير العائلة منها: الاثنان والثلاثة والأربعة والثمانية؛ وتسمى الأوليان عادلتين، ومعناه: أنهما قد تكونان عادلتين، أي إن سهام كل واحدة منهما قد تستغرقها، فتكون عادلة كاجتماع النصف والنصف في الأولى، واجتماع الثلث والثلثين في الثانية. وتسمى الثالثة والرابعة ناقصتين، لعدم ذلك فيهما. والعائلة من الأصول: هي الستة، وضعفها، وضعف ضعفها. وعول الستة بأوتارها وأشفاعها، ومنتهى عولها عشرة. فتعول بسدسها إلى سبعة. كأخوات لأب وأخوات لأم وجدة؛ وبثلثها إلى ثمانية، كزوج وأختين لأب وأخت لأم؛ وبنصفها إلى تسعة، كزوج وأختين لأب وأختين لأم، وبثلثيها إلى عشرة كزوج وأختين لأب وأختين لأم، وجدة. وأما الاثنا عشر فتعول بالأوتار دون الإشفاع، فتعول بنصف سدسها إلى ثلاثة عشر، كزوجة وأختين شقيقتين وأخ لأم، وبربعها إلى خمسة عشر، كأخوات لأب وأخوات لأم وزوجة، فيعال لها بالثمن، وهي الملقبة بالمنبرية، قيل: إن عليًا رضي الله عنه سئل عنها، وهو على المنبر، فقال على الارتجال: صار ثمنها تسعًا.

وسميت الفريضة عائلة من الزيادة إذا اجتمعت فيها فروض لا تفي بها جملة المال، ولم يكن إسقاط بعضها من غير حاجب، ولا تخصيص بع ... ذوي الفروض بالتنقيص دون بعض، فزيد في الفريضة سهام حتى يتوزع النقص على الجميع إلحاقًا لأصحاب الفروض بأصحاب الديون، فسمي ذلك عولاً. أما تصحيح حساب المسائل ومبلغ السهام التي عليها تنقسم التركة، فيستدعي الخوض فيها تقديم قول في نسبة بعض الأعداد إلى بعض. وذلك أن كل عددين فإما يكونان متماثلين أو غير متماثلين، وكل عددين غير متماثلين فإذا نقص أقلهما من أكثرهما فإما أن يفنيه أو لا يفنيه، فإن أفناه سمي الأقل داخلاً في الأكثر، وقيل لهما: متداخلان. ولا يزيد الداخل على نصف الأكثر. وإن لم يفنه، بل بقي من الأكثر عدد أقل من الأقل، أسقطنا البقية من الاقل، فإن أفتنه وإلا اسقطنا منها ما بي منه أقل منها. ولا نزال نفعل هكذا نسقط الأقل من الأكثر حتى يفني أحدهما الآخر، بأكثر من الواحد، فنسميهما حينئذ متوافقين، ويكون الوفق بينهما الجزء السمي بعدة العدد الذي حصل به الإفناء، مفتوحًا كان أو أصم، كصنف إن كان اثنين، وثلث إن كان ثلاثة، وربع إن كان أربعة، وعلى هذا النحو. أو يجزء من أحد عشر إن وقع الغفناء بأحد عشر، أو بجزء من ثلاثة عشر إن وقع الإفناء بثلاثة عشر، وإن تمادينا على إسقاط الأقل من الأكثر من العددين حتى انتهينا إلى أن يفضل الواحد من العددين وقبل فناء أحدهما سميناهما متباينين. وعبارة الحساب في ذلك: أن كل عددين يعدهما عدد ثالث فهما متوافقان، وكل عددين لا يعدهما إلا الواحد فهما متباينان. والمعنى في العبارتين، واحد ولاثانية أوجز، والأولى أقرب لاستخراج جزء الموفقة. وقد دخل في حد الموافقة المداخلة والمماثلة، وهو كذلك، وإنما أسقطا، أعني المثل، والذي يدخل فيه عدد لا يزيد على نصفه، لأن المقصود بطلب الوفق لا يحصل فيهما، فوقد دخل في حد الموافقة المداخلة والمماثلة، وهو كذلك، وإنما أسقطا، أعني المثل، والذي يدخل فيه عدد لا يزيد على نصفه، لأن المقصود بطلب الوفق لا يحصل فيهما، فإنا إذا ضربنا وفق أحد المتداخلين في كل الآخر لم يزد الخارج على الاكثر، لأن الموافقة بينهما بجزء منة جملةآحاد الأقل، وكذلك إذا ضربنا وفق أحد المثلين الآخر لم يزد عليه، لأن الموافقة بينهما بجزء من جملة آحاد أحدهما. إذا تقرر هذا عدنا إلى المقصود، وقد قدمنا أن المسألة تصح من السهام إذا انفردت العصبات، فإ، كان معهم ذو فرض فمن المخارج المتقدمة، فإذا استخرجنا أصل مسألة من الأعداد المذكورة، وأعطينا من الأصل لكل صنف حقهم، فإن انقسمت سهام المسألة على أصناف الورثة فقد صحت من أصلها، وقد تكون عائلة وقد لا تكون، وإن وقع في قسمة السهام على مستحقها كسر فذلك لأجل عدد الأصناف؛ ثم قد يقع الكسر على صنف واحد، وقد يقع بأجزائها، والذي لا ينضبط هو عدد الأصناف؛ ثم قد يقع الكسر على صنف واحد، وقد يقع على صنفين، وعلى ثلاثة أصناف، ولا يزيد على الثلاثة على أصلنا، إذ لا يزيد عدد الورثة

عندنا على أربعة أصنافن ولابد أن يصح نصيب صنف عليهم، وإذا وقف الانكسار على ثلاثة أصناف انحصر الكلام عليه في ثلاثة أقسام. القسم الأول: أن يقع الانكسار على صنف واحد، فلو ضربنا عدد رؤوسهم في أصل المسألة، أو في أصلها بعولها، إن كانت عائلة، لحصل مقصودنا من التصحيح، لكنا لطلب الاختصار، وتقليل الحساب، نعتب رالسهام مع عدد الرؤوس، فإن كانا متباينين ضربنا عدد الروس في أصل المسألة كما تقدم، إذ لا طريق للاختصار، وإن كانا متوافقين اجتزينا بوفق عدد الروس عن جملتها، فضربناه في أصل المسألة، فما انتهى إليه الحساب فمنه تصح القسمة. مثال المباينة: ثلاث بنات وابن عم: الفريضة من ثلاث للبنات سهمان ينكسران عليهن، ولا موافقة بينهن وبين الاثنين، فتضرب الثلاثة عدد المنكسر عليهن في ثلاثة أصل المسألة، تكون تسعة؛ من له شيئ من أصل المسألة أخذه مضروبًا في ما ضرب فيه أصلها، للبنان سهمان مضروبان لهن فيما ضرب فيه أصل المسألة، وهو ثلاثة بستة، لكل بنت سهمان. ومثال الموافقة: ست بنات وزوج وعاصب. الفريضة من اثني عشر، للبنات ثمانية تنكسر عليهن، لكن توافق عددهن النصف، فتضرب نصف الستة في اثني عشر مخرج الفريضة، تكون ستة وثلاثون، ومنها تصح. القسم الثاني: أن يقع الانكسار على صنفين، فكذلك، أيضًا لو ضربنا عدد رؤوس أحد الصنفين في عدد الصنف الآخر، ثم ما اجتمع في أصل المسألة لحصل المقصود، وصحت المسألة، لكن لطلب الاختصار يعتبر عدد رؤوس كل صنف مع سهامهم، كما تقدم من حيث الموافقة والمباينة، فننظر هل يوافق كل صنف عدد سهامه، أو يباينه، أو يوافق أحدهما سهامة ويباين الآخر سهامه، فما وافق سهامه أقمنا وفقه مقامه؛ ثم ننظر، طلبًا للاختصار أيضًا، بين العددين الحاصلين، أعني الوفقين أو الكاملين أو الوفق والكامل، فنعتبر نسبة بعضهاإلى بعض في التماثل والتداخل والتوافق والتباي، فإن تماثلا اقتصرنا على أحدهما وضربناه في أصل المسألة، وإن تداخلا اقتصرنا على الأكثر وضربناه في أصلها، وإن توافقا ضربنا وفق أحدهما في كامل الآخر، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، وإن تباينا ضربنا جملة أحدهما في جملة الآخر، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، فما انتهى إليه الضرب ف يجميع ذلك فمنه تصح المسألة على الصنفين جميعًا. وقد تبين من هذا أن كل واحد من الاقسام الثلاثة تعتور عليه الأحوال الأربعة، (فتتضاعف) بها إلى اثني عشرة صورة، ويظهر تفصيل ما أجمل بالتمثيل.

المثال الأول: لتماثل الوفقين: أم وأربع أخوات لأم وست إخوة لأب؛ الفريضة من ستة، للأخوان اثنان غير منقسمين عليهن لكن يوافقان عدتهن بالنصف، وللإخوة للأب ما بي ثلاثة غير منقسمة عليهم نوافقه لعدتهم بالثلث فنصف عدة الأخوات اثنان، وثلث عدة الإخوة اثنان، فتضرب الفريضة ستة في اثنين إحدى العدتين، تبلغ اثنى عشر، منها تصح. المثال الثاني: لتداخل الوفقين: جدة وثمانية إخوة لأم وستة إخوة لأب؛ الفريضة من ستة: للإخوة للأم سهمان غير منقسمين عليهم موافقان لعدتهم بالنصف، وللإخوة للأب ما بقي ثلاثة غير منقسمة عليهم موافقة لعدتهم بالثلث؛ فثلث عدتهم اثنان داخلة في نصف عدة الإخوة للأم أربعة، فتضرب الفريضصة ستة في أربعة تكون أربعة وعشرين، منها تصح. المثال الثالث: لتوافق الوفقين: أم، وثمانية إخوة لأم، وثمانية عشر ابن في درجة؛ الفريضة من ستة، للإخوة سهمان غير منقسمين عليهم موافقان لعدتهم بالنصف، ولبني العم ثلاثة غير منقسمة عليهم موافقة لهم بالثلث، فثلثهم ستة، ونصف الإخوة أربعة، فهما يتفقان بالنصف، فتضرب نصف أحدهما في كامل الآخر تكون إثني عشر، فتضرب فيها أصل الفريضة ستة، تكن اثنين وسبعين، منها تصح. المثال الرابع: لتباين الوفقين: أم، وست أخوات أشقاء، وأربعة إخوة لأم؛ الفريضة من ستة، تعول بالسدس إلى سبعة، للأخوات، أربعة غير منقسمة عليهم موافقة لعدتهن بالنصف، للإخوة للأم اثنان غير منقسمين عليهم موافقان لعدتهم بالنصف، فتضرب نصف عدة الأخوات ثلاثة في اثنين نصف عدة الإخوة تكون ستة، تضرب فيها الفريضة بعولها، تكون اثنين وأربعين، منها تصح. المثال الخامس: لتماثل أصل العدتين: جدتان وزوجتان وأخوان لأب؛ الفريضة من اثنين عشر، للزوجتين الربع ثلاثة، غير منقسمة عليهما ولا موافقة، وللأخوين ما بقي، مبعد سهمي الجدتين، سبعة، غير منقسمة عليهما ولا موافقة، فعدة الزوجتين مماثلة لعدة الأخوين، فتضرب الفريضةإثنى عشر في اثنين إحدى العدتين، تكون أربعة وعشرين منها تصح. المثال السادس: لتداخل أصلي العدتين: زوجتان، وبنت، وأربعة إخوة لأب، الفريضة من ثمانية، للزوجين سهم غير منقسم عليها، وللإخوة ثلاثة غير منقسمة عيهم ولا موفقة لعدتهم، وعدة الزوجين داخلة في عدة الإخوة أربعة، فتضرب الفريضة في أربعة، تكون اثنين وثلاثين، منها تصح. المثال السابع: لتوافق أصلي العدتين: تسع بنات وستة إخوة لأب، الفريضة من ثلاثة، للبنات سهمان غير منقسمين عليهن ولا موافقين لهن، وللإخوة سهم غير منقسم، فعدة

الإخوة يوافق عدة البنات بالثلث، فتضرب ثلث إحداهما في كامل الأخرى، تكون ثمانية عشر، فتضرب فيها أصل الفريضة ثلاثة تكون أربعة وخمسين منها تصح. المثال الثامن: لتباين أصلي العدتين: ثلاث زوجات وأخوان شقيقان الفريضة من أربعة، للزوجات سهم غير منقسم [عليهن]، ولأخوين ثلاثة غير منقسمة عليهما ولا موافقة لهما، وعدة الزوجات لا توافق، أيضًا، عدة الإخوة، فتضرب عدة الزوجات ثلاثة في اثنين عدة الإخوة، تكون ستة، فتضرب فيها أصل الفريضة أربعة، تكون أربعة وعشرين، منها تصح. المثال التاسع: لتماثل وفق إحدى العدتين لكامل الأخرى، أم، وست بنات، وثلاثة بني ابن؛ الفريضة من ستة، للبنات أربعة غير منقسمة عليهن موافقة لهن بالنصف، ولبني الابن سهم غير منقسم، فنصب عدة البنات ثلاثة مثل عدة بني الابن، فتضرب الفريضة ستة في ثلاثة، تكون ثمانية عشر، منها تصح. المثال العاشر: لتداخل وفق إحدى العدتين وكامل الأخرى، أربع زوجات وستة إخوة لأب، الفريضة من أربعة، للزوجات الربع سهم غير منقسم، وللإخوة ثلاثة غير منقسمة عليهم موافقة لعدتهم بالثلث، فثلث عدتهم اثنان داخلة في أربعة عدة الزوجات، فتضرب الفريضة أربعة في أربعة، تكون ستة عشر، منها تصح. المثال الحادي عشر، لتوافق وفق إحدى العدتين وكامل الاخرى، ثماني بنات، وستة بني ابن، الفريضة من ثلاثة، للبنات سهمان غير منقسمين عليهن موافقان لهن بالنصف، ولبني الابن سهم غير منقسم، فعدة البنات أربعة توافق الستة عدة بني الابن بالنصف، فتضرب نصف إحدى العدتين في كامل الأخرى تكون اثني عشر، فتضرب فيها أصل الفريضة ثلاثة، تكون ستةوثلاثين منها تصح. المثال الثاني عشر: لتباين وفق إحدى العدتين لكامل الأخرى: أربع بنات، وابن ابن، وبنت ابن؛ الفريضة من ثلاثة، لبنات الصلب سهمان غير منقسمين عليهن، موافقان لعدتهن بالنصف، ولبني الابن سهم غير منقسم، فتضرب نصف عدة البنات اثنين في [ثلاثة] عدة أسهم بني الابن ثلاثة تكون ستة، فتضرب فيها الفريضة ثلاثة تكون ثمانية عشر، منها تصح. القسم الثالث: أن يقع الكسر على ثلاثة أصناف، فلو ضربنا أحدهما في آخر، ثم ضربنا المجموع في الثلث، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، لحصل المقصود من التصحيح، كما قدمنا في الصنف الواحد والصنفين، وكما يتعين فعله إذا كان عدد كل صنف منها يباين سهامه ويباين (جملة) الأعداد.

فإن كانت الاعداد موافقة للسهام، فلطلب الاختصار نقيم الاوفاق مقام أصول الأعداد، ثم تنظر هل بين كل واحد من أبعاضها وبين غيره منها مماثلة أو مداخلة أو موافقة أو مباينة، ف ما كانعملنا فيه ما تقدم من الاستغناء بالمثل أو بالأكثر، أو ضرب الوفق في الكل، أو ضرب الكل في الكل. فإن كان بعضها موافقًا وبعضها مباينًا أقمنا الوفق مقام الكامل، ثم نظرنا بين الوفق والكامل في الأعداد الثلاثة، فما تماثل منها استغنينا بالواحد منها، وما تداخل اسقطنا الأقل واكتفينا بالأكثر، وإن توافقت ضربنا وفقًا في وفق ثم في الكامل، وإن تباينت ضربنا أحد الأعداد في ثان، فما بلغ ضرب في الثالث، فما اجتمع فهو المبلغ الذي يضرب فيه أصل المسألة، ويسمى عدد المنكسرين. هذا هو أصل العمل في هذا القسم، إلا أنه قرب فيه في حال الموافقة نوع تقريب، اختلف الحساب في كيفيته على طريقتين. فقال الكوفيون: نعمل في عددين منها ما عملناه، في القسم الثاني، فما انتهى إليه العمل، وهو المبلغ الذي يضرب فيه أصل المسألة، جعلناه عددًا واحدًا ووفقنا بينه وبين العدد الثالث، وفعلنا فيهما ما فعلناه في العددين الأولين. وقال البصريون: نوقف أحد الأعداد، والأحسن عندهم أن يكون العدد الأكثر، ثم يوقف بينه (وبين الباقي)، ويعمل في وفقيهما أحد الأقسام الأربعة، فما حصل من ذلك ضربناه في العدد الموقوف. ومثال الطريقتين واحد. ومثالهما: سبع وعشرون بنتًا، وست وثلاثون جدة، وخمس وأربعون أختًا لأب. فعلى طريقة الكوفيين إذا وفقت بين السبع والعشرين والست والثلاثين وجدتهما يتفقان بالاتساع، فتضرب تسع أحدهما في كل الآخر، فتجده مائة وثمانية، فتوفق بينهما وبين الخمس والأربعين، فتجدها تتفق بالاتساع أيضًا، فتضرب تسع أحدهما في كل الآخر فيكون خمسمائة وأربعين، ثم في أثل المسألة تكون ثلاثة آلاف ومائتين وأربعين، منها تصح. وعلى طريق البصريين: توقف الخمس والأربعين، وإذا وفقت بينهما وبين السبع والعشرين وجدتهما يتفقان بالاتساع، فتأخذ تسع السبع والعشرين، وهو ثلاثة، ثم توقف بين الست ولاثلاثين وبين الخمس والأربعين، فتجدهما يتفقان بالاتساع أيضًا، فتأخذ تسع الست والثلاثين، وهو أربعة، ثم تجد الوفقين مختلفين فتضرب أحدهما في الآخر فيكون إثنى عشر، ثم في العدد الموقوف فيكون خمسمائة وأربعين، ثم في أصل المسألة تكن ثلاثة آلاف ومائتين وأربعين، كما تقدم. وذكر بعض الأصحاب طريقة وجيزة جارية في جميع هذا القسم مغنية عن التطويل فقال:

نجعل النظر بين صنفين من الثلاثة، كأنه لم يقع الانكسار إلا عليهما خاصة، فتعمل فيهما ما تقدم عمله في الانكسار على صنفين، حتى إذا انتهينا فيالعمل إلى إقامة عدد المنكسرين، أعني الذي يضرب في أصل المسألة، نظرنا بينه وبين العدد الثالث الباقي، ثم عملنا فيهما ما عملناه في العددين الأولين، فما انتهى إليه العمل وحصل من مبلغ الضرب جعلناه عدد المنكسرين ها هنا وضربناه في أصل المسألة، فما انتهى إليه الضرب فمنه تصح. ووضح هذه الطريقة يعني عن ذكر أمثلة لها. لكن نشرع في التمثيل للطريقة الأولى التي هي أصل عمل القسم، وهي التي عقدناها في صدره، ولما كان مشتملاً على ثلاثة، كما تقدم في القسم الثاني، أعني أن يكون جميع أصناف موافقة لسهامها، أو جميعها مباينة، أو بعضها موافقًا وبعضها مباينًا، أجرينا التمثيل على الترتيب المتقدم، وجعلنا في كل نوع أربعة أمثلة. مسألة تعم النوع الأول، وهي: زوجات وجدات وأخوات لأم وإخوة لأب؛ أصلها من اثني عشر، ففي المثال الأول لتماثل الأوقاف، نفرض الزوجات أربعًا والجدات ثمانيًا، والأخوات ست عشرة، والأخوة اثني عشر، فعدد كل من عدا الزوجات يوافق سهامه، وأوفاق جميعها متماثلة، فنستغني (بأحد الأعداد منها) ونضربه في أصل المسألة، تكون ثمانية وأربعين، منها تصح. وفي المثال الثاني لتداخل الأوفقا: نفرض عدد كل (حنس) على النصف مما كان، سوى عدة الإخوة فإنا نبقيها على حالها، فتدخل أوفاق الجميع في وفقها، فنضربه في أصل المسألة، فتكون كالأولى. وفي المثال الثالث لتوافق الأوفاق: نفرض عدد الجدات عشرين، وعدد الأخوات ست عشة، وعدد الإخوة ثمانية عشر، وعدد الزوجات اثنتين، وهي مماثلة لوفق الأخوات فتسقط، فنصف عدة الجدات وربع عدة الأخوات وثلث عدة الإخوة متوافقة، فنضرب وفق أحد الأوفاق في وفق ثان، ثم في كامل الوفق الثالث، تكون ستين، ثم في أصل المسألة تكون سبع مائة وعشرين، منها تصح. وفي المثال الرابع لتباين الأوفاق، نفرض عدة الجدات أربعًا، والأخوات عشرًا، والإخوة تسعة، وعدة الزوجات اثنتين، وهي مماثلة لعدة وفق الجدات فتسقط، فنصف عدة الجدات ونصف عدة الأخوات وثلث عدة الإخوة متباينة وهي أوفاقها، فتضرب أحدها في آخر، ثم في الثلث، تكون ثلاثين، ثم في أصل المسألة، تكون ثلاث مائة وستين، منها تصح. مسألة تعم النوع الثاني: جدات وبنات وإخوة لأب، أصلها من ستة. ففي المثال الأول

لتماثل أصول الأعداد نفرض الأعداد كلها ثلاثًا ثلاثًا، فأعداد الأصناف متماثلة، فتستغني بأحدها وتضربه في أصل المسألة، تكون ثمانية عشر، منها تصبح. وفي المثال الثاني لتداخل الأعداد، نفرض الإخوة ستة، ونبقي الجدات والبنات على عدتهن، فتدخل في عدد الإخوة، فتستغني به وتضربه في أصل المسألة، تكون ستة وثلاثين، ومنها تصح. وفي المثال الثالث لتوافق الأعداد، نفرض الجدات ستًا والبنات تسعًا والإخوة خمسة عشر، فأعداد الأصناف متوافقة بالثلث، فنضرب ثلث أحدها في ثل الآخر، ثم في كامل الثلث تكون تسعين، ثم في أصل المسألة، تكون خمسمائة وأربعينن ومنها تصح. وفي المثال الثالث لتوافق الأعداد، نفرض الجدات ستًا والبنات تسعًا والإخوة خمسة عشر، فأعداد الأصناف متوافقة بالثلث، فنضرب ثلث أحدها في ثل الآخر، ثم في كامل الثالث تكون تسعين، ثم في أصل المسألة، تكون خمسمائة وأربعين، ومنها تصح. وفي المثال الرابع لتباين الأعداد، نفرض الأعداد المتقدمة على أوفاقها، فأعداد الأصناف متباينة فتضرب أحدها في آخر، ثم في الثالث تكون ثلاثين، ثم في أصل المسألة تكون مائة وثمانين، منها تصح. وتعرف هذه المسألة بني الفرضين بالصماء، وهي التي تكون أعداد أصنافها مباينة لسهامها ومتباينة في أنفسها. ولنعد المسألة الأولى لتمثيل النوع الثالث، وهي كما تقدم، زوجات وجدات وأخوات لأم، وإخوة لأب؛ أصلها من إثنى عشر. ففي المثال الأول تلماثل الأعداد الحاصلة من عدد رؤوس بعض الأصناف، ومن أوفاق بعضها، نفرض الزوجات أربعًا والجدات ثمانيًا والأخوات ست عشرة والإخوة أربعة، فسهام صنفين منها موافقة لعدد أصنافها، وسهام صنفين مباينة، ووفق ما وافق مع جملة ما باين متماثلة، فتستغني بأحدها وتضربه في المسألة تكون ثمانية وأربعين، منها تصح. وفي المثال الثاني لتداخل الأعداد الحاصلة من الأوفاق وأصول الأعداد، نفرض عدد الإخوة ثمانية، ونقر سائر الأعداد على ما كانت عليه في المثال السابق، فيدخل جميعهمف ي عدد الإخوة، فتستغني به، وتضربه في أصل المسألة تكون ستة وتسعين، منها تصح. وفي المثال الثالث لتوافق الأعداد المذكورة، نفرض الجدات عشرين، والأخوات أربعًا وعشرين، والإخوة أربعة عشر، والزوجات أربعًا، فجميع الأعداد الحاصلة يها من الأوفاق وأصول الأعداد متوافقة، فتضرب وفق أحدها في وفق آخر، ثم في وفق ثالث، ثم في كل الرابع، تكون أربعمائة وعشرين، ثم في أصل المسألة تكون خمسة آلاف وأربعين، منها تصح. وفي المثال الرابع لتباين الأعداد المذكورة، نفرض عدد الجدات ستًا، وعدد الإخوات عشرًا، وعدد الإخوة سبعة، والوجات أربعًا، فجملة الأعد والأوفاق متباينة،

الباب الرابع: في حساب مسائل الإقرار والإنكار

فتضرب أحدها في ثان، ثم في ثالث، ثم في الرابع، تكون أربعمائة وعشرين، تضربها في أصل المسألة، تكن خمسة آلاف وأربعين، كالتي قبلها، ومنها تصح. الباب الرابع: في حساب مسائل الإقرار والإنكار وإذا أقر بعضش الورثة بوارث وأنكره الآخرون، لم يصح نسبه بإقرار الوارث كما تقدم، وإذا لم يصح النسب لم يعط المقر له شيئًا من الميراث إن لم يوجب إقراره نقصًا من سهم المقر، فإن أوجب نقصًا من سهمه أعطي منه مقدار ما أوجب من النقص لو صح إقراره. ووجه (العمل) في ذلك أن تنظر فريضة الجماعة في الإنكارن وفريضة المقر خاصة في الإقرار كأنه ليس ثم وارث غيره، لأنك إنما تريد معرفة سهامه في الإقرار وحده، فإن تماثلت الفريضتان أجزأتك إحداهما، وإن دخلت إحداهما في الأخرى أجزأتك أكثرهما، وإن اتفقتا بجزء ضربت جزء إحداهما في كامل الأخرى، وإن لم تتفقا بجزء ضربت كامل إحداهما في كامل الأخرى. وكذلك تعمل إن كانت ثلاث فرائض أو أكثر، ثم أقسم على الورثة على الإنكار، لا، هـ هو الأصل، فتعرف ما لكل وارث، ثم انظر ما للمقرر وحده من فريضة الإقرار فأعطه إياه، وما فضل بيده من فريضةالإنكار فأعطه من أقر له، فإذا أردت القسمة على الورثة فاضرب لكل وارث بما له من فريضة الإنكار في فريضة الإقرا، أو في وفق إن كان لها، واضرب لم تريد أن تعرف ما له من فريضة الإقرار بسهامه منها في فريضة اإنكار أو في وفق إن كان لها، فتعرف ما يفضل بيده، ولا تضرب لمن ليس له في الإقرار نصيب بشيئ، مثال ما تقدم من إجمال الحساب. مسألة المماثلة: أم وأخت لأب وعم؛ أقرب الأخت للأب بأخت شقيقة للميت وأنكرتها ألأم. فالفريضة في الإقرار والإنكار من ستة، فقدتماثلت الفريضتان فتجزيك إحداهمان وللأم في الإنكار الثلث سهما، وللأخت النصف ثلاثة، وللعم ما بقي سهم. وإنما للأخت للأب في الإقرار السدس، تكملة الثلثين سهم، فيفضل بيدها سهمان، فتدفعهما إلى الأخت الشقيقة، ولو أقرت بها الأم لدفعت إليها سهمًا، فكملت فريضتها، ولا يلتفت إلى العم في الإقرار والإنكار لأن نصيبه فيهما سواء. مسألة المداخلة: أختان شقيقتان وعاصب؛ أقرب إحداهما بأخت شقيقه، فالفريضة على الإنكار من ثلاثة، وعلى الإقرار تصح من تسعة، فتستغني بها عن اثالثة، فتعطى للمقر لها

سهماً واحدًا، وهو الذي ينض المقرة، لأن الستة التي تخص الأخوات من التسعة إذا قسمت على الإنكار خص كل واحدة ثلاثة أسهم، وإذا قسمت على الإقرار خص كل واحد سهمان، فقد نقص بين الإقرار والإنكار سهم. مسألة الموافقة: ابن وابنتان؛ أقر الابن بابن آخر وأنكرته الابنتان، ففريضة الإنكار أربعة، وفريضة الإقرار ستة، فالفريضتان تتفقان بالنصف، فتضرب إحداهما في نصف الأخرى، تكون اثني عشر، للابن من فريضة الإنكار اثنان، في ثلاثة وفق فريضة الإقرار بستة، ولكل بنت سهم في ثلاثة، وللابن من فريضة الإقرار اثنان، في اثنين، نصف فريضة الإنكار، بأربعة، فيفضل بيده سهمان، فيدفعهما إلى الابن الذي أقر به. مسألة المباينة: أختان شقيقتان وعاصب، أقرت إحداهما بأخ شقيق. الفريضة على الإنكار من ثلاثة، وعلى الإقرار من أربعة، فتضرب الثلاثة في الأربعة، وتكون اثني عشر، لكل أخت على الإنكار أربعة وعلى الإقرار ثلاثة، فقد نقص للمقرة سهم فيأخذه المقر له. هذا وجه العمل في اتحاد المقر والمقر به، وكذلك لو تعدد المقر مع اتحاد المقر به، فالعمل كما تقدم. مثاله: أخ وأختان أشقاء؛ أقر الأخ وإحدى الأختين بأخ شقيق وأنكرته الأخت الأخرى، ففريضة الإنكار من أربعة، وفريضة الإقرار من ستة، تتفقان بالنصف، فتضرب إحداهما في نصف الأخرى، تبلغ إثنى عشر، فنقول: للأخ من فريضة الإنكار اثنان، في ثلاثة، نصف فريضة الإقرار، بستة، ولكل أخت سهم في ثلاثة، وللأخ من فريضة الإقرار اثنان، في اثنين، نصف فريضة الإنكار، بأربعة، الفاضل بيده سهمان فيدفعهما إلى الأخ الذي أقر به، وللأخت المقرة من فريضة الإقرار سهم، في اثنين، وفق فريضة اإنكار، فيفضل بيدها سهم، فتدفعه إلى الأخ الذي أقرت به. وأما إن تعدد المقر والمقر به، فوجه العمل أن تعتبر فريضتي الإقرار أو فرائضه بعضها ببعض، فتضرب أحداهما في كامل الأخرى عندالتباين، أو في وفق إن كان لها، وتستغنى بالأكثر في (حال) التداخل، أو بإحداهما حال التماثل، ثم ما تحصل معك نظرت نسبته إلى فريضة الإنكار، أي نسبة هي من الأقسام الأربعة، ثم عملت فيها ما تقدم من ضرب أو استغناء، ثم قسمت ما انتهى إليه العمل على الإنكارن ثم قسمته على إقرار أحد الورثة، فما نقصه دفعته للذي أقر به، ثم قسمت الجملة أيضًا على إقرار الآخر، فما نقصه دفعته لمن أقر به، وكذلك إن كان ثالث ورابع، وما زادعليهما.

مثال ذلك: ابن وبنت أقر الابن ببنت وأقرت البنت بابن، كل واحد منهما منكر لمن أقر به صاحبه، والمستلحقان كل واحد منهما منكر لصاحبه. فالفريضة في الإكار منث لاثة؛ وفي إقرار الابن من اثنين، لأنه يزعم أن الذي له النصف؛ وفي إقرار البنت من خمسة، فالفرائض الثلاث متباينة، فتضرب أحدى فريضتي الإقرار في الأخرى، بعشرة، فهي مخرج الإقرار أجمع، وتضرب العشرة في فريضة الإنكار، تكون ثلاثين، للابن من فريضة الإنكار اثنان في عشرة بعشرين، وله من فريضة إقراره سهم مضروب في خمسة إقرار البنت، ثم في ثلاثة فريضة الإنكار تبلغ خمسة عشر، فيفضل بيده خمسة يدفعها إلى البنت التي أقر بها، وللبنت المقرة من فريضة اإنكار سهم في عشرة، ولها من فريضة الإقرار سهم في اثنين إقرار الأخ، ثم في ثلاثة فريضة الإنكار تكون ستة، فيفضل بيدها أربعة، فتدفعها إلى الأخ الذي أقرت به. وإن اتفق الوارثان على شخص واختلفا في آخر كابنيين أقر أحدهما بابنين آخرين، فوافقه أخوه على أحدهما وخالفه في الآخر، فقال سحنون يدفع إليهما الذي أقر بهما نصف ما في يده بينهما، وذلك ربع جميع المال، والذي أقر بأحدهما يعطيه ثلث ما في يديه، وذلك سدس جميع المال. قال بعض الفرضيين: وتقوم من أربعة وشعرين، لأنها إقرار بربع المال بينهما، وذلك من ثمانية، وبالسدس لأحدهما خاصة، والثمن والسدس من أربعة وعشرين، فعلى الإنكال لكل ابن اثنا عشر، وعلى إقرار الذي أقر بهما يكون له ستة، فتبقى ستة بينهما، وعلى إقرار الذي أقر بأحدهما يكون له ثمانية، فتبقى أربعة للذي اجتمعا على الإقرار به، فيتحصل له سبعة، وللآخر ثلاثة. هذا إن كان المجتمع على الإقرار به غير مقر بالآخر. فإن كان مقررًا به دفع له ما زاد بيده على ربع المال، وهو سهم. مسألة يختم بها الباب: قيل لأصبغ: رجل توفي وترك أخوين وامرأة حاملاً، فولدت غلامًان فقالت: ولدته حيًا، وقد استهل، فصدقها أحد الأخوين، وقال الآخر: بل ولدته ميتًا. فقال اصبغ: هي من أربعة وعشرين. وبيان ذلك: أن فريضة الإنكار من أربعة تنقسم من ثمانية، وفريضة الإقرار من ثمانية أيضًا، وفريضة الابن على الإقرار من ثلاثة، فتضرب ثلاثة في ثمانية تبغل أربعة وعشرين، فللمرأة في الإنكار الربع ستة، الباقي ثمانية عشر، لكل أخ تسعة، ولها فيالإقرار الثمن ثلاثة، وللابن أحد وعشرون، توفي عنها، لأمه الثلث سبعة ولكل أخ سبعة، فيفضل بيد المصدق سهمان فيدفعها إلى الأم فيصير بيدها ثمانية وبيد المصدق سبعة، وبيد المنكر تسعة.

الباب الخامس في حساب مسائل الوصايا

الباب الخامس في حساب مسائل الوصايا وتقدم الكلام على أحكامها بجزء شائع مسمى، ويمثل نصيب أحد الورثة، ويغير ذلك، والمقصود في هذا الباب بيان طريق الحساب في كيفية استخراج الجزء الموصي به في جميع ذلك من فريضة الموصي، فيخرج الجميع من عدد واحد، وينحصر المقصود من ذلك في فصلين: الفصل الأول: في الوصية بجزء مسمى واحدًا كان أو أكثر الفصل الثاني: في الوصية بمثل نصيب أحد الورثة مع الاستثناء أو الزيادة أو مع التكملة الفصل الأول فإذا أوص بجزء شائع مسمى كنصف أو ثلث أو ربع أو نحو ذلك، مفتوحًا كان أو أصم، كجزء من أحد عشر أو إثنى عشر أو ثلاثة عشر أو ما زاد على ذلك أو نقص، وله ورثة، فللعمل طريقان. الأول: أن تصحح فريضة الميراث بطريق تصحيحها، أحوجت إلى التصحيح أو صحت من أصلها، عالت أو لم تعل، ثم نجعل جزء الوصية من حيث تنقسم على أصحاب الوصايا فريضة برأسها، ونخرج الوصية وننظر إلى ما بقي من فريضة الوصية، فإن كانت تلك البقية تنقسم على فريضة الورثة فبها ونعمت، وإن لم تنقسم نظرنا بينها واعتبرنا إحداهما بالأخرى، فإن تباينتا ضربنا فريضة الميراث في فريضة الوصية، فما انتهى إليه الضرب فمنه يصح حساب الوصية والفريضة جميعًا، وإن توافقتا بجزء ضربنا ذلك الجزء من فريضة الميراث في فريضة الوصية، فما بلغ فمنه يصح الحساب. الطريق الثاني: أن تنظر إلى مخرج جزء الوصية، ثم تزيد على سهام الفريضة جزء ما قبل مخرج الوصية أبدًا. فإذا كانت الوصية بالثلث، زدت على الفريضة نصفها، وإن كانت بالربع زدت عليها ثلثها، وتزيد على الفريضة ر بعها إن كانت الوصية بالخمس، وتزيد الخمس إن كانت بالسدس، وتزيد بالسدس إن كانت بالسبع، وكذلك الثمن والتسع والعشر وما زاد عليه، ويطرد ذلك في المفتوح والأصم. فلو كانت الوصية بجزء من أحد عشر زدت العشر، ولو كانت بجزء من (إثنى عشر، أعني بنصف السدس، زدت جزءًا من أحد عشر، ثم على هذا الحساب. ولو كانت بالنصف لحملت على الفريضة مثلها، لأن الذي قبل مخرج الوصية واحد

ومعلوم أن القسم على واحد كل، فيضاف على سهام [الفريضة] مثلها كلها، ولأن النصف هو أكبر الأجزاء وأول الكسور، ولم يكن قبله غير الواحد، فجعلنا سهام الفريضة بمنزلة الواحد، وزدنا عليها مثلها. وعبر بعض الفرضيين عن هذا الطريق، بأن قال: إذا صححنا الفريضة والوصية، ثم أخرجنا جزء الوصية منها، ووجدنا البقية غير منقسمة على الفريضة، ونظرنا نسبة الجزء الذي أخرجناه من الوصية إلى بقيته، فما كان زدنا على الفريضة ما نسبته إليها تلك النسبة. مثال الطريقين: ترك أربعة بنين وأوصى بالثلث. فعلى الطريق الأول، نقول الفريضة من أربعة، والوصية من ثلاثة، يخرج جزء الوصية وهو سهم، تبقى اثنان لا تنقسم على الأربعة، لكن توافقها بالنصف، فتضرب اثنين وفق فريضة الورثة في ثلاثة فريضة الوصية، تكون ستة، تخرج منها جزء الوصية إثنين، تبقى أربعة، تنقسم على الأربعة. وأما الطريق الثاني: فعلى العبارة الأولى، نقول: يحمل على فريضة الورثة جزء ما قبل م خرج الوصية، وهو هـ اهنا النصف، فتصير ستة، نخرج جزء الوصية اثنين، تبقى أربعة، وهو هاهنا النصف، فتصير ستة، نخرج جزء الوصية أثنين، تبقى أربعة، على الأربعة. وعلى العبارة الثانية: إذا اعتبرنا الجزء الذي أخرجناه من فريضة الوصية بالنسبة إلى بقيتها وجدناها نصف الباقي، فزدنا على الفريضة نصفها كما تقدم. واعلم أنه قد يقع في الفريضة كسر، بسبب حمل الجزء على الفريضة، فإذا كان ذلك فاضرب المسألة والكسر في مخرج ذلك الكسر، فما انتهى إليه الضرب فمنه تصح بغير كسر. مثال ذلك: إن أوصى بالسدس، والمسألة على حالها، فإذا أخرجنا جزء الوصية، وهو واحد، من مخرجها، وهو ستة، بقيت خمسة، ل اتنقسم على الفريضة ولا توافق: فعلى الطريق الأول، تضرب الأربعة في الستة، تكون أربعة وعشرين. وكذلك في الطريق الثانيِ، أيضًا تخرج من أربعة وعشرين، لكن بعد وجود الكسر فيها وضربها وضربه في مخرجه. وذلك أنا نقول، على العبارة الأولى: إذا أوصى بالسدس حملنا على الفريضة مثل خمسها وخمس الأربعة أربعة أخماس، فتنكسر السهام فتضرب الأربعة: والأربعة الأخماس في خمسة، تبلغ أربعة وعشرين. وكذلك إذا نسبنا جزء الوصية إلى ما بقي من مخرجها وجدناها خمس البقية، فحملنا على الفريضة خمسها، انكسرت السهام أيضًا، فنضربها في الخمسة، كما تقدم. هذا وجه العمل في الوصية بجزء واحد.

فلو أوصى بجزءين ضربت مخرج أحدهما في مخرج الآخر، (أو) في وفق إن كان له، فما اجتمع من الضرب فهو مخرج الوصيتين جميعًا. فإذا أخرجت جزء الوصية منه ثم ق سمت الباقي على الفريضة، فإن (انقسم) وإلا ضربت ما انتهى إليه الضرب في عدد سهام المسألة، أو في وفق، إن كان لها، فما بلغ فمنه يصح حساب الوصيتين والفريضة. مثال ذلك: ترك ثلاثة بنين، وأوصى لرجل بالسدس والآخر بالسبع. فمخرج السدس ستة، ومخرج السبع سبعة، وليس بينهما وفق، فتضرب الستة في السبعة، تبلغ اثنين وأربعين، فتخرج جزء الوصية ثلاثة عشر فتبقى تسعة وعشرون، لا تنقسم على سهام الفريضة ولا توافقها، فتضرب الثالثة، سهام الفريضة، في الاثنين والأربعين، يكون ذلك مائة وستة وعشرين جزءًا، الوصية من ذلك تسعة وثلاثون، تبقى سبعة وثمانون لكل سهم تسعة وعشرون. ولو كانت الوصية بأكثر من الثلث، فإن أجاز الورثة فالعمل كما تقدم، وإن لم يجز أحد منهم، فإن كانت الوصية لواحد أو ل لمساكين، فخذ مخرج الثلث، ثم اعمل على نحو ما تقدم. وإن كانت الوصية لجماعة، فخذ مخرجًا تقوم منه وصاياهم، وخذ من ذلك المخرج جميع وصاياهم، فما اجتمع لك من ذلك فاجعله ثلث مال، فيكون منقسمًا على أهل الوصايا بالحصص، ثم اقسم الثلثين على الورثة إن انقسم، فإن لم ينقسم فانظر هل يوافق فريضتهم من حيث تنقسم بجزء أم لا؟ ثم اعمل على نحو ما تقدم. مثاله: امرأة توفيت وتركت أمًا وزوجًا وأختًا لأب، وأوصت لرجل بالثلث ولآخر بالخمس، فلم يجز الورثة. فالفريضة من ستة، تعول بالثلث إلى ثمانية، ومخرج الثلث والخمس خمسة عشر، فخذ لصاحب ال ثلث خمسة، ولصاحب الخمس ثلاثة، فذلك ثمانية، فاجعلها ثلث مال، يكون منقسمًا بين أهل الوصايا بالحصص. والثلثان، ستة عشر، للورثة، منقسمة على ثمانية، فريضتهم لكل سهم سهمان، ف للأم إثنان، في اثنين، بأربعة، وللزوج ثلاثة، في اثنين، بستة، وللأخت مثل ذلك. هذا حكم اتفاقهم على الإجازة للجميع [أو الرد]، فإن اختلف الحال في ذلك فللاختلاف صور الصورة الأولى: إذا أجاز بعضهم لجميع أهل الوصايا ولم يجز باقيهم لأحد منهم، فالباب في ذلك أن تقسم المسألة على أن الكل قد أجازوا، وتعملها أيضًا على أن الكل

قد ردوا، ثم توفق بينهم ا، وتعمل على ما تقدم من الاستغناء بأكثرهما، أو ضرب إحداهما في كامل الأخرى أو وفقهما، إن كان، ثم اعط من (أجازها) ما يصيبه من مسألة الإجازة، واعط من رد ما يصيبه من مسألة الرد، فيكون الباقي للموصي لهما على قدر الوصيتين. مثاله: ترك ابنين، وأوصى لرجل بالنصف، والآخر بالثلث، فأجاز أحد الابنين الوصيتين، ولم يجز الآخر لواحد منهما. فمسألة الإجازة: من إثني عشر؛ للموصي له بالنصف ستة، وللموصي له بالثلث أربعة، ولكل ابن سهم. ومسألة الرد: من خمسة عشر؛ الثلث خمسة للموصي لهما على خمسة أجزاء لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث سهمان، والثلثان للابنين، ل كل ابن خمسة، والاثنا عشر توافق الخمسة عشر بالثلث. فتضرب ثلث إحداهما في كامل الأخرى، تكون ستين، من له شيئ من إثني عشر مسألة الإجازة أخذه مضروبًا في خمسة وفق مسألة الرد، ومن له شيئ من خمسة عشرة أخذه مضروبًا في وفق الإثنى عشر وهو أربعة، فلابن الذي أجاز سهم من إثنى عشر في خمسة، وذلك خمسة. ول لذي لم يجز خمسة من خمسة عشر في أربعة، وذلك عشرون، وتبقى خمسة وثلاثون، للموصي لهما، على خمسة لصاحب النصف أحد وعشرون، ولصاحب الثلث أربعة عشر. الصورة الثانية: إذا أجاز جميعهم لبعض أهل الوصايا دون بعض، فلمن أجازوا له وصيته بكمالها، ولمن لم يجيزوا له نصيبه من الحصاص في الثلث لو أنهم لم يجيزوا. والطريق إلى تمييز نصيب كل موصي له: أن تأخذ مخرج الوصايا من حيث تقوم لو أنهم لم يجيزوا، وتأخذ أيضًا مخرج وصية من أجازوا له من حيث تقوم، فإن دخل أحد المخرجين في الآخر أجزأ أكثرهما، وإن لم يدخل أحدهما في الآخر فانظر الموافقة، فإن وافق أحدهما الآخر بجزء فاضرب جزء أحدهما في كامل (الآخر) فمنه تقوم وصاياهم، واعط لمن أجازوا له ما أوصي له به، ولمن لم يجيزوا ل هـ ما ينويه من الحصاص في الثلث، ثم اقسموا ما بقي على الورثة، فإن ل م ينقسم ووافق فريضتهم بجزء فاضرب ذلك الجزء من الفريضة في المخرج، وإن لم يتفقا بجزء فاضرب كامل الفريضة في كامل المخرج، ثم اقسم على نحو ما تقدم.

مثاله: تركيب زوجًا وأختين شقيقتين، وأوصت بالنصف لزيد، وبالسدس لعمرو فأجاز جميع الورثة لصاحب السدس خاصة، فالفريضة من ستة تعول بالسدس إلى سبعة. ومخرج الوصية ستة؛ لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب السدس سهم، فذلك أربعة فاجعلها ثلث مال، لصاحب النصف من ذلك ثلاث أرباع الثلث، فيكون مخرج من لم يجيزوا له إثنى عشر، ومخرج من أجازوا له ستة، وهي داخلة في أثنى عشر، فخذ إثنى عشر واعط الذي أجازوا له السدس سهمين، وأعط صاحب النصف ثلاثة أرباع الثلث، ثلاثة التي تنويه في الحصاص؛ الباقي للورثة سبعة منقسمة عليهم. مثال آخر: ترك أبويه، وأوصى لرجل بالنصف ولآخر بالربع، فأجازوا لصاحب النصف فقط. فالفريضة من ثلاثة: للأم سهم، وللأب سهمان، ومخرج الوصية أربعة، لصاحب النصف سهمان ولصاحب الربع سهم، فذلك ثلاثة، فاجعلها ثلث مال لصاحب الربع، ثل الثلث سهم من تسعة، فهي مخرج من لم يجيزوا له، ومخرج صاحب النصف الذي أجازوا له اثنان، وهي غير داخلة في التسعة، ولا موافقة لها بجزء، فاضرب اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشر، فهي مخرج وصاياهم، لصاحب النصف سهم من اثنين في تسعة، ولصاحب الربع سهم من تسعة في اثنين، فذلك أحد عشر، الباقي للورثة سبعة عشر غير منقسمة ولا موافقة بجزء، فاضرب الفريضة ثلاثة في ثمانية عشر، تبلغ أربعة وخمسين، لصاحب النصف تسعة في ثلاثة بسبعة وعشرين، ولصاحب الربع اثنان في ثلاثة بستة، وللورثة سبعة في ثلاثة بأحد وعشرين، وللأم سهم في سبعة، وللأب اثنان في سبعة بأربعة عشر. الصورة الثالثة: أن يجيز بعضهم لقوم، ويجيز غيرهم لآخري، فيلزم كل وارث لمن أجاز له ما أوصي له به، ويلزمه لمن لم يجز له ما ينوبه من الحصاص في الثلث، فخذ مخرج الوصايا من حيث تقوم لو أنهم لم يجيزوا، وخذ مخرج كل واحد لمن أجاز له على الانفراد، كأنه ليس ثم وارث غيره، ولا وصية إلا وصيته التي تلزمه، ثم انظر سهام كل وارث من الفريضة، فإن كان فيها ما يلزمه من الوصايا أغنتك سهامه عن مخرج الوصايا التي تلزمه، إن كان في سهامه بعضها أجزأتك سهامه عن مخرج ما فيها، وخذ له مخرج ما ليس فيها، ثم انظر ذلك المخرج، فإن وافق سهامه بجزء، فخذ ذلك الجزء من المخرج، فاجعله مخرج وصيته، وإن لم يوافقها بجزء، فخذ ذلك الجزء من المخرج، فاجعل مخرج وصيته، وإن لم يوافقها بجزء تركت المخرج على حاله، وإن لم يكن في سهامه شيئ مما يلزمه من الوصايا، فخذ مخرج وصاياه من حيث تقوم، ثم انظر، فإن دخل أحد المخرجين في الآخر أجزاك أكثرهما، فإن لم يكن ذلك، فانظر، فإن وافق أحد المخرجين الآخر بجزء، فاضرب جزء أحدهما في كامل الآخر، فما اجتمع فهو مخرج وصاياه، وإن لم تتفق مخارج وصاياه بجزء ربت بعضها في بعض، فما بلغ فهو مخرج وصاياه ثم انظر، فإن وافق المخرج سهامه

من فريضته بجزء فخذ ذلك الجزء من المخرج، فاجعله مخرج وصاياه، وإن لم يتفقا أبقيت المخرج بحاله، ثم اصنع في حق غيره من الورثة مثل ذلك، ثم انظر بعد هذا [جميع] ما حصل بيدك من مخرج الورثة أجمعين: هل تتماثل، أو يدخل بعضها في بعض، أو تتفق بجزء أم لا؟ واعمل على حساب ما تقدم من ضرب المخارج بعضها في بعض، فما اجتمع فهو مخرج الورثة كلهم، فاضرب الفريضة فيه، فما بلغ فاقسمه على الورثة، واعط لكل واحد من أهل الوصايا مما بيد كل وارث ما يلزمه له. مثال ذلك: ترك أمًا وزوجة وأختًا شيقة وأختين لأم، الفريضة من إثني عشر تعول بالربع إلى خمسة عشر، و\أوصى لرجل بالثلث ولآخر بالسدس. فأجازت الزوجة والشقيقة لصاحب الثلث، وأجازت الأم والأخوات للأم لصاحب السدس، والثلث والسدس ثلاثة من ستة، فاجعلها ثلث مال، فيكن مخرجهن لمن لم يجزن له تسعة، فسهام الزوجة والشقيقة تسعة، فألزمنهما لمن أجازتا له ثلث ما في أيديهما، ولصاحب السدس ثلث الثلث سهم من تسعة، فذلك في سهامها، فيستغني عن مخرج وصاياهما، وسهام الأم والأخوات للأم ستة، ويلزمهن لصاحب السدس سدس ما في أيديهن سهم، وذلك في سهامهن، يلزمهن لصاحب الثلث ثلثاه، اثنان من تسعة، فيكون مخرج وصاياه كلها تسعة فاضرب الفريضة خمسة عشر في تسعة، تبلغ مائة وخمسة وثلاثين. للزوجة والشقيقة تسعة في تسعة بأحد وثمانين، لصاحب الثلث من ذلك سبعة وعشرون، ولصاحب السدس ثلث الثلث تسعة، الباقي لهما خمسة وأربعو، منقسمة على ثلاثة، لأن سهامهما تتفق بالثلث، فيكون للزوجة سهم في خمسة عشر، وللشقيقة سهمان في خمسة عشر بثلاثين، وللأم والأخوات للأم ستة في تسعة بأربعة وخمسين لصاحب السدس من ذلك تسعة، ولصاحب الثلث ثلثاه إثنا عشر، الباقي لهن ثلاثة وثلاثون، وسهامهن تتفق بالنصف يكون لكل واحدة سهم، فثلاثة وثلاثون منقسمة عليهن لك واحدة أحد عشر واجتمع لصاحب الثلث تسعة وثلاثون، سبعة وعشرون من قبل الزوجة والشقيقة، وإثنا عشر من قبل الأم والأخوات للأم. واجتمع لصاحب السدس ثمانية عشر، تسعة من كل فرقة، ولم تتفق سهامهم بجزء. مثال ثان: تركت أختين لأب، وأختين لأم، وزوجًا، وأوصت بنصف مالها لشخص، ولآخر بالربع، فأجاز الزوج لصاحب الربع، وأجازت الأخوات لصاحب النصف، فالفريضة من ستة، للأخوات للأب الثلثان أربعة، وللأخوات للأم الثلث سهمان، ويعال للزوج بالنصف ثلاثة تبلغ تسعة، فخذ للنصف والربع ثلاثة من أربعة، فذلك ثلث مال يتحاص عليه أهل الوصايا، لصاحب النصف ثلثا الثلث، ولصاحب الربع ثلثه، فمخرج الزوج لمن أجاز له من أربعة، ولمن لم يجز له من تسعة، فأربعة لا تدخل في التسعة ولا توافقها، فاضرب إحداهما

في الأخرى تبلغ ستة وثلاثين فهذا مخرج وصاياه، وسهامه ثلاثة تتفق بالثلث، فتأخذ ثلث المخرج إثنى عشر، فيكون ذلك مخرجه. وسهام الأخوات ستة، لها نصف صحيح لمن أجزن له، ومخرجهن لمن لم يجزن له من تسعة، وهي تتفق مع سهامهن بالثلث، فتأخذ ثلث المخرج ثلاثة، وهي داخلة في إثنى عشر مخرج الزوج، فتضرب الفريضة بعولها تسعة في إثنى عشر، تبلغ مائة وثمانية، للزوج ثلاثة في إثنى عشر ستة وثلاثون، لصاحب الربع من ذلك تسعة ولصاحب النصف ثلثا الثلث ثمانية، الباقي له تسعة عشر، وللأخوات جمع ستة في إثنى عشر باثنين وسبعين، للموصي له بالنصف من ذلك ستة وثلاثون، ولصاحب الربع ثلث الثلث ثمانية، الباقي لهن ثمانية وعشرون، موافقة لسهامهن بالنصف، فتضرب منتهى الفريضة مائة وثمانية في ثلاثة، تبلغ ثلاثمائة وأربعة وعشرين فتعطي كل قوم ما بأيديهم مضروبًا في ثلاثة، فيبدأ الموصى له بالنصف أربعة وأربعون، ثمانية من قبل الزوج وستة وثلاثون من قبل الأخوات، فيأخذ ذلك مضروبًا في ثلاثة، ويبدأ الموصي له بالربع سبعة عشر، تسعة من قبل الزوج، وثمانية من قبل الأخوات يأخذ ذلك مضروبًا في ثلاثة، للزوج تسعة عشر في ثلاثة، وللأخوات جمع ثمانية وعشرون في ثلاثة بأربع وثمانين، لكل واحدة من الأخوات للأب من ذلك اثنان في أربعة عشر بثمانية وعشرين، ولكل واحدة من الأخوات للأم سهم في أربعة عشر. مثال ثالث: تركت ابنًا وبنتًا، وأوصت لشخص بالربع ولآخر بالثمن، فأجاز الابن لصاحب الثمن وأجازت البنت لصاحب الربع، فالفريضة من ثلاثة، والربع والثمن ثلاثة من ثمانية، فاجعل ذلك ثلث مال، يكن مخرج كل واحد لمن لم يجز له من تسعة؛ ومخرج الابن لمن أجاز له من ثمانية، وهي لا توافق التسعة، فاضرب ثمانية في تسعة تبلغ اثنين وسبعين، وسهامه اثنان تتفق بالإنصاف، فيكون مخرج وصاياه ستة وثلاثين؛ ومخرج وصية البنت لمن أجازت له من أربعة، وأربعة لا توافق التسعة، فاضرب أربعة في تسعة تبلغ ستة وثلاثين، فقد تماثل المخرجان، فاضرب الفريضة ثلاثة في أحدهما تبلغ مائة وثمانية: للابن من ذلك اثنان وسبعون، للموصي له بالثمن من ذلك تسعة وللموصي له بالربع ثلثا الثلث ستة عشر الباقي له سبعة وأربعون، وللبنت ستة وثلاثون وللموصي له بالربع من ذلك تسعة، وللموصي له بالربع ثلثا الثلث ستة عشر الباقي له سبعة وأربعون، وللبنت ستة وثلاثون وللموصي له بالربع من ذلك تسعة، وللموصي له بالثمن ثلث الثلث أربعة، الباقي لها ثلاثة وعشرون، فاجتمع بيد الموصي له بالربع خمسة وعشرون، تسعة من قبل البنت، وستة عشر من قبل الابن، واجتمع بيد الموصي له بالثمن ثلاثة عشر، تسعة من قبل الابن وأربعة من قبل البنت. فعلى هذا المعنى فاعمل في هذا الجنس من الوصايا تخرج لك المسألة من عدد لا تخرج من أقل منه. وله طريق آخر أوضح من هذا إلا أنه قد تخرج المسألة فيه من عدم كثير ثم ترجع بالموافقة إلى مبلغ الطريق الأول.

ووجه العمل في هذا الطريق: أن تأخذ مخرج الإجازة ومخرج الرد، ثم تضرب أحدهما في كامل الآخر، أو في وفقه إن كان. ثم في أصل المسألة، ثم أقسم على الورثة، واعط كل موصي له من يد كل وارث ماله بيده. بيان ذلك في المثال المتقدم: وأن مخرج الرد من تسعة ومخرج الإجازة من ثمانية فأحدهما في كامل الآخر إثنان وسبعون، ثم في ثلاثة أصل الفريضة، تبلغ مائتين وستة عشر، للابن من ذلك مائة وأربعة وأربعون تدفع منها للموصي له بالثمن ثمنها ثمانية عشر، ولصاحب الربع ثلثي ثلثها اثنين وثلاثين، وللبنت من ذلك اثنان وسبعون، تدفع منها للموصي له بالربع ربعها ثمانية عشر، وللموصي له بالثمن ثلثها ثمانية، فيحصل بيد صاحب الربع خمسون، من قبل الابن اثنان وثلاثون، ومن قبل البنت ثمانية، وتبقى بيد الابن أربعة وتسعون، وبيد البنت ستة وأربعون. فكل من بيده سهام من وارث أو صاحب وصية لها نصف صحيح، فيرجع كل من بيده شيئ إلى نصفه، وترد الفريضة إلى نصفها مائة وثمانية كما في الطريق الأول. الصورة الرابعة: إذا أجاز بعض الورثة لجميع أهل الوصايا، ورد بعضهم الجميع، واختلف أحوال باقيهم، فأجاز بعضهم لقوم مخصوصين، وأجاز غيرهم لآخرين. فمن لم يجز لزمه ثلث ما يصير له بين أهل الوصايا بالحصص، ومن أجاز للجميع لزمه جميع ما أجاز، ومن أجاز لقوم دون قوم لزمه لمن أجاز له ما أجاز له، ولمن لم يجز له ما ينوبه من الحصاص في الثلث. ووجه العمل في ذلك ما تقدم في الصورة الثالثة من الطريقين المتقدمين. فعلى الطريق الأول، تأخذ مخرج الوصايا من حيث تقوم لو أنهم لم يجيزوا، ومخرجهما لو أنهم أجازوا، وتأخذ أيضًا مخارج من أجاز لبعضهم دون بعض، وتكمل العمل على ما تقدم في الطريق الأول في اختلاف إجازة الورثة. وعلى الطريق الثاني: تأخذ مخرج الوصايا من حيث تقوم لو أنهم أجازوا كلهم، (ومخرجها) لو لم يجيزوا، ثم تستغني بأكثرهما إن تداخلا، أو تضرب أحدهما في الآخر، أو في وفقه، إن كان، ثم تضرب الحاصل في الفريضة، ثم تقسم ما يبلغ على الورثة، وتأخذ لأهل الوصايا من يد كل واحد ما يلزمه، كما تقدم. مثال ذلك: تركت بنتًا وأختًا وأمًا، وأوصت بالثلث لشخص وبالسدس لآخر، وأجازت البن جميع الوصية، وردت الأخت الجميع، وأجاز الزوج لصاحب الثلث خاصة، وأجازت الأم لصاحب السدس وحده.

فالفريضة من إثنى عشر، للبنت الصنف ستة، وللزوج الربع ثلاثة، وللأم السدس سهمان، وللأخت ما بقي سهم. فعلى الطريق الأول: نقول الثلث والسدس ثلاثة من ستة، فاجعلها ثلث مال، يكون مخرجهم أجمعين لمن لم يجيزوا له تسعة، فيلزم البنت لإجازتها للجميع ثلث ما بيدها وسدسه، وذلك في سهامها؛ ويلزم الأخت التي ردت الجميع الثلث ثلاثة من تسعة، لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس سهم؛ ويلزم الزوج لصاحب الثلث ثلث ما بيده، ولسهامه ثلث صحيح، ويلزمه لصاحب ثلث الثلث سهم من تسعة، لصاحب الثلث سهما، ولصاحب السدس سهم؛ ويلزم الزوج لصاحب الثلث ثلث ما بيده، ولسهامه ثلث صحيح، ويلزمه لصاحب ثلث الثلث سهم من تسعة، وسهامه ثلاثة توافق مخرجه بالثلث، فيكون مخرجه ثلاثة؛ ويلزم الأم لصاحب السدس سدس ما بيدها، فيكون مخرجها من ستة، ويلزمها لصاحب الثلث سهمان من تسعة، فستة توافق التسعة بالثلث، فتضرب ثلث أحدهما في كامل الآخر، تكن ثمانية عشر، وسهامها اثنان، فيتفقان بالنصف يكون مخرجها تسعة، ومخرج الأخت تسعة، ومخرج الزوج ثلاثة، فقد تماثل مخرجان ودخل الثالث فيهما، فتضرب الفريضة إثنى عشر في تسعة أحد المخرجين، تبلغ مائة وثمانية: للبنت أربعة وخمسون، لصاحب الثلث منها ثمانية عشرة، ولصاحب السدس تسعة؛ وللأخت تسعة، لأنه الوصايا من ذلك ثلاثة، لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس سهم؛ وللزوج سبعة وعشرو، ولصاحب الثلث تسعة، ولصاحب السدس ثلث الثلث ثلاثة؛ وللأم ثمانية عشر، لصاحب السدس سدس ذلك ثلاثة، ولصاحب الثلث ثلثا ثلثه أربعة، فاجتمع لصاحب الثلث ثلاثة وثلاثون: من قبل البنت ثمانية عشر، ومن قبل الأخت سهمان، ومن قبل الزوج تسعة، ومن قبل الأم أربعة؛ واجتمع لصاحب السدس ستة عشر: من قبل البنت تسعة، ومن قبل الأخت سهم، ومن قبل الزوج ثلاثة، ومن قبل الأم ثلاثة أيضًا. وعلى الطريق الثاني: تقول: مخرج الإجازة للجميع ستة، ومخرج الرد تسعة، ويتفقان بالثلث، فثلث أحدهما في كامل الآخر ثمانية عشر، في أصل الفريضة تبلغ مائتين وستة عشر، وذلك ضعف مبلغ الفريضة في الطريق الأول. فيحض كل وارث وموصي له ضعف ما كان بيده أولاً، فيرد إلى نصفه، وترجع الفريضة إلى نصفها، فيلتقي الطريقان. وإن شئت صححت كل واحد مكن مخرجي الإجازة والرد من حيث ينقسم على الورثة، ثم ضربت أحدهما في الآخر أو في وفقه، وإن كان، فما بلغ قسمته على الورثة، واستغنيت عن ضربه في الفريضة. وبيان ذلك في المثال الحاضر: أن مخرج الإجازة يصح فيه من أربة وعشرين، ومخرج الرد يصح من ثمانية عشر، ويتفقان بالسدس، فسدس أحدهما في كامل الآخر يبلغ اثنين وسبعين، فإذا وزعتها على الورثة انكسر ما يلزم الأخت والأم للموصى لهما، وسهامهمأ

الفصل الثاني: في بيان حساب الوصية بالنصيب وما يتبعه

ثلاثة، تضرب الاثنين والسبعين في ثلاثة، تبلغ مائتين وستة عشر، كما تقدم. الفصل الثاني: في بيان حساب الوصية بالنصيب وما يتبعه وقد تقدم الكلام على حكمها في الوصايا، وبينا فيها أن الموصي له يكون عوضًا عن صاحب النصيب على المشهور، وأحلنا بيان الحساب على هذا الكتاب، وقد تقدم حساب النصيب في الفصل الأول، لأنه إذا انفرد كان وصية بجزء مسمى، إذ لا فرق أن تقول: بمثل نصيب أحد ابني، وهم أربعة؛ أو يقول: بربع مالي. وكذلك قوله: بمثل نصيب أحد الثلاثة، كقوله: بثلث مالي. وكذلك ما زاد على ذلك أو نقص. وإنما المقصود في هذا الفصل بيان وجه العمل فيها إذا اقترن بها الاستثناء من جملة المال، أو من جزء من أجزائه، أو اقترنت بها الإضافة أو التكملة. ولنرسم في ذلك مسائل: الأولى: إذا أوصى بمثل نصيب أحد بنيه، واستثنى منه جزءًا معينًا. مثال ذلك: ترك ثلاثة بنين، وأوصى بمثل نصيب أحدهم إلى سبع ماله. فيدفع إليه ما كان يصيب أحد البنين قبل الوصية، وهو الثلث، فيبقى ثلثا المال، وذلك سهمان على ثلاثة، ولا تصح، ولا توافق، فتضرب ثلاثة في ثلاثة، تبلغ تسعة، ثم في سبعة مخرج الجزء المستثنى تبلغ ثلاثة وستين، يأخذ صاحب الوصية ثلث ذلك أداً وعشرين، ثم يسترد منه سبع المال، وهو تسعة، يبقى بيده إثنا عشر، وذلك جملة ما يصح ويبقى أحد وخمسون، ولكل ابن سبعة عشر. المسألة الثانية: والمثال بحاله: أوصى بمثل نصيب أحد الثلاثة، وسبع ماله. فالعمل واحد، حتى إذا أعطينا الموصي له أحدًا وعشرين الثلث، زدناه عليه سبع المال تسعة، فكمل له ثلاثون، وذلك مبلغ وصيته، وتبقى ثلاثة وثلاثون، لكل ابن أحد عشر. المسألة الثالثة: إذا أوصى بمثل نصيب أحد بنيه، وبثلث ما يبقى من الثلث، او بربعه، أو بغير ذلك من أجزائه جزء غيره، أو من جملة المال؛ ويشترط في صحة هذه المسألة وما بعدها أن يكون النصيب أقبل من الجزء المستثنى منه، ثلثا أو غيره، فلو كان النصيب مساويًا للجزء أو أكثر منه استحالت المسألة. بيان ذلك: لو ترك ثلاثة بنين وأوصى بمثل نصيب أحدهم، وثلث ما يبقى من لثلث، لم يصح، إذ النصيب مساو للثلث، فلا يبقى مننه شيئ. وكذلك لو كانا ابنين، إذ النصيب أكثر من الثلث. فأما لو كان البنون أربعة أو أكثر، أو كانت الوصية في الثلاثة بما يبقى من النصف،

الباب السادس: في حساب المناسخات وقسمة التركات

ثم العمل كما تقدم، فتأخذ مخرج الربع، إذا كانوا أربعة، فتضربه في مخرج ثلث الثلث تسعة، يكون ستة وثلاثين، النصيب منها تسعة، والثلث أثنا عشر، تبقى منه ثلاثة ثلثها واحد يضاف على النصيب، فتصير عشرة، وتبقى ستة وعشرون، لا تصح على أربعة، لكن توافق بالنصف، فتضرب الوفق أثنين في الستة والثلاثين، تبلغ أثنين وسبعين: لصاحب الوصية عشرة في اثنين بعشرين، تبقى اثنان وخمسون، لكل ابن ثلاثة عشر. المسألة الرابعة: إذا أوصى بمثل نصيب أحد بنيه إلا ثلث ما يبقى من الثلث، فالطريق كما تقدم. حتى إذا أخذ الموصي له، في [المثال] السابق، التسعة رد منها سهمًا، وهو ثلث ما يبقى من الثلث، فيفضل بيده ثمانية، وهي مبلغ وصيته، ويبقى للبنين ثمانية وعشرون، لكل ابن سبعة. المسألة الخامسة في الوصية بالتكملة. وصورتها: أن يوصي بمثل نصيب أحد بنيه وبتكملة الثلث أو غيره من الأجزاء المفتوحة أو الضم، فالزيادة التي يزيدها على نصيب المثل حتى يكمل ما ذكر من الأجزاء هي التكملة، وعنها يقع السؤال. وبيان العمل في المثال المتقدم: أن تضرب الأربعة سهام الفريضة ومخرج الربع في ثلاثة، لذكره الثلث، تبلغ إثني عشر، فالنصيب ثلاثة، وبقية الثلث سهم، إذ هو أربعة، فيأخذه الموصى له بالتكملة وتبقى ثمانية للبنين، لكل ابن سهمان. الباب السادس: في حساب المناسخات وقسمة التركات وفيه فصلان: الفصل الأول: في حساب المناسخات ومعناها: أن يموت موروث، ثم يموت بعض ورثته قبل قسمة تركته، وقد يتأخر قسمها إلى أن يجتمع عدد كثير، بأن يموت الوارث ووارثه إلى عدد كثير قبل القسم، فإذا وقع ذلك فعمل الحساب فريضة كل ميت مفردًا فقد أصاب في المعنى، وإن أخطأ عند الفرضيين، لأن بقاء التركة حتى حصلت فيها مناسخات يجعل المواريث كالوراثة الواحدة؛ ومطلوب الفرضيين تصحيح مسألة الميت الأول من عدد ينقسم نصيب كل ميت بعده منه على مسألته. والطريق إلى ذلك أن تنظر: فإن كان ورثة الثاني والثالث والرابع مثلاً هم ورثة واحدة، ويرثون بمعنى واحد، فالأمر

سهل، وإنما يجعل الكل كالتركة الواحدة يرثها من بقيس. مثال ذلك: [ثلاثة] إخوة أشقاء، وأربع أخوات شقائق، مات أحد الإخوة، ثم آخر، ثم أخت، ثم أخت ثم أخت. فوجه العمل في هذا: أن تقسم التركة كلها على ثلاثة، للذكر سهمان، وللأنثى سهم. فإن كان ورثة الثاني غير ورثة الأول، أو يرثونه بوجه غير ما يرثون به الأول، فصحح مسألة الميت الأول، ثم أعر نصيب الميت الثاني منها، ثم صحح المسألة الثانية، ثم اقسم نصيبه من مسألة الميت الأول على مسألته، فإن انقسم عليها فقد صحت المسألتان جميعًا مما صحت منه المسألة الأولى. مثاله: ابن وبنت. المسألة من ثلاثة: للابن سهمان، مات عنهما، وخلف أخته وعاصبًا، فمسألته من اثنين، ونصيبه سهمان. وإن لم ينقسم نصيبه من الأولى على مسألته، فانظر فإن لم يكن بين نصيبه وبين مسألته موافقة ضربت ما صحت منه مسألته فيما صحت منه المسألة الأولى، فما بلغ فمنه تصح المسألتان. مثاله: ابنان وبنتان. المسألة من ستة؛ ما أحد الابنين، وخلف ابنًا وبنتًا، فمسألته من ثلاثة، ونصيبه من المسألة الأولى سهما، لا ينقسم على مسألته ولا يوافق، فتضرب مسألته في المسألة الأولى، تبلغ ثمانية عشر، فمنها تصح المسألتان. فمن كان له شيئ من المسألة الثانية أخذ مضروبًا فيما مات عنه الميت الثاني وهو سهمان. وإن كانت بين نصب الميت الثاني وبين ما صحت منه مسألته موافقة، فخذ الوفق من مسألته لا من نصيبه، واضرب في المسألة الأولى. وتصح القسمة من المبلغ في المسألتين. مثاله: ابنان وبنتان، مات أحد الابنين وخلف امرأة وبنتًا وثلاثة بني ابن. المسألة الأول من ستة، ونصيب الميت الثاني منها سهمان. ومسألته من ثمانية، لا يصح نصيب عليها، لكن يوافقها بالنصف، فاضرب نصف مسألته في المسألة الأولى، أربعة في ستة تبلغ أربعة وعشرين، منها تصح المسألتان، من له شيئ من المسألة الأولى أخذه مضروبًا في نصف المسألة الثانية ومن له شيئ من المسألة الثانية أخذه مضروبًا في نصف ما مات عنه موروثه، وذلك واحد. فإن كان في المسألة الثانية أخذه مضروبًا في نصف ما مات عنه موروثه، وذلك واحد. فإن كان في المسألة ميت ثالث فصحح مسألته مفردًا، ثم خذ نصيبه مما صحت من المسألتان الأوليان، وانظر فإن انقسم نصيبه على مسألته فقد صحت المسائل الثلاث مما صحت منه المسألتان الأوليان، فإن لم ينقسم نصيبه على مسألته، فانظر فإن لم تكن

بينهما موافقة فاضرب ما صحت منه مسألته فيما صحت منه المسألتان الاوليان، وإن كان بينهما موافقة فاضرب وفق مسألته، لا وفق حصته، فيما صحت منه المسألتان الأوليان، فما بلغ فمنه تصح المسائل الثلاث. وهذا طريق العمل ولو كان في المسألة ميت رابع وخامس وأكثر، فصحح مسألة كل واحد منهم على الانفراد، وتأخذ نصيبه من مسائل المتوفين قبله، كما تقدم. وإن أردت معرفة حصة كل واحد من أصحاب الفرائض فاضرب سهام كل واحد من أصحاب الفريضة الأولى فيما ضربتها فيه من الفرائض التي بعدها، أو من أوفاقها، واضرب سهام كل واحد من أصحاب الفريضة الثانية في نصيب موروثه من الفريضة الأولى مضروبًا في الثالث أو في وفقها، ثم في ما بعدها أو في وفقه، فما بلغ فاضربه في مسائل المتوفين بعده مسألة بعد مسألة، أو في وفقها إن كان في جملتها ما وافقت السهام فيه المسألة، فما بلغ فهو نصيبه. وهكذا تفعل لو كانت رابعة وخامسة وأكثر من ذلك، وتجريها على هذا المعنى إلى آخر الفرائض، إلا أن تنقسم سهام بعضهم على مسألته، فلا تضرب فيها، اعط كل وارث سهامه منها تجمعها له مع ما يجتمع له من الضرب فميا سواها، ثم إذا علفت ما نصيب كل وارث فاجمع سهامه من كل فريضة، ثم انظر، فإن كان من أصاب كل وارث منهم يتفق بجزء واحد، مثل نصف أو ثلث أو أقل، فاعط كل وارث جزء ما أصابه، واجعل الفريضة من جزئها ذلك؛ وإن لم يتفق ذلك بجزء تركت السهام على حالها، وقسمتها بينهم على ما بلغت، فإذا أردت أن تعلم صحة ما عملت، فاجمع ما أصاب كل وارث، فإن اجتمع لك الذي صحت منه الفريضة فقد أصبت، وإن خالف فالعمل غير صحيح. قاعدة: ولنختم الفصل بذكر فريضة عملها أبو الحسن الطرابلسي، ذكر أنها نزلت ببلده والمقصود بذكرها إيضاح عمل المناسخات على التفصيل والترتيب، فيستفيد الناظر فيها التدرب في ذلك، لتكرر العمل فيها. وهي: رجل توفى وترك زوجته وابنين منها، وابنًا وبنتًا من غيرها، ثم توفى الابن شقيق البنت وترك أخته شقيقته، وأخويه لأبيه. ثم توفي أحد الابنين الشقيقين وترك أخاه شقيقه وأمه زوجة الأول وأخوين لأم، ثم توفي الثاني من الابنين الشقيقين وترك أمه زوجة الأول وأخته لأبيه أخت الميت الثاني وأخوين لأم، وأوصى بالثلث للمساكين، ثم توفيت زوجة الأول أم الثالث والرابع، وتركت ابنين وهما الإخوة للأم.

ففريضة الأول من ثمانية: لزوجته سهم، وللبنت سهم، ولكل ابن سهمان. ثم توفي الابن، وهو الميت الثاني، عن سهمين. وفريضته اثنان، تنقسم من أربعة، لأخته شقيقته سهمان، ولكل أخ لأبيه سهم، فسهامه توافق فريضته بالنصف، فاضرب فريضة الأول ثمانية في اثنين نصف الثاني’ن تكون ستة عشر، فمن كان له شيئ من ثمانية أخذه مضروبًا ي اثنين، نصفه الثانية، ومن كان له شيئ من الثانية أخذه مضروبًا في واحد نصف تركة الثاني، فلزوجة الأول من فريضته سهم في اثنين نصف الثانية، وليس لها من الثانية شيئ، لأنه ليس بابن لها، ولبنت الأول من الفريضة الأولى سهم في اثنين ولها من الثانية بأنها أختت شقيقة ليس بابن لها، ولبنت الأول من الفريضة اأولى سهم في اثنين ولها من الثانية بأنها أخت شقيقة النصف إثنان في واحد، فذلك أربعة، ولكل ابن للميت الأول الاشقاء من الفريضة الأولى اثنان في اثنين بأربعة، وله من الثانية سهم، لأنخ أخ للأب فذلك خمسة، ثم توفى أحد الابنين الأشقاء عن خمسة أسهم، وهو الميت الثالث، وترك أمه زوجة الأول وأخاه شقيقه وأخوين لأم. ففريضتهم ستة: لأمه السدس، وكذلك لكل أخ لأم، وللأخ الشقيق ما بقي ثلاثة، فسهامه لا تنقسم على فريضته، ولا توافقهما بجزء، فاضرب ستة عشر، ما اجتمع من الفريضتين الأوليين، في ستة، فريضة الثالث، تبلغ ستة وتسعين، ثم تبتدئ القسم، فتقول: لزوجة االأول من فريضة سهم ي اثنين، نصف الثانية ثم في ستة، الفريضة الثالثة، تكون اثني عشر، وليس لها من الثانية شيئ، ولها من الثالثة، لأنها أم، السدس سهم، ف يخمسة تركة الثالث فذلك سبعة عشر؛ ولبنت الأول سهم في فريضته في اثنين، ثم في ستة، ولها من الثانية اثنان، في ستة فريضة الثالث، فجمع ذلك أربعة وعشرون، وليس لها من الثالثة شيئ لأنها محجوبة بالأخ الشقيق؛ ولابن الميت الأول الباقي سهمان من الفريضة الأولى، في سهمين نصف الثانية، ثم في ستة الفريضة الثالثة، وله من الثانية، بأنه أخ لأب، سهم، في ستة أيضًا، ولو من الثالثة ثلاثة، في خمسة تركة الثالث، فجميع ذلك خمسة وأربعون. ولكل أخ لأم من الثالثة سهم في خمسة. ثم توفي الابن الباقي من ولد الميت الأول، وهو الميت الرابع عن خمسة وأربعين سهمًا، وترك أمه زوجة الأول، وأخته لأبيه بنت الأول، وأخوين لأم، وأوصى بالثلث للمساكين. ففريضته: ستة، واحمل عليها مثل نصفها ثلاثة للموصي لهم تكن تسعة، ف سهامه خمسة وأربعون منقسمة عليها، لكل سهم خمسة: للمساكين ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، ولأمه سهم في خمسة، وبيدها سبعة عشر، فذلك اثنان وعشرون، ولأخته لأبيه ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، وبيدها أربعة وعشرون، إثنا عشر عن أبيها، ومثل ذلك عن أخيها شقيقها، فذلك تسعة وثلاثون، ولكل أخ لأم سهم في خمسة، وبيده خمسة عن أخيه الميت الثالث، فذلك عشرة، فجميع ذلك ستة وتسعون.

الفصل الثاني: في قسمة التركات

ثم توفيت زوجة الأول، وهي الميت الخامس عن اثنين وعشرين سهمًا، وتركت ابنين، وهما الإخوة للأم، فسهامهما منقسمة عليهم لكل واحد أحد عشر، وبيده عشرة، فذلك أحد وعشرون، وقد اتفقت سهامهم أجمع بالثلث، فرد الفريضة إلى ثلثها اثنين وثلاثين، ورد كل واحد إلى ثلث ما بيده، فللمساكين خمسة، ولبنت الأول ثلاثة عشر، ولكل أخ لام سبعة. الفصل الثاني: في قسمة التركات وإذا كانت التركة مقدرة بكيل أو زن، فالطريق في قسمتها: أن تنظر عدد الفريضة من حيث تنقسم وعدد التركة، فالتركة هي الأصل المضروب فيه، والفريضة هي الأصل المقسوم عليه، إلا أن تتفق الفريضة والتركة بجزء، فتجعل جزء كل واحدة مقامها، وتضرب لكل وارث أو موصي له بجملة سهامه في المضروب، وتقسم على المقسوم عليه، فما خرج من القسم فهو نصيب الذي ضرب له. مثال (الأول) أن يترك أمًا، وأختين لأم، وأختين لأب، ويترك خمسة عشر دينارًا. فالفريضة ستة، تعول بسدسها إلى سبعة: للأم سهم، لكل أخت لأب سهمان، ولكل أخت لأم سهم، فذلك سبعة، وهي لا توافق التركة بجزء، فاضرب للأم بواحد في خمسة عشر، ثم اقسمها على سبعة جملة الفريضة، يخرج لها في القسم ديناران وسبع دينار، ولكل أخت لأم مثل ذلك، ولكل أخت لأب مثلاً ذلك. ومثال الموافقة: أن يترك أبوين، وابنتين، ويوصي لرجل بثلث ماله، ويخلف أحدًا وعشرين دينارًا، فالفريضة ستة: للأبوين سهمان لكل واحد سهم، ولكل بنت سهمان، فاحمل على الفريضة للموصى له بالثلث مثل نصفها ثلاثة تبلغ تسعة، وهي توافق التركة بالثلث، فيكون المضروب فيه سبعة ثلث التركة، والمقسوم عليه ثلاثة ثلث الفريضة والوصية، فاضرب للموصى له بسهامه من أصل الفريضة ثلاثة في سبعة، تكن أحدًا وعشرين، فاقسمها على ثلاثة ثلث الفريضة، يخرج من القسم سبعة، فهي نصيب الموصى له، واضرب للأب بواحد في سبعة، واقسم على ثلاثة، يخرج له من القسم ديناران وثلث، وللأم مثل ذلك، واضرب لكل بنت باثنين في سبعة، تكن أربعة عشر، واقسمها على ثلاثة يخرج لها في القسم أربعة دنانير وثلثا دينار. هذا إذا كان عدد التركة صحيحًا، ليس فيه كسر، فإن كان مع الأعداد كسر، فابسط العدد كل من جنس التركة، وذلك بأن تضرب الصحيح في مخرج ذلك الكسر، وتزيد عليه الكسر فما بلغ فكأنه كله صحاح، فاعمل في قسمته ما تقدم، فما خرج لكل واحد من القسمة والضرب

فاقسمه على مخرج ذلك الكسر الذي جعلت الكل من جنسه فما خرج فهو نصيبه. مثاله: إن التركة كانت أربعة وعشرين دينارًا ونصفًا، وترك أمًا وأختين لأم وأختين لأب، فتضرب الأربعة والعشرين في اثنين، مخرج النصف، تبلغ ثمانية وأربعين، وتزيد عليها النصف فتكون تسعة وأربعين فتعد ذلك، مبلغ التركة، تضرب فيه للأم بسهم ثم تقسم على سبعة تخرج لها سبعة. وكذلك لكل أخت لأم، ويخرج لكل أخت لأب أربعة عشر، فإذا قسمت ما بيد كل واحد على اثنين، مخرج النصف، حصل معه نصف ما بيده، وجملة ذلك أربعة وعشرون ونصف، ولو قسمت جملة التركة على جملة السهام كان الخارج حصة كل سهم من جملة سهام الفريضة، فإذا ضربت عدد سهام وارث في الخارج كان مبلغ الضرب حصته من جملة التركة، وذلك بين في المثال الحاضر. وقد ذكر بعض الفرضيين طريقًا من النسبة فيستغنى بها عن الضرب والقسمة، وهي أن تنسب سهام الفريضة من عدد التركة، فما كانت نسبتها فهي نسبة سهام كل وارث من نصيبه من جملة التركة. بيان ذلك في [المثال] الحاضر: أن نسبة السبعة إلى التسعة والأربعين، نسبة السبع، وللأم سهم فهو سبع نصيبها، فنصيبها إذن سبعة كما تقدم. وكذلك تعمل في سائر الورثة. هذا حكم التركة إذا كانت مقدرة. فإن كانت غير مقدرة فما ذكرنا جار في قسمة قيمتها. وكذلك إن اشتملت على مقدر وغير مقدر، كعين وعرض، أجريت (الطريق) المتقدمة في عدد العين وقيم العرض. فإن قيل: لو اشتملت التركة على عرض وعين، فأخذ بعض الورثة ذلك العرض بحصته أو ببعضها، بأن أخذ معه بعض العين أو بأكثر من حصته، بأن دفع من يده شيئًا من حصته، في مقابل العرض فكيف يعرف ثمن ذلك العرض؟. قلنا أما المسألة لأولى: وهي إذا أخذه بحصته فالباب فيها أن تصحح سهام الفريضة، وتسقط منها سهام آخذ العرض، وتجعل القسم على الباقي، ثم تأخذ سهامه، فتضربها في الباقي من التركة بعد العرض، ثم تقسم ما خرج على باقي السهام بعد سهامه، فالخارج من القسم هو ثمن العرض. ومثال ذلك: ترك ثلاث أخوات مفرقات، وأما، وكانت التركة ثلاثين دينارًا وثوبًا، فأخذت الأخت للأب الثوب بحقها من الميراث. فالفريضة من ستة، للأخت للأب منها سهم، فإذا أسقطته بقيت خمسة، عليها يجب

القسم، ثم تعود فتضرب ذلك السهم، أعني سهم الأخت للأب، في الثلاثين دينارًا التي هي التركة، وذلك ثلاثون، فتقسمها على الخمسة، فيخرج في القسم ستة، فهي ثمن الثوب. وأما المسألة الثانية: ومثالها: أن يترك أبوين، وابنين، ويخلف أحدًا وعشرين دينارًا وخاتمًا. فيأخذ الأب بميراثه الخاتم ودينارًا معه. فالباب في ذلك أن تسقط الزيادة أبدًا من جملة المال في هذا النوع، وهي في هذه المسألة دينار واحد، فتبقى عشرون دينارًا، ثم تسقط سهم الأب من سهام الفريضة، فتبقى خمسة أسهم، عليها يكون القسم، ثم تعود فتضرب سهم الأب في العشرين دينارًا، وذلك عشرون، فتقسمها على الخمسة، فتخرج في القسم أربعة دنانير، [وذلك] ثمن الخاتم مع لزيادة. فإذا نزعت الزيادة وهي دينار بقيت ثلاثة دنانير، وذلك ثمن الخاتم. وأما المسألة الثالثة، ومثالها: أن يترك أبوين، وأربع بنات، وتكون تركته خمسين دينارًا ودارًا، فتأخذ الأم بميراثها الدار، [وتزيد] عشرة دنانير، فالباب فيها أن تسقط سهم الأم كما تقدم، فيبقى من الفريضة خمسة، عليها يكون القسم، ثم تزيد على الخمسين دينارًا عشرة، وهي التي دفعتها الأم، فتصير الجملة ستين، وذلك بالعكس من النوع الأول، لان في ذلك تنقص ما تزداد (من جملة العين)، وفي هذا النوع تزيد ما تدفعه على جملة العين، ثم تقسم الستين على خمسة الأسهم، فيخرج من القسم إثنا عشر دينارًا، وذلك حصة الأم من التركة، فإذا أردت أنتعرف كم ثمن الدار فزد العشرة، التي كانت الأم دفعتها، على الأنثى عشر، فتكون الجملة اثنين وعشرين دينارًا، فذلك ثمن الدار. وكذلك تعمل في كل ما يرد عليك من هذا النوع. واعلم أن ما ذكرناه من طريق النسبة الجاري في القسمة يجري في هذا النوع أيضًا، بل هو أخص فيه مما تقدم، وذلك بأن تنظر نسبة سهام أخذ العوض من بقية سهم لفريضة، فتعلم أنها نسبة ثمن ما أخذ من بقية التركة. وبيانه في الأمثلة المتقدمة: أن نسبة سهم الأخت للأب في المسألة الأولى من بقية سهام الفريضة، وهي خمسة، نسبة الخمس، فيكون ثمن الثوب خمس بقية التركة وذلك سنة؛ ونسبة سهم الأب في المسألة الثانية من بقية سهامها نسبة الخمس أيضًا، فيكون ثمن الخاتم والدينار الذي أخذه معه خمس بقية التركة، وذلك أربعة، فإذا أفرد منها الدينار بقي ثمن الخاتم ثلاثة؛ ونسبة سهم الأم في المسألة الثالثة من بقية سهامها نسبة الخمس أيضًا، فتكون حصتها خمس بقية التركة بعدما أخذته، وذلك ستون دينارًا فخمسة إثنا عشر دينارًا، فإذا أضفت

إليه العشرة التي دفعتها مع حصتها في مقابلة الدار، كانت الجملة اثنين وعشرين دينارًا، فهي ثمن الدار. هذا تمام الفصل وهو عظيم الفائدة، وكأنه ثمرة الحساب في الفرائض ونتيجته، فإن المفتي قد يصحح الفريضة من الأعداد الكثيرة، والتركة مقدار نزر، فكيف يفيد كلامه إلا ببيان طريق القسمة، ولذلك جعلناه خاتمة الفرائض. وقد نجزت بنجازه.

كتاب الجامع

كتاب الجامع قال القاضي أبو بكر: "هذا كتاب اخترعه مالك رضي الله عنه في التصنيف، لفائدتين إحداهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابًا ورتبها. والأخرى: أنه، رضي الله عنه، لما لحظ الشريعة وأنواعها، ورآها مقسمة إلى أمر ونهي، وإلى عادة وعبادة، وإلى معاملات وجنايات، نظمها أسلاكًا، وربط كل نوع بجنسه، وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد، لأنها متغايرة المعاني؛ ولا أمكن أن يجعل لك لمنها باباً لصغره، فجمعها أشتاتًا، وسمى نظامها كتاب الجامع". واعلم أنها وإن كانت آحادها في أنفسها كما أشار إليه، إلا أنها يمكن ضبطها وحصرها من حيث الإضافة والنسبة. وإذا أخذت بهذا الاعتبار انحصرت في ثلاثة أجناس: ما يتعلق بالعقيدة، وما يتعلق بالأقوال، وما يتعلق بالأفعال. الجنس الأول ما يتعلق بالعقيدة: ويتعين على المكلف أن يكون على عقيدة صحيحة في التوحيد، وفي صفات الله (عز وجل وتعالى وتقدس، وتصديق رسله صلوات الله عليهم، فيؤمن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في صفة من صفات إلهيته، ولا قسيم له في أفعاله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وأن جميع ما جاء به من حق وجميع ما أخبر عنه وبه صدق. وأما القيام بدفع [شبه] المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها، وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أو أئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال، حتى تثبت الحق في نفسه وفهمه ثبوتًا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبه فرض كفاية عليه وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم قال يجوز له التعرض (لذلك)، لأنه ربما ضعف عن رد تلك

الجنس الثاني: ما يتعلق بالأقوال من مأمور به أو منهي عنه

الشبهة، وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالته، فيكون قد تسبب إلى هلكته وضلالته ونسأل الله العصمة. وكذلك القيام بالفتوى فرض كفاية أيضًا. وأما مهمات الصلاة والوضوء ففرضين عين. وكذا علم التجارة فرض على التاجر معرفته. الجنس الثاني: ما يتعلق بالأقوال من مأمور به أو منهي عنه أما المأمور به فكالتلفظ بالشهادتين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والذكر والدعاء، والتسبيح والتهليل، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، فأما التلحين فلا يجوز. قال القاضي أبو محمد: "والمشروع في قراءة القرآن أن ينزهه عن الألحان المطربة المشبهة للأغاني، إعظامًا له، وتنزيهًا عن الأغاني والمناكر، ولأن ثمرة قراءته الخشية لله (عز وجل)، وتجديد التوبة عند سماع مواعظه، والاعتبار ببراهينه وقصصه ومثاله، والشوق إلى وعده، والخوف والحذر من وعيده، وذلك ينافي تلحينه واعتقاد الإطراب بطيب سماعه. وينبغي تقسيم قراءته إلى تفخيم وإعظام فيما يليق بذلك منه، وإلى تحزين وترقيق على حسب المواعظ المقروءة والحال المقروء لها. وقد نبه الله سبحانه على هذا التقسيم بقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمانًا) وبقوله: (أفلا يتدبرون القرءان)، وقوله: [ليدبروا ءايته) وقوله: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع). ولأن الألحان إذا كرهت كانت في القرآن أولى". قال القاضي أبو محمد: " وكذلك ينبغي تنزيه أذكار القرب كلها عما ذكرناه". وكدراسة العلوم النافعة في الدين، والحث على الخير، من الصدقة والمعروف ونحوه، والقول الذي يصلح بين الناس، ونحو هذا من الأقوال. وأما المنهي عنه فكالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والقذف والتلفيظ بفحش الكلام، وإطلاق ما لا يحصل إطلاقه على الله (تعالى)، أو على رسوله، أو على أحد من رسوله وأنبيائه أو ملائكته أو المؤمنين به.

الجنس الثالث: ما يتعلق بالأفعال

فرع: قد تقدم حكم من تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، فأما من شتم أحدًا من أصحابه، فإن قال: إنهم كانوا على كفر وضلال؛ فقال عيسى بن دينار "يقتل". وقال سحنون في كتاب ابنه: من كفر عليًا أو عثمان أو غيرهما من لأصحابه فأوجعه جلدًا. قال الشيخ أبو محمد: ورأيت في مسائل رويت عن سحنون: إن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي: إنهم كانوا على ضلالة وكفر، فإنه يقتل. ومن شتم غير هؤلاء من الصحابة بمثل هذا فعليه النكال الشديد. فأما من شتم أحدًا من الصحابة بغير ذلك من مشاتم الناس فلا يقتل عند الجميع، لكن عليه النكال. الجنس الثالث: ما يتعلق بالأفعال. وفيه يتسع المجال، وهو نوعان: النوع الأول: ما يخص المرء في نفسه، وهو ضربان: الضرب الأول: ما يتعلق بأفعال القلب منها. وهي مأمورات ومنهيات: فمن المأمورات: الإخلاص واليقين والتقوى والصبر والرضى والقناعة والزهد والورع والتوكل والتفويض وسلامة الصدر، وحسن الظن، وسخاوة النفس، ورؤية المنة، وحسن الخلق، وما أشبه هذه من أعمال القلوب. ومن المنهيات الغل والحقد والحسد والبغي والغضب لغير الله والغش والكبر والعجب والرياء والسمعة والبخل والإعراض عن الحق استكباراً، والخوض فيما لا يعني، ومثل الطمع، وخوف الفقر، وسخط المقدور، والبطر والتعظيم للأغنياء لغناهم، والاستهانة بالفقراء لفقرهم، والفخر والخيلاء، والتنافس في الدنيا والمباهاة والتزين للمخلوقين، والمداهنة، وحب المدح بما لم يفعل، والاشتغال بعيوب الخلق عن عيوب النفس، ونسيان النعمة، والحمية، والرغبة والرهبة لغير الله. ولنقتصر على هذا القدر فيه تنبيه على أمثاله من هذا الضرب. الضرب الثاني: ما يتعلق بأفعال الجوارح وهو أقسام: الأول: الطعام والشراب. وليسم الله تعالى الآكل والشارب عند الابتداء، وليحمداه عن الانتهاء. ولا يأكل متكئًا. وسئل مالك عن الرجل يأكل وهو واضع يده اليسرى على الأرض؟ فقال: إني لأتقيه وأكرهه، وما سمعت فيه شيئًا.

قال القاضي أبو الوليد: "إنما كرهه لما فيه من معنى الاتكاء، وإن كان لم يسمع فيه بنهي يخصه". وليأكل بيمينه وليشرب بيمينه. وليأكل مما يليه إلا أن يكون الطعام ألوانًا مختلفة، ورخص الشيخ أبو الوليد في أن يتعدى ما يليه وإن لم يكن ألوانًا، إذا كان مع أهله وولده، إذ لا يلزمه أن يتأدب معهم، ويلزمهم أن يتأدبوا معه. وقال القاضي أبو الوليد: "سئل مالك عن الرجل يأكل في بيته مع أهله وولده، فيأكل مما يليهم ويتناول مما بين أيدهم؟ فقالك لا بأس بذلك". وقد روي عن أنس بن مالك "أنه أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خياط فقدم قديدًا ودباء، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتبع الدباء حول القصعة". وإذا كان جماعة فأدير عليهم ما يشربون من لبن وماء أو غيره، فليأخذه بعد الأول الأيمن فالأيمن. وينبغي للرجل إذا أكل مع قوم أن يأكل مثلما يأكلون من تصغير اللقم وإطالة المضغ والترسل في الأكل. وإن خالف ذلك عادته. وينبغي أن لا ينهم في الأكل ويكثر منه. فما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطن. قال الشيخ أبو الوليد: "فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلثه للماء، ويبقى ثلثه للنفس. ويغسل يديه من الدسم وفمه، وإن كان لبنًا، فأما تعمد غسل اليد للأكل فقد كرهه مالك. ولا ينفخ في طعامه أو شرابه، ولا يتنفس في الإناء، ولكن ينحيه عن فيه، فإذا تنفس أعاده كما جاء في الحديث. ولا يشرب من فم السقاء: ولا بأس بالشرب قائمًا.

ولا يقرن التمر، إذا لم يقرن من يأكل معه، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن. قال الشيخ أبو الوليد: "فعلى هذا لا يجوز له أن يقرن، إذا لم يقرن من يأكل معه، ولو كان هو الذي أطعمهم، ويجوز له ذلك إذا أكل مع من لا يلزمه أن يتأدب معهم من أهله وولده". قال "وقد قيل: إنه إنما نهي عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يؤاكله بأكثر من حقه". قال: "فعلى هذا يجوز له إذا كان هو الذي أطعمهم أن يقرن، وإن كانوا لا يقرنون". ثم قال: "والأظهر أن يكون النهي عن ذلك للمعنيين جميعًا، فلا يقرن الرجل دون أصحابه المؤاكلين له الذين يلزمه أن يتأدب معهم، وإن كان هو الذي أطعمهم. ومن أكل ثومًا نيئًا، فلا يقرب المساجد للنهي عن ذلك، وكذلك إن أكل البصل أو الكراث، إن كان يؤذي مثله قياسًا عليه". فرع: الدعوات خمس: الأولى: وليمة النكاح، ويمؤ بإتيانها إلا من عذر، كما تقدم. الثانية: ما يفعله الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه على حسن العشرة وإرادة الألفة، ويستحب إتيانها. الثالثة: ما سوى ذلك مما يفعل على جري العادات دون مقصد مذموم: كالخرس، وهو طعام الولادة، والعقيقة، وهو اسم للشاة التي تذبح عن المولود يوم سابعه، والإعذار، وهو طعام الختان، والوكيرة، وهي الطعام لبناء الدار، والنقيعة وهي الطعام للقادم من السفر. قال الشيخ أبو الوليد: "وكل ذلك جائزًا إجابته". الرابعة: ما يقصد به قصد مذموم، من التطاول وابتغاء المحمدة والشكر وما أشبه ذللك، فلا ينبغي إجابتها، لا سيما لأهل الفضل والهيئات، لأن إجابتهم إلى مثل هذه الأطعمة إضاعة للتصاون وإخلاق للهيئة عند دناءة الناس، وسبب لإذلالهم أنفسهم. قال الشيخ أبو الوليد: "فقد قيل: ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له".

القسم الثاني: اللباس

الخامسة: ما يفعله الرجل لمن يحرم عليه قبول هديته، كأحد الخصمين للقاضي وشبهه، فهذا يحرم إجابته. القسم الثاني: اللباس. وقد قسمه القاضي أبو محمد إلى أقسام الأحكام الخمسة، ثم وعد من قسم الواجب ما هو لحق الله تعالى كستر العورة، وما هو لحق المخلوفين كالذي يقي الحر والبرد، وما يستدفع به الضرر في الحرب وغيرها من أحوال الخوف. قال القاضي أبو محمد: ولسنا نريد بأنه يرجع إلى حق المخلوفين أنه يجوز له تركه، لأنه لو كان كذلك لم نصفه بأنه واجب، وإنما نريد أنه يجب لأجل المخلوق لا لعبادة هو شرط في صحتها. ومن قسم المندوب ما هو لحق الله تعالى، كالرداء في الجماعة، وأن لا يعري منكبيه من شيئ من اللباس في الصلاة، ولبس الثياب الجميلة في الأعياد". قال القاضي: "ويتبع ذلك الزينة والطيب وما في معناه، وما هو من حقوق الآدميين مما يتجملون به، ويدفع الإزراء عنهم وهدم المروءات. وينبغي لأهلالعلم أن يكون زيهم حسنًا، لا يستحسن لهم مفارقة ذلك، ففي الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب. قال القاضي أبو الوليد: "استحسن عمر رضي الله عنه لأهل العلم والصلاح حسن الزي والتجمل المباح، لأن ذلك مشروع، وقد روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جميل يحب الجمال، والكب رمن بطر الحق وغمط الناس". وسئل مالك رضي الله عنه عن قولهتعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) فقال: "أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه". قال القاضي أبو الوليد: "وقد شرع في الصلاة التجمل وحسن الزي والهيئة، ومع الاحتزام وتشمير الكمين، وما جرى مجرى ذلك مما ينافي زي الوقار. وكذلك شرع في أيام الجمع التجميل بالملبس والتطيب لاجتماع الناس، والعالم يجتمع

إليه الناس ويردون عليه، فيشرع له التجمل في الملبس دون أن يخرج عن عادة مثله" وكذلك العباد لا يستحسن لهم الخروج عن حسن الزي إلى الملبس الخشن لأن ذلك خروج عن العادة ومدخل فيما يشهره. وقد قال إبراهيم بن أدهم لرجل تنسك فلبس الصوف: رأيته تنسك نسكًا أعجميًا؛ فعاب ذلك عليه لخروجه عن عادة مثله. وقد سئل مالك رضي الله عنه عن لباس الصوف الغليظ؟ فقال: لا خير في الشهرة، ولو كان يلبسه تارة ويتركه أخرى لرجوت، ولا أحب المواظبة عليه حتى يشتهر، ومن غليظ القطن ما هو بمثل ثمنه. ومن قسم المحظور ما كان سرفاً زائداً على قدر المحتاج إليه، مخرجًا فاعله إلى الخيلاء والبطر. ومنه: اشتمال الصماء والحبوة على غير ثوب يستر العورة، فإن كان ت حته ثوب يستر العورة، غير ما اشتمل به واحتبى. فهو من قسم المباح. ومن قسم المحظور في هذا ويدخل فيه جميع ما في بابه تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء في اللبس والتختم وغير ذلك؛ ملعون فاعله كالمخانيث ومن جرى مجراهم. وفي المختصر من رواية أشهب:"سئل مالك عن اكتحال الرجل بالإثمد؟ فقال: ما يعجبني، وما كان من عمل الواس، وما سمعت فيه شيئًا. قال الشيخ أبو بكر: إنما كره الاكتحال بالإثمد، لأن فيه ضربًا من الزينة التي تشبه زينة النساء، ويكره للرجال التشبه بالنساء. ومنه أيضًا لبس الحرير للرجلا، ويحرم المتمحض منه عليهم، فلا يلبس الرجل منه ثوبًا. قال ابن حبيب: ولا يلتحف به، ولا يفترشه، ولا يصلي عليه، ولا يجوز إضافة شيئ منه

إلى الثياب، وإن كان يسيرًا. وقد نص في كتاب ابن حبيب على المنع من اتخاذ الجيب منه. وقال بعض الأصحاب: يجوز اتخاذ الطوق منه واللبنة، لما وقع في الحديث من استثناء العلم، وقد اختلف فيه، فروى ابن حبيب: أنه لا بأس به، وقال: لا بأس به، وإن عظم، لم يختلف في الرخصة فيه، والصلاة [به]. وروى ابن القاسم: أن مالكًا كره (لباس) الملاحف فيها أصبغ أو أصبعان أو ثلاثة من الحرير. قال ابن القاسم: لم يجز مالك من الحرير في الثوب إلا الخيط الرقيق. فأما ما سداه حرير ولحمته من غيره فمكروه، وليس بمحرم. وأما الخز فذكر عن مالك جوازه. وقال القاضي أبو محمد: "يجوز لبسه، وكرهه مالك، لأجل السرف". وذكر ابن حبيب عن خمسة وعشرين من الصحابة جوازه، منهم عثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عباس وخمسة عشر تابعيًا. وكان عبد الله بن عمر يكسو بنيه الخز. وقال في الواضحة: وأما الخز فلم يختفوا في إجازة لبسه. قال: وليس بين الخز وما سداه حرير ولحمته من القطن وغيره فرق من القطن وغيره فرق إلا الاتباع. ولا بأس أن يخاط الثوب بالحرير. "قال ابن حبيب: ولا يستعمل ما بطن بحرير أو حشى به مثل الصوف، أو رقم به". قال القاضي أبو الوليد: "يزيد إذا كان الحرير فيه كثيرًا". ولم ير ابن القاسم بأسًا أن تتخذ منه راية في أرض العدو. واستخف ابن الماجشون لباس الحرير في الجهاد، والصلاة به حينئذ، للترهيب على العدو. ولم ير ذلك مالك. وأما الستر تعلق، فقال ابن حبيب: لا بأس به. فأما النساء فيباح لهن لباسه كيف شئن من وجوه اللباس.

ومن قسم المكروه: ما خالف زي العرب، ودخل في زي العجم جملة بغير تفصيل، (كالتعمم) بغير قناع أو تحنيك غير ذلك. وفي المحضر من ورواية ابن وهب: "سئل مالك عن الذي يعتم بالعمامة، ولا يجعلها تحت حلقه؟ [فأنكرها] وقال: ذلك من عمل القبط، فقيل له: فإن هو صلى بها كذلك" قال: لا بأس. قال: "وليست من عمل الناس إلا أن تكون عمامة قصيرة لا تبلغ". ولا يجوز للنساء أن يلبسن ما يصف أو يشف، وفي ذلك ورد "نساء كاسيات عاريات". ويؤمن بسدل أثوابهن من شبر إلى ذراع للستر. وأما الرجال فلا يحل لهم أن يجاوزوا بثيابهم الكعبين، ويستحب أن تكون من أصناف الساقين إلى ما ف وق الكعبين. وأما جر الثوب خيلاء فمعصية متوعد عليها. ومما ينخرط في سلك اللباس التختم والانتعال وستر الجدر. أما التختم فيحرم منه على الرجال ما كان يذهب أو بما فيه ذهب. ولو حبة. وأما ما كان من فضة فلا بأس بالتختم به والأفضل التختم في اليسار، وكره مالك التختم في اليمين. ولا بأس أن ينقش في الخاتم اسم الله تعالى. قال الشيخ أبو محمد: "ويقال: كان في نقش خاتم مالك (حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلِ) وروى في العتبية: "لا بأس أن يستجني بيساره وفيها الخاتم فيه ذكر الله". قال القاضي أبو بكر: "قال لي بعض أشياخي: هذه رواية باطلة، معاذ الله أن تجري النجاسة على اسم".

القسم الثالث: (في) دخول الحمام

وأما الانتعال فيستحب فيه الابتداء باليمين في اللبس، وباليسار في الخلع. ولا يمشي أحد في نعل واحدة ولا يقف فيه، إلا أن يكون الشيئ الخفيف، في حال كونه متشاغلاً بإصلاح الآخر، وليلبسهما جميعًا أو فلينتزعهما جميعًا. وأما ستر الجدر فمنهي عنه، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستر الجدر إلى جدار الكعبة". القسم الثالث: (في) دخول الحمام. وهو جائز للرجال إذا كان خاليًا، فأما مع مستورين فقال ابن القاسم: "لا بأس بذلك، وتركه أحسن". وقال أيضًا: "وقد سئل عن الغسل بالماء السخن من الحمام؛ فقال: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغتسل بذلك الماء. وقد حملت كراهيته لدخوله هاهنا على أنه لا يأمن أن تنكشف عورة أحد ممن هو معه فيه، ولا خلاف في تحريم دخوله مع من لا يستتر". وقال القاضي أبو بكر: "إذا كان الرجال لا يسترون، فقال مالك: لا تقبل شهادة من دخله". قال القاضي أبو بكر: فإن استتروا فليدخل بعشرة شروط: الثاني: أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.

الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق. الرابع: أن يطرح بصره إلى الأرض، أو يستقبل الحائط، لئلا يقع بصره على محظور. الخامس: أن يغير ما رأى من منكر برفق، بقول: استتر، سترك الله. السادس: إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته، إلا امرأته أو جاريته وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا؟. السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة. الثامن: أن يصب الماء على قدر الحاجة. التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم، يحفظون أديانهم، على كرائه. العاشر: أن يتذكر به عذاب جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليدخل وليجتهد (طاقته) في غض البصر. وإن حضر وقت الصلاة فيه استتر وصلي في موضع مطهر. قال: "وأما النساء فلا سبيل إلى دخولهن، لأن جميع المرأة عورة للرجل والمرأة. أولاً ترى إلى قول النبيبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرأة في مخدعها"، لما هي فيه من الستر، ولم يؤذن لها في الحج أن تكشف إلا وجهها ويديها. فلتدخله مع زوجها، إذا احتاجت إليه". وقال الشيخ أبو القاسم: "لا تدخل المرأة الحمام إلا من ضرورة". وقال القاضي أبو محمد: "اختلف فيه للنساء في هذا الوقت، فقيل: يمنعن منه، إلا لعلة من مرض أو حاجة إلى الغسل، من حيض أو نفاس أو شدة برد أو ما أشبه ذلك". وقيل: إن منع ذلك لما لم تكن لهن حمامات منفردة، فأما اليوم من إفرادهن فلا يمنعن. ثم إذا دخلت فلتستر جميع جسدها. وقال الشيخ أبو الوليد: "حكمهن في دخوله الكراهة دون التحريم. قال: "ولا يلزمها من التستر مع النساء إلا ما يلزم لرجل ستره". ورأى أن النساء مع النساء كالرجال مع الرجال، واستشهد على ذلك بإباحة غسلهن لهن.

القسم الرابع: الرؤيا والحلم

فرع: قال ابن وهب في المختصر: "سمعت مالكًا يقول فلي الجلبان والفول وما أشبهه من الطعام: لا بأس به أن يتوضأ منه، ويتدلك به في الحمام. قال مالك: إن الرجل ليدهن بعض جسده بالسمن أو الزيت من الشقوق. قال: وسئل عن الدقيق يغسل به اليدين؟ قال مالك: وغيره أعجب إلي، ولو فعل لم أر به بأسًا، قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمندل ببطن رجله". القسم الرابع: الرؤيا والحلم. والرؤيا الصالحة: هي ما كانت من رجل صالح، وهي التي تكون جزءًا من أجزاء النبوة. وقد تكون الرؤيا من الشيطان ليحزن الرائي، ولا يضره إذا امتثل ما أمر به. والمقصود بذكر هذا القسم ذكر ما ورد الأمر به إذا رآها الرائي، وهو أن يستعيذ بالله من شرها، وينفث على يساره. زاد ابن وهب: ويقول: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر ما رأيت، أن يصيبني منه شيئ أكرهه في الدنيا والآخرة. وليتحول على شقه الأيسر. قال ابن وه: فإذا فعل ذلك موقنًا بما روي فيه لم يضره ما رأى. القسم الخامس: السفر. قال القاضي أبو بكر: "وهو ضربنا: هرب وطلب. أما الهرب فهو الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، والخروج من دار البدعة، والخروج من أرض غلب عليها الحرام، والفرار من الإذاية في البدن كخروج الخليل عليه السلام، والخروج من الأرض المغمقة إلى الأرض النزهة عند الاجتواء، والخروج خوفًا على الأهل والمال، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

وأما الطلب فسفر العبرة، وهو ند. وسفر الحج وهو فرض. وسفر الجهاد، وله حكمه. وسفر المعاش باحتطاب أو احتشاش أو صيد. وسفر التجارة والكسب. والسفر لقصد البقاع الكريمة، وهي إما أحد المساجد الثلاثة، وأما مواضع الرباط. والسفر لقصد طلب العلم. والسفر للقصد إلى الإخوان لتفقد أحوالهم". ثم من آداب السفر أنه إذا وضع رجله في الركاب أو في الغرز، وبالجملة فإذا بدأ، فليقل: "باسم الله، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم ازو لنا الأرض، وهو علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من عثاء السفر ومن كآبة المنقلب، ومن سوء المنظر في المال والأهل". ولينظر في الرقيق ففي الحديث: "الراكب شيطان"، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب". وهي أقل الرفقة بحيث إذا ذهب واحد يحتطب أو يسقي بقي إثنان. وقد جاء: "إن خير الرفقاء أربعة". وإن كانت امرأة فلا يحل لها السفر إلا بالرفيق، وهو إما الزوج وإما المحرم، ف إن عدمتهما واضطرت، كالخروج إلى حج الفريضة وشبهه، فنساء مأمونات أو رجال مأمون لا تخشى على نفسها معهم. ولا يعلق المسافر الاجراس ولا يقلد الأوتار للدواب، وذلك مكروه. ويستحب للمسافرين الرفق بدوابهم، وإنزالها منازلها في الخصب والنجاء عليها بتقيها في الجدب، وأن لا يعرسوا على الطريق، لأنها طرق الدواب ومأوى الحيات، وأن يقولوا إذا نزلوا منزلاً: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فقد ضمن عدم الضرر بها. قال القاضي أبو بكر: "فلعمر إلهكم لقد جربتها أحد عشر عامًا، فوجدتها. وأن يجعل الرجوع إلى أهله إذا قضى نهمته من سفره. وأن يدخل في صدر النهار، ولا يأتي أهله طروقًا، كما جاء في الحديث. ولا بأس بالإسراع في السير وطي المنازل فيه عند الحاجة إلى ذلك. فقد سار ابن عمر

القسم السادس: فيما يفعله الإنسان في رأسه وجسده

وسعيد بن أبي هند وكان من خيار الناس من مكة إلى المدينة في ثلاثة أيام وهي مسيرة عشرة أيام على السير المعتاد. ولا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. القسم السادس: فيما يفعله الإنسان في رأسه وجسده. وهي الخصال التي يعبر عنها بخصال الفطرة. والمراد بها هاهنا الخصال التي يكمل بها المرء حتى يكون على أفضل الصفات، وهي عشرة، خمس في الرأس وهي: حلق العانة. ونتف الإبطين، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، وهو سنة في الرجال ومكرمة في النساء. ويستحب ختان الصبي إذا أمر بالصلاة من السبع إلى العشر. ويكره أن يختن في السابع من ولادته كما يفعله اليهود، وإن خاف الكبير على نفسه من الختان التلف، فرخص له ابن عبد الحكم في تركه، وأبى ذلك سحنون. واختلف فيمن ولد مختونًا، فقيل: قد كفى الله سبحانه المؤونة فيه، وقيل: تجرى الموسى عليه، فإن كان فيه ما يقطع قطع. فرع: تقدم في هذا القسم أن من الفطرة فرق الشعر، والكلام في فرقه فرع لإبقائه على الرأس. وقد قال القاضي أبو بكر: "الشعر في الرأس زينة، وتركه سنة، وحلقه بدعة وحالة مذمومة، جعلنا النبي صلى الله عليه وسلم شعار الخوارج، قال في الصحيح: سيماهم التسبيد وهو الحلق:. ويجوز أن يتخذ جمة، وهو ما أحاط بمنابت الشعر، ووفره (وهو) ما زاد على ذلك، حتى تبلغ شحمة (الأذنين)، ويجوز أن يكون أطول من ذلك. وقد ذكر أبو عيسى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة: "أن شعره كان فوق الجمة ودون الوفرة". قال: وبكره الَزَعُ، وذلك أن يحلق البعض ويترك البعض، شبه بالقرع، وهي قطع السحاب. انتهى كلامه.

القسم السابع: في اللعب بالتردد وشبهها

وقال أبو عبيد: يتخصص الفزع بتعدي مواضع الحلق حتى تتعد مواضع الشعر، وبذلك تحصل المشابهة، وهذا مساو لما روي عن مالك. قال ابن وهب: "سمعت مالكًا يقول: بلغني أن القزع مكروه. والقزع: أن يترك شعرًا متفرقًا في رأسه. قال ابن وهب: وسمعته يكره القزع للصبيان. قال: وهو الشعر المبدد في الرأس". القسم السابع: في اللعب بالتردد وشبهها. أما النرد فحرام. وأما الشطرنج وما يضاهيها، كالأربعة وغيرها، فالنص على كراهيتها، واختلف في حمله على التحريم أو إجرائه على ظاهره، ونص على كراهية الشطرنج، وقال: "هي ألهى وأشر"، وقيل: الإدمان عليها حرام. وقيل: إن لعبت على وجه يقدح ي المروءة، كالمحترم يلعبها على الطريق ومع الأوباش والأطراف، فلا يحل ذلك؛ (فإن) لعبت في الخلوة مع الأمثال والنظراء من غير إدمان، ولا في حال تلهي فيه عن العبادات والمهمات الدينية والدنيوية، فهي مباحة. القسم الثامن: في التصوير. والصورة إن كانت تماثيل على صفة الإنسان ل [أو] غيره من الحيوان، فلا يحل فعلها، ولا استعمالها في شيئ أصلاً؛ وإن كانت رسمًا في حائط أو رقمًا في ستر ينشر أو يبسط أو وسائد يرتفق بها ويتكأ عليها، فهي مكروهة، وقيل: حرام. قال القاضي أبو بكر: "وقد قيل: إن الذي يمتهن من الصور يجوز، وما لا يمتهن مما يعلق فيمنع، لأن الجاهلية كانت تعظم الصور، فما يبقى فيه جزء من التعظيم والارتفاع يمنع،

القسم التاسع: وسم الدواب وخصاؤها

وما كان مما يمتهن فهو مباح، لأنه ليس مما كانوا فيه". القسم التاسع: وسم الدواب وخصاؤها. وقد أرخص في (الوسم) في الدواب والأنعام لما يحتاج إليه من علامات تعرف بها، لكن نهي عن ذلك في الوجه خاصة، إلا في الغنم فإنه أبيح في آذانها، إذ لا ينتفع بها في أجسادها لستر الشعر له. وأما الخصاء فأبيح في الغنم لأنه يطيب لحمها، والمقصود منها الأكل. ولا يجوز الخيل لأنه يضعفها في الغزو، وهو المقصود الأعظم منها، ويقطع نسلها، وقد رغب في تربيتها، وحض علىالقيام بها، لحاجتها في الجهاد. القسم العاشر: قتل الدواب. وقد روى أبو داود عن عبد الهل بن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني". وروى مسلم عن أبي لبابة الانصاري قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن قتل الجنان التي في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطان البصر ويتبعان ما في بطون النساء. وفي مسلم أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فأذنوه ثلاثة أيام، فإذا بدا لكم فاقتلوه فإنما هو شيطان". وعموم حديث أبي داود يقتضي قتل حيات الصحارى والطرقات من غير استئذان وتختص حيات المدينة بالاستئذان قبل القتل لحديث مسلم.

النوع الثاني: ما يتعلق بالمخالطة والمعاشرة

وفي إلحاق حيات البيوت بغير المدينة بحيات بيوتها، في تقديم الاستئذان على القتل، خلاف. قال القاضي أبو بكر: "والصحيح أن سائر البلدان كالمدينة في ذلك. وقال ابن نافع بقصره على المدينة خاصة. ثم حيث قلنا بالاستئذان فهو في غير ذي الطفيتين والأبتر. ويفعل الاستئذان المشروع ثلاثًا في خرجة واحدة. وقيل: في كل خرجة دفعة. وروي: أرى أن تنذر ثلاثة أيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينظر إلى تبديها، وإن تبدت في اليوم الواحد مرارًا. واختار القاضي أبو بكر القول الأول في أحكام الكتاب له. وقال في كتابه في أحكام السنة:"إن القول الثاني هو الموافق لصحيح الحديث"، فإن قيل: كيف تستأذن؟. قلنا: روى ابن حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل كيف تنشد الحية؟ فقال: "قولوا أنشدكن العهد الذي أخد. عليكن سليمان عليه السلام أن لا تؤذيننا أو تظهرن لنا". وروى ابن وهب عن مالك، يقول: يا عبد الله، إن كنت تؤمن بالله ورسوله، وكنت مسلمًا فلا تؤذنا ولا تشغلنا ولا تروعنا، ولا تبدون لنا، فإنك إن تبد بعد ثلاث قتلتك. قال ابن القاسم: قال مالك: يحرج عليه ثلاث مرات أن لا تبدو لنا، ولا تخرج. وقال أيضاً عنه: أحرج عليك بأسماء الله أن لا تبدو لنا. وتقتل الوزع، حيث وجدت، من غير استئذان، لأمره صلى الله عليه وسلم بقتلها وتسميته لها فويسقا ونهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد إلا أن يؤذي من ذلك شيئ فيجوز قتله لإذايته. وكذلك يجوز قتل كل ما يؤذي كالبرغوث والقمل وغير ذلك. ولا يقتل بالنار شيئ مما قلنا: إنه يقتل، لأنه من التعذيب والتمثيل. النوع الثاني: ما يتعلق بالمخالطة والمعاشرة. وهو يشتمل على مأمورات ومنهيات.

المأمورات

أما المأمورات، وهي خمسة أقسام القسم الأول: السلام والاستئذان. أما السلام فصيغة الابتداء به: سلام عليكم. وصيغة الرد: وعليكم السلام. قال الشيخ أبو القاسم والقاضي أبو محمد: "وينتهي في السلام إلى البركات". ويجوز في سلام المسلم على المسلم أن يزيد الابتداء على لفظ الرد، والرد على لفظ الابتداء إلى أن ينتهي إلى البركات. قال القاضي أبو محمد: "والابتداء بالسلام سنة، ورده آكد من ابتدائه"، وتسليم الواحد من الجماعة يجزئ عنهم، ورد الواحد كذلك، ثم الراكب يسلم على الماضي، والقليل على لكثير، والصغير على الكبير، فأما الداخل على شخص أو المار عليه فإنه يسلم عليه كان راكبًا أو راجلاً، صغيرًا أو كبيرًا، واحدًا أو أكثر، كان الشخص مستقرًا أو سائرًا. ولا يسلم على المرأة الشابة، ولا بأس بالسلام على المتجالة. والمصافحة جائزة، بل مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم "تصافحوا يذهب الغل". وكرهها في رواية أشهب. وتكره المعانقة وتقبيل اليد في الإسلام، ولو من العبد، وينبغي لسيده أن يزجره عن ذلك، إلا أن يكون غير مسلم. ولا يبدأ أهل الذمة بالسلام، وإذا بدأوا رد عليهم: عليكم، بغير واو، وقيل: وعليكم؛ بإثباتها. وقال القاضي أبو محمد: "وإن رد عليه: السلام، بكسر السين، ونوى به موضوعه في اللغة، جاز". وفي رواية أشهب: لا يسلم عليه، ولا يرد ..

القسم الثاني: تشميت العاطس

وتأول ذلك على أن المراد به لا يرد عليهم بمثل ما يرد به على المسلمين. ومن بدأ ذميًا لم يحتج إلى الاستقالةز ولا يسن السلام على المصلي، ويكره على من يقضي حاجته. ولا يسلم على أهل الأهواء، كأهل القدر من المعتزلة والروافض والخوارج وغيرهم. ولا يسلم على أهل الباطل واللهو حال تلبسهم به، بل يستحب هجرة جميعهم: أهل القدر وأهل الباطل على فعلهم، ردعًا لهم، وزجرصا عما هم عليه، وغضبًا لله سبحانه في مواصلة من هذه سبيله. وروى إباحة السلام على اللاعب بالشطرنج. وقال: هم مسلمون. ومن دخل منزله فليسلم على أهله. وإن دخل منزلاً ليس فيه أحد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وأما الاستئذان فصفته أن يقول: سلام عليكم، أأدخل؟ أو السلام عليكم، لا يزيد عليه رواه يحيي عن ابن نافع. وروى عيسى عن ابن القاسم: "يسلم ثلاثًا، فإن أذن له وإلا انصرف". والاستئذان واجب، فلا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه، أجنبيًا كان أو قريبًا، ويستأذن على أمه وأخته. وبالجملة: فيستأذن على كل من لا يحل له النظر إلى عورتها. ويستأذن ثلاثًا ولا يزيد على ذلك، إلا أن يغلب على ظنه عدم السماع. ثم حيث غلب على ظنه السماع، إن أذن له وإلا انصرف. وإذا استأذن بالسلام فقيل له: من هذا؟ فليسم نفسه باسمه، أو بما يعرف به. ولا يقل: أنا القسم الثاني: تشميت العاطس، بالشين المعجمة وبالسين المهملة. وهو القول للعاط: يرحمك الله. وهو مستحب. وكذلك جوابه وهو قوله: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو يغفر الله لنا ولكم. وإن جمع بينهما فهو أحسن. وقال القاضي أبو الوليد: "ظاهر المذهب وجوبه على الكفاية، كرد السلام. وقال ابن مزين: هو فرض على كل واحد ممن سمعه، ولا يجزئ أحد عن غيره. ويشمت العاطس حتى يحمد الله، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "من عطس فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه". وليرفع صوته بالحمدلة، ليسمع فيشمت. ومن لم

القسم الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يسمع منه الحمدلة، لكن سمع من هو أقرب إلى سماع صوته منه يشمته، فليشمته. (ومن عطس في الصلاة فلا يحمد الله إلا في نفسه. وقال سحنون: ولا في نفسه. وإذا عطس فحمد الله تعالى بحضرة جماعة فشمته أحدهم فقال القاضي أبو محمد: يجزئ ذلك عن بقيتهم، (كرد السلام). وقد تقدم قول ابن مزين. ومن توالى عطاسه شمت إلى الثالثة، ولم يشمت فيما بعدها. القسم الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". خرجه أبو عيسى واستحسنه. وروى جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعمله، فلا يغيرونه إلى عمهم الله بعقاب". وإنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر بشروط ثلاثة: الأول: أن يكون المتولي له عالمًا بما يأمر به وبما ينهي عنه الثاني: أن يأمن من أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه. مثل أن ينهي عن شرب الخمر، فيؤول نهيه عنه إلى قتل نفسه ونحوه. الثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع. وفقد أحد الشرطين الأولين يمنع الجواز. وفقد الثالث يسقط الوجوب فقط، فيبقى الجواز أو الندب، ثم مراتب الإنكار ثلاث: الأولى، وهي أقواها، أن يغير بيده، فإن لم يقدر على (ذلك) انتقل إلى المرتبة الثانية، فيغير بلسانه، إن استطاع، وليكن برفق ولين ووعظ، إن احتاج إليه، فإن لم يقدر على ذلك وخاف عاقبته انتقل إلى لمرتبة الثالثة، وهي الإنكار بالقلب، وهي أضعفها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،

القسم الرابع: تعالج المريض

فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. خرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. وفي صحيح مسلم نحوه. وقال فيه بعد المرتبة الثالثة: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. القسم الرابع: تعالج المريض. والتمريض فرض كفاية، فيقوم به القريب ثم الصاحب، ثم الجار، ثم سائر الناس. ومن المعالجة الجائزة حمية المريض، وقد حمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مريضًا فقال: حماني حتى كنت أمص النوى من الجوع. قال الشيخ أبو الوليد: "ولا خلاف أعلمه في أن التداوي بما عدا الكي من الحجامة وقطع العرق وأخذ الدواء مباح غير محظور". قال) "وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وشاور الأطباء. ولا يجوز التداوي بالخمر شربًا، كما تقدم. وفي التداوي بها من غير شرب خلاف. فأما سائر النجاسات فيجوز التداوي بها إلا بالشرب". وقال القاضي أبو الوليد: ("يغسل القرحة بالبول والخمر، إذا غسل بعد ذلك بالماء". قال: "وفي رواية ابن القاسم: أنه كره التعالج بالخمر وإن غسلها بالماء". قال مالك: إني لأكره الخمر في الدواء وغيره. وبلغني إنما يدخل هذه الأشياء من يريد الطعن في الدين. والبول عندي أخف. قال مالك: ولا يشرب بول الإنسان للتداوي به، ولا بأس بشرب بول الأنعام، ولا خير في بول الأتن"). قال الشيخ أبو الوليد: واختلف السلف في التداوي بالكي. قال: والأكثر على إجازته، وقد كوى النبي صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة. ومن حقوق

القسم الخامس: وضوء العائن للمعين

المريض زيارته. والرقية بالقرآن وبأسماء الله جائزة، وبما رقي به النبي صلى الله عليه وسلم وما جانسه. القسم الخامس: وضوء العائن للمعين: وهو مأمور به. وصفته: أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزارةه، وهي الطرف الأيسر من طرفيه اللذين يشد بهما، في إناء ثم يصب على المعين. وأما المنهيات وهي خمسة أيضًا: القسم الأول: المهاجرة. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، للحديث، إلا أن يكون مبتدعًا أو فاسقًا فيهجره في ذات الله تعالى، لأن الحب فيه والبغض فيه سبحانه واجب. قال الشيخ أبو الوليد: "والسلام يخرج من المهاجرة إذا كان متماديًا على إدايته، والسبب الذي هجره من أجله، وأما إن كان قد أقلع عن ذلك فلا يخرج من هجرانه حتى تجوز شهادته عليه، إلا بأن يعود معه إلى ما كان عليه قبل". قال: "هذا معنى قول مالك. والآثار في الأمر بالتواخي في ذات الله سبحانه، والنهي عن التقاطع والتدابر كثيرة". والتدابر: هو أن تعرض بوجهك عن أخيك وتوليه دبرك استثقالاً له وبغضًا، بل أقبل عليه وأبسط له وجهك ما استطعت. هكذا فسره عيسى بن دينار. ورواه يحيي بن يحيي عن ابن نافع. القسم الثاني: تناجي بعض الجماعة دون بعض. ولا يناجي إثنان دون واحد، للنهي الوارد فيه لأنه يحزنه، وكذلك الجماعة دون الواحد، وهو أشد. وقد قيل: إن ذلك إنما يكره في السفر، وحيث لا يعرف المتناجيان ولا يوثق بهما، ويخشى الغدر منهما.

القسم الثالث: ما يجري مجرى الغرر والتدليس

القسم الثالث: ما يجري مجرى الغرر والتدليس: فلا يجوز للمرأة ا، تصل شعرها ولا أن تشم وجهها ولا يديها، ولا أن تشر أسنانها، وبالنهي عن جميع ذلك ورد الخبر. ويجوز أن تخضب يديها ورجليها بالحناء. وهل تطرف؟ أجازه في سماع ابن القاسم. وجاء النهي فيه ععمر. وفي صبغ الرجل الشعر ولحيته وراسه بما عدا السواد قولان: بالجواز والاستحباب. وأما بالسواد فقولان أيضًا: لكن بالجواز والكراهة. أما فعله في الحرب، لإبهام العدون، فيؤجر عليه. ويكره نتف الشيب، لما روي من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وإن قصد به (التدليس) على النساء فهو أشد في المنع. القسم الرابع: مخالطة الرجال النساء. وخلوة الرجل بالمرأة، إذا لم يكن زوجها ولا ذا محرم منها، لا تحل له، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّيْطَانَ ثَلِثَهُمَا". ولا يجوز النظر إلى شيئ من بدنها إلا الوجه والكفين من المتجالة، وأما الشابة فلا ينظر إليها أصلاً إلا لضرورة كتحمل شهادة أو علاج أو عند إرادة النكاح كما تقدم. وأما ذو المحرم فيجوز أن يرى منها الوجه والكفين. ويباح للعبد أن يرى من سيدته ما يراه ذو المحرم، إلا أن تكون له منظرة فيكره أن يرى ما عدا وجهها، ولها أن تؤاكله إذا كان وغدا دنيا يؤمن منه التلذذ بها، بخلاف من لا يؤمن ذلك منه. ولا يدخل الخصي على المرأة إلا أن يكون عبدها، واستخف إذا كان عبد زوجها للمشقة الداخلة عليها في استتارها منه. ولا تجتمع امرأتان ولا رجلان في لحاف واحد مع التجرد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعاكمة وروي المكامعة. "فالمكامعة: من الكميع وهو اضجيع. وزوج المرأة كميعها.

القسم الخامس: في مسائل من المكاسب والورع

والمعاكمة: ضم الشيئ إلى الشيئ، تقول: عكمت الثياب أي شددت بعضها إلى بعض". ولذلك يفرق بين الصبيان في المضاجع قيل: لسبع، إذا أمروا بالصلاة، وقيل: لعشر، إذا ضربوا عليها. وهو ظاهر الحديث. القسم الخامس: في مسائل من المكاسب والورع. والنظر في طرفين: الطرف الأول: في معاملة مكتسب الحرام، كمتعاطي الربا والغلول وأثمان الغضوب والخمر ونحو ذلك. ولا يخلو إما أن يكون الغالب على ماله الحلال، أو يكون الغالب عليه الحرام، أو يكون جميعه حرامًا: "إما بأن لا يكون له مال حلال، وإما أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال. فإن كان الغالب عليه الحلال فأجاز ابن القاسم معاملته واستقراضه وقبض الدين منه وقبول هديته وهبته وأكل طعامه. وأبى من ذلك كله ابن وهب. وحرمه أصبغ على أصله في أن المال الذي خالطه شيئ من الحرام حرام كله، يلزمه التصدق بجميعه. قال الشيخ أبو الوليد: "والقياس قول ابن القاسم، وقول ابن وهب استحسان، وقول أصبغ تشديد على غير قياس. وأما إذا كان الغالب عليه الحرام فيمنع أصحابنا من معاملته وقلول [هبته] وهل على وجه الكراهية، وهو مذهب ابن القاسم، أو على وجه التحريم؟ وهو مذهب أصبغ. إلا أن يبتاع سلعة حلالاً فلا بأس أن تبتاع منه وأن تقبل منه هبته إنعلم أنه قد بقي بيده ما بقي بما عليه من التباعات، على القول بأن معاملته مكروهة. ويختلف في ذلك على القول بأنها محظورة. وأما إن كان ماله كله حرامًا إما بأن لا يكون له مال حلال، وإما بأن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الخلا، فاختلف في معاملته وقبول [هبته] وأكل طعامه، على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك كله لا يجوز، وإن كانت السلعة التي وهب والطعام الذي أطعم قد علم أنه اشترا، وأما إن علم أنه ورثه أو وهب له فيجوز، إلا أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما ورثه أو وهب له فيكون حكمه حكم ما اشتراه، وكذلك ما صاده أيضًا. والقول الثاني: إن مبايعته ومعاملته تجوز في ذلك المال، وفيما ابتاعه من السلع، وفيما

وهب له أو ورثه، وإن كان عليه من التباعات ما يستغرقه إذا عامله بالقيمة ولم يحابه، ولا تجوز هبته في شيئ من ذلك ولا محاباته. والقول الثالث: إن مبايعته لا تجوز في ذلك المال. فإن اشترى به سلعة جاز أن تشتري منه وأن تقبل منه هبة. وكذلك ما ورثه أو وهب له، وإن كان ما عليه من التباعات قد استغرقه، روي ذلك عن سحنون وابن حبيب. قال ابن حبيب: وكذلك هؤلاء العمال ما استروه في الأسواق فأهدوه لرجل طاب للمهدي له. والقول الرابع: إن مبايعته وقبول هبته وأكل طعامه يجوز في ذلك المال وفيها اشتراه أو وهب له أو ورثه وإن كان ما عليه من التباعات قد استغرقه". قال الشيخ أبو الوليد: "فعلى هذا القول يجوز أن يورث عنه ذلك، ويسوغ للوارث بالوراثة. واختلف على القول بأن معاملته ي ذلك المال وقبول هبته وأكل طعامه لا يجوز، هل يسوغ للوارث بالوارثة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك يسوغ له بالوارثة ولا يسوغ له بالهبة. قاله سحنون. والثاني: إنه لا يسوغ له بالميراث كما لا يسوغ له بالهبة، ويلزم الوارث من التنحي من هذا المال والصدقة به ما كان يلزم الموروث. فروع: الفرع الأول: من اشترى سلعة حلالاً بمال حرام، والثمن عين، فقال أصحابنا وابن سحنون وابن حبيب: إنه لا بأس أن تشتري منه علم صاحبه بخبث الثمن أم لا؟ وأجازه ابن عبدوس مع العلم بخبث الثمن دون الجهل به. وكره سحنون شراءها مع العلم والجهل. فأما شراءها بعرض بعينه حرام فلا يجوز. الفرع الثاني: قال أحمد بن نصر الداودي من باع شيئًا حرامًا بشيئ حلال، كان ما أخذ في الحرام حرامًا وكان الحرام حرامً بيد آخذه، إن علم بذلك. الفرع الثالث: قال أحمد: إن وصايا المتسلطين بالظلم المغترقي الذمة غير جائزة، وعتقهم مردود، ولا تورث أموالهم، ويسلك بها سبيل ما أفاء الله.

الطرف الثاني: في الورع. ويه مسألتان: المسألة لأولى: في بيان طريق الورع والحث عليه. ولا خفاء بأن المكاسب المجتمع على تحريمها الربا، ومهور البغايا، والسحب، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، والكهانة، وادعاء الغيب، وعلى اللعب والباطل كله. ومن الكسب الحرام المجتمع عليه، أيضًا، الغصب، والسرقة، وكل ما لا تطيب به نفس مالكه من مسلم أو ذمي. وكل هذه المحرمات يجب تركها، لكن لا ينبغي الاقتصار على تركها فقط، بل يترقى في المكلف إلى ترك المشتبهات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". قال الإمام أبو عبد الله: هذا الحديث جليل الموقع عظيم النفع في الشرع حتى قال بعض الناس: إنه ثلث الإسلام. وذكر حديثين آخرين هما الثلثان الباقيان. قال: وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث لكون المكلف متعبدًا بطهارة قلبه وجسمه، وأكثر المذام والمحزورات إنما تنبعث من القلب، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى إصلاحه، ونبه على أنه إصلاح لجملة الجسم، وأنه الأصل، والأحكام والعبادات التي يتصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات، التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض. فنبه صلى الله عليه وسلم على توقي هذه، وضرب لها محسوسًا لتكون النفس له أشد تصورًا والعقل أعظم قبولاً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الملوك لهم أحمية لا سيما، وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي بروجًا وأفنية، فلا يتجاسر عليها، لا يدني منها، مهابة من سطوته، وخوفًا من الوقوع في حوزته. وهكذا محارم الله سبحانه من ترك منها ما قرب فهو من توسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيئ أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسطه، فالمؤمن يكون على حذر. وبجانب كل ما ذكره الله سبحانه من مقال أو أفعال، أو تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارية، ويثبت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير أو فعل جارية حتى يتبين له ما يترك ويفعل، فإذا تبين له مال كره الله عز وجل جانبه بعقد قلبه وكف جوارحه عنه،

ومنع نفسه من الإمساك عن افرض وسارع إلى أدائه. والذي يترك أربعة أشياء: اثنان يجب تركهما: أحدهما: يتعلق بأفعال القلوب، وهو ما نهى الله عز وجل عنه من العقد بالقلب على الضلال، والبدع، والغلو في القول عليه بغير الحق، ولا يعتقد إلا الصواب. والثاني: من أفعال الجوارح، وهو ما حرم الله سبحانه عليه من الأخذ والترك. وأما الثالث: فهو ترك الشبهات خوف مواقعة الحرام، وهو لا يعلم، استبراء للدين، لتمام الورع كما تقدم في الحديث. وأما الرابع: فترك بعض الحلال الذي يخاف أن يكون سببًا وذريعة إلى الحرام كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يكون العبد من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرًا لما به بأس". قال بعض العلماء: وذلك تركه فضول الكلام، لئلا يخرجه ذلك إلى الكذب والغيبة وغيرهما مما حرم الله تعالى، ويترك بعض المكاسب مما تقل فيه السلامة للمكتسبين، ويدع طلب الإكثار من المال خوف أن لا يقوم بحق الله عز وجل فيه. قال غيره: وترك مجالسة من قد جرب أنه لا يسلم معه، ويقل من معرفة الناس خوفًا أن لا يسلم، ويكف عن بعض المطعم إذا أحس من نفسه أن ذلك يبطرها، ويدع أن يحلف صادقًا، وهو له حلال، مخافة أن يعود لسانه اليمين فيحلف كاذبًا، ويدع النصرة ممن ظلمه مخافة أن يعتدي، فما زال التقوى بالمتقين حتى تركوا (الكثير) من الحلال مخافة الحرام. المسألة الثانية: في بيان وجوب تصفية القوت وطريق الاجتهاد فيه. أما الأول فقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يآيها الرسل قلوا من الطيبت واعملوا صلحًا إن بما تعملون عليم). وقال تعالى: (يأيها الذين ءامنوا انفقوا من طيبت ما كسبتم). قال سحنون: الطيب هو الحلال. قال أبو عبد الله: واعلم أن عماد الدين وقوامه هو طيب المطعم، فمن طاب (مكسبه) زكا عمله، ومن لم يصحح في طيب مكسبه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه

وجهاده وجميع عمله، لأن اله تبارك وتعالى يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين). قال: وقد أخبرني سحنون بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن عبد العزيز الزاهد، يرفع الحديث إلى عائشة رضي الله عنها قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله من المؤمن؟ قال: الذي إذا أصبح سأل من أين فرضيه، قلت: يا رسول الله من المؤمن؟ قال: الذي إذا أمسى سأل من أين فرضيه. قالت: يا رسول الله لو علم الناس لتكلفوه، فقال: قد علموا ذلك، ولكنهم غشموا المعيشة غشمًا". قال الشيخ أبو محمد: يقول: تعسفوا تعسفًا. ونظر عمر إلى المصلين، فقال: لا يغرني كثرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، الدين الورع في دين الله، والكف عن محارم الله، والعمل بحلال الله وحرامه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أمسى وانيًا من طلب الحلال بات مغفورًا له". وقال الحسن: الذكر ذكران: ذكر اللسان فذلك حسن، وأفضل منه ذكر الله عند أمره ونهيه. وقال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها. قال أبوعبد الله: فعليكم بالنظر في طيب مكاسبكم، والاجتهاد لأنفسكم، ولا تنظر إليها على الغش، فإنكم تفضون بأعمالكم إلى من لا تخفى عليه ضمائركم، فقد بان لكم أن رأس دينكم الورع، وملاك أمركم طيب الكسب، فإن أتيتم فمن قبل الأهواء الزائفة. وقد خرج أبو عيسى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لكعب: "يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحب، إلى كانت النار أولى به". وخرج عن أبي هريرة أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" وذكر الحديث الأول. قال: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك. وأما بيان طريق الاجتهاد فيه فبسلوك طريق الورع. قال الشيخ أبو عمران: طريق الورع هو أن لا يكون في الشيئ المقتنى مغمز ولا مطعن.

قال: وذلك في وقتنا هذا أمر قد أعرض عنه الناس لشدته عليهم، ولتعذر الصافي الطيب من المكاسب. والنظر في المعيشة أن لا يغشمها العبد واجب. قال: وتحصيل الثمن الطيب في وقتنا هذا ما ما يتعلق به من الشبه عزيز، لكن الأمر فيه كما قال القاسم بن محمد: لو كانت الدنيا كلها حرامًا أكان لك بد من العيش؟. ثم قال: فمن حصل له كسب طيب (وأراد) شراء قوته، فليتلطف جهده في شراء أطيب ما يجد، فإذا بذل وسعه واستفرغ طاقته وقع، إن شاء الله، من ذلك على ما تسكن إليه نفسه، فإن تعذرت عليه معرفة أصله فشراء الخبز، وما تقل من بلد إلى بلد من مكيل أو موزون خير من شراء ما يخاف أن يكون الغصب أو الربا أو البيع الفاسد خالطه، ثم بقي قائمًا بعينه إلى حين شرائه إياه، لأن القائم بعينه لربه أخذه، ويجب رده في الفساد، والفائت إنما يلزم من أفاته مثله في ذمته، وشراء ما أفيت بوجه غير مستقيم ليس من الورع بسبيل، إنما هو داخل فيما لا ينقض على من باعه ولا من اشتراه، وإن ذمة من يشتريه ممن أفاته خالية من التباعات. فأما حقيقة الورع فترك ذلك وإن أفيت. كما كره مالك رضي الله عنه، أن يتسلف المسلم من نصراني ديناراً باع به خمرًا، وأن يأكل من طعام اشتراه النصراني بذلك الدينار، يعني باع ذمي من ذمي خمرًا نقدًا، وذمة النصراني خالية، فكيف بمن أفات ما هو مطلوب بمثله لإفاته إياه، وهو غير مالك له، أو لأنه اشتراه شراء فاسدًا. وقد كره مالك، أيضًا، شراء طعام من مكتري الأرض بالحنطة، هذا ومذهبه أن الطعام كله له، وإنا عليه كراء الأرض عينًا. قال: وطريق الورع يشق مطلبه، ويعسر في كثير من الأوقت وجوده، إلا بعون الله عز وجل، لكن يتجزئ بالأشبه من الموجود، فالأشبه هو الذي يمكن في كل حين واللوم على الكفاف مرتفع. والدين لا حرج فيه، وليس المتحري لحدود الإسلام كالذي يمزح فيه ويلعب. وقال، في إخبار البائع عما باعه أنه طيب: إن كان ثقة متورعًا يعلم ما يجتنب من المعاملات قبل قوله، وإن كان على خلاف ذلك فقبول قوله ليس هو حقيقة الورع، لكن هو خير ممن يقول: لا أدري شأنه، فهو من باب الأخذ بالأشبه. وقال في اشتباه الأقوات في الأسواق: ما علم استقامة أصله منها أو ستره عن الحرام حمل على ذلك، إذا جهلت حقيقته وتعذرت معرفته، وما غلبت عليه الريبة عمل على اجتناب ما جهل منه حتى تنكشف صحة أصله ..

فصل به اختتام الكتاب

وإذا لم يجد المتحري ما يتحرى به إلا سؤال الباعة فليجتزئ منهم باحسنهم توقفًا وأصدقهم قولاً. قال: ولا يقال في الغلة: إنه لا شبهة فيها، إن كانت الأصول ردية، وإن كانت ملكًا لمن اغتلها كما أخبرتك في طعام من يكتري الأرض بالطعام الذي يخرج منها. وقد منع سحنون، رحمه الله، رجلاً كسبه من بلد السودان أن يعمل قنطرة يجوز عليها الناس بقر دار سحنون، هذا وكسب بدل السودان لا مطعن فيه علمناه في عينه، وإنما الكراهة في نفس السفر لوجوه أخر، لا في المكسب. ولو كانت الغلة لا شبهة فيها لجوزنا أن يشتري من طعام من حرث في أرض مغصوبة ببقر مغصوبة، وزريعة مغصوبة ونحن فلا نأمر بهذا ابتداء وإن كان لا ينقض إن وقع، إلا أن الغلة تختار على ما ليس بغلة. وهكذا هذا الباب كما أشرت لك، إنما يرجع إلى ما كان أمثل فأمثل على قدر الإمكان، وإلى اعتبار الغالب، لئلا يخل بوجه التحري دفعة، وليسلم من أن يكون من الغاشمين الخابطين العشواء في معيشتهم لا يبالون ولا يتحرجون. فصل به اختتام الكتاب اعلم أن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل واعتزال شرور النس. ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وقد قيل: إن العاقل لا ينبغي أن يرى إلا ساعيًا في تحصيل حسنه لمعاده، أو درهم لمعاشه، فكيف به مع ذلك إن كان مؤمنًا عالمًا بما أعد الهل عز وجل له من (الثواب والعقاب) على الطاعة والمعصية. ويحق على العالم أن يتواضع لله عز وجل في علمه، ويحترس من نفسه، ويقف على ما أشكل عليه، ويقل الرواية جهده، وبنصف جلساءه، ويلين لهم جانبه، ويثبت سائله، ويلزم نفسه الصبر، ويتوقى الضجر، ويصفح عن زلة جليسه، ولا يؤاخذه بعثرته. ومن جالس عالمًا فلينظر إليه بعين الإجلال، ولينصت له عند المقال، فإن راجعة راجعه تفهمًا لا تعنتًا، ولا يعارضه في جواب سائل يسأله، فإنه يلبس بذلك على السائل ويزري بالمسؤول. وتنتظر بالعالم فيئته، ولا تؤخذ عليه عثرته، وبقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع الطالب

بما يستفيد من علمه، ومن ناظره في علم فبالسكينة والوقار وترك الاستعلاء، فحسن التأني وجميل الأدب معينان على العلم، ونعم وزير العلم الحلم، وما أولى بالعالم صيانة نفسه عن كل دناءة وعيب، وإن لم يكن مأثمًا. وإن أولى الناس بالمروءة والأدب وصيانة الدين ونزاهة الأنفس لذوو العلم؛ وحقيق على العالم أن لا يخطو خطوة لا يبتغي بها ثواب الله، ولا يجلس مجلسًا يخاف عاقبة وزره، فإن ابتلى بالجلوس فيه، فليقم لله عز وجل بواجب حقه في إرشاد من استحضره ووعظه، ولا يجالسه بموافقته فيما يخالف الله عز وجل في مرضاته، ولا يتعرض منه حاجة لنفسه، ولا أحسبه، وإن قام بذلك، ينجو ولا يسلم فيما بينه وبين الله عز وجل. ومن إجلال الله، عز وجل، إجلال العالم العامل، وإجلال الإمام المقسط. ومن شيم العالم أن يكون عارفًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، متحرزً من إخوانه، فلم يؤذ الناس قديمًا إلى معارفهم، والمغرور من اغتر بمدهم له، والجاهل من صدقهم على خلاف ما يعرف من نفسه. والله سبحانه وتعالى المسؤول في أن يوفقنا للإقبال على امتثال مأموراته، والإحجام عن ارتكاب محظوراته، ويلهمنا ما يقر من أجره وثوابه، ويباعد من سخطه وعقابه بمحمد وآله. ولنختم الكتاب بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. آخر السفر الثاني من كتاب عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وهذا آخر الديوان والحمد لله على تيسيره كثيرًا والصلاة التامة على محمد رسوله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا موصولاً. وفرغ منه ناسخة الفقير لرحمة مولاه: علي بن محمد بن علي بن فرج القيسي نفعه الله تعالى به في أواخر ذي قعدة من سنة ست وأربعين وستمائة هـ والحمد لله الذي بعمته تتم الصالحات. تم بعون الله الجزء الثالث من كتاب عقد الجواهر الثمينة وبه ينتهي الكتاب

§1/1