عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان

بدر الدين العيني

السنة الثامنة والأربعين بعد الستمائة

فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والأربعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: المستعصم بالله. وسلطان الديار المصرية: الملك المعظم تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين، ولكنه ما أقام في السلطنة إلا يسيرا، وقتل على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. وبقية أصحاب البلاد وملوك الأطراف على حالهم، غير صاحب اليمن، فإنه قتل أيضاً في هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله. ذكر كسر الفرنج وأخذ ريد افرنس أسيرا قد ذكرنا في السنة الماضية من القتال مع الفرنج، وكانوا قد ضعفوا لأجل انقطاع المدد والميرة عنهم من دمياط، فإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل إليهم من دمياط، فلم يبق لهم صبر على المقام، فرحلوا ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم من هذه السنة متوجهين إلى دمياط، وركبت المسلمون أكتفاهم، ولما أسفر صباح يوم الأربعاء خالطهم المسلمون، وبذلوا فيهم السيف، ولم يسلم منهم إلا قليل، وبلغت عدة الموتى من الفرنج ثلاثين ألفا، وإنحاز ريد افرنس ومن معه من الملوك والأمراء إلى تل هناك. قال المؤيد: إلى بلد هناك، فطلبوا الأمان، فآمنهم الطواشى محسن الصالحى، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة. قال أبو شامة: وأسر ريد افرنس وأخوه، وجماعة من خواصه كانوا اختفوا في منية عبد الله من ناحية شرمساح، فأخذوا برقابهم، وقيدوا ريدافرنس، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشى صبيح المعظمى. وقال بيبرس: وكان للبحرية النجمية في هذه الوقعة الحظ الأوفى، والقدح المعلى. وفي المرآة: وفي أول ليلة من سنة ثمان واربعين وستمائة كان المصاف بين الفرنج والمسلمين على المنصورة، بعد وصول الملك المعظم توران شاه إلى المخيم، ومسك الأفرنسيس وهو ريدافرنس، وقتل من الفرنج مائة ألف، ووصل كتاب المعظم توران شاه، يعنى إلى دمشق، إلى نائبها جمال الدين ابن يغمور: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وما النصر إلا من عند الله، ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله،) ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (، وأما بنعمة ربك فحدّث، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها؛ نبشر المجلس السامي الجمالى، بل نبشر الإسلام كافة بما منّ الله به على المسلمين من الظفر بعدوّ الدين، فإنه كان قد استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من الأهل والأولاد، فنودوا: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله الآية ولما كان يوم الأربعاء مستهل السنة المباركة تمم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان، والمطوعة، واجتمع خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله تعالى، وجاؤوا من كل فج عميق، ومن كل مكان بعيد سحيق،) ولما رأى العدو ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الإتفاق بينهم وبين الملك الكامل رحمه الله، فأبينا،) ولما كان في الليل (، تركوا خيامهم، وأثقالهم، وأموالهم، وقصدوا دمياط هاربين،) فرسنا في آثارهم طالبين (، وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل، وقد حل بهم الخزى والويل: فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفا، غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدّث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المنية، وطلب الأمان فآمناه، وأخذناه، وأكرمناه، وتسلمنا دمياك بعون الله ولطفه. وقال أبو شامة: وفي يوم الأربعاء سادس عشر المحرم وصل إلى دمشق غفارة ملك افرنسيس المأسور، أرسلها السلطان المعظم إلى نائبه بدمشق الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، فلبسها، فرأيتها عليه، وهيى أشكرلاط أحمر، تحته فرو سنجاب، فيها بكلة ذهب، فنظم صاحبنا الفاضل الزاهد نجم الدين بن إسرائيل مقطعات ثلاثيا إرتجالا، كل قطعة بيتين في مدح السلطان، والأمير. أحديها: إن غفارة الفرنس التي ... جاءت حباء لسيد الأمراء كبياض القرطاس في اللون لكن ... صبغتها سيوفنا بالدماء والثانية: مخاطبة للأمير يا واحد العصر الذي لم يزل ... يحوز في نيل المعالى المدا لا زلت في عز وفى رفعة ... تلبس أسلاب ملوك العدا والثالثة: كتبها الأمير مقدمة كتاب إلى السلطان:

ذكر قتل الملك المعظم توران شاه

أسيد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده ثم إن الملك المعظم توران شاه رحل إلى فارسكور ونصب بها برج خشب، وأرسل إلى ابن أبي على نائب القاهرة بأمره بالقدوم عليه، واستناب بالقاهرة الأمير جمال الدين أقوش النجمى، وأعرض عن مماليك والده، وأهمل جانبهم، وهم الذين أبلوا في غزو الفرنج بلاء حسنا، فوجدوا في نفوسهم لما بلغهم عنه من التهديد والوعيد، فاجتمعوا على إعدامه؛ وتعجيل حمامه. ذكر قتل الملك المعظم توران شاه والكلام فيه على أنواع الأول في ترجمته: وهو السلطان الملك المعظم تورانشاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر الأمير نجم الدين أيوب، كان أبوه ولاه حصن كيفا في الشرق، ثم كان يستدعيه فلا يجيبه، فلذلك كان يكرهه، ولأجل خفة فيه أيضاً وخلاعة وهوج، فلذلك لم يوص إليه بالملك؛ مع أنه لم يخلف ولدا غيره، لأن ولده الواحد مات بدمشق، وولده المغيث توفى معتقلا بها كما ذكرناه، وولده خليل المولود من شجر الدرّ، لم يلبث إلا قليلا ومات طفلا. قال السبط: وحكى لي الأمير حسام الدين بن أبي عليّ قال: كنا نقول للملك الصالح أيوب: ما ترسل إلى ولدك توران شاه وتحضره إلى ها هنا، فيقول: دعونا من هذا، فلحينا عليه يوما فقال: أجيبه إلى ها هنا أقتله. الثاني: في سبب قتله: وكان قتله لأمور بدت منه، فنفرت عنه القلوب، فاتفقوا على قتله. منها: أنه كان فيه خفة. قال السبط: بلغنى انه لما دخل كان يجلس على السماط، فإذا سمع فقيها يذكر مسألة وهو بعيد منه، يصبح هو: لا نسلم. ومنها: أنه احتجب عن الناس أكثر من أبيه، وما ألفوا من أبيه ذلك، وكذا سمع مماليك أبيه منه، ما ألفوا من أبيه ذلك. ومنها: أنه كان إذا سكر يجمع الشموع ويضرب روؤسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا افعل بالبحرية. ومنها: أنه كان يسمى مماليك أبيه بأسمائهم. ومنها: أنه قدّم الأرذال والأندال، وأبعد الأماثل والأكابر. ومنها: أنه أهان مماليك أبيه الكبار. ومنها: أنه كان قد وعد أقطاى بأن يؤمره، ولم يف له؛ فاستوحش منه. ومنها: أنه كان يهدّد أم خليل، ويطلب المال والجواهر، فخافت منه، وارتفقت معهم. الثالث: في كيفية قتله: قال السبط: لما كان يوم الإثنين السابع والعشرين من المحرّم جلس المعظم على السماط، فضربه بعض المماليك البحرية بالسيف، فتلقاه بيده، فقطع بعض أصابعه، وقام فدخل البرج وصاح: من جرحنى؟ قالوا: الملحدة الحشيشية. قال: لا والله إلا البحرية؛ والله لا أبقيت منهم بقية، واستدعى المزين فخيط يده وهو يتوعدهم، فقال بعضهم لبعض: تموه وإلا أبادكم، فدخلوا عليه، فانهزم إلى أعلا البرج، فأوقدوا النيران حول البرج، ورموه بالنشاب، فرمى بنفسه، وهرب نحو البحر وهو يقول: ما أريد الملك، دعونى أرجع إلى الحصن، يا للمسلمين ما فيكم من يصطنعنى ويجبرني، والعساكر كلها واقفة، فما أجابه أحد، والنشاب تأخذه، وكذا لما صعد إلى البرج رموه بالنشاب، فتعلق بذيل أقطاى، فما أجاره، فقطعوه قطعا، وبقى على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخاً، ما يتجاسر أحد أن يدفنه، حتى شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب فدفن، وكان الذين باشروا قتله أربعة. قال سعد الدين مسعود بن تاج الدين شيخ الشيوخ: حكى لى رجل صادق أن أباه الملك الصالح أيوب قال لمحسن الخادم: إذهب إلى أخى العادل إلى الحبس، وخذ معك من المماليك من يخنقه، فعرض المحسن ذلك على جميع المماليك، فامتنعوا بأسرهم إلا هؤلاء الأربعة، فإنهم مضوا معه وخنقوه، فسلطهم الله تعالى على ولده حتى قتلوه أنحس قتلة وأقبحها، ومثلوا به أعظم مثله كما فعل بأخيه.

ذكر سلطنة شجر الدر حظية الملك الصالح أيوب

وفي تاريخ النويرى: اجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور، وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار ملك مصر فيما بعده، فهرب المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور كما ذكرنا، فأطلقوا في البرج النار، فخرج المعظم من البرج هاربا طالبا للبحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب، فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموّا قتله في يوم الإثنين المذكور، وكانت مدّة إقامته في الملك من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما. وقال أبو شامة: جرح في يده في دهليز الخدمة بعد السماط، فانهزم ودخل برج خشب، فأحرق، فرمى بنفسه منه إلى ناحية النيل، فأدرك، وقطع بقرية فارسكور. وقال: أخبرني من شاهد ذلك انه ضرب أولا، فتلقى الضربة بيده، فخرقت يده، واختبط الناس، فأظهر ان ذلك كان من بعض الملحدة الحشيشية، ثم أشار بعضهم على الباقين بإتمام الأمر فيه. وقال بعد جرح الحية: لا ينبغى إلا قتلها، فركبوا وتسلحوا، وأحاطوا بخيمته وبرجه الخشب، لأنه كان نازلا في الصحراء بإزاء الفرنج، فدخل البرج خوفا منهم، فأمروا زراقا بإحراق البرج، فامتنع، فضربت عنقه، ثم أمروا زراقا آخر، فرمى البرج بنفط، فأحرقه، فخرج منه وناشدهم الله في الكف عنه، والإقلاع عما نقموا عليه، وطلب تخلية سبيله، فلم يجب إلى شيء من ذلك، فدخل البحر إلى أن وصل الماء إلى حلقه فرجع فضربه البندقداري بالسيف فرجع إلى الماء، وقيل: ضربه ضربة واحدة على عاتقه، فنزل السيف من تحت إبط اليد الأخرى، فوقع قطعتين، وكان قتله في أواخر محرم. فانظر إلى هاتين الوقعتين العظيمتين القريبتين كيف اتفقتا في شهر واحد. إحداهما في أوله: وهى كسرة الفرنج الكسرة العظمى التي استأصلتهم. والثانية في آخره: قتل للسلطان المعظم على هذا الوجه الشنيع. وحكى عن السيف بن شهاب جلدك والى القاهرة، كان أبوه: أنه بقى على البرج وهو يستغيث برسول الخليفة: يا أبا عز الدين أدركنى، وتكرر ذلك، فركب في أمره، وكلمهم فيه، فردّوه وخوفوه بالقتل والإحراق، وإخراق حرمة الخلفة، وجرى ما ذكرناه. قال السبط: وكانو قد جمعوا في قتله ثلاثة أشياء: السيف والنار والماء، فإنهم قتلوه وقد التجأ إلى البحر. قال: وحكى لى العماد بن درباس قال: رأى جماع من أصحابنا الملك الصالح أيوب في المنام وهو يقول: قتلوه شر قتله ... صار للعالم مثله لم يراعوا فيه إلا ... لا ولا من كان قبله ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله فكان كما ذكر من اقتتال المصريين والشاميين، ومن عدم فيهم من أعيان الأمراء. ذكر سلطنة شجر الدُّر حظية الملك الصالح أيوب ولما قتلوا المعظم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجر الدرّ في المملكة، وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى المعروف بالتركمانى أتابك العساكر، وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدر على المنابر، وضربت السكة بإسمها، وكان نقش السكة: المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصورخليل، وكانت شجر الدرّ قد ولدته من الصالح أيوب ومات صغيرا كما ذكرناه، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع: والدة خليل المستعصمية. ذكر تسلم دمياط من الفرنج ورحيل ريدافرنس ولما تم النصر الأعظم والفتح الأكبر بتسلم دمياط من الفرنج من ريدافرنس أفرج عنه عن الحبس، وكان المتحدّث مع ريدافرنس في ذلك الأمير حسام الدين ابن أبي علىّ الهذبانى، لما يعلمون من عقله ومشورته، واقتداء مخدومهم بتدبيره، فتقرّر الاتفاق علىتسليم دمياط وأن يذهب هو بنفسه سالما، فأرسل ريدافرنس إلى من بدمياط يأمرهم بتسليم البلد إلى المسلمين، فأجابوه إلى ذلك، ودخل العلم السلطانى إليها يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر، وأفرج عن ريدافرنس، وانقتل هو ومن بقى من أصحابه إلى البر الغربىّ، وركب البحر هو ومن معه، وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بذلك إلى البلاد، وضربت البشائر، وأعلنت الأفراح. وفي كسرة ريدافرنس يقول القاضى جمالالدين بن مطروح رحمه الله: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق صادر عن نصيح آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح

ذكر عود العسكر إلى القاهرة

أتيت مصرا تبتغى ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح إن كان بابا كم بذا راضيا ... فرب غش قد أتى من نصيح وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح دار بن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشى صبيح وذكر أن الفرنسيس لما توجه إلى بلاده جمع جموعا كثيرة ونزل على تونس، فقال شاب من أهلها يعرب بابن الزيات: يافرنسيس هذه أخت مصر ... فتاهب لما إليه تصير لك فيها دار لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير وكان هذا منه فألا عليه، فإنه هلك وهو محاصر لها، وصالح أهلها ابنه على مال ورحل عنها. ذكر عود العسكر إلى القاهرة ولما جرى ما ذكرنا عادت العساكر إلى القاهرة ودخلوها يوم الخميس تاسع صفر من هذه السنة، ولما دخلوا القاهرة أرسلوا رسولا إلى الأمراء الذين بدمشق في موافقتهم على ذلك، فلم يجيبوا إليه. وفي تاريخ بيبرس: وسيروا رسولا إلى دمشق لاستحلاف الأمير جمال الدين يوسف بن يغمور نائب السلطنة بها والأمراء القيمرية وغيرهم، فغلطوا الرسول ولم يجيبوه إلى ذلك. وكان الملك السعيد بن الملك العزيز فخر الدين عثمان بن العادل صاحب الصبيبة خرج من الديار المصرية، وعبر على غزة، وأخذ جميع ما بها من المال وهرب، وكان قد أعطى قبل ذلك قلعته للملك الصالح أيوب وصار في خدمته، ولما هرب احتيط على داره بالقاهرة، وتوجه هو إلى قلعة الصبيبة فسلمها له من كان فيها. وفي هذه الأيام ملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل بن العادل بن أيوب الكرك واستولىعليها، وذلك أنه كان عند عماته بالقاهرة، فلماتوفى الملك الصالح أيوب بلغ الأمير حسام الدين ابن أبي علىّ ان فخر الدين بن الشيخ ربما أخرجه ورتبه في الملك، فأطلعه إلى قلعة الجبل واعقتله بها، فلما ورد المعظم توران شاه إلى المنصورة في التاريخ الذى ذكرناه، أمر به فحمل إلى الشوبك واعقتل بها خوفامنه، فلما مات المعظم أخرجه الطواشى بدر الدين الصوابىّ الصالحى، وكان نائب الملك الصالح بالكرك، وكانت الشوبك مضمومة إلى ولايته، فملكه البلدين، وسلم اليه القلعتين، وقام بتدبير دولته، والاجتهاد في خدمته. ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق ولماجرى ما ذكرناه خرج الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز ابن الظاهر غازى بن صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب، وذلك لأنه لما ورد عليه الخبر بقتل المعظم تورانشاه وصلت اليه كتب الأمراء القيمرية من دمشق يستدعونه ويحثونه على الوصول اليهم ليسلموا دمشق إليه، فوصلها يوم السبت ثامن ربيع الآخر من هذه السنة، وأحاط عسكره بها، وزحفوا عليها، وكان النائب بها الأمير جمال الدين بن يغمور من جهة الملك الصالح، وكان قد رتب الأبواب على الأمراء القيمرية وهم: ناصر الدين القيمري، وضياء الدين، وشهاب الدين الكبير، ففتحوا باب الجابية مواطأة للملك الناصر، فدخل الناصر وأصحابه دمشق، وتملكوها بغير ممانعة ولا مقاتلة، وخلع على الأمراء المذكورين، وخلع أيضاً على الأمير جمال الدين بن يغمور النائب من جهة السلطنة، وأحسن إليهم، وعلى جماعة من الأمراء المصريين مماليك الملك الصالح نجم الدين، واستقرت قدمه في ملك دمشق، وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميس مدة يسيرة، ثم مال الجميع إليه. ولما وصل الخبر بذلك إلى مصر اجتمعت الأمراء والأجناد بقلعة الجبل وجدّدوا الإيمان لشجر الدرّ والدة خليل، وللأمير عز الدين أيبك التركمانى بالتقدمة على العساكر، وعزموا على إخراج العساكر صحبة الأمير حسام الدين ابن أبي على ليدفعوا الملك الناصر عن دمشق، ويردّوة قبل أن يملكها، فورد عليهم بأن القيمرية سلموها إليه، فأمسك من كان منهم بالقاهرة، وقبض على كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين. ذكر سلطنة أيبك التركماني

ذكر عقد السلطنة للملك الأشرف مظفر الدين موسى

ولما جرى ما ذكرنا من عصيان الملك المغيث بالكرك واستيلائه عليها وعلى الشوبك، واستيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق، ووقوع الاضطراب في مصر، اجتمعت البحرية والأتراك وأجالوا الرأي بينهم، وقالوا: إنه لا يمكننا حفظ البلاد وأمر الملك إلى إمرأة، وقد ورد في الحديث:) كيف يفلح قوم ولو أمرهم امرأة (. وقالوا: لا بدّ من إقامة شخص كبير تجتمع الكلمة عليه ويشار في الملك إليه فاتفق رأيهم على أن يفوض أمر الملك إلى الأمير عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني الصالحىّ مقدّم العساكر، فقاموا إليه وسألوه أن يولَّى عليهم ليقوم بسياسة الملك، فأجابهم على ذلك، وولوه، وعقدوا له، ولقبوه بالملك المعز، وركب بالسناجق السلطانية يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة، وحملت الأمراء الغاشية في خدمته على العادة. وهو أوّل ملوك الترك، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجر الدر في ثاني يوم تمليكه، وكانت مدة سلطنتها ثلاثة أشهر لأنهم كانوا عقدوا لها بالسلطنة في آخر المحرم، ثم خلعوها من السلطنة في آخر ربيع الآخر. ذكرُ عَقْد السلطَنَة للملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المسعود صلاح الدين يوسف الملقّب بإتِسزْ ابن الملك الكامل بن العادل بن أيّوب والملك المسعود هو الذي ملك اليمن في حياة والده الملك الكامل كما ذكرنا، وكان السبب في ذلك أنهم لما رأوا وقوع الاختلاف في البلاد، واستيلاء كل أحد على ناحية، ووقوع الإضطراب في الديار المصريَّة، قالوا: لا بدَّ من إقامة شخص من بنى أيّوب ليجتمع الكلُّ على طاعته، ويرتفع الخلاف. واتفق رأيهم على إقامة الملك الأشرف مظفر الدين موسى المذكور، وأن يكون الملك المعزّ عز الدين أيبك أتابكة، والقائم بتدبير الدولة، والتقدمة على العساكر، فرضى الجميع بذلك، وأقاموا الأشرف المذكور، وأجلسوه في دست السلطنة والأمراء في خدمته يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى، وكان عمر الأشرف عشر سنين، وجلس على السماط على عادة السلطنة. وكانت مدَّة سلطنة عز الدين أيبك خمسة أيام، لأنه تولى السلطنة في آخر ربيع الآخر يوم السبت، وخلع عنها يوم الخميس الخامس من جمادى الأولى. ذكر ما جرى من الأمور بعد سَلْطنة الأشرف منها: أنه كان في غزة جماعة من عسكر مصر مقدمهم ركن الدين خاص ترك، فاندفعوا إلى مصر لما بلغهم حركة الحلبيين إلى مصر، ونزلوا بالسانح، واجتمعوا، واتفقت كلمتهم على طاعة الملك المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة لأربع مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة فنودى بالقاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم بالله، وأن الملك المعزم عزّ الدين ايبك نائبهُ بها، وجددت الأيمان للأشرف بالسلطنة، وللمعز بالأتابكيَّة، وندبت العساكر إلى السانح، فهرب من السانح الطواشيان شهاب الدين رشيد الكبير، وشهاب الدين رشيد الصغير، وركن الدين خاص ترك، وأقوش المشرف، وكانوا من جملة الذين اتفقوا على تمليك المغيث بن العادل صاحب الكرك، فقبض غلمان الرشيد الصغير عليه، وجاؤوا به إلى القاهرة، فاعتقل بها، ونجا الباقون، وخرجت الخلع للذين تخلَّفوا بالسانح وعفى عنهم، وطيبت قلوبهم، وخرجت لهم النفقة. ومنها: أن في يوم الأحد لخمس مضين من رجب من هذه السنة رحل الأمير فارس الدين آقطاى الجمدار، وكانت إليه تقدمة البحرية الصالحية، من القاهرة متوجها إلى بلاد الشام، ومعه من العسكر ألفا فارس، فوصل إلى غزَّة، وكان بها جماعة من أصحاب الملك الناصر صاحب حلب الذى استولى على دمشق، فأوقع بها، فاندفعوا من بين يديه، ثم عاد الأمير أقطاى إلى الديار المصرية، ودخلها، وقبض على الأمير زين الدين قراجا أمير جاندار، وعلى صدر الدين قاضى آمد، وكانا من كبار الصالحيَّة. ومنها: أنه قبض على الأمير جمال الدين النجيبي، والأمير جمال الدين أفوش العجمى، واعتقلا. ومنها: أنها نقلوا الملك الصالح إلى ترتبه التي بنيت له عند مدرسته بالقاهرة بين القصرين، وعمل له العزاءُ بالقاهرة، وقطعت مماليكه شعورهم، وعملوا له عزاءً جديداً.

ذكر توجه الملك الناصر من دمشق قاصدا الديار

ومنها: أن الأمراء وأرباب الدولة اتفقوا على هدم أسوار دمياط وتخريبها ومحو آثارها، لما اتفق من قصد الفرنج لها مرة بعد أخرى، لأنهم قصدوها في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وكادوا يملكونها، وفى أيام الملك الكامل وحاصروها أكثر من سنة وملكوها، وفي أيام الملك الصالح نجم الدين، وجرى ما ذكرناه، فهدموها وبنيت مدينة قريبة منها سميت المنشية، وهى المدينة يومنا هذا. ومنها: أن الملك الناصر يوسف صاحب حلب قبض على الملك الناصر داود ابن المعظم وحبسه في حمص، وذلك أنه كان قد قدم دمشق في خدمة الناصر يوسف، فبلغه عنه ما أوجب القبض عليه، فقبض عليه وسيَّره إلى حمص تحت الاحتياط، فاعتقل في قلعتها، وكان قد وعده وعوداً جميلة فلم يُنجز له منها شيئاً، فلما أيس منه طلب منه دستوراً ليمضى إلى بغداد، فأعطاه الدستور، فلما خرج إلى القُصَيْر قبض عليه في مستهلّ شعبان من هذه السنة، ووصل حريمه وأولاده من مصر، وكان له عشرة أولاد ذكورا وثلاث بنات، فأنزلوا في دمشق. ولما اعتقل بحمص نظم قصيدة مَطْلعًهَا: إلهى أنت أعل وأعْلَمُ ... بحقُوق ما تُبدى الصدورُ وتكْتمُ وأنت الذى تُرْجى لكلّ عظيمة ... وتخشى وأنت الحاكمُ المُتحَكُّم إلى علمك العلوى أشكو ظلامتي ... وهل بسواك يُنْصَفُ المتَظلّمُ أبت خيانان العشيرة معْلنّا ... إلى مّن بمكنون السرائر يَعْلَمُ أتيتهُمُ مُستَنصّراً متحرَّما ... كما يفعلُ المستَنصْرُ المتحَرّمُ فلما أيسْنَا نصَرهَم ونوالَهم ... رمونا بإفك القول وهو مُرَجَّمُ أغثنا أغْثنا من عدانا يكُن لنا ... بك النْصرُ حتى يخذلوا ثم يُهزموا فنصرك مجعولٌ لنا مَعَجلٌ ... وبرّك معلوم بنا فهو مُعلَم ذكْرُ توجُّه الملك الناصر من دمشق قاصدا الديار المصرية: وفيها: سار الملك الناصر المذكور بعساكره من دمشق وصحبته، من ملوك أهل بيته، الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، وهو خال أبيه، والأشرف موسى صاحب حمص، كان وهو يومئذ صاحب تلّ باشر والرحبة وتدمُر، والملك المعظم فخر الدين تورانشاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدم جيشه الأمير شمس الدين لؤلؤ وإليه تدبير المملكة. وفي المرآة: وكان سير الملك الناصر قاصداً الديار المصرية بإشارة شمس الدين لؤلؤ المذكور، فإنه لحَّ في القضيَّة لحاحا كان سببا لحضور المنيَّة، وكان يستهزىءُ بالعساكر المصرية ويقول: آخذها بمائتى قناع. وكان رحيلهم من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة، ولما وصلت الأخبار بذلك إلى الديار المصرية انزعج الملك المعز أيبك التركماني ومن معه من البحرية والترك لذلك وأجمعوا على لقاء الملك الناصر ومحاربته ودفعه عن الديار المصريَّة، وقبضوا على جماعة من الأمراء اتهموهم بالميل إلى الناصر، وتجهزوا، وخرجوا من القاهرة في شهر شوال، وبرزوا إلى السَّانح، وتركوا السلطان الملك الأشرف موسى بقلعة الجبل، واستناب المعز بالديار المصرية الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارى، وأفرح عز الدين أيبك عو ولدى الصالح إسماعيل، وهما: المنصور إبراهيم والسعيد عبد الملك ابنا الصالح إسماعيل، وكانا معتقلين من استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخلع عليهما، ليتوهَّم الملك الناصر صاحب حلب من أبيهما الصالح إسماعيل. ولما خرجوا وصل أولهم إلى السانح، ونزلوا بالصالحية، وقوى الإرجاف بوصول الملك الناصر ودخوله الرمل.

قال بيبرس: وكان رحيل المعزّ في بقية العساكر ثالث ذي القعدة من هذه السنة، ووصل الملك الناصر بمن معه من العساكر إلى كراع وهى قريبة من العباسة والسَّدير، وتقارب ما بين العسكرين، فمال من كان مع الناصر من مماليك أبيه العزيز إلى الترك الذين بمصر للجنسيّة، فرحل المعز أيبك ونزل قبالة الناصر بَسمُوط، والتقوا في يوم الخميس عاشر ذي القعدة، فكانت الكسرة أولا على عسكر مصر، وولوا منهزمين، وثبت المعز ايبك في جماعة من البحرية، وانحاز إلى جانب، وبقى الملك الناصر تحت السناجق في جمع من العزيزية، فخامروا وانضافوا إلى المعز أيبك فحمل على الطلب الذي فيه الملك الناصر، فولَّى منهزما طالبا الشام في جماعة من خواصّه، وأخذت سناجقه والطبلخاناة التى له، وقصد المعز أيبك الأطلاب الشاميَّة، فوقع بالطلب الذي فيه شمس الدين لؤُلؤ، فحمل عليهم، وبدَّدَ شملهم، وأُتى به إليه، فأمر بضرب عنقه، فضربت، وأتى بالأمير ضياء الدين القيمرى، فضربت عنقه، وأتى بالملك الصالح عماد الدين إسماعيل فسلم عليه الملك المعزّ، ووقف راكبا إلى جانبه، وأُسر الملك الأشرف صاحب حمص، ونُصْرَة الدين، والمعظم فخر الدين ابنا صلاح الدين يوسف. وأما العسكر المصريون المنهزمون، فإن الهزيمة استمرت بهم، ولا يعلمون ما تجدد بعد ذلك، ووصلوا القاهرة غد هذا اليوم، وهرب بعضهم إلى الصعيد، وخطب ذلك اليوم للملك الناصر يوسف صاحب حلب بالقلعة وجامع مصر، وأما القاهرة فلم يقم بجامعها خطبة وتوقفوا ليتحققوا. ووصل معظم العسكر الشامى إلى العباسة في إثر المصريين، ولا يظنون إلا أن الكسرة قد تمت على المصريين: وزال أمرهم بالكلية، وهم ينتظرون وصول الملك الناصر ليدخلوا معه القاهرة، ثم جاءهم الخبر بما جرى من هرب الملك الناصر؛ وقتل شمس الدين لؤلؤ والقيمري، وأَسر من أَسر، فاختلفوا فيما يعتمدون عليه، وكان في الجيش تاج الملوك ولد المعظم بن صلاح الدين وهو مجروح، وحاروا فيما يفعلون. وفي نهار الجمعة حادى عشر ذي القعدة وردت البشائر بانتصار المعزّ وانكسار الناصر، وكان بقلعة الجبل ناصر الدين بن يغمور استادار الملك الصالح عماد الدين إسماعيل؛ وأمين الدولة أبي الحسن غزال وزيره محبوسين من أيام الملك الصالح نجم الدين، فلما بلغهما انتصار الناصر وكسر العسكر المصرى خرجا من الحبس وأظهرا السرور، ثم لما تحقق نصر المعز أيبك أُعيدا إلى السجن، ونودى في آخر هذا اليوم، وهو يوم الجمعة المذكور، بإظهار الزينّة. وعاد الملك المعزّ والبحرية والعساكر المصريَّة ومَن انضَّم إليهم من العزيزية على غير طريق العباسة خوفا من النصاريَّة النازلين عليها، ووصلوا إلى القاهرة بكرة يوم السبت ثانى عشر ذي القعدة ودخل المعزّ أيبك، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل قدامه في الموكب تحت الاحتياط فاعتقله بقلعة الجبل في دار، واعتقل الأشرف صاحب حمص والمعظم تورانشاه وأخوه في حبس القلعة، وشنق ناصر الدين بن يغمور، وأمين الدولة الوزير على باب القلعة، ثم أخرج الملك الصالح عماد الدين إسماعيل خارج القلعة من جهة القرافة، فقتل ودفن هناك، وكان مقتله في ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة. وفي المرآه: لما أسروا شمس الدين لؤلؤ، وجاؤوا به إلى بين يدى الملك المعز، قال حسام الدين بن أبي علىّ: لا تقتله لتأخذ به الشام. وقال أقطاى: هذا الذى يأخذ مصر بمائتي قناع، قد جعلنا مخانيث، فضربوا عنقه. وأما الملك الناصر فإنه لما كسر، كَسَرت العزيزيَّة سناجقة، وكَسرُوا صناديقه، ونهبوا ماله، وَرَموه بالنشَاب، فأخذه نوفل البدوى وجماعة من مماليكه وأصحابه، وساروا به إلى الشام، ومات تاج الملوك من جراحة كانت به، فحمل إلى القدس ومات به، وضرب الشريف المرتضى في وجهه بالسيف ضربة هائلة عرضا، وأرادوا قتله، فقال: أنا رجل شريف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركوه. قال السبط: وحكى لى قال: بقيتُ في الرمل يوماً وليلةً ملقى، رأسى ناحية ووجهى ناحيةً، والدماءُ تفيض، ولولا ان الله تعالى منَّ علىَّ بالملك الصالح ابن صاحب حمص لهلكت، حملنى وخيَّط وجهى بمسَال، وعاينتُ الموتَ مراراً، وتمزَّق الناس كل ممزَّق، ومشوا في الرمال أيّاماً.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

وأما المصريُّون فإنهم دخلوا إلى القاهرة بالأُسارى والسناجق المقلَّبَة، والطبول المشقَّقة، والخيول والأموال والعدد، ولما وصولا إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أيوب أحدقوا بالصالح إسماعيل، وصاحوا ياخوند: أين عينك ترى عُدّوك، ورموا الأسارى في الجبل، وجمعوا بين الصالح إسماعيل وبين أولاده أيَّاما، ثم غيَّبوُه. وأما المماليك فمالوا على المصريّين قتلا ونهبا، ونهبوا أموالهم، وسبوا حريمهم، وفعلوا بهم مالا يفعل الفرنج بالمسلمين. وكان السامرى، وزير الصالح إسماعيل، معتقلا في القلعة في جب هو وناصر الدين بن يغمور، وسيف الدين القيمرى، والخوارزمى صهر الملك الناصر يوسف، فخرجوا من الجّب، وعصَوا في القلعة. ولم يوافقهم سيف الدين القيمرىّ، بل جاءَ فقعد على باب الدار التى فيها عيال الملك المعز أيبك التركمانى وحماهم، فلم يدع أحداً يقربها. وأما الباقون فصاحوا الملك الناصر يا منصور، وجاء الترك ففتحوا باب القلعة ودخلوا، فشنقوا السامرىَّ وابن يغمور والخوارزْمىّ متقابلين، ولكن لا على سرر، وشنقوا المجير بن حمدان، وكان شابَّا حسنا، قالوا: تعدى على بعض المماليك، ونهب خيله. وأما الملك الناصر يوسف صاحب حلب، فإنه وصل إلى غزة في حالة عجيبة، وأقام ينتظر أصحابه، فوصل إليه مَنْ سلم منهم، ومن عسكر الشام، وابن صاحب الموضل وكان معه. وقال المؤيَّد وغيره: ثم بعد هزيمة الملك الناصر يوسف صاحب حلب سار فارس الدين أقطاى من الديار المصرية ومعه ثلاث آلاف فارس إلى غزة وملكها، واستولى عليها، ثم عاد إلى الديار المصرية. وفيها أمر الملك المعزّ ببناء مدرسته التى بدار الملك بمصر على البحر، فبُنيت. وفيها: وفيها: ذكرُ مَنْ توفى فيها من الأَعيْان عبد الملك بن عبد السلام بن الحسن اللمغانى الحنفى، مدرس مشهد أبي حنيفة رضى الله عنه، وهو أخو عبد الرحمن، وعم محمد بن علىّ بن عبد السلام ابن الحسن اللمغانى. وكان رجلا فاضلا من بيت العلم والرئاسة، توفى في هذه السنة، ودفن بمقبرة الخيزران. الحافظ المسند أبو الحجاج يوسف بن أبي الصفا خليل بن عبد الله الدمشقي الآدمى المنعوت بالشمس، نزيل حلب. مات بحلب في العاشر من جمادى الآخرة، ودفن بظاهر باب الأربعين، ومولده بدمشق في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، سمع الكثير، ومعجم شيوخه يزيد على أربعمائة شيخ. أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب، وزير الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. وكان سامريا كما ذكرناه وكان سببا على هلاك نفسه، وعلى سلطانه، وسبب زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو الوزير السوء. وقال السبط: فسبحان من أراح المسلمين بقتله، وقد ذكرنا قتله عن قريب. قال: وما كان مسلما، ولا سامريا بل كان يتستر بالإسلام، ويبالغ في هدم شريعة المصطفى عليه السلام، وبلغنى ان الشيخ إسماعيل الكوراني رحمه الله قال له يوماً وقد زاره: لو بقيت على دينك كان أصلح لأنك تتمسك بدين في الجملة، أما الآن فأنت مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولقد ظهر له من الأموال والجواهر واليواقيت والتحف والذخائر مالا يوجد في خزائن الخلفاء ولا السلاطين، وأقاموا ينقلونه مدة سنين، فبلغنى أن قيمة ما ظهر ثلاثة آلاف ألف دينار، غير الودائع التي كانت له عند أصدقائه والتجار، ووجد له عشرة آلاف مجلد من الكتب النفيسة والخطوط المنسوبة، فتمزق الجميع في زمان يسير. الملك الصالح عماد الدين إسماعيل أبو الجيش بن الملك العادل أبي بكر ابن أيّوب واقف تربة أم الصالح. وقد كان مملكا عاقلا حازما، تقلَّبت به الأحوال أطوارا كثيرة. وقد كان الملك الأشرف بن العادل أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهورا، تم انتزعها منه أخوه الملك الكامل، ثم ملكها من يد الملك الصالح نجم الدين أيُّوب خديعةً ومكراً، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين، ثم استعادها منه الملك الصالح أيُّوب عام الخوارزميَّة سنة ثلاث وأربعين وستمائة، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبُصْرى، ثم أُخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق له بلد يأوى إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الملك الناصر يوسف صاحب حلب، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا من القتال بين الشاميين والمصريين أسر الصالح وأحضر إلى القاهرة.

الملك المنصور عمر بن على

وقال ابن كثير: عُدمَ بالديار المصرية في المعركة، فلا يُدرى ما فعل به، وهو واقف التُربة والمدرسة ودار الحديث والقراء بدمشق. وفي تاريخ النويرى: وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة هجم جماعة على الملك الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب وهو يَمُصُّ قصب السكر، وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل وقتلوه. وقال القاضى جمال الدين بن واصل: من أعجب ما مرَّ بى أن الملك الجواد مودود لما كان في حبس الملك الصالح إسماعيل، وأنه سيَّر إليه مَنْ خنقه وفارقه ظناً أنه قد مات فأفاق، فرأته امرأةٌ هناك، فاخبرتهم أن قد أفاق، فعادوا إليه وخنقوه حتى مات. وفي هذه الليلة لما أخرجوا الملك الصالح إسماعيل بأمر أيبك التركمانى إلى ظاهر القلعة، وكان معهم ضوء فأطفأوه، فخنقوه وفارقوه، ظناً أنه قد مات، فأفاق، فرأته امرأة هناك، فأخبرتهم أنه قد أفاق، فعادوا إليه وخنقوه حتى مات، فانظر ما أعجب هذه الواقعة. ودفن هناك، وعمره قريب من خمسين سنة، وكانت أمه رومية من حظايا الملك العادل. الأمير شُمسُ الدين لؤلؤ مدبر مملكة حلب. وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قتل في هذه السنة في المعركة التي وقعت بين المصريين والشاميين كما ذكرناه مفصلاً. وقال السبط: كان أميرا حسنا، صالحا عابدا زاهداً، مدبراً، وكان يحكى واقعات جرت له، منها قوله عن بركة خان: أريد رأسه، فكان كما قال، وأمثال ذلك كثيرة، وما كان يدعى ذلك كرامات، وإنما كان يخبر عن نفسه وما به بأس إلا أنه قتل قتلة شنيعة، وبقى مدة لا يُوارى. الملك المنصورُ عمر بن على بن رسول صاحب اليمن وكان علىّ بن رسول هذا أستاذ الدار للملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل، فلما سار المسعود قاصداً الشام ومات بمكة كما ذكرنا، استناب علىّ بن رسول هذا باليمن، فاستقر بها نائباً لبنى أيوب، وكان لعلى المذكور إخوة، فأحضروا إلى مصر، وأخذوا رهائن خوفا من تغلبه على اليمن، واستمر المذكور نائباً باليمن حتى مات قبل سنة ثلاثين وستمائة، واستولى على اليمن بعده ولده عمر بن علىّ المذكور على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نُواباً موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن قبض عمر المذكور عليهم واعتقلهم، واستقلَّ عمر المذكور بملك اليمن يومئذ وتلقَّب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك فقتلوه في هذه السنة، واستقرَّ بعده في ملك اليمن ابنه يوسف بن عمر وتلقب بالملك المظفّر، وصفا له ملك اليمن، وطالت أيام مملكته، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. الخاتون أرغوان الحافظية، سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ صاحب قلعة جعبر. وكانت عتيقة الملك العادل الكبير أبي بكر بن أيُّوب، وكانت امرأة عاقلة، مدبرة، عمرت دهرا، ولها أموال جزيلة عظيمة، وهى التى كانت تصلح الأطعمة للملك المغيث عمر بن الصالح أيوب، فاصدرها الصالح إسماعيل، وأخذ منها أربعمائة صندوق من المال. وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذى كان خادم الشيخ تاج الدين الكندى، وجعلت فيه تربة ومسجدا، ووقفت عليها أوقافاً جيدة. فصلٌ فيما وقع من الحوادث السنة التاسعة والأربعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: هو المستعصم بالله: وصاحب الديار المصرية: الملك الأشرف موسى بن الملك المسعود بن الكامل ابن الملك العادل بن أيوب، ومدبر المملكة وأتابك العساكر عز الدين أيبك التركمانى. وصاحب المملكة الحلبية: السلطان الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو متغلّب على دمشق كما ذكرنا، وقد جهز عسكرا من جهته لقصد المعاودة إلى الديار المصرية، وقدَّم على العسكر الملك الأمجد بن العادل، وتجهز الملك المعز أيبك والعساكر للخروج وبلغهم نزول العساكر الشامية على تل العجول، فتوجهوا ونزلوا السابح، فأقامكوا به، ولم يزالوا مقيمين إلى أن خرجت هذه السنة، والرسائل مترددة بين الفريقين. وفي تاريخ ابن كثير: ولما عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق بعد انهزامه قدمت عساكر المصريين، فحكموا على بلاد السواحل إلى حدّ الشريعة، فجهَّز إليهم الناصر جيشاً، فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار المصرية.

ذكر خلع الأشرف عن السلطنة

وفي تاريخ النويرى: وأنفق الناصر الأموال واستخدم الرجال، وجهَّز عكسرا إلى غزة، وخرج المصريون إلى السانح وأقاموا كذلك حتى خرجت السنة. وقال السبط: وخرجت السنة والتى بعدها أيضاً على هذا. ذكر خلّع الأشرف عن السلطنة وإعادتها إلى أيبك التركمانى قال بيبرس في تاريخه: وفى هذه السنة، يعنى سنة تسع وأربعين وستمائة، عزم المعز أيبك على تزويجه بشجر الدر، والاستقلال بالسلطنة، وإبطال أمر الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود من الملك، فأبطله، وخلعه، وأزاله ونزعه. وكان ذلك إنتهاء الدولة الأيوبية بالديار المصرية وإبتداء الدولة التركية وظهور مُلك البحرية، فسبحان مدبر البرية ومجرى القدر بما سبقت به المشيئة. ومدة الدولة الأيوبية إلى هذا الحين خمس وثمانون سنة. وخرجت هذه السنة والملك المعزّ نازل بعساكر مصر على السانح، وعسكر الملك الناصر يوسف نازل بغزّة. وكانت مدة الملك الشرف المذكور حول الحول، ثم تحولت بأمر ذي الطول والحول. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أنه وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن وهو صلاح الدين يوسف بن عمر، يذكر فيه أن رجلا باليمن خرج فادعى الخلافة وأنه نفذ إليه جيشاً، فكسروه وقتلوا خلقاً من أصحابه، وأخذ منه صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقى من أصحابه، وأرسل إليه الخليفة بالخلع والتقليد. ومنها: أنه في رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهر قلى مدرس النظامية ببغداد، فولى قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور وخلع عليه. ومنها: أن السلطان الملك المعز تزوج بأمّ خليل شجر الدرّ، حظيّة السلطان الملك الصالح نجِم الدين أيوب، رحمه الله، واستقل بالسلطنة كما ذكرنا. ومنها: أن في شعبان ولى تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزى حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهداً عنها، وخلع عليه بطرحة، ورفع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته. ومنها: أنه صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب. ومنها: أنه انتهى في هذه السنة الكتاب المسمى: شرح نهج البلاغة، في عشرين مجلدا، مما ألَّفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائنى الكاتب للوزير مؤَيَد الدين بن العلقمى، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعه وفرس، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لأنه كان شيعياً معتزلياً. وفيا: وفيها: لم يحج أحد بالناس من العراق. ذِكْرُ مَنْ تُوفِّى فيها مِنَ الأعيان أقضى القضاة أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن إسماعيل بن عبد الرحمن ابن إبراهيم اللمغانى الحنفى. من بيت العلم والقضاء. درس بمشهد أبي حنيفة رضى الله عنه، وناب عن قاضى القضاة بن فضلان الشافعى، ثم عن قاضى القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلى، ثم عن قاضى القضاة عبد الرحمن بن مقبل الواسطى، ثم بعد وفاته استقر القاضى عبد الرحمن اللمغانى بولاية الحكم ببغداد، ولقب اقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضى القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه. ولما توفى تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهر قلى كما ذكرنا. وقال صاحب طبقات الحنفية: إن أقضى القضاة عبد الرحمن المذكور توفى يوم الجمعة ضاحى نهار الحادى عشر من رجب سنة تسع وأربعين وستمائة، ودفن بمقابر أبي حنيفة رحمه الله، وكان مولده في المحرَّم سنة أربع وستين وخمسمائة. واللمغانى بفتح اللام وسكون الميم وفتح العين المعجمة نسبة إلى لمَغْان وهى مواضع بين جبال غزنه. بهاء الدين على بن هبة الله بن سلامة الجميزى خطيب القاهرة. رحل من صغره إلى العراق، فسمع بها وبغيرها، وكان فاضلاً، أتقن مذهب الشافعى، وكان ديناً، حسن الأخلاق، واسع الصدر، كثير البر، قَلّ إن قدم عليه أحد إلا أطعمه شيئاً، وقد سمع الكثير على الحافظ السلفى وغيره، وأسمع الناس كثيراً من مروياته. وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة وله تسعون سنة، ودفن بالقرافة. ابن عمرون الحلبى، هو الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي على ابن سَعْد بن عمرون الحلبى النحوى.

مات في شهر ربيع الأول ودفن من يومه بالمقام، ومولده في سنة ست وخمسمائة تقديراً، سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وحدَّث، وقرأ الأدب وبرع فيه، وأقرأ مدة، وانتفع به جماعة. أبو الفتح الصوفى، الشيخ الفقيه الحنفى الصوفى، أحمد بن يوسف ابن عبد الواحد بن يوسف الأنصارى الدمشقى الأصل، الحلبى المولد. توفى في السادس عشر من شعبان بحلب، ودفن من الغد بالمقام ظاهر حلب. تفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه، وقرأ علم النظر والخلاف وبرع فيهما، واستدعى إلى بغداد، وولى بها تدريس الفرقة الحنفية بالمدرسة المستنصرية مدة، ثم استأذن في العودة إلى وطنه، فأذن له في ذلك، فعاد إلى حلب ودرس بها بالمدرسة المقدمية، وبمدرسة الحدادين، وكان قد ولى مشيخة رباط سُنقُرجاه بعد موت أبيه، رحمهما الله. عَلَمُ الدين قيصر بن أبي لقاسم بن عبد الغني بن مسافر، الفقيه الحنفي المقرىء، المعروف بتعاسِيف. كان إماما في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سافر إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين بن يونس علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام، وتوفى بدمشق في شهر رجب منها، ومولده سنة أربع وخمسين وخمسمائة بأُصْفون بليدة بالصعيد. جمال الدين بن مطروح أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين ابن على بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين بن مطروح، الملقب جمال الدين. من أهل صعيد مصر، ونشأ هناك، وأقام بقوص مدة، وتقلبت به الأحوال في الخدم والولايات، ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل بن السلطان الملك العادل بن ايوب، وكان اذ ذاك نائباً عن أبيه الكامل بالديار المصرية، ولما اتسعت مملكة الكامل بالبلاد الشرقية، فصار له آمد وحصن كيفا وحرَّان والرُّها والرقة ورأس عين وسروج وما انضم إليها، سيَّر إليها ولده الصالح المذكور نائباً عنه وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، فكان ابن مطروح المذكور معه، ولم يزل ينتقل في البلاد إلى ان وصل الملك الصالح إلى مصر مالكاً لها في سنة سبع وثلاثين وستمائة، كما ذكرنا، ثم وصل ابن مطروح بعد ذلك إلى الديار المصرية في أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة، فركبَّة السلطان ناظراً في الخزانة، ولم يزل يتقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك الصالح دمشق في الدفعة الثانية من سنة ثلاث وأربعين وستمائة، كما ذكرناه، ثم إن السلطان بعد ذلك رتب لدمشق نواباً، فكان ابن مطروح في صورة وزير لها، ومضى إليها، وحسُنت حاله، وارتفعت منزلته، ثم عزله الصاحل لأمور نقمها عليه، وهو مواظب للخدمة مع إعراض الملك الصالح عنه. ولما توفى الملك الصالح بالمنصورة، كما ذكرناه، وصل ابن مطروح إلى مصر، وأقام بها في داره إلى أن مات ليلة الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة بمصر، ودفن بسفح المقطم. وقال ابن خلكان: وحضرت الصلاة عليه ودفنه، وأوصى أن يكتب عند رأسه دو بيت نَظمَه في مرضه وهو: أصبحت بقعرِ حُفرة مُرتهنا ... لا أملك من دُنْيَاى إلا الكَفنَا يَامنْ وسعتَ عبادَهُ رَحْمتهُ ... من بعض عبادك المسيئين أنا وكانت ولادته يوم الإثنين ثامن رجب سنة إثنتين وتسعين وخمسمائة بأسيوط، وهي بليدة بالصعيد الأعلى من ديار مصر. وقال ابن خلكان: وكانت أدواته جيملة، وخلاله حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وكانت بينى وبينه مودَّة أكيدة، ومكاتبات فى الغيبة، ومجالس في الحضرة، تجرى فيها مذاكرات لطيفة، وله ديوان شعر. أنشدني أكثره: وكان في بعض اسفاره قد نزل في طريقه بمسجد وهو مريض فقال: ياربّ إن عجز الطبيب فداونى ... بلطيف صُنْعك واشفنى يا شافى أنا من ضيوفك قد حسِبتُ وإن مِن ... شيم الكرام البرُّ بِالأضْيافِ وله أيضاً: يا مَنْ لبستُ عليه أثواب الضنى ... صفراء موشّعة بُحمر الأدمُع أدرْك بقيَّة مهجة لو لم تذُبْ ... أسفاً عليك نفيتها عن أضلعىَ وكان في مدَّة انقطاعه في داره، وضيق صدره بسبب عطلته، وكثرة كلفته، قد حدث في عينيه ألم انتهى به إلى مقاربة العمى.

السنة الخمسين بعد الستمائة

وقال ابن خلكان أيضاً: وكنت أجتمع به في كل وقت، فتأخرت عنه مديدة لعذر أوجب ذلك، وكنت في ذلك الوقت أنوبُ في الحكم بالقاهرة عن قاضى القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن بن على الحاكم بالديار المصرية المعروف بقاضى سنجار، فكَتَبَ إلىَّ ابن مطروح يقول: يا مَنْ إذا استوحش طرفى له ... لم يخْلُ قلبى منه من أُنْسِ والطرفُ والقلْبُ على ما هما ... عليه مأْوى البدر والشمسَ وكان بينه وبين بهاء الدين زهير صحبة قديمة من زمن الصبا، وإقامتها ببلاد الصعيد، حتى كانا كالأخوين وليس بينهما فرق في أمور الدنيا، ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودَّة، وبينهما مكاتبات بالأشعار فيما يجرى لهما، فأخبرنى بهاء الدين زُهير أن جمال الدين بن مطروح كتب إليه في بعض الأيام يَطلبُ منه درج ورق، وكان قد ضاق به الوقت، وأظنهما كانا ببلاد الشرق معاً. أفلست يا سيدى من الورق ... فجدُ بدرَجْ كعرضك اليقق وإن أتى بالمداد مقترنا ... فمرحبا بالخدود والحدق وفي تاريخ المؤيد: وفى سنة تسع وأربعين وستمائة توفى الصاحب محيى الدين ابن مطروح، وكان متقدما عند الملك الصالح أيوب، كان يتولىله لما كان الصالح بالشرق نظراً لجيش، ثم استعمله على دشمق، ثم عزله، وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلاً في النثر والنظم ومن شعره: عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غصناً رطيباً بالنسيم قد اغتذا نشوان ماشرب المدام وإنما ... أمسى بخمر رُضابه مُتنَبَّذا جاء العذولُ يلومنى من بَعْدمَا ... أخذ الغرام عَلَّى فيه ماخذا لا أرعوى لا أنثنى لا أنتهى ... عن حُبّه فليهْذ فيه مَنْ هذا إن عشتُ عشت على الغرام وإن أُمتْ ... وجدا به وصبابةً يا حبَذا فصل فيما وقع من الحوادث السنة الخمسين بعد الستمائة إستهك هذه السنة، والخليفة: المستعصم بالله. وسلطان الديار المصرية: الملك المعز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى التركمانى. وصاحب دمشق وحلب: السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن السلطان الملك العزيز محمد بن السلطان الملك الظاهر غازى بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب. وصاحب حمص: الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادى. وصاحب حماة: الملك المنصور محمد بن الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. وصاحب عينتاب: الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غارى ابن السطلان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وصاحب بلاد الروم: السلطان غياث الدين كيخسرو بن السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقى. وصاحب ماردين:) (. وصاحب الموكل: بدر الدين لؤلؤ. وأما بلاد عراق العجم وبلاد خراسان وغيرها إلى بلاد ما وراء النهر وبلاد الدشت وغيرها: ففى أيادى أولاد حنكزخان. وصاحب اليمن: صلاح الدين يوسف بن عمر بن على بن رسول.

ثم اعلم ان الديار المصرية والشامية انتهت بعد إنقضاء الدولة العبيدية الفاطمية إلى الدولة الأيوبية كما ذكرناه مفصلاً، ثم لما شاء الله تعالى انقراض الدولة الأيوبية وذريتها سبق في علمه الأزلى أن صلاح هذه المملكة بتوليه أولى النجدة والبأس، وأن الترك من بينهم هم أصلح الأجناس، وأن في هدايتهم إلى الإيمان صلاحاً خاصاً وعاماً، فأخرج طائفة منهم من الظلمات إلى النور، وحباهم بأنواع العطايا بالبهجة والسرور، وقيض الله تجارا أخرجوهم إلى الآفاق خصوصاً في أيام استيلاء التتار على البلاد المشرقية والشمالية وعلى الأتراك القفجاقية، فجاءت منهم طائفة إلى البلاد الشامية والديار المصرية في أواخر الدولة الأيوبية، فاشتراهم ملوك بنى بأبخس الأثمان ليزينوا بهم مواكبهم في البلدان، وليتخذوهم عدة عند النوائب، لما فيهم من الشجاعة والإقدام في المصائب، ثم صارت منهم جماعةً أمراء كباراً مقدّمين، وجماعة منهم ملوكاً سلاطين، فملك منهم من الذين جُلبوا وبيعُوا إلى يومنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة أحد عشر نفسا وهم: الملك المعزُّ أيبك التركمانى: وهو أول الملوك الأتراك الذين ملكوا الديار المصريَّة، والملك المظفر قطز، والملك الظاهر بيبرس، والملك المنصور قلاون، والملك العادل كتبغا، والملك المنصور لاجين، والملك المظفر بيبرس الجاشنكير، والملك المظاهر برقوق، والملك المؤيد شيخ، والملك الظاهر ططر، والملك الأشرف برسباى. قال بيبرس في تاريخه: وأوَّل من اهتم بتحصيلهم واحتفل بتجميلهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخوه الملك العادل أبو بكر، ثم ولده الملك الكامل، ولما آلت المملكة إلى ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب استكثر منهم استكثاراً بذل فيهم المجهود، وبلغ منهم المقصود، وبذل فيهم الأموال الكثيرة، وأصرف لأجلهم الأشياء الغزيرة، ثم لما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقتل ابنه الملك المعظم، ولُّوا زوجة أستاذهم الملك الصالح المسماة بشجر الدُرّ لقصدهم استمرار الملك في البيت الأيوبي ولا يخرج عنه، وتصدُر الأمور كلها منه فكانوا لها أطوع من البنان برهةً من الزمان، ثم لما رأوا أنّ ذلك قصر بحقوق الملك وأزْرَى عليه، واشتدَّت أطماع من كان بالشام إليه، فاحتاجوا إلى إقامة رجل يزاحم بمكنبه المناكب، ويُباهى بموكبه المواكب، ويقوم بتدبير البلاد والعباد، ويحسمُ مادَّة الفساد والعناد، ويبنى الملك على الأساس والعماد. قال الشاعر: لا يصلح الناسُ لاسَراة لهم ... ولا سَرَاة إذا جُهْالُهُمْ سَاُدوا والبَيْتُ لا يُبْنَى إلاَّ بأعمدةٍ ... ولا عمادا إذا لم تُرَسَّ أوتْادُ فإن تجَّمع أوتادٌ وأعمدةٌ ... فقد بلغوا الأمرَ الذى كادُوا فأقاموا الأمير عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى مدبر الممالك مضافاً أسمه إلى اسم الملك الأشرف موسى بن الملك المسعود المعروف بأطِسز بن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب في التواقيع والمناشير وسكة الدراهم والدنانير، فاستقر الأمر على ذلك. ثم لما ظهرت أطماع الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب البلاد الحلبيّة والشاميّة، وتبع على ذلك الإرجاف بما تواتر من الأخبار بحركة التتار، ولا سيما دخول هلاون بلاد العراق، واستيلائهم على تلك الآفاق، ورأوا صغرَ سنّ الملك الأشرف، وعدم قيامه بواجب أمور المملكة، اجتمعت الآراءُ، واتفقت الأمراءُ على استقلال عز الدين أيبك التركمانى الجاشنكير بالسلطنة، واستقلاله بها على انفراده، فأقاموه على ذلك، وأزالوا عن الأشرف اسم السلطنة، وأسقطوا اسمه من السكة والخطبة. قال بيبرس في تاريخه: وذلك في شهور هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة. قلت: ذكر بيبرس هذا في السنة الماضية، أعنى في سنة تسعة وأربعين وستمائة، وقال هناك: عزم الملك المعزّ أيبك على تزويج شجر الدر والاستقلال بالسلطنة وإبطال أمر الملك الأشرف من الملك، فأبطله وخلعه وأزاله ونزعه، ثم قال ها هنا: إن الاتفاق على سلطنته كان في هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة. ومع هذا ذكر هو وغيرُه أن الملك المعز أيبك إنما كانت سلطنته في سنة ثمانية وأربعين وستمائة.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

قلت: التوفيق في هذا الكلام أنه تسلطن في سنة ثمانية وأربعين وستمائة، ولكنه ما أقام إلا شيئاً يسيرا جداً، كما ذكرناه هناك، ولم يعتبروا هذه السلطنة حيث لم تمتد أيامُها ولا ظهرت أحكامها، فكانت كسلطنة الأمير بيدراً عند قتله الملك الشرف خليل بن الملك المنصور قلاون عند الطرَّانة، فإنه تسلطن وتلقب بالملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاون عند الطرَّانة، فإنه تسلطن ولقب بالملك القاهر وأقام نصف نهار، ثم ضربت رقبته كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى، ثم كان عزمه للسلطنة واستقلاله بها في أواخر سنة تسعة وأربعين وستمائة، فلذلك ذكروا أن سلطنته كانت في هذه السنة، أعنى سنة تسعة وأربعين وستمائة، ولكن لما وقع استقلاله التامُّ بها، وظهوره بها، ونفاذ كلمته، وانتشار مراسيمه في هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة، أُسندَت سلطنته وظهورها التام إلى هذه السنة، أعنى سنة خمسين. ثم لما استقل بذلك في هذه السنة شرع في تحصيل الأموال، واستخدام الرجال، واستوزر شخصا من نظار الدواوين يسمى شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى، كان من القبط الكُتاب، ثم عدل عن أهل الكتاب، وأسلم في الدولة الكاملية، وتقدم في المنساب الديوانية، فقرر اموالا على التجار وذوى اليسار وأرباب العقار، ورتب مكوساً وضمانات وسماها حقوقا ومعاملا واستقرت وتزيدت إلى يومنا هذا. ثم في هذه السنة أمر الملك المعز كبار مماليكه، ورتب سيف الدين قطز نائب السلطنة، وكان أكبرهم وأقدمهم هجرةً، وأعظمهم لديه اثرةً، وقطع خبز حسام الدين بن على الهذبانى الذي كان نائباً بالديار المصرية، ثم لما قطع الملك المعز خبزه طلب دستورا ان يروح إلى الشام، فأعطاه دستورا، فسافر إلى الملك الناصر يوسف وأعطاه امرة خمسمائة فارس. وفي هذه السنة تسلم المصريون الشوبك من نائب الملك المغيث فتح الدين عمر، ولم يبق بيده غير الكرك والبلقاء وبعض الغور. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أن التتار وصلت إلى الجيزرة وسُرُوج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا، ونهبوا وخربوا، ووقعوا بتجار يسيرون بين حران وراس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول مصر، وستمائة الف دينار، وقتلوا في هذه البلاد زيادة على عشة آلاف نفس، وقتلوا الشيوخ والعجائز، وساقوا من النسوان والصبيان ما أرادوا، وردعوا إلى خلاط، وقطع أهل الشرق الفرات، وخاض الناس في القتلى من دنيسر إلى الفرات. قال السبط: وحكى لى شخص من التجار قال: عددتُ على جسر بين حران وراس العين في مكان واحد ثلاثمائة وثمانين قتيلا. ومنها: أنه وقع حريق بحلب، احترق بسببه ستمائة دار، يقال: إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيها قصداً. ومنها: أنه استقرَّ الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام وبين البحرية بمصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الاردنُ وللملك الناصر ما وراء ذلك، وذلك بواسطة نجم الدين البادرائى رسول الخليفة بسبب ذلك. قال بيبرس: وفي هذه السنة وصل من بغداد إلى القاهرة لاشيخ نجم الدين ابن البدرائى رسولا من عند الخليفة المستعصم ليصلح ما بين الملك الناصر صاحب الشام وبين الملك المعزّ صاحب مصر، فتقرر الصلح وترتب، ورجع الناصر وعسكره إلى دمشق، وعاد المعز من الباردة إلى قلعة الجبل. ومنها: أن الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب أفرج عن الناصر داود بن المعظم، صاحب الكرك كان، وكان قد اعتقله بقلعة حمص على ما ذكرناه، وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه، فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداغد، فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر، فمنعوه غياها، وكبت الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف: ولا يأووه ولا يُميروه، فبقى الناصر داود في دهات عانة والحدث، وضاق به الحال وبمن معه، وانضمت إليه جماعةٌ من غَزية، فبقوا يرحلون وينزلون جميعا، ثم لما قوى عليهم الحر ولم يبق بالبرية عشب ولا كلأٌ، قصدوا أزوار الفرات يقاسون بق الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده، وكان لولده الظاهر شادى فهدٌ، فكان يصيدُ في النهار ما يزيد على عشرة غزلان، وكان يمضى للناصر ولأصحابه أيام لا يطعمون غير لحوم الغزلان.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

واتفق ان الأشرف صاحب تل باشر وتُدمر والرحبة يومئذ أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقا وشعيراً، وأرسل الناصر يوسف صاحب دمشق يتهدده على ذلك. ثم أن الناصر داود قصد مكاناً للشرابى واستجار به، فرتب له الشرابى شيئاً دون كفايته، وأذن له في النزول بالأنبار، وبينها وبين بغداد ثلاثة ايام، والناصر داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب منه وديعته فلا يردها إليه، ولا يجييه إلا بالمماطلة والمطاولة. وكانت مدة مقامهُ منتقلا في الصحارى مع غزية ثلاثة اشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الناصر يوسف، فأذن له في العود إلى دمشق، ورتب له مائة الف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يتحصل من ذلك غلاَّ دون ثلاثين الف درهم. ومنها: أنه وصلت الأخبار من مكبة بأنّ ناراً ظهرت في أرض عدن وبعض جبالها، بحيث كانت تظهر بالليل، ويرتقع بالنهار دخان عظيم. وفيها:) . (. وفيها: حج بالناس من بغداد، فكان لهم عشر سنين لم يحجوا منذ مات المستنصر بالله إلى هذه السنة. ذكر من تُوفى فيها من الأعيان صاحب المشارق في الحديث، والعباب في اللغة، الصاغانى أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن على بن إسماعيل القرشى العدوىّ العُمرى، من ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، الصاغانى المحتد، الَلوْهَوْرىِ، البغدادى الوفاة، الف5قيه الحنفى المحدث اللغوى المنعوت بالرضى. ولد بلوهور بفتح اللام وسكون الواوين بينهما هاءٌ مفتوحة وفي آخرها راءٌ وهي مدينة كبيرة من بلاد الهند، كثيرة الخير، ويقال لها: لهاوُور أيضاً، سنة سبع وسبعين وخمسمائة، يوم الخميس عاشر صفر، ونشأ بغزنة، ودخل بغداد في صفر سنة خمس عشرة وستمائة، وتوفى بها ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان سنة خمسين وستمائة، ودفن بداره في الحريم الظاهرى، ثم نقل إلى مكة ودفن بها، وكان أوصى بذلك، وجعل لمن يحمله ويدفنه بمكة خمسين دينارا. وسمع بمكة وعدن والهند. وصنف مجمع البحرين في اثنى عشر سفرا، وصنف العباب، ومات قبل أن يمكله بثلاثة أحرف أو أكثر، وصنف الشوارد في اللغات، وشرح القلادة السمطية في توشيح الدريدية، وكتاب فعال على وزن جذام وقطام وفعلان على وزن شيبان، وكتبا الإنفعال، وكتبا مفعول، وكتاب الأشداد، وكتاب العروض، وكتاب في أسماء الأسد، وكتاب في أسماء الذئب، وكتاب مشارق الأنوار النبوية في الحديث، ودُرر السحابة في وفيات الصحابة، ومختصر الوفيات، وكتاب الضعفاء، وكتاب الفرائض. وكان عالما صالحا. والصاغانى نسبة إلى قرية بمرو يقال لها: جاغان، فعربت وقيل: صاغان. الكرنُ البخارى الحنفى محمود بن الحسين بن محمود بن فلان أبو القاسم، المنعوب بالركن البخارى. فقيه، عالم بالخلاف، والأصلين، وعلم البديع، والشعر. مولده ببخارى سنة اثنتين وتسعين وخمسائة، وتوفى بدمشق ليلة الأحد سادس رمضان من سنة خمسين وستمائة. ومن تصانيفه شرحان للجامع الكبير أحدهما مختصر والآخر مطلو سماه البحرين، وصنف كتابا سماه خير مطلوب، صنفه للملك الناصر داود بن الملك المعظم. وكان عالما فاضلا، رحمه الله. شمسُ الدين محمد بن سعد المقدسى، الكاتبالحسن الخط كثير الأدب. سمع الكثير، وخدم السلطان الصالح إسمايعل والناصر داود، وكان دينا فاضلا شاعراً، له قصيدة يمدح فيها الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من ويزره وقاضيه وغيرهما من حواشيه، مات في هذه السنة. عبد العزيز بن علي بن عبد الجبار، المغربى أبوه. ولد ببغداد، وسمع بها الحيدث، وعنى بطلب الحديث والعلم، وصنف كتابا في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الإمام مالك رضى الله عنه. الشيخ أبو عبده الله محمد بن غانم بن كريم الأصبهانى. قدم بغداد، وكان إماما فضلاً، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردى، فانتفع به، وتكلم بعده على الناس في الوعظ، وفاق أهل زمانه، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن أشعاره: وقوفى بأكناف العقيق عقوق ... إذا لم أَرِدْ والدمعُ فيه عقيق وإن لم أُمتْ شوقاً إلى سكن الحمى ... فماأنا فيما أدعيه صَدُوقُ

السنة الحادية والخمسين بعد الستمائة

أيا ربْعَ ليلى مالمجنون في الهوى ... سِوَاهْ ولا كلُّ الشراب رَحيقُ ولا كلُّ من يلقاك قلبه واعى ... ولا كلُّ من يحنو إليك مَشُوقُ تكاثرت الدعوى على الحبِّ فاستوى ... أسِيرُ صباباتِ الهوى وطليقُ توفى الشيخ بن غانم في هذه السنة، رحمه الله. أبو الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقى بن هبة الله بن الحسين بن يحي الغفارى الكنانى المصرى، ثم الدمشقى. كان من أخصَّاءِ الملك المعظم وولده الملك الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديباً مليح المحاضرة، ومن أشعاره: ولما أبيتم سادتى عن زيارتى ... وعوضتمونى بالبعاد عن القربِ ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتى ... ولم يصطبر عنكم لرُقْبَةِ قلبى نصبت لصيد الطيف نومى ... حبالةً فأدركت بالنوم بالنصب الشريف أبو عبد الله محمد بن الحسين الأرموى، الفقيه الشافعى، المعروف بقاضى العسكر. تولى نقابة الأشراف، وقضاء العسكر، وترسَّل إلى بغداد وغيرها، وصحب شيخ الشيوخ أبا الحسن بن حمويه وتفقه عليه، وكان من الرؤساء المذكورين والفضلاء المشهورين، توفى في هذه السنة بمصر. باطوخان بن دوُشى خان بن جنكزخان. مات في هذه السنة ببلاد الشمال، وكان لقبه صاين خان، ومعناه الملك الجيدّ، وكانت مدّة مملكته ببلاد الشمال ونواحى الترك والقفجاق مدّة عشر سنينن وهو ثانى ملك تملكها من ذُرّيَّة جنكزخان، وكرمىُّ هذه المملكة تسمى صراى، وخلَّف من الأولاد ثلاثة وهم: صغان وبركة وبركجار، فنازعن أخوه المملكة، وساتبدَّ بها دونهم، وكان اسمه صرطق بن دوشى خان بن جنكزخان، فاستقر في هذه السنة في الملك بالمملكة المذكورة. فصلٌ فيما وقع من الحوادث السنة الحادية والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخيفة: هو المستعصم بالله. وصاحبالديار المصرية: الملك المعز أيبك الجاشنكير التركمانى الصالحى. وصاحب الديار الدشمقية والحلبية والحمصية: الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر غازى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وصاحب تُدْمُر والرحبة: الملك الشرف مظفر الدين موسى بن المنصور. وصاحب حماة: الملك المنصور ناصر الدين محمد بن المظفر تقى الدين محمود ابن المنصور بن المظفر تقى الدين محمود بن المنصور بن المظفر عمر بن شاهين شاه ابن أيوب. وصلااحب الكرك: الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل. وصاحب بعلبك وبصرى: الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل. وصاحب عينتاب: الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازى ابن صلاح الدين، ولكنه توفى في هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وصاحب ميافارقين: الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المظفر غازى بن العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. وصاحب الموصل: الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ. وصاحب الروم ثلاثة وهم: عز الدين كيكاوس، وركن الدين قليج ارسلان، وعلاء الدين كيقباذ، أولاد غياث الدين كيخسرو، والسطلان الأكبر بالروم علاء الدين كيقباذ، وكرسيُّه قونية. وصاحب بلاد الشمال صَرْطَق. وصاحب قراقروم: منكوقان. وصاحب العراق: هلاون. وكان نائب السلطنة بالديار المصربيَّة: سيف الدين قطز، والوزير بها: الصاحب شرف الدين الفائزى، وقاضى القضاة بدر الدين السنجارى استقلالا بالقاهرة ومصر المحروستين والوجهين القبلى والبحرى. وكان الأمير الكبير في الديار المصرية فارس الدين أقطاى الجمدار الصالحى النجمة، واستفحل امره في هذه السنة، وانحازت إليه البحرية، وأرسل إلى ابن الملك المظفر صاحب حماة يلتمس وصلته، ويخطب إليه ابنته، وكان الرسول إليه الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين المعروف بابن حنَّا، ولم يكن والده وُزِرَ بعد، وإنما كان مرشحاً لذلك، فلما وصل إلى صاحب حماة تلقاه بالإجلال وإجابة السؤال، وجهز ابنته بما يليق بمثلها.

السنة الثانية والخمسين بعد الستمائة

فسمَت نفس الأمير فارس الدين، وعلت رتبته، وكثرت أتباعه وشيعته على البحريّة وغيرهم من الخوشداشية بالإقطاعات ولاصلات والإطلاقات، وكانوا لا يعبأون بالملك المعزّ، ولا يلبسونه ثوب عز؛ بل يهضمون جانبه، ويعطلون مراسمه ومآربه، وينتقصون حرمته، ويغضون منه، وهويسر ذلك كله ويخفيه، ويضمرهُ في نفسه ولا يُبديه، وأعمل الحيلة على قتل الأمير فارس الدين أقطاى لأنه الرأس، وإذا قتله لا يثبت بنيان البحرية بغير أساس، فانقضت هذه السنة وهم على هذه الحال، والبحريّة منهمكون على اللذات والصيد، والمعز ينصب لهم حبائل الكيد. وفيها قدمَ في الجيش المصرى بالفرنج، ووعدوهم أن يسلّموا اليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وكان قد اشتدَّن الحربُ بينهم ونتَهَتْ، ودخل الشيخ نجمالدين البادرائى رسول الخليفة بينهم وأصلحهم. وقال السبط: وقدم الشيخ البادرائى والنظام بن المولى القاهرة، وحلَّفا الملك المعزّ والأمراء، وخلَّصا الأمراء المعظم وأخاه النُصرة، وابن صاحب حمص، ويغرهم، وبنت الأشرف وأولاد الصالح إسماعيل. وغيرهم من المحبوسين. وفيها:) (. وفيها: حج القاضى بدر الدين قاضى مصر على البحر وعاد على البر، والأصح ان حجة كان في السنة الثانية والخسمين، وحج بالناس. ذكر من تُوفى فيها من الأعيان الشيخ المسند أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحرم، المعروف بابن الحاسب، سِبْط الحافظ السّلفى، توفىفي هذه السنة بمصر. الشبيخ الفاضل أبو الفضائل أحمد بن يوسف المغربى القفصى، توفى في هذه السنة بمصر، وله شعر حسن، ونثر جيّد، ومصنفَّات في عدَّة فنون. الشيخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن سليمان بن حمزة الدمشقى، الكاتب المعروف بابن النجار. توفى في هذه السنة بدمشق. وله شعر حسن، وكان أحد الكتاب المشهورين بجودة الخطّ، وقوة الكتابة، وسافر إلى حلب، وإلى ديار مصر، وغيرها. سعد الدين محمد بن المؤيَد بن حمويه، ابن عمّ صدر الدين شيخ الشيوخ، توفى في هذه السنة بخراسان. وكان زاهداً عابداً ورعاً لطيفاً، يتكَّلم في الحقيقة، وله مجاهدات ورياضات، وقدم مصر، وحج، وسكن الشام، فأقام بقاسيون مدةً في زاوية يتعبَّد، ومعه جماعة من أصحابه، وكان فقيرا جدّا، ومع ذلك لم يكن يتردد إلى أحد من ابناء الدنيا، ولا إلى بنى عمه، ولماضاق به الحد توجه إلى خراسان واجتمع بملوك التتار، فأحسنوافيه الظن، وأعطوه مالا كثيرا، واسلم على يده خلق كثير منهم، وبنى بآمد خانكاة وتربة إلى جانبها، وأقام يتعبد، وله قبول عظيم هناك، فقال في بعض الأيام: أريد أزور جدى محمد بن حمويه بجراباذ، ومضى إليه وزاره، وأقثام عنده أسبوعا، فمات ودفن هناك إلى جانب جدّه، وقيل: إنه مات في سنة خمسين وستمائة. الإمام جٌواهر زاده، العالم العلاّمة بدر الدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكّرديّ المعروف بجواهر زاده، ابن أخت الشيخ شمس الدين الكرَدرى شمس الأئمة. تفقه على خاله شمس الأئمة الكردى، وتوفى سلخ ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين وستمائة، ودفن عند خاله. كمال الدين أوب المكارم عبد الواحد بن خطيب زملكا. كان فاضلاً، عالماً خيراً، متميزاً في علوم متعددة، وتولى قضاء صرخد، ودرس ببعلبك، ثم توفى في دمشق في ثامن المحرم من هذه السنة، ودفن بمقابر الصوفية. وكان أبوه عبد الكريم الخطيب، توفى في سنة خمس وثلاثين وستمائة. الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازى بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب عينتاب. توفى في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة بعينتاب ودفن فيها. وكانت ولادته في صفر سنة ستمائة بحلب، وكان ملكه عينتاب من سنة أربع وعشرين وستمائة، وكان أولا بيده الشُفرْ وبَكاس، فانتزعهما الأتابك طُغرل وعوضه عنهما بعينتاهب والراوندان، واستمرَّ في عينتاب إلى أن توفى بها في هذه السنة، رحمه الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: هو المستعصم بالله. وأصحاب البلاد وملوك الأطراف على حالهم، غير صاحب الشمال صرطق ابن دوشى خان بن جنكزخان، فإنه هلك في هذه السنة على ما نذكره عن قريب، وكذلك هلك الأمير فارس الدين أقطاى قتيلا. ذكر مقتل فارس الدين أقطاي

ذكر ترجمة أقطاي

قال بيبرس: وفى هذه السنة عزم الملك المعزّ على قتله، واتفق مع مماليكه على حيلة، فلما كان في شهر شعبان أرسل إليه يستدعيه مُوهِماً له أنه يستشيره فى مهمات من الأمور، ويعرض عليه آراء من التدبير، وقد كمن له كمينا من مماليكه وراء قاعة الأعمدة بالقلعة، وقرر معهم أنه إذا مر مجتازا بالدهليز يبتدرونه بُسرعة ويعاجلونه بالصرعة، فلما وردت إليه رسالة المعزّ بادر بالركوب في نفر يسير من مماليكه من غير أن يُعلم أحدا من خوشداشيته، لثقته بتمكن حرمته، وطلع القلعة آمنا، ولم يدر بما كان له كامناً، فلما وصل إلى باب القلعة منع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزيَّة فَعلَوه بالمشرفيّة، وأذاقوه كأس المنيَّة، وقتلوه على مكانته، ولم يُنجدَه أحد من بطانته. وفي تاريخ النويرى: وفى هذه السنة اغتال الملك المعزّ أيبك التركمانى المستولى على مصر خشداشة الفارس أقطاي الجمدار، وأوقف له في بعض دهاليز الدور التى بقلعة الجبل ثلاث مماليك وهم: قُطُزْ وبهادُر وسنجر الغتمى، فلما مرَّ بهم أقطاى ضربوه بسيوفهم فقتلوه. ذكر ترجمة أقطاي ويقال له: أقطايا، كان من مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان أحد الجمداريَّة عنده ثم ترقت به الحال إلى ان استولى على الديار المصرية، وتقدم على البحرية الذين أهلكوا الناس. وقال ابن واصل: وكان أقطاى إذا ركب يقتل بين يديه جماعة بأمره، وكانت خزائن مصر بيده، وكان أصحابه يأخذون أموال الناس وحريمهم وأولادهم أخذا باليد، ولا يقدر أحد على منعهم، ويدخلون حمامات النساء فيأخذون منهنّ مَن يختارون. وكان أقطاى يمنع الملك المعزّ أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن الملك الكامل بن العادل بن أيوب، فلما قتل أقطاي استقلَّ أيبك بالسلطنة، وأبطل الأشرف المذكور بالكليَّة، وبعث به إلى عمَّاته القطبيات، والأشرف المذكور آخر من خُطب له فمن بيت بني أيوب بالسلطنة في مصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة. ذكر ما تجدّد للبحريّة الصالحيّة بعد موت أقطاي المذكور ولما شاع الخبر بموته قتيلا، وبلغ خوشداشيته الأمر ضاق بهم الفضاء، وحاق بهم الفضاء، وتحققوا أنهم متى تلبثوا أخذوابالنواصى والأقدام، وأُلحقُوا به في الإعدام، فأجمعوا أمرهم على التوجه إلى الشام، وكان منهم من الأمراء الأعيان: الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، والأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير سيف الدين سكُز، والأمير سيف الدين برامُق، وغيرهم، فرأوا الرواح خيرا من الإقامة، واتفقوا وخرجوا ليلا فوجدوا باب المدينة الذي قدصوا الخروج منه مغلقاً، فأضرموا فيه نارا، وهو الباب المعروف بباب القراطين، وتوجهوا على حميَّةٍ نحو البلاد الشاميَّة، وقصدوا الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب ويغرهما ليكونوا عنده من جملة العساكر، ولما أصبح المعزّ بلغه تسحبهم من المدينة، فأمر بالحوطة على أملاكهم وأموالهم ودورهم وغلالهم ونسوانهم وغلمانهم وأتباعهم وأشياعهم، واستصفيت اموالهم وذخائرهم وشونهم، واستتر من تأخرَّ منهم، واختفى من انقطع من الأتباع عنهم، ونودى عليهم في الأسواق والشوارع والطرقات والقوارع بتهديد من يأوى منهم أحد عنده، وتمكن الملك المعزّ من المملكة، وارتجع ثغر الإسكندرية إلى الخاصة السلطانية، وأبطل ما قرره من الجبايات ووزعه من الجنايات، وأعفى الرعية من المطالبات والمصادرات. ذكر وصول البحرية إلى الشَّام ولما وصلت البحريّة المذكورون الهاربون من مصر إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام أطعموه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكره ونزل غمتا من الغور، فأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها، وكذكل برز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك.

ذكر هلاك صرطق بن دوشى خان

وفي تاريخ النويري: ولما قتل أقطاي تفرقت أصحابه وانعزل منهم جماعة، تقدير اثنى عشر نفراً، وخرجوا هاربين خوفاً من المعز، فوقعوا في التيه، فذكروا أنهم أقاموا فيه خمسة أيام حائرين؛ ثم نفذ زادهم وماؤهم في اليوم السادس، ولاح لهم سوادٌ على بُعد، فقصدوه، فإذا هو مدينة عظيمة ذات أسوارٍ وأبواب حصينة كلها من الرخام الأخضر، فدخلوها، فوجدوا الرمل ينبعُ من أرضها كنبع الماء، فطافوا بأسواقها ودورها، فلم يجدوا بها ما يأخذون، لأن جميع أوانيهم وملابسهم تتفتتُ كالهباء إلا أنهم وجدوا في بعض المواضع تسعة دنانير منقوش عليها صورة غزال وحوله أسطر بالعبرانية، ثم وجدوا مكاناً ابريدون فحفروه، فطلعت لهم بلاطة، فرفعوها فإذا صهريج ماءٍ أبرد من الثلج، فشربوا واستقوا وسافروا تلك الليلة، فوقعواعلى قبيلة من العرب، فحملوهم إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فأمر بهم فنزلوا في الربض، ثم عرضوا تلك الدنانير على الصيارف، فقال بعضهم: هذه ضربت في أيام موسى عليه السلام، فسألَنا عن قصتها، فأخبرنا، فقال: هذه المدينة الخضراء بنيت لما كان بنو إسرائيل في التيه، ولها طوفان من رمل، فتارةً يزيد وتارة ينقص، وهى مخفيةٌ لا يقع عليها إلا تائهٌ، ثم بعْنا كل دينار بمائة درهم. ذكرُ هلاك صرطق بن دوشى خان بن جنكزخان صاحب البلاد الشمالية: مات في هذه السنة حتف أنفه، وكانت مدة مملكته سنةً وشهراً، ولم يكن له ولد يلى المملكة بعده، وكان براق شين زوجة طغاى بن أخيه باطوخان قد أرادت أن تولى ولدها تُدانْ منكو السلطنة، وكانت لها بسطةٌ وتحكمُ، فلم يوافقها الخانات أولاد باطو وبقية الأمراء، فلما رأت أنهم لم يوافقوها راسلت هلاون، وأرسلت إليه نشاباً بلا ريش، وقباء بلاد بنود، وبعثت تقول له: قد فرغ الكاشن من النُشاب، وخلا القرنان من القوس، فتحضر لتتسلم المُلك. ومعنى هذه الرسالة: إنه لم يبق ممانع ولا مدافع، ثم سارت في إثر الرسول تقصد اللحاق بهلاون وإحضاره إلى بلاد الشمال. وكان أول من دخل البلاد الشماليَّة، ومملكتها من أولاد جنكزخان دوشى خان، واستقر بها إلى حين هلاكه، فملكها بعده ولده باطوخان، ثم ملكها بعده ولده الثانى صرطق، فلما عزمت براق شين على ذلك، بلغ القوم ماأرادته، فأرسلوا في إثرها، وأعادوها كارهةً، وغرقوها جزاء بما فعلت. ذكر جلوس بركة في المملكة ولما جرى ما ذكرنا، جلس بركة خان في كرسى المملكة، وبركة خان هذا هو ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، ولما ملك البلاد أسلم وحسن إسلامه، وأقام منار الدين، وأظهر شعائر المسلمين، وأكرم الفقهاء والعلماء، وأدناهم، وأبرَّهم، ووصلهم، واتخذ المساجد والمدارس بنواحى مملكته، وأخذ بالإسلام جُلَّ عشيرته، ونفذ أمرُه، وامتدَّت أيامهُ، وأسلمت زوجته حجك خاتون، واتخذت لها مسجدا من الخيم يحمل معها حيث اتجهت، ويضرب حيث نزلت، وكان من شأنها وشأن زوجهاما سند كره إن شاء الله تعالى.

ذكر بقية الحوادث

وفي تاريخ بيبرس: وكان السبب في إسلام بركة خان أن الشيخ نجم الدين الكبراء كان قد ظهر صيتهُ وارتفع ذكرهُ، ففرق مريديه إلى المدن العظام، ليطهروا بها شعائر الإسلام، وأرسل سعد الدين الحموى إلى خراسان، وكمال الدين السرياقى إلى تركستان، ونظام الدين الجُندى إلى قفجاق، وسيف الدين الباخرزى إلى بخارى، فلما استقر الباخرزي ببخارى أرسل تلميذاً له كبير المحل عنده إلى بركة خان، فاجتمع به ووعظه، وحبب إليه الإسلام، وأوضح له منهاجه، فأسلم على يده، واستمال بركة عامة اصحابه إلى الإسلام، وقصد أن يُبر الشيخ بشىء قبالة ما أسداه إليه، فأمر له ببايزة بالبلاد التي هو فيها ليكون وقفاً على الفقراء والصلحاء وتجبى أموالها إليه، وأرسل البايزة إلى الباخرزى، فلما وصلته قال لرسوله: ما هذه؟ قال: هذه تكون في يد الشيخ تحمى كل مَن يكون من جهته. فقال: اربطها على حمار، ثم أرسله إلى ابريَّة، فإن حمته من الذهاب فأنا أقبلها، وإن كانت لا تحمى الحمار فما عساه لى فيها، وأبى أن يقبلها، فعاد الرسول وأخبر بركة بماقال الشيخ، فقال بركة: أنا أتوجَّه إليه بنفسى، فسار نحوه، ووصل إلى بخارى، وأقام بباب الشيخ ثلاثة أيام، وهو لا يأذن له في الدخول إليه، حتى تحَّدث معه بعض مُريديه، فقال: إن هذا ملكٌ كبير، وقد أتى من بلد بعيد يلتمسُ التَبرك بالشيخ والحديث معه، فلا باس بالإذن له، فأذن له عند ذلك، فدخل إليه وسلم عليه، وكان الشيخ متبرقعاً فلم يكشف له عن وجهه، ووضع بين يديه مأكولًا، فأكل منه، وجدَّد إسلامه على يده، وعاد عنه إلى بلده. ذكر بقيّة الحوادث منها: أنه وردت الأخبار من مكة، شرفها الله، بأن ناراً ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث أنه يظهر شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في اثناء النهار، فما شكّوا أنها النار التي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناسُ، وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات. ومنها: أن الشريف المرتضى وصل من الروم ومعه بنت علاء الدين كيقباذ صاحب الروم ملكة خاتون التي خطبها الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، فزفت إليه بدمشق، ودخل بها، واحتفل لها احتفالاً عظيماً. قال السبط: وتلقاها قضاة البلاد، والولاة، والنواب، بالهدايا والإقامات، من الروم إلى دمشق. ومنها: أن الملك المنصور صاحب حماة ولَّى قضاء حماة للقاضى شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن البازري بعد عزل القاضى المُحيى حمزة بن محمد. ومنها: أن هلاون شن الغارات على بلاد الإسماعيليِّة وقلاعهم ومعاقلهم، وهم المسمُّون بالملاحدة، فنهب وسبى، وفتح في هذه السنة قلعتين من قلاعهم إحداهما تسمى قلعة صرطق والأخرى قلعة تون، واستمر على النهب والغارة ومضايقة القلاع. وفيها:) (. وفيها: حج بالناس) (. ذكر من توفى فيها من الأعيان الخُسْرُوشَاهِى المتكلم عبد الحميد بن عيسى شمس الدين. أحد مشاهير المتكملين، وممن اشتغل على الفخر الرازى في الصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن الملك المعظم وحظى عنده. وقال أبو شامة: وكان شيخاً نبيهاً فاضلاً متواضعاً حسن الظاهرة. وقال السبط: كان كيساً، محضر خير، لم ينقل عنه أنه أذى أحداً، فإن قدر على نفع وإلا سكت. توفى رحمه الله بدمشق، ودفن بقاسيون على باب تربة المعظم. الشيخ كمال الدّين محمد بن أحمد بن هبة الله ابن طلحة الذى ولى الخطابة بدمشق بعد الدولعى، ثم عزل وصار إلى الجزيرة، فولى قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب، فتوفى فيها في هذه السنة. وقال أبو شامة: وكان فاضلاً، عالماً، طُلِبَ أن بلى الوزارة فامتنع من ذلك، وكانت وفاته في السابع والعشرين من رجب منها. السَّدِيُد بن علان، آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعاً، مات في هذه السنة بدمشق. الناصِحُ فرج بن عبد الله الحبشى. كان كثير السماع مسنداً خيراً صالحاً، مواظباً على سماع الجديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحيدث النوريّة بدمشق في هذه السنة. القاضى الفقيه أبو القاسم محمد بن أبي إسحاق إبراهيم الحموى الشافعى المعروف بابن المنقشع المنعوت بالعباد.

السنة الثالثة والخمسين بعد الستمائة

ولى القضاء بحماة، وترسَّل عن صاحب حمص إلى بغداد مراراً، ودخل مصر، وتولى القضاء بها، ثم خرج إلى الشام فتوفى فيها. الشيخ أبو شجاع بكْبرس بن عبد الله التركى الفقيه الحنفى المعروف بنجم الدين الزاهد مولى الخليفة الناصر لدين الله. توفى في هذه السنة، ودفن بتربة الإمام أبي حنيفة، رضى الله عنه، ببغداد وقال صاحب طبقات الحنفية: بكْبَرْس بن يلنقلح أبو الفضائل وأبو شجاع الفقيه الأصولى الملقب نجم الدين التركى الناصرى مولى الإمام الناصر لدين الله، وله مختصر في الفقه على مذهب أبي حنيفة رضى الله عنه نحو من القدورى اسمه الحاوى، وله شرح العقيدة للطحاوى، في مجلد كبير ضخم فيه فوائد، سماه بالنور اللامع والبرهان الساطع. وذكره الصاحب ابن العديم في تاريخ حلب، وقال: فقيه حسن، عارف بالفقه والأصول، وكان يلبس لبس الأجناد: القباء والشربوش، عرض عليه المستنصر قضاء القضاة ببغداد وأن يلبس العمامة، فامتنع من ذلك. قال ابن العديم: وبلغنى أنه كان اسمه أولاً منكوبرس فسُمى بكبرس، وكان خيِّراً، ورعاً تقياً، فاضلاً، حسن الطريقة، وتوفى في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، ودفن إلى جانب قبر أبي حنيفة رحمه الله في القبة في الرصافة. وبَكْبرس بفتح الباء الموحَّدة، وسكون الكاف، وفتح الباء الثانية، وسكون الراء، وفي آخره سين مهلملة. ويلتفح: بفتح الياء آخر الحروف، واللام وسكون النون وكسر القاف وكسر اللام الثانية وفي آخره حاء مهملة. الشيخ أبو الخير بن عثمان بن محمد بن حاجى المقرىء توفى بمصر في هذه السنة. الشيخ الفقيه العالم أبو البركات عبد السلام بن عبد الله الحرانى الحنبلى، مات في هذه السنة بحرَّان. الأديب أبو الفتوح ناصر بن ناهض اللخمى المعروف بالحصرى. كان شاعراً محسناً، ومن شعره المعشَّرات المشهورة التي مطلعها: أما لك باداءَ المحبَّ دواءُ ... بل عند بعض الناس منك شفاءُ وغيرها من القصائد. مات في هذه السنة بمصر، رحمه الله. شهاب الدين بن كجبابات، شرب الخمر، فأصبح سكراناً، ميِّتاً. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخيفة: هو المستعصم بالله. وصاحب الديار المصرية: السلطان الملك المعز أيبك. وصاحب الديار الشامية: السلطان الملك يوسف بن العزيز. وصاحب الروم: أولاد الملك غياث الدين كيخسرو وهم ثلاثة: كيكاوس وقليج أرسلان وكيقباذ، وأبوهم مات في سنة أربعة وخمسين وستمائة على ما نذكره، وعند بعض المؤرخين مات في سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاستقر أولاده الثلاثة في السلطنة متشاركين فيها، وإن كان تأخر موته إلى سنة أربعة وخمسين كما ذكرناه الآن، في حياة أبيهم، والله أعلم. وصاحب البلاد الشمالية: بركة خان. وصاحب العراق: هلاون اللعين. وصاحب إفريقية في الغرب: محمد بن أبي زكريا يحيى، ولكنه مات في سنة خمس وسبعين وستمائة. قال السبط: وفي سنة الثانية والخمسين وستمائة وصلت الأخبار من المغرب باستيلاء إنسان على إفريقية، وادعى الخلافة، وتلقب بالمستنصر، وخطب له في تلك البلاد والنواحى، وأظهر العدل والإحسان والإنصاف، وبنى له برجاً، وأجلس الوزير والقاضى والمحتسب والوالى بين يديه يحكمون بين الناس. وقال الشيخ الفاضل ركن الدين: الحفصيون الذين ملكوا تونس أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، بتأءين مثناتين من فوق، وهي قبيلة من المصامدة، ويزعمون أنهم قرشيون من بنى عدى بن كعب رهط عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان أبو حفص المذكور من أكبر أصحاب ابن تومرت بعد عبد المؤمن، وتولى عبد الواحد بن أبي حفص المذكور إفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن في سنة ثلاث وستمائة، ومات في ذي الحجة سنة ثمانية عشر وستمائة، وتولى بعده أبو العلاء من بنى عبد المؤمن، ثم توفى، فعادت إفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص في سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولما تولى ولى أخاه ابا زكريا يحيى قابس، وأخاه أبا إبراهيم إسحاق بلاد الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس أصحابه ورجموه وطردوه، وولوا موضعه أخاه أبا زكريا بن عبد الواحد سنة خمس وعشرين وستمائة.

فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، وأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقى متملكا لإفريقية وخطب لنفسه بالأمير المرتضى، واتسعت مملكته، وفتح تلمسان، والمغرب الأوسط، وبلاد الجريد والزاب، وبقى كذلك إلى أن توفي على بونة في سنة سبع وأربعين وستمائة. وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالماً بالأدب، وخلف أربع بنين وهم: أبو عبد الله محمد، وأبو إسحاق ابراهيم، وأبو حفص عمر، وأبو بكر وكنيته أبو يحيى، وخلف أخوين وهما أبو إبراهيم إسحاق، ومحمد اللحيائى ابني عبد الواحد بن أبي حفص. وكان محمد اللحيانى صالحاً منقطعاً يتبرك به الناس. ثم تولى بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه أبو إبراهيم في خلعه، وبايع لأخيه محمد اللحيانى الزاهد على كره منه لذلك، فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه في يوم خلعه، وشد على عميه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه، وتلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد ابن الأمراء الراشدين. وفي أيامه في سنة ثمان وستين وستمائة وصل الفرنسيس إلى إفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت إفريقية على الذهاب، فقصمه الله تعالى، ومات الفرنسيس لعنه الله، وتفرقت تلك الجموع. وفي أيامه خاف أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا، فهرب، ثم أقام بتلمسان، وبقى المستنصر المذكور كذلك حتى توفى حادى عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة. وملك بعده ابنه يحيى بن ممد بن أبي زكريا وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين، وكان ضعيف الرأي، فتحرك عليه عمه أبو إسحاق إبراهيم الذى هرب وأقام بتلمسان، وغلب على الواثق فخلع نفسه، واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زى الحَفْصيِّين، وأقام على زى زناته، وأقام على الشرب، وفرق المملكة على أولاده، فوثب أولاده عل الواثق المخلوع، فذبحوه وذبحوا معه ولديه الفضل والطيِّب ابنى يحيى الواثق، وسلم للواثق ابن صغير يلقَّب أبا عصيدة، لأنهم يصنعون للنفساء عصيدة فيها أدوية يهدى منها للجيران، فعملت أم الصبى ذلك، فتلقب ولدها بأبى عصيدة، ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع أبيه، واجتمعت عليه الناس، وقصد ابا إسحاق إبراهيم وقهره، فهرب أبو إسحاق أبي بجاية، وبها ابنه أبو فارس عبد العزيز بن إبراهيم، فترك أبو فارس أباه ببجاية، وسار بإخوته وجمعه إلى الدعى بتونس، والتقى الجمعان، فانهزم عسكر بجاية، وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته، ونجا له أخ اسمه يحيى بن إبراهيم وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا. ولما هزم الدعى عسكر بجاية وقتل المذكورين أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم وجاءه برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الدعى، واجتمعت العرب على عمر بن أبي زكريا بعد هروبه من المعركة وقوى أمره، وقصد الدعى ثانياً بتونس وقهره، واستتر الدعى في بعض المواضع بتونس، ثم أحضر واعترف بنسبه وضربت عنقه. وكان الدعى المذكور من أهل بجاية واسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة، وكان أبوه يتجر إلى بلاد السودان، وكان الدعىّ المذكور مجازفاً قصيفاً، وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية، ثم عاد الىالمغرب، وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية، ثم عاد إلى المغرب، فلما مر على طرابلس، كان هناك شخص أسود يسمى نُصَيْراً كان خصيصاً بالواثق المخلوع قد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في أحمد الدعىّ بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر، فشهد له أنه الفضل بن الواثق، واجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه حتى قتل. وكان الدعى يخطب له بالخليفة الإمام المنصور بالله القائم بحق الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أبي العباس الفضل. ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة، وقتل الدعى تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المسنتصر الثاني.

ذكر ما جريات المصريين

ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا الذى سلم من المعركة إلى بجاية وملكها، وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله أمير المؤمنين، واستمر المنتصر بالله في مملكته حتى توفى في أوائل المحرم سنة خمس وتسعين وستمائة، ولما اشتد مرضه بايع لإبن صغير له، واجتمعت الفقهاء وقالوا له: أنت صائر إلى الله، وتولية مثل هذا لا يحل، فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع الذى كان صغيراً وسلم من الذبح الملقب بأبي عصيدة، بويع له صبيحة موت أبي حفص عمر المذكور الملقب بالمستنصر، وكان اسم أبي عصيدة أبا عبد الله محمد، وتلقب أيضاً بالمستنصر، وهو المستنصر الثالث. وفي أيامه توفى صاحب بجاية المنتخب يحيى بن إبراهيم، وملك بعده بجاية ابنه خالد بن يحيى، وبقى أبو عصيدة كذلك حتى توفى سنة تسع وسبعمائة، وملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت، فأقام في الملك ثمانية عشر يوما، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية ودخل تونس، وقتل ابا بكر المذكور في سنة تسع وسبعمائة، ولما جرى ذلك كان زكريا اللحيانى بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى طرابلس الغرب وبايعه العرب، وسار إلى تونس، فخلع خالد بن المنتخب، وحبس، ثم قتل قصاصاً بأبى بكر بن عبد الرحمن المقدّم ذكره. واستقر اللحيانى في ملك إفريقية، وهو أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت. ثم تحرك على اللحيانى أخو خالد وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب، وهرب اللحيانى إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر المذكور تونس وما معها خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحيانى بايع ابنه محمد بن اللحيانى لنفسه واقتتل مع أبي بكر فهزمه أبو بكر، واستقر محمد بن اللحيانى بالمهدية وله معها طرابلس. وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحيانى إلى ديار مصر في سنة عشرين وسبعمائة، وأقام اللحيانى في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى الإسكندرية يذكر فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد اجتمعوا على طاعة اللحيانى وبايعوا نائبه وهو محمد بن أبي بكر من الحفصيين، وهو صهر زكريا اللحيانى المذكور، وهم في انتظار وصول اللحيانى إلى مملكته. وقال المؤيد في تاريخه: اللحيانى المذكور قدم إلى مصر قبل أن يملك، ورأيته بها في سنة تسع وسبعمائة، وكان حسن الشكل، ضخم الخلقة، قدم إلى ديار مصر وربما أنه حج، ثم عاد إلى بلاد المغرب فملك تونس، وهو مقهور فيها مع العرب، فإنهم يتغلبون عليه. وقال: وهو صاحب تونس في زماننا هذا، وهو سنة ثمانى عشرة وسبعمائة. ذكر ما جريات المصريين منها: أن العزيزية المقيمين عند الملك المعز أيبك التركمانى عزموا على القبض عليه وهم على العباسة، وعلم بذلك المعز واستعد لهم، فهربوا من مخيمهم على العباسة، واحتيط على مُخَيَّمِهِم. ومنها: أن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى عصى بصعيد مصر، وتظاهر بالعصيان، وجمع عليه جماعة من العربان، ووافقه حصن الدين ابن ثعلب والأمير ركن الدين الصيرمى، واعتدوا ونهبوا البلاد، وأكثرت العربان من الفساد، ووضع هؤلاء أيديهم على الأموال فأخذوها من بيوت المال، وجبوا الجزية من ذمة تلك الأعمال، فانفسد النظام، وانتكث الإبرام، فاقتضى الحال إرسال الصاحب شرف الدين الفائزى الوزير ليتدارك الخلل بالتدبير، وجرد معه إلى الصعيد من العسكر جماعة، وأمروا له بالطاعة، فتحيلوا على الشريف حصن الدين فمسكوه، وأحضروه إلى القلعة المحروسة فاعتقل بها، ثم نقل إلى ثغر الإسكندرية، فاعتقل في جب تحت الأرض، يعرف بجب الشريف، إلى أن كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله. ذكر ماجريات أولاد جنكيزخان

بقية الحوادث

منها: كانت وقعة بين بركة خان بن باطو وبين هلاون بن طولو ملك التتار، قد ذكرنا أن براق شين زوجة طغاى بن باطوخان لما لم يوافقها التتار على تمليك ولدها تدان منكو راسلت هلاون وهو يومئذ ببلاد عراق العجم بصدد افتتاحها، وأطمعته في أخذ مملكة الشمال التى في بنى عمه، فلما وصلته رسالاتها تجهز وسار بجيوشه إليها، وكان وصوله بعد مقتلها وجلوس بركة على سرير الملك، فبلغه وصول هلاون لحربه، فسار للقائه بعساكره وحزبه، وكان بينهما نهر يسمى نهر ترك، وقد جمد ماؤه لشدة البرد، فعبر عليه هلاون وعساكره متخطياً إلى بلاد بركة، فلما التقى الجمعان واصطدم الفريقان كانت الكسرة على هلاون وعسكره، فولوا على أدبارهم وتكردسوا على النهر الجامد، فانفقأ الجمد من تحتهم، فغرق منهم جماعة كثيرة، وأفلت من نجا منهم من المصاف والغرق صحبة هلاون راجعاً إلى بلاده، ونشأت الحرب بينهم من هذه السنة وصارت العداوة بين هاتين الطائفتين متمكنة. وكان فيمن شهد مع بركة هذه الوقعة ابن عمه نوغبه بن ططر ابن مغل بن دوشى خان، فأصابته في عينه طعنة رمح فعوِّر، ولما قذف النهر جثث الغرقى جمعها نوغيه المذكور مع حثث القتلى أهراماً وقال: هذه أجساد بنى الأعمام والذرية فلا نتركها يأكلها الذئاب والكلاب في البرية. ومنها: أن هلاون فتح بالمشرق قلعتين أخرايين من قلاع الإسماعيلية، اسم الواحدة بمجوش واسم الأخرى نماشر، ولم يزل يخرب أولاً فأولاً ويقتل من لقى منهم حتى أفنى عامتهم. بقية الحوادث منها: ما قاله المؤيد: وهو أنا الملك المعز أيبك تزوج شجر الدر أم خليل التى خطب لها بالسلطنة في ديار مصر، وقيل: إنما تزوجها في السنة الماضية، والله أعلم. ومنها: أنه كان وقع فتنة بين الحج العراقى وأصحاب مكة وأصلح بينهم الملك الناصر داود، وكان قد ذهب إلى بغداد، ثم حج من العراق، ولما عاد أقام بالحلَّةِ. وقال المؤيد: وفي هذه السنة طلب الناصر داود من الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز بن الظاهر بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب دستوراً إلى العراق بسبب طلب وديعته فمن الخليفة وهى الجوهر الذى تقدم ذكره، وأن يمضى إلى الحج، فأذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء، ثم مضى منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم تعلق بأستار الحجرة الشريفة بحضور الناس وقال: اشهدوا أن هذا مقامى من رسول الله عليه السلام داخلاً عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه المستعصم في أن يُردَّ علىَّ وديعتى، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتُهُم، وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروحاً ورفع إلى أمير الحاج كيخسرو وذلك يوم السبت الثامن والشعرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتوجه الناصر مع الحاج العراقى وأقام ببغداد. وفيها: وفيها ذكر من توفى من الأعيان الفقيه ضياء الدين صقر بن يحيى بن صقر، مات في حلب ليلة الإثنين الثامن عشر من صفر من هذه السنة. وكان شيخاً فاضلاً ديناً، ومن شعره: من ادَّعى أنّ له حاجة ... تُخْرِجهُ عن منهج الشَرْع فلا تكوننَّ له صاحباً ... فإنَّه ضرٌّ بلا نَفْع واقف القوصيَّة أبو العز إسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن الأنصارى القوصى، واقف داره التي بالقرب من الرحبة على أهل الحيدث وبها قبره. وكان ظريفاً مطبوعاً، حسن المحاضرة، وقد جمع له معجماً حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة. وقال أبو شامة: وقد طالعته بخطه، فرأيت فيه أغاليط وأوهاماً في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة بن دليم، فقال سعد ابن عبادة بن الصامت: وهذا غلط فاحش. وكانت وفاته يوم الإثنين سابع عشر ربيع الأول من هذه السنة. الشيخ الصالح الجليل مجد الدين أبو المجد على بن عبد الرحمن الأخميمى الخطيب. وكان أحد المشايخ المشهورين بالدين والعلم، وله قبول تامّ، من الخاص والعامّ، وكرم الأخلاق، توفى في هذه السنة ودفن بالقرافة، وقبره ظاهر يزار. الشريف المرتضى نقيب الأشراف بحلب وهو أبو الفتوح المرتضى بن أبي طالب أحمد بن أحمد بن محمد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن محمد بن أحمد ابن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين الحلبى النقيب، المنعوت بالعز.

السنة الرابعة والخمسين بعد الستمائة

مات في ليلة السادس عشر من هذه السنة فجاءة، ودفن بعد ثلاثة أيام بجبل الجوش، ومولده في سنة تسع وسبعين وخمسمائة بحلب. الشيخ الأصيل أبو المكارم محمد بن أبي بكر محمد بن عبد الله بن علوان ابن عبد الله بن علوان بن عبد الله الأسدى الحلبىّ المنعوت بالنجم. مات في صبيحة الخامس والعشرين من شوال من هذه السنة بحلب، ودفن بالمقام، ومولده في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسائة بحلب، سمع من أبي حفص عمر بن طبرزد، وحدث بحلب، وله شعر حسن. الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس بن تامتيت المغربى. توفى بالقرافة بمصر، وقد جاوز مائة سنة. وسُئل يوماً عن الحكم في تارك الصلاة فقال: أنشدنى بن الرمامة واسمه محمد ابن جعفر العبسى الحافظ قال: أنشدنى أبو الفضل طاهر النحوىّ لنفسه هذه الأبيات: في حكم مَنْ ترك الصلاة وحكمهُ ... إن لِم يُقِرّ بها كَحكم الكافِرِ فإذا أقرَّ بها وجانب فِعْلَها ... فالحُكُم فيه للحسّام الباتِر وبه يقول الشافِعىُّ ومالكٌ ... والحنبلىُّ تمسُّكاً بالظَّاهِر وأبو حنيفة لا يُقول بقتله ... ويُقول بالضرب الشديد الزاجِر هذا أقاويُل الأئمة كلِّهم ... وأجَلُّها ما قلتُه في الآخِر المسلمون دماؤُهم معصومة ... حتى تُراق بمستنير باهِر مثل الزنا ولاقتل في شرطيهما ... وانظر إلى ذاك الحديث السَّائر ومعنى قوله: تمسكاً بالظاهر، معنى قوله عليه السلام:) بين العبد والكفر ترك الصلاة (. ومعنى قوله: في الآخر، قوله عليه السلام:) لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث (الحديث. الشيخ الأصيل أبو بكر بن أبي الفوراس مُرْهَف بن الأمير مُؤيَّد الدولة أبي المظفر أسامة بن أبي أسامة مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن مُنقذ الكنانى الحلبى الشيزرى الأصل، المصرى الدار، المنعوت بالحسام. توفى بالقاهرة في الثامن والعشرين من شعبان، وقيل: في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة، ومولده في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو من بيت الإمارة والفضيلة والتقدُّم، وقد حدَّث منهم جماعة وحدث هو أيضاً. أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عثمان البلخى، ثم البغدادىّ، ثم الحلبىّ المنعوت بالنظام. أحد السادات الحنفية، درس بحلب، وسمع من المؤيد الطوسى. قال الذهبى: وحدث عنه بصحيح مسلم، وسمع ببخارى وسمرقند، وتفقه بخراسان على المحبوبى، وحدث بحلب وأفتى، وكتب عنه الحافظ الدمياطى وذكره في معجم شيوخه، وقال: توفى بحلب ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بالحبيل خارج باب الأربعين، ومولده ببغداد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. صابح فاس من بلاد المغرب أبوبكر بن عبد الحق المرينى. مات في فاس في هذه السنة حتف أنفه، وقام بعده ولده عمر بن أبي بكر ابن عبد الحق، وكان ولى عهد أبيه، وهو الثانى من ملوك بنى مرين، فأقام نصف سنة أو دون ذلك، فثارعليه عمه يعقوب بن عبد الحق، وجرت بينهما حروب كثيرة، ثم اصطلحا على أن يخلع عمر نفسه، فخلع نفسه وأعطاه عمه مكناسة الزيتون وأعمالها، فاستقر بها مدة، ثم أرسل عمه بعد مديدة إلى اقوام من بنى عمه يقال لهم: أولاد عثمان بن عبد الحق، كانوا مطالبيه بدم لهم على أبيه، فاتبعوه فقتلوه. وقام عمه يعقوب بن عبد الحق، وهو الثالث من سلاطين بنى مرين، وكان رجلاً صالحاً، حسن السيرة، محباً في الصالحين، واجتمع عليه أعيان بنى مرين، ولما جلس في السلطنة سار إلى جزيرة الأندلس لغزو الفرنج في ألف فارس، واجتمع إليه من المسلمين الذين بالأندلس ثلاثمائة فارس، فخرج قائد من زعماء الفرنج للقائه يقال له: دَوَالنتُو فى نحو عشرة آلاف فارس مدرعين، وخلق كثير من الرجالة، فالتقاهم أبو يوسف المذكور فهزمهم وقتل عامتهم، ورجع إلى برّ العدوة، فكان منه ما سنذكره إن شاء الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخيفة: هو المستعصم بالله. وصاحب الديار المصرية: السلطان الملك المعز أيبك التركماني الصالحي.

ذكر دخول التتار إلى بلاد الروم

وصاحب الديار الشامية: السلطان الملك الناصر يوسف، وكان قد أرسل في هذه السنة كمال الدين المعروف بابن العديم الحلبى رسولاً إلى الخليفة المستعصم بالله وصحبته تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه. ووصل أيضاً من جهة الملك المعِزّ أيبك صاحب الديار المصريَّة رسول إلى الخليفة وهو شمس الدين سنقر الأقرع، من مماليك المظفر غازى صاحب ميافارقين، وصحبته تقدمة جليلة إلى الخيفة، وسعى في تعيطل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق. فبقى الخيفة متحيّراً، ثم أنه أحضر سكيناً كبيرة من اليشم وقال لوزير: إعط هذه السكين لرسول صاحب الشام علامة مني في أن له خلعة عندى في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكننى، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الملك الناصر بغير خلعة. وفيها قبض المعز على الأمير علاء الدين أيدغدى العزيزى لأنه اتهمه، فامسكه وسجنه. وفيها أرسل المعزّ إلى صاحبى حماة والموصل يخطب ابنتيهما لنفسه، وبلغ ذلك شجر الدر والدة خليل الصالحيّة وأنكرته وأكبرته، لأنه بها وصل إلى ما وصل، وبوصلها حصل من الدولة والصولة على ما حصل، فدبرت على إعدامه وقررت قتله مع خدامها وخدامه، على ما يأتى إن شاء الله تعالى. ذكر دخول التتار إلى بلاد الروم أعلم أن التتار دخلوا في هذه السنة إلى الروم مرتين: الأولى: جرَّد منكوقان بن طولخان بن جنكزخان الأمير جرماغون والأمير بيجو ومعهما جماعة من العساكر إلى بلاد الروم، وهى يومئذ في يد السلطان علاء الدين كيقباذ بن السلطان غياث الدين كيخسرو، فساروا اليها ونزلوا على آرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت أحد مماليك السلطان علاء الدين كيقباذ، فحاصروها مدة شهرين ونصبوا عليها إثنى عشر منجنيقاً، فهدموا أسوارها ودخلوها وأخذوا سنان الدين ياقوت أسيراً، وكان حريمه في القلعة، فأخذوها ثانى يوم وقتلوا الجند، واستبقوا ارباب الصنائع وذوى المهن، وداسوا الأطفال بحوافر الخيل، وغنموا وسبوا، وعادوا وقتلوا ياقوت العلائى وولده، واتفقت وفاة جُرماغون أحد المقدمين على سرمارى. المرة الثانية: وهى التي دخل فيها بيجُو ومن معه إلى الروم ومعه خُجانِوين، فوصلوا إلى أقشهرزنجان نزلوا بالصحراء التى هناك، فجمع السلطان غياث الدين جيشه وسار للقائهم، وأخذ حريمه معه ليقاتل قتال الحريم، ونزلواعلى كوسا داغ وهو الجبل الأقرع، وذلك الجبل مطل على الوطأة التي نزل بها بيجو وعساكره، ثم أن السلطان غياث الدين ضرب مشورةً مع أكابر أمرائه وذوى آرائه في لقاء التتار وقتالهم، فتكلم كل بما عنده، ومنهم من هوَّل أمره فغضب أخو كُرجى خاتون زوجة السلطان، وقال: هؤلاء قد هابوا التتار وجبُنُوا عنهم وفرقوا منهم، فالسطان يعطينى الكرج والفرنج الذى في جيشه وأنا ألقاهم ولو كانوا من عساهم يكونون؟ فغاظ الأمراء كلامه، وتقدم واحد منهم من أعيانهم، فألزم نفسه الأيمان المغلظة أنه لا بد أن يلاقى التتار بنفسه، ومن يضمه تقدمته ولا ينتظر أحداً، فركب ومعه نحو من عشرين ألف فارس وركب السلطان على الإثر، وركبت عساكره وضربت كوساته، ونزل المقدم المتقدم إلى الصحراء قاصداً الهجوم على التتار، فوجد قدامه واد قد قطعهُ السيل فلم يستطع أن يقطعه، فسار مع لحف الجبل يطلب طريقاً يمكنه التوجه منه نحو التتار، فركب التتار وقصدوه ودنوا منه وحاذوه، وأرسلوا إليه شهاباً كالشهب المحرقة، فأهلكوا أكثر خيله وخيل من معه، وكان السهم لا يقع إلا في الفارس أو الفرس. هذا والعساكر السلطانية قد تبعته قافية خطوه، وحاذية فيمافعل حذوه، فلما تقدموا ندموا حين أقدموا، ورأوا عساكر التتار تحاذى الجبل فسقط في أيديهم وأيقنوا أن السكرة عليهم، فطلب كل منهم لنفسه النجاة وفر نحو ملجئه.

ذكر بقية الحوادث

وأما السلطان غياث الدين فلم يبرح من مكانه وقيد فرسه، ووقف على أعلى الجبل ظناً منه أن عساكره التى تقدمت قد نزلت ونازلت، ولم يدّر بما أصابهم من الافتراق، وأن كل طائفة منهم صارت إلى أفق من الآفاق، فأتاه الخبر بذلك وهو في قلة ممن حوله، وكان معه جماعة من الأمراء كان قد نقم عليهم أمراً، فأمسكهم وأودعهم الزردخاناة، فأطلقهم وسلم الحريم إلى أحدهم، وكان اسمه تركزى الجاشنكير وهو والد الأمير مبارز الدين سوارى الرومى أمير شكار الذى هاجر إلى الديار المصرية في الأيام الظاهرية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأمره أن يتوجه بهم إلى قونية التى هي دار ملكه، وموطن أهله ومسافتها من الذى كان فيه ثلاثون يوماً، فسار بهن وقد تركوا القماش والفرش والأثاث، ولم يحملوا إلا الجواهر النفيسة التي يخف حملها ويسهل نقلها، ورحل السلطان عائداً، وترك الوطاق بما حوى من الدهاليز المضروبة والخيام المنصوبة والأثقال التى لها ولعساكره، والخزائن المشتملة على ذخائرهم وذخائره. ولما عاين التتار هزيمة ذلك العسكر الجرار ظنوها مكيدة، ولم يحسبوها هزيمة، فلبثوا ثلاثة أيام لا يتجاسورن على العبور إلى الخيم، ثم تحققوا أمرهم وعبروه، وحَوَوْا كل ما وجدوه من الخيول والأثاث والأثقال، واستعرضوا كله، وعادوا راجعين. ذكر بقية الحوادث منها: أن الملك الناصر داود لما عاد إلى بغداد بعد استشفاعه بالنبى - صلى الله عليه وسلم - في ردّ وديعته أرسل الخليفة المستعصم بالله من حاسب الناصر المذكور على ما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف مثل اللحم والخبز والحطب وغير ذلك، وثُمِنّ ذلك عليه بأغلى الثمن، ثم أرسل إليه شيئاً نزراً، وألزمه بأن يكتب خطه بقبض وديعته وأنه ما بقى يستحق على الخليفة شيئاً، فكتب خطه بذلك مكرها، وسار عن بغداد وأقام مع العرب، ثم أرسل إليه الملك الناصر يوسف صاحب الشام فطيب قلبه وحلف له، فقدم الناصر داود إلى دمشق ونزل بالصالحية. ومنها: أن هلاون على ما ذكر دخل بغداد في زىّ تاجر عجمىّ، ومعه مائة حمل حرير، واجتمع بالوزير مؤيَّد الدين محمد بن العلقمى، وبأكابر الدولة، وكانوا قادرين على مسكهِ إلا أنهم خانوا الله ورسوله والمسلمين، ثم خرج بعدما أتقن أمره معهم. ومنها: أنه كملت المدرسة الناصر الجوانية داخل باب الفراديس بدمشق، وحضر فيها المدرّس قاضى البلد صدر الدين بن سنىّ الدولة، وحضر عنده الأمراء والعلماء وجمهور أهل الحلّ والعقد، وحضر السلطان الملك الناصر يوسف واقفها أيضاً. ومنها: أن السلطان الملك الناصر يوسف أمر بعمارة الرباط بسفح جبل قاسيون. ومنها: أن عسكر الملك الناصر يوسف رحلوا من العوجاءِ إلى عُزَّة ونزلوا على تل العجول، واتفق وصول رسول الخليفة وهو الشيخ نجم الدين البادرائى من بغداد ليجدد الصلح الذى وهَتْ مبانيه، وقرر الصلح، فأعاد العسكر. ومنها: أنه كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول فيه أبو شامة في كتاب الذيل وملخصه أنه قال: جاءَ إلى دمشق كتب من المدينة النبويَّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السَّنة، وكتبت الكتب في خامس رجب والنار بحالها. قال: ووصلت الكتب الينا في عاشر شعبان وفيه تصديق لما فى الصحيحين من حيدث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضىء أعناق الإبل ببصرى (. قال: فأخبرنى بعضُ من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوئها الكتب. قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالى وكأَنَّ في دار كل رجل سراجاً، ولم يكن لها حرٌّ ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل.

قال أبو شامة: هذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة منها: لما كانت ليلةالأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوىٌّ عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسُقُف والأخشاب والأبواب ساعةً بعد ساعةٍ إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة، نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهى نار عظيمة، إشعالها أكبر من ثلاث منائر، وقد سالت أودية منها بالنار إلى وادى شظا مسيل الماه، وقد سدَّت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا ونحن جماعة نبصرُها، فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدَّت الحرَّة طريق الحاج العراقى، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرَّة، فوقفت بعد أن أشفقنا أن تجىء الينا، ورجعت تسير في الشرق، تخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز فقال عز من قائل:) إنها ترمى بشرر كالقصر، كأنه جمالات صفر (. وقد أكلت الأرض. وقد كتب هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة، والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقى إلى الحيرة، كلها نيران تشعل، نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهى جبالُ نيران حمر، والأمُّ الصغيرة النارالتى سألت النيران منها من عند قريظة وقدزادت، وما عاد الناس يدرون أى شيءٍ يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير وما أقدر أن أصف هذه النار. وقال أبو شامة: في كتاب آخر ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة: وقع بالمدينة في شرقيها نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم، انفجرت من الأرض، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقف وعادت إلى الساعة، ولا ندرى ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة. قال: وظهر كتاب آخر: لما كان يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وقع بالمدينة صوت تشبه صوت الرعد البعيدة تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كان ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذى كنا نسمعه زلازل، فتقيم على هذه الحالة ثلاثة أيام، يقع في اليوم والليلة أربع عشرة زلزلة، فلما كان في يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انجبست الأرض من الحرَّة بنار عظيمة، تكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى برأى العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمى بشرر كالقصر، كما قال الله عز وجل، وهى بموضع يقال له أجلين، وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهى تجرى على وجه الأرض، وتخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخرٌ يذوب حتى يبقى مثل الآنك، فإذا جمد صار أسوداً، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بطريق هذه النار إقلاع عن المعاصى والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها. قال أبو شامة: ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسنين قاضى المدينة إلى بعض أصحابه: لما كان ليلة الربعاء ثالث شهر جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقى تلك الليلة تُزلزل كل يوم وليلةٍ قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرةً ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذى فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف النبوى ودامت الزلزلة إلى يوم الجمعة صحىً، ولها دوِىَّ مثل دوى الرعد القاصف، ثم بين فيه صفة النار، ثم قال: وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهى على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر يوم يطلعان ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية. قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إش هو إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

قال: وجاء كتاب من بعض بنى القاشانى بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادى الآخرى نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرقٌ عظيم حتى دخل الماءُ من أسوار بغداد إلى البلد، وغرق كثير من البلد، ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً،) وانهدم مخزن الخليفة (، وهلك من خزانة السلاح شيءٌ كثير، بل تلف كله، وأشرف الناسً على الهلاك، وعادت السفن تدخل إلى أوسط البلد وتخترق أزقة بغداد، ثم ذكر فيه حكاية النار. وقال ابن كثير رحمه الله: الحديث الوارد في هذه النار مخرّج في الصحيحين من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:) لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضىءُ أعناق الإبل ببُصرى (. وهذا لفظ البخارى، وقد وقع هذا في هذه السنة، أعنى سنة أربع وخمسين وستمائة كما ذكرنا. وقد أخبرنى قاضى القضاة صدر الدين على بن أبي القاسم التميمى الحنفى الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة: فقال: سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدى ببُصرى في تلك الليالى أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوءِ هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز. وقال ابن كثير: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرساً للحنفية ببصرى، وكذلك كان جدُّه، وهو أيضاً قد درَّس بها، ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمقدمية، ثم ولى قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقع هذه النار بالحجاز ثنتى عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما سمع من الخبر أن الأعرابى أخبر والده في تلك الليالي. وقال أبو شامة: وفي ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان من هذه السنة احترق مسجد النبى عليه الصلاة والسلام، وابتداء حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة إلى خزانة ثم، ومعه نار فعلقت في آلاتٍ ثمَّ، واتصلت بالسقف سرعةً، ثم دبت في السقوف آخذةً قبلةً، فاعجزت الناس عن قطعُها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذات رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها السلام، ووقع ماوقع منه في الحجرة وبقى على حاله لما شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد، وكان ذاك ليلة الجمعة وأصبح الناس فعزلوا موضعاً للصلاة. وَعُدّ ماوقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة عما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ونظم بعضهم في هذه النار وغرق بغداد بيتين، قال: سبحان من أصبحت مشيئته ... جاريةً في الورى بمقدار أغرق بغداد بالمياه كما ... أحرق أرض الحجازِ بالنار قال أبو شامة: كان ينبغي أن ينبه على أن الأمرين في سنة واحدة، وإلا فالإغراق والإحراق يقعان كثيراً، فالصواب أن يقال: في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار وقال: بعد ستّ من المئين وخمسين ... لدى أربع جرى في العام نار أرض الحجاز مع حرق ... المسجد مع غريق دار السلام ثم أخذ التتار بغداد في ... أول عام من بعد ذاك بعام لم يفن أهلها وللكفر أعوانعليهم يا ضيعة الإسلام وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام وفيها:) (. وفيها: حج بالناس) . (. ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الوهاب بن على بن عبد الوهاب بن مناس الطرابلسى المالكى. وكان قد ولى القضاء بطرابلس المغرب والمهدية، ثم استوطن الإسكندرية. وكان شيخاً صالحاَ. توفى في هذه السنة. الشيخ عماد الدين عبد الله بن النحاس الزاهد الورع. خدم الملوك ووزر بالعجم، وانقطع في آخر عمره بجبل قاسيون، وأقام ثلاثين سنةً مشغولاً بالله، ويقضى حوائج الناس بنفسه وماله. توفى في هذه السنة، ودفن بقاسيون بدمشق. وهو الذى قال له ابن شيخ الشيوخ فخر الدين: والله لأسبقنك إلى الجنة بمدة، فسبقه فخر الدين.

الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسى، الفقيه الشافعى، مدرس الرواحية بعد شيخه تقى الدين بن الصلاح. توفى في هذه السنة، ودفن بالصوفية. وكانت له جنازة حافلة. سِبْطُ ابن الجوزى: الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن الأمير حسام الدين قزغلى بن عبد الله، عتيق الوزير عون بن هبيرة الحنفى، أحد السادات الحنفية البغدادى، ثم الدمشقى، سبط ابن الجوزى، أمّه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزى الواعظ. وقد كان حسن الصورة، طيب الصوت، حسن الوعظ، كثير الفضائل والمصنفات، وله مرآه الزمان في عشرين مجلداً من أحسن التواريخ، انتظم فيها المنتظم تاريخ جدّه وزاد عليه، وذيل إلى زمانه، وهى من أحسن التواريخ وأبهجها، قدم دمشق في حدود الستمائة، وحُظى عند ملوك بنى أيوب، وقدّموه وأحسنوا اليه. وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التى يقوم عندها الوعاظ اليوم عند مشهد على بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يُسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن على طريق جدّه. وقد كان الشيخ تاج الدين الكندى وغيره من المشايخ يحضرون عنده تحت قُبَّة يزيد التي عند باب المشهد ويستحسنون ما يقول. ودَرَّس بالعزية البرانية التى بناها الأمير عز الدين أيبك المعظمى أستادار الملك المعظم وهو واقف العزية الوانية التي بالكشك أيضاً، وكانت قديماً تعرف بدُور ابن منقذ. ودرّس السبطُ أيضاً بالشبلية التي بالجبل عند جسر كُحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفى ليلة الثلاثاء الحادى والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الملك الناصر يوسف ابن العزيز فمن دونه. وأثنى عليه أبو شامة فقال: كان فاضلاً، عالماً، ظريفاً، منقطعاً، منكراً على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصداً في لباسه، مواظباً عل المطالعة والاشتغال، والجمع والتصنيف، ربى في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوامّ نحو خمسين سنة، وقد كان مجلس وعظه مطرباً، وصوته فيما يورده فيه حسناً طيباً. وقد سُئِل يوم عاشوراء في زمن الملك الناصر يوسف صاحب حلب أن يذكر للناس شيئاً من مقتل الحسين رضى الله عنه، فصعد المنبر ولجس طويلاً لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى، ثم أنشأ يقول وهو يبكى شديداً: ويلٌ لمنْ شفعاؤهُ خُصَمَاؤهُ ... والصُورُ في نشر الخلائِق يُنْفَخُ لا بُدّ تردَ القيامة فاطِمٌ ... وقيمصُها بدم الحسين مُلطخُ ثم نزل عن المنبر وهو يبكى، وصعد إلى الصالحية وهو يبكى. وقال صاحب طبقات الحنفيّة: روى السبط عن جدّه ببغداد، وسمع من أبي الفرج بن كليب وأبى حفص بن طبرزد، وسمع بالموصل ودمشق وحدث بها وبمصر، وله تصانيف منها: مرآة الزمان، وشرح الجامع الكبير، وإيثار الإنصاف وغير ذلك، مات في التاريخ المذكور، وصُلَّى عليه بباب جامع جبل قاسيون الشمالى، وصلَّى عليه السلطان الملك الناصر يوسف، وكان مولده نحو سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ببغداد. ورثاه الشهاب أحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن مصعب ارتجالاً بأبيات: ذَهبَ المؤّرخُ وانقضت أيامهُ ... فتكدَّرت من بعده الأيَّامُ قد كان شمسُ الدين نوراً هادياً ... فقضى فعمَّ الكائنات ظلامُ كم قد أتى في وعظه بفضائلٍ ... في حُسْنها تتحيَّرُ الأَفْهَامُ حزن العِراقُ لفقده وتأسَّفَتْ ... مَصْرٌ وناح أسى عليه الشَّامُ فسُقىِثرى وأراه صَوْبَ غمامةٍ ... وتعاهدَتْهُ تحيَّة وسَلاَمُ مجير الدين يعقوب بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب. توفى في هذه السنة، ودفن عند والده بتربة العادلية. الأمير مظفر الدين إبراهيم بن صاحب صرخد عز الدين أيبك، أستاذ دار الملك المعظم، واقف العزيزيتين الجوانية والبرانية عل الحنفية. توفى في هذه السنة، ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة. الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس موسَك القيمرى الكُردى، أكبر أمراء القيمريَّة.

السنة الخامسة والخمسين بعد الستمائة

كان يقفون بين يديه كما يفعل بالملوك، ومن أكبر حسناته وقفه المارستان الذى بسفح جبل قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبَّة التي تجاه المارستان المذكور، وكان ذا مال كثير وثروة. السلطان الملك غياث الدين كيخسرو بن السلطان علاء الدين كيقياذ ابن كيخسرو بن قليج أرْسَلان بن مسعود بن قليج أرْسَلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قلطومش ابن أرسلان بن سلجوق. وخلَّف من الأولاد ثلاثة وهم: عزّ الدين كيكاوس، وركن الدين قليج أرسلان، وعلاء الدين كيقباذ، ولما توفى والدهم استقرُّوا في السلطنة ولم ينفرد بها أحد عن الآخر، وضربت السكَّة بأسمائهم مشتركة، وخطب لهم جميعاً، وكان أبوهم قد فوض ولاية عهده إلى ولده علاء الدين كيقباذ الذى هو من كرُجى خاتون، فانفقوا على أن يتوجه إلى مكنوقان يطلب منه الصلح والهدنة، ويقرّر له الإتاوة، ليكُفّ عساكره المتوالية، ويمنع جيوشه العادية، وأما التتار فإنهم استولوا على قيسارية وأعمالها وصار إليهم مسافة شهر من بلاد الروم وأقاليمها في هذه البرهة اللطيفة يقتلون ويأسرون وينهبون، ثم لما استأصلوا شعبها وبالغوا في تخريبها عادوا إلى مستقرهم. وكانت توليه غياث الدين كيخسر والمذكور في السنة التى مات فيها والده علاءُ الدين كيقباذ وهى سنة أربع وثلاثين وستمائة، فيكون مدة مملتكه عشرين سنة، وكان والده علاءُ الدين قد زوجه بكرُجى خاتون ابنة ملك الكُرج، فلما صارت إليه السلطنة صيَّر أخاها وكان نصرانياً لم ينتقل عن ملته مقدماً على الجيش، فكرهه الأمراءُ وكرهوا السلطان غياث الدين لتقديمه إياه عليهم، وقد خطب نفر من المؤرخين في تاريخ وفيات هؤلاء وتاريخ ولاياتهم، منهم: بيبرس الدوادار، والصواب ما ذكرناه. فإن قلت: أنت قد ذكرت في أول سنة إحدى وخمسين وستمائة أن صاحب الروم ثلاثة وهم: عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعلاء الدين كيقباذ أولاد غياث الدين كيخسرو، فيكف يلتئم هذا الكلام بالذى ذكرته آنفاً؟ قلت: هذا نقلتُه هناك في تاريخ بيبرس، ولكنه أطلق كلامه بحيث أنه يوهِمُ أن غياث الدين كيخسرو الذى هو والد الثلاثة مات في تلك السنة، أعنى سنة إحدى وخمسين وليس كذلك، بل وجهه أنه كأنه قسم بلاده في حياته بين أولاده الثلاثة المذكورين في السنة المذكورة، واستقلَّ كل منهم سلطاناً، إلا أنه مات في تلك السنة، واستقلوا سلاطين فيها، فافهم، والله أعلم. فصلٌ فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: وهو المستعصم بالله. وسلطان الديار المصرية: الملك المعز أيبك الصالحى، ونائبه فيها الأمير سيف الدين قطز، ولكن أيبك قتل في هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله. وسلطان الشام وحلب: الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز ابن الظاهر بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وصاحب بلاد الروم: الأخوة الثلاثة وهم: عز الدين كيكاوس، وركن الدين قليج أرسلان، وعلاء الدين كيقباذ، أولاد غياث الدين كيسخرو، ولكن كبيرهم علاء الدين كيقباذ، وهو كيقباذ الصغير، وجده هو كيقباذ الكبير، وعلاء الدين كيقباذ الأصغر، مات هو أيضاً في هذه السنة. ولنذكر أولاً وفاة الملك المعز أيبك، ثم وفاة كيقباذ الأصغر. ذكر وفاة الملك المعزّ أيبك الصالحى والكلام فيه على أنواع: الأول في ترجمته: هو السلطان الملك المعزّ عز الدين أيبك الصالحى اللجمة التركمانى المعروف بالجاشنكير، كان من أكبر مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل بن السلطان الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، وكان من الأخصاء عند أستاذه الملك الصالح، وترقى حاله عنده إلى أن غلب على الديار المصرية بعد قتل الملك المعظم تورانشاه بن الملك الصالح، وصار أتابك العساكر بالديار المصريَّة، ثم استقرَّ في السلطنة في التاريخ الذى ذكرناه. الثانى، في سيرته: كان ديناً صيناً عفيفاً كريماً، شجاعاً، وهو الذى وقف المدرسة المعزية التي بمصر على شاطىء النيل، ومكث في الملك نحوا من سبع سنين. وقال بيبرس في تاريخه: كانت دولة المعز خمس سنين وأشهراً.

ذكر تولية الملك المنصور نور الدين

الثالث، في مقتله: قال ابن كثير: قتلته زوجته شجر الدرّ أم خليل التي كانت حظية أستاذة الملك الصالح، وكان سبب ذلك أنه كان قد تغيّر على شجر الدر بعد قتل الفارس أقطاى، وبلغها أن ارسل يخطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ليتزوجها، وأنه اتفق أنه قبض على جماعة من البحرية وهو على أُم البارد وأرسلهم إلى القلعة ليعتقلوا بها، وكان منهم شخص يسمى ايدكين الصالحى، فلما وصلوا تحت الشباك الذى تجلس فيه شجر الدر، قال بضع الطواشية: يا طواشى، خوند جالسةٌ في الشباك. قال: نعم، فخدم أيدكين المذكور برأسه ورفعها إلى الشباك، وقال لها بالتركى: المملوك أيدكين البشمقدار: والله يا خوند ما عملنا ذنباً يوجب مسكناً إلا أنه لما سيَّر يخطب بنت بدر الدين لؤلؤ ليتزوجها ما هان علينا لأجلك، فإنا نحن تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم فعاتبناه على ذلك، ما ترين؟ قال، قال: وأومأت بمنديل من الشباك، يعنى قد سمعت كلامك، فلما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين: إن كان حبسنا فقد قتلناه. فلما رجع المعز أيبك من لعب الأكرة ودخل الحمام، رتبت شجر الدر له في الحمام سنجر الجوجرى مملوك الطواشى محسن والخدام الذين كانت اتفقت معهم فقتلوه في الحمام، وأرسلت في تلك الساعة أصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبى الكبيرة، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فم يجسر على ذلك، وكان قتله يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. وفى تاريخ بيبرس: ولما بلغ شجر الدُرّ أن المعز أرسل يخطب لنفسه بنتى صاحب حماة وصاحب الموصل أخذتها الحرّة وملكتها الغيرة لما قصد من الاستبدال عنها والاعتزال منها. فحملها ذلك على قتله، ولما كان يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ربيع الأول، ركب إلى الميدان كعادته وعاد إلى القلعة من عشيته، فلما دخل الحمام أحاط به جماعةٌ من الخُدَّام، وأذاقوه كأس الحمام، وأشاعوا بكرة يوم الأربعاء أنه قد مات فُجاءة في جوف الليل، ودعوا بالثبور والويل، وأعولت النساءُ في الدور، وأردن التلبيس بهذه الأمور فلم تتم الحيلة على مماليكه لأنهم فارقوه بالعشى سليماً، وألفوه في الصابح عديماً، فعلموا أنه قد قتل غيلة. ذكر تولية الملك المنصور نور الدين على بن السلطان الملك المعز أيبك ولما ظهر الخبر بقتل المعز أراد مماليك المعزّ قتل شجر الدر، فجاءها المماليك الصالحية واتفقت الكلمة على إقامة نور الدين على بن المعزّ أيبك سلطاناً، ولقبوه الملك المنصور، وعمره يومئذ خمسة عشر سنة، ونقلت شجر الدر من دار السلطنة إلى البُرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز، وهرب سنجر الجوجرى، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين بن حنا لكونه وزير شجر الدر، وأخذ خطه بستين ألف دينار. وفى يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر منها: اتفقت مماليك المعز أيبك مثل: سيف الدين قطز وسنجر الغتمى، وبهادر، وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبى، وكان قد صار أتابك العساكر للملك المنصور نور الدين علىّ، ورتبُوا في أتابكيتَّه أقطاى المُستْعرِب الصالحىّ. وفي تاريخ بيبرس: استقر نور الدين على في السلطنة بعد موت أبيه، وكان جلوسه في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة، وعمره يومئذ حول عشر سنين، وكان يميل إلى اللهو واللعب لِصباه، وقام الأمير سيف الدين قطز المُعِزى بأتابكيته وتدبير دولته، وكان ذا بأس وشهامةَ، وحزم وصرامة، فأمسك الصاحب شرف الدين الفائزى وعزله عن الوزارة، واحتيط على أمواله، وأسبابه، وذخائره. وكان مثرياً من المال، وله ودائع كثيرة متفرقة، فتتبعت واستخرجت من أربابها وحملت، واعتقل ثم قتل. وسبب قتله أن والدة الملك المنصور هذا كانت مجفوة من زوجها الملك المعز، وكان قد اتخذ سرارى وصيَّرهن عند الوزير، فنقمت عليه، وسال أن يبذل عن نفسه مالاً فلم ترض إلا بقتله، واستوزر بعده الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير. ذكر وفاة السلطان علاء الدين كيقباذ الصغير بن السطلان كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباذ:

مات في هذه السنة بمدينة أرزنكان، وكان توجه إلى خدمة منكوقان ابن طلوخان بن جنكزخان من قونية قاصدا الأرد، وسار في خدمته الأمير سيف الدين طرنطاى، صاحب أماسية، وكان من أكابر أمراء الدولة، وحده، وكان يلقب بكلارباكى، يعنى أمير الأمراء، وشجاع الدين، ومحسن ملك السواحل، واستصحب معه الهدايا النفيسة، والجواهر الثمينة، والتحف الغريبة، والأقمشة شيئاً كثيراً. فلما توجَّه وأقام أخواه بقونية وهما: عز الدين كياوُس، وركن الدين قليج أرسلان، لم يلبثا إلا قليلاً حتى دبتْ بينهما عقاربُ السُعاة، وأفضى الحال بينهما إلى المعاداة، واختلفت الآراء، وشعبت الأهواء، وتقسمت خواطر الأمراء. وكان الصاحب يومئذ شمس الدين الطُغرائى، وكان يميل مع ركن الدين، وآل أمر الأخوين إلى أن اقتتلا، فانكسر ركن الدين قليج أرسلان، وانتصر عليه أخوه عز الدين كيكاوُس، وأخذه أسيراً، واعقتله عنده، واستقر بقونية، وحكم في المملكة، هذا وبيجُو ومن معه يجوسون خلال الديار. ولما حصل ركن الدين في الأَسرضاق بإلزامه الأمراء وهم: شمس الدين الطُغرائى، والأمير سيف الدين جاليش، وبهاء الدين أزْدكردى، ونور الدين الخزندار، ورشيد الدين صاحب ملطيَّة وهو أمير عارض، وفكرًّوا فيما يفعلون، فاتفقوا على أن يزوروا كُتُباً عن السلطان عز الدين إلى سيف الدين طُرُنْطاى ورفيقيه بأن يُسلّما إليهما السلطان علاء الدين وما معهما من الهدايا والخزانة، وليتوجَّه الصاحب بذكل إلى منكوقان وتعودا أنتما من الطريق. وساروا بهذه الكتب الموضوعة في إثر السلطان علاء الدين، فلحقوه وقدوصل هو ومَنْ معه إلى أردْوُ بايْطو، فدخلوا على بايطُو وقالوا له: إن السلطان عز الدين كان قد أرسل أخاه ليتوجَّه إلى القان، وأرسل معه هذين الذين هما طرنطاى ورفيقه، ثم اتضح له أنهما قد أضمرا السوءَ، وأن طرنطاى ضربته الصاعقةُ فيما مضى من الزمان فلا يصلح أن يدخل بين يدى القان، وأنَّ رفيقه شجاع الدين رئيسٌ طبيب ساحر، وقد أخذ صحبته شيئاً من السُمِّ القاتل يغتال به منكوقان، فأرسلنا نحن عوضاً منهما وأمرَّ بردّهِما. فلما سمع بايْطُو مقال الصاحب ورفقته ظنه حقاً، فأمر بإحضار طرنطاى ورفيقه، وأن يفتش ما صحبتهما من القماش والزاد وغيره، ليظهر السُمّ الذى معه، فكبست خيمة شجاع الدين الرئيس وحمل ما وجد، فكان من جملته برانى شراب وعقاقير الأدوية وشىء من المحمودة، فألزموه بالأكل من جميعها، فأكل حتى انتهوا إلى المحمودة أمروه أن يأكل منها فأبى، وقال: إن أكلت من هذه متُّ، فقالوا: هو السُمُّ الذى قيل فيه إنه معكما، وسألوا الأمير سيف الدين طرنطاى: ما هذا السُمُّ؟ ولما حملتماه؟ ومن الذى تقصدان أن تغتالا به وتقتلاه؟ فأجاب: بأنه لا علم له بأمره، وإنما يُسْأَل عنه من وجد معه، فرسم بايْطُو بأن يقرر شجاع الدين بالضرب ليلطلعُهم على الأمر، فقال لهم: اطلبوا الأطباء إلى ها هنا، وأَرُوهُم هذاالنوع واسألوهم عنه، فإن ذكروا أنه سُمٌ قاتل، فأنا خائن خاتل، وإن قالوا: إنه دواءٌ يتخذه الناس ويستعملونه لعلاج الأمراض، فهؤلاء القوم ذو أغراض. فأحضروا الأطباء وسألوهم عن المحمودة، فأجابوا بأنها دواءٌ يشرب للمنفعة، وتوجد عند كثير من الباعة وغيرهم، فتبين لهم أن الصاحب قد تقول عليه، ثم سألوا طرنطاى ما هى الصاعقة التي ضربته وفى أيّ وقت اصابته؟ فقال: الصاعقة لا حقيقة لها، والحالُ فيها كالحال في السُمّ، وإنما هؤلاء زوروا الكتب التى على أيديهم، وكتبوا ما أرادوا لأنفسهم، وأنا بينى وبين السلطان أمارة جعلها معى عند وداعه فأقول سراً، فإن قالها الصاحب ومَن معه فهم صادقون، وإن لم يعرفوها فهم ماذقون، وأسرَّ إليه الأمارَةَ، فسال الصاحب ورفقته عنها فلم يعرفوها، فقال بايْطُو لطرنطاي: أنتم جميعاً متوجهون إلى القان، وهو يفعل ما يراه. وهؤلاءِ حضروا من مسافة بعيدة فاختارو إما أن يتسلَّموا السلطان وتبقى الخزائن معكم، أو تسلّموا إليهم الخزائن ويبقى السلطان معكم، فأجمع رأى الأمير سيف الدين طرنطان على أن تكون الخزائن معه ومع رفيقه، وأن يتسلَّم السطلان علاء الدين الصاحبُ شمس الدين الطغرائىُّ ورفيقه، فتسلَّماه. وسار طرنطاى ورفيقه قبلهما، وسار الصاحبُ والسلطان معه بعده، فمرض السطلان علاء الدين في اثناء الطريق ومات.

فاتفق الصاحب وجاليش أن يسيرا إلى طرنطاى ورفيقه يعرفانهما أن السلطان ضعيف، فإذا حضرا ليُبْصِرَاه يقتلونهما، وبلغ سيف الدين طرنطاى موت السلطان، فأرسل فراشاً ليكشف له أمره وأوصاه بأن يفتش آثارهم بالمنزلة التى رحلوا منها، فمهما أصاب من ورقة ممزقةٍ أو غيرها يحضرها إليه ليستدل منها على شىء من أحوالهم. فوجد الفراش رقعة ممزقةٌ كان جاليش قد كتبها إلى الصاحب بما اتفقا عليه عند موت السلطان، فأحضرها الفراش إلى سيف الدين طرنطاى، فاحتفظ بها، وعلم منها ما كانا عزما عليه من المكيدة وسار هو ورفيقه حتى إذا صارا من الأرْدُو على مسافة ثلاثة أيام نزلاً في إنتظار الصاحب ومَن معه معتقدين أنهم جاءُون وراءَهم، وكانوا قد توجَّهوا من طريق أخرى إلى منكوقان، فلما وصلوا إليه وأعلموه بأنَّ لهم رفقة لم يصلوا بعدُ أنكر منكوقان عليهم، وأمرَ بأن يربطوا ويقاموا في الشمس إلى حين وصول رفقتهم، فأرسل الصاحب يخبر طرنطاى بأمره، ويسأله سرعة القدوم ليفكَّ من أسره، فقدم طرنطاى. وجلس لهم منكوقان مجلسا عاماً، وأحضرهم بين يديه، ووقف التراجَمةُ يعبرون لهم وعنهم، فأمر بأن يجلسوا في مراتبهم كما يجلسون في بلادهم، فتنافسوا في الجلوس، وقصد كلٌ من التقدم على الآخر، ثم سألهم عن وظائفهم، فصار كل يدعى أنه الأكبر فلما انتهى إلى طرنطاى ذكر أن وظيفته الأتابكيَّة وتقدمة الجيش، فأمر أن يجلس فوق جميعهم، فأبى، وضرب جوك الخدمة وقال: أنا بمرسوم القان أجسُ في المنزلة التى كنت أجلسُ فيها في بلادنا، فأعجب منكوقان قوله وقال: هذا قد تبين لنا صدقه وعقله، وسأله عن أمر السلطان علاء الدين وكيف كان موته؟ فقال: منذ سلمه المملوك إلى الصاحب ورفقته، وتقدمناهم في المسير لم نعرف له خبراً، فالقانُ يسأل من كان معه عن أمره، فعطف إلى الصاحب وسأله عنه، فقال له إن طرنطاى قتله وزوجة السلطان تشهد بذلك، ولم يكن مع السلطان زوجة، وإنما كان سيف الدين طرنطاى قد اشترى للسلطان جارية تخدمه في الطريق وعهدَتها معه، وكان الصاحبُ قد أوصاها أن تقول: إنها زوجته وتوافقه على ما رتبه، فاستدعاها القانُ وسألها كيف كان موت السلطان؟ فاستصرخت واستغاثت، وادعت أن طرنطاى ورفيقه هما اللذان قتلاه، فأحضر طرنطاى عهدة الجارية، وعرف القان كذبها في زعمها أنها زوجة السلطان، وأحضر الورقة الممزقة التي أحضرها إليه الفراش، وهي من جهة جاليش إلى الصاحب بما تآمرا عليه، فتحقق منكوقان غرض الصاحب ونقله الكاذب، فأخره ودحره، وقدَّم طرنطاى وأكرمه، وقبل التقدمة، وسمع الرسالة، وكان مضمونها إن السلطان عز الدين كيكاوس كبير الأخوة وأولاهم بالمملكة، وسأَل أن يُسيِّر إليه القان يرليغ بتقليده، ويمنع التتار من الغارات على بلاده والتعرض إلى رعيته، فأجاب منكنوقان إلى ذلك وأعطاه بايزة ذهب سار سقر منقوشاً فيها التقليدُ والتفويض إلى السلطان عز الدين، وخلع على طرنطاى ورفقته، وأنعم عليهم بالشاشات الذهب، وعلى حاشيتهم بالشاشات الفضة. ومن الغد ورد عليه من جهة أخيه قبلاى وكان قد جرده إلى بلاد الخطا خبرٌ أزعجهُ وكلام أحفظه، فعزم على المسير إليهم، وتجهز للغارة عليهم.

ذكر ما اشتملت عليه المملكة الرومية من البلاد الإسلامية

ثم اتفق وصول خبر آخر سائقاً على البريد من عند بيجُوا من ناحية الروم يقول: إنا كنا عابرين إلى الروم، فلما وصلنا إلى مكان يسمى ماخان لقينا جيشهم صحبة أمير منهم يُسمى صارم كمنانوس، وقاتَلنا ومنعنا العبور، وقطع القنطرة التي نجوز عليها، فاستشاط منكوقان غضباً وأحضر طرنطاى وقال له: ألستم تقولون إنكم حضرتم من عند مخدومكم في طلب الصلحّ!! فلماذا يسير الجيش لقتال عساكرنا؟ فقال له: أنا لى مدة متطاولة منذ خرجت من عند مخدومى، ولم يرد علىَّ منه كتاب، ولا صدر إليه منى جواب، ولا يعلم هل نحن أحياء أم أمواتٌ، غير أننى إذا وصلت إليه باليُرليغ من عند القان دخل تحت طاعته، وحمل إليه ما تقرَّر من إتاوته، فتقدم الصاحب شمس الدين الطغرائى ورفقته وسألوا القان أن يعطى السلطنة للسلطان ركن الدين قليج أرسلان دون أخيه، وضمنوا عنه حمل الإثاوة وبذل الطاعة، فقال منكوقان: بل تكون المملكة مشتركة بينهما، والبلاد مقسومة لكل منهما، وقسم البلاد مناصفة، فصيَّر من نهر سيواس إلى حدٍ بلاد الأشكرى لعزّ الدين كيكاوس، ومن سيواس إلى تخوم أرزن الروم من الجهة الشرقية المتصلة ببلاد التتار لركن الدين قليج أرسلان أخيه، وعاد الصاحبُ شمس الدين وسيف الدين طرنطاى ورفقتهما من عنده، لم يصلوا إلى الروم حتى دخلها التتار وفعلوا فيها ما سنذكره إن شاء الله في سنة سبع وخمسين وستمائة، وأحضروا معهم جسد السلطان علاء الدين كيقباذ مصبرا، فدفنوه بارزنكان) رحمه الله (. ذكر ما اشتملت عليه المملكة الروميّة من البلاد الإسلامية بلاد خلاط وأعمالها: وتسمى الأرمينية الكبرى وكل من تملكها يسمى شاه أرمن، ومن مُدنها: خلاط وآن، وسطان، وأرجيش وما معها. أرزن الروم وأعمالها، ومن مدنها: سَبْهر، وبايرت، وقجماز، وسمى دار الجلال مدينة التى وأعمالها، وهى متصلة ببلاد الكرج وتخومها، وهى ذات قلعة حصينة منيعة. بلاد أرزنجان وأعمالها: ومن مدنها آقشهر، ودرجان وكماخْ، وقلعة كغونية وما مع ذلك. ديار بكر وأعمالها: ومن مدنها المشهورة خِرتِ برتِ، وملطيَّة، وشميسات ومشار وغيرها. سيواس وبلاد دانشمند: وتسمّى دارالعلاء، ومن مدنها نِكيسار، وأماسية، وتوقات، وقمينات. وبلاد كنكر ومدينة أنكورية ومدينةَ سامْسُون وقلعة سِنوب وكستمونية وطرخلووبرلوُ، وهذه متصلة بسواحل البحر المحيط. وقيسارية وأعمالها: ونكده، وعراقلية، وبلاد أرمناك وبها ابن منتشى. مدينة قونية وأعمالها. وطنغرُلوا وأعمالها. وقرا حصار ودمَرْ لو وأَقْصرا وأَنْطالِيُا والعلايا. ذكر دخول التتار بلاد الروم ثالث مرّة وفي هذه السنة، دخل بيجو مع التتار إلى بلاد الروم ثالث مرة، وشنّ الغارات عليها، وسبى هو ومن معه من عساكر التتار وغنموا، فكانت هذه الغارة أعظم نكاية من الغارات المتقدّمة. وحكى أن الباعث لبيجوُ عليها بيجار الرومى، وذلك أنه حصل يوماً في جملة الناس إلى دار السلطان علاء الدين كيقباذ وقت بسط الخوان، فقصد الدخول إلى السلطان مع الأعيان، فضربه أحد البردَدَاريَّة بعصاة على رأسه ليمنعه عن الدخول، فأرمى طرطوره عن رأسه، فأغضبه ذلك، وقال: أنتم رميتم طرطورى على هذا الباب، فلا بدّ أن أمرى عوضه رُؤوساً كثيرة وعدّة طراطير، وخرج من فوره وتوجَّه إلى بُيجو مخامراً، وأطعمه في بلاد الروم والإغارة عليها، وهذا بيجار لم يكن له بين العساكر الروميَّة ذكر ولا مريَّة، ولكن قال الشاعر: لا تحرقنّ عدّوّاً رماك وإنْ ... كان في ساعديه قِصَرْ فإن السيوف تحزُّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإِبر فلما آل امرُ بلاد الروم إلى الفساد، عزم أولاد السلطان غياث الدين كيخسروا على توجه أحدهم إلى منكوقان ببذل الطاعة وإلتماس الأمان والفرَمان فتوَّجه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو من قونية قاصدا الأردُ وإلى منكوقان بن طولوخان بن جنكزخان، وقد ذكرنا قضيته مفصلةً عن قريب.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

ثم إن بيجو وخُجَانُوين ومَنْ معهما من التتار عادوا إلى بلاد الروم، وكان السلطان عز الدين كيكاوس قد استقرَّ بمفردَه في المملكة، وأخوه ركن الدين قليج أرسلان كان في سجنه كما ذكرنا، وأخوه الآخر علاء الدين كيقباذ قد مات، كما ذكرنا، فلما بلغه عودُ التتار إلى بلاده جَّهز جيشَه على عزم الجهاد، وقدَّم عليهم أميراً من كبار أمرائه يسمى أرسلان دُغمش، فتوجَّه المذكور بالعساكر الروميَّه، وكان بيجُو نازلا على صحراء قونية، فلماكان بعد توجه أرسلان دغمش بأيام شرب السلطان عزّ الدين مُسْكراً وتوجَّه إلى بيت أرسلان دغمش وهو سكران وقصد كبس حريمه والهجوم عليهم، فأرسلوا يخبرونه بذلك، فاغتاظ وقال: أنا في خدمته قبالة عدوّه وعدو الإسلام وهو يعاملنى بهذه المعاملة ويهجم على حريمى. فأزمع الخلاف والمخامرة وأرسل إلى بيجوُ، ووعده أنه يتخاذل عند اللقاء، وينحاز إليه ويكون مساعداً له لا عليه. فلما التقوا عمد أرسلان دغمش إلى سناجق صاحبه، فكسرها وولى هزيماً، فانهزم عسكر الروم، واستظهر بيجوُ ومن معه، وتوجَّه أرسلان دغمش إليه، فسلم عليه وحضر معه إلى قونية. وبلغ السلطان السكرة، فهرب من قونية إلى العلايا وأقام بها، وأغلق أهل قونية أبواب المدينة. فلما كان يوم الجمعة أخذ الخطيب ما يملكه من ماله وحلى نسائه، وأحضره معه إلى الجامع وارتقى المنبر فنادى في الناس قائلاً: يا معشر المسلمين نحن قد ابتلينا بهذا العدو الذى دهمنا ومالنا فيه من يعصمنا، فابذلوا أموالكم واشتروا نفوسكم بنفائسكم، واسمحوا بما عندكم لنجمع من بيننا شيئاً نفدى به نفوسنا وحريمنا وأولادنا، ثم بكى، وبكى الناس، وسمح كل أحد بما أمكنه، فجهز الخطيب المذكور الإقامات، وخرج إلى مخيم بيجُو فلم يصادفه لأنه كان راكباً في الصيد، وقدم ما كان معه إلى الخاتون زوجته فقبلته منه، وأقبلت عليه وأكلت من المأكول، وقدم المشروب وأخذ منه شيئاً على سبيل الششنى، فناوله شاباً إلى جانبه ليذوقه، فقالت له: لماذا لا تشرب أنت منه؟ فقال: هذا محرَّم علينا. قالت: من حرمه؟ قال: الله تعالى حرمه في كتابه العزيز. قالت: فكيف لم يحرمه علينا؟ قال: أنتم كفَّارُ ونحن مسلمون. فقالت له: أنتم خير عند الله أم نحن؟ قال: بل نحن، قالت: فإذا كنتم خيراً منا عنده فكيف نصِرنا عليكم؟ فقال: هذا الثوب الذي عليك، وكان ثوباً نفساً مرصعاً دراً ثمنياً، أنت تعطينه لمن يكون خاصاً بك أو لمن يكون بعيداً عنك. قالت: بل أخصُ به من يختصُ بى. قال: فإذا أضاعه وفرَّط فيه ودنَّسه ما كنت تصنعين به؟ قالت: كنتُ أنكّلُ به وأقتله. فقال لها: دين الإسلام بمثابة هذا الجوهر والله أكرمنا به فما رعيناه حق رعايته، فغضب علينا وضربنا بسيوفكم واقتص منا بأديكم، فبكت زوجة بيجوُ فقالت للخطيب: من الآن تكون أنت أبي وأنا أكون بنتك. فقال: ما يمكن هذا حتى تُسلمى، فأسلمت على يده، وأجلسته إلى جانبها على السرير، فحضر بيجُو من الصيد، فهمَّ الخطيب بالقيام ليلتقيه فمنعته المرأة وقالت: أنت قد صرت حموه وهو يريد يجىء إليك ويخدمك. فلما دخل بيجو إلى خيمته قالت له: هذا قد صار أبى، فجلس بيجُو دونه وأكرمه، وقال لزوجته: أنا عاهدتُ الله أننى إذا أخذت قونية وهبتها لك. قالت: وأنا وهبتها لأبى هذا، ثم أمر بفتح أبواب المدينة وآمنَ أهلها، ورتَّبَ على كل باب شحنة لحفظهم من التتار، ورسم أن لايدخلوها إذا كانت لهم حاجة إلا خمسين نفساً، خمسين نفساً، لقضاءِ حوائجهم، ثم يخرجون، فلم يتعرضوا لأحد من أهلها بأذيَّة، فكان ذلك من ألطاف الله الخفية. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أنه حصلت وحشة بين البحريَّة الصالحيَّة وبين الملك الناصر يوسف، فخافوه وخافهم على نفسه، ففارقوه وخرجوا من دمشق. وقال المؤيد: وفي هذه السنة نُقل إلى الناصر يوسف أن البحرية يريدون أن يفتكوا به، فاستوحش خاطره منهم وتقدَّم إليهم بالانتزاح عن دمشق، فساروا إلى غزة.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

وقال بيبرس: خرجوا ووصلوا نابلس، واتفقوا على التوجه إلى الملك المغيث بالكرك، فتوجهوا إليه وهم: الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، والأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، وغيرهم، فأكرمهم الملك المغيث وقبلهم وبرَّهم ووصلهم، وإلتمسوا منه المساعدة على قصد الديار المصرية وإمدادهم بعسكر لتصير لهم يدٌ قويةٌ، فسير معهم عسكره حسبما سألوهُ، فساروا في نحو ألف فارس، وبلغ الخبر الأمير سيف الدين قطز والأمراء المصريين، فجردوا عسكرا إلى الصالحية. وقال المؤيد: إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة، منهم الأمير عز الدين الأفرم، فأكرموه وأفرجوا عن أملاكه. فلما كان ليلة السبت الخامس والعشرين من ذي القعدة أقبلوا اليهم واتفقوا معهم، فانسكر البحرية ومن معهم من العسكر الكركى، وأُسِرَ الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، وقتل الأمير سيف الدين بُلغان الأشرفى، وانهزم الباقون، وعادوا إلى الكرك وهم خائبون. قال المؤيد: انهزم عسكر المغيث والبحريَّة وفيهم بيبرس البندقدارى الذى تسلطن بعد ذلك. ولما حصل الأمير سيف الدين قلاون في الأسر ضمنه الأمير شرف الدين قيران المعزى، وهو يؤمذ أستادار السلطنة، فلم يعرض أحد إليه، وأقام بالقاهرة مدة يسيرة، ثم تسحب واختفى بالحُسيَنية عند شمس الدين قطليجا الرومى، وقصد اللحاق بخوشداشيته، فزوده وجهزه وسار إلى الكرك. وحسَّن البحرية للمغيث قصد الديار المصرية وأطمعوه فيها. وكاتبه بعض أمرائها ووعدوه بانحيازهم إليه متى حضر بنفسه إليها، فقصدها في سنة ست وخمسين وستمائة. ومنها: أنه وصل من الخليفة المستعصم بالله الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام كما وعده. ومنها: أنه كانت فتنةٌ عظيمة ببغداد بين الرافضة وبين أهل السنة، فنهبت الكرخُ ودورُ الرافضة حتى دور قرابات الويزر ابن العلقمى، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتار. ومنها: أنه دخل الفقراء الحيدريَّة الشام، ومن شعارهم لبس الفراجى والطراطير، ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنَّة، تركوها لمبايعة شيخهم حيدر حين أسرهَ الملاحدة، فقصوا لحيته وتركوا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وليس لهم فيه قدوة، وقد بُنيت زاوية بظاهر دمشق قريباً من العونية. ومنها: أنه ولى القضاء بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف العلائى المعروف بابن بنت الأعز، عوضاًعن القاضى بدر الدين السنجارى، رحمه الله. وفيها:) (. وفيها: حج بالناس) . (. ذكر من توفى فيها من الأعيان الإمام الزاهد الشيخ تقى الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلدانى، توفى بقريته في ثامن ربيع الأول ودفن بها. وكان شيخا صالحاً، مسنداً مشتغلاً بالحيدث سماعاً وكتابةً وإسماعاً إلى أن توفى، وله نحو من مائة سنة. قال أبو شامة: أخبرنى أنه كان مراهقاً في سنة تسع وستين وخمسمائة حين طهرَّ نور الدين بن زنكى رحمه الله ولده، وأنه حضر الطهور، وأخبرنى أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال له يا رسول الله: بالله ما أنا رجل جَيّد. فقال: بلى، أنت رجل جيد. الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسى. كان شيخا فاضلاً مفنناً، محقق البحث، كثير الحج، له مكانة عند الأكابر، وقد اقتنى كتباً كثيرةً، وكان أكثر مقامه بالحجاز ومصر والشام، وحيث حلّ عظّمه رُؤساءُ تلك البلدة، وكان مقصداً في أموره، وكانت وفاته بالزعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الأول من هذه السنة، ودفن فيها. البادرائى الشيخ نجم الدين عبد الله أبو محمد بن أبي الوفا بن الحسن بن عبد الله بن عثمان بن أبي الحسن بن حَسْنُون البغدادى البادرائى الشافعى، مدرس النظاميّة ببغداد، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمّة، وإصلاح الأحوال المدلهمّة. وقد كان فاضلاً بارعاً، رئيساً متواضعاً، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة، وشرط على المقيم بها العُزْبَة؛ ولكن حصل بسبب ذلك خلل كثير، وشرٌّ لبعضهم كبير.

وقال ابن كثير: وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافعية وغيرهم برُهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزارى مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الملك الناصر يوسف بن العزيز قرىء كتاب الوقف وفيه: ولا تدخلها إمرأة، فقال السلطان: ولا صبىٌّ. فقال الواقف: يا مولانا ربنا ما يضرب بعصاتين، فإذا ذكر هذه الحكاية تبسّم عندها، وكان هو أول من درَّس بها، ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سُوَيْد، ثم صار في ذريته إلى الآن. وقد أوقف البادرائى على هذه المدرسة أوقافا حسنةً دارَّة، وجعل بها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة، وتولّى بها قضاء القضاة كرها منه، فأقام فيه سبعة عشر يوماً، ثم توفى إلى رحمة الله في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، ودفن بالشونيزية. المشِدُّ الشاعر الأمير سيف الدين على بن عمر بن قزل، مشدُّ الدواوين بدمشق. كان شاعراً مطبقاً، وله ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته، فسأله عن حاله فأنشده: نُقِلتُ إلى رْمِس القبور وضيقها ... وخوفى ذنوبى أنها بى تُعْثَرُ وصادفت رحمانا رءُوفاً وأنُعماً ... حبانى بها لِما كنت أحذَرُ ومن كان حُسْنُ الظن في حال مَوته ... جميلاً بعفوِ الله فالعفْوُ أجْدَرُ بشارة بن عبد الله الأرمنى الأصل، بدر الدين الكاتب، مولى شبل الدولة المعظمى. سمع الكندى وغيره، وكان يكتب خطّاً جيداً، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه، وجعله في ذريته، فهؤلاء ينظرون في الشبليتين. وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة. القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضى القضاة جمال الدين المصري. ناب عن أبيه، ودرس بالشامية، وله شعر، فمنه قوله: صيرّتُ فمي لفيه باللثم غدا ... عمداً ورشفت من ثناياه مدام فازورَّ وقال أنت في الفقه إمامٌ ... ريقى خمرٌ وعندك الخمر حَرَامُ الشيخ الأسعد هبة الله بن صاعد بن شرف الدين الفائزي، حرم الشيخ قديماً للملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانياً فأسلم، وكان كثير البرّ والصدقات والصلات. استوزره الملك المعزّ، وكان حظياً عنده جدّاً لا يفعل شيئاً إلا بمراجعته ومشاورته. وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، وقبله القاضي بدر الدين السنجارى، ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الأسعد المسلمانى، وقد كان المعزُّ يكاتبه بالمملوك، ثم لما قتل المعز أهين الأسعد حتى صار شقيا، وأخذ الأمير سيف الدين قطز خطة بمائة ألف دينار، وقد هجاه بعضهم: لعن الله صاعداً ... وأباه فصاعداً وبنيه فنازلاً ... واحداً ثم واحداً ثم قتل بعد ذلك كله ودفن في القرافة. ابن أبي الحديد الشاعر العراقي عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد ابن الحسين، أبو حامد بن أبي الحديد، عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطيق الشيعي الغالي. له شرح نهج البلاغة في عشرين مجلداً. ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد، وكان أحد الكتاب والشعراء للديوان الخليفتى، وكان حظيّاً عند الوزير ابن العلقمى لما بينهما من المناسبة والمهاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة، وكان أكثر فضيلةً وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين أحمد بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة. الشريف الأديب أبو الحسن على بن محمد الموسوي، المعروف بابن دفتر خوان، له شعر حسن، ومصنفات كثيرة، توفي في هذه السنة. الشيخ أبو جعفر بن الشيخ شهاب الدين أبي عبد الله عمر السهروردي الصوفي، مات ببغداد في هذه السنة. شَجَرُ الدرُ بنت عبد الله أم خليل التركية.

السنة السادسة والخمسين بعد الستمائة

كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل ابن العادل أيوب، وكان له ولد منها يسمى خليل، كان من أحسن الصور، مات صغيراً، وكانت تكون في خدمة الملك الصالح لا تفارقه حضراً وسفراً من شدَّة محبته لها، وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها الملك المعظم توران شاه، فكان يخطب لها ويضرب السكة باسمها، وعلَّمت على المناشير مدّة ثلاثة أشهر كما ذكرنا، ثم تملك الملك المعز أيبك، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج ابنة صاحب الموصل كما ذكرناه، فعملت عليه حتى قتلته كما تقدَّم، فتمالى عليها مماليك المعزّ فقتلوها وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام، ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر الست نفيسة. وفي تاريخ النويرى: وفي سادس عشر ربيع الآخر من هذه السنة قتلت شجر الدر وألقيت خارج البرج الأحمر وحملت إلى تربة كانت قدم عملتها فدفنت بها. وكانت تركية الجنس، وقيل: كانت أرمنية الجنس، وكانت مع الملك الصالح في الإعتقال بالكرك. وفي تاريخ ابن كثير: وكانت قوية النفس، ولما علمت أنها قد أحيط بها أتلفت شيئاً كثيراً من الجوهر واللآلى كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها. وقال: لما سمع مماليك المعزّ بقتله أقبلوا صحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلةٍ غير مستورة العورة بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وفيها فتنٌ ومصائب، وأعظمُها قتل الخليفة المستعصم بالله، وانقراض الخلافة العباسية من بغداد، واستيلاء هلاون على بغداد، وفساد التتار في البلاد، ووقوع الحرب بني بنى أيوب وبين المماليك البحرية، وبين الشامية والمصرية، على ما نذكره مفصلاً. ذكر أخذ هلاون بن طلوخان بن جنكزخان مدينة بغداد وقتله الخليفة المستعصم بالله: وفي أول هذه السنة قصد هلاون بعساكر التتار بغداد، وسار إليها فنازلها، وكان معه من المقدمين الأكابر: كوكك نُوين، وألكان نُوين، وكتبغا نُوين، وقد غان نُوين، وهلاجو نوين، ومركديه نوين، وصغون حاق، ومن الملوك داود ملك الكرج بجيشه، وأرسل إلى بيجو يستدعيه ليشهد هو ومن معه المحاصرة ويستكثرهم في المحاصرة، فلما وصل إليه الرسول أزمع التأخير واستشار الأمراء الذين معه في ذلك، وهم: أرسلان جوبان وصرمون نوين، وانكراث، فأبوا إلا التوجه إلى هلاون، فاضطره الأمر إلى المسير إليه، إلا أنه أرسل يخبر هلاون بأن جمعاً كثيراً من القراسلية والأكراد والياروقية قد جمعوا لهم في الطرقات، ومقدمهم شرف الدين بن بلاش، وأنهم أخذوا عليهم المضيق، وسدُّوا دونهم الطريق، ولا سبيل لهم إلى الخروج من حدود ديار بكر، وقصد بيجوُ بذلك المدافعة؛ إذ لم يجّد سبيلا إلى الممانعة، فجهز هلاون تومانين من التوامين الذى صحبته، أحدهما: مقدمه قدغان، والآخر كتبغانوين ليفتحا الطرقات لهم، ويزيحا عنها الأكراد وغيرهم، وفي أثناء ذلك أتقع الأكراد والقراسل وقعة عظيمةً، وجفل منهم أهل أرزنجان، وتحصنوا بجبل أُرزن سور، فلما وصل التتار إلى أرزنجان تسلموها، وحاصروا كماخ، وكسروا الأكراد، وسبوا منهم وقتلوا، وأقام قدغان وكتبغا حتى وصل إليهم بيجوا وخجانوين ومن معهما، وتوجهوا جميعاً إلى هلاون، فنزل بيجوُ ومن معه بالجانب الغربى من بغداد، وهلاون ومن معه بالجانب الشرقي، وحاصروا بغداد أشدَّ الحصار. ولما أحاطوا بها، وخيموا حولها، خرج إليهم عسكرها بعدد وعدده، وحشده ومدده، صحبة مجاهد الدين أيبك الدوادار الصغير، وكان له شأن عظيم، وقدر جسيم، وكان مقدماً على عشرة آلاف فارس، فندبه الخليقة لقتال التتار، وكان في مقدمتهم صغون حاق بتمانه، فلما التقى المسلمون معهم كانت الكسرة على التتار، فولوا الأدباء، وتبعهم الدوادار، سحابة ذلك النهار، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً. وحجز بينهم الليل، فكفّت المسلمون الذين مُعتقدين أنهم قد استظهروا، ولأعدائهم قهروا، فلما أصبحوا لم يشعروا إلا وقد تراجع التتار إليهم، وحملوا عليهم، فكسروهم وهزموهم، لأن أكثرهم كان قد تسّلل في الليل إلى المدينة موقناً بالنصرة.

فلما تمت هذه الكسرة، ولى المنهزمون ليرجعوا إلى بغداد، فحال بينهم وبينها بثق انبثق في تلك الليلة، وساحت منه مياه دجلة، وشملت الطرق والمسالك، وأدركت العسكر، فأغرقت بعضهم هنالك. وقتل التتار مجاهد الدين أيبك الدوادار وولده أسد الدين، وكان مقدّماً على خمسة آلاف فارس، وسليمان بن برجم أمير علم الخليفة، وجماعة من الأمراء البغاددة، وأعيان العسكر، وأسروا خلقاً. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم حملوا رؤءسهم إلى الموصل، ونصبوها على باب المدينة ترهيباً لصاحبها، وتخويفاً لأهلها. وارتاع الخليفة أشد ارتياع، وأخذت أسبابه في الانقطاع، وأصبح لا يدرى، وإن كان حازماً أقدامه خير أم وراءه، وأغلقت أبواب مدينة بغداد، فأحاط بها التتار وضايقوها بالحصار، فافتتحوها عنوة، ودخلوها غدوة في العشرين من محرم هذه السنة، فبذلوا في أهلها المناصل، وأوردوهم من حياض الموت أمرّ المناهل، وأكثروا الأيامى واليتامة والأرامل، ولم يرحموا شيخا كبيراً، ولا طفلاً صغيراً. وفي تاريخ النويرى: وكان سبب ذلك أو وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمى كان رافضياً، وكان أهل الكرخ روافض فجرت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد على جارى عادتهم في السنة الماضية، فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العساكر، فنهبوا الكرخ، وهتكوا النساء، وركبوا فيهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمى، وكاتب التتار وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر بغداد مبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتار متحصل إقطاعاتهم، وبقى عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمى إلى التتار أخاه يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد فجرى ما جرى. وقال ابن كثير في تاريخه: وأحاطت التتار بدار الخلافة، يرشقونها النشاب من كل جانب، حتى أصيب جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة الحظايا، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءَها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهى ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنقاذ قضائه وقدره سلب ذوى العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة، وكان قدم هلاون بجنوده كلها، وكانوا نحوا من مائتي ألف مقاتل في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان ما تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه، وهو أن هلاون لما كان أول بروزه من همدان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمى على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يُريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دواداره أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليهم من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيءٍ يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا، فاحتقره هلاون، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دواداره المذكور وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالى به حتى أزف قدومه، ووصل إلى بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة، فجرى ما جرى. ؟ ذكر خروج الخليفة إلى هلاون وقتله: ولما غلب التتار على بغداد، كان أول من برز إلى هلاون الوزير مُؤيّد الدين بن العلقمى، فخرج في أهله وأصحابه، فاجتمع بهلاون، ثم عاد، فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بني يديه، لتقع المصالحة، على أن يكون نصف الخراج من أرض العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء الصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، ولما اقتربوا من منزل هلاون حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء، وأنزل الباقون عن مراكيبهم فنهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هلاون، فسأله عن أشياء كثيرة، وقيل: أنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجا نصير الدين الطوسي والوزير مؤيد الدين بن العلقمى وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلى والمصاغ والجوهر والأشياء النفيسة.

وقد أشار أولئك الملاعين الرافضة وغيرهم من المنافقين على هلاون أنّ لا يُصالح الخليفة. وقال الوزير: ولو وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعودُ الأمر على ما كان عليه قبل ذلك، وحسّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى هلاون أمر بقتله. ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير بن العلقمى ونصير الدين الطُوسىّ، وكان النصير عند هلاون حظياً قد استصحبه في خدمته لما فتح قلعة الموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزير شمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينتسبون إلى نزار بن المستنصر العُبَيْدى، وانتخب هلاون النصير يكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هلاون تهيب قتل الخليفة، فهوّنّ عليه قتلَه الوزير والنصير، فقتلوه رَفْسَا وهو في جولق لئلا يقع على الأرض شيءٌ من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم. وقيل: بل خُنِق. وقيل: بل غُرِق. وفي تاريخ النويرى: خرج الوزير ابن العلقمى فتوثق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة وقال: إن السلطان هلاونُ يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن إليه الخروج إليه، فخرج الخليفة في جمع من الأكابر من أصحابه، فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد ومدرسُوها، وكان فيهم الشيخ محي الدين بن الجوزى وأولاده، وجعل الوزير يخرج إلى التتار طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا قتلهم التتار عن آخرهم، ثم مدّوا الجسْرَ، وعدى بيجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد وهجموا دار الخلافة، وقتلوا كلّ من فيها من الأشراف، ولم يسلم منهم إلا مَن كان صغيراً فأخذ أسيراً، ودام القتل والنهبُ في بغداد أربعين يوماً حتى صار الدم في الأزقة كأكباد الإبل، ثم نودىَ بالأمان. وفي تاريخ ابن كثير: ولما قتلوا هؤلاء السادات مالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدورا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ ويكمنون فيها ولا يظهرون، وكان جمع من الناس يجتمعون في الحانات ويغلقون عليهم الأبواب فيفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالى المكان، فيقتلونهم على الأسطحة حتى تجرى الميازيب من الدماء في الأزقة، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن إلتجأ إليهم، والى دار الوزير محمد بن العلقمى الرافضي، عليه ما يستحق. وعادت بغداد، بعد ما كانت أنس المدن كلها، كأنها خراب، ليس فيها أحد إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوع ولإلَّةٍ وقلةٍ. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين فقيل: ثمانمائة ألف نفس، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفى ألف نفس، وقتل مع الخليفة ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وله ثلاث وعشرون سنة، وأَسِر ولده الأصغر مبارك، وأَسِرت إخوته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأَسِر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، والله أعلم. وقتل استادر الخليفة الشيخ الفاضل محيى الدين بن يوسف الشيخ أبي الفرج ابن الجوزى وكان عدوّ الوزير بن العلقمى، وقتل أولاده الثلاثة عبد الرحمن وعبد الله وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد، منهم: الدوادار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بنى العباس، فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.

وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين على بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجُمعَات مدة شهور ببغداد، وأمر الوزير بن العلقمى بأن تعطل المساجد والجوامع والمدارس والربط ببغداد ويستمر بمحال الروافض، وأن يبنى للرافضة مدرسة هائلة، ينشرون فيها علمهم، فلم يقدره الله عز وجل على ذلك؛ بل أزال نعمته عنه، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، واتبعه ولده فاجتمعا والله أعلم في الدرك الأسفل من النار. ولما انقضى أمد المدّة المقدّرة، وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت البلد من جيفهِم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الفناء والوباء الشديد، حتى سرى وتعدى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقنى والمغاير كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من القبور، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سلف من القتلى. وكان رحيل هلاون عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكه، وفوّض أمر بغداد إلى الأمير على بهادر، فوَّض إليه الشحنكية بها إلى الوزير مؤيد الدين ابن العلقمى، فلم يُمهله الله تعالى حتى أخذه عزيز مُقتدر في مستهل جمادى الآخرة، كما سنذكره في الوفيات إن شاء الله، فولى بعده الوزارة ولده عزّ الدين أبو الفضل، فألحقه الله بأبيه في بقّية هذا العام. ويقال: إن هلاون عزم على إحراق مدينة بغداد لما أراد الرحيل عنها، فقال له كتبغا نُوين إنّ هذه المدينة أمّ المدن ومقصد التجار، فإذا أبقاها الملك حصل له منها مال جزيل، فأبقاها وشحَّن عليها، وسار عنها إلى الفرات. وفي تاريخ بيبرس: ثم سار هلاون عن بغداد بعد انقضاء الشتاء إلى الشام، وجرد جيشاً إلى ميافارقين صحبة صرطق نوين وقطغان نوين، وكان بها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادى، فحاصروها ونصبوا عليها المنجنيقات من كل ناحيةٍ، فقاتلت أهلها وامتنعوا عن تسليمها، وصبروا أنفسهم على الحصار الشديد والجوع المبيد، حتى أكلوا الميتات والدزواب والسنانير والكلاب، وطال عليهم الأمد، وقلت منهم القوة والجلد، فاستولى التتار على المدينة وفتحوها، وكانت مدة مقامهم على حصارها سنتين، فقتلوا وسبوا من أهلها خلقا كثيراً، وفنى الجُند من كثرة القتال، واشتداد النزال وأُسِرَ من بقى منهم، وأخذ صاحبها ناصر الدين الملك الكامل وتسعة نفر من مماليكه وأحضروا بين يدي هلاون، فقتلوا إلا مملوكاً واحداً اسمه قرا سنقر، أبقاه هلاون، وذلك أنه سألهم عن وظائفهم، فذكر له ذلك المملوك أنه كان أمير شكار للسلطان، فاستبقاه وسلم إليه شيئاً من الطيور الجوارح وحظِى عنده، واتفق حضوره إلى الديار المصرية في الأيام الظاهرية، فأعطاه السلطان إقطاعاً، وجعله مقدم في الحلقة. وكان صاحب ميافارقين أديباً فاضلاً، وله نظم جيد، فمنه قوله: تُرَة تسَمْعُ الدنيا بما أنا طالبٌ ... فلى عزَماتٌ دونهن الكواكب وإن يكن الناعى بموتى مُعرضاً ... فأيُّ كريم ما نَعْتهُ النوائبُ ومن كان ذكر الموت في كّل ساعةٍ ... قريباً له هانت عليه المصائب وما عجبي إلا تأسُّفُ عاقِلٍ ... على ذاهبٍ من ماله وهو ذاهبُ ؟ ذكرُ ما جرى لأصحاب البلاد مع هَلاوُن:

ذكر بقية الحوادث

منها: أن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سار إلى هلاون مهادناً، فاستصحب معه شيئاً كثيراً من الهدايا النفيسة، والأمتعة الجلية، والجواهر الثمينة، ومفاتيح القلعة والمدينة، وإنما حداه على ذلك الشفقة على رعيته والخوف على أهل مملكته، فمنعه أهل البلد من المسير إليه حذراً عليه، فلم يمتنع فسار، فلما وصلّ إلى هلاون أوقف بين يديه حاملاً كفنه على كتفيه، وقدم هداياه فقبلها منه وأقبل عليه، وقال لمن حضره من أكابر الخانات ومُقدمي التمانات: هذا رجل عاقل ذو سياسة، ثم خلع عليه وكتب له يرليغ بتفويض مملكة الموصل إليه على قاعدته، فعاد إلى بلده ومعه يرليغ، وفرح الناسُ به فرحاً شديداً إلا أنه لم تطل أيامهُ حتى مات، على ما نبينه إن شاء الله تعالى. ومنها: أن الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، أرسل ولده الملك العزيز إلى هلاون مسالماً وصحبته الهدايا الكثيرة، والتحف النفيسة، مقتدياً في ذلك بصاحب الموصل، فلما وصل إليه قبل تقدمته وسأله عن سبب تأخير والده عن الحضور إلى الأُرْدُ، فاعتذر إليه بأنه لم يمكنه مفارقة البلاد خوفاً عليها من عدو الإسلام الذي في الساحل، فأظهر له أنه قبل عذره وأعاده إلى ولده. ومنها: أن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل كان قد أرسل إلى هلاون من قبل مبدأ خروجه إلى العراقين ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بهدايا، فاجتمع به وسار من عنده إلى منكوقان أخيه إلى الأردو، فأكرمه، وقربهُ، وبقى عنده مدة، وزوجه بابنة خوارزم شاه التي أخذت عند مقتل أبيها، فلما أقام عند منكوقان وأبطأَ خبره على أبيه أرسل أخاه سيف الدين إسحاق وولده علاء الملك لكشف فخبره، وجهز معهما هدية أخرى إلى هلاون، فتوجها وعادا وأخبرا بسلامته وقرب عودته، فعاد بعدهما بقليل ومعه اليرليغ، وفرح الناس برجوعه سالماً، وزينت الموصل فرحاً به، وتوجه إلى ميافارقين، وحضر حصارها وعاد عنها، وجهزَّ أخاه وولده لمساعدة مقدمي التتار على الحصار. وها هنا نادرة لطيفة وهى ان بدر الدين لؤلؤ لما طلب التوجه إلى هلاون جاء إليه أعيان أهل الموصل وأكابر دولته وقصدوا تعويقه حذر الإيقاع به، فقال لهم: لا تخشوا على منه فإنى راج أن أتمكن منه وأعرُك أذنيه، وسار، وكان قد هيأَ حلقتى أذن ذهبا، وفيهما درتان من الدر النفيس، كل منهما يضاهى الدرر اليتيمة ويناهزها في جلالة القيمة، فلما فرغ من عرض تقادمه بين يدى هلاون، فقال له: قد بقى معى شيء أحضرته خاصاً للقان قال: وما هو؟ قال: هاتان الحلقتان وهما تصلحان للآذان، ومن عادة ملوك التتار أن يتخذوا في آذانهم الجوهر، فلما رآهما هلاون استحسنهما كثيراً فقال: يأمرنى القان أن أجعلهما في أذنيه، فأعلم رضاه عنى ويحصل لى تعظيم بين الملوك، فأصغى إليه أذنيه فأمسكهما بأصبعيه ووضع الحلقتين فيهما، وأومأ إلى من كان معه مشيراً إليهم أنى قلت لأهل الموصل قولاً وقد حققته فعلاً، وعاد من عنده محترماً مكرماً. ومنها: إن هلاون أرسلَ أرقطوا أحد المقدمين بتمان إلى أربل لأنه كان عند عبوره عليها قصد التعرض إليها فقال أهلها: نحن مطيعون، فسار عنها، ثم أرسل هذا المقدم ليتسلمها فنازلها بعنف وعسف، فأغلق أهلها الأبواب وتمنعوا، فحاصرها التتار ستة أشهر حتى هجم عليهم الحر وأصابهم من الوخم الضرّ، فرجعوا عنها، فسلمها أهلها إلى شرف الدين الكردى ورحلوا بأولادهم وأموالهم إلى حيث شاءوا، ثم خرج نائب الخليفة بها وهو الصاحب تاج الدين بن الصلايا، وتوجه إلى هلاون، فقتله ظناً منه أنه الذي امتنع من تسليمها، ولم يكن كذلك؛ بل كان قد أشار على أهلها بأن يستأمنوا ويسملوا، فأبوا ولم يفعلوا وصبروا حتى خلصوا. ذكر بقية الحوادث منها: أن الملك المغيث صاحب كرك سار بعسكره والبحرية صحبته إلى الديار؟؟ المصرية، فلما وصل إلى الصالحية تسلل إليه من كان قد كاتبه من أمراء مصر وهم عز الدين الرومي والكافوري والهواش وغيرهم، وانحازوا إليه، وخرج عسكر مصر فألتقوهم، فكانت الكسرة على المغيث وأصحابه، فانهزم طريدا وولى إلى نحو الكرك وليس معه إلا القليل من جماعته، وأما البحرية فإنهم لما انهزموا توجهوا نحو الغور، فصادفتهم الشهرزورية وقد جاءوا جافلين من الشرق، فاجتمعوا بهم واتفقوا معهم، وتزوج الملك الظاهر منهم.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

وبلغ ذلك الملك الناصر صاحب دمشق، فخاف أن تقوى شوكتهم فيقصدون الشام، ويفسدون عليه النظام، فجرد عسكره لقتالهم، فالتقوا بالأغوار، فكسروا عسكره، وخلوهم وعادوا إليه، وقد نالت منهم الكسرة، فاستشاط لذلك غضباً، وركب بنفسه، وجمع عساكره لقصدهم والإيقاع بهم، فعلموا العجز عن المقاومة فتفرقوا، فتوجه البحرية إلى الكرك ليأووا عند الملك المغيث، وتوجهت الشهرزورية نحو الديار المصرية، فصادفوا التركمان نازلين بالعريش، فقاتلوهم على الماء حتى جرت بينهم غدران الماء، وبلغ ذلك الملك الناصر وأن البحرية عادوا إلى الملك المغيث، فأرسل إليه يطلب منه تسليمهم، ويتهدده إن مانع عنهم، فدافعه المغيث في أمرهم على أنه يندفع. فسار إليه الملك الناصر بعساكره عازماً على منازلة الكرك ونزل على بركة زيزا، وراسل الملك المغيث بنوع من التهديد، وأغلظ له في الوعيد، فعلم أنه لا يَدْفعه عنه إلا إرسالهم إليه، فتحيَّل عليهم، فأمسك من أمكنَه وفاته من لم يقدر عليه، فأرسل الذين أمسكهم إلى الملك الناصر وهم: " شمس الدين سنقر الأشقر، وسيف الدين سكز، وسيف الدين برامق وغيرهم، فأرسلهم الملك الناصر إلى قلعة حلب، فحبسوا بها إلى أن فتحها هلاون، وأخذهم صحبته إلى بلاده، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأما الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى والأمير سيف الدين قلاون الألفى وخشداشيتهما الذين لم يجد الملك المغيث سبيلا إلى القبض عليهم فإنهم قد تشردوا في البلاد وتلك النواحي مدة، ثم حضروا إلى الديار المصرية ولزموا الخدمة على العادة. ويحكى عن الأمير سيف الدين قلاون أنه والملك الظاهر بيبرس حين كانا تشردا في هذه المدة قاسياً أمراً عظيماً من القلة والفقر والشتات والتنقل من مكان إلى مكان، والخوف، وعدم الإقامة في مكان واحد، لأن الملك الناصر كان مجدَّاً في طلبهما والملك المغيث عالم على قبضهما، والملك المظفر قطز بمصر لا يركن إليهما، ثم أنهما اتفقا على زيارة الشيخ على البكا، وهو يومئذ مقيم بزاويته بمدينة الخليل عليه السَّلام، فأعوز سيف الدين قلاون القوت يوماً من الأيام، فصادف إنساناً مجتازاً بشيءٍ من الطعام، فطلب منه شيئاً لضرورة الجوع، فامتنع، فحمله الغيظ على أن ضربه ضربة مفرطة خطأً، فكانت فيها منيتهُ، فندم أشد الندم، وقال: لقد كان الجوعُ والعدمُ خيراً من قتل النفس، ثم أنهما مضيا إلى الشيخ، فلما دخلا عليه وسلّما عليه رد الشيخ سلام ركن الدين بيبرس وأقبل إليه، ولم يرد سلام الأمير سيف الدين قلاون وأعرض بوجهه عنه، وقال: هذا تجرأ على قتل النفس المحرمة، فأعجبهما كشفه وإطلاعه على هذا الأمر، فتطلف الأمير ركن الدين في سؤاله والتماس إقباله حتى سمح بجلوسه، ولما قاما ليودعاه صافح الشيخ الأمير ركن الدين بيبرس ودعا له وقال: أنت رايح إلى مصر وسيصير إليك ملكها، فاجتهد في فعل الخير، ثم تقدم إليه الأمير سيف الدين قلاون فصافحه وقال له كما قال لركن الدين بيبرس، فتعجبا من ذلك وخرجا من عنده، ثم آل حالهما إلى أن ملك كل واحد منهما الديار المصرية، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه وقع الوباءُ بالشام خصوصاً بدمشق حتى لم يوجد مغسَل. ومنها: أنه كثر الإرجافُ بقدوم التتار إلى بلاد الشام، وحصل للناس من ذلك انزعاج عظيم وقلق شديد. وفيها: وفيها حج الناس ذكر من توفى فيها من الأعيان واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة الصاحب محيى الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين بنى الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد بن عبيد الله ابن عبد الله بن حماد بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النصر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، القرشى التيمى البكرى البغدادي الحنبلي، المعروف بابن الجوزى.

ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شاباً حسناً، وحين توفى أبوه وعظ في موضعه، فأحسن وأجاد وأفاد، ثم تقدم وولى حسبة بغداد، مع الوعظ الرائق، والأشعار الحسنة الفائقة، وولى تدريس الحنابلة بالمستنصريَّة ببغداد في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له مدارس أخرى، ثم لما ولى مؤيد الدين بن العلقمى الوزارة وشغر عنه الاستادارية وليها محيى الدين هذا، وانتصب ابنه عبد الرحمن في الحسبة والوعظ، فأجاد وأفاد، ثم كانت الحسبة تنتقل في بنيه الثلاثة: عبد الرحمن، وشرف الدين عبد الله، وتاج الدين عبد الكريم، وقد قتلوا معه في هذه السنة في قضية هلاون كما ذكرنا، ولمحيى الدين مصنف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله وقد وقف المدرسة الجوزية بدمشق على الحنابلة. الصرصرى المادح يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام، الشيخ الإمام، العالم العلامة، البارع، جمال الدين أبو زكريا الصرصرى، الشاعر المادح، الحنبلى، الضرير، البغدادي. وشعره في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهور، وديوانه في ذلك معروف غير منكور. ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث، وحفظ الفقه واللغة، وكان يقال: إنه يحفظ صحاح الدوهري بكمالها، وصحب الشيخ على بن إدريس تلميذ عبد القادر الكيلانى، وكان ذكياً يتوقد ذكاء، ينظم على البديه سريعاً أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي للشيخ موفق الدين بن قدامة ومختصر الحزقى، وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: إنها تبلغ عشرين مجلداً. ولما دخل التتار بغداد دعى إلى دار بها فرمان من هلاون، فأبى أن يجيب إليه وأعد في داره أحجاراً، فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار، فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بٌعكازه أحدهم، فقتلوه شهيداً، رحمه الله، وله من العمر ثمانون سنة. البهاء زهير صاحب الديوان المشهور: أبو الفضل زهير بن محمد بن على بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبى العتكى، الملقب بهاء الدين الكاتب. كان من فضلاء عصره، وأحسنهم نظماً ونثراً، وخطا، ومن أكثرهم مروَّة، وكان قد اتصل بخدمه السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب بن السلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وتوجه في خدمته إلى البلاد الشرقية وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهور على الملك الصالح وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وهو على نابلس وتفرقوا عنه، وقبض عليه الملك الناصر داود صاحب الكرك واعتقله بقلعة الكرك، وأقام بهاء الدين زهير بنابلس محافظة لصاحبه الملك الصالح، ولم يتصل بخدمة غيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية، وقدم إليها في خدمته، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة. وقال ابن خلكان: وكنتُ يوم ذاك مقيماً بالقاهرة، وأودُّ لو اجتمعت به لما كنتُ أسمع عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة، وأنشدنى كثيراً من شعره، فمما أنشدنى قوله في جارية له اسمُها روضة: يا روضة الحسن صِلِى ... فما عليك ضيرُ فهل رأيتِ روضةً ... ليس لها زُهَيْرُ قال: وأخبرنى ان مولده في خامس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بمكة حرسها الله. وقال لي مرة أخرى: إنه وُلدَ بوادي نخلة وهو قريب من مكة، وأخبرنى أن نسبه إلى المهلب بن أبي صفرة. ثم حصل بالقاهرة مرض عظيم لم يكد يسلم منه أحد، وكان حدوثه يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال سنة ست وخمسين وستمائة، وكان بهاء الدين المذكور ممن مسَّه منه أَلم، فأقام به أياماً، ثم توفى قبل المغرب في يوم الأحد رابع ذي القعدة من السنة المذكورة، ودفن من الغد بعد الظهر بتربته في القرافة الصُغْرى بالقرب من قبة الشافعي رحمه الله في جهتها القبلية، ولم يتفق لي الصلاة عليه لاشتغالى بالمرض. وفى تاريخ المؤيد: وفى سنة ست وخمسين وستمائة توفى الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد المهلبى كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب، وفى آخر عمره انكشف حاله، وباع موجوده وكتبه، وأقام في بيته بالقاهرة إلى أن أدركته وفاته بسبب الوباء العام، ومن شعره وهو موزون مخترع ليس بخرجة العروض أبيات منها:

يَا من لعبت به الشمول ... ما ألظف هذه الشَّمائِل مولاى يحقِّ لى بأنى ... عن حُبِّك في الهوى أقاتل ها عبدُك واقفا ذليلا ... بالباب يَمدُّ كفَّ سائل من وصلك بالقليل يرضى ... والطَّلُ من الحبيب وابل الحافظ زكى الدين عبد العظيم بن عبد القوى بن عبد الله بن سلام بن سعد ابن سعيد، الإمام العالم العلامة، الحافظ أبو محمد زكى الدين المنذري الشافعي المصري. وأصله من الشام، ولكنه ولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، وإليه الوِفَادة والرحلة من سنين متطاولة، وسمع الكثير ورحل، وطلب، وصنف، وخرَّجَ، واختصر صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وله يد طولى في اللغة، والفقه، والتاريخ، وكان ثقةً حجةً متحرِّزا، زاهداً. وتوفى في يوم السبت الرابع من ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية، ودفن بالقرافة. النور أبو بكر محمد بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحيم بن رستم الأسعردى، الشاعر المشهور الخليع. كان القاضي صدر الدين بن سنىّ الدولة قد أجلسه مع شهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد، وجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الأجناد، فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتابا سماه الزَرْجُون في الخلاعة والجنون، وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر في الخلاعة، ومن شعره: لذَّةُ العمر خمسةٌ فاقتنيها ... من خليع غدا أديباً فقيها في نديم وقَيْنَةٍ وحبيبٍ ... ومُدَام وسَبّ من لام فيها محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة فتح الدين بن العدل، محتسب دمشق، وكان من الصدور المشكورين، حسن الطريقة، وجدّه العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدره، هو واقف المدرسة بالزبدانى في سنة تسعين وخمسمائة. توفى محمد بن عبد الصمد المذكور في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وتولى في الحسبة أخوه ناصر الدين. القرطبى صاحب المفهم في شرح مسلم. أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالإسكندرية ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك، واختصر الصحيحين، وشرح صحيح مسلم بكتابه المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة، توفى في هذه السنة. الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان، أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محي الدين النووي وغيره، وكان مدرساً بالرواحية، وكانت وفاته في ذي القعدة من هذه السنة. العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدى المقدسى، ثم الدمشقي خطيب بيت الآبار. وقد خطب بدمشق ست سنين بعد انفصال الشيخ عز الدين بن عبد السلام عنها، ودرس بالغزالية، ثم عزل عنها، وعاد إلى بيت الآبار، فمات بها في هذه السنة. شيخ الشيوخ ببغداد على بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار. كان أولا مؤدباً للإمام المستعصم بالله، فلما صارت إليه الخلافة رفعه رفعة عظيمة، وولاه مشيخة الشيوخ ببغداد، وانتظمت إليه أزمة الأمور بُرهةً من الدهر، ثم أنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة، في هذه السنة، وذلك في وقعة التتار. وكان أول ما مثل المستعصم بالله هاذين البيتين، وذلك حين أراد تعليمه في أول أمره وهما: ما طار بين الخافقين ... أقلُّ عقل من مُعَلّم ولقد دخلنا في الصناعة ... ربّ سلّم ربّ سلّم الشيخ العابد الزاهد على الخباز.؟ كان له أتباع وأصحاب ببغداد، وله زواية يُزار فيها، قتلته التتار، وألقى على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حياته. الشيخ العارف أبو الحسن على بن عبد الله، من ولد الحسن بن على بن أبي طالب، الشاذلى الضرير. مات بصحراء عيذاب وهو قاصد الحجاز، ودفن بُحَمْيثرا حيث توفى. وكان أحد المشايخ المشهورين بمعرفة الطريق، وله في ذلك كلام كثير، وتصانيف معروفة، ونسبته إلى شاذلة قريةٌ بإفريقية ورد منها إلى الإسكندرية وسكنها، وحج مراراً، وصحبته جماعة فانتفعوا بصحبته، وله حزبٌ يقرأه الناس مشتمل على أدعية مباركة ولطائف حسنة يتبرك بقراءته.

الخطيب أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفتح المقدسى خطيب مردا. سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، وقدم في سنة ثلاث وخمسين، فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده في هذه السنة. النجيب نصر الله بن أبي العز مظفر بن أبي طالب عقيل بن حمزة، نجيب الدين أبن شُقيشقة الدمشقى المحدث. أحد العدول بدمشق، سمع الحديث وعنى به، ووقف داره بدرب البانياسى على المحدثين. وقال ابن كثير: وقد سكنها شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّى قبل انتقالة إلى دار الحديث الأشرفية بدمشق. وقال أبو شامة: وكان ابن شُقيَشقَةَ وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي العز بن أبي طالب الشيبانى، مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك، وهو أحد الشهود المقدوح، فيهم، ولم يكن بحال أن يؤخذ عنه. قال: وقد أجلسه أحمد بن يحيى بن هبة الله الملقَّب بالصدر بن سنى الدولة في حال ولايته قضاء القضاة بدمشق، فأنشد فيه بعض الشعراء: جلس الشقيشقة الشقى ليشهدا ... بأبيكما ماذا عدا فيما بدا هل زلزل الزلزال أم قد أخرج ال ... دجال أم عُدِم الرجال ذَوُو الهدى عجباً لمحلول العقيدة جاهِلٍ ... بالشرع قد أذنواله أن يعقدا أبو عبد الله الفاسى، شارح الشاطبية، اشتهر بالسكنية، قيل: إن اسمه القاسم. وكان عالما فاضلاً في العربية والقراءات، وقد أجاد في شرحه للشاطبية وأفاد، واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضاً، وكانت وفاته بحلب في هذه السنة. سيف الدين ابن صبرة متولى شرطة دمشق، ذكر أبو شامة أنه حين مات جاءته حية، فنهشت أفخاذه ويقال: إنها إلتفت في أكفانه وأعيى الناس دفعها. قال وقيل لي: إنه كان نُصَيريّاً رافضياً خبيثاً، مدمن خمر، قبحه الله. تاج الدين أبو الفتح يحيى بن الشيخ أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن أبي غانم محمد بن الفضل هبة الله بن أبي الحسن احمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة بن ربيعة ابن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل العقيلى الحلبى الحنفى، المنعوت بالتاج، المعروف بابن العديم. مات في سحر النصف من شهر صفر من هذه السنة بحلب ودُفن يومه بالمقام، ومولده بحلب في النصف من ذي الحجة سنة ثمانين وخمسمائة، سمع من أبيه ابن غانم، وعمه أبي الحسن، ومن الشريف أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي، ومن الشيخ تاج الدين الكندي بدمشق وآخرين، وهو من بيت مشهور. الشيخ الجليل الأصيل أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن أحمد بن أبي الفضل هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون، المعروف بابن أبي جرادة الحلبي الحنفي، المنعوت بالمحى، المشهور بابن العديم. مات في العاشر من جمادى الآخرة من هذه السنة بحلب، ودفن في مقام إبراهيم عليه السلام، خارج باب العراق، ومولده في الثالث من رجب سنة تسعين وخمسمائة بحلب، سمع من أبيه وعمه أبي غانم وبدمشق من تاج الكندي وآخرين. وكان رئيساً مقدماً، وبيته معروف بالعلم والحديث والرئاسة، وقد تقدم الآن ذكر ابن عمه أبي الفتح المنعوت بالتاج. الشريف أبو الحسن على بن أبي على الحسن بن زهرة أبي الحسن بن زهرة ابن على بن محمد العلوي الحسينى الإسحاقى الحلبى. مات بحلب في العشر الأواخر من صفر من هذه السنة، وولد بها في الثاني عشر من شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كانت له معرفة بالحديث، والفقه، والقراءات، والتواريخ، والعربية، وله نظم جيد وترسُّلُّ حسن، وكتب الإنشاء بحلب مدة، وترسل إلى بغداد، وولى نقابة الأشراف بحلب، وسمع من غير واحد من الشيوخ، وحدَّث. الشيخ أبو المناقب محمود بن أحمد، الفقيه الشافعي. وكان رئيس الشافعية ببغداد، قتل شهيداً في وقعة التتار. الأمير الأديب سيف الدين أبو الحسن على بن قزل بن جلدك. مات بدمشق في هذه السنة، ومولده بمصر، وتولَّى شدَّ الدواوين بالديار المصرية مدةً، وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وله شعر حسن، فمنه قوله: باكِر كُؤُوس المدام واشرَبْ ... واستجَلْ وجْه الحبيب واطْربْ ولا تَخَفَ للهُمُومِ داءً ... فهو دَوَاءٌ له مًجَرَّبْ

في يَدٍ ساقٍ له رضَاب ... كالشُهْدِ لكن جَنَاهُ أَعْذَبْ الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر ابن أيوب. توفى في هذه السنة بظاهر دمشق في قرية يقال لها البُوَيضاء، ومولده سنة ثلاث وستمائة، وكان عمره نحو ثلاث وخمسين سنة، وقد ذكرنا أحواله وما جرى عليه في السنين الماضية، وكان أصاب الناس في الشام في تلك المدة وباء مات فيه الناصر داود، وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البُوَيْضاء، وأظهر عليه الحزن والأسف، ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده الملك المعظَّم. وكان الناصر داود فاضلاً، ناظماً، ناثراً، وقرأ العلوم العقلية عل الشيخ شمس الدين الخسرو شاهى تلميذ الإمام فخر الدين الرازى، وكان حنفى المذهب مثل والده. وله أشعار حيدة، فمنها قوله: عيونٌ عن السِّحْرِ المُبينِ تَبينُ ... لها عند تحريك القلوب سُكُونُ تَصُولُ ببيض وهى سُودٌ فِرندها ... ذُبُولُ فُتُورٍ والجفونُ جفونُ إذا ما رأت قلْباً خِلياً من الهَوَى ... تقول له كن مُغْرَماً فيكونُ وله أيضاً: طرفى وقلبى قاتلٌ وشهيدٌ ... ودمى على خديك منه شهودُ أما وحُبِّك لا أضْمرْ سَلْوةً ... عنْ صبوتى ودع الفُؤادَ يبيدُ مُنِّى بطيفك بَعْد ما منع الكرى ... عن ناظرىَّ البُعْدُ والتَسْهيدُ ومن العجائب أن قلبك لَمْ يَلنْ ... لي والحديدُ ألاَنَهُ داود وقال أبو شامة: وكان الملك الناصر داود سلطان دمشق بعد أبليه نحواً من سنة، ثم اقتصر له على الكرك وأعماله، ثم سُلِبَ ذلك كله وصار متنقلا في البلاد موكلا عليه، وتارة في البراري إلى أن مات موكلاً عليه بالبُوَيضاء، وهى قريَةٌ قبلىّ دمشق، كانت تكون لعمه مُجير الدين بن العادل وحمل منها، فصلى عليه عند باب النصر، ودفن بجبل قاسيون عند أبيه بالمقبرة المعظمية بدير مران، وخلف أولاداً كثيرة. الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. توفى في شعبان من هذه السنة، عن ثمانين سنة، وقد ملك الموصل نحواً من خمسين سنة. وكان ذا عقل ودهاءٍ مكرٍ، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه، وزالت الدولة الأتابكية عن الموصل، وقد ذكرنا مسيره إلى هلاون اللعين، فمكث بعدَ مرجعه بالموصل أياما يسيرة، ثم مات ودفن بمدرسته البدرية بالموصل، فتأسَّفَ الناس عليه لحسن سيرته وجودته وعدله. وقد جمع له الشيخ عز الدين بن الأثير كتابه بالمسمى بالكامل في التاريخ، فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطى لبعض الشعراء ألف دينار وغيرها. وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل. وقد كان بدر الدين لؤلؤ أرمنياً اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر الأتابكى صاحب الموصل، وكان مليح الصورة فحظى عنده، وتقدَّم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه، ثم أنه أخنى على أولاد أستاذة فقتلهم غيلةً، واحداً بعد واحد، إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقلَّ بالمملكة حينئذ، وصفت له الأمور وراقَتْ. وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على رضى الله عند قنديلاً زنته ألف دينار. وكان قد بلغ من العمر فوق ثمانين سنة، فكأنه شابٌّ حسن الشباب من نضارة وجهه وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه بقضيب الذهب، وكان ذا همَّةٍ عاليةٍ، وداهيةٍ، شديد المكر، بعيد الغَوْر. وقال بيبرس: واستقرَّ بعده ولده الملك الصالح إسماعيل، وأما ولده علاء الدين على فإنه فارق أخاه وحضر إلى الشام، وكان منهما ما نذكره، إن شاء الله تعالى: بيجْوُ: ويقال له باجُو أيضاً، مقدّم التتار. هلك في هذه السنة. ويقال: إن هلاون نقم عليه لما بلغه من إضمار الخلاف، وإنه قصد التأخر عنه لما استدعاه، وأراد الإنفراد ببلاد الروم، فلما فرغ هلاون من فتوح بغداد وبلاد العراق دسَّ إليه سُماً، فشربه فمات. وقيل: إنه كان أسلم قبل موته، ولما احتضر أوصى بأن يغسل ويدفن على عادة المسلمين.

ذكر ترجمة الخليفة المستعصم بالله

وكان له من الأولاد أفَاك وسُكْتَاى، وأُفاك هذا هو أبو سلامش وقُطَقْطُو الوافدين إلى الديار المصريَّة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. الوزير ابن العلقمى الرافضي قبحه الله، واسمه محمد بن أحمد بن على بن أبي طالب، الوزير مُؤيَّد الدين بن العلقمى البغدادي. خدم في أيام المستنصر بالله استادار الخلافة مدة طويلة، ثم استوزره المستعصم بالله، ولم يكن وزير صدق، فإنه كان من الفضلاء الأدباء إلا أنه كان رافضياً خبيثاً، رديء الطوية على الإسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم، ما لم يحصل لكثير من قبله من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله التتار، أصحاب هلاون، حتى جاءوا فجاسوا خلال الديار، وكان أمراً مفعولاً، ثم حصل له من الأهنة في أيامهم والقلَّة والذَّلة وزوال ستر الله ما لا يحد ولا يوصف. رأتًه امرأةٌ وهو راكبٌ في أيام التتار برذوناً وسائق يضرب فرسَهُ، ووقفت إلى جانبه فقالت يابن العلقمى: هكذا ك ان بنو العباس يُعاملونك، فوقعت كلمتها في قلبه، وانقطع في داره إلى أن مات كمدا في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودُفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه ورأى بعينه من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وتولى بعده الوزارة ولده، ثم أخذه الله سريعاً. وقد هجاه بعض الشعراء فقال: يا فرقة الإسلام نوحُوا واندبوُا ... أسفاً على ما حلّ بالمستعصم دست الوزارة، كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمى هذا كله ذكره ابن كثير في تاريخه. وقال بيبرس في تاريخه: وأما الوزير فهو مؤَيَّد الدين محمد بن العلقمى، فإن هلاون استدعاه بين يديه وعنَّقَه على سُوء سيرته وخبث سريرته وممالاته على ولى نعمته، وأمر بقتله جزاءً لسوء فعله، فتوسَّل وبذل الالتزام بالأموال يحملها، وإتاوة من العراق يحَصِّلُها، فلم يُذْعن لقبوله ولا أجاب إلى سؤاله، بل قتل بين يديه صبراً وتحسى من يد المنون صبراً وأوقعه الله في البئر التي احتفر، وخانه فيما قدره صَرْفُ القَدر. الصَّاحِبَةُ غازية خاتون، والدة الملك المنصور، بنت السلطان الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب. توفيت في ذي القعدة من هذه السنة بقلعة حماة، وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وولد لها من زوجها الملك المظفر ثلاث بنات أيضاً فتوفيت الكبرى منهن وكان اسمها ملكة خاتون قبل وفاة والدها بقليل، وتوفيت الصغرى وهى دُنْيا خاتون بعد وفاة أخيها الملك المنصور. وقال الملك المؤيد في تاريخه: وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثلاثة بنين، مات أحدهم صغيراً وكان اسمه عمر، وبقى الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه والدي الملك الأفضل على، وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً، كما ذكرنا. وكانت غازية خاتون المذكورة من أحسن النساء سيرةً وزهداً وعابدةً، وحفظت الملك لولد لها الملك المنصور حتى كبر، وسلمته إليه قبل وفاتها، رحمها الله. ذكر ترجمة الخليفة المستعصم بالله والكلام فيه على أنواع:

الأول في بيان اسمه ونسبه: هو أمير المؤمنين أبو احمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر أحمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس احمد بن أمير المؤمنين يالمستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ابن أمير المؤمنين المقتفى لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي القاسم عبد الله بن الأمير الذخره أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير الموفق أبي احمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن أمير المؤمنين الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب بن هاشم العباسي الهاشمي، آخر خلفاء بنى العباس بالعراق، وأمه أم ولد تدعى هاجر، ولد ضاحى نهار السبت حادي عشر شوال سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة. الثانى في سريرته وسيرته: كان حسن الصورة، جيَّد السيرة، صحيح السريرة، مقتفياً بأبيه المستنصر بالله في المعدلة وكثرة الصلاة والصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز من الحافظ بن النجار، فأجاز له، وكذلك أجاز له جماعة من مشايخ خراسان منهم: المؤيد الطوسى، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروى، وأبو بكر بن الصغار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم: مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن على بن محمد بن النيار، وأجاز هو للإمام محيى الدين بن الجوزى، وللشيخ نجم الدين البادرائى، وحدثا عنه بهذه الاجازة، وقد كان سنيا على طريقة السلف وإعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ وضعف رأى ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه أغل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود بن الملك المعظم، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من الخليفة وأمثاله. الثالث في مقتله: قد ذكرنا أن التتار قتلوه مظلوماً شهيداً، وقتل معه ولده وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بنى العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بنى العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجى منهم النوال، ويخشى منهم البأس، وختموا بعبد الله المستعصم، كما افتتحوا بعبد الله السفاح. وكانت عدة الخلفاء من بنى العباس إلى المستعصم بالله سبعة وثلاثين خليفة، وكان أولهم عبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بنى أمية، كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم، وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام، أعنى سنة ست وخمسين وستمائة، فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزالت يدهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيرى بعد الخمسين والأربعمائة، ثم عادت كما كانت، وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله. ولم تكن أيدي بنى العباس حاكمة على جميع البلاد، كما كانت بنو أمية قاهرة جميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه قد خرج عن بنى العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الأمر بعض بنى أمية ممن بقى منهم من ذرية عبد الرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بنى العباس دولة جماعة من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب وما هنالك وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة، واستمرت دولة الفاطميين قريباً من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذى مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية الأيوبية كما ذكرنا. وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكاً، أولهم المهدي وآخرهم العاضد، ومدة ملكهم تحريراً من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى خمسمائة وخمسة وستين، فتكون مائتي سنة وست وستين سنة، وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين.

والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة، كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم، ثم ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما ستة أشهر حتى كملت بها الثلاثون، كما قررنا في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا، فكان أول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان، ثم ابن عمه عمر ابن عبد العزيز رضى الله عنه، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن زيد بن الوليد ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضاً ثم مروان ابن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان، وآخرهم اسمه مروان، وكان أول خلفاء بنى العباس السفاح واسمه عبد الله، وكان آخرهم المستعصم بالله واسمه عبد الله، وكذلك كان أول خلفاء الفاطميين اسمه عبد الله المهدى، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جداً قل من يتنبه له. وقال القاضى بن واصل: واتفق في بنى العباس اتفاق عجيب وهو أن كل سادس منهم مخلوع أو مقتول، فأول من ولى السَّفاح، ثم أخوه المنصور، ثم ابنه المهدي، ثم ابنه الهادى، ثم أخوه الرشيد، ثم ابنه الأمين وهو سادس خليفة خلع، ثم قتل، ثم ولى أخوه المأمون، ثم أخوه المعتصم، ثم ابنه الواثق، ثم أخوه المتوكل، ثم ابنه المنتصر، ثم المستعين بالله وهو سادس خلفائهم، فخلع وقتل، ثم ولى ابن عمه المعتز، ثم عمه المهتدى، ثم ابن عمه المعتمد، ثم ابن أخيه المعتضد ثم ابنه المستكفى، ثم أخوه المقتدر وهو سادس خليفة، خلع مرتين وقتل، ثم ولى أخوه القاهر، ثم ابن أخيه الراضى، ثم ابن أخيه المتقى، ثم ابن عمه المستكفى، ثم ابن عمه المطيع، ثم ابنه الطائع وهو سادس خليفة، فخلع ثم ولى ابن عمه القادر، ثم ابنه المقتدر، ثم ابن ابنه المقتدى، ثم ابنه المستظهر ثم ابنه المسترشد، ثم ابنه الراشد وهو سادس خليفة فخلع وقتل، ثم ولى عمه المقتفى، ثم ابنه المستنجد، ثم ابنه المستضىء، ثم ابنه الناصر، ثم ابنه الطاهر، ثم ابنه المستنصر وهو سادس خليفة، فحكى وجيه الدين بن سويد وجماعة أنه قصد بمبضع مسموم فمات، وقتل التتار ابنه المستعصم بالله وهو آخرهم. وحكى أنه لما ولد على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضى الله عنهم أتاه على بن أبي طالب رضى الله عنه مُهَنِّياً وحنكه ودعا له ورده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك ... سميته عليا وكنيته أبا الحسن وقال ابن واصل: لقد أخبرنى من أثق به أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته: أن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بلغ بعض خلفاء بنى أمية عنه أنه يقول: إن الخلافة ستصير إلى ولده، فأمر الأموى بعلى بن عبد الله فحمل على جمل، فطيف به وضرب، وكان يقال عند ضربه: هذا جزاء من يفترى، ويقول: إن الخلافة ستكون في ولده، وكان على بن عبد الله يقول: إي والله لتكونن الخلافة في ولدى، ولا يزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان، ويملكهم، هم الصغار العيون، والعراض الوجوه، وينتزعونها منهم، فوقع مصداق لك، وهو ورود هلاون وإزالته ملك بنى العباس. وكان على هذا مفرطاً في الطول حتى كان إذا طاف كأنه راكب والناس يمشون، وكان إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب. هذه أرجوزة لبعض الفضلاء نظمها وذكر فيها جميع الخلفاء، وهى هذه الأبيات: الحمد لله العظيم عرشه ... القاهر الفَرْدِ القوى بَطْشهُ مقلب الأيام والدهور ... وجامع الأنام للنشور ثم الصلاة بدوام الأبد ... على النبى المصطفى محمد وآله وصحبه الكرام ... السادة الأئمة الأعلام وبعد هذا هذه أرجوزة ... نظمتها لطيفة وجيزة نظمت فيها الراشدين الخلفا ... من قام بعد النبي المصطفى

ومن تلاهم وَهُلَّم جرا ... جعلتها تبصرةً وذكرا ليعلم العاقل ذو التصوير ... كيف جرت حوادث الأمور وكل ذي مقدرة ومُلك ... مُعرضون للفناء والهُلك وفي اختلاف الليل والنهار ... تبصرة لكل ذي إعتبار والمُلك للجبار في بلاده ... يروثه من شاء من عباده وكل مخلوق فللفناء ... وكلُّ مُلك فإلى انتهاءِ ولا يدوم غَير ملك البارى ... سبحانه من ملك قهار منفرد بالعزَّ والبقاءِ ... وما سواه فالى انقضاءِ أول من بُويع بالخلافة ... بعد النبى ابن أبي قحافة أعنى الإمام العادل الصديقا ... ثم ارتضى من بعده الفاروقا ففتح البلاد والأمصارا ... واستأصلت سيوفه الكفارا وقام بالعدل قياما يُرضى ... بذاك جبَّار السماء والأرض ورضى الناس بذي النورين ... ثم على والد السِّبْطيْنِ ثم أتت كتائِبٌ مع الحسن ... كادو بأن يجددوا بها الفتن فأصلح الله على يديه ... كماعزا نبيَّنا إليه وأجمع الناس على معاوية ... ونقل القصة كل راوية فمهَّد الملك كما يريد ... وقام فيه بعده يزيد ثم ابنه وكان براً راشدا ... أعنى أبا ليلى وكان زاهدا فترك الإمرة لا عن غَلَبهَ ... ولم يكن منه إليها طلبه وابن الزُبير بالحجاز يدأبُ ... في طلب الملك وفيه ينصِبُ وبالشام بايعوا مروانا ... بحكم من يقول كن فكانا فلَم يُدم في الملك غير عام ... وعافصته أسهم الحمام واستوسق الملك لعبد الملك ... وثار نجم سعده في الفلك وكل من نازعه في الملك ... خرَّ صريعاً بسيوف الهُلكِ فقُتِل المصعب بالعراق ... وسيَّر الحجاجُ ذا الشقاق الى الحجاز بُسيُوف النِقَم ... وابن الزبير لائذ بالحرم فجاء بعد قتله فصَلبه ... ولم يخف في أمره من ربه وعند ما صفت له الأمورُ ... تقلبت لحينه الدهور ثم أتى من بعده الوليد ... ثم سليمان الفتى الرشيدُ ثم استفاض في الورى عدّل عمر ... تابع أمر ربه كما أَمَرْ وكان يدعى بأشح القوم ... وذى الصلاة والتقى والصوم فجاء بالعدل وبالإحسان ... وكفّ أهل الظلم والطغيان مقتدياً بسنة الرسول ... والراشدين من ذوى العقول فجرِّعَ الإسلام كاس فقده ... ولم يَرَوْا مثلا له من بعده ثم يزيد بعده هشام ... ثم الوليد فُتّ منه الهام ثم يزيد وهو يُدعى ناقصاً ... فجاءه حمامهَ مُعَافِصَا ولم يصل مده ابراهيما ... وكان كل أمره سقيما وأُسنِدَ الملك إلى مروانا ... فكان من أموره ما كانا وانقرض الملك على يديه ... وحادث الدهر سَطَا عليه وقتلُه قد كان باصعيد ... ولم تفده كثرة العديد وكان فيه حتف آل الحكم ... واستنزِعت عنهم ضروب النعم ثم أتى ملكُ بنى العباس ... لازال فينا ثابت الأساس وجاءت البيعة من أرض العجم ... وقلدت بيعتهم كل الأمم فكل من نازعهم من الأمم ... خر صريعا لليدين والفم وقد ذكرت من تولى منهم ... حتى تولى القائم المستعصم أولهم يُنْعتب بالسفاح ... وبعده المنصور ذو النجاح

السنة السابعة والخمسين بعد الستمائة

ثم أتى من بعده المهدى ... يتلوه موسى الهادى الصَفِىُّ وجاء هارون الرشيد بعده ... ثم الأمين حين ذاق بُعْدَه وقام بعد قتله المأمون ... وبعده المعتصم المسكين واستخلِفَ الواثق بعد المعتصم ... ثم أخوه جعفر مُوفٍ كريم وأخلص النية في التوكل ... لله ذي العرش القديم الأول فأدحض الباطل في زمانه ... وقامت السنةُ في أوانه ولم يُبَقِّ بدعة مضلّه ... وألبس المعتزلىّ ذلّه فرحمة الله عليه أبدا ... ما غار نجم في السماء وبدا وعندما استُشهْد قام المنتصر ... والمستعين بعده كما ذكر وجاء بعد موته المعتز ... والمهتدي المكرمُ الأعز وبعده استولى وقام المعتمد ... ومهّد الملك وساس المعتضد والكتفى في صحف العلياء سطر ... وبعده ساس الأمور المقتدر واستُوسِق الملك بعزّ القاهر ... وبعده الراضى أخو المفاخر والمتقى من بعد والمستكفى ... ثم المطيع ما به من خلف والطائع الطائع، ثم القادر ... القائم الزاهد وهو الشاكر والمقتدى من بعده المستظهر ... ثم أتى المسترشِدُ الموقر وبعده الراشد، ثم المقتفى ... وحين مات استنجدوا بيوسف والمستضىء العادل في أفعاله ... الصادق المصدوق في أقواله والنصار الشهم الشديد البأس ... ودام طول مكثه في الناس ثم تلاه الظاهر الكريم ... وعدْلُه كلُّ به عليم ولم تطل أيامُه في المملكة ... غير شهوٍر واعترضته الهلكة وعهده كان إلى المستنصر ... العادل البر الكريم المغتفر دام يسوس الناس سبع عشرة ... وأشهراً بعزمات بره ثم توفى عام أربعينا ... وفى جُمادى صادف المنونا وبايع الخلائق المستعصما ... صلى عليه ربنا وسلما يبعث نجب الرسل في الآفاق ... يقضون بالبيعة والوفاق وشرفوا بذكره المنابرا ... ونشروا من جوده المفاخرا وسار في الآفاق حسن سيرته ... وعدله الزائد في رعيته تمت الأرجوزة. وقال ابن كثر رحمه الله: وقلت أنا بعد ذلك: ثم ابتلاه الله بعد بالتتار ... أتباع جنكزالخان الجبار صحبة ابن ابن له هُلاَكو ... فلم يكن من أسره فكاك فمزقوا جنوده وشمله ... وقتلوه نفسه وأهله ودمروا بغداد والبلادا ... وقتلوا الأجناد والأولادا وانتبهوا المال مع الحريم ... ولم يخافوا سطوة العظيم وغرهم إنظارُه وحلْمُه ... وما اقتضاه عَدْله وحكمه فصل فيما وقع من الحوادث السنة السابعة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وليس للمسلمين خليفة، والفتن قائمة، وبنو جنكزخان قد أظهروا الفساد، وأهلكوا العباد، وأخرجوا البلاد. وسلطان الديار المصرية: الملك المنصور نور الدين على بن الملك المعز أيبك التركمانى، ونائبه ومدبر مملكته الأمير سيف الدين قُطزُ.

ذكر سلطنة سيف الدين قطز

وصاحب دمشق وحلب وغيرهما: السلطان الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، والحرب قائمة بينه وبين المصريين، ولكنه رجع عن ذلك لكثرة الأراجيف بقصد التتار الديار الشامية، حتى أنّ هلاون أرسل إلى الناصر المذكور يستدعيه إليه، فأرسل الناصر ولده العزيز، وهو صغير، ومعه هدايا كثيرة وتحف سنية، فلم يحتفل به هلاون، وغضب على إبنه؛ إذ لم يقدم إليه أبوه، وقال: أنا الذي أسير إلى بلاده بنفسى، فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك، ليحُضهم بها، وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً حين بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، وصار منهم جماعة كثرة إلى الديار المصرية في زمن الشتاء، ومات كثير منهم، ونُهِبَ آخرون. وأقبل هلاون بجنوده يقصد نحو الشام، ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده شموط بن هلاون إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، وكان الحاكم في حلب يومئذ الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين نائباً عن ابن ابن أخيه الملك النصار، فخرج في عسكر حلب لقتالهم، ولم يكن من الرأى خروجه، وأكمن لهم التتار في باب إلىّ المعروف بباب الله، وتقاتلوا عند بانقُوسا، فاندفع التتار قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم، وهرب المسلمون طالبين المدينة، والتتار يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق جماعة من المنهزمين في أبواب البلد، ثم رحل التتار إلى عزاز فتسلموها بالأمان. وكان الملك الناصر قد أرسل قبل ذلك القاضى الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم إلى الديار المصرية رسولاً يستنجد المصريين على قتال التتار، فإنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وأنهم قد استولوا على حران وبلاد الجزيرة وغيرها في هذه السنة، وقد جاز شُّموط بن هلاون الفرات واقترب من مدينة حلب. فعقد لذلك مجلس بالديار المصرية بين يدى الملك المنصور بن الملك المعز أيبك التركمانى، وحضر قاضى القضاة بالديار المصرية بدر الدين السنجارى، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأفاضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شىء من أموال الناس لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، فكان حاصل كلامه أنه قال: إذا لم يبق في بيت المال شىء، وأنفقتم الحوائص الذهب وغيرها من الزينة، وتساويتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبقى للجندى سوى فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شىء من أموال الناس في دفع الأعداء، إلا أنه إذا دهم العدوّ وجب على الناس كافة أن يدفعوهم بأموالهم وأنفسهم. ثم أن الملك الناصر برز إلى وَطاة برزة في جحافل كثيرة من الجيش والمطوعة والأعراب وغيرهم، ولما سمعوا ما فعل شموط بن هلاون على حلب، وعلموا ضعفهم عن مقاومة المغول انقض ذلك الجمع، ولم يصبر لاهو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ذكر سلطنة سيف الدين قُطُزْ النائب بالديار المصريَّة ولما عقد المصريون المجلس، حين قدم إليهم رسول الملك الناصر صاحب دمشق، وهو كمال الدين بن العديم المذكور، قالوا: لا بُدَّ من سلطان قاهر يقاتل التتار، وهذا صبى صغير لا يعرف تدبير المملكة، يعنى السلطان الملك المنصور ابن الملك المعز، وكان كذلك فإنه كان يركب الحمير الغُرَّة، ويلعب بالحمام مع الخدام. واجتمع الأمراء الكبار وأعيان العساكر على أنه لا غنى للمسلمين من ملك يقوم بدفعه، وينتدب لمنعه، ويذُبُّ عن حوزة الدين، وذلك لما تحققوا قصد هلاون الديار الشامية، وامتداده إلى ممالك الإسلام، واتفقوا على إقامة الأمير سيف الدين قطز المعزى سلطانا لأنه كبير البيت، ونائب الملك، وزعيم الجيش، وهو معروف بالشجاعة والفروسية، ورضى به الأمراء الكبار فأجلسوه على سرير الملك، ولقبوه الملك المظفَّر. وكان الأمير علم الدين العتمىّ، وسيف الدين بهادر، وهما من كبار المعزية غائبين في رمى البندق حين تسلطن المظفر، ولما حضرا قبض عليهما واعتقلا. وكان جلوس الملك المظفر على تخت السلطنة في الرابع من ذي الحجة من هذه السنة بقلعة الجبل. وكان ذلك كله بحضرة كمال الدين بن العديم، فأعاد قطز الجواب إلى الملك الناصر يوسف بأنه سينجده ولا يقعد عن نُصرته، ورجع ابن العديم إلى دمشق بذلك.

ذكر ماجريات هلاون

ويقال: إن الملك المظفر قطز لما قبض على الملك المنصور نور الدين على بعثه هو وأمه وأخاه قاقان إلى بلاد الأشكرى. وفي تاريخ بيبرس: وأما المنصور على بن المعز فإنه اعتقل مدّة في الأيام المظفرية، ثم سفّر في الأيام الظاهرية هو وأخوه وأمهما إلى الإسكندرية، وسُيِّروا منها إلى القسطنطينية، وأمسك من الأمراء من خاف عائلته، وحذر مخالفته، وكانوا قد تفرقوا في الصيد، فصادهم بمصائد الكيد ولم ينجهم من يده أيد، وانقضت دولة المنصور، فكانت مدة مملكته سنتين وستة أشهر، والله أعلم. ذكر ماجريات هلاون منها: أنه أرسل ابنه شمطو إلى حلب وقد ذكرناه. ومنها: أنه أرسل إلى ولدى صاحب الروم وهما عز الدين كيكاوس، وركن الدين قليج أرسلان، يستدعيهما إليه فسارا إليه، وذلك أن الرسل الذين كانوا قد توجهوا مع أخيهما علاء الدين كيقباذ إلى منكوقان أخي هلاون عادوا إلى الروم في هذه السنة، فوجدوا بيجو فعل بقونية وغيرها ما فعل والسلطان عز الدين كيكاوس قد هرب إلى قلعة العلائية، وكان أخوه في محبسه، فخلص وهو بقونية، فأحضروا إليهما يرليغ منكوقان، فاستقرت خواطرهما وتوطنا، وتراجع الناس إليهما، وتقررت قسمة البلاد بينهما، وإنحاز إلى كل منهما جماعة من الأمراء. فكان ممن إنحاز إلى السلطان عز الدين الأمير قرطاى الأتابك، وشمس الدين الحرمانى، وشمس الدين توتاش، وخواجه جهان، ووزيره عز الدين كلُ. وكان من أمراء السلطان ركن الدين قليج أرسلان الأمير أرسلان دغمش الأتابك، وقد ذكرنا انحرافه عن السلطان عز الدين، وأنه انهزم قدام بيجو غيظا من السلطان، وانحاز إلى السلطان ركن الدين، والأمير سيف الدين طرنطاى صاحب أماسية الملقب بكلْرباكى، والأمر خطير الدين، والأمير معين الدين سليمان البرواناه، ووزيره الصاحب شمس الدين الطغرائى. ولما عزم هلاون على السير إلى حلب وعبر الفرات، استدعى السلطانين المذكورين كيكاوس وقليج أرسلان، فسارا إليه وحضرا معه في أخذ حلب. ومنها: أن هلاون وجه أرغون أغا وهو من أكابر المقدمين في جيش إلى كرجستان، فغزا تفليس وأعمالها، وأغار ونهب، وعاد إليه وهو بالعراق. ذكر بقية الحوادث منها: أن في ليلة الأحد خامس عشر المحرم ولد الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة بن الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. وقال المؤيد في تاريخه: وفى الساعة العاشرة في ليلة الأحد خامس عشر المحرم من هذه السنة، وثانى عشر كانون الثاني، ولد محمود بن الملك المنصور، ولقبوه بالملك المظفر بلقب جدّه، وأم الملك المظفر محمود المذكور عائشة خاتون بنت الملك العزيز محمد صاحب حلب بن الملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهنأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز المعروف بشيخ الشيوخ الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها: إبشر على رغم العدى والحسَّد ... بأجلِّ مولودِ وأكرم مولد بالنعمة الغراء بل بالدولة ... الزهراء بل بالمفخر المتجدّد وافاك بدراً كاملاً في ليلة ... طلعت عليك نجومها بالأسعد ما بين محمود المظفر اسفرت ... عنه وما بين العزيز محمد ومنها: أن الخواجا نصير الدين الطوسى صاحب التجريد وغيره عمل الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليها شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة فيها فلاسفة لكل واحد في اليوم ثلاثة دراهم، ودار طب فيها للحكيم درهمان، ومدرسة فيها لكل فقيه في اليوم درهم، ودار حديث لكل محدّث نصف درهم في اليوم. ومنها: أنه حصلت بديار مصر زلزلة عظيمة جداً، وتسامع الناس بمجيء التتار لقصد الشام، فانزعجوا بسبب ذلك، وبالله المستعان. ومنها: أن في شهر رجب تولى محيى الدين قاضى غزة تدريس المدرسة الناصرية بالقدس الشريف، وتولى شهاب الدين محمد بن القاضى شمس الدين أحمد ابن الخليل الخوّى قضاء القدس الشريف، وسافرا من دمشق إلى ولايتهما. وفيها:) (وفيها: حج بالناس:) (. ذكر من توفى فيها من الأعيان

السنة الثامنة والخمسين بعد الستمائة

الشيخ الصالح المحدث أبو العباس أحمد بن محمد بن تامتيت اللواتى، مات بمصر في هذه السنة، وأصله من مدينة فاس بالمغرب، وكان رجلا صالحا مقصودا للزيارة والتبرك بدعائه. الشيخ فتح الدين بن أبي الحوافر رئيس الأطباء بمصر والقاهرة، توفى في هذه السنة وكان شيخاً فاضلاً حسناً. القاضى أبو عبد الله محمد بن القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل أبي على عبد الرحيم البيسانى وزير الإنشاء الصالحى، وقد تقدّم ذكر جدّه واقف الصدرية. الرئيس صدر الدين أسعد بن المنجى بن بركات بن مؤمل التنوخى المعرّى، ثم الدمشقى الحنبلى. أحد المعدّلين ذوى الأموال والثروة والصدقات الدارّة البارّة، وقف مدرسة للحنابلة بدمشق مقابلة لتربة سيف الدين بن قليج، وقبره بها إلى جانب تربة القاضى جمال الدين المصرى في راس درب الريحان من محلة ناحية الجامع، وقد ولى نظر الجامع مدة، وقد استجدّ أشياء كثيرة منها: سوق النحاس قبلى الجامع، ونقل الصاغة إلى مكانها الآن، وقد كان قبل ذلك حيث يقال الصاغة العتيقة، وعدد الدكاكين التى بين أعمدة الزيادة، وكانت له صدقات كثيرة. وذكر عنه أنه كان يعمل صنعة الكيمياء، وأنه صح عنده عمل الفضة، والله أعلم، مات في مستهل رمضان من هذه السنة. الشيخ يوسف القيمنى، كان يعرف بالقيمنى لأنه كان سكن قمين حمام نور الدين الشهيد، وان يلبس ثيابا طوالا تحف على الأرض، ويبول في ثيابه، ورأسه مكشوف، وله أحوال وكشوف كثيرة. وقال ابن كثير: وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته، وذلك لأنهم لا يعلمون أن الكشوف قد تصدر من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر كابن صياد، فلا بدّ من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله وطريقته الكتاب والسنة فهو رجل صالح سواء كاشف أم لا، ومن لم يُوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا. قال الشافعي رضى الله عنه: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. ولما مات دفن بتربة في سفح جبل قاسيون، وهى مشهورة شرقى تربة أبي عمر المقدسى، وهو مزخرفة قد اعتنى بها من كان يعتقد فيه، وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة. ابن الفخر بن البديع. قال أبو شامة: كان زنديقاً يتعاطى علوم الفلاسفة، والنظر في علم الأوائل، وسكن مدارس الفقهاء، وقد أفسد عقائد جماعة من المسلمين الشباب المشتغلين، وكان متجاهراً بانتقاص الأنبياء عليهم السلام، كان معروفاً بابن الفخر ابن البديع البندهى، كان أبوه يزعم أنه من جملة تلامذة الفخر الرازى ابن خطيب الرى صاحب المصنفات. المعين المؤذن العادلى. مات في سابع صفر منها، وكان معمماً قد جاوز المائة سنة، وكان ممن أدرك دولة نور الدين الشهيد، وخدم صلاح الدين فمن بعده من الملوك إلى أن أقعد في بيته زمناً قبل موته بسنتين. سيف الدين بن الغرس خليل. كان أحد حجاب السلطان، وكان مشكوراً في ذلك، وكان أبوه والى شرطة دمشق في زمن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مات في أول شهر رمضان من هذه السنة. الأمير أبو بكر بن الملك الأشرف أبي الفتح محمد بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. مات في الثاني والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة بحلب، ودفن بالياروقية، ومولده في النصف الأخير من شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بمصر، سمع بحلب وبغداد، وحدّث بدمشق وغيرها. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الثامنة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، أولها يوم الخميس، وليس للمسلمين خليفة. وملك العراقين وخراسان وغير ذلك من بلاد الشرق هلاون بن طولى خان ابن جنكزخان ملك التتار، وأخوه منكوقان بن طولى خان ملك الأقاليم المتصلة ببلاد خطا وغيرها، وما وراء النهر وغيرها. وصاحب الديار المصرية، السلطان الملك المظفر قطز. وصاحب دمشق وحلب: الملك الناصر يوسف. وصاحب الكرك والشوبك: الملك المغيث بن الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو حزب مع الملك الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، وكان عزمهم قتال المصريين وأخذ البلد منهم، ولكن التتار اشغلوا كل أحد بنفسه، ووقع الجفل في البلاد الشامية بمجىء هلاون إليها.

ذكر منازلة هلاون مدينة حلب

ذكر منازلة هلاوُنُ مدينة حلب وأخذها من الملك الناصر يوسف وعبر هلاون الفٌرات من البيرة وأخذها، ووجد بها السعيد بن العزيز أخا الملك الناصر يوسف معتقلاً، فأطلقه، وسأله عما كان في يده من البلاد فقال له: كانت في يدي الصبيبة وبانياس، فكتب له بهما فرمان وأحسن إليه، ثم سافر ونزل على حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصرها سبعة أيام، ثم افتتحها عنوة. وفي تاريخ النويري: لما نزل هلاون على حلب في التاريخ المذكور أرسل إلى الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب نائب السلطنة بحلب يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغول، ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة شحنة ونحن نتوجه إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام كانت البلاد لنا، وتكونون أنتم قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين إن شئتم طردتموها وإن شئتم قتلتموهما. فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك، وقال لهم: ليس لكم عندنا إلا السيف. وكان رسول هلاون إليهم في ذلك صاحب آرزن الروم، فتعجب من هذا الجواب، وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك، فلما رد الجواب غضب هلاون، وأحاط التتار بحلب ثاني صفر وهجموا في غد ذلك اليوم، وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، منهم: أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتار لحلب، وهاجموها من عند حمام حمدان في ذيل القلعة يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف على المسلمين وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب في حلب من يوم الأحد المذكور إلى يوم الجمعة رابع عشر صفر، فأمر هلاون برفع السيف، ونودى بالأمان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من إلتجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخى مردكين، ودار بازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلى، والخانقاة التي فيها زين الدين الصوفى، وكنيسة اليهود، وكذلك أصحاب دور كانت فرمانات بأيديهم، قيل: إنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين الف نفس، ونازل التتار القلعة وحاصروها، وبها الملك المعظم توران شاه نائب الغيبة ومن التجأ إليها من العسكر، واستمر الحصار. وقال بيبرس في تاريخه: قتل من حلب خلق كثير لا يكاد يُحصون، وسبى من النساء والذرارى زهاء مائة الف نفس من الأشراف والأعيان، وبيعوا في الجزائر الفرنجية والبلاد الأرزمنية، وبقى السيف مبذولاً، ودم الإسلام ممطولا، سبعة أيام وسبع ليال، ثم نودى برفع القتل والقتال. ذكر مجيء أعيان أهل حماة إلى هلاون وهو على حلب وكان صاحب حماة قد توجه إلى دمشق، وتأخر بحماة الطواشي مرشد، ولما بلغ أهل حماة فتح حلب توجه الطواشى مرشد من حماة إلى الملك المنصور صاحب حماة بدمشق، وجاء كبراء حماة ومعهم مفاتيح حماة، وحملوها لهلاون وطلبوا منه الأمان لأهل حماة وشحنة تكون عندهم، فآمنهم هلاون وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً كان يدعى أنه من ذرية خالد بن الوليد رضى الله عنه، يقال له خسروشاه، فقدم إلى حماة وتولاها وأمن الرعية، وكان بقلعة حماة مجاهد الدين قايماز أمير جاندار، فسلم القلعة إليه، ودخل في طاعة التتار. ذكر ما جرى للناصر صاحب حلب ودمشق ولما بلغ الناصر فتح حلب، رحل بمن معه من العساكر إلى جهة الديار المصرية، وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، فأقام بنابلس أياماً، ورحل عنها، وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكرى، والأمير على بن شجاع وجماعة من العسكر، ثم رحل الملك الناصر إلى غزة، وانضم إليه مماليكه الذين كانوا قد أرادوا قتله، وكان قد اصطلح معه أخوه الظاهر غازي وانضم إليه. وبعد مسير الناصر عن نابلس، وصل التتار إليها، وكبسوا العسكر الذى بها، وقتلوا مجير الدين والأمير على بن شجاع، ومعهما جماعة من العسكر. وكانا أميرين جليلين فاضلين، وكانت البحرية قد قبضوا عليهما واعتقلوهما بالكرك، فأفرج المغيث عنهما لما وقع الصلح بينه وبين الناصر.

ولما بلغ الناصر وهو بغزة ما جرى من كبسة التتار لنابلس رحل من غزة إلى العريش، وسير القاضى برهان الدين بن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر صاحب مصر يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والمنصور صاحب حماة والعسكر، ووصلوا إلى قطْية، فجرى بها فتنة بين التركمان والأكراد الشهرزورية، ووقع نَهْب في الحال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر فيقبض عليه، فتأخر في قطية، ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع الملك الناصر جماعة منهم أخوه الملك الظاهر غازي، الملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمرى، ثم سار الملك الناصر من قطية بمن تأخر معه إلى جهة تيه بنى إسرائيل. فلما وصلت العساكر إلى مصر إلتقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية وطيب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقا، والتقاه ملتقى حسنا، وطيب قلبه، ودخل القاهرة. وفي تاريخ النويرى: ولما كان الناصر بدمشق وبلغ إليه قصد التتار حلب برز من دمشق إلى برزة في أواخر السنة الحالية، وجفل الناس بين يدى التتار، وسار الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق، ونزل مع الناصر ببرزة، وكان هناك مع الملك الناصر بيبرس البندقدارى من حين هرب من الكرك، وإلتجأ إلى الناصر يوسف، واجتمع مع الملك الناصر على برزة أُمم عظيمة من العساكر، ولما دخلت هذه السنة والملك الناصر ببرزة بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به، فهرب من الدهليز إلى القلعة يعنى قلعة دمشق وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم هربوا على حمية إلى جهة، وكذلك سار بيبرس البندقدارى وجماعته إلى غزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازى بن الملك العزيز بن الملك الظاهر غازى بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لشهامته، ولما جرى ذلك هرب الملك الظاهر المذكور خوفاً من أخيه الناصر يوسف، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر، أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر إلى غزة، واجتمع عليه من بها من العساكر وأقاموه سلطاناً. ولما جرى ذلك كاتب الملك المظفر قطز صاحب مصر بيبرس البندقدارى، وبذل له الأمان، ووعده الوعود الجميلة، ففارق بيبرس البندقدارى الشاميين، وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة، وأقطعه قليوب وأعمالها. وأما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية كما ذكرنا سار إلى تيه بنى إسرائيل، وبقى متحيرا إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبردار كردى اسمه حسين، فحسَّن له المضى إلى التتار، وقصد هلاون فاغتر بقوله، ونزل بركة زيزا، وسار حسين الكردي إلى كتبغانوين نائب هلاون، وهو نازل على المرج، وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغانوين إليه وقبض عليه وأحضره إلى مدينة عجلون، وكانت بعد عاصية، فأمر الملك الناصر بتسليمها، فسلمت إليه فهدموها وخربوا قلعتها أيضاً. وكان بالصُبَيبة الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل، سلَّم الصبيبة إليهم وسار معهم وأعلن بالفسق والفجور وسفك الدماء. وأما الملك الناصر يوسف فإنه لما اجتمع بكتبغانوين، بعث به كتبغا إلى هلاون، وهو على حلب بعد، فلما عاين الناصر حلب وما حل بها وبأهلها بكى وأنشد: سقى حلب الشهباءَ في كل بُقعة ... سحائب غيثٍ نوؤُها مثل أدْمعى فتلك مرامى لا العقيق ولا اللوَى ... وتلك ربوعى لا زرودٌ وأملع ولما بعد عنها قليلاً أنشد: ناشدتك الله يا هطالة السُحُبِ ... إلا حملتِ تحيَّاتى إلى حلبِ لا عُذْر للشوق أن يمشى على قدرٍ ... ماذا عسى يبلغ المشتاق في الكُتب أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لى تعبى ثم بكى بكاء طويلاً وأنشد: يعز علينا أن نرى ربعكم يَبْلَى ... وكانت به آيات حسنكم تُتْلَى لقد مرّ لي فيها أفانين لذّة ... فما كان أَهْنَى العيش فيها وما أَحْلَى أأحْبابنَا والله ما قلتُ بعدكم ... لحادثة الأيام وقفاً ولا مَهْلاَ

ذكر حال قلعة حلب

عَبَرتُ على الشَّهباء وفي القلب حَسْرةٌ ... ومن حلوها تركٌ يتابعهم مُغْلاَ ولقد حكموا في مهجتى حكم ظالمٍ ... ولا ظالِمٌ إلا سَيُبْلى كما أُبْلَى ثم سار إلى الأردو، فأقبل عليه هلاون ووعده بردّه إلى مملكته. وفي تاريخ بيبرس: بقى الملك الناصر عند هلاون هو وولده العزيز، وعزم هلاون على العود من حلب إلى العراق، فسأل الملك الناصر وقال له: من بقى في ديار مصر من العسكر؟ فقال له: لم يبق بها إلا نفر قليل من العسكر وأقوام من مماليك بيتنا لا يبالي بهم، قال: فكم يكفى التجريد لقتالهم؟ قال: يكفى القليل من الجيش، وحقر عنده أمرهم وهونه، فجرد هلاون كتبغا نوين ومعه اثني عشر ألف فارس وأمره أن يقيم بالشام، وحفزه العود لما اتصل به من اختلاف حصل بين إخوته، فعاد وأصبحت معه الملك الناصر وولده العزيز. ووصل كتبغانوين إلى دمشق وكانت قلعتها بعد ممتنعة، وبها وال إسمه بدر الدين بن قزل فعصى، وأبى أن يسلمها إلى نواب التتار، فحاصره كتبغا أياماً ففتحها عنوة، وأمر بقتل متوليها، فأخرج إلى مرج برغوث وقتل، وقتل معه نقيب القلعة وهو جمال الدين بن الصيرفي، ونزل كتبغا على المرج، فحضر إليه رسل الفرنج الذين بالساحل بالهدايا والتقادم، لأنهم خافوا على بلادهم من تطرق التتار إليها وغارتهم عليها، وشرعوا في تحصين مدائنهم وحصونهم، وحضر إليه الملك الظاهر أخو الملك الناصر، وكان مقيماً بصرخد، فأحسن إليه وأقره على حاله، وأعاده إلى مكانه، وأرسل رسلاً إلى السلطان الملك المظفر قطز يطالبه ببذل الطاعة أو تعبئة الضيافة، فلما وصلت رسله بهذه الرسالة أمر الملك المظفر بقتلهم، فقتلوا وطيف برءوسهم الأسواق إلا صبياً واحداً كان معهم استبقاه المظفر وأضافة إلى مماليكه، وتجهز للمسير إلى الشام، وجرد العزم والإهتمام، وأعد للقاء العدو الجيش الهمام. وسنذكر بقية ما جرى على الملك الناصر يوسف في موضعه إن شاء الله تعالى. ذكر حال قلعة حلب قال النويرى في تاريخه: وثب جماعة من أهل قلعة حلب في مدة الحصار على صفى الدين طُرْزه رئيس حلب، وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز ابن القاضى نجم الدين بن أبي عصرون فقتلوهما، لأنهم اتهموهما بمواطأة التتار، واستمر الحصار على القلعة، واشتدت مضايقة التتار لها نحو شهرين، ثم سملت بالأمان يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول. ولما نزل أهلها بالأمان، كان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر يوسف، منهم: سكز وسنقر الأشقر وبرامق وغيرهم، فسلمهم هلاون هم وباقي الترك إلى رجل من التتار يقال له سلطان جق، وهو رجل من أكابر القفجاق هرب من التتار لما غلبت على القفجاق، وقدم إلى حلب، فأحسن إليه الملك الناصر فلم تطب له تلك البلاد، فعاد إلى التتار، وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها، وأمر هلاون أن يمضى كل مسلم إلى داره وملكه وأن لا يعارض، وجعل النيابة في حلب لعماد الدين القزوينى، وخربت أسوار البلد وأسوار القلعة، وبقيت كأنها حمار أجوف. وانقضت المملكة الناصرية، وبانقضائه انقضت الدولة الأيوبية من البلاد الشامية كما زالت من الديار المصرية. ووصل إلى هلاون بحلب الملك الأشرف صاحب حمص موسى بن إبراهيم ابن شيركوه، فأكرمه هلاون، وأعاد عليه حمص، وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة وعوضه عنها تل باشر كما ذكرنا، فعاد إليه في هذه السنة، واستقر ملكه بها، ولما حضر الأشرف بين يديه قال: ثمنَّ، فقبل الأرض وقال: البرج الذي فيه حريمنا وحريم الملوك فغضب هلاون، فقالت له خاتون: ملك من الملوك يتمنى عليك شيئاً يسيراً، وأنت أذنت له في ذلك وتمنعه، فقال هلاون: إنما منعته لأجلك حتى أجعل بنات الملوك خدمك. فقالت: هم خدمى وقد وهبتهم له، فرسم له بالبرج، فقبل الأرض، وأراد النهوض فلم يقدر حتى أقاموه بإبطيه، ولم تزل به الخاتون حتى أعاد عليه مملكة حمص وأضاف إليه غيرها. قال بيبرس في تاريخه: وكتب له منشوراً بنيابة دمشق وبلاد الشام، وعاد من عنده، وأقام بدمشق.

ذكر رحيل هلاون من حلب

وقدم إلى هلاون وهو على حلب الشيخ محيي الدين بن الزكى من دمشق، فأقبل عليه وليس خلعه هلاون، وكانت مذهبة، وولاه قضاء الشام، وعاد بن الزكى إلى دمشق ودخلها وعليه الخلعة، وجمع الفقهاء وغيرها من أكابر دمشق، وقرأ عليهم تقليد هلاون، واستمر في القضاء. ذكر رحيل هلاون من حلب وإرساله جيشاً إلى أخذ دمشق ثم رحل هلاون إلى حارم وطلب تسليمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والى قلعة حلب، فأحضره هلاون وسلموها إليه، فغضب هلاون من ذلك وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم وسبى النساء. ثم رحل هلاون بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد، فسار إليها، وجعل بحلب مكانه رجلاً أعجمياً، وأمر هلاون بخراب أسوار حلب، فأخرجت كما ذكرنا، وكذلك أمر بخراب أسوار حماة، فأخربت وأحرقت زردخاناتها، وبيعت الكتب التي بدار السلطنة بقعلة حماة بأبخس الأثمان. وقال النويري: لم تخرب سور حماة لأنه كان بها رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية ضامن الجهة المفردة، قبذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال، وقال: الفرنج منا قريب بحصن الأكراد، ومتى خربت سور المدينة لا يقدر أهلها على المقام بها، فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب سور المدينة. وكان هلاون قد أمر الملك الأشرف صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً لأنها مدينته. وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالآمان لم يتعرضوا إلى قتل ونهب، وعصت عليهم قلعة دمشق، فحاصرها التتار، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة، وأقاموا عليها المجانيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة، ونبهوا جميع ما فيها، وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما فيها من المزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلتها. وقال ابن كثير: أرسل هلاون قبل أن يرحل من حلب جيشاً مع أمير من كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا دمشق في أواخر صفر، فأخذوها سريعاً من غير ممانعة، وتلفاهم أكابرها بالرحب والسعة، وقد كتب هلاون معهم فرمان أمان لأهل البلد، فقرىء بالميدان الأخضر، ونودى في البلد بالأمان، فأمن الناس والقلعة ممتنعة، وفى أعاليها المجانيق منصوبة، والحال شديدة، فأحضرت التتار المجانيق على عجل، والخيول تجرها، وهم راكبون على الخيل، وأسلحتهم على الأبقار الكثيرة، فنصبوا المجانيق على القلعة من غربيها وهدموا غيطاناً كثيرة وأخذوا أشجارها، ورموا بها القلعة رمياً متوالياً كالمطر المتدارك، فهدموا كثيراً من أعاليها وشرفاتها وتداعت للسقوط، فأجابهم متوليها في آخر ذلك النار إلى المصالحة، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها وأعالى بروجها، وذلك في المتصف من جمادى الأولى من هذه السنة، وقتلوا المتولى بها بدر الدين بن قزل، ونقيبها كمال الدين بن الصيرفى الحلبي. وسملوها إلى امير منهم يقال له: إيل سنان، وكان معظماً لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، لعنهم الله، وذهبت منهم طائفة إلى هلاون بهدايا وتحف، وقدموا منه ومعهم فرمان أمان من جهته، ودخلوا البلد من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون مسجداً إلا رشُّوا عنده خمراً، وقماقمم فيها خمراً يرشون منها على وجوه الناس، ويأمرون كل من يجتازون به في السواق والطرقات أن يقوم لصليبهم، ودخلوا من درب الحجر، فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ورشوا هنالك خمراً، وكذلك على باب مسجد في الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوق حتى وصلوا إلى درب الريحان أو قريب منه، فتكاثر عليهم المسلمون، فردوهم وعادوا إلى سوق كنيسة مريم، ثم توقف خطيبهم إلى دكته وكان في عطفة السوق هنالك، فذكر في خطبته مدح دين النصارى وذم دين الإسلام وأهله، ثم ولجوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم، وكانت بعد عامرة، ولكن كان هذا سبب خرابها. وحكى الشيخ قطب الدين في الذيل: أنهم ضربوا بالناقوس بكنيسة مريم، والله أعلم. قال: وذكروا أنهم دخلوا الجامع بخمر، وكانت من نيتهم الفاسدة إن طالت التتار أن يخربوا كثيراً من المساجد وغيرها، فكفى الله شرهم.

ذكر وقعة عين جالوت

ولما وقع هذا في البلد، اجتمع قضاة المسلمين والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إيل سنان، فاهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤوس النصارى عليهم، ف) إنا لله وإنا إليه راجعون (. ذكر وقعة عين جالوت وكسرة التتار عليها يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة: ولما استولت التتار على البلاد الشامية وضايقوا الممالك الإسلامية، ولم يبق من يدفعهم عن العباد والبلاد إلا عسكر الديار المصرية، اتفق السلطان الملك المظفر قطز مع الأمراء، والأكابر على تجهيز العساكر، وصمموا على لقاء العدو المخذول، وجمعوا الفرسان والرجالة من العربان وغيرهم، وخرجوا من القاهرة بأعظم أبهة. وكانت التتار في أرض البقاع، فساروا صحبة مقدّمهم كتبغانوين، فكان المتلقى بمنزلة عين جالوت في مرج بنى عارم، فلما التقى الجمعان حمل السلطان الملك المظفر بنفسه، وألقى خوذته على رأسه، وحملت الأمراء البحرية والعساكر المصرية حملة صادقة، فكسروهم أشد كسرة، وقتل كتبغانوين في المعركة. وقتل بعده السعيد بن الملك العزيز لأنه وافقه في هذه الحركة، وكان قد أخذ من هلاون فرماناً بإستمراره على ما بيده من البلاد وهي الصببية وأعمالها وزيادة عليها، وحضر مع كتبغانوين الوقعة، فلما انكسر وأحضر إلى المظفر مستأمناً فقال له: كان هذا يكون لو حضرت قبل الوقعة، وأما الآن فلا، وأمر به فقتل صبراً. وقتل أكثر التتار، وجهزت خيل الطلب وراء من هم بالفرار، وكان المقدم عليها الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، فتبع المنهزمين وأتى عليهم قتلا وأسرا حتى استأصل شأفتهم، فلم يفلت أحد منهم، وصادفت طائفة من التتار جاءت من عند هلاون مددا لكتبغا، فلما وصلت هذه النجدة إلى بلد حمص صادفت التتار منهزمين على أسوأ الأحوال، والخيول تجول في طلبهم كل مجال، فلم تمكنهم الهزيمة، فكانوا للسيوف غنيمة، وكانت عدتهم ألفين، فلم يبق لهم أثر ولا عين. وكان أيضاً في صحبة التتار الملك الأشرف موسى صاحب حمص، ففارقهم وطلب الأمان من السلطان الملك المظفر، فآمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على مابيده وهي حمص ومضافاتها. ومما اتفق في هذه الوقعة ان الصبى الذي استبقاه السلطان الملك المظفر من التتار المرسلين إليه من عند كتبغا، وأضافه إلى المماليك السلطانية، كما ذكرناه، كان راكبا وراءه حال اللقاء، فلما إلتحم القتال كيزسهما وفوقه نحو المظفر، فبصر به بعض من كان حوله، فأمسك وقتل مكانه، فكان كما قيل: واحذر شرارة من أطفات جمرته ... فالثأر غض لو بُقِّى إلى حين وفي تاريخ النويرى: ضرب ذلك الشاب السلطان بسهم فلم يخطىء فرسه فوقعت، وبقى السلطان على الأرض، فنزل فخر الدين ما ماى عن فرسه وقدمه إلى السلطان فركب، ثم حضرت الجنائب السلطانية فركب فخر الدين منها. ثم لما فرغ السلطان من كسر التتار، وانقضى أمر المصاف، أحسن إلى الملك المنصور صاحب حماة، وأقره على حماة وبارين وأعاد عليه المعرة، وكانت في أيدى الحلبيين من سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ السلمية منه وأعطاها للأمير شرف الدين عيسى بن مهنى بن مانع أمير العرب. ذكر دخول السلطان الملك المظفر دمشق ثم لما جرى ما ذكرنا أتم السير السلطان الملك المظفر بالعساكر، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر، فإن القلوب كانت قد يئست من النصر على التتار لاستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزموه، وفي يوم دخوله دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتار فشنقوا، وكان في جملتهم حسين الكردى طبردار الملك الناصر يوسف وهو الذي أوقع الملك الناصر في أيدى التتار. وفي هذه النصرة، وقدوم الملك المظفر قطز إلى الشام يقول بعض الشعراء: هلك الكفر في الشام جميعا ... واستجد الإسلام بعد دحوضه بالملك المظفر البطل الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه ملك جاءنا بعزم وحرم ... فاعتززنا بسمره وببيضه أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه وقال جمال الدين بن مصعب: إن يوم الحمراء يوم عجيب ... بين مصر تركي يجود بنفسه

ذكر أحكام الملك المظفر في دمشق

بالشام بددهم وفرق شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه دار كاس المنون لما مزجنا ... عين جالوت بالدما للسقاة يا لها جمعة غدا الكفر فيها ... مسجدا للسيوف لا للصلاة وقال شهاب الدين أبو شامة: غلب التتار على البلاد فجاءهم ... فيه ولى جيش الطغاة البغاة دار كاس المنون لما مزجنا ... عين جالوت بالدما للسقاة ثم أعطى الملك المظفر قطز دستوراً للملك المنصور صاحب حماة، فقدم الملك المنصور وأخوه الملك الأفصل ووصلا إلى حماة، ولما استقر الملك المنصور بحماة قبض على جماعة كانوا مع التتار فاعتقلهم. وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ الملك المنصور بهذا النصر العظيم وبعود المعرة بقصيدة منها قوله: رعت العدى فضمنت تل عروشها ... ولقيتها فأخذت تل جيوشها نازلت أملاك التتار فأنزلت ... عن فحلها قسراً وعن اكديشها فغدا لسيفك في رقاب كماتها ... حصدُ المناجل في يبيس حشيشها فقْتَ الملوك ببذل ما تحويه إذ ... ختمت خزائنها على منقوشها ومنها: وطويت عن مصر فسيح مراحل ... ما بين بركتها وبين عريشها حتى حفظت على العباد بلادها ... من رومها الأقصى إلى أحبوشها فرشت حماة لوطىء نعلك خدَّها ... فوطيتُ عين الشمس من مفروشها وضربت سكتها التي أخلصتها ... عما يشوب النقد من مغشوشها وكذا المعرة إذ ملكت قيادها ... دهشت سروراً سار في مدهوشها لا زالت تنعش بالنوال فقيرها ... وتنال أقصى الأجر من منعوشها طربت برجعتها إليك كأنما ... سكرت بخمرة جاشها أوجَيشها ذكر أحكام الملك المظفر في دمشق ولما استقر ركابه الشريف في دمشق، جهَّز عسكراً إلى حلب لحفظها، ورتب علاء الدين بن صاحب الموصل نائب السلطنة بحلب، ورتَّب بدمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي الصالحي نائباً، وأمر لنجم الدين أبي الهيجاء بن خشتر بن الكردى أن يقيم بدمشق مع النائب، وأقر الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة بها على حاله، كما ذكرنا، وحضر إليه الملك الأشرف صاحب حمص، فأقبل عليه وأقره بما بيده ولم يؤاخذه، ورتب شمس الدين أقوش، البرلى العزيزى أميراً بالسواحل وغزة، ورتب معه جماعة من العزيزية، وكان شمس الدين أقوش المذكور من مماليك العزيز محمد صاحب حلب، وكان مع الملك النصار، ولما هرب الناصر من قطيه، على ما ذكرنا، سار شمس الدين أقوش المذكور مع العساكر إلى مصر، فأحسن إليه الملك المظفر وولاه الآن السواحل وغزة. وقال ابن كثير: كان علم الدين سنجر الحلبى المذكور أتابكا لعلى بن المعز أيبك، وابن صاحب الموصل هو الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، ودخل مع العسكر إلى مصر، وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ كان تولى المصول بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتار، ولما استقر في نيابة حلب سار سيرة ردية، وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية. ونظر المظفر في أحوال البلاد، وحسم مواد الفساد، وجدد الإقطاعات بمناشيره. ذكر ما فعل أهل دمشق عند ورود البشارة بكسر التتار على عين جالوت على يد السلطان الملك المظفر رحمه الله قال أبو شامة: جاءنا كتاب قطز من طبرية بتاريخ الأحد السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة، وهو أول كتاب ورد منه إلى أهل دمشق يخبرهم بهذه الكسرة الميمونة وبوصوله إليهم بعدها. قال: ومن العجائب أن التتار كسروا وهلكوا بأبناء جنسهم من الترك، وقلت في ذلك: غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركى يجود بنفسه بالشام أهلكهم وبدد شملهم ... ولكل شىء آفة من جنسه

ذكر عود الملك المظفر قطز إلى الديار المصرية

قال: وقد كانت النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتار، وتردد إيل سنان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هلاون، وجاء من عنده بفرمان لهم اعتنى بهم، وبوصية في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتقعة، وهم ينادون حولها بارتقاع دينهم واتضاع دين الإسلام، فركب المسلمون من ذلك هم عظيم، فلما هرب التتار من دمشق ليلة الأحد السابع والعشرين من رمضان أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها، وأخربوا كنيسة اليعاقبة، وكنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان عليهم أمر عظيم اشتفى به بعض الاشتفاء صدور المسلمين، ثم هموا بنهب اليهود، فنهب قليل منهم، ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر عنهم ماصدر من النصارى. وقال ابن كثير: وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان مصانعاً للتتار على أموال الناس، يقال له: الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجى، كان خبيث الطوية مشرقياً ممالئاً لهم على أموال المسلمين، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين المماثلين على المسلمين. وكان هلاون أرسل تقليدا بولاية القضاء بجميع مدائن الشام والموصل وماردين وميافارقين والأكراد وغير ذلك للقاضى كمال الدين عمر بن بندار التفليسى، وقد كانت نائب الحكم بدمشق عن القاضى صدر الدين أحمد بن يحيى بن ابن هبة بن سنى الدولة من مدة خمس عشرة سنة، ووصل التقليد في السادس والعشرين من ربيع الأول، وحين وصل قرىء بالميدان الأخضر، فاستقل بالحكم من دمشق وكان من الفضلاء، فسار القاضيان المعزولان صدر الدين بن سنى الدولة ومحيى الدين بن الزكى إلى خدمة هلاون، إلى البلاد الحلبية، فخدع ابن الزكى لابن سنى الدولة وبذل أموالاً كثيرة وتولي القضاء بدمشق ورجعا فمات ابن سني الدولة ببعلبك، وقدم ابن الزكى على القضاء ومعه تقليد به وخلعة بذهب، فلبسها وجلس في خدمة إبل سنان تحت قبة النسر، وهو النائب الكبير، وبينهما الخاتون زوجة إيل سنان حاسرة عن وجهها، وقرىء التقليد هناك، وحين ذكر اسم هلاون اللعين نثر الذهب والفضة من فوق رؤوس الناس. وذكر أبو شامة: أنه استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة، فإنه عزل قبل راس الحول، فأخذ العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقمرية والكلاسة مع المدرستين اللتين كانتا بيده وهما التقوية والعزيزية، وأخذ لولده عيسى تدريس الأمينية ومشيخة الشيوخ، وانتزع من الشمس الكردى الصالحية وسلمها إلى العماد بن العزى، ونزع الشومانية من الفخر النقجوانى وسلمها إلى الكمال بن النجار، ونزع الربوة من الجمال محمد بن اليمنى وسلمها إلى الشهاب محمود بن شرف الدين محمد بن القاضي شرف الدين بن زين القضاة عبد الرحمن ابن سلطان وهو من بنى عمه. كل هذا مع ما عرف منه من التقصير في حق الفقهاء في المدرستين اللتين كانتا بيده من قديم الزمان وهما الحزيزية والتقوية، وعدم انصافه فيهما وولى ابنه عيسى مشيخة الشيوخ بخوانق الصوفية واستناب أخاه لأمه في القضاء، ومعه من المدارس: الرواحية والشامية البرانية، مع أن شرط واقفها أن لا يجمع المدرس بينها وبين غيرها. وقال ابن كثير: ولما رجعت المملكة إلى المسلمين سعى القاضى محيى الدين وبذل أموالاً جزيلة ليستمر في القضاء والمدارس التي استولىعليها في مدة هذه الشهور، فلم يستمر إلا قليلا حتى جاء تقليد القضاء لنجم الدين أبي بكر ابن صدر الدين بن سنى الدولة، فقرىء يوم الجمعة بعد الصلاة الحادى والعشرين من ذي القعدة بالشباك الكمالى من مشهد عثمان بجامع دمشق. ذكر عود الملك المظفر قطُز إلى الديار المصرية ومقتله لما قرر السلطان الملك المظفر قطز أمور الشام على ما شرحناه سار من دمشق إلى جهة الديار المصرية، وفى نفوس البحرية منه ومن أستاذه قبله من قتلهما الفارس أقطاى واستبداهما بالملك وإلجائهم إلى الهرب والهجاج والتنقل في الفجاج إلى غير ذلك من أنواع الأهوان التي قاسُوها، والمشقات التي لابَسُوها، وإنما انحازوا إليه لما تعذَّر عليهم المقام بالشام، وللتناصر على صيانة الإسلام، لا لأنهم أخلصوا له الولاء، أو رضوا له بالاستيلاء. وقد ثَبتَ المرعى على دِمَنِ الثرى ... وتبقى خزازاتُ النفوس كماهيا

ذكر ترجمة الملك المظفر قطز

فاتفق الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، والأمير سيف الدين أنص الاصفهانى، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير بدر الدين بكتوت الجوكاندارى، والأمير سيف الدين بيدغان، ومن معهم على قتله، وجعلوا يترصدون له وقتاً لإنتهاز فرصتهم، وإمضاءِ عزيمتهم، فلا يجدون سبيلاً إلى ما هموا بفعله، ولا تمكنا من الوثوب به وقتله، إلى أن افضى بهم السيرُ إلى منزلة القصَيْر بطرف الرمل، بينه وبين الصالحية مرحلة، وقد سبق الدهليزُ إلى الصالحية وقالوا: متى فاتنا من هذه المنزلة وصل إلى القلعة وأعجزنا مرامُه ولم نأْمن انتقامَه، واتفق أنه انفرد عن المواكب لصيد الأرانب، ساق خلف أرنب عرض له، وهم يرمقونه، فلما رأوه قد بَعدُ عن الأطلاب، قالوا: الآن ندرك الطِلاب، وساقوا في إثره ركضاً، وجاؤوا يتلو بعضهم فتقدَّم إليه أنص الأصبهانى كأنه يشفع عنده في إصلاح حال الركن بيبرس البندقدارى لأنه أقام في الخدمة مُدَّة ولم يعين له عدَّه، وخرج إلى الغزاة برمحه، وبذل فيها غاية نصحه، فأجابه المظفر إلى سؤالِه ووعده بإصلاح حاله فأهوى إلى يده كأنه يقبلهما، فأمسكها أنص وضبطها، فأيقن المظفر أنه قد ختل وخدع وأن ذلك الأمر قد أبرم ووضع، وأراد أن يجذب سيفه ليدفَع عن نفسه، فعاجله البندُقدارى بالسيف وأخذته السيوف، فخر صريعاً يمج دما ونجيعاً، وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة. ويقال: لما أجاب لمظفر إلى كلام أنص أهوى لتقبيل يده، فقبض عليها، وحمل عليه بيبرس البندقدارى حينئذ، وضربه السيف، واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه، ثم قتلوه بالنَشاب في التاريخ المذكور. ذكر ترجمة المَلِكِ المُظَفَّرِ قُطُز والكلام فيه على أنواع: الأول في اصله ومبدأ امره ونسبه: هو سيف الدين قطز بن عبد الله التركى، أخص مماليك الملك المعزّ أيبك التركمانى، أحد مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. وحكى بن أبي الفوارس قال: كان هذا قطز مملوكاً لابن العديم، أو قال لأبن الزعيم، رجل من دمشق، فضربه يوماً وشتمه، فبكى بكاءً كثيراً وامتنع من الأكل في ذلك اليوم. فقال له الفراش: هذا البكاء كله من ضربة أو ضربتين، فقال يا خارج: والله ما أبكى للضرب، ولكن للعنته أبي وجدّى وهما خير من أبيه وجده فقال له الفراش: ومن أبوك وجدُّك، وما كانا إلا كافرين؟ فقال: لا والله، بل أنا مسلم ابن مسلم إلى عشر جدود وأنا محمود بن مودود بن أخت جلال الدين خوارزم شاه السلجوقي، ولا بد أن أملك مصر وأكسر التتار. وحكى تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي قال: لما ملك الملك المظفر قطز قال لى حسام البركتخانى: والله لا يكسر التتار غيره، فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال: إنى وإياه مملوكين صبَّيين عند الهجاوى، وكان على قطز قمل كثير، فكنت أسرح رأسَه وآخذ له كل قملة بفلس أو بصَفعة، فسرحت رأسه يوماً وصفعته صفعاً كثيراً، ثم تنهدت فقال: ما بالك؟ فقلت: أتمنى على الله إمرة خمسين فارساً. فقال ورأسه في حجرى: طيب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً، فضحكتُ وصفعته صفعةً قويةً، وقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم وقال لى: أنت تملك مصر وتكسر التتار. قال: فسكتَّ، وكنت أعرف منه الصدق، وما أشك في أنه يكسر التتار، فلم تمض إلا مدة يسيرة حتى خرج وسكر التتار. وقال القاضى تاج الدين: ثم رأيت حسان الدين البركتخانى المذكور بمصر بعد كسر التتار، وهو أمير خمسين فارساً.

وقال ابن كثير: وقد حكى الشيخ قطب الدين اليونينى في الذيل عن الشيخ علاء الدين على بن غانم عن المولى تاج الدين أحمد بن الأثير، كاتب السر في أيام الملك الناصر صاحب دمشق، قال: لما كنامع السلطان الناصر بوطأة برزة، كانت البريدية يخبرون بأن المظفر قطز قد تولى سلطنة الديار المصرية، فقلت ذلك للسلطان. فقال: اذهب إلى فلان وفلان وأخبرهم بهذا، فلما خرجت من عنده لقبنى بعض الأجناد، فقال لي: جاءَكم الخبر من الديار المصريَّة بأن قطز تملك. قتل: ما عندي من هذا علم، وما يُدرك أنت هذا؟ فقال: بل والله إنه سبلى المملكة ويكسر التتار. فقلت: من أين تعلم هذا؟ قال: كنتُ أخذته وهو صغير وعليه قمل كثير، فكنت أفليّه وأهينه. فقال لى: ويلك إش تريد أن أُعطيك إذا تملكتُ الديار المصرية. فقلت: أنت مجنون، فقال: لا والله لقد رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لى: أنت تملك الديار المصرية وتكسِرُ التتار، وقول رسول الله عليه السلام حق لا شك فيه. فقلت له حينئذ وكان صادقاً: فأريد منك إمرة خمسين. فقال: نعم. قال ابن الأثير: فلما قال لى هذا قلت: هذه كتب المصريين بأنه تولى السلطنة. فقال: والله ليكسرنَّ التتار، فكان كما قال. قال: ولما رجع الناصر يوسف إلى ناحية الديار المصريَّة وأراد دخولها فلم يدخل ورجع عنها، ودخلها أكثر الجيوش، كان هذا الحاكى في جملة من دخلها، فأمَّره المظفَّر قطز إمرة خمسين فارساً، ووفَّى له بالوعد، وهو الأمير كمال الدين البركختانى. قال ابن الأثير: فلقينى بالديار المصرية بعد أن تأمَّر فذكرنى بما كان أخبرني عن المظفر، فذكرته، ثم كانت وقعة التتار على إثر ذلك. وفي تاريخ النويرى: وحكى عز الدين بن أبي الهيجاء قال: حدثنى بلقاق عن بدر الدين بكتوت الأتابكى قال: كنت أنا وقطز وبيبرس البندقدارى خشداشية في حال الصبا، فرأينا يوماً منجماً في بعض الطرقات بالديار المصريَّة فوقفنا عليه، فقال له قطز: أبصر لي، فضرب بالرمل وجعل يصوِبُ فيه النظر. وقال: إلى هذا العجب. فقال له: قل. فقال: أنت تملك مصر وتكسرُ التتار، فضحكنا منه، ثم قال له بيبرس: أبصر لي، فضرب وجعل يصوب النظر إلى الآخر ويتعجب. فقال له: قل. فقال: أنت أيضاً تملك مصر ويطول ملكك، فضحكنا ثم قلت له: فابصر لي، فضرب وقال: أنت يحصل لك إمرةٌ كبيرة وهذا سببُها، وأشار إلى بيبرس البندقدارى، ويقتل هذا وأشار إلى قطز، فوالله ما خرم من قوله ذرة. وحكى ركن الدين الجزرى أستاذ الفارس أقطاى قال: كناعند قطز في أول دولة استاذه الملك المعز أيبك، وقد حضر عنده منجم مغربىّ موصوف بالحذق، فأمر مَنْ كان هناك بالإنصراف إلا أنا. وقال للمنجم: اضرب وانظر من يملك مِصْرَ بعد أستاذ المعز ويكسر التتار، فضرب وجعل يعد على اصابعه وقال: يطلع لى اسم فيه خمسُ حروف بلا نقط، وأبوه ايضاً كذلك، وأنت فاسمك ثلاثة أحرف، فتبسم قطز وقال له: لم لا تقول محمود بن مودود؟ فقال المنجم: هو والله هذا. قال قطز: أنا محمود بن مودود، أنا الذى أكسر التتار وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه منهم. وأمَّا مبدأ أمر قطز فإنَّ السلطان الملك المعزّ أيبك اشتراه وهو أميرٌ، فربَّاه وأحسن تربيته، ولما قتل أستاذه قام في تولية ابنه الملك المنصور نور الدين على ابن المعز، وكان حينئذ أتابك العساكر بالديار المصرية، ولما سمع بأمر التتار خاف ان تختلف الكلمة بسبب صغر ابن أستاذه، فعزله ودعا إلى نفسه، فبويع له في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، فقدر الله على يديه نصرة الإسلام بعين جالوت كما ذكرنا.

ذكر سلطنة الملك الظاهر

الثاني في سيرته: كان شجاعاً، بطلاً، كثير الخير، محبّاً للإسلام وأهله، وهم يحبونه، وذكر عنه أنه لما كان في المعركة يوم عين جالوت قتل جواده ولم يجد أحداً في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل، وبقى كذلك واقفاً على الأرض، ثابتاً في محل المعركة وموضع السلطنة من القلب، فلما رآه بعض الأمراء ترجَّل عن فرسة وحلف على السلطان ليركب، فامتنع السلطان وقال: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءَت الوشاقية، فركب، فلامه بعض الأمراء وقال ياخوند: لم لا ركبتَ فرسَ فلان؟ فلو كان رآك بعض الأمراء لقتلك وهلك الإسلام بسببك. فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله ربٌّ لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان وعدد خلقاً من الملوك، فلم يضيع الله الإسلام. وكان حين ساق من الديار المصرية كان في خدمته خلق من كبار الأمراء من البحرية وغيرهم، ومعه الملك المنصور صاحب حماة، وجماعة من ابناءِ الملوك، فأرسل إلى صاحب حماة يقول له: لا تعتنى بمدّ سماط في هذه الأيام، وليكن مع الجندى لحمه في سولقه يأكلها، والعجل العجل. وكان اجتماعه بعدوه كما ذكرنا في العشر الأخير من رمضان، يوم الجمعة، وهذه بشارة عظيمة، فإن وقعة بدر كانت يوم جمعة في شهر رمضان، ولهذا نصر الله تعالى الإسلام نصراً عزيزاً. وقال أبو شامة: وكان سيف الدين قطز هذا موصوفاً بمواظبة الصلوات، والشجاعة، وتجب شرب الخمر. الثالث في مدَّة سلطنته: ذكرنا أنه قتل يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة بين الغُرابي والصالحية، ودفن بالقصير، وكان قبره يزار، فلما تمكن الظاهر بيبرس في المملكة بعث إلى قبره فغيبةُ عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك، وكانت مدَّة مملكته أربعة عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً. وقال الملك المؤيَّد: وكان مدة سلطنته أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً. ذكر سلطنة الملك الظاهر وهو الأسد الضارى بيبرس البندقدارى. ولما وصل بيبرس، وهو والجامعةن الذين قتلوا الملك المظفر المذكور إلى الدهليز، كان عند الدهليز نائب السلطنة فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو الذى كان أتابكا لنور الدين على بن الملك المعز أيبك التركمانى بعد الحبلى، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة بالديار المصرية، فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوه سأله أقطاى المستعرب. وقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا قتلته. قال أقطاى: يا خوند اجلس في مرتبة السطلنة مكانه، فجلس واستدعيت العساكر للتحليف، فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز، وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، أعنى سنة ثمان وخمسين وستمائة واستقر بيبرس في السلطنة، وتلقب بالملك القاهر، ثم بعد ذلك غير لقبه، وتلقب بالملك الظاهر، لأنه بلغه أن القاهر لقبٌ غير مبارك. وكان بيبرس هذا قد سأل من قطز نيابة حلب، فلم يجبه اليها، ليكون ما قدر الله تعالى، فكأن القدر قال له حين سأل نيابة حلب: لا تستعجل فإنك عن قريب تتولى السلطنة، ولما حلف الناس له بالصالحية، ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل، ففتحت له ودخلها، واستقرَّت قدمه في المملكة. وكانت مصر والقاهرة قد زينتا لقدوم الملك المظفر قطز، فاستمرت الزينة للملك الظاهر بيبرس البندقدارى، فسبحان الله الفعال لما يريد. وقال ابن كثير: ولما قتل الأمراء السلطان المظفر قطز حارُوا فيما بينهم لمن يملكون عليهم، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأنه يقتل سريعاً، ثم اتفقت كلمتهم على أن بايعوا الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، ولم يكن من أكابر المقدمين ولكن أرادوا أن يجربوا فيه، ولقبوه الملك القاهر، فقال له الوزير: إن هذا اللقب لم يفلح من تلقب به، فقد تلقب به القاهر بن المعتضد، فلم تطل أيامُه حتى خلع وسمل، وتلقب به القاهر بن صاحب الموصل، فسم فمات. قلت: لما قتل الأمير بيدرا السلطان الملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاون على الطرانة، كما يجىء في موضعه، تسلطن وتلقب بالملك القاهر، وضربت رقبته من يومه. ولما سمع بيبرس بذلك عدل عن القاهر إلى الملك الظاهر.

ذكر سلطنة الملك المجاهد في دمشق

وقال بيبرس في تاريخه: استقر الملك الظاهر في السلطنة يوم قتل المظفر وهو يوم السبت السابع عشر من ذي القعدة من هذه السنة، وطلع القلعة سحر يوم الإثنين التاسع عشر منه، وابتدأ بأحلاف الأمراء، والأكابر وسائر العساكر والوزراء والحكام وأرباب الوظائف والأقلام على الإختلاف في مراتبهم وطبقاتهم، فحلفوا جميعاً، وصرف همته إلى تدبير دولته وتمهيد مملكته واستمالة الخواطر واستجلاب قلوب الأكابر والتحيل على من تجب الحيلة عليه، والترغيب لم تميله الرغبة إليه، وانقضت هذه السنة ولم يركب موكب السلطنة حتى وكَّدَ الأسباب، وسَدَّ ما يخاف فتحه من الأبواب. وقال بيبرس ايضاً: لما قتلوا قطز كانت أوائل العسكر قد وصلت إلى المنزلة، ولم يشعروا بما كان، ولا علموا بعدم السلطان، ثم لما نزل الأمراء الذين قتلوه وتشاوروا فيمن يقوم بالأمر وتردد الكلام بينهم، فمنهم من يظهر الامتناع ومنهم من يأبى الاستماع، فقال لهم الأمير فارس الدين أقطاى الأتابك المستعرب: منْ هو الذي علاه بسيفه وعاجله أولاً بحتفه؟ فقالوا: الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. فقال: الضارب الأول أولى، ونحن نراه للملك أهلا، فأجمعوا رأيهم عليه وأجلسوه على الطراحة الملوكيَّة، ووقفوا بين يديه، ورأوا أن المصحلة في السرعة وطلوع القلعة قبل ان يفش الأمر، ويسعر به خوشداشية المظفر وإلزامه، فربما ينتقضُ ما أبرم أحكامه، فركبوا مسرعين، وساروا سابقين، وقدَّموا الأمير عزّ الدين أيدَمُر الحلى ليسبقهم إلى القلعة، فيستفتح لهم الأبواب ويستصلح النواب، فسبق وطلع اليها، وتحدث مع الأمراء المقيمين بها، وأعلمهم أن المظفر قد قتل، والبندقدارى قد ملك، ووصل، وأن اتفقوا على الرضى به والحلف له، فاستحلفهم الأيمان المؤكدة، وقرَّر معهم القاعدة، وأقبل الركن البندقدارى، فتوقل غارب قلتها، وتسنم كاهل ذروتها، بغير ممانع يمانعه، ولا معارض يعارضه، ورحل العسكر من تلك المنزلة على الإثر وقد تنسَّمُوا أنفاس الخبر، فوصلوا إلى القاهرة والحل قد استتمّ، والظاهر قد استقرَّ له الملك وانتظم. ؟ ذكرُ سلطنة الملك المُجاهد في دِمَشْق قد ذكرنا أن السلطان الملك المظفر قطز لما انتصر على التتار، ودخل دمشق ولَّى عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبى أحد الأتراك، ولما استقر فيها نائباً شرع في العشر الأخير من ذي القعدة في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها حتى عملت النساءُ أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرورٌ عظيم، ثم في الشعر الأول من ذي الحجة من هذه السنة دعا الناس إلى نفسه ولقب نفسه بالملك المجاهد، وذلك لما بلغه مقتل المظفر قطز، ودخل القلعة، واستقرَّ فيها زاعماً أنه سلطان. قال ابن كثير: ولما جاءَت البيعة للملك الظاهر بيبرس خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة، فدعى الخطيب للظاهر أولاً ثم للمجاهد ثانيا، وضربت السكة باسمهما معاً أيضاً، ثم ارتقع المجاهد هذا من البين على ما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى. وفي تاريخ المؤيد: ولما بلغ علم الدين سنجر الحلبى الذي استنابه المظفر قطز على دمشق قتلُ قطز، جمع الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، وذلك في الشعر الأول من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأجباه الناس إلى ذلك، وحلفوا له، ولم يتأخر عنه أحد، ولقب نفسه بالملك المجاهد، وخطب له بالسلطنة، وضربت السكة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك فلم يجبه، وقال: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان. ذكر عود التتار إلى الشام وفي هذه السنة تحرك التتار، وتوجهوا إلى جهة الشام، وقربوا من البيرة على الفرات، ولما بلغ ذلك نائب حلب الذى ولاه السلطان الملك المظفر قطز، وهو الملك السعيد بن صاحب الموصل، وكان قد جرد جماعة من العزيزية والناصرية، وأرسل إلى التتار جماعةً قليلة من العسكر، وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصرى، فأشار عليه كبراء العزيزية بأن هذا ما هو مصلحة، فإن هؤلاء قليلون، ويحصل الطمع بسببهم في البلاد، فلم يلتفت إلى ذلك وأصر على مسيرهم، فسار سابق الدين أمير مجلس بمن معه حتى قاربوا البيرة، فوقع عليهم التتار، فهرب منهم ودخل البيرة بعد أن قتل غالب من كان معه.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

فإزداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك، واجتمعوا وقبضوا عليه، ونهبوا وطاقه، وكان ردىء السيرة، وقد أبغضته العسكر، وكان قد برَّز إلى باب اللالا المعروف بباب الله، ولما استولوا على خزائنه لم يجدوا فيها مالاً طائلاً، فهددوه بالعذاب ليقر لهم، فنبش من تحت أشجار حائر دار بباب اللالا جملةً من المال قيل: كانت خمسين الف دينار من الذهب المصرى ففرقت في الأمراء، وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكاش معتقلا فيها، ثم لما اندفع العسكر بين يدى التتار كما سنذكره، أفرجوا عنه. ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزى، ثم سارت التتار إلى حلب، فإندفع حسام الدين الجوكمندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصلت التتار إلى حلب في أواخر هذه السنة، وملكوها، وأخرجوا أهلها إلى قرنبيه واسمها مقرُّ الأنبياء، ولما اجتمع المسلمون هناك بذلوا فيهم السيف، فأفنوا غالبهم، وسلم القليل منهم، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة، فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وهو مستشعر منهم، خائف من غدرهم، ثم رحلوا عن حماة إلى حمص، ولما قارب التتار حماة خرج منها صاحبها الملك المنصور وصحبته أخوه الملك الأفضل على والأمير مبارز الدين، وباقى العسكر، واجتمعوا بحمص مع باقى العسكر إلى أن خرجت هذه السنة. وفي يوم الجمعة خامس المحرم من السنة الآتية وهى سنة تسع وخمسين وستمائة كانت كسرة التتار على حمص، وكانت التتار ساروا إليهم، فاجتمعت العساكر الحلبية والحماوية والحمصية مع صاحب حمص الملك الأشرف، واتفقوا على ملاقاة التتار، فالتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكان التتار أكثر من المسلمين بكثير، ففتح الله عز وجل على المسلمين بالنصر، وولت التتار منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاءُوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة، وانضم من سلم من التتار إلى باقى جماعتهم، وكانوا نازلين قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماة، وبها صاحبها الملك المنصور، وأخوه الملك الأفضل والعساكر، وأقام التتار على حماة يوما واحداً، ثم رحلوا عن حماة إلى أفامية، ثم رحلوا عنها إلى الشرق. وقال ابن كثير: وكانت كسرة التتار على حمص قريباً من قبر خالد بن الوليد رضى الله عنه، وكانت أعظم من كسرة عين جالوت بكثير لكثرة التتار وقلة المسلمين، وكانت التتار في ستة آلاف والمسلمون الف وأربعمائة. وحكى الأمير نور الدين القيمرى قال: كنت في القلعة فرأيتُ بعينىَّ طيورا بيضاء قد أقبلت، وجعلت تضرب وجوه التتار بأجنحتها. ثم بعد إنكسارهم ذهبوا إلى حماة، وبها صاحبها الملك المنصور، فأقاموا عليها يوماً واحداً، ثم رحلوا عنها إلى افامية، وكان قد وصل اليها سيف الدين الديبلى الأشرفى ومعه جماعة، فأقام بقلعة أفامية، وبقى يُغير على التتار، فرحلوا عنها ونزلوا على حلب وأحاطوا بها وضربوا رقاب جماعة، ولم يتركوا أحدا يخرج عنها ونزلوا على حلب وأحاطوا بها وضربوا رقاب جماعة، ولم يتركوا أحدا يخرج منها ولا يدخل إليها، فأقاموا كذلك أربعة أشهر حتى غلت السعار بحلب، وأكلت الناس الميتات والجلود والبغال والحمير، وبلغ الرطل من اللحم إلى سبعين درهماً، والرطل اللبن إلى خمسة عشر درهماً، والرطل السكر إلى مائة درهم، والرطل من عسل النحل إلى خمسين درهما، والرطل من الشراب إلى سبعين درهما، وأبيع الجدى بمائة درهم، والدجاجة بعشرة دراهم، والبيضة بدرهم ونصف، والبصلة بنصف درهم، وحزمة البقل بنصف درهم وبدرهم، والتفاحة بخمسة دراهم. وحكى بدر الدين الصرخدى التاجر قال: كانت عندة أربع بقرات، فكنت أحلب منها كل يوم كفايتى وأبيع الباقى بمائة وأربعين درهماً، وأعطيتُ فيها ستة آلاف درهم فأبيت، وبعت خمسة تفاحات وثلاث خراف بتسعمائة درهم، والذى اشتراها منى استفاد فيهم مائتي درهم. وبعد أربعة أشهر توجه التتار من حلب إلى الشرق. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أن السلطان الملك الظاهر بيبرس كتب للناس مسموحاً بما كان الملك المظفر قطز قد قرره عليهم وهو ستمائة ألف دينار في كل سنة تجىء من الناس بغير سبب.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

ومنها: أن جمعاً من السودان اجتمعوا بالقاهرة والركبدارية الغلمان، وخرجوا بليل في وسط المدينة ينادون يا آل على، وفتحوا دكاكين السيوفيين بين القصرين، وأخذوا ما فيها من السلاح، وأخذوا خيل الجند من بعض الإصطبلات، وكان الباعث لهم على ذلك شخص يعرف بالكورانى تظاهر بالزهد والمشيخة، وعلم له قُبَّةً على الجبل الأحمر وأقام بها، وتردَّد بعض الغلمان إليه وأقبلوا عليه، فأجرى معهم هذه الأمر ووعدهم بالإقطاعات، وكتب لبعضهم رقاعا ببلاد معيَّنة، فثاروا هذه الثورة، فركبت جماعة من العسكر وأحاطوا بهم، وأُخِذوا أخذاً وبيلاً، فأصبحوا مصَلَّبين على بابى زويلة، وسكنت الفتنة. قال القائل: مَعْشرٌ أشْبَهوا القُرودَ ولكن ... خالفوها في خفْة الأرواح ومنها من الأمور العجيبة الغريبة: أن في أول هذه السنة كانت الشام للملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر غازى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم في النصف من صفر منها: صارت لهلاون اللعين ملك التتار، ثم في آخر رمضان: صارت للملك المظفر قطز، ثم في أواخر ذي القعدة: " انتقلت إلى مملكة السلطان الملك الظاهر بيبرس وقد شاركه في دمشق الملك المجاهد علم الدين سنجر كما ذكرناه. وكذلك كان القاضى في أول السنة بالشام صدر الدين بن سنىّ الدولة، ثم تولى الكمال عمر التفليسى، ثم تولى محى الدين بن الزكى، ثم تولى نجم الدين بن سنى الدولة. وكذلك كان الخطيب بجامع دمشق في أول السنة: عماد الدين بن الحرستائى، وكان من سنين متطاولة فعزل في شوال من هذه السنة بالعماد الإسعردى، وكان صَيتاً قارئاً مجيداً، ثم أعيد العماد بن الحرستانى في أول ذي القعدة منها. فسبحان الذى يُغير ولا يتعير. ومنها: أن الناس في دمشق ابتلوا بغلاء شديد في سائر الأشياء من المأكول والملبوس وغيرهما، فبلغ الرطل من الخبز إلى درهمين والرطل من اللحم إلى خمسة عشر درهماً، والأوقية من القنبريس إلى درهم، والأوقية من الجبن إلى درهم ونصف، والأوقية من الثوم إلى درهم، والرطل من العنب إلى درهمين، ومن أكبر أسبابه ما أحدثه الفرنج من ضرب الدراهم المعروفة باليافية وكانت كثيرة الغش. قال أبو شامة: بلغنى أنه كان في المائة منها خمسة عشر درهما فضة والباقى نحاس، وكثرت في البلد كثرة عظيمة وتحدث في إبطالها مرارا، فبقى كل من عنده منها شيءُ كان حريصاً على إخراجه خوفا من بطلانها، فتزايدت الأسعار بسبب ذلك إلى ان بطلت في أواخر السنة، فعادت تباع كل أربعة منها بدرهم ناصري مغشوش أيضاً بنحو النصف. وفيها:) . (وفيها: حج بالناس) . ( ذكر من توفى فيها من الأعيان قاضى القضاة أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي ابن يحيى بن صدقة بن الخياط، صدر الدين أبو العباس احمد بن سنى الدولة الثعلبى الدمشقى. وسنى الدولة هو الحسن بن يحيى المذكور. كان قاضياً لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة، وله أوقاف على ذريته، وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان هو أبو عبد الله احمد بن محمد بن على بن يحيى بن صدقة الثعلبى، عم سنى الدولة. ولد القاضى صدر الدين سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وسمع ابن طبرزد، والكندى، وغيرهما، وحدث ودرس في عدة مدارس، وأفتى، وكان فاضلا عارفا بالمذهب، وقد ولى الحكم بدمشق استقلالاً سنة ثلاث وأربعين، واستمر إلى هذه السنة، فسار حين عزل بالكمال التفليسى هو والقاضى محي الدين بن الزكى إلى هلاون كما ذكرنا، ثم عادا من عنده، وقد تولى ابن الزكى، فاجتاز ابن سنى الدولة ببعلبك، وهو متمِّرضٌ فمات بها، ودفن عند الشيخ عبد الله اليونينى. وكان الملك الناصر يثنى عليه، كماكان الملك الأشرف يثنى على والده قاضى القضاة شمس الدين بن سنى الدولة. ولما استقر أمر السلطان الملك الظاهر بيبرس ولى ولده القاضى نجم الدين ابا بكر بن قاضى القضاة صدر الدين القضاء بدمشق، وعزل ابن الزكى، ثم عزله بعد سنة، على ما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن كثير: والقاضى صدر الدين بن سنى الدولة هذا هو الذى أحدث في زمن المشمش بطالة التدريس لأنه كان له بُستان بأرض السهم، فكان يشقُّ عليه النزول منه في ذلك الوقت إلى الدرس، ثم اتبعه الناس في ذلك.

شرف الدين عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن ابن طاهر بن ممد بن الحسين بن على، أبو طالب شرف الدين بن العجمى الحلبى الشافعى. من بيت العلم والرئاسة بحلب، درس بالظاهرية، ووقف بها مدرسة، ودفن فيها، وكانت وفاته حين دخل التتار حلب في صفر، فعذبوه بأن صبوا عليه ماءً بارداً في الشتاء، فتشنج حتى مات. الشيخ الحافظ الحسين أبو حامد الدشمقي الشافعي المعروف بابن عساكر. مات في هذه السنة بنابلس، وهو متوجه من مصر إلى دمشق، وجده الإمام الحافظ أبو القاسم على صاحب التصانيف المشهورة منها: تاريخ دمشق. الشيخ الفقيه عمر بن عبد المنعم بن أمين الدولة الحلبي الحنفي. استشهد في الوقعة المذكورة في هذه السنة. الشيخ أبو الفتح بن أبي المكارم الطرسوسي. استشهد في الوقعنة المذكورة بحلب في هذه السنة. الشيخ محمد اليونيني الحنبلى البعلبكي الحافظ: هو محمد بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونينى الحنبلى، تقى الدين الحافظ المفيد البارع العابد الناسك. ولد سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع الخشوعى، والكندى، والحافظ عبد الغنى المقدسى وكان يثنى عليه، وتفقه على الشيخ الموفق ولزم صحبة الشيخ عبد الله اليونينى، وانتفع به، وكان الشيخ عبد الله يثنى عليه ويقدمه ويقتدى به في الفتاوى الشرعية، وقد لبس الخرقة من شيخه عبد الله البطائحي، وبرع في علم الحديث، وجمع الجمع بين الصحيحين بالفاءِ والواو، وقطعةً صالحةً من مسند الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وكان يعرف العربية، أخذ ذلك عن تاج الدين الكندى، وكتب مليحا حسناً، وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة، وحصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك وغيرهم. وكان ولده يقول: إن والدى لا يقبل شيئاً من الصدقة، ويزعم أنه من ذرية جعفر الصادق رضى الله عنه بن محمد الباقرزين العابدين بن الحسين بن على بن أبي طالب رضى الله عنهم، وذكر أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة. وقال أبو شامة: وكان رجلا ضخماً، وحصل له قبول كثير من الأمراء وغيرهم، وكان يلبس قبعا صوفه إلى خارج، يعنى كما كان شيخه عبد الله اليونينى، قال: وصنف شيئاً في المعراج، فرددت عليه في كتاب سميته: الواضح الجلى في الردّ على الحنبلى. الملك السعيدُ نجم الدين إيل غازى بن المنصور أرتق بن أرسلان بن إيل غازى بن تمرتاش بن إيل غازى بن أرتق. مات في هذه السنة وكان شيخا معظماً. الملك المعظم توران شاه بن الملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. كان نائباً للملك الناصر يوسف بن العزيز بن الظاهر على حلب حين تملك دمشق، وقد حصنَ حلب من ايدي المغول مدة شهر، ثم سلمها بعد محاصرة شديدة صلحا، ثم كانت وفاته في هذه السنة بحلب، ودفن بدهليز داره، وذلك بعد الوقعة بأيام. الملك السعيد حسن بن الملك العزيز عثمان بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. صاحب الصبيبة وبانياس بعد أبيه، ثم أخذتا منه وحبس بقلعة البيرة، فلما جاءت التتار كان معهم، وردوا عليه بلاده، فلما كانت وقعة عين جالوت جاءَ بعد الوقعة أسيراً إلى حضرة الملك المظفر قطز، فضرب عنقه لأنه كان قد لبس سراقوج التار، فناصحهم. الملك منكوقان بن طلوخان بن جنكزخان ملك التتار. هلك في هذه السنة بمقام نهر الطاى من بلاد أيغوُر وهو قاصد غزْو الخطا، وكان فيما يقال يتمذهب بمذهب النصرانية والفلاسفة ويميل اليها، فمات عليها، لعنه الله. وكان موته فتحاً للإسلام، لأنه أوجب عود هلاون اللعين عن ديار الشام، وبذلك تمت للمسلمين النصرة، وطمّت المشركين الكسرة.

وذلك أن أربيكاً أخا منكوقان كان نائبه في المملكة بكرسى قرا قروم، فلما مات أخوه منكوقان أراد الاستيلاء على المملكة، وكان أخوه قبلاى خان مجرداً ببلاد الخطا، جرده اليها أخوه منكوقان من حين جلوسه في الدست، وأرسل بركة يقول لأربيكا: أنت أحق بالقانية لأن منكوقان رتبك فيها في حياته، وانضم إليه بنو عمه مجى بن أوكدية وإخوته، واتفق عود أخيه قبلاى من بلاد الخطا، وسار أُربيكا لحربه والتقيا فاقتتلا، فكانت الكسرة على قبلاى، وانتصر عليه أربيكا، فأخذ الغنائم والسبايا واحتجزها لنفسه، ولم يسهم لبنى عمه بشيءٍ، فوجودوا عليه. ونفروا منه، ومالوا إلى قبلاى، فأعاد القتال معه، فاستظهر عليه وأخذ أُربيكا أسيراً. واستقرّ؟ َ قبلاى في القانية، وسقى أخاه سما فمات، وطالت مدة قُبلاى في المملكة، واستقر إلى سنة ثمان وتسعين وستمائة. فبلغ ذلك هلاون، وهو نازل على حلب، فانزعج وعاد رجاء ان يكون له في الأمر نصيب، فلما وجد أخاه قبلاى مستقراً استقر بالأقاليم التي فتحها، فصارت في يده ويد ذريته إلى يومنا هذا. وكان عز الدين كيكاوس وأخوه ركن الدين قليج أرسلان سلطانا الروم في خدمة هلاون لما فتح حلب، ولما رفع السيف من أهلها تقدم إليه البرواناه وضرب الجوك وقال: إن أذن لى القان أقول كلمتين بين يديه، فقال له: قل. قال: من قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه أحيى الأموات، فأطاعه أهل الأرض وآمنوابه حتى تغالوا في قصته، وقالوا بربو بيته، والقان في هذا الوقت أحيى هذه النفوس وصان هذه الرءوس، فلا بدّ أن تطيعه البقاع والأقاليم والقلاع، وينفذ حكمه في الشرق والغرب، ويثقون بعهده ووعده، فحسن موقع كلامه عنده وسال عن حسبه ونسبه، فعرف به، وهو أن أباه في أيام السلطان علاء الدين كيقباذ حضر إلى سعد الدين المستوفى بالروم، وكان نافذ الحكم في الإطلاق وإجراء الأرزاق، فساله أن يجرى عليه جارياً يقتات به من بعض المدارس يكون درهماً في اليوم؛ وكان شاباً جميلاً وسيماً من طلبة العلم، واسمه مهذب الدين على، وأصله من الديلم، فمال إليه المستوفى لما رآه من سميته وسمته فقال له: أريدُ أن أصيرك منى مكان الولد، وأجود لك بما أجد، ثم قربه وأدناه، وأحبه، وزوجه من إبنته، وخوله في نعمته، واتفقت وفاة المستوفى بعد ذلك، فوصف مهذب الدين للسلطان علاء الدين بالفضيلة والمعرفة والكفاية والأهلية للمناصب، فرشحه للوزارة وألقى عليه مقاليد الإمارة، فرزق معين الدين سليمان المسمى برواناه، فهو ابن وزير السلطان غياث الدين. ولما أخبر هلاون بأمره قال للسلطان ركن الدين: من الآن لا يتردد إلى في الأشغال أحد سواه، فترقت منزلته من يومه ذلك حتى صار فيما بعد حاكماً على الممالك. وفارق المذكوران هلاون، وعاد كل منهما إلى مستقره، إلى أن كان منهما ما سنذكره إن شاء الله تعالى. الأمير كتبغانوين: نائب هلاون على بلاد الشام، وقد فتح لأستاذه هلاون من أقصى بلاد العجم إلى الشام، وقد أدرك جنكزخان جدّ هلاون. وكان كتبغانوين هذا يعمل للمسلمين ببلاد خراسان والعراق في حروبه أشياء لم يسبقه إليها أحد، كان إذا فتح بلداً ساق المقاتلة منه إلى البلد الذى يليه، ويطلب من أهل البلد أن يأوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصوده في مضيق الأطعمة والأشربة عليهم، فتقصر مدة حصارهم، وإن امتنعوا قاتلهم بهؤلاء حتى يفنى هؤلاء، فإن حصل، يكون الفتح، وإلا كان قد أضعف أولئك بهؤلاء، ثم استأنف قتالهم بجنده حتى يفتحه، وكان يبعث إلى الحصن يقول لهم: إنّ ماءكم قد قلّ، فافتحوا صلحاً قبل أن آخذه قسراً، فيقولون إن الماء عندنا كثير، فيقول: إن كان كثيراً انصرفت عنكم، فيقولون: ابعث من يشرف على ذلك، فيرسل رجالاً من جيشه معهم رماحٌ مجوفة محشوة سماً، فإذا دخلوا قاسوا ذلك الماء بتلك الرماح، فيفسح ذلك السم ويستقر في الماء، فيكون سبب هلاكهم ولا يشعرون. وكان لعنة الله شيخا كبيرا قد أسن، وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكنه الخروج عن حكم جنكزخان من الياساق.

وقال الشيخ قطب الدين اليونينى: وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها، وكان شيخاً حسناً له لحية طويلة مسترسلة رقيقة قد ظفرّها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها في حلقة بأذنه، وكان مهيباً، شديد السطوة، قال: وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربى، فدخل دكاناً خراباً فقضى حاجته، والناس ينظرون إليه وهو مكشوف العورة، ولما فرغ مسحه بعضهم بقطن ملبد مسحةً واحدةً. قال: ولما بلغه بروز الملك المظفر إليه بالعساكر المصرية تلوم في أمره، ثم حملته نفسه الأبية على لقائهم، وظن أنه ينصر كما كانت عادته، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها، ثم أيد الله المسلمين وثبتهم، فحملوا حملة صادقةً على التتار، فهزموهم هزيمة لا تنجبر أبداً، وقتل كتبغانوين في المعركة وأسر ابنه، وكان شاباً حسناً، فأحضر بين يدى المظفر قطز فقال له: أهرب ابوك؟ فقال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رآه ابنه بكى وصرخ، فلما تحققه المظفر قال. هذا كان سعادة التتار، وبقتله ذهب سعدهم، وكذا كان كما قال: لن تفلحوا بعده أبداً. وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذى تولى قتله في المعركة الأمير جمال الدين أقوش الشمسى. ونوين بضم النون، وكسر الواو، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره نون ومعناه أمير عشرة آلاف، وكل اسم من أسماء ملوكهم في آخره نوين معناه رأس عشرة آلاف، ويسمى أيضاً رأس تومان. الملك الناصر: الكلام فيه على أنواع: الأول في ترجمته: هو السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيزك محمد بن الملك الظاهر غازى بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين أيوب صاحب دمشق وحلب. وكان مولده في سنة سبع وشعرين وستمائة بحلب، وكان قد تولى مملكة حلب بعد موت أبيه الملك العزيز وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وحده، فإنه ملك مثله حران والرُها وراس عين وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عسكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل كما ذكرنا، وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لولو الأمينى، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية. الثانى في سيرته: كان ملكا جيداً، حليما جداً، وجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنته قطاع الطريق في أيام مملكته من القطع والقتل تجاوزوا الحد في الفساد، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقى لا يقدر المسافر إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان، وكثرت الحرامية، وكانوا يكسرون أبواب الدور، ومع ذلك إذا حضر القاتل بين يديه يقول: الحى خير من الميت ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية، وكان على ذهنه شيءٌ كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها قوله: فوالله لو قطعتَ قلبى تأسفاً ... وجرعتنى كاساتِ ودمعى دماً صرفاً لما زادنى إلا هوى ومحبة ... ولا تخذت روحي سواك لها إلفا وكان يطبخ في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع وأوقف عليها وقفا جليلا، وبنى بالصالحية تربة غرم عليها جملا مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتار.

السنة التاسعة والخمسين بعد الستمائة

الثالث ُ في مقتله وصورته: أنه لما بلغ هلاون كسرة عسكره بعين جالوت، وقتل كتبغانوين نائبه ومقدم عساكره، غضب من ذلك، وأحضر الملك الناصر، وكان عنده كما ذكرنا، وكان وعده أن يرده إلى ملكه، وأقام عنده مدة، فقال له: أنت ما قلت إن عسكر الشام في طاعتك، فغررت بن وقتلت المغول، فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بسيف، ومن يكن ببلاد التتار كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفى هلاون باسجا وضربه به، وقال: ياخوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر غازى، وكان معه، عن ذلك، وقال: قد حضرت، ثم رماه بفردة ثانية فقتله، ثم قتل أخاه الظاهر، وأمر بضرب رقاب الباقين الذين كانوا معه، وقتل الملك الصالح ابن صاحب حمص، وكان معه ايضاً، والجماعة الذين معهم من الألزام والأتباع والحواشي. واستبقى الملك العزيز بن الملك الناصر لأنه كان صغيراً، فبقى عندهم مدة طويلة وأحسنوا إليه، ثم مات. وكان قتل الملك الناصر على جبال سلماس. وقال بيبرس: وأمر هلاون بقتل ولده العزيز، فشفعت إليه طقزخاتون زوجته فيه، فعفا عنه. وقيل: إنه كان أذن له هلاون في العود إلى بلاد الشام ليستقرَّ بها على عادته، فسار من عنده، وفى مسيره بلغ هلاون خبر كسرة كتبغانوين، فأمر بأن يرد الناصر من الطريق، فلما جاءه الأمر بالرجوع قال: أعلامهم على الحمى لي بانَتْ ... لما وصل الركبُ إليها بانَتْ ما أعجل ما فى الحال عنى خفِيَتْ ... يا سَعْدُ كأنَّ قد منامى كانتْ ولما استحثّ في السير قال: يا سائقها وجداً على الآماقِ ... لا تعجل في تفرٌّق العشاقِ واحبسْ نفسا تُحْظَ بأجرٍ وثنا ... منا ومن المهيمن الخلاق قال بيبرس: وكان قتله على جبال سلماس: وقال ابن خلكان: كان قتله في الثالث والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين وستمائة بالقرب من مراغة من أعمال أذربيجان. قال: وكان خروجه من دمشق في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة. وذكر ابن كثر وغيره: أن قتله كان في سنة تسع وخمسين وستمائة، ولما بلغ خبر موته إلى دمشق عمل عزاؤه في دمشق في سابع جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين. فصل فيما وقع من الحوادث السنة التاسعة والخمسين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وأولها يوم الإثنين لأيام خلون من كانون الأول، وليس للمسلمين خليفة، وبغداد خراب، وبلادها غير آمنةٍ تحت ظلم وجوْر من التتار طائفة جنكزخان. وسلطان الديار المصرية والشامية: الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى، وشريكه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الأمير علم الدين سنجر الحلبى الملقب بالملك المجاهد، وشريكه في حلب الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزى. وصاحب الكرك والشوبك: الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب. وصاحب صهيون وبرزية: الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس. وصاحب حماة: الملك المنصور بن تقى الدين محمود. وصاحب حمص الملك الأشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين. وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لولو وأخوه الملك المجاهد صاحب جزيرة ابن عمر. وصاحب ماردين: الملك السعيد نجم الدين إيل غازى بن أرتقُ. وصاحب بلاد الروم: ركن الدين قليج أرسلان بن غياث الدين كيخسرو السلجوقى، وشريكه في الملك أخوه كيكاوس، والبلاد بينهما نصفان. وصاحب مكة أبو نمى إبراهيم بن أبي سعد بن على بن قتادة الحسنى وعمه إدريس بن على شريكه. وصاحب المدينة: الأمير عز الدين جماز بن شيخة الحسينى. ذكر ما جريات الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله:

منها: أنه في سابع صفر من هذه السنة ركب بشعار السلطنة، وأظهر المهابة المتمكنة، وشق المدينة، وقد زخرفت بالزينة، ونثرت عليه الدنانير والدراهم، وافيضت الخلع على الأمراء والمقدمين والوزراء والمتعممين على تفاوت اقدراهم، وكتب إلى صاحب المغرب، وصاحب اليمن، وملوك الشام، وثغور الإسلام، بما قدره الله له من القيام بأمر عباده وإيالة بلاده، واستبشرت به القلوب، وانجلت بدولته الكروب، واستمر بالصاحب زين الدين يعقوب ابن الزبير برهةً يسيرة، ثم عزله وولى الصاحب بهاء الدين على بن عماد الدين محمد الوزارة، وهذا بهاء الدين هو المعروف بابن الحنا، وولى القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن الأعز خلف الحكم، وقرر قواعد الدولة على النظام، وأظهر عز ما ارهف من حد الحسام، وراعى القواعد الصالحية، وتبع الآثار النجمية. وقال ابن كثير: وفى يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى باشر القضاء بالديار المصرية العلامة تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز أبي القاسم خلف ابن القاضى رشيد الدين أبي الثناء محمود بن بدر، وذلك بعد شروط ذكرها للملك الظاهر شديدة، فدخل تحتها الملك الظاهر، وعزل عن القضاء بدر الدين أبا المحاسن يوسف بن على السنجارى، ورسم عليه اياما. ومنها في ربيع الآخر: قبض الظاهر على جماعة من الأمراء بلغه عنهم أنهم يريدون الوثوب إليه. ومنها: أن الظاهر أمر ببناء مشهد على عين جالوت، لما شاهد من بركة ذلك المكان، فبنى هناك مشهد. ومنها: أنه كتب إلى بركة بن صاين قان، صاحب البلاد الشمالية، كتابا يغريه بهلاون، ويعرفه أن جهاده واجب عليه، لتواتر الأخبار بإسلامه، ويلزمه إذا دخل في دين الإسلام أن يجاهد الكفار، فورد جوابه فيما بعد كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: أن الظاهر كتب منشور الإمرة على جميع العربان للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، وأحضر أمراء العرب وأجرى إقطاعاتهم، وسلم إليهم خفر البلاد، وألزمهم حفظها إلى حدود العراق. ومنها: أن الظاهر جهز إلى الانبرور هدية من جملتها الزراف، وأرسل إليه جماعةً من التتار الأسارى المأخوذين في نوبة عين جالوت بخيولهم التترية وعدتهم. ومنها: أن السلطان كتب إلى علم الدين سنجر الحلبى الذي كان الملك المظفر قطز ولاه نيابة دمشق، ثم أنه ركب في دمشق بشعار السلطنة، وخبط له على المنابر وتلقب بالملك المجاهد، وذلك حين بلغه مقتل الملك المظفر كما ذكرنا، فكتب إليه الظاهر بقبح هذا الفعل عليه ويتلطف به في الرجوع عنه، ثم جرد إليه الأمير جمال الدين المحمدى ليستميله ويرده إلى الصواب، وأرسل إليه صحبته مائة ألف وخمسة وشعرين الف درهم أنعاماً وحوائص ذهب وخلعاً نفيسة، فأشهد على نفسه بأنه قد نزل عن الأمر وأنه نائب من نواب السلطان. ثم لم يلبث أن رجع إلى ما كان عليه من الخلاف، وركب بشعار السلطنة، فجهز السلطان إليه جيشاً صحبة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، وهو أستاذ السلطان الملك الظاهر، فوصلوا إلى دمشق في ثالث صفر من هذه السنة، فخرج إليهم سنجر الحلبى لقتالهم، وكان صاحب حماة، وصاحب حمص بدمشق، ولم يخرجا من سنجر الحلبى، ولا أطاعاه لإضطراب أمره، ووقع القتال بينهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر، فانهزم الحلبى، وولى وأصحابه معه، ودخل إلى قلعة دمشق حتى أجنه الليل، فهرب من قلعة دمشق إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر، وقبضوا عليه، وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقله الظاهر بها، ثم أطلق. واستقرت دمشق في ملك الظاهر بيبرس واقيمت له الخطبة بها وبغيرها من الشام مثل حماة وحمص وحلب وغيرها، واستقر أيدكين البندقدار الصالحى في دمشق لتدبير أمورها، ولما استقر الحال على ذلك رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص وعادا إلى بلادهما، واستقرا بها. وقال بيبرس في تاريخه: وقرر السلطان الظاهر أن يكون حيدث القلعة بدمشق وأمر الأموال للأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى الحاج، ثم رتبه في نيابة السلطنة.

وفي تاريخ ابن كثير: ثم بعد استقرار أيدكين البندقدار في دمشق ورد عليه مرسوم الملك الظاهر بالقبض على بهاء الدين بغدى الأشرفى، وعلى شمس الدين أقوش البرلى، وغيرهما من العزيزية والناصرية وبقى علاء الدين أيدكين متوقفا في ذلك، فتوجه بغدى إلى ايدكين فحال دخوله عليه قبض على بغدى المذكور، فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلى، وخرجوا من دمشق ليلا على حمية ونزلوا بالمرج، وكان أقوش البرلى قد ولاه المظفر قطز غزة والسواحل كما ذكرنا، فلما جهز الملك الظاهر استاذه أيدكين البندقدار إلى قتال سنجر الحلبى، أرسل إلى البرلى وأمره أن ينضم إليه، فسار أقوش البرلى مع أيدكين وأقام بدمشق. فلما قبض على بغدى خرج البرلى إلى المرج، وأرسل أيدكين إليه يطيب قلبه ويحلف له، فلم يلتفت إلى ذلك وسار إلى حمص، وطلب من صاحبها الأشرف ان يوافقه على العصيان فلم يجب إلى ذلك، ثم توجه إلى حماة، وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة: إنه لم يبق من البيت الأيوبى غيرك، فقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك، ورده رداً فبيحاً، فاغتاظ البرلى ونزل على حماة، وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب. وكان أيدكين لما استقر بدمشق قد جهز عسكرا صحبة فخر الدين الحمصى للكشف عن البيرة، فإن التتار كانوا قد نازلوها، فلما قدم البرلى إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصى المذكور، فقال له البُرلى: نحن في طاعة الملك الظاهر، فتمضى إلى السلطان وتسأله أن يتركنى ومن في صحبتى مقيمين بهذا الطرف، ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفنى وطأ بساطه. فسار الحمصى إلى جهة مصر ليؤدى الرسالة. فلما سار عن حلب تمكَّن البُرْلى واحتاط على ما في حلب من الحواصل، واستبدَّ بالأمر، وجمع العرب والتركمان واستعدَّ لقتال عسكر مصر. ولما توجه فخر الدين الحمصى، لذلك التقى في الرمل جمال الدين محمد الصالحى متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلى وإمساكه، فأرسل الحمصى، وعرف الملك الظاهر بما يطلبه البرلى، فأرسل الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصى المذكور، ويأمره بالانضمام إلى المحمدى، والمسير إلى قتال البرلى، فعاد من وقته، ثم رضى الظاهر على علم الدين سنجر الحلبى وجهزه وراء المحمدى في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدمياطى في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلى، وساروا إلى حلب وطردوه عنها. وانقضت السنة والأمر على ذلك. ومنها: نصب السلطان الملك الظاهر الخليفة للمسلمين، وأصل ذلك، أن في رجب من هذه السنة قدم إلى مصر جماعة من العرب ومعهم شخص اسمرُ اللون اسمه احمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله بن الناصر لدين الله، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتار، فعقد السلطان الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام والقاضى تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد بن الإمام الناصر لدين الله، فيكون عم المستعصم بالله الذى قتله هلاون، وأقام القاضى جماعة من الشهود واجتمعوا بأولئك العرب وسمعوا شهادتهم، فشهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضى تاج الدين نسب أحمد المذكور ولقبوه المستنصر بالله أبا القاسم أحمد بن الظاهر بالله محمد، وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة. ثم اهتم الظاهر بأمره، وعمل له الدهليز، والجمدارية، والسلاح دارية، وآلات الخلافة، واستخدم له عسكراً، وغرم على تجهيزة جملة طائلةً، قيل كانت جملتها ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب هذا الخليفة بالزراتيتى.

وفي تاريخ بيبرس: وفي التاسع من رجب وصل الإمام أبو العباس أحمد بن الإإمام الظاهر بالله بن الإمام الناصر لدين الله من العراق إلى الديار المصرية، وركب السلطان الظاهر للقائه في موكب مشهود، ومحفل محفود، وأنزله في القلعة، وبالغ في إكرامه، وقصد إثبات نسبته، وتقرير بيعته، لأن الخلافة كانت قد شغرت منذ قتل الإمام المستعصم بالله، فسر السلطان باتصال أسبابها، وتجديد أثوابها، وإقامة منارها، وإظهار شعارها، لتكون ثابتة الأساس، متصلة في بنى العباس، كما سبقت الوعود النبوية بأنها خالدة، تالدة في هذه الذرية، فأحضر الأمراء الكبار ومقدمى العساكر، والوزير، وقاضى القضاة، نواب الحكم، والفقهاء، والعلماء، والصلحاء، وأكابر المشايخ، وأعيان الصوفية، فاجتمع المحفل بقاعة الأعمدة بقلعة الجبل، وحضر الخليفة، وتأدب السلطان معه في الجلوس بغير مرتبة ولا كرسى، وأمر بإحضار العربان الذين حضروا مع الخليفة من العراق، فحضروا وحضر خادم من البغاددة، فسئلوا عنه، هل هو الإمام أحمد بن الظاهر بن المستنصر؟ فقالوا: إنه هو، فشهدت جماعة بالاستفاضة وهم: جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر، وعلم الدين بن رشيق، وصدر الدين موهوب الجزرى، ونجيب الدين الحراني، وسديد الدين التزمنتى نائب الحكم بالقاهرة، عند قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب، فأسجل على نفسه بالثبوت، فقام قاضى القضاة وأشهد على نفسه بثبوت النسبة، وسمى الإمام أحمد بالمستنصر بالله، وبايعه السطلان على كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأخذ أموال الله بحقها، وصرفها في مستحقها. وبعد البيعة له قلد الخليفة السلطان البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، ثم بايع الناس الإمام على اختلاف طبقاتهم، فتمت له الخلافة وصحت له الإمامة، وكتب السلطان إلى البلاد بأخذ البيعة له، وأن يخطب له على المنابر، وتنقش الصكة باسمه واسم الملك الظاهر. ولما كان يوم الجمعة السابع عشر من رجب خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة. وفي يوم الإثنين الرابع من شعبان ركب السلطان الىخيمة ضربت له بالبستان الكبير بظاهر القاهرة، ولبس الأهبة العباسية، وهى الجبة السوداء، والعمامة البنفسجية، والطوق، وتقلد سيفا، وجلس مجلسا عاما، وقد خلع على الأمراء والوزير وقاضى القضاة وصاحب ديوان الإنشاء، وقرىء التقليد الشريف السلطانى، قرأه فخر الدين بن لقمان. وقال ابن كثير: وقد كان الإمام أبو العباس أحمد هذا معتقلاً ببغداد، ثم أطلق، وكان مع جماعة الأعراب بالعراق، ثم قصد الملك الظاهر حين بلغه، فقدم عليه الديار المصرية مع جماعة من العرب فيهم عشرة من الأمراء منهم: الأمير ناصر الدين مهنى، فتلقاه السلطان والوزير وقاضى القضاة تاج الدين والشهود والمؤذنون، وخرجت اليهود والنصارى بإنجيلهم، ودخل من باب النصر في أُبهةٍ عظيمة، وكان يوماً مشهوداً. وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بنى العباس، وبينه وبين العباس اربعة وعشرون أبا. وكان أول من بايعه يوم عقدالمجلس القاضى تاج الدين عندما ثبت نسبه عنده، ثم السلطان الملك الظاهر، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء وأكابر الدولة. وكان منصب الخلافة شاغراً ثلاث سنين ونصفاً، لأن المستعصم بالله قتل في أوائل سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الإثنين الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعنى سنة تسع وخمسين وستمائة. وكان أسمرا، وسيما، شديد القوى، عالى الهمة، ذا شجاعة وإقدام، وقد لقب هذا بالمستنصر، كما كان أخوه بانى المدرسة ببغداد لقب بهذا، وهذا أمر لم يسبق إليه ان خليفتين أخوين يلقب كل واحد منهما بلقب الآخر، وقد أنزل هذا الخليفة بقلعة الجبل في برج هو وحشمه وخدمه. ولماكان يوم الجمعة سابع عشر رجب، ركب في أُبهة السواد، وجاء إلى الجامع بالقلعة، فصعد المنبر، وخطب الناس، ذكر فيها شرف بنى العباس، ثم استفتح فقرأ عشرا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبى صلى الله عليه وسلم، وترضى عن الصحابة، رضى الله عنهم، ودعا للسطان، ثم نزل عن المنبر فصلى بالناس، فاستحسن ذلك منه، وكان وقتاً حسناً، ويوماً مشهوداً.

وقال ابن كثير: ولما كان يوم الإثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفة والسلطان والوزير والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمةٍ عظيمة قد ضربت بظاهر القاهرة، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء، وطوقاً في عنقه، وقيداً في رجليه، وهما من ذهب، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبراً، فقرأ عليه تقليد السلطان، وهو من إنشائه وبخط نفسه، ثم ركب السلطان بهذه الأبهة، والقيد في رجليه، والطرق في عنقه، والوزير بين يديه على رأسه التقليد، والأمراء والدولة في خدمته مشاه سوى الوزير، فشق القاهرة، وقد زينت له، وكان يوماً مشهوداً. ونسخة التقليد المكتتب عن الخليفة للسلطان: الحمد لله الذى اصطفى الإسلام بملابس الشرف، وأظهر بهجة دُرره، وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه، حتى انسى ذكر ما سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفق على طاعتهم مَن اختلف. أحمده على نعمة التي رتعت الأعين منها في الروض الأُنفٌ، وألطافه التي وفقت للشكر عليها، فلي له عنها منصرف، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةً توجبُ من المخاوف آمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزنا. وأشهد أن محمداً عبده الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فناً، صلى الله عليه وعلى آله. الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة في الحسنى، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإنّ أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أم يصبح القلمُ ساجداً وراكعاً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الجميل مقدّماً، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهماً، وما بدت يدٌ من المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصما، ولا استباح بسيفه حمىً وغىً إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، شرفه الله وأعلاه، ذكره الديوانُ العزيزُ النبوى الإمامى المستنصرى، أعز الله سلطانه، تنويهاً بشرف قدره، واعترافاً بصنيعه الذى تنفذ العباربةُ المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا؟ وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانه الزمان، وأذهب ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب دهرها المسىء لها فأعتب، وأرضى عنها زمانها، وقد ك ان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحبا، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا، وأظهر له من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الإهتمام بامر الشريعة والبيعة امرا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول اليه، لكن الله تعالى ادخر هذه الحسنة ليثقل بها في الميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبة أبي الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية، والحجازية، واليمنية، والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها اليك حين أصبحت في المكارم فردا، ولا جعل منها بلدا من البلاد، ولا حصنا من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا الأدنى.

فلاحظ أمور الأمة، فقد أصبحت لها حاملا، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففى الغد تكون مسئولا ولا سائلا، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلا، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالا زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى، فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة، وابسط يديك بالإحسان والعدل، فقد أمر الله بالعدل والإحسان وكرر ذكره، في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه وآثاما، وجعل يوما واحدا فيه كعبادة العابد ستين عاما، وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمر به يعد تداعى أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث زمانه، والسعيد من تحصن من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهن من الأعياد، وأحسن في العيون من الغُرَرَ في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عطل الأجياد. وهذا الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأى من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً، واجعل عليه في تصرفاته رقيبا، وسل عن أحواله ففى يوم القيامة تكون عنه مسئولاً، وبما أجرم مطلوباً، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً، وأمرهم بالإناة في الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت لهم أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم، والوجه الطلق، وأن لا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة بما يستحق، وأن يكونوالمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم براً وإحساناً، وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم، ولو كان أميراً عليه أو سلطاناً، والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز عن حمل أثقاله. ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سىء السنن، وجدد من المظالم التي هي على الخلائق من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالهما المحامد، فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبى منها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم، وإن كانت حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها خلاية، فإنما هي على الحقيقة منها، عاطلة، وهل اشقى ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعي الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له خصما، وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله، وقد خاب من حمل ظلما. وحقيق بالمقام الشريف، المولوي، السلطانى، الملكي، الظاهري، الركنى، أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف عن الخلائق ثقلا لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، صنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من المملوك وإن جاء آخراً، فاحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى يوجب لك مزية التعظيم، وينبه الخلائق على ماخصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن يوالى عليها حمد الله فإن الحمد لله يجب عليها عقلا وشرعاً، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلاً وصار غيرك فرعاً. وكما يجب أيضاً تقديم ذكره، أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً؟؟؟، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضا، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي) لا لغو فيها ولا تأثيم (وقد تقدمت لك في الجهاد يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزيمة وهى أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد،) واشتهرت لك مواقف في القتال فهي أشهر (وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتدل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعا، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً.

ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها، تبتسم له الثغور، وإحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدما، وشيد منها كل ما غادره العدو متهدما، فهذه حصون بها يحصل الإنتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على الدو داعية افتراق لا اجتماع، وأولاها بالإهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعد إليه متلفتا ناظرا، لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحا وراح خاسرا، واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثرا. وكذلك أمر الأسطول الذي ترى حبله كالأهلَّة، وركائبه سائقة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكلفت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كالأعلام، وإذا شبهها قال: هذه ليال تقلع بالأيام. وقد سنى لك الله من السعادة كل مطلب، وآتاك من أصالة الرأي الذي يربك المغيَّب، وبسط بعض القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق، وما زلت مهتديا إليها، وألزمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة تستتم بشكره إن شاء الله تعالى. وركب السلطان، وشق المدينة، وحمل التقليد الأمير جمال الدين النجيبي أستاذ الدار والصاحب بهاء الدين في بعض الطريق، فكان السلطان في موكبه هذا كما قيل: خَلَعٌ خَلَعْنَ من العِداةِ قلوبَهُم ... وملأْن بالإشراق أبصارَ المَلاَ لما طلعتَ بها بهرتَ فلم تُطق ... طرفٌ إليك من الشجاع تأمَّلاَ وبدا عليك الطوقُ رُضْهَ دُرّة ... فرأيت بدراً بالنجوم تكلَّلا واستخدم السلطان للخليفة ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف والأشغال، فجعل الأمير سابق الدين بُوزَبا أتابك العساكر، وكتب له بألف فارس، وجعل الطواشي بهاء الدين صندل شرابيا، وكتب له بخمسمائة فارس، والأمير ناصر الدين بن صيرم خزندارا وكتب له بخمسمائة فارس، والأمير نجم الدين استادار الدار، وكتب له بخمسمائة فارس، وسيف الدين بلبان الشمسى دوادارا، وكتب له بخمسمائة فارس، وأمر جماعة من العربان بالطبلخانات، واشترى للخليفة مائة مملوك جمدارية وسلحدارية، وأعطى كلا منهم ثلاثة أروس خيل، وجملا لعدته، وإستخدم له أصحاب الدواوين، وكتاب الإنشاء، والأئمة، والغلمان، والحكماء، والجرائحية، وكمل البيوت، والخيول، والأسلحة. ومنها: أن السلطان الملك الظاهر بيبرس رحمه الله توجه إلى الشام خارجا من مصر في السادس من شوال من هذه السنة، وصحبته العساكر، والخليفة، وحاشيته، والأخوة الثلاثة ملوك البلاد الشرقية أولاد صاحب الموصل: ركن الدين إسماعيل، وولده علاء الملك، وأخوه المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، وأخوهما الملك المظفر، وسنذكر مجيئهم إلى خدمة السلطان الظاهر، وكان قصد الظاهر تقرير ما تغير من القواعد، وإعادة الأحوال بدار السلام ولما وصل إلى دمشق نزل بقلعتها، وأنزل الخليفة في تربة الملك الناصر بجبل الصالحية، ولما اجتمع على تجهيز الخليفة، والملوك المذكورين، جرد معهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير شمس الدين الرومي، وهما من أكابر الأمراء، وجرد معهما طائفة من العسكر، وأوصاهما أن يزالا مع الخليفة إلى أن يوصلاه إلى الفرات بالبر الغربي، وبجهة البلاد الحلبية، لانتظار ما يتجدد من جهة الخليفة حتى إذا احتاج إليهما وأرسل من يستدعيهما يبادران إليه بمن معهما من العسكر، ولا يدعان أحداً يتوقف عنه، ولا يتأخر، ثم ودعه ميلا، والخليفة مطاعا أمره، مسروراً قلبه. فكان جملة ما غرم السلطان على تجهيزه من الأموال ألف ألف دينار عيناً مصرية وستين ألف دينار، فلله دره من ملك، ما أعظم همته، وما أكرم سجيته، وما أشدّ اجتهاده في الله، رضى الله عنه.

وقال ابن كثير: وكان سبب خروج السلطان إلى الشام أن البرلي كما تقدم كان قد استحوذ على حلب، فأرسل إليه الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على دمشق، فطرده عن حلب وتسلمها منه، وأقام بها نائباً عن السلطان، ثم لم يزل البرلي حتى إستعادها منه واستولى عليها كما كان، فاستناب السلطان على الديار المصرية عز الدين أيدمر الحلى، وجعل تدبير المملكة بها إلى الوزير بهاء الدين بن حنا، واستصحب ولده فخر الدين بن الحنا وزير الصحبة، وجعل تدبير العسكر والجيوش معه إلى الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار. وقال ابن كثير: وكان دخول السلطان إلى دمشق يوم الإثنين سابع ذي القعدة من هذه السنة وكان يوماً مشهوداً، وصلى هو والخليفة الجمعة بجامع دمشق، وكان دخول الخليفة إلى الجامع من باب البريد، ودخول السلطان من باب الزيادة وكان يوماً مشهوداً، ثم جهز السلطان الخليفة كما ذكرنا، وأصحبه أولاد صاحب الموصل، وقدم إليه صاحب حمص الملك الأشرف فخلع عليه، وأطلق له، وكتب له تقليداً ببلاده، ثم جهز جيشاً صحبة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار إلى حلب لمحاربة البرلى المتغلب عليها المفسد فيها. وقال أبو شامة: وفي يوم الخميس ثامن ذي الحجة عزل عن قضاء دمشق النجم بن الصدر بن سنى الدولة، وتولى الحكم القاضي شمس الدين أحمد بن بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الذي كان نائباً في الحكم بالقاهرة سنين كثيرة، وجلس مكان النجم وابنه بالمدرسة العادلية، ثم وكل على النجم وأمره بالسفر إلى الديار المصرية، وكان حاكماً جائراً فاجراً ظالماً متعدياً، فاستراح منه البلاد والعباد، وهو الذي شاع عنه أنه أُودع كيسا فيه ألف دينار، فرد بدله كيسا فيه فلوس، وذكر ذلك في القصيدة التي هجى بها لما تولى الحكم، ورفعت إلى الملك المظفر والمولى الأمير المجير، وابن وداعة. قال أبو شامة: وفي الجملة تولى الحكم في زماننا ثلاثة مشهورين بالفسق: هذا الظالم، والرفيع الحنفي وابن الجمال المصري، وكان نائباً عن أبيه، وقلت في حصر القضاة ونوابهم: دمشق في عصرنا مع فضلها بُلِيَتْ ... من القضاة بِجُهَّالٍ وأوقاح بأعجمين ومصرى وصانعهم ... وإربلى وخياط وفلاح هم ضعف ستة والنواب كلهم ... ضعفان أحزانهم أضعاف أفراح أي هم إثنا عشر: الزكى، وأخوه وابن الحرستانى، وإبنه، والجمال المصري، والخويي، والرفيع، والتفليسى، وبنو سنى الدولة ثلاثة؛ وابن خلكان؛ والنواب ثمانية عشر. ثم سافر القاضي المعزول إلى مصر تحت الحوطة يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة، والدعاء عليه كثير، والتظلم منه شائع، والدعاوى عليه كثيرة. قال: وأنشدني العماد داود الحموي لنفسه في ذلك القاضي المعزول: نجم أتاه ضياء الشمس فاحترقا ... وراح في لجج الأدبار قد غَرِقا ناحت عليه الليالى وهى شامتةٍ ... وعرفته صروف الدهر ما اختلقا وحدَّثته الأمانى وهي كاذبة ... بأنه لا يرى بعد النعيم شقا وجاد بالمال كي تبقى رئاسته ... وفتق الشرع والتقوى وما رتقا فجاءه سهم غربٍ جل مُرسله ... فمات معنى وما أخطاه من رشقا وأُلقيت في قلوب الناس بُفضته ... لكنهخم قد غدوا في ذمه فِرَقا ففرقَةٌ بقبيح الظلم تذكره ... وفرقةٌ حلقَتْ بالله قد فسقا وزدت أنا: وفرقة وصفته بالخلاعة مع ... خبثٍ وكبرٍ وكلٌّ منهم صَدقا قال: وفى الغد يوم الجمعة: قُرِىءَ بالشباك المالى بجامع دشمق، وأنا حاضر فيه، تقليد القضاء للقاضى شمس الدين بن خلكان الإربلى، ويتضمن أنه فوض إليه الحكم في جميع بلاد الشام من العريش إلى سلمية، يستنيب فيها من يراه، وفوض إليه النظر في أوقاف الجامع، والمصالح، والمارستان، والمدراس وغيرها، مما كان تحت يد الحاكم المعزول، وفوض إليه تدريس سبع مدارس كانت تحت يد المعزول أيضاً وهي العذراوية، والعادلية، والناصرية، والفلكية، والركنية، والإقبالية، والبهنسية.

ذكر بقية الحوادث

وفي تاريخ النويرى: ولما سار السلطان الملك الظاهر من مصر إلى الشام، أمر القاضي شمس الدين بن خلكان أن يسافر في صبحته من مصر إلى الشام فسافر، ولما دخل السلطان دمشق عزل عن قضاء دمشق نجم الدين بن صدر الدين ابن سنى الدولة وولى عوضه القاضى شمس الدين بن خلكان. ذكر بقية الحوادث منها: أن في يوم الجمعة خامس المحرم من هذه السنة كانت كسرة التتار على حمص قريباً من قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد ذكرناها مفصلة في السنة الماضية لأجل تتميم الكلام. ومنها: وصول الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ إلى الأبواب السلطانية، وكان وصوله في شعبان، فأقبل الظاهر عليه وأحسن إليه، وأمر له ولمن معه بالإقامات والإنزال من دمشق إلى مصر، وتلقاه وأنزله في دار أخليت له، تليق بمثله، ووصل بعده أخوه المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، فتلقاه كما تلقى أخاه، وكان أخوهما الملك المظفر صاحب سنجار قد رتبه الملك سيف الدين قطز نائباً بحلب بعد كسرة التتار كما ذكرنا فوجد العزيزية، أمراء حلب عليه، وكرهوا ولايته، فأمسكوه واعتقلوه في بعض قلاع حلب لما قتل المظفر، فسأل إخوته السلطان تسييبه، فأفرج عنه، ووصل السلطان المذكورين بصلات جزيلة من المال والقماش والخيل والخلع والحوائص، لهم ولأصحابهم، وجهزهم ليعودوا إلى ممالكيهم صحبة الخليفة المستنصر بالله، وكتب تقاليدهم بتفويضها إليهم. فكتب للملك الصالح ركن الدين إسماعيل: الموصل وولاياتها ورساتيقها، ونصيبين وولاياتها: بالوصا والجزيرة ومدينة بوازيج وما يتعلق بها، وعقر وشوش، ودارا وأعمالها، والقلاع العمادية وبلادها، والكواشى وبلادها، وأهرور وبلدها، وجلصور وبلدها، وكنكور وبلدها. وكتب للملك المجاهد سيف الدين إسحاق بلاد الجزيرة وزيد عليها حمرين، وكتب للملك المظفر علاء الدين على سنجار وأعمالها التي كانت بيده. وأرسل إليهم الطلبلخانات والسناجق، وتقدم بسفرهم صحبته إلى الشام ليجهزهم إلى مستقرهم صحبة الخليفة المستنصر بالله، فتجهزوا صحبته كما ذكرنا. ومنها: أنه جاءت الرسل من جهة جوَانْ دِين كُنديافا، وغيره من الفرنج الذين بالساحل، إلى السلطان الملك الظاهر، والسلطان في منزلة ماء العوجاء يسألون السلطان الإذن لصاحبهم في حضوره إلى الأبواب الشريفة، فأذن لكنديافا المذكور، فحضر، فأكرمه السلطان وأقبل عليه، وأجاب سؤاله، ورسم بتقرير الهدنة له، ولصاحب بيروت على حكم القاعدة التي كانت مقررة في الأيام الناصرية، وكتب له منشوراً بما في يده من البلاد، فقبل الأرض شكراً على هذه النعمة، وعاد، وكثرت الأجلاب، وأمنت السبل، وترددت التجار، وسلكت السفار، واندفعت عن أهل السواحل المضار. ومنها: أنه وصل إلى السلطان رسول الأشكرى ببذل المودة والمساعدة. ومنها: أنه حضر إلى خدمة السلطان وهو في الشام الملك المنصور والملك الأشرف صاحب حمص، فتلقاهما بالإكرام وحباهما بالإنعام، وأرسل إليهما شعار السلطنة، فركب كل منهما، وكتب لهما التقاليد بممالكهما، وزاد كل منهما على ما بيده، فزاد المنصور صاحب حماة بلاد الإسماعيلية، والملك الأشرف تل باشر، وأعادهما إلى مستقرهما. وحضر لخدمته الملك الزاهد أسد الدين شيركوه، والملك الأمجد بن العادل صاحب بعلبك، والمنصور والسعيد ولدا الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل الكبير، والملك الأمحد بن الملك الناصر داود، والملك الأشرف ابن الملك المسعود، والقاهر بن المعظم، فعاملهم بالجميل والإنعام الجزيل. وهؤلاء من أعيان الذرية الأيوبية، وفدوا الىخدمته ومثلوا بحضرته ووطئوا بساطه، وأكلوا سماطه، فكان هذا من أمارات الإقبال، وسعادة جد دولته الآمنة من الزوال. ومنها: أن السلطان أفرج عن العزيز بن المغيث وأرسله إلى أبيه بالكرك، وذلك أن الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك كان قد أرسل ولده العزيز فخر الدين عثمان إلى كتبغانوين، مقدم التتار، عند وصوله إلى دمشق، فبقى مقيما بها إلى أن اتفقت الكسرة، ودخل السلطان المظفر دشمق، فأمسكه واعتقله، فلما دخل الظاهر دمشق أفرج عنه وأحسن إليه، وجهزه إلى والده، وجهز إليه شعار السلطنة، فركب بها في الكرك.

ومنها: أنه اتفقت واقعة بين الفرنج والتركمان ببلاد الجولان، وكان التركمان قد آووا إلى بلد الساحل جافلين من التتار، وانتقلوا إلى بلد الجولان فأقاموا بها، وكانت صفد بيد الفرنج فقصدوا الإغارة على التركمان، وتبييتهم على غرَّةٍ منهم، فشعروا بما أراده الفرنج، فتأهبوا لهم وتيقظوا، فلما جاؤوا اليهم اتفقوا معهم، فكسروا الفرنج كسرة شديدة، وأسروا من كنودهم جماعة، فبذلوا لهم مالا يشترون به نفوسهم، ويفدون به رؤوسهم، فقبلوه منهم، وخلوا عنهم، ولم يطلعوا على ذلك أحدا من النواب السلطانية ظناً منهم أن الأمر يخفى ولا يظهر، فأطلع السلطان على ذلك، وعلم التركمان بذلك، فخافوا غائلة إيقاعه، فرحلوا من البلاد، وتوجهوا إلى الروم. ومنها: أن الأمير بيبرس قال في تاريخه: وفي هذه السنة اتفق وصولى إلى الديار المصرية صحبة الطواشى مجاهد الدين قايماز الموصلى خادم الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فاشترانى منه الأمير سيف الدين قلاون الألفى، واشترى منه مملوكاً آخر خوشداشالى يسمى أيبك الموصلى، وكان السلطان قلاون ساكناً بحارة البندقانيين بالقاهرة المحروسة، فرتبنى في المكتب، فلطف الله بي، وعلمني كتابه العزيز، وشرفني بدراسة القرآن الكريم، لطفاً من رب العالمين. ولما سافر المخدوم هذه السفرة، صحبة السلطان الملك الظاهر، كنت مقيماً بدار عند الست خاتون قطقطية، وهي والدة الملك الأشرف، معدودا في جملة الصغار. ومنها: أنه جرى لولدي صاحب الروم وهما عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان، وقد ذكرنا أنهما حضرا مع هلاون فتح حلب، وهعاد كل منهما إلى مستقره على صورة القسمة التي قسمها بينهما منكوقان، فلما كان في هذه السنة أرسل هلاون إلى عز الدين يستدعى شمس الدين يوتاش نائبه، فأرسله إليه، فوصل إلى ارزنكان صحبة رسله، فاتفق عند وصولهم إليها عيد غطاس النصارى، فخرجوا متوجهين إلى الفرات بجمع كثير، ومعهم الجاثليق، وإسمه مرحسيا، وقد رفعوا الصلبان على الرماح، وأعلنوا النواقيس والصياح، فأنكر عليهم شمس الدين يوتاش، وقصد منعهم، فقام عليه رسل هلاون وقالوا: هذه بلاد السلطان ركن الدين، فلا تتحدث إلا في بلاد مخدومك عز الدين كيكاوس، وسألوا الجائليق كيف كانت عادتكم في أيام السلطان غياث الدين؟ فقال لهم: كانت عادتنا نحمل ثلاثة آلاف درهم ونعمل عندنا كما نختار، فأخذوا منه ثلاثة آلاف درهم، ومكنوه من عمل العيد كما أراد، فلما جرت هذه المفاوضة بين رسل هلاون وشمس الدين يوتاش عاد مغضبا ورجع إلى السلطان عزالدين، وحسن إليه العصيان على هلاون، والخلاف على أخيه ركن الدين، والاستيلاء على بلاده، فأطاعه ووافقه. وكان ذلك داعية الفساد الأكبر، والصدع الذي لم يجبر، ثم سار إلى توقات وهي إقطاع معين الدين سليمان البرواناه، وبها أولاده وحريمه، فحصرها وضايقها، واستولى على البلاد التي في قسمة السلطان ركن الدين، فتوجه ركن الدين والبرواناه إلى هلاون، وشكيا إليه ما فعله السلطان عز الدين ونائبه يوتاش من الخلاف واعصيان، ونقض ما قرره القان، فجهز هلاون معهما تمان من عسكره، صحبة مقدم يسمى بيان نوين، وسارا راجعين، وتقدما العسكر المذكور، وقررا مع بيان نوين أن يكون عندهما في فصل الربيع. ثم أن السلطان ركن الدين فرق ضياع أرزنجان على أمرائه إقطاعا، ووعدهم بأنه متى استولى على مملكة أخيه أعطاهم تلك الضياع أملاكا، وأقام السلطان ركن الدين على أرزنجان إلى أن انقضى فصل الشتاء، وكان نائبه الأمير خطير الدين زكريا، وأتابك جيشه رسلان دغمش، إنحاز إليه مذ نفر عن أخيه السلطان عز الدين لما جهزه لحرب بيجو، وهجم على حريمه وهو في حال السكر، وقد ذكرنا ذلك مقدما، فاستمر في الخدمة الركنية، وكان البرواناه بين يديه متصرفا في المهمات، وشرف الدين مسعود وضياء الدين محمود كتابا بين يديه. فلما أقبل زمن الربيع جاء بيان نوين بجيش التتار إلى ارزنجان، فجهز معهم السلطان ركن الدين عساكره، وسفرهم إلى الروم صحبة معين الدين البرواناه، فسار شمس الدين يوتاش عن التوقات ومعه عساكر السلطان عز الدين لحربهم، فالتقى الجمعان على موضع يسمى يلدوز طاغى، ومعناه جبل النجم، فكانت الكسرة على جيش ركن الدين والتتار، فانهزموا.

ذكر الأمور المزعجة

وعادوا إلى أرزنكان، فأقاموا بها، وأرسلوا إلى هلاون يستنجدون منه مددا، فجرد اليهم مقدماً يسمى على شاق نوين، ومعه تمان، فلما وصل، سار السلطان ركن الدين بنفسه، فوصلوا إلى قزان يوكى، فشتوا هناك. فلما انصرف الشتاء، وصلت رسل هلاون إلى السلطان عز الدين تستدعيه، فأبى المضى، وعكف على اللهو واللعب، وجمع عسكره حوله بقونية، ولم يهتم لحفظ الأطراف وثغور مملكته، فسار أخوه ركن الدين إليها، واستولى عليها حتى انتهى إلى أقصراى ودخل صحراء قونية. فهرب السلطان عز الدين منهزماً إلى الأشكرى بالقسطنطينية، وصحبته أخواله كرخيا وكركديد وهما على دين النصرانية، وثلاثة نفر من أمرائه، وأخلى لأخيه البلاد فملكها واستولى عليها، سوى الثغور والجبال والسواحل التي بأيدي التركمان، فإنهم امتنعوا عن طاعة السلطان ركن الدين. وكان كبارهم محمد باك وإلياس باك أخوه وعلى باك صهره وسونج قرابته، فأسلوا إلى هلاون يبذلون له الطاعة وحمل الإتاوة، ويطلبون منه سنجقا، وفرمانا بتقليدهم، وشحنة يقيم عندهم، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إليهم شحنة يسمى قلشار، وكتب لهم فرمان بالبلاد التي بأيديهم، وهي: طُكزلو وخوباس وطلماي وما حولها. وأرسل هلاون إلى محمد باك أمير التركمان المذكور يستدعيه إلى الأردُو، فأبى ولم يتوجه إليه، فبرز مرسوم هلاون إلى السلطان ركن الدين والتتار الذين في الروم بأن يتوجهوا لقتال محمد باك والتركمان الذين معه، فتوجهوا لحربه، فخامر عليه على باك صهره، وجاء إلى السلطان ركن الدين وقوى عزمه على قتال التركمان، ودلهم على عوراتهم، ومداخل بلادهم، فدخلوها وأخذوا أكثرها، والتقى معهم في صحراء طلمانية، فكسروه فانهزم، وتحصن ببعض الجبال، وأرسل يطلب الأمان ليحضر إلى الطاعة، فحلفوا له وآمنوه، فحضر، فأرسلوه إلى السلطان ركن الدين، فأخذه معه ورحل إلى قونية، فقتله عند وصوله إلى مدينة بُرْلوُ، واستقر عليباك صهره أميراً على التركمان، وملك التتار تلك الأطراف إلى حد إسطنبول. ومنها: أنه اتفقت واقعة الأمير شمس الدين أقوش البرلى العزيزى، وكان المذكور له نابلس من الأيام المظفرية، وزاده السلطان بيسان، وأعطى مملوكه قجقار إقطاعا، وتوجه إلى دمشق، فحصلت أسباب أوجبت إمساك الأمير بهاء الدين بغدى الشرفى؛ فنفر الأشرفية والعزيزية، وخرج الأمير شمس الدين المذكور وجماعة منهم، وتوجه إلى البيرة واستولى عليها، وجعل يشن الغارات على التتار الذين هم بشرقى الفرات، ويكبس من يستفرده منهم، وطمعت آماله في قصد سنجار، فقصدها، وقد كمن له التتار وهو لا يشعر، فلما انتهى إلى حيث هم، خرجوا عليه فكسروه وهزموه، وقتلوا من رفقته جماعة منهم: الأمير علم الدين حكم الأشرفى، ونجا بنفسه، فعاد إلى البيرة، فراسله السلطان؛ وعرض عليه الدخول في الطاعة، ووعده بالإحسان، فلم يقبل، فجهز إليه جيشاً وقدم عليه الأمير جمال الدين المحمدى، فسار إليه والتقيا، فكسره البلى وأسره ومن معه، فأما الأمراء فأعطى لكل أمير منهم فرسا واحدا، وأما الأجناد فإنه تركهم رجاله وأطلقهم، فحضروا إلى السلطان، وهم على هذه الحال، فعدل عن مقاتلته إلى مخاتلته، فأرسل إليه يعده الإحسان ويستجلبه بصوغ اللسان. ذكر الأمور المزعجة منها: أن في ربيع الاول من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية عكا أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، بعد أن أمطرت عليهم دماء عدة أيام، وهلك منهم خلق كثير قبل الخسف، وبقى أهل عكا لابسين السواد، وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب على زعمهم. ومنها: أنه خرج على الغلال بأرض حوران وأعمالها والجولان وأعمالها فأر عظيم أكل الغلات، فكان الذي أكله ثلاثمائة ألف غرارة قمح غير الشعير، وأبيعت الحنطة في هذه السنة المكوك منها بأربعمائة درهم، واستأصلت الفرنج أموال السلمين في ثمن الغلال. قلت: وقع في صعيد مصر في سنة خمس وسبعمائة مثل ذلك، وكان مباشروا شونة أم القصور باتوا بها ليلى لأجل الفأر خوفا على الغلة، فباتوا يقتلون في الفأر إلى الصباح، فكان جملة ما قتلوه سبعة عشر أردباً وكسوراً بالكيل المصرى. وفيها: حج بالناس) ( ذكر من توفى فيها من الأعيان

السنة الستين بعد الستمائة

الشيخ الإمام العالم العلامة الزاهد البارع الورع فريد عصره ووحيد دهره أثير الدين بن نجيب بن محمد الكاسانى، أحد الأعيان الحنفية الكبار. وكان إماما فاضلاً صاحب تصانيف مفيدة منها كتاب) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (في عشر مجلدات، وهو كتاب عظيم مفيد مشهور في الآفاق، وروى الحديث وغيره عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي بكر محمود بن الحسن البلخى، وعن الشيخ الإمام شمس الأئمة الكردى، وكان يروى كتاب) التيسير في التفسير (للإمام نجم الدين النسفى عن الشيخ الأجل برهان الدين الحسن بن محمد الكاسانى، وهو عن الشيخ الإمام نجم الدين عن المصنف. توفى ليلة الثلاثاء السادس عشر من محرم هذه السنة ببلده كاشغر. ورثاه الإمام العلامة كمال الدين بن أبي المظفر بقوله: فقدنا إماما كان لو نسبته ... الى جميع الورى بالعلم والفضل أشرفا وكان على ما فيه من بشرية ... على كل أسرار الملائك أشْرَفا ولو سُئِلوا من ذا الذي ينصُر الهُدى ... ويدعُو إليه عيَّن الكُلُّ أشْرفا الشيخ تاج الدين أبو عبد الله بن أبي البقاء صالح بن محارب التنوخي المحلى ناظر ثغر الإسكندرية. كان رئيسا فاضلا جليلا، مات في هذه السنة. الشيخ أبو بكر مفضل بن الشيخ أبي الفتح بن أبي سراقة. مات بمصر في هذه السنة. الشيخ الخطيب أبو البركات عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن عبد القاهر بن موهوب الحموى الشافعى. توفى بحماة ودفن بمدرسته فيها. الجمال أبو عمرو عثمان بن الشيخ أبي الحرم مكى السارعى. كان فاضلا مشهوراً بالدين والصلاح، وكان يجلس للوغظ، وله اليدُ الطولى في معرفة المواقيت وعمل الساعات، توفى في هذه السنة بالقاهرة. الشيخ المحدث الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد بن سيد الناس اليعمرى الأندلسي. وكان أحد حفاظ المحدثين المشهورين وفضلائهم المذكورين، وبه ختم هذا الشأن بالمغرب، توفى في هذه السنة بمدينة تونس، رحمه الله. الصاحب صفى الدين ابوإسحاق إبراهيم بن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن على بن مرزوق العسقلاني الكاتب التاجر، وزَّرَ للمك الكامل. وكان أحد الرؤساء المعروفين بالثروة وسعة ذات اليد، توفى هذه السنة بمصر. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الستين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: المستنصر بالله الذي نصبه السلطان الملك الظاهر قد قتل في ثلث المحرم في هذه السنة على ما نذكره الآن. وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك الظاهر بيبرس البندقدارى. ونائبه بدمشق: الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى. وكان المتغلب على حلب: الأمير شمس الدين أقوش البرلى العزيزى، ثم أخذت منه على ما نذكره الآن. وصاحب بلاد الروم: السلطان ركن الدين قلبج أرسلان السلجوقى. وصاحب العراق وكرسيه بغداد، وإقليم خراسان وكرسيه نيسابور، وعراق العجم وكرسيه أصبهان، وأذربيجان وكرسيها تبريز، وخوزستان وكرسيها ششتر، وبلاد فارس وكرسيها شيراز، وديار بكر وكرسيها الموصل: هلاون بن طلوخان ابن جنكزخان، وهذه البلاد كلها تحت يد هلاون وأولاده، وكذلك بلاد الروم تحت يده، ولكنه قرر صاحبها ركن الدين قليج أرسلان وهو في طاعة هلاون وتحمل إليه الإتاوة. وصاحب البلاد الشمالية وكرسيها صراي: بركة خان صاين بن دوشى خان ابن جنكزخان، وهو أعظم ملوك التتار. ذكر قتل الخليفة المستصر بالله

ذكر ماجريات الملك الظاهر

قد ذكرنا أنه بويع له في رجب من السنة الماضية، وذكرنا أنه ماأقامه إلا السلطان الظاهر بيبرس، وأقام بركة، وسافر به إلى الشام، وجهزه من الشام إلى بغداد، وأنه لما عبر الفرات بمن معه من العسكر ظن أن التتار قد انتزحوا عن العراق، وفارقوها على عادتهم أنهم يخربون ويذهبون ولا يقيمون، ولم يدر أنهم في البلاد، فسار على ما هو عليه، واتصل بالتتار قدومه لأخذ الثأثر، فجردوا إليه عسكرا صحبة هلاجو وأُزدان، فأدركوه وقد بلغ عانا، فحاربوه حربا عوانا، فصابرهم جهده، وثبت لصدمتهم وكده، ثم تكاثرواعليه وتبادروا اليه، فلم يكن له قبل بكثرتهم ولا طاقة بمنعهم لمنعتهم، فأخذته السيوف وأدركته الحتوف، فمات شهيدا وتولى حميدا، وقتل أكثر من كان معه، وتفرق من نجا بنفسه، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة أعنى سنة ستين وستمائة. وقد ذكر بيبرس وفاته في السنة الماضية، والصواب ما ذكرناه. وشغرت البلاد من الخليفة العباسى إلى ان قدم أبو العباس أحمد بن الأمير أبي على القبى بن الأمير على بن الأمير ابي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق، وصحبته جماعة من رؤوس تلكا لبلاد، وقد كان شهد الوقعة في صحبة المستنصر بالله المقتول، وهرب هو في جماعة من المعركة، فسلم، وتوجه إلى الديار الشامية طالباً الديار المصرية، فحضر إلى القاهرة في السابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، ويوم دخوله تلقاه السلطان الملك وسر به، وأكرمه وعظمه، وأنزله في البرج الكبير بقلعة الجبل، وأجرى عليه الأرزاق الدارة والإحسان، ولم يحصل له بيعة إلا في سنة إحدى وستين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ماجريات الملك الظاهر منها: أخذه الشوبك من الملك المغيث بن الملك العادل الصغير. ولما عاد السلطان من الشام إلى الديار المصرية في السنة الماضية جرد الأمير بدر الدين الأيدمرى ومعه جماعة، ولم يعلم أحداً جهة مقصده، لأن الملك الظاهر كان حازماً في أمره، كأنما لسره مقتدياً بقول القائل: إذا ضاق صَدرُ المرءِ عن سرّ نفسه ... فصَدْرُ الذي يَستودعُ السَّر أضْيَقُ فسار الأمير المذكور ومن معه إلى الشوبك، وتسلمها يوم الأحد وقت العصر في العشر الأواخر من شهر ذي الحجة، ورتب فيها سيف الدين بلبان المختصى والياً، واستخدم بها النقباء، والجاندارية، وأفرد لخاص القلعة ما كان مفرداً لها في الأيام الصالحية. ولما أخذها السلطان كان عند المغيث جماعة من الشهرزورية، فاعتمدوا الغارة على بلادها، فجرّد السلطان إليهم من يردّهم، وشرع في تجهيز عسكر إلى الكرك، فسير المغيث بن العادل يلتمس العفو عنه من السلطان، ثم أرسل يستعطف السلطان، فأجابه، وأقطعه دبيان، واستأمنت الشهر زورية إلى السلطان، فأمنهم وعفا عنهم، وأعطى بعضهم الإقطاعات. ومنها: أن في ذي القعدة قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق وهو علاء الدين طيبرس الوزيرى، وكان قد تولى دمشق بعد مسير الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها. وسبب القبض عليه أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطى وعلاء الدين الركنى وغيرهما من الأمراء، فلما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس للقائهم، فقبضوا عليه، وقيدوه، وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر، واستمر في الحبس سنة وشهرا، وكانت مدّة ولايته بدمشق سنة وشهرا أيضاً. وكان ردىء السيرة في أهل دشمق، حتى نزح منها جماعة كثيرة من ظلمه، وقيض الله عليه من جازاه بمثله، ثم أطلقه فيما بعد، وأحسن اليه، وأعطاه إمرة وقربة وأدناه، ولما أرسل إلى القلعة مقيدا أقام بدمشق الأمير علاء الدين أيدغدى الحاج الركنى إلى أن عين السلطان لها الأمير جمال الدين أقوش النجيبى، وأرسله إليها في هذه السنة، فولى بها نيابة السلطنة مدّة: وكان جمال الدين هذا من أكابر الأمراء. واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة. ومنها: أن السلطان جرد الأمير عزالدين أمير جاندار إلى الصعيد ليردع العربان، فإنهم كانوا قد طمعوا بتغير الممالك ونافقوا وقتلوا عز الدين الحواش والى قوص، فحسم مادتهم وبدد شملهم.

ذكر بقية الحوادث

ومنها: أن السلطان رسم للعساكر التي بالشام بالغارة على بلد أنطاكية، فتوجه الأمير شمس الدين سنقر الرومى بمن كان قد جرد معه لتشييع الخليفة الذي قتل، وتوجه صاحب حماة وحمص فأغاروا عليها، وأخذوا ميناءها، ونهبوا وغنموا، وعادوا سالمين غانمين إلى مصر، ومعهم أزيد من ثلاثمائة أسير، فقابلهم السلطان بالإحسان والإنعام. ومنها: أن السلطان أرسل رسولا إلى الأشكرى صاحب قسطنطينية، ووجه صحبته بطرك الملكية بمصر، فإن الأشكرى كان قد سير رسله يلتمس إنقاذه إليه، وكان الذي أرسله السلطان الأمير أقوش المسعودى، ولما بلغ الرسالة عاد وعاد معه البطرك، وقد حصل له من الأشكرى مال وقماش ومصوغ، فعرضه على السلطان فرده عليه. وأخبر الرسول المذكور بأن الأشكرى أبقى الجامع الذي بالقسطنطينية، فأمر السلطان أن يجهز له الحصر والستور والقناديل والمباخر والسجادات والطيب، وكان هذا المسجد قد بنى في سنة ست وتسعين عندما وقع العداء مع الروم في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأن بانيه مسلمة بن عبد الملك. ومنها: أن السلطان عزل عن القضاء بمصر والقاهرة القاضي بدر الدين السنجارى، وأُعيد القاضى تاج الدين بن بنت الأعز. وفي هذه السنة أمر السلطان للقاضى تاج الدين هذا بأن يستنيب من المذاهب الثلاثة، فاستناب صدر الدين سليمان الحنفى، والشيخ شرف الدين عمر السبكى المالكى، والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلى. ذكر بقية الحوادث منها: أن في نصف رجب وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة، وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتار على العراق وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يسمى شمس الدين سلار، فأحسن الملك الظاهر ملتقاهم وعين لهم إقطاعات بالديار المصرية. ومنها: أن في ذي الحجة من هذه السنة ظهر بين القصرين بالقاهرة عند الركن المخلق مجر مكتوب عليه: هذا مسجد موسى عليه السلام، فخلق بالزعفران، وسمى من ذلك اليوم الركن المخلق. ومنها: أن في رجب وصل إلى القاهرة إلى خدمة الملك الظاهر عماد الدين ابن مظفر الدين صاحب صهيون وصحبته هدية جليلة، فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه. ومنها: أنه جهز الملك المنصور صاحب حماة شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصارى رسولا إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور فوجد السلطان الملك الظاهر عاتبا على صاحب حماة لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر علىالشيخ شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة. ومنها: أنه وصل رسل السلطان عز الدين صاحب الروم إلى السلطان الملك الظاهر يستنجده ويستمدّه، وكان أرسلهم لما ضايقه أخوه قبل انهزامه إلى بلاد الأشكرى، وهم شرف الدين الجاكى، والشريف عماد الدين الهاشمى، والأمير ناصر الدين بن كُوجْ رسلان أمر حاجب، ووصل معهم كتابه بأنه نزل للسلطان عن نصف مملكته، وسير دروجا عليها علائمه ليكتب فيها مناشير بما يقطعه السلطان من بلاده لمن يشاء، فأكرم السلطان رسله، وجهز السلطان الأمير ناصر الدين أغلمش الصالحى ليتوجه إليه بجماعة من العسكر وأقطعه ثلثمائة فارس في الروم، ولما وقع الاهتمام بذلك جاءت الأخبار بانهزامه، فتأخر الحال، فكان كما قيل: أَهُمُّ بامر الحزْم لو أستطعيُه ... وقد حيل بين العيرِ والنزوان ومنها: أنه وصل من عند التتار قصاد إلى الملك المنصور صاحب حماة ومعهم فرمان له، فأرسل القصاد والفرمان إلى السلطان الملك الظاهر. ومنها: أن في هذه السنة اصطاد بعض الأمراء الظاهرية بجرود حمار وحش، فطبخوه فلم ينضج، ولا أثر فيه كثرة الوقود، ثم افتقدوا أمره فإذا هو موسوم على أذنه بهرام جور، ذكره ابن خلكان وقال: قد أحضروه إلَّي فقرأته كذلك، وهذا يقتضى أن لهذا الحمار قريباً من ثمانمائة سنة، فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة، وحمر الوحش تعيش دهراً طويلاً. وقال ابن كثير: يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الأمجد؛ إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه، فكتب بهرام جور وحصل اللبس من هذا.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

قلت: كلام ابن كثير بعيد، فإش يحتاج إلى هذه التأويلات البعيدة، ولا ضرورة إليها، فإن عيش الحمر الوحشية هذه المدة غير بعيد، وعدم وقوعها في الصيد غير بعيد، وأيضاً فإن المواسم التي يسمون بها آذان الحيوان بأسماء الملوك مقررة عندهم مكتوبة صحيحة حتى لا يقع الاشتباه، فكيف يلتبس بهرام شاه ببهرام جور؟ ومنها: أن القاضي شمس الدين بن خلكان نزل عن تدريس الركنية للشيخ شهاب الدين أبي شامة، وحضر عنده حتى درس وأخذ في أول مختصر المزنى. ومنها: أن في عشية يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة شنق قاضى المقس وهو الكمال خضر الكردى أحد أقارب قاضي سنجار بالقاهرة المحروسة، وذلك بأنه تعرض لإقامة دولة باجتماعه مع ماعة من الأكراد الشهروزية فقبض عليه، وعلق وفي رقبته تواقيع كان كتبها، وبنود من شعار الدولة التي كان رام إقامتها، وكان قبل ذلك قد صنع خاتماً وجعل تحت فصه ورقة، وذكر أنه وجده، وفيها أسماء جماعة من أولى الثروة بمال عندهم مودع، ورام استئصال أموالهم والتقريب بها إلى ولاة الأمر، فاطلع على محاله فأهين وصفع، فقيل فيه: ما وفِق الكمال في أفعاله ... كلا ولا سدِد في أقوالِهِ يقول من أبصره يصك تأ ... ديبا على ما كان من مجاله قد كان مكتوباً على جبينه ... فقلت لا بل كان في قُذالِه وقال أبو شامة: وسألت الحاكم شمس الدين أحمد بن محمد عن هذه القضية، فأخبرنى ان هذا الكمال خضر كان قد علق به حب التقدم عند الملوك بسبب أنه كان قد تقدم عند الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى، ثم أبعد واتفق انه لما صنع الخاتم المذكور وحبس كان في الحبس شخص آخر يدعى أنه من ولد العباس وكانت الشهرزورية أرادت مبايعته بالخلافة وهيأوا أمره بغزة، فلما تبدد شملهم أخذ هذا وحبس، فاتفق خضر معه في الحبس على أنه يسعى له في ذلك الأمر ويكون هو وزيره، فاتفق موت العباسى، فلما خرج خضر سعى في إتمام الأمر لابنه، فتم ماتم. قال: وكان في زمن الإمام الناصر أحمد قد ورد إلى إربل شخص يسمى الأمير الغريب، كان يدعى أنه ولد الناصر، ثم توفى سنة أربع عشرة وستمائة، فادّعى هذا الشخص أنه ابنه عند الشهرزورية، فقدموه، فحبس ومات، وخلف ولدا صغيرا، فسعى الكمال في المبايعة له، فجرى ما جرى وقد خاب من افترى. وفيها:. وفيها: حج بالناس. ذكر من توفى فيها من الأعيان الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الصوفى، من أهل نصيبين. ونشأ بأربل واشتغل بعلومٍ كثيرة من علوم الأوائل، وكان يشغل أهل الذمة وغيرهم، ونسب إلى الإنحلال وقلة الدين وترك الصلوات، وكان ذكيا مفرطا، وله شعر رائق، وكان ضريراً، وهذا الضرير شبيه بأبى العلاء المعرى الضرير في اموره. ابن عبد السلام: الشيخ الإمام العالم العلامة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبي القاسم الحسن بن محمد بن المهذب أبو محمد السلمى الدمشقى الشافعى. شيخ المذهب، ومفيد أهله، وصاحب المصنفات الحسان منها: التفسير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغار، وكتاب الصلاة، والفوائد الموصلية، وغير ذلك. ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيراً، واشتغل على الشيخ فخرالدين بن عساكر، وغيره، وبرع في المذهب، ودرَّس بعدة مدارس بدمشق، وولى خطابتها، ثم انتقل عنها إلى الديارالمصرية بسبب إنكاره على الصالح إسماعيل تسليمه صفد والشقيف إلى الفرنج وغير ذلك، ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكى، فأرجهما من بلده، فسار أبو عمرو بن الحاجب إلى الناصر داود صاحب الكرك، فأكرمه، وسار عز الدين إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية، فلما حضره الموت أوصى بها للقاضى تاج الدين بن بنت الأعز. وكان وفاته في العاشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد بسفح جبل المقطم، وحضر جنازته الملك الظاهر وخلق من الأئمة.

كمال الدين بن العديم: عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد ابن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة ابن عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل العقيلى الحلبى الحنفى، كمال الدين أبو القاسم، الأمير الوزير، الرئيس الكبير. ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث، وحدث وتفقه، وأفتى ودرس، وصنف، وكان إماماً في فنون كثيرة، وترسَّلَ إلى الخلفاء والملوك مراراً عديدة، وكان يكتب حسناً طريقة مشهورة، وصنف لحلب تاريخاً مفيداً يقرب من أربعين مجلداً، وكان جيد المعروف بالحيدث، حسن النظر بالفقراء والصالحين، كثير الإحسان اليهم، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة. وكانت وفاته بمصر، ودفن بسفح الجبل المقطم بعد الشيخ عز الدين بعشرة أيام. وفي تاريخ النويري: وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتار، ثم عاد إلى حلب بعد خرابها، فلما نظر إليها ورأى ما فعله التتار بها تأسف وقال في ذلك قصيدة طويلة، من جملتها هي هذه: هو الدَّهرُ ما تَبْنيه كفَّاك يهدمُ ... وإن رُمْتَ إنصافاً لديه فَيَظْلِمُ أبادَ ملوكَ الأرض كسرى وقيصرا ... وأصمت لدى فرسانها منه أسهمُ ومُلكُ بنى العباس زَالَ ولم يَدَعُ ... لهُم أثراً من بعدهم وهُمُ هُمُ وأعتابُهُم أضحت تُدَاسُ وعَهْدُها ... تُبَاسُ بأفواه الملوك وتُلْثَمُ وأفنى بنى أيوب كُثْرَ جميعهم ... وما منهم إلاَّ مليكٌ مُعَظم وعن حَلَبٍ ما شِئْتَ قُلْ من عجائب ... أَحَلَّ بها يا صاح إن كنت تَعْلَمُ غداة أتاها للمنيَّة بَغْتَةً ... من المُغل جيشٌ كالسحاب عرَمْرَمُ أحاطوا كأسراب القطا يربوعها ... على سُبَّقٍ جًرّدٍ من الخيل طُهَّمُ ومن بَعْد ستٍ هاجَمُوها ومالهم ... من المت واقٍ لا ولا مِنهُ مِعْصَمُ فما دفعت أسوارُها عنهم الذى ... دهَاهُم ولا ما شيَّدُوه ورمَّموا أتوها كأمواج البحار زواخِر ... ببيضٍ وسمرٍ والقُتامُ مخيمُ فلو حلب البيضاَ عاينْت تُرْبها ... وقد عندمَ الفضىَّ من تُرْبها الدَّمُ وقد سُيِّرَتْ تلك الجِبالُ وسُجرَت ... بهنَّ بحارُ الموت والجوّ أَقْتَمُ وقد عطلَت تلك العشارُ وأذهلتْ ... مراضعُ عما أرضعتْ وهىَ هيَّمُ فيالك من يوم شديد لغامُهُ ... وقد أصبحت فيه المساجد تُهدمُ وقد درست تلك المدارس وارتمتْ ... مصاحفُها فوق الثرى وهي تُهْضمُ وقد جُزِزَتْ تلك الشعور وضمخت ... وجوه بأمواه الدماء وهي تُلطم وكلُّ مهاةٍ قد أُهينت سبية ... وقد طال ما كان تعزُّ وتُكرم تُنادى إلى مَنْ لا يُجيبٌ نداءها ... وتشكو إلى َنْ لا يرِقُّ ويُرحم فما غادروا إلا اليسير وقد أتى ... الحسابُ على الباقين بالحرف يُقَسَمُ وأقوَتْ رسوم كنّ فيها وأقفرت ... رُبوع بهم كانت تنهر وترسمُ فأيقنتُ أن الأرض ما دَتْ وأقبلَتْ ... بها الصاخَّة الكُبرى والآن التنقُّم فيا حلَباً أنَّى رُبُوعك أقفرَتْ ... وأعيْتَ جوابا فهى لا تتكلَّمُ وكُنْتِ لمن وافاك بالأمس جَنَّةً ... فما بالُ هذا اليوم أنت جَهَنَّمُ بأي جناً منك استحقيتُ ذي الذي ... أصابك والأعداءُ فيك تحَّموا وكيف أصابتك الحوادث غرَّة ... بعين الردى والبُؤسُ عنك يُتَرجْمُ أما كنت ملجأً لمن خاف حايراً ... وفيك لذى البأساءِ والضرّ أنعمُ أما كنْتِ للوفود ومقصداً ... يخافُك ذو شرٍ ويرجوك مُعْدمُ أما كنت للداعى إذا ما دعى جدا ... وفيك لمن يبغى من البغْى مُقْدِمُ

السنة الحادية والستين بعد الستمائة

يعزُّ على قلي المعنَّى بأنَّني ... أرى رُبعك المأنوس قفراً ويعظمُ فأين أحبَّائي الذين عهدتُهُم ... بِرَبْعك والقُطَّانُ فيك مُخيمُ وأني شموسٌ كنَّ بالأمسِ طُلعاً ... فأين استقلُّوا بالرِّكاب ويَمَّموا فها أنا ذو وجدٍ يحيد بأضْلعىُ ... عليك وعيْشى في البلادُ يذمَّمُ أنُوحُ على أهليكِ في كلِّ منزلٍ ... وأبكى الدُّجى شوقاً وأسأَلُ عنهم ولكنَّما لله في ذا مشئةٌ ... فيفعلُ فينا ما يشاءُ ويحكُم يوسف بن يوسف بن بن سلامة بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن جعفر بن سليمان بن محمد الفافا الزينبى بن إبراهيم بن محمد بن على ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، محيى الدين أبو العز، ويقال أبو المحاسن الهاشمي العباسي الموصلي، المعروف بابن زبلاق الشاعر. قتلته التتار لما فتحوا الموصل في هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة، فمن شعره قوله في بعض قصيدة من ديوانه: بعثتَ لنا من سحرُ مقلتك الوسنى ... سهاداً يذوُدُ الجَفْن أن يألف الوسْنَا وأبصرَ جسمى حُسْن خضرك ناحلا ... فحاكاه لكن زاد في دقَّة المعنَى وأبرزْتَ وجهاً أخجل الشَمْسَ طالعاً ... ومالت بقد علم الهيف الغصنا حكَيْتَ أَخَاك البدرُ في حال تمه ... سَناً وسناء اذ تَشابَهتُما سَناً البدرُ المراغى الخلافى، المعروف بالطويل، مات في ثاني عشر جمادي الآخرة من هذه السنة. وقال أبو شامة: كان قليل الدين، تاركا الصلاة، مغتبطاً بما كان فيه من معرفة الجدال والخلاف على طريقة إصطلاح المتأخرين. محمد بن داود بن ياقوت الصارمى المحدث. كتب كثيراً، وكان ديناً خيراً، يُعير كتابه، ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث، مات في هذه السنة. الشيخ المحدث أبو الحسن عبد الوهاب بن الشيخ أبي البركات الحسن المعروف بابن عساكر، حدث بدمشق ومصر وغيرهما، وتولى مشيخة دار الحديث النورية وغيرها بدمشق، توفى في هذه السنة بمكة رحمه الله. الأمير سيف الدين بلبان المعروف بالزردكاش، الذي كان استنابه طيبرس موضعه بدار العدل على دمشق لما سافر إلى حصار أنطاكية. مات في ثامن ذي الحجة من هذه السنة، وكان ديناً خيراً يحب العدل والصلاح. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الحادية والستين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وفي اليوم الثاني منها عقد للخليفة الحاكم بأمر الله عوضاً عن المستنصر بالله الذي قلته التتار، كذا قال بيبرس في تاريخه. وقال ابن كثير في تاريخه: وفي يوم الخميس ثاني المحرم من هذه السنة بويع له بالخلافة. وقال المؤيد في تاريخه: وفي يوم الخميس في أواخر ذي الحجة في هذه السنة أعنى سنة ستين وستمائة جلس الملك الظاهر وبايع له بالخلافة. وقال أبو شامة: ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة وسلطان الديار المصرية والشامية الملك الظاهر بيبرس الصالحى المعروف بالبندقدارى، ولا خليفة للناس يذكر بل السكة تضرب باسم المستنصر بالله على ما كان الأمر عليه، والنائب بدمشق عن السلطان جمال الدين أقوش النجيبى، وقاضيها شمس الدين ابن خلكان. وفيها: في يوم الجمعة سادس عشر محرم خطب بجامع دمشق وسائر الجوامع للخليفة الحاكم أبي العباس أحمد، بويع له بقلعة القاهرة ومصر في ثامن المحرم من السنة المذكورة. فنحن نبين ذلك مفصلا فنقول: ذكر خلافة الحاكم بأمر الله والكلام فيه على أنواع: الأولُ: في نسبه: هو أبو العباس أحمد بن الأمير على القبى بن الأمير ابي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن عبد الله المقتدى بالله ابي القاسم بن القائم بن القادر بن الطائع بن المطيع، وباقي النسب ذكر غير مرة. وقال أبو شامة: أبو العباس أحمد بن الحسين بن الحسن من ولد المسترشد. وقال بيبرس في تاريخه: هو أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن على القبى بن الحسن بن الخليفة الراشد بالله أبي جعفر المنصور ابن المسترشد بالله.

وقال المؤيد في تاريخه: وقد اختلف في نسبه، فالذى هو مشهور بمصر عند نسابة مصر أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر بن الأمير أبي على القبى بن الأمير حسين بن الراشد بن المسترشد بن المستظهر، وقد مر نسب المستظهر في جملة خلفاء بني العباس، وأما عند الشرفاء العباسيين في درح نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد ابن ابي بكر على بن ابي بكر بن أحمد بن الإمام المسترشد الفضل بن المستظهر. الثاني: في قدومه إلى الديار المصرية: وقال أبو شامة: وفي سنة ستين وستمائة يوم الأحد الثاني والعشرين من صفر وصل إلى دمشق الخليفة الحاكم الذي كان بايعه البرلى بحلب وأنزل في قلعة دمشق مكرما، وذلك بعد الوقعة التي قتل فيها الخيفة المستنصر، وكان معه فهرب، ثم سافر إلى مصر يوم الخميس السادس والعشرين من صفر. وقال ابن كثير: في السابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة ستين وستمائة دخل الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مصر من بلاد الشرق، وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد، وكان قد شهد الوقعة في صحبة المستنصر بالله وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم. قلت: إذا كان خروجه من دمشق يوم الخميس السادس والعشرين من صفر على ما ذكره أبو شامة، ودخوله مصر يوم السابع والعشرين من ربيع الآخر على ما ذكره ابن كثير يكون مدة سفره من دمشق إلى مصر شهرين ويوم، وهذا بعيد جدا، اللهم إلا إذا كان تعوق في الطريق لعروض مرض أو غيره، أو يكون زار القدس والخليل وأقام فيهما أياماً. وقد ذكرنا أن السلطان الملك الظاهر تلقاه يوم دخوله، وأنزله في البرج الكبير في قلعة الجبل، وأجرى عليه الأرزاق الدارة والإحسان. الثالث: في بيعته: قال ابن كثير: لما كان يوم الخميس ثاني المحرم من سنة إحدى وستين وستمائة جلس الملك الظاهر ركن الدين بيبرس وأمراؤه وأهل الحل والعقد في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله راكباً حتى نزل عند الإيوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، فقرىء نسبه على الناس، ثم أقبل عليه الملك الظاهر فبايعه، وبايعه الناس بعده، وكان يوما مشهودا. وقال بيبرس: ولماكان الثاني من المحرم من سنة إحدى وستين وستمائة أحضره السلطان ليقرر له الإمامة ويبايعه على الخلافة بحكم وفاة الإمام المستنصر بالله شهيدا بسيوف التتار، قتيلا بأيدي الكفار، فلم يرد أن يبقى منصب الخلافة شاغرا، وفوها فارغا، فأحضر الإمام المذكور راكبا إلى الإيوان الكبير الكامل بقلعة الجبل، وأجلسه، وجلس إلى جانبه، وعلمت له شجرة النسب العباسي، وبايعه السلطان على كتاب الله، وسنة رسوله، والأمر بالمعروب، والنهي عن المنكر، وجهاد أعداء الله، وأخذ أموال الله بحقها، وصرفها في مستحقها، وإقامة الحدود، وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين، وحراسة المسلمين. ثم أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، ووكل إليه تدبير الخلق، وجعله قسيم نفسه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور، وغدق به صلاح الجمهور، ثم أخذ الأمراء والوزراء والقضاة والأجناد والفقهاء والناس على إختلاف طبقاتهم في المبايعة، فتمت هذه البيعة المباركة. وهذا الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، وممن ليس والده وجده خليفة كثير، منهم: المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، والمعتضد ابن طلحة بن المتوكل، والقادر بن اسحاق بن المقتدر، والمقتدى بن الذخيرة ابن القائم بأمر الله. الرابع: في خطبته: ولما كان يوم الجمعة الثانية خطب الخليفة للناس خطبة بليغة وصلى بالناس بالقلعة. الخطبة الأولى التي خطب بها: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا وظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيرا، أحمده على السراءِ والضراء وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء واستنصر به على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، نجوم الإهتداء، وأئمة الإقتداء الأربعة الخلفاء، وعلى العباس عمه وكشاف غمه، أبي السادة الخلفاء) الراشدين والأئمة المهديين (، وعلى بقية أصحابه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.

ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الطور

أيها الناس أعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم على الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيتِ الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم، فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأبطال والأطفال وسبواالصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والأمهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم،) وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل (، وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلا رحم لبكائه، فشمروا عباد الله عن ساق الإجتهاد في إحياء فرض الجهاد، فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا، وانفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. فلم تبقى معذرة في القعود عن أعداء الدين والمحاماة عن المسلمين. وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعقابة للمتقين، والدهر يومان، والآخر للمؤمنين. جمع الله على التقوى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله العظيم لى ولكم ولسائر السملمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله، حمداً يقوم بشكر نعمائه، ويشهد بوحدانيته عدة عند لقائه، والصلاة على محمد خاتم أنبيائه، عدد ما خلق في أرضه وسمائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، إن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الملك الديان، " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ". نفعنا الله وإياكم بكتابه، وأجزل لنا ولكم من ثوابه، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين. وألبس الخليفة السلطان الفُتُوَّة متصلة الإسناد، واحدا لواحد إلى سلمان الفارسى رضى الله وعنه وسَلمانُ إلى إلى علي رضى الله عنه. ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الطور وفي هذه السنة، سار السلطان من الديار المصرية، وخرج بجيوشه وجموعه في السابع من شهر ربيع الآخر، وخيمَّ على باب القاهرة بمسجد التبر حتى تكاملت العساكر، ثم رحل، وخلف بالقلعة المحروسة في نيابة السلطنة الأمير عز الدين ايدمر الحلى، ولما وصلى إلى غزة وجد بها والدة الملك المغيث، وهي زوجة العادل بن الكامل، حضرت إليه مستعطفة له على ولدها، فأجرى معها الحديث في حضوره، وأرسل صحبتها الأمير شرف الدين الجاكى المهمندار لتجهيز الإقامات برسمه إذا حضر إليه، ونزل على حكمه، فخرج المذكور من الكرك، ولما بلغه وصوله إلى بيسان ركب لتلقية يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى فلما وصل إلى الدهليز، احتيط عليه وعلى أصحابه، وأرسله إلى القاهرة من ليلته صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى الظاهرى. وجهز إلى الكرم الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير عز الدين أيدمر الظاهرى استاذدار، فتسلماها واستقر الأمير عز الدين نائباً بها، وعاد الأمير بدر الدين بيسرى بعد أن رتب أحوالها وطيب خواطر رجالها.

ذكر مسير السلطان إلى عكا والإغارة عليها

وفي تاريخ النويري: وفي حادي عشر ربيع الآخر من هذه السنة، سار الملك الظاهر من مصر إلى الشام، فلاقته والدة المغيث صاحب الكرك بغزة، واستوثقت لابنها من الظاهر، ثم سار الظاهر من غزة ووصل إلى الطور ثاني عشر جمادي الأولى، ووصل إليه على الطور الملك الأشرف موسى صاحب حمص في نصف الشهر المذكور، فأحسن الظاهر اليه، ثم أن الملك المغيث سار حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه يوم السبت السابع والشعرين من جمادى الأولى، فلما شاهد المغيث الملك الظاهر ترجل، فمنعه الظاهر، وأركبه، وساق إلى جانبه، وقد تغير وجه الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد الملك المغيث عنه، وأنزله في خيمة، ثم قبض عليه، وأرسله إلى مصر معتقلا، صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث، ومن جملتهم ابن مزهر، والآخر شرف الدين، فأحضرهما السلطان، وأعطى للملك العزيز إقطاعا بالديار المصرية، وأحسن إليهما. ثم إن السلطان أرسل عسكراً وهو على الطور، فهدموا كنيسة الناصرة وهى من أكبر مواطن عبادات النصارى، لأن منها خرج دين النصرانية. ذكر مسير السلطان إلى عكا والإغارة عليها وفيها: ركب من الطور، وسار إلى عكا جريدة، ومعه من كل عشرة فارس واحد، واستناب الأمير شجاع الدين طغريل الشبلى بالدهليز، وكان ركوبه نصف الليل من ليلة السبت رابع جمادي الآخرة، فأصبح بالوادي الذي دون عكا، ثم أحاط بها من ناحية البر، وكان بالقرب منها برجٌ فيه جماعة من الفرنج، فسير إليه طائفة من الجند، فحاصروه، وخرج من فيه مستأمنين، وحرق ما حولها من الأخشاب، وقطع ما هنالك من الأشجار، وناوشوا الفرنج القتال، فقتل منهم أقوام. وأحضر إليه جندي يسمى حبش من أصحاب أطلس خان فارسا خيالة من الفرنج، طعنه ورماه عن فرسه وأسره، فأنعم عليه ووعده بعدة، وعاد إلى الدهليز بالطور، فرتب الأمير ناصر الدين القيمري نائب السلطنة، بالفتوحات الساحلية. ورحل وتوجه إلى القدس الشريف، وزار ورسم بعمارة المسجد الأقصى، ثم خرج طالباً الكرك. وفي تاريخ النويري: لماكان السلطان على الطور أرسل عسكرا هدموا كنيسة الناصرة، وأغاروا على عكا وبلادها، فغنموا وعادوا، ثم ركب السلطان الملك الظاهر بنفسه وجماعة ممن اختارهم وأغار ثانياً على عكا، وهدم برجا كان خارج البلد، وذلك عقيب إغارة عسكره. ذكر توجه السلطان إلى الكرك ولما خرج السلطان من القدس الشريف، سار نحو الكرك، ونزل عليها في الثالث عشر من جمادي الآخرة، فنزل إليه أولاد الملك المغيث، وقاضي المدينة، وخطيبها، وجماعة من أهلها، يطلبون العفو، فأحسن إليهم، وأعطاهم حتى رضوا، وتسلم القلعة، وطلع إليها، وأحضر دواوينها، ورتب أمر جيشها، وأعطى رجالها جامكية ثلاثة أشهر من خزائنه، وعين لها خاصا وأعطى اولاد الملك المغيث ما كان فيها من المال والقماش والأثاث، وخلع على العزيز فخر الدين عثمان ولد المغيث، وعلى خادمه، وأتابكه، وكتب مناشير عُربانها، وأُخلفوا له وأحلف مقدمو المدينة ونصاراها، وجميع أمراء بنى مهدى وبنى عقبة وأمرهم أن لا يشرب أحد منهم، ولا يسقى خيله، من صهاريج المدينة، وأهل البلاد رفقا بهم، وتوفيرا لهم، وترك بها مما كان معه من الخزانة سبعين ألف دينار، ومائة وخمسين ألف درهم، والزردخاناة التي صحبته، ورحل عنها عائدا إلى القاهرة. ذكر عود السلطان إلى القاهرة لما قضى السلطان شغله في الكرك، رحل عنها عائدا إلى القاهرة، فوصلها في سابع عشر رجب فكانت مدة سفرته هذه خمسة وتسعين يوما، وأحضر أولاد المغيث وحريمه إلى الديار المصرية، وأعطى ولده فخر الدين عثمان إمرة بمائة طواشى بالديار المصرية، وقبض على الرشيدي والدمياطي والبرلى.

ذكر وصول رسل بركة خان ملك التتار

قلت: الرشيدي هو سيف الدين بلبان الصالحى، والدمياطي هو الأمير عز الدين، وأما البرلى فهو الأمير شمس الدين أقوش البرلى العزيزي، وكان قد حضر إلى الأبواب السلطانية في أوائل هذه السنة، وقد ذكرنا استيلائه على البيرة، وما اتفق بينه وبين العسكر الذين جردهم السلطان إليه، وكونه كسرهم وسلبهم، وأرسلهم على تلك الحال، فأخذه السلطان بالترغيب والترهيب، وجعل تارة يبسط الآمال، ومرة يضيق عليه الحال، وحينا يتحيل عليه بنوع من الإحتيال، حتى بذل الطاعة، ودخل فيها، فسر السلطان بذلك وأرسل الأمير بدر الدين بكتاش الفخري إلى دمشق ليتلقاه، ورتب الإقامات والأنزال بالطرقات له، ولمن معه من الأمراء العزيزية، ولما وصل أعطاه ستين فارساً وغيرها، وأوسع للذين وصلوا معه على قدر مراتبهم، وقربه وأدناه، واتخذه سميراً ومشيراً وأنيساً ونديما، ثم سأل هو النزول عن البيرة، فأجابه السلطان إلى قبولها منه بعد تكرار سؤاله، وعوضه عنها، ثم قبض عليه في ثاني يوم دخوله القاهرة من سفر الكرك والطور. وقال الملك المؤيد: كان دخول البرلى في طاعة السلطان في سنة ستين وستمائة، وكان وصوله إلى القاهرة إلى خدمة السلطان في ثاني ذي الحجة من سنة ستين وستمائة، وكان قبضه إياه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة، فكان آخر العهد به. ذكر وصول رسل بركة خان ملك التتار وفي هذه السنة، وصلت رسل بركة خان وهم: الأمير جلال الدين بن القاضي والشيخ نور الدين علي، وغيرهما، مخبرين بإسلامه وعلى أيديهم كتابُ منه يتضمن ذكر من أسلم من بيوت التتار، وخرج عن زمرة الكفار، وتفصيلهم بقبائلهم وعشائرهم وأنفارهم وعساكرهم، وصغيرهم وكبيرهم،: قال: ودخل في دين الإسلام إخواننا الكبار، وإخواتنا الصغار وذراريهم، أولاد بوداكور بحشمهم وأولادهم بلاد كوكاخور ينشونوقا، ومن في بلادهم: قودعو، وقراجار، ونتش بغا، وشرامون، وبورباكو، ومنكقدار بجيوشه وسواده، وبك قداق باينال، وتقوزا غول، وقتلغ تيمور، وآجى وذريته، ودرباي، والتومان الذي تجرد إلى خرسان، وكل من توجه صحبة بايجو، مثل بانيال نوين، وايكاكوا، كل هؤلاء أسلموا بأسرهم، وأقاموا بالفرائض والسنن، والزكاة والغزاة، والجهاد في سبيل الله، وقالوا " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وقرأنا آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله " الآية. فليعلم السلطان انني حارتب هلاون الذي من لحمي ودمي لإعلاء كلمة الله العليا، تعصباً لدين الإسلام، لأنه باغى، والباغى كافر بالله ورسوله، وقد سيرت قصادي ورسلي صحبة رسل السلطان وهم: اربغا، وارتيمو، وأوناماس، ووجهت ابن شهاب الدين غازي معهم، لأنه كان حاضراً في الوقعة، ليحكي للسلطان ما رآه بعينه من عجائب القتال، ثم لنوضح لعلم السلطان أنه موفق للخيرات والسعادات، لأنه أقام إماماً من آل عباس في خلافة المسلمين، وهو الحاكم بأمر الله، فشكرت همته، وحمدت الله تعالى على ذلك، لاسيما لما بلغنى توجهه بالعساكر الإسلامية إلى بغداد، واستخلاص تلك النواحي من أيدي الكفار. وتاريخ هذا الكتاب مستهل رجب سنة إحدى وستين وستمائة بمقام إتيل، وهو كتاب مطول مشتمل على إسهاب وإطناب، هذا من جملته. وعادت رسل السلطان صحبتهم وهما: الأمير سيف الدين كشريك التركى جمدار خوارزم شاه، والفقيه مجد الدين الروذراورى. فأكرم السلطان رسل بركة خان، ورسل الأشكرى، الواصلين معهم، وجهز لبركة من الهداية من كل شيء مستحسن وهى: ختمة شريفة، ذكر أنها بخط عثمان بن عفان رضى الله عنه بمراوقات، وسجادات للصلاة متنوعة الألوان خرق بندقى، وأكسية لواتية، ودسوت من النطوع المصردقة والأديم، سيوف قلجورية مسقطة، ودبابيس مذهبة، وخود فرنجية وطوارق مذهبة، فوانيس مغشاة، وشمعدانات، ومنجنيقات بأغشية، ومشاعل جفتاه، وقواعد برسمها مكفتة، سروج خوارزمية ونمازينات، ولجم، وكل ذلك بأنواع السقط بالذهب والفضة، قسى حلق قسى بندق، وقسى جروخ، ورماح قنى، وأسنة، ونشاب في صناديقه، قدور برام، وقناديل مذهبة بسلاسل فضة مطلاة بالذهب، وخدام سود وجوارى طباخات، وخيل سوابق عربية، وهجن نوبية، ودواب فارهة، ونسانيس، وبغابغ، وغير ذلك، وألبس رسله الفتوة، وأعادهم في شهر رمضان.

ذكر توجه السلطان الظاهر إلى الإسكندرية

أقول: أما إسلام بركة خان، فقد ذكرنا أنه كان في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، على يد خادم الشيخ الباخرزى الذي كان من جملة مريدي الشيخ نجم الدين كبرا، رحمه الله، من ذرية عمار بن ياسر الصحابى رضي الله عنه، وكان نجم الدين كبرا من كبار الصالحين، وأعيان المحققين بخوارزم، وقد ذكرناه، وأما الحرب الذي وقع بين بركة خان وهلاون، فكان حربا عظيما، انكسر فيها هلاون كسرا شنيعا، وقتل أكثر أصحابه، وغرق أكثر من بقي، وهرب هو في شرذمة قليلة من أصحابه، وبعد فراغ بركة خان من الحرب عاد على بلاد القسطنطينية وصانعه صاحبها، وأرسل إلى السلطان الملك الظاهر الرسل المذكوري، وأرسل السلطان إليه الهدايا المذكورة. ذكر توجه السلطان الظاهر إلى الإسكندرية وفي شوال منها: سافر السلطان الظاهر، رحمه الله، إلى إسكندرية، ونظر في أحوالها وأمورها، وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير. وفي تاريخ بيبرس: وفي سادس شوال توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية، ولما وصلها نزل خارج المدينة، ونادى أن لا ينزل بالثغر جندي ولا يقيم به، ودخلها يوم الأربعا مستهل ذي القعدة، ورسم بردّ مال السهمين، وحط عن أهل الثغر ما كان مقررا من الفائدة، وهو ربع دينار القنطار عن كل ما يباع ويبتاع، وحضر إليه شخصان من أهل الثغر أحدهما زين الدين بن البورى، والآخر المركم بن الزيات وادعيا أن بالثغر أموالاً ضائعة، وكتبابها أوراقا، فسد ما أراد فتحه من أبواب المظالم، وأمر بإشهار ابن البورى، فأشهر بين العالم، وأنعم على الأمراء الذين معه بالقماش والخلع، وعاد إلى قلعة الجبل المحروسة في الحادي عشر من ذي القعدة الحرام. ذكر بقية الحوادث منها: وفود التتار المستأمنين من عسكر هلاون: وفيها: في سادس ذي الحجة وصلت جماعة كبيرة من التتار مستأمنين وفي الإسلام راغبين، فكانوا زهاء ألف نفس، وفيهم من أعيانهم كرمون، وامطغيه، ونوكيه، وجبرك وقيان، وناصغيه، وطبشور، وتبتو، وصبخى، وجوجلان، واجقرقا، وأرقرق، وكراي، وصلاغية، ومنقدم، وصراغان، وهؤلاء كانوا من أصحاب بركة، وكان قد أرسلهم إلى هلاون نجدة، فأقاموا عنده مدة، فلما وقع بينه وبين بركة، وتمكنت العداوة، كتب بركة إليهم بأن يفارقوا هلاون ويحضروا إليه، وإن لم يتمكنوا من التوجه إليه، فينحازوا إلى عساكر الديار المصرية، ولما وصلوا أسلموا، وطهروا، وقدم كبراؤهم المذكورون، وأمروا، وعينت لهم الإقطاعات. والطبلخانات، وأفيضت عليهم الصلاة والخلع والهبات، وأنزلهم باللوق. فقال في ذلك القاضي محي الدين ابن عبد الظاهر: يا مالك الدُنيا الذي ... أضحى صلاحاً للأمم يامن محا بالعدل ما ... للظلم فينا منْ ظلم يامن تُساق له التتا ... ر غنيمة مثل الغنم خافوا سيوفك أنها ... ستسوقهم نحو النقم فاتوا لبابك كلهم ... يأوون منه إلى حَرَم أمِنوا مما يخا ... ف من البلايا والسِّقم جعلوا جنابك جنة ... وثرى خيولك مًسْتلَم بَسطوا يمنيا للهدا ... ية طالما خضبت بدم أعطيتهم ما للمُؤَ ... لَّفةِ القُلوب من القِسًم لا زِلْتَ يا ملكَ الزما ... ن لك الملوك من الخدم ومنها: أنه زلزلت الموصل زلزلةً عظيمةً تهدمت أكثر دورها. ومنها: أن الملك الظاهر جهز صناعاً وأخشاباً وآلات كثيرة لعمارة المسجد النبوي بعد حريقه، فطيف بتلك الأخشاب والآلات فرحة بها، وتعظيماً لشأنها، ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلوات.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

ومنها: أن في آخر يوم الأحد ثالث صفر سمر شابُ، ذكر أنه كان يرسل زوجته، فتدخل في بيوت الناس، فتحسن للمرأة الخروج معها لابسةً أفخر ثيابها وحليها، وتسوقها بأن تقول: ها هناعرس أو وليمة أوشىءٌ من هذا الباب، وتقول: وقد اجتمعت فيه جماعة من النساء المحتشمات، فلا تتركى من الزينة شيئاً ليحصل لك التجمل بينهن، فتفعل تلك المغرورة أقصى ما تقدر عليه وتخرج معها، فتجىءُ بها إلى بيت زوجها، فتأخذ جميع ما عليها، ثم تخنقها، وترميها في بئر في داره. فعل ذلك بجماعة من النساء ثم هتكه الله، فأخذ هو وامرأته، وضربا، فاعترفا، فأما المرأة فخنقت، وجعلت في جوات، وعلق الجولق تحت الخشب التي سمر عليها الزوج، خارج باب الفرج، فبقى ليلتين ويوماً، وفي اليوم الثاني خنق بطرف الجبل، فنسال الله السلامة. وفيها: حج بالناس وفيها:. ذكر من توفى فيها من الأعيان عبد الرزاق بن رزق الله بن بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعنى المحدث المفسر. سمع الكثير وحدث، وكان من الفضلاء الأدباء، له مكانة عند بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكذلك عند صاحب سنجار، وبها توفى ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر، وقد جاوز السبعين. ومن شعره: نَعَب الغرابُ فدلنا نعيبُه ... إن الحبيب دنا أوانُ مغيبه يا سائلى عن طيب عيشي بعدهم ... جُدْلى بعيش ثم سَلْ عن طيبه محمد بن أحمد بن عنتر السلمى الدمشقى محتسبها، وكان من عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وثروة وأوقاف، توفى بالقاهرة، ودفن بسفح جبل المقطم. علم الدين أبو محمد القاسم بن أحمد بن الموفق بن جعفر المرسى اللورقى اللغوى النحوى المقرىء. شرح الشاطبية شرحا مختصرا، وشرح المفصل في عدة مجلدات، وشرح الجزولية، وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها، وكان ذا فنون متعددة، حسن الشكل، مليح الوجه، له هيئةٌ حسنة وبزةٌ وجمال، وقد سمع الكندى وغيره. توفى في سابع رجب من هذه السنة، ودفن من الغد في مقابر توما بدمشق، قريبا من قبر الشيخ رسلان وكان معمرا. والورَقى نسبة إلى لورقة بليدة من أعمال مرسية. الشيخ أبو بكر الدينورى أحد الصلحاء، تلميذ الشيخ عز الدين الدينورى. وهو بانى الزاوية بالصالحية بدمشق، وكانت له فيها جماعة مريدون يذكرون باصوات حسنة طيبة، توفى في هذه السنة. الشيخ الإمام كمال الدين أبو الحسن على بن أبي الفوارس شجاع بن العباس ابن عبد المطلب القرشي المصري المقرىء، الشافعي الضرير. وكان قد تصدر بمصر والقاهرة لإقراء القرآن الكريم، وانتفع الناس به انتفاعاً كثيراً، وإليه انتهت رئاسة الإقراء بالديار المصرية، توفى فيها بالقاهرة رحمه الله. الشريف أبو العباس أحمد بن الصقلى، وكان شاعرا خليعا، توفى في هذه السنة. الأمير مجير الدين بن خوشتر بن الكردى. كان من أمراء مصر، وحضر كسرة التتار بعين الجالوت مع الملك المظفر قطز، وغزا يومئذ حتى فتح الله على المسلمين. مات بدمشق في التاسع والعشرين من شعبان منها، ودفن بالجبل، وأبوه الأمير حسام الدين، مات محبوسا مع عماد الدين بن المشطوب في البلاد الشرقية التي للاشرف. وقال ابن كثير: الأمير مجير الدين أبو الهيجاء عيسى بن خوشتر بن الأزكشى الكردى. كان من أعيان الأمراء الكبار وشجعانهم، وله يومَ عين جالوت اليد البيضاء، ولما دخل الملك المظفر قطز إلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الأمير علم الدين الحلبي نائب البلد مستشاراً، ومشاركا في الرأي والتدبير والمراسيم، وكان يجلس معه في دار العدل، وله الأقطاع الكامل والرزق الواسع. وقال ابن كثير أيضاً: وولده الأمير عز الدين تولى ولاية دمشق مدة، وكان مشكور السيرة، وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيقة، فيقال له: درب بن أبي الهيجاء، لأنه كان به سكنه، وكان يعمل الولاية فيه، فيعرف به: وبعد موته بقليل كان نزولنا حين قدمنا من حوران به، فختمت فيه القرآن العظيم. الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل الصغير أبي بكر بن الملك العادل الكبير أبي بكر بن أيوب بن شادى صاحب الكرك. قتل في هذه السنة، وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر منه غيظ عظيم لأمور كانت بينهما.

السنة الثانية والستين بعد الستمائة

قيل: إن المغيث المذكور أكره امرأة الملك الظاهر بيبرس، لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إلى الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور، وبقيت امرأته في الكرك. وكان من حيدث مقتله ان الملك الظاهر مازال يجتهد على حضوره، وحلف لوالدته على غزَّه كما ذكرنا، وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد، وكان يبعثه في الرسلية إلى الملك الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه، فاغتر الأمجد بذلك، وما زال على مخدومه الملك المغيث حتى أحضره إلى الملك الظاهر. وقال المؤيد في تاريخه: حكى لي شرف الدين بن مزهر، ناظر خزانة المغيث، قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر، لم يكن قد بقى في خزانته شيء من القماش ولا المال، وكانت لوالدته حواصل بالبلاد، فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا بإثنى عشر ألفا خلعاً من دمشق، وجعلنا في صناديق الخزانة الإثنى عشر ألف الأخرى، ونزل المغيث من الكرك، وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه في خدمته. قال: وشرعت البريدية تصل إلى المغيث في كل يوم بمكاتبات الملك الظاهر، ويرسل صحبتهم غزلانا ونحوها، والمغيث يخلع عليهم حتى نفذ ما كان بالخزانة من الخلع. ومن جملة ما كتب إليه في بعض الماكاتبات، أن الملوك ينشد في قدوم مولانا: خليلي هل ابصرتما اوسمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد قال: وكان الخوف من قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر، قال ابن مزهر المذكور: ففاتحني في شىء من ذلك بالليل، فقلت له: احلف لي أنك ما تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك، فحلف لي، فقلت له: أخرج الساعة من تحت الخام، واركب حجرتك النحيلة، ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك، فتعصى فيه، وما تفكر بأحد. قال ابن مزهر: فغافلنى وتحدث مع الأمجد في شىء من ذلك، فقال له الأمجد: هذا رأي ابن مزهر، إياك من ذلك، وسار المغيث. حتى وصل إلى بيسان، فلقى الظاهر كما ذكرناه، فقبض عليه وأرسله على الفور معتقلا إلى مصر، وكان آخر العهد به. قيل: إنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم. وقال المؤيد: ولما قبض الظاهر على المغيث أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتار إلى المغيث أجوبة عما كتب اليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح، وأثبت على الحكام. الملك الشرفُ موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه ابن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادى بن مروان صاحب حمص. مات في هذه السنة بعد عوده من خدمة السلطان الملك الظاهر بيبرس إلى حمص بمرض أشتدَ به، فتوفى وأرسل الملك الظاهر فتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة. وهذا الملك الأشرف هو آخر الملوك الذين ملكوا حمص من بيت شيركوه. وكان من ملك منهم حمص خمس ملوك أولهم أسد الدين بن شيركوه ابن شادى، ملكه إياها نورالدين الشهيد رحمه الله، ثم ملكها من بعده أولاده المذكورون واحداُ بعد واحد، فآخرهم موسى المذكور، وانقرض بموته ملكهم حمص. وذكر ابن كثير وفاة الملك الأشرف المذكور في سنة اثنتين وستين وستمائة، قال: وكان من المكُرماء الموصوفين، والكبراء الدماشقة المترفين، فيعتنى بالمآكل والمشارب والملابس والمراكب، وقضاء الشهوات والمآرب، وكثرة التنعمُّ بالمغانى والحبايب، ولما توفى وجد له حواصل من الجواهر النفيسة، والأموال الكثيرة، وعاد ملكه إلى الدولة الظاهرية، واستناب ببلاده من المماليك البحرية. قال أبو شامة: وقبله بقليل توفى الزين خضر المعروف بالمسخرة، وكان من ندماء الأشرف موسى بن العادل. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الثانية والستين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو الحاكم بأمر الله العباسى، وهو مقيم بالقاهرة. وسلطان البلاد المصرية والشامية: هو الملك الظاهر بيبرس البندقدارى الصالحى؛ وقاضي القضاة بها تاج الدين بن بنت الأعز، ونائبه بدمشق: الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، وقاضي القضاة بدمشق شمس الدين بن خلكان. ونائبه بحلب: الأمير نورالدين على الهكاري.

ذكر ما جريات الملك الظاهر

وصاحب البلاد الرومية: السلطان ركن الدين قليح أرسلان السلجوقي. وصاحب العراقين وخراسان وغيرها: هلاون بن طلوخان بن جنكزخان. وصاحب البلاد الشمالية: بركة خان. وصاحب بلاد الغرب: أبو يوسف يعقوب المرينى. وصاحب مكة: الشريف نجم الدين بن أبي نمى الحسني. وصاحب المدينة: عز الدين جماز بن سالم الحسيني. وصاحب اليمن: الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر. ذكر ما جريات الملك الظاهر منها: أن الظاهر توجه إلى الغربية، ومنها إلى ثغر دمياط، وزار البرزخ، ورسم بعمل فم بحر الدمياط وردمه بالقرابيس وتضبيقه، ليمنع سفن العدو الكبار من دخولها، وأمر بحفر أشمون. ومنها: أنه رسم بعمارة بير اللبونة غربى الإسكندرية، وحفر منافسها، وأنشأ بستاناً فيها، لأنها منزلة من المنازل عند توجهه إلى الحمامات للصيد، فشرع فيها. ومنها: أنه عمر مسجداً مجاور المشهد الحسينى، رضي الله عنه. ومنها: أنه عمر بالقدس الشريف خاناً، ووقف عليه أوقافاً للنازلين به في إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاخوناً وفُرناً. ومنها: أنه ندب عزالدين الأفرم لحفرن فم الخليج للإسكندرية، فخفر وبنى هناك مسجدا. ومنها: أنه ندب الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، إلى جزيرة بنى نصر للاهتمام بريها. ومنها، أنه سامح ما كان مقررا على ولاية مصر من رسوم الولاية. ومنها: أنه لما غلت ديار مصر أمر بالتسعيرة طلبا للرفق، ورسم بأن يباع من أهرائه خمسمائة أردب كل يوم، بما قسمه الله عز وجل من السعر. وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة غلت أسعار الغلال بالديار المصرية، وبلغ القمح قريب مائة درهم نقرة الإردب، فرسم السلطان بالتسعير طلباً للرفق بالفقير، والجبر للكسير، واشتد الحال، وقلت الأفوات، وكاد الخبز يعدم من أسواق القاهرة ومصر، فأمر بالنداء في الصعاليك والفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة، فاجتمعوا ونزل إلى دار العدل، وأبطل التسعير، ورسم بأن يباع من اهرائه خمسمائة أردب كل يوم، بما يقدره الله تعالى من السعر، ويوزع على الضعفاء والأرامل من ويبتين فما دونهما، وأمر بإحضار كل من بالقاهرة ومصر وحواضرها من الفقراء وأفرد منهم ألوفاً يقوتهم من ماله، ووزع منهم لولده الملك السعيد جماعة، وفرق على كل أمير نظير عدة جنده، وفرق على مفاردة الحلقة بحسب أحوالهم، وعلى المقدمين والبحرية والوزير والأكابر والتجار والشهود والمتعممين، ورسم أن كل من خصه فقير يعيطه مؤنته لثلاثة أشهر. ومنها: أنه اهتم بتجهيز كسوة الضريح النبوي، على ساكنه أفضل الصلوات، صحبة الطواشى جمال الدين محسن الصالحى في شهر رمضان، وأجرى في هذا الشهر الصدقات على الفقراء بالقاهرة ومصر، ورتب لهم مطابخ لفطر الصائمين. ومنها: أنه عزم على طهور ابنه الملك السعيد ناصر الدين بركة، فعرض الجيوش المنصورة لابسى عدد الحروب، وعبروا عشرة عشرة وهو جالس على الصفة التي بجانب دار العدل تحت القلعة، ثم طهر ولده المذكور، وطهر معه جماعة من اولاد الأمراء الكبار، ولم يقبل السلطان من أحد من الأمراء تقدمة: ملك تعود أنه ... يهب البلادَ مع الممالك ويجود بالمدن العظام ... وبالحصون وما هنالك حاشاه يسلك مِن ... قبول هدية تلك المسالك أو أنه مع جوده وعطا ... ئه يرضى بذلك ومنها: أنه توجه إلى ثغر الإسكندرية متصيداً، ووصل إلى الكدش، وهي قريب العقبة الصغرى التي غربى الحمامات، وعند عوده جعل سيف الدين عطاء الله بن عزاز مقدما على عرب برقة، وقرر عليهم الزكاة، والزمهم باستخراجها منهم وحملها. ومنها: أنه بلغه أن جماعة من التتار واصلون مستأمنون، فأخذ بالعزم، وعزم على الخروج بالعساكر لأجل تواتر الأخبار بمجىء هلاون مع التتار، وعزم على تقرير السلطنة لابنه ناصر الدين بركة. ذكر سلطنة الملك السعيد ناصر الدين بركة ولما كان يوم الخميس ثالث عشر شوال من هذه السنة، أركب السلطان ولده الملك السعيد بشعار السلطنة ومشى في ركابه حاملاً له الغاشية، وأخذها الأمراء الكبار واحداً بعد واحد، وعليهم الخلع الفاخرة، والحلل الزاهرة، وزينت المدينة زينة تامة، واستبشر بذلك الخاصة والعامة، وتقرر أن يكون أتابكة الأمير عز الدين أيدمر الحلى.

وكتب تقليده الشريف، وقرىء في السابع عشر من الشهر وهو: الحمد لله منمى الغروس، ومبهج النفوس، ومزين سماء المملكة بأحسن الأهلة وأضواء البدور، وأشرق الشموس الذي شد أزر الإسلام بملوك يتعاقبون مصالح الأنام، ويتناوبون تدبيرهم كتناوب العينين واليدين في مهمات الأجساد وملمات الأجسام. نحمده على نعمه التي أيقظت جفن الشكر المتغافى، وأوردت منهل الفضل الصافى، وخوَّلت الآلاء حتى تمسَّكت الآمال منها بالوعد الوفى، وأخذت بالوزن الوافى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدكثر الله عدده وعدده، وأحمد أمسه ويومه، ويحمدُ إن شاء الله غده، ونصلى على سيد محمد الذي أطلع الله به نجم الهدى، وألبس المشركين به أردية الردى، وأوضح به مناهج الدين، وكانت) طرائق قددا (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة لا تنقضى أبدا. وبعد فإنا لما ألهمنا الله من مصالح الأمم، وخولناه من الحرص على مهمات العباد التي قطع به شأفة الكفر وحسم، وأتى بنا الشرك قد علم كل أحد اشتعال ناره، فكان علما بنارٍ مضرمة، لا ناراً على علم، وقدره من دفع الكفر من جميع الجوانب، وقمعهم من كل جهة حتى رميناهم بالحتف الواصل والعذاب الواصب، فأصبح الشرك من الإبادة في شرك، والإسلام لا يخاف من فتكٍ ولا يخاف من درك، وثغور الإسلام عالية المبتنى نامية المقتنى، جانية ثمار الادخار من هنا ومن هنا، تزاحم بروجها في السماء البروج، ويشاهد الأعداء منها سماء بنيت وزينت ومالها من فروج، وعساكر الملة المحمدية في كل طرف أطراف الممالك تجول، وفي كل وادتهيم حين تشعر بالنصر ولكنها تفعل ماتقول، قد دوخت البلاد فقتلت الأهداء تارة بالإلمام وتارة بالأوهام، وسلت سيوفها فراعتهم يقظة بالقراع ونوما بالأحلام، نرى أنا قد لذ لنا هذا الأمر التذاذ المستطيب، وحسن لدينا موقعه فعكفناعليه عكوف المستجيد ولبيناه تلبية المستجيب، وشغلنا فيه جميع الأوقات والحواش، وتقسمت مباشرتهُ ومؤامرته في امتطاء الضمرّ الشوس، وإدراع محكم الدلاص التي كأنها ومضات برق أو شعاع شموس، وتجريد المرهفات التي قد حفت لحاظها الأجفان، وجرت فكا لمياه واضطرمت فكا لنيران، وتفويق السهام التي قد غدت قسيها من اتعابنا لها تئن، واعتقال السمهرية التي تقرع الأعداء سنها ندما كلما قرعت هي السن، إلى غير ذلك من كل غارة شعواء تسىء للكفار الصباح، وتصدُم كالجبال وتسيرُ كالرياح، ومنازلات كم استكبت من موجود، وكم استنجزت من نصر موعود، وكم مدينة اضحت لها مدنيةً ولكن أخرها الله إلى أجل معدود. وكانت شجرتنا المباركة قد امتدّ منها فرعُ تفرسنا فيه الزيادة والنمو، وتوسمنا منه حسن الجناء المرجو، ورأينا أنه الهلال الذي أخذ في ترقى منازل السعود إلى الإبدار، وإنه سرنا الذي صادف مكان الاختيار له حسن الاختيار، أردنا أن نصبَه في منصبٍ أحلنا الله فسيح غرفه، ونشرفه بما خولنا الله من شرفه، وأن تكون يدنا ويده يقتطفان من ثمرة، وجيدنا وجيده متحليان بجوهره، وأنا نكون للسلطنة الشريفة السمع والبصر، واللمملكة المعظمة في التناوبُ بالاضاءة الشمس والقمر، وأن تصول الأمةُ منا ومنه نجدين، ويبطشون من أمرنا وأمره بيدين، وأن نربيه على حسن سياسة تحمد الأمة إن شاء الله عاقبتها عند الكبر، وتكون الأخلاق الملوكية منتشية معه ومنتشبة به من الصغر، ونجعل سعى الأمة حميداً، ونهبُ لهم منه سلطاناً نصيراً، وملكاً سعيداً، ونقوى به عضد الدين، ونريشُ جناح المملكة، وننجح مطالب الأمة بإيالتهٍ، وكيف لا ينجح مطلب يكون فيه بركة.

ذكر المدرسة التي بناها السلطان الظاهر بالقاهرة

وخرج أمرنا، لا برح مسعداً ومسعفاً، ولا عدمت الأمة منه خلفاً منيلاً ونواء مخلفاً، بأن يكتب هذا التقليد لولدنا الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد، جعل الله مطلع سعده بالإشراق محفوفا، وارى الأمة من منامه ما يدفع للدهر صرفا ويحسن بالتدبير تصريفا بولاية العهد الشريف على قرب البلاد وبعدها، وغورها ونجدها، وعساكرها وجندها، وقلاعها وثغورها، وبرورها وبحورها، وولاياتها وأقطارها، ومدنها وأمصارها، وسهلها وجبلها، ومعطلها ومعتملها، وما تحوى أقطاره الأقلام، وما ينسب للدولة القاهرة من يمن وحجاز ومصر وغربٍ وسواحل وشآم بعد شام، وما يتداخل ذلك من قفارٍ ومن بيد في سائر هذه الجهات، وما يتحللها من نيلٍ وملحٍ وعذبٍ فرات، ومن يسكنها من حقير وجليل، ومن يحتلها من صاحب رغاء وثغاء، وصليل وصهيل، وجعلنا يده في ذلك كله المبسوطة، وطاعته المشروطة، ونواميسه المضبوطة، ولا تدبير ملك كلى إلا بنا أو بولدنا يعمل، ولا سيف ولا رزق إلا بأمرنا هذا يسل وهذا يسال، ولا دست سلطنةٍ إلا بأحدنا يتوضح منه الإشراق، ولا غض قلم في روض أمر ونهى إلا ولدينا أولديه وتمتدّ له الأوراق، ولا منبر خطيب إلا باسمينا يميس، ولا وجه درهم ولا دينار إلا بنا يشرق ويكاد تبرجاً لا بهرجاً يتطلع من خلال الكيس. فليتقلد الولد ما قلدناه من أمور العباد، وليشركنا فيما نباشره من مصالح الثغور والقلاع والبلاد، وسنتعاهد الولد من الوصايا بما سينشأ معه توأما، ويمتزج بلحمه ودمه حتى يكاد يكون ذلك إلهاما لا تعلما، وفي الولد بحمد الله من نقاء الذهن وصحة التصور ما يتشكل فيه الوصايا أحسن التشكيل، وتظهر صورة الإبانة في صفائه الصقيل، فلذلك استغنينا عن شرحها مسرودة، وفيه بحمد الله من حسن الخليقة ما يحقق أنها بشرف الإلهام موجودة، والله لا يعدمنا منه إشفاقاً وبرا، ويجعله أبداً للأمة سنداً وذخراً. ذكر المدرسة التي بناها السلطان الظاهر بالقاهرة وفي أول هذه السنة، كملت المدرسة الظاهرية التي ببين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر بن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين الدمياطى عبد المؤمن بن خلف الحافظ. وكان الإجلاس بها في الخامس من صفر من هذه السنة، واجتمع بها أهل العلم والأدباء والفقهاء، ودرس المدرسون، واندفع الشعراء يمتدحون، فأنشد السراج عمر الوراق. مليكُ له في العلم حبٌّ وأهلُهُ ... فلله حب ليس فيه ملامُ فشيدها للعلم مدرسةً غدا ... عراقٌ إليها شيقٌ وشآمُ فلا تذكرنْ يوماً نظامية لها ... فليس يضاهى ذا النظام نظامُ ولا تذكرن ملكاً وبيبرسُ مالكا ... وكل مليك في يده غُلامَ ومذ برزت كالروض في الحسن أنبأت ... بأنَّ يديه في النوال غمام وأنشد الجمال يوسف بن الخشاب: قصد الملوك حماك والخلفاءُ ... فافخر فإن محلك الجوزاءُ أنت الذي امراؤه بين الورى ... مثل الملوك وجندهُ أمراءُ ملك تزينت الممالك باسمه ... وتجملت بمديحه الفصحاءُ وترقعت لعُلاه خير مدارسٍ ... حلَّت بها العلماء والفضلاءُ يبقى كما يبقى الزمانُ وملكه ... باقٍ له ولحاسده فناءُ كم للفرنج وللتار بابه ... رسلٌ مناها العفو والإعفاء وطريقه لبلادهم موطؤة ... وطريقهم لبلاده عذراءُ دامت له الدنيا ودام مخلداً ... ما أقبل الإصباح والإمساءُ وأنشد الأديب أبو الحسن الجزار: ألا هكذا يبنى المدارسَ من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا لقد ظهرت للظاهر الملك همةٌ ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المُنا تجمع فيها كل حسن مفرقٍ ... فراقت قلوباً للأنام وأعينا ومذ جاورت قبر الشهيد فنفُسه ... النفيسة منها في سرورٍ وفي هنا

ذكر بقية الحوادث

وماهي إلا جنةُ الخلد أزلفت ... له في غدٍ فاختار تعجيلها هنا فشرف الشعراء المذكورون ووصلوا: ذكر بقية الحوادث منها: أن هيثوم بن قسطنطين متملك الأرمن وصل من جهة السلطان هلاون إلى حضرة السلطان ركن الدين قليج أرسلان صاحب الروم، واستصحب معه قاضي هلاون، وجماعة من التتار، فالتقاه صاحب الروم مترجلا، وجاء إلى هرقله، وتحالفا واتفقا، واهتم الأرمني بجمع عساكره لقصد البلاد الإسلامية، وسار إلى قلعة صرفند كار، ومعه ألف فارس من بني كلاب، وقصدوا عينتاب. فجهز السلطان عسكري حماة وحمص إلى حلب، وأمرهم بالإغارة على عسكر الأرمن، فأغاروا عليهم، وقتلوا منه ثلاثين نفراً، وأسروا أميراً من أمرائهم، وأخذوا مائة حمل من البخاتى، وجرح بارون بهرام، وهو صاحب حموص، وقرابة الملك، جراحة شديدة، وانهزموا راجعين. ومنها: أنه وصلت جماعة من عسكر شيراز إلى الخدمة، مقدمهم الأمير سيف الدين بكلك، ومعهم سيف الدين اقتبار جمدار جلال الدين خوارزم شاه، وغلمان أتابك سعد، وهم: شمس الدين سنقرجاه ورفقته، ووصل معهم حسام الدين حسين بن علاج أمير العراق، ومظهر الدين وشاح بن شهرى، وجماعة من أمراء خفاجة، فأحسن إليهم وجهزهم إلى بلادهم. ومنها: أنه وصل رسول من الأمير شارل أخى الفرنسيس بهدية. ومنها: أنه وصلت إلى السلطان كتب أصحاب خيبر عبيد الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه، يبذلون الطاعة، ويسألونه إرسال من يستلم خيبر، فندب أمين الدين موسى بن التركمان، وكتب إلى نائب الكرك، بأن يجرد معه جماعة من البحرية الذين بالكرك، فتوجه اليها وتسلمها. ومنها: أنه وصل الأمير جلال الدين شكر ولد الدوادار مجاهد الدين دوادار الخليفة ببغداد، فأعطاه السلطان طبلخاناه ومعها عشرة عقبان، فأطلقها وفرقها. فقال في ذلك الأمير جمال الدين بن الإمام الحاجب: جاءَت موكل الطير في يد آسرٍ ... قهراً إلى ملك الأنام الظاهر أضحى سليمان الزمان فملكه ... يسمو به لقياصر وأكاسر ملك الزمان سيأُتينك مثلهم ... في أسر خادمك الزمان الجائر ومنها: أنه وجدت بظاهر القاهرة، خارج باب الشعرية، أمرأة تتحيل على الناس، وتدخلهم بيتا لها هناك، وقد أعدت فيه رجالا يطابقونها على سوء فعلها، فيخنقون من تأتى به فقتلت خلقا كثيراً من رجال ونساء، فأمر بها فسُمرت. وكان أسم هذه المرأة السيئة غازية الخناقة، وكانت ذات حسن وجمال، وكانت تمشى بالمدينة ومعها عجوز تطمع الناس في نفسها، وكان من طمع فيها وطلبها تقول له العجوز: أنها لا يمكنها التوجه إلى أحد، ولكن تعال أنت إلى بيتها، فيجىء، فيطلع له رجلان، فيقتلانه ويأخذون ما معه، وكانوا ينتقلون من مكان إلى مكان، فاتفق أن العجوز أتت إلى بعض المواشط، وأمرتها أن تأخذ ما تقدر عليه من الحلى والحلل، وتمضى معها لعروسة عندها، ففعلت الماشطة، واستصحبت معها جارية لها، ولما دخلت الماشطة منزلهم، رجعت الجارية إلى مكانها، فقتلوا الماشطة، وأخذوا ما معها، فاستبطأتها جاريتها، فجاءت إليهم وطلبتها، فانكروها وادعوا أنها خرجت من يومها، فمضت وأتتهم بصاحب الشرطة، فإحتاط عليهم وعذبهم، فأقروا بما كانوا يفعلون، وأطلعوا في بيتهم على حفرة فيها خلق عظيم مقتولين، وكان بعض الطوابين قد اتفق معهم، وجعلوا يحضرون إليه القتلى مختفياً، فيحرقهم في أقمنة الطوب، فأمسكوا جميعاً وسمروا، وكانوا خمسة أنفس، وأما المرأة فإنها بعد التسمير أطلقت، فأقامت يومين، ثم ماتت، عليها ما تستحق. ومنها: أنه اتفقت واقعة بالمغرب بين أبي يوسف يعقوب المرينى وبين الفرنج، وكان المقدم عليهم قائدا من قوادهم يسمى بدر قزمان، على مكان يقال له بيتره، فهزمه المرينى، وقتل جماعة ممن كان معه، وأثر في تلك البلاد آثاراً كثيرة. ومنها: أن نصير الدين الطوسى قدم إلى بغداد من جهة هلاون، فنظر في الأوقاف وأحوال البلد، وأخذ كتاب عظيمة كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى الرصد الذي بناه بمراغة، ثم انحدر إلى واسط والبصرة.

ذكر من توفى من الأعيان

ومنها: أن الاشكرى قبض على السلطان عز الدين كيكاوس صاحب الروم، وقد ذكرنا أنه انهزم من أخيه ركن الدين قليج أرسلان، وتوجه إلى القسطنطينية، فأكرمه الأشكرى، وأقبل عليه، وعلى من معه من الأمراء، فلما كان هذه السنة خطر ببال الأمراء الروميين الذين معه وهم: غرلوا أمير آخور، وعلى بهادر، وأمير مجلس أن يثبوا على الأشكرى فيقتلوه، ويستولوا على بلاده، فعرِفوا أستاذهم بذلك، وسألوه كتمانه عن أخواله كرخيا وكركربد، فاستدعى خاليه، وعرفهما ما عزم أولئك عليه، وأشار إليهما بإعلام الأشكرى بذلك، ومنعه من الركوب في غداة اليوم الذي عزموا على اغتياله فيه، فتوجها إلى الأشكري وأعلماه، فلم يركب ذلك النهار، وعلم وليمة كبيرة، وعزم على السلطان عزالدين وعلى امرائه فأكلوا وشربوا، ورتب أن يمكسوا إذا خرجوا، فقبض على كل من خرج منهم، وعلى السلطان عز الدين أيضاً، وقيدوا، وسير السلطان وأولاده إلى قلعة من القلاع الغربية، فاعتقلوا فيها، وأما أمراؤه فإنه كحلهم جميعا، ثم رسم بأن يجمع كل من يلوذ بهم من الجند والغلمان والعامة والحاشية، وجمعوا في الكنيسة الكبرى جميعا، وحضروا، وحضرت البطاركة والبطارقة، وعرضوا عليهم الدخول في دين النصرانية، فمنهم من تنصر وسلم، ومن أبي إلا البقاء على إسلامه فكحل، وكان فيهم رجل من أرزنكان يسمى نور الدين، فلما أحضروه وعرضوا عليه التنصر، فصاح وقال: الجنة معدة للإسلام، والنار معدة لكم، فطالعوا الملك بأمره، فقال: هذا رجل ثابت على دينه، فاعطوه كتاب الطريق ولا تعرضوا له، فأطلقوه. وأما عز الدين كيكاوس وأولاده، فإنه بقى معتقلا بتلك القلعة إلى سنة ثمان وستين وستمائة. ومنها: أنه حصل بجاسوسين للتتار، ووجد معهما فرمان هلاون للأمير فارس الدين أقطاى الأتابك، فعلم السلطان أن ذلك مكيدة من التتار، لعنهم الله. وفيها: وفيها: حج بالناس. ذكر من توفى من الأعيان القاضى الخطيب عماد الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن قاضي القضاة جمال الدين عبد الصمد بن محمد الحرستانى. كان خطيبا بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة العادلية، ثم عن ابن خليل الحوى، ثم استقل بقضاء القضاة بدمشق في الدولة الأشرفية، ثم كان خطيب دمشق، ومدرس الغزالية، وشيخ دار الحديث الأشرفية بعد ابن الصلاح إلى أن توفى بدار الخطابة في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن عبد الكريم بسفح جبل قاسيون وقد جاوز الثمانين بخمس سنين. وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجير الدين، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة، رحمه الله. محي الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة، الحافظ المحدث الأنصارى الشاطبي أبو بكر المغربي. عالم فاضل دين، وأقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق قاصداً الديار المصرية، وقد ولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبد العظيم المنذري، وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد، وقد جاوز السبعين، مات في هذه السنة بالقاهرة. القبارى الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى القبارى الأسكندرانى. كان يكون مقيماً بغيط يقتات من ثماره وزرعه، ويتورع في تحصيل نذره. قال أبو شامة: بلغنى أنه كان إذا رأى ثمرة ساقطة فيه تحت أشجاره ولا يشاهد سقوطها من شجره يتورع من أكلها، خوفا أن يكون من شجر غيره قد حملها طائر فسقطت منه في غيطه. وكانت وفاته في السادس من شعبان منها بالإسكندرية، وله خمس وستون سنة، وكان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويردع الولاة من الظلم، فيسمعون منه ويطيعونه، وإذا جاء الناس إلى زيارته يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك. ولما توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية في العام الماضي، قصد زيارته، فركب إلى بستانه، فلم يفتح له الباب، ولما توفى دفن في بستانه بوصية منه.

السنة الثالثة والستين بعد الستمائة

وقال ابن كثير: وغريب ما حكى عنه أنه باع دابة له من رجل، فلما كان بعد أيام جاء الرجل فقال: يا سيدي إن الدابة التي اشريتها منك لا تأكل عندي شيئا، فنظر إليه الشيخ فقال: ما تعانى من الصنائع؟ فقال: رقاص عند الوالي. فقال: إن دابتنا لا تأكل الحرام، ودخل منزله فأعطاه دراهمه ومعهما دارهم كثيرة قد اختلطت بها أيضا معها، فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة دراهم لأجل البركة، وأخذ دابته وترك من الأثاث ما يساوى خمسين درهما فأبيع بمبلغ عشرين الفا، رحمه الله. محيى الدين عبد الله بن صفى الدين إبراهيم بن مرزوق، توفى في الثامن والشعرين من رمضان منها بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية. وقال ابن كثير: داره هي التي جعلت مدرسة للشافعية، وقفها الأمير جمال الدين أقوش النجيبي وبها إقامتنا، وقد كان أبوه صفى الدين وزر مدة للملك الأشرف، وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجا عن الأملاك والأثاث والبضائع، وكانت وفاة أبيه بمصر في سنة تسع وخمسين، ودفن بتربة عند جبل المقطم. القاضي أبو البقاء صالح بن ابي بكر بن سلامة المقدسي الفقيه الشافعي الحاكم بمدينة حمص. وكان حسن الطريقة محمود السيرة، توفى في هذه السنة بحمص. القاضي زين الدين أبو الفتح محمد بن القاضي الموفق بن أبي الفرج الإسكندراني. وهو من رؤساء بلده المشهورين، وتولى القضاء والخطابة بها مدة، وتوفى في الإسكندرية في هذه السنة. كمال الدين أحمد بن القاضي زين الدين بن الأستاذ. كان تولى قضاء حلب بعدأبيه، فبقى على ذلك إلى أن أخذ التتار حلب، فنكب مع من نكب، وجاء مع أهله إلى دمشق، وخرج إلى مصر فبقى فيها إلى هذه السنة، فرجع إلى حلب فتوفى بها في خامس عشر شوال، وكان فاضلاً وابن فاضل، وجده من الصالحين، وجمع كتاباً في شرح الوسيط كان تعب فيه أبوه من قبل. سليمان بن المؤيد بن عامر العقربانى المعروف بابن الزين الحافظى. قتله هلاون في هذه السنة، وقتل معه جميع أولاده وأهل بيته وأقاربه، وقال له هلاون قبل قتله: ثبتت خيانتك عندي، خدمت صاحب بعلبك طبيبا فخنته، واتفقت مع غلمانه على قتله، ثم خدمت الملك الحافظ فباطنت عليه الملك الناصر صاحب الشام حتى أخرجته من قلعة جعبر، ثم خدمت الملك الناصر فخنته معي حتى أخرجت ديارة، ثم خدمتنا فشرعت تباطن صاحب مصر علينا، فأنت تشبه القرعة على وجه الماء كيف ماضر بها الهوى مالت معه. وقال ابن كثير: وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار سنة هلاون مالاً على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، ثم لما عادت الدولة الإسلامية صار إلى التتار، فكان عندهم حتى سلطهم الله عليه فأهلكوه: من أعان ظالما سلطه الله عليه. الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي: من غلمان العزيز بن الظاهر بن السلطان صلاح الدين. وكان له يدٌ طولى في كسرا لتتار على حمص، وقتل مقدمهم بيدرا، وكان تولى نيابة حلب، مات في تاسع عشر المحرم من هذه السنة. الشمس الوتارالموصلى. كان قد حصل شيئاً من علم الأدب وخطب بجامع المزة مدة. قال أبو شامة: أنشدنى لنفسه في الشيب والخضاب: وكنت وإياها مذ اختط عارضى ... كروحين في جسم وما نقضت عهدا فلما أتانى الشيبُ يقطع بيننا ... توهمتُه سيفا فألبستُه غمدا فصل فيما وقع من الحوادث السنة الثالثة والستين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: هو الحاكم بأمر الله، وهو مقيم بالقاهرة. وسلطان الديارالمصرية والشامية: الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، وتوجه الظاره إلى أعراس والعباسة للصيد، ثم عاد إلى قلعة الجبل، وكان سبب عوده وصول الأخبار إليه بأن مقدما من مقدمى التتار يسمى درباي قد قصد البيرة بتمان من التتار وشرع في المنازلة والحصار، فأسرع العود إلى القلعة، وجرد الأمير عز الدين يوغان الملقب سم الموت بمقدمة العساكر، ومن جرد معه من الجند المتوجهين جرائد، فتوجهوا في رابع ربيع الأول من هذه السنة، ثم جرد السلطان. ذكر سفر السلطان الظاهر إلى الشام ولما جهز السلطان العسكر المذكورين، وخرجوا في التاريخ المذكور، شرع هو أيضاً في التجهيز، ورحل في سادس ربيع الآخر من هذه السنة.

ذكر فتوح قيسارية الشام

قال بيبرس: شرع في التجهيز وإحضار الخيول من الربيع، وطرد الجند المتفرقين بالديار المصرية، ورحل في سابع ربيع الآخر، فوصل إلى غزة في العشرين منه، فوردت إليه مطالعة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي نائب السلطنة بالشام، معطوفة على بطاقة وصلت إليه من الملك المنصور صاحب حماة، وكان قد توجه صحبة الأمير عز الدين يوغان والأمراء المجردين إلى البيرة، مضمونها أنهم لما وصلوا اليها، وشاهدهم التتار النازلون عليها، انهزموا، وكان درباي المذكور قد نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا، فلما ولوا هاربين عدى العسكر القرات ونهبوا المجانيق، وسائر الآلات، فلما وردت هذه الأخبار بهزيمة التتار، استبشر السلطان، وثنى العنان قاصداً بلاد الفرنج، فنزل على قيسارية. ذكر فتوح قيسارية الشام نزل السلطان عليها يوم الخميس تاسع جمادي الأولى، وللوقت) نصبت عليها المجانيق (وأطافت بها العسكر، وعمدوا إلى سكك الخيل جعلوها أوتادا، وتعلقوا فيها من كل جانب وطلعوا اليها، ونصبوا السناجق السلطانية عليها، وحرقت أبوابها، وهتك حجابها، فهرب أهلها إلى قلعتها، فجد العسكر في الحصار، فلما كان ليلة الخميس منتصف جمادي الأولى هربت الفرنج، وأسلموا القلعة بمافيها، فتسلق المسلمون إليها من الأسوار واستولوا عليها، ورسم السلطان بهدم مبانيها، فهدمت) وهى أول فتوح السلطان الملك الظاهر رحمه الله (. ثم توجه السلطان إلى جهة عثليت جريدة، وبث عساكره تشنُّ الغارات وتقول يا للثارات، وجرد عسكرا إلى حيفا، فدخلوها، فنجا الفرنج بأنفسهم إلى المراكب، وأخرجت المدينة وقلعتها في يوم واحد. ووصل إلى عثليث وعاد عنها، وقد ترك أهلها في حبس منها، فنزل على أرسوف. ذكر فتح أرسوف وكان نزول السلطان عليها في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، ورامتها العساكر بالسهام والمجانيق، وضيقوا عليها أنواع التضييق، وتمكنوا منها، وأطلعوا السناجق السلطانية عليها، فما أحسَّ الفرنج إلا وقد خالطهم المسلمون، وأنشبت فيهم براثنها المنون، قبل أن يسألوا الأمان، ويبذلوا الطاعة والإذعان، فتسلمها السلطان في يوم الخميس، وأسر أهلها وأرسلهم إلى الكرك مصفدين. قال بيبرس رحمه الله: وحضرت هذه الغزاة مع الجيش وكنت إذ ذاك الوقت في خدمة الأمير سيف الدين المخدوم، وأراد به قلاون لأنه مملوكه، قال: كنت في سن المراهق أو قريبا منه، وكنت أجُرُ الجنيب، ولما ملكها قسم أبراجها على الأمراء ليهدموها، وجعل هدمها دستورهم. وقال محي الدين بن عبد الظاهر أبياتاً يصف فيها هذه الفتوح منها: لا يسحب الناس قيساريَّة ضعفت ... وأسلمت نفسها من خبقة رهًبا لكنه بذُيول النصر قد علِقت ... وقد أتته لعكا تطلب الحَسَبَا كذاك أرسوف لما حاز غايتها ... ما جاء مختطبا بل جاء مُختطبا لئن غدا آخذ الدنيا ومُعطيها ... فإنه أحسن التعميم مُحتْسِبا ذكر البلاد التي ملكها للأمراء لما ملكها ولما استولى السلطان على هذه الفتوح، جعلها لأمرائه من إنعامه الممنوح، فقسمها عليهم بتواقيع بأيديهم، وكتب بالتمليك توقيعاً جامعاً نسخته:

أما بعد حمد الله على نصرته المتناسقة العقود، وتمكينه الذي رفلت الملة الإسلامية منه في أصفى البرود، وفتحه الذي إذا شاهدت العيون مواقع نفعه وعظيم وقعه، علمت لأمر ما يستود من يسود، والصلاة على سيدنا محمد الذي جاهد الكفار، وجاهرهم بالسيف البتار، وأعلمهم لمن عقبى الدار، وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشى والإبكار، فإن خير النعم نعمةٌ وردت بعد اليأُس، وأقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاوُن الناس، فأكرمْ بها نعمة وصلت للملة المحمدية اسباباً، وفتحت للفتوحات أبوابا، وهزمت من التتار والفرنج العدوين، ورابطت من الملح الأجاج والعذب الفُرات بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والامصار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار، ففرقةٌ منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصينا، وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعاً شاهقة، وتتنسم هضابا سامقة، فهى بحمد الله البانية الهادمة، والقاسية الراحمة، كل ذلك بمن أقامه الله سيفا فقرى، وحملت رياح النصرة بركابه تسخيرا، فسار إلى مواطن الظفر وسرى، وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت: ما هذا بشراً، وهو السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبو الفتح بيبرس، جعل الله سيوفه مفاتيح البلاد، وأعلامه أعلاما على رأسها من الأسنة نار لهداية العباد، فإنه آخذ البلاد ومعطيها، وواهبها بما فيها، وإذا عامله الله بلطفه شكر، وإذا قدر عفا وأصلح، فوافقه القدر، وإذا أهدت إليه النصرة فتوحات قسمها في حضاريها لديه متكرما وقال: الهدية لمن حضر، وإذا خوله الله تخويلا وفتح على يديه قلاعا، جعل الهدم للأسوار، والدماء للسيف البتار، والرقاب للإسار، والبلاد المزدرعة للأولياء والأنصار، ولم يجعل لنفسه إلا ما تسطره الملائكة في الصحائِف لصفاحه من الأجور، وتطوى عليه طويات السير التي غدت بما فتحه اللهم من الثغور بإسمه، باسمه الثغور. فتى جعل البلاد من العطايا ... فأعطى المدن واحتقر الضياعا سمعنا بالكرام وقد أرانا ... عيانا ضعف ما فعلوا سماعا إذا فعل الكرام على قياس ... جميلاً كان ما فعل ابتداعا ولما كان بهذه المثابة، وقد فتح الفتوحات التي أجزل الله بها أجره، وضعاف ثوابه، وله أولياءُ كالنجوم ضياء، وكالعقود تناسقاً وكالويل تلاحقاً إلى الطاعة وتسابقاً رأى أن لا ينفرد وكالأقدار مضاء، عنهم بنعمة ولا يتخصص، ولا يستأثر بمنحة غدت بسيوفهم تستنقد وبعزائمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم عليهم الأشعة من أنوار شمسه، ويبقى للولد منهم وولد الولد، مايدومُ إلى آخر الدهر ويبقى على الأبد، ويعيش الأبناء في نعمته كما عاش الآباء، وخير الإحسان ما شمل وأحسنه ماخلد، فخرج الأمر العالى، لا زال يشمل الأعقاب والذراري، وينير إنارة الأنجم الدراري، أن يملك أمراءه وخواصه الذين يذكرون، وفي هذا المكتوب يسطرون، ما يعين من البلاد والضياع، على ما يشرح ويبين من الأوضاع وهو: الأتابك فارس الدين اقطاي الصالحي، عتيل بكمالها. الأمير علاء الدين أيدغدى العزيزي، نصف زيتا. الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، نصف طور كرم. الأمير سيف الدين الدِكز الكركى، رُبع زيتا. الأمير سيف الدين قليج البغدادي، ربع زيتا. الأمير ركن الدين بيبرس خاص ترك الكبير، أفراسين. الأمر علاء الدين أيدكين البندقدار نامه الشريفة. الأمير عز الدين أيدمر الحلى، نصف قلنسوة. الأمير شمس الدين سنقر الرومى، نصف قلنسوة. الأمير سيف الدين قلاون الألفى، نصف طيبة الإسم. الأمير عز الدين يوغان سم الموت، نصف طيبة الإسم. الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، أم الفحم بكمالها. الأمير علم الدين سنجر الحلبي، تبان بكمالها. الأمير جمال الدين أقوش المحمدى الصالحى، نصف بورين. الأمير علاء الدين أيدغدى الحاجب، نصف تيرين. الأمير فخر الدين الطوينا الحمصى، نصف تيرين. الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، نصف بورين. الأمير فخر الدين عثمان بن الملك المغيث، ثلث حله. الأمير شمس الدين سلار البغدادى، ثلث حلبة. الأمير صارم الدين صراغان، ثلث حلبة.

ذكر بقية ماجريات الملك الظاهر

الأمير ناصر الدين القيمرى، نصف البرج الأحمر. الأمير سيف الدين بلبان الزيني، نصف البرج الأحمر. الأمير سيف الدين أيتمش السعدى، نصف تما. الأمير سيف الدين آقسنقر السلحدار، نصف تما. الملك المجاهد سيف الدين إسحاق، نصف ذنابه. الملك المظفر) علاء الدين أخوه (نصف ذنابه. الأمير بدر الدين) محمد بن ركتخان، دير العصفور (. الأمير عز الدين أيبك) الأفرم (نصف شويكه (. الأمير سيف الدين كرمون أغا التتري، نصف الشويكة. الأمير بدر الدين بيليك الوزيري، نف طرس. الأمير ركن الدين منكورس الدوادارى، نصف طرس. الأمير سيف الدين قشتمر العجمى، علار بكمالها. الأمير علاء الدين أخو الدوادار، نصف عرعرا. الأمير سيف الدين بيجق البغدادي، نصف عرعرا. الأمير علم الدين سنجر الأزكشى، نصف قرعور. الأمير سيف الدين دكاجك البغدادي، نصف قرعور. الأمير علم الدين) سنجر طردج الآمدى، سباها (. الأمير سيف الدين أيتمش بن أطلس خان، سيدا بكمالها. الأمير علاء الدين كندغدى الظاهرى أمير مجلس، الصير القوما. الأمير عز الدين أيبك الحموي، نصف ارتاح. الأمير شمس الدين سنقر الألفي، نصف أرتاح. الأمير علاء الدين طيبرس الظاهري، نصف باقة الغربية. الأمير علاء الدين التنكزى، نصف باقة الغربية. الأمير عز الدين) ايدمر الفخري (، الفصير بكمالها. الأمير علم الدين سنجر الصيرفى الظاهري، أخصاص بكاملها. الأمير ركن الدين بيبرس) العزى، نصف قفير (. الأمير شجاع الدين طغريل الشبلى، نصف كفرراعى. الأمير علاء الدين كندغدى الحبيشى، نصف كفرراعى. الأمير شرف الدين يعقوب بن أبي القاسم، نصف كسفا. الأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزورى، نصف كسفا. الأمير جمال الدين موسى بن يغمور،) نصف ابرويله (. الأمير علم الدين سنجر) الحلبى، نصف برويله (. الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار، نصف حانوتا من أرسوف. الأمير سيف الدين بينعان الركنى افراد نسيفا. الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى نائب الكرك، ثلث حبله من أرسوف. الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهري، ثلث حبله. الأمير جمال الدين أقوش، ثلث حبله. الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، ثلث جلجولية. الأمير سيف الدين بجكا الرومي: ثلث جلجولية. الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى، ثلث جلجولية. ولما فرغ السلطان من ذلك عاد إلى الديار المصرية مظفرا منصورا، فدخل المدينة يوم الخميس حادى عشر شعبان من هذه السنة. ذكر بقية ماجريات الملك الظاهر منها: أنه أبطل حراسة النهار بالقاهرة ومصر وكانت جملة كثيرة. ومنها: أنه مسك الأمير شمس الدين سنقر الرومي واعتقله. ومنها: أنه قطع أيدي جماعة من نواب الولاة والمقدمين والخفراء وأصحاب الرباع بالقاهرة، وسببه أنه نزل القاهرة بالليل متنكرا ليرى أحوال الناس، فرأى بعض المقدمين وقد أمسك امرأة وعراها سراويلها بيده، ولم يجسر أحد أن ينكر عليه. ومنها: أنه أمر ببناء الجامع الذي بالحسينية بجوار زاوية الشيخ خضر، وكان الشيخ خضر هو السبب في بناء الجامع. وقال بيبرس: في سنة أربع وستين وستمائة رسم السلطان الظاهر ببناء ميدان قراقوش بظاهر القاهرة جامعا، وأفرد منه جانبا ليهنى دورا، ويكون حكره وقفا على الجامع. ومنها: أن السلطان ولى من بقية المذاهب قضاة بالديار المصرية مستقلين يولون من جهتهم في البلدان أيضاً كما يولى الشافعى، فكان قاضي الشافية تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، وقاضي الحنفية شمس الدين ابن سليمان بن ابي العز بن وهيب، وقاضي المالكية شرف الدين السبكى، وقاضي الحنابلة شمس الدين محمد بن إبراهيم المقدسي، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل. وكان سبب ذلك كثرة توقف القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، فاشار الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزي على السلطان الملك الظاهر بأن يولى من كل مذهب قاضي قضاة استقلالا، وكان السلطان يحب رأيه ومشورته، فأجاب إلى ذلك، ففعل كما ذكرنا، وكذلك فعل بدمشق في السنة الآتية. ذكر بقية الحوادث منها: أنه وصل رسول من جهة داود بن سودان ملك الكرج بهدية، وكتاب عرب، فأعرب عن بدل المودة والصداقة والاعلام بأن رسله مترددة اليه.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

ومنها: أن نور الدين زامل بن علي هرب بسبب فتنة كانت بينه وبين عيسى ابن مهنى، فلما جرى ذلك بينهما مسك السلطان زاملا واعتقله تأديبا له، ثم أطلقه وأصلح بينه وبين عيسى بن مهنى، وأحمد بن حجى، وتوجهوا إلى بلادهم، فلم يلبث زامل أن توجه إلى هلاون، فأعطاه إقطاعا بالعراق، وعاد إلى مشتاه بالحجاز فنهب من وجد، وحضر إلى اوائل الشام، وراسل السلطان في طلب العفو، فلم يجبه، وأرسل إليه من أمسكه وأحضره واعتقله. ومنها: أنه ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصرواعلى الفرنج، وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألف مقاتل، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا ثنتين وثلاثين بلدة منها سرين وأشبيلية وقرطبة ومرسية، وكانت النصرة يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة ثنتين وستين وستمائة. وقال أبو شامة: ورد إلى دمشق كتاب يتضمن أنه ورد إلى القاهرة في جمادي الآخرة من هذه السنة كتاب من المغرب يتضمن نصر المسلمين على النصارى في بر الأندلس، ومقدم المسلمين سلطانهم أبو عبد الله بن أحمر رحمه الله، وكان الفنس ملك النصارى قد طلب منه الساحل من طريف إلى الجزيرة ومالقه إلى المرية، فاجتمع المسلمون ولقوهم فكسروهم مراراً، وأخذ أخو الفنس أسيرا، ثم اجتمع العدو في جمع كثير ونزل على غرناطة فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة، فجمع من رؤوسهم نحو خمسة وأربعين ألف رأس، فعملوها كوما، وطلع المسلمون عليها وأذنوا، وراح الفنس إلى أشبيلية منهزماً، وكان قد دفن أباه بجامع أشبيلية فأخرجه من قبره خوفا من استيلاء المسلمين عليها، وحمله إلى طليطلة. ومنها: أنه وقع حريق عظيم بمصر أتهم به النصارى، فعاقبهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة. وفيها: وفيها: حج بالناس. ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ زين الدين خالد بن يوسف بن سعد الحافظ النابلسي شيخ دار الحديث النورية بدمشق. كان عالماً بصناعةالحديث، حافظاً لأسماء الرجال، اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النووى وغيره، وكان فيه خير وصلاح، توفي في هذه السنة، ودفن بمقابر الباب الصغير، وتولى بعده مشيخة النورية الشيخ تاج الدين الفزاري. قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن حسن بن علي الكردي السنجاري، باشر قضاء القضاة بالديار المصرية مراراً. قال أبو شامة: كانت له سيرة معرفة من أخذ الرشا من قضاة الأطراف والشهود والمتحاكمين، إلا أنه كان كريماً جواداً، وحصل له ولأتباعه بآخره تشتت ومصادرات. مات في الرابع عشر من رجب من هذه السنة، ودفن بترتبه بالقرافة، وكان تقدم عند الملوك، وتولى الوزارة أياماً قلائل، ودرس بالمدرسة الصالحية بالقاهرة بالطائفة الشافعية، وسمع وحدث. الشيخ أبو القاسم الحواري يوسف بن أبي القاسم بن عبد السلام الأموي، الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري، توفي ببلده. وكان خيرا صالحاً، له أتباع وأصحاب يحبونه، وله مريدون في كثير من قرى حوران، وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف؛ بل بالكف، وهم أمثل من غيرهم. الحافظ أبو بكر محمد بن أبي أحمد يوسف بن موسى المهلبى الأندلسى. وكان فاضلاً حسن المعروفة برواية الحديث، توفي في هذه السنة بمكة. القاضي أبو يعلى حمزة البهرانى الشافعي الحموي. كان قاضياً بحماة توفي بها فيها. الأمير جمال الدين أبو الفتح موسى بن يغمر بن جلدك بن بلهان بن عبد الله. مات في مستهل شعبان بالقصير من أعمال الفاقوسية بين الغرابى والصالحية، وحمل إلى تربة والده بسفح المقطم، فدفن بها في رابع الشهر المذكور. ومولده في جمادي الآخرة سنة تسع وستعين وخمسمائة بالغزية، قرية بالقرب من سمهود من أعمال قوص. وكان أحد الأمراء المشهورين والرؤساء المذكورين، موصوفاً بالكرم والمعرفة، معروفا بالرأي والتقدمة. هلاون: الكلام فيه على أنواع: الأول في نسبه ومبدأ امره: هو هلاون قان بن طلوخان بن جنكزخان ملك التتار، وهو بفتح الهاء واللام وضم الواو وفي آخره نون مثل قلاوُن، وقد يقال بضم الهاء، ويقال له أيضاً: هلاكو بالكاف بعد اللام بغير نون في آخره، ويقال له ايضاً: هلالو باللام موضع الكاف.

ذكر جلوس أبغا في كرسى المملكة

وكان باطوخان والد هلاون استولىعلى بلاد العجم، بعضها في حياة والده جنكزخان، ولما مات جنكزخان استولى باطوخان على الجميع، وأفسد وقتل في البلاد، ثم لما هلك استولى ولده هلاون على البلاد، ولكن كان تحت حكم أخيه منكوقان، وكان منكوقان هو المالك للبلاد كلها، ولما هلك منكوقان في سنة ثمانية وخمسين وستمائة استبدَّ هلاون بالمملكة، ولم يبق له معارض، فأفسد في بلاد الإسلام ما لا يمكن وصفه، فطغى وتجبر إلى أن أهلكه الله تعالى على ما نبينهُ عن قريب. الثاني في سيرته: كان ملكا جباراً عنيداً، سفاكا للدماء، لا يتدبن بدين من الأديان، وكانت زوجته طغرخاتون قد تنصر وكانت تعضد النصارى، وكان هلاون يترامى على محبة المعقولات، ولا يتصور منها شيئا، وكان أهل المعقولات من أفراح الفلاسفة عنده، لهم وجاهة ومكانة، وكان نصير الدين الطوسى العالم في العقليات صاحب التصانيف منها: التجريد في الكلام عنده، خصيصا به، يشاوره في مصائبه، وكان الطوسى شيعيا خبيثا، وكان معه حين أخرب هلاون بغداد وقتل الخليفة، وكان هو أحد الأسباب لذلك، عليه ما يستحق، وكانت همة هلاون في تدبير المملكة وملك البلاد شيئاً فشيئاً حتى أباده الله تعالى في هذه السنة. الثالث فلا هلاكه: مات في تاسع ربيع الآخر من هذه السنة، بالقرب من كورة مراغة بمرض الصدع. وقال ابن كثير: مات بمدينة مراغة. قيل: حملوه إلى قلعة تلاَ ودفنوه بها، وبنوا عليه قبة، وكان عزمه أن يجمع عساكره من البلاد ويقصد بلاد الشام ومصر، ولكن الله أهلكه وأراح البلاد والعباد منه، ولما بلغ السلطان الملك الظاهر بيبرس خبر هلاكه فرح فرحا عظيماً، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق، فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر. الرابع: في مدة مملكته وبيان عددها وأولاده: أما مدة مملته فكانت نحو عشر سنين. وأما بيان عدد مملتكه: فإنها البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته وهي: إقليم خراسان وكرسيها نيسابور، ومن مدنها المشهورة: طوس وهراة وترمذ وبلخ. وعراق العجم: وكرسيه أصبهان، ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وسهرورد وسجستان وطبرستان وكيلان وبلاد الإسماعيلية. وعراق العرب: وكرسيه بغداد، ومن مدنه واسط والكوفة والبصرة والدينور وغيرها. وأذربيجان: وكرسيها تبريز، ومن مدنها خوى وسلماس ونقجوان. وخوزستان: وكرسيها ششتر، ومن مدنها الأهواز وغيرها. وبلاد فارس: ومدينتها شيراز، ومن أعماله كتشن وكرمان وكازرون والبحرين. وديار بكر: وكرسيها الموصل، ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار واسعرد ورأس العين ودنيسر وحران والرها وجزيرة بنى عمر. وبلاد الروم: وكرسيها، قونية، ومدنها كثيرة. وأما أولاده فخمسة عشر ذكرا وهم: جماغار: وهو أكبرهم سنا، وأبغا: بالغين ويقال بالقاف، ويصمت، وتبشين، وتكشى، وتكدار وهو الذي يقال له أحمد، وآجاى، وألاجو، وسبوجى، ويشودار، ومنكوتمر، وقنغرطاى، وطرغاى، وطغاى، وتمر وهو أصغرهم. ولما هلك هلاون جلس موضعه أبغا بن هلاون. ذكر جلوس أبغا في كرسى المملكة ولما استقر في المملكة بعد وفاة والده هلاون، جهز جيشا لحرب عساكر بركة خان ملك بلاد الدشت والجهة الشمالية، وبركة هو ابن صاين خان بن دوشى خان بن جنكزخان، وهو ابن عم هلاون، ولما بلغ بركة ذلك جهز جيشا وقدم عليه بيشو نوغا بن ططربن مغل بن دوشى خان بن جنكزخان، فسار في المقدمة، ثم أردفه بركة بمقدّم آخر اسمه يسنتاى في خمسين الف فارس، فسبق بيشونوغا فيمن معه، وتقدم إلى عسكر أبغا وردفه بسنتاى على الأثر، فاستشرفت عساكر أبغا على يسنتاى وهو مقبل في سواده العظيم، كقطع الليل البهيم، فتكردسوا وتجمعوا للهزيمة فبصر بهم يسنتاى، وقد تخلفوا فظنهم أحاطوا ببنوغا ومن معه، فلم يلبث ان انهزم راجعاً وفر مسارعا، وأما نوغا فإنه تبع عسكر أبغا وساق عليهم، واتقع معهم، فكسرهم وقتل منهم جماعة وظفر بهم، وعاد إلى بركة فعظم أمره وارتفع قدره، وقدمه بركة على عدة تماناوت، وصار معدوداً في الخانات، وأما يسنتاى فعظم ذنبه عند بركة، فكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الرابعة والستين بعد الستمائة

ذكر سفر السلطان الملك الظاهر إلى جهة الشام

استهلت هذه السنة، والخليفة: هو الحاكم بأمر الله، ولكنه غير مرجوع إليه، ولا إليه الأمر والنهى، وإنما هو باسم الخليفة. وسلطان البلاد المصرية والشامية والحلبية: الملك الظاهر بيبرس. وقضاة مصر أربعة من أربع مذاهب مستقلين كما ذكرنا. ونائبه في دمشق: الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، وقاضي القضاة الشافعية بها شمس الدين بن خلكان، وقاضي القضاة الحنفية شمس الدين عبد الله ابن محمد بن عطا، وقاضي القضاة المالكية زين الدين عبد السلام ابن الزواوي، وقاضي القضاة الحنابلة شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ ابي عمر محمد بن أحمد ابن قدامة، وكان هذا الصنيع لم يسبق إلى مثله وتجدد هذا في دمشق في هذه السنة، وأما في ديار مصر ففي السنة الماضية كما ذكرنا. وقال أبو شامة: وفي سادس جمادي الأولى من سنة أربع وستين وستمائة جاء من مصر من السلطان الملك الظاهر بيبرس الصالحي ثلاثة عهود لثلاثة من القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفى، وزين الدين عبد السلام ابن الزواوي المالكي وشمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ ابن عمر الحنبلي، وجعل كل واحد منهم قاضي القضاة، كما هو المنصب لشمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان الشافعي، فلما وصلت العهود الثلاثة لم يقبل المالكي فوافقه الحنبلي واعتذرا بالعجز، وقبل الحنفي فإنه كان نائب الشافعي، فاستمرعلى الحكم، ثم ورد من مصر كتاب بإلزامهما ذلك وأخذ ما بيدهما من الأوقاف إن لم يفعلا، فأجابا، ثم أصبح المالكي فأشهد على نفسه بأنه عزل نفسه عن القضاء وعن الأوقاف، فترك، واستمر الحنبلي، ثم ورد الأمر بإلزامه، فقبل، واستمر الجميع، لكن امتنع المالكي والحنفي من أخذ جامكية على القضاء وقالا: نحن في كفاية فأعفيا منها. ومن العجيب اجتماع ثلاثة على ولاية قضاء القضاة في زمن واحد ولقب كل واحد منهم شمس الدين، واتفق أن الشافعي منهم استناب أيضاً من لقبه شمس الدين، فقال بعض الظرفاء. أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام إذ هم جميعاً شموسٌ ... وحالهم في ظلام وقيل أيضاً: بدمشق آية قد ظهرت ... للناس عاما كلما ولى شمسٌ قاط ... يا زادت ظلاما وقيل أيضاً: أظلم الشامُ وقد ... ولى للحكم شموسُ ليس فيهم من بيت ... الحكم علما أو يُسوسُ وصاحب بلاد الروم: السلطان ركن الدين قليج أرسلان. وصاحب العراقين وغيرهما أبغا بن هلاون بن طلوخان بن جنكزخان. وبقية أصحاب البلاد على حالهم. ذكر سفر السلطان الملك الظاهر إلى جهة الشام وفي هذه السنة، قصد مولانا السلطان رحمه الله فتح صفد من أيدي الفرنج الكفار، وما حولها من البلاد، فتوجه إلى الشام، واستناب بالقلعة الأميرعز الدين أيدمر الحلبي في خدمة ولده الملك السعيد، وكان خروجه من القاهرة مستهل شعبان، ورحل في ثالث الشهر، ولما وصل إلى غزة جرد الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير جمال الدين أيدغدى العزيزي، لمنازلة الحصون التي حول طرابلس. قال بيبرس في تاريخه: فتوجها، وأنا يومئذ أجر الجنيب مع المخدوم، يعنى قلاون. فتح القليعات وحلباء وعرقا في شعبان المكرم من هذه السنة قال بيبرس: ولما أشرفنا على القليعات، سأل أهلها الأمان، فآمنهم المخدوم، يعنى قلاون، وتسلم الحصن، وحمل الأسرى المأخوذين منه على جمال أرسلها السلطان إليه، وحمل بهم على جسر يعقوب بحيث يراهم أهل صفد، فانقطعت قلوبهم خوفا وفرقا، وشاهدوا أصحابهم على تلك الحال، والعساكر تسوقهم مصفدين على الجمال، فأيقنوا بالتلف، هذا والسلطان قد - نازلهم، فانضم هذا العسكر إليه، واجتمعوا لديه. فتح صفد

ذكر غزاة سيس

في تاسع عشر رمضان منها، أعنى من سنة أربع وستين وستمائة، ونزل السلطان الملك الظاهر على صفد في الثامن من شهر شعبان، وقد جمع لحصارها العساكر المصرية والشامية، وأحضر إليها المجانيق، واستمر القتال فحملتها الرجالة على أعناقهم وحاصرها حصاراً شديداً وأخذت النفوس، فسلموا الباشورة في خامس عشر الشهر، واشتد على الفرنج الحصار، وامتد للمسلمين الإستظهار، فأرسلوا في طلب الأمان، فأجيبوا إليه في تاسع عشر الشهر، وفتحت أبوابها، وطلعت عليها السناجق، وتسلمها السلطان، وأخرج أهلها، وأمر بأن يجمعوا على تل هناك كانوا يجتمعون فيه لقطع الطريق على المسلمين، وأن تسفك دماؤهم حيث كانوا يسفكون الدماء الحرام، فأذيقوا هنالك طعم الحمام. ونقل السلطان إليها ما يحتاج إليه من الآلات والزردخانات، وأحضر جماعة من الرجالة الدمشقيين، فرتبهم بها، وقرر لهم الجامكيات والجرايات، ورتب للقلعة كفايتها من النفقات، وعمر فيها جامعاً في ريضها للصلوات، ورحل عنها متوجها إلى دمشق ودخلها في الخاسم من ذي القعدة وأقام بها. ذكر غزاة سيس ولما استقر ركاب السلطان في دمشق جرد العساكر للإغارة على سيس، صحبة الملك المنصور صاحب حماة، وقدم على العسكر الأمير سيف الدين قلاون، والأمير عزالدين يوغان الركنى سمّ الموت، فساروا ودخلوا دربساك، ومنه إلى الدربند، وكان الملك) (هيثوم بن قسطنطين بن باساك قد ملك ولده ليفون وانقطع مترهِبا، وبنى ليفون أبراجا لينتعع بها، فكانت كقول الشاعر: ةوإن يَبْن حِيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقِله ولما خرجت العساكر من الدربند، وجدوا الأرمن على سطح الجبل، قد صفوا الصفوف، واستعدوا للوقوف؛ بل للحتوف، فالتقوا معهم، وصدموهم صدمة كانت السكرة فيها عليهم. وأخذوا ليفون أسيروا وولده معهم، وقتلوا عمه وأخاه، وانهزم عمه الآخر المسمى كنداسطيل، وصاحب حموص، وتمزقت منهم جماعة، وقتلت أكابرهم، وأغارت العساكر على كرنجيل وسرفند كار، وتل حمدون، ونهرجان، ونزلوا من هنالك إلى مكان قريب من قلعة تسمى العمودين، فأصابوا جماعة كثيرة من التتار وغيرهم، وقتلوا ما شاء الله منهم، وسبوا سباياهم، وأخربوا القلعة وأحرقوها، ودخلواالى سيس فأخربوها، وتركوها خاوية على عروشها، وهدموا قلعة الديوية المعروفة بالساب، وغنمت العساكر في هذه الغزاة مالا يحصى كثرة، وبيع الراس البقر بدرهمين لكثرة المواشي التي أصابوها، وأرسلوا إلى السلطان يخبرونه بالنصرة، ويبشرونه بأن له الظفر ولأعدائه الكسرة. وكان الذي بعث به الأمير عز الدين سم الموت جنديا من أجناده اسمه كرجى، فسبق إلى الدهليز، وبشر السلطان وعرفه صورة الغزاة وكيفية الغارات، فرأى فيه شهامة، ولمح منه نقمة وصرامة، فسأله عن شأنه فأخبره أنه من أجناد الأمير المشار إليه، فأنعم عليه وأمره بطبلخاناة، ولم يزل مستمرا على الإمرة إلى حين وفاته في الدولة الأشرفية. ذكر رحيل السلطان من دمشق ولما سمع السلطان من الجندى المذكور بشارة للفتح رحل من دمشق نحو حماة، ومنها إلى أفامية لملتقى العسكر، وعاد ودخل دمشق، وملوك الأرمن قدامه راكبين، وأسراهم مساقين أمامه، والعساكر الشامية والمصرية قد طلبت وتجملت. وقال أبو شامة: وكان دخول السلطان دمشق في الخامس والعشرين من ذي الحجة، فدخلها وبين يديه ابن صاحب سيس، وسائر الملوك الذين اسرهم لما أخذ بلادهم على نهر جيحان، وكان يوما مشهودا. قال أبو شامة: وفي بكرة يوم الاثنين السادس والعشرين من ذي القعدة قرىء بجامع دمشق كتاب ورد من بلاد الأرمن السيس وما يجاورها، يتضمن أن المسلمين من عسكر صاحب الشام ومصر الملك الظاهر بيبرس الذين سيرهم إليها في هذه السنة دخلوها عنوة، واستولوا عليه قتلاً ونهبا، وأسر ملكها، وقتل أخوه وجماعة من ملوك الأرمن، وكان ذلك يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة سنة أربع وستين وستمائة، وكان هذا الملعون قد فتك في المسلمين، وظاهر عليهم العدو من التتار، وعلم في حلب لما فتحها التتار أموراً منكرة، واستولى على أكثر نسائها وأطفالها أسراً، وتقدم إلى بلاد الإفرنج والروم براً وبحراً تحت الذل والصغار، فأمكن الله منه ومن بلاده وأخذ بثأر الاسلام. ذكر إيقاع السلطان بأهل قارا

ذكر توجه السلطان إلى مصر

لما خرج السلطان من دمشق للقاء العسكر المجرد إلى سيس نزل على قارا، فشكى إليه أهل الضياع التي حلوها أن أهلها يعدون عليهم، ويتخطفونهم، ويبيعون من وقع لهم إلى الفرنج بحصن عكار؛ فأمر العسكر بنهبهم، فنهبوا، وقتل كبارهم، وسبى نساؤهم وصغارهم. قال أبو شامة: وفي رابع ذي الحجة من سنة أربع وستين وستمائة، أوقع السلطان الظاهر بأهل قارا النصارى، فقتل وسبى وغنم، وكانوا كما شاع عنهم يأخذون من قدروا عليه من المسلمين، ويصبحون بهم إلى بلاد الفرنج، وكان بعض الأسارى الذين خلصوا من قلعة صفد أخبروا أن سبب وقوعهم في الأسر أهل قارا، ففعل السلطان بهم ذلك. ذكر توجه السلطان إلى مصر ولما فرغ شغله في دمشق خرج منها، وفارق العسكر على الدرب، وتوجه جريدة إلى الكرك، وعاد منها إلى الديار المصرية، فتقنطر عن فرسه قريبا من زيزا فأقام هناك أياما، وركب محفة في الطريق بسبب ألم تألم في وركه، ولما وصل إلى مسجد التبر، الذي تقوله العامة مسجد تبن، لم يرد أن يدخل إلى القاهرة على تلك الحال، فأقام ليالي إلى أن صح وركه، وزال وعكه، وطلع القلعة ممتطياً صهوة جواده، مكمدا قلوب حساده، ففك عن ليفون ابن صاحب سيس قيده وأحسن إليه، وأخذه صحبته وتوجه لرمى البندق ببركة الجب، وكتب له موادعة على بلاده. وقال ابن كثير رحمه الله: وطلب صاحب سيس أن يفادى ولده من السلطان فقال: لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له: سنقر الأشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتار، فتذلل له وتخضع حتى أطلق له سنقر الأشقر، فأطلق السلطان ابن صاحب سيس. ذكر بقية الحوادث منها: أنه قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر بن الظاهر بن العباسى واسمه على إلى دمشق، وأنزل بالدار الأسدية تجاه المدرسة العزيزية، وقد كان أسيرا في أيدي التتار، فلما كسر بركة خان لهلاون تخلص منهم وصار إلى ههنا. ومنها: أن السلطان أمر بإراقة الخمور وإبطال المنكرات، وتعفية آثار المسكرات، ومنع الحانات والخواطى بجميع أقطار مملكته بمصر والشام. ومنها: أنه عُقد عَقد الأمير سيف الدين قلاون الألفى على ابنة سيف الدين كرمون التترى الوافد، وهي والدة الملك الصالح علاء الدين علي. وكان يوما مشهودا، وحضر السلطان، وجلس على الخوان، وكان ذلك في الدهليز بسوق الخيل. ثال بيبرس: وقدم السلطان للأمير قلاون تقدمة من خيل، وتعابى قماش وأربعة من المماليك السلطانية، فقبل التقدمة، واستعفى من قبول المماليك، وقال هؤلاء خوشداشيتى في خدمة السلطان، وشكر ما أولاه من الإحسان، وقدم كل أمير من الأمراء ثلاثة أروس خيلا وثلاث بقج قماشا. ومنها: أنه وصلت رسل الأنبرور، والفرتش، وملوك الفرنج، واليمن، بالهدايا إلى صاحب الإسماعيلية، فأمر السلطان بأن تؤخذ الحقوق الديوانية من هذه المراكب إفسادا لنواميس الاسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفى شرهم بالهدية. ومنها: أنه جمع، البرنس بيمند بن بيمند صاحب طرابلس جماع من الديوية والاسبتار، وقصد مخاضه بلاله، طالبا جهة حمص، وكان النائب بها الأميرعلم الدين سنجر الباشقردى، فبلغه الخبر، فسبق الفونسن إلى المخاصة فلما داناها عدت العساكر، فجر ذيول الهزائم، وكان يأمل أملا، فخاف، وقنع من الغنيمة بالإياب. ومنها: أن السلطان رسم بعمارة مراكب بدمشق وحملها إلى البيرة، فعمرت وحملت اليها. ومنها: أنه رسم ببناء جسر على الشريعة، وكان ماؤها قوى التيار، فاقتضت سعادته أن جاء سيل كثير فحدر صخوراً كباراً فصارت كالسكر، فوقفت جرية الماء وبنى الجسر. ومنها: أنه بلغه أن خليج الاسكندرية قد ارتدم فتوجه بنفسه لحفره. ومنها: أنه رسم لمتولى قوص وهو علاء الدين الخزندار بأن يتوجه إلى سواكن، ويساعد تجارالكارم على المجىء، ويروع علم الدين اسنبغانى صاحبها عن التعرض اليهم، فتوجه وصحبته عدة مراكب، وجهز إليه من القصير خمسة) . (فيهم الرجال المقاتلة، فدخلها وفعل مات رسم له وعاد. ومنها: أنه أمر بجمع أهل العاهات فجمعوا بخان السبيل، وأمر بنقلهم إلى الفيوم، وأفرد لهم بلدا ليكونوا فيه، ويجري عليهم ما يحتاجون إليه، فلم يستقروا وتفرقوا، وعاد أكثرهم إلى القاهرة ومصر.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

ومنها: أن الأمير شكال بن محمد أرسل إلى الأمير عز الدين جماز أمير المدينة النبوية وطلب العدا من بلاده، فأمتنع، ودافع، فحضر شكال إلى بنى خالد واستعان بهم عليه ليحاربه، فخاف وأرسل إلى السلطان مذعنا ملتزما القيام بحقوق الله واستخراجها من قومه. وفيها: وفيها: ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ المعمر أبو بكر بن إبراهيم الشيبانى البغدادى الصوفي بخانقاه سعيد السعداء. مات في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. ذكر أنه ولد في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان شيخا صالحاً وصوفياً حسنا من أكابرهم المعروفين، كتب عنه. الشيخ بها ءالدين أبو المواهب الحسن بن عبد الوهاب بن الشيخ ابي الغنائم سالم بن الشيخ ابي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن ابن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى الثعلبي الدمشقي. ما في الرابع من صفر من هذه السنة بدمشق، ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة تخمينا، سمع من الكندى وغيره، وحدث بدمشق والقاهرة. الشريف النقيب أبو الحسن على بن الحسين بن محمد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن محمد بن ظفر الحسيني الأرموى الأصل المصري المولد والدار. مات في ليلة الحادي والعشرين من صفر منها بالقاهرة، وتولى نقابة الأشراف بمصر مدة، ومولده سنة ثلاث وستمائة بمصر سمع من شيخ الشيوخ ابي الحسن على بن عمر بن حموية وحدث. الشيخ المعمر أبو علي بن منصور بن ذبيان بن طلائع الإسكندراني المالكي. مات في السادس من شهر ربيع الأول بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، وقد نيف على المائة، كتب عنه. الشيخ الصالح أبو الحجاج يوسف بن صالح بن صارم بن مخلوف الأنصارى الخزرحي القوصي المنعوت بالنور. مات في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول بمدينة قوص من صعيد مصر الأعلى، في عوده من الحج، سمع وحدث، وكان شيخا صالحا حسن الطريقة، ومولده في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة. الشيخ الأصيل أبو عبد الله محمد بن الشيخ ابي الطاهر منصور بن الخضرمي الصقلي الأصل الأسكندراني المولد والدار، المالكي العدل بالإسكندرية. مات بالأسكندرية في الشعرين من جمادى الأولى، وهو من بيت الحديث، حدث هو وأبوه وجده، وجد أبيه، وجد جده خمسة منهم على نسق. الأمير شهاب الدين أبو الجود جلدك بن عبد الله الرومي الفائزي. مات في السابع عشر من شوال منها بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وتولى عدة ولايات، وقال الشعر الحسن، وحدث بشيء من شعره. الأمير جمال الدين أيدغدى بن عبد الله العزيزي. كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند السلطان الملك الظاهر بيبرس، لا يكاد يخرج عن رأيه، وهو الذي أشار عليه بولاية القضاء من كل مذهب على سبيل الاستقلال. وكان رحمه الله متواضعاً، لا يلبس محرماً، كريما، وقوراً، رئيساً، معظماً في الدول، أصابته جراحة في حصار صفد، ولم يزل ضعيفاً منها حتى مات ليلة عرفة، ودفن بالرباط الناصري بسفح جبل قاسيون، وكان سمع وحدث. 24 - /فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والستين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحكم بأمر الله. وسلطان البلاد المصريّة والشاميّة: الملك الظاهر، ونائبه بدمشق: الأمير جمال الدين أقوش التجيبى، وبحلب: نور الدين على الهكارى، وبحماة: الملك المنصور. وكان أول السنة يوم الأحد، وفي اليوم الثاني خرج السلطان من دمشق إلى مصر، وقد ذكرنا أنه أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، ولما وصل إلى القاهرة واستقرّ ركابه فيها نظر في أمور الناس. ثم في ثامن عشر ربيع الأول نزل السلطان إلى الجامع الأزهر وصلى فيه الجمعة، ولم تكن تقام فيه الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، وهو أول مسجد وضع بالقاهرة، بناه جوهر القائد، وكان تقام فيه الجمعة إلى أن بنى الحكم جامعه فحول إليه الجمعة وترك الأزهر، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الخطبة فيه، وكان فراغ جوهر القائد من بنائه في سنة إحدى وستين وثلاثمائة في خلافة المعز بن المنصور بعد بناء القاهرة بثلاث سنين، ويقال إن به طلعما لا يسكنه عصفور ولا يفرخ به، واستمرت إقامة الجمعة فيه إلى يومنا هذا.

ذكر توجه الملك الظاهر إلى ناحية الشام

وقال بيبرس في تاريخه: وقد كانت انقطت الخطبة فيه مده تناهز مائة سنة، فأراد الله إعادتها للإمام الحاكم والملك الظاهر. ثم وصل الملك القصور صاحب حماة إلى خدمة السلطان بالديار المصريّة، ثم طلب منه الدستوريه ليتفرج فيها، فرسم له بذلك، وأمر لأهل الإسكندرّية بإكرامه واحترامه، وفرش الشقيق بين يدي فرسه فتوجه إليها وتفرج، ثم عاد إلى الديار المصريّة مكرّماً محترما، ثم خلع عليه السلطان وأحسن إليه على جارى عادته، ورسم له بالعود 533 إلى بلده، فعاد. وقال بيبرس: وتوجّه الملك المنصور إلى العباسية أيضا صحبة السلطان للصيد، وعاد صحبته، ثم سافر إلى محلّ ولا يته. ذكر توجّه الملك الظّاهر إلى ناحية الشّام وفي السنة توجه السلطان إلى الشام في بعض أمرائه، وأراح بقية العساكر بالديار المصريّة، وسار إلى صفد، فلما وصلها بلغه أن طائفة من التتار على عزم قصد الرحبة، فرتّب أمر عمارة صفد وسار إلى دمشق مسرعا، فورد الخبر برجوع التتار عن قصد الرحبة، فأقام بدمشق خمسة أيام، ثم عاد إلى جهة صفد وحفر خندقا حول قلعتها، وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه، وأمر بعمارة سور صفد وقلعتها وأن يكتب عليها: ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون: أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون. وقال أبو شامة: وفي شهر رجب حفر السلطان الظاهر بيبرس خندقا لقلعة صفد، وعمل فيه بنفسه وعسكره، وفي بعض تلك الأيام بلغه أن جماعة من الفرنج بعكا تخرج منها غدوة وتبقى ظاهرها إلى ضحوة، فسرى ليلة بعض عسكره فكن لهم في تلك الأدوية، فلما أبعدوا عن عكا فخرج عليهم من ورائهم فقتل وأسر، وضربت البشائر بدمشق بذلك. وقال بيبرس: وفيها وصل إلى السلطان رسل الإفرنج وأجابوا إلى المناصفة في صيدا، وهدم الشقيف، وكان قد بلغه أنهم أغاروا على مشعرا، فأنكر عليهم وأقيموا بين يديه قياما مزعجا، ثم ركب وشن الغارة على عكا، وعمل اليزك على أبوابها، وقطع الأشجار، وأحرق الثمار، وهدم طاحونا لبيت الاسبتار يسمى طاحون كردانه. كان أهل صور قد قتلوا شخصا من مقدمى رجال الصبيبة يسمى السابق شاهين، فقرر عليهم ديته خمسة عشر ألف دينار صورية وسألوا الصلح، فأجابهم، وكتهت هدنة لمدة عشر سنين لصور بلادها وهي تسعة وتسعون قرية، وقررت الهدنة مع بيت الاسبتار على حصن الأكراد والمرقب. 534 - واستقرت قاعدة الصلح مع صاحبة بيروت، فإن أخاها كان قد غدر بمركب الأتابك فيه جماعة من التجار كانوا متوجهون إلى قبرس، فطالبهم السلطان بمال التجار، فالتزموا به، والنزءوا إطلاق التجار، وتقرر الصلح. وفيها: تنازع الشيف عز الدين جماز بن شيحة وبدر الدين مالك بن منيف ابن شيحة ابن أخيه على نصف المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فحضر مالك بن منيف إلى الأبواب السلطانيّة على صفد مستصرخا، فكتب له السلطان كتاباً إلى عّمه بردّ النصف الذي كان بيد أبيه إليه، فتقررّ الاتفاق بينهما. ومن غريب ما يحكى ما قاله ابن كثير: وحكى القاضى شمس الدين بن خلكان فيما نقل بخطه عن خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا بدير أبي سلامة من ناحية بصرى، وكان فيه جنون وعنده استهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج، يعني دبره فوضع سواكا في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر وهو يشكو من ألم البطن والمخرج، ووضع ولدا على صفة الجرذان، له أربعة قوائم ورأسه كرأس السمكة وله دبر كالأرنب، ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت إليه ابنه ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش الرجل بعد وضعه له يومين، ومات في الثالث، وكان يقول: هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية، وخطيب المكان، ومنها من رآه حيّا قبل أن يموت ومنهم من رآه بعد موته. وفيها: "..... ". وفيها: حج بالناس "....... ". ذكر من توفى فيها من الأعيان قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي المصري، الفقيه الشافعي المعروف بابن بنت الأعز.

تفقه على مذهب الشافعي وسمع وحدّث، ووزر لغير واحد من الملوك وتقدم عندهم، وكان دينّا عنيفاً نزهاً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل535 شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصريّة بكمالها، والخطابة والحاسبة، ومشيخة الشيوخ، ونظر الأحباس، وتدريّس الشافعي، والصالحيّة، وإمامة الجامع، وكان بيده خمس عشر وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الأوقات، وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن الحنّا يخاف منه كثيرا وكان يحبّ أن ينكبه عند السلطان فلا يستطيع ذلك. وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتوفي في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب من هذه السنه بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم، وكانت جنازتة مشهودة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين. أبو شامة، الشيخ شهاب الدين عبد الرحمان بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان ابن أبي بكر بن عباس، أبو محمد وأبو القاسم، المقدسىّ، الشيخ الصالح الإمام العلامة الحافظ المحدث المقرى، الفقيه الشافعي المعروف بأبي شامة. شيخ دار الحديث الأشرفية، وتدريس الركنية، وصاحب المصنفات المفيدة منها: مختصر تاريخ دمشق، وشرح الشاطبيّة، وكتاب البعث والإسراء، وكتاب الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية، وله الذيل على ذلك، وغير ذلك. ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وتفقه على الفخر بن عساكر وابن عبد السّلام، والشيخ سيف الدين الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وكان يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعارا، وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في تفننه وديانته وثقته وأمانته، وكان قرأ القرآن بالقراءات على الشيخ علم الدين السخاوي وصحبه مدة، وقرأ عليه العربيّة، وتفقه على الشيخ تقي بن الصلاح، وقد كانت وفاته بسبب جماعة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمزل له بطواحين الأشنان، وكان قد اتهم بأمر، الظاهر براءته منه. وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم: إنه كان مظلوما، ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من السنة، فذكر536 أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الأشنان، وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل ذلك فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له: ألا تشتكي؟ فلم يفعل، وأنشأ يقول: قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل فقّيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحقّ ويشفى الغليل إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في منزله المذكور، فقتلوه في ليلة الثلاثاء التاسع عشر من شهر رمضان منها، ودفن من يومه بمقابر باب الفراديس، وباشر بعده مشيخة الحديث الأشرفية الشيخ محيى النووي، رحمه الله. الشيخ الأصيل أبو يوسف يعقوب بن أبي البركات عبد الرحمن بن القاضي أبي سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الشافعي، المنعوت بالسعد. أجاز له جماعة منهم: الحافظ بن الجوزي، ودرس بالمدرسة القطيبّة بالقاهرة مدة، وهو من ذوي البيوتات المشهورة بالفقه والحديث والتقدّم، مات في الثالث والعشرين من شهر رمضان بالمحلة. الأمير الكبير ناصر الدين أبو المعالي الحسيّن بن أبي الفوارس القيمريّ الكردىّ. كان من أعظم الأمراء وأرفعهم منزلة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب حين قتل توران شاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمريّة عند مئذنة فيروز، وعمل على بابها سامات لم يسبق إلى مثلها ولا عمل على شكلها، فيقال: إنه غرم عليها أربعين ألف درهم، مات يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول من هذه السنة، وكان موته بالساحل. بركة خان بن صاين خان بن دوشي خان بن جنكز خان، ملك التتار ببلاد الشمال، وهو ابن عم هلاون خان.

السنة السادسة والستين بعد الستمائة

وكان قد دخل في بلاد الإسلام كما ذكرناه، وكان بينه وبين السلطان الملك الظاهر صحبة ومودّة، وكان لا يقطع مكاتبته537 ولا مراسلته من الظاهر، وقد وقع بينه وبين هلاون من الحروب ما ذكرناه، وكان يحبّ العلماء والصالحين، ومن أكبر حسناته كسره لهلاون وتفريقه جنوده، وكان أعظم ملوك التتار، وكرسىّ مملكته مدينة صراى، توفى في هذه السنة ولم يكن له ذكر، فاستقّر عوضه ابن أخيه منكو تمر بن طوغان بن دوشى خان جنكزخان، وجلس على كرسى صراى، وصارت إليه مملكة التتار ببلاد الشمال والترك والقفجاق وباب الحديد وما يليه، ثم وقعت بينه أبغا بن هلاون حروب كثيرة، فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا، وعاد أبغا إلى بلاده، والله أعلم. فصلّ قيما وقع من الحوادث في السّنة السّادسة والسّتين بعد السّتمائة استهلت هذه السنة والخليفة هو: الحاكم بأمر الله. وسلطان البلاد المصريّة والشاميّة والحلبّية: الملك الظاهر بيبرس. وسلطان الروم: الملك ركن الدين قليج أرسلان. وصاحب العراقين وغيرهما: أبغا بن هلاون. وصاحب البلاد الشمالية التي كرسيّها صراى: منكوتمر بن طوغان، وكتب إليه الملك الظاهر بالتعزية لأجل بركة خان، والتهنئة لأجل ولايته عوضه، وأغراه على قتال أبغا بن هلاون. ذكر سفر السلطان الظّاهر إلى الشّام وفي شهر جمادى الآخرة تجهز السلطان لأجل السفر إلى الشام، وخرج من القاهرة في ثالث الشهر المذكور، ولما وصل إلى غزة أمر العساكر بمنازلة الشقيف، فنازلوها بغتة وضايقوها، وناوشوا أهلها القتال، ونزل السلطان بالعوجاء. ذكر فتح يافا وفي جمادى الآخرة فتحت يافا، وذلك أن صاحبها جوان دباين سيّر متجرّمة في زىّ صيّادين إلى قطنا، واتفق هلاكه وقيام ولده مقامه، فلما وصل السلطان إلى العوجاء حضر إليه رسله وهم قسطلان يافا وأكابرها، فعوقّهم، وسيّر المحجاب إلى العساكر يأمرهم بلبس العدد والركوب على أتم أهبةٍ، وركب نصف الليل، فصبّح يافا صباحاً، فلما عاينوا كثرة العساكر المنصورة، وشاهدوا تلك الجيوش بتلك الأهبة والصورة، شملهم الذهول، وطارت منهم العقول، فملك المسلمون المدينة، ولجأ أهلها إلى القلعة، وسألوا الأمان على أن يطلقوا بأموالهم وأولادهم، فأجابهم، وتسلم القلعة منهم، وطلعت عليها السناجق السلطانّية في العشر الأوسط من جمادي الآخرة من هذه السنة، وأمر السلطان بهدم المدينة فهدمت، وكذلك هدمت القلعة، وقد كانت الفرنج قد اعتنوا بعمارتها وتحصينها فجعلوها بلقعاً لئلا يكون لهم إليها عودة، وقد كان الريد افرنس لما أطلق من الأسر من ثغر دمياط حضر إليها وعّمرها وأنفق عليها أموالا. وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن أوّل من بناها الملك طنكلى في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، ولما فرغ السلطان من هدمها رحل عنها إلى الشقيف منصورا. ذكر فتح شقيف أرنون في رجب من هذه السنة. ولما أتى إليها السلطان نزل عليها، وقد كان جهّز لمضايقتها عسكرا صحبة بجكا العزيزي، وله قلعتان، ولما ضويقوا عجزوا عن حماية القلعتين، فأحرقوا أحديهما، فتسلمها المسلمون في السّادس والعشرين من رجب، وخرج الوزير كليام من القلعة الآخرى مستأمنا فأمنه السلطان، وفي آخر الشهر تسلمت وطلعت عليها السناجق السلطانّية ونصبت، وأخرج أهلها وصيّروا إلى جهة صور، وبعث السلطان الأنفال إلى الشام. ثم رحل عنها وبثّ العساكر للإغارة على طرابلس وأعمالها، فقطعوا أشجارها وخرّبوا ما حولها من الكنائس، ونهبوا وسبوا، فلما سمع صاحب صافيتا وأنطرسوس بما حل بالفرنج من العكوس خاف أن يمسه ما مسّهم من البؤس، فبادر إلى الخدمة، وتلّقى العساكر بالإقامة، وأحضر من كان عنده من أسرى المسلمين، وكانوا ثلاثمائة أسير. 539 - ثم رحل السلطان إلى حمص، ومن حمص إلى حماة. ذكر فتح أنطاكية في شهر رمضان من هذه السنة. وهي مدينة عظيمة، يقال إن دور سورها اثنى عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وثلاثون برجا، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألف شرفة. ولما رحل السلطان من حمص إلى حماة فرّق العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبته، وفرقة صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفي، وفرقة صحبة الأمير عز الدين يوغان الركني.

قال بيبرس: وكنت في هذه الغزاة المبرورة، فأما قلاون ومن معه فإنه سار من أفامية، فصابحنا القصير صباحا وشنّنا أهله القتال غدوّا ورواحاً وارتحلنا إلى أنطاكية فنزلنا من غربيها على سفح الجبل، وتواصلت العساكر إليها، ونزل السلطان عليها في اليوم الأول من شهر رمضان، وخرج منها جماعة فيهم كند اصطبل عمّ صاحب سيس الذي ذكرناه أنه انهزم في نوبة سيس، فالتقوا مع الجاليش المنصور، فاستظهر الجاليش عليهم، وأسر الكند جنديّ من أجناد الأمير الأجل شمس الدين آقسنقر الفارقانيّ، يسمّى المظفرى، وأحضره إلى السلطان، فأعطاه عشرة طواشّية، وأمره بحمل رنك كند اصطبل، فحمل رنكة على سنجقه إلى أن مات، وسأل هذا الكند أن يدخل أنطاكية ويتحدّث مع أهلها ويحذرهم وينذرهم، وأحضر ولده رهينة على ذلك، فلم يغن شيئا. وفي يوم السبت رابع رمضان المعظم قدره زحفت العساكر، وأطافت بالمدينة والفلعة، وقاتل اهلها قتالا شديدا ذريعا، وجاهدهم المسلمون جهادا عظيما، وتسّوروا الأسوار من جهة الجبل، ونزلوا المدينة بالبيض والأسل وشرعوا في النهب والقتل والأسر حتى أثخنوا فيهم غاية الإثخان، واجتمع نحو القلعة منهم نحو ثمانية آلاف منهم، وسألوا الأمان، فأجيبوا إليه. وأخذوا في الحبال، وقتل وأسر جمع يتجاوز الإحصاء من النساء والرجال، وكان بها مائة ألف أو يزيدون، ووجدوا بها من الأسرى والحلبّيين خلقا كثيرا. وكتهت كتب البشائر، ومن جملتها كتاب إلى صاحبها نسخته:

قد علم القومص الجليل المبجل، المغزز الهمام، الأسد الضرغام بيمند، فحر الأمة المسيحية، رئيس الطائفة الصليبية، كبير الأمة العيسوية المتنقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية منه من البرنسية إلى القومصية، الهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس غزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من اخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض، ودارت الدوائر على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال، واستخدمت الأولاد، وتملكت الحراثر، وكيف قطعت الأشجار، ولم يترك إلا ما يصلح للأعواد والمجانيق والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والحواشى، وكيف استغنى الفقير، وتأهل العازب، واستخدم الخديم، وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشي عليه من الموت، وإذا سمعت صوتاً قلت فزعا: علىَّ هذا الصوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت ماشية إلا وهي لدينا ماشية، وجارية إلا وهي في ملكنا جارية ولا سارية وهي بين أيدي المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير التي هي في رؤوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التي هي في التخوم مخترقة، وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا نبعد عنك، وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تم، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ: كان رحيلنا عنك عن طرابلس يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان، ونزولنا أنطاكية في مستهل شهر رمضان، وفي حالة النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كندا صطبل، فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وأعيان أعوانك، فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك من إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، 541 وإن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول في الإنذار والآخر، فرجعوا متشبهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مرّ شأن المرء شان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحناها بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شئ من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شئ منهم ومنها، فلو رأيت خيّالنك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهاية فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهنّ تباع، فتشتري من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك: وصلبانها قد كسرت، وصحفها من الأناجيل المزوّرة قد نشرت، وقبور البطارقة قد بعثرت، ولو رأيت عدّوك المسلم داس مكان القداس والمذبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة قد دهموا بطارقة، وأبناء المملكة، وقد دخلوا في المملكة، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تحترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تخترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان وقد تركت كل منهما وزالت، لكنت تقول، ياليتني كنت تراباً وياليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران من ماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من مغانيك، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذي أنطاك أنطاكية منك استرجعها، والربّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها، ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك كنت قد أخذته من حصون الإسلام، وهو دير كوش، وشقيف كفردوش، وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية، واستنزلنا أصحابك من الصيّاصي، وأخذناهم بالنواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبقى شئ يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها هو أجراها بما سفكناه فيه دما، وكتابنا هذا يتضمن بالبشرى لك بما وهبك الله من السلامة وطول

ذكر فتح بغراس

العمر بكونك لم يكن لك في أنطاقية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت فيها فتكون إما قتيلا وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي تفرح الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخّرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى وسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، ليتحق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرنا مخبرا. لعمر بكونك لم يكن لك في أنطاقية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت فيها فتكون إما قتيلا وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي تفرح الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخّرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى وسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، ليتحق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرنا مخبرا. وأما كندا اصطبل فإن السلطان أطلقه، وأطلق أهله وأقاربه، وفسح له في التوجه إلى سيس. وهذه أنطاكية هي التي ذكرها الله في القرآن الكريم بقوله: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون وبانيها أنطياخس وإليه تنسب، وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قد فتحها كما ذكرنا من البرنس أرناط وقتله، ثم ملكها البرنس المعروف بالأسير، ومن بعده ولده سدو، وبعده ولده بيمند، ومنه أخذت الآن واستقرت في الممالك الإسلامية إلى الدولة الناصرّية. ثم أن السلطان أمر بجمع المكاسب، فجمع من الأموال والمصوغ ما لا يحصى كثرة، وقسمت الغنائم على الأمراء والعساكر، وتقاسموا السبايا والمواشي والنسوان والأطفال، فلم يبق غلام الا له غلام، وبيع الصغير بإثني عشر درهما فيما حولها بين العسكر والكسابة، وأمر السلطان بإحراق قلعة أنطاكية فأحرقت، وأما ما خصه من الغنائم فإنه أفرده وأرصده لعمارة الجامع الذي أمر بإنشائه بالحسينبة، فصرف عليه. ذكر فتح بغراس لمل فتحت 542 الحصون المذكورة، انهزمت الداوية من بغراس، فتسلمها السلطان على يدي الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقان أستاذ الدار في ثالث عشر رمضان، ولم يوجد بها سوى امرأة عجوز، ووجدت عامرو بحواصلها، وهذا الحصن نازل عليها الملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب وحاصره بالعسكر المصري الحلبي سبعة أشهر فلم يأخذه، وأخذه السلطان الملك الظاهر بيبرس بغير تعبٍ ولا نصبٍ، وتسلم السلطان أيضا حصونا كثيرة وقلاعا أخرى، ثم عاد السلطان مؤيداً منصوراً. ذكر دخول السلطان دمشق ولما فرغ أمر السلطان من هذه الغزوة عاد منصورا، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان في أبهة عظيمة وهيئة هائلة، وقد زينت له البلد، ودقت البشائر فرحا به، ولما استقر ركابه في دمشق عزم على انتزاع أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها، يزعم أنه قد كانت التتار قد استحوذوا عليها، ثم استنفذها منهم، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية بذلك بناء على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال الناس المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها الذين أخذت منهم، وهذه المسألة مشهورة وفيها خلاف، والمقصود أن السلطان الملك الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك، وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى، وخاف الناس من غائله ذلك، فتوسط الصاحب فخر الدين ابن الوزير بهاء الدين بن الحنا، وكان قد درس بالشافعي بعد تاج الدين ابن بنت الأعز فقال: يا خوند أهل البلد يصالحون بك عن ذلك كله بألف ألف درهم مقسطة كل سنة مائتا ألف درهم فضة، فأبى إلا أن تكون معجلة، ثم بعد أيام وقد خرج متوجها إلى الديار المصرية أجاب إلى تقسيطها، وجاءت البشارة فقرئت على الناس، ففرح الناس بذلك، ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف، وأن تعاد إليهم الغلات التي كانوا 544 قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار، وكان هذا مما شغب خواطر الناس على السلطان، سامحه الله.

ذكر وقوع الصلح بين السلطان وبين صاحب سيس

ذكر وقوع الصلح بين السلطان وبين صاحب سيس وفي شوال من هذه السنة وقع الصلح بين السلطان وهو في دمشق وبين هيثوم صاحب سيس، على أنه إذا أحضر هيثوم سنقر الأشقر من التتار، وكانوا وقد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هلاون كما ذكرنا، ويسلم مع ذلك بهسني ودربساك ومرزبان ورعبان وشيح الحديد يطلق له ابنه ليفون، فدخل صاحب السيس على ملك التتار أبغا وطلب منه سنقر الأشقر فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة السلطان، وتسلم السلطان المواضع المذكورة خلا بهسني، وأطلق السلطان ابن صاحب سيس ليفون بن هيثوم وتوجه إلى والده. وقال بيبرس في تاريخه: ولما تقرر الصلح بين الظاهر وبين صاحب سيس على ما ذكرنا أرسل السلطان مجكا الرومي لإحضار ليغون بن صاحب سيس من الديار المصرية، فتوجه من أنطاكية وأحضره، وعاد إلى دمشق في ثلاثة عشر يوما، فأرسله السلطان إلى والده في ثالث عشر شوال منها، وكان صاحب سيس قد سير إلى السلطان أخاه فاساك في هذا الأمر، وسير ريمون صهر ولده رهينة إلى أن يسلم إليه القلاع المذكورة ويحضر سنقر الأشقر إلى الخدمة الشريفة. ذكر مجيء رسل صاحب عكا إلى السلطان وهو في دمشق أيضا، واسمه أوك بن هري ابن أخت صاحب قبرس، وكان أهل عكا قد أحضروه وملكوه عليهم، فلما جاء السلطان من أنطاكية إلى دمشق جاءت رسله إلى أبواب السلطان يسألونه الصلح، فتقرر الحال بينه وبين السلطان على عكا وبلادها وثلاثين ضيعة، وتقرر أن تكون حيفا للفرنج ولها ثلاث ضياع، وبقية بلادها مناصفة، وللقرين عشر قرى والباقي للسلطان، وبلاد الكرمل مناصفة، وعثليت تكون لها خمس قرى والباقي مناصفة، وبلاد صيدا الوطأه للفرنج والجبليات للسلطان، واتفق الصلح على مملكة قبرس وأن تكون الهدنة لعشر سنين، وسير السلطان إليه هدية عشرين نفرا من أسارى أنطاكية. ذكر عود السلطان من الشام إلى الديار المصرية ولما فرغ أمر السلطان خرج من دمشق عائداً إلى الديار المصرية فدخلها يوم الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، وكان يوم دخوله يوما مشهودا، وجاءت إليه هدية صاحب اليمن مشتملة على تحف شتى وكتاب إلى السلطان، وسأله الإنتماء والحضور إلى جنابه وأنه يخطب له ببلاد ايمن، فأرسل له السلطان خلعا وسنجقا وتقليدا. ذكر بقية الحوادث منها: أن ضياء الدين بن الفقاعي رافع الصاحب بهاء الدين حنا عند السلطان الظاهر، فاستظهر عليه فسلمه السلطان إليه، فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات، فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة. ومنها: أن السلطان فتح جبلة وتسلمها من صاحبها افرير ماهي صافاج، ومنها: أن معين الدين البرواناه مدبر مملكة الروم اتفق مع التتار المقيمين معه ببلاد الروم على قتل السلطان ركن الدين قليج أرسلان السلجوقي، فحنق التتار ركن الدين بوتر، وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين المذكور، وله من العمر أربع سنين. وقال ابن كثير: وله من العمر عشر سنين، وتمكن البرواناه جدا، وأطاعه جيش الروم. ومنها: أنه ولى القضاء بالديار المصّرية القاضي تقي الدين محمد بن الحسين ابن رزين بالقاهرة، وبمصر القاضي محي الدين عبد الله بن عين الدولة. ومنها: أن أبغا أوقع بابن عمه تكدار بن موجى بن جغطاي جنكرخان، وكان أبغا قرر على وزارته نصير الدين الطوسي، واستناب على السلطنة البرواناه المذكورواربفع قدره عنده جدّا. ومنها: أن صاحب القصير بذل نصف البلاد التي في يده للسلطان الملك الظاهر، فتسلّمها منه، وزعم أهلها أن بأيديهم خطا من عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فكتب لهم هدنّة بما تقرر الحال عليه. وفيها: ".......... " وفيها: حج بالناس مع الركب المصريّ الأمير عز الدين أيدمر الحليّ. ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ عفيف الدين يوسف البقال، شيخ رباط المرزبانيةّ. كان صالحا، ورعا زاهدا، حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع ببغداد من القتل الذريع فأنكرته بقلبي، وقلت: يارب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له، فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فإذا فيه: دع الإعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركات الفلك

السنة السابعة والستين بعد الستمائة

ولا تسأل الله عن فعله ... فمن خاض لجّة بحرٍ هلك إليه تصير أمور العباد ... دع الاعتراض فما أجلك ابن الخشكري النعماني الشاعر: قتله الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظائم، منها: أنه يعتقد تفضيل شعره على القرآن الكريم، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط، فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وأنشد قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن للصلاة، فاستنصنه الصاحب، فقال ابن الخشكري: يامولانا اسمع شيئاً جديدا وأعرض عن شئ له سنون، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنه، ثم باسطه ولا يظهر أنه ينكر عليه شيئاً حتى استعلم ما عنده، فلما ركب قال لإنسان معه: استفرده في الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى انقطع به عن الناس، ثم قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال: انزعوا عنه ثيابه، فسلبوها عنه، فتقدّم إليه أحدهم فضربه بسيف في رقبته فأبان رأسه. الشيخ أبو الصّبر أيوب بن عمر بن عليّ بن شدّاد الدمشقي، المعروف بابن الفقّاعي. مات بدمشق في يوم عاشوراء من هذه السنة، سمع وحدّث. الشّريف أبو العباس أحمد بن أبي محمد عبد المحسن بن أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن الحسن بن عليّ بن محمد بن جعفر بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنهم، الواسطى الغرّافي التاجر. مات بثغر الأسكندريّة في ليلة الخامس من صفر، ودفن من الغد بين الميناعين، ومولده بالغرّاف، بفتح الغين المعجمة وتشديد الرّاء وبعد الألف فاء، من أعمال واسط القصب، سمع بمرو من أبي الكظفر عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعد عبد الكريم السمعاني، وببغداد عن غير واحد، وحدّث. الشيخ نظام الدّين أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم عبد الرحمن بن رشيق الربعي المصري المالكّي، المنعوت بالنظام. مات في ليلة الحادي والعشرين من جمادي الأولى من هذه السنة بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم، سمع وحدّث. الشيخ الأمام العّلامة أبو الحسن علي بن عدلان بن حماد بن علي الربعي الموصلي النحوي المترجم. مات بالقاهرة في التاسع من شوال من هذه السنة، ودفن من الغد بسفح المقطم، ومولده بالموصل في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، قرأ الأدب على غير واحد، منهم أبو البقاء العكبري، وسمع ببغداد عن جماعة كثيرين، وحدّث، وأقرأ العربيّة، وكان أحد الأثمة المشهورين بعفرفة الأدب، وكانت له اليد الطولي في حلّ التراجم والألغاز، وله مصنفات في ذلك وغيره. وفي هذه السنة ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية والخطيب جلال الدين القزويني، رحمهما الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والسّتينّ بعد السّتمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العبّاسي. وسلطان البلاد المصرّية والشاميّة والحلبيّة: الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريّ الصّالحي، وقد جدّد في صفر البيعةلولده الملك السعيد بركة خان محمد، وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والأعيان، وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليداً هائلا بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم أيضا في حياته، وبني مصطبةً بميدان العيد بباب النصر لرمي النشاب، وتوجّه إلى الجامع الظاهريّ الذي أنشأه بالحسينية، ورّتب أوقافه، ونظر في أحواله. وكان ببابه جماعة من الرسل من جهة الملوك، فجهّزهم، وسفّر صحبتهم رسله وهداياه، وهم رسل منكوتمر، ورسل جارلا أخي الريذافرنس، ورسل العرب، ورسل الأشكري صاحب القسطنطينيةّ. ذكر ماجريات الملك الظاهر العجيبة منها: أنه ركب في جمادي الأولى بعساكره، والأمراء الأكابر بالديار المصرّية، وتوجه إلى الشام، ونزل أرسوف لكثرة مراعيها.

ولما دخل دمشق اتفق مجي رسل أبغا ملك التتار، معهم مكاتبات ومشافهات، ومعهم التكفور صاحب سيس، فإنه كان قد سعى في الصلح بين السلطان وبين هلاون، فسيّر أبغا هؤلاء الرسل وصحبتهم يرليغ وبايزة ذهب، فأرسل السلطان ناصر الدين بن صيرم مشدّ حلب لإحضارهم، ولما التقى السلطان أعفاهم من النزول، ثم أحضر كبيرهم كتاب بغير ختم، نسخته: بقوة الله تعالى، باقبال فان فرمان أبغا، يعلم السلطان ركن الدين أنه لأجل أن عرض على رأينا، كتب إلى عند التكفور أن الرسل الدين أنفذهم إيلخان ما قتلهم إلا قطز، والملوك يطلبون التوسّط حتى يصيروا إيل، والآن لو تنعم في حقي إيلخان أصير إيل، وقد سمعنا قد طلبت القفجاق الذين عندنا، وهم: سيف الدين بلبان، وبدر الدين بكمش، وأولاد سيف الدين سكز، ولا ريب أن مذ سنين الذين ما كان قبلكم معنا، صحيح كان بين إخواننا الكبار والصغار بعضهم بعضا خلف، فلأجل ذلك ما قدرنا نركب إلى صوبكم، والآن إذ نحن جميعنا من الأخوة الكبار والصغار عملنا قور يلتاى، واتفقنا على ما نغير فرمان وياساق قان، وأنتم أيضا قد تقدمتم وعرضتم أنا نحن إيل ونعطي القوة، استحسنّا ذلك منكم، فمن مطلع الشمس إلى مغربها في جميع العالم من الذي استقبل وأطاع ودخل في العبودية، وكان من قبل هذا في فرمان وياساق جنكزخان، والآن في فرمان وياساق قان هيكداه: أن إذا أذنب الأب ما يذنب الابن ولو يذنب الاخ ما يذنب الأخ ما يمسكوه بذنب الأخ الصغير، فلو أذنب الذنب أذنب السلطان قودور، وهو رجل في ذنبه، قتل على يدك بالحق، فأنت لو وصلت إلى كلامك الذي قلت نفّذ إلينا من إخوانك ومن أولادك أو من أمرائك الجياد ها هنا حتى نسمعهم ونفهمهم يرليغ وياساق قان، ويعودون إليك، فإذا وقع الاتفاق بيننا، الناس الذي طلبت ما يمسون نحن نعطيكم، ولو أن ما تصل إلى كلامك وتكون باغي وتفكر غير الصحيح، نحن ليس نعلم ذلك يعلم الله، وإقبال قان، أمرنا هكذا، ونفذنا إليكم هذين الرسولين، وهما: بيك طوب، وأبو الغريب بالاولاغ، كتب في عشرين شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وستمائة، بمقام بغداد. نسخه الجواب الصادر من السلطان: بسم الله الرحمن الرحيم، بعون الله وقوته، بإقبال السلطان الأعظم بيبرس الصالحي، يفهم الملك أباقا أننا رسمنا للتكفور أن يفهم الملك إلاّ جواب ما ذكره لنا شمس الدين سنقر الأشقر، أما قتل الملك المظفر الرسل، فنحن رسلك أعدناهم إلى الملك مثل ما حضروا سالمين، وعلى قدر ما فهّمنا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر رسمنا للتكفور أنه يكون الواسطة بيننا وبين الذي طلبنا، ما أبصرنا شيئا، فكيف يقع الاتفاق ونحن اليوم الياساق التي لنا هي أعظم من ياساق جنكز خان، وقد أعطانا الله ملك أربعين ملكا، وأما ما ذكره من مطلع الشمس إلى مغربها أطاعوه، فأيّ شئ جرى على كتبغا نوين؟ وكيف كان دماره؟ وأنت لو وفقت على قولك الذي ذكرته اسنقر الأشقر، وسيرّت أحد إخوانك أو من أولادك أو من أمرائك الكبار كنا سيرّنا إليك نحن أيضا الذي ذكرته. وعمل على الكتاب طمغات فيها رنك السلطان، وأعيد به الرسل إلى أبغا. وذكر غير بيبرس: أن السلطان الظاهر لما دخل دمشق وصل إليه رسول أبغا ملك التتار، ومعه مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك أبغت بسيواس، فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الأرض، واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منه، فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان أبغا، فلم يلتفت الظاهر إلى هذا الكلام، بل أجاب عنه بأتّم جواب وقال: اعلموه أني وراءه بالمطالبة، ولا أزال حتى أنتزع من يده جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة وسائر أقطار الأرض. ومنها: أن السلطان توجه إلى صور، وذلك أنه لما خرج من دمشق بعساكره متوجها إلى الديار المصريّة جاءته امرأة في أثناء الطريق عند خربة اللصوص، فذكرت أن ابنها دخل إلى صور، وأن صاحبها الفرنجيّ غدر به وقتله، وأخذ ماله، فركب السلطان وشنّ الغادرة على مدينة صور وأخذ منها شيئا كثيرا وقتل خلقا، فأرسل إليه مالكها ما سبب هذا! فذكر له غدره ومكره بالتجار. ومنها: توجه السلطان إلى مصر خفية.

قال بيبرس في تاريخه: ولما فرغ السلطان من تجهيز الرسل وإعادتهم، ودّع الأمراء الذين كانوا صحبته وأعطاهم دستورا ليتوجهوا إلى مصر، وخرج من دمشق وليس معه منهم غير: الأتابك، والمحمّدي، والأيدمري، وابن أطلس خان، وأقوش الرومي، وتوجه إلى القلاع فبدأ بالصبيبة، ومنها إلى الشقيف، وصفد فبلغته وفاة الأمير عز الدين الحلي بمصر، فوصل إلى خربة اللصوص والعسكر قد خيّم بها، فخطر له التّوجه إلى الديار المصرية، فكتب إلى النّواب بالشام بمكاتبة الملك السعيد بما يتجدّد من المهمات والاعتماد على ما يصدر عنه من الأجوبة والمكاتبات، ثم أظهر أنه قد تشوش جسمه، وصار البريد إذا جاء يقرأ عليه وتخرج علائم على دروج، فيكتب عنها الأجوبة، واستقر هذا الترتيب أياما، وأشيع ضعفه، وأحضر الحكماء إلى الدهليز، وشاهده الأمراء منجمعاً متألّمّا، وجهّز الأيدمريّ وجردبك على البريد إلى جهة حلب في ظاهر الأمر، وأوصاهما بما عليه في باطن السّر، وخرج ليلة السبت سادس عشر شعبان من الدهليز متنكرا، حاملا بقجة قماش في زيّ أحد البابية، وركب وصحبته الأميران المذكوران، وواحد من البريديّة، وواحد من السلحدريّة، وأربعة جنائب، وساق إلى جهة مصر، وجنيبه على يده، ومرّ بمراكز التبريد متنكّراً لا يعرفه أحد من الولاة، فوصل إلى القلعة ليلة الثلاثاء تاسع عشر الشهر، فأوقفهم الحرّاس حتى شاوروا الوالي، ونزلوا في باب الإصطيل، وكان قد رتب مع زمام الآدر، أن يبيت خلف باب السّر، فدقّ الباب وذكر لزمام الدّمر علائم كان يعرفها، ففتح له، وأحضر رفقته إلى بابا السّر، وأقام يوم الثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس لا يعلم أحد، وهو يشاهد الأمراء في الموكب من شباك على سوق الخيل، فلما كانت بكرة الخميس قدم الفرس ليركب الملك السعيد على عادته، وقدم للسلطان فرس فركب على غفلة، والوقت مغلس، فأنكر الأمراء الذين في الموكب الحال، فلما تحققوا السلطان قبلوا الأرض بين يديه، وعاد من الموكب إلى القلعة، فأقام بها إلى يوم السبت، ولعب الأكرة بالميدان وعاد إلى القلعة، ولما كانت ليلة الأثنين الخامس والعشرين من شعبان سافر عائدا إلى البريد، ولما وصل إلى الدهايزأخذ على يده جراب البريد وفي كتفه فوطه، وتوجّه راجلا ودخل من جهة الحرّاس، فمانعه حارس، فأمسك طوقه، فانجذب منه، وعبر من باب سر الدهليز، وركب عصر يوم الجمعة السابع والعشرين من شعبان، وحضر الأمراء الخدمة يهنئون بالعافية، وضربت البشائر لذلك، واهتم بالدهليز للحجاز الشريف، وهذا الذي صدر منه جراءة عظيمة وإقدام هائل. ومنها: توجه السلطان إلى الحجاز الشريف في هذه السنة، ولما عزم على ذلك وهو في المخيم أنفق في العسكر، وعين منهم جماعة يتوجهون صحبته، وجهز بقية العسكر صحبة الأمير شمس الدين آفسنقر استادارا إلى دمشق، فأقاموا بها. وتوجه السلطان إلى الكرك بصورة صيد، ولم يجسر أحد يتفوه بأنه متوجه إلى الحجاز حتى أن شخصا من الحجاب يسمى جمال الدين بن الداية قال: أشتهى أتوجه صحبة السلطان إلى الحجاز، فأمر قطع لسانه، ورحل من الغوار يوم الخامس والعشرين من شوال، فوصل الكرك مستهل ذي القعدة، وتوجّه في سادسه إلى الشوبك، ورحل منها في الحادي عشره، فوصل المدينة النبوية على ساكمنها أفضل الصلاة والسلام في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وأحرم، وقدم مكة شرفها الله تعالى في خامس ذي الحجة، وبقي كأحد الناس لا يحجبه أحد، وغسل الكعبة بيده، وحمل الماء في القرب على كتفه، وغسل البيت، وجلس على الباب الكعبة الشريفة، فأخذ بأيدي الناس، وسبل البيت الشريف للناس، وكتب إلى صاحب اليمن كتابا يقول فيه: سطرتها من مكه، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة، يعني بالخطوة المنزلة، وقضى حجه، وحلق ونحر، ورتب شمس الدين مروان نائبا بمكة، وأحسن إلى أميرها، وإلى صاحب ينبع، وصاحب خليص وزعماء الحجاز، وعاد، فكان خروجه من مكة ثالث عشر ذي الحجة، ووصوله إلى المدينة في العشرين منه، ووصل إلى الكرك سلخ ذي الحجة، ولم يعلم به أحد إلى أن وصل إلى قبر جعفر الطيار، رضي الله عنه، ودخل الكرك لابسا عباءة، راكبا هجينا، فبات بها ليلة، وأصبح متوجهّا إلى الشام جريدة.

ذكر بقية الحوادث

وقال بيبرس: في مستهل المحرم من سنة ثمان وستين وستمائة عاد السلطان من الكرك، وتوجه إلى دمشق جريدة، وحضر إلى اليدان بغتة، وتوجه من نهاره إلى حلب فدخلها والأمراء في الموكب، فما عرفه أحد، وبقي بينهم ساعةً حتى عرفوه، ونزل بدار نائب السلطنة، وشاهد القلعة، وعاد إلى دمشق، فوصلها في ثالث عشر المحرم من سنة ثمان وستين، وتوجه إلى القدس الشريف والخليل زارهما، وكان العسكر قد سبقه صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني إلى تل العجول، فوصل إلى المنزلة المذكورة، فصل الجمعة في الكرك، والجمعة الثانية في حلب، والجمعة الثالثة في دمشق، ورحل من تل العجول فدخل قلعة القاهرة في الثالث صفر من سنة ثمان وستين، وفي ثامن عشره توجه إلى الإسكندرية، وفي طريقه دخل البرية متصيداً، وضرب حلقا على الكحيليات فصار في كل حلقة منها ما يقارب حمسمائة غزال وأقل وأكثر، ومن النعام وبقر الوحش كثير، فكان كل من أحضر غزالا أعطي بغلطاقا، ومن ضرب نعاما أو بقرا أعطي فرساً، ففرق من الخيل والخلع شيئاً كثيرا، ووصل إلى مكان يعرف بقصر فارس، وعاد إلى الإسكندرية، فأقام أياما، وفرق تعابى القماش على الأمراء، ووصلهم بالهبات، وعمهم بالصلات. وقال ابن كثير: لما وصل السلطان إلى مكة تصدق على المجاورين بها، ثم وقف بعرفة، وطاف للإفاضة، وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده، ثم وقف بباب الكعبة يتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم كأحدهم، ثم رجع فرمى الجمرات، ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية. ثم ساق إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة وأرسل 553 المبشر إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الأمير جمال الدين أقوش النجيبي ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا بالسلطان الملك الظاهر بنفسه يسير في الميدان، فتعجب الناس من سرعة مسيره وصبره وجلده، ثم ساق حتى دخل حلب ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماة، ثم رجع إلى دمشق، ثم عاد إلى مصر فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر في سنة ثمان وستين وستمائة. وقال في ذلك القاضي محي الدين بن عبد الظاهر أبياتا منها: حتى أتاها ظاهرٌ ملكٌ إذا ... شاء اختفى فأموره تتلبس بينا تراه في الحجاز إذا به ... في الشام للحج الشريف يقدس وتراه في حلب يدبر أمرها ... وتراه في مصر يذب ويحرس ويلوح في حج عليه عباءةٌ ... ويلوح في عز وعليه أطلس لا يزال للدنيا يسوس أمورها ... ويشيد الأخرى بها ويؤسيس ومنها: أن السلطان أنعم على ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين الحلي بإمرة، ولم يتعرض إلى ما خلفه أبوه من المال الموجود. ومنها أن السلطان تسلم بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وقرر له عوضا عنها بلدا من بلاد صهيون، فقالوا: كانت خمس قرايا تعمل ثلاثين ألف درهم. ذكر بقية الحوادث منها: أنه وردت الأخبار بأن زلزلة حدثت في بلاد سيس وأخرجت قلاعها مثل سرفندركار وحجر شغلان وقتلت جماعة. ومنها: أنه توجه المغيرون من البيرة وغيرها إلى جهة كركر، وأحرقوا بيذرها، واستاقوا مواشيها، وتوجهوا إلى قلعة بينها وبين الكختا إسمها شرموساك، فزحفوا عليها، وقتلوا رجالها. ومنها: أنه كان المصاف بين أبغا وبين براق، فكانت الهزيمة على براق وأصحابه، فغنموا وأسروا منهم وقتلوا، ونجا براق بنفسه مع بعض أصحابه، وبراق هذا هو ابن يسنتاي ابن ما ينقان بن خغطاي بن جنكزخان. وقيل: إن أبغا إنما أوقع به بعد الإيقاع بتكدار، لأنه ابن عمه، وكانا قد اتفقا على حربه.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها 554 أن يعقوب المريني أخذ في هذه السنة مدينة مراكش، وذلك أنه توجه إليها بمن معه، فجمع أبو دبوس جماعة عظيمة من العربان والفرنج والموحدين وغيرهم، فالتقى مع بني مرين، فكانت الكسرة عليه، فقتل وعلق رأسه على سور مدينة فاس، واستولى المريني على مراكش من التاريخ المذكور، ثم تجهز لفتح البلاد أولا فأولا، وسار إلى جبال الموحدين وهي: سكسيرة، ناروديت، صنجابة، وكراكة، بلاد السوس الأفصى، وأقام بالسوس وبها عرب يقال لهم أولاد ابن حسان، والشامات، فدخلوا في طاعته، وساروا في خدمته إلى لمطة، وهي آخر المعمورة مما يلي شط البحر المحيط، وفتح أولا فأولا، ورتب أحوال البلاد، وقرر قواعدها، ورجع إلى سجلماسة. ومنها: في آخر ذي الحجة هبت ريح شديدة بديار مصر غرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هنالك مطر شديدٌ جداً، وأصاب الشام من ذلك صقعةٌ أهلكت الثمار. ومنها: أن أهل حران خرجوا منها وقدموا الشام، وكان فيهم الشيخ الإمام العلامة تقي الدين بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخواه زين الدين عبد الرحمن، وشرف الدين عبد الله وهما أصغر منه. ومنها: أنه وردت كتب الشريف نجم الدين أبو نمى يذكر فيها أنه شاهد من عمه الشريف بهاء الدين إدريس بن قتادة ميلا إلى صاحب أيمن، وتحاملا على دولة السلطان، فأخرجه من مكة وانفرد بالإمرة، وخطب للسلطان، وكتب له تقليد الإمرة وفيها: " ... ... ... ... ". وفيها: حج بالناس " ... ... ... ... ". ذكر من توفي فيها من الأعيان شرف الدين أبو الطاهر محمد بن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية المصري. ولد سنة عشر وستمائة، وسمع أباه جماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وكان فاضلا، مات في العشرين من شهر رمضان بالقاهرة، ودفن بالقرافة. القاضي تاج الدين أبو عبد الله بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي. درس وأفتى وناب عن ابن 555 عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على المصاطب فجاءة، ودفن بقاسيون. الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدره الرحبي، شيخ الأطباء بدمشق، ومدرسة الدخوارية عن وصية واقفها له بذلك، لتقدمه في هذه الصناعة على أقرانه وأهل زمانه. ومن شعره: يساق بني الدنيا إلى الحنف عنوة ... ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي كأنهم الأنعام في جهل بعضها ... بما تمَّ من سفك الدماء على البعض الشيخ نصير الدين المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبو البركات بن الطباخ الشافعي. العلامة في الفقه والحديث، ودرس، وأفتى، وصنف وانتفع به ناس، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته بالقاهرة في الحادي عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن خارج باب النصر. الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المغربي النحوي، الملقب بسيبويه. كان فاضلا، بارعا في صناعة النحو، توفي بالمارستان بالقاهرة. ومن شعره: عذبت قلبي بهجر منك متصل ... يامن هواه ضمير غير منفصل ما زادني غير تأكيد صدودك لي ... فما عدولك عن عطفٍ إلى بدل الشيخ أبو الفضائل محمد بن أبي الفتوح نصر بن غازي بن هلال بن عبد الله الأنصاري، المقرئ الحريري. مات في الثالث من المحرم من هذه السنة بالقاهرة، ودفن من يومه ظاهر باب البرقية، ومولده في مستهل المحرم سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بباها من أعمال كورة كوش، سمع وحدث. الشيخ المسند أبو الطاهر إسماعيل بن الشيخ أبي محمد عبد القوي بن أبي العز عزون بن داود بن عزون بن الليث بن منصور الأنصاري، الغزي الأصل، المصري المولد والدار، الشافعي، المنعوت بالزين. مات في ليلة الثاني عشر من المحرم من هذه السنة بمسجد الذخيرة ظاهر القاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم، ومولده في سنة تسع وثمانين وخمسمائة تقديرا، سمع الكثير وحدث. الشيخ الفقيه الإمام أبو الحسن علي بن أبي العطايا وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي، المنعوت بالمجد. وكان أحد العلماء المشهورين، 556 والأثمة المذكورين، جامعا لفنون من العلم، معروفا بالصلاح والدين والخير، توفي في الثالث عشر من المحرم بمدينة قوص من صعيد مصر الأعلى، ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بمنفلوط من صعيد مصر.

السنة الثامنة والستين بعد الستمائة

الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن رجا التنوخي الإسكندراني، العدل بالإسكندرية. مات في السادس والعشرين من المحرم بالإسكندرية، ودفن من الغد بين الميناءين، سمع وحدث، وناب في الحكم بثغر الإسكندرية. الشيخ الصالح المحدث أبو الفتح محمد بن أبي بكر الكوفني الأبيوردي الصوفي الشافعي. كان من أهل الدين والصلاح والعفاف. مات في ليلة الحادي عشر من جمادى الأولى بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم، سمع كثيرا وحدث، وخرج لنفسه معجما عن مشايخه الذين سمع منهم، ووقف كتبه. والكوفني: بضم الكاف وسكون الواو وفتح الفاء وبعد النون ياء النسب، نسبة إلى كوفن بلدة قريبة من أبيورد. الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحوراني. كان أحد المشايخ المشهورين الجامعين بين العقل والدين والتجرد والإنقطاع، توفي في هذه السنة بالمدينة النبوية. الأمير الكبير عز الدين أيدمر بن عبد الله الحلي الصالحي. كان من أكابر الأمراء، وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر بيبرس، كان يستنيبه في غيهته، ولما كانت هذه السنة أخذه معه، وكانت وفاته في قلعة دمشق، ودفن بتربته بالقرب من اليغموريّة، وخلف أموالا جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان في عزائه بجامع دمشق. فصل فيما وقع من الحوادث في السّنة الثامنة والسّتين بعد السّتمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسيّ، وهو متوطن بالقاهرة. وسلطان البلاد المصرية والشاميّة: الملك الظاهر بيبرس الصالحي، وكان قد وصل إلى دمشق من الحجاز الشريف في ثاني محرم هذه السنة على الهجن، ثم راح إلى حلب فدخلها في سادس الشهر، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار إلى مصر فدخلها في ثالث صفر من هذه السنة، كما ذكرناه مفصلا في السنة الماضية. ذكر خروج السّلطان الملك الظاهر إلى جهة الشّام ولما دخل السلطان الديار المصريّة في ثالث صفر من هذه السنة، بعد عوده من الشام، جاءته الأخبار بحركة التتار، وأنهم تواعدوا مع الفرنج الساحليّة، وأغاروا على الساجور قريبا من حلب، واستاقوا مواشي العربان، فجهز الخروج أيضا ولكنه أراح العسكر مديدةً، ثم خرج جريدة في ليلة الأثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، ووصل إلى غزة ثم منها إلى دمشق، فانهزم التتار، وكان مقدمهم صمغار. وقال ابن كثير: وفي تاسع عشر شهر ربيع الآخر منها وصل السلطان الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق في طائفة من جيشه، وقد لقوا في الطريق مشقّة كبيرة من البرد والوحل، وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكّا يتقصد جيش المسلمين، فركب إليه سريعا، فوجده قريبّا من عكّا، فأسره وأسر جماعة من أصحابه، وقتل آخرين. وقال بيبرس: وفيها أغار السلطان على مرج يعقوب وما حول عكا، وأسر من محتشمى الفرنج جماعةً، وقتل نائب فرنسيس بعكا، ولم يعدم من عسكر الإسلام إلا الأمير فخر الدين الطوينا الفائزي، وعاد السلطان ورءوس القتلى قدامه تحملها أساراهم على الرماح إلى صفد، وتوجه إلى دمشق، ثم إلى حماة، ثم إلى كفر طاب، وتوجّه إلى حصن الأكراد في مائتي فارس، فخرج إليه جماعة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم السلطان، فكسرهم، وقتل منهم جماعة. ذكر استيلائه على حصون الإسماعيليّة وكان السلطان رحمه الله قد أبطل رسوم الإسماعيلية التي كانت تجى إليهم، واستأدى الحقوق من مراكبهم، وكسر شوكتهم ومضايقتهم، وحضر إليه صارم الدين مبارك بن الرضى العليقة، وقلده السلطان بلاد الدعوة، وعزل نجم الدين الشعراني الملقب بالصاحب وولده منها لأنه لم يحضر إلى الخدمة، ونعت صارم الدين بالصاحب، وأرسل معه عسكرا إلى مصياف، فتسلّمها في العشر الأوسط من رجب من هذه السنة، وهي كرسىّ مملكتهم، وهي مقّر الفداويّة، فعند ذلك حضر الصاحب نجم الدين إلى الأبواب السلطانية، وهو شيخ كبير جداً، فرحمه السلطان ورقّ له، وولاّه النيابة شريكا لابن الرضى، فإنه صهره، وقرر عليه حمل مائة وعشرين ألف درهم في كل سنة، وعاد السلطان من جهة حصن الأكراد، فدخل دمشق في الثامن والعشرين من رجب. ذكر عود السلطان إلى الديار المصريّة

ذكر ما حصل في البلاد

ولما دخل السلطان دمشق في التاريخ المذكور بلغه أن الفرنج أخذت من ميناء الإسكندرية مركبين، فخرج سريعا من دمشق إلى الديار المصريّة، وعبر في طريقه على عسقلان، وعفّى آثاره، ورمي حجارتها في مينائها، ثم وصل إلى مصر ودخل قلعته، ثم استفاضت الأخبار بقصد الفرنج بلاد الشام، وجهّز السلطان العساكر المنصورة لقتالهم، وهو ذلك مهتّم بمدينة الإسكندريّة، وقد حصّنها، وعمل جسورة إليهما إن دهمها العدّو. وقال بيبرس في تاريخه: بلغ السلطان أن الفرنسيس، هو لويس بن لويس، والنكتار، وملك اسكوسنا، وملك نورك وهي بلاد السنافر، والبرشنوني واسمه ربدراكون، وغيرهم من ملوك الفرنج، اجتمعوا على صقليةّ، وشرعوا في تجهيز المراكب، ولم يعلم مقصدهم، فاهتم السلطان بالثغور والشواني، وحفظ الواحل والمواني، وعّمر الجسور إلى دمياط، وأنشأ القناطر، وكان قصد الفرنج بلد تونس، فساروا إليها ونزلوا على المعلّقة، فاجتمع الموحدون والعربان وغيرهم من المسلمين، فقاتلهم الفرنج وضايقوهم، فأراد الله هلاك الملك الفرنسيس، فلما مات رحلوا طالبين بلادهم، وأراح الله المسلمين منهم. ذكر ما حصل في البلاد منها: أنه حصل من الفرنج مضايقة عظيمة لابن الأحمر بالأندلس، وأتوا على أكثر ما في يديه من البلاد. وابن الأحمر يسمى محمد بن نصر، أصله من مدينة جيّان بالأندلس، وهو ينتمي إلى الأنصار، وسبب ظهوره بالأندلس أنه كان يخدم منويل عمّ الفونس، فلما ضعفت دولة الموحدين أصحاب عبد المؤمن ووهت مملكتهم باستيلاء المريني عليها، وثب أهل الأندلس بمن كان عندهم من الموحدين أصحاب عبد المؤمن فقتلوهم عن آخرهم، وثار شخص يسمّى سيف الدولة محمد بن هود بالأندلس ولقب نفسه الخليفة، وتعرض إلى بعض البلاد التي في يد الفونس محمد بن نصر بن الأحمر، فكان كما قيل: ولكل شئٍ آفة من جنسة ... حتى الحديد سطا عليه المبرد فاستظهر ابن الأحمر على ابن هود، وكفّ عادته عن الفونس، واستفنح له بلاداً كثيرة، وقويت شوكته، وانتهى إلى غرناطة واستولى عليها، فلما استقّر وأمن على نفسه خلع طاعة الفونس، واستبدّ بما في يده، وطالت مدته، واتفقت وفاته في سنة سبعين وستمائة. ومنها: أن أبا دبوس آخر الملوك من بني عبد المؤمن قتل في هذه السنة، وانقرضت بقتله دولتهم، وملكت بلادهم بعدهم بني مرين، وكان قتله في حرب بينه وبين مرين بني، واسم أبي دبوس: إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف صاحب مراكش. ومنها: أنه حصل بين منكوتمر بن طغان ملك التتار بالبلاد الشمالية وبين الأشكري صاحب قسطنطينيّة وحشة، فجهّز منكوتمر إلى القسطنطينّة جيشا من من التتار، فوصلوا إليها وعاثوا في بلادها، ومروّا بالقلعة التي بها عز الدين كيكاوس بن كيخسرو سلطان بلاد الروم، وكان محبوسا بها كما ذكرنا في سنة إثنتين وستين وستمائة، فحمله التتار بأهله ونسائه إلى منكوتمر، فتلقاه بالإكرام وعامله بالإحترام، وأقام في بلاد قرم، وزوجه بإمرأة من أعيان نسائهم تسمّى أرباي خاتون من بنات بركة، ولم يزل إلى أن توفي في سنة سبع وسبعين وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فسار ابنه مسعود بن عز الدين إلى بلاد الروم، وصار سلطان الروم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال بيبرس في تاريخه: خهّز منكوتمر جيشا إلى إصطنبول، وقصد أخذها من الأشكري لموجدة صارت بينهما، فوصل العسكر المذكور إلى إصطنبول في زمن الشتاء، وعساكر باليلوغوس متفرقة في البلاد، وكان رسول السلطان الظاهر إذ ذاك الوقت عند الأشكري، وهو الفارس المسعودي، فخرج إلى جيوش التتار وتحدّث مع مقدّمهم وقال: أنا رسول الملك الظاهر صاحب مصر، متوحّه إلى الملك منكوتمر، وأنتم تعلمون أن لصاحب إصطنبول صلح0 مع السلطان، وان مصر إصطنبول، إصطنبول مصر، وبين أستاذي وأستاذكم الملك منكوتمر صلح، فارجعوا ههنا، فاغتروا بقوله، ورجعوا عن إصطنبول وعبروا ببلادها، فنهبوا ماشاءوا، ومروا بالقلعة التي كان السلطان عز الدين كيكاوس صاحب الروم مسجونا، فأخذوه وحملوه إلى منكوتمر، كما ذكرناه الآن، وأما المسعودي فإن الأشكري أنعم عليه بمال وقماش وتوجه إلى منكوتمر فهم بضربه لكونه صد جيشه عن إصطنبول وردهم دون بلوغ المأمول، فشفع فيه فعفا عنه، ولما عاد إلى الملك

ذكر من توفى فيها من الأعيان

الظاهر خاف على نفسه من هذه الجريرة، واتفق وصول بعض التجار، فأخبر السلطان بهذه الأخبار، فقبض عليه وضربه وعتقله. ومنها: أن أبا نمى صاحب مكه وثب بعمه إدريس بن قتادة فقتله، واستبد بالإمرة على مكة، شرفها الله. وفيها: "............. " وفيها: حج بالناس "............... " ذكر من توفى فيها من الأعيان الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن زيد بن مالك المصري، المعروف بابن الزبير. كان فاضلا، رئيسا، وزر للملك المظفر قطز، ثم للملك الظاهر في أول دولته، ثم عزله وولىّ بهاء الدين بن الحنّا، فلزم منزله حتى أدركته المينّة في الرابع عشر من ربيع الآخر، وله نظم جيدّ. الشيخ موفق الدين أحمد بن القاسم بن الخزرجي، المعروف بابن أبي أصيبعة. له تاريخ الأطباء في عشر مجلدات لطاف، وهو وقف بمشهد أبي عروة، وكانت وفاته بصرخد، وقد جاوز السبعين. الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد ابن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر أبو العباس المقدسي النابلسي. تفّرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد سمع الحديث، ورحل إلى بلدان شتى، وكان فاضلا، يكتب سريعا، وحكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة، وخطه حسن، قوي، حلو، وكتب تاريخ ابن عساكر مرتين، واختصره لنفسه أيضا، وأضر في آخر عمره أربع سنين، وله شعر جيد، وكانت وفاته بسفح قاسيون، وبه دفن، في بكرة الثلاثاء عاشر رجب، وقد جاوز التسعين. قاضي القضاة محي الدين أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة محي الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، القرشي الأموي، ابن الزكي. تولى قضاء دمشق غير مرة، وكذلك آباؤه، كل وليها، وقد سمع الحديث من حنبل، وابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وجماعة، وحدث، ودرس في مدارس كثيرة، وقد ولى القضاء في الدولة الهلاونية فلم يحمد، على ما ذكره أبو شامة، وكانت وفاته بمصر في الرابع عشر من رجب، ودفن بجبل المقطم، وقد جاوز السبعين، وقد كان فاضلا، وله شعر جيد قوي. ومن شعره: قالوا أما في جلق برهة ... تسليك عن من أنت به مغراً يا عاذلي دونك من لحظه ... سهما ومن عارضه سطرا وحكى الشيخ قطب الدين في ذيله عن ولده القاضي شهاب الدين: أن والده كان يذهب إلى تفضيل علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه موافقة لشيخه محي الدين بن عربي. الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان بن الحنا المصري. كان وزير الصحبة، وقد كان فاضلا، بنى رباطا بالقرلفة الكبرى، ودرس بمدرسة والده بمصر، وبالشافعي بعد ابن بنت الأعز، وقد كانت وفاته في شعبان، ودفن بسفح المقطم، وفوض السلطان وزارة الصحبة إلى ولده تاج الدين. الشيخ أبو النصر محمد بن 562 الحسن الحرار الصوفي البغدادي الشاعر. له ديوان حسن، وكان جميل المعاشرة، حسن الذاكرة، دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له، وأنشده قوله: نهض القلب حين أقبلت ... إجلالا لما فيه من صحيح الوداد ونهوض القلب بالود أولى ... من نهوض الأجساد للأجساد الشيخ الأصيل أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الحسن بن الحافظ مؤرخ الشام المعروف بابن عساكر. وهو من بيت الحفظ والعلم والحديث، توفي فيها بدمشق. الشيخ المحدث المسند أبو العباس أحمد بن عبد الدائم، توفي فيها بدمشق. الشيخ القاضي تقي الدين أبو التقي صالح بن الحسين الهاشمي الجعفري. كان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره، وتولى الحكم بمدينة قوص ونظرها أيضا، وله خطب حسنة، ونظم جيد، وتصانيف عدةٌ، توفي في هذه السنة بالقاهرة. الطواشي جمال الدين محسن الصالحي النجمي، شيخ الخدام بالمدينة النبوية بحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي في هذه السنة. إدريس بن قتادة، وثب عليه ابن أخيه أبو نمى صاحب مكة فقتله، واستبد بالأمرة على مكة، شرفها الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والستين بعد الستمائة

ذكر سفرة الظاهر ثاني مرة

استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي. وسلطان الديار المصرية والشامية: الملك الظاهر بيبرس الصالحي النجمي، ففي مستهل صفر منها ركب وتوجه إلى الشام، واستحب معه ولده الملك السعيد، والأصح أنه ما استصحب ولده إلا في السفرة الثانية، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، ومعه طائفة من العسكر، وجاز على عسقلان، وهدم ما بقي من سورها، مما كان أهمل، ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألف دينار، ففرقهما على الأمراء. وجاءت البشارة هناك بأن منكو تمر كسر جيش أبغا، ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة مؤيداً منصورا. ذكر سفرة الظاهر ثاني مرة وفيها توجه السلطان الظاهر إلى الشام، واستصحب معه ولده الملك السعيد، والوزير بهاء الدين بن حنا، وجمهور الجيش، ودخل دمشق يوم الخميس ثامن رجب 563 في أبهةٍ عظيمة وابنه الملك السعيد قدامه، وكان يوماً مشهوداً، وفي طريقه شن الإغارة على طرابلس، واتصلت غارته بصافيتا، وجرد فرقه من العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير فخر الدين بيليك الخزندار الظاهرى، وسير صحبتهما الملك السعيد ولده، فأغاروا على ناحية المرقب، فعند عود السلطان من الغارة على طرابلس عاد الملك السعيد ومن معه من الغارة على جهة المرقب، وتوافوا ونزلوا على حصن الأكراد في تاسع شهر شعبان من هذه السنة ذكر فتح حصن الأكراد ونزل السلطان عليه في تاسع الشهر المذكور، وجد في خصاره وقتاله، فلما كان العشرون منه أخذت أرباضه، وزاحفة العساكر، فطلبوا القلعة وتسلموها، وطلع الفرنج إلى القلة، ثم طلبوا الأمان، فأجابهم إليه، فخرجوا وجهزوا إلى بلادهم في الرابع العشرين منه، وتسلم السلطان الحصن، وكتب إلى مقدم الإسبتار صاحب الحصن كتابا نسخته: هذه المكاتبه إلى أفريرأوك، جعله الله من لا يعترض على القدر، ولا يعاند من سخرّ لجيشه النصر والظفر، ولا يعتقد أنه ينجي من أمر الله الحذر، ولا يحمي منه محجور البناء، ولا مبني الحجر، تعلمه بما سهّل الله من فتح حصن الأكراد الذي حصنته وبنيته وخليته، وكنت الموفق لو أخليته، واتكلت في حفظه على إخواتك فما نفعوك، وضيّعتهم بالإقامة فيه فضيعوه، وضيّعوك، وما كانت هذه العساكر تنزل على حصن ويبقى، أو تخدم سعيداً وتسقي. وقال ابن كثير: وكان الذي حاصره ابن السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومن عليهم، وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح فأخلاها أيضا، وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة، وولى فيها نائبا وقاضيا، وأمر بعمارة البلد. وبعث إليه صاحب أنطرسوس واسمه كمندور، ومقدم بيت الإسبتار وسألا الصلح، فأجابهم السلطان إلى الصلح على أنطرسوس والمرقب خاصةً خارجا عن صافيتا وبلادها، واسترجع منهم بلدة وأعمالها، وما أخذوه في الأيام الناصرية، وعلى أن جميع ما لهم من الحقوق والمناصفات على بلاد الإسلام يتركونه، وعلى أن تكون البلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين الإسبتار، وعلى أن لا تجدد عمارة المرقب، وحلف لهم على ذلك، وأخلو قرفيص، وأحرقوا ما لم يمكن حمله. وقال ابن كثير: لما فتح الملك السعيد بن الظاهر حصن الأكراد جعل كنيستها جامعا وأقام فيه الجمعة، وولى السلطان فيه نائبا وقاضيا، وأمر بعمارة البلد، ثم أنه بلغ السلطان وهو مخيم على حصن الأكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا عليهم من الملك الظاهر، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة، فبعث جيشا كثيفا في سبعة عشر شينيا ليأخذوا جزيرة قبرس في غيبة صاحبها عنها، فسارت المراكب مسرعةً، فلما قاربت الجزيرة جاءتها ريح قاصف، وصادفت بعضها بعضا، فتحطم منها أحد عشر مركبا بإذن الله عز وجل، فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريب من ألف وثمانمائة إنسان إنا لله وإنا إليه راجعون.

ذكر فتح عكار

وقال بيبرس في تاريخه: هذه الطّامة التي حصلت على المسلمين بعد فتح القرين، فقال: خرج السلطان من دمشق بعد فراغه من الجهات التي ذكرناها في العشر الآخر من شوال، وسار إلى القرين ونازله في ثاني ذي القعدة، وأخذت باشورته، وسأل من فيه الأمان، فكتب لهم أمانا، وتقرّر خروجهم وتوجّههم حيث شاءوا، وأنهم لا يستصبون مالا ولا سلاحا، وتسلّم السلطان الحصن وأمر بهدم قلعته، ثم سار عنه ونزل اللجون، وتقدمت مر اسمه إلى البواب بالديار المصريّة وتجهيز الشواني وتسفيرها إلى قبرس، فجهزهّا البواب، وسفّروها صحبة مقدم البحر ورؤساء الخلافة، فلما وصلت إلى مرسى النسمون تحت قبرس جنهّا الليل، وتقدّم الشيني الأّول داخلا على أنه يقصد الميناء، فصادف الشعاب في الظلماء، فانكسر، وتبعه الشواني واحدا فواحدا، ولم تعلم بما أصابه، فانكسروا في دجى الليل جميعا، وأسرهم أهل قبرس، وكان ابن حسون المقدّم قد أشار برأي، تطيّر الناس منه، وهي أن تطلى الشواني بالقار، ويعمل عليها الصلبان لتشبته على الفرنج بشوانيهم، فيتمكن من موانيهم، فاقتضى تغيير شعارها بما أراد الله من انكسارها. وورد كتاب صاحب قبرس إلى السلطان يخبر بأن شواني مصر وصلت إلى قبرس، وكسرها الريح وأخذتها، وهي أحد عشر شينيا، فأمر السلطان بأن يكتب جوابه، فكتب إليه هذه المكاتبة: إلى حضرة الملك أوك دلزنيال، جعله الله ممن يوفى الحق لأهله، ولا يفتخر بنصر إلا أني قيله أو بعده بخير منه أو مثله، نعلمه أن الله إذا أسعد إنساناً دفع عنه الكثير من قضائه باليسير، وأحسن له التدبير فيما جرت به المقادير، وقد كنت عرفتنا أن الهواء كسر عدةً من شوانينا وصار بذلك يتجج، وبه يقرح، ونحن الآن نبشره بفتح القرين، وأين البشارة بتملك القرين من البشارة بما كفى الله ماكنا من العين، وما العجب أن يفخر بالاستيلاء على حديد وخشب، الاستيلاء على الحصينة هو العجب، وقد قال وقلنا، وعلم الله إن قولنا هو الصحيح، واتكل واتكلنا، وليس من اتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح، ونحن ننشئ في يوم واحد عدّة قطائع، ولا ينشأ لكم من حصن قطعة، ونجهزّ مائة قلع ولا يجهزّ لكم في مائة سنة قلعة، وكلّ من أعطى مقداف قذّف، وما كلّ من أعطى سيف أحسن الضرب به أو عرف، وإن عدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، وأين الذين يطعنون بالقاديف في صدر البحر من الذين يطعنون بالرماح في صدر الصفوف، وأنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول، وفرق بين من يجريها كالبحار ومن تقف به في الوحول وفرق بين من يتصيد الصقور من الخيل العراب، وبين من إذا افتخر قال: تصيدت بغراب، فائن كنتم أخذتم لنا قرية مكسورة فكم أخذنا لكم قرية معمورة، وإن استوليتم على سكان فكم أخلينا بلادكم من سكان، وقد كسبت وكسبنا، فترى اينّا أغنم، ولو أن في الملك سكوتا كان الواجب عليه أن سكت وما تكلم. ذكر فتح عكّار نزل السلطان على عكار في سابع عشر رمضان المعظم ومهد الطرقات لطلوع المجانيق، واستدّ أهله في المناضلة ورمى الحجارة والمجانيق، واستشهد عليه ركن الدين منكورس الدوادارىّ، وكان يصلي في خيمته، فجاءه حجر فمات من وقته، وشددّت العساكر لحصار، وأخذوا النقوب تحت الأسوار، فلما رأوا أنهم عاجزون عن مقايلتهم طلبوا الأمان ورفعت عليه السناجق، وخرجت أهله في سلخ الشهر، فجهّزوا إلى مأمنهم: وعيّد السلطان بها عيد الفطر، ثم رحل إلى مخّيمه بالمرج، فقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في ذلك: يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الإرادة إن عكار يقينا ... هي عكّا وزيادة وكان هذا الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهي في وادي بين جبال. ثم إن السلطان نفق العساكر بنفقة كاملة، ثم بعد التفقة سار طالبا مدينة طرابلس، وقد أمر العساكر فلبسوا الجواشن والخزذ، وساروا بأهبة الحرب، وأحاطوا بطرابلس إحاطة الهالات بالأقمار، والأكمام بالأثمار، فلما عاين برنس طرابلس قدوم العساكر وهجوهمهم كا لسيل الهامر أرسل يسال الصلح، فأجابه السلطان إليه.

ذكر فتح القرين

وقال ابن كثير: أرسل إليه صاحبها يقول: ما مرادك أيها السلطان في هذه الأرض؟ فقال: جئت لأرعى زرعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآني إن شاء الله تعالى، فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع الحرب بينهم عشر سنين، فأجابه إلى ذلك. وأرسل إليه الإسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجونا بالقاهرة، فقال: سلموا إلى العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة وتسلّموا آباكم، فلما نزلوا أمر بحبسهم في القاهرة، وقد استناب بحصن العليقة، وخرجت من يد الإسماعيلية من ذلك الوقت. ثم رجع السلطان ودخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال من هذه السنة، وعزل القاضي شمس الدين بن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين، وولى القضاء عز الدين بن الصائغ، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس، بسفارة الوزير بهاء الدين بن الحنّا ورأيه، فسافر ابن خلكان في ذي القعدة إلى الديار المصريّة. وفي حادي عشر شوال دخل الشيخ خضر الكردي شيخ السلطان وأصحابه إلى كنيسة اليهود، فصلوا فيها، وأزالوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدّوا فيها سماطا، وعملوا سماعا، وبقوا كذلك أياما، ثم أعيدت إلى اليهود. ذكر فتح القرين خرج السلطان من دمشق في العشر الآخر من شوال وأني إلى الساحل، ثم سار إلى القرين ونازله، وأخذ باشورته في ثاني ذي القعدة، وقد ذكرنا بقية الكلام الآن، فحاصله أنه أخذ الحصن وأمر بهدم قلعته، ثم سار عنه ونزول اللجون، وتقدمت مراسيمه إلى النواب بالديار المصّرية بتجهيز الشواني، وقد ذكرناه مفّصلا عن قريب، ثم إن السلطان جاء إلى عكّا وأشرف عليها وتأملّها، ثم سار إلى الديار المصريّة. وكان مقدار ما غرمه في هذه السرحة والغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة. ولما دخل القاهرة أمر بعمارة الشواني وباشرها بنفسه، فعمّر في أقرب مدة ضعفي ما أنكسر. وفي اليوم الثاني من وصوله مسك السلطان جماعة من كبار الأمراء منهم: علم الدين سنجر الحلبي، وعز الدين إيغان سم الموت، أقوش المحمدي وغيرهم، بلغه أنهم أرادوا أن يفتكوا به وهو على الشقيف. وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده، وتهدّد من يعصرها بالقتل، وأسقط الضمان في ذلك، وكان بالقاهرة وحدها ألف دينار، وسارت البرد بذلك إلى الآفاق بأمر بذلك. ذكر بقية الحوادث منها: أن في ربيع الأول بلغ السلطان الملك الظاهر أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبراً بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسارى عكا، فغرقوا جميعهم، وكانوا قريباً من مائة نفر. ومنها: أن في الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الأخر أقيمت الخطبة في جامع المنشية، بحسب كمال بنائه. ومنها: أن في يوم الأحد الثاني عشر من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق، فأتلف شيئاً كثيراً، وغرق بسببه أناس كثيراً أيضاً لا سيما الحجاج من الروم، أخذهم وجمالهم فهلكوا، وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء من مرامى السّور ومن باب الفراديس، فغرق خان بن مقدّم، وأتلف شيئاً كثيراً، وكان ذلك في زمن المشمش، وفي تاريخ بيبرس: أتى على كل شئً فجعله كالرميم، وطلع في سور دمشق قدر رمح، وأغرق في حيوانات كثيرة، وأفسد عدة آدر بدمشق، وأغرق من العالم مالا يحصى، ونضب، فلم يعلم من أين اجتمع وإلى أين ذهب، ويقال إنه هلك هب تقدير عشرة آلاف نفس، وأخذ الطواحين بحجارتها. ومنها: أن صاحب صور سأل الصلح فأجيب، وتقرر الصلح، وحصل الإنفاق على أن يكون له عشرة بلاد خاصاً، ويكون للسلطان خمس بلاد يختارها خاصاً وبقية البلاد مناصفة. ومنها: أنه ورد كتاب نيسو نوغاى قريب الملك بركة، وهو أكبر مقدمى جيشه، نسخته:

ذكر من توفى فيها من الأعيان

صدر هذا الكتاب: من نيسو نوغاى إلى الملك الظاهر، أحمد الله تعالى على أن جعلني من جملة المسلمين، وصيرني ممن يتبع الدين المستبين، وبعد: فإن كتابنا هذا يحتمل على معنيين: أحدهما: التحية والسلام منا إليك. والثاني: أنا سمعنا من أرفوغاً أنه لصدق عهده مع ابينا بركة خان استخبر عن أولاده وأقربائه ومن أسلم منهم، فلما أخبر هذا الخبر أخلصنا المحبة للملك الظاهر، الوفىّ بالعهود، ما استخباره عنا الا لحميته في الاسلام وصدق نيته في تجديد العهود وكتبنا هذا الكتاب على يد أريتموا وتوق بغا، معلماً أن دخلنا في الإسلام، وآمنا بالله، وبرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيثق بما قلناه، ويستن بسنة أبينا بركة خان، ويتبع الحق، ويجتنب البطلان، ولا يقطع إرسال المكاتبة، فنحن معك كالأنامل لليد، نوافق من يوافقك، ونخالف من يخالف. فكتب جوابه: صدرت هذه المكاتبة إلى سامي مجلس العزيز الأصيل، المجاهد في سبيل ربه، المستضئ بنور قلبه، ذخيرة المسلمين، وعون المؤمنين، نيسونوغا، عمّر الله قلبه بالأيمان، وجعله من أمر ديناه وأخراه في أمان، وعامله بما عامل به التابعين بإحسان، نعلمه بورود كتاٍب منه، سرّ السمع والقلب، وحكم للتوفيق بالغلب، ووجدناه مقصورا على أفهام ما هو عليه من صحة الإعتقاد والإقتفاء لأثر الملك بركة خان في اجتهاد في الدين وجهاد، وهذا كان عندنا منه أمر لا تترك مثله ولا نلغي، وقد تلونا قوله تعالى: ذلك ما كنا نبغ، وحمدنا الله علىأن كثرّ به حزب المؤمنين، وجعله في ذلك الجانب متبتلا لقتال الكافرين، وقد علم أن الرسول جاهد عشيرته الأقربين، وأنكر على من رضى أن يكون مع القاعدين، والقصد التذكار بذلك، وإبلاغ التحيّة لمن في الجانب المحروس، ممّن نور الله بصيرته حتى اهتدى للحق، واقتدى بالملك بركة خان، رضى الله عنه، في جهاده، وداوم على الجهاد، الذي كتب الله لنا أجره، في الغرب، ولهم أجره في الشرق، حتى تنكسر شوكة الكفار، ويعلم الكافر لمن عقبي الدار، ويخذل أنصار المشركين، وما للظالمين من أنصار وتتمنه تتضمن الأشلاء على التتار والإغراء بهم. وفيها: ".............. " وفيها: حج بالناس "................. " ذكر من توفىّ فيها من الأعيان قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص عمر بن عهد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي. ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث، وتفقه، ودرس، وأقى بالصالحية، وولى حسبة القاهرة، ثم ولى قضاء القضاة سنة ثلاث وستين، لما ولّوا من كل مذهٍب قاضيا، وقد مرّ أنه امتنع أشّد المتناع، وإنما أجاب بعد إكراه، وشرط أن لا يأخذ جامكيةّ، وكان مشهورا بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة وغيره، وكانت وفاته لخمس بقين من ذي القعدة بالقاهرة، ودفن بمقابر باب النصر الشيخ عمر السنجاري من أصحاب علي بن وهب. وسبب وفاته: أن الفقراء اجتمعوا في زاوية الشيخ مذكور الجفاري ببلبيس، وكانت ليلة جمعة: ومعهم قّوال يسمى أسد الفاقوسيّ، فقرأ القارئ: أينما تكونوا يدرككم الموت. فتواجد الشيخ عمر المذكور وقام وقعد، فأنشد القّوال: لئن عاد جمع الشمل في ذلك الحمى ... غفرت لدهري كل ذنب تقدّما وإن لم يعد منّيت نفسي بعودةٍ ... وماذا عسى تجدي الأماني وكلّما يحق لقلبي أن يذوب صبابةً ... وللعين أن تجري مدامعها دما على زمنٍ مٍاض بكم قد قطعته ... لبست به ثوب الخلاعة معلما فقام الشيخ وتواجد ووقع إلى الأرض، فانقطع حسّه فحركوه فإذا هو ميت. الشيخ أبو إبراهيم إسحاق بن أبي الثناء محمود بن أبي الفياض بن علي البروجردى الصوفي المشرف، المنعوت بالشمس. مات في ضحوة النهار الخامس من المحرم بالقاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم، ومولده في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وخمسمائة ببروجرد، سمع وحدث، وكان يكتب خطا حسنا، وكان من أكابر مشايخ الصوفية، مشهورا عندهم، مقدما فيهم.

السنة السبعين بعد الستمائة

ابن سبعين قطب الدين أبو محمد عبد الحق أبي إسحاق إبراهيم بن سبعين المرسى الرقوطى، ونسبةً إلى رقوطة بلدة قريبة من سبته. ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلوم الأوائل والفلسفة، فتولد له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنّف فيه، وكان يعرف السيمياء، وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء أنه حال، وله مصنفات منها كتاب الهو، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها أبي نمى، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء، يرتجى فيما نقل عنه أن يأتيه فيه وحي بناء على معتقده الفاسد من أن النبوة مكتسبة، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا ويوم القيامة يردّ إلى أمّه الهاوية، إن كان مات على ما ذكر عنه من العظائم، وكانت وفاته في الثامن والعشرين من شوال بمكة، وقد حط عليه ابن تميية في كتابه المسمى ببغية المراد حّطا شنيعا، عليه وعلى أمثاله ممو ذهبوا إلى الحلول والأتحاد. القاضي شمس الدين إبراهيم بن البازاري، قاضي القضاة بحماة، مات في هذه السنة. الشيخ الفقيه أبو الرضى عمر بن عليّ بن أبي بكر بن محمد بن بركة بن محمد الحنفي، المعروف بابن الموصلي، المنعوت بالرضى. مات في الثاني عشر من شهر رمضان بالقاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم ومولده بميافارقين في سنة أربع عشرة وستمائة، تفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه ودرّس، وأفتى، وحدّث، وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل، المعروفين بالرئاسة، وله نظم حسن، وخطّ جيّد. الأمير شرف الدين أبو محمد عيسى بن الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كامل الكردي الهكاريّ. مات في دمشق في الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بجبل قاسيون، سمع من ابن طبرزد، والكنديّ، وغيرهما، وحدّث، وكان أحد الأمراء المشهورين بالشجاعة، المعروفين بالإقدام، وله وقائع معروفة مع العدّو المخذول بأرض الساحل وغيرهما. الملك تقي الدين عباس بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب. وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي، وابن الحرستاني، وغيرهما، وكان محترماعند الملوك، لا يرفع عليه أحد في المجالس ولا في المواكب، وكان دمث الأخلاق، حسن العشرة، ولا تمل مجالسته، وتوفى يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الأولى بدرب الريحان بدمشق، ودفن بسفح جبل قاسيون. الطواشى شجاع الدين مرشد المظفرى الحموي. كان من الأبطال المشهورين، ذوي الرأى، وكان ابن أستاذه لا يخالفه، وكذلك الملك الظاهر، ومات بحماة ودفن بتربته بالقرب من مدرسته التي بناها بحماة. الملك المجبر هيثوم بن قسطنطين، صاحب سيس. هلك في هذه السنة، وملك بعده ابنه ليفون بن هيثوم الذي كان المسلمون أسروه. فصل فيما من الحوادث في السّنة السبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسىّ. وسلطان البلاد المصريّة والشامية: الملك الظاهر بيبرس البندقدارى الصالحي. وصاحب بلاد الروم: ركن الدين قليج أرسلان السلجوقي، ولكنه تحت حكم التتار. وصاحب البلاد العرافية وخراسان وأذربيجان وغيرها من البلاد: أبغا ابن هلاون. وصاحب البلاد العثماليّة: منكوتمر. وصاحب الغرب: أبو يوسف يعقوب المريني. وفي يوم الأحد الرابع عشر من محرم هذه السنة ركب السلطان الملك الظاهر. إلى البحر لإلقاء الشوانى التي حملت عوضاً عما غرق بجزيرة قبرس، فركب في شيني منها، ومعه الأمير بدر الدين الخازندار، فمال بهم المركب، فسقط الخازندار في البحر، فغاض في الماء، فألقى رجل نفسه وراءه، فأخذ بشعره وأنقذه من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه جزيلا. ذكر سفرة السلطان الملك الظاهر إلى ناحية الشام وفي أواخر المحرم منها، ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكيّة والأمراء من الديار المصرية، فجاء إلى الكرك، واستصحب نائبها عز الدين أيدمر الظاهرى أستاذ الدار معه، ورتب علاء الدين أيدكين الفخري أستاذ الدار نائب السلطنة بها، ثم توجه إلى دمشق فدخلها في الثاني عشر من صفر، ومعه عز الدين أيدمر المذكور، فولاه نيابة دمشق، وعزل جمال الدين أفوش النجيبي في رابع عشر صفر.

ذكر عود السلطان إلى مصر

وفي مستهل ربيع الأول خرج من دمشق فتوجه إلى شيرز وحمص وحصن الأكراد وحصن عكّار وكشفهم، ثم عاد إلى دمشق بعد عشرة أيام، وجاء إليه الأخبار بأن التتار أغاروا على عينتاب، ثم توجهوا إلى عمق حارم، ومقدّمهم يسمىّ صمغار، فوقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وأنطاكية، فاستأصلوهم، فكتب السلطان إلى الديار المصريّة يستدعي الأمير بدر الدين بيسري الشمسي وثلاثة آلاف فارس من العسكر، فوصل البريدي إلى الأمير بدر الدين الثالثة من ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الأول، فتجهز وخرج بكرة الأربعاء هو والعسكر المطلوب، فسافروا ووصلوا إلى دمشق في رابع ربيع الآخر، وأما التتار فإنهم أغاروا على حارم والمروج وقتلوا جماعة، فتأخر نائب حلب والعسكر إلى حماة، وجفل اهل دمشق، فلما وصل البيسري والعسكر إلى دمشق سار السلطان بالعساكر إلى حلب، وجرّد إلى كل جهة عسكرا صحبة أمير من أمرائه، فجرد الحاج طيبرس الوزيريّ وعيسى بن مهنئّ إلى مرعش، فقتلا من وجداه بها من التتار، وانكفّوا بحركة السلطان، وكان الفرنج قد تحركوا بالسّاحل وأغاروا على قانون وقتلوا الأمير حسام الدين أستاذ الدار وبعض من كان معه، فلما لحقتهم العساكر تفرقوا وعادوا، ولما سكّن السلطان هذه الثوائر عاد إلى الديار المصريّة. ذكر عود السلطان إلى مصر ولما فرغ شغله من الشام عاد إلى الديار المصريّة، فوصل إلى قلعة الجبل الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وأقام فيها إلى شعبان ينظر في مصالح المسلمين، ثم خرج. ذكر خروج السلطان من الديار المصريّة إلى الشاميّة ثاني مرة وفي شهر شعبان خرج السلطان وتوجّه إلى أراضي عكا، فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة، فأجابه إلى ذلك، فهادنه عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، ثم عاد إلى دمشق فقرئ كتاب الصلح بدار السعادة، فاستمر الحال على ذلك. وقال بيبرس: وعاد السلطان إلى الشام وخرج من قلعة الجهل في شهر شوال ونزل على الروحاء مقابل عكا لأنه مكان كثير المياه والأعشاب، فحضرت إليه رسل الفرنج، فزادهم ثماني ضياع وأنعم عليهم بشفرغم ونصف اسكندرونة، وتقررت الهدنة مع صاحب قبرس. وفيها: حضرت إليه رسل البرواناه النائب بالروم، ورسل صمغار مقدم التتار المقيم بها، فجّهز الأمير فخر الدين إياز المقرى، والمبارز الطورى أمير طبر صحبة رسلهما بهدية إليهما وإلى أبغا بن هلاون، فدخلا قيساريّة واجتمعا بصمغار والبرواناه وأوصلا اليهما الهديّة، وابلغاهما جواب لرسالة وتوجهّا إلى الأردو، واجتمعا بأبغا وأوصلا إليه هديته وهي جوشن ريش قنفذ، وخوذة كذلك، وسيف، وقوس، وتركاش، وتسع فردات نشابا. وفيها: وصل إلى السلطان الخبر أن الإفرنج المرشيلية أخذوا مركبا في البحر، فيه رسل الملك منكوتمر ملك التتار ببلاد الشمال، والترجمان الذي توجّه إليهم من جهة السلطان، فأحضروهم أسرى إلى عكا، فأرسل إلى الإفرنج يطلبهم منهم، فاطلقوهم وأرسلوهم وما أخذوا له شيئاً. وفيها: سيّرت فداويّة إلى ورد ملك الفرنج بهديّة، فقفز عليه أحدهم فقتله، وقتل الفداويّ لوقته، وكان ذلك جزاء لما فعله من الغارة على قاقون وقتل الحسام أستاذ الدار وجزاء سيّئة سيّئة مثلها. وفيها: توجّه السلطان إلى حصن الأكراد وأمر بعمارتها، وعاد إلى دمشق قدخلها في خامس المحرم من سنة إحدى وسبعين وستمائة، ثم توجه إلى مصر على ما نذكره إن شاء الله في أوّل السنة الآتية. ذكر بقية الحوادث منها: أنه كانت وقعة شديدة بين أبغا بن هلاون وبين براق بن يسنتاى بن ما ينقان بن جفطاي بن جنكزخان. ومنها: أنه استقرّ بغرناطة وما معها محمد بن محمد بن نصر بن الأحمر، فثار عليه ابن عمّة له يعرف بابن الشقيلولة، واستعان عليه بأبي يوسف المريني وأعطاه مالقة وحصونها، فسار إليه وعاضده، ولما دخل الأندلس جعل مقامه على إشبيلية، وهذه المدينة مدينة عظيمة عدة قراها اثنى عشر ألف قرية، وجهّز أبو يوسف من جيوشه من يشنّ الغارات من كل جهة وأقام بها عامين، ثم عاد إلى البلاد، ثم أن محمدا الأحمر لاطف أبا يوسف المرّيني واستماله إليه، وسأله إنجاده فأنجده نجداتٍ كثيرة. ومنها أن زراقة بقلعة الجبل ولدت وارضعت من بقره، قاله قطب الدين، وقال: هذا شيء لم يعهد بمثله وكان ذلك في جمادى الاخرة منها.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها: أن امرأةً بدمشق ولدت في بطن واحد سبع بنين وأربع بنات، وكانت مدة حملها أربع شهور وعشرة أيام وماتوا كلهم وعاشت هي، ذكره النويرىّ في تاريخه وفيها: ".................. " وفيها: حج بالناس ".................... " ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الفقيه أبو علي الحسن بن أبي عمرو عثمان بن علي القابمى المالكى المحتسب بالإسكندريه. توفي بها في هذه السنة عن سن قريب من مائة سنة، وكان معروفا بالخير والصلاح. الشيخ أبو الحسن علىّ بن عثمان بن محمد الإربلى الصوفي المعروف بالسليماني. توفي فيها بمدينة الفيوم، وكان أحد المشايخ الصوفية المعروفين، وكان دينا، فاضلا، شاعرا. الشيخ الإمام الفقيه أبو الفضائل سلا بن الحسن بن عمر بن سعد الأربلى الشافعي، المنعوت بالكمال. توفي فيها بدمشق، وكان أحد الفقهاء المشهورين بالشام، وقد اشتغل عليه الشيخ محي الدين النوويّ، وقد اختصر البحر للرؤياني في مجلدات عديدة. الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الموصلى المعروف بابن الطباخ. توفي في الرابع والعشرين من جمادى الأخرة بسارية من قرافة مصر الصغرى، ودفن بها من يومه، حدّث عن الشيخ مرهف بشئ من نظمه، وكان أحد المشايخ المعروفين بالصلاح والخير، وله زاوية بسارية، وكان يقصد للزيارة والتبرك به. الشيخ الصالح العارف أبو العباس أحمد بن سعد النيسابورىّ اللهاورى الصوفي المنعوت بالصفى. وكان أحد مشايخ الصوفية المشهورين بالخير والصلاح والعفّة والانقطاع، وكانت وفاته بالقاهرة في الحادي عشر من شهر رمضان، رحمه الله. وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي التاجر، الصدر الكبير ذو الأموال الكثيرة. وكان معظما عند الدولة ولا سيما عند الملك الظاهر لأنه كان قد أسدى إليه جميلا في أيام إمرته، مات في هذه السنة ودفن بتربته بالقرب من الرباط الناصريّ وكانت كتب الخليفة ترد إليه، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك حتى ملوك الفرنج من السواحل، وكان كثير البرّ والصدقات. الصاحب نجم الدين يحيى بن عبد الواحد بن اللبودى. واقف اللبودية التي عند حمام فلك المسيرى على الأطباء، وكان فاضلا لديه معرفة، وقد ولى نظر الدواوين في دمشق ودفن بتربته عند اللبودية. الشيخ على البكاء صاحب الزاوية بالقرب من مدينة الخليل عليه السلام. كان مشهورا بالصلاح والعبادة وطعم من يجتاز به من المارّة والزوار، وقد ذكرنا من مكاشفاته حين أتى إليه ركن الدين بيبرس البندقدارىّ وسيف الدين قلاون الألفىّ لما هربا من عند صاحب الكرك. وذكر الشيخ قطب الدين اليونينى: أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلاله أحوال، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له: إنى سأموت في الوقت الفلاني، واشهدنى في ذلك الوقت في المكان الفلاني. قال الشيخ: علىّ، فلما كان في ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السباق، وقد استدار إلى الشرق، فحولته إلى القبلة، فعاد فاستدار إلى الشرق فحولته. فقال لى: لا تتعب فإني لاأموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات، فحملناه وجئنا به إلى دير هناك، فوجدناهم في حزن عظيم، فقلنا: ما شأنكم؟ قالوا: كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على دين الإسلام، فقلنا: خذوا هذا بدله وسلموه إلينا، فوليناه وصلينا عليه ودفناه. وتوفي الشيخ على البكاء، رحمه الله، المدكور في رجب من هذه السنة ببلد الخليل عليه السلام. الأمير أبو يوسف يعقوب بن الأمير أبى إسحاق إبراهيم بن موسى بن يعقوب بن يوسف العادلى الدمشقي الحنفي، المنعوت بالشرف المعروف بابن المعتمد. مات في الثالث عشر من رجب بجبل قاسيون، ودفن به، وحدث بدمشق والقاهرة. فصل فيما وقع من الحوادث السنة الحادية والسبعين بعد السّتمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله، والسلطان الملك الظاهر كان في دمشق، كما ذكرنا، وخرج منها على البريد ليلة السادس من المحرم من هذه السنة، ووصل إلى قلعة الجبل يوم الثالث عشر من المحرم، وأمر بتجهيز العساكر إلى الشام، وأقام بالقلعة خمسة عشر يوما وخرج. ذكر سفر السلطان إلى الشام

ذكر عبور السلطان الفرات

خرج من الديار المصرية يوم التاسع والعشرين من محرم هذه السنة، فوصل إلى دمشق في الثالث من صفر، وطلع قلعتها ليلا. وفي هذا الشهر: وصل رسل أبغا بن هلاون في أمر الصالح، وغيروا كلامهم، وقالوا: أولا إن السلطان يسيّر سنقر الأشقر يمشي في الصلح، ثم قالوا: إن السلطان يمشي في الصلح أو من يكون بعده في المنزلة، فاغتاظ السلظان من هذا الخطاب، وقال أيضا: إذا كان يقصد الصلح يمشي هو بنفسه، أو واحد من إخوته، وأعاد الرسل إلى مرسلهم في ربيع الأول منها. ذكر عبور السلطان الفرات وكان السبب في ذلك حضور دريبه ومن معه من التتار إلى البيرة، فنزلوا عليهت ونازلوها ونصبوا عليها المجانيق وآلات الحصار، وجرد دريبة طائفة منهم صحبة مقدم يسمى جيفرا إلى الفرات لحفظ المخائض، فنزلوا على مخاضة تعرف بمخاضة القاضي، وأقاموا لهم سياجا من السيب، وحاجزا من الخشب، ونزلوا وراء ذلك السياج، فسار السلطان بالعساكر الأسلامية المصرية والشامية حتى انتهى إلى تلك المخاضة، وأشرف على التتار من أعلى الجبل، وهم عليها نازلون، وبها محيطون فاستشار الأمراء الأكابر ومن جرت عادته بالإشارة في المشاور، فتقدم إليه الأمير سيف الدين قلاون وقال: هؤلاء أهون علينا من أن نستشير في أمرهم أو نتوقف دونهم وأنا أعبر إليهم وأهجم عليهم وإنما أحتاج دليلا يعرّفني المخاضة، فتقدم الدليل قدامه وتوجه بمن معه من مماليكه وأصحابه، فاقتحم الفرات وعبر على كواهل الصافيات، فثار التتار إليه وحملوا عليه فثبت لهم وصدمهم صدمة فرقتهم قوتها، ومزقتهم شدتها، وقتل مقدمهم جيفرا، قتله زين الدين كتبغا مملوك الأمير سيف الدين قلاون وقتل منهم جماعة، فعند ذلك عبر السلطان، وعبرت العساكر، فلما تكاملت الجيوش شرقي الفرات ولّي دريبة هزيمة، ورحل عن البيرة ذميما، وترك آلاته التي أعدّها للحصار، فنزل أهل البيرة فأخذوها واقتسموها، وسار السلطان إليها، فخلع على المغيثي النائب بها وعلى مقدّميها، وفرّق في أهلها أموالا كثيرةً، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى. وأما دريبة فإنه لما حضر عند أبغا بن هلاون منهزما، وقد فقد رفيقه، وقتل أكثر من معه، عنّفه أبغا وعدّد له ذنوبه وقال له: كيف انهزمت؟ وما جرحت؟ وقتل رفيقك وما قتلت؟ وأمر بالحوطة عليه وإبعاده، وإعطاء تقدمته لأبطاي، فقال أبطاي: أنا أسدّ الخلل وأقوم بما قصّر فيه من العمل. ذكر توجّه السلطان إلى الديار المصرّية ولما فرغ بال السلطان من جهة هؤلاء التتار عاد إلى دمشق، ثم سار إلى الديار المصرّية، فطلع قلعته في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وأفرج عن الأمير عز الدين الدمياطي من الإعتقال، وجلس لشرب القمز بحضرة أمرائه وأعيانه، قتذكروا وقعة الفرات، وأثنوا على الأمير سيف الدين قلاون في إقدامه يومئذ، فأنعم السلطان عليه بثلاثة آلاف دينار عينا، وفرس بسرج ذهب، وتشريف كامل، وجوشن، وخوذة، وسيف محلي بالذهب، فكان مقدار ذلك ألفي دينار عينا، فتكلمت منه من الحباء في ذلك اليوم خمسة آلاف دينار، ولما شربوا القمز ناول الهناب إلى الأمير عز الدين الدمياطي، وكان قد شابت لحيته، فقال يا خوند: شيبا وشاب تبيذنا، وغنت الانساء والشعراء بهذه الأبيات: زعمت بنو قاقان أن خيولها ... تخشى العبور إليهم في الماء فأتوا إلى شطّ الفرات وطلبوا ... متهيئين لغارة شعواء وترجلت من بينهم أقشيّة ... مغل وكرج فيهم وخطاء قصدوا بهذا منعنا عن برّهم ... غلطوا وخيّب مقصد الأعداء فأناهم جيش النبيّ يؤمهم ... ملك الزمانٍ الظاهر الآلاد بعصائب سودٍ عليها رنكه ... أسد يصيد فوارس الهيجاء عام الفرات إليهم بصواهل ... ومناصل وعواسلٍ سمراء فانفلّ جيشهم وولّى هارباً ... قد حاطهم ويل وفرط بلاء وغدت سيوف المسلمين خصيبة ... عند اللقاء من هامهم بدماء لله يوم بالفرات رأيته ... قد مر في ظفر ونصر لواء ثم الصلاة على النبّي محمّد ... ما مالت الأغصان بالورقاء

بقية الحوادث

وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب منها: خلع جميع الأمراء، ومقدمي الحلقة، وأرباب الدولة، وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثياب، فكان مبلغ ما صرف في ذلك نحوا من ثلاثمائة ألف دينار. وفي شعبان: أرسل السلطان إلى منكوتمر بهدايا عظيمة وتحف كثيرة. وفي يوم الإثنين ثاني عشر شوال: استدعي السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه في القلعة وحوقق على أشياء كثيرة ورموه بمنكرات كثيرة، فأمر السلطان عند ذلك باعتفاله فكان آخر العهد به. وفي تاريخ النويري: وكان هذا الشيخ قد بلغ عند الملك الظاهر أرفع منزلة، وانبسطت يده، ونفذ أمره بمصر والشام، وسببه أنه اجتمع بالملك الظاهر قبل أن يملك مصر وأخبره أنه يملك الديار المصريّة، وأخبره بأشياء اتفقت له، فلما ملك السلطان 580 حظى عنده، وانقبض منه الصاحب بهاء الدين بن حنّا والنائب والخزندار، فعملوا عليه وأحضروا عند السلطان من شهد عليه بالزناد واللواط وشرب الخمر، وكان السلطان قد قدمت له هدية من صاحب اليمن من جملتها كرنفيسٌ، فأعطاه السلطان للشيخ خضر، فدفعه لا مرأه وزني بها، وأحضروها، فأحضروا الكر بين يدي السلطان، وأقرت عليه بالزنا، فاعتقله مكرما حتى مات. وقبل: إن الصاحب بهاء الدين اتفق مع الملك السعيد في غيبة السلطان إلى الشام وأرسل إلى الشيخ من خنقه. بقية الحوادث منها: أن في المحرم وصل صاحب النوبة إلى عيذاب، فنهب التجار، وقتل خلقا كثيرا من أهلها، منهم: الوالى والقاضي، فسار الأمير علاء الدين أيدغدى الخزندار إلى بلادهم، فقتل خلقا، ونهب وحرق، ودوخ البلاد، وأخذ الثأر. ومنها: أن ديوان السلطان تسلم ما كان تسلمه من حصون الدعوة، وهي: الكهف والمينقة والقدوس، وقد كان أهل هذه الحصون يسوفون ويدافعون، ثم أذعنوا وسلموها، فتسلمها النواب: الميقة في ثالث ذي القعدة، والقدموس في ثامثه، والكهف في الثاني والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتكملت قلاع الدعوة في المملكة السلطانية، واستؤصات شأفة الاسماعيلية. منها: أنه تظاهر بلبوش أمير عربان برقة بالنفاق والعصيان، فسيّر إليه العربان فأخذوه أسيرا وجاءوا به إلى السلطان، فمّن عليه وأطلقه، ووجّهه إلى بلاده، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات. وفيها: ".............. " وفيها: حج بالناس "........... " ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ ناج الدين أبو الفضل يحيى بن محمد بن أحمد بن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحسن بن علي ّالثعلبي الدمشقي المحتسب، المعروف بابن الحبوبي النعوت بالتاج. مات في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر بدمشق، ومولده في سنة عشر وستمائة، وهو من بيت الحديث، وتولى الحسبة بدمشق مدة. قال ابن كثير: وكان من أعيان أهل دمشق، ولى نظر الأيتام، ثم الحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير، وخّرج له ابن بلبان مشيخته، قرأها عليه الشيخ شرف الدين الفزاري بجامع دمشق، فسمعها جماعة من الأعيان والفضلاء. والثعلبيّ: بالثاء المثلثة، والعين المهملة، والحبوبي: بضم الحاء المهملة، والباء الموحدة، وبعد الواو باء أخرى. الخطيب فخر الدين أبو محمد عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم ابن محمد بن تيميةّ الحرّاني، الخطيب بها كان. وبيته معروف بالعلم والخطابة والرئاسة، مات في الحادي عشر من شوال منها بدمشق، ودفن من الغد بمقابر الصوفية، ومولده سنة إثنتى عشرة وستمائة. العلاّمة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن يونس بن محمد بن مسعر ابن مالك بن محمد، ابو القاسم الموصلي. من بيت الفقه والرئاسة، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وسمع، وحدث، وصنّف، واختصر الوجيز من كتابه التعجيز والمحصول، وله طريقة في الخلاف، أحدهما من طريق ركن الدين الطاووس، وكان جدّه عماد الدين ابن يونس شيخ المذهب في وقته، رحمه الله. الشيخ أبو الفتح عبد الله بن أبي الفضل جعفر بن أبي محمد عبد الجليل بن عليّ بن محمد بن إبراهيم بن عبد العزيز اللخمى القمودي الأصل الإسكندراني المولد والدار، المالكي. مات في عشية الثالث من المحرم من هذه السنة بالإسكندرية، ودفن بالديماس، سمع، وحدّث، ودرّس، وكان شيخا فاضلا. والقمودي نسبة إلى قموده من بلاده إفريقية مسافة يومين من القيروان.

السنة الثانية والسبعين بعد الستمائة

الشيخ المحدث أبو الظفر يوسف بن الحسن بن بكار النابلسي الشافعي، المنعوت بالشرف. كان مشهورا بالصلاح والإفادة، وتولى مشيخة دار الحديث النورية بدمشق إلى أن توفى فيها في هذه السنة. الشيخ المسند أبو الفتح عبد الهادي بن عبد الكريم بن علي ابن عيسى بن تميم القيسي المصري المقرئ الشافعي الخطيب بمصر. مات في الليلة الرابع والعشرين من شعبان بمصر، ودفن من الغد بسفح المقطم، ومولده سنة سبع وتسعين وخمسمائة بمصر، سمع كثيراً وحدث، وانفرد بالرواية من غير واحد من شيوخه، وخطب بجامع المقياس مدة، رحمه الله. الشيخ الأصيل أبو عبد الله محمد بن الشيخ الخطيب أبي حفص عمر بن يوسف ابن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قايس بن حابس بن مالك بن عمرو بن معدي كرب، الزبيدي، المقدسي الأصل، الدمشقي المولد والدار، الشافعي الخطيب، المنعوت بالمونق، المعروف بابن خطيب بيت الأبار. مات في السابع عشر من صفر من هذه السنة ببيت الأبار ودفن بها: سمع الكندّي وجماعة آخرين، وحدّث، وهو من بيت الحديث. الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر. ذكرنا عن قريب أنه اعتقله السلطان الملك الظاهر، ومات في السجن في هذه السنة، وقيل السلطان أمر بإعدامه، وقيل ابن الحنّا كما ذكرنا، وكان حظيّا عند السلطان جدّا حتى كان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له بالحسينيّة في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه كثيرا، ويطلق له، ووقف على زاويته شيئا كثيرا جدا، وكان معظما عند الخاصّ والعام، وكان فيه خير وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة قمامة، فذيح قسّيسها بيده، وأنهب ما فيها لأصحابه، وحولها مدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق دخلها ونهب ما فيها، ومدّ بها سماطا، وعمل فيها سماعا، واتخذها مسجدا مدةً، ثم سعوا في عودها إليهم واستمرارها عليهم، ثم اتفق له ما ذكرنا حتى سجنه السلطان، ومات في هذه السنة. الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح عمر بن الملك الفائز أبي إسحاق إبراهيم بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب الملقب بالمغيث. مات في السابع والعشرين من ذي الحجة مسجونا بخزانة البنود بالقاهرة، وأخرج منها في يومه، ودفن بتربتهم المجاورة لضريح الإمام الشافعيّ، رحمه الله، ومولده في صفر سنة ست وستمائة بالقاهرة، حدث بالإجازة عن أبي الروح عبد العزيز بن محمد الهروي. الأمير سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس صاحب صهيون. توفى في هذه السنة، وكان قد أوصى أولاده بأن يسلموا الحصن إلى السلطان الظاهر، ويلجأوا إليه، ففعلوا كذلك، وسلّموا الحصن إلى نوّابه، ووفدوا إلى أبوابه، وهما: سابق الدين، وفخر الدين، فأكرم مثواها، وأحسن إليهما، وأمّر الأمير سابق الدين بطبلخاناه، وأعطى أخاه إقطاعا في حلقة دمشق واستمراّ بها إلى أن ماتا، رحمهما الله تعالى. الأمير بلبوش أمير عربان برقة، مات في هذه السنة، وقد ذكرنا أمره عن قريب. فصل فيما وقع من الحوادث في السنّة الثانية والسّبعين بعد الستّمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله. والسلطان الملك الظاهر في الديار المصرية، ولكنه خرج إلى ناحية الشام. ذكر سفر السلطان إلى الشام وفي ليلة السادس والعشرين من محرم هذه السنة، خرج السلطان من القاهرة، وتوجه إلى الشام، وصحبته جماعة من أمرائه بسبب تواتر الأخبار بحركة أبغا ملك التتار، ثم تواترت عليه الأخبار في أثناء الطريق بقّوة حركته، فكتب باستدعاء العساكر من الديار المصّرية صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، ورسم بأن جميع من في مملكته ممن له فرس يركب للغزاة، وأن يخرج أهل كل قرية بالشام من بينهم خيّالة على قدر أهل القرية، ويقومون بكلفتهم، ووصل دمشق في شهر صفر، ثم عاد إلى يافا عند وصول العساكر من الديار المصريّة، فأنزلهم بها، ورتّب أحوالهم، وعاد إلى دمشق.

ذكر رحيل السلطان من دمشق إلى القاهرة

وفيها وصل إليه وهو بدمشق الأمير شمس الدين بهادر ابن الملك فرج، وكان والده أمير الطشت عند السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وله شميصات، وبعد وفاة جلال الدين ملك قلعة كران وقلاعاً أخر بناحية نقجوان، ثم وصل إلى الروم، فأنقطع له أقصرا، وكان بهادر المذكور قد كاتب السلطان فأطلع التتار على أمره، فأمسكوه وحملوه إلى الأردو، فهرب وحضر إلى البيرة، ووصل إلى الأبواب السلطانية، فشمله الإنعام، وأعطى إقطاعا بعشرين فارسا بالديار المصّرية. وفيها: اتصل بالسلطان أن ملك الكرج حضر مختفيا لزيارة القدس الشريف، فأصدر له من يعرف حليته، فأمسك من بين الزوّار هو وثلاثة نفر من أعيان أصحابه، وسيّروا إلى السلطان وهو بدمشق، فسجنه بالقلعة المنصورة ورحل السلطان إلى القاهرة. وكان الأمير عمرو بن مخلول أحد أمراء العرب قد حبسه السلطان في عجلون لجرم عمله، فهرب منها وتوجه إلى التتار، ثم طلب الأمان، فقال السلطان: ما نؤمنه إلى أن يحضر إلى عجلون ويقعد في المكان الذي كان مسجونا، فحضر وتطوق بالطوق الحديد كما كان، فعفا عنه. ذكر رحيل السلطان من دمشق إلى القاهرة ثم أن السلطان خرج من دمشق في أواخر جمادى الآخرى، ووصل إلى القاهر، فدخلها في سابع شهر رجب وكان يوم دخوله يوما مشهودا. ثم بعد ما دخل طهّر ولده نجم الدين خضر في شهر شعبان، فلعب العسكر القبق، فكان كما قيل: ذاك يوم لها عن اللهو فيه ... ويغني عن مطربات الأغاني بصليٍل لمرهف، وصهيل ... لجواد، ورنّة لادان كلّ أفعاله إلى الجدّ تعزى ... يوم سلم، أولا، فيوم رهان لا تراه في السلم والحرب إلا ... بين رمح وصارم وسنان وعمل القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أبياتا منها: يا ملك الدنيا ومن ... بعزمه الدّين نصر هنيت بالعيد وما ... على الهناء اقتصر لكنها بشارة ... لها الوجود مفتقر بفرحة قد جمعت ... ما بين موسى والخضر ذكر سفر الملك السّعيد بن الظاهر إلى الشام وفي الثاني عشر من شهر رمضان من هذه السنة وجّه السلطان ولده الملك السعيد إلى الشام صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر استادار، فوصل دمشق بغتة ولم يدر نائب السلطان بها إلا وهو بينهم في سوق الخيل، ثم سار منها إلى صفد والشقيف وعاد إلى مصر فوصل في الحادي والعشرين من شوال. الوقعة بين أبغا وبين ابن عمه تكدار ذكر الوقعة التي كانت بين أبغا بن هلاون وبين ابن عمه تكدار ابن موجى بن جغطاي بن جنزخان: وذلك أن تكدار كان مقدما على ثلاثين ألفا، مقيما ببلاد كرجستان فكاتب براق. وقال بيبرس: فكاتب فيدو، وقصد الاتفاق معه على أبغا، فوقعت كتبه في يد أبغا، فأرسل يستدعي عساكره المتفرقة وعزم على قصده، فأحضر صمغار من بلاد الروم، وصحبته معين الدين سليمان البرواناه، سيف الدين طرنطاي، والدسنان الدين الروميّ، وغيرهم، وعرّفهم ما بدا من تكدار، وتجهّز لقصده، فانهزم من قدامه، والتجأ هو وعسكره إلى بلاد الكرج، فمنعه صاحبها الملك سركيس من دخولها، فآوى إلى جبل من جبالها هو ومن معه، فأكلت خيولها من من عشب ذلك الجبل وفيه كيفيّة سمّيه مضرّة بالخيل، فنفقت وتماوتت، فطلبوا من أبغا الأمان، فآمنهم واستنزلهم، وأسر تكدار، وفرق عسكره على مقدّمي عساكره، ورسم لتكدار أنه لا يركب خيلا قارحةً، ولا جذعاً، " منهم، ولا يركب " إلا مهراً صغيرا فقط، وأنه لا يمس بيده قوساً، فبقي بذلك مدة لا يجسر يخالف أمره حتى أن ولدا له صغيرا أحضر إليه قوسه يوماً من الأيام ليوتره له، فقال يا بني: ما أقدر أمسك قوساً 586 هذا ولا أوتره لأجل مرسوم أبغا، فإنه رسم لي بأن لا أمس قوساً بيدي، فلست أمسكه، ولو أنه قوس ولدي، لأنني لا أقوى على خلافه، خوفا من إتلافه، ولم يقتعد فرسا قارحا، ولا جذعا، إلى أن حمّ حمامة، وتصرمت أيامه، ولقد أبان ابن أخيه عن حلم رافر، ورفق ظاهر، إذ لم يقابله على سوء فعله بما يؤذيه في نفسه. ذكر ملك يعقوب المريني سبته وذكر ابتداء ملكهم

ذكر بقية الحوادث

وفي هذه السنة ملك يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن حمامة المريني مدينة سبته، وبنو مرين ملكوا بلاد المغرب بعد بني عبد المؤمن، وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن أبا دبوس، وقد ذكرنا أخياره مع ما فيه من الإختلاف من سنة أربع وعشرين وستمائة، وأن المذكور قتل في سنة ثمان وستين وسستمائة، وانقرضت حينئذ دولة عبد المؤمن، وملك بعدهم بني مرين، وهذه القبيلة أعنى بني مرين يقال لها حمامة من بين قبائل العرب بالمغرب، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة. وذكر في كتاب نهاية الأديب: أن بني مرين بطن من زنانة من البرير، وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين لما اختل أمرهم، وتابعوا الغارات عليهم حتى ملكوا مدينة فاس، واقتلعوها من الموحدين في سنة بضع وثلاثين وستمائة، واستمرت فاس وغيرها في يديهم في أيام الموحدين، وأول من اشتهر من بني مرين أبو بكر بن عبد الحق بن محيو بن حمامة المريني، وبعد ملكه فاس سار إلى جهة مراكش وضايق بني عبد المؤمن، وبقي كذلك حتى توفى أبو بكر المذكور في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق بن محيو، وتولى أمره وحاصر أبا دبوس في أمر مراكش وملكها يعقوب المريني المذكور، وأزال ملك بني عبد المؤمن من حينئذ، واستقرت قدم يعقوب المريني المذكور في الملك حتى ملك سهته في هذه السنة، ثم توفى. قال المؤيد: ولم يقع لي تاريخ وفاته، وملك بعده ولده يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو، وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب، واستمر يوسف المذكور في الملك حتى قتل في سنة ست وسبعمائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر بقية الحوادث منها: أنه أغار عسكر حلب على كينوك، فقتلوا الرجال الذين بها، وسبوا الحريم، وأتّم العسكر غازية إلى أطراف طرطوس. وهذه كينوك هي الحدث الحمراء، وقد ذكرها المتنبي في قصيدته التي أوّلها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم: هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أيّ الساقيين الغمائم سقتها الغمام قبل نزوله ... فلما دنا منها سقتها الجماجم قلت: كينوك بضم الكاف، وسكون الياء آخر الحروف، وضم النون، وسكون الواو، وفي آخره كاف. وهو قريب من مرعش. ومنها: أن ملك التتار فوّض إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في أمر تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفّح أحوالها، فوجد بها شابا كان من أبناء التجار يقال له: كي، قد قرأ القرآن، وشيئا من الفقه، والإشارات لابن سيناء، ونظر في النجوم، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، وقد صدقه في ذلك جماعة من جهلة أهل تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر، وعشاء الآخرة، فاستحضره فسأله عن هذا فرآه ذكيا إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر بقتله، فقتل بين يديه، جزاه الله خيرا وأمر العوام فنهبوا أتباعه. ومنها: أن في سلخ شوال وردت كتب النصحاء أن الفرنج أقاموا انبرورا في بلد الأمانية اسمه المركيس رودلف. ومنها: أن هذه السنة ولد الملك المؤيدّ عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بدار بن الزنجبيل بدمشق المحروسة. قال المؤيد في تاريخه: فإن أهلنا كانوا قد جفلوا من حماة إلى دمشق بسبب أخبار التتار. ومنها: أنه كان وباء بالديار المصرية فهلك فيه خلق كثير، أكثرهم النسوان، والأطفال. وفيها: "................ " وفيها: حج بالناس "................ " ذكر من توفي فيها من الأعيان الصدر الرئيس مؤيّد الدين أبو المعالي أسعد بن عز الدين أبي غالب المظفري الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن اسعد بن علي بن محمد التميمي بن القلامي. جاوز السبعين، وكان رئيساً كبيرا، واسع النعمة، لا يباشر شيئا من الوظائف، وقد ألزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان، فباشرها بلا جامكية، وكانت وفاته ببستانه، ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم، وهو والد الصدر عز الدين حمزة رئيس البلدين دمشق والقاهرة، وجدّهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير، كان وزير الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان الملك الناصر يوسف بن أيوب فاتح القدس، وكان رئيسا فاضلا، له كتاب الوصية في الأخلاق المرضيّة، وغير ذلك، وكانت له يد جيّدة في النظم، فمن ذلك قوله:

يا ربّ جد إذا ما ضمّني جدثي ... برحمة منك تنجيني من النار أحسن جواري إذا ما أصبحت جارك في ... لحدي فإنك أوصيت بالجار وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد فكان كتب جيداً، وصنف تاريخا من بعد أربعين سنة وأربعمائة إلى سنة وفاته خمس وخمسين وخمسمائة. الشيخ عبد الله بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي. له زاوية بنابلس وله أشعار رائقة، وكلام قوى في علم التصوف، مات في هذه السنة. قاضي القضاة كمال الدين أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن عليّ التفليسي الشافعي. كان مولده في بتفليس سنة إحدى وستمائة، وكان فاضلا أصوليا مناظرا، ولى نيابة الحكم بدمشق مدة، ثم استقل بالقضاء في دولة هلاون، وكان عفيفا نزّها، ولما انقضت أيامهم تعصت عليه بعض الناس، ثم التزم بالمسير إلى القاهرة، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفى بها في ربيع الأول منها، 589 ودفن بالقرافة الصغرى. إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر التنوخى، وتنوخ من قضاعة. كان صدرا كبيرا، سمع كثيرا، وكتب الإنشاء للناصر داود بن الملك المعظم، وتولى نظر المارستان النوري وغيره، وكان مشكور السيرة، وقد أثنى عليه غير واحد، وقد جاوز الثمانين سنة. جمال الدين بن مالك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوى. صاحب التصانيف المفيدة، من ذلك الكافية الشافية، وشرحها، والتسهيل، وشرح نصفه، والألفيّة التي شرحها ولده بدر الدين شرحا مفيدا، ولد بجيان سنة ستمائة، أو إحدى وستمائة، وأقام بحلب مدة، ثم بدمشق، وكان كثير الإجتماع بالقاضي شمس الدين بن خلكان، وأثنى عليه غير واحد، وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة، وكانت وفاته بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان، ودفن بتربة القاضي عز الدين بن الصايع بقاسيون. النّصير الطويسيّ محمد بن الحسن أبو عبد الله الطوسى. وكان يقال له المولى نصير ويقال أيضا: خواجا نصير، أشتغل في شبيبته، فحصل علم الأوائل جدا وصنف في ذلك، وفي علم الكلام، منه: كتاب التجريد المشهور، وله شرح على الإرشادات، ووزر لأصحاب قلاع الموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهلاون، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هلاون بقتل الخليفة، والله أعلم. وقال ابن كثير: وعندي أن هذا لا يصدر من فاضل ولا عاقل، وقد ذكره بعض البغاددة، فأثنوا عليه، قالوا: كان عالما فاضلا، كريم الأخلاق، توفى ببغداد في ثامن عشر ذي الحجة منها، وله خمس وتسعون سنة، ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أد للخليفة الناصر لدين الله، وهو الذي كان قد بنى الرصد لمراغة ورتب عنه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من الأنواع، وبنى له قبة عظميةً، وجعل فيه كتباً عظمية جدّا من الكتب التى نهبت من بغداد والجزيرة والشام، وحتى 590 قيل تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد، وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدر على المصري المعتزلى المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة. الشيخ الجليل المسند أبو الفرج عبد اللطيف بن الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله النميري الحراني الحنبلي، التاجر المنعوت بالنجيب، المعروف والده بابن الصقيل. مات في مستهل صفر بقلعة الجبل بظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم، ومولده بحران في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، سمع الكثير وحدث بالكثير ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر وغيرها، وبقي حتى تفرد بالرواية عن كثير من شيوخة، وتولى مشيخة دار الحديث الكامليّة بالقاهرة، فحدث بها مدة إلى حين وفاته. الشيخ الصالح العارف أبو محمد عبد الله بن عمر بن يوسف أبي عبد الله الصنهاجى الحميدي القصرى. مات في ليلة الرابع من شهر ربيع الآخر بظاهر القاهرة، ودفن بسفح المقطم، وقد قارب المائة من عمره، صحب جماعة من المشايخ، وكان مشهورا بالعلم والدين، مذكورا بالصلاح والخير، مقصودا للزيادة والتبرك به. القاضي محي الدين أبو المكارم محمد بن محمد بن الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن الشيخ بن رافع الأسدي الحلبى.

السنة الثالثة والسبعين بعد الستمائة

مات في الثالث عشر من جمادى الأولى بحلب، ودفن بتربة جده، مولده بحلب في الخامس من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة، سمع، وحدث، ودرّس بالمدرسة المسرورية بالقاهرة، ثم تولى القضاء بحلب إلى حين وفاته، وبيته معروف بالعلم والدين والتقدم. الشيخ الصالح محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين أبي الحسن على بن القاضى السديد أبي عبد الله محمد بن سليم المصري الشافعي. مات في ليلة الثامن من شعبان بمصر، ودفن من الغد بسفح المقطم، سمع من جماعة، وحدث، وكان منقطعا عن المناصب الدنياوية، محبا للتخلى والإنفراد 591 كثير الصدقة والمعروف، وبنى رباطا حسنا بمصر، ودرس بمدرسة والده مدة إلى حين وفاته. الشيخ ضياء الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ ابي عبد الله بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري المعروف بابن القرطبي. مات في النصف من شوال بقنا من صعيد مصر، ومولده في سنة إثنين وستمائة، سمع وحدّث، وله النظم الحسن، والشر الجيّد. الشيخ الصالح المكّرم بن المظفر بن أبي محمد العين زربي. مات في ليلة الثامن عشر من شوال بالقرافة الصغيرة ودفن بها، ومولده في سنة ثلاث وثمانية وخمسمائة بمصر، سمع، وحدّث، وكان شيخا صالحا. ومكّرم بضم الميم وتشديد الراء المفتوحة وآخره ميم. الأمير حسام الين لاجين بن عبد الله الأيدمري الدوادار المعروف بالدرفيل. مات في الرابع عشر من شهر رمضان ببستان الخشاب ظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم، سمع، وكان محبا لأهل العلم، مؤثرا للاجتماع بهم، ذكيا، حسن السمت، رحمه الله. الأمير يغمراس صاحب تلمسان. توفي في هذه السنة، وأخذ يعقوب بن عبد الحق المريني مكانه. الأمير مبارز الدين أقوش المنصورى. مملوك الملك النصور صاحب حماة ونائب سلطته، وكان أميرا جليلا، شجاعا، عاقلاً، قفجاقي الجنس. الأمير فارس الدين أفطاي الأنابك الستعرب الصالحي النجمي. من كبار الأمراء، وهو أول من دعا بعد قتل السلطان الملك المظفر قطز إلى سلطنة الملك الظاهر بيبرس، فأجابه الأمراء إلى ذلك، وكان الظاهر يعرف له ذلك، واستمر عنده عالى المنزلة، نافذ الكلمة إلى أن مات في جمادى الأولى من هذه السنة. وقال بيبرس: في السنة الآتية. الشيخ جلال الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قاسم بن المسيب بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ابن أبي قحافة القرشي، المعروف بمولانا جلال الدين القونوي. كان رجلاً عالماً بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه واسع الفقه، عالماً بالخلاف وبأنواع العلوم، قصده الشيخ قطب الدين الشيرازي شارح المفتاح وغيره، وجرى بينهما محاورات ثم إن جلال الدين المذكور ترك الاشتغال وانقطع، وترك أولاده ومدرسته وساح في البلاد، واشتغل بالأشعار، غالبها بالفارسية، وألف كتاباً وسماه المثنوى، وفيه كثير مما يرده الشرع والسنة الطاهرة، وضلت بسببه طائفة كثيرة، ولا سيما أهل الروم، وقد ينقل عنهم من الإطراء في حق جلال الدين المذكور ما يؤدي الى تفكيرهم وخروجهم عن الدين المحمدي والشرع الأحمدي. ويقال: إن سبب عدول الجلال المذكور عن التصدي بالإشتغال بالعلوم، وإن توجهه إلى الحال التى تنقل عنه، أنه كان جالساً يوماً في بيته وحوله الكتب والطلبة، فدخل عليه الشيخ شمس الدين التبريزي: فسلّم وجلس فقال: ما هذا؟ وأشار إلى الكتب والحالة التي هو عليها، فقال جلال الدين: هذه لا تعرفها، فما فرغ الجلال من هذه اللفظة إلا والنار قد عملت في البيت، فقال الجلال للتبريزي: ما هذا؟ فقال له التبريزي: هذا لا تعرفه، ثم قام وخرج من عنده: فقام الشيخ جلال الدين وخرج وراءه ولم يجده، ثم ترك كتبه واشتغاله وأولاده وخرج منقطعا، ولم يحصل له الاجتماع بالتبريزي المذكور بعد. ويقال: إن حاشية جلال الدين قصدوه واغتالوه والله أعلم، مات الجلال في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، أغنى سنة اثنتين وسبعين وستمائة بمدينة قونية، ودفن بها، وبنيت عليه تربة عظيمة، ولقد زرته في سنة "..... " وثمانمائة. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والسبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي. سلطان البلاد المصرية والشاميّة: الملك الظاهر، رحمة الله. وبقية أصحاب البلاد على حالهم.

ذكر خروج السلطان إلى الكرك

وفيها أطلع 593 السلطان على ثلاثة عشر أميراً من المصريّة، منهم قجقار الحمويّ، قد كاتيوا التتار، فأخذهم، فأقروا بذلك، وجاءت كتبهم مع البريد، فكان آخر العهد بهم. ذكر خروج السلطان إلى الكرك خرج السلطان الظاهر من الديار المصريّة في الثامن من صفر من هذه السنة، وتوجه على الهجن إلى الكرك من طريق البدرية، فبلغه أن الرجال الذين بها قد خامروا، فمسكهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وأقام بالكرك ثلاثة عشر يوما، ثم عاد إلى جهة مصر، ودخلها في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول من هذه السنة. ثم توجد إلى العباسة وولده الملك السعيد صحبته، ورمى البندق، وصرع ولده طيرا من الطيور الواجبة. وفيها تحيّل السلطان على استخلاص رؤساء الشواني واستخراجهم من أسر الفرنج، وذلك أنه لما انكسرت الشواني بقبرس على ميناء نمسون كما ذكرنا، وأن صاحب قبرس أسر رؤساءها وأرسلهم إلى عكا فاعتقلوا بها في قلعتها، فبذل السلطان لهم مالا في إطلاقهم، فتوقفوا وتغالوا فيهم، فتحيّل واستمال الموكلين بحفظهم، ولم يزل يتلطف في أمرهم حتى سرقوا من محبسهم وخرجوا في مركب معدٍ لهم، وكانت لهم خيل معدة في البرّ، فركبوها، ولم يعلم بهم إلا وقد وصلوا إلى الأبواب السلطانية، وهم ستة نفر، وكان السلطان كما قيل: لكم بلغت بحيلتي ... ما ليس يبلغ بالسيوف وفيها: ورد كتاب ملك الحبشة واسمه محر أملاك يطلب مطران من بطرك الإسكندرية، فأجابه السلطان إلى ذلك، ورسم لبطرك اليعافية بأن يجهز إليه مطران، فجهزه وأرسله إلى السلطان صحبة رسله. وفيها: توجه عسكر حلب إلى بلاد سيس، وأغاروا عليها، وعلى مرعش، وقلعوا أبواب ربضها، وتبع هذه الغارة خروج السلطان إليها، وإناخته عليها. ذكر خروج السلطان إلى الشام برز السلطان 594 من قلعة الجبل في الثالث من شعبان من هذه السنة، ووصل إلى دمشق في سلخ شعبان، ودخل دمشق في يوم ثلج ألبس الأرض أثوابا، وفتحت السماء فكانت أبوابا وخرج عسكر الشام ملبسين متوجهين لغزو سيس وأعمالها، وأقام السلطان بدمشق بعدهم أياما قلائل، ثم جهز الجاليش صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفى والأمير بدر الدين بيليك الخرندار، فساروا سيرا عنيفا. قال بيبرس في تاريخه: ووصلنا إلى المصّيصة على غرة من الاْرمن، فهجمت العساكر عليها عند فتوح أبوابها، فملكوها وقتلوا من بها وملكوا الجسر، وكان السلطان قد جهز المراكب وحملها صحبته على الجمال ليعدّوا فيها نهر جهان والنهر الأسود فلم يحتج إليها، ووصل إليها السلطان على الأثر، وجرد الأمير حسام الدين العينتابي ومهني بن عيسى إلى البيرة، ودخل السلطان سيس مطلّباً في العساكر والمواكب كالبدر المنير بين الكوكب، وأمر بتخريبها، ووصل دربند الروم، ووصل، ووصلت بعوثه إلى أياس، والبرزين، وآذنة، وقتلوا وغنموا، فقال في ذلك: يا ويح سيس أضحت نهية ... كم عوّق الجاري بها الجارية وكم بها قد ضاق من مسلك ... واستوقف الماشي بها الماشية ولما عاد إلى المصّيصة راجعاً من الدربند أمر بإحراق جانبيها، فأحرقت، وتحكمت عساكره في كل ما حوت، فكان كقول البحتري: سيوف لها في كل دار غداً رحى ... وخيل لها في كل دار غدا نهب علت فوق بغراس فضاقت بما جنت ... صدور رجال حين ضاق بها الدرب وما شكّ قوم أوقدوا نار فتنٍة ... وسرت إليهم أن نارهم تخبو ثم خرج السلطان رحمه الله إلى مرج أنطاكية، فأقام به وجمع الغنائم في صعيد واحد من الخيل والجواري والمماليك والمواشي وغيرها، فقسمها بنفسه على العساكر، فلم ينس صاحب علم ولا ربّ قلمٍ، وأراح العساكر شهرا، ثم رحل إلى القصير فنازله، وهذا الحصن لبابا روميّة، وكانت مضرة على الفوعة وجهاتها، وكان أهله عند فتح أنطاطية سألوا الهدنة، فأجيبوا إليها فما وقفوا عندها، فرتّب السلطان عسكرا لحصاره، فسلّمه أهله، وحملوا إلى الجهات التي قصدوا، وأما العسكر والعربان الذين توجهوا نحو البيرة فإنهم وصلوا إلى رأس العين ونهبوا وغنموا ما وجدوا، وأما السلطان وعساكره فإنهم توجهوا إلى دمشق وأقاموا فيها إلى أن خرجت هذه السنة.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومن الحوادث المزعجة في هذه السنة أن ثار رمل على أهل الموصل فعم الأفق، وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله تعالى حتى كشف عنهم. وفيها: "............. " وفيها: حج بالناس ".............. " ذكر من توفي فيها من الأعيان ابن عطاء قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن جبير بن جابر بن وهب الأذرعي الحنفي. ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وسمع الحديث، وتفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وناب في الحكم عن الشافعي مدة، ثم استقل بالقضاء للحنفية أول ما ولى القضاء من المذاهب الأربعة، ولما وقعت الحوطة على أملاك الناس أراد السلطان منه أن يحكم له بها بمقتضى مذهبه، فغضب من ذلك وقال: هذه بأيدي أربابها ولا يحل لمسلم أن يتعرض إليها، ونهض من المجلس، وغضب السلطان غضبا شديدا، ثم سكن غضبه، وكان يثني عليه بعد ذلك ويقول: لا تثبتوا كتبا إلا عنده، وكان رحمه الله من العلماء الأعيان، كثير التواضع، قليل الرغبة في الدنيا، روى عنه ابن جماعة وغيره، وأجار للبرزالي، وكانت وفاته يوم الجمعة التاسع من جمادى الأولى، ودفن بالقرب من المعظمية بسفح جبل قاسيون، رحمه الله. الشيخ مسلّم بتشديد اللام المفتوحة البرقي البدوي، شيخ الفقراء. مات في ليلة الخامس من شهر ربيع الأول من هذه السنة، ودفن من الغد بقرافة مصر الصغرى، كان أحد المشايخ المشهورين مقصودا للدعاء والتبرك، وله رباط بقرافة مصر الصغرى وأصحاب معروفون به. الشيخ الصالح أبو الطاهر محمد بن الشيخ المحدّث أبي الحسن مرتضى بن أبي الجود حاتم بن المسلم بن أبي العرب بن عباس الحارثي، المقدسي الأصل، المصري المولد والدار، الضرير. كان شيخا صالحا من أهل الخير، مات في ليلة السادس والعشرين من جمادى الأول بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم بقرب المسجد المعروف بالفتح، ومولده في ليلة السابع والعشرين من شها رمضان سنة تسعين وخمسمائة، سمع، وحدث، وأبوه الشيخ أبو الحسن أحد المشايخ المعروفين بالطلب والحديث، وكتب بخطه كثيرا، وجمع، وحدث، وكان موصوفا بالخير والصلاح. الشيخ المحدّث أبو المظفر منصور بن سليم بن منصور بن فتوح الهمداني الإسكندراني، والفقيه الشافعي المنعوت بالوجيه. مات في ليلة الحادي والعشرين من شوال بالإسكندرية، ودفن من الغد بالميناوين، ومولده في الثامن من صفر سنة سبع وستمائة بالإسكندرية، وكان فقيها فاضلا، ومحدثا حافظا، وقدم بغداد وأقام بها مدة، وسمع بها الكثير، ثم لما قدم الإسكندرية تولى بها الحسبة، ودرس بها، وحدث، وجمع، وصنف، وخرج معجم شيوخه، وألف تاريخا لبلده الإسكندرية. الشيخ أبو الفتح عمر بن يعقوب بن عثمان بن طاهر بن المفضل الأربلي الصوفي. مات بدمشق في يوم عيد الأضحى، ومولده في ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة ثمان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بأربل، حدث بالإجازة من جماعة. الأمير الأصيل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك. مات في الرابع والعشرين من جمادى الأولى بالمحلة من الأعمال الغربية، وكان واليابها، وحمل إلى القرافة ودفن بتربتهم، حدّث بشئٍ من نظمه، وكان معروفا بالشدة والصرامة في ولايته، وكان فاضلا في الأدب والشعر، عارفا بصنعة الألحان وعلم الموسيقى. الأبرنس بيمند بن بيمند صاحب طرابلس، هلك في هذه السنة، ووصل ابن عّمه صاحب قبرس إلى طرابلس معزيا لولده، وسألوا السلطان إرسال بعض أمرائه ليقرّروا معه الإنفاق، فأرسل إليهم الأمير سيف الدين بلبان الرومي الدّوادر، فقرر عليهم القيام بعشرين ألف دينار صورية وإطلاق عشرين أسيرا. وقال ابن كثير: وكان جدّ بيمند بن بيمند المذكور نائبا لبنت صنجيل الرومى الذي تملك طرابلس من ابن عماد في حدود الحمسمائة كما تقدم، كانت مقيمةً ببعض جزائر البحر، فتغلب على البلد لبعدها منه، ثم استقلّ بها ولده، ثم حفيده هذا، وكان شكلا مليحا. وقال قطب الدين اليونينى: رأيته ببعلبك في سنة ثمان وجمسين وستمائة حين جاء مسلما على كتبغا نوين، ورأى أن يطلب منهم بعلبك، فشق ذلك على المسلمين، ولما توفى دفن بكنيسة طرابلس، ولما فتحت في سنة ثمان وثمانين بعد الستمائة نبش الناس إياه من قبره، وألقوا عظامه على المزابل للكلاب.

السنة الرابعة والسبعين بعد الستمائة

فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة والسبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحكم بأمر الله. والسلطات الملك الظاهر بيبرس في دمشق، وأرسل الأمير بدر الدين الخزندار السلطان الملك ظاهر بيبرس في دمشق، وأرسل الأمير بدر الدين الخزندار إلى مصر في الرابع والعشرين من المحرم لإحضار ولده الملك السعيد، فتوجّه وأحضره، ودخل دمشق في سادس صفر من هذه السنة، وكان يوماً مشهودا. ذكر نزول التتار إلى البيرة وفي يوم الجميس ثامن جمادى الآخرة: نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألفا من المقاتلة منهم خمسة عشر ألفا من المغول وخمسة عشر ألفا من الروم، فعلى المغول أمير يسمى ابطاى، على الروم الأمير معين الدين سليمان البرواناه، ومعهم جيش الموصل، وجيش ماردين، الأكراد، وذلك بأمر أبغا بن هلاون ملك التتار، فنصبوا على البيرة ثلاثة وعشرين منجنيقا، فخرج أهل البيرة في الليل، فكبسوا العسكر وأحرقوا المنجنيقات، ونهبوا شيئاً كثيرا، ورجعوا إلى حصنهم سالمين، فأقام الجيش عليها إلى تاسع عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم، ولما بلغ السلطان الظاهر ذلك أنفق في العساكر نفقة كاملةً. قال ابن كثير: أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، وركب سريعا، وفى صحبته ولده الملك السعيد، فلما وصل إلى القطيفة بلغة أن التتار سمعوا بحركته فوهنوا ورجعوا عن البيرة، فسار السلطان إلى حمص، ثم إلى حلب. وقال بيبرس: وكان السهب في رجوع التتار عن البيرة أن البرواناه كان قد مال إلى جانت الملك الظاهر وكاتبه يعرفه أنه على طاعته ومناصرته ويحسن له القدوم إلى الروم، فصدر جواب السلطان إليه معتذرا بقلة المياه في هذه السنة، ووعده التوجه في السنة القابلة، فبلغ ذلك ابطاى، فجرّد أميرا يسمى كستاى بهارد في أربعمائة فارس ليحفظوا الطرقات على قصاد البرواناه ويحضروهم إليه، فذهبوا وأمسكوا القصّاد وأحضروهم إليه، فوقف على الكتب، فوجد من مضمونها إنكم تطمعون التتار حتى نحضر بالعساكر، فتكونوا من ورائهم ونحن من أمامهم، فرحل من وقته، وأرسل الكتب والقصاد إلى أبغا، فتغير أبغا على البرواناه وأرسل يستدعيه إلى الأردو. فعلم البرواناه أنه إنما 599 يطلبه ليهلكه، فكرر المكاتبات إلى السلطان واستحثه على القدوم بعساكره، وتقاعد البرواناه عن التوجّه إلى أبغا. ولما تكررت رسل أبغا إلى البرواناه بأن يسير إليه اعتذر بأنه مهتم في جهاز ابنه السلطان ركن الدين التي من كرجى خاتون، وكان أبغا قد طلبها ليتزوجها، فأرسل إليه إن كنت قد خامرت حقا وإلا فتحضر. فسار من قيسارية وتوجه يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وجرد جيش الروم إلى أبلستين، فخرجوا من قيسارية وتركوا بها السلطان غياث الدين كيخسرو ابن ركن الدين قليج أرسلان وهو ليس له إلا الإسم فقط، وحضر أمراء الروم إلى أبلستين في هذه السنة، وكان وصولهم إليها في شهر صفر من هذه السنة وهم: تاج الدين كلو، وعلاء الدين على ولد معين الدين سليمان البرواناه، وشرف الدين مسعود بن الخطير، وضياء الدين محمود أخوه، ونور الدين بن جبجا، وسيف الدين طرنطاى صاحب أماسية، وسنان الدين الرومى ولده. وبقي البرواناه ينتظر ما يتجدد من جهة السلطان من أخبار وصوله إلى بلاد الروم ليعود إليه، ثم أرسل البرواناه يستدعي سيف الدين طرنطاى صاحب أماسية، فتوجه إليه وقال له: أنت تعلم أنني لست أختار القدوم على أبغا ولا يسعني التأخير إلا بسبب مانع عن السير، فإذا عدت من عندي تتفق مع الأمراء وتكون كتبكم متواترة إلى بأن الملك الظاهر قد قصد البلاد، وتحرّضوني على الرجعة، وتحشوني على السرعة. فعاد من عنده وتوجه البرواناه إلى نحو جهة قصده. ولما رجع سيف الدين طرنطاى إلى قيسارية رجع العسكر الذين كانوا بأبلستين إليها، ولم يتأخر منهم سوى سيف الدين أبو بكر جندر باك مقطع أبلستين، ومبارز الدين سوارى بن تركرى الجاشنكير، وفروج أمير آخور، واعتمد سيف الدين طرنطاى والأمراء الذين معه ما أشار 600 به البرواناه، وكاتبوه عدة مكاتبات بأن السلطان الملك الظاهر قاصد البلاد بعساكره، وإنك إن لم تسرع العودة إلينا وإلا فالبلاد منا مأخوذة.

ذكر عود السلطان الظاهر من عينتاب

فأرسل البرواناة كتبهم إلى أبغا، فأعطاه دستورا ليعود من الطريق، وجرد ثلاثين ألفا من أعيان المغول صحبة توقو وتداون إلى الروم ليكونوا مدداً له. وفي اثنان ذلك اختلف الأمراء الروميون فيما بينهم، وقتل اثنان منهم، ويحالف بعضهم على طاعة الملك الظاهر والانحياز إليه، وبرزوا خيامهم إلى ظاهر قيسارية، وخرج السلطان غياث الدين كيخسرو منها إلى مدينة دوالو، فأقام بها. وسير الأمراء الذين اتفقوا على الانحياز إلى الملك الظاهر رسلا إليه يخبرونه يخروجهم لقصده واتفاقهم على طاعته، وكان الرسل من: الأمير ضياء الدين محمود بن الخطير، والأمير سنان الدين موسى الرومى بن الأمير سيف الدين طرنطاى، ونظام الدين أخو مجد الدين الأتابك، والحاج أخو جلال الدين المستوفى، فحضرت هؤلاء إلى عينتاب، واجتمعوا بالسلطان الملك الظاهر وسألوه أن يجهز معهم عسكرا ليحضروا إليه وبقية الأمراء، فجرد معهم سيف الدين بلبان الزيني وبدر الدين بكتوب المعروف بابن أتابك. ففي عودهم من عند الملك الظاهر وصل البرواناه إلى قيسارية وصحبته توقر وتداون وعسكر التتار، فحالوا بينهم وبين السلطان غياث الدين وغيره، فرجعوا إلى السلطان الملك الظاهر من كوك صو، وهو النهر الأزرق، فجهزهم وحريمهم إلى الديار المصريّة، وسعى بهم ابن الخطير، فاعتقلهم بقلعة الجبل مدة، ثم أطلقوا. وأقام البرواناه بقيساريّة إلى انقضاء هذه السنة، وجهّز بيجار الرومي وبهادر ولده وجماعة من الروميين على الهرب إلى الديار المصرية، واللحاق بالملك الظاهر، فهربوا من الروم، فحضروا في أوائل سنة خمس وسبعين وستمائة. وأما السلطان غياث الدين فإن توقو وتداون أخذاه وسلماه إلى البرواناه، وقتلا شرف الدين بن الخطير بسب مغامرته لهم، وأما سيف الدين طرنطاي فخلوّا سبيله وأمروه بأن يلزم بيته. ذكر عود السلطان الظّاهر من عينتاب إلى الديار المصرية ولما جرى الأمور المذكورة، وكان السلطان على مدينة عينتاب رحل منها طالبا الديار المصرية في مستهل رجب من هذه السنة، ووصل إلى الديار المصرية في ثاني عشر رجب من هذه السنة، وكان يوم دخوله يوما مشهودا. ولما استقّر ركابه في قلعته بالقاهرة وفد عليه شكنده ابن عم داود ملك النوبة متظلما من ابن عمه داود وأخذه الملك منه، فجرد السلطان الظاهر معه جيشا صحبة الأمير شمس الدين آفستقر الفارقاني والأمير عز الدين أيبك الأفرم في مستهل شعبان، فوصلوا إلى دنقلة ولقيهم جمع من السودان، وافتتلوا، فانهزم السودان، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم ما لا يقع عليه الحصر حتى أبيع كل رأس بثلاثة دراهم، ثم تبعوا داود فترك أخته وأمّه وبنت أخته وهرب، فأخذ حريمه ورجعوا إلى الديار المصرية بعد أن ملّكوا شكندة ورتبوا أمره، وقرّروا عليه في كل سنة على كل رأس دينار، ووصلوا إلى القاهرة وصحبتهم السبيّ فأبيع بمائة درهم آلاف درهم. وقال بيبرس في تاريخه: ولما جردّ العسكر من مصر خرجوا في ثامن شوال ووصلوا إلى الدو، فأغاروا على قلعتها ونزلوا جزيرة ميكائيل، وهي رأس جنادل النوبة، فقتلوا وأسروا وغنموا، وكان قمر الدولة آبي صاحب الجبل، فآمنوه وفرروه على ولايته، ثم النفوا الملك داود وعساكره، فكسروه وأسر أخوه وأمّه وأخته، وقتلوا من السودان ألوفا، وهرب داود إلى الأبواب، وهي فوق بلاده، فالتقاه صاحبها واسمه أدرو قاتله وقتل ولده، وأكثر من كان معه، وأمسكه وأرسل به إلى السلطان أسيرا، فاعتقل بقلعة الجبل إلى أن مات في السجن فيما بعد، ورتّب الأمراء شكنده مكان داود خاله، وقرّروا عليه في كل سنة قطيعة يؤديها، وهي: ثلاثة أفيلة، وثلاثة زرافات، وخمس فهود، ومائة أصهب جياد، وأربعمائة رأس بقر، وأن تكون البلاد مشاطرة: النصف للسلطان، والنصف لعمارتها وحفظها، وأن تكون بلاد العلي وبلاد الجبل للسلطان خاصا لقربها من أسوان، ويحمل ما يتحصل منها من التمر والقطن مع ما تقرر من القطيعة والجزية وهي دينار واحد من كل واحد من العقلاء البالغين إلى الأبواب الشريفة، واستحلفوه على ذلك الأيمان التي يحلفها النصارى، وعادت العساكر المنصورة.

عقد الملك السعيد على ابنة سيف الدين

وأما شنكو أخو داود فإنه أسلم وحسن إسلامه، ورتب في جملة البحرية، وقررت له ولولده جامكية، وسمى ولده محمدا، وكان متدينا، كثيرا التلاوة في القرآن الكريم إلى أن توفى، رحمه الله. وقال النويري: وأول من غزا النوبة في الإسلام عبد الله بن أبي السرح في سنة إحدى وثلاثين في خلافة عثمان رضى الله عنه، ثم في زمن هشام بن عبد الملك بن مروان، ثم غزاها يزيد بن أبي صفرة، ثم غزاها أبو منصور هي وبرقة في عام واحد، ثم غزاها كافور الإحشيدي، ثم غزاها ناصر الدولة بن حمدان سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ثم غزاها شاهنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين بن أيوب في سنة ثمان وستين وخمسمائة. عقد الملك السعيد على ابنة سيف الدين ذكر عقد السلطان الملك السعيد بن الظاهر على ابنه الأمير سيف الدين قلاون الألفى: وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي الحجة من هذه السنة عقد وعقد الملك السعيد على الست غازية خاتون ابنه سيف الدين قلاون، كتب القاضي محي الدين بن عبد الظاهر الصداق، وهو خمسة آلاف دينار: المعجل منها ألفا دينار، وكان ذلك في الإيوان بحضرة السلطان، فأعطى السلطان 603 محي الدين المذكور مائة دينار وخلع عليه.

ونسخة الصداق: الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة، ومصدق الفال لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبة سلطانه، وصهره ملكه، الذي جعل للأولياءمن لدنه سلطانا نصيرا، وميّز أقدارهم باصطفاء تأهليه حتى حازوا نعيما وملكاً كبيراً، وأفرد فحارهم بتقريبه حتى أقاد شمس آمالهم ضياء، وزاد قمرهم نورا، وشرّف به وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بها عظيما، وإنعامه كبيرا، مهي أسباب التوفيق العاجلة ولآجلة، وجاعل ربوع كل أملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلّة، جاعل أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة، نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة والاستيداع، وأجمل لتأملهم الاستطلاع، وكمل لا ختيارهم الأجناس من العز والأنواع، وأتى آمالهم ما لم تكن في حساب أحسابهم من الابتداء بالتحويل والابتداع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع، ملية بتشريف الألسنة وتكريم الأسماع، ونصلى على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار، شرف به الموالى والأصهار، وجعل كرمه دارا لهم في كل دار، فخره على من استطلعه من المهاجرين والانصار مشرق الانوار صلى الله عليه وعليهم صلاة زاهية الاثمار يانعة الثمار، وبعد: فلو كان اتصال كل بحسب المتصل به في تفضيله، لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله، لكن الشرف بيت يحلّ به القمر، ونبت يزوره المطر، ولسان يتعود يتعوذ بالآيات والسور، ونضار يتجمل باللآلى والدّرر، والمترتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن سعد 604 الأخبية فيد سعد السعود، وإظهار خطبة بقول الثريا لا نتظام عقدها كيف، وإبراز وصلة تتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذي يغبطه على أبداع هذه الجوهريّة كل سيف، ونسج صهارة تم بها إن شاء الله كل أمر سديد، ويتفق بها كل توفيق يخلق الأيام وهو جديد، يختار لها أبرك طالع وكيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو السعيد، ذلك بأن المراحم الشريفة السلطانية أرادت أن تخص المجلس السّامى الأمير الكبيرى السيفي بالإحسان المبتكر، وتفرده بالمواهب التى يرهف بها الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر، وأن يرفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه صلى الله عليه وسلم من أبي بكر وعمر، فخطب إليه أسعد البريّة، وأمنع من يحميها السيوف المشرفية، وأعز من يسبل عليها ستور الصون الخفية، وتضرب دونها خدور الجلال الرضية، ويتجمل بنعوتها العقود، وكيف لا وهى الدرة الألفيّة، فقال والده وهو الأمير المذكور: هكذا ترفع الأقدار والأوزان، وهكذا يكون قران السعد وسعد القران، وما أسعد أرضا أصبحت هذه المكارم له جملية، وأشرف سيفا غدت منطقة بروج سمائها له حميلة، وما أعظمها معجزة أنت الأولياء من لدنها سلطانا، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لابن أمها ليت، وأشرفها عبودية كرمت سلمانها بأن جعلته من أهل البيت، وإذ قد حصلت الإستخارة في رفع قدر المملوك، وتخصصه بهذه المزية التى تقاصرت عنها آمال أكابر الملوك، فالأمر لمليك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذه الأشياء، وهذا مفتح الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على نظم سطوره، فأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره 605بالإحسان وأغدق، وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل، فقال: الاعتراف هذا ما يصدق، قال: العرف هذا ما أصدق مولانا السلطان الملك السعيد ناصر الدين بركة خان بن مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبي الفتح بيبرس الصالحى قسيم أمير المؤمنين الستر الرفيع الخاتوني غازية خاتون ابنه المجلس السامى السيفي قلاون الألفى الصالحى، أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا، وشجرة الأسباب ثمارا، ومشكاة الجلالة أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا، فبذل لها من العين المصري مما هو باسم والده قد تشرّف، وبنعوته قد تعرّف، وبين يدي هباته وصدقاته قد تصرّف وهو مبلغ خمسة آلاف دينار المعجل منها ألفا دينار.

ذكر توجه السلطان إلى الشام

ذكر توجّه السلطان إلى الشام ولما انقضى العقد ركب السلطان الملك الظاهر من ساعته وتوجّه إلى الكرك في الثاني عشر من ذي الحجة على الهجن في جماعة لطيفة، على الطريق البدريّة، تحت جبل يعرف بنقب الرفاعي، ولما وصلها نظر في أحوالها، وجمع القيمرية الذين بها، فإذا هم ستمائة نفر، فأمر بشنقهم، فشفع عنده فيهم فأطلقهم وأجلاهم إلى الديار المصريّة، وكان قد بلغه عنهم أنهم يريدون قتل من فيه ويقيمون ملكا عليهم، وسلم الحصن إلى الطواشى شمس الدين صواب السهيّلى، فانقضت السنة والسلطان بالكرك، ثم توجه منها إلى دمشق، فوصلها في رابع عشر المحرم من سنة خمس وسبعين وستمائة على ما نذكره إن شاء الله. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أنه كانت زلزلة عظيمة ببلاد خلاط، فهلك فيها شيئاً كثيراً من الدور والأسواق والحانات، واتصلت الزلزلة ببلاد بكر. ومنها: أن سيف الدين قلاون رتب مملوكه سيف الدين الدوادار صاحب التاريخ على الشراب خاناة التى له، عوضا عن زين الدين كتبغا. ومنها: أن في رمضان وجد رجل وامرأة في حمام نهارا على فاحشة في بغداد، فأمر علاء الدين صاحب الديوان برحمهما فرجما. وقال ابن كثير: ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد، منذ بنهت وهذا غريبٌ جدّا. وفيها: " ... ... ". وفيها: حج بالناس " ... ... ". ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام الأديب العلامة تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد بن الحسن بن محمد بن علي التميعى الصرخدي الحنفى. كان مشهورا بالفقه، والأدب، والعفّة، والصلاح، ونزاهة النفس، ومكارم الأخلاق، وكان مولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الحديث، وروى، وتوفي في هذه السنة، ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الآخر من هذه السنة وله ست وتسعون سنة. الشيخ الإمام عماد الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الصائغ. كان مدرسا بالعذراوية، وشاهدا بالخزانة بالقلعة، وكان يعرف الحساب جدّا، وله سماع ورواية، توفى في هذه السنة ودفن بقاسيون. الشيخ أبو العباس أحمد السلاوي المغربي. مات في السابع عشر من شهر ربيع الأول بمصر ودفن من يومه بسفح المقطم، وكان أحد المشايخ المشهورين بالصلاح المقصود للدعاء والتبرك. الشيخ أبو المعالي عبد الرحمن بن الشيخ أبي القاسم عبد العزيز الأسكندري المقرئ. مات في هذه السنة بالإسكندرية. الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن الشيخ الإمام أبي العز مظفر الأنصاري الخزرجي المصريّ. كان أحد الأثمة المشهورين بالفضل والعلم، وتوفي في هذه السنة. ابن السّاعي المؤرخ تاج الدين علي بن أنجب البغدادي. سمع الحديث، واعتنى بالتاريخ، ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن، وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي، وله تاريخ كبير ومصنفات أخر مفيدة، وآخر ما صنّف كتاب في الزهد، ولد سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ومات في هذه السنة، رحمه الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنّة الخامسة والسّبعين بعد السّتمائة استهلّت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي. والسلطان الملك الظاهر بيبرس رحمه الله في الكرك، وتوجّة منها إلى دمشق، فدخلها في الثالث عشر من المحرم منها، ولما وصلها بلغه وصول الأمراء الروميين المهاجرين إلى أبوابه، فسار من دمشق إلى حلب، فوصل بنجار الرومّى، وبهادر ولده، وأحمد بن بهارد، واثنى عشر من أمراء الروم بأولادهم وأهليهم، من جملتهم: قرمشى وسكناى ابنا قراجين بن جيغان نوين ونفرهما من فبيلته، بيسون وجيغان جدهما كان سلحدار جنكرخان ملك التتار هو وبيجو، كان قرمشى وسكتاى المذكوران قد أقاما بالروم عند البرواناه، وتزوج البرواناه بعمتها، فطلبا إلى الأردو فامتنعا، وقتلا الذي جاء في أثرهما، وقتلا كلّ من معه، ولحقا بنجار المذكور وحضرا معه، لما حضروا إلى خدمة السلطان أحسن إليهم، وتلفاهم بالقبول، وجهزهم وحريمهم إلى الديار المصرية، وأجرى عليهم الأرزاق ولما أفضت السلطنة إلى الملك المنصور قلاون تزوج ببنت سكتاى المذكور على ما سند كره إن شاء الله تعالى.

ذكر عود السلطان من حلب إلى الديار المصرية

ثم وصل بعدهم سيف الدين جندر بك صاحب الأبلستين، والأمير مبارز الدين أمير شكار، وبلغ السلطان أن التتار وصلوا إلى كوك صو مع توقو وتداون، فعاد السلطان إلى الديار المصرية لمهمات كانت بين يديه منها دخول الملك السعيد ولده بيته. ذكر عود السلطان من حلب إلى الديار المصريّة عاد السلطان من حلب بعد مجئ الأمراء المذكورين وهم في خدمته، فوصل إلى مصر ودخلها في ثاني عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وكان يوم دخوله يوما مشهودا، وجهّز حاله عساكره وأمرهم بالتأهب والتجهز لما سمع من وصول التتار إلى القرب من أعماله الحلبيّة. ذكر دخول الملك السعيد بابنة سيف الدين ذكر دخوله الملك السّعيد بن السلطان الظاهر بابنة سيف الدين قلاون وفي خامس جمادى الأولى من هذه السنة عمل عرس الملك السعيد على ابنة قلاون الألفي، واحتفل السلطان به احتفالا عظيما، وركب الجيش خمسة أيام في الميدان يلعبون ويتطاردون، ويحمل بعضهم على بعض، وقد لبسوا أكل العدد، ورتب لهم السلطان لعب القبق، فلعب السلطان بالميدان الأسود تحت القلعة، ولبس جوشنا وخوذة، وتقلد ترسا، وألبس فرسه العدّة الكاملة من البركستوان والوجه والرقبة، وساق تحت الفنق، ورماه باليد اليسرى فأصابه، وأخطأ غيره باليمنى بغير لبس، وأنعم على كلّ من أصاب من الأمراء بفرس بسرجه ولجامه وزينته من المراوات الفضة، ومن أصاب من المماليك والأجناد خلع عليه، وبقي هذا المهم ثلاثة أيام متوالية والناس في أفراح وسرور، وشاهد الناس منه ومن ولده الأسد وشبله ما يحار الناظرون ويدهش المتفرجون، ثم في اليوم الرابع خلع على الأمراء وجميع أكابر الدولة وأرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب والمقدمين والمتعممين، فكان بلغ ما خلع ألفا وثلاثمائة خلعة، وراحت مراسيمها إلى الشام بالخلع على أهلها، ومّد في ذلك اليوم سماط عظيم لا يوصف، حضره الشارد والوارد، والخاصّ والعامّ، وجلس رسل التتار ورسل الفرنج والأمراء وجميع أكابر الدولة، وعليهم كلهم الخلع الهائلة، وكان وفتا مشهودا، وحمل صاحب حماة هدايا عظيمة، وركب إلى مصر للتهنئة، ودخل الملك السعيد بيته، وقدمت له التقادم فقبل منها القليل، وانقضى الوقت على الوجه الجميل. ذكر مسير السلطان إلى الشام لغزو التتار ولما قوي خبر هجوم التتار على البلاد الشاميّة واشتد عزمهم على ذلك خرج السلطان الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرّية يوم الخميس العشرين من رمضان من هذه السنة، ومعه العساكر والجنود، وسار معهم، فدخل دمشق في سابع عشر شوال منها، فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار ومعه العساكر حتى دخل حلب مستهل ذي القعدة وأقام بها يوما، ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات يحفظ المعابر، وسار السلطان، ولما وصل إلى كوكصو وهو النهر الأزرق تحرك توقو وتداون ومن معهما من عسكر التتار الذين انتقاهم أبغا واختارهم، فجهّز السلطان الجاليش ومقدّمة العساكر صحبة الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فوقع على ألف فارس من التتار مقدمهم كراي، فانهزموا بين أيديهم وتيقنوا أن الدائرة عليهم. وقال ابن كثير: وقع سنقر الأشقر في اثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغل فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة من هذه السنة. ذكر ملاقاة السلطان مع التتار وانتصاره عليهم ثم إن السلطان الملك الظاهر قطع الدربند في نصف يوم، وصعد مع العسكر الجبال، فأشرفوا على صحراء الأبلستين، فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم، وهم اثنا عشر طلّبا، وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم، وكانوا في طلب واحد وحدهم، فلما تراءت الجمعان ورأى بعضهم بعضا بالعيان حملت ميسرة التتار، فصدمت سناجق السلطان، ودخلت طائفة منهم، قشقّوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن منعه، ثم لاحت منه التقاتة، فرأى الميسرة قد كادت أن تتحطم، فأمر جماعة من الأمراء بإردافها، وقاتلت التتار مع المسلمين قتالا شديدا، وصبر المسلمون صبرا عظيما، فأنزل الله نصره على المسلمين وبأسه على الملحدين، فأحاطت بهم العساكر من كل جانب، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتل من المسلمين أيضا جماعة.

ذكر دخول السلطان قيسارية

وكان ممن قتل من سادات الأمراء الأمير الكبير ضياء الدين بن الخطير، وسيف الدين قزان619 العلائي، وسيف الدين قبجق الجاشنكير، وعز الدين أبيك الشقيفي، وأسر جماعة من أمراء المغول ومن الأمراء ومن أمراء الروم جماعة أيضا، فمن المغول أسر زيرك وهو صهر أبغا، وصرطق وهو من أقاربه، وجوديه، وبردكيه، وتماديه، ومن الروميين علاء الدين بكلاربكى بن البرواناه حاكم الروم، ابن أخته وهو ولد خواجا يونس، ونور الدين بن جاجا، وسراج الدين أخوه، وقطب الدين أخو الأتابك، وسيف الدين سنقوجاه السيواسى، ونصرة الدين صاحب سيواس، وكمال الدين عارض الجيش بالروم، وحسام الدين كياوك قرابة البرواناه، وسيف الدين على شير التركانى، وحضر في الإحسان سيف الدين جاليش أمير دار وهو أمير العدل والمظالم، وميكائيل صاحب سنوب، وظهير الدين متوّج مشرف الممالك، ونظام الدين أوحد بن شرف الدين بن الخطير وإخواته، وقاضى قضاة الروم حسام الدين الحنفى، ومظفر الدين جحاف، وأولاد ضياء الدين بن الخطير، وسيف الدين كجكجنا الجاشنكير. ونور الدين المنجنيقي، وأولاد رشيد الدين صاحب. ملطية كمال الدين وإخوانه، وأمير على صاحب كركر، فما منهم إلا من أحسن السلطان إليه وأفاض إنعامه عليه. وأما توقو وتداون فإنهما قتلا في المعركة، وأما البرواناه فإنه كان مع جماعته وعسكر الروم في طلب واحد وحده منفرد عن أطلاب التنار كما ذكرناه ولما رأى انهزام التتار بارد بالهروب هو وأصحابه وولّوا الأدبار، وأخذ البرواناه معه السلطان غياث الدين وفخر الدين الوزير ومن كان بقيسارية وتوجّه بهم إلى توقات، وكانت إقطاعا له. وقال بيبرس في تاريخه: وفي هذه الواقعة أخذ سيف الدين قلاون الألفي: سيف الدين جاورشى، وسيف الدين قفجاق، واشترى سيف الدين سلاّر، لولده علاء الدين على الملقب عند سلطنته بالملك الصالح، فكان ذلك في طالع طلعه سعوده وغربت نحوسه، فإن المشار إليه ترقت به السعادة إلى ما سنذكره في موضعه إن شاء الله واسم أبيه طغرل، وكان البرواناه قد قرّبه وأدناه وصيّره أميرشكار. ذكر دخول السلطان قيساريّة وجلوسه على كرسيّ المملكة الروميّة: ثم ان السلطان الملك الظاهر رحل من مكان المعركة يوم البت حادي عشر الشهر ونزل قريب الكهف والرقيم وعبر على خان قرطاي وهو خان مبني بالحجر الأحمر، وله مغلاّت متسعة ودواوين متفرقة ومجتمعة، ونزل بالقرب من عسيبٍ، وهي التي يقول فيها امرئُ القيس بن حجر الكندىّ: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإنى مقيمٌ ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب وهو مدفون هناك. ولما وصل إلى وطاق كيخسرو وخرج أهل قيسارية كافة لتلقيّة، وكان دهليز السلطان غياث الدين مضروبا هناك، فنزله. وأقام على قيسارية سبعة أيام ينتظر حضور البرواناه إليه ليقرر معه قاعدة ينتظم بها مصالح الإسلام بتلك البلاد، وتجرى بها أمورهم على السداد، وأرسل إليه مملوكا له، كان قد حصل في الأسر مع ولده، وكتب إليه كتابا على يده يحثه على الحضور، ويوضح له ما يترتب على حضوره من مصالح أمر الجمهور، فأبى إلا النفار لما جرت به دنو أجله الأقدار، فلما أيس السلطان من أمره رحل عن قيسارية عائداً، ورتب فيها سيف الدين جاليش نائبا، وكتب إلى أولاد قرمان يحرضهم على الحضور، وركب يوم الجمعة سابع عشر ذى القعدة وعلى رأسه الجتر، وشاهد الناس منه صاحب القبة والسبع، وخطب له في جوامع قيساريّة وهي سبعة، وقبل في ذلك أبيات: وما كان هذا التخت من حين نصبه ... لغير المليك الظاهر البدر يصلح مليك على اسم الله ما فتحت له ... صوارمه البيض المواضى ويفتح أتته وفود الروم والكلّ قائل ... رأيناك تعفو عن كثير وتصفح فأوسعهم حلما، وأولادهم ندى ... فأمسوا على أمن ومنّ فأصبحوا وقال الأمير ناصر الدين محمد الحلى من أبيات في وقعة أبلستين: عزمنا على اسم الله والله ربنّا ... نروم العدي قسراً بكل مضمّر نروم بني قاقان جمعاً لأنهم ... بغوا وطغوا عن قسوة وتجبّر لنا فيهم التارات تارات من مضى ... جدود لنا فاقوا بأطيب عنصر

ذكر نزول السلطان بمرج حارم

ونحن جلبنا الخيل في كل غارة ... إلى معلها والروم فاسأل تخبّر مع الفارس الكرار في حومة الوغا ... أبي الفتح بيبرس الهمام الغضنفر عليه سلام الله مني تحيّة ... إلى أن ألاقى الله في يوم محشر ذكر نزول السّلطان بمرج حارم لما رحل السلطان من قيساريّة في التاريخ المذكور آنفا نزل في صحراء قراجا قريب بازاريكو، ثم رحل منها إلى أن انتهى إلى مرج حارم وصحبته علاء الدين علي بن البرواناه، ومن أخذ من الروم أسيراً، ومن جاء بالطاعة مستجيرا. وأقام السلطان على مرج حارم شهرا، وقد ربّعت خيول العساكر في المروج وأخذت الأعين حقها من منظرها البهيج، واستراحت العساكر هناك وهم آمنون سالمون وعلى أعدائهم منصورون مؤيدون. ذكر مجيء أبغا إلى موضع المعركة ولما بلغ خبر هذه الوقعة إلى أبغا بن هلاون ملك التتار، وتحقق عنده ما حلّ بعسكره من الكسرة، نهض وجاء حتى شاهد بنفسه مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول، فأعظم ذلك وحنق على البرواناة، إذ لم يعلمه بجليّة الحال، وأضمر ذلك في نفسه، ثم جاء إليه البرواناة وتلقاء، وسار في خدمته، واتفق في ذلك الوقت أن أيبك الشيخ قفز من عسكر السلطان وتوجّه إلى أبغا، لأن السلطان كان قد ضربه، فوجد في نفسه من ذلك، وحضر عنده، وأطلعه على أمر البرواناة، وأنه كان الباعث للملك الظاهر على الحضور إلى بلاد الروم بتكرار كتبه وتواتر رسله، فازداد غيظ أبغا عليه ولا سيما لما شاهد قتلى المغول الأكابر، وأن القتلى جميعا من عسكر التتار وليس فيهم أحد من الروميين، وتحقق عنده مخامرة البرواناة وتخاذل عسكر الروم، فعند ذلك أمر بنهب بلاد الروم من قيسارية إلى أرزنجان، وقتل المسلمين الذين بها، فتفرقت عساكره تنهب وتقتل، وقتلوا من المسلمين خلقا لا يحصون كثرة، وكان من جملة من قتل القاضي جلال الدين بن الحبيب، ولم يتعرضوا إلى نصارى البلاد، وامتدت غاراتهم مسافة سبعة أيام. ووكل أبغا بالبرواناه من حيث لم يظهر ذلك له، واستصحب معه السلطان غياث الدين، والصاحب بن خواجا على، ورجع، فلما عبر على قلعة كغويته أمر أبغا البرواناه أن يسلّمها إلى نوابه، فنادى البرواناه نائبه الذي بها ليسلمها إلى أبغا، فأبى وامتنع بها، فرحل أبغا وسار إلى أرزنجان فاشتراها له ملكا واعتّد بثمنها عن الإثارة المقررّة له على بلاد الروم، وسار إلى قلعة كملخ فأمر البرواناه أن يخرجوا إلى خدمة أبغا، فأبوا وقالوا: نحن تحت طاعة القان إذا رحل عنا خرجنا، فإنا نخاف سطوته، فطلع إليها الصاحب شمس الدين الجويني وأعرض حواصلها، وحمل مابها من القماش والمال لأبغا، وساق إليه ما كان فيها من الخيل. ثم سار إلى قلعة بابرت، فخرج إليه شيخ منها وقال: أريد من القان الأمان لأتكلم بين يديه كلمتين فقال: قل ولك الأمان. قال: يا ملك البسيطة عدوك حضر إلى بلادك وما تعرض للرعيّة ولا أسال لهم محجمة دم، وأنت قصدت العدّو وجئت في طلبه، فلما أنخت على رعيتك، فقتلتهم ونهبت بلادهم وخربتها، فمن هو من الخانات الذين تقدمّوا من أسلافك من هذه السّنة واعتمد هذه الياساق، فاغتاط أبغا لذلك وعطف على الأمراء الذين أشاروا عليه بنهب البلاد، فأهانهم، وأطلق كلّ من كان قد أخذ أسير، فكانت عدتهم أربعمائة 614 ألف نفر، وسار إلى الأردو، وقتل البرواناه. ذكر مقتل البرواناه واسمه سليمان بن علي بن محمد بن حسن، ولقبه علاء الدين البرواناه، ومعناه الحاجب بالعجمىّ وكان رجلا شجاعا، كريما، جوادا، عارفا بتدبير المملكة، ذا مكرودهاء.

ذكر رحيل السلطان الملك الظاهر إلى ناحية دمشق

وذكر في بعض التواريخ: أن أصله من الديلم، وأن أباه كان يلقب بهدب الدين، كان رجلا جميلاً وسيما من طلبة العلم، وكان حضر إلى سعد الدين المستوفى بالروم في أيام السلطان علاء الدين كيقباذ، فسأله أن يجرى عليه شيئاً من بعض المدارس لقيات به فيكون درهما كل يوم، فمال إليه المستوفى لما رأى من حسن سمته وسمته فقال له: أريد أن أصيرك منى مكان الولد وأجود لك بما أجد، ثم قرّبة وأدناه وأحبه، وزوجه ابنته، واتفق وفاه المستوفى بعد ذلك، فوصف مهذب الدين للسلطان علاء الدين كيقباذ بالفضيلة والمعرفة والكفاية والأهلية للمناصب، فرشحه لوزارته وألقى إليه مقاليد دولته، فرزق مهذب الدين معين الدين سليمان الملقب بالبرواناه، ثم آل أمر البرواناه إلى أن هلاون لما أخذ بلاد الروم قال للسلطان ركن الدين: من الآن يصلح للتردد في الأشغال؟ قال: ما يصلح أحد لذلك سوى البرواناه، فترقت منزلته من ذلك اليوم حتى صار فيما بعد حاكما على ممالك الروم إلى أن جرى عليه ما نذكره الآن من أبغا ملك التتار. وهو أن أبغا لما توجه من الروم إلى الأردو، وأخذ معه البرواناه كما ذكرناه، استشار الأمراء في أمره، فقوم أشاروا عليه بقتله، وقوم أشاروا بإبقائه وإعادته إلى البلاد ليحفظ نظامها ويحمل خراجها، فترجح عنده إبقاؤه فأطلقه من التوكيل على أنه يعود، فسمع نساء أمراء المغول الذين قتلوا في المعركة كزوجة توقو وتداون وغيرهما أن أبغا رسم بإطلاقهما لبرواناه، فاجتمعن جميعا عصر النهار، وأقمن مأتماً وصحن ونحن، فسمع أبغا ضجيجهن فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الخواتين سمعن بأن أبغا قد خلى سبيل البرواناه وأطلق سراحه ليعود إلى الروم سالما، فيكين وأعولن على أزواجهن، فأمر أبغا لأمير من الأمراء الذين يشتّون ببلاد سيس اسمه كوكجا بهادر أن يأخذ معه مأتي فارس ويسير بالبرواناه إلى موضع عيّنه له فيقتله، فاستدعى كوكجا بهادر البرواناه وقال له: إن أبغا يريد يركب ورسم لك أن تركب أنت وأصحابك معه، فركب هو ومعه اثنان وثلاثون نفسا من مماليكه وألزامه، فتوجه معه فأخذ به نحو البر، فعلم أن ذلك الأمر لاخير له فيه، فأحاط به وبأصحابه التتار كما يحيط بالزند السوار، وكتفوا أصحابه، فسأل أن يمهلوه ريثما يتوضّا ويصلى، فأمهلوه، فلما فرغ من صلاته قتلوه ومن معه. وكان أبغا نازلا بمقام الأطاغ، ولما سمع مماليك البرواناه بفتله وهم: علم الدين سنجر البروانيّ، وبر الدين بكتوت أمير آخور، فاجتمعا ومن معهم من كبارهم في مخيمهم وأوتروا قسيهم، ونكثوا بين أيديهم وقالوا: ما نموت إلا مقاتلين، فاضطر الذين ندبوا إلى قتلهم إلى أن شاوروا أبغا، فلما شاوروه على ذلك استحسن هذا الأمر منهم، وقال: هؤلاء مماليك نافعون، فخلوا عنهم، فأطلقوا سبيلهم وأعطوا دستورا إلى بلادهم. وكان مقتل البرواناه في آخر ذى الحجة من سنة خمس وسبعين وستمائة وقال ابن كثير: كان مقتله في العشر الأول من محرم سنة ست وسبعين وستمائة. وقال النويري: وكان مقتله على منزل الأطاغ، وقتل معه نيف وثلاثون نفسا من مماليكه وخواصّه. وقال بيبرس في تاريخه: وكان مقتل البرواناه في آخر صفر من سنة ست وسبعين وستمائة. ذكر رحيل السلطان الملك الظاهر إلى ناحية دمشق قد ذكرنا أن السلطان قد أقام في مرج حارم شهر لإراحة عساكره وتربيع خيولهم، ثم رحل عند انقضاء هذه السنة، أعنى سنة خمس وسبعين وستمائة إلى دمشق، ودخلها في خامس المحرم من سنة ست وسبعين وستمائة على ما نذكره إن شاء الله. وفيها: جهز يعقوب المرينى إلى محمد بن الأحمر نجدة من بنى مرين صحبة محمد وعامر ابنى إدريس، فأنجدوه على الفرنج واتفقوا معهم على شريش مدينة من مدائن الأندلس، فهزموهم هزيمة عظيمة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأرسل إلى يعقوب يشكره ويثنى عليه على إنجاده له وإمداده إياه. وفيها: "............ " وفيها: حج بالناس ".............. " ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ أبو الفضل عيسى بن الشيخ عبد الله بن عبد الخالق الدمشقي. مات في هذه السنة، ودفن بالقرب من الشيخ رسلان، وكان مولده سنة أربع وستين وخمسمائة. الشيخ المحدث شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد عبد الله بن أبي بكر الموصلى، ثم الدمشقي الصوفى.

السنة السادسة والسبعين بعد الستمائة

سمع الكثير، وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح، وجاوز السبعين، مات في هذه السنة، ودفن بباب الفراديس، رحمة الله. الشاعر شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفرى. صاحب ديوان الشعر، جاوز الثمانين، وكانت وفاته بحماة في هذه السنة، وكان الشعراء معترفين بفضيلته وتقدمه في هذا الفن. القاضي شمس الدين على بن محمود بن علي بن عاصم الشهرزورى، ثم الدمشقى. مدرس القيمرية، شرط وافقها له ولذريته من بعده، وقد سافر مع ابن العديم إلى بغداد، فسمع بها، مات في هذه السنة، ودفن في مقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح. الشيخ الصالح العالم الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكنانىّ الحموىّ. له معرفة بالفقه والحديث، ولد سنة ست وتسعين بحماة، وكانت وفاته بالقدس الشريف، ودفن بماملا، وسمع من الفخر عساكر، وروى عنه ولده قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة. الشيخ الصالح جندل بن محمد المبنى. كانت له عبادة وزهد، وكان الناس يترددون لزيارته بمنين، كان من أهل الطريق، علماء التحقيق، وتوفى في رمضان من هذه السنة وعمره خمس وتسعون سنةً، ودفن في زاويته المشهورة به بقربة منين، رحمه الله. محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن الفويرة السلمى الحنفىّ. اشتغل على الصدر سليمان، وابن عطاء، وفي النحو على ابن مالك، وحصل، وبرع، ونظم، ونثر، ودرس بالشبلية، والقصاعين، وطلب لنيابة القضاء فامتنع، وكتب الكتابة المنسوبة، رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته فقال: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول: ما كان لي من شافع عنده ... غير اعتقادي أنه واحد وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها، ودفن بظاهر دمشق. محمد بن عبد الوهاب بن منصور بن شمس الدين أبو عبد الله الحرانى الحنبلي. تلميذ الشيخ مجد الدين بن تيمية، وهو أول من حكم بالديار المصريّة من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين بن بنت الأعزّ، ثم لما ولى شمس الدين بن العماد القضاء مستقلا استنابه، ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتى ويناظر إلى أن توفى وقد نيف على الستين. الشيخ رشيد الدين أبو محمد عبد الله بن نصر سعيد القوصى النحوى. توفي فيها بمصر، وكان متصدرا لإقراء العربية، رحمه الله. الشيخ أبو المعالى أحمد بن أبي العباس بن عصرون التيمي الشافعي. وبيته مشهور بالعلم والتقدم، توفى في هذه السنة بحلب. القاضى الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عليّ البوشيّ المالكيّ. وكان صالحا، تولى قضاء الإسكندرية، وتوفى في هذه السنة بمصر، رحمة الله. الشيخ نجيب الدين أبو الفضل محمد بن عليّ بن الحسين بن حمزة الخلاطى. تولى الإعادة بالمدرسة السروريّة بالقاهرة، وذكر أنه شرح الوجيز في عدة مجلدات، وتوفى فيها القاهرة. الأمير أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر صاحب تونس. مات في هذه السنة. الأمير الطواشي يمن الحبشيّ، شيخ الخدّام بالحرم الشريف النبويّ. توفي في هذه السنة، وكان دينا عادلا، صادق اللهجة، وكان في عشر السبعين، رحمه الله. ذكر فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والسبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله. والسلطان الملك الظاهر قد دخل دمشق بعد رجوعه من بلاد الروم وكسره التتار على الأبلستين، وإقامته بعد ذلك على مرج حارم شهرا كما ذكرنا، في اليوم الخامس من محرم هذه السنة، فنزل بالقصر لأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميادين الخنصر، وتواترت الأخبار بأن أبغا بن هلاون قد عزم على قصد بلاد الشام، فأمر عند ذلك بجمع الأمراء وضرب الدهليز منشورا، ثم جاء الخبر بأنّ أبغا عاد إلى بلاده، فرسم بردّ الدهليز، وأقام في القصر الأبلق يجتمع عنده الأمراء، والدولة في أسر حال، معتقدا أن الدنيا قد حصلت في يده، والأقدار تخدمه في بلوغ مقصده، وإذا بالعافية قد شمرت الذيل، والصحة قد انجابت كما ينجاب ضوء النهار من سدفة الليل، وأمر الله قد أدركه فلم تغن الحيلة ولا الحيل. ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر أبو الفتح

الأسد الضارى ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى النجمى:

الأسد الضّارى ركن الدّين بيبرس البندقدارى الصالحى النجمى: تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته، والكلام فيه على أنواع: الأول في ترجمته هوبيبرس بن عبد الله، قفجاقىّ الجنس، وقيل هو من برج أغلى قبيلة من الترك، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر إلى مدينة حماة، فاستحضرهما الملك المنصور محمد صاحب حماة يشتريهما فلم يعجنه أحد منهما، وكان أيدكين البندقدارى الصالحىّ مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل صاحب مصر قد غضب عليه الصالح المذكور، وكان قد توجه أيدكين المذكور إلى جهة حماة، فأرسل الملك الصالح من يقبض عليه واعتقله بقلعة حماة، فتركه المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة، واتفق ذلك عند حضور الملك الظاهر صحبة التاجر، فلما قلبه المنصور صاحب حماة فلم يتستره أرسل أيدكين البندقدار وهو معتقل، فاشتراه ليخدمه، وبقي عنده، ثم أفرج الملك الصالح عن أيدكين البندقدار، فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر، وبقي مع أستاذه المذكور مدةً، ثم أخذه الملك الصالح نجم الدين أيوب من أيدكين المذكور، فانتسب الملك الظاهر إلى الملك الصالح دون أستاده، وكان يخطب له، وينقش على الدنانير والدراهم بيبرس الصالحي. الثاني في صفته كان الملك الظاهر أسمر، أزرق العينين، جهوريّ الصوت، عليه مهابة وجلالة، وكان إلى الطول أقرب. الثالث في سيرته كان شهما، شجاعا، سخيّا، عالي الهمّة، بعيد الغور، مقداما، جسوراً، معتنياً بأمر السلطنة، متحلّيا بها، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله، وإقامة شعائر الملك. وفي تاريخ النويريّ: وكان ملكا جليلا، شجاعا، مهينا، حسن السياسة، كثير النحيّل، وكان عسوفا جباراً، كثير المصادرات للرعية والدواوين خصوصا لأهل دمشق، وكان متنّبها، شهما، لا يفتر ليلا ولا نهارا عن مناجزة الأعداء ونصرة الإسلام، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه، وكذلك جيشه. وقد جمع له كاتبه محيى الدين بن عبد الظاهر سيرة مطوّلة، وكذلك ابن شداد أيضا، وهو الذي أنشأ الدولة العباسيّة بعد بقاء الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين، وهو الذي جدّد من كل مذهب قاضي قضاة مستقلا من غير مشاركة. الرابع في فتوحاته فتح في أيامه فتوحات كثيرة وهي: قيسارية التي على الساحل، وأرسوف، ويافا، والشقيف، وأنطاكية، وبغراس، وطبريّة، والقصير، وحصن الأكراد، وحصن عكّار، وحصن عكا، والقرين، وصافيثا، وغير ذلك من الحصون المنيعة التي بأيدي الفرنج، ولم يبق مع الإسماعيلية شيئا من الحصون، وناصف الفرنج على: المرقب، بليناس، وبلاد انطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وأخذ قيسارية الروم على ما ذكرنا، وخطب له فيها، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة، واستردّ أيضا من المتغلبين من المسلمين: بعلبك، وبصرّى، وصرخد، وعجلون، وحمص، والصلت، وتدمر، والرحبة، وتلّ باشر، والكرك، والشوبك، وأخذ بلادا كثيرةً من التتار منها: البيرة، وغيرها، وفتح بلاد النوبة بكمالها، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة. وقال النويرى: وأول فتوحاته قيسارّية الشام بالسواحل، وآخر فتوحاته قيسارّية الروم، وأما عدّة فتوحاته فكانت تزيد على أؤبعين حصناً، وكان بيده بمصر والشام ستة وأربعون قلعة. الخامس في عمائره

السادس في

قال ابن كثير: وعمر شيئاً كثيرا من الحصون، والمعاقل، والجسور، والقناطر على الأنهار في بلاد الشام ومصر، وبنى بقلعة الجبل دار الذهب، وبنى قبة على إنني عشر عمودا ملونّة مذهبة، وصوّر فيها صور خاصكيته وأشكالهم، وحفر أنهارا كبارا وخلجانات ببلاد مصر منها: بحر السردوس، وبنى جوامع كثيرة ومشاهد عديدة، وجدّد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحرق، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب، وجدّد المارستان بالمدينة، وجدّد قبر الخليل عليه السّلام، وزاد في رواتبه وما يصرف إلى المقيمين، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السّلام قبّة قبلىّ أريحا، وجدّد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة، ورمم شعث الصخرة وغيرها، وبنى خانا هائلا بالقدس ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر، وعمل فيه طاحونا وفرنا وبستانا، وجعل للواردين أشياء تصرفإليهم نفقة وإصلاح الأمتعة، وبنى على قبر أبي عبيدة رضى الله عنه بالقرب من عمتنا مشهدا وأوقف عليه شيئاً للواردين، وجدّد جسر فامية، وجدّد عمارة جعفر الطيار رضى الله عنه بالكرك، وأوقف على الزائرين شيئا كثيرا، وجدّد قلعة صفد وجامعها، وجدّد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد عدت عليها، وبنى بحلب دارا هائلة، وبدمشق: القصر الأبلق، والمدرسة الظاهرية قبالة العادلية، وبنى بالقاهرة أيضا: المدرسة الظاهرية، وبنى جامعا هائلا بالحسينية، وله من الأثار والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وبني أيوب. السادس في وفاته قال بيبرس رحمه الله: وكان القمر قد كسف كسوفا كاملا أظلم له الجوّ، وتأوّل ذلك المتأوّلون بموت رجل جليل القدر نبيه الذكر، فقيل: إن السلطان لما بلغه هذه الإرجاف حذر على نفسه وخاف، وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره لعله يسلم من شرّه، وكان بدمشق رجل من أولاد الملوك الأيوبيّة يسمّى الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك من ولد الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان يسكن البرّ، وتزوج من العرب، وأقام بينهم، يسير معهم حيث ما ساروا، وإذا غزوا غزا معهم، فحضر من الغزاة إلى دمشق، فأراد على ما قيل اغتياله، فأحضره في مجلس شرابه، فأمر الساقيّ أن يسقيه كأس قمز كان ممزوجاً فيما يقال بسمّ، فسقاه السذاقي ذلك الكأس، فأحسّ منه بالبأس، فخرج من المقام وعلقت به مخاليب الحمام، وغلط الساقي لإصابة المقدور، وملأ على أثره الكأس المذكور وأداره، والدائرات تدور فوقع في نوبة السلطان، فشربه ولم يشعر حتى أحس بالنيران، فكتم أمره عن الأطباء، وأخفى حاله عن الأحباء، ومكث أياما يشكو الليل والنهار من توقد وهج النار، ثم اضطر إلى اطلاع الطبيب بعد استحكام دائه، طمعا في دوائه، فلم ينجع العلاج، ولا نهضت قدرة الإساءة المزاج. وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب، فمات من ليلته ليلة السبت خامس عشر المحرم من هذه السنة. وتمرض السلطان بعده أياما حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد صلاة الظهر السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق، فكانت ذلك يوما عظيما على الأمراء وقال بيبرس في تاريخه: توفى في اليوم المذكور وقت الزوال، وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة، فصلوا عليه سراّ، وجعلوه في تابوت، ورفعوه إلى القلعة في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته تجاه العادلية الكبيرة ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة، وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى كان العشر الأخير من ربيع الأول، وجاءت البيعة للملك السعيد من مصر، فحزن الناس عليه وترحموا، وكان يوماً شديدا على الناس، وجدّدت البيعة، وجاء تقليد النيابة مجدّدا لعز الدين أيدمر.

السابع في

وقال بيبرس، فكتم الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار نائبه موته عن العساكر، وأظهر أنه مستمرّ المرض، ورتب حضور الأطباء وعمل الأدوية والأشربة على العادة، وحمل جسده إلى قلعة دمشق، فبقي فيها مصبراً إلى أن بنيت له التربة المذكورة، ثم إن الأمير بدر الدين الخزندار رحل بالعساكر المنصورة والخزائن مصونة موفورة، والأطلاب مرتبة منتظمة والمحفّة محمولة في المواكب محترمة كأن السلطان فيها مريض ولا يجسر أحد يتفّوه بموته، إلا أن الظنون ترجمت، والأفكار في أمره تقسمت، وغلّب الناس أمر وفاته على مرضه وحياته، ولم تزل الحال مرتبة في النزول والترحال إلى أن وصلوا إلى القاهرة المحروسة، وحصلت الخزائن، البيوتات والخيول والاسطبلات في قلعة الجبل فأشيع مماته، وأظهرت للناس وفاته، واستقر ولده الملك السعيد مكانه. وقال المؤيد في تاريخه: وفي سنة ست وسبعين يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم توفي السلطان الملك الظاهر بيبرس الصالحي بدمشق، وقت الزوال، عقيب وصوله من جهة بلاد الروم إلى دمشق، وقد ذكرنا أنه دخل دمشق في اليوم الخامس من محرم هذه السنة، ومات في السابع والعشرين منه، فتكون مدة إقامته بدمشق من بعد دخوله ثلاثة وعشرين يوما. السابع في مدّة سلطنته قال بيبرس: مدة مملكته ثمانية عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام. وقال النويرى: وكانت مدّة الملك الظاهر نحو سبع عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، وتوفى السابع والعشرين من محرم سنة ست وسبعين وستمائة، وكذا قال المؤيد في تاريخه. الثامن في أولاده وما رثي به قال النويرىّ: وخلّف من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدين بركة خان، ونجم الدين أمير خضر، وبدر الدين سلامش، وثلاث بنات. وقال غيره: خلف من الأولاد عشرة، ثلاثة ذكوروهم المذكرون وسبع بنات وما رثى به ما قاله محيى الدين بن عبد الظاهر يرثي به الملك الظاهر: أبدا عليك تحيّة وسلام ... يا قبر من فجعت به الإسلام يا تربة لولا الحياء من الحيا ... أمسى سجال الدمع فيك سجام يا دمع عبني مثل دمع سحابة ... هيهات بين الدمعتين زحام فسبقت كل سحابة هطالةٍ ... يثى عليها مندّلٌ وبشام تنهل منك نوال ساكنك الذي ... من كفه فوق السماح يسام الظاهر السلطان من بمصابه ... هدّ الهدى وتضعضع الإسلام وغدت دمشق بقبره وحلوله ... فيها نتيه على الوجود شام قبربه تتضاعف الأقسام من ... بركاته وتوكد الأقسام قبربه تتوسل الآمال في ... حاجاتها وتصرف الأحكام قبر الذي لو أنصفته قلوبنا ... ما أصبحت لمسرّة تستام قبر الذي قلع القلاع ... سكانها وله الحصون خيام قبر الذي قهر التتار فأصبحوا ... ولهم إذا ناح الحمام حمام وقال بيبرس: قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر يريثه أبياتا أولها: ما مثل هذا الرزء قلب يحمل ... كلا ولا صبر جميل يجمل الله أكبر إنها لمصيبةٌ ... منها الرواسي خيفةً تتقلقل ما للرماح تخولها رعدة ... ألتركها أن ليس تعقل تعقل لهفى على الملك الذي كانت به ... الدنيا تطيب وكلّ قفر منزل الظاهر السلطان من كانت له ... منن على كلّ الورى وتطول لهفى على آرائه تلك التي ... مثل السهام إلى المصالح ترسل لهفى على تلك العزائم كيف قد ... غفلت وكانت قبل ذا لا تغفل سهم أصاب وما رثى من قبلة ... سهم له في كل قلب مقتل أنا إن بكيت فإن عذرى واضحٌ ... ولئن صبرت فإنني أتمثل خلف السعيد لنا الشهيد ... فأدمعٌ منهلةٌ في أوجه تتهلل ذكر سلطنة السلطان الملك السعيد ناصر الدين بركة خان

ذكر وقوع الاختلاف الباعث إلى التلاف

استقر في السلطنة بعد وفاة والد الملك الظاهر، وكان استقراره في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة، وذلك أن الأمير بدر الدين بيليك الخزندار لما وصل بالعساكر إلى الديار المصريّة ألقى المقاليد إليه، ووقف بين يديه، واستمر على منا صحته وطاعته كما كان مع أبيه. وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد. وفي منتصف ربيع الأول ركب السلطان الملك السعيد بالعصائب على أبيه، وبين يديه الجيش بكماله الشامىّ والمصرىّ حتى وصل إلى الجبل الأحمر، وفرح الناس به فرحا شديدا، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك، ورئاسة السلطنة، واستقر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار في نيابة السلطنة على ما كان عليه مع والده، فلم تطل أيامه ومات بعد ذلك، كما سنذكره في الوفيات إن شاء الله تعالى. وتولى عوضه النيابة شمس الدين الفارقانىّ الظاهرى أستاذ الدار، وكان يباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية عند سفر أستاذه إلى البلاد الشاميةّ، وكان حاداً حازما، فلما استتب له حديث النيابة، والتقدم على تلك العصابة، ضمّ إليه أقواما كان الملك الظاهر ألزمهم ببيع نفوسهم له على الكبر، فلم يمكنهم مخالفته ما أمر، فاشتراهم زعم من ورثة مواليهم ومن ادعى أن له النظر عليهم، فكان ممن التف أصحابه، وانحاز إلي جنابه شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومى وسيف الدين قليج البغدادي، وسيف الدين بيجق البغدادي، وعلم الدين سنجر طردج، وأسد الدين قراصقل، وعز الدين مغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلحدار، وأمثالهم. ثم أن الملك السعيد مالت به الأهواء وتقلبت به الآراء، وقدم الأصاغر على الأكابر، وأقضى الأكابر بقرب الأصاغر، وكان يميل إلى أقرانه ومعاصرى أسنانه، فأمسك الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى، وهما من أكابر الأمراء، وكانا جناحى والده. فلما قبض عليهما دخل الأمير بدر الدين محمد بن بركه إلى أخته أم الملك، الملك السعيد، وقال لها: إن والدك هذا قد أساء التدبير، واعتمد أسباب التدمير، وأمسك مثل هؤلاء، وعول الصغار الناقصى الآراء، والمصلحة أن تردّيه إلى الصواب لئلا يفسد نظامه وتقصير أيامه، فبلغ السلطان كلام خاله، فبادر باعتقاله، فقامت والدته عليه وعنفته على سوء فعله، حتى أفرج عن الأمراء المذكورين، وقد تمكنت العداوة في قلوبهم وسكنت البغضاء في صدورهم، فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم. فقال بعضهم: نخرج إلى الشام ونخلى له البلاد، وقال بعضهم: بل نتحدث معه ونصده عن هذه الفعال الذميمة، فاجتمعوا ليلة الخميس على ذلك، وطلعوا بكرة الخميس إلى القلعة في مماليكهم وألزمهم ومن انضم إليهم من الأمراء والعسكر، فامتلأ بهم الإيوان والرحبة، وأرسلوا إليه يقولون: إنك قد أفسدت الخواطر، وغيرت عليك الضمائر، وتعرضت إلى الأمراء الأكابر، فإما أن ترجع عن ذلك وإلا كان لنا ولك شأن، فلاطفهم وأخذ خواطرهم، وتقرر الصلح، وسكن ثائر الشتر. وقال بيبرس: فلاطفهم وتنصل لهم من كل ما يكرهون، وأرسل لهم أربع تشريفات جليلة إلى الأمراء الأربعة الكبار، فأبوا أن يلبسوها وقالوا: نحن ما تكلمنا لأجل أنفسنا، بل لأجل العسكر كله، فكيف نلبس نحن دونهم وخواطرهم مغلية؟ فأعاد جوابهم بما طمأن قلوبهم، وتقرر الصلح، وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءاً ولا يبغى لهم شرا، وتولى أخذ اليمين منه الأمير بدر الدين الأيدمرى، فرضى الأمراء بذلك وانصرفوا، واستقر الحال هنيهةً. ذكر وقوع الاختلاف الباعث إلى التلاف

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

ثم إن الخاصكية الجوانية ومماليك بدر الدين الخزندار لكراهتهم للأمير شمس الدين آفسنقر الفارقائي وظنهم أنه عمل على أستاذهم منصبه اتفقوا على إمساكه، وأءتمروا على إهلاكه وحسنوا ذلك للسلطان، وبعثوه عليه، واستعانوا بسيف الدين كوندك الساقي، وكان الملك السعيد قد قدمه وعظمه، لأنه ربى معه في المكتب، فامتدّت أطماعه إلى أن يكون عوضا عن الفارقانىّ في المنصب، فأمسكوا الأمير شمس الدين المذكور وهو قاعد على باب القلة، رسحبوه إلى داخل، وبالغوا في ضربه وأذيته، ونتف لحيته، والإكثار من إهانته لما في أنفسهم من كراهيته، واعتقل بالقلعة، فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات، وسلم إلى ألزامه ليدقنوه، واستقر بعده في النيابة عن السلطنة الأمير شمس الدين سنقر الألفى المظفرىّ، فلم يرضه الخاصكيّةً فإنه ليس من الظاهرية، واتفق أنه ولىّ خشداشا له يسمى علم الدين سنجر الحموي ويعرف بأبي خرص الأعمال الصفدية وزاده نواحى من خاص الديوان السلطاني على إقطاعه وهي أريحا وكفر نمرين، فأهموا السلطان منه، وزعموا أنه يقصد إقامة المظفرية ولا يؤمن غائلته، فعزله عن قريب وولى سيف الدين كونداك السافى، فمال إلى جانب الأمير سيف الدين قلاون الألفى، واتفق أنه كان تحت حجرة أخت لزوجته، وهي بنت كرمون التترى الذي ذكرنا وفوده إلى الديار المصريّة في سنة إحدى وستين وستمائة، وذلك أن كرمون وصل معه ثلاث بنات له مستحسنات، فتزوج إحداهن الأمير سيف الدين قلاون المذكور، ورزق منها ولده الأكبر علاء الدين على الملقب في سلطنته بالملك الصالح، واحدة كانت متزوجة بواحد من التتار الوافدين، وبقيت الثالثة بكرا ومات أبوها، فأخذها الأمير قلاون عنده، وصارت مع أختها، فخطبها الملك الظاهر ودخل بها، ثم أبانها وأعادها إلى مكانها فخطبها سيف الدين كوندك حين صار نائب السلطنة، فجهزها إليه وزفها عليه، فتمكنت قربته، وتأكدت صحبته. وتقدم في ذلك الوقت شخص من المماليك السلطانية اسمه لاجين الزبينى، وتميز على أمثاله، وغلب على الملك السعيد في أكثر أحواله، وضم إليه جماعة من الخاصكية واستمالهم بالخشداشية، فأخذ لهم الإقطاعات، واستنجز لهم الصلات، فكان كلما انحل بديوان الجيش المنصور اقطاع لها صورة يسارع إلى أخذها لمن يختار ويحب، وينافس النائب المذكور في الإيراد والإصدار، فتوغرت منهما الصدور، ودبت بينهما عقارب الشرور وبغى كل منهما لصاحبه الغوائل، ونصب أحدهما للآخر الحبائل، وضم إليه كوندك جماعة من أهل السمع له والطاعة، وجعل الأمراء الكبار عمدته واتخذهم عدته، فبقي القوم حزبا له وحزبا عليه، فكان هذا الاختلاف موجبا للفساد والتلاف، ولقد أحسن القائل حيث يقول: كن آلفالهم ومألوفا لهم ... تقوى وبالتقوى تكون ألوفا إن السهام إذا انفردن فكس ... رها سهل ويصعب إن جمعن ألوفا ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أنه عتم النيل البلاد في هذه السنة، ورخصت الغلال رخصا لم ير مثله في الدولة التركية حتى بيع الأرب من القمح بخمسة دراهم، والأردب من الشعير بثلاثة دراهم، ومن بقية الحبوب بدرهمين، حتى حكى بعض التجار أنه أحضر إلى مصر ثلاثمائة أردب فول، فأبيعت بخمسمائة درهم نقرة، فأصرف منها أجرة المراكب والحقوق التي عليها، وبقي له خمسة وثمانون درهما. ومنها: أن في يوم الأثنين رابع جمادى الأولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة. بحارة الوزيريّة، على مذهب الحنفية، وعمل فيها مشيخة حديث، وقارئ. وبعده بيوم عقد ابن الخليفة المستمسك بالله بن الحاكم بأمر الله على ابنه الخليفة المستنصر بن الظاهر، وحضر والده والسلطان ووجوه المملكة وكان يوما مشهودا. ومنها: أن في يوم السبت تاسع جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي كانت تعرف بدار العقيقي لعمل مدرسة وتربة للسلطان الملك الظاهر، واستقر أساس التربة في خامس جمادى الآخرة. ومنها: أن في رمضان طلعت سحابة بمدينة صفد، فلمع منها برق شديد، وسطع منها لسان نار، وسمع صوت شديد هائل، ووقع على منارة صفد صاعقة شفتها من أعلاها إلى أسفلها شقاً يدخل فيه الكفّ

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها: أن صفر وصلت الهدايا من النفش مع رسله إلى الديار المصريّة، فوجدوا السلطان قد توفى، ووجدوا ولده الملك السعيد قد أقيم مقامه والدولة ما تغيرت، والمعرفة بعدما تنكرت، ولكن فقد أسدها، بل أشدها وأصدها الذي كلما انفتحت ثغرة من سور الإسلام سدها، وكلما انحلت عقدةٌ من عرى العزائم شدها، وكلما رامت فرقة من طوائف الطغاة أن يلج إلى حوزة الإسلام صدها. ومنها: أن أبا يوسف يعقوب المريني دخل إلى الأندلس منجدا لابن الأحمر، فتلقاه وبادر إلى خدمته وقدم له حصنين من حصونه أحدهما: يسمى طريف على البحر، والآخر: يسمى الجزيرة، فتسلمها منه، ورتب فيهما جماعة من أصحابه، وبلغ الفرنج حضوره إليه واجتماعهما معا، فحشدوا حشدا عظيما وخرجوا بفارصهم وراجلهم لقصدهما، وكان فيهم من أكابر: دوالنتو، وبد رقرمان، والتفوا فكانت الكسرة على الفرنج، فقتل منهم ألوف كثيرة، فجمع المسلمون رءوسهم وجعلوها تلا، فكانت أربعة وعشرين ألف رأس، وصعد المؤذن عليها وقام الأذان فوقها، ورجع يعقوب إلى بلاد الترك في بلاد ابن الأحمر ولده قنديل بن يعقوب، وعنده تقدير أربغة آلاف فارس. وفيها: "............. ". وفيها: حج بالناس "..................... ". ذكر من توفي فيها من الأعيان قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن الشيخ عماد الدين بن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ. أول من ولى قضاء القضاة للحنابلة بمصر، سمع الحديث حضورا على ابن الطبرزد، وغيره، ورحل إلى بغداد، واشتغل بالفقه، وتفنن في علوم كثيرة، وتولى مشيخة سعيد السعداء، كان شيخا مهيبا، حسن الشيبة، كثير التواضع والبرّ والصدقة، وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليه جامكية، وقد عزله السلطان عن القضاء قبل موته سنة سبعين، واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده، ثم أطلقه بعد سنين، فلزم منزله واستقر في تدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم، ودفن عند عمه الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم، وقد أجاز للحافظ البرزالى. الشيخ محي الدين النوري الإمام العالم العلامة أبو زكريا يحيى بن شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحزامى النووي ثم الدمشقى، الشافعي. شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصب السبق دون أقرانه، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن، فشرع في قراءة التنبيه. يقال: إنه قرأة في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحا وشرحا، فكان يقرأ كل يوم عشر دروس على المشايخ، ثم غنى بالتصنيف، فخرج أشياء كثيرة منها ما أكملهومنها ما لم يكمله، فما كمله: شرح صحيح مسلم، والروضة، والمنهاج، ورياض الصالحين، والأذكار، والتبيان، وتحرير التنبيه وتصحيحه، وتهذيب الأسماء، واللغات، وطبقات الفقهاء، وغيرذلك، ولم يتممه: شرحه للمهذّب الذي سماه المجموع وصل فيه إلى كتاب الربو، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وقد كان من الزهادة والعباد والتحرّي والورع والانجماع عن الناس والتخلىّ لطلب العلم والتحلى به على جانب عظيم لا يقدر عليه غيره، وقد كان يصوم الدهر ولا يجمع بين أذانين، وغالب قوته ما يحمله أبوه إليه من حوران، وقد باشر تدريس الإقبالية نيابة عن القاضي شمس الدين بن خلكان، وكذلك في الفلكية، والركنية، وكان لا يضيع شيئا من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم، وكانت وفاته في ليلة الرابع والعشرين من شهر رجب من هذه السنة بنوى ودفن فيها. علي بن علي بن اسفنديار نجم الدين. الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الأشهر الثلاثة، وكان شيخ الخانقاة المجاهدية، وبها توفي هذه السنة، وكان فاضلا بارعا، وكان جده يكتب الإنشاء للخليفة الناصر، وأصلهم من بوشح، وشعر نجم الدين هذا: إذا زار بالجثمان غيري فإنني ... أزور مع الساعات ربعك بالقلب وما كل ناءٍ عن ديار بنازح ... ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب الشيخ الفخر أبو عبد الله محمد الفارسي. توفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة منها بالقاهرة، رحمه الله الشيخ عماد الدين عبد الرحمن بن داود ضاحي المعروف بالسمرباى. كان فاضلاً، وله نظم حسن، ومن شعره:

السنة السابعة والسبعين بعد الستمائة

اجعل لرّبك ما تأتي وما تذر ... تفز لديه بما لا تبلغ الفكر وبادر الوقت بالخيرات مجّهدا ... إن النفس لخوف الفوت يبتدر ولا تضع لاهياً عمراً شرفت به ... فالعمر عقدٌ له ساعاته درر لله كل الورى ملكٌ فطاعته ... أحقّ ما اكتسبته البدو والحضر في الله في كل شئٍ فائتٍ عوضٌ ... إذا المعاني تحلّت غابت الصّور ومن يدم شغله بالله كان له ... سمعاً وعيناً كذاك الخبر والخبر الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل بن أيوب. توفي يوم السبت خامس عشر المحرم من هذه السنة مسقيّاً كما ذكرنا عن أربع وستين سنةً، وكان رجلا جيدا، سليم الصدر كريم الأخلاق، ليّن الكلمة، كثير التواضع، يعاني ملابس العرب ومراكبهم، وهو معظم في الدول، وكان كريما شجاعا مقداما، وكان يسكن البّر، وتزوج في العرب، وأقام بينهم، يسير معهم حيث ساروا، إذا غزوا غزا معهم، فحضر من الغزاه إلى دمشق، فشرب من كأس الظاهر الذي فيه حمامه كما ذكرنا. الأمير الكبير بدر الدين بيليك بن عبد الله الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر. وكان خيّرا جوادا ممدّحا، له إلمام ومعرفة بأيام الناس والتواريخ، وقد وقف درسا بالجامع الأزهر بالقاهرة على الشافعيّة، يقال: إنه سمّ مات، حنف أنفه والله أعلم، وانتقض بعده حبل الملك السعيد واضطربت أموره. الأمير شمس الدين آفسنقر بن عبد الله الفارقاني الظاهرى، أستاذ الدار. وكان يباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان الملك الظاهر، مات في هذه السنة معتقلا في القلعة بعد وفاة الأمير بدر الدين بيليك بأيام قليلة، رحمة الله. وممن توفي في هذه السنة من الأمراء الأمير جمال الدين أقوش المحمدى، والأمير عز الدين الدمياطى، والأمير بلطا البيرى، والأمير بدر الدين الوزيري، والأمير سنقر الرومىّ. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والسبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة وأولها يوم الأربعاء، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي. وسلطان الديار المصرية والشاميّة والحلبية: الملك السعيد بن الملك الظاهر بيبرس. ونائبه بدمشق عز الدين أيدمر الظاهرىّ، وبحلب الأمير نور الدين على الهكارىّ. وصاحب حماة: الملك المنصور. وسلطان بلاد الروم: غياث الدين بن ركن الدين قليج أرسلان، وهو سلطان إسماً، والحكم للتتار. وصاحب العراق وأذر بيجان وغيرهما من تلك البلاد: أبغا بن هلاون. وصاحب اليمن: الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر. وصاحب مكة: الشريف نجم الدين بن أبي نمى الحسنى. وصاحب المدينة: عز الدين جماز بن سالم الحسيني. وفي أوائل المحرم جاء الخبر إلى دمشق بأن شمس الدين بن خلكان، تولى قضاء القضاة الشافعيّة بدمشق، عودا على بدء، وذلك بعد أن عزل عن قضاء دمشق مدة سبع سنين، فلما جاء الخبر بذلك امنتع قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ عن الحكم، وقد كان منصب القضاء بينهما دولا، ثم وصل ابن خلكان إلى دمشق، فدخلها يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، فخرج نائب السلطنة الأمير عز الدين أيدمر، وعه جميع الأمراء والمواكب لتلقيه، وفرح الناس به فرحا شديدا، ومنهم من تلقاه إلى الرملة، ومدحه الشعراء، فكان فيمن أنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفران: لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم وفي يوم الأربعاء ثالث صفر ذكر ابن خلكان الدرس بالظاهرية التي بنيت موضع دار العقيقي بدمشق، ولم تكن المدرسة تكاملت بعد، وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وبقيّة القضاة والأعيان، وكان مدرس الشافعية رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقيّ، ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفيّ.

سفر الملك السعيد من مصر إلى دمشق

وفي جمادى الأولى: باشرقضاء الحنفيّة بدمشق الشيخ صدر الدين سليمان المذكور، عوضا عن القاضي مجد الدين بن العديم بحكم وفاته، ثم توفى صدر الدين المذكور في رمضان من هذه السنة، وتولى عوضه القاضى حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أحمد بن القاضي جلال الدين الحسن بن أبي شروان الفرازيني الذي كان قاضيا بملطية قبل هذا. وفي العشر الأواخر من ذي القعدة: فتحت المدرسة النجيبية، وحضر تدريسها القاضي شمس الدين بن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاة النجيبية، وكانتا وأوقافهما تحت الحوطة إلى الآز. سفر الملك السعيد من مصر إلى دمشق ذكر سفر السلطان الملك السعيد بن الملك الظاهر من مصر إلى دمشق وفي أواخر هذه السنة: عزم السلطان الملك السعيد على السفر إلى الشام ليتفرّج في الممالك ويتنزه في المروج والمسالك، فتجهز وسار بالعساكر، فوصل إلى دمشق ودخلها يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة من هذه السنة، وطلع قلعتها، ونزل بقصر والده الظاهر، وقد زينت له البلد، وعملت له ظاهرة، وخرج أهل البلد لتلقيه، وفرحوا به فرحاً شديداً لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر بالميدان الأخضر، وعمل العيد بالقلعة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء بن الحنا الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن السنجارى. وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة منها: جلس السلطان الملك السعيد بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان جدّده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت الأدعية له وأحبوه لذلك حباً شديدا، فإنه كان قد أجحف بكثير من أرباب الأملاك، وودّ كثير منهم أن لو تخلص من ملكه بسهب ما عليه. وقال بيبرس في تاريخه: وكان السلطان أهتم ببناء تربة على والده، فاشترى دارا تعرف بالعتيقي وبناها تربةً ونقل والده إليها. فقال في ذلك القاضي محي الدين بن عبد الظاهر أبياتا من جملتها: صاح: هذا ضريحة بين جفنى ... فزورا من كل فج عميق وكيف لا وهو من عقيق دموعى ... دفنوه منها بدار العقيق ذكر تفريق السلطان عساكره ولما أستقر ركابه بدمشق فرق العساكر في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، فسير فرقةً صحبة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى إلى جهة قلعة الروم، وفرقة صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحي إلى بلاد سيس معه خزانة برسم نفقات العساكر، فأنفق فيهم بحلب، ثم ساروا إلى سيس، وسار بدر الدين بيسرى إلى قلعة الروم، وكان القصد بتفريقهم التمكن من التدبير عليهم، فلما أبعدوهم إلى هذه الجهات وفرقوهم بحجة الغارات قرّروا مع الملك السعيد القبض عليهم عند عودهم، وأخذ إقطاعاتهم وموجودهم، وعينوا خبز كا واحد منهم لواحد منهم، هذا والأمير سيف الدين كوندك مطّلع عليهم، فلما اتفقت العودة من الغارة اجتمع الأمراء بالمرج ليدخلوا دمشق بالأطلاب والترتيب على العادة، فأرسل سيف الدين كوندك إلى الأميرين المذكورين وهما بدر الدين بيسرى وسيف الدين قلاون سرا، فعرفهما بما اتفقت الخاصكيّة عليه، وما انتهى الحال إليه، فأسرّا ذلك في أنفسهما، ثم خرج الأمير سيف الدين كوندك لتلقيهما، وأعلمهما الأمر مشافهةً، فتحققا الخبر ولم يشكّا فيه، لعلمهما بانفعال السلطان وميله إلى آراء الصبيان. فأقاموا بالمرج ولم يدخلوا دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد يقولون له: إننا مقيمون بالمرج وإن سيف الدين كوندك شكى إلينا من لاجين الزينى شكاوى كثيرة، ولابد لنا من الكشف عنها فيسيره السلطان إلينا انسمع كلام كل منهما وننصف بينهما. فلم يعيأ بقولهم ولم يسير لاجين الزينى إليهم، وكتب إلى الأمراء الظاهريّة الذين معهم بإن يفارقوهم ويعبروا دمشق، فأرسل الكتب إليهم مع قاصد، فوقع به أصحاب كوندك، فأحضروه إليه، فأحضره إلى الأمراء، فوقفوا على ما معه من الكتب، فتحققوا سوء رأيه فيهم، فرحلوا من وقتهم ونزلوا على الجسورة من ناحية داريا، وأظهروا الأمور الدالّة على الخلاف، وتجريد صوارم الهجر من الغلاف.

وتبين للسلطان أنه قرط وأسرف في سوء التدبير، فبادر بإرسال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير شمس الدين سنقر التكريتى الظاهرىّ أستاذ الدار إلى نحوهم ملتمسا منهم الرجوع، ومتلطفا لهم بأنواع الخشوع والخضوع، وفاوضاهم في ذلك، وبالغا فيه، فما ازداروا إلانفارا وإباءً، وقالوا: لاسبيل إلى المراجعة إليه، وقد انصدعت القلوب، وجرت هذه الخطوب، فعادا الأميران المذكوران إليه، وأعادا القول عليه، فخامره القلق وخالطه الفرق، فقالت والدته: أنا أتوجه بنفسي إليهم لعلهم يرون للمحرم ويرعون ما لهم من الحرم، فأذن لها في ذلك، فحضرت إليهم، ودخلت عليهم وهم على منزلة الكسوة ظاهر دمشق، فسألتهم إخماد الثوائر، واستعطفتهم بكل ما تستمال به الخواطر، فما مالوا إليها ولا عاجوا عليها، فرجعت آيبة، ومما أملته خائبة. ثم رحلت الأمراء من الكسوة وجدّوا في المسير من غير تقصير حتى وصلوا إلى الديار المصرية في أوائل السنة الآتية، وسنذكر ما جرى بعد ذلك إن شاء الله. وفيها: طلب من أهل بغداد خمسون ألف دينار، وضربت على أملاكهم أجرة مدة شهرين وجبيت منهم على وجه القهر والغلبة والظلم. وفيها: حج بالناس "................. ". وفيها: "..................... ". ذكر من توفي فيها من الأعيان قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز وهيب بن نظام أبو الفضل الأذرعى، ثم الدمشقي الحنفى. الإمام العالم المتبحر العارف بدقائق الفقه وغوامضه، انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر والشام، وشيخ الحنفية في وقته شرقا وغربا، تفقه على الشيخ جمال الدين الحصري وغيره، ثم سكن مصر، وحكم بها، ودرس بالصالحية، ثم رجع إلى دمشق فاتفق موت قاضي القضاة مجد الدين بن العديم، فولى القضاء عوضا عنه، فلم يبق فيه إلا ثلاث شهور حتى مات ليلة الجمعة سادس شعبان من هذه السنة ودفن من الغد بعد الصلاة بدار بسفح قاسيون، وله ثلاث وثمانون سنة، وولى القضاء بعده بدمشق حسام الدين الرومىّ، وكان الملك الظاهر بيبرس يحبّه ويبالغ في احترامه، وأذن له أن يحكم حيث حلّ وكان لا بكاد يفارقه في غزواته، وحج معه، ولم يخلف بعده مثله في المذهب، وله شعر حسن ومنه ما قاله في مملوك حسن الصور من مماليك الملك المعظم بن العادل زوجه بحارية من جواريه موصوفة بالحسن: يا صاحبي قفا وانظرا عجبا ... أني بنا الدهر فينا من عجائبه البدر أصبح فوق الشمس منزلةً ... وما العلو عليها من مراتبه أضحى يمائلها حسنا وصار لها ... كفوا وسار إليها في مواكبه فاشكل الفرق لولا وشى نمنمةبصدغه واخضرار فوق شاربه قاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبي، ثم الدمشقي الحنفيّ. ولى قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق، وكان رئيساً ابن رئيس، وله فضل ومكارم أخلاق، وقد ولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي وليه، وكانت وفاته بجوسقه في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأ عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربيّ الزيتون. الشيخ جمال الدين عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عبد الله ابن الحسن بن عثمان بن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي، ثم الدمشقي. درس بمدرسة أبيه من بعده إلى حين وفاته يوم الأربعاء سادس رجب، ودفن بسفح قاسيون، وكان رئيسا حسن الأخلاق، جاوز خمسين سنة. جمال الدين طه بن إبراهيم بن أبي بكر الهمداني الأربلى. كان أديبا، فاضلا، شاعرا، وله قدرةٌ في تصنيف ذو بيت، وقدم القاهرة حتى كانت وفاته بها في جمادى الأولى من هذه السنة، واجتمع مرةً بالملك الصالح نجم الدين، فجعل أيوب يتكلم في علم النجوم، فأنشده على البديهة: دع النجوم لطرفيّ يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم فقد أبصرت ما ملكوا وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمدٍ أصابه وبرأ منه: يقول لي الكحال عينك قد هدت ... فلا تشغلن قلبا وطب نفسا ولى مدةٌ يا شمس لم أركم بها ... وآية برء العين أن تبصر الشمسا الوزير بهاء الدين أبو الحسن على محمد بن سليم المعروف بابن حنا المصري.

وزر للملك الظاهر، ثم لولده الملك السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة منها، وكان ذا رأى وحزم وتدبير، وكان قد تمكن في الدولة الظاهرية، ولا تمضي الأمور إلا عن رأيه وأمره، وله مكارم على الأمراء وغيرهم، وقد امتدحه الشعراء، وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة وقد صودر في الدولة السعيديّة. وقال النويريّ: ولما توفي الصاحب بهاء الدين حنّا احتاطوا على ابنه تاج الدين وأخيه زين الدين وعلي ابن عمه عز الدين بن محي الدين، وأخذ خط كل واحد منهم بمائة ألف دينار بدمشق، وسيروا الجميع تحت الحوطة إلى مصر، وتولى الوزارة بعد موت بهاء الدين المذكور الصاحب برهان الدين السنجارى. وقال النجم بن النجيب يهجو الصاحب بهاء الدين بن الحنا المذكور: خربت ديارك يابن حنا وانقضى ... زمن به أسرفت في الطغيان ونقلت من دار النعيم إلى الظى ... بفضاضة ملأت فضا النيران وتركت رهطك في العذاب فلم يفد ... ما نلت من عزّبد الخسران كم ذا تزخرف باطلا لبطالة ... قام الدليل عليه بالبرهان ابن الظهير اللغويّ الحنفيّ محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الأربلى الحنفي المعروف بابن الظهير. ولد بأربل سنة إثنين وستمائة، ثم أقام بدمشق، ودّرس بالقيمازية وأقام بها حتى توفي فيها ليلة الثاني عشر من ربيع الأول منها، ودفن بمقادير الصوفية، وكان بارعا في النحو واللغة، وكانت له اليد الطولى في النظم، وله ديوان مشهور وشعر رائقٌ حسنٌ قويٌ، سمع الكثير من أصحاب أبي الوقت وغيره قدم القاهرة فسمع بها وحدث، وسمع ببغداد ودمشق، وروى عنه الحافظ الدمياطي، ونفقه في مذهب أبي حنيفة على عبد الرحمن بن الفقيه محمد البغدادي. ومن شعره: طرفي وقلبي ذا يسيل دماً وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كلٍ منهما في جرحه نجم الدين أبو المعالى محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين الشيباني الدمشقي. ولد في ضحى يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول من سنة ثلاث ستمائة، وصحب الشيخ على بن أبي الحسن بن منصور البسرى الحريري في سنة ثماني عشرة، وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردى وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات، وكان ابن إسرائيل يذكر أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، فاستوطنوا دمشق، وكان أديبا فاضلا في صناعة الشعر، بارعا في النظم الفائق الرائق، ولكن في كلامه ما يشير به إلى نوع من الحلول والإلحاد على طريقة ابن الفارض وابن عربيّ، والله أعلم بحاله وحقيقة أمره، وكانت وفاته بدمشق ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة عن أربع وسبعين سنة، ودفن في تربة الشيخ رسلان داخل القبة، وكان الشيخ رسلان شيخ الشيوخ على المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ على الحريري شيخ ابن إسرائيل. ابن العود الرافضى أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحلىّ شيخ الشيعة، وإمامهم، وعالمهم في أنفسهم. كانت له فضيلة، ومشاركة في علوم كثيرة، حسن المحاضرة والمعاشرة، لطيف النادرة، وكان كثير التعّبد في الليل والنهار، وله شعر جيّد، ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتوفي في شعبان من هذد السنة عن ست وتسعين سنة. الأمير الكبير جمال الدين أفوش بن عبد الله النجيبي أبو سعيد الصالحيّ.

السنة الثامنة والسبعين بعد الستمائة

أعتقه الملك الصالح نجم الدين أيوب وجعله من أكابر الأمراء، وولاه استاداريته، وكان يثق إليه ويعتمد عليه، وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة، وولاه الملك الظاهر استاداريته، ثم استنابه بالشام تسع سنين فاتخذ فيها المدرسة النجيبية والخانقاة ووقف عليهما أوقافا دارّة واسعة، ولكن لم يقرّر للمستحقين قدرا يناسب ما وقفه عليهم، ثم عزله السلطان واستدعاه إلى الديار المصرّية، فأقام بها بطّالاً، ثم مرض بالفالج أربع سنين، وقد عاده في بعضها الملك الظاهر، ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس عشر ربيع الآخر بالقاهرة بدرب ملوخيا، ودفن في يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وقد كان ايتني لنفسه تربةً بالمدرسة النجيبية وفتح لها شباكين في الطريق، فلم يقدّر دفنه فيها، وكان كثير الصدقة، محبا للعلماء محسنا إليهم، حسن العتقاد، شافعيّ المذهب، متغاليا في السنة ومحبة الصحابة رضي الله عنهم، وبغض الروافض، ومن جملة أوقافه الخان الذي في طريق الجسورة قبليّ جامع كريم الدين اليوم، وعليه أوقاف كثيرة، وجعل النظر في أوقافه للقاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله. الأمير الكبير علاء الدين أيدكين بن عبد الله الشهابي واقف الخانقاة الشهابيّة. وقد كان من أكابر الأمراء بدمشق، وقد ولي النيابة بحلب مدة، وكان من خيار الأمراء وشجعانهم، وله حسن ظن بالفقراء والإحسان إليهم، ومات في خامس عشر ربيع الأول منها، ودفن بتربة الشيخ عثمان الرومىّ بسفح قاسيون وهو في عشر الخمسين، والخانقاة المذكورة داخل باب الفرج، وكان لها شباك إلى الطريق والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحيّ. السّلطان عزّ الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن سليمان قطلومش بن أرسلان بن سلجوق. مات في هذه السنة عند منكوتمر ملك التتار بمدينة صراي، وكيكاوس المذكور هو الذي كان محبوسا في قلعة من قلاع القسطنطينية كما تقدم ذكره عند القبض عليه في سنة اثنين وستين وستمائة، وذكر خلاصة واتصاله بملك التتار في سنة ثمان وستين وستمائة، وخلّف عزّ الدين المذكور ولداً اسمه مسعود وقصد منكوتمر أن يزّوجه بزوجة أبيه عز الدين كيكاوس وهي أرباي خاتون، فهرب مسعود ابن كيكاوس واتصل ببلاد الروم، فجعل إلى أبغا، فأحسن إليه أبغا وأعطاه سيواس وأرزن الروم وأرزنجان، واستقرت هذه البلاد لمسعود بن عز الدين المذكور، ثم بعد ذلك جعلت سلطنة لمسعود المذكور، وافتقر جدّا وانكسر حاله، وهو آخر من سمى سلطانا بالروم من السلجوقيّة. وقال بيبرس: ولما هرب مسعود من عند منكوتمر استصحب معه ولدين كانا له أحداهما اسمه ملك والآخر قرامرد، وعدىّ البحر المحيط، وجاء إلى قيسارية، فحمل إلى أبغا كما ذكرنا، واما أمرأة أبيه فإنها لم تصبر على فراقه، فجمعت أموالهاوسارت في إثره وعدت البحر ووصلت إلى الروم، فصادفها كرسالية الفرنج في البحر، فقطعوا عليها الطريق وأخذوا أموالها، وخرجت إلى ساحل صمصون، ثم جاءت إلى أماسية، فصادفت بها زوجة سيف الدين طرنطاى، فأحسنت إليها وأنزلتها في منزلها وأضافتها مدة شهر، وبلغ أبغا وصولها، فأمر بأن تحمل إلى الأردو مكرمةً، فلما وصلت إلى قريب الأردو خرجت الخواتين ونساء أبغا لتلفيها، وسألها أبغا عما انفق لها ومن من أهل الروم أكرمها أو خدمها، فأخبرته بإكرام كرجى خاتون زوجة طرنطاى لها وما عاملتها به من الخير، وكانت كرجى خاتون قد أعلمتها بحال سنان الدين الرومىّ ولدها وأنه معتقل بالديار المصريّة، وأنها تختار أن تتحيل له في الخلاص، وتخشى من أبغا أن تسيّر رسولا إلى مصر أو هدية أو غير ذلك، فأجرت أرباى خاتون الحديث مع أبغا، فأمر بأن يكتب مرسوم إلى ضمغار نائبه في الروم أن يقطع انطالية لوالدة سنان الدين الرومىّ لنكون بها قريبة من ولدها، وأن يؤذن لها في التحيل على خلاصة بما تختاره من الرسل وغيرهم إما ظاهر أو إما سرّا، فتوجه الأمير سيف الدين طرنظاى وزوجته من أماسية إلى انطالية وجهزا رسولا وهدية إلى الديار المصريّة بسبب ولدهما، فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والسبعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وأولها يوم الأحد والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسيّ.

ذكر وصول الأمراء إلى الديار المصرية

والسلطان الملك السعيد بن الملك الظاهر بدمشق، والعساكر الذين خامروا عليه الذين كانوا بالمرج، ثم رحلوا إلى الكسوة هناك، وقد اتفق في هذه السنة أمور عجيبة من وقوع الخلف بين الممالك كلها، قد اختلفت التتار فيما بينهم واقتتلوا، فقتل منهم خلق كثير، واختلفت الفرنج الذين في الساحل وقتل بعضهم بعضا، وكذلك الفرنج الذين هم في البحر اختلفوا واقتتلوا، وافتتلت قبائل الأعراب بعضهم في بعض قتالا شديدا، وكذلك وقع الخلف بين العشير من الوارنة بعضهم على بعض وقامت الحرب بينهم على ساق، وهكذا وقع الخلف بين الأمراء الظاهرية كما ذكرنا في العام الماضي. ذكر وصول الأمراء إلى الديار المصرية وهم الذين خرجوا عن طاعة الملك السعيد، وصلوا إلى القاهرة في ربيع الأول من هذه السنة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فاتصل بالأمراء المقيمين في القلعة قدومهم، وكان بها الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جاندار، والأمير علاء الدين أقطوان الساقي، والأمير سيف الدين بلبان الزريقي أستاذ الدار، فتقدموا إلى متولى القاهرة بغلق أبوابها فأغلقت، وبنى خلف أكثرها حيطانا. فراسلهم الأمراء في فتح أبواب المدينة ليدخل العسكر إلى بيوتهم ويبصروا أولادهم، فإن عهدهم بعد بهم. فنزل الأمير عز الدين الأقرم والأمير علاء الدين أقطوان الساقي إلى الأمراء ليجتمعا بهم ويبصرا أحوالهم، فبادر سيف الدين كوندك بالقبض عليهما وعلى الحسام لاجين البركنجاني، فإنه حضر صحبتهما. وأرسل الأمراء ففتحوا أبواب المدينة، ودخل الناس إلى بيوتهم بأثقالهم، وحمل هؤلاء الأمراء الثلاثة المقبوض عليهم إلى الدار السلطانية التي كانت سكن الأمير سيف الدين قلاون المعروفة بالأمير فخر الدين عثمان بن قزل، فعوقوا بها، وأما الأمير سيف الدين الزريقي أستاذ الدار، فإنه استوثق من أبواب القلعة وأغلقها، فتقدم الأمراء لحصارها. ذكر أسماء الأمراء الأعيان الذين توافقوا على ذلك واجتمعوا هنالك: الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. الأمير سيف الدين أيتمش السعدى. الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار. الأمير بدر الدين بكتاش الفخري. الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرىّ. الأمير شمس الدين سنقر البكتوتى. الأمير علم الدين سنجر طردج. الأمير سيف الدين بلبان الحبيشىّ. الأمير بدر الدين بكتاش النجمى. الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسىّ. الأمير سيف الدين بلبان الهارونىّ. الأمير بدر الدين بجكا العلائى. الأمير بدر الدين بيبرس الرشيدىّ. الأمير بدر الدين كندغدى الوزيرى. الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزورى. الأمير سيف الدين أيتمش بن أطلس خان الأمير سيف الدين بيدغان الركنى. الأمير بدر الدين بكتوت بن الأتابك. الأمير علاء الدين كندغدى أمير مجلس. الأمير سيف الدين بكتوب جرمك. الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا. الأمير سيف الدين كوندك. الأمير عز الدين أيبك الحموىّ. الأمير شمس الدين سنقر الألفى. الأمير سيف الدين سنقرجاه الظاهرى. الأمير سيف الدين شاطلمش. الأمير سيف الدين قلنجق الظاهرى. الأمير سيف الدين قجعار الحموى. ومن سواهم من الأمراء الصغار، ومقدمى الحلقة، وأعيان المغاردة والبحريّة، وأحاطوا بالقلعة، ومنعوا عمن بها الماء والميرة، وضيقوا عليهم. ؟؟ ذكر قدوم السلطان الملك السعيد إلى الديار المصرية ولما رأى الملك السعيد نغا الأمراء والعساكر عنه ومسيرهم نحو الديار المصرية جمع من كان بدمشق من بقايا العسكر المصرية ومن حوته من العساكر الشامية واستدعى العربان ومن ينضم إليهم من الفرسان وأنفق فيهم بدمشق، وخرج منها وسار إلى الديار المصرية، فلما وصل إلى غزة تسلل أكثر العربان وتفرقوا، فلما وصل إلى بلبيس لم يبق من العساكر إلا صبابه لا ترجى بها إصابة، ورأى أنه لا ينتفع بهم، فأعطى الشاميين منهم دستورا، فعادوا من هناك صحبة الأمير عز الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام. ولما وصل المذكور دمشق وحصل فيها اجتمع الأمير جمال الدين أقوش الشمسى والأمراء الذين بدمشق وقبضوا عليه، وأرسلوه إلى الديار المصرية مقيّدا.

ذكر تفسير الملك السعيد إلى الكرك

وأما الملك السعيد فلم يبق في صحبته إلاّ نفر يسير من مماليكه منهم: لاجين الزينى، ومغطاى الجاكى، وسنقر التكريتى، وأيدغدىالحرانىّ، والبكى الساقى، وبكتوب الحمصيّ، وصلاح الدين يوسف بن بركنجان، وعلاء الدين على بن بركنجان، ومن يجري مجراهم. ومن الأمراء الكبار: شمس الدين سنقر الأشقر خاصةً، ولما وصلوا إلى قرب المطريّة فارقه واعتزل عنه ولم يلم بالأمراء، بل أقام في مكان إلى أن كان منهم ما كان. وبلغ الأمراء رحيل السلطان من بلبيس وقبل لهم: إنه يجئ من خلف الجبل الأحمر، ويطلع القلعة، فركبوا وتوجهوا إلى الجبل الأحمر ليحولوا بينه وبين القلعة لئلا يستقرّ بها فتصير له منعةً وتتسع عند العساكر السمعة. وكان يوما قد ترادف سحابه، وتراكم ضبابه، وحجب وجه نقابه، فكان الإنسان لا يبصر رفيقه وهو يسايره، ولا ينظر زميله وهو يسامره، وكان ذلك لطفا من الله تعالى بالمسلمين وحقنا لدمائهم، فإنه لو تراءى الجمعان ووقع العيان على العيان لكان بينهم سفك دماء كثيرة. فاستتر الملك السعيد عن العيون، ونجا من يد المنون، وطلع القلعة، ففتح له مماليكه الأبواب، فبلغ ذلك الأبواب، فبلغ ذلك الأمراء، فشتوا عليه الحصار، فوقع النشاجربين الحاصكيّة والزريقيّ، وأسمعه لاجين الزينى غليظ الكلام، ولامه أعظم الملام، ونسبه إلى التقصير وسوء التدبير: فتوغر خاطره، وساءت ضمائره، وترك القلعة، ونزل إلى الأمراء مخامراً، وتسلّل بعده المماليك واحدا بعد واحد. وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبي معتقلا بالقلعة، فأخرجه السطان واستشاره في أمره، فقال: أرى أن تعطيني هؤلاء المماليك الذين عندك، فأنزل بهم عليهم وأهجم عليهم وأفرق شملهم، فلم يوافقه على ذلك. وتمادى الأمراء أسبوعاً وهو محصور، فأرسل إلى الأمراء مستعتباً فما اعتبوا، واستمروا على مضايقته، فقال لهم: أنا أعطيكم جميع الشام ولا تنقضوا هذا النظام، فأبوا إلا خلع نفسه من السلطنة والتخلي عن المملكة فأرسل إلى الأمير سيف الدين قلاون، والأمير بدر الدين بيسرى يلتمس منهما الكرك، فأجابوه إلى سؤاله، وأنزلوه من القلعة على حاله، أنهم لا يؤذونه في نفسه، ولايغّيرون عليه مغّيرا، وأحلفوه أنه لا يتطرّق إلى غير الكرك، ولا يكاتب أحدا من النواب ولا يستعمل إلى جهته أحدا من الجند، ولا من الأعراب، وسفّروه لوقته. ذكر تفسير الملك السّعيد إلى الكرك ولما جرى ما ذكرنا نزل من القلعة، وسافر إلى الكرك صحبة الأمير سيف الدين بيدغان الركنى وجماعة يوصلونه إلى الكرك، فوصلها، وتسلمها من النائب الذي هو بهاء هو علاء الدين أيدكين الفخري، وتسّلم ما بها من الأموال والذخائر والغلال. وكان خروجه من المملكة في سابع شهر ربيع الأول من هذه السنة، أعنى سنة ثمان وسبعين وستمائة، وكانت مدة سلطته من حين وفاة أبيه الملك الظاهر سنتين وشهرا وأياما. ذكر استقرار سيف الدين قلاون متحدثاً في مصالح الناس ولما جرى ماذكرنا طلع الأمير سيف الدين القلعة، ومعه الأمراء، وتصرف في التدبير في أمر المملكة من الأمراء والنهى والأخذ والعطاء، ولم يسفك في هذه الحركة إلا دم رجل واحد وهو سيف الدين بكتوت الحمصي فإنه كان بينه وبين الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهرى مشاجرة، فلما طلع مع الملك السعيد إلى القلعة يوم وصوله صادفه سنقرجاه، وكان من حزب الأمراء، فطعنه في حلقه، فحمل إلى قبة القلندرية، فمات من يومه، ودفن بها، ولم يجر شئ سوى ذلك، ولم يغن عن الملك السعيد كثرة ماله وكثرة مماليك أبيه، بل كانوا وبالاّ عليه. ذكر سلطنة الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى

ذكر تولية سنقر الأشقر في نيابة دمشق

ولما تم خلع السلطان الملك السعيد وإرساله إلى الكرك، عرضت السلطنة على الأمير سيف الدين قلاون، وقال له الأمراء الأكابر الذين ذكرناهم: أنت أولى بتدبيرها، وأحق بتقليد أمورها، فأبى وقال: أنا لم أخلع الملك السعيد شرها إلى السلطنة وحرصا على المملكة، لكن حفظاً للنظام وأنفة لجيوش الإسلام أن يتقدم عليهم الأصاغر، ويمتهنوا منهم الأعيان والأكابر، ويضيّعوا مصالح العسكر، والأولى أن لا يخرج الأمر من ذرية الملك الظاهر، فأقام الأمير بدر الدين سلامش المذكور وله من العمر سبع سنين وشهور، وأجلس في السلطنة، وخطب له على المنابر في الأمصار، وذكر اسمه في الأقطار، وضربت السكة باسمه، وذلك في شهور ربيع الأول من هذه السنة، واستقر الأمير سيف الدين قلاون الألفي في الأتابكية، واستوزر الصاحب برهان الدين الخضر أبي الحسن السنجارى لمعرفته به وبأخيه بدر الدين قاضي القضاة من الأيام الصالحية، وذلك لأن الصاحب بهاء الدين على بن محمد كان قد توفي في أوائل هذا العام والملك السعيد بالشام، كانت مزارته له ولأبيه من قبله تقدير تسع عشرة سنة. ذكر تولية سنقر الأشقر في نيابة دمشق وقد ذكرنا أن نائب الشام عز الدين أيدمر الظاهرى قد قبض عليه وحبس في قلعة القاهرة، وكانت شاغرة من النائب، فنهض سيف الدين قلاون وولى الأمير سنقر الأشقر نائبا بها، وكان الذي يتولىّ أمر دمشق إلى هذا الوقت بعد مسك نائبه المذكور الأمير أقوش الشمسى، فلما قدم النائب الجديد وهو سنقر الأشقر إلى دمشق فوض إلى أقوش الشمسى نيابة السلظنة بحلب، فسار وتولاها، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة. وقال ابن الكثير: وعزل قضاة مصر الثلاثة: الشافعىّ والحنفى والمالكىّ، وولى القاضي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، عوضا عن تقىّ الدين بن رزين، " وكأنهم إنما عزلوا لكونهم توقفوا في قضيّة الملك السعيد، والله أعلم ". ذكر سلطنة الملك المنصور قلاون الألفي الصالحى ولما حكم قلاون في أتابكتّه أحضر من كان البحرية الصالحية منسياً، وقرب من كان منهم مبعداً مقصيّا، فأعطاهم الإقطاعات، وأمرهم بالطبلخانات، وأرسل بعضهم إلى الجهات الشاميّة، واستنابهم في القلاع، وأحسن إليهم ما استطاع، ومنهم من عينّ له جامكية، ومنهم من رتّب له جراية، وجازى المماليك الظاهرية بسوء أفعالهم، وأذاقهم وبال أمرهم، وأمر وبالهم، وقبض على أعيانهم الذين سعوا في تخريب بيت مخدومهم وبيوتهم، وأرسلهم إلى الثغور، فأودعوا السجون، ومع ذلك لم يقطع عنهم برا، ثم أفرج عنهم واحدا بعد واحد على أحسن حال، وأعاد على بعضهم إمرته. ولما أحكم تدبير الأمور، وأحسن سياسة الجمهور، اجتمع أكابر الأمراء وأماثل ذوي الآراء على أنه لا فائدة في بقاء ذلك الصبي لانتشار السمعة في البلاد، وامتهان الحرمة في أنفس الحواضر والبواد، وأن الرأي جلوس المخدوم في الدست استقلالا ليزداد بهجة وجلالا. فأجابهم بالاستبداد بالأمور، ولقب الملك المنصور، وخلع سلامش من السلطنة، فكانت مدته مائة يوم. وجلس سيف الدين قلاون على تخت السلطنة في الطالع الأسعد، والوقت الأحمد، يوم الأحد، وكان طالع جلوسه بالأسد الثاني والعشرين من رجب الفرد سنة ثمان وسبعين وستمائة، وخطب له على المنابر، وجاءت البيعة إلى دمشق فوافق الأمراء وحلفوا، ويذكر أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر النائب لم يحلف مع الناس ولم يرض بما وقع، وكأنه داخله حسد من المنصور، وخطب للمنصور على المنابر المصرّية والشامية والحلبية، وضربت السكة باسمه، وجرت الأمور في البلدان بمقتضى رأيه وحكمه، فعزل عن الوزارة برهان الدين السنجاري وولى مكانه مجد الدين بن لقمان كاتب السّر وصاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرّية. قال بيبرس مماوكه: لما تولى سيف الدين قلاون السلطنة رفع قدر عتقائه وألزامه، وصيّرهم ولاة الأمور وقادة للعساكر ونوابا في المماليك. ذكر أسماء مماليكه الذين كانوا في خدمته في زمن الإمرة الأمير حسام الدين طرنطاي. الأمير زين الدين كتبغا. الأمير حسام الدين لاجين. الأمير شمس الدين قراسنقر. الأمير عز الدين أيبك الخزندار. الأمير سيف الدين الطباخي. الأمير علم الدين سنجر الشجاعي. الأمير سيف الدين قطز.

تجريد الملك المنصور إلى الشوبك

الأمير ركن الدين الصيرفي. الأمير علاء الدين أيدغدي الساقي. الأمير علاء الدين علق. الأمير عز الدين الجلدكي. الأمير علم الدين سنجر المصري. الأمير علم الدين سنجر أرجواش. الأمير سيف الدين طغريل المشرف. الأمير سيف الدين قجقار. الأمير عز الدين أيبك الموصلي. الأمير بدر الدين بيليك الطيار. الأمير سيف الدين تازي. الأمير سيف الدين طيبغا الروسى. الأمير سيف الدين كاوركا. الأمير سيف الدين طاجار. الأمير سيف الدين بليان الرومي. الأميرر عز الدين أيبك الطويل. الأمير جمال الدين أقوش برناق. الأمير بدر الدين بكتوت البحلاق. الأمير سيف الدين سلار. الأمير بدر الدين بيدرا. الأمير سيف قبجاق. الأمير سيف الدين جاورشي. الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة. الأمير جمال الدين أفوش الأسدي. الأمير علم الدين سنجر أمير آخور. الأمير عز الدين أيدمر الزردكاش. الأمير علاء الدين طبيرس. علاء الدين الطبرس. بدر الدين كيكلدي الشحنة. بدر الدين بيليك الشحنة. بيبرس الدوادار صاحب التاريخ. فمنهم من ارتقى إلى المملكة وجلس على كرسيّ السلطنة، ومنهم من تولى النيابة بالممالك الشامية والحصون الإسلامية، ومنهم كمن تقدم إلى تقدمه الألوف. ومن أجناده أيضا وخدامه من ارتقى إلى الإمرة بالطبلخاناة وهم: الأمير عز الدين أيدمر الجناحى، والأمير سيف الدين الدق الخوارزمى، والأمير عز الدين الكورانى، والأمير علم الدين الأصبهانى، والأمير شمس الدين الدكز أمير آخور، وعلاء الدين النقيب، والطواشى شهاب الدين مرشد. وأما من حوت يده بعد السلطنة من المماليك المنصورية الذين اشتراهم بأنفس الاثمان، فإنهم انتهوا في آخر دولته إلى ما ينيف على سته آلاف مملوك أرباب إقطاعات، وأصحاب جامكيات، وأمراء طبلخانات. وافتتح دولته النيرة وأيامه الزاهرة بما أصلح به دار الدنيا وعمر به دار الآخرة بإبطاله زكاة الدولبة، وقد كانت أحجفت بالرعية، فأبطل حكمها، وعفى رسمها، ورسم بأن يوضع ارتفاعها من وجوه الأملاك، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال. ولما استقر في السلطنة أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحىّ ورتبه في نيابة السلطنة، فباشرها مدة يسيرة، ثم سأل الإعفاء منها فأعفاه ورتب الأمير حسام الدين طرنطاى مملوكه نائبا، وكان شهما شجاعا، ذا همة عالية، وكفاية كافية، وكان لا يحسن الخط ولا القراءة، لكن كان يستعين بذكائه، فأحسن التدبير وحفظ النظام ومكن الله مهابته في قلوب الخاصة والعوام، وقام بأمر نيابة السلطنة أحسن قيام. تجريد الملك المنصور إلى الشوبك ذكر تجريد السلطان الملك المنصور الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى إلى الشوبك وصحبته عسكر من الديار المصريّة: وذلك لأن الملك السعيد كان قد شرط السلطان عليه شروطا لما طلب الرواح إلى الكرك، ومنها: أنه لا يكاتب أحدا من النواب، ولا يستفد أحدا من العساكر ومستحفظي القلاع، وأخذ عليه بذلك العهود والأيمان، فلما صار بالكرك لعب بعقله من كان معه من المماليك، وحسنواله أن يسيرهم ليأخذوا الشوبك وبلاد الشام أولا فأولا، ثم بعد ذلك يقصدون الديار المصرية، فمال إلى موامقتهم، وحسنوا له أن يكاتب النواب ويراسلهم، ففعل ذلك، وبلغ الملك المنصور ذلك، فكاتبه وعذله، فلم يغن ذلك شيئاً، وسير حسام الدين لاجين رأس نوبة الجمدارية إلى الشوبك، فأقام فيها وتغلب عليها، ثم جردّ السلطان الأمير بدر الدين المذكور، فنزل عليها بمن معه وضايق أهلها، فتسلمها في العاشر من ذي القعدة من هذه السنة، ورتب فيها نائبا عز الدين الموصلى وعاد عنها. ذكر وفاة السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان أبي المعالى بن السلطان الملك الظاهر بيبرس الصالحى البندقدارىّ:

ذكر قيام نجم الدين خضر مقام أخيه الملك السعيد

قد ذكرنا أن أباه بايع له الأمراء في حياته، فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة، ومشت الأمور في أول الأمر على السعادة، ثم أنه غلبت عليه الخاصكية، فجعل يلعب معهم في الميدان الأخضر فيما قيل أول هوى، فربما جاءت النوبة عليه، فأنكرت الأمراء الكبار ذلك، وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب به الغلمان، فراسلوه ليرجع عن ذلك، فلم يقبل، فخلعوه كما ذكرنا، وولوا أخاه الملك العادل، ثم خلعوه كما ذكرنا، ثم ولوا الملك المنصور قلاون، وأرسلوا الملك السعيد إلى الكرك كما ذكرنا، ثم كانت وفاته بالكرك يوم الجمعة الحادى والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وسبب ذلك أنه لعب بالأكرة في ميدان الكرك، فتقنطر به فرسه ومرض أياما ومات، وحمل إلى دمشق، فدفن في تربة أبيه الملك الظاهر، وعمل عزاه بمصر في الثاني والعشرين من ذي القعدة. وقال ابن الكثير: ويقال إنه سمّ، والله اعلم، فدفن أولا عند قبر حعفر الطيار وأصحابه رضى الله عنهم بمؤته، ثم نقل إلى تربة أبيه سنة ثمانين وستمائة. قال بيبرس: بقي مصبرّا في تابوت مدةً، ثم حمل إلى تربة أبيه. ذكر قيام نجم الدّين خضر مقام أخيه الملك السّعيد ولما مات الملك السعيد كان نائبه في الكرك علاء الدين أيدغدى الحرانى الظاهرىّ، فاتفق هو ومن معه وأقاموا أخاه نجم الدين خضر مقامه، ولقبوه بالملك المسعود، وشرع المماليك الذي حوله في سوء التدبير وفرط التقرير، فأنفقوا الأموال، واستخدموا على زعمهم الرجال طمما في استرجاع الفائت واستدراك الفارط. هيهات، وقد أراد الله تعالى نقض القواعد الظاهرية بإظهار الدولة المنصورية، وتوجه منهم جماعة إلى الصلت، فأخذوها وأرسلوا إلى صرخد، فلم يقدروا عليها، وكاتبوا شمس الدين سنقر وراسلوه في الاتفاق، ودبت بينهم عقارب النفاق، وكان سنقر الأشقر قد خرج عن الطاعة. ذكر سلطنة سنقر الأشقر في دمشق ولما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة ركب الأمير سنقر من دار السعادة بعد صلاة العصر، وبين يديه جماعة من الأمراء والجند مشاة، وقصد باب القلعة الذي بلى المدينة، فهجم منه ودخلها، واستدعى بالأمراء، فبايعهم له، وتسلطن وتلقب بالملك الكامل، وأقام بها، ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والإعيان والعلماء ورؤساء البلد وأكابر الدولة إلى مسجد أبي الدرداء رضي الله عنه، فحلفّهم وحلف لهم، وحلف له أيضا بقية الأمراء والعسكر، وأرسل عسكرا إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات. وقال بيبرس: أوهم الأمير شمس الدين سنقر المذكور أمراء الشام وأكابرها أن السلطان الملك المنصور قد قتل على القمز، واستحلفهم لنفسه، معتقدين عدم السلطان، وركب بشعار السلطنة. ولما تولى نيابة دمشق استقر بها في شهر جمادى الآخرة من هذه السنة شرع في تسلم القلاع من يد النواب الظاهرية، وترتيب النواب المنصورية، فسولت له نفسه الاستبداد بالسلطنة في الشام وأعماله، وخطر هذا الأمر بباله، فعند ذلك جمع الأمراء وجرى منه ما ذكرناه الآن. تجريد الملك المنصور إلى الشام ذكر تجريد السلطان الملك المنصور الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار إلى الشام وصحبنه بعض العسكر لينازل الكرك على طريق الإرهاب: فتوجه في آخر ذي الحجة من ديار المصرية سالكا على طريق الكفرين ونمرين وأريحا، ولما بلغ ذلك شمس الدين سنقر الأشقر توهم أنه واصل لحربه وأخذه، فكتب إليه كتابا ينهاه عن المسير ويثبطه عن المصيّر مضمونه: إنني مهدت الشام، وفتحت القلاع، وبذلت في خدمة السلطان مالم يبذله أحد، وكان شرطى معه أن أكون حاكما من الفرات إلى العريش، فاستناب أقوش النشممى بحلب، وعلاء الدين الكبكى بصفد، وسيف الطباخى بحصن الأكراد، وآخر الحال يسير إلى من يمسكنى، فلا تقطع العقبة، ولا تدن من البلاد، وإن غررت فقد عينا لك الضيافة، واتبع كتابه بتجريد يزك إلى أريد لحفظ الطريق.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

فأرسل الأمير عز الدين الأفرم كتابه هذا إلى السلطان طىّ مطالعته، فكتب السلطان إلى شمس الدين سنقر الأشقر من جهته ومن جهة خوشدا شيته يقبحون عليه هذا الفعل الذي يفرّق الكلمة، ويوهن الأمة، وأرسل إليه الكتب صحبة البريد، ثم جهز إليه الأمير سيف الدين بلبان الكريمى العلائى خوشداشه ليسترجعه عما هو عليه، فلم يسمع منه ولا أصغى إليه. وأما الأمير عز الدين الأفرم فإنه عند ورود كتاب سنقر الأشقر إليه رجع إلى غزة، إذ لم يكن معه جمع يقابل عسكر الشام، فلما وصلها وافى الأمير بدر الدين الأيدمرى عائدا من الشوبك بعد أخذها بمن معه من العسكر، فاجتمع كلاهما على غزة، فجمع سنقر الأشقر العساكر من حلب وحماة وحمص، واستدعى الكبكى من صفد، والعربان من البلاد، وجهز من عسكر الشام جماعةً وقدّم عليهم الأمير قراسنقر المعزى، فساروا إلى غزةِّ، والتقوا مع الأميرين عز الدين الأفرم وبدر الدين الأيدمرى على غزة، فكانت الكسرة على العسكر الشامىّ، فاستظهر العسكر المصرىّ عليهم وأسروا منهم من الأعيان: بدر الدين كنحبك الخوارزمى، بهاء الدين الناصرى، ناصر الدين باشنقرد الناصرى، وبدر الدين بلبك الحلبىّ، وعلم الدين سنجر البدرىّ، وسابق الدين سليمان صاحب صهيون، وسيروا إلى الأبواب السلطانية، فأحسن السلطان إليهم وخلع عليهم ولم يعنفهم على ما جرى منهم. ولما عاد فلّ عسكر الشام إليه وأخبروه بمن أسر منهم شرع في تجريد الإهتمام، واجتهد في الإستخدام، وخرج بنفسه، وذلك كله في السنة الآتية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرنا هذا المقدار في هذه السنة ليتم الكلام على نسقه ولا ينقطع. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أن فتح الدين بن القيسرانىّ عزل عن الوزارة بدمشق ووليها تقي الدين التوبة التكريتى. ومنها: أن الملك أبغا بن هلاون ملك قلعتى نايروان واوشلوان من يد الكرج، وكانتا في يد السلطان علاء الدين صاحب الروم، فلما استولت التتار على الممالك الروميّة وضعت الكرج أيديهم عليهما وعلى قلعة بابرت وأعمالها، فاسترجعهم أبغا وسلّمهم إلى النائب بالروم. ومنها: أن السلطان الملك المنصور رتب علم الدين سنجر الشجاعى أحد مماليكه في شدّ الدواوين، والحديث مع الوزير، واستخراج الأموال، فكوتب من الولاة بشادّ الدولة الشريفة. ذكر من توفى فيها من الأعيان عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين، عز الدين أبو محمد الأنصاري المقدسيّ، الواعظ المطيق المغلق، الشاعر الفصيح الذي ينسج على منوال ابن الجوزي وأمثاله. وقع من موضع مرتفع فتوجع قليلا، ومات يوم الأربعاء الثامن عشر من شوال من هذه السنة بالقاهرة، ودفن بمقابر باب النصر، ولم يبلغ خمسين سنة، وله تصانيف كثيرة منها: تفسير القرآن في مجلدّ، وتلبيس إبليس وغيرهما، وكان له قبول من الناس، وقد تكلم مرة تجاه الكعبة المعظمة وفي الحضرة الشيخ تاج الدين الفزاريّ والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وابن العجيل من اليمن وغيرهم من سادات العبّاد والعلماء، فأجادوا وأفادوا، وخطب فأبلغ، وأحسن نقل هذا المجلس بحروفه الشيخ شرف الدين الفزاري، وأنه كان سنة خمس وسبعين وستمائة. الشيخ عمر بن مزاحم. والشيخ أبو الفضل علي بن رضوان العدويّ. وصاين الدين عبد الله الخوارزمي أحد الصوفية بخانقاة سعيد السعداء. والشيخ الكبير قدوة المشايخ الروز بهاريّ الكازروني. والشيخ الصالح مبارك الحبشيّ خادم الشيخ أبي السعود، ماتوا كلهم في هذه السنة. الأمير نور الدين علي بن عمر بن مجلى الهكاريّ. ولي نيابة السلطنة بحلب وأعمالها من سنة تسع وخمسين وستمائة إلى هذه السنة، وعزل عنها قبل موته بالأمير علاء الدين أيدغدي الكبكي، وتوفي بعد عزله بأيام قليلة في هذه السنة بحلب ودفن بها، وكان حسن السيرة، كثير التواضع للعلماء، والفقراء، وكان والده الأمير عز الدين من أكابر الأمراء بحلب. الأمير جمال الدين أقوش الركني المعروف بالبطاح. أحد أمراء دمشق، كان مجردا مع العسكر في سيس، ولما عاد مرض بحلب ومات بها، ونقل إلى حمص ودفن بمقبرة خالد بن الوليد رضي الله عنه. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والسبعين بعد الستمائة

ذكر خروج شمس الدين سنقر من دمشق للقتال

استهلّت هذه السنة أولها يوم الخميس ثالث أيار والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسيّ. وسلطان الديار المصرية: الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفى الصالحىّ، وبيده بعض بلاد الشام أيضا. وأما دمشق وأعمالها فقد أستحوذ عليها الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر. وصاحب الكرك: الملك المسعود نجم الدين خضر بن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ. وصاحب حماة: الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود. وفي صفد علاء الدين الكبكى. وفي حلب: أقوش الشمسى. وصاحب بلاد الروم: السلطان غياث الدين بن السلطان ركن الدين قليج أرسلان، ولكن لا حكم له سوى الإسم، والحاكم عليها التتار. وبلاد العراق، وخرسان، والجزيرة، والموصل، وأربل، وأذربيجان، وديار بكر، وأخلاط، وغيرها بأيدي التتار وكبيرهم أبغا بن هلاون. وصاحب اليمن: الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول. وصاحب مكة: الشريف نجم الدين بن أبي نمى الحسنى. ففي مستهلّ هذه السنة ركب سنقر الأشقر الذي تسلطن في دمشق وتقلب بالملك الكامل من القلعة إلى الميدان الأخضر، وبين يديه الأمراء ومقدّمو الحلقة رجّالة يحملون الغاشية وعليهم الخلع والقضاة والأعيان راكبون بالخلع، فسيرّ في الميدان ساعة، ثم رجع إلى القلعة، وجاء إلى خدمته الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا ملك العرب، فقبلّ الأرض بين يديه، وجلس إلى جانبه وهو على السماط، وقام له الكامل، وكذلك جاء إلى خدمته ملك أعراب الحجاز، وأمر الكامل أن تضاف البلاد الحلبيّة إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله، وولاّه تدريس الأمينية وانتزعها من يد نجم الدين بن سنيّ الدولة، فدرس بها ابن خلكان. ولما بلغ السلطان الملك المنصور ذلك أرسل إليه جيشا كثيفا على ما نذكره عن قريب، وقد ذكرنا في هذه السنة الماضية أن المنصور قد أرسل الأمير عز الدين الأقوم في عسكر ليرهب بذلك الجماعة الذين بالكرك، وأن سنقر الأشقر أرسل أيضا طائفة من العسكر وتقاتلوا على غزّة، فانكسر عسكر الشام ورجعوا منهزمين إلى سنقر الأشقر، ثم أن سنقر الأشقر تجهّز وخرج بنفسه. ذكر خروج شمس الدين سنقر من دمشق للقتال الأشقر الملقب بالملك الكامل من دمشق بعسكره لقتال العسكر الذين خرجوا من مصر من عند السلطان الملك المنصور قلاون: ولما تجهّز الكامل خرج من دمشق، ونزل بظاهرها، وكاتب الأمراء الذين بغزة يستميلهم إليه، وأعطى كلا منهم قلعة من القلاع، ووعدهم وعودا تمتدّ إلى الأطماع، وأنفق في العسكر الذين معه. وأما السلطان الملك المنصور فإنه جردّ من الديار المصريّة الأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح، ومعهما عسكر، فوصلا إلى غزة واجتمعا بالأميرين اللذين بغزّة وهما الأمير عز الدين الأفرم والأمير بدر الدين الأيدمريّ، وتكاثر العسكر وتعاضدوا، وسار الأمير علم الدين الحلبيّ بهم طالبا دمشق، فوصل إلى الكسوة ورتّب الأطلاب وتقدّم، فوجد شمس الدين سنقر الأشقر فس عساكر الشام مطلبّا وافقا على الجسورة، فالتقى الجمعان والتحم القتال، فساق الأمير علم الدين الحلبي على سنقر الأشقر، فلما صدمه هزمه، فتوجه طالبا طريق الرحبة ومعه شرف الدين عيسى بن مهنّي وكانت هذه الكسرة في تاسع عشر صفر من هذه السنة. ونزل الأمير علم الدين الحلبيّ ظاهر دمشق، وتسلمها، وأنزل الأمير علاء الدين كستغدي الشمسي في قلعتها، وكان السلطان الملك المنصور لما فوض نيابة الشام إلى سنقر الأشقر فوض أيضا نيابة قلعة دمشق إلى حسام الدين لاجين السلحدار أحد مماليكه، فلما جلس سنقر الأشقر في السلطنة قبض عليه واعتقله، واعتقل معه الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الحالق، لأنه لم يحلف له فيمن حلف من عسكر الشام، فأفرج عنهما بعد كسرته، واستقر الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة بدمشق، وكتب الأمير علم الدين الحلبي إلى السلطان بالنصر، وأرسل إليه من حصل من الأمراء في الأسر، فعاملهم السلطان بالعفو الجميل، وأعطاهم الحوائص الذهب، والخيول العربية، وتعابي القماش الملوكية حتى لقد حمدوا عاقبة نفاقهم لأنه كان سببا لصلة أرزاقهم، فكانوا كما قيل: وسعت عواطفك الجناة بأسرهم ... وأفلت كلاّ منهم عثرايه

ذكر ما جرى على سنقر الأشقر بعد انهزامه

وجزيت مرتكب الإساءة منهم ... الحسني فأصبح شاكرا زلائه وأعاد من كان إقطاعه بدمشق إلى ما كان عليه، وعفا عفوا لم يسبقه أحد إليه. وقال بيبرس في تاريخه: أخبرني من حضر هذه الوقعة أن سنقر الأشقر لما التقي مع علم الدين الحلبيّ دبّر حيلة أراد بها التمكن والاستظهار، فاحترز الحلبيّ منها وأخذ الحذار لأنه كان قد مارس الخطوب وباشر الحروب وشهد المواقف وخاض المتالف، فلم تتم عليه الحيلة، لا نشب فيما نصب خصمه من الأحبوله، وهي أنه قرّر مع العربان الذين جمعهم أن يقاطعوا ساعة الملتقى على العساكر المصرية ويجيئوهم من ورائهم ويحطوا أيديهم في نهب الأثقال والغلمان والجمال ليثنوا إليهم عنانهم، فيركب أكثافهم، ففعل العرب ما أوصاهم وجاءوا من ورائهم وشرعوا في النهب. فقال له العسكر: إن العرب قد نهبت الأثقال والقماش والأحمال. فقال: لا تلتفتوا إليهم ولا تعرّجوا عليهم، وشأنكم ومن قدامكم، فإنا إذا هزمناهم استرجعنا الذي لنا، وغنمنا الذي لهم، فأطاعوه وتقدموا، فاستظهروا وغنموا، وهذا تدبير ينبغي لمن يتقّدم على الجيوش أن يحكمه، ولمن يمارس الحروب أن يفهمه. وقال ابن كثير: ولما استقرّ ركاب علم الدين الحلبي في دمشق بعد انتصاره على سنقر الأشقر جاء إليه قاضي القضاة شمس الدين بن خلّكان ليسلّم عليه، فقبض عليه واعتقله في الخانقاة النّجيبيّة، وكان ذلك في يوم الخميس العشرين من صفر من هذه السنة، ورسم للقاضي نجم الدين بن سنيّ الدولة بالقضاة فباشره، ثم جاءت البريديّة ومعهم كتاب من الملك المنصور بالعفو عنهم كلهم، فتضاعفت الأدعية للسلطان، وجاء تقليد النيابة بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي إلى دار السعادة، ورسم الحلبي للقاضي شمس الدين بن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها قاضي القضاة نجم الدين بن سنيّ الدولة وألحّ عليه في ذلك، فاستدعي جمالا لينقل أهله ونقله عليها إلى الصالحية، فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير قاضي القضاة ابن خلكان على القضاة والعفو عنه وشكره والثناء عليه، وذكر خدمته المتقدّمة، ومعه خلعة سنيّة له، فلبسها وصلى بها الجمعة، وسلّم على الأمراء فأكرموه وعظموه، وفرح الناس كلهم بما وقع من الصفح عنهم وأمنهم في أوطانهم. ذكر ما جرى على سنقر الأشقر بعد انهزامه قد ذكرنا أنه لما انهزم توجه إلى الرحبة مع العرب، وتفرق عنه أصحابه، ومن كان معه، وتركوه، وتراجع أكثرهم إلى السلطان لما علموا أنه أغمد سيف الانتقام، وأنشأ سحب الحلم والإنعام، ورأى سنقر الأشقر نفسه وحيدا، فطالب النائب بالرحبة بتسليمها إليه، فأبى وامتنع، وكان يسمى الموفق خضر الرحبي، فكاتب عند ذلك أبغا بن هلاون ملك التتار يعرّفه أن كلمة الإسلام قد تفرقت، وحلّة الإلتئام قد تمزقت، ويحثّه على المسير إلى البلاد الشاميّة ليتملكها، ويعده المناصرة عليها والمساعدة إذا جاء إليها، وكتب معه شرف الدين عيسى بن منهّا ملك العرب بمثل ذلك، وجهّز إليه قصّادا، فكان ذلك باعثا على حضوره على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فأرسل إليه السلطان شمس الدين سنقر الأشرفيّ يستميله، ويتلطّف به ليعود، ويسنى له الوعود، فأبى إلا الامتداد في غلواء جهالته، والإشتداد في ميدان ضلالته، وكان عند تغلبه على الشام قد كاتب النواب الذين بالقلاع، فمنهم من لم يطعه ومنهم من أطاع، فكان ممن أطاعه: صيهون، وبرزيه، وبلاطنس، والشغر، وبكاس، وحصن عكار، وشيرز، وحمص، ولما ضاقت به رحاب الرحبة بقي حائرا في أمره، وجرّد إليه السلطان جيشا صحبة الأمير حسام الدين بن أطلس خان، فبادر هو وعيسى بن مهنّا بالهرب إلى صهيون وذلك في جمادى الأولى من السنة المذكورة، فعاد ابن أطلس خان ومن معه، وقد كان بصهيون أولاد شمس الدين سنقر وحواصله. وأما علم الدين سنجر الحلبي الذي دخل الشام بمن معه من الأمراء والعسكر بعد هروب شمس الدين سنقر الأشقر، فقد عادوا من الشام إلى الديار المصريّة، فشملتهم الخلع السطانيّة والإنعام الجزيل. ذكر تجريد السلطان عزّ الدين الأفرم لحصار شيزر وبها عزّ الدين كرجي:

ذكر تجهيز السلطان للسفر إلى الشام

ولما وصل إليها ونازلها واشتغل بحصارها جاءت الأخبار بوصول التتار على ثلاث فرق: فرقة من جهة الروم مقدمهم صمغار وينجي وطرنجي، وفرقة من الشرق مقدمهم بيدو بن طرغاي أخي أبغا بن هلاون وصحبته صاحب ماردين وصاحب آمد، والفرقة الثالثة وفيها معظم العسكر وشره المغول صحبة منكوتمر بن هلاون، وتواترت الأخبار بذلك وتداركت القصاد بقربهم من بلد الروم وأن صاحب سيس خرج إليهم من طريق الدّربساك. وكتب السلطان متواترة إلى سنقر الأشقر يستميله عن سوء رأيه، ويقبح عليه ما ظهر من غدره ومناصرته الكفر على الإسلام آخر عمره. ولما تحقق الأمير عز الدين الأفوم مقاربة التتار الفرات رحل عن شيزر وكتب إلى سنقر الأشقر بمثل ما أشاربه السلطان إليه من التعنيف والتخويف والترهيب والترغيب، فجنح إلى سلم الإسلام وأصاخ إلى التوبيخ والملام، ونزل من صهيون إلى الجراص على عزم إنجاد المسلمين والرجوع إلى مظافرة الدين، وجفل عسكر حلب وحمص وحماة. ذكر تجهيز السلطان للسّفر إلى الشّام ولما تواترت الأخبار لمجئ التتار، ومال سنقر الأشقر إلى الصلح والإنقياد والرجوع عما هو فيه، تأهّب السلطان الملك المنصور للسفر إلى جهة الشام، وفوض السلطنة لولىّ عهده ولده الملك الصالح علاء الدين عليّ، وذلك بعد أن جمع الأمراء الكبار، وعرض عليهم تفويض السلطنة إليه، والكل رضوا بذلك، وفرحوا على ذلك، واتفقت آراؤهم عليه، فعند ذلك ركب بشعار السلطنة، وشّق المدينة، وطلع القلعة، وجلس على مرتبته، وكتب له تقليد شريف نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أثق. الحمد لله الذي شرّف سرير الملك بعليه، وحاطه منه بوصيّه، وعضد منصوره بولاية عهد مهديّه، وأسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عديّه، وأبهج خير الآباء بخير الأبناء بمن يسموا أبيه منه تشريف الخلق أبيّه، وغدّي روضه بمتابعة وسميّه ومسارعة وليّه، نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وأضافت إلى نور الشمس هداية القمر، وداركت بالبحر وباركت في النهر، وأجملت المبتداء وأحسنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيبها بين رقّة الآصال ورقّة البكر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تلبس الألسنة منها في كلّ ساعة جديدا، وتتفيّأ منها ظلّا مديدا، ويستقرب منها من الآمال ما يراه سرابا بعيدا، ونصلى على سيدنا محمد الذي طهّر الله به هذه الأمة من الأدناس، وجعلها بهدايته زاكية الغراس، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس، ومنهم من بنى الله به قواعد الدين وجعله موطّد الأساس، ومنهم من جهّز العسرة وواسى بماله حين الضرّاء واليأس، ومنهم من قال عنه صلى الله عليه وسلّم: " لأعطن الراية غداً رجلاّ يحبه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله " فحسن الالتماس بذلك الاقتباس، وزاد في شرفه بأن طهرّ أهل بيته وأذهب عنهم الأرجاس، صلاة لا تزال تردد تردّد الأنفاس، ولا تبرح في الإناء حسنة الإيناس. وبعد: فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله، وفوقت ملابس التحكيم لقبوله، ومن يزهى مطالع الملك بإشراقه، وتتبادر الممالك مذعنّة لاستحقاقه، ومن يزدهي به ملك منصوره، نصره الله، موطده وولى عهده، مكنه الله بأبيه، ومن يتشّرف إيوان عظمة إن غاب والده في مصلحة الإسلام، فهو صدره، وإن حضر فهو ثانيه، ومن يتحمل غاب الإيالة منه بخير شبل كفل ليثا، ويتكمل غوث الأمة بخير وابل خلف غيثاً، ومن ألهم الأخلاق الملوكية وأوتى حكمها صبياً، ومن خصصته أدعية الأبوّة الشريفة بصالحها ولم يكن بدعائها شقياً، ومن ترفّعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً، ومن هو أحق بأ، ينجب الأمل فيه وينجح، وأولى بأن يتلى له أخلفنى في قومى وأصلح، ومن هو بكل خير ملّى، ومن إذا فوضت إليه أمور المسلمين كان أشرف من لأمورهم يبلى، ومن يتحقق من والده الماضي الغرار ومن اسمه العالي المنار أن لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على.

ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحيّ العلائي عضد الله به الدين، وجمع إذغان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين، حتى يصبح وهو صالح المؤمنين، هو المرجوّ لتدبير هذه الأمور، والمأمول لمصالح البلاد والثغور، والمدّخر من النصر لشفاه ما في الصدور، والذي تشهد الفراسة لأبيه وله بالتحكم أليس الحاكم أبو علي هو المنصور، فلذلك اقتضت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم وليّ عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه، ويسعون بعد التطواف بكعبة أبيه لحرمه، ويقتطفون أزاهر العدل وثمار الجود من قلمه وكلمه، وتستسعد الأمّة منه بالملك الصالح الذي تقسم الأنوار بجبينه وتقسم المبارّ من كراماته وكرمه. فلذلك خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوريّ أخدمه الله القدر، ولا زالت الممالك تتباهي منه ومن وليّ عهده بالشمس والقمر، أن يفوض إليه ولاية العهد، وكفالة السلطنة الشريفة، ولاية تامّة عامةً شاملةً كافلةً جامعةً وازعةً فاطعةً ساطعةً شريفةً منيفة عطوفةً رءوفةً لطيفةً عفيفةً في سائر أقاليم الممالك الشريفة، وعساكرها وجندها، وتركمانها وأكرادها، ونوابها وولاتها، وأكابرها وأصاغرها، ورعاياها ورعاتها، وحكامها وقضاتها وسارحها وسانحها، بالديار المصرية وثغورها وأقايمها وبلادها، وما احتوت عليه، والمملكة الحجازية وما احتوت عليه، ومملكة النوبة وما احتوت عليه، والفتوحات الصفدية، والفتوحات الإسلامية الساحليّة وما احتوت عليه، والممالك الشاميّة وحصونها وقلاعها ومدنها وأقاليمها وبلادها، والمملكة الحمصية، والمملكة الحصنية الإكراديّة والجبلية وفتوحتها، والمملكة الحلبية وثغورها وبلادها وما احتوت عليه، والمملكة الفراتية وما احتوت عليه، وسائر القلاع الإسلاميّة براً وبحرا، سهلا ووعرا، وشاما ومصرا، يمنا وحجازا، شرقا وغربا، بعدا وقربا، وأن يلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة، وأن تستخلفه سلطنة والده خلد الله دولنته لمشاهد الأمة منه في وقت واحد سلطانا وخليفة، ولاية واستخلافا، تسندهما الرواة، وتترنمّ بهما الحداة، وتعيهما الأسماع، وتنطق بهما الأفواه، وتقويضا يعلن لكافة الأمم، ولكل رب سيف وقلم ولكل ذي علم وعلم، بما قاله صلى الله عليه وسلم لسميّه، رضي الله عنه، حين اولاه من الفخار ما أولاه، من كنت مولاه، فعلّى مولاه، فلا ملك إقليم إلا وهذا الخطاب يصله ويوصله، ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله، ولا إقليم إلا وكل من به يقبله ويقبله، ويتمثل بين يديه ويمتثله، ولا منبر إلا وخطبته تتلو فرقان هذا التقدم وترتله. وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا وولى عهدنا منها ما انطبع في ذهنه وسرت تغذيته في نماء غصنه، ولابد من لوامع وصايا للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير، وجوامع الخبر بها حيث تصير، وودائع تنبئك بها ياولدنا، وأعزنّا الله ببقائك، ولا ينبئك مثل خبير.

ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده من غزة

فاتقى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وانصر الشرع فإنك إذا نصرته نصرك الله على عدا الدين وعداك، وأفض العدل مخاطبا وكاتبا حتى تستبق إلى الإيعازبه لسانك ويمناك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالما أنه ليس يخاطب غدا بين يدى الله تعالى عن ذلك سوانا وسواك، وأنه نفسك عن الهوى حتى لا يراك حيث نهاك، وحط الرعيّة، ومر النواب بحملهم على القضايا المرعيّة، وأقم الحدود وجنّد الجنود، وأبعثها برّا وبحرا من الغزو إلى كلّ مقام محمود، واحفظ الثغور، ولاحظ الأمور، وازدد بالاسترشاد بآرائنا نورا على نور، وأمراء الإسلام الأكابر وزعماؤه، فهم بالجهاد والذّب عن العباد أصفياء الله وأحبّاؤه، فضاعف لهم الحرمة والإحسان، واعلم أن الله قد اصطفانا على العالمين وإنّما القوم إخوان، لا سيّما أولى السعي الناجح، والرأي الراجح، ومن إذا فخروا بنسبة صالحيّة قيل لهم نعم السلف الصالح، فشاورهم في الأمر، وحاورهم في مهمات البلاد في كل سرّ وجهز، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين من بقايا الدول: وذخائر الملوك الأول، أجرهم هذا المجرى، واشرح لهم بالإحسان صدرا، وجيوش الإسلام هم البنان والبنيان فوال إليهم الامتنان، واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المربّى، وطاعتك في عقائدهم وقد شغفتها حبّا ليصبحوا لك بحسن نظرك إليهم طوعا، وليخصّك كل جنس من التقرّب إليك بالمناصحة نوعا، والبلاد وأهلها فهي وهم عندك الوديعة، فاجعل أوامرك بها بصيرة ومنهم سميعة، وأما غير ذلك من الوصايا فسنخلك منها بما نشأمعك توأما، ويلقك من آياتها محكما فمحكما، والله تعالى ينمي هلالك حتى يوصله إلى درجة الإبدار، ويغدّي غصنك حنى تراه قد أينع بأحسن الأزهار وأينع الثمار، ويرزق سعادة سلطاننا الذي نعتّ به تبركّا، ويلهمك الاعتضاد بشيعته والأستنان بسنته حتى تصبح لتمسكنا بذلك متمسّكا، ويجعل الرعيةّ بك في امن وأمان وعدل وإحسان حتى لا تخشى سوءا ولا تخاف دركا. وقرئ هذا التقليد في الإيوان الكامليّ بالقلعة، وأفيضت الخلع على الأمراء والمقدّمين والوزراء والمتعمّمين، وانقضى المجلس من قراءته والناس قد عجلوا بالدعاء الصالح للمنصور والصالح. ذكر توجّه السّلطان إلى الشّام وعوده من غزّة ولما فرغ السلطان من هذا المهم أزمع التوجه من الديار المصريّة إلى البلاد الشامية، فخرج وصحبته العساكر الإسلامية قاصدا الشام لحماية الإسلام، ووصل إلى غزة فخيّم ظاهرها، وكان التتار قد وصلوا إلى عينتاب وبغراس والدربساك، وتقدّموا إلى حلب، فوجدوها خالية من العسكر، وقد أجفل أهلها منها، فأحرقوا الجوامع والمساجد والدور والمنازل، وعاثوا وأفسدوا، وذلك في العشر الأوسط من جمادى الآخرة من هذه السنة، فلما بلغهم وصول السلطان تفرقوا إلى مشاتيهم، فعاد السلطان إلى الديار المصريّة لاستحقاق ربيع الخيول وأمنه على الشام بانسداد الطرقات إليه بالثلوج والسيول. وجرّد عسكرا صحبة الأمير بدر الدين بكتاّش النجمي إلى حمص، وعسكرا صحبة الأمير علاء الدين البندقدار الصالحيّ إلى الساحل، لحفظ البلاد من الفرنج بحكم أنه لم يكن بعد قرّر معهم هدنة، فخشى أن يجدوا في تلك الفترة الفرصة، فيحدثوا حدثا ويثيروا فتنة. ذكر توجّه السّلطان ثانيا إلى الشّام خرج السلطان الملك المنصور من الديار المصريّة طالبا الشام ثاني مرة، وكان خروجه من القلعة في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وخلف بها ولده الملك الصالح نور الدين عليّ، ورتّب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوريّ في استخراج الأموال وشدّ الدولة وغير ذلك من المهمّات بالديار المصرية، وخرجت هذه السنة والسلطان على الروحاء. ذكر بقيّة الحوادث في هذه السنة منها: أن الأمراء الذين كانوا عند سنقر الأشقر قد تسللو قاصدين إلى الأبواب الشريفة، وكان الأمير عز الدين لأفرم بحماة، فلحقوا به، وهم: علاء الدين الكبكي، وعز الدين الكرجي، وبدر الدين بكتوت القطري، وبقي معه علم الدين سنجر الدواداريّ، والحاج عز الدين أزدمر، وبعض قوم من الظاهرية الذين كانوا مجّردين بالقلاع التي انحازت إليه.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها: أن الفرنج الذين كانوا بحصن المرقب طمعوا في البلاد، وذلك لما بلغهم هجوم التتار على البلاد، وانجفال العساكر من حلب، واعتمدوا على الفساد، وتطرقوا إلى أذّية المسلمين بأطراف تلك البلاد، فأرسل الأمير سيف الدين بلبان الطباخي المنصوري، وهو حينئذ نائب السلطنة بحصن الأكراد وما معه يستأذن السلطان في غزوهم لقرب المرقب إليهم واستطالته عليه، وهوّن على السلطان أمر من به من الخيالة وذكر له قلة من فيه من الرجاله، فأذن له في ذلك، فسار ومعه الجيش من الحصون وأمراء التركان ورجّاله تلك النواحي، واستصحب المبانيق والآلآت، وتقدّم إلى أن وقف قريبا من الحصن، وهو حصن عالي المرام، لا يصله من أسفله السهام، وأخفي أهله أمرهم ولم يتحركوا في مبدأ الحال، فازداد العسكر فيهم طعما وإليهم تقدّما، فلما صاورا بحيث تبلغ إليهم السهام أرسلوا عليهم الجروخ فنالت منهم النصال، وأنكت فيهم النبال، فاضطرب من كان معه من الجنود، وتململ من كان صحبه من الحشود، فلما رأى اضطرابهم استشار بعض من عنده من الأمراء في التأخّر شيئا يسيرا بحيث يمتنع وصول النشاب إليهم، ثم تأخر راجعا وثنى عنانه للرجعة مسارعا، والناس لا يعملون أن ذلك التأخر برأي وتدبير، فظنوها الهزيمة، فولوا الأدبار وأسرعوا الفرار، ورأى الفرنج ما كان، ففتحوا أبواب الحصن وجاءوا من كل مكان، وتبادر الرجالة، وتبعهم الفرسان، ونالوا من المسلمين، وجرحوا منهم جماعة، ونهبو ما أمكنهم، وأسروا من الرجالة جماعة، وبلغ السلطان ذلك فأنكره وأكبره، وأزمع حينئذ سفره ليتدارك هذه الأحوال، وينظر في المصالح التي لا يسع فيها الإهمال، وتوجّه إلى الشام ثاني مرة كما ذكرناه الآن. ومنها: أن الفرنج خافوا من السلطان لما خرج من مصر ونزل بالروحاء، وهي بالقرب من عكار، وراسلوا في طلب تجديد الهدنة، فإنه كان قد انتهى أمد ما قبلها، وكانت الهدنة في أوائل السنة الآتية فلنذكرها إن شاء الله. ومنها: أن في جمادى الأولى أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة الديار المصريّة، ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الإنشاء على عادته. ومنها: أن آخر رمضان أعيد إلى القضاء تقي الدين بن رزين، وعزل صدر الدين بن بنت الأعز، وأعيد القاضي نفيس الدين شكر المالكي، ومعين الدين الحنفي، ورتب للحنابلة عز الدين الحنبلي. وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبيّة إليه يستنيب من يشاء فيها نوابه. ومنها: أن في ذي الحجة يوم عرفة وفع ببلاد مصر برد كبار أتلفت شيئا كثيرا من الغلات، ووقعت صاعقة في الأسكندريّة وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على حجر فأحرقته، فأخذ ذلك الحجر وسبك فخرج منه الحديد أواقي بالرطل المصري. ومنها: أن يعقوب المريني عزم على قصد ابن عبد الواد بتلمسان، فحشد يغمر بن عبد الواحد جماعة من مغراوة وغيرها، والتقيا على مدينة تسمّى وجدة، فاستظهر بنو مرين على بني عبد الواد وقتلوا ونهبوا وسبوا ما أرادوا من عيالاتهم وأموالهم، ومنّوا عليهم، وأطلقوا عيالهم، وعادوا بالأموال والمواشي إلى بلادهم. ومنها: أن المريني استقر بمدينة سلا وهي على البحر في وسط البلاد مسافتها من مراكش ستة أيام ومن فاس ثلاثة أيام. وفيها: "....................... " وفيها: حج بالناس "................ " ذكر من توفي فيها من الأعيان عز الدين أبو بكر بن محمد بن إبراهيم الإربلي. توفي في هذه السنة بدمشق في ثالث عشر من ذي القعدة ودفن بمقابر الصوفية، وكان أديبا مطيقا مقتدرا على عمل الألغاز، ومن نظمه: الألفيّة في الألغاز المخفيّة، وهي ألف اسم. شمس الدين محمد بن أيوب بن أبي رحلة الحمصي مولدا وسكنا، البعلبكي وفاة. كان يستحضر الأشياء الحسنة، والأشعار اللطيفة. الشيخ الصالح داود بن حاتم بن عمر الحبّال. كان حنبلّي المذهب، له كرامات وأحوال صالحة، ومكاشفات صادقة، وأصل آبائه من حرّان، وكانت إقامته ببعلبك، وبها توفي عن ستة وتسعين سنة. الشيخ الصالح على المعمر المعروف بطير الجنة. توفي فيها، ودفن بسفح المقطم بتربة سنقر الأشقر. الجزار الشاعر الماجن المعروف بالجزار.

السنة الثمانين بعد الستمائة

مدح الملوك والأمراء والوزراء والكبراء، وكان ماجنا ظريفا حلو المحاضرة، سمع الحديث، وكان مولده في حدود ستمائة بعدها بسنة أو ستين، وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة، ودفن بالقرافة. قال: وقد تزوج أبوه بعجوز: تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن كأنها في فرشها رمّه ... وشعرها من حولها قطن وقائل قال لي كم سنها ... فقلت ما في فمها سن لو سفرت غرّتها في الدّجى ... ما جسرت تبصرها الجن الأمير الكبير جمال الدين أقوش الشمسي. أحد أمراء الإسلام، وهو الذي باشر قتل كتبغا نوين مقدّم التتار يوم عين جالوت، وهو الذي أمسك عز الدين أيدمر الظاهري، وقد ناب في حلب في السنة الماضية، توفي في حلب في خامس المحرم من هذه السنة، وتولى عوضه في حلب علم الدين سنجر الباشقردي. الأمير علي بن عمر الطورى. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم، وله صيت عظيم عند الفرنج، وتنقل في الولايات الجليلة في عدة جهات من بلاد الشام، توفي في هذه السنة بجبل الصالحيّة ظاهر دمشق، ودفن بسفحه، وقد نيّف على تسعين سنة. الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسيا سالار والي مصر. ولي مصر عدة سنين وكان سمينا عظيما، مات في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربته في القرافة، وكان خيرا في أموره يشكره الناس. فصل فيما وقع من الحوادث في السّنة الثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو الحاكم بأمر الله العباسيّ. وسلطان الديار المصريّة والشاميّة: الملك المنصور قلاون الألفي الصالحي، وهو على الروحاء بالقرب من عكا. ونائب دمشق: الأمير حسام الدين لاجين المنصوري. ونائب حلب: الأمير علم الدين سنجر الباشقردي. وفي عاشر المحرم انعقدت الهدنة بين أهل عكا وبين السلطان وهو على الروحاء. وفي تاريخ بيبرس: جاءت رسل الإفرنج إلى أبواب السلطان، وهو على الروحاء، يسألونه تقرير الهدنة، والزيادة على الهدنة الظاهرية، والصلح لأهل المرقب، ولم يزالوا يترددون إلى أن تقرر الحال على أن يكون لهم مناصفة الربض وبلنياس، على أن يردوا كل من عندهم من أسرى المسلمين الذين أخذوهم في الفسخ، وكانوا جماعة كثيرة، وتقررّت الهدنة في المحرم من هذه السنة، وحلف السلطان لهم ونودي بالصلح، وسير الأمير فخر الدين إياز المقرئ أمير حاجب ليحلف الفرنج ومقدّم بيت الاسبتار واسمه افربر تنكول لكورن، فحلف على ما انعقد عليه الصلح. ذكر حادثة سيف الدين كوندك ومن معه وبلغ السلطان وهو على الروحاء أن سيف الدين كوندك، وجماعة من الأمراء الظاهريّة، قد أزمعوا الغدر به والوثوب عليه، فأحضرهم إليه وعنفّهم، وعتبهم واتفق وصول كتب من عكّا بالفرنجي من جهة من كان له فيها من الناصحين، مضمونها أن تحترز على نفسك، فإن عندك جماعة من الأمراء قد اتفقوا عليك ليقتلوك، وقد كاتبوا الفرنج وقالوا لهم: لا تصالحوه ولو أعطاكم ما أعطاكم، فقد طبخنا له القدر وغلت، وما بقي الأمر يبطئ. فلما بلغه هذا الخبر، عزم على العمل بالحزم، والأمر بالجزم. وأحسّ الأمراء المذكورون بذلك، فاضطربوا، وعزموا على أن يركبوا في الليل، ويأتون إلى الدهليز باتفاق بينهم وبين بعض الظاهرية الجوانية، فإذا قربوا من الدهليز يقطعون أطنابه، ويفعلون ما اتفقوا عليه، فإن ظفروا بإبل، وإلا ركبوا حميّة واحدة، وطلبوا جهة الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. فنقل الخبر إلى السلطان، فسيّر إلى طرقات الشام بأن تحفظ عليهم المسالك من غير أن يعلموا، ورتب حول الدهليز جماعة من البحريّة الصالحيّة، واتفق مع الأمراء الكبار على التحرز إلى أن يحصل الدخول إلى دمشق والتمكن منهم وفعل ما يجب فعله.

ذكر ماجريات السلطان الملك المنصور في دمشق

ثم رحل السلطان من الروحاء ونزل اللجّون، فجاءه الخبر بأنّهم أحسّوا بتيقظه، وكان بيته وبينهم نهر الشريعة، ومتى قطعت لا يلحق هاربهم ولا يدركهم طالبهم، وربمّا توجه بعضهم إلى الكرك، وبعضهم إلى سنقر الأشقر، فركب من اللجون طالبا حمراء بيسان، وساق بينهم يومه ذلك يطارحهم الحديث، ويلاطفهم ويخادعهم إلى أن وصل الحمراء فلم يشعروا إلاّ وهم قبالة الدهليز، فرسم بأن ينزلوا ليشربوا سويقا، فإنه كان يوما شديد الحرّ، فنزلوا وشربوا السويق، فدعا كوندك، وأيدغمش الحكيمي، وبيبرس الرشيدي، وساطلمش السلحدار الظاهري وقال لهم: أنتم تعملون أنني لا طلبت الملك ولا قصدته، ولا رغبت فيه، وإنما أنتم لما خامرتم على ابن أستاذكم وخرجتم إلىّ وأنا داخل من سيس، وأمسكتم ذيلي وقلتم: يطلب حبسك، فسيّرت أشفع فيكم، فلم يقبل شفاعتي، فوافقت هواكم وسبلت روحي وأولادي ومالي لأجلكم، وعلم الله نيتي، فأعطاني ما أعطاني، فأحسنت إليكم وزدتكم، وبذلت لكم الأموال، وآخر الأمر تكاتبون الفرنج على قتلى؟ فقالوا: أخطانا، وقد فعلنا كما بلغ السلطان عنا. فقال يا أمراء: اعلموا بما أقروا به، وأمر بإمساكهم وسط الخيمة فأمسكوا وسيروا إلى الخيم، فأمسك كلّ من كان موافقا لهم من البرانيين والمماليك الجوانيين وكانوا ثلاثة وثلاثين نفرا، وخاف جماعة، فهربوا: فساق العسكر خلفهم، فأحضروا بعضهم من جبال بعلبك، وبعضهم من ناحية صرخد. ولم يستقرّ السلطان بحمراء بيسان غير تلك الليلة وعبر الشريعة. وأما كوندك، وأيدغمش الحكيمي، وبيبرس الرشيدي، وساطلمش الظاهري، فإنهم أعدموا، وأما باقي الممسوكين اعتقلوا بقلعة دمشق، وهرب الأمير سيف الدين أيتمش السعدي، وسيف الدين بلبان الهاروني، وسيف الدين كراي وأولاده، وجماعة من البحرية الظاهريّة والتتار الوافديّة، فإنهم توجهوا إلى صهيون ولحقوا بالأمير شمس الدين الأشقر، وجرّد السلطان خلفهم عسكرا صحبة الأمير بدر الدين بكناش الفخري أمير سلاح والأمير ركن الدين بيبرس طقصو، فلم يدركوهم. ورحل السلطان إلى دمشق، فتلقته العساكر الشاميّة، وكان دخوله دمشق في التاسع عشر من المحرّم، فطلع القلعة ونزل بها، وقد زينت له البلد، وشرع في استجلاب القلوب، والتجاوز عن الذنوب، وأخرج الخزائن، وأنفق في العساكر، وأخذ بإحسان الخواطر، فسكن إليه كل نافر وداعر. ذكر ماجريات السّلطان الملك المنصور في دمشق منها: أنه في اليوم التاسع والعشرين من المحرم عزل القاضي شمس الدين ابن خلكان، وولى عز الدين بن الصايغ. ومنها: أن السلطان في أول شهر صفر وليّ نجم الدين بن الشيخ بن أبي عمر قضاء الحنابلة، وقد كان المنصب شاغرا منذ عزل والده نفسه عن القضاء. ومنها: أنه ولي قضاء حلب في هذا الشهر تاج الدين يحيى بن محمد بن إسماعيل الكردي. ومنها: أنه جلس بدار العدل في هذا الشهر، فحكم وأنصف المظلوم من الظالم، وقدم عليه صاحب حماة، فتلقاه السلطان بنفسه، في موكبه ونزل بداره داخل باب الفراديس. ومنها: أن السلطان جرد الأمير عز الدين الأفرم في عسكر، وبعده علاء الدين كشتغدي الشمسي بعسكر آخر، فتوجهوا إلى جهة شيزر، على أنهم يعملون عملا، ويؤثرون اثرا، فحصل الوخم، وتمرّض الأمير عز الدين الأفرم، ومات من الأمراء المستعربي في تلك السفرة. وتردّدت الرسائل بين السلطان وبين الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وطلب منه تسليم شيزر، وطلب هو عوضها الشغر وبكاس، وكانت قد أخذت منه من مدة، ورتب السلطان سيف الدين بلبان الطباخي نائبا فيها، وطلب معها كفر طاب وبلادها، فأجيب إلى ذلك، وأجاب إلى تسليم شيزر، وتقرر أن يقيم على هذه البلاد ستمائة فارس لنصرة الإسلام، وأن الأمراء الذين هربوا إليه إن أقاموا عنده يكونون من أمرائه، وإن حضروا إلى السلطان يكونون آمنين ولهم الإحسان ولا يؤاخذون، وحضر من عند الأمير علم الدين الدويداري بنسخة يمين على ما تقرر، فخلف له السلطان عليها، وسأله سنقر الأشقر أن يلقبه بلفظة الملك، فامتنع وكتب له تقليد بالبلاد ونعت فيه بالأمير. وسيّر السلطان الأمير فخر الدين المقرئ، والأمير شمس الدين فراسنقر الجوكندار المنصوري إليه، فخلّفاه وسلّمن شيزر وتسلم الشغر وبكاس، وسيّر إليه السلطان من الأواني والأقمشة والأنعام شيئا كثيرا، وانتظم الإتفاق وانقطع الشقاق.

ذكر وصول التتار إلى البلاد ومهاجمتهم

ومنها: وقوع الصلح مع الملك المسعود بن الملك الظاهر مع السلطان الملك المنصور، وذلك أنه ترددت رسل الملك المسعود من الكرك يطلبون الصلح وزيادة على الكرك وأن يكون لهم ما كان بيد الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل أبي بكربن أيوب، فلم يجبه السلطان إلى ذلك ولا إلى الإقامة في الكرك، بل قال لهم في جواب كل رسالة: أنا أعطيكم قلعة غير الكرك، فلما تقررّ الصلح مع سنقر الأشقر خافوا الغائلة، وعلموا أنهم لا طاقة لهم بالمقاومة، وكانوا قد تقسمت آراؤهم، وقطعت أطرافهم، وتقاصرت بهم الأحوال والأموال، فأجابوا إلى طاعة السلطان على أنه يبقيهم في الكرك وأعمالها من الموجب إلى الحسا، فأجابهم السلطان وحلف لهم، والتمسوا شروطا منها: تجهيز الأخوة الذكور والبنات أولاد الملك الظاهر من القاهرة إلى الكرك، ورد الأملاك الظاهرية عليهم، وتّم الصلح على ذلك وحلف السلطان عليه، وتوّجه بدر الدين بيليك المحسني السلحدار والقاضي تاج الدين بن الأثير إلى الكرك وحلفّا الملك المسعود، وكوتب كما يكاتب صاحب حماة، واستفر الحال. ومنها: أن في العشر الأول من ربيع الأول ضمن الخمر والزنا بدمشق، وجعل ديوان ومشدّ، فقام جماعة من العلماء والعبّاد في ذلك فأبطل بعد عشرين يوما، وأريقت الخمور، وأقيمت الحدود. ومنها: أن في أواخر ربيع الآخر عزل التقي توبة التكريتي عن الوزارة بدمشق، وباشر بعده تاج الدين الشهر زوري. ومنها: أن السلطان عزل برهان الدين السنجاريّ عن الوزارة بمصر وصودر وأهين. ذكر وصول التتار إلى البلاد ومهاجمتهم وفي هذه السنة وردت الأخبار على السلطان بدخول منكوتمر إلى الروم في عساكر المغول، وأنه قد نزل بين قيسارية وأبلستين، فأقام بهذه المنزلة والاخبار تتواتر بذلك، والكشافة تغدو وتروح، ولا سر لهم ينكشف ولا يبوح، ثم توّجه كشافة من عينتاب للكشف، فوقعوا بفرقة من التتار قريب صحراء هوني، الني كسر الملك الظاهر التتار عليها، فظفروا منهم بشخص يسمّى جلتار بهادر أمير آخور أبغا، كان قد توجّه لكشف المروج والمراعي، فضربوه ضربة سيف في أذنه، وأمسكوه، وأحضروه إلى السلطان إلى مدينة دمشق، فوانسه وسايسه، وسأله عن أخبار القوم، فذكر أنهم في عدد عظيم يزيد على ثمانين ألف فارس من المغول والحشود، وأنهم يقصدون البلاد قولا جزما، ويركبون من منزلتهم في أول شهر رجب، فسمع السلطان كلامه، وحمل إلى مصر هو ومن أسر معه. فلما كان في شهر جمادى الآخرة من هذه السنة قوى الخبر وزاد، وتنقلوا من منزلتهم إلى صاروس، ومنها إلى أبلستين، ورحلوا إلى أن دخلوا الدربند وهم يسيرون الهوينا، ثم توجهت منهم إلى الرحبة فرقة صحبة أبغا الملك بنفسه وصاحب ماردين، فنازلوها، وسير السلطان بدر الدين بجكا العلائي ومعه مائنا فارس جرائد إلى جهة الرحبة كشّافة، وخرج السلطان من دمشق في جموع، وعدد وحشود، وكان يوما مشهودا، والخلائق كأنهم قد جمعوا في صعيد، وحشروا اليوم الوليد الوعيد. وكان قد قدم قيل خروجه الأمراء ومع كلّ أمير جماعة، فكان الأميرسيف الدين قشتمر العجمي على حمص، والأمير سيف الدين بكتمر الغتمي بحلب، ثم ورد الخبر بأن فرقة العدّو التي جاءت من جهة الروم قد نزلت مرعش، وتقدمت إلى صوب حارم، فقدّم دهليز السلطان إلى القطيفة، ومنها إلى عيون القصب، ووصل العدّو المخذول إلى حارم وملكوا البلاد. فأمر السلطان الناس بأن يلبسوا في كل يوم عدد الحرب، ويركبوا ويصطفوا صفوقا، ويتشالشوا ليتمرنوا على الحرب، وراسل سنقر الأشقر عدّة مراسلات حتى تقرّر أنه ينزل من صهيون ويقف حيث يقف المسلمون هو ومن عنده من الأمراء بشريطة عوده إلى مكانه إذا انقضى المصاف، وتوجّه إليه الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزيّ، والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ في تقرير هذه القواعد، فنزل وأقام على الجراص قريبا من أبي قبيس. ولما نزل السلطان بحمص حضر شمس الدين سنقر الأشقر، ومن عنده من الأمراء وهم: أيتمش السعدي، والحاج أزدمر الدويداري، وبيجق اليغداديّ، وكراي، وشمس الدين الطنطاش، وابنه، ومن معهم من الظاهريّة مبادرين إلى الخدمة، ففرح المسلمون بمحضرهم، وكان ذلك قبل المصاف بيومين.

ذكر الوقعة مع التتار على حمص

وضرب السلطان دهليز الحرب الأحمر، ثم ورد إليه الخبر بأن منكوتمر قد نزل بحماة، ومعه عساكر التتار في ثمانين ألفا، منهم: خمسون ألفا من المغول وباقيهم مرتده وكرج وروم وأرمن وفرنج، وأنه قد قفز إليهم مملوك من مماليك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، فدلهم على عورات المسلمين، وأخبرهم بعددهم. ولما كان ليلة الخميس رحلوا عن حماة، ورتبوا جيوشهم، وكان طرف ميمنتهم حماة، وطرف ميسرتهم سلميّة، وساقوا طالبين اللّقاء، فرتب السلطان الجيش ميمنة وميسرة وقلبّا وجناحين على ما نصفه، وبات المسلمون على ظهر لابسين لامات الحروب، مدّرعين هم وخيولهم. واتفق أن شخصا من عسكر التتار قفز ودخل إلى حماة، وقال للنائب بها: اكتب الساعة إلى السلطان على جناح المام، وعرفه أن القوم ثمانون ألف مقاتل تحت القلب، منها أربعة وأربعون ألفا مغلا، وهم طالبون القلب، والميمنة التي لهم قوّية جدّا، فيقوّى ميسرة المسلمين ويحترزون على السناجق، فقرأ السلطان الكتاب وركب عند إسفار الصبح لتقوية الميسرة واعتماد ما يراه من الصلاح. ذكر الوقعة مع التتار على حمص في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب الفرد، سنة ثمانين وستمائة. ولما ركب السلطان بكرة النهار لترتيب الأطلاب ساق بنفسه على الجيوش وطيّب خزاطرهم، وقوّى عزائمهم، وحضهّم على الثبوت، وحسن الصبر، ورجع إلى موقفه من القلب متوكّلا على الرب بجأش أثبت من الجبال الشمّ، وجنان أصلد من الرواسي الصم، وكان التطليب على هذا الترتيب. الميمنة المنصورة المنصورية فبها: الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة والعسكر الحمويّ والأمير بدر الدين بيسري الشمسيّ، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ الحاج، والأمير عز الدين ايبك الأفرم أمير جاندار الصالحيّ، والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي، ومضافوم من الأمراء الطيلخانات، وأصحاب العشرات، ومقدّمو الحلقة وأجنادها، وغيرهم من العساكر، والأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري نائب الشام، والأمراء الشاميّون، والعسكر الشامي، وفي رأس الميمنة شرف الدين عيسى بن مهنّى وآل فضل، وآل مرى، وعربان البلاد الشاميّة ومن انضّم إليهم. الميسرة المباركة الإسلاميّة فيها: الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من المماليك الظاهريّة، والأمير سيف الدين أيتمش السعديّ، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمريّ، والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الحلبي الصالحيّ، والأمير سيف الدين بجكا العلائي، والأمير بدر الدين بكتوت العلائي، والأمير سيف الدين حبرك التتريّ، ومن معهم من الأمراء والألوف، وفي رأس المسيرة التركمان بجموعهم، وعسكر حصن الأكراد. الجاليش وهو مقدّمة القلب الأمير حسام الدين طرناطاي نائب السلطنة ومضافوه من الأمراء والمغادرة ومماليكة وأجناده، والأمير ركن الدين أياجي الحاجب، والأمير بدر الدين بكتاش بن كرمون ومن معهم من المماليك السلطانيّة المنصوريّة، ووقف السلطان تحت السناجق المنصورة، وحوله مماليكه، وألزامه، والسلحداريّة، والسنجقداريّة، والطبرداريّة، وهو ثابت في صهوة جواده ثبوت الطود الراسي، محتسبا في سبيل الله عز وجل ثواب ما يلابس ويقاسي، فأشرفت كراديس التتار متراكمة كالأمواج، مترادفة كالبحر العجاج، وأقبلوا ينسلون من الفجاج، وهم كقطع الليل المظلم، والمسلمون كالسراج الوهاج، قد أشرقت عليهم أنوار التوحيد، وأشعة الحديد. بوجوه تعسى السيوف ضياء ... وسيوف تغشى الشموس وقودا في مقام يخر في صكة البيض ... على البيض ركعّا وسجودا وكان الملتقي بوطأه حمص، يالقرب من مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، حيث مركز الرماح، ومهبّ الرياح، وهو المكان الذي لم يزل بلاء الناس فيه محمودا، ونصر خالد يزداد لديهم خلودا، فالتقى الجمعان في الساعة الرابعة من يوم الخميس الرابع عشر من شهر رجب.

وفي تاريخ ابن كثير: ولما كان يوم الخميس رابع عشر رجب التقى الجمعان، وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس، وعسكر التتار في مائة ألف فارس، وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيد قليلا، والجمع فيما بين مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الرستن، فاقتتلوا قتالا عظيما، لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار، فكسروا الميسرة، واضطربت الميمنة أيضا، وبالله المستعان، وانكسر جناح الفلب الأيسر. وكان في ميمنة التتار من مقدميهم: ألناق بهادر وطنجو بهادر، وعايد، وبلطو، وينحي، وصمغار، وكان في ميسرتهم: قرمشي بن هندوغور، وبراجار، والبابا شمس الدين والد الأمير جنكلي، ودريبه، وتمدار، وملك الكرج تجاه ميمنة المسلمين، وكان في القلب منكوتمر بن هلاون ومعه تلاجي وقراتغيه بن يصمت، ججكاب بن جمغان، ومن الأمراء طلاطاي ونكباي وغيرهم. وثبت السلطان الملك المنصور ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة، وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين، والتتار في الآثار حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص، ووصلوا إلى حمص، وهي مغلقة الأبواب، فقتلوا خلقا من العامةّ وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطر عظيم، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم، مثل سنقر الأشقر، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، وحسام الدين لاجين، وحسام الدين طرنطاي، والدواداريّ، وأمثالهم، لما رأوا ثبات السلطان ردّوا على التتار، وحملوا عليهم حملات صادقة متعددة ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتار، وجرح منكوتمر، وجاءهم الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنىّ أمير العرب من ناحيّة العرض، فصدم التيار، فاضطرب الجيش لصدمته، وتمت الهزيمة ولله الحمد، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة جدا ورجعت الطائفة من التتار الذين كانوا خلف من هزم من المسلمين، فوجدوا أصحابهم قد كسروا، والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون، والسلطان ثابت في مكانه تحت السناجق، والكوسات تضرب وراءه، وما معه إلا من ألف فلرس فطمعوا فيه فقاتلوه، فثبت لهم ثباتا عظيما، فانهزموا من بين يديه، فلحقهم فقتل أكثرهم، فكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتار قبل المغرب. وقال بيبرس في تاريخه: جاءت ميسرة العدّو تجاه الميمنة الإسلامية، وقد تكردسوا فيها أطلابا، وترادفوا أحزاباً، وصدموا الميمنة الصدمة الأولى، فثبت العساكر للقتال وصبر المسلمون للنزال، والتقوا على التتار حتى ضاق بهم المجال فمالوا لذلك على ناحية جاليش القلب، فأشار السلطان إلينا بأن نردفه، فردفناه جميعا، وجعلنا بجمعنا مينعا، وقتلنا الذين قصدوه قتلا ذريعا، وبذلت فيهم السيوف، ودارت عليهم دائرة الحتوف، فانكسرت الميسرة كسرة تامّة، وأيقنا نحن بالنصرة العامة، وانتهت كسرة ميسرتهم إلى القلب الذي لهم، وبه منكوتمر ابن هلاون، فضعف قلب ذلك القلب، فانهزم طريدا وولى شريدا. وأما الميسرة الإسلامية فإنها لما صادفها ميمنة التتار وصادمتها تزحزحت عن مواقفها ولم تثبت لنراكم كراديس التتار وترادفها، ولأنهم كانوا قد بالغوا في تقويتها، وأمنعوا في كثرتها، وساقوا وراء المسلمين حتى انتهوا إلى تحت حمص، ووقعوا في السوقية والعوام وألجأوهم إلى مكان متضايق الزحام، فأبادوا منهم خلقا كثيرا، ولم يعلم المسلمون بما تهيّا للميمنة المنصورة من النصرة، وما أصاب التتار من الكسرة، فاستقبل بعضهم الطريق، ووليّ وهو من سكر الهزيمة لا يفيق، ومنهم من أدّته الجفلة إلى دمشق، فلما دخلوا شاع بين أهلها كسرة العساكر الإسلامية، فتشوشت الخواطر، وقلق البادي بها والحاضر، ودخل بعض النهزمين الضعيفي القلوب إلى جسر يعقوب، ووصل بعضهم إلى غزة. ولما رأى التتار أنهم قد هزموهم واستظهروا عليهم، نزلوا عن خيولهم في المرج الذي عند سد حمص منتظرين قدوم رفقتهم، معتقدين رنج صفقتهم، ولم يعلموا أنهم قد انكسروا وولوا وأدبروا، فلما طال بهم الانتظار أرسلوا من يكشف لهم الأخبار، فعاد الكشّافة إليهم وأخبروهم بما تمّ عليهم، فركبوا خيولهم وقد فقدوا عقولهم وعادوا راجعين، وبأصحابهم لاحقين.

ذكر عود السلطان إلى دمشق

وكان السلطان قائما بمكانه، ولم يبرح، ثابتا في موقفه لم يتزحزح، في نفر قليل من المماليك الأضاغر، وما حوله من أثقال العساكر، لأن العسكر تفرق، فبعض ذهب خلف العدّو في الطلب، وبعضهم أدبر هزيما لما ظن أن لهم الغلب، فرأى السلطان من الحزم أن تطوى السناجق، وتخفى البيارق، وتبطل الكوسات، وتخفض الأصوات، ومرت ميمنة التتار راجعة على الأعقاب، ناجية منبجي الذباب، وعاينوا السلطان وافقا في السواد الذي حوله، وقد تكاثف حواليه، فلم يقدموا عليه، وطلبوا طريق الرستن ليلحقوا بأصحابهم، وأسرعةا في ذهابهم لا يهتدون إلى صوابهم: ولّوا طرائد للحتوف ترى لهم ... بين الصفوف عجاجة وعجيجا وتخوفوا نار السيوف ويومهم ... أمسي بنيران السموم وهيجا والوحش يقسم لا آكلن شواهم ... إلا شواه بالهجير نضيجا وكتبت البطائق المخلّفة، وسرّحت بها أطيار البشائر محلّقة، فتراجع بعض الميسرة التي جرّت ذيول الهزائم، واستبشر الناس بما أتى الله سلطانهم المنصور من نصر العزائم، وخاب من ولّى الأدبار وخار، وحاز الصابرون أجزل الفخار. وعاد السلطان من يومه إلى المنزلة، وعاين القتلى بها مجدّلة، وقد نهبت الأثقال والوطاقات، منها ما نهبه التتار، ومنها ما نهبته الحرافيش والكسّابة، فلم يفكر فيما ذهب من قماش أو ذهب، وكان قد أحرز ما في الخزائن من العين، قبل وقوع العين على العين، وفرقه على مماليكه أكياسا، في كل كيس ألف دينار، ليحملوه إلى أن تنجلي الوقعة، وتتفق الرجعة، فلما نهبت الصناديق وجد الناس صناديق الخزانة فارغة من المال، فلم يعدم منه مثقال، وكانت جملته مائتي ألف دينار. قال بيبرس: ولقد حملت منه كيسا وقت تفرقته، وأعدته سالما بجملته. وبات السلطان تلك الليلة، والعساكر متفرقة، والجيوش متمزقة، والخيول مغّربة ومشرّفة، وتراجع الناس، وغلب الرجاء اليأس. ولما كان سحر الجمعة، صبيحة يوم الوقعة، قام في الخيام صائح ايقظ النوام، وظن الناس أن التتار عادوا مكابسة، وعاد الحرب مخالسة، فركب السلطان وركب معه من كان بالدهليز من المماليك والسنجقيّة، فانكشف الخبر بعد ساعة، بأن جماعة من العسكر الذين تبعوا التتار المنهزمين عادوا إلى الوطاق. وأسفر صباح يوم الجمعة المبارك، الخامس عشر من شهر رجب، والعدوّقد ولّى هاربا، ولم يبلغ أربا، وسارت الجيوش الإسلامية في إثرة طلبا، فنالت منه قتلا وأسرا، ونهباً وسبيا، وضربت البشائر والتهاني، وتحققت الآمال والأماني، وكتبت الكتب الشريفة بهذه الأخبار إلى الأقطار، وركضت سوابق الخيول بالانتصار إلى الأمصار، ولم يبق بلد ولا مدينة ولا ثغر من ثغور الإسلام، بمصر والشام، إلا وقد أعلنت فيه البشائر، وقرئت به كتب النصر على المنابر، فاكتسى الزمان رونقا وبهجة، وأمتلأت بالسرور كل مهجة، وبطقت البطائق في الحصون القريبة من مسالك التتار التي سلكوها للفرار، مثل البيرة، وعينتاب، وبغراس، والدربساك، والراوندان، وأبي قبيس، وشيزر، بأن يأخذوا لهم المراصد، فصار العشرة منهم يقتلهم من المسلمين واحد، وحفظ أهل البيرة عليهم المعابر من الجهة الفراتية، والمخائض إلى الجهة الشرقية، فعبر أكثرهم من غير عبر، فهلك أكثرهم غرقا، وقتل منهم في الهزيمة أكثر ممن قتل عند اللقاء. وكانت في هذه الكّرة عليهم الكسرة، ولم تغن عنهم الكثرة، فأنزل الله على المسلمين نصره، ورسم السلطان بأن تضرم النار في الأزوار التي على الفرات، فمات أكثر من اختفى فيها حرقا، وأما درب سلمية فإن فرقة منهم فيه سلكوا فهلكوا، وكان على الرحبة طائفة مع أبغا يحاصرها، فلما وصلتها البطائق، وضربت البشائر، أخذت التتار الصيحة، فولوا هاربين، وولى أبغا هاربا، وسار نحو بغداد طالبا، خوفا أن يأخذه أهل البلاد، يتحطفه أهل الحواضر والبواد. وجهز السلطان العسكر الحلبي إلى حلب، والحمويّ إلى حماة، وجرّد الأمير بدر الدين الأيدمري لتمهيد البلاد وترتيبها وعاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون، وأما الأمير سيف الدين أيتمش السعديّ، وعلم الدين الدواداري، كراى الترى وولده وتكاجى وجماعة من الأمراء الذين كانوا عنده، فإنهم رغبوا في العود إلى الخدمة الشريفة فعادوا إليه ذكر عود السّلطان إلى دمشق

ذكر ما قيل في هذه الغزاة من الأشعار

ولما فرغ السلطان، وصفا باله، واستقام حاله، عاد إلى دمشق، والأسرى تساق قدامه في الكبول، وقد حمل ما نهب لهم من القسيّ والسناجق والطبول، وكان دخوله دمشق يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخلها ونزل في القلعة مؤيدّا، منصورا، وكان أعظم الأيام قدرا، وأطرها عند الأنام نشرا، وأظهرها في وجه الزمان بشرا، بهذه النصرة العظيمة، والنظرة الوسيمة، والكسرة التي لم يرى مثلها في الأزمان القديمة، فإن جيش التتار لم يجز هذه الديار بمثل هذا الإكثار، ولا قصدها قبل هذه المدة في بعض هذه العدّة. ذكر ما قيل في هذه الغزاة من الأشعار قال القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر، كاتب السرّ المنصور، وناظر ديوان الإنشاء المعمور يذكر الواقعة بقصيدة جامعة لأحوالها، وهي: الله أعطاك لا زيد ولا عمرو ... هذا العطاء وهذا الفتح والنصر هذا المقام الذي لو لم تحل به ... لم يبق والله لا شام ولا مصر من ذا الذي يلقي ذا العدوّ وكذا ... أو يدرع لامة ما لامها الصبر يا أيها الملك المنصور قد كسرت ... جنودك المغل كسرا ماله جبر وأستأصلوا شافة الأعداء وأن ... تصروا لما ثبتّ وزال الحوف والذعر يا عزمةً ما رأى الراؤون مشبهها ... ووقفةً سار في الدنيا لها ذكر لما بغى جيش أبغا في تجاسره ... ولن يمدّ له إلا القنا جسر واستجمع المغل والتكفور راتفقوا ... مع الفرنج ومن أردي به الكفر جاءت ثمانون ألفا من بعوثهم ... لأرض حمص فكان البعث والنشر وافي الخميسان في يوم الخميس ضحي ... وامتدّت الحرب حتى أذن العصر والسيف يركع والأعلام رافعة ... والروس تسجد لا عجب ولا كبر والخيل لا تغتدي إلا على جثث ... والسهل من أرؤس القتلى به وعر والبيض تغمد في الأجفان من مهج ... والسمر ناهيك ياما تفعل السمر فجاء في رجب عيدان من عجب ... للسيف والرمح وهذا الفطر والنحر فكان أسلمهم من أسلموه لأن ... يقوده القيد أو يسرى به الأسر وراج فارسهم تراوح راجلهم ... تنتابه الوحش أو ينبو به القفر فما وعي منهم واع رعيته ... ولا ارعوي لهم من روعة فكر وكان يوم الخميس النصف من رجب ... عام الثمانين هذا الفتح والنصر وعاد سلطاننا المنصور منتصرا ... فالحمد لله تم الحمد والشكر وقال القاضي محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، والده، من أبيات يصف فيها السلطان وحسن بلائه، وجميل أثره، وجزيل غنائه: لله في حمص مقام قامه ... والنار من بين الأسنّة توهج والناس قد فرّوا فلا متريّث ... والخلق قدهر بوا فليس معرّج وهناك من تجد الملائك عصبة ... جاءته للنصر المبين تروّج وهناك خالد قد أجار نزيله ... ونزيل خالد ليس ممن يزعج فئنى العنان وما انثنى حتى بدا ... للدين من أمر الأعادي محرج ملك به ردّ العدي لو انهم ... مما سبي أولادهم لم ينتجوا البحر لولا أنه من كفه ... ما كان منه جوهر يستخرج والصبح لولا أنه من شهيه ... ما فات ركض البرق منه يهملج والليل لولا أنه من دهمه ... ما كان بالشهب الثواقب يسرج والنصر لولا أنه من سيفه ... ما كان كرب في الوجود يفرّج والروض لولا أنه في كتبه ... ما هبّ في الآفاق منه تأرّج والسحب لولا أنها من جوده ... ما كان منها كل صدر يثلج والنار لولا أنها من سخطه ... ما أحرق الأعداء منه تأجّج فلمدحه ما حاكه ذو فكرة ... ولرمخه من نثره ما ينسج يرضيك من فوق السوانح أروع ... منه ومن تحت التريكة أبلج

وقال ناصر الدين حسن بن النقيب أحمد الكنانية، وكان مفافاً في فنون الأدبية والشعرية بذكر هذه النصرة المنصورية: هي النعمة الكبرى هي النصرة العظمى ... هي اللفظ والمعنى هي البشرو البشرى هي المطلب الأسنى هي المنحة التي ... لقد شرفت قدرا وقد عظمت ذكرا هي الوقعة الصماء والحطمة التي ... بها انكسر الفكر الذي لم يجد جبرا هي الفنك بالأعداء والظفر الذي ... شفى القلب من أبغا وقد أثلج الصدرا وأمكن من صمغار حد سيوفا ... فخر إلى الأذقان لا ساجدا شكرا ونكس أعلاما وفلّ كنانيا ... لمنكوتمر كالأسد في الحرب بل أضرا فلما رأوه قد تقطر قاتلوا ... عليه قتالا قطّع البيض والسمرا فلما نجا منها وركب طرفه ... تولى وخلّى الابن والأب والصهرا وراح ثخينا بالجراح مصبرّا ... يثن ويشكو من هضاضاتها ضرّا فلله منا الحمد والشكر دائماً ... فقد أصل الإسلام واستأصل الكفرا فقل لرؤس المغل إن قلاونا ... هو السيف ضرابا لأعناقكم قهرا هو الملك المنصور والله خاذلٌ ... لأعدائه خذلانا وناصره نصرا هو المقدم الكرار في حومة الوغى ... إذا أحجم الأبطال وامتلأوا ذعرا هو الأسد العادى على أنفس العدى ... هو القمر الهادى إذا أظلم المسرا هو القائد الجيش العرمرم خلفه ... إلى الفان في موغان يطلبه جهرا عساكر ملء الأرض من كل جهةٍ ... تجمعن حتى فات العدّ والحصرا تخيل رائيها القيامة مثلت ... لعينيه في دنياه والعرض والحشرا فلم ينج منها الوحش عند إثارة ... ولا الطير في جو السماء إذا مرا فقل للتتار العادمين عقولهم ... نسيتم سيوف الترك تضربكم هبرا وكم كسر وكم مرةً بعد مرة ... فما حصروا القتلى ولا استرعبوا الأسرا وقد زاركم أبغاء من بعد قتلكم ... فأجرى عليكم من مدامعه جمرا وأكبر مرأى هاله بسماعه ... ففر إلى توريز يجعلها ظهرا ولو حلّ في غمدان يبغى تحصنا ... لما استطاع أن يقيم فيه ولا فرّا وأنتم بسيف الدين أخبر في الوغا ... فذلك همام قد أحطتم به خبرا ولم يخفكم حملاته ولطالما ... أذاقكم المران من طعنه المرا أأنسيتم في عين جالوت ما جرى ... وفي العين قد أجرى دماءكم نهرا أما كان في يوم الفرات إليكم ... مقدمة الجيش الذي عبر البحرا أما كان في يوم البلستين أولا ... أعينكم ترنو إلى نحوه شزرا فما أطرفت أجفانكم أوقضى الردى ... عليكم وأمضى حدّه فيكم الأمرا وفي الملتقى ما بين حمص وحماة ... تلقاكم السيف الذي يقطع العمرا فداسكم من خيله بحوافر ... حفرن لكم في كل جلموده قبراً وكم لكم في الذئب والنسر مدفن ... فنوحوا إذا أبصرتم الذئب والنسرا أغركم من صاحب السيس قوله ... فكم غرّ بالقول المحال وكم أغرا وقد وعدنه الترك أن ستزوره ... ولو أن أرض السيس مفروشة جمرا وأنتم فأدرى الوعود بصدقهم ... فما أخلفوا قولا ولا اختلقوا غدرا يوجد سقط في النسخة التي بين أيدينا من عقد الجمان، وذلك فيما بين الورقة680، والورقة 681من الجزء الرابع من المجلد الثامن عشر.

أولا

ويقابل هذا السقط في عقد الجمان الأوراق من 121أإلى 147ب من الجزء التاسع من كتاب زبدة الفكرة، وهو الكتاب الذي اتخذه العينى مصدرا أساسيا، ونقل عنه ما أورده في حوادث سنة 680هـ. وتضمنت أوراق زبدة الفكرة - المقابلة لهذا السقط - الموضوعات الآتية: أولا باقي أحداث سنة 680 جزء من قصيدة لبدر الدين محمد بن عمر المنبجى. عودة السلطان إلى الديار المصرية في الثاني والعشرين من شعبان. وصول رسل الملك المظفر شمس الدين بن رسول صاحب اليمن. وصول رسل الملك الأشكرى صاحب القسطنطينية. ذكر ما تقرر من الهادنات مع الفرنج بين السلطان وولده بين مقدم بيت الاسبتار اعتبارا من 12 محرم سنة 680 هـ. الهدنة مع متملك طرابلس، اعتبارا من 27 ربيع الأول سنة 680هـ. وفيات سنة 680 وفاة منكوتمر بن هولاكو. وفاة الصاحب علاء الدين عطا ملك الجوينى، صاحب الديوان ببغداد. وفاة القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، قاضي القضاة بالديار المصرية. وفاة الشيخ الصالح موسى بن مسعود. وفاة القاضي نفيس الدين شكر القاضي القضاة المالكية. وفاة الشيخ أبو الحسن على بن أبي الخير السعودي. أما الوفيات التي ذكرها ابن كثير، والتى جرت عادة العينى أن ينقلها في عقد الجمان، فتضمنت في سنة 680هـ: أبغا ملك التتار هولاكو. أبو بكر بن يحيى بن هبة الله، قاضي القضاة ابن سنى الدولة. عمر بن عبد الوهاب بن خلف بن بنت الأعز، قاضي القضاة صدر الدين. الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغورى. الأمير عز الدين أزدمر السلحدارى. محمد بن الحسين بن رزين، قاضي القضاة تقي الدين. موسى بن داود بن شيركوه، الملك الأشرف مظفر الدين. الشيخ جمال الدين الأسكندرى، الحاسب بدمشق. محمد بن الحسين بن عيسى بن عبد الله بن رشيق الربعى المالكى، الشيخ علم الدين أبو الحسن. محمد بن مكى بن خلف غيلان، القيسى الدمشقى، الصدر الكبير أبو الغنائم المسلم. أبو القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمى الحنفى، الشيخ صفى الدين، شيخ الحنفية ببصرى. ثانيا: أحداث سنة 681 ذكر إغارة العساكر المنصورة الإسلامية على الجهة الشرقية والبلاد الرومية. وصول شخص من جهة الأمير سيف الدين طرنطاى صاحب أماسية والدسنان الدين الرومى إلى السلطان. وصول رسول عند الفونش، أحد ملوك الفرنج، اسمه: الفارس الحكيم ما يشتر فلب الأسبنيولى. استقرار الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى في نيابة السلطنة بحلب. وصول شخص من أولاد الأويراتية يسمى الشيخ علي. ذكر وفاة أبغا بن هولاكو ملك التتار مسموما. ذكر تملك توكدار بن هولاكو الملقب أحمد سلطان. ذكر نسخة الكتاب الذي أرسله أحمد سلطان إلى بغداد، لما جلس في السلطنة بإسلامه هو ومن معه من التتار. وصول رسل الملك أحمد سلطان إلى الأبواب السلطانية. ذكر نسخة الكتاب الواصل من جهة المذكور مخبرا بانتقاله إلى ملة الإسلام هو ومن معه من التتار كتب في واسط جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وستمائة بمقام الأوطاق. ذكر نسخة جواب السلطان الصادر إليه. ذكر وفاة منكوتمر بن طغان بن باطو بن جنكز خان، ملك التتار بالبلاد الشمالية. ذكر مملكة تدان منكو بن طغان بالبلاد الشمالية. وصول ولد الشريف أبي نمى أمير مكة ومعه جماعة كبيرة من الأشراف وزعماء الحجاز. حج في هذه السنة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحى. ذكر العقد للملك الصالح على بنت الأمير سيف الدين نوكية. ذكر دخول السلطان ببنت سكتاى بن قراجين بن جيغان نوين. ذكر تقرير الهدنة مع بيت الديوية بالساحل. ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه. وفيات سنة 681 وفاة القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان البرمكى. وفاة ناصر الدين الجوهرى التاجر. أما الوفيات التي ذكرها ابن كثير، فتضمنت في سنة 681 هـ: برهان الدين أبو إسحاق بن إسماعيل بن إبراهيم، ابن الرضى الحنفي، إمام المعزية بالكشك. أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار، القاضي أمين الدين الأشترى. محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن المراغى الشافعى، الشيخ برهان الدين أبو الثناء.

ثالثا:

أبو محمد بن عبد السلام بن علي بن عمر الزواوى المالكى، قاضي قضاة المالكية بدمشق. محمد بن علي بن محمود بن علي الشهرزورى، الشيخ صلاح الدين، مدرس القيمرية. أحمد بن محمد بن إبراهيم، شمس الدين أبو العباس، ابن خلكان، قاضي القضاة. ثالثا: أحداث سنة 682 وصول الملك المنصور صاحب حماة إلى الديار المصرية. توجه السلطان إلى جهة البحيرة لحفر الخليج المعروف بالطيرية. رسم السلطان لنائب المملكة الحلبية بأن يوجه وجه الغازات إلى سيس وأعمالها. تجريد السلطان عسكرا لمضايقة الكرك. ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده. تقرير هدنة عكا اعتبارا من 5 ربيع الأول سنة 682 هـ. ذكر العقد للملك الأشرف على بنت الأمير سيف الدين نوكية. وصول الشيخ عبد الرحمن من عند السلطان أحمد وصحبته صمداغو. ذكر فتوح تونس بشعار السلطان واسمه. ذكر واقعة اتفق وقوعها بين أحمد سلطان ملك التتار الجالس ببيت هولاكو وبين أرغون ابن أخيه أبغا. ذكر مقتل توكدار الملقب أحمد سلطان بن هولاكو. ذكر مملكة أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار. ذكر فتوح قلعة قطينا واقتلاعها من يد العدو المخذول. ذكر فتوح ثغر الكختا واستنقاذه من الكفار. ذكر توجه السلطان إلى الشام المحروس وفيها توجه السلطان إلى الشام المحروس، لتدبير أحواله والنظر في مصالحه، وكانت الأخبار قد بلغته بقتل السلطان أحمد، واستقرار أرغون في الملك بعده، وأن فرقة من التتار تقدير أربعة آلاف فارس حضرت مقفرة طالبة نحو الشام، فسار إلى دمشق، فدخلها في الثاني من شهر جمادى الآخرة، فسر الناس بقدومه، وقدّم النظر في كل مهم تكون المصلحة في تقديمه، وأحضر رسل أحمد سلطان، وقد كانوا لما وصلوا إلى الشام أنزلوا بقلعة دمشق، واحتفظ بهم، وولم يكن أحد من الاجتماع بهم، بل كانوا في دار رضوان، وغلمانهم وجواسيسهم بمعزل عنهم، والإقامات جارية عليهم، والأنزال واصلة إليهم. واستدعاهما السلطان، وهما الشيخ عبد الرحمن وصمداغو، ولم يكونا علما بموت مرسلهما. وكان عبد الرحمن هذا قدوة الملك أحمد، ومشيره، وهو الذي أشار عليه بالإسلام، على جهة المكر والخداع، حتى يطمئن من هذه الجهة، ويتفرغ لينال قومه، وأقاربه، وتحكم هذا الشيخ في البلاد، وتحدث في جميع الأوقاف، بالعجم والعراق والروم، وجبى إليه من أموالها جمل عظيمة، وأظهر للمغل من المخاريق والحيل ولأنواعها أشياء أخذ عقولهم بها، فمالوا إليه ميلا كبيرا، واتخذوه مشيرا، وصار الملك أحمد وعشيرته يقفون بين يديه، ويتمثلون أمره. وأصله موصلى، وكان مملوكا، يقال له: عبد الرحمن النجار، وتوهم أنه إذا حضر إلى السلطان يتم له عنده ما تم له في العراق، ويصير منه ما صار في تلك الآفاق، فكان الأمر بخلاف ذلك، لأنه لما خرج من الأوردو استصحب جماعة من أكابر المغل، وهم: صمداغو وجماعة، وكتابا، وفقهاء، وفقراء، وكان يحمل على رأسه جتر في الطريق، وحلقة سلحدارية، وحواشى، وأرباب أشغال، وغلمان، وأخباره كانت تتصل بالسلطان، منزلة بمنزلة، فلما وصل إلى البيرة تلقاه الأمير جمال الدين أقش الفارسي، أحد أمراء حلب، ومنعه من حمل الجتر والسلاح، وتنكب به، ومن معه عن الطريق المسلوكة، وساق بهم في الليل، وقرّر مع المجردين صحبته أن أحدا لا يكلمهم ولا يملأ عينه منهم، ولما وصل بهم إلى حلب أخفى أمرهم، وأخرجوا منها في الليل، وسيرّ بهم في غير الجادّة على العادة، ولما وصلوا إلى دمشق أدخلوا في الليل، وأنزلوا في القلعة على الصورة التى ذكرناها إلى أن حل السلطان بدمشق، فلما دخل بين يديه سمع كلامه رفيقيه وهما صمداغو وشمس الدين ابن الصاحب، وقبل هدية الشيخ المذكور، وأخذ الكتاب الذي على يده من جهة أحمد سلطان. ذكر نسخة الكتاب الواصل من أحمد سلطان ثانيا: بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر بقية الحوادث

بقوة الله تعالى باقبال قان فرمان أحمد، إلى سلطان مصر، أما بعد: فالذي يجب على العاقل: بذل الجهد وترك الإهمال والتواني، واستنفاد الوسع في اقتناء الذكر الباقي، ألا وهو العمر الثاني، وقد انحصر الثناء الجميل، والثواب الجزيل، في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، واستعمال العدل والنصفة المندوب إليها، وأي عدل ونصفة أعظم قدرا وأعلى ذكرا في سائر الأصقاع والممالك من إنقاذ الأنفس بجريعة الدقن من المهالك، وإطفاء ناثرة أكباد حرى، وقلوب جرحى، ومن أحباها فكأنما أحيى الناس جميعا، ولما لم يكن لنا بفضل الله العظيم وإحسانه الجسيم افتقارٌ ولا بغيه، ولم يبق في ضميرنا إرادة ولا منية سوى رفاهية العالم وطمأنينة بنى آدم، خصوصاً الطائفة الإسلامية، وأهل الملة الحنيفيّة أنقدنا الألجية إلى إخواننا توفاى أغا وتودا منكو وغيرهما، ونبّهناهم على أن الملك العقيم الذي ادّخره لنا جدّنا جنكزخان، وآباؤنا الكرام، بعد الصبر على المشقة في تحصيلةه والمقاساة، وتحّمل أعباء الشدائد والمعاناة، بمجرّد النزاع والخصام، وخلاف الوفاق واختلاف الكلام، قد أشرف على شحوب بهجته وبهائه، وتكدير رونق صفاء مائه، والآن آن نستبدل وحشة النزاع بأنس الصلح، ونتعوّض عن غيهب ليله النفار والنقار تباشير الصلح، ونغمد السيوف البواتر التي استلّت من الأغماد، ونعفيّ أثر الهرج والمرج ونعرض عن الاعراض والأحقاد، ونتفق الجميع على القيام بواجب كوج قان وخدمته، والإلتزام بواجب طاعته، والاشتمال بما ينوط بمصلحته، وحيث تأملوا ذلك بعين البصيرة، ورأى من حنكة دوران الفلك، والتجربة، يبينّ لهم أن هذا الرأي محض شور لا يشوبه غش ولا مداهنة، وخالص تنبيه لا يغادره سوى زبدة المناصحة، فقالوا: إن الذي وقع من الخلاف، كان بين من قد قضى نحنه من الآباء والأسلاف، ولم تجر بيننا مخاشنه، ولا وقع خلف ولا مشاحنة، فعدنا على ما كان عليه آباؤنا القدماء الكرام من الانفاق والائتلاف، وحفظ العهد والذمام، والتزمنا أن لا ينحل عقد هذا النظام، والله الموفق للرشاد الهادي إلى السّداد. ولما تفرغ البال من إصلاح ذات البين، واستحكمت مرائر الائتلاف بين الجهتين، أنقدنا الإيلجيّة بعد النيّة الخالصة لله وللرسول، تسكينا للفتن الثائرة، وإطفاء للهيب تلك النائرة، وحقنا لدماء المسلمين، وسدا لثلمة الدين، فكانت خلاصة جوابه، وزبدة خطابه، عند وقوفه على ما كتب به إليه، أنه لو أنفذ أبونا شيخ الإسلام، قدوة العارفين، كمال الدين عبد الرحمن، لكنت أسكن إلى أمانته، وأخلد إلى ديانته، وأسمع منه ما لم يحتمل إيداعه الكتب، وأشافهه بما عندي من المصالح، وأخاطبه بما ينطوي عليه ضميري للمسلمين من النصائح. هذا، وغير خاف أنه يعز علينا بعاده، ويوحشنا بينه وفراقه، وربما اتصل به ما نستفيده من حسن معاشرته، وجميل مصاحبته، وحيث كان التماسه موجبالإشاعة الخير العام، وإذاعة شعار الإسلام، رضينا بتوجّهه إلى جهته إسعافا لمقترحه، وجعلناه في اتخاذ العهد واليمين، بدلا عن شمالنا واليمين، ولم يكن بين كلامنا وكلامه بون، إذ هو لنا في أمور الدين نعم العون، والتزمنا بكل ما عساه يسنده إلينا وبما يرلى، ثقة بأنه الناصح الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، وربما شرذمة من الجهال من الجهتين، من أهل الشفاق والنفاق، الذين لا تجتمع كلمتهم على الوفاق، تنافي طبائعهم الصلح والاتفاق يريدون أن يطقئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره، لاختلاف ملتهم، وطمعا في إدراك بغيتهم، فالواجب أ، لا تسمع أقوالهم، وتترك أفعالهم أولئك حبطت أعمالهم. ومن المعلوم أن كل أمر يمكن اعتمّاده على الوجه الجميل، بحيث تنحسم فيه موادّ القال والقيل، لا ينبغي أن يكون الحال فيه بالضّد خصوصا في الخطب الإدّ، والأمر الجدّ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكتب في أوائل ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وستمائة بمقام تبريز، والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. فخلع السلطان عليهم وأحسن إليهم، ثم أعلمهم بوفاة مرسلهم بعد ذلك. وشرع السلطان في الخروج إلى جهة المرج والإقامة به الصيد، وبذل الخلع والإنعام، وذلك كان دأبه مدّة قيامه بالشام. ذكر بقية الحوادث

منها: أنه وصلت رسل من جهة تدان منكو، الجالس على كرسىّ الملك ببيت بركة يخبرون بإسلامه، ويهنون بتملكه، وهم من فقهاء القفجاق، أحدهم يسمىّ مجد الدين أتا، والآخر نور الدين، وعلى يدهم كتاب من جهته بالخط المغلى، فعرب، فكان مضمونه الإعلام بدخوله في دين الإسلام، وجلوسه على التخت، وأنه أفام شرائع الدين، ونواميس المسلمين، وأوصى على الفقهاء الواصلين، وأن يساعدوا على الحج المبرور، الذي جاءوا له قاصدين، وذكروا من ألسنتهم أنه سأل السلطان أن ينعته نعتا يسمىّ به من أسماء المسلمين، وعلما خليفتياً، وعلما سلطانيا نقابل بهما أداء الدين، فجهز السلطان الفقهاء المذكورين إلى الحجاز الشريف، فلما عادوا سفرّهم إلى مقصدهم على أحسن حال. ومنها: أنه أمسك شنحس بطرك، كان مقيما بالحدث، وله شوكة كبيرة وحوله طواغيت كثيرة، وقد انضم إليه جماعة من ذوى الضلال، من أهل تلك الجبال، وتحصن بالحدث، فقصده التركمان، وتحيّلوا عليه حتى تمكنوا منه، وأحضروه أسيرا، وغادروه حسيراً، واستراح المسلمون من شره ومن عادية أمره. ومنها: أنه خرج صاحب قبرس في جماعته، عازما على قصد بلاد الساحل، وركب البحر، فرمته الريح إلى جهة بيروت، فخرج منها، وقصد الأغارة على تلك الجهات، وكان السلطان لما بلغه حضوره قد تقدم أمره إلى النواب بتلك البلاد لحفظ جميع الأماكن عليه، فقتلوا وأسروا من جماعته ثمانين رجلا، وأخذوا له شيئاً من مال وخيل وبغال، فركب البحر وتوجه إلى صور، ولم يلبث أن هلك وأراح الله منه. ومنها: أنه وصل أبي رسول أبي نكبا ملك سيلان إلى الأبواب السلطانية، واسمه الحاج أبو عثمان، ومعه رفيق له، وأحضر كتابا في حق من ذهب، وقالوا: هذا الكتاب بخط الملك، فطلب من يقرأه، فلم يوجد، فسألوا عن مضمونه، فقالوا: مضمونه أن سيلان مصر ومصر سيلان، وأنه قد ترك مصاحبة صاحب اليمن مرة واحدة في محبة السلطان، قال: أريد رسولا من جهة السلطان يحضر إلى صحبة رسولى، ورسولا يقيم في عدن، والجواهر واليواقيت واللؤلؤ عندى كثير، والمراكب والقماش من البزوغيره عندى، وعندى البقم والفرقة، وجميع ما يجلبه الكارم والرماح نشأتها عندى، وعندى الفيول، ولو طلب السلطان كل سنة عشرين مركبا لسيرّتها إليه، ونطلق تجار السلطان للبلاد، ورسول صاحب اليمن أتاني فرددته محبة في مولانا السلطان، وأنا لى سبعة وعشرون قلعةً مملوءة خزاثنها جواهر ويواقيت، والمغاصات لى، وكل ما يحضر منها فهو لى. فأكرم السلطان هذا الرسول، وكتب جوابه، وجهزه، فعاد. وذكر أنه حضر على طريق هرمز في مركب السيلانىّ إلى بندر هرمز ووصف البلاد والمنازل التى مر بها في سفرته. قال: إنهم سافروا سيلان إلى جريرة الجاشك، ثم إلى أسناس، ثم إلى كرزستان. ومنها: إلى تاداته. ومنها: إلى قيش. ومنها: إلى هزوا. ومنها: إلى الصبر. ومنها: إلى الى. ومنها: إلى الأندروانى. ومنها: إلى قلعة أحمد تعكر. ومنها: إلى قلعة الريح. ومنها: إلى قلعة بجيلوا. ومنها: إلى تائيد. ومنها: إلى سراف. ومنها: إلى برداستان. ومنها: إلى بيرم. ومنها: إلى ايرشهر. ومنها: إلى جوز السدق. ومنها: إلى جزيرة خارك. ومنها: إلى جباية. ومنها: إلى مهروان. ومنها: إلى أرض عبادان. ومنها: إلى المحجرى. ومنها: إلى الأبلة. ومنها: إلى البصرة. ومنها: إلى الحبيلة. ومنها: إلى زير الديز. ومنها: إلى المطارة، ومن المطارة إلى البرية. ومنها: إلى الجواهر. ومنها: إلى أم عبيدة. ومنها: إلى برق مرية. ومنها: إلى الفاروت. ومنها: إلى قرية عبد الله. ومنها: إلى واسط. ومنها: إلى أبي معيط. ومنها: إلى المبارك. ومنها: إلى الخيزرانة. ومنها: إلى سايس. ومنها: إلى جبل. ومنها: إلى النعمانيّة. ومنها: إلى فم الدرب. ومنها: إلى الجديدة، ثم إلى الكيل، ثم إلى المدائن، ثم إلى بغداد، ومن بغداد سلكوا الجادة المسلوكة إلى الشام، ثم إلى مصر.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها: أن في هذه السنة توجه الملكان الصالح والأشرف ولدا مولانا السلطان الملك المنصور إلى جهة العباسية، فرمى الصالح كركياً بالبندق، وادعى لصاحب حماة، وأرسله إلى المذمور صحبة الركن بيبرس الفارقاني، وذلك لأنه كان كبيرا في البندق، وكان قدمته صالحية بخمية، فاستبشر بذلك، قال ما أعظم هذه المنايح وأنا غلام من صالح إلى صالح، وضربت البشائر بحماة أياما، وبالغ في التهاني إجلالا وإعظاما، وأوسع للرسول الحامل للطير إكراما، وجهز النقادم من القمىّ المذهبة والجراوات المزركشة والبنادق المصنوعة من الذهب، والخلعة الغيار المعلمة. ومنها: أنه نجزت عمارة تربة كان السلطان قد رسم بعملها لوالدة ولده الملك الصالح، بشدّ الأمير علم الدين الشجاعى، بالفرب من مشهد السيّدة نفيسة، فنزل السلطان وولده إليها، وتصدقا فيها، ورتبا وقوفها وأحوالها. واستحس السلطان وجوه المبارّ، ورآها أنفس الادّخار، فرسم بتعيين مكان تليق أن تبنى فيه مدرسة وتربةٌ ومارستان بوسط القاهرة، فلم يوجد لذلك إلا دار تعرف بالقطيبة بين الفصرين، فاشتراها السلطان من خاص ماله من وكيل بيت المال بوكالة الأمير حسام الدين نائبه عنه، وعوض من كان ساكنا بها بالقصر المعروف بقصر الزمرد، ورتب الأمير علم الدين الشجاعى مشدا على العمارة، وإحضار الآلات من جميع الجهات فأظهر من الإهتمام، وجمع الصناع من مصر والشام، وما لا يسمع بمثله في سالف الأيامن، وشرع في العمارة فأخرب قلعة الروضة واستعان بما فيها من الأصناف لعمارة هذا المكان، واجتهد فيه كل الإجتهاد، ففرغ البيمارستان بأواوينه الأربعة وشاذرواناته ورخامه وأنهاره الجارية، وبستانه، قبل أن يهل شهر رمضان من هذه السنة، واستمر العمل إلى أن تم وكمل على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: أن السلطان أمر لنائب حلب بالإغارة علىجهة بلد الأرمن، فسيرّ جماعة مقدمهم الأمير سيف الدين بلبان الشمسى إلى الثنيات، فنزلوا عليها ونازلوها، ورموا بالمنجنيقات، وأحرقوا برجا من أبراجها، وبدنه من أسوارها، فصاح أهلها الأمان، وطلبوا من يتحدث معهم، فتوجه اثنان من الحلقة الحلبيةً، وتحدثا معهم بتقرير الحال على أن يقوموا بسبعة عشر ألف درهم برسم تطابيق الخيول، وعجلوا منها ألفي درهم واحضروا رهينة على بقية المبلغ، وبينما هم يتحدثون حضر قراغول التتار المجردين بالبلاد، وكان مقدمهم سيف الدين جنغلى ابن البابا إلى جبل ليسون، طالب فرصة، وأرسل جماعة من القراغول فتوقع عليهم اليزك الإسلامى وجهاً لوجه، وافتتلوا، فقتل أكثر التتار، وأمسك منهم ستة أنفار، واستشهد الأمير شهاب الدين حيدر، ثم عاد العسكر من هذه الغارة وقد حرقوا قلعة التينى، فلم يتمكن الأرمن من الإقامة بها بعد ذلك. ومنها: أن في العشر الأول من شعبان جاء سيل عظيم بدمشق، والسلطان الملك المنصور بها، وأخذ ما مرّ به من العمارات وغيرها، واقتلع الأشجار، وأهلك الحيوان، والكثير من الناس، والخيل والجمال، وذهبت بما لا يحصى من الأقمشة والعدد والخيم والأموال، وكان السلطان قد أمر بالخروج من دمشق إلى مصر، وقرّر أن يكون توجهه في الحادي عشر من شعبان، وأحضرت جمال الخزائن والبيوتات، ولم يبق إلا إخراج الخزائن والآلآت، فرسم السلطان أن يكون نزول الجمال بعيدا عن الأبواب، وأن يؤخّر إخراج الخزائن ذلك اليوم، توفيقا من الله الذي ألهمه الصواب، فلما كانت ليلة الأربعاء العاشر من شعبان من هذه السنة هجم السيل، ومدّ لما جنّ الليل وجاء كأنّه الجبال، وجرى ما ذكرنا، ولم يدر أحد من أيّ جهة اندفع، فوصل السلطان فلعته يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان المعظم من هذه السنة. وفيها: حج بالناس علم الدين سنجر الباشقرديّ. ذكر من توفي فيها من الأعيان الصدر الكبير عماد الدين أبو الفضل محمد بن القاضي شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن الشيرازيّ. صاحب الطريقة المنسوبة في الكتابة، سمع الحديث، وكان من رؤساء دمشق وأعيانها، توفي في هذه السنة في شهر صفر. الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد قدامة الحنبليّ.

أول من ولى قضاء الحنابلة بدمشق، ثم تركه وولى ابنه نجم الدين القضاء وتدريس الأشرفيّة بالجبل، وقد سمع الحديث الكثير، وكان من علماء المسلمين، وأكبرهم ديانة في عصره وأمانة، مع هدّى صالح، وسمت حسن، وخشوع ووقار، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر من هذه السنة، عن خمس وثمانين سنة، ودفن في مقبرة والده. العلامة شمس الدين أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان الأنصاري الدمشقي، المحدّث، الفقيه الشافعيّ، البارع في النحو والغة. وقال ابن كثير: سمعت الشيخ تقي الدين بن يميّة، وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزيّ يقول كل واحد منهما: إن هذا الرجل فرأ مسند الإمام أحمد، رحمه الله، وهما يسمعان فلم يعدا عليه لحنة، وناهيك بهذين ثناء، هذا وهماهما. الخطيب محيى الدين محيى بن الخطيب قاضي القضاة عماد الدين عبد الكريم بن قاضي القاضي جمال الدين بن الحرستاني الشافعيّ، خطيب دمشق، ومدرس الغزالية. وكان فاضلا بارعا، أفتى ودرّس، ولى الخطابة، والغزالية بعد أبيه، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها، عن ثمان وستين سنة، ودفن بسفح جبل قاسيون. الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلاّمة العالم تقي الدين بن تيمية مفتى الفرق. وكان الشيخ شهاب الدين له فضيلة حسنة ولديه فوائد كبيرة، وكان له كرسىّ بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظهر قلبه، وإليه مشيخة دار الحديث السكرّية بالقصاعين، وبها سكته، ثم درس ولده الشيخ تقي الدين أول السنة الآتية، ودفن بمقابر الصوفية. الشيخ محمد اليمني، خادم الشيخ سفيان أبي عبد الله. أقام في القاهرة على قدم التجريد عشر سنين، وكان يأكل في كل عشرة أيام أكلة واحدة، وكان لا يلبس المخيط، وكانت إقامته بباب سعادة، وتوفي يوم الاثنين الثاني عشر من جمادى الآخرة، ودفن بباب النصر. الشيخ عبد الرحمن، رسول الملك أحمد سلطان ملك التتار. توفي في هذه السنة، وكانت وفاته قريبة من وفاة مرسله، وقد ذكرنا بعض ترجمته، وكان هو تلميذ الشيخ موفق الدين الكواشي. ويقال: إن موفق الدين أعطاه كتابا في علم السيمياء، وقال له: اخرج اغسل هذا في البحر، فخرج فأودعه عند من يثق به، وادعى أنه غسله، وبعد ذلك اشتغل به وتمهر فيه، ودخل على الخواتين بهذا العلم، وحظى عند المغول، وعند الملك سلطان أحمد، كما ذكرناه. الأمير الكبير ملك عرب آل مرين أحمد بن حجي، توفي في هذه السنة بمدينة بصرى. الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة. توفي في هذه السنة، كذا أرّخ بيبرس تاريخ وفاته في هذه السنة. وذكره الملك المؤيّد ابن ابنه في تاريخه في سنة ثلاث وثمانين وهو أجدر بذلك، فقال، ابتدأ به المرض في أوائل شعبان بعد عوده من خدمة السلطان من دمشق، وكان مرضه حمى صفراويّة داخل العروق، ثم صلح مزاجه بعض الصّلاح، فأشار الأطبّاء بدخوله الحمام، فدخلها، فعاوده المرض، وأحضر له الأطبّاء من دمشق مع من كان في خدمته منهم، واشتدّ به ذات الجنب، وعاجله بما يصلح لذلك فلم يفد شيئا، وفي مدة مرضه أعتق مماليكه، وتاب توبة نصوحا، وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاون يسأله في إقرار ابنه الملك المظفر محمود في ملكه على قاعدته، واشتدّ به مرضه حتى توقي بكرة حادي عشر شوال من سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وكانت ولادته في الساعة الخامسة يوم الخميس لليلتين يقينا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فيكون عمره إحدى وخمسين سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوما، وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذي توفي فيه والده الملك المظفر محمود، فيكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام. وكان أكبر أمانيه أن يعيش حتى يسمع جوابه من السلطان فيما سأله من إقرار ولده الملك المظفر محمود على حماة، فاتفقت وفاته قبل وصول الجواب، وكان قد أرسل في ذلك على البريد مملوكه سنقر أمير آخور، فوصل بالجواب من السلطان. بعد البسملة. المملوك قلاون.

ذكر تملك الملك المظفر حماة

أعز الله أنصار المقام العالي المولوى السلطاني الملكي المنصوري الناصري، ولا عدمه الإسلام، ولا فقدته السيوف والأقلام، وحماه من ذي داء، وعود عواد، وإلمام الآلام، المملوك يجدد الخدمة التي كان يودّ تجديدها شفاها، ويصف ما عنده من الألم لما ألمّ بمزاجه الكريم، حتى أنه لم يكد يفتح بحديث فاها، ولما وقفنا على كتاب المولى المتضمن بمرض الجسد المحروس، وما انتهى إليه الحال، كادت القلوب تنشق، والنفوس تذوب حزنا، والرجاء من الله أن يتداركه بلطفه، وأن يمنّ بعافيته التى رفع في مسألتها يديه وبسط كفيه، وهو يرجو من كرم الله معاجلة الشفاء، ومداركة العافية الموردة بعد الكدر موردالصفا، وأن الله يفسح في أجل المولى، ويهبه العمر الطويل. وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من حقوق يوجبها الإقرار، وعهود آمنت بدورها من السرار، ونحن نحمد الله، فعندنا تلك العهود ملحوظة، وتلك المودات محفوظة، فالمولى يعيش قرير العين، فما تم إلاّ مايسره من إقامة ولده مقامه، لا يحول ولا يزول، ولا يرى علىذلك ذلّة ولا ذهول، ويكون المولى طيب النفس، مستديم الأنس بصدق العهد القديم، وبكل ما يؤثر من خير مقيم. ولما وصل الكتاب اجتمع لقراءته الملك الأفضل، والملك المظفر، وعلم الدينن سنجر المعروف بأبي خرص، قرئ عليهم، فتضاعف سروهم بذلك. وكان الملك المنصور محمد ملكا ذكيا فطنا، محبوب الصورة، وكان له قبول عظيم عند الملوك الترك، وكان حليما إلى الغاية، يتجاوز عما يكره ويكتمه، ولا يفضح قائله، من ذلك أن الملك الظاهر بيبرس قدم مرةً إلى حماة ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز، فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون فيها على الملك المنصور، فأمر الملك الظاهر دواداره سيف الدين بلبان الرومى أن يجمع القصص ولا يقرأها، ويضعها في منديل ويحملها إلى الملك المنصور حماة، فحملها الدوادار المذكور، وأحضرها إلى الملك المنصور، فقال: إنه والله لم يطلع السلطان يعنى الملك الظاهر على قصة منها، وقد حملها إليك، فتضاعف دعاءالملك المنصور لصدقات الملك الظاهر، وخلع على الدوادار، وأخذ القصص، فقال بعض الجماعة: سوف يرى من تكلم بشئ لا ينبغي ما يلتقى، وتكلموا بمثل ذلك، فأمر الملك المنصور بأحضار نار وحرق تلك القصص، ولم يقف على شيء منها، لئلا يتغير خاطره على رافعها، وله مثل ذلك كثير. ذكر تملك الملك المظفّر حماة ولما بلغ السلطان الملك المنصور قلاون وفاة الملك المنصور صاحب حماة، قرّر ابنه الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد في ملك حماة على قاعدة والده، وأرسل إليه، وإلى عمه الملك الأفضل، وإلى أولاده التشاريف ومكاتبة إلى الملك المظفر بذلك، ووصلت التشاريف ولبسوها في العشر الأخير من شوال من هذه السنة أعنى سنة ثلاث وثمانين وستمائه. ونسخة الكتاب الواصل من السلطان: بعد البسملة. المملوك قلاون. أعز الله نصرة المقام العالى المولوى السلطانى الملكى المظفرى المنصورى، ونزع عنه لباس البأس، وألبسه حلل السعد المجلوة على أعين الناس، وهو يقدم خدمة بولاء، قد، أنبجست عيونه، وتأسست مبانيه، وتناسبت ظنونه، وحلّت رهونه، وخلت ديونه، وأثمرت غصونه، وزهت أفنانه وفنونه. ومنها: وقد سيّرنا المجلس السّامى جمال الدين أقوش الموصلى الحاجب وأصحبناه من الملبوس الشريف ما يغيّر به لباس الحزن، وينجلى في مطلعه ضياء وجهه الحسن وتنحلى بذلك غيوم تلك الغموم، وأرسلنا أيضا صحبته ما يلبسه هو وذووه، كما يبدو البدر بين النجوم. وآخر الكتاب وكتب في العاشر من شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وكان قد وقع الإتفاق عند موت الملك المنصور على إرسال علم الدين سنجر أبو خرص الحموى لأجل هذا المهم، فلاقى سنجر المذكور جمال الدين الموصلىّ بالخلع في أثناء الطريق، فأتمّ سنجر أبو خرص السير ووصل إلى الأبواب الشريفة السلطانية، فتلقاه السلطان بالقبول، وأعاده بكل ما يجب ويختار. وقال: نحن واصلون إلى الشام ونفعل مع الملك المظفر فوق ما في نفسه، فعاد علم الدين سنجر أبو خرص إلى حماة ومعه الجواب بنحو ذلك. السلطان توكدار بن هلاون بن باطو بن جنكرخان الملقب في الإسلام أحمد سلطان، قتل في هذه السنة قتله عمه أرغون كما ذكرناه مفصلا. السلطان غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قلينج أرسلان صاحب الروم.

السنة الثالثة والثمانين بعد الستمائة

قتل في هذا السنة، وكان سبب قتله أن أرغون توهم فيه أنه أعان أحمد سلطان على قتل عمه قنغرطاى بن هلاون، فإن أحمد سلطان كان قد أستدعاه إلى الأردو، عندما جلس في السلطنة، وكان قنغرطاى مقيما ببلاد الروم من إيام أبغا، هو السلطان غياث الدين الأمير عز الدين محمد بكلبركى بن سلمان أخى البرواناه بين يديه، والصاحب فخر الدين خواجا علي، وكان النواب عن أحمد سلطان صمغار وطغريل وبلرغى في الروم بثلاثة تمانات، فلما تقاعد قنغرطاي عن المسير إلى أردو أحمد سلطان، أرسل يحثه ويستدعيه بسرعة، فلم يمكنه التأخير، فتوجه هو والسلطان غياث الدين، وكان قد تزوج بأخته بنت السلطان ركن الدين، فلما وصل أردو قتله أحمد السلطان لوقته، وعزل غياث الدين عن السلطنة، ورسم له في الإقامة في أرزنكان، فعاد إليها معزولا، وأقام بها مهزولا، وفوض السلكنة ببلاد الروم إلى السلطان مسعود بن السلطان عز الدين كيكاوس، فاستقرّ بها، وليس له منها إلا الاسم، والحكم كله فيها للتتار وشحانيهم، فلما جلس أرغون في السلطنة دسّ إليه وهو في أرزنكان من خنقه بوتر، فمات في هذه السنة. الآشكري صاحب القسطنطينية، واسمه ميخائيل. هلك في هذه السنة، وملك بعده ولده اندورنيكوس، وتتوّج، ولقّب الدوقس الانجالوس الثاولوغس، وكانت رسل السلطان قد توجهوا إلى والده ميخائل بنسخة الأيمان، فخلف بها ولده المذكور، فجهز السلطان إليه الأمير ناصر الدين محمد بن المجى الجزرىّ رسولا بهدية جليلة، وجهز السيفى بلبان الحلبى الكبير، ومظفر الدين موسى بن نمرش رسلا إلى تدان منكو ونوغاى وقيدو، ومعهما الأمير قطفان وشمس الدين بن أبي الشوارب. وميخائل هذا المتوفي لم يكن له أولا مملكة بالقسطنطينية ولا ولأبيه، بل كان الملك بها لغيره، وكان هو من كبار البطارقة، وله قلعة من القلاع، وهو مقيم بها، فاتفق مجئ الفرنج لحصار القسطنطينية، فاستولوا عليها، واجتمع ميخائل المذكور مع جماعة من عسكر القسطنطينية وقال لهم: إن أنا تحيّلت وأزحت الفرنج منها أكون ملكا عليكم، فأجابوه إلى شرطه، فقصدها في جماعة ممن اجتمع إليه من البطارقة وحصرها، وقاتل الفرنج الذين بها أياما، ثم استجلى مكانا من السور، فطلع منه هو وأصحابه، والفرنج لا يشعرون، فإن المدينة وسيعة جداً، فما أقلقهم إلا وثوبه بهم، وبذل السيف فيهم، فقتل منهم جماعة، وهرب من نجا منهم إلى المراكب، واستقر بالمدينة، وجلس على كرس المملكة الأشكريّة، وأخذ الذي كان متملكا قبله، وكان شاباً فسمله وعزله. والده الملك السعيد بن الملك الظاهر بيبرس، ماتت في هذه السنة، وهي بنت حسام الدين بركة خان مقدم الخوارزمية، الذين ذكرنا وصولهم إلى الديار المصرية وأخبارهم في الأيام الصالحية النجمية الأيوبية، والله أعلم. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، الخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسىّ. وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك المنصور قلاون الألفى. ونائبه في الشام: حسام الدين لاجين المنصورى، وفي حلب: الأمير شمس الدين قراسنقر مملوكه. وصاحب حماة: الملك المظفر بن الملك المنصور. وصاحب بلاد الروم: السلطان مسعود بن السلطان عز الدين كيكاوس، ولكنه مقهور تحت أيدى التتار، وليس له إلا اسم السلطنة فقط. والحاكم بالبلاد الشرقية بكمالها أرغون بن أبغا بن هلاون. وصاحب البلاد الشمالية التى كرسيّها صراى: تدان منكو بن طغان بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان. ذكر ما جريات السلطان الملك المنصور رحمه لله: منها: أنه توجه من الديار المصرية إلى الديار الشامية، ووصل دمشق يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة، ثم خرج إلى الديار المصرية بعد ثلاثة أيام. ومنها: أنه عزل علم الدين سنجر الدوادارىّ عن شدّ الدواوين، وولىّ عوضه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. ومنها: أنه عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وولى عوضه فخر الدين لقمان. ومنها: أنه أنعم على مملوكه بيبرس الدوادا صاحب التاريخ بإمره طبلخاناة بخمسين فارساً، وأعطاه إقطاع الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحىّ أمير جاندار، ونقل إلى مائة فارس، وكتب له منشورا بالخبر المذكور تاريخه الخامس من شوال، ونسخة المنشور.

ذكر بقية الحوادث

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله مجزل العطاء، ومجدد النعماء، وممطر ديم الجود المستهلة بالأنواء، الذي شيدّ للإسلام ركنا، وبلغ كلاّ من أولياء الدولة ما كان يتمنى، نحمده حمدا يستغرق أنواع المحامد لفظا ومعنى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحل قائلها من الكرامة بالمقام الأعلى والمحل الأسنى، ونشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الذي كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتوالى وتتكرر فرادى ومثنى وبعد: فأنك أولى من خصّ من النعم بأحسنها، ومن قلد من العقود النفسة بأزينها وأثمنها من نشأ على طاعة الدولة الشريفة وغذىّ بلبانها، وإذا عدّ الأبطال كان أكبر فرسانها وشجعانها، وهو لسان المملكة المأمون على الأسرار، وليها الذي لا تتوارى شمس إخلاصه بحجاب، ولا بدره بسرار، ولما كان المجلس السامى الأمير الأجلّ الكبير الأوحد المؤيد النصير العضد الاسفسهلاّ الغازى ركن الدين، عز الإسلام مجد الأنام، نصره المجاهدين، لسان المملكة، عضد الملوك والسلاطين، بيبرس الدوادار الملكى المنصورى، أدام الله تمكينه ورفعته، طراز هذه الحلة، ونتيجة هذه الأدلة، وفارس هذا المضمار، ولركنه من المهام يستند، وإليه في مواقف الحروب يشار. خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى المنصورى السيفى، أعلاه الله وشرفه، أن يجرى بإقطاعه مارسم به الآن من الإقطاع والجهات الديوانية الخاصة ولمن يستخدمه من الأجناد، وذلك لا ستقبال مغل سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وكان السلطان الملك المنصور أنعم على مملوكه بيبرس المذكور في السنة الماضية بخمسة عشر طواشيا، واستقر في زمرة الأمراء، وكتب له منشور بذلك، وألبس التشريف والشربوش. ونسخة منشوره بإنشاء القاضى محي الدين بن عبد الظاهر وخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد حمد الله الذي علم بالقلم، وجعله مؤاخى السبف في مهمات الأمم، وطاول به السمهرىّ، فنصب هذا لرفع العلم وهذا لجرّ العلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بأنواع الحكم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تنسمت ثغور الديمّ، وشابت بالأنوار لمم الظلم. فإنه لما كان المجلس السامى الأميرى الأجلّ الكبير المختار المجاهد الأرحد الأعز المرتضى الأكمل ركن الدين، مجد الإسلام شرف الخواص، بها الأمة، غرس الدولة، واسطة المملكة، اختيار الملوك والسلاطين، بيبرس الدوادار المنصورى، أدام الله رفعته وسموه ممن ربته النعماء في حجرها، وصرفته الآلاء في نهيها وأمرها، وأنشأنه المملكة تحت جناحها، ورتبته السلطنة في حمل ما هو أفخر وأفخم من حمل سلاحها، وحبته كلما يستدعى عطفها ويستديم شكرها له ووصفها، ويكون أحد معقباتها التى ما بين يديها من الأمر ولسواه من ذوى الأسلحة ما خلفها، وله نباهه تقدمه ووجاهةٌ تفخمه، وقدم خدمة يرشحه، وعظم حرمه توسع له مجال الاصطفاء وتفسحه، اقتضى حسن الرأى الشريف أن ينمى هلاله، ويدرج إقباله، ويقرب مناله، فذلك خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى المنصورى السيفى، لا يرح يجود، وباستخلاصه يسود من الأولياء من يسود، أن يجرى في إقطاعه ما رسم له الآن من الإقطاع لخاصته ولمن يستخدمه من الأجناد الجياد، المعروفين بالخدمة بالبرك التامّ والعدّة الكاملة، والعدّة الخاصّة، وخمسة عشر طواشيا. وكان تاريخ هذا المنشور المبارك رابع عشر ربيع الأول سنة اثنين وثمانين وستمائة. ذكر بقية الحوادث منها: أن في هذه السنة، كملت عمارة المدرسة المنصورية والبيمارستان والقبة والتربة ومكتب السبيل بالقاهرة المحروسة ببين القصرين، وجميع ملااهقها وما يتعلق بها، وأظهر الأمير علم الدين الشجاعي في نجاز هذه العمائر العظيمة، التي لم يسمع بمثلها في هذه المدة القريبة، ما تعجز الفراعنة عنه، وتقصر الهمم دونه، مع أفانين البنيان والأوضاع، وغرائب الترخيم والأدهان وسائر الأنواع. ووصف الشعراء فنون هذه العمائر وبدائع إعجازها الذي يذهل الأبصار والبصائر، فكان مما قيل في ذلك قصيدة مطولة أنشاها شرف الدين البوصيرى الشاعر، فمن مختارها هذه الأبيات: جوارك من جور الزمان يجير ... وبشرك للراجى نداك بشير ومنها بعد المديح:

بنى ما بنى كسرى وما قلت مؤمن ... يباهى به فيما بناه كفور ودك على تقوى الإله أساسه ... كما دك بالواد المقدس طور جحارته السحب الثقال تسوقها ... على عجل سوقاً صبا ودبور ومنها نجوم في بروج مجرة ... على الأرض تبدو تارة وتغور يضيق بها السبل الفجاج فلا يرى ... بها للرياح العاصفات مسير فكم ضخرة عادية قذفت بها ... إليه سهول همة ووعور ومن عمد في همة الدهر فترةٌ ... وفي باعه من أن تجر قصور أشار لها فانقاد سهلاً عسيرها ... إليه وما أمر عليه عسير فمأذنة كالنجم تشرق في الدجى ... عليها هدى للعالمين ونور ومن حيث ما وجهت وجهك نحوها ... تلقتك منها نضرةٌ وسرور يمد إليها الحاسد الطرف حسرةً ... فيرجع عنها الطرف وهو حسير فكم حسدتها في الكمال كواكب ... وغارت عليها في العلو بدور إذاقام يدعو الله فيها مؤذن ... فما هو إلا للنجوم سمير وقبة مارستان ليس لعلّة ... عليه وإن طال الزمان مرور صحيح هواءً للنفوس بنشره ... معادٌ وللعظم الرميم نشور تهب فتهدى كل روح لجسمه ... كأن صباه حين ينفخ صور بجنته ورق يراسل ماؤه ... يشوق هديلٌ منها وهدير ومدرسة ود الخورنق أنه ... لديها حظير والسدير غدير مدينة علم المدارس حولها ... قرى أو نجومٌ بدرهن منير تبدت فأخفى الظاهرية نورها ... وليس يظهر للنجوم ظهور بناء كأن النحل هندس شكله ... ولانت له كالشمع فيه صخور يرى من يراها أن رافع سمكها ... على فعل ما أعيى الملوك قدير ثمانية في الجو تحمل عرشها ... وبعض لبعض في البناء ظهير ذكرناها لديها قبة النسر مرةً ... فما كاد نسر للحياء يطير فإن نسيت للنسر فالطائر الذي ... له بالبروج الثابتات وكور بناها سعيد في بقاع سعيدةٍ ... بها سعدت قبل المدارس دور فصارت بيوت الله آخر عمرها ... قصور خلت من سادةٍ وخدور بها عمدٌ كاثرن أيام عامها ... ومن عامها لم تمض بعد شهور سماوية ٌ أرجاؤها فكأنها ... عليها من الوشى البديع ستور ولله يومٌ ضمّ فيها أثمةً ... تدفق منهم للعلوم بحور وما تلك للسلطان إلا سعادةٌ ... يدوم له ذكر بها وأجور فهل في ملوك الأرض أو خلفائها ... له في الذي شادت يداه نظير وما جنة الفردوس في الأرض غيرها ... ولا فلك فيه النجوم أثير فلا زال مبيناً به العلم والتقى ... ومنهدماً كفرٌ علا وفجور ولا زالت الأفلاك طوعا بكلما ... يريد على رغم العدوّ يدور ومنها: أن الأمير حسام الدين طرنطاى نائب السلطنة اهتم بحفر بئر نخل، أو نتفع الحاج بذلك. ومنها: أن يعقوب المرينى عاد إلى الأندلس ثالث مرة، واستطال على أعمالها، وأثر فيها آثاراً عظيمة، فخافة محمد بن الأحمر على نفسه، وأرسل إلى الفونس يهادنه ويستنجده عليه، فأرسل الفونس كتبه إلى يعقوب وأعلمه أنه لا يساعد ابن الأحمر عليه، ولا ينجده بإرسال أحد إليه من جهته، ونراسل المرينى والفونس وتكاتبا، واتفقا، وحضر الفونس إليه بنفسه، واجتمعا، وأقام عنده أياما، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وخيلا، ولطفا، وغيرها، وأهدى إليه المرينى هدية وخيلا، واتفقا على ابن الأحمر، وعاد الفونس إلى كرسيه.

ومنها: أن الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أبا العباس أحمد بن يتمية درس بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين، وذلك في يوم الأثنين ثامن المحرم من هذه السنة، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكى الشافعى، والشيخ تاج الدين الفزارى شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين بن المرحل، وزين الدين بن المنجى الحنبلى، وكان درسا هائلا، وجلس الشيخ تقى الدين أيضا يوم الجمعة عاشر صفر في الجامع الأموى بعد الصلاة على منبر هئ له التفسير القرآن، فابتدأ من أوله، فكان يجتمع عنده خلق كثير والجم الغفير، واستمر في ذلك مدة سنين متطاولة على هذا المنوال. ومنها: إن الدين ابن الشيخ عدى الكردى هرب من الاعتقال، وكان معتقلا في برج بالقلعة، فطلب أشد الطلب، وكتب إلى البلاد في أمره، وجعل لمن أحضره مائة دينار وخلعة، فأمسك من بعض دور الحسينية وأحضره، واعتقل مدةً، ثم أفرج عنه فيما بعد. وفيها: ".................... " وفيها: حج بالناس الأمير علم الدين سنجر الباشقردىّ وجرى بينه وبين أمير مكه كلام أقتضى أن أغلقوا أبواب مكة ولم يمكنوا أحد من الدخول إليها، فلما كان يوم التروية زحف العسكر من باب الحجون وأحرقوا الباب، ونقبوا السور، وهجموا على البلد، فهرب جمع الشريف بن أبي نمى، ولم يبق معه إلا أولاده، فدخل الناس مكة، ووقع بينهم الصلح على يد برهان الدين السنجارى، وكان حج في هذه السنة، وهو الذي كان وزيرا، فعزل وتولى عوضه فخر الدين بن لقمان كما ذكرنا. ؟ ذكر من توفي فيها من الأعيان صاحب مجمع البحرين والبديع، الشيخ الإمام العالم العلامة، مظفر الدين أحمد بن علي بن تغلب بن أبي الضياء البغدادى، البعلبكى الأصل، المعروف بابن الساعاتى. سكن بغداد ونشأ بها، وأبوه هو الذي عمل الساعات المشهورة على باب المستنصريّة ببغداد، وكان مظفر الدين إماما عظيما فاضلا، وله تصانيف منها: مجمع البحرين في الفقه، جمع فيه بين مختصر القدورىّ، والمنظومة مع زوائد، ورتبه فأحسن، وأبدع في اختصاره، وأسسه على قواعد لم يسبق إليها، وشرحه في مجلدين كبار، وسمعت بعض المشايخ أنه سوده ولم يبضه، وإنما بيضته ابنته الست الجليلة فاطمة خاتون، كانت قد تفقهت على والدها وبرعت. وقال صاحب طبقات الحنفية: ورأيت مجمع البحرين بخطها. قال العبد الضعيف مؤلف هذا الكتاب: لقد اختصرت هذا الشرح وسميته: كتاب المستجمع في شرح المجمع، وزدت فيه مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وتعرفت إلى عبارته وحلّ ألفاظه، فبحمد الله وعونه وقع موقع القبول، وكتبت منه نسخ وسارت بها إلى الآفاق: بلاد الروم والشام والعراق. ومن تصانيف الشيخ مظفر الدين: كتاب البديع في أصول الفقه، وهو كإسمه بديع غريب عجيب، جمع فيه بين أصول فخر الإسلام البزدوى والأحكام للآمدىّ وأسسه على قواعد المعقول. اعتنى بشرحه جماعة من الفضلاء المتأخرين منهم: الشيخ الإمام شمس الدين الأصفهاني، قاضى القضاة سراج الهندى وغيرهما، وكانت وفاته بعد سنة ثنتين وثمانين وستمائة، لأنه كان حيا في سنة إثنتين وثمانين وستمائة. ويقال: إنه توفي وهو شاب، ومن جملة فضائله أنه كان يكتب خطا حسنا جدا، رحمه الله. قاضى القضاة الإمام عز الدين أبو المفاخر محمد بن شرف الدين عبد القادر ابن عفيف الدين عبد الخالق بن خليل الأنصارى الشافعىّ الدمشقىّ للشهر بابن الصائغ. ولى قضاء القضاة بدمشق مرتين، عزل به ابن خلكان، ثم ولى ابن خلكان ثم عزل نائبه وسجن، وولى بعده بهاء الدين زكى، واستمر عز الدين المذكور معزولا إلى أن توفي ببستانه في تاسع ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان مشكور السيرة، له عقل وتدبير، واعتقاد كثير في الصالحين، وقد سمع الحديث وروى. القاضى نجم الدين عمر بن نصر بن منصور البيانى الشافعى. توفى في شوال، وكان فاضلا، ولى قضاء زرع، ثم قضاء حلب، ثم مات في دمشق بالرواحية. القاضي جمال الدين أبو يعقوب يوسف بن عبد الله بن عمر الزواوى قاضى القضاة المالكية ومدرسهم بعد القاضى زين الدين الزواوى الذي عزل نفسه. وكانت وفاته في الخامس من ذي القعدة من هذه السنة وهو في طريق الحجاز، وكان عالما فاضلا قليل التكلف، وقد شغر المنصب بعده ثلاث سنين.

السنة الرابعة والثمانين بعد الستمائة

الملك السعيد فتح الدين عبد الملك الصالح أبي الحسن إسماعيل ابن الملك العادل، وهو والد الملك الكامل ناصر الدين محمد. توفي ليلة الاثنين ثالث رمضان، ودفن الغد بتربة أم الصالح، وكان من خيار الأمراء، محترما، كبيرا، رئيساً، روى موطأ يحيى بن بكير عن مكرم ابن أبي الصقر، وسمع ابن الليثى وغيره. الشيخ طالب الرفاعىّ، وتوفي في هذه السنة بقصر حجاج، وله زاوية مشهورة به. الإمام ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن منصور بن أبي بكر بن قاسم ابن مختار الجذامى الجروى المالكى، المعروف بابن المنير، الحاكم بالإسكندرية. توفي فيها في مستهل ربيع الأول، ومولده في ثالث ذي القعدة سنة عشرين وستمائة بالإسكندرية، وكان إماما عالما متبحرا في العلوم خصوصا في الأدب. الشيخ شرف الدين بن الميدومىّ المحدث بالمدرسة الكاملية. توفي في هذه السنة بالقاهرة. الأمير شرف الدين عيسى بن مهنى أمير آل فضل وأكبر أمراء عربان الشام. توفي في هذه السنة، وكان دينا صالحا، وله اليد الطولى في وقعة حمص، وتولى مكانه ولده الأكبر حسام الدين مهنى. ؟؟ فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسىّ. وحكام البلاد على حالهم غير صاحب الغرب، فإنه مات في هذه السنة على ما نذكره من قريب إن شاء الله تعالى. ذكر سفر السلطان الملك المنصور إلى الشام وكان خروجه من القاهرة في أول المحرم من هذه السنة، ووصوله إلى دمشق في أواخر المحرم، ومعه الجيش المنصور، وجاء إلى خدمته الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، فأكرمهما السلطان إكراما كثيرا، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله التقليد بسلطنة حماة، والمعرة، وبارين، والتشريف، وشعار السلطنة، وهو: سنجق، وفرس بسرج ذهب، ورقية، وكنبوش، وأرسل الغاشية السلطانية، فركب الملك المظفر بشعار السلطنة، وحضرت أمراء السلطان وتقدموا عساكره، فساروا معه من الموضع الذي كان فيه وهو داره المعروفة بالحافظية داخل باب الفراديس بدمشق إلى قلعة دمشق، ومشت الأمراء في خدمته، ودخل الملك المظفر عند السلطان، فأكرمه، وأجلسه إلى جانبه على الطراحة، وطيب خاطره، وقال له: أنت من بيت مبارك، ما حضرتم في مكان إلا وكان النصر معكم، ثم عاد الملك المظفر وعمه الأفضل إلى حماة، وعملا أشغالهما، وكذلك باقي العسكر الحموىّ، وتأهبوا للسير إلى خدمة السلطان الملك المنصور ثانيا. ذكر فتح المرقب خرج السلطان الملك المنصور من دمشق بالعساكر المصرية والشامية، وأتى إلى مرقب، ونازلها في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وهو حصن الأسبتار في غاية العلّو والحصانة، ولم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه، ولما زحف العسكر عليه وأخذ الحجارون في النقوب، ونصبت عليه عدة مجانيق كبارا وصغارا، وطلب أهلها الأمان، فأجابهم السلطان إلى ذلك رغبة في بقاء عمارته، فإنه لو هدمه وأخذه بالسيف حصل التعب في إعادة عمارته، فأعطى أهله الأمان على أن ينتقلوا ويأخذوا معهم ما يقدرون عليه غير السلاح. قال ابن كثير: فصعدت السناجق السلطانية والألوية المنشورة على حصن المرقب، وتسلمه في الساعة الثامنة من يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، وكان يوما مشهودا. وقال الملك المؤيد في تاريخه: إني حضرت حصار الحصن المذكور وعمرى إذ ذاك نحو اثنتى عشرة سنةً، وهو أول قتال رأيته، وكتب مع والدى. قلت: والده هو الملك الأفضل على بن الملك المظفر محمود. وقال بيبرس في تاريخه: وجهزالسلطان أهله إلى طرابلس، وظن أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إذا سمع بقربة يبادر إليه ويسعى لخدمته، كما يجب عليه، فتأخر عن الحضور، فتغير له باطن الملك المنصور، ثم أنه أرسل واحدا من أولاده يسمى سيف الدين صمغار إلى المخيم متلافيا لما قدّم، فحنق السلطان عليه، ومنعه العود إلى والده، وأمر بتوجهه إلى الديار المصرية.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ثم أن السلطان رحل عن المرقب بعد أن قرر أموره، فنزل بالوطأة بالساحل وأفام بمرج بالقرب من موضع يسمّى مرج القرفيض، ثم سار ونزل تحت حصن الاكراد، ثم سار ونزل على بحيرة حمص وهي بحيرة قدس، ثم توجه السلطان إلى الديار المصرية، وأعطى الملك المظفر صاحب حماة عند رحيله من حمص الدستور، فعاد إلى حماة، وكان توجه السلطان إلى القاهرة في جمادى الآخرة من هذه السنة. ؟؟؟ ذكر مولد السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاون الالفي الصالحي النجمي: وفي خامس عشر المحرم من هذه السنة ولد السلطان الملك الناصر محمد المذكور، من ابنة سكباي بن قراجين بن حنغان نوين، وسكباي المذكور، ورد إلى الديار المصرية هو وأخوه قومشي سنة خمس وسبعين وستمائة صحبة بنجار الرومي في الدولة الظاهرية، فتزوج السلطان الملك المنصور قلاون ابنة سكباي هذا في سنة ثمانين وستمائة بعد موت أبيها المذكور بولاية عمها القرمشي، ووردت البشائر إلى السلطان وهو نازل على بحيرة قدس عند عوده من فتح المرقب، فتضاعف سروره به ودقت البشائر فرحا بمولده مقترنا بفتح المرقب، فتضاعف الهناء والسرور. وحدّث الشيخ شعبان الهوىّ قال: حدثني الشيخ شرف الدين السنجاريّ التاجر السفار قال: كنت بالموصل سنة أربع وثمانين ليلة النصف من المحرم، فظهر كوكب عظيم له ثلاث ذوائب طوال إلى جهة المغرب، فتعجب الناس من ذلك، وكان في الجماعة عماد الدين بن الدهان رئيس المنجمين، فسألوه عنه فقال: هذا الكوكب ظهر في سنة عشرين وأربعمائة، وله ذؤابتان في طول الذي ترونه وأخرى قصيرة جدا، فولد في ذلك التاريخ المستنصر خليفة مصر، فعاش سبعا وستين سنة، وأقام خليفة ستين سنة، ثم ظهر هذا الكوكب في سنة تسعين وأربعمائة، فولد في هذه التاريخ عبد المؤمن صاحب الغرب، فعاش سبعين سنة، وملك خمسين سنة، ثم ظهر هذا الكوكب في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، فولد في هذا التاريخ الناصر لدين الله، خليفة بغداد فعاش تسعا وستين سنة، وأقام خليفة سبعا وأربعين سنة، وهاهو قد ظهر في هذا الوقت وذوائبه الثلاث كاملة متساوية، يدلّ على أنه يولد في هذه الليلة مولوده سعيد يملك مصر والشام والعراق، ويعيش ثلاثين وثلاثين وثلاثين، فنظروا فلم يولد في تلك الليلة إلا الملك الناصر محمد بن قلاون المذكور. قلت: صادف كلامه ذلك ولكنه أخطأ في المدة على ما لا يخفي. ومن الحوادث في هذه السنة: أن محيى الدين بن النحاس عزل عن نظر الجامع الأمويّ، ووليه بعده ىعز الدين بن محيى الدين بن الزكي، وباشر محيى الدين بن النحاس الوزارة عوضا عن التقيّ توبة التكريتي، وطلب التقي إلى الديار المصرية، واحتيط على أمواله وأملاكه، وعزل سيف الدين طوغان عن ولاية مدينة دمشق، وباشرها عز الدين بن أبي الهيجاء. وفيها: "..................... " وفيها: حج بالناس الأمير علم الدين سنجر الباشقردي. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ عز الدين محمد بن عليّ بن إبراهيم بن شداد الأنصاري الحلبي. توفي في صفر، ودفن بسفح المقطم، وكان فاضلا مشهورا، وله تصنيف في سيرة الملك الظاهر، وكان معتنيا بالتواريخ. الشيخ الصالح العابد الزاهد شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إسماهيل الإخميمي. توفي في هذه السنة، ودفن بجبل قاسيون، وكانت له جنازة حافلة. الشيخ الصالح المقرئ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي الحنبلي. سمع الحديث من الشيخ موفق الدين بن قدامة، وغيره، وكان شيخ الميعاد ليلة الأحد، توفي يوم الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة، ودفن بالقرب من تربة الشيخ عبد الله الأرمني. القاضي عماد الدين داود بن يحيى بن كامل القرشيّ البصروي الحنفي. مدرّس المعزيّة بالكشك، وناب في الحكم عن مجد الدين بن العديم، وسمع الحديث، وتوفي ليلة النصف من شعبان من هذه السنة، وهو والد الشيخ شمس الدين القحفاري شيخ الحنفية وخطيب جامع تنكر. الشيخ حسن الرومي، شيخ سعيد السعداء، توفي فيها بالقاهرة، وولى مشيختها بعده شمس الدين الأيكي. الرشيد سعيد بن علي بن سعيد، الشيخ رشيد الدين الحنفي. مدرس الشبلّية، وله تصانيف مفيدة كثيرة ونظم حسن، وتوفي يوم السبت ثالث رمضان، وصلى عليه بعد العصر بالجامع المظفري، ودفن بالسفح.

السنة الخامسة والثمانين بعد الستمائة

أبو القاسم علي بن بلبان بن عبد الله الناصري، المحدّث، المفيد الماهر. توفي يوم الخميس مستهل رمضان. الشيخ العارف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عثمان على الرومي. توفي فيها، ودفن بترتيتهم بسفح قاسيون، ومن عندهم خرج الشيخ جمال الدين السّاوجي وخلق ودخل في زيّ الجو القيّة وصار شيخهم ومقدّمهم. الأمير مجير الدين محمد بن يعقوب بن علي الأسعردي، المعروف بابن تميم الحمويّ الشاعر صاحب الديوان في الشعر. فمن شعره قوله: عاينت ورد الروض يلطم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق لا تقربوه إن تضوّع نشره ... ما بينكم فهو العدوّ الأزرق الأمير الكبير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحيّ، أستاذ الملك الظاهر بيبرس. كان من خيار الأمراء، وقد كان الملك الصالح نجم الدين أيوب غضب عليه وصادره، وأخذ منه مملوكه بيبرس، وأضافه إليه لشهامته ونهضته، فتقدّم عنده على خشداشيته، وتوفي أيدكين المذكور في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربيته بالشارع الأعظم قبالة حمام الفارقاني بظاهر القاهرة. السلطان يعقوب بن يوسف المريني. مرض وهو نازل على حصن الجزيرة بأطراف الأندلس، فاتفقت وفاته في شهر المحرم هناك، وكان في صحبته ولده أجليد، فحمله إلى سلا ودفنه بها، وكان له من الأولاد يوسف، وأبو سالم، وعلى، ومحمد أجليد، ومنديل، وجلس ابنه يوسف مكان أبيه، وكان مقيما بفاس، فركب وسار إلى الأندلس في البحر لأجل جيش أبيه وخزائنه، فتلقاه أصحابه وأقاربه وبايعوه، وحضر إليه محمد بن الأحمر معزّيا بأبيه، فتلّقاه بالإكرام، وأعاد إليه أكثر البلاد التي استولى أبوه عليها، وعاد أبو يعقوب إلى بلاده، وأغلظ على إخوته وأقاربه، وكان شديد الوطأة عليهم، فقتل منهم جماعة من جملتهم أخوه محمد أجليد، وأخوه منديل، وأظهر الشدة والغلظة والحزم والعزم. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو الحاكم بأمر الله العباسيّ. والسلطان في البلاد المصرية والشاميّة الملك المنصور قلاون الألفيّ، وجرّد عسكرا كثيفا صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الكرك وأمره بمنازلتها، فتوجّه إليها، ونزل عليها، وأحضر آلات الحصار من البلاد الشامية والحصون الإسلاميّة، وشرع في مضايقتها، وقطع الميرة عنها من سائر الجهات، وأظهر الجدّ والإجتهاد، وجرّد صوارم العزم من الأغماد، وخلط الترهيب بنوع من الترغيب، فاستدعي بعض رجالها، وخاطبهم بلسان الإحسان، وطّيب قلوبهم، فتسلّل أكثر الرجال إليه، فلما رأى الملك المسعود جمال الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش أنه قد أسلمها رهطهما، وبقيا وحدهما مع انقطاع الميرة منهما. بذلا الطاعة وجنحا إلى الإذهان، وسألا خاتم الأمان من عند السلطان، فضمن الأمير حسام الدين عنه الإحسان والأمان والإيمان، فقالا: لا غنى لنا عن حضور خاتمه لنسكن إليه، ونعتمد عليه، فبادر بمطالعة الأبواب الشريفة السلطانية صحبة البريديّة بحصول المقصود، والإذعان إلى الوفود، فإنّ الأمر بقي متوفقا على مجئ أحد من خاصّة السلطان بخاتم الأمان. قال بيبرس في تاريخه: فند بني السلطان إليهم، ومعي أمانه الشريف، فسرت على البريد إلى الكرك، فاجتمعت بالأمير حسام الدين، فأعلمهمها بحضوري، فدخلت إليهما بالأمان، وأبلغتهما رسالة السلطان بمواعيد الإحسان، فطابت قلوبهما، وانشرحت صدورهما، واطمأنّت خواطرهما، ونزلا من الكرك إلى الأمير حسام الدين، فتلقّاهما بالإجلال والإعظام، وركب صبيحة ذلك اليوم إلى الصيد وركبا معه معا، وتصيّدنا يومنا ذلك، وعدنا إلى الوطاق، ورتّب الأمير حسام الدين الأمير عزّ الدين أيبك الموصلي المنصوري في نيابة السلطنة بالكرك، فإنه كان نائبا في الشوبك منذ تسلّمها السلطان، وحضر إلى الأمير حسام الدين عند نزوله على الكرك، ووقف بين يديه إلى أن سلمت إليه، فرتبه فيها ورتب في ولاية القلعة الأمير بدر الدين بكتوب العلائى، وفي ولاية المدينة الأمير عز الدين أبيك النجمى، وكان السلطان قد عينهما، خلع المشار إليه عليهم، وعلى رجال القلعة، ومقدمى المدينة، وأمراء العربان، ورتب أحوالها، ورحل عائدا إلى الديار المصريّة، وولدا الملك الظاهر صحبته.

ذكر سفر السلطان إلى الشام

قال بيبرس: فلما وصلا إلى قريب القلعة ركب السلطان والعساكر والأمراء في موكب حفل وتلقاهما، وأفبل عليهما، وأطلعهما القلعة، ولم يعرض إليهما بسوء، بل وفى لهما بأمانة، وغمرهما بإحسانه، وأعطى كلأمنهما إمرة بمائة فارس، واستمرا بركبان معه في الموكب، ويلعبا مع ولديه في الميدان، ونزلهما منزله، وشرط عليهما أن يسلكا ما يجب من الأدب، ويتجنبا مناهج الريب، فلبثا في ذلك برهة في أرغد عشيةٍ وأهنى معيشة، ثم بلغه عنهما أمور أنكرها، فقبض عليهما واعتقلا، وبقيا في الإعتقال إلى أيام ولده الملك الأشرف، فسيرهما إلى القسطنطينية، فكان منهما ما نذكره إن شاء الله. ذكر سفر السلطان إلى الشام خرج السلطان إلى الشام، فنزل غزة، ثم توجه إلى الكرك جريدة متصيداً، وترك العساكر مقيمة على غزة، فوصل إليها في شهر شعبان من هذه السنة، ونزل على ظاهرها، وطلع إلى قلعتها، ونظر في أحوالها، وحفر البركة التى في باب النصر، وكانت قد أهملت وارتدمت، ورتب أحوال العربان ومن بها من الرجال، وجدّد لأمراء العرب مناشير إقطاعاتهم، وأجرى لهم عادات صلاتهم. ثم رسم للأمير بيبرس الدوادار صاحب التاريخ بالإقامة في الكرك نائبا، فأقام، وخرج الأمير عز الدين أبيك الموصلى، ونقله السلطان منها إلى نيابة السلطنة وتقدمة العسكر بغزّة، فأقام بها مدة يسيرة، ثم نقله إلى قلعة صفد نائبا بالقلعة خاصّةً، عوضا عن الأمير سيف الدين قجقار المنصورى، فإنه كان قد مرض وقصد التوجه إلى الديار المصريّة ليتداوى، فتوجّه، فكانت منيته في تلك المرضة، فتوفي بالقاهرة. ولما قرر السلطان أحوال الكرك على ما يحب تقريره رحل عنها وتوجه إلى غابة أرسوف، يحكم أن الوخم أصاب العسكر بغزة، فأقام نازلا على الغابة إلى أن هجم الشتاء ووقع الثلج، وأمن حركة العدوّ من الرواح والغدوّ، وعاد إلى الديار المصرية. قال بيبرس في تاريخه: وأخذ الشعراء يمتدحون، فمما قيل في ذلك أبيات نظمها القاضى شمس الدين الأربلىّ منها: يا ذا الذي السرحان في أيامه ... والشاء لا هذا على ذا يعتدى وافيتنا والناس بين محير ... في نفسه ومخوفٍ ومهدّد ألقيت فينا هيبةً حتى لقد ... خاف التقى فكيف خوف المفسد فأناب من مازال منهم يعتدى ... حتى ظنناك الرفاعى أو عدى من كان يدلج في الحرام ويغتدى ... أضحى بخوفك قيما في المسجد وأقمت أمر الله بين عباده ... ترجو ثواب الناسك المتعبد يا جامعاً بين النوال وعدله ... وصلاته وصلاته للتحدى ما زلت أخشى الحادثات وصرفها ... حتى بحبل ولائه علقت يدى ما ضل من بضياء عدلك يهتدى ... في أمره وبنور رأيك يقتدى قال بيبرس: وأنعم السلطان علي بثمانين فارساً وإقطاع الأمير علم الدين سنجر الدوادار الصالحىّ على عادته في الدربستية، وأرسل إلى المنشور الشريف على البريد، وأنالنى من إحسانه فوق المزيد. ونسخة المنشور الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الفضل الجمّ، والامتنان الذي عمّ، والجميل الذي تمّ، مده حمد من قدّم من شكر منته الأهمّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ينجلى بها عن قلب الموحد الغمّ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جمع الله بنبوته شمل الإيمان ولمّ، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله عترته وصحابته صلاة نأتمر بها ونأتم. وبعد: فإن خير من سمت به حدوده، واتسمت لشجاعته سعوده، وخفقت برياح النصر بنوده، وعمرت بالخير معاهده ورعيت عهوده، من زكت مغارسه، وصفت بالإحسان ملابسه، وكثرت عند الإعتداد ذخائره من الخدمة ونفائسه وقصر عن طول ملوله مقايسه.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ولما كان المجلس السّامى الأمير الأجل الإسفهسلار الأوحد المجاهد العضد، ركن الدين فخر الإسلام، شرف الأنام، شرف الأمراء المقدمين، عضد الملوك والسلاطين بيبرس الدوادار الملكى المنصورى، نائب السلطنة بالكرك المحروس، هو أسارير هذا الجبين، وفحوى هذا اليقين، اقتضى حسن الرأى الشريف أن خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى المنصورى السيفى، زاده الله علاء ونفاذا وإمضاءً، أن يجرى في إقطاعه ما رسم به الآن من الإقطاعات الأعمال الشامية لخاصته ولمن يستخدمه من الأجناد الجياد المعروفين بالخدمة، بالبرك التامّ، والعدّة الكاملة، بعد ارتجاع ما بيده بالديار المصرية، والعدة خاصة ثمانون طواشيا، خارجا عن الملك والوقف، عن الأمير علم الدين سنجر الدوادار الصالحىّ، على عادته في الدربستية، وذلك لا ستقبال مغل سنة خمس وثمانين وستمائة. وكان استقرارى بها في النيابة في شهر شعبان سنة خمس وثمانين وستمائة، وأقمت حول خمس سنين. وفيها: عزم السلطان على تجريد العساكر مع الأمير حسام الدين نائبه إلى جهةً صهيون فجرجوا من القاهرة في حادى عشر ذي الحجة من هذه السنة. وفيها: كتب الأمير بدر الدين بكتوب العلائي، وهو مجرد بحمص إلى نائب دمشق الأمير حسام الدين لاجين أنه انعقدت زربعة في يوم الخميس رابع عشر صفر بأرض حمص، ثم ارتفعت في السماء كهيئة العمود أو الحية العظيمة، وجعلت تختطف الحجارة الكبار، فتصعد بها الجوّ كأنها سهام النشاب، حملت شيئا كثيرا من الجمال بأجمالها، والأثاث والخيام، ففقد الناس شيئا كثيرا من رحالهم وأمتعتهم. وفيها: أعيد علم الدوادارىّ إلى شدّ الدواوين بدمشق، والصاحب تقي الدين إلى الوزارة بالشام. وفيها: تولى القضاءفي مذهب المالكية بمصر زين الدين بن مخلوف التبريزى، عوضا عن القاضى تقي الدين بن شاش، فإنه توفي إلى رحمة الله تعالى. وفيها: ".................... ". حج بالناس: "............... ". ذكر من توفي فيها من الأعيان أحمد بن شيبان بن ثعلب الشيبانى، أحد مشايخ الحديث المسندين المعمرين. توفي في هذه السنة في دمشق في شهر صفر عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بقاسيون. الشيخ الإمام العالم البارع جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله البكرى الشريشى المالكى. ولد بشريش في سنة إحدى وستمائة، ورحل إلى العراق فسمع بها إلى المشايخ كالقطيعى وابن الليثى وغيرهما، واشتغل وحصل وساد أهل زمانه وبنى أقرانه، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية، ثم أقام بالقدس شيخ الحرم، ثم جاء إلى دمشق فولى مشيخة الحديث بتربة أم الصالح، ومشيخة الرباط الناصرى، ومشيخة المالكية، وعرض عليه القضاء فلم يقبل، وتوفي يوم الأثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصرى، ودفن بسفح جبل قاسيون. قاضي القضاة بهاء الدين أبو الفضل يوسف بن قاضى القضاة محى الدين أبي الفضل يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز علىّ بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه القرشى الدمشقى، المعروف بابن الزكى الشافعىّ. وكان أحد الفضلاء البارعين، والعلماء المبرزين، وهو آخر من تولى القضاء من بنى الزكى إلى يومنا هذا، وكان مولده في سنة أربعين، وسمع الحديث، وتوفي ليلة الإثنين حادى عشر ذى الحجة، ودفن بقاسيون، وتوفي بعده ابن الجوزى. شهاب الدين الشيخ مجد الدين يوسف بن محمد بن عبد الله المصرىّ، ثم الدمشقىّ الشافعىّ الكاتب المعروف بابن المهتار. كان فاضلا في الحديث والأدب، وكان يكتب كتابة حسنة جدا، وتولى مشيخة دار الحديث النورية، وقد سمع الكثير، ووانتفع الناس به، وبكتابته، وتوفي تاسع عشر ذي الحجة، ودفن بباب الفراديس. الشاعر الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد المعروف بابن الخيمى. كانت له مشاركة في علوم كثيرة، ويدٌ طولى في النظم الرائق، جاوز الثمانين سنة، وقد تنازع هو نجم الدين بن إسرائيل في قصيدة بائية، فتحا إلى ابن الفارض، فأمرهما بنظم أبيات على رويهما، فنظم كل منهما فأحسن، ولكن حكم لابن الخيمى، وكذلك فعل القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله. البيضاوي وهو الإمام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازى، قاضيها، وعالم أذربيجان وتلك النواحى.

السنة السادسة والثمانين بعد الستمائة

مات بتبريز في هذه السنة ومن مصنفاته: المنهاج في أصول الفقه، وهو مشهور وقد شرحه غير واحد، وله منهاج آخر في أصول الدين، ومنهاج آخر في الفروع وشرحه هو، وله شرح التنبيه في أربع مجلدات، وله الغاية القصوى في دراية الفتوى، وشرح المنتخب والكافية في المنطق، وله الطوالع، وشرح المحصول أيضا، وله غير ذلك من التصانيف المفيدة، وقد أوصى القطب الشيرازى أن يدفن إلى جانبه بتبريز، رحمهما الله. الأمير ركن الدين إباجى الحاجب، توفى هذه السنة، رحمه الله. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو الحاكم بأمر الله العباسىّ. وسلطان الديار المصريّة والشاميّة: الملك المنصور قلاون الألفى الصالحىّ. وبقية أصحاب البلاد على حالهم. ذكر بعوث السلطان منها: بعثة العسكر إلى صهيون وسنقر الأشقر فيها حاكم، فخرجوا أوائل المحرم. وقال النويرىّ: وكان خروجهم في أواخر السنة الماضية. وقال بيبرس: وذلك الأسباب التى اتفقت من الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. منها: كونه تقاعد عن الحضور إلى حمص المرقب، وتأخر عن المساعدة في الجهاد المفترض عليه. ومنها: أنه كان يشنّ الغارات بخيله ورجله على البلاد التى حوله، وخرج عما وقع عليه الاتفاق، وأبدى أنواعا من الشقاق، فسير السلطان إليه جيشا صحبة المشار إليه، فتوجه في جماعة من العسكر، فسار ومعه من الأمراء والأكابر، ونزل على صهيون، وأرسل إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر يعرض عليه تسليم الحصن، والتوجه إلى الديار المصريّة، وعرفه ما وعده السلطان من المواعيد، وما نواه له من المزيد وما قصده من اجتماع الشمل بأنسه، والراحة من القبل والقال الذي يشوب الود بعكسه، فما أجاب ولا أظهر تماسكا بشئ من هذه الأسباب، فعند ذلك جد في محاضرته، وبالغ في مضايقته، ونصب عليه المجانيق، ورماه بالأحجار، وشدّد عليه الحصار، فلما رأى ذلك عاين الهلك، وأيقن أنه متى فتح الحصن عنوة لم يأمن على نفسه، فأرسل يطلب الأمان، ويلتمس تأكيده بالإيمان، فأجابه الأمير حسام الدين إلى ذلك، وحلف له على ما قصده هنالك، وضمن عن السلطان أنه سيعامله بالجميل، ويصله من احسانه بكل جزيل، وانه لايعرض له بسوءفي نفسه وجسده وأهله وولده وحاشيته. فلما استوثق بتأكيد العهود واطمأن إلى هذه الوعود نزل من صهيون وتسلمها الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري، ورتّب فيها نائبا وواليا ورجّالةً، وانعم على رجالها، ونظر في أحوالها، وسار عنها والأمير شمس الدين سنقر الأشقر صحبته، فرتبت له الإقامات، وأجزلت له الكرامات، ولما وصلوا إلى قريب القلعه ركب السلطان وولداه الصالح والأشرف وولدا الملك الظاهر بين يديه في موكب حفّت به العساكر، واجتمعت فيه الأمراء الأكابر، والصالحية، والنجمية، وسائر الحشداشية، وتلقى السلطان الأمير شمس الدين سنقر المذكور بالبشر والإقبال، وتعانقا، وتكارشا، وتعارضا، تحية المحبين إذا التقيا بعد البين، ثم اطلعه القلعة معه، واسكنه فيها، وحمل اليه من الخلع الفاخرة، والأقمشة الزاهرة، وحوائص الذهب الثمينة، وأنواع التحف النفيسة، وأعطاه إمرة مائة فارس، وساق إليه من الخيل المسومة، والسروج المحلاة، وغير ذلك، ماملأ عينيه، ويده، واتخذه في الحضر جليسا، وفي السفر أنيسا، وفي المهمات مشيرا، وبقي على ذلك بقيّة أيام السلطان، فلما أفضى الملك إلى ولده الأشرف أوقع به على ما نذكره إن شاء الله. وقال النويرى: ولما نزل سنقر الأشقر من صهيون طائعا إلى خدمة الأمير حسام الدين، وسار حسام الدين وهو معه إلى اللاذقية، وكان فيها برج للأفرنج تحيط به البحر من جميع جهاته، فتوصل حسام الدين طريقا إليه، وحاصره وتسليمه بالأمان وهدمه، ثم سار منه إلى غزة، ثم إلى مصر. ومنها: أن السلطان بعث جيشا من الأمراء والأجناد وعربان البلاد وغيرهم صحبة الأمير علم الدين سنجر المسرورى متولى القاهرة المعروف بالخياط، والأمير عز الدين أيدمر السيفى أستاذ الدار، والأمير أيتمش السعدى متولى الأعمال الفوصية لغزو النوبة، فتوجهوا ووصلوا دنفلة، وأغاروا عليها وعلى أعمالها، وسهوا ونهبوا وغنموا، وجلبوا شيئا كثيرا من الرقيق. ذكر بقية الحوادث

ذكر من توفي فيها من الأعيان

منها: أنه ولى القضاء بالقاهرة قاضى القضاة تقي الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، عوضا عن برهان الدين الحصرى الحسن السنجارى. ومنها: أنه وقع ببلاد الغريبة من الديار المصرية في زمن الحصاد برد، فضرب كثيرا من الزرع القائم. ومنها: أن تدان منكو بن طغان بن دوشى خان ابن جنكرخان صاحب البلاد الشمالية أظهر التوله والتخلى عن النظر في أمور المملكة، والانقطاع إلى المشايخ والفقراء، والإلمام بالصلحاء والعباد، وقيل له: إ، الملك لا بد له من ملك يسوسه، فأشار بأنه قد نزل عنه لابن أخيه تلابغا بن طرنوا بن دوشى خان بن جنكزخان، فطابت نفسه بذلك ووافقه الخواتين والأخوة والأعمام والأقارب والإلزام، وكانت مدة مملكة تدان منكو حول خمس سنين، وكان له من الأولاد أن منكى وصراى تمروسكباى. ومنها: أن تلابغا المذكور ملك عوضا عن تدان منكو، وتجهز وسار بعساكره إلى بلاد الكرك للأغارة عليها، وغزو من فيها، وأرسل إلى نوغيه بأمره بالمسير فيمن عنده من العساكر ليجتمعا على الغارة على بلاد كرك، فسار نوغيه في التمانات التى عنده، وتوافيا في المقصد، وشنوا الغارة، ونهبوا ما شاءوا وقتلوا من شاءوا وعادوا، وقد تمكن الشتاء، وتكاثرت الثلوج، واستصعبت الطرقات، ففضل نوغية عنه بمن معه وسار إلى مشاتيه، فوصل سالما هو وكل من يليه، وسار تلابغا يتعسف البيد الموعرة، الفيافي المقفرة، فتاه عن حدّ الطرق، وناله وعسكره غاية الضنك والضيق، وهلك أكثرهم من شدة البرد، وعدم القوت، ولم يسلم إلا القليل منهم، فعز ذلك على تلابغا وتوهم أن نوعية إنما فعل ذلك مكرا بهم ومكيدة ليهلك عساكره، ويبيد عشائره، فأصمره الغدر، وأبطن له الشرّ، وذلك لما ناله ونال عسكره من الشدة الشديدة التى ألجاتهم إلى أكل لحوم دوابهم التى يركبونها، ودوايهم التى استصحبوها، ولحوم من مات منهم جوعا، فاتفق مع أصحابه على قصد نوغيه، على ما سنذكره في مكانه إن شاء الله تعالى. وفيها: "....... ". وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين قطز السلحدار. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام العلامة القدوة قطب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ الإمام أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن الميمون القيسى التوزرى، ثم المصرى، ثم المكى الشافعى المعروف بابن القسطلانى. شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، ورحل إلى بغداد وغيرها، سمع الكثير وحصل علوما، وكان يفتى على مذهب الشافعى، وأقام بمكة مدة طويلة، ثم صار إلى مصر، ثم تولى مشيخة الحديث بها، وكان حسن الأخلاق، محببا إلى الناس، وكانت وفاته في أواخر المحرم، ودفن بالقرافة الكبرى، وله شعر حسنٌ. الشيخ الإمام محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، بدر الدين ابن العلامة جمال الدين الطائى الجيانى، ثم الدمشقى. كان إماما في النحو وغيره، أخذ عن والده، ومن تصانيفه: شرح ألفية والده، وله مقدمة في المنطق، ومقدمة في العروض، ومات قبل الكهولة من قولنج كان يعتريه كثيرا في سنة ست وثمانين وستمائة بدمشق، ودفن بمقبرة باب الصغير. عماد الدين محمد بن عباس الدنيسرى الطبيب الماهر الحاذق الشاعر. خدم الأكابر والوزراء وعمر ثمانين سنة، وتوفي في صفر منها بدمشق. قاضي القضاة برهان الدين الخصر بن الحسن بن علي السنجارى، ولى الحكم بديار مصر غير مرة وولى، الوزارة أيضا، وكان رئيساً وقوراً مهيباً، وقد باشر بعده القضاء تقي الدين بن بنت الأعز. شرف الدين سليمان الشاعر المشهور، له ديوان شعر رائق، توفي في صفر منها. الشيخ الصالح عز الدين عبد العزيز بن عبد المنعم بن صيقل الحراني. ولد سنة أربع وتسعين وخمسمائة، سمع الكثير، ثم استوطن مصر حتى كانت وفاته بها في رابع عشر رجب وقد جاوز السبعين، وقد سمع منه الحافظ علم الدين البرزالى لما رحل إلى مصر في سنة أربع وثمانين.

الأمير سيف الدين قجقار المنصورى.

وحكى عنه أنه شهد جنازة ببغداد، فتبعهم نباش، فلما كان الليل جاء إلى ذلك القبر، ففتح عن الميت، كان شابا قد أصابته سكتةٌ، فلما فتح القبر نهض الميت جالسا، فسقط النباش ميتا في القبر، وخرج الشاب من قبره وحكى له: كنت مرة بقليوب وبين يدي صبره قمح، فجاء زنبور فأخذ حبة من القمح، ثم جاء فأخذ أخرى، ثم جاء فأخذ أخرى أربع مرات، فذهبت فاتبعه، فإذا هو يضيع الحبة في فم عصفور أعمى في تلك الأشجار التى هناك. قال: حكى لى الشيخ الصالح عبد الكافى أنه شهد مرةً جنازةً، فإذا عبد أسود معنا، فلما صلى الناس لم يصل، فلما حضرنا الدفن نظر إلىّ وقال: أنا عمله، ثم ألقى نفسه في القبر، فنظرت فلم أر شيئاً. الحافظ أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عسكر الدمشقى. ترك الرئاسة والأملاك، وجاور بمكة ثلاثين سنة مقبلا على العبادة والزهادة، وقد حصل له قبول تامٌ من الناس من الشاميين والمصريين وغيرهم، ثم كانت وفاته بالمدينة النبوية في ثاني رجب، رحمه الله. الشيخ الإمام الورع الزاهد الحافظ المجود صاحب الرياضيات والمجاهدات صدر الدين محمد بن الشيخ سديد الدين القزوينى. إمام صفة صلاح الدين بخانقاة سعيد السعداء بالقاهرة، توفي فيها في هذه السنة الأمير سيف الدين قجقار المنصورى. نائب السلطنة بصفد، توفي في هذه السنة. الأمير ركن الدين أباجى الحاجب، توفي يوم الأحد عاشر رمضان من هذه السنة. الأمير سيف الدين كراى الظاهرى، توفي في هذه السنة وكان أميرا كبيرا. الأمير حسام الدين لاجين الزينى السعيدي، توفي هذه السنة. الأمير علم الدين سنجر الباشقردى الصالحى. توفي بالقاهرة ليلة الثلاثاء التاسع من شهر رمضان، وكان قد تولى نيابة حلب، ثم عزل عنها بالأمير قراسنقر في سنة إحدى وثمانين وستمائة. الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى. توفي رابع المحرم منها دفن بتربة قرب مشهد الإمام الشافعىّ رضى الله عنه، وحزن السلطان عليه حزنا عظيما. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسىّ. والسلطان الملك المنصور قلاون صاحب الديار المصرية والشامية والحلبية، وقد عزل الأمير علم الدين سنجر الشجاعى المنصورى عن الوزارة وصادره، وأخذأمواله، وكان أكثر حنقة عليه أنه بلغه عنه أنه قد أفحش في المظالم، واستجلب الدعاء على دولته من العالم، وأن في سجنه جماعة كثيرة عدتهم مئون، وقد مرت عليهم شهور وسنون، وقد صار موجودهم كله جعلا للرسل وبرطيلا للمقدمين، فرسم لبهاء الدين بغدى الدوادار بأن يخرج إلى أماكن هؤلاء المصادرين، ويكشف أمرهم عن يقين، فخرج في الليل إلى دار الغلوس التى هي مجمع الدواوين، فوجد فيها خلقاً، فقاموا إليه مستصرخين، فأعلم السلطان بأمرهم، فأمر الامير حسام الدين طرنطاى نائبه بعرضهم، وأمر بإطلاق من يحب إطلاقه منهم، فعرضهم وأفرج عن جميعهم، وباء بأجرهم كما باء الشجاعى بإثمهم، ووجد سوء عاقية ظلمهم، وكانت هذه النقمة الحالة به بأدعيتهم، فلله درّ القائل: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما يدريك ما فعل الدعاء سهام الليل ما تخطئ ولكن ... لها أجل وللأجل انقضاء ثم ولى السلطان الأمير بدر الدين بيدرا المنصورى الوزارة، وكان أولا أمير مجلس، ثم صار أستاذ الدار، ثم نقله إلى الوزارة عوضا عن علم الدين سنجر الشجاعى المذكور، فأحسن فيها السيرة، وعامل الناس في اللطف، وانكفت في أيامه المرافعات، وقلت المصادرات، وانجلت ظلم الظلمات، وذاقت الدواوين حلاوة الأمن من بعد مرارة الخوف، ولم يزل مستمرا إلى أن أنقضت الدولة المنصورية، وأقبلت الدولة الأشرقية، فنقل إلى نيابة السلطنة، فكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. قلت: بيدرا هذا ثاني الوزراء من الترك أرباب السيوف، وأولهم الشجاعى المذكور، وكانت ولاية بيدرا للوزارة في السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. وفيها: بنى السلطان ببنت الأمير شمس الدين سنقر التكريتى الظاهرى، وأفرج عنه من الإعتقال، وإعطاه إمرةً بالشام، ثم بانت عنه.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفيها: في شهر رمضان كبس نصرانىّ وعنده مسلمةً وهم يشربون الخمر في نهار رمضان، فأمر نائب السلطنة بدمشق حسام الدين لاجين بتحريق النصرانى، فبذل في نفسه أموالا جزيلةً، فلم تقبل منه، وحرقه بسوق الخيل. وفيها: وقعت الحرب بين قبلاى خان صاحب التخت والتاج وبين قيدو وابن قجى وابن أوكديه بن جنكرخان أحد ملوك التتار، وكان سبب الواقعة أن أميرا من أمراء قبلاى يسمى طردغا أحس بأن قبلاى قد تغير عليه، وعزم على الإيقاع به، فهرب ولحق بقيدو، وحسنٌ له قصد قبلاى وحربه، وأطمعه في أخذ مملكته، وقال له: إنه قد كبر سنة وما بقي ينهض بتدبير ملكه، وإنما أولاده هم الذين يتولون الأمور هم صبيان، فسار قيدو بجيوشه لقصده وسار طردغا صحبته، وبلغ ذلك قبلاى، فجهز جيوشه، وأرسلها صحبة ولده نمغان لحربه، فلما وصل قيدو قريبا من القوم، بلغه أنهم في جمعةٍ كثيرة، فأراد الرجوع من فوره، فقال له طردغا: يعطينى الملك تومان من نقاوة العسكر وأنا أدبر له الحيلة وأكسرهم. قال له فيدو: وكيف تصنع؟ قال: إن الطريق الذي قدامنا فيها وادٍ بين جبلين، فأتوجه بالتومان، فاكمن في الوادى، ويتقدم الملك إلى القوم حتى إذا وقعت العين على العين يرجع موليا، فهم لا بد لهم أن يتبعونه، فإذا تبعوه يستدرجهم إلى أن يصيروا بين الوادى وبينه، فأخرج إليهم ويلتفت العسكر عليهم، ففعل قيد وكذلك، وكمن الكمين مع طردغانوين، وسار حتى تقابل العسكران، ووقع العيان على العيان، فطمع عسكر قبلاى فيهم لقتلهم وحملوا عليهم، فما ثبتوا لحملتحم وانهزموا قدامهم راجعين، وتبعوهم طامعين حتى إذا تجازوا مكان الكمين خرج عليهم طردغانوين ومن معه من نقاوة التواميين، ثم كّر عليهم قيدو بمن معه، فكثر عسكر قبلاى أشدّ كسرة، وأثخنوا فيهم وقتلوا منهم خلقاً كثيرا، ثم ساروا في آثارهم حتى أشرفوا على ديارهم فنهبوها، ونهبوا من النساء والصبيان خلقا عظيما، وجلب من ذلك السبّى عدّةٌ من المماليك إلى الديا ر المصريّة، ونجا نمغان ابن قبلاى في عدّة من أصحابه، فلما وصل إلى أبيه سخط عليه وأرسله إلى بلاد الخطا فمات بها. وفيها: "...... ". وفيها: حج بالناس سيف الدين بلبان الدكاجل المعروف بالشحنة، فبارز عليه الأمير أبو نمى الحسنى صاحب مكة، وأمسكه أتفاق مع الحجاج، وسيره إلى السلطان، فأرسله إلى الكرك، فاعتقل فيها مدة، ثم أطلق فيما بعد. ذكر من توفي فيها من الأعيان الخطيب الإمام قطب الدين أبو الوفا عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن محمد بن سعيد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، القرشيّ الزهريّ. خطيب القدس الشريف أربعين سنة، وكان من الصلحاء الكبار، مجموعا عن الناس، حسن الهيئة، مهيبأ، عزيز النفس، يفتى الناس، ويذكر التفسير من حفظه في المحراب بعد الصبح، وقد سمع الكثير، وكان من الأخيار، ولد سنة ثلاث وستمائة، وتوفي ليلة السابع والعشرين من رمضان عن أربع وثمانين سنة وتولى موضعه بدر الدين بن جماعة. الشيخ الصالح العابد إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبرىّ، تقى الدين أبو إسحاق. أصله من قلعة جعبر، ثم أقام بالقاهرة وكان يعظ الناس وكان الناس ينتفعون بكلامه كثيرا، توفي بالقاهرة يوم السبت الرابع والعشرين من المحرم، ودفن في تربته بالحسينية، وله نظم حسن، وكان من الصالحين المشهورين. ومن أشعاره قوله: أرى غراما وتعذيباً وفرط جوىّ ... وحرقةً في الهوى تعلو على سقر ولست أدرى بمن وجدى ولا نظرت ... عيناى حبىّ في بدو ولا حضر فهل رأيتم جميع الناس أعجب من ... حالى وقد سمعتم مثل ذا الخبر أذوب شوقاً إلى من لست أعرفه ... ولأى خيالا منه في عمر الحكيم الفاضل العلامة علاء الدين على بن أبي القرمشى الدمشقى، المعروف بابن النفيس. نشأ بدمشق واشتغل بها على مهذب الدين الدخوارى، وإليه انتهت رئاسة الطب، وصنف التصانيف المفيدة منها: كتاب الشامل في الطب، وكتاب المهذب في الكحل، وكتاب الموجز وهو من أحسن الكتب، وشرح القانون في مجلدات كثيرة، وشرح مسائل حنين، وفصول أبقراط، وغير ذلك، وتوفي بالقاهرة في الحادى والعشرين من ذى القعدة منها.

السنة الثامنة والثمانين بعد الستمائة

الشيخ بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين بن مالك النحوى. شارح الألفية التي لأبيه وهو من أحسن الشروح وأكثرها فوائد، وكان لطيفا ظريفا فاضلا، توفي يوم الأحد الثامن من المحرم، ودفن من الغد بباب الصغير بدمشق. الشيخ الصالح ياسين بن عبد الله المغرى، الحجام شيخ الشيخ محي الدين النووي وقد حج عشرين حجة وكانت له أحوال وكرامات توفي يوم الأربعاء الثالث من ربيع الأول الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الموسى، من أصحاب الشيخ الشاذلى، توفي في هذه السنة. الشيخ الصالح عثمان بن خضر بن سعد الكردى المراكشى العدوى صاحب الكرامات. توفي في هذه السنة، وحكى عنه تلميذه قال: لما كان في اليوم الذي التقى الملك الظاهرى مع التتار بالأبليستين حصل للشيخ غفوة من الوسن، ثم أفاق من سنته فقال: كنت في هذه الساعة في بلاد الروم، ورأيت الملك الظاهر وقد انتصر على التتار ونصب دهليز على قيسارية، فورخ الوقت والساعة، فكان الأمر كما أخبر الشيخ، رحمه الله. ناصر الدين حسن بن شاور النقيب الشاعر. وله أشعار ومقطعات رائقة، توفي في هذه السنة، ومن أشعاره: عاش صبا بكم ومات محبا ... فسقى الله منه مهدا وترابا ما قضى أو قضى حقوق هواكم ... وأباح "...... " جسما وقلبا قام والله ما الذي أوجب العشق ... على مثله وإن كان صعبا رضى الموت في الغرام ولم ... يرض ملاماً عليه فيه وعتبا هكذا هكذا وإلا فلا لا ... كلّ من هام أو صبا أو حبا يا محبين هذه صفة الحبّ ... وذا وصف من يسمى محبا لو صدقتم محبّة ما نطقم ... لا تظنوا الغرام لهوا ولعبا ليس من يشهد القتال بعينه ... كمن يلتقى طعاناً وضربا ريح صبّ لسوقه الحبّ للموت ... فينقاد وهو لا يتأب وكان حسن الدعابة، وجرد في وقت إلى بعض البياكر فقال: وجردت مع فقرى وشيخوختى إلى ... غربتى فعينى مثل نومى مشردا فلا يدعى غيرى مقامى فإننى ... أنا ذلك الشيخ الفقير المجرد محمد بن محمد العلامة أبو الفضائل، عرف بالبرهان النسفى الحنفى، صاحب التصانيف الكلامية والخلافية، مولده سنة ستمائة تقريبا، ولخص تفسير الإمام فخر الدين، وله مقدمة في الخلاف مشهورة، وأجاز للإمام البرازلى في سنة أربع وثمانين وستمائة، وكتب بخطه الملقب بالبرهان النسفى، توفى في هذه السنة، ودفن تحت قبة مشهد أبي حنيفة رضى عنه. الملك الصالح علاء الدين على بن الملك المنصور قلاون. مرض بالدوسنطارية الكبدية، وهي من الأمراض القاتلة الردية، فتوالى عليه رمى الدم، وأعي الأطباء دواءه، فقدر الله منيته في هذه السنة. وقال ابن كثير: توفي ليلة الجمعة رابع شعبان من هذه السنة، فوجد عليه السلطان وجدا عظيما، وكان قد عهد إليه في الأمر من بعده، وخطب له معه على المنابر من مدة سنين، ودفنه في تربته، وجعل ولاية العهد من بعده إلى ابنه الملك الأشرف خليل، وكتب بذلك إلى الآفاق، وخطب له بعد أبيه في البلاد. وقال بيبرس: وخلف الملك الصالح ولدا ذكرا وهو الأمير مظفر الدين أمير موسى، ولما أفضت الدولة إلى عمه السلطان الملك الناصر صار في زمرة الأكابر وأمره بمائه فارس. ورث السعادة عن أبيه وجده ... وحوى السيادة كابرا عن كابر فالله يحرسه ويرفع مجده ... في ظل مولانا المليك الناصر الخونده غازية خاتون بنت السلطان الملك المنصور قلاون وزوجه الملك السعيد بن الظاهر، توفيت بعد الصالح المذكور ببرهة يسيرة، وهي أخته لأبيه والله أعلم. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسىّ. والسلطان الملك المنصور قلاون صاحب الديار المصرية والشامية والحلبية ونائبه في الديار المصرية الأمير حسام الدين طرنطاى، في دمشق الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، وفي حلب الأمير قراسنقر المننصورى. ذكر سفر السلطان إلى الشام

ذكر فتح طرابلس

وفي هذه السنة رسم السلطان للعساكر بالتجهيز، وعزم على التبريز، وخرج من قلعته في المحرم من هذه السنة، وسار إلى الشام على عزم غزو طرابلس وأخذها وذلك أن أهلها نقضوا قواعد الصلح، وكدروا موارد الهدنة، بما ارتكبوا من الفساد، وسوء الاعتماد، والتطرق إلى الطرقات، والتعرض إلى المسلمين في معظم الأوقات، فعزم على حصارها، وصممّ على دمارها، وكتب إلى النواب بالممالك الشامية والحصون الساحلية بتجهيز الجيوش إليها، وإنقاذ المجانيق وآلات الحصار والنزول عليها. ذكر فتح طرابلس توجه السلطان إليها، ونزل عليها، وجاءت الأمداد من جميع البلاد، وجدوا في الحصار. وقال ابن كثير: نزل السلطان على طرابلس وصحبته خلق كثير من المتطوعة، منهم القاضى الحنابلة نجم الدين بن الشيخ، وخلق من المقادسة وغبرهم، فنازلها يوم الجمعة مستهل ربيع الأول وحاصرها بالمجانيق حصارا شديدا، وضايقها مضايقة عظيمة ونصب عليها تسعة عشر منجنيقا، فلما كان يوم الثلاثاء رابع جمادى الآخرة فتحت طرابلس في الساعة الرابعة من النهار عنوة، وشمل القتل والأسر جميع من فيها، وغرق كثير منهم في الميناء، ونهبت الأموال، وسببت النساء والأطفال، وأخذت الذخائر والحواصل، وقد كانت طرابلس في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى هذا التاريخ، وقد كان الملك صنجيل حاصرها سبع سنين حتى ظفر بها كما ذكرنا، وكانت قبل ذلك بأيدي المسلمين من زمن معاوية رضى الله عنه، فإنه فتحها في زمن معاوية سيفان بن نجيب فأمسكها معاوية اليهود، ثم لما كان عبد الملك بن مروان جدّد عمارتها وحصنها وسكنها المسلمون، حينئذ وصارت مطمئنة، وبها ثمار الشام ومصر، فإنه يجتمع فيها الجوز والموز والبلح والقصب، وقد كانت قبل ذلك كله ثلاث مدن متقاربة، ثم صارت بلدا واحدا، ثم حولت من موضعها، فإن السلطان أمر بهدم هذه البلدة بما فيها من العمائر والآدر والأسوار وأن تبنى على ميل منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن ةففعل ذلك، فهى هذه التى هي الآن، جعلها الله دار أمان. وفي تاريخ النويرى: مدة لبث الفرنج عليها من يوم استولوا عليها نحو مائة سنة وخمس وثمانون سنة وشهورا، وكان فتحها عنوة يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، وهرب أهلها إلى الميناء، فنجا أولهم في المراكب، وقتل غالب رجالها، وسببت ذراريهم، وغنم منها المسلمون غنيمة عظيمةً، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة، وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس بينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذ طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكوره عالم عظيم من الإفرنج رجالٌ ونساء، فاقتحم العسكر الإسلامى البحر وعبرّوا خيولهم سباحةً إلى الجزيرة المذكورة، وقتلوا جميع من بها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار والأموال، وصار الناس لا يستطيعون الصعود إليها من نتن جيف القتلى ثم عاد السلطان إلى دمشق، وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، ودخل السلطان دمشق يوم النصف من جمادى الآخرة. ثم سافر السلطان في ثاني شعبان بجيشه إلى الديار المصريّة، فدخلها في آخر شعبان من هذه السنة. وفي تاريخ بيبرس: وانهزمت طائفة من الفرنج وأهل طرابلس إلى جزيرة قريبة من الميناء لم يكن يتوصل إليها إلا بالقوارب وصغار المراكب، فالتجأوا إليها وظنوا أنهم يحتمون بها، ونقلوا معهم ما عز عليهم من قماشهم وأثاثهم، فاقتضعت سعادة السلطان وشقوقهم أن، انطرد البحر عنهم، وظهرت العساكر المخائص إليهم، فبادروا إليها ما بين راجل وفارس، وأوقفوا بمن كان فيها من شيخ وشابٍ، وبكر وعانسٍ، وركب أقوام منهم مركبا في البحر لينجوا بأنفسهم، فطردتهم الريح إلى الساحل، وتعذر عليهم الخروج في العاجل، وكانت هناك الخيول الإسلامية مع الدشارية، فخرج إليهم الغلمان والشاكردية والوشافية وأمير آخورية ووقعوا فيهم ونهبوا وأسروا من وجدوا منهم، فكان الخذلان لهم في البر والبحر، ولم يستشهد في هذه الغزاة إلا الأمير عز الدين مغان أمير شكار، والأمير ركن الدين منكورس الفارقانى، ثم أمر السلطان بتخريب المدينة بكمالها، وبنيت بالقرب منها مدينة أخرى وسميت طرابلس المستجدة، وسكنها كثير من المسلمين، واستقر بها نائب السلطنة، وطائفة من العسكر، ولما فرغ السلطان من أمرها رحل عائدا إلى الديار المصريّة.

وقال بدر الدين المنبجى البزاز الشاعر في ذلك قصيدة يذكر فيها الفتح، ويمدح السلطان، رحمه الله: أدركت بالجد أقصى غاية الطلب ... ونلت بالجد أعلى منتهى الرتب أبا المظفر لا زالت مظفرة ... منك الجيوش على الأعداء بالرعب فالله جارك أنى سرت من ملك ... وناصر لك من ناء ومقترب للهول مرتكب للحق منتصر ... للغزو مستجيب للأجر مكتسب يالسيد الملك المنصور شيد على ... الإسلام وانهد دين الشرك والصلب يامدرك الغاية القصوى التى عجزت ... عنها الورى برضى في الله أو غضب أحرزت ما فات قدماً من طرابلس ... جمع الملوك ذوى الارعاب والرّهب أتغبت نفسك في ذات الآله بها ... فيالها راحة وافت من التعب فتح يتيه على كل الفتوح به ... عصر غدا منتشى الأعطاف من طرب فكم لها في حبال الكفر من حقب ... مرّت ولم ترج تطليقا على حقب أعضت على الذلّ أحيانا وما برزت ... بالوجه طالبة بعدا من الحجب حتى إذا ما رأت كفؤا لخطبتها ... دعت فلبيتها في حجفل لجب أصدقتها كل ثبت القلب ترعب من ... إقدامه أسد الآجام من رعب آساد معركة عقبان مقتلة ... فرسان ملحمة للموت لم تهب من كل قطر أحاطوا محدقين بها ... كما أحيط على الأحداق بالهدب لو كنت شاهدهم والشمس طلعتها ... من شقة النقع يوم الزحف في نقب خلت الأسنة شهبا لحن في غسق ... والمشرفيات برقا شيم في سحب قل للملوك التي أعيتهم فقضوا ... عمرا وكلّ إليها الدهر ذو أرب تهدي العرائس من شم الحصون إلى ... من بات يخطبها بالسمر والقضيب غادرتها بمناجيق نصبن لها ... ورفع أبراجها خفض بمنتصب فأصبحت ذات أصحاب وكم جنيت ... على مرادك من جار لها جنب أجربت فيها بحارا نجيعهم ... فكل سابحة سحبا إلى اللبب لم تطلع الشمس فيها بعد ذاك على ... غير الشلايا من القتلى ولم تغب لله درّ عواليك التي وصلت ... لك المعالي بحبل غير منقضب وافتهم في جيوش منك أسد شرى ... بالبيض والبيض واللامات والثلب خاضت إليهم عباب البحر مسرعة ... كأنها في طريق مهيع لجب أذقتهم بعد عز مرّ ذلهم ... وبعدا من كؤوس الخوف والوصب يا رافعا علم الدين الحنيف ومن ... أصاب بالحفض دين الرجس والصلب أن نلت ما أعجزت صيد الملوك بما ... أدركت من فتحها الميمون عن كتب فآية السيف كم من آية نسخت ... وطلعة الشمس كم أخفت من الشهب جزاك ربّك عنه كل صالحة ... وكفّ عنك أكفّ الخلف في النّوب ودمت ترجى وتخشى ذا علا وسطا ... على العدى وعلى الإسلام ذا حدب واهتم السلطان بعد ذلك في استحلاب المماليك الترك والتتار إلى هذه الديار قصدا في الاستظهار، وبذل الأموال لمن يحضرهم من التجار في المفاوز والبحار، ورغبّهم بالمسامحات تحقيق الإيراد والإصدار، فحلبوا إليه منهم العدد الكثير، والجمّ الغفير، حتى أنه اقتنى منهم عدة لم يسبقه إلى مثلها أحد من اشكاله، فكانت زهاء ستة آلاف اشتراهم بماله، ورباهم تربية الأولاد، برسم الجهاد، وغزو الأعداء والأضداد، ولم يزل مشفقا عليهم محسنا إليهم، نافلا لهم على التدريج من الجامكيات إلى الإقطاعات، ومن المغاردة إلى إمرة العشرات، ثم إلى الطبلخانات، ومنهم من انتقل إلى تقدمة الألوف وإمرة المئين، وكانوا جميعا عنده كبنيه، بل أعزّ من البنين. وفيها: فتحت قلاع كثيرة بناحية حلب وكركر وتلك النواحي، وكسرت طائفة من التتار.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفيها: سلطن السلطان ولده الملك الأشرف خليل، وركب من قلعة الجبل، وشقّ القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة بشعار السلطنة، وطلع القلعة، وزينت له القلعة. وفيها: توجّه شمس الدين بن سلعوس من دمشق إلى مصر لخدمة السلطان الملك الأشرف بن السلطان الملك المنصور قلاون، ودخلها في أواخر المحرم من السنة الآتية. وقال ابن كثير: جاء كتاب يستحث الوزير شمس الدين بن السلعوس في السير إلى الديار المصريّة وبين الأسطر بخط الملك الأشرف: يا شقير يا وجه الخيّر، احضر تسلم الوزارة، فساق إلى القاهرة، فوصلها يوم الثلاثاء عاشر المحرم من السنة الآتية، فتسلّم الوزارة. وفيها: ".................. " وفيها: حج بالناس الأمير ركن الدين بيبرس الجالق الصالحيّ. ذكر من توفي فيها من الأعيان الإصبهاني شارح المحصول، محمد بن محمود بن عباد الكافي، العلامة شمس الدين الأصبهاني. قدم دمشق بعد الخمسين وستمائة، وناظر الفقهاء، واشتهرت فضائله، وسمع الحديث، وشرح المحصول لفخر الدين الرازيّ، وصنف القواعد في أربعة فنون: أصول الدين والفقه والمنطق والخلاف، وله معرفة جيدة بالمنطق والخلاف والنحو والآداب، وقد رحل إلى مصر فدرس بمشهد الحسين رضي الله عنه، وبالشافعيّ رحمه الله، وغيرهما، ورحل إليه الطلبة، وكانت وفاته في العشرين من رجب بالقاهرة عن ثنين وسبعين سنة. الشمس محمد بن العفيف سليمان بن عليّ بن عبد الله بن علي التلمساني الشاعر المطبق. كانت وفاته في حياة أبيه، فتألّم له، ووجد عليه وجدا شديدا، ورثاه بأشعار كثيرة، توفي يوم الأربعاء الرابع من رجب، وصلى عليه بالجامع الأمويّ، ودفن بمقبرة الصوفية. ومن رائق شعّره: لحاظك أسياف ذكور فمالها ... كما نقلوا الأرامل تغزل وما بال برهان العذار مسلّما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل وله: وإنّ ثناياه نجوم لبدره ... وهنّ لعقد الحسن فيه فرائد وكم بتجافي خصره وهو ناحل ... وكم يتحال ثغره وهو بارد وله يذمّ الحشيشة: ما للحشيشة فضل عند آكلها ... لكنّه غير مصروف إلى رشده صفراء في وجهه خضراء في فمه ... حمراء في عينه سوداء في جسده وله: بدا وجهه من فوق ذابل قدّه ... وقد لاح من سود الذوائب في جنح فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح وله من جملة أبيات: من أنت عندي والقضيب ... اللّدن في حدّ سوا هذا حرّكه الهوى ... وأنت حركت الهوى الشيخ فخر الدين أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد البعلبكي الحنبلي. شيخ دار الحديث النورية، ومشهد بن عروة، وشيخ الصدريّة، وكان يفتى ويفيد الناس مع ديانة وصلاح وعبادة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، وتوفي في رجب من هذه السنة. العلم الصاحب أحمد بن يوسف بن عبد الله بن شكر. كان من بيت علم ورئاسة، وقد درس هو في بعض المدارس، وكانت له وجاهة ورئاسة، ثم ترك ذلك كله وأقبل على صحبة الحرافشة والتشبّه بهم في اللباس والطريقة، واستعمل ماكان عندهم من الفهم في والخلاعة والمجون، وقد كان له أولاد فضلاء ينهونه عما هو فيه فلا يلتفت إليهم، ولم يزل كذلك حتى توفي ليلة الجمعة الحادى والعشرين من ربيع الآخر. وقال بمدح الحشيشة: في خمار الحشيش معنى مرامي ... يا أهيل العقول والأفهام حرموها من غير عقلٍ ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام وله: يا نفس ميلى إلى التصبىّ ... فما للهو منه الفتى يعيش ولا تملى من سكر يوم ... إن أعوز الخمر والحشيش وله: جمعة بين الحشيش والخمر ... فرحت لا أهتدي من السكر يا من يرمنى لباب مدرستى ... بربح والله غاية الأجر الشيخ الحافظ ضياء الدين محمد بن الزرزارىّ، توفي في ثامن جمادى الأولى من هذه السنة. الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل.

السنة التاسعة والثمانين بعد الستمائة

توفي يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، وصلى عليه بالجامع الأموي، ودفن من يومه بتربة جدته، وكان ناظرها، وقد سمع الحديث الكثير وكان يحب أهله، وكان فيه لطف وتواضع. الأمير عز الدين مغان أمير شكار، والأمير ركن الدين منكو برس الفارقانى استشهدا في غزوة طرابلس كما ذكرناه. قبلاى خان بن طلبون دوشى خان بن جنكزخان ملك التتار بالصين. وهو أكبر الخانات لأنه والجالس على التخت، والحاكم على كرسي جنكزخان، وكان قد طالت مدته، وامتدت مملكته، توفي في هذه السنة، وجلس بعده ولده شرمون بن قبلان خان، وكان له ثلاث أولاد وهم: نمغان وشرمون وكملك، فأما يمغان فإنه أرسله إلى بلاد الخطا لما غضب عليه عند رجوعه من كسرة قيدو منهزما، فمات ببلاد الخطا كما ذكرنا. وأما شرمون فإنه أكبر من أخيه، فأجلسوه في الملك والله أعلم. الشيخة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم الزعبي زوجة النجم إسرائيل. كانت من بيت الفقر، لها أقدم وترجمة وكلام في الحريرية وغيرهم، ماتت في هذه السنة، وحضر جنازتها خلق كثير، ودفنت بخوزستان. قد انتجز هذا الجزء المبارك على يد مؤلفة ومسطرة العبد الفقير إلى الله الغنى أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى العينى الحنفى، عامله ربّه ووالديه بلطفه الجلىّ والخفي، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، بعد طلوع الفجر الصادق، وحلول صلاة الصبح، يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عام اثنين وثلاثين وثمانمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيات، وعلى آله وصحبه وعترته وأزواجه إلى يوم الدين، وذلك في منزله بحذاء مدرسته البدرية بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر، عمّره الله بالعبادات، مع تخللاّت الحوادث والأعراض، وتجرع الغصص من أصحاب الشر والأعراض، فتسأل الله العظيم متوسّلين بنبيه الكريم أن يحرسنا من شر كل ذي شرّ وحسد، ومن عداوة كل ذي حقد ونكد، وأن يجعلهم مشغولين بأنفسهم حتى لا يشتغلون بالحط علينا، وببلوغ المنكّدات إلينا، إنه على ذلك قدير، وبدفعهم عنا هو القادر الجدير. ويتلوه الجزء الذي أوّله فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والثمانين بعد الستمائة. انتهى كلام المصنف شيخنا. وكان الفراغ من كتابة هذا الجزء في ضحوة يوم الثلاثاء السابع من شهر جمادى الأولى عام خمس وتسعين وثمانمائة على يد أفقر عبيد الله وأحوجهم إلى عفوه ورحمته ومغفرته محمد بن أحمد بن محمد بن الأنصاري الحنفي، بمنزله بباب الجوانية داخل باب النصر بالقاهرة المحروسة، حامدا لله، ومصليا على رسوله، مسلما، ومحسبلا، ومهللا، ومحوقلا. /بسم الله الرحمن الرحيم فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والثمانين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: الحاكم بأمر الله العباسي أبو العباس أحمد. وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك المنصور قلاون الألفي الصالحي. وصاحب الروم: مسعود بن السلطان عز الدين كيكاوس، وليس له إلا الاسم، والحكم فيها للتتار. وصاحب البلاد الشمالية والتي كرسيها صراى: تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان. وصاحب الصين الذي هو أكبر الخانات، والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان: شرمون بن قبلاي خان بن طلوخان بن دوشي خان بن جنكزخان. وصاحب خراسان والعراقين وما والاها من البلاد: أرغون بن أبغا بن هلاون الذي هو ملك التتار في هذه البلاد. وفي هذه السنة اتصل الخبر بالسلطان المنصور قلاون أن الفرنج الذين في عكا، قد عاثوا وأفسدوا ونهبوا إلى أن وصل إلى البلاد تجار من المسلمين ومعهم مماليك قاصدين بهم الأبواب السلطانية، فاحتاطوا عليهم وقتلوهم، وأخذوا ما معهم من المماليك والبضاعة.

ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاون

وذكر بيبرس في كتابه المسمى باللطائف: أنهم قتلوا ثلاثين نفرا، فلما سمع السلطان بذلك غضب لله ولرسوله عليه السلام، وأرسل إليهم بالإنكار واسترجاعهم عن الغدر والإضرار، فأبوا إلا التمادي والإصرار، وإبداء الأعذار بما لا يقبل. فتأهب السلطان عند ذلك لقصدهم، وتجهز للسفر وأمر العساكر بالتجهيز، وخرج من القلعة وخيم على مسجد التبر في العشر الأخير من شوال، واستخلف بالقلعة: ولده الملك الأشرف خليل، والأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وكان قد أعاد الأمير علم الشجاعي إلى الوزارة، وكان أمر أيضا لنائب الشام أن يعمل مناجيق وزردخاناه لأجل حصار عكا. وكان قد سفر بسبب ذلك الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار، وكان قد أفرج أيضا عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي في شوال، وكانت مدة اعتقاله ست سنين، ولما خرجت العساكر ولم يبق إلا الرحيل عاقه القدر عما يرومه، وأدركه أمر الله، فتوفى إلى رحمة الله تعالى. ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاون ابن عبد الله التركي الصالحي النجمي الألفي توفى في المخيم بمسجد التبر ظاهر القاهرة يوم السبت السادس من ذي العقدة من هذه السنة، وسببه أنه لما نزل موكبه بالدهليز لحقه من نهاره جريان الجوف بالإسهال، واشتد به المرض وهو بالخيام، ولم يلبث إلا خمسة أيام وتوفى إلى رحمة الله، كذا ذكره بيبرس في كتابه اللطائف. وقال النويري: ابتداء مرضه في العشر الأواخر من شوال بعد نزوله في الدهليز في المكان المذكور، وتزايد به المرض حتى توفى في التاريخ المذكور. وقال غيره: وجد السلطان في جسده توعكا ليلة نزوله من القلعة، ودخل الأمراء عليه، فدعوا له، وتزايد به الألم، وصار ولده الأشرف كل يوم ينزل من القلعة فيقيم عنده إلى ما بعد العصر، ثم يرجع ويبيت في القلعة، فبقى على ذلك من العشر الأخير من شوال إلى العشر الأول من ذي القعدة وألمه يتزايد، وكان الأمراء يدخلون عليه، ويقعدون عنده فلما زاد ألمه منع الأمير طرنطاى - أتابك العساكر - الأمراء من الدخول عليه، فصار يدخل عليه بمفرده ويخرج بالسلام للأمراء، فلما قوى به المرض اجتمع كبار مماليكه الأمراء مثل كتبغا وأيبك الخازندار وغيرهما عند الأمير طرنطاى، وأفاضوا بينهم الأمر والرأي وقالوا لطرنطاى: أنت تعلم أمرك مع الأشرف، وبغضه فيك، والأمر صائر إليه، والسلطان ما بقى فيه رجوة، وتعلم أيضا ما بينك وبين الشجاعي من البغضاء، وهو قاتلك بلا محالة وينجر الأمر إلينا، وما يخلى منا أحدا، فخذ لنفسك قبل استحكام الأمر، فسكت ساعة، وقال: والله العظيم لا يسمع أني خنت أستاذي، ولا ولده من بعده، ولا عملت فتنة بين المسلمين، وإذا صار الأمر إليه، فإن رضينى كنت مملوكه، وإن قتلني كنت مظلوما، وكان مقضى كائن. وكان طرنطاى قد عرف الجمدارية الذين حول السلطان أنه إذا عرض عليه عارض يعرفوه. فلما تزايد به المرض، وظهر منه ما يدل على الموت يدخل إليه، فأعلموه بذلك، فدخل عليه، فوجده في النزع، فقعد عند رأسه حتى توفى إلى رحمة الله، وغمضه، وقصد المماليك أن يصيحوا ويبكوا، فمنعهم من ذلك، وقال لهم: اكتموا أمره. وقعد على عادته بباب الدهليز، وحضر الأمراء فأعطاهم دستورا، وأسر لسنقر الأشقر بالجلوس بمفرده، فلما ذهب الأمراء أخبره بموت السلطان، واستشاره فيما يفعله. فقال له: مهما اخترت تعمل فنحن بين يديك، فقال له: قم إلى خيمتك، والمقضى كائن. فما تضاحى النهار حتى وقع الصوت بين الخيم بموت السلطان، وذلك يوم السبت السادس من ذي القعدة. وعند ذلك ركب طرنطاى، وطلب الحجاب، وأمرهم أن يعرفوا الأمراء أن يركب كل أمير ويقف مكانه، ولا يتعداه حفظا لأحوالهم، ثم طلب الطواشى مرشد، مقدم المماليك السلطانية، ورسم له أن يركب وصحبته المماليك السلطانية، وأن يكونوا مع ولد السلطان بالقلعة. فركب الطواشى، وركبت المماليك معه، وتوجهوا إلى القلعة، فوافوا الأشرف خليل وهو نازل من القلعة، وعرفه الطواشى بموت السلطان، فرجع إلى القلعة. وأقام الأمير طرنطاى هناك إلى المغرب، حتى شالوا الخزانة، والأطلاب جميعها وأرسلهم إلى القلعة، ثم حمل السلطان في تابوت إلى أن أدخل القلعة، وظل بالقصر في قاعته الكبرى حتى غسل ودفن بتربته ببين القصرين.

ذكر الأمراء الذين كان إليهم الأمر بالديار المصرية

ودفن بتربته يوم العاشر من ذي القعدة بمدرسته المذكورة التي ليس بمصر ولا الشام شبيها لها، فإنها تربة ودار حديث ومارستان وقبة ومدرسة للمذاهب الأربعة - كما ذكرنا. كان جلوسه على التخت يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، فيكون له في ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيام، وخلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم: الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والملك الناصر محمد، وأحمد ولد بعد موته ومات في دولة أخيه الأشرف. ومن الإناث بنتين اسم إحديهما: التطمش وتعرف بدار مختار، وأختها دار عنبر. وكان وسيما جسيما، حسنا قيما، تاما، نبيلا، حليما، جميلا، من أحسن الناس صورة وأكثرهم هيبة، تعلوه جلالة وحشمة ووقار، وعليه مهابة وحرمة. وأما جنسه فهو من خالصة القفجاق من القبيلة المعروفة ببرج أغلى. وكان قد اشترى مماليكا كثيرة حتى بلغت عدتهم إثنى عشرة ألفا، وقيل سبعة آلاف وهو الأصح، وكان قد أمر منهم ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك من الجراكسة، وأسكنهم في أبراج القلعة وسماهم البرجية، وأقام نوابه في البلدان من مماليكه الذين أمرهم، وهم الذين غيروا ملابس الأمراء الماضية، ولبسوا أحسن الملابس، لأن في الدولة الصلاحية كانوا يلبسون كلوتات صفرا مضربة بكلبندات بغير شاشات؛ وشعورهم مضفورة دبابيق في أكياس حرير ملون أصفر وأحمر، وكان في خواصرهم بنود ملونة، أو بعلبكية عوض الحوائص، وأكمام أقبيتهم ضيقة على زي ملابس الفرنج، وأخفافهم برغالى أو سقامين، ومن فوق قماشهم كمرات بحلق وإبزيم، وصوالقهم كبار، يتسع كل صولق نصف ويبة أو أكثر، ومنديلهم كبار طوله ثلاثة أذرع، فأبطل المنصور ذلك كله بأحسن منه. وكان الخلع للأمراء المقدمين الأكابر خاصة، فخصص السلطان الملك المنصور من الأمراء بلبس طرد وحش، وهم خشداشيته أربعة أنفس، وهم: سنقر الأشقر، وبيسرى، والأيدمرى، والأفرم، وباقي الأمراء الخاصكية، والبرانيين بلبس المروزى، والطبلخانات بالملون، والعشرات بلبس العتابى. وكان يباشر أحوال مماليكه بنفسه حتى أنه كان في غير يوم الخدمة يوضع له كرسي ويخرج أهل كل طبقة إلى الرحبة فيلعبون بالرمح، ولهم معلمون، ثم إذا فرغوا من ذلك يتصارعون إلى الظهر، فإذا صلوا الظهر نزلوا مع الخادم لرمي النشاب، وهذا كان دأبهم دائما، ورزق فيهم السعادة بحسن نيته وحسن تدبيره ورأيه، فلذلك لم تزل السلطنة إلى يومنا هذا في بيته وحاشيته. وله من الفتوحات من القلاع التي بيد الإفرنج: المرقب، وجبلة، واللاذقية، وطرابلس، وأخذ من أولاد الظاهر: الكرك، والشوبك. وأبطل مظالم كثيرة منها: زكاة الدولة، كانت تؤخذ من كل من كان عرف عنده مال الزكاة، ولو هلك ماله، أو مات، تؤخذ من ورثته بالضرب والحبس. ومنها ما كان يؤخذ من أهل الذمة عن كل واحد دينار - غير الجالية - برسم نفقات الجند، فأبطله. ومنها ما كان يؤخذ من التجار عند سفر العسكر للغزاة عن كل تاجر دينار، فأبطله. ومنها ما كان يجبى من الناس على قدر معايشهم إذا حضر مبشر بأخذ حصن أو بنصرة المسلمين، فأبطله. ورثاه جماعة من الشعراء، فقال بعضهم أبياتا يرثيه بصدورها ويهنئ ولده الأشرف بأعجازها: إن أوجع الدهر القلوب وأحزنا ... فلقد تدارك بالمسرة والهنا خطبٌ عظيمٌ جاءنا من بعده ... فرحٌ أزال صباحه ظلم العنا بمنية المنصور شاهدنا الردى ... لكن شهدنا في ابنه كل المنى فلئن أساء الدهر فيه فإنه ... بالأشرف الملك المؤيد أحسنا يا راحلاً أبكى العيون تركت من ... ملأ القلوب مسرةً والأعينا أحسنت ثم تركت فينا محسناً ... فجزيت خيرا غاب شخصك أم دنا يا سيف دين الله إن فلتك عن ... بعض المراد كؤوس حين تحننا أبشر فقد خلقت بعدك صارماً ... ما أنفل عن نيل المراد ولا انثنى وانعم بمقعدك الكريم فملك من ... خلفته أبداً يزيد تمكنا ذكر الأمراء الذين كان إليهم الأمر بالديار المصرية الأمير حسام الدين طرنطاى نائب السلطنة، وأتابك العساكر. والأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة في الغيبة، وهو أيضا نظير طرنطاى في العظمة.

ذكر سلطنة الأشرف خليل ابن المنصور قلاون

والأمير علم الدين الشجاعي، متولى الوزارة. والأمير بدر الدين بيدرا، أستاذ الدار العالية. والأمير عز الدين أيبك الخزندار، مرتب في منصبه أمير جاندار. وأما الأمراء الذين يلون المماليك الشامية: فالأمير حسام الدين لاجين السلحدار، نائب دمشق وأعمالها. والأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار نائب حلب بأعمالها. والأمير سيف الدين بلبان السلحدار، نائب السلطنة بالحصون الساحلية. والأمير حسام الدين بلبان الجوكندار، نائب صفد بأعمالها. والأمير بدر الدين كيكلدي المنصوري، نائب حمص بأعمالها. والأمير علاء الدين كشتغدى المنصوري، نائب الشوبك بأعمالها. والأمير بيبرس الدوادار، نائب الكرك بأعمالها. والأمير شمس الدين آقسنقر كرتيه، نائب غزة ورملة بأعمالها. والأمير علم الدين سنجر أرجواش، نائب قلعة دمشق. ذكر سلطنة الأشرف خليل ابن المنصور قلاون لما توفى المنصور بالوطاق كما ذكرنا، وقف الأمير حسام الدين طرنطاى المنصوري بنفسه، فنقله إلى القلعة والخزائن معه بسرعة، وأمر الولاة والنواب بحفظ الشوارع والأبواب، ونادى مناديه بأن من تفوه بما لا يعنيه حل به ما لا يرضيه، وأصبح الملك الأشرف متحكما مستقلا، لم يختلف فيه اثنان، ولا تحركت شفة ولا لسان، وكان والده - رحمه الله - لما احتضر استدعاء إلى الوطاق، واستدناه وهو في السباق، وأوصاه بأن يحفظ مماليكه ويحافظ عليهم، ويبالغ في الإحسان إليهم، ويستمر بهم على إقطاعاتهم ووظائفهم بمصر والشام، ويهتم بمصالحهم كل الاهتمام. وكان مماليك والده لهم العمال والنواب بالأعمال، فأطاعوه جميعا، فكانوا دعائم بنيانه، وقواعد أركانه. وكان جلوسه في السلطنة سابع ذي القعدة من هذه السنة، وكان صبيحة وفاة والده يوم الأحد، ودخلت عليه الأمراء، وقبلوا الأرض بين يديه، ثم استحلفهم جميعا، ووقف الأمير حسام الدين طرنطاى مع الأمراء، فطلبه وقربه، وطيب خاطره، واستقربه على نيابته، وخلع عليه، وخلع على الشجاعي وولاه الوزارة. وقيل: إن الشجاعى تولى الوزارة في سابع عشر ذي الحجة. وأرسل البرد إلى البلاد والأقاليم بوفاة والده، واستقراره في دست المملكة، وخلع على سائر الأمراء والمقدمين وأعيان الدولة، وركب بشعار السلطنة يوم الجمعة الثاني عشر من ذي القعدة، والعساكر في خدمته، من القلعة إلى الميدان الأسود، ثم طلع إلى تخته مسرورا. ثم أرسل وراء الخليفة الحاكم، وأرسل له مركوبا وخلعة، فلبس وركب المركوب من موضعه، وكان ساكنا في البرج، ومشى الأمراء والقضاة في خدمته، إلى باب الجامع، واجتمع بالسلطان، وكان الأمير بيدرا والشجاعي تلقياه من باب الجامع، ودخل في محفل عظيم إلى المقصورة عند السلطان، فنهض إليه وعانقه، وأجلسه إلى جانبه، واشتغل به إلى أن استحقت الخطبة، فسأله أن يصعد المنبر ويخطب، فما أمكنه المخالفة، وصعد المنبر، واستفتح الخطبة، فقال: الحمد لله الذي أقام لآل عباس ملكاً ظهيرا، وجعل لهم سلطانا نصيرا، واختصر في الخطبة، ودعى للسلطان والمسلمين، وعند نزوله امتنع أن يصلي إماما، فصلى الخطيب، ولما فرغوا من الصلاة أخذ السلطان بيده وأكرمه، ورسم أن يخلى له مكان بالكبش يسكن فيه هو وعائلته، وأطلق له رواتب كثيرة، وكان يوما مشهودا.

ذكر القبض على الأمير حسام الدين طرنطاي

ولما كانت الجمعة الثانية، ركب إلى القلعة، وجلس مع السلطان في المقصورة إلى وقت الخطبة، فصعد المنبر وخطب، فقال: الحمد لله الذي جعل من لدنا سلطانا نصيرا، وكان فضل الله به على الإمامة فضلا كبيرا، سبب أسباب النصر والظفر، وقرب أمر الفتوحات بخير زمان كان ينظر؛ والصلاة على سيدنا محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه صلاة متوالية في العشيات والبكر، اعلموا وفقكم الله يا أنجاد الإسلام وحماته، ويا شجعانه وكماته، إن الله سهل لكم نصرا عزيزا فانتهزوا فرصه، واجعلوا في أيام هذا السلطان بشارة تقص على البلاد والعباد أحسن قصصه، واخلصوا النيات في الجهاد، وتعاونوا على ميعاد الظفر بالوفاء، " إن الله لا يخلف الميعاد "، اللهم أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي وعلى والدي، وأجب اللهم دعائي في المحسن للإسلام وإلي، وهو السلطان الملك الأشرف الذي سخرت له تأثيرات الفلك، فاجعله اللهم مالكا حيث ما سلك، وامنحه بنصرك إياه تفتح عليه ممالك الأرض وأبوابها، واجعل دار الإسلام دار السلام ومنابر الخلافة بها، وانصر اللهم جنده، وانجز له وعده، وارض عن والده السلطان الأجل الملك المنصور الذي جاهد في الكفار جهده، وجعل الملائكة الكرام في تأييده جنده، ثم دعى للسلطان وللمسلمين، ونزل وأم بالناس وصلى. ذكر القبض على الأمير حسام الدين طرنطاي لما استقر الملك الأشرف في السلطنة، وقف الأمير حسام الدين بين يديه معتقدا أنه يعتمد عليه، ويفوض الأمور - كما كانت في حياة والده - إليه، وكان خاطر السلطان منه أثرة عظيمة قديمة من زمن والده، وكان يتوهم فيه أنه يمنعه أكثر مقاصده، مع ما يتفوه به الوشاة، وكان الشجاعي أيضا يكرهه لما جرى عليه بسفارته من العزل الذي ذكرناه، واتفق مع ذلك نفار الخاصكية منه، فرأوا السلطان نافرا من جهته، فحسنوا له القبض عليه. فلما كان يوم الجمعة الثاني عشر من ذي القعدة استدعاه السلطان إلى بين يديه، فدخل آمنا مطمئنا لا يخشى ريب الزمان ولا يتوقى طارق الحدثان، قائلا في نفسه: إنه نظام الملك وقوامه، وبيده تدبيره وزمامه، ولم يدر بما كنت له النائبات، ونصبت له من أشراكها الحادثات، فلما مثل بين يديه، وضعت الأيدي عليه. وحمل إلى الاعتقال على أسوء الأحوال، فكان كما قيل في قول الشاعر: حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتى به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر وندب الشجاعي للحوطة على أمواله وذخائره. وحكى الأمير نجم الدين أبو المعالي: أن الحوطة لما وقعت على دار طرنطاى عند مسكه أخرج من بيته ستمائة ألف دينار عين، ومائة وسبعون قنطارا فضةً، وأما الأواني الفضية، والكفت، والخيل، والبغال، والهجن، والجمال، والأبقار، والحواصل، فهي أكثر من أن تذكر، ومن الغلال مائتا ألف أردب، ومن القماش شيء كثير من جملته: أربعمائة وعشرون ثوبا أطلس، منها: أطلس أحمر متدلى مائة وثمانون ثوبا، ومنها: أطلس أصفر مائتان وستون ثوباً، قيمة كل ثوب ألف وخمسمائة، وألف وسبعمائة، ومن أصناف السلاح: ثلاثمائة وتسعون قرقلا، ومائة وثمانون جوشنا مسقطا، وأربعمائة وستون بركستوانا، ومائتان وستون طارقة مسقطة، وثلاثمائة سيف، وألف وستمائة صندوق من النشاب، ومن المواشي: أربعة آلاف رأس من الغنم، وألف وثمانمائة رأس من البقر في الدواليب والزروعات، ووجد له أربعمائة وثمانون مملوكا، فأدخل الجميع في بيت السلطان وتأمر منهم جماعة وكانوا يعرفون بالحسامية. ويقال: لما رسم السلطان للشجاعي بأن ينزل ويحتاط على بيت طرنطاى وموجوده، فنزل وهو فرحان بما ساعده الزمان، وناهيك من عدو أمكنه الظفر وحكمه القضاء والقدر، فأظهر في عدوه العبر، وأخذ صحبته شهود بيت المال، وأوقع الحوطة على سائر حواصله، وقبض على مماليكه، ورسم على مباشريه، وكتب الكتب لسائر البلاد بالحوطة على موجوده، وأخرج سائر خزائنه وخدامه وجواريه، فأحضر لهم المعاصير، وجعل يقررهم على موجوده وأمواله، فصار الشجاعي ينزل كل يوم إلى بيت طرنطاى ويستعرض حاشيته ويعاقبهم، فأخرج ما ذكرنا من الأموال. وذكر في نزهة الناظر في دولتي المنصور والناصر:

ذكر وقعة ابن قرمان

كان السبب لمسك طرنطاى حقائد كانت في النفوس كامنة، قدحتها زناد الاقتدار، وضغائن طويت أحشاؤها على غلل، فحين ملكت تملكت لطلب الثأر، وقد تقدم ذكر ما كان طرنطاى عليه من الحرمة والتمكن من أستاذه ونفاذ أمره إلى وفاة المنصور، ولما تملك ابنه بعده أخذ في التدبير عليه وعلى حاشيته، فطلب الشجاعي وبيدرا والخاصكية، وبسط معهم من أمره، وكانوا يعلمون أن طرنطاى إذا استمر بالحكم ما كان يدع لأحد منهم كلمةً، فاتفقوا على القبض عليه وعلى من يلوذ به. وعلم كتبغا والأمراء المتعصبين لطرنطاى الأمر، فاختلوا به، وعرفوه أن العمل عليه، واستنهضوه على أنه يفعل أمرا، وهم موافقون عليه، فكان جوابه لهم: والله أنا أعلم أنه يفعل معي كل سوء، وما أنا موثوق به أغبر، ولكن قيامي في حق نفسي بفساد جماعة كثيرة، وسفك دماء، وقلة وفاء، ولا يرجع يشتمل الملك لأحد إلا بعد فساد كثير، والله لا أفعل شيئا مما يعيبه الناس علي، فأكسب خطبة، فإن كان لي عمر في التقدير فلا يقدر أحد ينقصه، وإن كان الأجل قد حضر والسعادة قد فرغت، فلله الأمر، فعند ذلك علموا أنه لا يفعل شيئا. وبقى الأشرف كلما دخل طرنطاى إليه يقربه ويكرمه ويتحدث معه في أمور النواب والعسكر، ويعد له مواعيد حسنةً، وطرنطاى يفهم من ذلك المقصود ويجيبه بما في نفسه، كما قيل: يخفى العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح وبقى الحال إلى يوم السبت، فطلبه إليه، وقد رتب للقبض عليه الأمراء، فعندما حضر شرع السلطان يذكر إساءته إليه، ويعددها عليه، فنظر إليه وقال: يا خوند، هذا جميعه قد علمته منك، وقدمت الموت بين يدي، ولكن والله لتندمن بعدي، وما فرغ من الكلام حتى أخذه اللكم من كل جانب، وأخذوا سيفه. قال صاحب التاريخ: وبلغني أن بعض الخاصكية قلع عينه في ساعته، وما أمسى المساء حتى توفى إلى رحمة الله تعالى مقتولا. وقيل: بل عاقبه إلى أن مات في ثامن عشر ذي القعدة وأقام ميتا ثلاثة أيام، ثم أخرجوه على جنوية إلى تربة الشيخ أبي مسعود، فغسله وكفنه الشيخ عمر خادم الزاوية من عنده، ودفنه قبلى الزاوية إلى أن ملك كتبغا، فأمر بنقله إلى تربته. ولما قبض السلطان على طرنطاى قبض أيضا على زين الدين كتبغا بعده، وعلى سنقر الطويل وإلى باب القلعة، وطلب أبا خرص، فوجده قد سافر إلى الحجاز، وكان من المقربين لطرنطاى، وكان علم أن الأشرف ما يبقيه ولا يبقى حاشيته، فطلب دستورا إلى الحجاز وسأل أن يجهز نفسه من الشام، فرسم له بذلك وسافر من يومه، وطلب أيضا أمير علي بن قرمان فلم يوجد. ثم سكن الأمير بيدرا في دار النيابة على عادة النواب، لأن الأشرف فوض إليه النيابة، وأخذ إقطاع طرنطاى وعدته، وما كان له من المشتروات والحمامات بنواحي الأعمال. وفوض الوزارة إلى شخص يسمى محمد بن السلعوس. ولما سكن بيدرا دار النيابة قال الشاعر: كأنها بعدهم ليل بلا قمرٍ ... ونعمة حكمت فيها أعاديها قال صاحب التاريخ: أخبرني بعض شهود الخزانة أنهم وجدوا في بيت طرنطاى فسقية صغيرة فيها ذهب، وورقة مكتوب فيها أخذها الشجاعي ودخل بها إلى السلطان، فكانت مائة ألف وعشرين ألف دينار، وهذا خارج عما ذكرنا من الحواصل، ووجد له من الغلال بمصر والشام مائتا ألف أردب وستة آلاف أردب، وكانت عبرة إقطاعه في ديوان الجيش أربعين ألف دينار، وكان أكبر متحصله من الدواليب والزراعات وأصناف المتجر. ذكر وقعة ابن قرمان قد ذكرنا أن السلطان طلب أمير علي بن قرمان بعد مسكه طرنطاى فلم يوجد، وكان لما علم بالقبض على طرنطاى شد تركاشه في وسطه، وركب حصانا من خيله، وكان يدخره لأمر يجرى عليه، ومازال يضمره، فركب وأخذ معه مملوكا كان يعتمد عليه، فخرج من المدينة، وكان مشهورا بالفروسية ورمي النشاب ولا يكاد سهمه يخطئ.

ذكر بقية ما جرى من الحوادث في هذه السنة

ولما أعلموا السلطان بهروبه أرسل وراءه سيف الدين منكلى، والأمير سيف الدين طقصو، ومعهما جماعة، فأوحى إليهم أن يروحوا وراءه حيث كان ولا يدعوه، فركبوا الهجن وساقوا وراءه، ولحقوه وقد طلعت الشمس، وصار في أرض العايد، فلما رآهم وقف ووقفوا له مقابلة، وسيروا إليه وعرفوه بما أمر السلطان، فقال: لا سبيل إلى تسليم نفسي إلا بالموت، فحمل عليه مملوك من مماليك الأمير منكلى، فقصد فرسه بالرمى فقتله، فحمل عليه الأمير طقصو من الجانب الآخر. فقال له: أيها الأمير أنتم مجاهدون، ولا تعرضوا أنفسكم للموت، فما منكم أحد وهو يعرف نشابى، وها أنا قاتل فرسك فلا تطمع، ثم رماه في صدر فرسه، فانقلب طقصو من الفرس، واشتغلوا بإركابه، فغاب عنهم في البر، فقصروا بعد ذلك من طلبه، وقالوا: عرب الشرقية ما يمكنونه من الرواح لأن السلطان كاتب إليهم بسببه. وأما ابن قرمان فإنه وصل إلى بيت الأمير غرارة أمير العايد، وكان هو من أصحاب الناس لابن قرمان، ولما رآه غرارة خرج إليه وتلقاه وأنزله في بيت، وظن أنه أتى على عادته للصيد، وكان أكثر صيده في أرضه، فقال له: وأين صبيانك يا أمير؟ فقال: الآن يحضرون، فقم وعجل لهم بالطعام، فقام غرارة وذبح رأسي غنم، واتكأ ابن قرمان على فخذ مملوكه، وكان قد أضر به السهر وما نام إلا ساعة لطيفةً، ثم استيقظ والرعب في نفسه لما يعلم من الطلب خلفه، فصاح على غرارة أن عجل بالأكل، فقال: كما ركبنا القدر فما العجلة بالركوب؟ فقال: لا سبيل إلى القعود، وصاح على العبد الذي كان يسير فرسه أن يحضر به وغرارة قام يستعجل الغذاء، فلما رأى العبد يأتي بالفرس أشار إليه بكمه أن ارجع حتى يتغدى الأمير، فخيل لابن قرمان أن أمر السلطنة وصل إليه، وأنه أمر بالقبض عليه، وإن منعه الفرس بسبب ذلك فمد يده إلى قوسه وأخذ فردة نشاب وضرب بها غرارة وهو مولى، فوقع السهم في ظهره وخرج من صدره، فوقع على الأرض، ووقع الصياح في البيوت، وصاح العبد، فأتت العرب من كل جانب. ورأى ابن قرمان أنه مأخوذ، فقال لمملوكه: دعنا نموت ولا نسلم أنفسنا لهؤلاء، فيدخلون بنا إلى السلطان، فموتنا ههنا أحب من الشماتة بنا، ثم نهض إلى رابية هناك، فتكاثرت العرب عليه، فقاسوا منه مشقةً عظيمة، وجرحت منهم جماعة، وقتل منهم نحو أحد عشر نفسا، فرجعوا عنه، وضربوا عليه يزكا إلى وقت الليل، فهجموا عليه من سائر الجوانب، وقد ضعف من التعب والجوع وفرغ نشابه، فتمكنوا منه فقتلوه ومملوكه معه، وقطعوا رأسه وأخذته أخوة غرارة، فأتوا به إلى السلطان وأخبروه جميع ما وقع من أمره، فأنكر السلطان عليهم قتله، وقال: لم ما أحضرتموه بالحياة؟ وعرفوه أنهم عجزوا عن ذلك. واعتقد الناس بأجمعهم أن غرارة قصد الغدر بنزيله حيث التجأ إليه، وكان الأمر بخلاف ذلك، فهذه واقعة ظاهرة للناس خيانة، وباطنها صدق وأمانة، ولما بلغ خبر هذه الواقعة إلى عرب الشام من آل مهنى وغيرهم عيبوا على عرب مصر بما وقع منهم إلى أن اتفق في الشام أخت هذه الواقعة بعينها، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. ذكر بقية ما جرى من الحوادث في هذه السنة منها أن الأشرف فوض إلى الأمير بيدرا نيابة السلطنة، كما ذكرنا. وفي نزهة الناظر: أن القاضي مجد الدين بن الخطاب دخل على بيدرا في خلوته وهنأه بالوظيفة، فنظر إليه بيدرا طويلا وقال: يا مجد الدين تهنيني بأمر أنا أخشى عقباه، ثم أنشد: ومن يحمد الدنيا بشيء يسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثير همومها ثم دمعت عيناه ساعةً. ومنها: أن السلطان رسم للصاحب تقي الدين بوزارة الشام، فوصل دمشق في الخامس والعشرين من المحرم من سنة تسعين، واحتاط على موجود الأمير شمس الدين سنقر الأعسر شاد الشام، وكان السلطان قد أحضره إلى مصر في ذي الحجة من هذه السنة، وضربه وصادره، وبقى تحت الترسيم إلى أن حضر ابن السلعوس من الحجاز. وكان شمس الدين بن السلعوس قد حج في هذه السنة، ولما تسلطن الأشرف أرسل إليه نجابا وكتب معه كتابا بخط يده يقول فيه: يا شقير عجل السير، فقد جاء الخير، فاستحثه على حضوره ليوليه الوزارة، وكان خصيصا به من أيام والده المنصور.

ثم ولى السلطان في شد الدواوين بالشام الأمير سيف الدين طوغان المنصوري. ومنها أن السلطان أمر جماعة من الخاصكية يوم الأحد الحادي عشر منذ ي القعدة، منهم: طقجى، وبلرغى، وعمر. ومنها: أنه أفرج عن جماعة محبوسين من أيام والده، منهم: ابن الملك المغيث، وكان قد حبس في سنة تسع وستين، وكان له في الحبس نحو من عشرين سنةً، وكان لهم خادم يسمى بلال المغيثى في خدمة السلطان، وهو الذي ذكره به، فسأل السلطان عن الشجاعي ما سبب حبسه هذه المدة وما كان ذنبه؟ فقال: ليس له ذنب، وإنما حبس لكونه ابن ملك، وله حاشية، فخشى من أمره بسبب ذلك، فتبسم الأشرف وأمر بإحضاره، فلما رآه وجده شكلاً حسناً، وقال للطواشى: خذ ابن أستاذك وأنزل به إلى أهله ولا تخله يجتمع بأحد. ثم سأل من بقى في الحبس، فقيل الأمير علم الدين سنجر الحلبي والأمام الحاكم بأمر الله، فرسم بالإفراج عن الحلبي. ولما حضر بين يديه رآه شكلاً غريباً في الطول والعرض، ولوائح الشجاعة عليه، فسأل الشجاعي ما سبب حبسه؟ فقال: إن السلطان لشهيد كان يخشى أمره لما فيه من الشجاعة والإقدام في الوقائع والحروب، فتوهم منه أن يجمع عليه أمراء وحاشية ويطمع في الملك، فحبسه، وكان حبسه في سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فأقبل إليه السلطان وطيب خاطره، وخلع عليه، ورسم له بتقدمة ألف على عادته. ثم في يوم الجمعة طلب النائب والشجاعي، واستشارهما في إخراج الإمام الحاكم من الكرب الذي هو فيه، فأشارا عليه بذلك، فأخرجه قبل الصلاة وسير له مركوبا، فركب في القلعة والأمراء والقضاة بين يديه إلى أن اجتمع بالصلاة في المقصورة، ثم أشار إليه السلطان بأن يصعد على المنبر، فكان من أمره ما ذكرناه في هذا الفصل. ومن المحبوسين الأمير زين الدين كتبغا، وقد ذكرنا أن الأشرف كان حبسه، فشفع فيه بيدرا والشجاعي، فأطلق. وكذلك رسم بالإفراج عن الأمير سيف الدين جرمك الناصري. ومنها: أن السلطان ولى خطابة جامع دمشق للشيخ زين الدين عمر بن المرحل وكيل بيت المال، عوضا عن جمال الدين عبد الكافي، وولى نظر الجامع للشيخ وجيه الدين بن المنجى، عوضا عن ناصر الدين بن المقدسى، فباشره وأثمر وقفه، واشترى له ثلث قرية المنيحة بمائة وخمسين ألف درهم. وفي ذي الحجة: أرسل تقليدا لنائب الشام باستمراره على ما كان عليه، وزاده قرية حرستا. ومنها: أنه احترقت دار صاحب حماة، وذلك أنه وقعت فيها نار في غيبته فلم يتجاسر أحد يدخلها، فعملت النار فيها يومين، فاحترق كل ما فيها، وكان صاحب حماة في الصيد. وذكر الشيخ شمس الدين الحريري في تاريخه: أن في شعبان من هذه السنة اشتد الحر بحماة حتى شوى اللحم على بلاط الجامع. ومنها: أن الإفرنج أخذت جزيرة جربة من صاحب تونس من عمل ملوتة، وثارت الفرنج أيضا بعكا، وقتلوا جماعة من المسلمين كانوا قدموا للمتجر، وكان ذلك من أقوى الأسباب في فتحها وقتل أهلها. ومنها: أنه خالف على أبي يعقوب المرينى عامله على مراكش وكان يقال له أبي عطو، وكاتب ولده أبا عامر عبد الله يستدعيه ليسلم إليه المدينة، فسار إليه أبو عامر، فانحاز إليه أهل مراكش، وأهل السوس الأقصى، وأهل الجبال والعربان، وتسلل إليه جماعة من بني مرين، فقويت شوكته، وجاهر أباه بالمخالفة والمشاققة، فسار إليه أبوه بنفسه، وكان بينهما واد يسمى وادي أم الربيع، والوقت شتاء فعبر النهر المذكور بنفسه بمن معه، ولقيه ولده فيمن انضم إليه من مراكش، وكانت الكسرة على الولد أبي عامر، وقتل خلق كثير ممن كان معه، وانتهت به الهزيمة إلى جبال سكسيرة، فأقام بها أياما، ثم ضاق به الحال ورأى أن لا مناص له من يد والده، فاستشفع إليه بجماعة من الصالحين، وهبط إليه، فأمر ولده عبد الرحمن، وهو ولي عهده - فقبض عليه وعلى من معه، فأما هو فأطلقه، وأما الذين كانوا معه فقتلهم جميعا. وفيها عاد أبو عامر إلى العصيان على أبيه وانهزم من بين يديه طالبا بلاد المغرب، ونزل على موالي لبنى عبد الواد مقيمين بالقبلة. وفيها: كان النيل خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا، وتوقف بعده توقفا كثيرا، وخشى من نزوله، وشرقت بلاد كثيرة وتحسن سعر الغلة، ثم لطف الله وعاد الرخص. وفيها: حج بالناس من دمشق الأمير بدر الدين بكتاش الزومانتى، ومن الديار المصرية الأمير علم الدين سنجر الباشقردي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ذكر من توفي فيها من الأعيان الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي الشافعي، المدرس بالمدرسة الظاهرية بدمشق. ذكر الدرس بها في الرابع من محرم هذه السنة، ثم دخل إلى مسكنه، فدخل عليه شخصان ممن يلوذون به، فخنقاه لأجل ماله - وعرفا بعد ذلك - وصلى عليه بالجامع الأموي، ودفن بمقابر الصوفية. ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وقد جاوز التسعين، وكان من أفراد الزمان في سائر العلوم من الفقه، والأصلين، والنحو، وعلمي المعاني والبيان، وحل الترجمة، والكتابة والإنشاء، ونظم الشعر، وعلم الفلك، وضرب الرمل، والحساب، وغير ذلك. ومن شعره ما ذكره الشيخ علم الدين البرزالي قال: أنشدني الشيخ رشيد الدين لنفسه. مر النسيم على الروض الوسيم فما ... شككت أن سليمى حلت السلما ولاح برق على أعلى الثنية لي ... فقلت برق الثنايا لاح وابتسما مثنى الحبيبة رواك السحاب فكم ... ظمئت فيك وكم رويت فيك ظما به رأيت الهوى حلوا ومنزلنا ... للسهو خلواً وذاك الشمل ملتما والدار دانيةٌ والدهر في شغلٍ ... عما نريد وفي طرف الرقيب عمىً والشمس تطلع من ثغر وتغرب في ... ثغرٍ وتجلو سنا أنوارها الظلما وظبية من ظباء الإنس ما اقتنصت ... ولا استباح لها طرف الزمان حما وجفنها فيه خمرٌ وهو منكسرٌ ... والخمر في القدح المكسور ما علما وثغرها يجعل المنظوم منتثرا ... من اللآلى والمنثور منتظما تبسمت فبكت عيني وساعدها ... قلبي ولولا لما الثغر البسيم لما ولفظها فيه ترخيمٌ فلو نطقت ... يوماً لا عصم وافاها وما اعتصما ولح لاح عليها قلت لا تكن لي ... ... ... ... تعذيبها لي عذب والشفاه شفا ... تجنى وأجنى ولا يبقى اللما الما خود تجمع فيها كلٌّ مفترق ... من المعاني التي تستغرق الكلما عطت غزالا سطت ليثا خطت غصنا ... لاحت هلالا هدت نجما بدت صما لما سرت أسرت ... ... ... ... ... ... ... وصار مربعها قلبي ومربعها ... ... ... ... ... ولم أكن راضيا منها بطيف كرى ... فاليوم من لي ... ... ... ... ... الخطيب جمال الدين أبو محمد عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي، خطيب جامع دمشق. توفى بدار الخطابة بعد أن صلى الصبح، وصلى عليه الشيخ برهان الدين السكندري، وحمل نعشه على رؤوس الأصابع، وامتد الناس إلى الصالحية، ودفن برباط الشيخ يوسف الفقاعي، وباتت عنده الجهات، وأقام الناس عنده أياما ولياليا، ومولده في شعبان سنة اثنتى عشرة وستمائة، وكان موته سلخ جمادى الأولى من هذه السنة. الشيخ الزاهد العابد العالم أبو طاهر فخر الدين إسماعيل بن عز القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن. توفى في العشرين من رمضان، ودفن بقاسيون بتربة بني الزكى. محبة في محي الدين بن عربي، فإنه كان يكتب من كلامه كل يوم ورقتين، ومن الحديث ورقتين. وكان من الصالحين الكبار المعرضين عن متاع الدنيا. قال الشيخ علم الدين البرزالي: رأيت له المنامات الصالحة، فمن ذلك أنه رآه وهو يقول: أن الله تعالى لما فرغتم من غسلي غسلني بيده بالماء والثلج والبرد، ورآه أيضا وهو يقول: إن الله عز وجل إذا توفى رجلا صالحا أمر بضرب نوبة له في السماء، فقال له الرائي: يا سيدي أنت أيضا، فتبسم. وله نظم كثير، فمن ذلك قوله: والنهر قد جن بالغصون هوى ... فراح في سره يمثلها فغار منه النسيم عاشقها ... فجاء عن وصله يميلها وله: لم أنت في حق الصديق مفرط ... ترضى بلا سبب عليه وتسخط يا من تلون في الوداد أما ترى ... ورق الغصون إذا تلون يسقط وله: وملتثم بالشعر من فوق ثغره ... غدا قائلا شبهه بي بحياتي

السنة التسعين بعد الستمائة

فقلت سترت الصبح بالليل قال لا ... ولكن سترت الدر بالظلمات قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن شمس الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي عمر محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي. توفى في الثاني عشر من جمادى الأولى منها، وحضر جنازته الناس، ونائب السلطنة، ودفن بقاسيون، وله من العمر أربعون سنة سواء. وكان فاضلا، بارعا، خطيبا، مدرس أكثر المدارس، شيخ الحنابلة، وابن شيخهم، وتولى بعده القضاء شرف الدين حسن بن عبد الله بن أبي عمر. الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن ظهير بن شهاب المصري، ابن الكفتى، شيخ الإقراء بديار مصر. الشيخ الصالح العالم الفاضل شمس الدين محمد بن عبد الرزاق بن أبي بكر ابن رزق الله الرسعنى الحنبلي، المعروف بابن المحدث. وفد إلى دمشق فاستوطنها، وسافر إلى مصر في شهادة، وعاد إلى الشام، فعند وصوله إلى نهر الشريعة وقف ليسقي فرسه، فجفل الفرس فوقع في النهر فغرق. وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: ولو أن إنسانا يبلغ لوعتى ... ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا لأسكننه عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا وله: أأحباننا إن جادت المزن أرضكم ... فما هي إلا من دموعي تمطر وإن لاح برق فهو برق أضالعي ... وإن ناح ورق عن أنيني يخبر وإن نسمت ريح الصبا وتأرجت ... فمن طيب أنفاسي بكم تتعطر وإن رنحت أغصان دجلة فانثنت ... فعنى بإبلاغ النسيم تخبر ومن عجبٍ أني أكتم لوعةً ... وأودعها طى الصبا وهي تنشر الشيخ الجليل نجم الدين عبد الجليل بن محمد. . . . . . كان عنده فضيلة تامة، ومكارم خلق، وحسن عشيرة، وكان ... المزاح والهزل..... . وله نظم حسن، منه:.... . قبيلة ببلاد الحبشة، وكان سافر إليها في هذه السنة، فعند وصوله إليها جفل من أهلها.....، وضربه بحربة فقتله. وكان رجلا دينا، وعنده صيانة تامة، وكان يكتب خطا حسنا وعمل مثمنات. مليحة وأتى فيها بكل غريبة، وله نظم حسن، فمنه قوله في عطار مليح: وعطار كبدر التم حسنا ... مررت به لأمرٍ قد عناني فقلت له أعندك ما وردٍ ... فقال معرضا بل ماء لساني الشيخ الصالح أبو الزهر بن سالم بن زهير الغسولى. مات بقاسيون ودفن به، وكان شيخا مباركا خيرا مقصودا بالزيارة والتبرك. الطواشى شرف الدين مختص الظاهري، مقدم المماليك السلطانية في الدولة الظاهرية والسعيدية والمنصورية. مات في هذه السنة، ودفن بالقرافة، وكان مهيبا، ذا حرمة وافرة، مبسوط اليد. الأمير الكبير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري، صهر السلطان الملك الظاهر. مات في ذي الحجة من هذه السنة، ودفن بتربته التي أنشأها بسفح المقطم. وكان من أكابر الأمراء وأعيان الدولة ذوى الحل والعقد، وكان دينا كثير الصدقات، له خان بدمشق بالعقيبة على الصدقة، وله في فكاك الأسرى وغير ذلك، وأوصى عند موته بثلاثمائة ألف درهم تصرف إلى الجند الضعفاء بالشام ومصر، فجعل لكل واحد خمسون درهما. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التسعين بعد الستمائة استهلت، والخليفة: الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي. وسلطان البلاد المصرية والشامية: صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاون، ونائبه بمصر: بدر الدين بيدرا، ووزيره شمس الدين بن سلعوس، ونائبه بدمشق: حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري. وصاحب تونس بالمغرب: عمر بن يحيى بن محمد. وصاحب اليمن: الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول. وصاحب مكة: نجم الدين أبو نمى محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسنى. وصاحب المدينة: عز الدين جماز بن شيحة الحسيني. وصاحب الروم: مسعود بن السلطان عز الدين كيكاوس. وصاحب ماردين: الملك المظفر قرا أرسلان بن الملك السعيد إيل غازي الأرتقى. وملك بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي: أرغون بن أبغا بن هلاون بن باطو بن جنكزخان. وملك التتار بالصين، الحاكم على كرسي مملكة جنكزخان: عرمون بن قبلاى خان بن طلوخان بن دوشى خان بن جنكزخان.

ذكر فتح عكا وجعلها دكا

وملك التتار بالبلاد الشمالية، التي تختها مدينة صراى: تلابغا بن منكوتمر ابن طوغاى بن باطو بن دوشى خان بن جنكزخان. وفيها في أول السنة، وكان يوم الخميس، تصدق الأشرف عن والده المنصور بأموال كثيرة جدا من الذهب والفضة، وأنزل السلطان إلى تربته في ليلة الجمعة، فدفن فيها تحت القبة، ونزل في القبر بدر الدين بيدرا، وعلم الدين الشجاعي. وفي ليلة الجمعة الثامن والعشرين من صفر، عمل الأشرف ختمة عظيمة لوالده أنفق فيها أموالا كثيرة، فنزل بنفسه وفرق في الفقهاء والقراء من جميع أهل المدارس والزوايا والربط خمسة وأربعين ألف درهم وألف قميص. وفي أوائل العشر الأول من المحرم ورد شمس الدين بن سلعوس من مكة، وقد ذكرنا أن الأشرف كان أرسل إليه نجابا يستدعيه، فحضر في هذا التاريخ وولاه الوزارة. والسبب إلى وصول هذا للأشرف واتصاله بالأمور التي لم يصلها متعمم قبله من أبناء جنسه في الوزارة أن أباه كان رجلا تاجرا في متجر القماش، توفى وورث منه مالا جزيلا، وشرع يصحب للصاحب تقي الدين توبة ناظر الشام ويتردد إليه إلى أن حصل أخذ المرقب، ودخل التقي إلى مصر صحبة السلطان المنصور، فدخل معه ابن سلعوس هذا، فرأى مصر وجندها وأمراءها، فأعجبه ذلك، وقال للتقي: أشتهي أن أكون مباشرا عند أحد من الأمراء ممن له تعلق في دمشق، واتفق أن فخر الدين ابن الخليلي كان في ذلك الوقت ناظر ديوان الأشرف، فسأل التقي توبة أن يحصل له شخصا من أهل دمشق يباشر ديوان الأشرف في دمشق، فقال له: إن ههنا شخصا من دمشق، وهو صاحب مال جزيل من بيت كبير، فأحضره إليه، ودخلوا به إلى الأشرف، وتحدث معه التقي في أمره، فقبله وخلع عليه، وولاه أمر ديوانه، ثم إنه عند وصوله إلى دمشق جهز للأشرف تقدمة هائلة، ثم لم تزل هداياه متواردة متوالية، واتفق بعد ذلك بمدة أن محتسب دمشق توفى، فجهز تقدمة لها صورة، فسأل مباشرة الحسبة، فسعى له الأشرف عند والده، وأخذ له توقيعا بالولاية، واستمر على ذلك إلى أن دخل مصر، وباشر ديوان الأشرف، ثم حصل له ما ذكرنا مع طرنطاى نائب السلطنة من الأمور المنكرة حتى أنه دخل من مصر بعد شدة رآها إلى أن جهز نفسه في السنة الماضية إلى الحجاز الشريف، واتفق موت السلطان المنصور وتولية ابنه الأشرف، فكتب إليه كما ذكرنا في السنة الماضية، ووصل في أوائل هذه السنة، ولما وقف بين يدي الأشرف أكرمه إكراما عظيما، وقربه، وجعل يشكر فيه عند الأمراء، وخلع عليه خلعة الوزارة يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم، ورسم لبيدرا والشجاعي وبقية الأمراء أن يخرجوا في خدمته. فمشوا في خدمته. وبغدى الدوادار حامل الدواة بين يديه. وكان له نهار عظيم ما وقع لوزير مثله. ثم رسم السلطان أن يركب الخدام يوم الاثنين والخميس في موكبه، وولى بدر الدين مسعودي شد الدواوين فعظمت مهابته. ولما استقر أمره طلبه السلطان وعرفه أن والده الشهيد كان قد عزم على الغزاة، وفتح حصن عكا، فأدركته الوفاة، وأنه قد عزم على ذلك، وأمره أن يجهز الأموال للنفقات على الأمراء والأجناد، وأذن للأمراء أيضا أن يجهزوا أحوالهم، وأمر الأمير عز الدين الأفرم أمير جندار أن يذهب إلى نائب الشام، ويقول له: رسم السلطان أن تجهز جميع ما يحتاج إليه المجانيق وآلات الحصار، ويتقدم بها إلى حيث يصل ركابه، فمضى من يومه على البريد. وأما ابن سلعوس فإنه قد بسط يده ولسانه، وأظهر من العظمة والكبرياء أمرا عظيما، ورسم لبعض مماليك السلطان أن يركبوا في خدمته، فصار يركب في موكب كبير، ووسع له السلطان في الجامكية والرواتب، وألقى مقاليد الدولة إليه، فكان الزهو والكبرياء سببا لوباله، على ما نذكره إن شاء الله، فلله در القائل: من ناط بالعجب عرى أخلاقه ... نيطت عرى المقت إلى تلك العرى من طال فوق منتهى بسطته ... أعجزه نيل الدنى بله القضا من لم يقف عند انتهاء قدره ... تقاصرت عنه فسيحات الخطا ذكر فتح عكا وجعلها دكا

ذكر خروج الأشرف

وكان السلطان المنصور قد جرد جماعةً من الأمراء ليقيموا بجينين، وقدم عليهم أميرا يسمى سنقر يعرف بالمساح، وأمره أن يركب كل يوم بالعسكر إلى مقابل حصن عكا، ويحفظوا الساحل والتجار خشيةً من أهل عكا، فإنهم كانوا قد نقضوا الهدنة بينهم وبين السلطان، وتعرضوا للسفارة من التجار وغيرهم، وكان يجرى بينه وبين أهل عكا كل وقت حروب ووقائع، وهو ينتصر عليهم، فوشى به الواشي إلى الأشرف بأنه كان منتميا إلى طرنطاى، وكان الأمير بدر الدين بكتوت العلائي مجردا على حمص، قد كان المنصور جرده مع جماعة من الأمراء، فأرسل إليه الأشرف أن يحضر ويجعل طريقه على جينين، ويحتال على قبض المساح، ويسيره إلى سجن صفد، ثم يحضر إلى مصر وصحبته الأمراء، وكان العلائي هذا له خدمة سابقة مع الأشرف في حياة والده، فلما وصل إليه الخبر ركب بمن معه إلى أن وصل دمشق، ثم خرج منها إلى أن وصل إلى جينين وسمع به المساح، فركب إلى لقائه مع الأمراء الذين معه وتلقوه، ولما نزلوا قدم طعام فأكلوا، وخرجت الأمراء وبقى المساح، فأخرج إليه العلائي مرسوم الأشرف وقرأه عليه، وتقدمت مماليكه وأخذوا سيفه، وأركبه من وقته على خيل البريد وصحبته أميران، فأوصلاه إلى سجن صفد، ثم رحل العلائي بمن معه إلى أن وصل إلى مصر، فحضر بين يدي الأشرف وأكرمه وغير إقطاعه، وكان ذلك في أوائل صفر. وفي سابع صفر قبض الأشرف على الأمير سنقر الأشقر، وسيف الدين برمك الناصري، وأفرج عن الأمير زين الدين كتبغا، وكان قد مسك مع طرنطاى، كما ذكرناه، ورد عليه إقطاعه، ثم شرعوا في الخروج إلى جهة عكا. قال ابن كثير: جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز الآلات بسبب حصار عكا، ونودي بدمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا، وبرزت المجانيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمطوعة يجرون العجل، حتى الفقهاء والمدرسون والصلحاء، فتولى سياقها علم الدين سنجر الدواداري، وخرجت العساكر المنصورة بين يدي نائب الشام، وخرج في إثرهم النائب حسام الدين لاجين السلحدار، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر بن الملك المنصور، وصحبته مجانيق وزردخاناه، ووصل نائب طرابلس الطباخى، وصحبته عسكر طرابلس، وتوجه الجميع إلى حصن عكا. ذكر خروج الأشرف خرج الأشرف من مصر في الرابع من ربيع الآخر بعساكره قاصدا عكا، فوافى الجيش هناك، فنازلوها يوم الخميس التاسع عشر من ربيع الآخر. وفي تاريخ ابن كثير: فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر، فهذا يدل على أن خروجه كان في ربيع الأول، والله أعلم. وذكر في نزهة الناظر: أن السلطان الأشرف رسم قبل خروجه أن ينقل والده المنصور إلى تربته في القبة التي أنشأها بين القصرين، فجرجت سائر الأمراء ونائب السلطنة والشجاعي والوزير صلاة العشاء الآخرة ومشى الجميع قدام تابوته إلى جامع الأزهر، وحضر القضاة والمشايخ والفقراء، وتقدم قاضي القضاة تقي الدين وصلى عليه، ثم ذهبوا به إلى المدرسة، وكانت ليلة عظيمة. وبعد أيام خرج الدهليز والعسكر في مستهل ربيع الأول، ولما استقر، رسم للوزير والنائب بأن يدخلا المدينة ويعملا ختمة لوالده فركبا ليلة الجمعة وعملا ختمة هائلة، وعملا أطعمة عظيمة، وتصدقا على الفقراء والمساكين بصدقات كثيرة.

ثم ركب السلطان إلى أن وصل إلى دمشق المحروسة، وخرج أهل دمشق لتلقيه ولم يبق فيها أحد، فأقام بها أياما، ثم خرج وأتى إلى عكا بالعسكر، وكان نزوله عليها في العشر الأول من ربيع الآخر، فوجدها قد تحصنت بسائر العدد والآلات، وكانت الإفرنج استنجدوا بأهل قبرص وغيرها من الجزائر، وأرسلوا إلى ملوكهم الكبار، فاجتمع بها خلق كثير من الداوية والاسبتار، وكانوا قد كتبوا إلى ملوك الإفرنج مع الرهابين والقسوس، وذكروا في كتبهم أنه لم يبق حصن من حصون الإفرنج يأوون إليه في جميع السواحل غير هذا الحصن، وأنه متى أخذ لا يبقى لسائر الإفرنج مكان يذكرون فيه، فسيروا إليهم خلقا كثيرا ورجالا مقاتلة، وجهزوهم في المراكب، وحملوا لهم سائر ما يحتاجون إليه من العدد والآلات والإقامات وغيرها، فاجتمع فيها خلق كثير حتى لم يكترثوا بالمسلمين، ولم يغلقوا للمدينة بابا، وصاروا يخرجون إلى العسكر ويطلب فرسانهم المبارزة، وكان يهرع إليهم الجند من الحلقة والمماليك السلطانية، فيجرى بينهم الكر والفر والمطاعنة، فبقوا على ذلك أياما ونال منهم المسلمون، فجرحوا منهم جماعة، وقتلوا جماعة، وكانوا كل يوم لا يرجعون إلا وهم خاسرون، فرأوا من المسلمين ما ليس في بالهم، ثم امتنعوا عن القتال والمبارزة، فصاروا يقفون على الأبواب يحفظونها ولا يخرجون منها. وكانت عدة ما نصب عليها من المجانيق اثنان وخمسون منجنيقا شيطانيا. وقال بعضهم: اثنان وسبعون منجنيقا، ثم صمم السلطان على الحصار، فرتب الكوسات ثلاثمائة جمل، وزحف سحر يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى، ودقت الكوسات جملة واحدة عند طلوع الشمس، وطلع المسلمون مع طلوع الشمس، فنصبت السناجق الإسلامية فوق الأسوار، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار، وقتل منهم خلق لا يعلم عددهم إلا الله، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا، وكان فتحها نهار الجمعة، كما أخذتها الفرنج في نهار الجمعة، جزاء وقصاصا، واستأصل منهم ما ينيف على عشرة آلاف نفس، ففرقهم السلطان على الأمراء ليقتلوهم. وفي نزهة الناظر: ولما كان الناس في الحرب مع الإفرنج إذا سهم قد رمى من القلعة وفي نصله ورقة مشدود عليها بخيط، فوقع السهم في وسط العسكر فأخذوه وأحضروه إلى السلطان، ففتح الورقة فوجد فيها مكتوب بالعربي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، إن الدين عند الله الإسلام، يا سلطان المسلمين احفظ عسكرك من الكبسة في هذه الليلة، فإن أهل عكا قد اتفقوا على ذلك، وهم قاصدون الهجوم عليك، واحتفظ أيضا من أمرائك فإنهم ذكروا أن فيهم تخابرا عليك. وكانت هذه الورقة من رجل من أهل عكا رزقه الله الإسلام وكان يكتم إسلامه، فلما وقف عليها السلطان طلب الأمير بيدرا والشجاعي وقرأها عليهما، فاتفق رأيهم أن يدور الحجاب والنقباء على الأمراء ويعرفونهم بهذا الأمر سرا فيما بينهم، وأن يحتفظ كل أمير بمكانه، واتفق في تلك الليلة أن هبت ريح عاصفة، فأظلم الجو لها ووافاها أهوية مختلفة، فكان ذلك مما فرح به الإفرنج، واجتمعت طائفة الداوية مع طائفة الاسبتار وتفرقوا، وخرجوا من أماكن يعرفونها، وركب بعضهم في المركب إلى أن صاروا على الأرض، ثم هجموا على العسكر وتصايحوا صياحا منكرا. وكان أول وصولهم إلى نحو الميسرة، وكان فيها مركز الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، وكان الخبر عنده، وكان راكبا بمن معه واقفين خارج الخيم، فلما وصلت الإفرنج وقربوا من الخيم أرادوا أن يرموا نفطا عظيما كان معهم، فما لحقوا أن يتوسطوا الطريق حتى أخذهم الصياح من كل جانب، ورشقتهم السهام في الليل، فرجعوا على أعقابهم، وليس فيهم أحد يلتفت إلى من معه، ورموا منهم نحو العشرين فارسا، وخرجوا جماعة فأخذوهم أسرى.

وأما الإفرنج الذين قصدوا الميمنة فسلموا وأخذوا بعض الجنويات والستائر التي كانت للمسلمين، وكان السبب في ذلك أن الميمنة كان فيها المقدم هو الأمير الحلبي الكبير، ولما بلغه خبر الكبسة ركب بمن معه من الأمراء وأوصاهم أن لا يدعوا شيئا في الخيم، وأراد بذلك أمرا، وأراد الله غيره، وحسب في نفسه أن الإفرنج إذا هجمت على الخيام ورجعت يكون هو والعسكر الذي معه قد سبقوا إلى المبنى التي طلعوا منها، فيكون قد ملك الطريق عليهم ويأخذهم قبضا باليد، ولا يدع أحدا يتمكن من الدخول إلى عكا، فلما هجمت الإفرنج على الخيام ورأوها خالية من كل شيء أدركوا ما أضمره الحلبي في نفسه، فعرجوا عن تلك الطريق إلى غيرها، فوجدوا في طريقهم جنويات وطوارق للحلبي فأخذوا، وبقى الحلبي ومن معه واقفين ينتظرون عود الفرنج فما رأوا أحدا حتى أشرق الصبح ووقع الصياح من الإفرنج من عكا، وعلقوا تلك الطوارق والجنويات على الأسوار، ولما رأت المسلمون ذلك اغتموا، وبعد ساعة سير الأمير بكناش إلى السلطان الأسرى الذين أسرهم من الإفرنج والخيل التي أخذوها منهم، فزال عن الناس الغم، ثم أصبح السلطان فطلب الأمراء وعنفهم على الإطالة بالحصار، فاعتمدوا بأجمعهم على المجانيق، وصارت الأمراء تركب إليها وتقف على أمرها إلى أن فعلت فعلا عظيما، وهدمت شراريف الأسوار، وتقلقلت الآجر لتقع والبدنات، فوهيت عند ذلك أهل الكفر وتحققوا أن أمرهم إلى التلاشي والزوال. ونظم أبو تميم في المنجنيق: للمنجنيق على الحصون وقائع ... فيها عجائبٌ للذي يتفهم يومى إليهم بالركوع مخادعاً ... فتخر ساجدة إليه ونسلم قال الراوي: ثم اتفق رأي الإفرنج على أن يسيروا إلى السلطان فيسألونه أن يرحل عنهم، وعليهم كل سنة مالاً يحملونه إليه مع هدايا وتحف كما كانت في الأول، فلما جاء رسلهم إلى السلطان جمع الأمراء فشاورهم فيه. فقال جميعهم عن لسان واحد: إن هذا حصن كبير عندهم، ولم يبق في بلاد الساحل من أهل الكفر غير أهله، وكان عزم الشهيد والد الأشرف على فتحه، والسلطان قد عزم في أول دولته على فتحه على ما كان عليه عزم الشهيد، وأنه قد أصيب من المسلمين جماعة، وقتلت جماعة، وما بقى للصلح فائدة، فإنما قد أشرفنا على فتحه. وهم في ذلك، وإذا بصياح عظيم من السوقة والحرافيش والغلمان والجمالين: يا مولانا السلطان بتربة الشهيد لا نصطلح مع هؤلاء الملاعين، ثم قال السلطان للرسل: لا صلح عندنا إلا أن تسلموا الحصن بالأمان، فذهبت الرسل، وكان يوم الخميس. ففي يوم الجمعة أمر السلطان بالزحف، فزحفوا وكشفوا الإفرنج عن الأسوار بسهام، ثم دخلوا في المدينة فوجدوا في المدينة فوجدوا من الأموال والذخائر والأواني البلور المرصعة بالذهب واللؤلؤ ما لم يقدر عليه، وكذا من الأواني الفضة والذهب والدراهم البندقية شيئا كثيرا لا يعد ولا يحصى، ووجدوا أيضا من أصناف المتجر الذي يحضر إليها ويسافر به إلى الشام ومضر شيئا كثيرا، ومن الذهب السبائك والفضة الحجر، فشرعت الكسابة من الغلمان والسوقة والحرافيش ينهبون، وقتلت من المسلمين جماعة على الكسب، وكانوا إذا وجدوا آنية من فضة أو ذهب أو بلور كسروها وأطفأوا صنعتها، وأخذوا من النساء والأولاد شيئا كثيرا، واستغنت جماعة السوقة مما كانوا يشترون من الكسابة من الغلمان والجمالين والحرافيش وغيرهم من الأجناد وأتباعهم. قال صاحب نزهة الناظر: أخبرني جماعة منهم: أن منهم من كان كسبه بلغ إلى مقدار ألفي دينار وما دونها من الذي ينهبه ويبيعه للسوقة، وأن شخصا يعرف بسراج الدين ظبيان كان كسبه في عكا نحو ألف وسبعمائة دينار واثنين وعشرين ألف درهم، وحضر إلى المدينة وصحبته ثلاثة أقطار من الجمال تحمل تجارة.

ذكر دخول الأشرف دمشق

قال الراوي: ثم رسم السلطان للأمير علم الدين الدواداري الصالحي والأمير الشجاعي أن يقيما على عكا لتخريب أسوارها وأبراجها، ثم رحل السلطان عنها إلى دمشق، فشرع الشجاعي في تخريب عكا، ووجد بها كنائس داثرة قديمة، وفيها من البناء الغريب الذي لا يقدر على مثله، ووجدوا في بعض تلك الكنائس ناوساً من الرخام الأحمر مثل العقيق، ووجدوا في وسطه لوحا من رصاص كبيرا مكتوب عليه بالرومي، فاحتمله الشجاعي معه، وأخذوا من ذلك الناس قطع رخام، فلما وصلوا إلى دمشق أحضروا شخصا يعرف بالقراءة الرومية، فأخرج له ذلك اللوح مكتوب فيه: كتب في سنة اثنتين وعشرين ومائتين: وذكر فيه أنه يدوس هذه الأرض رجال من أمة نبي العرب، وهو نبي يظهر له دين وشريعة، ويكون دينه أعظم الأديان، وشريعته أعظم الشرائع، ويطهر الأرض من الكفر، وتبقى شريعته إلى آخر الزمان، وتملك أمته سائر الأقاليم من الفرس والإفرنج وغيرهما، وإذا دخلت السبعمائة ملكت أمته سائر بلاد الإفرنج. ووجدوا أيضا على باب كنيسة مكتوبا قديما بالكوفي: جمع الكنائس إن تكن عبثت بكم ... أيدي الحوادث أو تغير حال فلطالما سجدت على أبوابكم ... شم الأنوف صحاحٌ أبطال صبرا على هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال ونقلوا من كنائس عكا رخاما عظيما إلى الغاية، وأبوابا كانت على كنائس مستجدة في عكا، وكان من جملة ما حمل منها إلى مصر باب كنيسة بقواعده وأعضاده وعوامده، وهو الآن مركب على باب المدرسة الناصرية، وحمل منه إلى دمشق شيء كثير، وإلى مصر أيضا. قال الراوي: ولما علقت أبراج عكا وأضرمت فيها النار وتساقطت، عمل القاضي شهاب الدين محمود الحلبي كاتب الإنشاء هذين البيتين وهما: مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار في وسطها وار وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد النار واستشهد على عكا من الأمراء: علاء الدين كشتغدى الشمسي، وعز الدين أيبك المعزى، وجمال الدين أقوش الغتمى، وبدر الدين بيليك المسعودي، وشرف الدين قيوان السكري، والعزى نقيب الجيوش، وست مقدمين من الحلقة، وثلاثة وخمسون جنديا من الحلقة، وثلاثون من أجناد الأمراء. وقال النويري: ولم تزل النصارى يعظمون هذه المدينة لأجل الناصرة وهي القرية التي خرج منها المسيح عليه السلام، وبها أيضا عين تسمى عين البقرة يزورها المسلمون والنصارى واليهود يزعمون أن البقرة التي خرجت لآدم للحرث خرجت من هذه العين. وقال بيبرس في تاريخه: استنقذ الله عكا من أيدي المشركين على يد الملك الأشرف صلاح الدين، كما كان فتوحها أولا على يد صلاح الدين يوسف ابن أيوب، وأقامت بأيديهم مائة وثلاث سنين، لم ينهض أحد من الملوك الأيوبية ومن بعدهم من أرباب الدول التركية باسترجاعها، وكان استيلاء الفرنج عليها في الأيام الناصرية سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ذكر دخول الأشرف دمشق بعد فتح عكا وما تجدد فيها بعد دخوله: دخل الأشرف دمشق ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من جمادى الأخرى، وفي ميمنته وزيره ابن السلعوس، والجيوش المنصورة، وكان يوما مشهودا، ولم يبق أحد من أهل دمشق وما حوى من أهل البلاد إلا وقد خرج في موكب اليوم، وكل واحد في يده شمعة، وكذلك العلماء، والقضاة، والخطباء، والمشايخ، والنصارى، واليهود، وأقامت دمشق نحو شهر مزينة بالزينة المفتخرة، ووصل كرا كل بيت ودكان إلى قيمة كثيرة. وأول ما دخل دمشق الأسرى الذين كانوا استأسروهم نحو مائتين وثمانين أسيرا. وكان الصاحب ابن سلعوس قد كتب إلى أكابر دمشق أن يجهزوا كل شيء حسن من الثياب الأطلس وغيرها، فبسطوها للسلطان من آخر ميدان الحصا إلى دار السعادة.

ذكر القبض على أرجواش متولي قلعة دمشق

ولما استقر ركابه دخل إليه الوزير وعرفه أن دواوين الشام قد حصلوا أموالا كثيرة، فاستأذن في مصادرتهم، فأذن له أن يفعل ما شاء، فأول ما دق في تقي الدين توبة التكريتي ناظر الشام، مع أنه كان هو الذي أوصله إلى الأشرف كما ذكرنا، وكان له عليه إحسان كثير، فلم يعرف ذلك، وأقامه من مجلسه وأهانه، وكذلك فعل بالأمير شمس الدين الأعسر شاد الدواوين بالشام، وبجماعة من المباشرين من أكابر دمشق، وأخذ خطوطهم بمبلغ سبعمائة ألف درهم، وأول من وضع خطه التقي توبة والأعسر الشاد، وخافت الدماشقة منه، وقالوا: إذا كان فعله مع مثل التقي توبة الذي هو أوصله إلى خدمة الأشرف وأنه نشره فكيف يكون مع غيره؟ فتعاظم في هذه الأيام، واحتجب عن الناس، وصار يركب في موكب عظيم وسائر القضاة وغيرهم يركبون في خدمته. قال صاحب نزهة الناظر: أخبرني شخص من الدماشقة أنه كتب له كتابا فيه أبيات، وكتب العنوان: المملوك الناصح، فقدمه إليه ورجع، وهو مختفى، فلما فتحها وجده ورقا أبيض ليس فيه غير أبيات ثلاثة، فعلم أنه مكيدة في حقه وهذه هي الأبيات: لا تغبطن وزيرا للملوك ... وإن أناله الدهر منها فوق همته واعلم بأن له يوما تميد به ... الأرض الوقور كما دانت لهيبته هودا وهو أخو موسى الشقيق ... له لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته فلما وقف عليه طواه ولم يطلع أحدا عليه، وبعد أيام قام الأمير بدر الدين بيدرا والشجاعي في حق التقي توبة وعرفوا أن لهذا خدمةً كبيرةً على الأمراء المتقدمين في خدمة الشهيد، وأنه قديم الهجرة، ومازالوا به إلى أن رسم بالإفراج عنه، وعن بقية المباشرين، وسكن ابن السلعوس عن الدماشقة بعد ذلك. ذكر القبض على أرجواش متولي قلعة دمشق وكان السبب لذلك أنه كان من المماليك المنصورية، معروفا، بينهم بالفروسية والشجاعة، وكان قد أصيب بسهم في عينه، فبقى بفرد عين، وكان لا يعرف له مزح ولا لعب، ولم يكن أحد من خشداشيته يقدر على المزح معه، وكانوا عرفوا الأشرف خلقه ووسوسة طبعه وتفرده عن الناس، وحكوا له عنه حكايات، وكان يوما واقفا بين يدي السلطان، فأراد السلطان أن يفتح معه باب المزح، فأشار إلى أحد من خاصكيته أن يقف خلف أرجواش ويدس يده في مخرجه؛ ففعل ذلك، فالتفت إليه أرجواش ولكمه وأرمى كلوتته، وحط يده في قائم سيفه، فصاح السلطان عليه، وبدا عليه الضحك، فقال له: ويلك، تلكم مملوكي: ماذا فعل بك؟ فقال: نحن ما تعودنا بشيء من ذلك ولا رأيناه، ولكن صرنا في آخر زماننا مسخرة، فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا، ورسم بأخذ سيفه، وضربه به ضربا مؤلما، ورسم بالحوطة على موجوده، واعتقل بالقلعة، وحملوا من خزانته نحو سبعين ألف درهم وثلاثة آلاف دينار، وباعوا سلاحه وقماشه إلى أن تكمل جميعه مائتين وستين ألف درهم. ثم لما عزم السلطان على السفر إلى مصر خلائق لا يحصى عددهم، ولم يبق أحد في المدينة إلا وقد أخذ جانبا للتفرج منه، فلما وصل السلطان إلى المدرسة المنصورية ترجل وطلع إلى قبر الشهيد، فوجد هناك القضاة وسائر أرباب الوظائف من الفقهاء والعلماء والقراء والمؤذنين، وتلقوه بالدعاء، وشرعوا في القراءة بين يديه، ثم أخذوا في الدعاء له ولوالده الشهيد، ولما فرغوا من القراءة والدعاء قام ابن العنبري الواعظ وصعد المنبر، وكان قد رتب قصيدة يذكر فيها أمر الغزاة والجهاد في سبيل الله، فلم يرزق فيها سعادة، ولا فتح عليه منها فتوح، وأول ما تكلم بعد قراءته القراءة قال: زر والديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد نقلت إليهما وكان السلطان ذكيا، ففهم معنى شعره، فما وصل إلى آخر البيت حتى نهض السلطان قائما، وسائر الناس معه، والتفت إلى بيدرا كالمغضب بسببه، وقال: ما لقى هذا غير هذا القول فقال له بيدرا: يا خوند هذا الرجل ما في الدنيا مثله في الوعظ، ولكن ما رزقه الله سعادة في هذا الوقت، ثم ركب السلطان من المدرسة إلى أن خرج من باب زويلة، وسائر الأمراء في خدمته، ولم يكن أحد راكبا غير الأمير بدر الدين أمير سلاح، وعند خروجه من الباب مسك عنان الفرس، ورسم للأمراء بالركوب، ومشت الخاصكية إلى القلعة.

وعند استقراره خلع على الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، وعلى الصاحب شمس الدين ابن سلعوس وسير له ألف دينار. ولما وصل السلطان القلعة نثر على السلطان الذهب والفضة، وعلى الأمراء الماورد من جانبي الناس. ويقال: ما مر السلطان على قلعة من تلك القلاع إلا ونثر عليه الذهب والفضة، ولما بلغ بين القصرين عند دار البيسرى - وكان البيسرى معتقلا - وقف مملوكه مغلطاى ومعه أولاد أستاذه، وعمل بأرقابهم مناديل، وعندما عاينوا السلطان قبلوا الأرض جميعهم، وكانوا ست بنين، وكان مملوكهم مغلطاى قد تحدث مع الأمراء في الشفاعة في مخدومه، ولما رآهم السلطان قال: من هم هؤلاء؟ قالوا: يا خوند هؤلاء مماليكك أولاد البيسرى، وتحدثت الأمراء، فقال السلطان " طيبوا قلوبكم، الساعة أخرجه لكم، ثم لما طلع القلعة أمر بإخراجه، وأرسل إليه تشريفا إلى السجن صحبة الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار والأمير بغدى الدوادار، ورسم له أن يلبس التشريف ويدخل إليه، فامتنع من ذلك والتزم يمينا أن لا يدخل عند السلطان إلا في قيده ولباسه الذي كان عليه في السجن، فدخل على هذه الهيئة، ففك قيده بين يديه، ثم لبس التشريف وباس الأرض؛ فتلقاه السلطان أحسن ملتقى وأكرمه وطيب خاطره، وأمر له بإقطاعه التي كانت بيده تقدمة ألف وزاده عليها منية بني خصيب، وكتب منشوره وحمل إليه في كيس أطلس، وهذه نسخته: الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، وعواطفه التي أضحت بها بدور الإسلام بازغة غير آفلة، أحمده حمدا يعيد سالف النعم، والكرم الذي خص وعم. وبعد: فإن أحق من عومل بالجميل، وبلغ من مكارم هذه الدولة القاهرة الرجاء والتأميل، ومن إذا ذكرت أبطال الإسلام كان أول مذكور، وإذا وصفت الشجعان كان إمام كل شجاع مشهور، وإذا تزينت سماء الملك بأنجم كان بدرها المنير، وإذا عد أولو الأمر كان أول مشير، وكم تجملت فيه المواكب بأعلى قدر، وترتبت المراتب به لأنه بدر، وهو المقر الأشرف العالي البدري بيسرى الشمسي الصالحي العجمي الملكي الأشرفي، فهو الموصوف بهذه الأوصاف والمدح، والمعروف بهذه المكارم والمنح، فلذلك رسم أن يفرج عنه في هذه الساعة من غير تأخير. وكان له نهار عظيم بالمدينة لأنه نزل والمدينة مزينة، وفرحت الناس به، وكان له في الاعتقال عشر سنين وأشهرا، ولما نزل إلى بيته أرسل له السلطان أربعين فرسا منها عشرون أكديشيا، وأمر لسائر الأمراء أن يقدموا له، فقدموا له، وحظى عند السلطان حتى كان لا يفارقه السلطان ويخلو به، ويحدثه في سائر أموره: هزله وجده، وصار يوالى عليه الإنعام في كل وقت. ونظمت شعراء كثيرون في فتح السلطان هذه القلاع، فمن ذلك ما نظمه شهاب الدين محمود: الحمد لله ذلت دولة الصلب ... وعز بالقول دين المصطفى العربي هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ... رؤياه في اليوم لاستحيت من الطلب ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... في البحر للشرك عند الدين من أرب كم رامها ورماها قبله ملكٌ ... جم الجيوش فلم يظفر ولم يصب لم ترض همته إلا الذي قصدت ... هجر عنها ملوك العجم والعرب فأصبحت وهي في بحرين مائلة ... ما بين مضطرم النار ومضطرب جيشٌ من الترك ترك الحرب عندهم ... عارٌ وراحتهم ضربٌ من الوصب وأطلع الله جيش النصر فانتشرت ... طلائع النصر بين السمر والقضب أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم ... فراح كالراح إذ عرفاه كالحبب بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك الممالك واستعلت على الرتب لقيتها يا صلاح الدين الدين معتقدا ... فإن ظن صلاح الدين لم يخب أدركت ثأر صلاح الدين إذ عصيت ... عنه لسر طواه الله في الكتب

ذكر القبض على قراقوش الظاهري

وفي هذين البيتين إشارة إلى أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما نازل عكا وحاصرها طمع في أخذها لأنه كان وقف على كتاب يذكر فيه أن السلطان صلاح الدين يفتح عكا ويخربها ولا تعمر بعده، فنزل عليها وحاصرها وتسلمها يوم الجمعة في شهر جمادى الأولى من سنة ... ... ورحل عنها بعد ما صارت في ملكه وقصد أن يخربها، فحصل له عارض وأقامت أياما قليلة ورجعت الإفرنج إليها وأخذوها، فصارت في أيديهم، ثم أخذها صلاح الدين الملك الأشرف وأخربها وجعلها دكاً. وأنشد أبي غانم بيتين عند فتح عكا في هذا المعنى وهما: مليكان قد لقبا بالصلاح ... فهذا خليل وهذا يوسف فيوسف لا شك في فضله ... ولكن خليلٌ هو الأشرف ومن نظم شمس الدين ابن الصائغ: يا أشرف الدنيا تهن فإنه ... فتحٌ سواك بمثله لم يحلم أشبهت معتصم الخلافة همةً ... فالروم منك ديارها لم تعصم قاتلت بلق جيوشهم بسوابق ... غر عليها الريح لم تتقدم كم رعتها بسواد ليل أليل ... وصدمتها ببياض يوم أيوم وأعدتها للمسلمين ولم يكن ... منهم يرى التطهير إلا بالدم فالجمعة الغراء كان صباحها ... وجه الزمان بمثله لم يرقم ذكر القبض على قراقوش الظاهري كان هذا الرجل من الظاهرية، وكانت له نفسٌ قوية، وأخلاق شرسة، وهو معروف بالفروسية، وكان قد ولى قوص في الدولة المنصورية وبقى إلى أن أتت الدولة الأشرفية، وكان الصاحب ابن سلعوس يكتب إليه كتابا لأجل المهمات، ولم يكن يكترث بأمره ولا يحسن في جوابه، فشاور السلطان على عزله، فأمر بعزله، فقالوا: هذا رجل قوي النفس، فإذا بلغه العزل ربما سد حال الوجه القبلي، وهو قد قويت نفسه بالعرب والسودان، ولا يعزل هذا إلا بالتحيل عليه، فوقع اختيار السلطان والوزير على توليه أقوش الفارسي، وكان في طبقة قراقوش في الحمق الكبرياء، فولاه كشف الوجه القبلي، وأعلمه بما قصده من القبض عليه عند ملاقاته، فإذا قبض عليه يرسله مقيدا. فتجهز أقوش وخرج في جند كثيرة، وبلغ قراقوش اتفاقه مع الوزير على القبض عليه، فكتم أمره في نفسه إلى أن وصل أقوش إلى قريب قوص، ولما علم بنزوله طلب مماليكه مع الوافدية المركزين في قوص وأخبرهم أن هذا الكاشف حضر للقبض عليه من غير مرسوم السلطان، وليس معه إلا مرسوم الوزير، وأنا أريد أن أقبض عليه وأخليه عندي وآخذ جميع ما معه فأنفقه فيكم، وأبعث إلى السلطان وأعرفه بذلك، فإن أنكر فعلى عصيت مع أبي الكنز وأقطعت قوص لكم بأمريات، وأطمعهم بأشياء كثيرة، واستمال عقولهم، فوافقوه على ما قال. وفي ذلك الوقت وصل كتاب أقوش يذكر فيه العتب وبعض الإنكار لكونه وصل إلى محل ولايته ولم يركب إلى لقائه، فلما قرأ كتابه طلب قاصده وسبه وقال: من هو أستاذك حتى أركب أنا إلى لقائه؟ فأتى إلى أستاذه وأخبره بما جرى له معه، وبلغه أيضاً اتفاقه مع الوافدية والعرب، فعند ذلك طلب الحاكم وبعض الشهود وقال لهم: اذهبوا إليه واشهدوا عليه أنه قد ورد عليه الكاشف ومعه مرسوم السلطان، فأبى أن يحضر، فجاءوا إليه وتلطفوا في أمره، ولم يزالوا حتى وافقهم على الركوب إليه، والاجتماع به، والوقوف على كتاب السلطان، وهو مع توافقه على ذلك قال لهم: متى أرى معه أمرا لا يليق أوقع العتبة، فخلفوا له أن مأثمه الأخير، ثم أتوا إلى الكاشف وعرفوه بما جرى وأنهم ضمنوا له أن لا تكون فتنة ولا تشويش. ثم بعد ذلك أقبل قراقوش في طلب عظيم، فقام إليه أقوش وتلقاه وأقعده فوقا منه، وشرح في عتبه باللطف، فأخذ قراقوش يعتذر إليه، ثم أخرج أقوش كتاب السلطان بحضور القضاة والشهود وفيه القبض عليه، فعند ذلك قام ولم يلتفت إليه، وقال: هذا شغل ذلك النحس الوزير والسلطان ما رسم بهذا، ولم يقدر أحد يتعرض إليه. ورجع أقوش فوجد السلطان قد خرج إلى عكا والوزير معه، فكتب بما وقع له، وأرسل مع الكتاب المحاضر التي كتبها الشهود بسبب الاتفاق الذي ذكرنا.

ذكر ما عمره الأشرف

وأما قراقوش فإنه أيضا كتب إلى السلطان، وذكر فيه عن الوزير أمورا كثيرة، وأنه يحاققه على ألف ألف دينار أخذها من بلاد السلطان، وذكر فيه أشياء كثيرة من ذلك الجنس، وأرسل قاصده في السر مع نجاب إلى أن وصل إلى السلطان وسلم الكتاب للدوادار، فأوصله إلى السلطان فقرأه بحضور الوزير وحصل له من ذلك قلق عظيم. وبعد أيام وصل كتاب أقوش للكاشف وكتاب نائب السلطنة، وكتب كتابه بجميع ما وقع بينهم بمحاضرة مثبوته على الحاكم، فكتب السلطان إلى نائبه بمصر أن يتحيل على قراقوش ويحضره إلى مصر، وكتب لقراقوش كتابا صحبة قاصده يتضمن شكرا وثناء، وأطمعه بأمور كثيرة توجب أطماعه في الحضور. وعندما وصل الكتاب إليه ركب وطلب الحضور إلى مصر، فلما قرب إلى منية ابن خصيب أرسل النائب أيبك الخزندار، فأتى إليه وقبض عليه، وأوقع الحوطة على سائر موجوده، وبقى في الجب إلى أن حضر السلطان وخلع على الوزير، ورسم للأمير بكتمر السلحدار أمير جندار والأمير عز الدين أيبك الخزندار وغيرهما أن يخرجوا في خدمة الوزير ويحضروا قراقوش قدامه، ويقابل الوزير بالذي قال عنه، فخرجوا بعد المغرب وجلسوا على باب القلة، وأحضروا قراقوش من الجب وفي رجليه قيد ثقيل وهو يتململ من ثقله؛ والوزير جالس بين الأميرين والتشريف عليه، فلما وقف قامت له الأمراء وتحرك له الوزير قليلا. فقال بكتمر السلحدار: يا أمير بهاء الدين السلطان يقول: أنت سيرت كتابك إلى عكا وذكرت فيه كلاما كثيرا عن هذا - مولانا الصاحب - وقد رسم أن تقول بين يديه الذي قلت عنه. فقال: نعم، وجميع ما قلته عن هذا هو بعض ما فيه وبعض ما فعله في بلاد السلطان، فقال الوزير: يا قطعه يا نخس تقول في وجهي هذا القول: فقال قراقوش: نعم يا قواد يا عامي يا كلب، وكم مثلك قد نلته بالمقارع، فكاد الوزير يتمزق من الغيظ فنهض قائما وصاح لمشد الدواوين والمقدمين: خذوا هذا النحس إلى خزانة شمائل، فأخذوه أشد الأخذ، وقام الأميران وهما يسبانه على إهانته للوزير في مجلسه. فلما أصبحوا دخلوا على السلطان وعرفوه بجميع ما وقع من قراقوش في حق الوزير، فتبسم السلطان وقال: ما هذا إلا له نفس قوية، ورسم بإحضاره إلى بين يديه، وطلب مشد الدواوين، ورسم أن يحضر صحبته المقدمين بالمقارع، وقصد أن يقتله في مجلسه، فمنعه من ذلك الأمير بدر الدين بيدرا وقال يا خوند: ما جرت عادة بضرب المقارع في مجلس السلطان، وكان ذلك عناية به، فرسم أن يحضروه إلى باب القرافة ويضربونه خمسمائة مقارع، فأخرجوه بعد صلاة الجمعة إلى باب القرافة وعروه وضربوه فوق الأربعمائة مقرعة، ولم يتكلم بكلمة واحدة إلى أن رمى إلى جانب الحائط وهو عريان ولم يلتفت إلى كلام أحد، وبقى في السجن، وأخذ جميع ماله. ذكر ما عمره الأشرف وما أمر بعمارته، وما أمر بوقفه: وفي هذه السنة أمر السلطان بعمارة الرفرف الظاهري الذي بقلعة الجبل وتوسيعه ورفع سمكه وتزيينه، فوسع وشيد وبيض وزخرف وصور فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقدت له قبة على العمد، وبقى مجلسا للسلطان ولمن بعده من ملوك الزمان مشرفا على سوق الخيل والميدان الأسود وغيرهما. وفي أوائل هذه السنة تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قرا سنقر شرع في عمارتها في أيام الملك المنصور فتمت في أيام الأشرف، وكتب عليها اسمه، وكان قد خربها هلاون لما استولى على حلب سنة ثمان وخمسين وستمائة، فكان لبثها خرابا ثلاثاً وثلاثين سنة تقريبا. وفي شوال منها شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الأدر السلطانية، والطارمة، والقبة الزرقاء، حسب ما رسم الأشرف لنائبه سنجر الشجاعي. وفيها، زاد الشجاعي في الميدان الصغير تقدير سدسه من جهة نهر بردى، وعمل في عمارة حيطانه جميع الأمراء والجند وأكثر أهل دمشق، وعمل فيه الشجاعي بنفسه، ففرغ في يومين. وفي رمضان، رسم الشجاعي أن يخرب جسر الزلابية والدكاكين التي عليه وخرب جميع ما هو مبني على نهر بانياس ونهر المجدول، وذلك من باب السر إلى حد باب الميدان. ورسم أيضا أن لا يمشي أحد بعد العشاء بدمشق، وأن تغلق الدكاكين بسرعة، وكان الأعوان يدورون بعد العشاء ويمسكون من يجدونه بعد العشاء، وحبس بسبب ذلك خلق كثير، فاجتمع الناس وشكوا من ذلك، فأطلقهم.

ذكر بقية أحكام الأشرف في هذه السنة

ورسم أيضا أن شيخ كل حارة يطالعه بجميع ما يجري في حانوته من الأمور الجليلة والحقيرة. ورسم أن لا تلبس امرأة شاشا كبيرا. وفيها: بعد حضور الأشرف من غزاة عكا تقدم إلى المدرسة المنصورية وزار قبر والده، وسأل عن الوقف الذي أوقفه السلطان الشهيد، فوجده لا يفي لسائر وظائفه، ورغبه الأمراء في زيادة الخير على وقف والده ليكون له ذكر على مرور الأيام ويشارك والده الشهيد في الخير، فعند ذلك قدح زناد فكره، فعين لذلك مما فتحه الله على يديه واستملكه بسيفه من الأعداء، لأن هذا خالص لوجه الله تعالى لا شوب فيه ولا كدر، فعين من بلاد عكا وبلاد صور أماكن، وأضاف لها من أعمال مصر أماكن، وجعل منه للقبة المخصصة لمدفن والده الشهيد، وأضاف إليه أمورا كثيرة. نسخة ما كتب في ذلك الوقف بعد الخطبة: وقف وحبس وسبل وأبد وتصدق جميع الضياع الأربع التي فتحت بسيفه القاهر من أعمال صفد، وجميع ما ذكره من الأراضي، وشروطها التي تذكر، على مصالح القبة والمدرسة التي أنشأها السلطان المنصور لمادته، وما تحتاج من إليه من الزيت والشمع والمصابيح والبسط وكلف الساقية والأبقار والعدة وغير ذلك، وعين فيها إماما من أهل الدين والصلاح من أي مذهب كان، وخمسين مقرئا، وستة خدام، وعين للخدام ثلاثمائة درهم، ولكل واحد أربعة أرطال خبز، وللناظر في كل شهر ثلاثمائة درهم، وذكر فيه أمورا كثيرة، منها ما فضل من ربع هذا الوقف وما يتبقى فيشترى به خبز ويفرق في ليالي الجمع. ومن شروط هذا البر الولاية عليه للمقر الأشرف العالي وزير دولته ومدبر مملكته وممهد قواعد سلطنته المولوى السيدى الصاحبي، واسطة عقد المسلمين، كافل الدولة وهاديها ناصح الملة ومواليها، بركة الإسلام، حسنة الأيام، صدر المجلس القضائي الفخر بن فخر الدين بن أبي الرجاء التنوخي الشافعي، حرس الله مدته، وأنفذ في الأقطار كلمته، يتولاه بنفسه مدة حياته، ولمن يشاء من نوابه. فلما قرئ عليه كتاب الوقف أعجبه، ورسم للصاحب أن ينزل إلى المدرسة ويجمع سائر القراء والوعاظ وأرباب الخير من سائر الفقراء والمشايخ والحكام ويختم والده الشهيد، فنزل الوزير وعمل بجميع ذلك، وخلع على سائر أرباب الوظائف مكاتيب بشروط الوقف، ويذكر فيها سائر ما شرطه الواقف، ويعين النظر فيه لنائب السلطنة وللقاضي الشافعي، وتثبت وتجلد بمصر والشام. ذكر بقية أحكام الأشرف في هذه السنة وفي رابع رمضان: أفرج السلطان عن حسام الدين لاجين من قلعة صفد، ومعه جماعة أمراء، ورد إقطاعاتهم عليهم، وأحسن إليهم وأكرمهم. وفي نزهة الناظر: كان السبب لذلك أن الأمير بدر الدين بيدرا النائب كان له مع لاجين نائب الشام صحبة أكيدة، فلما رأى السلطان في رمضان منشرح الصدر مبسوط الأمل ذكر أن عادة السلطان في غرة رمضان أن تكتب له أوراق بأسماء المحبوسين، ويكون في ذلك فرج لمن يريد الله خلاصه، فرسم بأن تكتب الورقة، فأول ما وقف على اسم لاجين فقال: لو سلم من لسانه ما كان جرى عليه شيء، فأخذ بيدرا يعرفه أن الذي نقل عنه كذب عليه، فقال السلطان: أبو خرص قال عنه ما قال وأنت حاضر. فقال بيدرا: أبو خرص، أراد بهذا القول تخليص نفسه من العقوبة، وحكى للسلطان ما قال أبو خرص، فضحك السلطان ورسم بالإفراج عن لاجين، وركن الدين طقصوا، وأبي خرص، والأمير شمس الدين سنقر الطويل، والأمير شمس الدين سنقر المساح البكتوتي. وأبو خرص اسمه سنجر ولقبه علم الدين. وقال بيبرس في تاريخه: ولما توجه السلطان إلى القاهرة بعد فراغه من غزوته أمر لي بالمسير إلى الكرك، فسألته أن أكون في خدمته وأعود في ركابه، فاعتفيت من العود إلى الكرك، فأجاب لي بالإعفاء من العود إليها، ورتب الأمير جمال الدين أقوش نائبا عن السلطنة فيها، وهو رجل حسن السياسة، ظاهر الرئاسة، وكان الملك المنصور قد اشتراه لولده الأشرف، فتقدم عنده إلى أن صار أستاذ داره قبل سلطنته، ولما استقر بالكرك أحسن السيرة وأظهر المعدلة.

وفيها: أنعم السلطان على بيدرا نائب السلطنة بالصبيبة، وكان الملك الظاهر لما أخذ هذا الحصن أنعم به على نائبه الأمير بدر الدين بيليك الخزندار، فلما ولى المنصور قصد طرنطاى أن يستمر به كما كان الخازندار، فلم يوافقه المنصور، فلما تسلطن الأشرف رسم لنائبه أن يضيفه إلى إقطاعه، فأضافه وجعل نائب الصبيبة طيبرس الخازن دار الذي تولى نقابة الجيش في دولة لاجين على ما يأتي إن شاء الله. ونسخة ما كتب من إنشاء القاضي شهاب الدين محمود: الحمد لله الذي أجمل الارتفاع، وأحسن في التخصيص بالأجناس والأنواع، وبعد: فإن خير النعم نعمة تبقى للأعقاب والذراري، وتدوم هدايتها دوام الأنجم الدراري، ومن تكون البحار الزاخرة من موارده، والنجوم الزاهرة من غدائره، فأهون ما عليه أن يجود بكوكب دري، وعقد دري، ولما كان الجناب العالي البدري بدر الدين بيدرا نائب السلطنة المعظمة، أجله الله، له حقوق كثرت وخدمة عظمت، وفتكات ما قابلت وجه عدو إلا وسمت، فكم شكر له نهار حربا، وحمده في الليل محراب، وكم انثنت على سيفه كتيبة، وعلى قلمه كتاب، وإن قد مضى بدر فإن لها من نعته بيدرا وزيادة، ليصح هذا التمليك، ويقول: استحقاق هذا الاسم لو كان بي درى ما قال إلا بيدرا ولم يقل بيليك: وأثبت ذلك بالدواوين المعمورة بمصر والشام، ثابت في صحف مكرمة عن الكرام الكاتبين، وأسجله في بياض النهار وسواد الليل أحكم الحاكمين، والحمد لله رب العالمين. وفيها: صادر الوزير أبي سلعوس قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز وناله منه إخراق وإهانة بالغة، ولم يترك له من مناصبه شيئا، وكان بيده سبعة عشر منصبا منها: القضاء، والخطابة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة، ومدارس كبار، وأخذ منه نحوا من أربعين ألفا غير المراكب والأشياء الكثيرة، ولم تظهر منه استكانة ولا خضوع، ثم عاد فرضى عنه وولاه تدريس الشافعي. وفي أوائل رمضان: طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس الشريف، وهو حاكم به وخطيب فيه، على البريد إلى ديار مصر، فدخلها في رابع عشرة، فتولى قضاء القضاة عوضا عن تقي الدين بن بنت الأعز بحكم عزله، ومع القضاء خطابة جامع الأزهر، وتدريس الصالحية، ثم استمر خطيبا بالقلعة واستناب في الأزهر بعض الفضلاء. وفي رجب: درس الشيخ عز الدين الفاروثى بالمدرسة النجيبية، عوضا عن ابن خلكان، ودرس أيضا في هذه السنة بدار الحديث الظاهرية، عوضا عن فخر الدين ابن الكرجى، وكان الفاروئي قد قدم مع الحجاج من مكة إلى الشام. وفي رجب أيضا: درس نجم الدين بن مكي بالرواحية، عوضا عن ناصر الدين ابن المقدسي. وفيه: درس الشيخ كمال الدين النجيبي بالمدرسة الدخوارية الطبية. وفيه: درس الشيخ جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية، وجمال الدين الباجر بقى بالقليجية، وبرهان الدين الإسكندري بالقوصية التي بالجامع. وفي ليلة الاثنين رابع ذي القعدة: عملت ختمة عند قبر الملك المنصور، وحضرها القضاة والأمراء والأعيان، ونزل السلطان ومعه الخليفة وقت السحر إليهم، وخطب الخليفة بعد الختمة خطبة بليغة حرض فيها على غزو بلاد العراق واستنقاذها من أيدي التتار. وقد كان الخليفة قبل ذلك محجبا فرآه الناس جهرة، وركب في الأسواق بعد ذلك. ولما كان يوم الجمعة رابع شوال: رسم السلطان للخليفة الحاكم بأمر الله أن يخطب هو بنفسه الناس يومئذ، وأن يذكر في خطبته أنه ولى السلطنة للأشرف خليل بن المنصور، فلبس خلعة سوداء وخطب الناس بالخطبة التي كان خطب بها في الدولة الظاهرية، وكانت من إنشاء الشيخ شرف الدين المقدسي، وكان ين الخطبتين أزيد من ثلاثين سنة، وذلك بجامع القلعة. ثم بعد ذلك استمر ابن جماعة يخطب بالقلعة عند السلطان بعد الجمعة التي خطب فيها الخليفة. وفيها: توهم السلطان من ولدي الملك الظاهر، وهما: الملك المسعود نجم الدين خضر، والملك العادل بدر الدين سلامش أوهاما أخطرت بباله إبعادهما عن البلاد الإسلامية وإخراجهما من الديار المصرية، فأخرجهما ومعهما والدتهما إلى الإسكندرية صحبة الأمير عز الدين أيبك الموصلي أستاذ الدار السلطانية، فسفرهما في البحر الملح إلى مدينة القسطنطينية، فلما وصلا إليها أحسن إليهما الأشكرى، وأمر بإنزالهما، وأجرى عليهما ما يقوم بهما.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

فأما بدر الدين سلامش فأدركته الوفاة فمات هناك، فصبرته والدته وصيرته في تابوت إلى أن اتفقت عودتها، فأعادته إلى ديار مصر ودفنته بها على ما سنذكره إن شاء الله. وهذا سلامش قد تملك الديار المصرية مدة كما ذكرنا. وفيها: أفرج السلطان عن الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، كان والده صاحب الكرك، وكان الملك العزيز قد اعتقل في الدولة الظاهرية في الرابع عشر من ربيع الأول من سنة تسع وستين وستمائة، فكانت مدة اعتقاله عشرين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ولما أفرج عنه رتب له راتبا جيدا، ولزم داره، واشتغل بالمطالعة والنسخ، وانقطع عن السعي والخروج إلا للجمعة والحمام. وفيها: أظهر شخص يسمى ثابت بن منديل شيخ قبيلة مغراوة وكبيرها الشقاق على بني يغمراس بن عبد الواد، وخرج عن طاعتهم، فقصدوه وحصروه، فتحصن بجبال تاججممت وبرشك، فضايقه ابن يغمراس سبع سنين متوالية، فلما ضاق عليه الأمر قصد أبا يعقوب يوسف بن يعقوب المريني مستغيثا به ومستشفعا، فأجاب سؤاله على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها: انتهت زيادة النيل إلى ستة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا، وكان نيلا ثابتا روى سائر البلاد والأقاليم. وفيها: حج بالناس بالركب المصري بدر الدين بكتوت العلائي، ومن الشام الطواشى بدر الدين بدر الصوابي. ؟ ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ المسند المعمر الرحلة فخر الدين بن البخاري، وهو أبو الحسن علي ابن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، المعروف بابن البخاري. ولد في سلخ سنة خمس أو مستهل سنة ست وتسعين وخمسمائة، وتوفى ضحى نهار الأربعاء ثاني ربيع الآخر منها عن خمس وتسعين سنة، ودفن عند والده الشيخ شمس الدين أحمد بن عبد الواحد بسفح جبل قاسيون. كان رجلا صالحا، عابدا زاهدا، ورعا نسكا، تفرد بروايات كثيرة لطول عمره، وخرجت له مشيخات، وسمع منه الخلق الكثير، والجم الغفير، وكان متصديا لذلك حتى كبر، وأسن وضعف عن الحركة. وله شعر حسن، منه قوله: إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ... وعجزي عن سعى إلى الجمعات وتركي صلاة الفرض في كل مسجد ... تجمع فيه الناس للصلوات فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني ... من النار واصفح لي عن الهفوات وله: تكررت السنون علي حتى ... بليت وصرت من سقط المتاع وقل النفع عندي غير أني ... أعلل بالرواية والسماع فإن يك خالصا فله جزاء ... وإن يك مالقا فإلى ضياع الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء أبو محمد الفزاري، الإمام العالم، شيخ الإسلام، شيخ الشافعية في زمانه. وهو والد الشيخ العلامة شيخ الإسلام برهان الدين، شيخ ابن كثير. وكان مولد الشيخ تاج الدين في ربيع الأول سنة ثلاثين وستمائة، وتوفى ضحى يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة، بالمدرسة البادرائية بدمشق، وكان مدرسا بها، ودفن عند والده بباب الصغير. وله مصنفات منها: اختصار الموضوعات لابن الجوزي. وقد ولى التدريس بعد بالبدرائية، والحلقة، والفتيا بالجامع ولده برهان الدين، فمشى على طريقة والده. وله نظم حسن، فمن ذلك قوله لما جفل الناس من التتار في سنة ثمان وخمسين وستمائة: لله أيام جمع الشمل ما برحت ... بها الحوادث حتى أصبحت سمرا ومبتدا الحزن من تاريخ مسألتي ... عنكم، فلم ألق لا عينا ولا أثرا يا راحلين قدرتم فالنجاة لكم ... ونحن للعجز لا نستعجز القدرا وله: يا كريم الآباء والأجداد ... وسعيد الإصدار والإيراد كنت سعدا لنا بوعد كريم ... لا تكن في وفائه كسعاد الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان السويدي الأنصاري. فاق أهل زمانه في الطب، وله فيه مصنفات منها: كتاب الباهر في الجواهر، وكتاب التذكرة في الطب في ثلاث مجلدات وهي من أحسن كتب الطب، وفيه فوائد جمة.

قال ابن كثير: فاق أهل زمانه في صناعة الطب، وصنف كتبا في ذلك، وكان يرمى بقلة الدين وترك الصلوات، وانحلال العقيدة، وإنكار أمور كثيرة مما يتعلق باليوم الآخر. وفي شعره ما يدل على قلة عقله ودينه وعدم إيمانه، واعتراضه على تحريم الخمر. ومن شعره: لو أن تغيير لون شيبي ... يعيد ما فات من شبابي لما وفى لي بما تلاقى ... روحي من كلفة الخضاب وله: وعدته الوصال يقظى وزارت ... فأرته المعدوم بالموجود فهو لا يطعم الرقاد فيستي ... تظ إلا على فراق جديد وقال مواليا: البدر والسعد ... ذا شبهك وذا نجمك والقد واللحظ ... ذا رمحك وذا سهمك والحب والبغض ... ذا قسمي وذا قسمك والمسك والحسن ... ذا خالك وذا عمك علاء الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري الزملكاني، مدرس الأمينية. وهو والد الشيخ الإمام العلامة كمال الدين أبي المعالي محمد بن علي الزملكان، شيخ ابن كثير، وقد درس بعد أبيه بالأمينية، وكانت وفاة والده هذا ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الآخر بالأمينية، ودفن بمقابر الصوفية. الإمام فخر الدين أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي، صهر الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأحد تلاميذه. ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر منها، ودفن إلى جانب قبر الشيخ تقي الدين بن الصلاح بمقابر الصوفية. الشيخ نجم الدين محمد بن عثمان الكرباج، خادم الشيخ شهاب لدين السهروردي. توفى في الحادي والعشرين من شعبان منها. العفيف التلمساني أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن علي بن يس العابدي الكوفي، ثم التلمساني، الشاعر المتفنن في علوم كثيرة منها: النحو، والأدب، والفقه، والأصول، والمعقول، والرياضيات، وله في ذلك مصنفات. ويذكر عنه أنه عمل أربعين خلوة، كل خلوة أربعين يوما، يخرج من واحدة ليدخل في غيرها، قال الشيخ شمس الدين: هذا الكلام فيه مجازفة ظاهرة فإذ مجموع ذلك ألف وستمائة يوم. قال: وله في كل علم تصنيف، وقد شرح الأسماء الحسنى، وشرح مقامات النفرى، وحكى بعضهم: قال: طلعت إليه يوم قبض، فقلت له: كيف حالك؟ قال: بخير من عرف الله كيف يخافه؟ والله منذ عرفته ما خفته وأنا فرحان بلقائه وله نظمٌ حسن منه قوله: هذا المصلى وهذه الكتب ... لمثل هذا يهزك الطرب والحي قد شرعت مضاربه ... وحسمه عنه زالت الحجب وكل صب صبتي لساكنه ... يسجد من شوقه ويقترب أنخ مطاياك دون ربعهم ... كيلا تطأك الرجال والنجب واسع على. . . . . خاضعا ... فعسى يشفع فيك الخضوع والأدب وارج قراهم إذا نزلت بهم ... فأنت ضيفٌ وأنهم عرب عندي لكم يا أهيل كاظمةٍ ... أسرار وجدٍ حديثها عجب أربى بكم خاطري يلاحظني ... من أين هذا الإخاء والنسب وقال: ما دون رامه للمحب مرام ... سيما إذا لاحت له الأعلام لا تملك العبرات مقلته ... ولا يثنى أعنة شوقه الأسوام وورا هاتيك الستور محجبٌ ... لتهتدى لجماله الأفهام لو لاح أدنى بارق من حسنه ... ليكون ريحه جوىً وغرام يا عرب نجدٍ ما مضى من عيشنا ... أترى تعود لنا به الأيام ردوا الكرى إن طال عز وصا ... لكم فعسى تمثله لي الأحلام لو لم يلذ الموت في حبي لكم ... لم أصب نحو الشرق وهو حسام ولما اعترضت بنار قلبي للهوى ... ولكل نار بالنسيم ضرام صبٌّ يرى نار الصبابة أنها ... في حبكم برد له وسلام حفظ المودة زاده ولحبذا ... في الزاد حفظ مودة وذمام وإذا أتتكم آيةٌ بإمامها ... وافيتكم ولى الغرام إمام

هذا دمى لكم ألا حلال وإنما ... عنكم فسلواني علي حرام وقال: على ربع سلمى بالعقيق سلام ... وجاد عليها أدمعٌ وغمام منازل لولاهن لم يعرف الهوى ... ولا رغبتا لوعة وهيام وبين بيوت الحي هيفاء قامة ... لها البدر وجه والسحاب لثام فنراها على كل القلوب فريضة ... تؤدى ومثلي في الغرام إمام أسير ولو أن الصباح صوارم ... وأسرى ولو أن الظلام قتام وأغشى بيوت الحي لا مترقبا ... وأطرق ليلى والوشاة نيام إذا لم يكن للصب إقدام صبوة ... تحل تلاف النفس وهو حرام فليس له بين المحبين رحلة ... ولا بين هاتيك الخيام مقام وقال: إن كان قتلي في الهوى يتعين ... يا قاتلي فبسيف طرفك أهون حسبي وحسبك أن تكون مدامعي ... غسلي وفي ثوب السقام أكفن عجباً بخدك وردة في بانةٍ ... والورد فوق البان ما لا يمكن أدنته لي سنة الكرى فلثمته ... حتى تبدل بالشقيق السوسن ووردت كوثر ثغره فحسبتني ... في جنةٍ من وجنتيه أسكن ما راعني إلا بلال الخال من ... خديه في صبح الجبين يؤذن نثرت من جوف الصباح ذؤابة ... هي كالدجى وظللت فيها أكمن يا نظرة كم رمت أسرق أختها ... من مقلة هي للنعاس معيدن يا فاتناً ما بال مفتونٍ به حد ... وفيه يلام من لا يفتن ألوم فيك الصبر إن هو خانني ... قلبي العزيز علي منه وأهون يا جيرة العلمين لا عاش امرؤ ... أحشاؤه لسوى هواكم مسكن فدعوا مريضكم يفور بسقمه ... طرس المحبة بالسقام مغبون وقال: لا تلم صبوتي فمن حب يصبو ... إنما يرحم المحب المحب كيف لا يوقد النسيم غرامي ... وله في خيام ليلى مهب ما اقتداري إذا خبت نار قلبي ... وحبيبي أنواره ليس تخبو شاهدت حسنه القلوب فأمسى ... وله في القلوب نهب وسلب نصبوا حان حبه ثم زادوا ... يا نيام القلوب للراح هبوا وقال: كم في جفونك من حانات خمار ... وكم بخديك من روضات أزهار وكم نسيم مرى أودعته نفسا ... مالت به عذبات الشيح والغار هواك أفصح من أنى أكتمه ... من بعد ما هتكت بالدمع أستاري لولاك ما رقصت بالدوح قضب ... نقا ولا تغنت حمامات بأشجار ولولا حمت ترى تلك الرياض ... ولا سقيت من ماء دمعي ساحة الدار وقال: مرح العيون بفترة الأجفان ... فتمايل الصاحي على النشوان وأراك من أنغامه وقوامه ... سجع الحمام على غصون البان حدث بعيشك يا نسيم عن الحمى ... وأغث بمائك غلة الظمآن واستبق مني يا سقام بقيةً ... يدرى بها طيف الحبيب مكاني وقال دوبيت: يا برق حمى الأراك دون الشعب ... ما علملك الخفوق إلا قلبي فاضحك طرباً ودع جفوني تبكي ... واشرب غدقاً فمن دموعي شربي الشيخ الصالح علاء الدين علي بن الشيخ أبي صادق الحسن بن يحيى بن صباح المخزومي. مات بدمشق وصلى عليه بجامعها، ودفن بسفح قاسيون، روى عن والده، وعن الزبيدي، وابن اللتى، وغيرهم. الشيخ الإمام القاضي شمس الدين أبو محمد عبد الواسع بن عبد الكافي بن عبد الواسع الأبهري الشافعي. مات بمنزله بالخانقاة الأسدية بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، كان تفرد بإجازات وأسمع كثيرا، ومولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان موته في شوال منها. الشيخ الإمام المسند الأصيل المعمر الفاضل نجم الدين أبو الفتح يوسف بن الصاحب شهاب الدين يعقوب بن محمد بن علي بن المجاور الشيباني.

مات بدمشق، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون، ومولده في سنة إحدى وستمائة، وكان موته في الثامن والعشرين من ذي القعدة منها، وهو آخر من حدث عن الخضر بن كامل وزينب القيسية، وعبد الرحمن بن نسيم. الشيخ المسند، بقية الشيوخ، محمد بن عبد المؤمن بن أبي الفتح الصوري. مات بمنزله بقاسيون، وصلى عليه بالجامع المظفري، ودفن بالسفح، وهو آخر من حدث عن الكندي، ومولده سنة إحدى وستمائة، وموته في الخامس عشر من ذي الحجة منها. الشيخ الزاهد، مفتي المسلمين، بقية السلف، تقي الدين أبو الربيع سليمان ابن عثمان بن يوسف الحنفي، المعروف بالتركماني. مات بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، ولى نيابة القضاء عن قاضي القضاة مجد الدين بن العديم بدمشق مدة يسيرة، ثم ترك الحكم تورعا وتزهدا. الأمير بدر الدين يوسف بن درباس بن يوسف الحميدي، أحد مقدمي عساكر الشام. كان متقدما في الدولة، ولى البقاع بعد أخيه الأمير جمال الدين، وكان يخدم أولا ببغداد وقدم إلى دمشق بعد استيلاء التتار عليها، ومات في هذه السنة. وله نظم جيد، منه قوله في العذار الشايب: ولما بدا في الخد ممن أحبه ... مشيبٌ به قد زاد حسنا ومنظرا تزايد وجدي إذ تزايد حسنه ... وأحسن شيء أن ترى الغصن مزهوا وحضر ليلة في سماع وفيه شاب حسن الصورة لطيف الشمائل، فقام يقط الشمع ويصلحه بريقه، والناس يرقصون، فتواجد بعض الجماعة الحاضرين ورمى الشمعة، فوقع لهيبها فأحرق فم الشاب، فنظم بدر الدين المذكور بديها: وبدر دجى زارنا موهنا ... فأمسى به الهم في معزل فحنت لتقبيله شمعةٌ ... ولم تحتشم ذلك في المحفل فقلت لصحبي وقد مكنت ... صوارم جفنيه في مقتلي أتدرون شمعتنا لم هوت ... لتقبيل ذا الرشأ الأكحل درت أن ريقته شهدة ... فحنت إلى إلفها الأول الشيخ الفاضل شرف الدين عيسى بن فخر الدين إياز، وإلى حماة. مات في هذه السنة، ودفن بنقيرين، كان من الفضلاء الأدباء. ومن نظمه: تحن إلى لقائكم القلوب ... فهل لي في زيارتكم نصيب ويصبو نحوكم طرفي وقلبي ... فذا فيكم يصاب وذا يصوب أجيران الغضا عودوا مريضاً ... سلامته هي العجب العجيب لقد سم العواذل طول سقمي ... لفرقتكم وأيأسنى الطبيب أيا قمري لأن غيبت عني ... كذا الأقمار عادتها المغيب يعز علي بعدك عن عيانى ... بعدت وأنت من فلبى قريب وقال: زدني عن الحي أو عن أهله خبرا ... إن كنت حققت مسرى الركب أين سرى قل لي بعيشك يوم البين أين نأى قلبي ... وصف لي حديث الدمع كيف جرى كرر علي أحاديث الحمى لأرى ... بالسمع سرحته إن فاتني النظرا لقد تقادم عهدي بالديار ولى ... قلب يطير اشتياقا كلما ذكرا يا عاذلى أنت أولى في المحبة ... من أولى على الحب إنصافاً ومن عذرا الأمير جك الناصري. مات بالشام في الثالث عشر من رجب منها، ودفن بقاسيون وكان من الأمراء المشهورين بالفروسية، وكان رأس ميسرة عسكر الشام، وله غارات وآثار جيدة في العدو. الأمير سيف الدين قطز المنصوري. توفى في هذه السنة، وكان الملك المنصور ولاه نيابة حمص. الأمير تنكز بن عبد الله الناصري، ناظر الرباط بالصالحية عن أستاذه. توفى في هذه السنة ودفن بالتربة الكبيرة داخل الرباط. الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر الذي كان قد بويع بالملك بعد أخيه الملك السعيد، لما استنزل عن الملك وجعل المنصور قلاون أتابكه كما ذكرناه مفصلا، ثم استقل بالملك وأرسله إلى الكرك، ثم أعاده إلى القاهرة، ثم سفره الأشرف في أول دولته إلى القسطنطينية، ومعه والدته وأخوه نجم الدين خضر، فمات سلامش هناك وصبرته أمه وجعلته في تابوت إلى أن اتفقت عودتها فأعادته إلى ديار مصر، فدفنته بها.

وكان سلامش من أحسن الشباب شكلا وأبهاهم منظرا، افتتن به خلق كثير من الناس، وشبب به الشعراء، وكان عاقلا رئيسا مهيبا وقورا، وكان له شعر طويل جدا يقال فيه وفيمن يشاكله في وقته بالحسن بعض الظرفاء من أهل زمانه: وأربعة كل الأنام تحبهم ... من الخلق سكران الفؤاد ومنتشى قوام ابن كيكلدى ووجه أبي بيسرى ... وثغر أبي بيبرس وشعر سلامش الملك أرغون بن أبغا بن هلاون ملك التتار. توفى في هذه السنة حتف أنفه على شاطئ نهر الكر من بلاد آران، في شهر ربيع الأول، وكانت مدة مملكته سبع سنين. وقيل: إنه مات مغتالاً بسم اغتاله به وزيره. وقيل: إنه كان يدين بدين النجيشيين وهم الطائفة المشهورة بعبادة الأصنام والسحر ويعظم طريقتهم خصوصا الطائفة المنتسبة منهم إلى براهمة الهند، وكان يجلس في السنة أربعين يوما في خلوة يتحنث بها ويجتنب أكل لحوم الحيوان، فوفد عليه من الهند شخص يزعم أنه يعلم علم الأديان ويطيب الأبدان، فأوحى إليه أن يتخذ له معجونا من داوم تداوله طالت حياته، فركبه له، فتناول منه، فأوجب له انحرافا وصرعا، وكانت فيه منيته، فقصر الله به عمره من حيث رام امتداده. وخلف من الأولاد الذكور قازان وخربندا، وكانا بخراسان، فاتفق الخانات ومقدمو التمانات وكبراء الأمراء وأرباب الأمراء على إقامة كيخاتو أخيه، فأقاموه في المملكة ورتبوه في السلطنة، فلما استقر أمره ونفذ حكمه أساء السيرة، وخرج عن الياساق المقررة، وأفحش الفسق بنسوان المغل واللواط بأولادهم، فكان من أمره ما نذكره. وقال النويري: ويقال إن أرغون بن أبغا قتله وزيره بالسم وهو سعد الدولة وذلك أنه وقع مع بعض الخواتين، فخشى أن يطلع عليه أرغون، فسقاه سما فقتل، فلما تحقق ذلك قتلوا اليهود كلهم عن آخرهم. وفي نزهة الناظر: فكان وزيره سعد الدولة يهوديا، وقد تولى أمره، وقام على المغول كلها، وصار في نفوسهم منه أمر عظيم، ولما سقى سعد الدولة. ملكهم أرغون قتلوه، وسلبوا جميع أمواله، وقتلوا جماعة من أهله. وقال ابن كثير: وكان أرغون شهما، شجاعا، سفاكا للدماء، قتل عمه السلطان أحمد بن هولاكو فعظم في أعين المغول، وعظم شأنه. وجاء الخبر بوفاة أرغون إلى السلطان الأشرف، وهو محاصر عكا، ففرح بذلك. وكانت مدة ملك أرغون ثمان سنين، وقد وصفه بعض مؤرخي العراق بالعدل والسياسة الجيدة. تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن طربو بن دوشى خان بن جنكزخان، ملك التتار بالبلاد الشمالية، الجالس على كرسي بركة. توفى في هذه السنة، وذلك أنه لما سار إلى غزو بلاد الكرك - كما ذكرنا - وسار نوغيه إليه، وقضيا منها الوطر، وعاد كل منهما إلى مقامه ومشتاه، سلك نوغيه الطريق المستسهل، فوصل بعسكره سالما، وسلك تلابغا السبل المستصعبة، فهلك أكثر من معه جوعا وبردا وضياعا على ما شرحناه، فتمكنت العداوة بينه وبينه، وساءت فيه ظنونه، وأزمع الإيقاع به، واتفق على ذلك مع من حوله من بطانته وأولاد منكوتمر المنحازين إلى فئته. وكان نوغيه شيخا مجربا، وبممارسة المكائد مدربا، فنمى إليه ما هم به تلابغا فيه، وأنه جمع له العساكر، ثم أرسل يستدعيه موهما أنه يحتاجه لمشورة يحضرها عنده. فراسل نوغيه والدة تلابغا، وقال لها: إن ابنك هذا ملك شاب، وأنا أشتهي أنصحه وأعرفه مصالح تعود على ترتيب قواعده، وتقرير مصادره وموارده، ولا يسعني أن أبديها له إلا في خلوة، بحيث لا يطلع عليه سواه، وأشتهي أن ألقاه في نفر يسير، ولا يكون حوله أحد من العساكر التي جمعها إليه، فمالت المرأة إلى مقالته، وانخدعت لرسالته، فأشارت على ولدها بموافقته، وثنت عزمه عن مفاسدته، ففرق تلابغا العسكر الذي كان قد جمعه، وأرسل إلى نوغيه ليحضر إليه. فتجهز وجمع عسكره، وأرسل إلى أولاد منكوتمر الذين كانوا يميلون إليه، وهم: طقطا، وبرلك، وصراى بغا، وتدان بان، فلحقوا به، ثم أسرع السير حتى قرب من مقام تلابغا الذي أعد للاجتماع فيه. وترك العسكر الذين معه، ومن حضر إليه من أولاد منكوتمر المذكورين كمينا في مكان، واستصحب معه نفرا قليلا، وتوجه نحو تلابغا، فسار ليتلقاه، وحضر معه ألغى، وطغر لجا، وملغان، وقدان، وقتغان، أولاد منكوتمر.

السنة الحادية والتسعين بعد الستمائة

فاجتمع تلابغا ونوغيه، وأخذا في الحديث والاستشارة، فلم يشعر تلابغا إلا والخيول قد أقبلت إليه، فتحير في أمره، وحاق به ما أبرمه نوغيه من مكيدته ومكره، ووقف العسكر ينتظرون ما يأمرهم نوغيه بفعله ليفعلوه، فتقدم إليهم بإنزال تلابغا وأولاد منكوتمر الذين معه عن خيولهم، فأنزلوهم، وأشار بربطهم فربطوهم. وقال لطقطا: إن هذا تغلب على ملك أبيك وملكك، وهؤلاء بنو أبيك وافقوه على أخذك وقتلك، وقد سلمتهم إليك فاقتلهم أنت كما تشاء، فكمرت رؤوسهم وكسرت، وهم: تلابغا، وألغى، وطغر لجا، وملغان، وقدان، وقتغان أولاد منكوتمر. وتسلطن طقطا بن منكوتمر بعد تلابغا ببلاد الشمال في سنة تسعين وستمائة، ولما سلم له نوغيه الملك ورتبه فيه رتب عنده إخوته المنتفعين معه وهم: برلك، وصراى بغا، وتدان، وقال: هؤلاء إخوتك يكونون في خدمتك، فاستوص بهم خيرا. وعاد نوغيه إلى مقامه، وبقى في نفسه من الأمراء الذين كانوا اجتمعوا مع تلابغا عليه عندما أرسل يستدعيه إليه، فدبر عليهم، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ؟ فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الحادية والتسعين بعد الستمائة في الرابع والعشرين من محرم من هذه السنة وقع حريق عظيم بقلعة الجبل، ببعض الخزائن، وقد أتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب، ومن بينها كتب عظيمة من ذخائر الملوك التي تحتوي على العلوم الشريفة. ذكر فتح قلعة الروم والسبب في ذلك أن.... صاحب هذه القلعة.... السلطان الملك المنصور صالح.... وأكثروا الفساد، وأن التتار لما حصل بينهم حرب عند وفاة ملكهم جاء الكثير منهم إلى قلعة الروم، فاتفقوا مع أهلها على قطع الطريق إلى المسلمين، وأخذوا منهم أسرى كثيرة، وقطعوا الطرقات، فأرسل نائب حلب بذلك إلى السلطان، وأنه لم يبق في دار الإسلام من قلاع الكفر غير هذه القلعة يفتحها.... . ولما وقف السلطان الأشرف على كتابه طلب الأمراء، واستشار بعضهم في ذلك، فأشاروا كلهم بالعزم إليها وفتحها، فكتب إلى نائب حلب ونائب دمشق بتجهيز سائر الآلات للحصار، وأقام أياما يجهز العساكر، ولما كمل ربيع الخيل في مصر، خرج السلطان ثامن ربيع الآخر، وصحبته العساكر المصرية، ووزيره ابن سلعوس، ووصل إلى دمشق سادس جمادى الأولى، وكان يوما مشهودا. وحضر إليه في دمشق صاحب حماة الملك المظفر، ثم استعرض الجيوش وأنفق فيهم أموالا عظيمة، وجمع عساكر مصر والشام، ثم خرج من دمشق يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى. وسأل صاحب حماة بيدرا والشجاعي وأكابر الأمراء أن يضيف السلطان إذا نزل بجهة حماة، فتحدثوا مع السلطان فأجاب إليهم، فلما نزل حماة، وكان صاحب حماة قد سبقه، هيأ له ما يحتاج إليه، ومد له سماطا بالميدان، فدخل السلطان والأمراء والجند وغيرهم، وجلس السلطان على رأس السماط، وخدم الملك المظفر، وأراد أن يأخذ شيشنى فمنعه السلطان من ذلك، وبقى واقفا على رأس السماط، وحلف أنه لا يجلس حتى يفرغ السلطان، وصنع أحواض سكر وليمون، وأحواض سكر وسويق، وأحواض أقسما، وأحواض قمز، واحتفل احتفالا عظيما. وقال صاحب نزهة الناظر: أخبرني علم الدين الطيبرسي أنه سأل مباشري صاحب حماة عن أمر هذا المهم، فأخبره صارم الدين أستاذ داره أنه ذبح في ذلك اليوم ألف رأس ومائتي رأس من الغنم، ومائة فرس، وثمانين بقرة، وعمل ألف صحن من الحلواء. وقال ابن كثير: وصل السلطان إلى حماة وضرب دهليزه عند ساقية سلمية، ومد له الملك المظفر سماطا عظيما بالميدان، ونصب خيما يليق بنزول السلطان، فنزل السلطان بالميدان، وبسط بين يدي فرسه عدة كبيرة من الشقق الفاخرة، ثم دخل الأشرف دار الملك المظفر بمدينة حماة، فبسط له الملك بين يدي فرسه بسطا ثانيا، وقعد السلطان بالدار، ثم دخل الحمام وخرج، وجلس على جانب العاصي، ثم راح إلى الطيارة التي على سور باب الثقفي المعروفة بالطيارة الحمراء، فقعد فيها، ثم توجه من حماة وصاحب حماة وعمه في خدمته إلى المشهد، ثم إلى الحمام والزرقاء بالبرية، فصاد شيئا كثيرا من الغزلان وحمر الوحش.

وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل السلطان إلى حلب في اليوم الثاني والعشرين من جمادى الأولى، وأقام فيها أياما، ثم توجه منها إلى قلعة الروم، وخرج من حلب في اليوم الرابع من جمادى الآخرة ووصل إلى قلعة الروم ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة، ونصب عليها المناجيق، وهي ثلاثة وعشرون منجنيقا، أحديها عند الدهليز الشريف، والأخرى فوق جبل يسامت القلعة المذكورة وعنده الملك المظفر صاحب حماة، وكان كلما رمى الحجر فأصاب ضربت كوساته وفعرت بوقاته، والأخرى عند علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق، وكان ترتيب الرمى بهذه المناجيق أن كل أمير من الأمراء يرمى يوما وليلة، والأمير علم الدين الشجاعي أقام برجا من خشب تعلوه قبة ولبده كله وحصنه من يمينه وشماله، وعمل في داخلهم الرجالة فصاروا يقاتلون من داخله، وأقام العسكر عليها عشرين يوما، ولم ينل السلطان منها طائلا، وكان لا يصل إليها غير منجنيق واحد، فكان حجره يصل إلى السور، فإذا دق فيه يفتت حجره، وأجمع الأمراء على أن يزحفوا ويوصلوا النقابين إلى السور، فركب السلطان بنفسه والأمراء، وتكفل نائب الشام ونائب حلب بالنقابين، وكانوا نحوا من ثمانين حجارا بالمعاول، ودخلوا في الزحافات، وزحف العسكر جميعه، وكان يوما عظيما، وكان في القلعة رجال لا يعرفون شيء غير القتال، فقاتلوا في ذلك اليوم قتالا عظيما، ونال المسلمين منهم شيء عظيم. قال صاحب نزهة الناظر: بلغني عن الشجاعي أنه قتل له في ذلك اليوم ثلاث رءوس من الخيل، وجرحت جماعة كثيرة من مماليكه، وكذلك نائب حلب، وتفرقت الأمراء والأكابر حول القلعة، ورموا بسهام كثيرة حتى أشغلوهم عن جهة النقابين، وما برحوا إلى أن أوصلوهم إلى الأسوار وملكوها، وشرعت النقابون بالمعاول فيها فلم تؤثر المعاول في الحجر شيئا، ووجد المسلمون من ذلك مشقة كثيرة، ولما ضايق المسلمون عليهم اجتهدوا اجتهادا عظيما. وكانوا قد كتبوا إلى صاحب سيس أن يسير إليهم نجدة، فوصل في ذلك الوقت جماعة من عرب آل مهني، وأخبروا السلطان أنهم رأوا نحوا من تومان من المغول وقد عدوا الفرات، وهم قاصدون العسكر، فسمع أهل القلعة بذلك، فضربوا ناقوسهم، وأظهروا الفرح. فعند ذلك رجع السلطان مع الأمراء إلى الدهليز، وضربوا مشورة في أمرهم، فأسر السلطان لبيدرا نائبه أن يقول: نرحل ونرجع إليها في العام القابل. فقال بيدرا ذلك للأمراء، وقال: قد ضجر السلطان من أمر هذه القلعة، ومن كثرة الأمطار والثلوج والبرد العظيم، وأيضا بلغه أمر المغول، فاختار أن يرجع، فسكت الأمراء، ثم قال السلطان: ما تتكلمون وما تقولون في كلام الأمير بيدرا؟ فقال له الأمير ركن الدين الجالق: يا خوند ما جرت عادة ولا سمعنا أن سلطانا ينزل بعسكره على بلد ويحاصره أياما ويرجع عنه إلا بسبب يقتضى ذلك. وقال الأمير لاجين: والله يا خوند لو هلكنا بأجمعنا ما نرجع إلا بفتح هذه القلعة سيما وقد قتل من المسلمين جماعة، ولم يعجبه كلامه، ثم التفت بيدرا إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشرف وقال له: ما رأيك نقيم أو نرحل؟ فالتفت إليه التفات المغضب وقال: يا أمير، الحرب لعب الصغار، من قتل منا ومن خرج حتى نرحل من القلعة، ثم قال له السلطان، وقد حصل في نفسه من كلامه حنق عظيم: كيف يكون العمل مع هذا العدو الذي قد تعدى الفرات؟ فقال: إن رسم السلطان لي أركب وصحبتي بعض الأمراء وألاقي هذا العدو، فنرجو من الله النصر عليه أو الموت في سبيل الله، فالسلطان يكون مقيما بالعسكر والحصار يكون مستمرا ولا يشمت بنا العدو، فإذا سمعت الناس أن سلطان مصر وعساكرها نزلوا على قلعة، ثم رحلوا عنها ماذا يقولون؟ والله نموت جميعا خير من هذه السمعة.

فعند ذلك عينوا سنقر الأشقر والأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح وأضافوا لهما أمراء ومقدار ألفي فارس وصحبتهم آل مهنى وآل فضل وآل مرى وبنو كلاب وأمراء التركمان، فتجهزوا وساروا وجدوا في سيرهم إلى أن بلغوا الفرات، فلم يجدوا أحدا، ولا ظهر لهم راكب ولا راجل، وكان حقيقة ما ذكره العرب أن صاحب سيس لما كتب إليه أهل القلعة وطلبوا منه النجدة علم أنه عاجز عن ذلك ولكن احتال في ذلك حيلة، فطلب ثلاثة من أمراء الأرمن وجرد معهم خمسة آلاف فارس من الأرمن، وألبس جميعهم لبس المغول، وجعل على رؤوسهم السراقوجات التي يركب بها المغول، وجعل لهم رايات وطبول على زي عسكر المغول، وأمرهم أن ينزلوا على بر الفرات ويعدوه إذا لم يصادفوا عسكرا هناك، ويكونوا على حذر عظيم ويتراءوا لأهل البلاد والعرب حتى يظنون أنهم مغول، ويصل أخبارهم إلى العسكر فيقع في نفوسهم أن عسكر المغول قد حضروا لنصرتهم فيرجعون عن حصارهم، فساروا على هذه الهيئة وفعلوا ما قال لهم صاحبهم. ورآهم بعض العرب فأخبروا عسكر السلطان بذلك، ثم لما أرسل السلطان من ذكرنا من عسكره وبلغ خبرهم إلى الأرمن أخذوا حذرهم منهم، فرجعوا خائبين خاسرين وجاء الخبر بذلك إلى السلطان، ثم في عقيبه جاء العسكر المجردون، فقوى بذلك عزم المسلمين على القتال والحصار، وتفرقوا على القلعة كتائب ومواكب، واستعملوا المعاول في أسوارها، ولم يزالوا على ذلك إلى أن جاء نصر الله والفتح. ففتحت بالسيف يوم السبت الحادي عشر من رجب من هذه السنة، فطلع إليها المسلمون ومكنوا السيوف من الأرمن، ولم يرحموا كبيرها ولا صغيرها ولا كهلها ولا شابها، ونهبوا ذراريهم، وذلك لأنهم ما وجدوا بها كسبا طائلا مثل عادة القلاع والحصون، ولم يكن لهم باع كثير، وإنما كانوا مقاتلة، فبذلك حنقت العسكر عليهم، ووضعوا فيهم السيوف بلا رحمة ولا شفقة، وأخذوا منها نحو ثلاثمائة أسير، فأحضروهم إلى مصر، واعتصم كيثاغيكوس خليفة الأرمن المقيم بها في القلة، وعنده بعض من هرب من القلعة، فرسم السلطان أن يرمى عليهم بالمنجنيق، فلما وتروه ليرمى عليهم طلبوا الأمان من السلطان فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك، وأخذ كيثاغيكوس وجميع من كان بقلة القلعة أسرى عن آخرهم. وأمر السلطان أن يمحى عنها سمة الرومية ولا يسميها أحد بتلك الاسمية؛ بل تسمى قلعة المسلمين الأشرفية. ثم رتب السلطان سنجر الشجاعي لعمارتها وتحصين قلعتها وترتيب ما يعود على مصالحها، وأمر أن يخرب ربضها ويبعد عنها. وفي نزهة الناظر: وما رحل السلطان عنها حتى رتب فيها نائبا وهو الأمير جمال الدين أقشى العارضى، وذلك بعدما قبض على الأمير عز الدين الموصلي بسبب أنه رسم له أن يكون نائبا بها، فأبى ذلك، فقبض عليه، ورتب جمال الدين المذكور، وأقام في يومه في القلعة الخليلية. ونظم بعض كتاب الدرج: فديتك من حصنٍ منيع جنابه ... تطهرت من بعد النجاسة والشرك وقد صرت تدعى بالخليلين دائما ... خليل إله العرش والبطل الترك وكان المسلمون رأوا في إقامتهم على هذه القلعة أمورا صعبة كان أكثرها من الزلازل والأمطار والصواعق، واتفق يوما أن الأمير بدر الدين بيدرا كان جالسا وقد تقدم الفراش ليمد السماط بين يديه وإذا بصاعقة قد نزلت بخيمته فنفذت من الخيمة ووقعت على ظهر الفراش فقصمته نصفين ووقع إلى الأرض، ونفر كل من كان واقفا وغاصت الصاعقة في الأرض، وقام بيدرا وفي قلبه رجفة عظيمة. قال صاحب النزهة: ثم رسم السلطان بكتاب البشارة يكتب إلى مصر، فكتب ما نسخته. بسم الله الرحمن الرحيم مبشرةً بفتح ما سطرت به الأقلام أعظم بشائره، ولا تفوهت ألسنة خطباء هذا العصر على المنابر بأفصح من معانيه في سالف الدهر وغابره، وهو البشرى بفتح قلعة الروم، والهناء لكل من رام للإسلام نصرا ببلوغ ما رام وما يروم.

وذلك أننا ركبنا من مصر وما زلنا نصل السرى بالسير، ونرسل الأعنة إلى نحوها فتمد الجياد أعناقها مداًّ ينقطع بين قوائمها السير، واستقبلنا من جبالها كل صعب المرتقى، شاهق لا يلتقى به مسلك ولا يلتقى، فما زالت العزائم الشريفة تسهل حزونه، والشكائم تفجر بوقع السنابك على أحجاره عيونه، والجياد المطهمة ترتقى مع امتطاط متونها بدروع الحديد متونه، فجعل جبالها دكا، وحاصرها حتى ألحق بها حصن عكا، ولما أراد الله بالفتح الذي أغلق على المغول والأرمن أبواب الصواب، والمنح الذي أضفى على أهل الإيمان والمجاهدين أثواب الثواب، فتحت هذه القلعة بقوة الله ونصره يوم السبت الحادي عشر من شهر رجب، فسبحان من سهل صعبها، وعجل كسبها، ومكن منها ومن أهلها، وجمع ممالك الإسلام شملها. وكان ذلك بخط شهاب الدين محمود، ونظم للسلطان يهنئه: لك الراية الصفراء يقدمها النصر ... فمن كيقباذ إن رآها وكيخسرو إذا خفقت في الأفق هدت بنودها ... دعائم واستعلى الهدى وانجلى الثغر وإن يمنت نحو العدى سار نحوها ... كتائب خطر دوحها البيض والسمر كأن مثار النقع ليلٌ وخفقها ... بروقٌ وأنت البدر والفلك الجتر بذل لها عزمٌ فلولا مهابة ... كستها الحيا جاء تك تسعى ولا مهر صرفت إليها عزمةٌ لو صرفتها ... إلى البحر لاستولى على مده الجزر ولما سبقت البشارة إلى مصر فرحت العالم، وكتب الجواب يستأذنون على عمل قلاع وزينة، كما كانت العادة بذلك عند مثل هذه القضية. وكان السلطان لما دخل دمشق سأله أهلها أن يصوم رمضان عندهم، وذلك لما في قلوبهم من المحبة الأكيدة، ورأى السلطان أيضا طيبة دمشق ونزهها، قصد الإقامة بها، فكتب الجواب إلى مصر أن يمنع العمل للقلاع فإن السلطان عزم على أن يصوم رمضان بدمشق. وكان الصاحب شمس الدين - عند دخول السلطان دمشق - اقترح على أهلها ببسط الشقق تحت قوائم الخيل من سائر الأصناف، كما اقترح ذلك على المصريين، ولم يقترح أحد غيره قبله، فصار عادة إلى الآن، وكتب بذلك على أهل دمشق كل أحد بقدر حاله وقدر منزلته، ولما بسطوا الشقق وأخذها أرباب الوظائف من السلحدارية والطبردارية وغيرهم أخذها الوزير عنهم وجمعها منهم، وعوضهم منها شيئا يسيرا، ثم ألزم كل من بسط شيئا أن يأخذه ويحمل ثمنه إليه، فوقفت جماعة منهم بين يدي السلطان واستغاثوا بجماعة من الحرافيش والعوام، فاستغاثوا إليه، وأنهوا ضررا بذلك، وكان وقوفهم في سوق الخيل والسلطان راكب، فرسم السلطان للحاجب أن كل من باسمه شيء يأخذه ولا يعطى للوزير شيئا، وطلب الوزير وأنكر عليه ذلك. وقال بيبرس في تاريخه: ولما كنا في شدة الحصار والقتال والمضايقة والنزال أشرفت علينا من البر الشرقي طائفة من التتر لائحة من بين الجبال، فرسم السلطان لتجريد جماعة من العساكر صحبة بعض الأمراء الأكابر لكشف الخبر وقص الأثر وحسم مادة من ظهر من التتر، فجرد أربعة مقدمي الألوف ومضافيهم منهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح وكنت من مضافيه، والأمير ركن الدين طقصو الناصري، والأمير سيف الدين بلبان الحلبي، والأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، فسرنا جميا سيرا عنيفا، وعبرنا الفرات من مخاضة شميصاط، وسرنا في البر الشرقي عامة الليل والنهار، وقصصنا الآثار فلم نجد أحدا من التتار، فعدنا في الحال وحضرنا إلى المنازلة والقتال حتى افتتحنا قلعة الروم، وبلغ السلطان منها ما كان يروم. ولقد اتفق فيما بعد وصول الأمير سيف الدين جنكلى بن البابا أحد أمراء التتار إلى الديار المصرية، فأخبرني أنه كان في تلك السرية وأنها كانت زهاء على عشرة آلاف فارس صحبة مقدم يسمى نيتمش، وكانت قد جاءت تلتمس فرصة وتطلب من المسلمين غرة. قال المذكور: فلما شاهدنا كثرة العساكر وعظمتها أيقنا أن لا قبل لنا بها، فرجعنا على أعقابنا وسرنا مجدين إلى مقامنا. قلت: هذا الذي ذكره بيبرس يخالفه ما ذكره صاحب نزهة الناظر، ولكن الأصح ما ذكره بيبرس لأنه صاحب الواقعة: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام

واعلم أن قلعة الروم هذه كانت فتحت أيام الصحابة رضي الله عنهم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلحا، واستمر بها أهلها، لأن الصحابة أبقوا كنائس كثيرة على أن يؤدوا الجزية ويطالعوا المسلمين بالأحوال. ذكر تلك البلاذرى وغيره. وذكر صاحب حماة في مختصر تاريخه الذي سماه: الحدائق والعيون: أن السلطان نور الدين الشهيد توجه إليها في سنة تسع وستين وخمسمائة، فتقبل خليفة الأرمن بحمل خمسمائة ألف درهم على سبيل الجزية، فرجع. واسمها بالأرمنية هروم كلين، وتفسيره بالعربي قلعة الروم، وكانت هذه القلعة كرسي مملكة الأرمن وبها خليفتهم واسمه الكيثاغيكوس، وكان قد عدى المائة سنة، وكانت في حكم التتار ولهم بها شحنة، أسر في جملة الأسرى، وكان بها على المسلمين أعظم نصرة. وصفتها: أنها كانت قديما ثلاث قلاع صوامع على سن جبل بين جبال، ثم حصنها الأرمن بأسوار قد احتفل بانيها بتشييدها غاية الاحتفال، ما رمقها طرف إلا بهت لعلوها وسها، ولا تأملها متأمل إلا وطن شرفاتها الأنجم وقلتها السهى. وهي من أحصن القلاع وأعظمها في الارتفاع والامتناع، ولا يتوصل إليها إلا من طريق صعبة المرتقى لا يستطيع الفارس سلوكها، وبحر الفرات جار من تحتها، ولا منزلة لمن ينازلها إلا في لحفها. وهي بين عقاب صعاب كما قال الشاعر: عقاب بها كل العقاب ومحجرٌ ... كأني أمشى فوقه بالمحاجر ويدور بها نهر يسمى نهر مرزبان، وبيوت أهلها مغاير منقورة في الجبل محكمة الصنعة. وذكر في بعض التواريخ: أن المثال الشريف ورد إلى الأمير عز الدين أيبك الخازندار نائب السلطنة بمصر في الغيبة على يد الأميران السلاح دار وأقوش الموصلي الحاجب في بكرة الاثنين العشرين من رجب الفرد، وهو من إملاء القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أدام الله نعمة المجلس العالي الأميري العزى، ولا برحت متلوة عليه آيات التأييد، واردة إليه بشائر ظفرنا التي يتجمل بحملها البريد، قادمة عليها التهاني، كم لحمائم الحمد في أفانينها من تغريد، تبشره بفتح ما خطر على بال أحد أنه يكون، ولا أن صعبه يهون، ولا أن نيله على غير عزائمنا الشريفة يقرب ولا في الوهم ولا أن الحظوظ تبلغ فيه من مرامها سهما، ولا أن الخطوب ترامى مراميه بسهم، وذلك لبعد مداه، وقوة قومه بالنفار المخذولين الذي تكفأ أكف عداه، وهو فتح قلعة الروم الذي بلغ كل من رمى من الأعداء بنصل النصر ما يروم، وفتح على التتار والأرمن أبوابا من البلاء، كان هذا لحصن على حافة الفرات قفلها المربح، وبطليعة كيدهم جواده الملجم المسرج، لأنه في بر الشام على جانب الفرات، والتتار المخذولون به حافون، وحوله صافون، ونافسهم عليها منا أشرف سلطان، جعل جبلها دكا، وحاصرها ألحقها بعكا، ونصبنا عليها عدة مناجيق تنقض حجارتها انقضاض النسور، وتقتنص الأرواح من الأجسام وإن ضرب بينها وبينهم سور، وتفترس أبراجها بصقور صخور افتراس الأسد الهصور، هذا والنقوب تسرى في بدناتها سريان الخيال، وإن كانت جفونها المسهدة وعمدها الممددة، وحفظها المجندة، ورواسيها على جبل الفرات موطدة، وقد خندقوا عليها خندقا جرى فيه الفرات من جانب ونهر مرزبان من جانب، ووضعها واضعها على رأس جبل يزاحم الجوزاء بالمناكب، وصفح صرحها الممرد فكأنه عرش لها على الماء، وإذا رامها رائيها اشتبهت عليه بأنجم السماء، وما زالت المضايقة تنقص من حبلها أطرافه، وتستدر بحيلها آخر الطرف وتقطع، بمسائل جلاد مقاودها وحلالها خلافه، ويورد عليها من سهامها كل إيراد لا تجاوب إلا بالتسليم، ويقضى عليها بكل حكم لا يقابل موته إلا بالتحكيم. ولما أذن الله بالفتح الذي أغلق على الأرمن والتتار أبواب الصواب، والمنح الذي أضفى على أهل الإيمان من المجاهدين أبواب الثواب، فتحت هذه القلعة بقوة الله ونصره في يوم السبت حادي عشر رجب الفرد.

ذكر رجوع السلطان إلى حلب

والمجلس السامي يأخذ حظه من هذه البشرى التي بشرت بها ملائكة السماء ملك البسيطة وسلطان الأرض، وتكاثر على شكرها كل من أرضى الله طاعته وأغضب من لم يرض من ذوي الإلحاد، ومن حاد الله له حاد، وممن ينتظر من هذه الأنفار إنجاز الإلحاد، فإنه بفتح هذه القلعة وتوقلها وحيازة ثغرها ومعقلها تحقق من سيحون وجيحون أنهم بعد فتح باب العراق تكسر أقفالها هذه القلعة، لا يرجون أنهم ينجون، وما يكون بعد هذا الفتح إن شاء الله إلا فتح المشرق والروم، وملك البلاد من مغرب الشمس إلى ملك مطلع الإشراق، والله يؤيده ويعضده، وكتب في يوم الفتح المبارك سنة إحدى وتسعين حسب المرسوم الشريف. وقال بيبرس في تاريخه: واجتهد الأمير علم الدين الشجاعي في فتح هذه القلعة اجتهادا عظيما، وعمل سلسلة عظيمة وعلقها قريبا من شراريف القلعة، وطرفها واصل إلى أسفل الربض، فكانت الجند يستمسكون بها ويصعدون فيها، فارتقى فيها جماعة من العسكر وفيهم شخص من أوشاقية الأمير بدر الدين أمير سلاح يسمى اقجبا، فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء حميدا، والسلطان ينظر إليه، والعسكر يثنون عليه، فرسم له بتشريف وإمرة، فسأل أمير سلاح أن تكون الإمرة لولده محمد، فأعطى إقطاعا وطبلخاناة، ثم تتابعت العساكر في تلك السلسلة فكانت حيلة إلى القصد موصلة، فملكوا القلعة، وطلعتها السناجق بسرعة، وقتل من وجد فيها من المقاتلة، وسبى النسوة والعائلة، ووجد بها بطرك الأرمن فأخذ أسيرا. ذكر رجوع السلطان إلى حلب ثم إلى دمشق ثم إلى مصر: ثم إن السلطان بعد ما فتح الله عليه ونصره رجع إلى حلب، فأقام بها بقية رجب وشعبان، وفي تلك الأيام أصاب الجمال مرض مميت، فأباد أكثرها حتى جافت الوطاقات وأنتنت الطرقات، ولم يبق لأكثر العسكر شيء تحمل أثقالهم، فحملوها على بغالهم. وعزل السلطان شمس الدين قراسنقر عن نيابة حلب، ورتب فيها سيف الدين بلبان الطباخى نائبا، عوضا عن قراسنقر، وجعل عز الدين الموصلي مشدا فيها. ثم رحل عنها إلى دمشق، فصام بها رمضان وعبد بها عيد الفطر، كذا ذكره بيبرس في تاريخه. وقال ابن كثير: عزل قراسنقر عن نيابة حلب واستصحبه معه، وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان المعروف بالطباخى، وكان نائبا بالفتوحات، وكان بقلعة بحصن الأكراد، فعزله وولى موضعه عز الدين أيبك الخازندار المنصوري، ثم رحل إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان، وصام بها شهر رمضان، وعيد عيد الفطر. وفي ليلة العيد هرب حسام الدين لاجين الذي كان نائبا بدمشق، وكان السلطان قد اعتقله وهو على حصار عكا كما ذكرنا، ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم وعاد معه إلى دمشق، فلما وصل إليها استوحش من السلطان وهرب منه إلى جهة الغرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى الديار المصرية، فحبس بها، وقبض على ركن الدين طقصو لأنه صهره على ابنته، ولأنه تكلم في حق الأمير بدر الدين بيدرا، فلما قبض عليه بعث به إلى قلعة الجبل، فاعتقل بها. وذكر في النزهة: أن السلطان لما طلب أن يقبض على حسام الدين لاجين ما وجده، وكان قد علم من السلطان أنه يقصد مسكه، فهرب وحده، وخرج من بين يدي السلطان بعد أكل السماط، وقال لمماليكه، روحوا أنتم، وطلب طريق صرخد، فلما علم السلطان بهروبه أركب سائر مماليكه وقال: لو وصلتم إلى الفرات لا تردوا إلا به، وطلب السلطان أن يركب خلفه فمنعه بيدرا وقال: يا خوند إش يقال، يقول الناس السلطان بنفسه يستحث مملوكه، وطلب والي البر ووالي المدينة وأمرهم بالمناداة عليه ومن أحضره كان له ألف دينار، ومن أخفاه شنق، احتيطت المدينة، ولم يتهن أحد بالعيد، فرجع الأمراء ولم يقعوا به ولا وقفوا على أثره، فبطق السلطان إلى سائر الأقاليم، وكتب لسائر العربان بسبيه وبالاحتفاظ على الطرقات، وبقى السلطان في قلق من جهته، فأقام ينظر خبره إلى أن وقعت بطاقة من جهة الشريفى والي البر أنه قبض لاجين من صرخد وهو واصل به، ففرح السلطان بذلك فرحا عظيما.

ذكر تجريد العسكر إلى جبال كسروان

وكان سبب وقوع لاجين أنه سار وحده إلى أن بلغ أبيات هلال البدوى، وكانت بينهما صحبة أكيدة وصداقة متقدمة من أيام كان لاجين نائبا بالشام، وكان لاجين يحسن إليه كثيرا، فلما رآه هلال وحده استخبره عن أمره، فعرفه الأمر وما اتفق له، فأخذ يطيب خاطره وباتا يتشاوران فيما يفعلانه، فاتفق الرأي أنه يخفيه، وأرسل في الباطن وعرف الشريفي أن لاجين عنده، فركب الشريفي وحضر إلى بيوت هلال، فلما رآه لاجين علم أن هلالا غدر به، فخرج إليه فقبض عليه وحمله إلى السلطان في دمشق، فقصد السلطان قتله بدمشق، فأخره بيدرا إلى المدينة، فأرسله إلى مصر مقيدا في سادس شوال على البريد، وإنما أخره الله يعني لأمر يكون قدره في الأزل. ذكر تجريد العسكر إلى جبال كسروان كان السبب في ذلك أن السلطان لما كان نازلا على قلعة الروم كان أهلها ينزلون ويقطعون الطريق على التجار والمسافرين، وهم كانوا دائما عصاة على نائب الشام وغيره، وكان الشجاعي لما كان نائب الشام أراد أن يركب إليهم بالعساكر، فمنعه أمراء الشام لما يعلمون من كثرتهم ومنعتهم، ولضيق الطرقات إليهم بحيث لا يسلكها الفارس، ولما دخل السلطان دمشق عرفوه بأمرهم، فاقتضى رأيه أن يجرد عسكرا صحبة بيدرا، وكان بيدرا قد وقف على حقيقة هؤلاء القوم، فكره الذهاب إليهم، فلما خاطبه السلطان بذلك شرع في الاستعفاء، فخرج السلطان من ذلك وصاح في وجهه وأخرجه من بين يديه وألزم نفسه أنه متى ما لم يسافر قبض عليه. فاضطر بيدرا عند ذلك إلى خروجه، فخرج ومعه عسكر نحوا من عشرة أمراء وثلاثة آلاف فارس، فساروا إلى أن وصلوا إلى جبال كسروان ورتبوا أمورهم، فعلم بهم الجبلية فخرجوا إليهم في جمع عظيم، وكانوا كفرة روافض ولهم شوكة كبيرة، وجمعهم بمقدار عشرة آلاف نفر، وكلهم يرمون على القسى القوية، ومشيهم في تلك الجبال أسرع من مشى الخيل لأنهم تربوا فيها وألفوا بها، فاستقبلوا عسكر السلطان بالرمي والقتال، ثم رجعوا عن ذلك كالمنكسرين، وكان ذلك حيلة منهم حتى استجروا العسكر إلى المواضع الصعبة، ثم يفعلون فيهم ما يشاءون، فلما حصلوا في تلك المواضع رجعوا عليهم ورموهم بالأحجار والقسى ونالوا منهم، ثم إن عسكر السلطان قاتلوهم قتالا عظيما على أن يجدوا طريقا فيرجعون عنهم، وكانوا قد ملكوا الطريق عليهم، ورأى العسكر شدة عظيمة إلى أن رجعوا إلى مكان وطلعوا منه، وقتل في ذلك اليوم تحت بيدرا ثلاث رؤوس من الخيل، وكذلك سائر الأمراء، فلما نزلوا إلى المخيم، افتقدوا العسكر، فوجدوا قد جرحت منهم جماعة وأسرت جماعة، فتحيروا ولا يدرون ماذا يفعلون. وكانت الجبلية يعتقدون أن هذه العسكر هم عسكر الشام، فلما سألوهم قالوا: إنه نائب السلطان الأمير بيدرا، ولما علموا بذلك ندموا على فعلهم، وأطلقوا الأسرى، وسألوهم أن يتوسطوا في إصلاح أمرهم مع السلطان خشية على أنفسهم، فهؤلاء عرفوا الأمراء، فأشارت الأمراء على بيدرا بإصلاح الأمور وإلا منعت العسكر، واتفق الحال على أن الجبلية أرسلوا من استحلف بيدرا والأمراء على أنهم لا يؤذونهم ولا يخونوهم، فانصلح الأمر بينهم، ثم نزلوا بالإقامات وأحضروا هدايا كثيرة، وخلع بيدرا عليهم، وكتب عليهم، بمال يحملونه كل سنة، واستحلفهم للسلطان، ثم رحل عنهم. ولما وصل إلى دمشق كان الخبر وصل قبله إلى السلطان وكان بين مصدق ومكذب، فلما حضر بيدرا تحقق الخبر، فأخذ بسبه وينكته بالقول، ويقول ويلك مثلك نائب السلطان وتروح إلى أناس فلاحين في جبل وتكسر عسكرى وتنكسر أنت، فأغلظ عليه بالقول كثيرا، وآخر الأمر قال له: اخرج من وجهي وإلا ضربت رقبتك. فخرج من بين يديه وهو في ألم عظيم، وحصلت له حمى حادة، وأصبح خبره شائعا بضعفه، وركبت إليه الأمراء، فمنع من يدخل إليه، وسير السلطان الحكماء والوزير إليه، وتألم بسببه، وبقى من العشر الأول من رمضان إلى نصفه والسلطان ينزل إليه ويطيب خاطره، ورسم أن يرتب في كل يوم عشرة آلاف درهم يتصدق بها على الفقراء والأيتام والأرامل وأصحاب الزوايا إلى أن عوفى، فلما ركب رسم أن يجمع الفقراء والمشايخ ويعمل لهم وقت في جامع بني أمية؛ فعمل، وكان وقتا عظيما، ولم يبق في دمشق فقير ولا صعلوك إلا أكل من طعام ذلك الوقت والمهم. ذكر خروج السلطان من دمشق وتوجهه إلى الديار المصرية

كان خروجه من دمشق في عاشر شوال يوم الاثنين، ودخل مصر يوم الأربعاء الثاني من ذي القعدة؛ ودخلها في أبهة عظيمة، وأحضر صحبته قراسنقر المنصوري وجعله مقدما على المماليك السلطانية. قال ابن كثير: ولما استقر السلطان في القلعة قبض على الأمير سنقر الأشقر وعجل بإعدامه، وأذاقه كأس حمامه، وقبض على الأمير سيف الدين جرمك الناصري وأعدمه، هو وطقصو خشداشه، وكانت وفاة هؤلاء الثلاثة في وقت معا، وقصد إعدام حسام الدين لاجين فسلم الله نفسه لأمر كان في طي الغيب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا في أواخر ذي القعدة. وكان السلطان استحضر سنقر الأشقر وطقصو فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله، فسألهما عن لاجين فقالا: لم يكن معنا ولا علم له بهذا، فخنقهما وأطلقه بعد ما كان الوتر في حلقه وكانت له مدة لا بد منها وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره. وذكر في نزهة الناظر: أن مسك سنقر الأشقر ومن معه كان والسلطان في دمشق، وأن السبب في مسكه ما صدر منه والسلطان وعسكره محاصرون قلعة الروم، وهو أن السلطان لما استشار الأمراء هناك في الرجوع عن قلعة الروم حين بلغه وصول التتار كان آخر كلام سنقر الأشقر هذا للأمير بيدرا: الحرب، هو لعب الصغار، فأثرت هذه الكلمة في نفس السلطان أثرا كبيرا، وصار إذا جلس مع بيدرا والخاصكية يقول لبيدرا: سمعت قول سنقر الأشقر الحرب هو لعب الصغار، ما كان هذا القول لك، بل كان لي، يقول لك ويسمعني، ولما دخل دمشق وأرسل بيدرا إلى جبال كسروان كما ذكرنا وجرى ما جرى، ثم عادوا إلى دمشق، شرع السلطان يباكت الأمراء ويقبح عليهم فعلهم، والتفت إلى بيبرس الجالق وقال: ما أسمع يقولون إلا البحرية فعلوا كذا وصنعوا كذا وفشارات كثيرة وما رأينا منهم شيئا. فقال الجالق: بالله يا خوند خل عنك ذكر البحرية وقد بقينا كلنا على آخر نفس، وما بقى لنا غير الراحة والقعود في بيوتنا وينتفع الشبان بأخبارنا، فالتفت إليه السلطان وهو مغضب وقال: إذا أخذت خبزك وأعطيته لغيرك من يمنعني أو أخاف من أحد، وإنما أنتم ما تتركون فشاركم، كلما يتكلم أحد تقولون: لو كانت البحرية؛ وكان يتكلم بذلك ويشير إلى سنقر الأشقر. فأخذ سنقر الأشقر من كلامه في قلبه أمرا عظيما، فأجابه على الفور، فقال يا خوند: كم تذكر البحرية، ما رأى السلطان البحرية إلا إذا ركب واحد منهم فرسه ما يقدر على ركوبه إلا بمعونة خمسة أنفس وكذا إذا نزل، وكان أحدهم إذا أخذ في يده رمحا ما كان أحد يقدر على مقابلته، فاليوم إذا أخذ بيده سوطا ترعد يده وإن رفعه ما يقدر على أن يضرب به فرسه. وكان أمير سلاح حاضرا في المجلس، فرأى أن وجه السلطان قد تغير لونه من كلام سنقر الأشقر، وأسرع في قوله: يا خوند والله لا البحرية ولا غيرهم، فكل عسكر مصر والشام اليوم يدعون بحياتك وطول عمرك حتى تعيش لهم طويلا فيعيشون في ظلك وخيرك، فسكن ما بالسلطان عند ذلك. ولما تفرقوا من عند السلطان وجاء كل أحد منزله قال شهاب الدين صمغار ولد سنقر الأشقر له: يا خوند أنت تعرف أن هذا السلطان شاب حاد النفس مدل بسلطنته، فلأي شيء تجاوبه كل وقت، وما كان يضرك لو سكت عن الجواب عما سمعت، فقال بعد أن نظر إليه طويلا: ما قلت له هذا القول إلا لعلمي بما في نفسه مني ومن غيري من يوم كنا نازلين على قلعة الروم واستشار الأمراء في الرجوع لأجل المغولي، وكل وقت يحدث هذا الحديث بين مماليكه ويسبني، فالموت خير من مثل هذه الحياة النجسة، ثم بكى بكاء شديدا. وكان وقوع المجلس المذكور في السابع والعشرين من رمضان، ولما دخلت عليه الأمراء ليلة العيد للتهنئة وتقبيل يده، ثم خرجوا، أرسل الشجاعي والحجاب خلفهم، فرجعوا، وأمر عند ذلك بالقبض على سنقر الأشقر وطقصو وطلب لاجين فلم يدركوه، وكان قد سبقهم بالخروج، وقد ذكرنا ما جرى عليه وكيف كان مسكه بعد ذلك، ووقع حياط عظيم يوم العيد، فلم يتهن أحد بالعيد. ومن غريب الأمر أن بعض الخاصكية اعتنى بموفق الدين خطيب حماة وولاه السلطان خطيب دمشق مكان الشيخ عز الدين، واتفق وقوع هذا الحياط، وللموفق صلاة العيد وخطبته، فنظم فيه بعض الدماشقة: خطب الموفق إذ تولى خطبة ... شق العصى بين الملوك وفرقا وأظنه إن قال ثانيةً غدا ... دين الأنام وشملهم متمزقا

ذكر من توفي فيها من الأعيان

قلت: موفق الدين هذا هو أبو المعالي محمد بن عز الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم، وعز الدين هو الإمام العلامة الزاهد العابد القدوة العارف شيخ الطريقة أبو العباس أحمد الفاروثى الواسطي الرفاعي، وكان قد تولى الخطابة بجامع دمشق في الثاني والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، عوضا عن الشيخ زين الدين بن المرحل بحكم وفاته. وفيها: وصل مملوك نائب حلب إلى القاهرة، وعرف السلطان أن نائب حلب عند توليته - كما تقدم - جرد عسكرا إلى ناحية ملطية بسبب الغارة، وذلك أن بعض التجار شكا إليه أن جماعة طرحوا عليهم من أهل ملطية، فأخذوا ما معهم، وجعل مقدم المجردين الأمير سيف الدين بكتمر الحلبي، فساروا إلى أن وصلوا إلى أرض ملطية وهجموا على ربضها، فوجدوا قد نزل بها تلك الليلة أمير تومان ومعه أربعة آلاف فارس، وكان السبب لحضورهم أن أهل ملطية لما اتفق منهم ما اتفق، علموا أن نائب حلب لا بد أن يجرد إليهم عسكرا، فبعثوا إلى نائب الأردو وعرفوه بذلك، فسير إليهم هؤلاء، واتفق وصولهم مع وصول عسكر حلب في تلك الليلة، فلما هجموا رآهم المغول فركبوا إليهم، وكان عسكر حلب ألفا وخمسمائة فارس، فلما رأوا المغول اجتمعوا وتشاوروا ماذا يكون العمل؟ فقال الحلبي وكان من أهل الشجاعة والفروسية: أنتم تعلمون أن حلب بعيدة وإذا قصد أحد منا أن يهرب يموت في الطريق ويكون من أهل جهنم، فنقوم ونجتهد، فإن فتح الله لنا ونصرنا على هؤلاء يكون لنا الوجه الأبيض عند الله وعند السلطان والناس، وإن قتلنا فيكون الأجر على الله ونبعث مع الشهداء، وأنا أول من يصدم هؤلاء ونفسي تحدثني بالنصر، فأجابوه بالسمع والطاعة، فعند ذلك جمعهم طلبا واحدا، فصدمهم صدمة عظيمة، فجاءت طعنة لمقدم المغول من بعض الحلبيين، فوقع إلى الأرض، وولى بقية أصحابه منهزمين، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا جمالا كثيرة، وأغناما كثيرة، ورجعوا إلى حلب سالمين ومعهم رءوس القتلى وثلاثون أسيرا من المغول، فكتب النائب بذلك إلى السلطان، فرسم له بالتشريف وكتب له بالشكر والثناء، ورسم لبكتمر الحلبي بإمرة طبلخاناة، وكان أمير عشرة، ووردت بعد ذلك رسل من ملطية ومعهم جميع ما عدم لذلك التاجر، فرسم السلطان بفكاك أسراهم. وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين الباسطي المنصوري. ذكر من توفي فيها من الأعيان الخطيب الإمام العالم زين الدين أبو حفص عمر بن مكي بن عبد اصمد الشافعي، المعروف بابن المرحل. وهو والد الشيخ صدر الدين بن الوكيل، سمع الحديث وبرع في الفقه، وفي علوم شتى منها علم الهيئة وله فيه وفي غيره تصانيف، وقد ولى خطابة جامع دمشق، ودرس، وأفتى، وكانت وفاته ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول، ودفن بباب الصغير. جلال الدين الخبازى: هو الشيخ الإمام العلامة عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي، أحد مشايخ الحنفية الكبار. أصله من بلاد ما وراء النهر، واشتغل هناك، ودرس بخوارزم، وأعاد ببغداد، ثم قدم دمشق فدرس بالعزية البرانية، والخاتونية البرانية، وكان فاضلا، بارعا، منصفا مصنفا في فنون كثيرة. وقال الذهبي في حقه: المفتي الزاهد الحنفي، رأيته لما قدم دمشق فدرس بالمعزية البرانية، ثم حج، ودرس بالخاتونية البرانية. قلت: ومن تصانيفه الحواشي على الهداية المشهورة، وكتاب المغنى في أصول الفقه وهو كتاب نافع عظيم، ومختصر لطيف كاف شاف، وشرحه كثير من المتأخرين، فأوضحها بيانا شرح الإمام العالم سراج الدين الهندي الحنفي، وهو أول كتاب قرأته في الأصول على المشايخ الكبار في البلاد الشمالية في حدود سنة ثمانين وسبعمائة، وكانت وفاته لخمس بقين من ذي الحجة، وله ثمان وستون سنة، ودفن بمقابر الصوفية. الشيخ الفاضل الأديب نجم الدين أبو بكر بن أبي العز بن مشرف الأنصاري الكاتب. مات في هذه السنة، وصلى عليه بجامع دمشق، ودفن بسفح قاسيون. وكان من الفضلاء، وكان يكتب خطا منسوبا على طريقة ابن البواب، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله يمدح علم الدين الدواداري: إن المحل إذا علا ... وقف المفوه في الملا وأجاد في وصف القري ... ض مجملا ومفصلا وأراك قسا في عكا ... ظ إذا محاسنكم تلا

وعلى الحقيقة مجدكم ... بعطى البليغ المقولا يعطى النضار مع البيا ... ن مع البديع على الولا الشيخ الإمام العالم، المقرئ الزاهد العابد، بقية السلف، رضى الدين أبو الفضل جعفر بن القاسم بن جعفر بن علي بن محمد بن حبيش الربعي، المعروف بابن دبوقا. مات في هذه السنة ودفن بقاسيون، قرأ بالسبع وروى عن الشيخ علم الدين السخاوى وغيره، وله نظم كثير، فمن ذلك قوله: إن الكبائر سبع عشر فاعلمن ... للقلب منها أربعٌ فتعلم إشراكه إصراره وقنوطه ... والأمن من مكر الإله المنعم وكذ اللسان الشرك قذف المحصنا ... ت السحر قول الزور فافهم واعلم والبطن أموال اليتامى والربا ... والخمر جماع لسائر ما ذم يختص بالفرج اللواط مع الزنا ... ويدٌ إذا سرقت ونيل يحرم للرجل واحدة إذا من زحفها ... فرت محاققةً ولما تقدم ولسائر البدن العقوق فإن نجت ... ما قد ذكرت وقيت حر جهنم وقال: جميع عذاب منك للصب يعذب ... وكل كريه منك في الحب طيب فعذب بما تختار في كل حالةٍ ... فأنت على كل الأمور محبب تساوى العطا والمنع والوصل والجفا ... لدى وبعدى في الهوى والتقرب فهل ترى في كل حال إلى سوى ... جنابك إذ ما تبتلينى أهرب بحق الذي أعطاك في الحسن غاية ... إلى بعضها كل الملاحة ينسب واطلع من فوق القضيب على النقا ... لنا قمراً من حسنه الطرف يعجب ونمنم في الياقوت خط زمرد ... يسطره ماء الصبا ويرتب وقال لماء الحسن قف صحن خده ... فما زج فيه النار وهي تلهب أمرت الدجى أن يستطير ظلامه ... بها صبحه حتى القيامة يذهب وقلت لسقمى قد أبحتك جسمه ... فأعضائي في أيدي النوائب تنهب ترفق فما أبقيت غير حشاشةٍ ... وقلبٍ على جمر الغضى يتقلب جنيت وقد عادت على جنايتي ... فيا ليت شعري من ألوم وأعتب نديمي حدثني قديم حديثه ... فإن حديث الحب للسمع مطرب تعلقته في عنفوان شبيبتي ... وها مفرقى مما أعانيه أشيب فدعني من لبنى ولبلى وزينبا ... فمن في الورى ليلى ولبنى وزينب وعد عن الأوطان لا تلو نحوها ... وخل وقوفا بالديار يشبب قل الله واتركهم ولا تشتغل بهم ... وشاهد فإن القوم عن ذاك غيب لعمرك ما في الكون إلا جلاله ... ألم ترني إن بعد أفنى وأذهب فيا من إليه يرجع الأمر كله ... ومنه بدا في الكون ما فيه يعزب اقلنى ذنوبا أوثقتني جمةً ... فإنك ذو عفوٍ وإني مذنب ولا تخزني في حين عرض صحيفتي ... فوا خجلتنى مما جنيت ويكتب قصدتك أبغى رحمةً منك سيدي ... وأنت كريمٌ قاصدٌ لا تخيب لئن ضقت ذرعا بالذنوب فإنني ... لأعلم حقاً أن عفوك أرحب وصل على المختار من آل هاشمٍ ... نبي الهدى ما لاح في الأفق كوكب وعترته ثم الصحابة كلهم ... صلاة كنشر المسك بل هي أطيب الصدر الرئيس سعد الدين سعد الله بن مروان بن عبد الله الفارقي الشافعي، الكاتب بالمدرسة الناصرية بدمشق. مات في هذه السنة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان نسيبا بليغا، شاعرا محسنا، كتب الدرج للصاحب بهاء الدين بن حنا بمصر، فلما مات ابن حنا سافر إلى دمشق كاتب إنشاء. وله شعر فمنه قوله: قف بي على نجد فإن قبض الهوى ... روحى فطالب خدٍّ ليلى بالدم وإذ دجى ليل الفراق فناده ... يا كافراً حللت قتل المسلم وله:

تاه على عشاقه واستطال ... مذ قصر الحسن عليه وطال كل سماء وجهه أشرقت ... فليت ما أشرقت للزوال قد فصل الشعر على خده ... ثوب حدادٍ حين مات الجمال وقال، وكتب به إلى الصاحب بهاء الدين بن حنا: يمم علياًّ فهو بحر الندى ... وناده في المضلع المعضل يسرع إذا سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من عل فرفده مجدٍ على مجدب ... ورفده مفض على مفضل وقال: بحبك في شرع الغرام يدين ... محبٌّ برته لوعةٌ وحنين إذا كتم الأسرار منه فؤاده ... فإن لسان الدمع منه مبين وإن قابلته نسمةٌ حاجريةٌ ... ثنى عطفه نوحٌ لها وأنين فليتك يا من علم الغصن ينثنى ... تعلم منك القلب كيف يلين وليت قديما من هواك مجدد ... رضاك لتقضى من جفاك ديون سكنت سواد القلب والطرف دائما ... فما لبياض العيش فيك سكون وألبسك الإحسان والحسن عزة ... فكل عزيز في هواك يهون الشيخ الإمام العالم مجد الدين عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر الطبري، إمام صخرة بيت المقدس، وشيخ الحرم الشريف. مات في هذه السنة، ودفن بمقبرة ماملا ظاهر القدس، كان من الصلحاء الأخيار، وروى عن جماعة. وله شعر فمنه: يروق لي منظر البيت العتيق إذا بدا ... لطرفي في الإشراق والطفل كأن حلته السوداء قد نسجت ... من حبة القلب أو من أسود المقل أبو المكارم محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن أحمد بن حوارى، المغربي الأصل، الدمشقي الحنفي، المعروف بابن شقير، الأديب الشاعر. مولده في سنة ست وستمائة، وهو من شعراء الملك الناصر صاحب حلب، سمع الزبيدي وابن اللتى والهمداني وابن رواحة والسخاوى والقطيعى وابن رواحٍ وجماعةً أخرى بديار مصر، وعنى بالحديث عناية كثيرة، وكتب الكثير، وتعب وحصل، وروى عنه ابن الخباز والدمياطي وابن العطار وآخرون، توفى في هذه السنة ووقف أجزائه بالضيائية. وله في الملك الناصر صاحب حلب مدائح كثيرة، ومن شعره قوله: ما ضر قاضي الهوى العذري حين ولى ... لو كان في حكمه يقضى على ولى وما عليه وقد صرنا رعيته ... لو أنه مغمدٌ عنا ظبي المقل يا حاكم الحب لا تحكم بسفك دمي ... إلا بفتوى فتور الأعين النجل ويا غريم الأسى الخصم الألد هوى ... رفقا على فجسمي في هواك بلى أخذت قلبي رهناً يوم كاظمةٍ ... على بقايا دعاوٍ للهوى قبلي ورمت مني كفيلا للهوى عبثاً ... وأنت تعلم أني بالغرام ملى وقد قضى حاكم التبريح مجتهداً ... على بالوجد حتى ينقضى أجلى لذا قذفت شهود الشرع فيك عسى ... أن الوصال بجرح الجفن يثبت لي لا تسطون بعسال القوام على ... ضعفي فما أفتى إلا من الأسل هددتني بالقلى حسبي الجوى وكفى ... أنا الغريق فما خوفي من البلل وله: واحيرة القمرين منه إذا بدا ... وإذا انثنى يا خجلة الأغصان كتب الجمال ويا له من كاتبٍ ... سطرين في خديه بالريحان القاضي الصاحب فتح الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي محيي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر بن نشوان. صاحب ديوان الإنشاء الشريف، وكاتب الأسرار في الدولة المنصورية بعد ابن لقمان حين تولى الوزارة، وكان ماهرا في هذه الصناعة، وحظى عند المنصور، وكذا عند ابنه الأشرف. توفى يوم السبت النصف من رمضان بمدينة دمشق، وخلف من الأولاد القاضي علاء الدين علي، فأجرى السلطان عليه ما كان باسم والده من الجامكية والجراية والراتب، فاستقر بديوان الإنشاء وله من العمر دون عشرين سنة، فاستصغر السلطان سنه في ذلك الأوان.

السنة الثانية والتسعين بعد الستمائة

فرتب القاضي تاج الدين أبا العباس أحمد بن شرف الدين سعيد بن شمس الدين أبي جعفر محمد بن الأثير الحلبي التنوخي صاحب ديوان الإنشاء الشريف، لأنه كان ماهرا في هذه الصناعة، فلم يلبث إلا شهرا أو حول شهر حتى أدركته الوفاة، فقضى إلى رحمة الله في العشر الأوسط من شوال من هذه السنة بظاهر غزة، وعمره أحد وسبعون سنة، وكان ماهرا في حل المترجم، بلغ فيه إلا أن حله بأحد عشر شكلا، وولى بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الطاهر إسماعيل ابن أحمد، ولم يزل به إلى آخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وللقاضي فتح الدين شعر حسن، فمنه قوله: إذا كنت ذا أصل فكن متواضعاً ... إن التواضع من زكاة المغرس وإذا حللت بمجلسٍ فاجلس به ... حيث انتهيت فذاك صدر المجلس وله: وكتب بها إلى ابنه في مرضه الذي مات فيه: إن شئت تنظرني وتنظر حالتي ... قابل إذا هب النسيم قبولا فتراه مثل رقة ولطافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا وهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت " اتخذت مع الرسول سبيلا " الأمير عماد الدين يونس بن علي بن رضوان بن قرقس. توفى في شوال منها، ودفن بتربة والده بالحزيميين داخل دمشق، وكان عنده فضيلة ومكارم أخلاق، وكان بعد موت أبيه أعطى طبلخاناة، وبقى على إمرته إلى أواخر الدولة الناصرية، ثم بطل الإمرية في الدولة المظفرية، وباع أملاكه ونفقها، وبقى يتقوت من وقف والده، وكان الملك الظاهر يكرمه. الأمير شرف الدين بن خطير أحد أمراء دمشق. استشهد في فتح قلعة الروم، وكان من بيت كبير في بلاد الروم، ولوالده عدة مماليك وردوا صحبته، وصار له في مصر سمعة وشأن، وتأمرت منهم جماعة كثيرة. الأمير شهاب الدين أحمد بن الركن أمير جندار، مات شهيدا على قلعة الروم. الأمير سابق الدين الميداني. مات بدمشق في العشرين من شوال، ودفن بقاسيون، كان أميرا كبيرا شجاعا ذا مهابة، وتأمر بعض مماليكه فيما بعد. الأمير علم الدين سنجر الحلبي. مات في عاشر ذي القعدة وكان قد مرض بعد حصار قلعة الروم، فحمل في محفة إلى مصر، فمات بعد حضوره بسبعة أيام، وكان من أكابر الأمراء الصالحية، عصى على الظاهر وتسلطن بالشام كما تقدم، وكان طويل القامة، مخلا بعينه اليسرى، ذكروا عنه أنه أصيب بسهم، وكان ذا بأس وشهامة، وقوة وشجاعة، وإقدام شديد. وقيل: إنه كان في الدولة الظاهرية إذا نزل من الخدمة إلى بيته لا ينزل عن فرسه حتى يقدم له قنطارته محشوة برصاص فيلعب بها وهو راكب، ثم يأتي إلى فردة تبن فيطعنها ويشيلها من الأرض، ثم ينزل ويأخذ عمودا حديدا زنته قنطار فيلف به يمينا ويسارا، ثم يجلس على سماطه فيأكل خروفا، ومات وهو في عشر التسعين وقد انحنى وبان عليه الكبر، وقيل: مات وعمره اثنان وتسعون سنة. الملك المظفر قرا أرسلان بن إيلغازى بن أرتق الأرتقى، صاحب ماردين. توفى في هذه السنة، وله ثمانون سنة، وكانت دولته ثلاثا وثلاثين سنة، وقام من بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد. الملك الكامل بن الملك المعظم، أحد ملوك بني أيوب. توفى بدمشق في هذه السنة، وكانت له حشمة وأدب. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية والتسعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاون الصالحي الألفي. وفيها: ظهرت نار بأرض المدينة النبوية، نظير ما كان في سنة أربع وخمسين على صفتها إلا أن هذه يعلو لهيبها كثيرا، وكانت تحرق الصخر ولا تحرق السعف، واستمرت ثلاثة أيام، كذا ذكر في تاريخ ظهير الدين الكازرونى. وفيها: ورد كتاب من نائب حلب يذكر فيه أن صاحب سيس قد تعرض لبعض التجار وأخذ أموالهم، وأخذ منهم جماعة أسرى، وأنه أرسل إليه كتابا، فأمره برد مالهم والأسرى إليه، وإلا سير إلى بلاده عسكرا للغارة؛ وأنه أرسل إليه كتاب يذكر فيه أنه ما تعرض لشيء من ذلك ولا عنده أسرى، واستأذن نائب حلب من السلطان في تجريد عسكر من حلب إلى بلاده، ويضيف إليهم جماعة من التركمان.

فلما وقف السلطان على كتابه طلب الأمراء وعرفهم بذلك، فشرع كل واحد منهم يحسن للسلطان أمر الغزاة وفتح القلاع، وأن سيس من أجل البلاد، ولأهلها سعادة كبيرة، وبلادها عامرة بالخير، وذكروا له ما فعله السلطان الظاهر في سائر غزواته والقلاع التي أخذها، وأنه ملكها لأكابر أمرائه ومماليكه، فأضمر السلطان في نفسه أن يركب إلى سيس بنفسه ويملكها، ثم طلب الوزير وأمره أن يكتب بتجهيز الإقامات والعلوفات، وأن يكتب إلى سائر النواب من البلاد الشامية أن يتأهبوا ويجهزوا ما يحتاجون إليه من آلات الحصار وغيرها، وعرفهم أن قصده أخذ السيس. ثم ركب بعزم قوى إلى أن وصل إلى دمشق، فخرجت إليه سائر أهل دمشق، وفرحوا بحضوره، فما أقام فيه يومين حتى حضر مملوك نائب حلب وأخبر أن رسل صاحب سيس قد حضروا صحبة نائب تكفور وجماعة من أكابر الأرمن، وبعد يومين وصلوا إلى دمشق، وجلس السلطان في الميدان وأحضرهم، فاندهش نائب تكفور ومن معه مما عاينوه من عظمة عسكر السلطان، وكان السلطان الأشرف يحب الزينة في اللباس، فلما دخلوا قبلوا الأرض بين يديه وأخرجوا كتاب تكفور، فقرئ على السلطان، وفيه تضرع كثير، وإظهار ذله، وأنه بلغه أن السلطان قصده من غير سبب، وأن ما نقل عنه غير صحيح، فإن ثبت عليه شيء من ذلك أو على أحد من بلاده كان عليه أضعاف ما ذكروا عنه من أخذ أموال التجار وغيرهم، وأن السلطان يرسل إليه من يثق به، فيحلفه أنه لا يدع في بلاده أسيرا من المسلمين، وأنه يضاعف الحمل المقرر عليه، ثم أحضروا ما كانت صحبتهم من البلور الفاخر والأواني الذهب والفضة والأواني المرصعة، فالفصوص والبسط الهائلة، وأشياء غير ذلك من التحف التي تصلح للملوك. وفي كتابه أيضا: أن البلاد بلاد السلطان، وأنه نائبه فيها. وقرئ أيضا كتاب نائب حلب: وفيه يشير على السلطان بقبول هداياهم والسكوت عنهم، فقبل السلطان هداياهم، وآخر ما انفصل عليه أمرهم على أن يسلموا إلى السلطان قلعة بهسني، وقلعة مرعش وتل حمدون، وأنه يبعث إليه مفاتيح القلاع الثلاث، وإن لم يسلمها غزاه السلطان، فخرجت الرسل من عنده على هذا، وأقام السلطان في دمشق إلى أن حضر رسله وصحبتهم مفاتيح القلاع المذكورة وهدية أخرى. وفي كتابه: سأل السلطان أن تكون بهسني للسلطان ولكن يكون هو نائبه فيها، ويقوم بجميع ما يصل إليها، فأبى السلطان ذلك وتسلم المفاتيح، وقرر عليه زيادة مائة ألف درهم، ورسم للأمير سيف الدين طوغان المنصوري أن يكون نائبا في بهسني، وأوصاه بحفظها، لأنها من أجل القلاع وأحصنها ولها ضياع كثيرة وأراضي ومزدرعات، وكانت من أعمال حلب، وهي للمسلمين، وكان الحاكم عليها صاحب حلب الملك الناصر، فبقيت إلى أن دخل هلاون إلى حلب وتسلم سائر البلاد، فبلغ تكفور صاحب سيس أن هلاون تسلمها، فسير إليه وأرغبه بالهدية وحمل له مالا وسأله أن تكون بهسني له، فسلمها إليه، وبقيت في يده إلى أن طلبها السلطان الأشرف فلم يمكنه منعها منه على ما ذكرنا. ثم كتب السلطان إلى نائب حلب بمنع الغارة على بلاد تكفور، وبإكرامه. وأقام السلطان في دمشق، ثم سير عسكره، ودخل هو البرية للصيد، ثم عاد إلى مصر، وعند دخوله طلب الأمير بيدرا وسأله عمن بقى من الأمراء في السجن، فعرفه أن الأمير بدر الدين بيسرى في السجن، فأمر بإطلاقه، وقد ذكرنا كيفية إطلاقه في السنة التسعين على ما ذكره بعض المؤرخين. وذكر بيبرس في تاريخه إطلاقه في هذه السنة وقال: وفيها أفرج السلطان عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي من الاعتقال، وكان له فيه حول ثلاثة عشر سنة، وأعطاه منية بني خصيب دربستا ومائة فارس، واتخذه لمنادمته وملازمة حضرته، وكان يأنس إلى دعابته، ويضحك من مجانته، وبقى كذلك إلى ما كان منه ما نذكره. وفيها عزم السلطان على التوجه إلى الوجه القبلي متصيدا ومتفرجا، فتقدمه وزيره شمس الدين بن سلعوس لتجهيز التقادم والإقامات من جهة العربان والولاة والأعيان، فكتب إليهم بالاهتمام والاستعداد التام، وأقام الأمير بدر الدين بيدرا بالقلعة، وخرج السلطان متوجها إلى الوجه القبلي.

فلما تحدث الوزير في الأعمال لتحصيل الأموال وتقرير التقادم من الخيل والجمال، وجد بيدرا عدة من البلاد محمية باسمه، وله بها كثير من الحواصل والغلال، مع شغور الشون السلطانية، ووجد نوابه الذين بكل جهة يدافعون عنها، فأوحى إلى السلطان من أمره ما غيره عليه، وبلغ ذلك بيدرا فحصل في قلبه تغير. ولما قضى السلطان الوطر من الصيد، ووصل إلى قوص، عاد إلى قلعته، واهتم له الأمير بيدرا بضيافته عند عوده، وضرب له بالعدوية خيمة من الأطلس الأحمر بأطناب من الإبريسم الملون، وعمد صندلية محلاة بفضة مطلية منقوشة بأنواع النقوش، مرقشة بإبداع الرقوش، مفروشة ببسط من الحرير، مصورة بغرائب التصوير، وعمل له ضيافة بالغ فيها ليتلافى سعاية ابن السلعوس إن أمكن تلافيها. فنزل السلطان في الخيمة قدر ساعة، ثم ركب إلى القلعة، ولم يظهر بشاشة لقبولها، ولا استحسانا لها. وجاء في نزهة الناظر: وفي هذه السفرة حط الوزير على بيدرا نائب السلطان، وتمكن من الحديث فيه والتهمة له لأجل....... واتهامه هو بالسلطان، وكان في نفسه من بيدرا أمور كثيرة، فسعى الوزير في طول الطريق يجهز...... كفاية، وإذا استعجزه السلطان يقول: يا خوند، ما كل ما يعلم يقال،...... البلاد العامرة لبيدرا، والذين فيها نوابه، لا يمكن منهم الوالي ولا غيره، والبلاد الخراب كلها للسلطان، وما فيها شيء، وأنه يشترى كل شيء بالدراهم من بلاد بيدرا، لكونها عامرة، وبقى كذلك طول الطريق، وإذا خرج من عند السلطان، يقول للأمراء: يا مسلمين الأمير بيدرا يأخذ بلادي وما أجد الإقامات إلا من بلاد الأجناد، وهو مالك البلاد وأنا أشتري الإقامات. وكل من كان من الأمراء والخاصكية من جهة بيدرا يكتبون إليه بذلك، ويعرفونه، فانحصر بيدرا لذلك انحصارا شديدا، فسير بعد ذلك إلى سائر بلاده بعمل الإقامات إلى السلطان والأمراء، ومع هذا كله أضمر له السلطان السوء. وكان قراسنقر وبكتمر السلحدار وبعض المماليك من جهة بيدرا، فسيروا إليه، وقالوا له: تحيل في دفع ما أضمر له السلطان في خاطره مما قاله الوزير، وأعمل ضيافة هائلة عند تعدية السلطان وقدم له. . . . . . . . . من جميع الأشياء. . . . . . . . . وعلى هذا شرع في تجهيز هذه الأشياء، وكتب إليهم، وسألهم أن يحسنوا بالقضية مع السلطان ويعرفوه أنه يريد أن يعمل ضيافة في العدوية عند تعدية السلطان، ويقدم له تقادم جليلة، فقالوا ذلك للسلطان فلم يلتفت إليهم، فلم يزالوا به إلى أن أرضوه بذلك، ثم استشار الأمراء الكبار في ذلك، فقالوا له: بيدرا مملوكك على كل حال، ولا بأس أن تجبر خاطره. فأرسلوا بذلك يعرفون بيدرا، فنهض بيدرا عندما قرب نزول السلطان في العدوية، وضرب خيمة أطلس - على ما ذكرناه -، وعمل في وسط الدهليز كرسيا مصفحا بالذهب، وخلفه خركاة. وقال صاحب النزهة: ذكر لي زردكاش بيدرا أن الخركاة بمفردها غرم عليها بيدرا ستين ألف دينار. وشرع في عمل الطعام، فأقام ستة مطابخ، ولم يبق أحد في مصر والقاهرة إلا وقد خرج إلى العدوية، ونصب حول الدهليز أحواضا فيها السكر والليمون، وأحواضا فيها القمز، وأحواضا فيها السويق، فكانت مائة حوض، وأما. . . . . . فأخبر صاحب النزهة أنه ألف وأربعمائة رأس من الغنم، ومائة إكديش، وستون رأسا من البقر. ولما قرب السلطان نزل بيدرا وقبل الأرض، ثم قام وشد وسطه بمنديل وبسط له عشرة ثياب أطلس، فدخل السلطان الدهليز فدهش وصار يردد بصره فيه ويعجب، وقال: يا نائب السلطان متى عملت هذه، فقال: يا خوند، لي مدة سنة حتى شرعت في أستعد لها بما يسر خاطر السلطان؛ والمملوك يسأل مرة أخدم السلطان. . . . . . وقبل الأرض. . . . . . وكان قد جهز لكل أحد منهم. . . . . . ذهب، وكنبوش زركش، فصار كل أمير يخرج ثم يجئ ويقبل الأرض، فقال السلطان: لقد أفقرتم النائب، ثم بعد ذلك قام السلطان وركب. وكان الأمير طقجى خصيصا بالسلطان، ومن جهة بيدرا، فقال: يا خوند، كم تقولون بيدرا أخذ الكل، والله لو مسكته ما لقيت نصف ما غرم في هذه المدة، فتبسم السلطان، وقال: صدقت، والله أفقرناه. ثم بعد أن رحل السلطان نهبت العوام والحرافيش باقي الأطعمة والحلاوات جميعها.

قال صاحب النزهة: وسألت علاء الدين أمير جاندارية والركن الطقجقى بعد مدة من انقضاء الدولة الأشرفية عما غرمه بيدرا على تلك الضيافة، فأخبراني أن مجموع ما غرمه في الدهليز الأطلس والخركاة والتقادم للأمراء والسلطان نحو مائة وخمسين ألف دينار. وفيها أرسل السلطان وأحضر الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل على البريد إلى الديار المصرية، فتوجها من حماة، وعندهما خوف عظيم بسبب طلبهما على البريد، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجهما، وحال وصولهما شملتهما الصدقات السلطانية، وأدخلا الحمام بقلعة الجبل فأنعم عليهما بملبوس يليق بهما، وأقاما في الخدمة أياما. ثم خرج السلطان على الهجن إلى الكرك، فسار في الطريق البعدية من جهة البرية، وسارت العساكر على الجادة إلى دمشق، وأركب صاحب حماة وعمه على الهجن صحبته، لأنهما حضرا إلى مصر على البريد ولم يكن معهما خيل ولا غلمان، وسارا في خدمته في الكرك، ولاقتهما تقادمهما إلى بركة زيزا، فقدماها السلطان. ولما وصل السلطان إلى الكرك والشوبك أعطى الأمير جمال الدين نائبه بها سبع بلاد من أعمالها، ثم سار إلى دمشق في جمادى الآخرة، فالتقيه العساكر فيها، ثم سار من دمشق في ثاني رجب نحو حمص وسلمية ومعه أكثر الجيش، وأخذ وجه البرية متصيدا، ووصل إلى القرقليس وهو جفار في طرف بلد حمص من الشرق، ونزل عليه، وحضر إلى خدمته هناك مهنى بن عيسى أمير العرب، وأخواه محمد وفضل، وولده موسى بن مهنى، فقبض السلطان على الجميع وأرسلهم إلى مصر، فحبسوا في قلعة الجبل؛ ووصل السلطان إلى قصير، وأعطى صاحب حماة الدستور، فتوجه إلى بلده. وعاد السلطان إلى مصر، ووصل إليها في الثامن والعشرين من رجب بعد أن جرد عسكرا ليقيم بحمص صحبة ثلاثة من المقدمين وهم: الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير شمس الدين كرتيه، والأمير سيف الدين بلبان الحمصي. قال بيبرس في تاريخه: وكنت من مضافى الأمير بدر الدين أمير سلاح، فأقمنا بحمص ثلاثة أشهر. وقال النويري في تاريخه: ثم رسم السلطان للمجردين هناك، وصاحب حماة وعمه بالمسير إلى حلب والمقام بها لما في ذلك من إرهاب العدو، فسارت العساكر إليها، وخرج المظفر صاحب حماة وعمه الأفضل معهم من حماة يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان، ودخلوا حلب يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شعبان وأقاموا بها. وذكر في نزهة الناظر سبب مسك مهنى وإخوته: وذلك أن السلطان لما ورد إلى كرك تلقى هؤلاء السلطان من غزة وقدموا له خيلا وهجنا، ومشوا في صحبة السلطان، وكانت سائر العرب في ذلك الوقت لا يلبسون إلا طراطير حمر مترفعة عن العمائم ولهم عذبات مطولة، ونزل السلطان على نهر يجري، فلما دخلت الأمراء إلى الخدمة وحضر مهنى وإخوته أيضا والأمير برغشة وأخوه مظفر صحبة مهنى، اتفق للسلطان انشراح في ذلك الوقت، فشرع يمزح مع العرب، فالتفت إلى مهنى وقال: يا مهنى أريد أن أقلع هذه الطراطير من رءوسكم وألبسكم كلوتات مثل العسكر، فنظر مهنى إليه نظر المغضب من قوله، وقال يا خوند: تريد أن تجعلنا مساخر ومضحكة للعرب، معاذ الله من ذلك، فتغير السلطان من قوله وسكت على غيظ منه، ثم قاموا وتفرقوا.

ولما حضروا في المجلس الثاني إلى الخدمة على العادة، أراد السلطان أن يعمل به شيئا ينتكى به، وكان قد عمل على النهر خشبا يمشون عليه مثل الجسر، فكل من كان يحضر من ذلك الجانب يمشى عليه، وأمر السلطان لبعض الجمدارية أن يقصر الخشب قليلا ويدوس عليه برجله، فإذا رأى مهنى وقد أراد الجواز عليه وتوسط، يرفع رجله حتى يقع في النهر، ففعل مثل ما قال السلطان، وجاء مهنى ومشى عليه إلى أن توسط، فرفع ذلك الجمدار رجله فخرج الخشب عن موضعه، فوقع مهنى في وسط النهر إلى حلقه وغطس غطسة، فأدركوه وأخرجوه وهو في حالة عجيبة، فضحك السلطان حتى نهض من كرسيه ويقول: ويلكم، شيلوا أمير العرب، وهو يضحك. فغضب مهنى من ذلك غضبا شديدا وقال: والله ما سوى هذا إلا خبيث بن خبيث، فرد عليه برغشة وقال له يا أمير: لا تقل هذا القول، حاشى أن يكون في الملوك وأولاد الملوك خبيث. فتغير السلطان من ذلك تغيرا كثيرا. وقال مهنى: يا أمير ما عنيت الملوك ولا أولاد الملوك، وإنما عنيت الذي سواها من المماليك. فالتفت السلطان إلى الأمراء الحاضرين وقال: سمعتم مهنى وهو يقول لي: خبيث بن خبيث، فنهض الجميع، ومهنى معهم، وقبلوا الأرض، أنه ما أراد بهذا السلطان، وبقى مهنى يقبل الأرض ويحلف أنه ما نوى هذا، والأمراء يعتذرون عنه. وقال الأمير حسام الدين الأستاذدار: يا خوند لا تؤاخذ العرب فإنهم لا يعرفون هذه الأمور، ويتكلمون بكلام ولا يقصدون بذلك شيئا، فقاموا بعد ذلك وخرجوا، والسلطان يقول: يا مهنى، وهو خارج من عنده مع الأمراء، أوريك إن كنت خبيث بن خبيث أو خليل بن قلاون. ثم أن مهنى صبر إلى أن دخل الليل، فجاء إلى حسام الدين الأستاذدار وعرفه ما هو فيه من القلق بسبب ما وقع منه، وكان يركن إليه وبينهما مودة، فاستشاره أنه يقيم أو يرحل إلى أهله، فأشار عليه أن يرحل ولا يعود يقابل السلطان، لما كلن يعلم ما في باطنه من أمره، واتفق معه على الرحيل، وترك عنده من يثق به أنه يسير معه، ويقف على ما يقع من السلطان في أمره من الخير والشر، ثم يرسله إليه ويعرفه بالإشارة، ثم رحل باكر النهار. وعلم بذلك السلطان، فسكت عنه إلى أن اتفق ما اتفق من رواح السلطان إلى الشام، ثم إلى حمص وخروجه إلى الصيد كما ذكرنا، فلما فرغ سأل عن الطريق التي تأتى على أبيات مهنى في البرية حتى يجعل طريقه عليها، وأحس الأمير حسام الدين أن في نفس السلطان القبض عليه، فطلب ذلك الرجل الذي تركه مهنى عنده، فقال له: اذهب إلى مهنى وسلم عليه من عندي واعطه هذه السلة، ولم يقل له شيئا غير ذلك، فسبق القاصد إلى مهنى وعرفه أن السلطان جعل طريقه عليه، فقال: وأش قال لك الأمير حسام الدين فقال: لم يقل لي شيئا غير أنه أعطاني هذه السلة التي فيها الحشكنابك، ففتح مهنى السلة فوجد فيها بين الحشكنابك جملا مصنوعا من شمع وعليه قتب وخرج محمل، فعلم أنه أشار برحيله. فطلب إخوته وعرفهم الأمر، واتفق رأيهم على الرحيل. وهم في ذلك، فإذا صاحب حماة قد تقدم ليلاقى السلطان، فركب إليه هو وإخوته وعرفوه بأمورهم، واستشاروه فيما يفعل، فقال صاحب حماة: يا أمير إن سمعت منى فانظر في نفسك، فأي شيء قويت نفسك عليه فافعل واتكل على الله. فقال: والله قويت نفسي على لقياه، وإن كان قدر على أمر صبرت له، ثم قال له صاحب حماة: إن كان لا بد من الملاقاة فاملأ عينه بالضيافة والتقدمة وفارقه على ذلك. ثم ركب هو وأخواه فضل ومحمد وتلقوا السلطان، وترجلوا عن بعد، وقبلوا الأرض، وكان في نفس السلطان أن مهنى ما يقابله، فأقبل السلطان عليهم وسألوه في العزيمة، فأجاب السلطان إلى سؤالهم، وقصده القبض عليهم، وعند وصوله أبياتهم قد وجد طعامهم قد جهز، وكان قد احتفل له في ذلك اليوم احتفالا عظيما، فذبح في ذلك اليوم ثلاثمائة رأس غنم، وثلاثين إكديشا، وخمسين فصيلا، وأحضر مائتي منسف حلوى، وعشرة أحواض سكر، وسويق، وأحضر التين والزيت والفستق أكواما مكومة، فشرعت الأمراء في الأكل، والسلطان ينظر إلى مهنى وإخوته ويرى القبض عليهم، فتنظر مهنى إليه وعرف ما عنده من ذلك، فتقدم وباس الأرض، وقال يا خوند نحن اليوم من جملة رعيتك وقد شرفتنا وقبلت عزيمتنا، ونريد منك أن تتم خيرك وتأكل من طعامنا، فإن كان في نفس السلطان شيء يفعله فها نحن بين يديه.

وكان إلى جانب السلطان الأمير برغشه، فمد السلطان يده فأكل، وبرغشه يتحدث معه قليلا قليلا. فقال له يا خوند: أزل ما في خاطرك فإنا نحن كلنا عبيدك. فقال يا برغشه: أنسى قول مهنى: ما سواها إلا خبيث بن خبيث. فقال له يا خوند: صدقت، ولكن بقي له حق عليك حيث أجبت دعوته ونزلت أبياته وأكلت طعامه، فإن فعلت ما أضمرت في نفسك لا يبقى بدوي يأمن إلى السلطان، فعند ذلك سكن ما في نفس السلطان من الغيظ، وعلم أن الذي قاله برغشه صحيح. ثم شرع يتحدث مع مهنى ويطيب خاطره إلى أن طاب خاطره، ثم ركب السلطان ومهنى صحبته إلى أن نزل على حماة وأكل ضيافة المظفر، ثم خلع على صاحب حماة ومهنى عند رحيله. وبقى الأمر في نفسه إلى أن اتفق خروجه من مصر، فوقفت له جماعة كبيرة من التجار وعرفوه أن عرب مهنى تعرضت لهم في الطريق وأخذوا منهم شيئا كثيرا، وشكوا أمرهم إلى مهنى فقال لهم: ما هم عربى ولكن هؤلاء من بني كلاب، فردهم السلطان إلى دمشق، وبقى في نفسه إلى أن اتفق سفر السلطان بدخول البر، وأشار أن يكون العسكر والأمراء على حمص حين عودته، فراح السلطان إلى أن توصل إلى مكان منزل مهنى، وكان في ذلك اليوم حر شديد، ومهنى جالس في بيته، وقد رفع أطراف البيت، وزوجته إلى جانبه، فنظر فإذا بجماعة على بعد راكبين الهجن، فصاح لحاجبه وقال: رأيت جماعة قاصدين فلاقهم وأنزلهم في بيت الضيافة إلى أن يسكن الحر، فرجع الرجل وقد عاينهم وهم سبع نفر وهم قاصدون البيت، فالرجل يومئ بكمه إليهم أن يرجعوا من بيت الأمير، وهم لا يلتفتون إليه إلى أن وصلوا إلى البيت، فجاءهم الحاجب وقال، يا موالي انزلوا بيت الضيافة فإن الأمير هو وحريمه في البيت، فقال له السلطان: ارجع وقل لمهنى كلم الخليل. فقال يا مولاي: ابعدوا عن البيت قليلا، فصاح السلطان عليه وقال: ويلك قل له كلم الخليل، فاستهابه الرجل فرجع فوجد مهنى وقد خرج لما رآهم بقرب البيت واقفين فقال: ويلك ما قلت لك أنزلهم ببيت الضيافة. فقال يا مولاي: ما يسمعون مني وينهرونني، ويقول واحد منهم: قل لمهنى كلم خليلا، فعند ذلك رجف فؤاد مهنى، ووضع عمامته على رأسه، ونهض يجري إلى أن علم أنه السلطان، فصار يجري ويقبل الأرض ويقول: يا سلطان الإسلام فضحتنا اليوم. فقال له: ما عليك نحن جئنا برسم الصيد. فقال يا خوند: لا بد من نزولك. قال: لا ولكن اطلب إخوتك حتى يكونوا معنا في الصيد، فركب وبعث إليهم، فحضر محمد وأخوه الآخر وابنه، وقبلوا الأرض بين يدي السلطان، ثم قال له محمد: يا خوند يقبح علينا أن ترجع ولم تأكل ضيافتنا. فقال: أنا ما جئت إلا لصيد الغزال. فقال محمد: يا خوند وحياتك قد ظفرت بالصيد ونحن غلمانك. فقال: حتى نعود، فركبوا ودخلوا البرية وقضى السلطان وطره من الصيد يومين، وقد جهز له مهنى ضيافة كبيرة وسألوه، فرجع إلى بيوتهم فوجدهم قد جهزوا كل شيء حسن أعظم من ضيافتهم الأولى. قال صاحب التاريخ: وأخبرني جماعة كثيرة: لم يبق أحد من الغلمان من العسكر إلا وقد ملأ خرجه من سائر النقل وأنهم قد عملوا كل صنف من الأصناف على ناحية حتى عملوا مائة فصيل مصنوع من الحلوى، كل فصيل على منسف، فلما فرغت الأمراء من السماط طلب السلطان قراسنقر والأفرم أمير جندار وجماعة من الأمراء، فخرجوا إلى مهنى وإخوته ووضعوا الزناجير في رقابهم، وركب السلطان من البيوت، وخرجت النسوان وبكين وصحن وهن مكشوفات الوجوه، ثم أركبوهم الهجن وهم مقيدون. ولما نزلوا على حمص سأل مهنى الأمراء أن يسألوا السلطان في أن يطلق أحد إخوته، فإن بيوتهم ليس فيها رجل يدبرهم، فسألوا السلطان فأطلق أصغر إخوته، وأنعم بإمريات آل عيسى على آل مرا، ثم ألزم السلطان مهنى وإخوته أن يحضروا مال التجار الذين شكوهم، فالتزموا به. ثم ركب السلطان إلى الصيد أيضا، ورسم للعسكر أن يذهبوا إلى دمشق فيقيموا هناك حتى يحضر السلطان، وبعد أيام قدم السلطان إلى دمشق وكان يوم دخوله يوما مشهودا.

وفيها: سير السلطان الأمير عز الدين الأفرم إلى قلعة الشوبك ليخربها، فتوجه إليها وهدمها، وكان ذلك في غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير، وحكى أنه وجد بقلعتها أربعين ألف ختمة بخطوط منسوبة مذهبة، وربعات كثيرة كذلك، وكتبا عظيمة مدخرة من عهد بني أيوب، وزردخانة عظيمة القدر، ووجد في جملة ذلك سيفا عرضه شبر وأربعة أصابع مفتوحه وطوله أربعة أذرع. قيل: إنه سيف خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقيل: هو صمصامة سيف عمرو بن معدى كرب. وذكر في نزهة الناظر: أن السلطان لما استقر بمصر بعد عوده من الشام قبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جندار، وكان سبب ذلك أنه حصل للسلطان حنق بسبب عرب الشوبك وأنهم يقيمون فيها ويطلعون قلعتها، فكتب بذلك نائب الكرك إليه، فطلب الأفرم المذكور ورسم له أن يركب وينزل على قلعة الشوبك ويخربها. فقال له الأفرم: يا خوند كيف تخرب مثل هذه القلعة وهي قلعة عامرة آهلة، وهي حصن من حصون المسلمين، فنظر إليه نظر المغضب وقال: أنتم نفوسكم كبار وما خرج من رؤوسكم دعوى البحرية، وتزعمون أنكم أصحاب رأي ولا يجئ رأيكم إلا على رؤوسكم، ثم رسم بأخذ سيفه وتقييده في وقته، ورسم للوزير بالحوطة على موجوده بمصر والشام وكان له موجود عظيم جدا، وتمكن الوزير من ماله. قال صاحب النزهة: فأخبرني ولده أسد الدين أن من جملة ما حمل لبيت المال من جهته مائة ألف وستون ألف دينار، وستة وتسعون ألف أردب غلة، وكتب إلى دمشق بالحوطة على ما كان له فيها. وقبض أيضا على الأمير عز الدين أزدمر العلائي أحد الأمراء بدمشق، وكان له موجود كثير، وأحضر إلى مصر. وفيها أمر السلطان الوزير أن يكتب إلى المباشرين بدمشق لاستعمال مائة شمعدان مكفت؛ ويكتب اسمه عليها، وخمسين شمعدان ذهب، وخمسين فضة، ومائة وخمسين سرجا زركشا، ومثلها مخيشا، ويجهزون ألف شمعة، وأشياء كثيرة من هذا الصنف. وكان هذا لأجل المهم بسبب زوجته بنت نكيه، وكانت حاملا، وقرب ميلادها. ثم في شهر ذي الحجة رسم السلطان للعساكر بالتأهب للعرض والقيام من العدد، والتجمل بالنافلة والفرض، فاهتموا بالعدد الجميلة من الجواشن والقرقلات والخود والبركستوانات والتراكشى والكاسات وغير ذلك من العدد الفاخرة. وكان الباعث له على ذلك قرب ميلاد زوجته، فاهتم بذلك عند قرب النفاس، مؤملا أن يكون المولود ذكرا يحيى به ذكره، ويشرح له صدره، ويرث الملك من بعده، وتجمل العساكر تجملا لم ير مثله، وغالوا في أثمان العدد، حتى بلغ ثمن الجوشن الذي قيمته مائة درهم إلى ألف درهم وفوق ذلك. وفي اليوم الثالث من لعب القبق هبت رياح عاصفة، ونار من العجاج ما يملأ الفجاج، فصار النهار كالليل، وكان السلطان قد أمر باتخاذ الأطعمة، والإكثار من أنواعها، وتجهيز القمز والفواكه، وأصناف الحلوى، فكان المولود بنتا فلم يتم له ما رام، ولا انشرح لهذا الاهتمام. وذكر في نزهة الناظر أن السلطان لما جاء له بنت خشى أن يسأل عن ما كان قد استهم فيه، فأظهر أنه يريد أن يطهر أخاه محمدا وابن أخيه مظفر الدين موسى بن الملك الصالح، ورسم لنقيب الجيش والحجاب أن يعرفوا الأمراء والعساكر أن يلبسوا عدد الحرب هم وخيولهم، ويجتمع الجميع بالميدان الأسود خارج باب النصر، فأخذت الأمراء في الاهتمام لذلك. وبعد ثلاثة أيام خرجت السوقة ونصبوا سائر ما يحتاجون إليه من الصواوين والخيام والأخصاص، ونقلوا إليها سائر الأطعمة والنقل، وعملوا سوقا عظيما. ونزل السلطان في موكب عظيم، ولم يبق أحد من الناس من أكابر البيوت وغيرهم إلا وخرج يمضي ذلك اليوم، وهم في الزينة المذكورة من العدد. وفي اليوم الثاني رسم السلطان للعسكر أن يبدأ القبق، وعرف الحجاب أن أحدا لا يرد لا من الجند، ولا من مماليك الأمراء، وكل من أراد الرمي يدخل ويرمي. وطلب السلطان في ذلك الوقت الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سلاح، وقال أنتم أكابر الأمراء ومشايخ هذا الحال، فاشتهى أن تبدأوا وترموا القبق، حتى أبصر همة الشيوخ. فقال البيسرى: يا خوند ينبغي أن نتفرج هذا اليوم على هؤلاء الشبان الملاح إيش بقى فينا ونحن شيوخ، وقد ذهبت علينا. فقال: وحياتي عليك أن لا بد من أن ترمى.

وكان بيسرى قد علم أن السلطان يكرمه بهذا، وكان قد أعد له سرجا يليق لرمى القبق، وهو السرج الذي يكون قربوسه الوراني وطئة حتى إذا مال على قفاه لا يؤلمه ذلك، فركب ذلك السرج، واستعمل القبق وهو نائم على علاق قفاه إلى أن وصل إلى مكان الرمي رماه فأصابه، ثم عاد ورماه على يساره فأصابه، ثم دخل بعده أمير سلاح، ثم أمير بعد أمير، ومقدم بعد مقدم، وجندي بعد جندي. وكان ذلك اليوم يوما عظيما، ما عهد يوم قبله مثل ذلك، ثم إن السلطان رجع وهو مسرور بذلك الدهليز، ودارت على الأمراء السقاة بأواني الذهب والفضة والبلور، وشرع الجند إلى الأحواض التي نصبت للشرب، وكانت قدر مائة حوض، وأقام السلطان في ذلك يومين والثالث، وفي اليوم الثالث قال السلطان لبيسرى: بقى هذا اليوم، ادخل وارم. قال: يا خوند، خل عنا الشيوخ، وخلنا نتفرج اليوم على هؤلاء الشبان الذين كل واحد منهم أحسن من الحور في الجنة، فتبسم السلطان، وأشار إلى خاصكيته أن يتقدموا ويرموا القبق، فدخل طغج، وعين الغزال، وأمير عمر، وكيكلدى وقشتمر العجمى، وبرلغى وأعناق الحسامى، وبكتوت الصهيوني، ونحو من خمسين أميرا من الخاصكية، وعليهم تتريات حرير أطلس بطرازات زر كشى، وكلوتات زركشى، وحوائص الذهب، ودخل كل واحد منهم مداخل بحسب الجانبين، وأنار بواضح سناه على النيرين، ورمى وهو يهز عطفيه فأصاب الغرض قبل الإيماء إليه، وتخيل كل منهم على ذلك بالجوزاء، وهو راكب، وحنايا قسيهم من حنايا تلك الحواجب. قال صاحب النزهة: ولمؤلفه: عوذة البارى رب الفلق ... لما تلفت عند رمي القبق ولاح من واضحة بهجته ... ما بين عينيه وفرق فرق فقلت للناظر من دهشتي ... انظر إلى صحة هذا القبق وكان السلطان قد رسم بحضور سائر الملاهي في ذلك اليوم، وكان يوما عظيما، ولما رجع. . . . . .، لما صفا إليه زمانه، أبدل الله ذلك الفرح بالترح، والنجاح بالإيجاح، وذلك فقد أظلم الجو في ذلك الوقت، وجاءت ريح عاصف، وريح. . . . . . طبقت الأرض، فقلعت سائر الخيام، وأرمت الدهليز وذرت الغبار والرمل في وجوه الناس حتى كان الرجل لا يعرف رفيقه إلى جنيبه، واختلطت الأجناد بالأمراء، ووقع النهب في الخيام والسوق، وطلب السلطان القلعة والأمراء معه، واختلفت عليهم الطرق، وما دخل السلطان من باب الاصطبل إلا بالجهد العظيم، وهتكت حريم كثيرة، ونهبت أشياء غير عديدة. وكان يوما كأنه من أيام البعث والنشور. وكأن الناس لم يروا شيئا من السرور، واشتغل كل أحد بنفسه، وبقى الحال على هذه الهيئة مقدار ساعة فلكية، ثم سكنت الرياح، وأشرقت الشمس، وحمد الناس الله تعالى وشكروه على لطفه. ثم لما أصبح السلطان أمر بإحضار سائر الملاهي لأجل ختان أخيه وابن أخيه، وعمل المهم في القاعة التي عمرها وسماها الأشرفية باسمه، وعمل مهما لم يعهد مثله في سائر الدول، وحضر الأمراء، ورسم السلطان للخاصكية أن تدخل واحد بعد واحد فيرقص بمفرده، وهو واقف يتفرج عليهم والخازندارية واقفون بين يديه بأكياس الذهب، وهو ينثر الذهب على كل واحد بمفرده، ولما فرغ الختان رسم لكل أمير بفرس مسروج وتشريف، ورسم للبيسري وأمير سلاح كل واحد بألف دينار. وطلب الأمير طقجى، وكان عنده أحظى الخاصكية، فكتب بخطه رسم السلطان خليل بن قلاون أن ينعم على الأمير سيف الدين طقجى الأشرفي من الخزانة الشريفة بمائة ألف دينار، وعلامته، وكتابته بقلم غليظ، فأخذ طقجى الورقة عنده، وكان السلطان رسم عند الختان أن يرمى كل مقدم ألف في الطشت مائة دينار، والطبلخاناة خمسين دينارا، ووكل الوزير بأمر الطشت وأمر للخازندارية أن يحفظوا الطشت، فلما فرغوا أمر السلطان أن يكون النصف لأصحاب الملاهي والنصف للمزين، فعرفوا الوزير بذلك، فأخذ الطشت عنده وأرضى هؤلاء بالبعض، ووصاهم أن لا يظهروا ذلك للسلطان.

ثم طلب السلطان الوزير وقال له: اعط للبليبل ألف دينار، وكان البليبل يغني في المجلس وعلى السماط، وكان له صوت عظيم إلى الغاية، وكان الأشرف يحب سماعه في حياة والده، فقال الوزير: يا خوند وكم من ألف خرج في هذا المهم؟ فالتفت السلطان إلى البليبل فقال: ويحك غنى إذا أسعدك الزمان فلا تبالي، فصار يلعلع بصوته والسلطان يعجبه قوله، فقال: يا صاحب املأ طشت بالذهب فقال: السمع والطاعة، ثم جاء إلى الوزير أستاذ الدار لطقجى وديوانه، وأوقفوه على ما كتبه السلطان، فلما رأى علامة السلطان نهض من المجلس وقبل الأرض ووضعه على رأسه وبهت له ساعة، وقال: مرسوم السلطان على الرأس والعين، ولكن أمهلوني قليلا، ثم نهض من المجلس ودخل على الأمير بيدرا نائب السلطنة، ورمى نفسه عليه، وقال يا خوند: ارحمني وادركني وإلا أموت، من أين أجد مائة ألف دينار بعد عمل هذا المهم العظيم، فلما وقف على المرسوم أعذره ونهض معه، فدخل إلى السلطان، فقال له: يا خوند، من أين يجد الوزير بعد عمل هذا المهم مائة ألف دينار، وشرع يسأل التنقيص من ذلك، والوزير أيضا يسأله، فنظر إليهما السلطان نظر المغضب، فقال: مثلي ينعم على مملوكه بشيء اليوم وينقصه غدا. فقالوا: يا خوند: نحن ندخل على طقجى ليحط من هذا القدر بشيء. فقال: هذا له وليس لي، فنهضوا من عنده، فصادفوا طقجى داخلا إلى الخدمة، فأخذ بيدرا بيده فأجلسه إلى جانبه، وطلب بكتمر السلحدار وبعض الخاصكية، وخاطبوه أن تكون المائة ألف دينار مائة ألف درهم، فقال للوزير: أنت في عقلك؟ تقول إني آخذ عوض مائة ألف دينار مائة ألف درهم، فلما رأى بيدرا تصميمه على الطلب قام ووقف وقال: يا أمير أنا أروح اليوم إلى بيتك وأطلب ضيافتي، فنهض طقجى وقال: يا خوند مثل ما وهبني أستاذي أنا قد وهبتك الجميع، وبعد ذلك حمل له الوزير مائة ألف درهم. وقال صاحب النزهة: وجدت دفترا بخط شخص من مماليك الحاج طيبرس بعد وفاته؛ وكان والدي وصيه، فنظرت فيه، وقد كتب كل ما نفق في هذا المهم، فوجدت جميع ما غرم من أوله إلى آخره: ثلاثة آلاف رأس غنم، وستمائة رأس بقر، وخمسمائة أكديش وألفين وثمانمائة قنطار سكر للمشروب، ومائة وستين قنطارا لعمل الحلاوات، وذكر أنه عجز ما نفق من الذهب، وقدره على سبيل التقريب مائتي ألف دينار. قال: ثم بعد قتل الأشرف لما تولى الأميران سلار وبيبرس وباشر علم الدين أبو شاكر ناظر الحوشخاناة سألته عما نفق من بيت المال في المهم المذكور، فقال: وجدت أوراق المصروف نحو الثلاثمائة ألف دينار، سوى ما خص الأقبية والطرز والسروج وقماش العساكر، ولم يعهد أن أحدا من ملوك الترك صنع مهما مثله، ولا نفق فيه مثله. وفيها: كانت واقعة القاضي تقي الدين بن بنت الأعز مع الوزير، وقد ذكرنا طرفا منها فيما مضى. وذكر في نزهة الناظر ما جرى عليه مع الوزير في هذه السنة، وقال: ولم يذكر أحد أفحش من هذه الواقعة ولا أشنع منها في حق هذا الرجل، وكان السبب في ذلك أن الصاحب شمس الدين بن سلعوس لما قدم مصر في الدولة المنصورية، كما ذكرنا، وباشر في ديوان ولده الأشرف كان رفيقه في المباشرة رجل يقال له نجم الدين بن عطايا، كان شاهدا بديوان الأشرف، فحصل بينه وبين ابن سلعوس إلمام عظيم ومودة عظيمة، واتفق أن ابن سلعوس خرج من مصر وأقام بدمشق، فكان هذا الرجل يكتب إليه كل ما يتفق في مصر من الوقائع ويعلمه بذلك، وكان يهادي بعضهما إلى بعض.

وكان نجم الدين هذا يسعى عند الأمراء وحاشية السلطان في أن يوليه القاضي تقي الدين في شيء من الوظائف الدينية، وكان ابن سلعوس أيضا بعث إليه من الشام وسأله في أمره، فلما حضر قاصده إلى القاضي قال: يا سيدي القاضي شمس الدين يسلم عليكم، فقال القاضي: أي شمس الدين؟ فقال: يا صاحب ديوان الملك الأشرف. قال: تاجر البطاين، فرجع القاصد وعرف ابن سلعوس بذلك، فمضت على ذلك مدة وجماعة كثيرة يسعون له عند القاضي وهو يسوف من وقت إلى وقت إلى أن حضر نجم الدين مع جماعة عند القاضي في أمر ميراث وتوكل فيه، وادعى على الأخصام بدعوى غير سائغة، فنظر القاضي إليه وقال: يا نجم الدين أصلح دعواك، فخرج وعاد ثانيا، فرده القاضي وقال: أصلح دعواك، فلما فرغ من الدعوى طلبه وسأله عن مسألة، فلم يجب عنها، وصار القاضي يفهمها له، فلم يفهم، ثم قال له: يا نجم الدين كيف يحل لك تسعى أن تتولى مجلسا من مجالس الحكام ولا تحسن طريق الدعوى السائغة، ولا تجيب عن مسألة، ارجع إلى الله تعالى ولا نثقل على بعد ذلك بأحد في ولايتك، واذهب واشتغل بالعلم، ولا ألقى الله وفي صحيفتي ولايتك. وتطاولت المدة على ذلك إلى أن تولى الملك الأشرف بعد وفاة والده المنصور وحضر ابن سلعوس واستقر في الوزارة كما ذكرنا، وعزل القاضي تقي الدين من وظيفة القضاء ثم صار يأخذ منه وظيفة بعد وظيفة إلى أن بقى معه نظر الخزانة وشيء من وظائفه، وحصلت سفرة عكا، فكتب السلطان إلى نائب الغيبة من غير علم الوزير أن يطلب ناظر الخزانة وسائر مباشريها ويأمرهم بكتابة ما فيها من الحواصل، وسيرها صحبة البريدي، فكتب نجم الدين بن عطايا المذكور إلى الوزير وعرفه بذلك، وأن القاضي هو الذي فعل ذلك بسعايته، فبقى في نفس الوزير ذلك، فلما قدم إلى مصر تلقاه الناس على العادة والقاضي فيهم، فأقبل يسلم على الوزير فلم ينصفه في الجواب، ثم قال له يا مولانا تقي الدين: جهز عشرين ثوبا أطلس لأجل الفرش عند دخول مولانا السلطان، فقال يا مولانا الصاحب: ما سبقك بهذا أحد ولا سبقني أيضا قاض بهذا، ورجع عنه وفي وجهه التغير، ثم عمل القاضي تقي الدين للوزير قصيدة من نظمه وعظمه فيها، وقصد بذلك ملاطفته ومداراته، فلما دخل إليه أراد أن ينشدها وهو واقف، فمنعه من ذلك، وهي قصيدة طويلة أولها هو قوله:؟ شكر الله ما صنعت ويرعى فهو قد حل في البرية وقعا وكانت هناك جماعة كثيرة، فدخلوا على الوزير أن يسمعوا القصيدة، فأمر بذلك، ولما فرغ من إنشادها تبسم الوزير، وقال: يا مولانا تقي الدين: عظمت تاجر البطاين كثيرا، فخجل القاضي، ثم قال: يا مولانا الوزير: المرء بنسبه لا بحسبه، وليس رئيس القوم من يحمل الحقد، ثم شرع الوزير بعد ذلك في العمل عليه إلى أن طلب بعض الكتاب، فكتبوا عليه بمائة وعشرين ألف درهم، فطلبه إليه وخاطبه في أمرها، فقال تقي الدين: ما عهدت مني خيانة قبلها، فنهره ورسم عليه وأقامه من المجلس، ثم دخل إلى السلطان وعرفه بذلك، ورسم السلطان بأن يستخرجها منه. وكتب تقي الدين ورقة إلى نائب السلطان، وذكر فيه ما جرى عليه مع الوزير، فسير إليه النائب الأمير الموصلي الحاجب يقول له: هذا القاضي كان رفيقي في الوزارة، وله على خدمة كثيرة، وما رأيت منه في مباشرته ما يشينه في دينه ولا دنياه، وإن كان الصاحب ما يقبل سؤالي فيه فمهما كان في جهته أنا أقوم به عنه لبيت المال، فقال في جوابه: بسم الله ولكن نحتاج إلى تحقق حساب الديوان يومين أو ثلاثة، ثم أسيره إلى خدمته. وتحقق الوزير أنه ما ينال منه غرضه لأجل قيام بيدرا في طريقه، فسعى ابن عطايا وأصلح جماعة من شهود القلعة وغيرهم ممن لا يتق الله، فحضروا عند الوزير، واتفقوا معه على أن يشهدوا على القاضي بما يدعيه الوزير، فأصبح الوزير ودخل إلى السلطان فقال: كلما أطلب أحدا ممن له تعلق بأمور المباشرة وعليه مال السلطان يقوم بيدرا لأجله ويمنعه عني، ويرسل إلى الرسالات الفاحشة فغضب السلطان وقال: اخرج واطلب مالى حيث ما كان وفي جهة من كان، ثم شرع يسب بيدرا، فخرج الوزير وطلب القاضي تقي الدين ونهره، ورسم عليه أربع رسل وقال له: انزل واحمل المال وإلا فعلت بك كذا وكذا، وأمر أن لا يركب.

قال صاحب التاريخ: ورأيته في ذلك اليوم عند باب الإصطبل وهو يقاول الرسل على الركوب وهم يمنعونه وعليه دراعة وعمامة وعذبة صغيرة، وكان الأمراء في ذلك الوقت طالعين إلى الخدمة فرآه أمير سلاح على هذه الحالة، فضرب الرسل وأركبه، وقامت العوام على الرسل وقصدوا رجمهم وضربهم، فمنعهم بعض الناس، وصارت الأمراء ينظرون إليه وتألموا بسببه، ولما طلعوا إلى القلعة عرفوا النائب بيدرا بما رأوا مما عليه القاضي من الذلة والإهانة بين العامة والخاصة، فتألم بيدرا بسبب ذلك غاية ما يكون. ثم أن الوزير اتفق مع الشهود المذكورين وصوروا عليه محضرا يتضمن فصولا كثيرة، منها: أنه يشرب الخمر، ومنها أنه يلوط بالصبيان، ومنها أنه يتلفظ بألفاظ يصطلح بها النصارى من الألفاظ التي يترتب على قائلها الكفر، وأنهم عاينوه وقد شد في وسطه زناداً من تحت ثيابه على صفة النصارى، وأثبتوا المحضر على هذا الوجه، ثم أخذه الوزير ودخل به إلى السلطان، فقرأوه عليه، واتفق معه على أن يحضروه إلى مجلس الحكم ويدعى عليه بذلك، فإن أنكر شهد عليه شهود المحضر، ثم يعمل بمقتضاه من القتل ونحوه. ولما خرج الوزير من عند السلطان دخل النائب، فتلمح السلطان في وجهه الغيظ، فسأله فقال يا خوند: كيف لا يكون وفي أيامك ينزل قاضي المسلمين، وهو رجل كبير القدر، صاحب علم ودين، وسلف صالح، راجلا يمشي بين العوام، ويهان بين الرسل، وشرع بيدرا يذكر أمثال ذلك، فقال السلطان: اسكت أنت ما تعرف، هذا رجل زنديق، فشرع يذكر له المحضر وما كتب فيه من المصائب، وأن الوزير التزم أن يثبت ذلك جميعه، فلم يتمالك بيدرا من حنقه على ذلك حتى قال يا خوند: ارجع إلى الله في مثل هذا الرجل ولا تسمع فيه قول رجل عامي، فغضب السلطان من قوله، وقال له: يا مأبون تقول في حق وزيري قطعة عامى، والله لولا خدمتك على وإلا خليتك تمشي في خدمته وتحمل مداسه، فخرج بيدرا من عنده، وهو أعمى من الغيظ والحنق، فوصل إلى دار النيابة ولم يجلس للحكم، واختلى بنفسه وبكى بكاء كثيرا، فبلغ الوزير ذلك ففرح وانبسط، ولم يدر ما يكون عقيب ذلك. وأنشد صاحب التاريخ لنفسه: كلمة قلتها فقالت مهلا ... عن قريب تريك قولا وفعلا سترى حمرة نار نارا ... كأن إشعالها سنانا ونصلا فسمعت الأمراء بذلك، فأتوه سرا وصبروه، وهونوه عليه، وقالوا له: إن أستاذك حاد الخلق، فتصبر على ذلك، فكلهم تألموا له بسبب ذلك، ثم أجمعوا كلهم على الكلام مع السلطان، ولما دخلوا عليه أخذ السلطان يذكر لهم حديث القاضي، فقال له أمير سلاح، والبيسرى: يا خوند الله الله حاشى في القاضي هذه الأمور، فصار السلطان يحاجج الأمراء، فقال له أمير سلاح: يا خوند نحن ما نريد أن يكون في ذمة السلطان من ذلك شيء، فتجتمع مع نائب السلطان وسائر القضاة، وتعمل عقد مجلس لهذا الرجل وتسمع صحته، فإن ثبت عليه شيء مما ذكروه عرفنا مولانا السلطان فيرى بما فيه مقتضى الشرع ويبرأ ذمته من جهته، فأجابهم السلطان على ذلك ونهضوا كلهم واجتمعوا في موضع، وأحضروا القاضي وشهود المحضر، وكان منهم نجم الدين بن عطايا، وابن السبتي، والتكرورى الإمام، وكان هؤلاء من شهود القلعة، وأقاموا شخصا يدعى عليه بذلك، فنهض القاضي تقي الدين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " - الآية. ثم قال: يا أمراء الإسلام يا مجاهدين في سبيل الله أنا فلان بن فلان بن فلان، وذكر سائر أجداده إلى أن قال ما في نسبى بطرس ولا جرجس ولا مجوسي ولا نصراني، وإذا قالوا إني أشرب الخمر ربما يكون فيه لذة على زعم من يستعمله، أو أنى ألوط ربما يكون من عليه شهوة النفس، ولكن النصرانية وشد الزنار من أين وإلى أين وما فيه من اللذة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتمثل: جلوا صارما وتلوا باطلا ... وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم

ثم بكى، فانهملت عيناه بالدموع، فما قام أمير منهم إلا وهو يمسح عينيه من البكاء، ويقول: والله يحق على من يشهد على مثل هذا بالنصرانية أن يضرب عنقه، فانقضى المجلس على ذلك، وكان مجلسا عظيما، وقصدت العوام أن يرجموا الشهود، فمنعتهم الحجاب، ثم دخل الأمراء إلى السلطان، فرأى في وجوههم أثر البكاء والحزن وقد تنكرت، وصار الأمير بدر الدين يتحدث معه ودموعه تجري، وقال يا خوند: إش يقال في بلاد الأعداء إذا سمعوا أن الشهود شهدوا أن قاضيهم الذي هو قاضي القضاة نصراني، وشرع البيسرى وبكتمر السلحدار وغيرهما من أكابر الأمراء فتحدثوا مع السلطان، فقال السلطان: أما في ذمتي ذنب، ورسم بالإفراج عنه، وأن لا يعارضه أحد، فخرج الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار بنفسه ومشى مع القاضي إلى باب القلعة. وقال صاحب التاريخ: كنت في ذلك اليوم مع والدي أشاهد ما وقع، ولم أر مثل ذلك اليوم من اجتماع الناس حتى لا يمكن أن يرى أحد القاضي بينهم. وأصبح الأمير بيدرا يدخل إليه، فطلبه وطيب خاطره وخلع عليه وقال: لأجلك أطلقت القاضي وما سمعت فيه قول أحد، فقبل الأرض ودعى للسلطان، وفي قلبه من تلك الكلمة أمور. قال صاحب التاريخ: أخبرني الشيخ زين الدين ابن الكناني الشافعي في سنة أربع وسبعمائة، وقد أجريت عنده ما جرى على القاضي تقي الدين. فقال: أصيب بدعوة دعيت عليه، وهو أن القاضي تقي الدين كانت له وظائف شتى. من جملتها نظر الخانقاة الصلاحية، وكان شيخها في ذلك الوقت الشيخ شمس الدين الأيكي، وكان القاضي يحضر الوظيفة، واتفق في بعض الأيام بحث بينهما في نظم الشيخ شرف الدين بن الفارض، وكان قد بلغ القاضي عن الشيخ أنه يعتقد الحلول، فقال له: بلغني أنك رجل حلولي على مذهب ابن الفارض، وأنك كل وقت تنشد قصيدته التي فيها ذكر الحلول، وهذا مذهب نحس، فصعب على الشيخ كلامه، وأخذ يجاوب القاضي بالفظاظة فقال له القاضي: الآن ظهر صدق ما قيل فيك، وسفه عليه، وقام من غيظه عليه، فضربه بيده فأخرق عمامته في حلقه، فنظر إليه الشيخ، وأجرى دمعه، وقال: نكلت بي، نكل الله بك، فأجيبت دعوته، وجرى عليه ما جرى، ولما أفرج الله عنه جاء إلى الشيخ واستغفر الله تعالى، وأشار الشيخ إلى خادم من خدام أم الملك السعيد، وكان حسن الصوت، فقام وأنشد قصيدة ابن الفارض إلى أن أتى إلى قوله: وبي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن رؤيا الحلول عقيدتي فبكى القاضي عند ذلك بكاء كثيرا، فقال: والله لقد قرأت هذه القصيدة مرارا عديدة ولم أقع على هذا البيت، ونحن نستعيذ الله من ذلك الذنب. وفيها: عزل القاضي عماد الدين بن الأثير كاتب الإنشاء، وكان السبب لعزله أن السلطان قال له: اكتب إلى نائب الكرك بإتلاف بعض الأمراء، فكان جوابه له: يا خوند عاهدت الله أني لا أكتب بخطي في إتلاف مسلم، فنظر إليه نظر المغضب فقال: ويلك، أقول له اكتب فما تكتب، فأخذ الدواة فضربه بها ورفصه في صدره، فنهض وهو يقول: رضيت بغضب السلطان ولا غضب الله تعالى، فطلب السلطان النائب وعرفه بذلك، وقال له: افتكر من يكون كاتب السر، وكان في ذلك الوقت نوبة الأمير لاجين في السلاح فقال: يصلح لهذا شرف الدين بن فضل الله، وأنه من بيت كبير وله دراية بالوظيفة، فعند ذلك رسم بطلبه على البريد، فلما حضر خلع عليه واستقر بالوظيفة. وفيها: أفرج السلطان على يعقوبا أمير الأكراد الشهرزوية، وكان قد أتى إلى بلاد الشام ومعه نحو من أربعة آلاف نفس من الشهرزوية، وجرت له وقائع كثيرة، وبقى إلى أن حضر السلطان الملك المظفر قطز والتقى مع المغول في عين جالوت، وكان قد حضر المصاف وشكر فيه هو وقومه، ولما تسلطن الملك الظاهر حبسه، فبقى في السجن إلى أن أطلقه الأشرف في هذه السنة، وكان الساعي له عند السلطان الأمير برغشه، وكان قد حضر عند السلطان بتقدمة جليلة من الخيل وغيرها، فشفع فيه عند السلطان، وساعده الأمير بيدرا أيضا، وكان بينه وبين برغشه صحبة من أيام وصول يعقوبا إلى البلاد، ولما أطلقه السلطان أنعم عليه بألف دينار وكسوة وخيل، وكان رجلا طوالا وشكلا عجيبا جميلا.

وفيها: ركب السلطان ونزل إلى الميدان ولعب بالأكرة، فضرب الأكرة فوقعت على وجه بيدرا، فقطع حاجبه وجرى الدم وتشوش السلطان لأجله، فقصد أن يبطل لعبه، فحلف عليه بيدرا أن لا يبطل. ونظم شرف الدين ابن الوحيد في ذلك أبياتا منها قوله: يا بدر دين الله يا مشبها ... سميه في كل حسن بهر مملوكك الجوكان تأثيره ... في وجه مولانا أتى واعتذر وقال قصدي أن أرى وجهه ... كوجه بدر التم فيه اثر وفيها: كانت واقعة أهل الذمة وإسلام كثير منهم، وكانوا في الدولة المنصورية في غاية الذلة والإهانة خصوصا في أيام الشجاعي الذي كان له حرمة عظيمة على العامة والكتاب وأرباب الأقلام حتى أنه كان أكبر من فيهم يكون راكب حمار وزناره في وسطه، ولا يجسر يتحدث مع مسلم وهو راكب، ولا يمكن أن يرى عليه فرجية مصقولة ولا بيضاء إلا القليل منهم مع ذلة ومسكنة، فلما تغيرت الدولة وملك الأشرف وحدثت الأمور وانتشأت الخاصكية وكبرت نفوسهم، كبر قدر النصارى أيضا بسبب بعض الخاصكية الذين يحامونهم، وكان من جملة الخاصكية مملوك يعرف بعين الغزال، وكان صاحب صورة جميلة جدا، وكانت له منزلة ومكانة عند السلطان، واتفق أن بعض النصارى خدم عنده، واتفق أنه لقى يوما عند زين العابدين سمسارا باع قماشا لتاجر، وعلى التاجر دين للديوان، فلما رآه السمسار نزل وباس رجله، وشرع النصراني يسبه ويشتمه، والرجل يعتذر إليه فلا يقبل منه، ثم صاح لغلامه وقال له: انزل وكتف هذا الفاعل الصانع، فنزل إليه وكتفه، فاجتمعت عليه خلق وما وصل إلى الصليبة حتى اجتمع عليه خلق كثير، وهم يسألون النصراني أن يطلقه وهو يأبى عليهم، فقاموا عليه وأرموه من حماره وأطلقوا الرجل، وكان قد قرب إلى اصطبل أستاذه، فجرى غلامه وأتى إلى الاصطبل وأخبر أهلها بما جرى، فخرجت الغلمان والوشاقية وخلصوا النصراني منهم، والناس يصيحون ما يحل ما يحل حتى وصلت صيحتهم وغلبتهم إلى تحت القلعة، وصاحوا نصر الله السلطان، فسمع السلطان بذلك، فأرسل جماعة من الوشاقية ليكشفوا الخبر، فعرفوهم بذلك، فطلب عين الغزال فقال: ويلك تسلط غلمانك على المسلمين لأجل كاتب نصراني، فخشى عين الغزال فقال: يا خوند أنا في خدمة السلطان ها هنا ما أعرف هذه القضية، فغضب السلطان وطلب الوشاقية وقال: انزلوا هاتوا كل من في اصطبل الأمير، وقولوا للعوام: رسم لكم السلطان أن أي نصراني رأيتموه أحضروه إلي، وطلب الشجاعي والنائب، وقال: لا تخلوا نصرانيا حتى تحضرون به إلي، وقرر معهم أن ينادى أن أميرا أو غيره لا يستخدم نصرانيا ولا يهوديا إلا إذا خرج عن دينه وتمسك بالإسلام، وأمر لسائر الأمراء أن كل من عنده كاتب نصراني يعرض عليه الإسلام، فإن أبى يضرب عنقه وإن أسلم يستخدمه، ورسم للنائب أن يعرض سائر المباشرين في ديوان السلطان ويفعل فيهم ما رسم به من الذي ذكرناه، فهربت جماعة كثيرة من الكتاب، وسمعت العوام بذلك، فتتبعوا آثارهم وهجموا عليهم في بيوتهم، وأخرجوا حريمهم مسبيات، وقتلوا جماعة منهم بأيديهم، وبلغ ذلك إلى السلطان، فأمر الوالي أن ينادى أن أي من نهب بيت نصراني يشنق، ومسكوا جماعة من الحرافيش فأشهروهم.

وكان أعظم ما جرى في مصر بقصر الشمع، والكنيسه المعلقة، وعدمت أموال كثيرة للنصارى ولليهود أيضا، فلما نادى السلطان كفوا عن ذلك، وجمعوا جماعة من الكتاب الذين يكتبون في دواوين الأمراء وديوان السلطان ودخل بهم النائب إلى السلطان، فأوقفهم من بعيد، فرسم للشجاعي وأمير جندار أن ينزلا سوق الخيل ويحفرا حفيرة كبيرة ويرميانهم فيها، ثم يرمون عليهم الحطب والنار، فأخذوهم وخرجوا، وتقدم النائب وقال يا خوند: هؤلاء أصحاب دواوين يحفظون الأموال والخراج، وليس للسلطان غنى عنهم. فقال أنا ما أريد أن يكون في دولتي ديوان نصراني، وما زال بيدرا يسأله إلى أن اتفق الحال على أن من أسلم منهم يستخدم ومن لا يسلم يضرب عنقه، وخرج نائب السلطان فأحضر الجميع بين يديه، وكان فيهم رجل يعرف بالمكين ابن السقاعي، ولما كان بيدرا وزيرا كان يستظرف كلامه ويمزح معه لأنه كان ظريفا صاحب هزل وجواب خاطر في وقته، فأول كلام بيدرا كان معه وقال يا جماعة: وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم أن من أسلم خلع عليه ويباشر وظيفته ومن أبى قتل، فابتدره المكين بالجواب وقال يا خوند: أي قواد يختار القتل على هذا الدين الخرعى، والله دين نقتل عليه يروح لا كتب الله عليه سلامه، قولوا لنا الدين الذي تختارونه نروح إليه، فعلته الضحك، وكل من كان حاضرا، فقال بيدرا: ويلك نحن نختار غير دين الإسلام فقال يا خوند ما نعرف. قولوا: نحن نتبعكم، فأحضروا الشهود واستنطقهم بالشهادة، وكتبوا، ودخل بهم إلى السلطان، فألبسهم التشاريف، وجعلوا في مجلس الوزير. واستفتح بعض المدراء، فناول المكين ورقة، وقال: يا مولانا القاضي، اكتب على هذه الورقة والوزير يسمعه: وقال يا ابني: ما كان لنا هذا القضاء في خلد، فتبسم الوزير فبقوا إلى العصر، فحضر الحاجب من جهة النائب وعرف الوزير أن الجماعة يقومون كلهم إلى مجلس النائب، ويريد أن يجدد إسلامهم عند القضاة، فرسم بقيامهم، فقال المكين: يا مولانا الصاحب صارت هذه عادة كل يوم نقولها، فتبسم وقال: نعم، نقولها كل يوم خمس مرات قبل الصلاة وبعدها، فلما نهضوا كان القاضي تاج الدين بن السفلورى جالسا مع الوزير، فقال يا مولانا تاج الدين: ما تقول في إسلام هؤلاء الجماعة؟ قال: أقول إن الذليل منهم صار عزيزا، والعزيز من المسلمين صار ذليلا لهم، فإنه كان يمنعهم من ظلم الناس ومن التكبر عليهم كونهم نصارى، فالآن يقولون: نحن مسلمون، فيتسلطون عليهم والله يتولى سرائرهم. وكان من جملة من أسلم منهم: أمين الملك بن غنام، وابن السقاعى، وابن لفيقه كاتب ديوان النائب. وكتب بعضهم لبيدرا بيتين وسيرهما إليه، وهما لابن البغدادي: اسلم الكافرون بالسيف قهرا ... وإذا ما خلوا فهم مجرمونا أسلموا من رواح مال وروح ... فهم سالمون ولا مسلمونا وقال صاحب التاريخ ولمؤلفه: قل للمليك الأشرف ما تنتظر ... يا ناصر الدين يا منتصر قد أمكن الله من أعدائه ... في يوم بؤسٍ نحسه مستمر فقلد السيف لأرقابهم ... واجعله على الكافر يوماً عسر فلا يغرنك إسلامهم ... فكل من أسلم كذابٌ أشر وفيها: اشتهى السلطان أن يتفرج على لعب الشوانى في البحر، فطلب الوزير وقال له ذلك، فنزل إلى الصناعة وطلب الرئيس، وجهز كل ما يحتاج إليه من العمل، وأقاموا أياما قليلة وجهزوا نحوا من ستين شينا، وحملت فيها سائر العدد من السلاح، ورتبوا في كل مركب مماليكا ملبسه مقاتلة ومماليكا زرادين.

فهرعت إلى الفرجة على ذلك من قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام أهل مصر والقاهرة؛ وصنعوا قصورا من الخشب، وبنوا أخصاصا على ساحل مصر وساحل الروضة، فبلغ كرا كل ساحة من الساحات التي بين يدي البيوت إلى مائة درهم ومائتين، ويوم ركوب السلطان كان الناس مثل الجراد المنتشر من المقياس إلى بولاق، فما رأى أحد مثل ذلك اليوم، وأراد الحجاب منع الناس فلم يجدوا لذلك سبيلا، ورسم السلطان أن لا يتعرضوا لأحد، وأرمت جماعة كثيرة نفسها في البحر، ووقف الناس صفوفا صفوفاً، ووقف السلطان والنائب والخاصكية قدام دار النحاس، فدارت الشوانى بين يديه، وقد صنعت في وسطها أبراج وقلاع، وفيها مقاتلون، والنفط، والمكاحل، ونحو ذلك، وأظهر كل مركب صنعة تفتخر بذلك على غيره من المراكب، فلم يزل السلطان يتفرج على ذلك إلى قريب الظهر، ثم رجع إلى القلعة والذي اتفق في ذلك اليوم ما اتفق لأحد من الملوك. قال صاحب التاريخ: وأخبرني جماعة من أهل المراكب أن أحدا منهم قد استكمل أجرة مركبه سنة كاملة في هذا اليوم، وأن الراكب في مركب كبير قد استكراه في ذلك اليوم بسبعمائة درهم وأكثر، وأبيع سبعة أرطال خبز بدرهم بعد أن كان اثنى عشر رطلا بدرهم، وكذلك اللحم وغيره زاد سعره من كثرة الزحام والخلق. قال الراوي: وأنشدني الشيخ فتح الدين، شيخ الحديث بيتين لابن عنين في لعب الشوانى في أيام الأشرف وهما: يا أيها الملك المسرور أمله ... هذي شوانيك تجرى يوم سراء كأنها شبه أطيار بها ظمأ ... طارت إلى الجو وانتثرت على الماء وفيها رسم للأمير عز الدين أيبك الخزندار بنيابة طرابلس، عوضا عن الأمير سيف الدين طغريل اليوغانى ورسم بحضوره إلى مصر. وتولى الأمير سيف الدين طوغان نيابة السلطنة بقلعة الروم، عوضا عن الأمير عز الدين الموصلي. وفيها أرسل السلطان الأمير علم الدين الدواداري إلى صاحب القسطنطينية، وإلى أولاد بركة، ومعه تحف كثيرة جدا، فلم يتفق خروجه من قبل السلطان، فعاد إلى دمشق. وفيها وصل مملوك نائب حلب يخبر بحضور رسل كيخاتو ملك المغول، وهم جماعة كثيرة، ويستأذن لدخولهم، ورسم له بذلك، ورتبوا الإقامات عندما وصلوا إلى الصالحية، وخرج المهمندار إلى لقائهم، وأمر السلطان الأمراء والجند - يوم عبورهم في الخدمة - أن يزينوا أنفسهم، فيلبسوا الكلوتات الزركش والمطرز وغيرها، واستقبالهم من باب القلعة، وقد ترتبوا من خارج الباب إلى الإيوان صفين أمراء وأجناد ومقدمون، فلما رأوهم اندهشوا من مهابتهم وترتيبهم، فأوصلوا الكتب، وتكلموا مشافهة أيضا، على أن القان يقصد أن يدخل إلى مدينة حلب ويقيم فيها، ويجعل مقامه فيها، فإنها مما فتحه أبوه هلاون بسيفه، وهي في ملكه، وإن لم يسمح بذلك فهو يقصد العبور إلى الشام. فأسرع السلطان بالجواب، وهو يبتسم، وقال: الحمد لله الذي وافق أخي القان ما كان في نفسي فكنت قد تحدثت مع أمراء دولتي أن أسير طالبا من أخي بغداد، وإن لم يسمح لي بها ركبت ودخلت بعسكرى وأخربت بلاده، وقتلت رجاله، وفتحتها قهرا، وجعلت فيها نائبا من جهتي، فإن بغداد هي دار السلام، وأرجو أن أعيدها للإسلام كما كانت، ولكن إذا وصلتم إليه عرفوه من يسبق إلى بلاد صاحبه ويدخل فيها. فلما خرج الرسل طلب الوزير ورسم أن يكتب إلى سائر البلاد والعواصم بتجهيز الإقامات، وكذلك للعساكر أن يجهزوا لدخول الفرات وأخذ بغداد، ورسم إلى سائر الأمراء لا يدخل أحد منهم الميدان - يوم الميدان - إلا وهو لابس عدة الحرب هو وفرسه، ورسم للمهمندار أن يأخذ الرسل معه إلى الميدان ليروا الموكب. وانتظم يوم الميدان بما حيرهم هناك، وكان يوما عظيما، واجتمعت فيه خلق لا يحصى عددهم، وخلت الأسواق بأجمعها، وانتشرت الخلائق مثل الجراد، فرأى الرسل نهارا عظيما إلى أن أذن الظهر، وركب السلطان، وقد لبس قرقلا خفيفا، وبيده شطفة، وناهيك من ملبوس ملك في مثل ذلك اليوم، وتواترت الأمراء بعده بالدخول أولا فأولا، وكل أمير يدخل وقد لبس أفخر لباس الحرب، وبيده شطفة برنكه، ورسم لهم السلطان أن يتصارعوا كل أمير مع أمير على قدر مراتبهم، وشرعوا في كر وفر، وصدور وورود، وكل منهم قد أظهر فروسيته في ذلك اليوم، وكان يوما مشهودا.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفيها جهز نوغيه زوجته بيلق خاتون إلى الملك طقطقا برسالة تحملها إليه، وإشارة تشير بها عليه، فلما وصلت إلى الأردو تلقاها بالإكرام واحتفل لها في الضيافة والتقادم، وأقامت في الضيافة أياما، ثم سألها عن سبب مجيئها، فقالت له: يقول لك أبوك أنه قد بقى في طريقك قليل شوك، فنظفه، فقال: وما هو الشوك؟ فسمت له الأمراء الذين ذكرهم نوغيه لها وهم: كلتكاى، يوفق، قراكيوك، ماجار، بارين طقطقا، كبى، يوكو، طراتمو، التمر، تكا، بي طرا، بيملك تمر، بي طقتمر، بيغور افطاجى، باروه، ملجكا، برلغى، كبجك، سودق، قراجين، خاجزى، ابشقا، بيينجى، وهؤلاء هم الذين كانوا اتفقوا مع تلابغا على نوغيه. فلما أبلغته بهذه الرسالة، وقصت عليه هذه المقالة طلب هؤلاء الأمراء، واحدا بعد واحد، وقتلهم جميعا. فعادت بيلق خاتون إلى نوغيه، فأعلمته بقتلهم، فسكن قلقه، وزال فرقه، وتحكم أولاده، وأولاد أولاده. وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة وهم: جكا، وتكا، وكانا من أم واحدة، وطراى من امرأة أخرى، وابنة تسمى جغلجا، وابن بنت يسمى اقطاجى، وكانت ابنته هذه مزوجة لشخص يسمى طاز بن منجك، فقويت شوكتهم وتمكنت مهابتهم وسطوتهم. وفيها: حج بالناس في الركب المصري الأمير بدر الدين بكتاش المعروف بالطيار، وفي الركب الشامي الأمير الباسطي، وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية، ونالهم في مكة ريح شديدة جدا، مات بسببها جماعة، وحملت جماعة من أماكنها، وطارت العمائم، واستل كل أحد بنفسه. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الصالح القدوة العارف، أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الصالح أبي محمد عبد الله بن يوسف بن يونس بن سليمان بن البكر الأرموى. المقيم بزاويته بسفح قاسيون، وفيها كان ميلاد الشيخ، وكانت وفاته بها أيضا. ومولده سنة خمس عشرة وستمائة، كانت له عبادة وانقطاع، وله أوراد وأذكار، وكان محببا إلى الناس. وله شعر جيد منه: سهرى عليك ألذ من سنة الكرى ... ويلذ فيك تهتكى بين الورى وسوى جمالك لا يروق لناظرى ... وعلى لساني غير ذكرك ما جرى وحياة وجهك لو بذلت حشاشتي ... لمبشري برضاك كنت مقصرا أنا عبد حبك لا أحول عن الهوى ... يوما ولو لام العذول وأكبرا الشيخ الفاضل المقرئ كمال الدين علي بن الشيخ ظهير الدين محمد بن المبارك ابن سالم بن أبي الغنائم الدمشقي، المعروف بابن الأعمى. ولد سنة عشرة وستمائة، وتوفى في المحرم منها، ودفن بمقابر الصوفية. وكان فاضلا بارعا، له قصائد يمتدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماها الشفعية، عدد كل قصيدة اثنان وعشرون بيتا. قال البرزالي: سمعت عليه أوله المقامة المشهورة في الفقراء المجردين. ومن شعره قوله: أنا في حالة اللذة والتهاني ... لست أثنى عن الغرام عناني لا يروم السلو قلبي ولا يف ... تر عن ذكر من أحب لساني وسواء إذا المحبة دامت ... نظري بالعيان أو بالجنان فاقتراب الديار لفظ وقرب ال ... ود معنى، فاسلك سهيل المعاني لست ممن أرضى بطيف خيالٍ ... قانعاً في هواهم بالهوان إن طيف الخيال دل على أن ... الكرى قد يلم بالأجفان غير أني تشتاق عيني إلى ... من حل في مهجتي أعز مكان وبروحي ظبيٌ يغار غصون ال ... بان منه ويخجل النيران ذو قوام يغنيه عن حمله الرم - ح وجفن وسنانه كالسنان كتب الحسن فوق خديه بين ال ... سماء والنار فيهما جنتان حرس الورد منهما نرجس اللح ... ظ فلم سيجوه بالريحان عارضٌ عوذته ياسين لما ... أن تبدا كالنمل أو كالدخان يلبس الحسن كل وقت جديداً ... فلهذا أخلقت ثوب الثواني يا خليلي خلياني ووجدى ... وامزجا لي بذكره واسقياني وإذا ما قضيت سكراً من الوج ... د فلا تحزنا ولا تدفناني فأيادي ذا الناصر الملك تح ... ييني كاحيائها الندى وهو فان وقال في حمام ضيق شديد الحر ليس فيه ماء بارد:

إن حمامنا الذي نحن فيه ... قد أناخ العذاب فيه وخيم مظلم الأرض والسماء والنواحي ... كل عيب من عيبه يتعلم حرجٌ بابه كطاقة سجن ... شهد الله من يجز فيه يندم وبه مالكٌ غدا خازن النا ... ر بلى مالكٌ أرق وارحم كلما قلت قد أطلت عذابي ... قال لي إخسأ فيها ولا تتكلم قلت لما رأيته يتلظى ... " ربنا اصرف عنا عذاب جهنم الشيخ تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي، ثم الدمشقي الحنبلي، شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق. توفى يوم الجمعة آخر النهار الرابع عشر من جمادى الآخرة منها عن تسعين سنة، وكان رجلا صالحا عابدا، تفرد بعلو الرواية، ولم يخلف بعده مثله، وقد تفقه ببغداد، ثم رحل إلى الشام، ودرس بالصاحبية مدة عشرين سنة، وولى في آخر عمره مشيخة الحديث بالمدرسة الظاهرية، وكانت وفاته بسفح قاسيون، ودفن في تربة الشيخ الموفق، ومولده سنة ثلاث وستمائة. الشيخ جمال الدين إبراهيم بن داود بن ظافر العسقلاني الفاضلي. مات بدرب السلسلة بدمشق، ودفن بتربة الشيخ علم الدين السخاوي بقاسيون، وكان من أخص أصحابه، وجمع عليه القراءات السبع. وله شعر، فمنه قوله: مضوا عصبة كانوا كراما أعزةً ... وأبقوا من الإنسان ما فيه معتبر فهم كبيوت الماء قائمة فلم يصبها ... انهدامٌ فهي وعظٌ لمن نظر الشيخ محمود الشيرازي المعروف بسابقان، المقيم بالكلاسة. مات في هذه السنة، ودفن بزاوية الجوالقية خارج باب الصغير، وكان من أحاسن الفقراء وظرفائهم، وله قبول من الناس، وعنده كرم. قاضي القضاة معين الدين النعمان بن الحسن بن يوسف الحنفي. مات يوم الخميس السابع عشر من شعبان منها، ودفن بالقرافة، وتولى القضاء بعده بالديار المصرية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي. الصاحب محيي الدين عبد الله بن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر بن علي بن نجده السروجي السعدي، الكاتب الناظم الناثر، كاتب الإنشاء بالديار المصرية، وأحد من برز في هذا الفن على أهل زمانه، وسبق سائر أقرانه. وهو والد الصاحب فتح الدين القاضي فتح الدين المتقدم ذكر وفاته قبل والده، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الرابع من رجب، ودفن بتربته التي أنشأها بالقرافة، ومولده سنة عشرين وستمائة بالقاهرة، وله مصنفات منها سيرة الملك الظاهر، وأبدع فيها نظما ونثرا، وكان ذا مروءة تامة وتعصب. وله النظم البديع الرائق، فمنه قوله: يا من رأى غزلان رامة هل رأى ... بالله فيهم مثل طرف غزالي أحيا علوم العاشقين بلحظه ال ... غزال والإحياء للغزالي وله في مليح يسمى بالنسيم: تقضى ليلنا طرباً ورقصاً ... على شدو من الرشأ الرخيم تمايلنا وقد غنى وفينا ... مليح الدل معطار الشميم فملنا كالغصون وغير بدع ... لأغصان تميل مع النسيم وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: كنت قد نظمت قصيدة، ووقع لي فيها معنى غريب في مليح في أنفه خال، وهو: عجبت لخال حل في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود يرى وشيا ولكنما خداه فيه تغاير لهوىً ... فاتبعا من أنفه أوسط الأشيا وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطلٌ ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا فلما وقف القاضي محيي الدين عليه نظم في هذا المعنى عدة مقاطيع منها: أرى الخال من وجه الحبيب بأنفه ... وموضعه الأولى به صفحة الخد وما ذاك إلا أنه من تلهب توارى ... يريد البعد من شدة الوقد وقال: في أنفه الخال الذي ... شغل البرية وصفه فبحسنه وبظرفه ... قد صار شمخ أنفه وقال: وبي مليح حسنه ... على الملاح قد حكم بأنفه خالٌ به ... على الجمال قد ختم يا حسنه من شامةٍ ... أمسى بها الأنف الأشم وقال: ميدان حسنٍ وجهه ... سبحان ربٍّ صوره

السنة الثالثة والتسعين بعد الستمائة

يلوى بلب ولا يلوى ... على من نظره جوكانه حاجبه ... والخال في الأنف الكره ومن شعره: يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوحٌ ومسفوك لا تخش من قودٍ يقتص منك به ... فالعين جاريةٌ والقلب مملوك الملك الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، بن ناصر الدين محمد بن الملك المعظم أسد الدين شيركوه ابن شادي بن مروان. توفى ببستانه، بستان شامة بظاهر دمشق، ودفن بسفح قاسيون، وصلى عليه بالجامع المظفرى، وكان عمره ثمانين سنة، وكان دينا كثير الصلاة في الجامع، وله إجازة من المؤيد الطوسي، وكان ظريفا متواضعا، حسن الأخلاق، وكانت وفاته في جمادى الآخرة. الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. توفى بدمشق وصلى عليه بجامعها، وخرج به من باب الفراديس محمولا إلى مدينة أبيه حماة، ودفن بتربتهم بها، وكانت وفاته بداره المعروفة بدار الدعوة، وهو والد الأميرين الكبيرين: بدر الدين حسن وعماد الدين إسماعيل الذي تملك حماة بعد جده، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الأمير الكبير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان نائب قطز على دمشق، فلما جاءته بيعة الظاهر دعى نفسه فبويع وتسمى بالملك المجاهد، ثم حوصر وهرب إلى بعلبك وحوصر، فأجاب إلى خدمة السلطان فسجنه مدة، ثم أطلقه الأشرف واحترمه وأكرمه وكان بلغ الثمانين، توفى في هذه السنة. وقال صاحب نزهة الناظر: بلغني عن بعض من كان يلازمه أنه مات في عشر التسعين، ورأيته وقد انحنى ظهره وكان من أطول الرجال وأشدهم قوة وأقدمهم شجاعة، وكان في الدولة الظاهرية إذا نزل من الخدمة دخل البيت ولا ينزل عن فرسه حتى يقدم له قنطارية محشوة برصاص لأجل الثقل، فيأخذها ويلعب بها على فرسه، ثم يأتي إلى فردة تبن فيطعنها ويرفعها من الأرض ويحذفها، ثم ينزل ويأخذ بيده عامودا حديدا زنته مائة وعشرة أرطال ويلف به اليمين واليسار مرات، ثم يجلس على السماط ويتغدى في أكلة بالرأس الغنم. الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك المسعود صلاح الدين أقسيس بن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي بن مروان. توفى يوم الخميس الخامس من رجب من هذه السنة، ومولده بالكرك بعد العشاء الآخرة ليلة الأربعاء السادس عشر من شوال من سنة تسع وخمسين وستمائة. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والتسعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك الأشرف خليل ابن الملك المنصور قلاون. والخليفة: الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي. وفي أوائل المحرم منها: تجهز السلطان الأشرف للصيد، وعدى إلى بر الجيزة وسار قاصدا التوجه إلى الإسكندرية والحمامات الغربية، فتقدم وزيره الصاحب شمس الدين بن سلعوس إلى الثغر المحروس لتجهيز الأقمشة، وتحصيل أصناف الأمتعة، واستخراج المال، وترتيب الأحوال بين يدي قدوم الركاب، فوجد نواب الأمير بيدرا بالثغر قد استولوا على المتاجر وادخروا منها ما ليس في الحواصل السلطانية، فأرسل يعرف السلطان بذلك، فاستشاط السلطان غضبا على بيدرا واستدعاه بحضور الخاصكية والأمراء، فأغلظ له في الكلام، وتوعده بأشد الوعيد، وتهدده بأتم التهديد حتى خاف أن يسطو في ذلك الوقت عليه، فتلطف حتى خرج من بين يديه، فجمع خواشداشيته الأعيان، وأطلعهم على ما في باطن السلطان من الشنان وهم: الأمير حسام الدين لاجين المنصوري، وفي قلبه ما فيه من الأهنة التي نالته والنكبة التي أصابته، والأسير قراسنقر، وهو واجد لعزله من الممالك الحلبية وإحضاره في غير شيء إلى الديار المصرية، وغيرهما من الأمراء الذين كانوا مطلعين على سريرته، وما منهم إلا من هو متغير الخاطر والنية لتأخرهم وتقدم صغار الخاصكية، فاتفقوا على الوثوب على السلطان قبل أن يثب هو عليهم.

ذكر مقتل الأشرف

وفي نزهة الناظر: لما رسم السلطان للوزير شمس الدين أن يذهب إلى الإسكندرية لاستعمال الأقمشة، فركب من فوره وقدم إليها. وكان إذ ذاك الوالي عليها بدر الدين الجالي، فتلقاه بجميع من فيها من التجار والأعوام، وكان يوما مشهودا، فذكروا أنه لم يروا وزيرا مثله قبله دخل كدخوله إلى الإسكندرية فلما استقر بها طلب المباشرين وألزمهم بعمل الحساب، ورسم عليهم، وعلى الوالي، وطلب سائر التجار، وكتب أسماءهم، وجعل على كل واحد منهم شيئا على قدره، وكتب عليهم أوراقا، وجلس في الخمس، وطلب الجميع، وألزمهم بالحمل، وهددهم بالإخراق، وبقيت الإسكندرية في نار تتوقد. ثم كتب كتابا إلى السلطان وذكر فيه أنه دخل الإسكندرية فلم يجد صانعا يعمل له شيئا، وأن سائر الصناع يشتغلون في أعمال بيدرا، وأن نوابه مستولية على سائر الأشياء، ولم أتمكن الحديث معهم، وحط على بيدرا في كتابه حطا عظيما، فلما وقف السلطان على كتابه غضب غضبا شديدا، وطلب بيدرا من ساعته، فلما دخل عليه شرع يسبه ويهينه، وحمل عليه ليضربه بشيء من عنده، ولم يترك شيئا حتى قال له، غير أنه لم يقل خذوا سيفه، فتقدمت الأمراء الخاصكية وسكنوا غضب السلطان وصاحوا على بيدرا: اخرج اخرج من وجه السلطان، ودفعوه بأكتافه، فخرج وهو أعمى لا يدري كيف يمشي ودموعه تنزل على لحيته. ولما خرج شرع السلطان يقول: أنا أعرف ما مراد بيدرا، والله لا خليت له مالا ولا زوجا، فطلب كاتب السر ورسم له أن يكتب إلى الوزير بأن يوقع الحوطة على نواب بيدرا، ويضرب الجميع بالمقارع، ويأخذ أموالهم، فأي شيء وجده لبيدرا من الأموال يحتاط عليه ويحضره صحبته، وتكلم بكلام كثير قدام الخاصكية، وتوعده أنه إذا دخل المدينة يقبض عليه. ثم أن بعض الخاصكية بعثوا في السر إلى بيدرا وأخبروه بجميع ما جرى من السلطان في حقه، وأنهم هم الذين صبروا السلطان في القبض عليه إلى أن يدخل السلطان المدينة، وقالوا له: احترز وخذ لنفسك، فلما وقف عليه بيدرا اجتمع بالأمراء الذين ذكرناهم وتحالفوا على قتله والهجوم عليه، وكان بيدرا قد استجلب خواطر هؤلاء الخاصكية بالإحسان والخدمة. ذكر مقتل الأشرف وكان السلطان أعطى الأمراء دستورا ليتوجه كل منهم إلى إقطاعه، وكذلك المقدمين والمفاردة، ولم يترك معه إلا المماليك الخواص. وفي نزهة الناظر: وعند خروج بيدرا من عند السلطان حصل عنده قلق، فأبطل الصيد، ورسم للأمير جمال الدين قتال السبع - وكان في ذلك الوقت أمير علم - أن يتقدم بالطلب وصحبته الطواشى مقدم المماليك إلى المدينة، ورسم للأمير كتبغا والحسام أستاذ الدار وغيرهما أن يرحلا، وأنه يرحل عنهم، ثم أنه وجد في نفسه ضيقا وثقلا في بدنه، فطلب المزين وافتصد، وبقى إلى قريب العصر قاعدا وهو متشوش، ثم قصد أن يركب بمفرده ويطعم الطير ليشرح خاطره، فركب في جماعة يسيرة من الخاصكية بغير سيف، ورآه الخاصكية الذين اتفقوا مع بيدرا على قتله، فسيروا إليه وعرفوه أين السلطان، وأن هذا الوقت وقت الفرصة والغنيمة، فقام بيدرا وركب، ومعه قراسنقر ولاجين وغيرهما، ولبسوا تحت الثياب، وساروا وبيدرا بينهم، فلما قربوا من السلطان رآهم فقال: من يكون هؤلاء؟ فسير من يكشف خبرهم، فعند وصوله إليهم عوقوه عن الرجوع إلى السلطان، فسير ثانيا شخصا آخر فعوقوه أيضا، وقرب بيدرا إليه فتحققه السلطان، وظن أنه حضر ليشاوره في أمر، فما كان إلا جذب سيفه وضربه، فصاح السلطان منه، وتلقى ضربته بيمينه التي فيها الزجمة، فرجع عنه بيدرا فلحقه لاجين من خلفه، فضرب على عاتقه، فنزل السيف إلى وسطه، فوقع من فرسه كالطود العظيم، فتناوله تلك الأمراء الخاصكية بالسيوف فقطعوه قطعا قطعا. ووقع الصياح بقتله، فأول من نعاه وأشهر قتله الأمير ركن الدين بيبرس الخاصكي، فحل شاشه من كلوتاته وصار يصيح واسلطاناه، فركبت الأمراء، واجتمعت الناس، ونهبوا كل شيء هناك، واختبطت الناس، فوقعت الهجة بينهم وكان قريب المغرب فدخل الليل على الناس وتركوا السلطان هناك مطروحا على الأرض لا يؤبه إليه، وبات بيدرا ولاجين وقراسنقر والأمراء الخاصكية يدبرون أمرهم، وتحالفوا أن يكونوا يدا واحدة.

ذكر ترجمة الأشرف

وفي تاريخ بيبرس: ركب السلطان في نفر يسير من خواصه ليتصيد قريبا من الدهليز، وكان إذ ذاك نازلا على تروجة، فأخبر بيدرا ومن معه من أن السلطان ركب منفردا، فقالوا: هذا وقت انتهاز الفرصة، فشدوا تراكشهم وركبوا إلى نحوه، وهم: بدر الدين بيدرا، وحسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر، وسيف الدين بهادر رأس النوبة، وشمس الدين آقسنقر الحسامي، وسيف الدين نوغيه، ومحمد خواجا، وطرنطاى الساقي، والطنبغا رأس نوبة، ومن انضم إليهم، وكان دون السلطان مخاضة فخاضوها، فلما أقبلوا عليه عصبة واحدة أحس فيهم بالشر، وظهرت له علامات الغدر، فأعجلوه عن الكلام وعاجلوه بالكلام وعلوه بالحسام. وقيل: إن بيدرا ضربه أولا فجرحه، ثم ضربه لاجين فقطع يده والزخمة فيها وثنى فيها وثنى عليه بأخرى، فانجدل صريعا، ثم تخاطفته سيوف الأمراء المذكورين وترك صريعا يبج دما نجيعا، وكان بتروجة الوالي عز الدين أيدمر الفخري، فحمل السلطان على جمل من الموضع الذي قتل فيه إلى ساحل البحر، وحمل في مركب إلى المدينة، ودفن بتربته بالقرب من السيدة نفيسه رضي الله عنها. وفي نزهة الناظر: حكى متولى تروجة أنهم سلبوا كل ما كان على السلطان من الثياب، وعروه، ولم يتركوا عليه إلا السراويل لستر عورته، وأنه هو الذي ستره بالثياب، وحمله على جمل إلى المعدية. ذكر ترجمة الأشرف هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن السلطان الملك المنصور قلاون الصالحي النجمي الألفي. قتل في الثالث عشر من محرم هذه السنة، وكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وشهرين وأياما، فإنه ملك السلطنة بعد وفاة والده الملك المنصور يوم السبت السادس من ذي القعدة من سنة تسع وثمانين وستمائة على ما ذكرنا، وكان الأشرف شهما شجاعا، عالي الهمة، حسن المنظر، قد عزم على غزو العراق واسترجاع تلك البلاد من أيدي التتار، واستعد لذلك ونادى به في بلاده، وقد فتح في مدة ملكه - وكانت ثلاث سنين - عكا والسواحل، ولم يبق للفرنج بها معلم لأحد، وقلعة الروم، وبهنسى، ومرعش، وغير ذلك. وفي تاريخ النويري: وكان ملكا مهيبا شجاعا، مقداما جسورا، جوادا كريما بالمال، أنفق على الجيش في هذه الثلاث سنين ثلاث نفقات: الأولى: في أول جلوسه في السلطنة من مال طرنطاى. والثانية: عند توجهه إلى عكا. والثالثة: عند توجهه إلى قلعة الروم. وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي: كان قبل ولاية الأشرف يؤخذ عند باب الجابية بدمشق عن كل جمل خمسة دراهم مكسا، فأول ما تسلطن وردت إلى دمشق مسامحة بإسقاط هذا، وبين سطور المرسوم بقلم العلامة: ولتسقط عن رعايانا هذه الظلامة ويستجلب لنا الدعاء من الخاصة والعامة. وفي نزهة الناظر: وكان قد شغف بتحصيل المماليك إلى أن كمل ألفا ومائتى مملوك، وأضافهم إلى مماليك والده، وقصد أن يكملهن مع مماليك أبيه عشرة آلاف مملوك، فإن والده توفى عن ستة آلاف مملوك في مدة سلطنته، وكان أول غزوته وفتوحه حصن عكا، وكان حصنا عظيما، وأخذ صور، وعثليث وغيرها، وفتح صيدا، وبيروت، وملك بهسني وثلاث قلاع من قلاع سيس، وعزم على دخوله إلى ناحية بغداد ويدوس بلاد العدو، وكتب إلى نائب حلب بتجهيز سلاسل للجسور لدخوله الفرات، وقبض على مهنى وإخوته، وخافته الملوك من سائر الأطراف وأذعنوا له بالطاعة.

ومع ذلك كان ملكا حاد النفس، فيه رهج واستهتار بالأمور واستخفاف بأكابر الأمراء، وكان لا يفتكر ما يفتكره الملوك من العواقب، فمن ذلك ما اتفق له مع الأمير بيسرى، وهو أكبر الأمراء بمصر وأجلهم رأس الميمنة، وذلك أنه جلس يوما في شباك الميدان، وأحضر بين يديه سيفا وثورا كبيرا، والتفت إلى البيسرى وقال: يا أمير بدر الدين: تحبني أو لا؟ فقال يا خوند: وكيف لا أحبك، وقد خليتني من السجن وأحسنت إلي. فقال له: بحياتي عليك، قم واركب على هذا الثور، فنهض من ساعته، ولم يعلم ما أراد بركوبه، فلما صار على ظهر الثور، قال للسباع: أطلق السبع على الثور، فهجم عليه، فكسر الثور، ووقع البيسرى من ظهره، وطارت كلوتاته من رأسه، وانكشفت ثيابه عن جسده، وانقلب السلطان على قفاه من قوة الضحك، وتضاحكت المماليك، وقام البيسرى وهو خجلان ينفض ثيابه، ولم يظهر في وجهه تعبا حتى لا يفهم عنه أنه غضب من ذلك الأمر، فأشيع ذلك بين الأمراء، وبلغ الأمير بدر الدين بكتاش الفخري، فصعب عليه ولم ينزل ذلك اليوم إلى الميدان حتى أرسل السلطان إليه، فلما اجتمع بالبيسرى أخذ يعنفه ويعتب عليه بما رضى لنفسه من ذلك الأمر، وقال له: جعلتنا في آخر عمرنا مساخر والناس تضحك علينا. فقال له يا أمير بدر الدين: والله كان الموت أهون علي من ذلك، ولكن خشيت الرجوع إلى الحبس بعد عشر سنين التي قاسيت فيها الذل والقيد والخوف والوحدة وأنت معذور، فلو قاسيت ما قاسيت لهان عليك كل شيء من هذا القبيل. ولما انقضى أمر الميدان طلب السلطان البيسرى وطيب خاطره، وقال يا بدر الدين: أنت ما فعلت هذا إلا محبة لي وامتثالا لأمري، فقدرك عندي كبير، وألبسه تشريفا أطلس كاملا، وأنعم عليه زيادة على إقطاعه منية بني خصيب مائتى ألف درهم وخمسة آلاف إردب. قال صاحب التاريخ: فلأجل ذلك كان والده الملك المنصور يفضل أخاه الملك الصالح عليه، وسلطنه قبله، لما كان فيه من العقل والسكون والأدب، وكان يرى من الأشرف نقيض ذلك. وقد حكى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر أن الملك الصالح لما مات في حياة والده المنصور أشارت الأمراء عليه أن يولى أخاه الخليل ويلقبه الأشرف، فأمر بذلك وكتب تقليده، فدخل به الدوادار إلى السلطان المنصور ليعلم عليه، فدفعه بيده وقال: خله عندك، فبقى أياما على ذلك، ثم استحث الأشرف على التقليد، فاتفقت أنا والأمير الدوادار ودخلنا على السلطان. فقلنا: تقليد ولد مولانا السلطان الذي لقب بالأشرف، فدفعه بيده وقال: خلوه عندكم والله ما يطيب خاطري تولية هذا الصبي، فإنه مجنون لا يفتكر في عاقبة الأمر، ولا يحسن تدبير الملك، وأنا مفتكر كيف يكون أمره بعدي. قال: وبقى الأمر إلى حين توفى السلطان المنصور وتولى الأشرف، ولما جلس على تخت الملك أول ما سألني فقال لي يا فتح الدين: هو ما رضى بي سلطانا، فالرب تعالى رضى بي وجعلني سلطانا. قال صاحب التاريخ: ومن ذلك ما اتفق له مع الملك المظفر صاحب اليمن، فإنه لما بلغه موت السلطان الملك المنصور قلاون أقام مدة ولم يسير الهدنة التي جرت بها العادة، فكتب الأشرف إليه كتابا فيه تخويف وتهديد وعرض له باشتغاله باللهو والطرب والتخلي مع النساء وغير ذلك مع الأشياء الخارقة لحرمته. وكان آخر قوله في كتابه لأخرجن اليمن من يمينك، واقتل من آل إليك أووالاك؛ وكتب العلامة بين الأسطر غير شاكرة، وجعلها سطرا مطولا بقلم طومار، وكتب عنوان الكتاب: يصل إلى الخارجي باليمن، وسيره مع بعض الكارم، وعرفه أنه يجهز عقيبه عسكرا إذا لم يحضر إليه بالجواب والهدنة على عادته، ولما أوصله الكارم إلى الملك المظفر، فرأى عنوانه يصل إلى الخارجي باليمن رده إليه وقال: هذا الكتاب ما هو لي وهذا عنوانه: إلى الخارجي باليمن، فإن كنت تعرف الخارجي باليمن أوصله إليه، وإلا رده إلى صاحبه، وكان الملك المظفر رجلا عاقلا، وافر العقل، كثير المحاسن، ولما بلغ إليه الكارم ما قال له الملك الأشرف مشافهة. قال الملك للمظفر: هذا كلام من غلب عليه الجهل والشغاب، وكان من الأمور المقدرة أن توفى الملك المظفر والملك الأشرف كلاهما جميعا.

ذكر سلطنة بيدرا

وذكر صاحب النزهة أيضا: أن أول ما اعتمده الأشرف حين ولى السلطنة أنه أطلق سائر من كان في السجون من المصادرين وأرباب الدواوين، ورسم برفع المظالم عن الناس، وأبطل الرماية على التجار، ورسم للوزير أن لا يتعرض لظلم أحد من الناس، وقال: وقد ذكرنا ما كان يعتمد الجند من الملابس العجيبة في الدولة الماضية، وأن السلطان المنصور أزال أكثرها عن الجند والأمراء؛ ثم لما تولى الأشرف اختار لمماليكه وخاصكيته الملابس الحسنة؛ وغير الكلوتات الصفر والجوخ، وأمر لسائر الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات الزركش والطرازات الزركش والكناش الزركش والأقبية الأطلس حتى يتميز الأمير بلبسه عن غيره، وكذلك في الملبوس الأبيض الرفيع، والسروج المرصعة الأشرفية والأكوار، وقضى مماليكه وحاشيته في دوله أستاذهم أيامهم بالهنا والسرور والخيرات فيما بينهم والهبات والتهادي، وكان السلطان شرط عليهم أن لا يبيت أحد منهم في غير القلعة، وفي النهار يفعل ما يختاره. قال الراوي: وأما سماط الأشرف ومأكله فكان من أفخر الأطعمة وأحسنها وأكثرها. قال: وقد خرجت مع والدي صحبة العسكر والسلطان لما خرجوا لقصد فتح قلعة الروم، وكان والدي مع جماعة من المقدمين منهم جمال الدين الطبردار، وركن الدين الكلالى، وبدر الدين الجاكى، وكانوا كل يوم يرسلون إلى مطبخ السلطان عشرين درهما فيأخذون بها أربع خوافق صينية ملآنة من الأطعمة المفتخرة بالقلوبات وغيرها، وفي كل خافقية أكثر من خمسة عشر رطلا من اللحم الهائل أو عشرة أطيار من الدجاج المسمن، وكذلك كثير من الجند والغلمان يشترون من مطابخ الأمراء من أنواع الأطعمة، وكانت الأجناد يتحدثون بكثرة الخيرات حتى أن الغلمان يأبون في غالب الأوقات أن يأكلوا من أطعمة أستاذيهم لما أنهم يقرفون من كثرة الأكل وكثرة الأطعمة. قال: ورأيت في هذه السفرة أن أحدا من الأمراء لا يأكل من سماطه حتى يتفقد ما حوله من الغلمان والخدام والحاشية ومن المضافين إليه أو النازلين قريبا منه، فيرسل إليهم من الأكل والشرب والغنم والطيور والسكر والحلوى من الذهب والفضة كل أحد بقدر حاله، وكانوا يتفاخرون بذلك فيما بينهم. وأما مكارم السلطان فلا يحد وصفها وقد أنعم على الأمير طقجى في يوم واحد بمائة ألف دينار، وأمثال ذلك وقعت منه كثيرا. ذكر سلطنة بيدرا ولما قتل السلطان على ما ذكرنا، اجتمعت الأمراء الذين قتلوه في الوطاق، وقرروا بينهم أن تكون السلطنة لبيدرا، وملكوه، ولقبوه الملك القاهر، وقيل: الملك الرحيم. ونص بيبرس في تاريخه أنهم لقبوه بالملك القاهر. وذكر في نزهة الناظر: أن بيدرا ومن معه لما قتلوا الأشرف باتوا تلك الليلة وهم متحالفون على أن يكونوا يدا واحدة، ولما أصبحوا ركب بيدرا في دست السلطنة وحوله العسكر والأمراء والشاوشية، ولقب نفسه بالملك العادل، ثم اتفقوا على أن يبادروا نحو القلعة ليملكوها سرعة، فيتم له المنعة، فركبوا، وعند ركوبهم وجدوا الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار أمير جندار، والأمير بدر الدين بيسرى، وكان قد بلغهما الخبر بأمر السلطان، فركبا لكشفه، فوجدوهما في الطريق فقبضوا عليهما وأخذوا سيوفهما وربطوهما وأركبوهما على البغلين، وأرادوا قتلهما مرارا، فشفع فيهما بعضهم فلم يقتلوهما. وكان في الدهليز الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغى، وحسام الدين الأستاذدار، والأمير بدر الدين بكتوت العلائي، والمماليك السلطانية الذين كانوا متوجهين صحبة السلطان للصيد، فركب الأمراء المذكورون على آثارهم، وكان الأمير زين الدين كتبغا في الصيد، فبلغه الخبر، فلحقهم، ولحق بهم المماليك الذين كان السلطان قد أعادهم إلى القلعة قبل وقت مقتله، فصاروا كتفا واحدا، وجدوا في أتباع بيدرا ومن معه من الأمراء، فلحقوهم على الطرانة يوم الخميس الخامس عشر من المحرم، فلما التقى الجمعان أطلق بيدرا الأميرين المذكورين بدر الدين بيسرى وبكتمر السلحدار، ليكونا عونا له.

ذكر ترجمة بيدرا

ولما التقى الجمعان، واقتتل الفريقان، تسحب الأمير بدر الدين بيسرى، وسيف الدين بكتمر السلحدار، والأمير سيف الدين بهادر الحاج، وانحاز عنه جماعة ممن كانوا قد انضموا إليه، والتف عليه، ولما رأى العربان أن الذين مع بيدرا قد تفللوا وتسللوا، فهربوا هم أيضا، وطلبوا البر، فلم يبق معه إلا نفر يسير، وهاجمهم الأمراء وعاجلوهم، فلم يتمكنوا من مراسلة ولا مخاطبة، فما كان بأسرع من أن صدموهم، وقتل بيدرا لساعته، ولما خر صريعا وثب إليه بكتمر السلحدار سريعا، وبقر بطنه، واستخرج كبده، وأخذ منها فلذة وابتلعها حنقا عليه، وحز رأسه، وحمل إلى المدينة على رمح، وطيف به في القاهرة ومصر، ودفنت جثته بالطرانة، وتمزق من كان وافقه من الأمراء، وتفرقوا في الأقطار. وأما حسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر، فإنهما دخلا القاهرة بغتة، واستترا فيها مدة، وأما من سواهما فكل منهم عمد إلى مكان، واستتر بعضهم في القاهرة وأطراف البلدان. وكان بالقلعة سنجر الشجاعي مقيما فاحترز على المعادى والمعابر، وأمر بأن لا يعدى بأحد من الجند من بر الجيزية. ووصل الأمير زين الدين كتبغا، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وحسام الدين لاجين، وسيف الدين برلغى، والأمراء الخاصكية وهم طقجى وطقطاى وقطبية وغيرهم من المماليك السلطانية، واتفقوا مع علم الدين الشجاعي وقرروا أن تكون السلطنة للملك الناصر محمد بن قلاون، هذا ما ذكره بيبرس في تاريخه. وفي نزهة الناظر: وحين ركب بيدرا ومن معه، وأراد التوجه إلى المدينة بسرعة، جاءت إليهم العرب، وأخبروهم أن مماليك السلطان الذين رجعهم السلطان مع الطلب إلى المدينة قد بلغهم أن السلطان قتل، وأن الأمراء قد اجتمعوا معهم وهم قاصدون إليكم، وكان الذي أخبرهم بذلك الأمير سنكو الدوادار، وهو من الذين ركب مع السلطان، ورأى قتله، فلم يرجع إلى مخيمه، ولا ألوى على شيء، وساق حتى بلغ الطلب وأمير على قدام الطلب، فأخبرهم بالخبر. وقام قتال السبع، وجمع المماليك السلطانية، وكان الأمير كتبغا، والأمير حسام الدين أستاذدار قريبين منهم، فأرسلوا إليهما من عرفهما بذلك، فجاء إليهم واجتمعوا وتحالفوا، ثم ساروا نحو بيدرا ومن معه. وعند انشقاق الفجر وقعت أعين الطائفتين بعضهم على بعض، وأشار حسام الدين إلى المماليك السلطانية أن يتطوقوا بمناديل بيض حتى يتميز بعضهم من بعض ففعلوا ذلك، وكان لاجين وقراسنقر لما بلغهما خبر هؤلاء الذين مع الطلب سيرا من يكشف خبرهم، ويعرفهما من فيهم من الأمراء، وكم عدتهم فحضر وكشف، ثم عاد، وأخبرهما أن سائر المماليك السلطانية، وقتال السبع، وكتبغا، وحسام الدين الأستاذدار، ونحوا من عشرين أميرا من البرجية............، ولقد علمت من نفسي أني أنا المطلوب، ومتى سلمت نفسي رأيت ما لا أشتهي، فالموت على ظهر فرسي خير من ذلك، ومن سلم منكم وعاش يكون نظره على أولادي، ثم عطف رأس فرسه وصاح بمماليكه أنه لا يقاتل معي إلا من يموت، ومن اختار الحياة فليرجع، ثم حمل، وحمل معه قراسنقر ولاجين قدامه إلى أن التحم القتال، وبيدرا التقى مع طقجى وأمير عمر فتضاربوا، وضرب كل واحد منهم صاحبه بالسيف، فلم يؤثر، ورمى من ذلك الوقت فرس بيدرا بالنشاب، فجرح إلى الأرض وجلس على الأرض، ودافع عن نفسه إلى أن قتل، وقتل معه من مماليكه نحو اثنى عشر نفرا، وبعد ذلك عادت جماعة من الأمراء الذين كانوا معه إلى طلب السلطان، ثم شرعوا في قبض مماليك بيدرا، ومن كان معه من المخامرين، وجمعوا أثقالهم وخيلهم، وعادوا بهم إلى القاهرة. ذكر ترجمة بيدرا

ذكر ما وقع بالمدينة بعد قتل الأشرف

كان أصله من جملة المغول الذين وصلوا البلاد من عسكر هلاون، ... ... ... . قلت: ولما سير هلاون عسكرا صحبة كتبغا نوين وأمرهم بالدخول إلى مصر، فالتقى مع السلطان الملك المظفر قطز على عين جالوت، وانتصر السلطان على ما ذكرناه، وقتل كتبغا، وانهزم المغلية، فلما وصلوا إلى هلاون غضب عليهم، وقال كتبغا مات بيديكم، وسلمتم أنتم، ثم أمرهم بالرجوع إلى الشام، ورسم أن كل من أقام في الأردو قتل، فرجعوا وعبروا الفرات، ودخلوا إلى حلب، وصاروا يغيرون على أهل الضياع، فاجتمعت جماعة من أهل حلب مع صاحب حماة، وصاحب حمص، وجماعة من التركمان، فركبوا لهم، والتقوا معهم في ظاهر حلب، وكسروهم كسرة شنيعة، وأخذوا جميع ما كان معهم، ولم يصل أحد منهم إلى الفرات إلا قتيلا أو غريقا، ونسوانهم جواري ومماليك، فكان من جملة الأسرى والدة بيدرا، أخذوها وهي حاملة بيدرا على ظهرها في مهد. قال صاحب النزهة: كما حكاه الأمير علم الدين الدواداري الصالحي، وأنه قد سير الأسرى وهم جماعة كثيرة إلى مصر في الدولة الظاهرية، وقال: فيهم والدة بيدرا، وهو معها صغير، وفيهم أيضا كتبغا ولكن كان في ذلك الوقت مراهقا للبلوغ، ولما حضروا إلى مصر فرقهم السلطان الملك الظاهر، فوقعت والدة بيدرا مع ابنها في يد قلاون، وأعطى قلاون أم بيدرا لمملوكه سنجر الشجاعي، وكبر بيدرا، وكان منه ما كان. قال الراوي: وكثير من الناس يزعمون أن كتبغا وبيدرا أخذا في نوبة حمص في دولة الملك المنصور، وهذا غلط، وقد حكى ذلك عن الأمير علم الدواداري على ما ذكرنا، حدث عنه جماعة كثيرة بذلك، وصدقه أيضا على هذا المقول الأمير علم الدين أبو خرص، مملوك الملك المظفر صاب حماة، وقد سأله الأمير لاجين - وهو نائب الشام بحضور الملك الكامل - عن أمر بيدرا وكتبغا، فذكر مثل الدواداري فصدقه على قوله. قال الراوي: وسمعت ذلك من شرف الدين بن الملك المغيث بن الملك الكامل. وكان بيدرا تقلبت به الأحوال إلى أن صار نائب السلطان الأشرف، وكانت له حرمة كبيرة، ودولة وافرة، وكان مأمون الغائلة، سهل العريكة، حصل للجند في أيامه خير كثير، ونفقات كثيرة، وأنعم عليهم بإقطاعات وإنعام مع بشاشة وجه، وكان مبدعا في محاسنه، لطيفا ظريفا، حسن الأخلاق، عذب المنطق، متحليا بصفة الآداب، مشغوفا بالطرب، وجد له في الحوطة على موجوده ستون جارية، ما فيهن واحدة إلا وقد أتقنت صنعة الطرب من أنواع الملاهي، وكان يخلو بهن في الليل، وكان له نديم أعمى لا يكاد يفارقه، وكان له تولع عظيم بالأطعمة الحسنة والمشارب الطيبة. قال الراوي: ولم يسمع لنائب قبله ولا بعده، له حوائج خاناه وشراب خاناه مثله، ولقد حكى لي شاهد ديوانه: أن السلطان لما سافر إلى فتح قلعة الروم اختار أن يطعم الأمراء حلاوة سكب، وذلك في الرمل في الطريق، وتولى عمل ذلك حسام الدين الأستاذدار، واحتاجوا في ذلك إلى فستق، فقال: أبصروا في حوائج خاناه نائب السلطان، فإنها لا تخلو منه، فأرسلوا وسألوا فوجدوا في حاصله في ذلك الوقت ثمانية أحمال قلب فستق، وستة أحمال بقشره، فأخذوا منها حمل قلب فستق، فلما فرغوا من عملها جعلوها في أطباق وصحون وفرقوها على الأمراء. قال الراوي: ذكر لي أنهم كانوا في ذلك الوقت في منزلة الورادة، ولم يوجد بعد وفاته في تركته شيء كثير، لأنه فرق أكثرها قبل موته، وخلف ثلاثة أولاد ذكور وبنتا واحدة. قال الراوي: وآخر من بقي من أولاده صلاح الدين، وحضرت يوما عنده، فأخرج محاسبة بين كتبغا وبين ورثة بيدرا - فإن كتبغا ولى النيابة بعده، وأخذ إقطاعه وسائر غلاله وحواصله - تشتمل على ستين ألف أردب غلة ومائتى أردب برسيم، وثلاثمائة وثمانين رأس بقر، وست حجارة معاصير، وأربعة آلاف قطعة قند، واثنى عشر ألف مطر عسل قصب، ومائتى قنطار سكر، وألفى أردب فول، ونحو ثلاثمائة ألف درهم، سوى خيام وسلاح ونحوهما. قال صلاح الدين: ولم يصل إلى منها شيء يساوي درهما. ولما قتل بيدرا كان عمره إحدى وأربعين سنة، سامحه الله. ذكر ما وقع بالمدينة بعد قتل الأشرف

ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون

ولما قتل السلطان، وكان الأمير سيف الدين سنكو الدوادار صحبته، فلما شاهد قتله ركب وساق إلى أن أدرك طلب السلطان وعرفهم بذلك كما ذكرنا، واستمر سائقا بعد ذلك إلى أن دخل المدينة، فوجد الأمير علم الدين الدواداري في الصناعة يجهز المراكب، فأخبره بذلك سرا، ثم ركب صحبته إلى القلعة، وكان الشجاعي بها نائب الغيبة، فاجتمعا به، وأخبراه بذلك، فركبوا على الفور إلى أن أتوا إلى ساحل النيل، وطلب الشجاعي والي مصر ووالي الصناعة والرؤساء، وأمر بإطلاق النداء على أهل المراكب جميعهم بأن لا يعدوا أحد إلى ذلك البر، فأي من عدى بمركبه من كبير أو صغير شنق على مركبه، ثم ركبوا في المركب وجمعوا سائر المراكب من الأعلى إلى الأسفل، ولم يدعوا وجه النيل مركبا إلا وأحضروه إلى ساحل مصر، وكذلك المعادى، وشخاتر الصيادين، ووكل بالساحل من يحفظ ذلك، واتفق وصول طلب السلطان والأمراء الذين كانوا معه بكرة النهار في ذلك اليوم، ووجدوا سائر المراكب والمعادى في بر مصر، ولم يجدوا إلى التعدية سبيلا، فاجتمعوا هناك، وخطر لهم أن الشجاعي كان متفقا مع بيدرا على قتل السلطان لأجل ما كان بينهم من المصاهرة، فاقتضى رأيهم أن يسلموا رأس بيدرا لبعض الغلمان ليؤديه إلى الشجاعي حتى يعلم أن هذا كان غريم السلطان وأنه قتل، فأخذه الغلام ووصل به إلى الشجاعي، وهو في الصناعة والمماليك البرجية حوله، وإلى جانبه الأمير علم الدين الدواداري، فلما رأى رأس بيدرا بكى وتوجع، ورسم بسير المراكب والمعادى. قال صاحب النزهة: حكى لي الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس أن علم الدين الدواداري حكى له في بعض الأيام، وقد ذكروا قتل الأشرف: أنه عندما وصل رأس بيدرا إلى الشجاعي بكى بكاء كثيرا وتألم كثيرا، وقال: يا أمير علم الدين: والله لقد كنت أعجب من عقل صاحب هذا الرأس، ولكن إذا أراد الله بإتمام قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم، والله ليورى هذه النار أثرها لا يبقى لنا أثر، وكان الشجاعي فطنا صاحب ذهن جيد، وكان يروى الشعر الكثير، فقال لي يا أمير علم الدين: كأني أنظر في هذا الوقت في قول الرقاشي الشاعر لما قتل الرشيد جعفرا البرمكي: ألا إن سيفا برمكيا مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند فقل للمطايا قد امنت من السرى ... وقل للفيافي فدفدا بعد فدفد وقل للعطايا بعد فضل تعطلى ... وقل للرزايا كل يوم تجددي وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم تظفري من بعدها بمسود ثم ركب وتلقى الأمراء، وتباكوا وتوجعوا، وأخذ الشجاعي يسألهم عن أخبار لاجين وقراسنقر، فعرفوه أنهما لم يعلما من هذا الأمر شيئا: فطلب بعض مماليك بيدرا وسأل منه، فأخبره أنهما كانا مع أستاذه إلى حين حمل بعضهم على بعض، ولم يعلم بعد ذلك ما جرى منهما. ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون لما كان يوم السبت السادس عشر من المحرم جلس السلطان الملك الناصر في السلطنة، وكان عمره إذ ذاك ثمان سنين وشهورا، وذلك باتفاق الأمراء الكبار مثل: كتبغا، وبيبرس الجاشنكير، وحسام الدين الأستاذدار، وبرلغى، والشجاعي، وغيرهم من الأمراء الخاصكية مثل: طقجى وطقطاى وقطبية وغيرهم، وتقرر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا نائبا، وعلم الدين الشجاعي وزيرا ومدبرا، وركن الدين الجاشنكير أستاذدار، واستقر الحال على هذا النظام.

وقال بيبرس في تاريخه: وكنا إذ ذلك الوقت قد وصلنا من تجريد حمص صحبة الأمير بدر الدين أمير سلاح، فأنعم السلطان على بمائة فارس وتقدمة ألف، وسلم إلى ديوان الإنشاء والنظر عليه، والحديث فيما يصدر منه ويرد إليه، وأنفق السلطان في العساكر، واستحلفوا له فحلفوا، وطلب الأمراء الذين طابقوا بيدرا، فوقع منهم أولا بهادر رأس النوبة، وأقوش الموصلي الحاجب، فضربت رقابهما وأحرقت جثتهما، ثم وقع بعدهما طرنطاى الساقي، وأعناق السلحدار، ونوغيه السلحدار وأروس السلحدار، ومحمد خواجا، والطنبغا الجمدار، وآقسنقر الحسامي، فاعتقلوا بخزانة البنود أياما، وكان ركن الدين الجاشنكير يتوجه إليهم ويتولى عقابهم وتقريرهم، فلما أقروا بما فعلوا، واعترفوا بأنهم قتلوا، قطعت أيديهم وصلبوا، وطيف بهم على الجمال، وأيديهم التي قطعت في أعناقهم قد علقت، وماتوا شر ميتة جزاء بما كسبوا، ووقع بعدهم قجقر الساقي، فشنق في سوق الخيل. وفي نزهة الناظر: أن السبب لقتل هؤلاء واستعجال الأمراء في قتلهم أن زوجة السلطان جمعت نوائح كثيرة تنوح على السلطان، فأراد الأمراء منع ذلك، فأبت ودخلت على أم السلطان الناصر فمكنتها من ذلك، فجمعتها وحضرت مع سائر الخدام والجوار ليلة الجمعة إلى تربة السلطان، وحضر في تلك الليلة سائر الفقهاء والقراء والوعاظ، فقرأوا ختمات عديدة، ولما فرغوا قامت الوعاظ، فتكلم كل واحد بما يناسب ذكره في ذلك الوقت، وتمثل ابن العنبري بقول الشاعر: هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام تلك الرزية لا رزية مثلهاوالقسم ليس كسائر الأقسام ثم نعاه وبكى وتباكت الأمراء والفقهاء، وذكر كيف وجد طريحا ملقى، ثم قال: أبا الفضل لم أعجب لموتك إنه ... هو البين لا يبقى عليك مدى الدهر فواعجبا للأرض كيف ملكتها ... وبت ولم يسترك من دونها بشبر وحين فرغ هذا الوقت وثبت مائة جارية وثلاثون خادما ومماليك صغار، ومعهم شمع وستون فانوسا بستين شمعة، والجميع لابسات الجلال، محلولات الشعر، وفي أعناق الكل غبى محرقة، ومعهن جوق من النوائح المختلفة الأصوات، وكل واحدة منهن تنوح بقول مختلف من كلام النساء، فمن ذلك: جددوا همي وأحزاني ... يا فرحة الأعداء بسلطان يا ضارب السيف شلت يداك ... قد بلغت يمناك منه مناك لا ماتني ربي حتى أراك ... قد سمروا عينيك هذا جزاك وأشياء كثيرة من هذا القبيل. فأقمن ست ليال، كل ليلة من العشاء إلى السحر إلى أن أقلقت الناس، وأبكت العيون، وأوجعت القلوب، والتزمت زوجة الأشرف أن لا تنفك من حزنها ولا تترك ما هي فيه من هذا الأمر حتى ترى قاتل الأشرف والموافق عليه مسمرا مشهورا، فعند ذلك ثارت المماليك الأشرفية واجتمعوا بالشجاعي، وبكوا بين يديه، وقالوا: نحن نموت كلنا وإلا مكنونا من قاتل أستاذنا، وكانوا قد قبضوا على جماعة من الخاصكية الذين اتفقوا مع بيدرا ورسموا بحبسهم، وكانوا أخروا أمرهم إلى أن يتفقوا على أمر يفعل فيهم. فنهض الشجاعي ومعه جماعة من المماليك الأشرفية، فدخلوا على كتبغا لينظر في أمر هؤلاء، فرأوه جالسا في الشباك والأمراء حوله، فقاموا له وشرعوا في الحديث؛ وهم في ذلك فإذا بالأميرين بهادر رأس نوبة والأمير جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب قد حضرا، وكانا من جملة الأمراء المتفقين مع بيدرا، فحين وقع نظر المماليك الأشرفية عليهما سلوا سيوفهم وضربوا رقبة الاثنين في أسرع من لمح البصر، ولما رأى كتبغا والأمراء ذلك خشوا من الفتنة، واتفقوا على قتل الأمراء الذين في السجن وإشهارهم إطفاء لنيران الفتنة. فطلبوا متولى القاهرة فأحضرهم من السجن، ونزل الشجاعي والمماليك الأشرفية صحبته إلى باب السلسلة، وأوقفوهم عند باب السلسلة، وأحضروا قرمة وساطورا، وجعل الوالي يحضر أميرا بعد أمير ويقطع يده على القرمة بضربة واحدة يفصلها من المعصم، فلما فرغوا من ذلك أركبوهم على الجمال وسمروهم تسمير الهلاك، وعلقوا يد كل واحد في عنقه.

ذكر وقعة الوزير ابن سلعوس

وركب في ذلك اليوم كتبغا والأمراء إلى جانبه يشاهدون هؤلاء، وهم على هذه الحالة مسمرون، وعليهم أقبيتهم الأطلس وكلوتاتهم الزركش وأخفافهم البرغالى وشقوا بهم في وسط الموكب، وصاروا طالعين بهم وراجعين والمشاعلية تنادى عليهم: هذا جزاء من يخون أستاذه ويتجاسر على قتل الملوك وأقل جزائه، ورسموا أن يطاف بهم مصر والقاهرة. ونظرت الناس إلى تلك الشمائل الحسنة، والوجوه الجميلة، ويد كل واحد على صدره تشجب دما، وتباكت الناس، وانفجعت القلوب، وكان يوما عظيما. واتفق في يوم دخولهم المدينة سألت زوجة الأمير نغيه بعض خدامها أن تقف في مكان تنظر منه إلى زوجها قبل الموت، فطلع بها على بيت في الشرابشيين فحين وقع نظرها على زوجها مسمرا أرمت نفسها من باب الطاق لتقع عليه، فلطف الله بعثرتها أن وقعت على سقف الدكاكين، وتباكت الخلائق لأجلها، وتألموا كثيرا، وحملوها إلى منزلها. وبلغ خبرها إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح، فتوجع لها، وركب إلى القلعة، واجتمع بكتبغا النائب والأمراء وشفع في نزولهم من الجمال ويموتون في بيوتهم، فقبلوا سؤاله، ورسموا للوالي بتنزيلهم وتسليمهم لأهلهم، وكان ذلك وقت الظهر، فحمل كل منهم إلى أهله، وما لحقوا أن يقعدوا ساعة حتى بلغ المماليك الأشرفية أمرهم، فاجتمعوا عند الشجاعي في محفل كبير، وقالوا: متى ما لم يعد هؤلاء إلى التسمير مثل ما كانوا ما نسكت، وقصدوا إقامة الفتنة، ورأى كتبغا هذه الحالة فبرأ نفسه، فقال: دونكم وإياهم، فأنا ما أدخل بينهم فعند ذلك ركبوا ونزلوا، فأخذوا كل واحد من منزله، وأعادوهم إلى الأخشاب والتسمير، وشقوا بهم المدينة. فكانت تلك الإعادة أمر عليهم وأصعب مما وجدوه في أول الشدة، وبقيت معهم طائفة من الأشرفية إلى أن وصلوا بهم إلى ظاهر القاهرة وإلى ظاهر مصر، فاستمروا على هذه الحالة يومين آخرين، ثم توفوا إلى رحمة الله. وكانت عدتهم سبع أمراء وهم: طرنطاى الساقي، وعناق السلحدار، ونغيه السلحدار، وأروس السلحدار، وطنبغا الجمدار، وآقسنقر الحسامي، ومحمد خواجا. وبعد هؤلاء قبضوا على الأمير قجقار الساقي؛ وكان قد هرب من يوم الوقعة واختفى، وشنقوه في سوق الخيل. فالكل عشرة أنفس مع بهادر رأس نوبة والموصلي، فنعوذ بالله من ذلة القدم، وزوال النعم، وحلول النقم. ذكر وقعة الوزير ابن سلعوس هو الوزير الكبير شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الرجا التنوخي، المعروف بابن سلعوس، وزير الملك الأشرف، كان هو من جملة الأسباب المؤدية إلى وقوع هذه الفتن، لأنه كان بينه وبين الأمير بيدرا في الباطن إحن وعداوة - على ما ذكرنا - حتى أدى ذلك إلى ما حصل من بيدرا من ركوبه على الملك الأشرف وقتله إياه. ولما جرى ما ذكرناه على الأمراء الذين ذكرناهم مسك الشجاعي الوزير المذكور، وضربوه وعاقبوه، فمات تحت الضرب الذي جاوز ألف مقرعة، وذلك في عاشر صفر من هذه السنة، ودفن بالقرافة. وقيل: إنه نقل إلى الشام بعد ذلك، واستصفوا أمواله وذخائره. وفي تاريخ ابن كثير: وكان الذي حمل من جهته خمسمائة ألف درهم. وفي نزهة الناظر: وكان الوزير في الإسكندرية يوم قتل السلطان، وكان قد طلب سائر التجار وأرباب الأموال والمكارم وشرع في مصادرتهم وإهانتهم فكثر الظلم والعسف عليهم بسبب هذا، وطلب والي الإسكندرية بدر الدين الجاكي، وكان رجلا ذا دين ومروءة، فرسم عليه وأخذ سيفه وأمر بأن يؤخذ منه مبلغ ألفى دينار، وبقيت الإسكندرية في بكاء وعزاء. وفي ذلك اليوم بعد العصر وقعت بطاقة، فأحضرها البراج للمتولى فأخذها وقرأها، فوجدها من تروجة وقد كتبت عن بيدرا: سرح الطائر الميمون يوم السبت وقت العصر الثاني عشر من المحرم يأمر بالقبض على الوزير، وأن السلطان قتل، وتسلطن بيدرا.

فلما وقف حمد الله تعالى في نفسه، ولم يظهر ذلك لأحد، ونهض من دار الولاية ووسطه مشدود بمنديل إلى أن وصل إلى باب الوزير، فوجد المقدم ينتظره، وقال يا أمير: ما لك؟ كملت حملك؟ قال له: بقى ثمان مائة دينار ولكن لي شغل عند مولانا الوزير، فاستأذن علي، فأرسل خادما من الخدام، فشاور عليه، فخرجت الرسالة للمقدم: متى لم يكمل الليلة ألف دينار، عره واضربه بالمقارع، فقال المقدم: يا أمير سمعت الجواب. فقال: مرسوم الصاحب على الرأس، فاليوم يكمل إن شاء الله، ولكن عرفه أن ثمة شغلا ضروريا؛ فلا بد من الاجتماع به والمشاورة عليه، فدخل الخادم فعرفه بذلك، فأذن له، فدخل فوجده جالسا بعجب وعظمة والموكبية تعد قدامه. فقال: كملت الحمل؟ . فقال: نعم يا مولانا. فقال: ما تريد وأي شيء تشاور؟ فقدم له البطاقة من جيبه وناولها إياه، فقرأ أولها وبهت فيها إلى أن استكملها، ثم رفع رأسه فقال: يا بدر الدين: ما بقى إلا مروءتك وفتونك في هذا الوقت. فقال له: ما عندي شيء يشوش عليك ولكن متى قعدت الليلة ويصبح أهل البلد ويطلعون على الأمر، ما يخلون يصل على الأرض من دمك قطرة. فنهض على الفور صحبته إلى أن أخرجه في الليل من باب الإسكندرية، وأشاع أن السلطان سير بطلبه، فخرج معه شخص من الدماشقة وكان يصحبه، فأخفى نفسه إلى أن وصل إلى زاوية الشيخ ابن عبد الظاهر خارج باب البحر، فقال له يا مولانا الصاحب: أنا أشير عليك بأن تخفى نفسك من ها هنا أياما إلى أن تنظر بعد ذلك ما يتفق للناس، ثم تتحيل لخلاص نفسك، فالتفت إليه كالمغضب وقال: ما تستحي؟ تشير على برأي العموم، إش هذا الرأي الفاسد؟ والله لو فعل هذا بعض العمال الذي تحت يدنا لقبحنا ذلك منه، فكيف يليق بي أن أفعل ذلك، فكأنك تعتقد أنهم ما هم محتاجون إلى تدبيرنا لدولتهم، وما لهم غنى عنا، فسكت الرجل وتمثل بقول الشاعر: لكل داء دواءٌ يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها ثم إن الوزير وصل إلى القاهرة ودخلها بالليل، فنزل بداره بحارة زويلة، فبلغ الشجاعي حضوره، فعرفه لزين الدين كتبغا، فرسم بطلبه، فطلب الشجاعي الحاجب فقال له: انزل إلى الوزير وقل له: يا مولانا الصاحب إن الأمراء يسلمون عليك ويسألونك أن تركب إليهم، فإن الدولة محتاجة إلى تدبيرك، فنزل الحاجب إلى داره، واستأذن فأذن له، فدخل عليه وسلم بأدب، وعرفه بما قالوا له، فأعجبته نفسه، وقال: بسم الله اجلس حتى تحضر الجماعة، فسير إلى الكتاب والمباشرين، فعرفهم أنه طلب للوزارة، فركب إليه الناس وسائر الدواوين والمشدين، فاجتمع خلق كثير، وحضرت القضاة أيضا. فركب في موكب عظيم كما كان بعهده إلى أن وصل إلى القلعة، فدخل على الشجاعي فنهض إليه، وقال: كيف حال مولانا الصاحب؟ فقال: بخير. فقال السلطان: ولدك رسم أن تستقر على وزارتك وتدبير الدولة. فقال: حتى تجتمع بالسلطان ونذكر له شروطا نقررها بين يديه. فقال له: بسم الله والسلطان أيضا له شروط، أولها: أنه يطلب منك أن تنفق على العسكر لأنه سلطان جديد، فإذا كملت النفقة تجتمع به، ثم التفت إلى قراقوش الظاهري - الذي ذكرنا قضيته وما جرى عليه معه من المصادرة - وقول قراقوش له: ويلك هل أنت إلا المقوقز الذي أخربت مصر وقتله الوزير بعد ذلك بالمقارع. فقال له: يا أمير بهاء الدين، تسلم غريمك وخلص منه مال السلطان.

ذكر قضية الأمير علم الدين سنجر الشجاعي

فأخذه أشد أخذ، ففي تلك الساعة خرجت تلك الحماقة من رأسه من قوة الصفع بالأيدي، وانقلب ذلك الموكب الذي طلع فيه إلى القلعة إلى الذلة والهوان فخرجوا به، وبلغ ذلك إلى كتبغا وأنه تسلمه قراقوش، فعلم أن نقلته في ليلته ويروح ماله، فرسم كتبغا أن يتسلمه الأمير بدر الدين المسعودي مشد الدواوين، فأحضروه إليه، وصحبته تقي الدين الأعمى الذي كان نديم بيدرا الذي لا يكاد يفارقه ويجلس معه عند جواريه ومغانيه كما ذكرناه، وكان له فضيلة وشعر وحكايات، وحصل له جملة مال من قضاء أشغال الناس وحوائجهم عند بيدرا، ووجد له مال كثير، وفي جملته نحو من ثمان مائة خاتم ما بين ساذج وبفص، فإنه كان إذا ركب أو مشى وسلم خلفه أحد بمشعل أو غيره، فيمد يده إليه فيصافحه ويحبس يده، فأي خاتم وجده في يده أخذه، ولو كان أي خاتم كان، وفي يد أي من كان، ثم إن المشد يحضر الوزير ويعاقبه، ومسكوا أيضا جميع من كان يلوذ به من الدماشقة والمصريين وغيرهم إلى أن حصل من جهتهم أربعمائة ألف درهم بعد قتلهم بالمقارع. وقبضوا أيضا على يعقوب المقدم وولده، وكان هذا مقدم نائب بيدرا ومقدم دولته، فأحضره المسعودي لعقوبة الوزير، وكان الشجاعي يكرهه، فبلغه عنه أنه يعاقب الناس، فسير إلى المشد وأمره بالقبض عليه وعقوبته، وكان ذلك في مدرسة الصاحب بن شكر، فاتفق حضور الرسالة ويعقوب قد ضرب الوزير ست مقارع، فقبض عليه للوقت، وطلب ولده أيضا، فحضر وأقاما في العقوبة تسعة أيام، وكانت آجالهم متقاربة. وكانوا قد كتبوا أيضا إلى نائب دمشق بالحوطة على جميع اكام ابن سلعوس الوزير وأهله ومن يعلمون أنه من جهته، فقبض على جماعة كثيرة من الدماشقة، وحصل منهم نحو مائتى ألف درهم سوى الأملاك والعقارات، ولم يسلم من ألزامه ومن كان خصيصا به غير رجل واحد، وذلك أن الوزير لما قوى أمره سير إلى الشام فاستدعى أهله وألزامه فكلهم أجابوه إلا هذا الرجل، فلم يجبه، فكتب إليه يعتذر عن الحضور ويحذره من الشجاعي فقال: توق يا وزير الملك واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي وعش ما عشت في دعةٍ ... أخاف عليك من نهش الشجاعي فبلغت الأبيات إلى الشجاعي، فكان يتذاكرها إلى هذا الوقت الذي رسم بطلب ألزامه وأهله واستثنى هذا الرجل، فكتب بالوصية له وعدم التعارض إليه، فوقع الأمر كما قال الرجل، فإنه مات من نهش الشجاعي الذي لم يجد له ترياقا. وقال ابن كثير: وكان ابتداء أمر الوزير ابن سلعوس تاجرا، ثم ولى الحسبة بدمشق بسفارة الصاحب تقي الدين توبة، ثم كان يعامل الملك الأشرف قبل السلطنة، فلما تملك بعد أبيه استدعاه من الحج وولاه الوزارة، فكان يتعاظم على أكابر الأمراء ويسميهم بأسمائهم ولا يقوم لهم، فلما قتلوا الأشرف تسلموه بالضرب والإهانة وأخذ الأموال حتى أعدموه حياته وصبروه، وأسكنوه الثرى بعد أن كان عند نفسه قد بلغ الثريا. ذكر قضية الأمير علم الدين سنجر الشجاعي قد ذكرنا أنه لما قتل الأشرف كان سنجر الشجاعي مقيما في القلعة، ولما عاد زين الدين كتبغا والأمراء المذكورون تقرر الحال على أن يكون الشجاعي محكما في الوزارة، فتحدث فيها ونفذ أمره. فلما كان في شهر صفر من هذه السنة خرج الأمراء من بيوتهم في يوم موكب، وجلسوا على باب القلة كالعادة ينتظرون فتوح باب القلعة ليركبوا الموكب في خدمة الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، فلم يشعروا إلا وخرجت رساله على لسان أمير جاندار بطلب أقوام معينين إلى السلطان، وهم: سيف الدين قفجاق، وبدر الدين عبد الله السلحدار وسيف الدين قبلاي وركن الدين عمر أخو تمر وسيف الدين كرجي، وسيف الدين طرقجى، فدخلوا، وقام الأمراء للركوب. ولم يعلم الأمير زين الدين بما تم لهم، فبينما هم يسيرون تحت القلعة إذ جاء اثنان من ألزام علم الدين الشجاعي، وهما: سيف الدين قنغر وجاورشى ولده، وكانا في خدمته منذ كان نائب السلطنة بدمشق، فأخبر الأمير كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا إلى داخل سحرا قد اعتقلوا، وأن الشجاعي قد دبر الحيلة عليك وعلى الأمراء إذا طلعتم إلى القلعة ودخلتم إلى الخوان أن يقبض عليكم أيضا، كما فعل بالذين قبض عليهم سحرا.

فاستدعى كتبغا الأمراء الذين في الموكب، وعرفهم الصورة وهو واقف على سفح سوق الخيل، فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة، وتوهموا أن الشجاعي اتفق على ذلك مع الأمراء المنصورية والمماليك السلطانية، وكان بالموكب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير سيف الدين برلغى أمير مجلس فأمسكوهما في موقفهما رجماً بكواذب الظنون، وركونا إلى ما فعله الواشون، وأرسلوهما إلى الإسكندرية، فاعتقلا بها إلى أن علم براءتهما، ففرج عنهما، ورفع قدرهما، وكان ما سنذكره منهما. وعند إمساكهما حصل التجاذب في الكلام بين بعض القوم اللائذين بالأمير كتبغا وبين سنجر البند قداري، فجرد سيفه، فقتل مكانته بسوق الخيل. وتوجه كتبغا ومن معه من الأمراء إلى الباب المحروق وخرجوا منه، ونزلوا ظاهر السور، وأمروا مماليكهم وأجنادهم وألزامهم بأن يلبسوا عددهم ويجتمعوا حولهم، وأرسل كتبغا النقباء إلى الحلقة والمقدمين، فأحضروهم أجمعين. وأرسل إلى السلطان في طلب علم الدين الشجاعي وقال له: إن هذا قد انفرد برأيه في القبض على الأمراء، وبلغنا عنه ما أنكرناه، ونختار حضوره ليحاقق عن نفسه، ويوضح لنا باطن أمره، فامتنع عن الحضور إليهم. ثم إن السلطان طلع إلى البرج الأحمر وتراءى للأمراء، فقبلوا الأرض من مواقفهم وقالوا له: نحن مماليك السلطان ولم نخلع يدا عن طاعته، ولا لنا قصد إلا في حفظ نظام دولته، وإزالة الفساد عن مملكته، وهذا الشخص قد أحدث حدثا رديئا، يفرق الكلمة، ويخرق الحرمة، ولا بد لنا منه. ثم إنهم حاصروه سبعة أيام، فكان ينزل إليهم، ومعه طائفة من الأمراء الذين أقاموا معه بالقلعة وهم: سيف الدين بكتمر، وسيف الدين طقجى ومن يلوذ به من المماليك لابسين، ويتناشون القتال، فلما رأى الذين معه أنه لم يغن شيئا تركوه وفارقوه، وصاروا ينزلون عشرة بعد عشرة ويلحقون بالأمير كتبغا، ومن معه من الأمراء الكبار، كالأمير بدر الدين بيسرى، وبدر الدين أمير سلاح، وعلم الدين طردج وغيرهم. ولما تحقق علم الدين الشجاعي خمود ناره، وخمود أعوانه، خرج بنفسه وكر على الأمراء فما أغنت كرته، ففر عائدا، وبالقلعة لائذا، وقال: إن كنت أنا الغريم المطلوب وقد طلبوني بهذه الذنوب، فأنا أصير إلى الحبس طوعا مني، وأبرأ مما قيل عني وحضر إلى باب الستارة السلطانية وحل سيفه بيده، وذهب نحو الحوش، فوثب عليه مماليك الأمير أقوش السلحدار وسيف الدين صمغار، وكانا قد مضيا به نحو البرج الجواني ليحبساه، فضربوه بالسيوف وحزوا رأسه، وأرسلوها إلى الأمراء، فطيف بها القاهرة ومصر وضواحيهما. وجرت المراسلات بين الأمير كتبغا والأمراء وبين السلطان؛ وتقررت الأيمان والعهود، وتأكدت، ثم طلعوا إلى القلعة وأشار الأمير كتبغا بالنفقة، فأنفق في العساكر قاطبة نفقة شاملة، وأصلح الأمراء والمقدمون بالزيادات والإقطاعات، وترتيب النظام، وأنزل من كان في الأبراج والطباق من المماليك الذين اتهموا بإنشاء الشقاق، فأسكنت طائفة منهم في مناظر الكبش، وطائفة في دار الوزارة، وطائفة في مناظر الميدان الصالحي والظاهري، واعتقلت منهم جماعة بعد اعترافهم بما قيل عنهم. وذكر في بعض التواريخ أن هؤلاء المماليك كانوا ثمانية آلاف وخمسمائة مملوك، منهم أربعة آلاف مملوك وسبعمائة مملوك وأنزلوهم بخدامهم وبابيتهم إلى مناظر الكبش، وإلى قاعات دور الوزارة ألفين وأربعمائة مملوك، وإلى أبراج باب زويلة ألفا وأربعمائة مملوك، وزادوا في رواتبهم حتى لا يتحركوا ولا يفسدوا. وفيها كان ظهور الأميرين شمس الدين قراسنقر وحسام الدين لاجين المنصوري من الاستتار، وقد ذكرنا أنه لما جرى لبيدرا ما جرى، انهزما إلى القاهرة وأقاما بها مختفين، ثم أعلما مملوكا من مماليك زين الدين كتبغا يسمى بتخاص بأمرهما، وأطلعاه على موضعهما، فأطلع مخدومه على ذلك، فتلطف لهما مع السلطان إلى أن سمح لهما بالأمان، فظهرا ومثلا بين يديه، وقبلا الأرض لديه، فرضى عنهما، وعفا عن السالف من دينهما، وأمر لكل واحد منهما بإمرة، وعادا إلى أحسن ما كانا.

وفي نزهة الناظر: وكان هذان الأميران متفقين مع بيدرا على قتل الأشرف، ولما رأيا جيشا عظيما وراء بيدرا طلبا طريق النجاة، فسبق كل واحد منهما إلى الساحل في آخر الليل، فوجدا جميع المراكب والمعادي في ساحل مصر، فأرسلا ركبدار لاجين إلى مصر، فخلع ثيابه وسابح البحر إلى جانب مصر، وجاء إلى بعض المعادى، واجتمع بصاحب المعدية فوعده بألف دينار، فخاطر صاحب المعدية بنفسه، وعدى بهما إلى بر مصر. وكان معهما بعض الفضة فأعطياه إياها، وأودعا عنده كلوتاة زركش وحياصة ذهب - وقالا له: خل هذه عندك رهنا إلى أن يحضر إليك هذا الغلام بالذهب فيأخذها. ولما استقرا في بر مصر تفرقا وأخذ كل منهما في جهة. وكان مع لاجين مملوك يسمى بهادر، ومع قراسنقر مملوك يسمى صمغار - وهو الحاكي لهذا التاريخ. ولما تفرقا دخل قراسنقر المدينة، وراح لاجين إلى جامع ابن طولون، فاختفى في بعض زواياه الخراب، وأقام ينتقل من مكان إلى مكان في الجامع، وقد نذر في ذلك الوقت على نفسه إن ستره الله تعالى، وسلمت نفسه عمر الجامع وجدده، ورتب له أوقافا تقوم بوظائفه. ثم خرج منه إلى القرافة الكبيرة، وكان يأوى في بعض الترب المهجورة ويبيت فيها، ثم أتى إلى زاوية ابن عبود واختفى فيها. وأما قراسنقر فإنه لما فارق لاجين دخل المدينة، فكان ينتقل من بيت إلى بيت إلى أن سكنت الفتنة. وعلم كل منهما موضع صاحبه، فتراسلا على الاجتماع، وحمل لاجين في داخل صندوق على رأس حمال إلى حارة بهاء الدين، واجتمع هو وقراسنقر، واتفق رأيهما أن يبعثا مالا لبتخاص والأزرق مملوكي كتبغا ليتوسطا عند أستاذهما في أمرهما، ويصلحا مضيهما. وكان كتبغا يعز لاجين وقراسنقر، ولم يمعن في طلبهما، وكلما كان الشجاعي يتحدث في أمرهما كان كتبغا يسكته، فلما عرف المملوكين أمرهما لكتبغا، قال لهما: قولا لهما فليصبرا، ولا يكون إلا خيرا، فبقيا على هذه الكلمة إلى شهر رمضان، وفي العشر الأخير منه أرسل كتبغا يعرفهما بأن يدخلا على الأمير بدر الدين أمير سلاح فدخلا عليه بليل، وبكيا بين يديه، وسألاه أن يشفع عند السلطان في أمرهما، وأنهما ما لهما يد في جميع الذي وقع لأنه من رأى بيدرا، فلما سمع أمير سلاح حديثهما، وعدهما بخير. ثم إنه لما طلع إلى القلعة اجتمع كتبغا والبيسرى وبكتمر السلحدار وحسام الدين الأستاذدار وتحدثوا في أمرهما، وطلبوا أمير سلاح، وسألوه أن يوافقهم على ذلك. فدخلوا على السلطان، وتقدم كتبغا وعرف السلطان أن الأمراء يشفعون في الأميرين لاجين وسنقر، وأنهما من أكابر مماليك الملك الشهيد والد مولانا السلطان، أحدهما كان نائب الشام، والآخر كان نائب حلب، وأخذ أمير سلاح يعظم أمرهما، فقال السلطان: يا أمير هؤلاء هم الذين قتلوا أخي، فقال كتبغا: يا خوند، كذب أعداؤهما عليهما، والذي تحققنا منه يبرئهم، وأشهد لهم، وفي بقاء هذين الأميرين نفع عظيم للمسلمين فلهما اسم كبير في بلاد العدو، ونهض الأمراء فنهضوا كلهم، وقبلوا الأرض بين يديه، فأجابهم. وفي اليوم الثاني، وهو يوم الموكب، طلع الأمير بدر الدين أمير سلاح ولاجين في جانب وقراسنقر في جانب. ثم أمر السلطان بأن يخلع عليهما، فخلع عليهما ونزلا صحبة أمير سلاح، وحصل في نفوس المماليك من ذلك شيء عظيم، ... ... ... حتى أنهم قرروا أن يهجموا على كتبغا في الموكب، ويقتلوه فعلم بالخير، وبطل الركوب، وجمع الأمراء وأخبرهم بذلك، ثم اتفق رأيهم على أن يعرضوا المماليك وينزلوا منهم إلى المدينة من كان متصديا لإقامة الفتنة، فطلبوا الشجاعي ومقدم المماليك، و ... ... ... المقدم المماليك، وكان للأمراء ونائب السلطان قد طلبوهم، فلما جاء ثلاثتهم، وعرفهم بذلك.

ذكر الإفراج عن الأمير عز الدين الأفرم

وحلف لهم أنهم ما طلبوكم إلا في ذلك، وما عليكم تشويش، وعند ذلك نزلوا أولا فأولا، وعرضوا مقام النائب والأمراء، وهم ينزلون طائفة منهم ... ... ... إلى أن صاروا نحو سبعمائة مملوك من الذين يخشى عاقبتهم، فأنزلوهم إلى المدينة، وأسكنوا نصفهم في المناظر المطلة على بركة الفيل، وهي التي كانت منزل صاحب حماة إذا حضر إلى مصر؛ والنصف الآخر أنزلوهم في دار الوزارة الأيوبية، مقابل سعيد السعداء والتي سكنها الملوك من بني أيوب، وكانوا إذا سلطنوا سلطانا، أو وزروا وزيرا، أو أمروا أميرا يكون من ذلك المكان، ثم رتبوا لهم رواتب وسائر ما يحتاجون إليه، ثم رسموا لأمير آخور و ... ... مقدم الجوق ورسموا لهم أن لا يشدوا لأحد منهم فرسا إلا بعد المشاورة لنائب السلطان، فمن خالف ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ذكر الإفراج عن الأمير عز الدين الأفرم ومن معه من الأمراء المحبوسين، وهم: الأمير سيف الدين قفجاق المنصوري، والأمير بدر الدين عبد الله السلحدار، والأمير سيف الدين بيليه، وركن الدين عمر أخ الأمير تمر، والأمير سيف الدين كرجى، والأمير سيف الدين طرقجى، وكانوا كلهم جنسا واحدا من جنس كتبغا وهو جنس المغول، وكان الشجاعي هو السبب في مسكهم لأنه كان يبغض كتبغا، وكان هؤلاء يميلون إلى كتبغا لأن الجنسية علة الضم، وكان الشجاعي متفقا مع المماليك الأشرفية على أن يقبضوا على كتبغا ومماليكه، وعلى لاجين وقراسنقر، ولم يتفق لهم ذلك. ولما نزل كتبغا على الموكب عقيب اتفاقهم دخل الشجاعي إلى السلطان وصحبته البرجية وقبض على الأمراء المذكورين، ثم لما جرى مما ذكرنا على الشجاعي دخل كتبغا والأمراء على السلطان على أن يفرج عن هؤلاء، وقدم يذكر الأفرم، وقال يا خوند: هذا الرجل من أكابر الأمراء الصالحية، وهو خشداش الشهيد الملك المنصور والد مولانا السلطان، وله شهرة بالشجاعة والرأي والتدبير، فعند ذلك أمر بإخراجه، فتبادرت الأمراء إلى السجن، فأخرجوه ومشوا في خدمته إلى أن خلع عليه السلطان وأكرمه إكراما عظيما، ثم أخرج بقية الأمراء. ثم أن كتبغا لما عاد إلى مجلس النيابة قبض على الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغى الأشرفي، والأمير بورى السلحدار، واللقماني، والأمير مغلطاى المنصوري، والأمير قرمحى، وجماعة آخرين ممن كانوا يعلمون أنهم من البرجية والأشرفية، فقيدوهم وسفروهم إلى إسكندرية، وكان ذلك في العشر الأخير من صفر من هذه السنة. ذكر عود القاضي تقي الدين بن بنت الأعز إلى القضاء وقد تقدم ذكر عزله، وما اتفق له بعد ذلك مع الوزير ابن سلعوس، وكان قد تولى عوضه بدر الدين بن جماعة، وبقى تقي الدين بطالا، ولما قرب أوان الحج قصد الحجاز وقضى أمره إلى أن أتى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد سبق من مكة بأيام، وأقام في الحجرة النبوية، وقد صنف قصيدة مدح فيها النبي عليه السلام والتزم أن لا ينشدها إلا وهو واقف على باب الحجرة مكشوف الرأس، وكان ينشدها ويكثر الاستعانة على من ظلمه والتزم أن لا يرجع حتى يسمع بما يسره، ويعلم أن حاجته قد قضيت، وهي قصيدة طويلة منها قوله: يا أكرم الثقلين بل يا سيد الكونين ... دعوة موقن بك مهتدى إني بلغت القوم خير وسيلة ... يدنو بها منى مناى ومقصدي إذا جئت نحوك زائرا ومسلما ... ووقفت وقفة سائل مسترفد وهي نحو مائة بيت، ولم يزل ينشدها ويستغيث إلى أن رأى في نومه أن حاجته قضيت؛ فركب مع الركب، وعند وصوله العقبة حضر من عرفه بقتل السلطان الأشرف وابن سلعوس الوزير وتغيير الدولة وسلطنة الملك الناصر، فلما وصل إلى مصر تكلمت الأمراء مع السلطان في عوده إلى القضاء، فولاه ونقل بدر الدين بن جماعة إلى ولاية القضاء بدمشق. قال صاحب النزهة: أخبرني الشيخ فتح الدين بن سيد الناس أنه يوم تولى كان يوما مشهودا، وأنه دخل للسلام عليه فسمعه يتمثل بقول الشاعر: وكانت لنا جيرةٌ صالحون ... وجيران سوء فما خلدوا أديرت على الكل كأس المنون ... فمات الصديق ومات العدو ذكر تولية الوزير تاج الدين بن حنا

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفي صفر بعد موت الوزير ابن سلعوس اقتضى رأي الأمراء مع السلطان على وزير يدبر الدولة بعد الشجاعي، فاتفق رأيهم على الصاحب تاج الدين بن حنا، فطلب إلى مجلس السلطان وسألته الأمراء، فتمنع، فلم يقبلوا تمنعه، وخلع عليه وباشر الوزارة. وولى النظر فخر الدين بن الخليلي، وتاج الدين بن السنهوري. وعزل علم الدين الصوابي الجاشنكير من ولاية القاهرة، وتولاها الأمير شمس الدين ابن أمير جندار، وكان من بيت كبير من أكابر حلب، يعرف والده بأمير جندار الملك الناصر صاحب حلب، وحضر إلى مصر، وكان يلبس لبس الحلبيين الناصرية وعمامة مدورة من غير كلوتاه، ولغته لغة أهل البلاد، ولما تولى صار إذا أراد أن يضرب أحدا يقول: شلحوه عوض عن عروه، فشاع ذلك بين الناس، فلقبوه بشلحوه، وعظمت حرمته بالمدينة، وظهرت أمانته، فرسم له بولاية مصر أيضا مضافة لولاية القاهرة. وفيها: في أواخر رجب، حلف الأمراء للأمير كتبغا مع الملك الناصر محمد ابن قلاون، وسارت البيعة بذلك في بقية المدن والمعاقل. وفي شعبان: ركب الملك الناصر في أبهة الملك وشق القاهرة، وكان يوما مشهودا، وهذا كان أول ركوبه. وفي شعبان أيضا: اشتهر أن في الغيطة التي بحرين بدمشق تنينا عظيما ابتلع رأسا من المعز كبيرا صحيحا، كذا ذكره البرزالي. وفي شوال: اشتهر أن مهنى خرج عن طاعة الناصر وانحاز إلى التتار. وفيها: أوقع نوغيه بن ططر بن مغل بن دوشى خان بن جنكزخان الحاكم ببلاد الشمال على كثير من التتار، وقد ذكرنا تقدمه ونمكنه في تلك الأقطار بامرأة منكوتمر ملكتهم واسمها ججك خاتون، وكانت قد تحكمت في زمن زوجها وفي مملكة تدان منكو الجالس على الكرسي بعده، وثقلت وطأتها عليهم، فشكوها إلى نوغيه، فأمر بأن تخنق فخنقت، وقتل معهما أمير كان يلوذ بها وينفذ أوامرها اسمه بيطرا. وفيها: توقف النيل توقفا كثيرا، ثم انتهت زيادته إلى خمسة عشر ذراعا وثمان أصابع، فارتفعت بسبب ذلك الأسعار. وقال صاحب نزهة الناظر: ولم يتعد الأردب عن الأربعين درهما. وقال أيضا: وذكرت جماعة كثيرة أن النيل كسر من غير وفاء، ثم ذكر لي ابن أبي الرداد أنه بلغ الوفاء قبل كسره. وفيها: حج بالناس الأمير عز الدين أيبك الخزاندار، رحمه الله. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي، المعروف بابن الحيوان الشافعي. توفى فجأة يوم السبت، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد جاوز السبعين، درس بالإقبالية وغيرها، وكان من الفضلاء، له يد طولى في الفقه والأصول والنحو، وكان له فهم جيد قوي. قاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خليل بن سعادة بن جعد بن عيسى بن محمد الشافعي الحوى. أصلهم من خوى - بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وتشديد الياء آخر الحروف - وهي بلد كبير مشهور بأذربيجان، توفى يوم الخميس الخامس عشر من رمضان منها عن سبع وستين سنة، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون، ومولده في شوال سنة ست وعشرين وستمائة، اشتغل وحصل علوما كثيرة، وصنف كتبا جمة منها كتاب فيه عشرون فنا، وله نظم علوم الحديث، وكتاب التحفظ وغير ذلك، سمع الحديث الكثير، وكان محبا له ولأهله، وقد درس وهو صغير، ثم ولى قضاء القدس، ثم ولى قضاء حلب، ثم ولى قضاء القاهرة، ثم قدم على قضاء الشام مع تدريس العادلية والغزالية وغيرهما، وقد خرج له الحافظ المزى أربعين حديثا مثبتا فيه الإسناد، وخرج له تقي الدين عبد الله الأسعردى مشيخة على حروف المعجم اشتملت على مائتين وستة وثلاثين شيخا. قال البرزالي: وله نحو ثلاثمائة شيخ لم يذكروا في هذا المعجم. وله نظم حسن، فمنه قوله: بلطفك مما خفته اليوم أستكفى ... فلا تقطع الألطاف يا دائم اللطف وحط بي من كل الجهات بعصمةٍ ... لما حل من داء المخافة بي يشفي يميني ومن فوقي وتحتي ويسرتي ... ولا تخلني منها أمامي ولا خلفي أريد أمد الكف للخير سائلا ... فتأبى ذنوبي أن أمد له كفي وكيف يناجي العبد سيده وقد ... تظاهر بالعصيان دهرا وبالخلف مضى ما مضى والآن مالى حيلة ... سوى قصده والدمع مسترسل الوكف

أدق عليك الباب في الليل واثقا ... بأن العظيم الحليم يسمح بالعطف سألت وظني فيك أن لا تردني ... وإحسان طني فيك لي شافع يكفى بوصفك عاملني فإنك محسن ... كريمٌ ولا تجعل جزائي على وصفي الشيخ الأصيل الكاتب فخر الدين محمد بن بهاء الدين محمد المعروف بابن التيتي. مات بالمدرسة الجاروخية ودفن بمقابر الصوفية وكان يكتب على طريقة ابن البواب. الشيخ العارف محمد بن الشيخ الكبير عبد الله بن الشيخ القدوة غانم النابلسي. مات في هذه السنة، وكان صالحا متورعا، كثير التلاوة، وزاويته مأوى لكل من تقدم إلى نابلس، وكان الوارد عليه كثيرا، وأهل تلك البلاد كانوا يعتقدون فيه، ومجمعين على صلاحه. الشيخ الإمام ركن الدين يونس بن علي بن مرتفع بن أفتكين المصري، ثم الدمشقي الصالحي. مات في هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وكان مدرس المسرورية وناظرها، وكان كثير المداخلة لأرباب الدولة، ويسعى في قضاء حوائج الناس، وكان حسن الملتقى، كثير التواضع. الشيخ الإمام الفاضل الأديب شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن الساكن الطوسي الشافعي. مات في هذه السنة بالقاهرة في المارستان المنصوري، وكان قدم دمشق وأقام بها مدة، ثم سافر إلى الديار المصرية ومات بها، وكان قد نسخ بخطه كتبا كثيرة فأبيعت، وكان من الأدباء الفضلاء، فمن شعره قوله: يا ليلة الوصل بالأحباب لي عودي ... فالهجر أحرقني كالنار في العود وقد بقيت نحيف الجسم كالعود ... أحن شوقا أليهم حنة العود وقال: إلهي تب علي وغط عيبي ... فقد أوبقت نفسي بالمعاصي وخلصني من الآثام واغفر ... ذنوبي يوم يؤخذ بالنواصي الشيخ الفاضل تقي الدين عبد الله بن علي بن منجد بن ماجد السروجي. مات في هذه السنة بالقاهرة، ودفن بمقبرة الفخري ظاهر الحسينية جوار من كان يهواه. وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان: كان رجلا خيرا، تاليا للقرآن، وعنده حظ جيد من النحو واللغة والأدب، متقللا من الدنيا، غلب عليه حب الجمال مع العفة التامة والصيانة، نظم كثيرا، وغنى المغنون بشعره، وكان مأمون الصحبة، طاهر اللسان لا يكاد يظهر إلا يوم الجمعة، يصلي بالجامع الأزهر مع أصحابه وينادمهم بعد الصلاة وينشدهم شعره. ومن أشعاره قوله: دنيا المحب ودينه أحبابه ... فإذا جفوه تقطعت أسبابه وإذا أتاهم في المحبة صادقا ... كشف الحجاب له وعز جنابه ومتى سقوه شراب أنسٍ منهم ... رقت معانيه وراق شرابه وإذا تهتك ما يلام لأنه ... سكران عشقٍ لا يفيد عتابه بعث السلام مع النسيم رسالةً ... فأتاه في طي النسيم جوابه قصد الحمى وأتاه جهد في السرى ... حتى بدت أعلامه وقبابه ورأى لليلى العامرية منزلا ... بالجود يعرف والندى أصحابه فيه الأمان لمن يخاف من الردى ... والخير قد ظفرت به طلابه قد أشرعت بيض الصوارم والقنا ... من حوله فهو المنيع جنابه وعلى حماه حلالةٌ من أهله ... فلذلك طارقة العيون تهابه قد أخصبت منه الأباطح والربا ... للزائرين وفتحت أبوابه وقال: سألتك وقفةً قد التشاكي ... أبث إليك ما بي من هواك ونظرة مشفقٍ في حال صبٍّ ... لرحمة حاله تبكي البواكي فتاة الحي كيف أبحت قتلي ... وقد أصبحت ضيفاً في حماك وقومك سادةٌ عربٌ كرامٌ ... حكى الإحسان عنهم كل حاكي على وادي الأراك لهم خيام ... أنار بحسنها وادي الأراك أطوف بها لعل القلب يهدأ ... من الأشواق أو عيني تراك وأسأل من أبى الأعراب جمعا ... ليذكر أي محدثها أباك أيا داراً حوت من أهل نجدٍ ... غراراً ليس تقنصه شباكي سقاك الغيث من دارٍ وحيى ... فكم صبٍّ بأدمته سقاك إذا رمدت عيونٌ من بكاها ... فشافي كحلها شافي ثراك

الصدر الرئيس جمال الدين إبراهيم بن الصدر الرئيس شرف الدين عبد الرحمن ابن الحافظ العدل أمين الدين سالم بن الحسن بن هبة الله بن صصرى التغلبي، ناظر دمشق. مات في هذه السنة، ودفن بتربتهم بقاسيون، رحمه الله. الأمير علاء الدين طيبرس الركني الضرير، الناظر في أوقاف حرم القدس الشريف ومنشئ العمارات والربط به وبالجليل عليه السلام. مات في هذه السنة بالقدس الشريف، كأن من أحسن الناس سيرة وأجودهم طريقة، حسن التصرف، كان الله نور قلبه بالإيمان وإن كان أذهب بصره، رحمه الله. الأمير علاء الدين أيدغدى بن عبد الله الصالحي النجمي. توفى في شوال منها، كان من أكابر الأمراء، فلما أضر أقام بالقدس الشريف وولى نظره، فعمره وثمره، وكان مهيبا لا يخالف مراسيمه، وهو الذي بنى المطهرة قريبا من المسجد النبوي فانتفع الناس بها في الوضوء، وأنشأ بالقدس ربطا كثيرة وآثارا حسنة، وكان يباشر الأمور بنفسه، وله حرمة وافرة. الأمير بدر الدين بكتوت العلائي من أكابر أمراء الدولة المنصورية. وعظم أمره في أول الدولة الناصرية محمد بن قلاون، وكان ينتمي إلى السلطان الأشرف في أيام الملك المنصور ويخدم الأشرف دون أخيه الملك الصالح، وكبره الأشرف عند سلطنته، وكان يجلس فوق أكابر الأمراء مع كتبغا، والتفت عليه جماعة من المماليك الأشرفية، وكان قد أصابه مرض في رجله، وكان إذا طلع القلعة يدخل من باب القلعة راكبا إلى دار النيابة، وذكر أن كتبغا خشى عاقبة أمره من قرب الأشرفية إليه، وأنه اتفق مع حمدان بن صلغيه، فصنع طعاما وأحضر العلائي وقعد حمدان يقطع به اللحم بسيخ مسموم فأطعمه، وقيل: بل سقاه في مشروب فأقام بعد ذلك أربعة أيام ومات. السلطان الملك المظفر قرا أرسلان بن الملك السعيد إبلغازى بن البى بن تمرتاش ابن إيل غازي بن أرتق، صاحب ماردين. مات في هذه السنة، وتولى بعده ولده الملك السعيد إبل غازي، وكان قرا أرسلان جوادا، سمحا، عادلا، دينا، سيرته جميلة، وأفعاله حميدة، قليل الظلم، كثير الإحسان. الملك الحافظ غياث الدين محمد بن الملك السعيد معين الدين شاهنشاه بن الملك الأمجد بهرام شاه بن المعز عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب. مات فيها، ودفن يوم الجمعة السادس من شعبان عند جده لأمه ابن المقدم ظاهر باب الفراديس، وكان فاضلا بارعا، سمع الحديث، وروى البخاري، ويحب العلماء والفقراء. الصاحب فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشيباني الأسعردى، رئيس الموقعين بالديار المصرية. توفى في جمادى الأولى منها ودفن بالقرافة، وكان مولده سنة اثنتى عشرة وستمائة، ولى الوزارة مرتين للملك المنصور قلاون، وتولى وزارة الصحبة للملك السعيد، وكان في جمع ولاياته: حسن السيرة. محمود الطريقة، قليل الظلم، كثير الإحسان إلى الناس، وكان يتولى الوزارة بجامكية الإنشاء، كأنه ما جرى عليه شيء. وكان أصله من بلاد إسعرد من العدن، ولما فتح الكامل بن العادل آمد كان ابن لقمان بها يكتب على عرصة القمح، وكان البهاء زهير يرأس الموقعين ووزير الصحبة للكامل، وكانوا يستدعون من إسعرد حوائج، فتحضر الرسالة بخط ابن لقمان فيعرضونها على بهاء الدين زهير فيعجبه خطه، فطلبه إليه، ولما حضر بين يديه سأله عن حاله وعن جامكيته فقال: دون الدينارين. فقال له: تسافر معي حتى أستنيبك، فقال: ومن لي بهذا الحال، فاستصحبه معه وناب عنه في ديوان المكاتبات إلى دولة الملك الصالح، ثم استقل بمفرده. وله ترسل كثير من إنشائه ونظم ورواية. ومن شعره في غلام له، وكان يحبه ويتغالى فيه: لو وشى فيه من وشى ... ما تسليت غلمشا أنا قد بحت باسمه ... يفعل الله ما يشا وله فيه أشعار كثيرة، وله أيضا: كن كيف شئت فإنني بك مغرم ... راضٍ بما فعل الهوى المتحكم ولئن كتمت عن الوشاة صبابتي ... بك بالجوانح فالهوى يتكلم أشتاق من أهوى وأعجب أنني ... أشتاق من هو في الفؤاد مخيم يا من يصد عن المحب تدللا ... وإذا بكى وجدا غدا يتبسم أسكنتك القلب الذي أحرقته ... فحذار من نار به تتضرم

السنة الرابعة والتسعين بعد الستمائة

الخاتون الكبيرة المعمرة مؤنسة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن أيوب. توفيت بالقاهرة ودفنت بالقرافة الصغرى، وكانت تعرف بالدار القطبية وبدار إقبال، وهي أخت الأمير قطب الدين وهي التي أطلق عليها اسم دار القطبية، وكانت دارها المارستان المنصوري، اشتروها منها على كره وأخربوها، وعمروها، وتركوا القاعة بحالها، واتفق لها مع السلطان الملك المنصور، لما سير الشجاعي إليها ليشتري الدار المذكورة، لأجل عمل المارستان والتربة، ونزل الشجاعي فلم تلتفت إلى نزوله وردته ردا جميلا، ثم سير السلطان الطواشى حسام الدين وعرفها أن السلطان يقصد أن يعمر هذه الدار مارستانا ويقف عليه أوقافا، فقالت: شيء يكون لنا فيه أجر ففيه السمع والطاعة، وأما لأجل السكن فنحن أحق بالسكنى من غيرنا. وكانت ذات عقل وأدب وفطنة، وروت بالإجازة عن عفيفة الفارقانية، وعين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج، وأوقفت قبل وفاتها أوقافا كثيرة على أهلها وقرابتها، وعلى الفقراء والمساكين، وخلفت بالقصر آثارا حسنة من الزجاج وغيرها مما فيه نفع بنقوش وطلسمات وآيات من الكتاب العزيز، من الأشياء النافعة للدغ الحية والعقرب وعض الكلب الكلب والقولنج ومغل الخيل، وكتب لها إجازة بحديث النبي عليه السلام، وخلفت مالا جزيلا، وأوصت أن يعمل لها مدرسة بجميع ما تحتاج إليه من الفقهاء والقراء، وهي إلى الآن باقية تعرف بالمدرسة القطبية، ولدت سنة ثلاث وستمائة. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة والتسعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة، والخليفة: الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي. وسلطان البلاد: الملك الناصر محمد بن قلاون، وهو ابن اثنتى عشرة سنة وشهور. ومدبر المماليك وأتابك العساكر: زين الدين كتبغا. ونائب الشام: الأمير عز الدين أيبك الحموي. ونائب حلب. وصاحب حماة: الملك المظفر تقي الدين. وصاحب ماردين: الملك السعيد. وصاحب مكة: نجم الدين أبو نمى الحسني. وصاحب المدينة: عز الدين بن شيحة، وكان بينه وبين أبي نمى معاندة، واتفقت لهم وقائع كثيرة، وقتل من بني حسن ومن بني حسين جماعة كثيرة. وصاحب المغول: بيدو بن هلاون. ذكر ركوب المماليك من دار الوزارة وخروجهم على كتبغا وكان السبب لذلك ما ذكرنا من اتفاق الأمراء مع كتبغا على إنزالهم إلى دار الوزارة ومناظر الكبش، ومنعهم إياهم من الركوب، وكانوا حملوا من ذلك حقدا كبيرا، وصاروا لا يهنأ لهم عيش، وخصوصا كان الخدام الذين يحكمون عليهم يمنعونهم عن الخروج والاجتماع بالناس، ورأوا أنفسهم في ذلة ومسكنة، فصار منهم من يسرق نفسه ويأتي من دار الوزارة في الليل إلى ناحية الكبش، ومنهم من يأتي من الكبش إلى دار الوزارة، وما زالوا على ذلك حتى قويت نفوسهم، وأرادوا ركوب الخيل لأجل الحركة، فعزموا على ذلك، على أنهم إما أن يظهروا ويظفروا ببلوغ المنى، وإما أن يموتوا على خيولهم. ولكن ليس عندهم خيل ولا سلاح، ثم تراسلوا واتفقوا على أن يخرجوا على ميعاد واحد ويهجموا على الإصطبلات التي بالمدينة وعلى سوق السلاح، ومهما قدروا على ذلك يأخذونه وينهبونه، ثم يكون اجتماعهم في سوق الخيل، ويعينهم على ذلك خشداشيتهم الذين بالقلعة، ولما وقع اتفاقهم على ذلك خرجوا في الثلث الأول من الليلة الثالثة عشر من محرم هذه السنة على حمية من دار الوزارة، وكبسوا كل إصطبل وجدوه قريبا منهم، سواء كانت لجندي أو مقدم أو أمير أو قاض أو عامي، فما مضى ساعة من الليل حتى ركب أكثرهم وبعضهم مشاة، فجاءوا إلى سوق السلاح وكسروا أبواب الدكاكين وأخذوا منها سلاحا وعددا على قدر كفايتهم، ووقع الصياح في المدينة ورأت الناس منهم ما أعجزهم، فبلغ الخبر إلى الوالي والحاجب وأصحاب الحرس، فأخذوا في الاحتراز منهم، ثم أنهم توجهوا إلى باب السعادة فأحرقوا أقفالها وكسروها، وخرجوا وذهبوا إلى سوق الخيل، وكان جميعهم على ميعاد واحد في الركوب والاجتماع في سوق الخيل، وكبسوا أيضا على إصطبل الجوق وركبوا كل خيل فيها، ثم اجتمعوا ووقفوا عند الإصطبل.

ذكر ركوب الأمراء والحاجب والوالي

وفي تاريخ ابن كثير وغيره: لما كان يوم عاشوراء نهض جماعة من مماليك الأشرف، وكبيرهم اثنان كتبغا وساطلمش، وخرقوا حرمة السلطان وأرادوا الخروج عليه، وجاءوا إلى سوق السلاح، فأخذوا ما فيه، واحتاطوا على ما في الإصطبلات من الخيل، وهجموا خزانة البنود، وأخرجوا من كان مسجونا بها من خشداشيتهم، واجتمعوا وذهبوا إلى سوق الخيل. وقال بيبرس في تاريخه: لما كان ذات ليلة من الليالي، نهض الذين في الكبش والميدان وركبوا ودخلوا إلى المدينة، واستدعوا من كان في دار الوزارة فلم يجيبوهم إلى ما قصدوا ولا وافقوهم فيما اعتمدوا، وهم سيف الدين يرلطاى وخوشداشيته، وهجموا خزانة البنود وأخرجوا من كان مسجونا بها من خواشداشيتهم، ونهبوا من الإصطبلات ما أمكنهم، وبينما هم على ذلك إذ تبلج الصباح وبدا الضوء ولاح، فركب الأمراء الذين في القلعة ومن عندهم من المماليك وقصدوهم فتصافوا تحت القلعة. ذكر ركوب الأمراء والحاجب والوالي قال صاحب النزهة: لما وقع الصوت في المدينة خرجت أصحاب الدكاكين وركب الوالي وأتى إلى باب الحاجب فأيقظه، فقام وركب، وبلغ الخبر إلى كتبغا، فجلس في الشباك، وطلب قراسنقر ولاجين وبقية الأمراء، وقصد النزول إليهم فمنعوه، واتفق رأيهم على أن يعرفوا أصحاب النوبة الذين خارج باب القلعة فيروحون ويركبون الحاج بهادر والحاجب ومن من الأمراء ويأتى بهم إليهم، فإذا رأوه قد وصل بهم إليهم فتحوا باب القلعة ونزلوا هم أيضا، فوصل إلى الحاج بهادر من يعرفه الخبر، فساق من باب زويلة إلى أن وصل إلى سوق الخيل وضربت طبلخانات الأمراء وفتحوا باب القلعة ونزلت الأمراء الذين هناك مع المماليك السلطانية، فحملوا عليهم وهم في سوق الخيل حملة صادقة، ولما رأى هؤلاء تلك الحملة مع كثرة الجموع خافوا ولم يثبتوا، بل انهزموا هزيمة فاضحة، ولم يلتفت منهم أحد، وتفرقوا في سائر الطرقات فرقة فرقة، فمنهم من طلب نحو بركة الحبش، ومنهم من طلب الترب، ومنهم من طلب نحو باب النصر والحسينية، ومنهم من طلب نحو الصليبة وجامع ابن طولون وغيرها، وراحت الأمراء والأجناد خلفهم، ثم عادت الأمراء وطلعوا القلعة، وجلس الأمير سلاح والبيسرى وأكابر الأمراء مع كتبغا، وكتبغا من حنقه وغيظه لا يدري ما يقول. ووقع الصوت في القلعة من الحرافيش، فحضروا ومعهم مملوكان أو ثلاثة وقد عروهم وأتوا بهم إلى الشباك، ومماليك كتبغا ملبسون واقفون، وما يقع نظر واحد منهم على مملوك يحضره الجند أو العوام إلا وقد هبروه بالسيوف قطعا قطعا ومنهم من بيده دبوس يضرب الرجل منهم على رأسه فيقع ميتا لوقته. فلما رأى الأمراء ذلك أنكروه، وصاح أمير سلاح والبيسرى وطرطش على مماليك كتبغا صياحا منكرا، وقالوا لكتبغا: ما هذا العمل؟ أنت تعمل هذا ونحن قعود، فرأى كتبغا منهم الخنق، فقال يا أمراء: أنا أي شيء عملت حتى يفعلوا في حقي هذا الفعال. فقال له طرطش: يا أمير إن السلطان الملك المنصور اشتراك واشتراهم لينفعوا الإسلام والمسلمين، وتردوا العدو، وتجاهدوا في سبيل الله، وتذبوا عن المسلمين، وأنت ما تفكر إلا في مصلحة نفسك، فإذا حضر عدو من أعداء المسلمين أنت تلقاهم وحدك. فلما رأى كتبغا قيام الأمراء عليه منع مماليكه، واتفق الحال على أن هؤلاء يحبسون، ويؤدبون بالقيد والحبس، ويفرقون في الحبوس، فبقوا نحو خمسة أيام والناس تحضرون منهم طائفة بعد طائفة من سائر الأماكن، وكل من يحضر يقيد إلى أن يحصل منهم نحو أربعمائة مملوك. واستقر الحال على أن يسجنوا بعد ذلك في سجن إسكندرية وبرج دمياط.

سلطنة زين الدين كتبغا المنصوري

وكانوا قد أخرجوا منهم جماعة من سجن القلعة وهم الأشرار الذين أقاموا هذه الفتنة، وقصدوا قطع أيدي بعضهم وتوسيط بعضهم، فشرعوا في ذلك فما لحقوا أن يفعلوا ذلك بنفرين أو ثلاثة حتى انقلبت الأبراج التي في القلعة بالصياح والرهج والعويل، وخرجت جماعة من المماليك من الأبراج مستصرخة بالسلطان والأمراء، فسمع بذلك كتبغا فلبس في الحال، ولبس مماليكه ... ... الطواشى المقدم وحسام الدين الأستاذ دار، والتقوهم بالصدود ومنعوهم من ذلك فلم يرجعوا، ثم إنهم دخلوا إلى السلطان، وبكوا، وقالوا: أنت تكون أستاذنا وتعيش، ونحن نقتل فداك، ثم قالوا؟ إعطنا دستورا حتى نموت بسيوفنا، ولا نقتل بسيوف غيرنا، فبكى السلطان وتوجع، فاجتمعت الخاصكية ورؤوس الأطباق ... ... ... فبلغ ذلك كتبغا، فطلب الحاج بهادر والحسام الأستاذ دار وحسام الدين ... ... ... وشرع يتلافى الأمر خشية الفتنة وسألهم أن يدخلوا إلى السلطان ويعرفوه أنهم ما ركبوا عليه إلا وقد قصدوا قتله والفتنة بين المسلمين، فدخلوا على السلطان وعرفوه بذلك، وأن الحال قد سكنت فما بقى أحد يوصل إليهم أذى، وضمنوا ذلك إلى أن أخمدوا هذه الفتنة، وبلغ كل واحد من مماليك السلطان إلى مكانه، ثم أنكرت الأمراء على المقدمين أن وافقوا هؤلاء حتى نزلوا من الأبراج، وكانوا قد عزلوا من المماليك الراكبين ستين مملوكا من أشرارهم على أن يتلفوهم، فجرى أمر الله تعالى على ست نفر منهم ... ...، والباقي سجنوا بخزانة البنود مقيدين، وانفصل الأمر على هذا. ودخل كتبغا إلى خدمة السلطان، وأرسلت إليه والدة السلطان تقول له أن يعفو عن مماليك السلطان وأنهم خشداشية متى فعلت بهم هذا الأمر يكون كل يومين وثلاثة فتنة وفساد حال وإتلاف أنفس، فأشتهي أن تتركونى أنا وولدي نروح إلى الكرك فنقعد هناك، فأربي ولدي إلى أن أموت أنا، أو يموت هو، ونستريح من هذه الفتن التي تحدث كل ساعة. فلما بلغ الطواشى هذا الكلام لكتبغا بكى وشكا مما يجده من الضرر منهم، ومن الركوب عليه كل وقت، وأما السلطان فإنه أستاذي وابن أستاذي، وما عندي أعز منه أحد، إنما أشتهي أن يخرجني من مصر فإن هؤلاء يعملون على قتلي، وشكا من هذا الباب شكاية كثيرة، ثم إن الحال سكنت على السكوت وإخماد الفتن. وبقى كتبغا يدخل إلى الخدمة، ولكنه محترس على نفسه، وكذلك مماليكه. وفي تاريخ ابن كثير: لما ركب المماليك الذين في القلعة، تصافوا تحت القلعة، ثم أدركهم سيف الدين بهادر الحاج السلحدار، وهو يومئذ أمير حاجب وركب معه جماعة بالعدد والسلاح، فأدركوهم واحتاطوا عليهم، فمنهم من صلب، ومنهم من شنق، وقطع أيدي آخرين منهم، وألسنتهم، وكانوا قريبا من ثلاثمائة أو يزيدون، وكان هذا سببا لحركة زين الدين كتبغا، وركوبه إلى السلطنة التي لم يتم له أمرها. سلطنة زين الدين كتبغا المنصوري قال بيبرس في تاريخه: حسن الشيطان بآراء من حول المشار إليه من المماليك والصبيان أن يستبد بالسلطنة، ويستقل بالمملكة، فحملوه على ذلك، وألجأوه إلى أن وافقهم على رأيهم، وجلس في السلطنة وتسمى بالعادل. وفي نزهة الناظر: كان كتبغا يدخل إلى الخدمة وهو يحترس، وكذلك لاجين وقراسنقر، فاتفق في بعض الأيام أن دخل كتبغا ولاجين قدامه وقراسنقر معه، وكتبغا قد كلم لاجين بكلام فضحك منه وبعض المماليك، فنظره مع جماعة من طاق مطلة على الدهليز الذي منه دخلوا ... ... ... ...: أي والله يا أشقر يحق لك أن تضحك، قتلت أستاذنا بسيفك، ثم تضحك ... ... ... فسمعه لاجين وكتبغا ومن كان قريبا منهما. فنظر كتبغا إلى لاجين وقراسنقر، وكتموا ما سمعوا منه، وبقى في نفوسهم إلى أن خرجوا من القلعة. ولما ... ... ... قراسنقر ولاجين عند كتبغا، وقالوا: يا أمير تحقق أننا وأنت مقتولون مع هؤلاء المماليك لا محالة، وخصوصا قد أركن إليهم السلطان، والخاصكية، وما هم عسى يعملون، وقد فعلنا مع خشداشيتهم كل سوء، وأنت قتلت كبيرهم، وحبست أمراءهم، وعملت معهم كل قبيح حتى سمعت اليوم ما قالوه لنا، ويكفي ... ... ... هذا القول أن يتبعه فعل في حقنا، خصوصا بعد دخولنا الخدمة أو خروجنا، وهذا أمر يطول شرحه، أما آن نقوم لبيعتك وتنصب في الملك وتؤمر جماعة من مماليكك وحاشيتك.

فطلبوا الأزرق وبتخاص وتكلموا في ذلك، فما منهم إلا وقد حسن له هذا ووافقهم عليه. وانفصل مجلسهم على أن يبذل الذهب والفضة للأمراء والأكابر، ويستميلهم إليه، فشرع في ذلك، وأرسل لكل مقدم ألف دينار، ولبعضهم ألفى دينار، ولما أرسل إلى ... .... ... وهي ألفى دينار، قال لمملوكه هذه من أجل إيش، فقال: يا خوند هدية من مملوكك وولدك فتمتم وقال: لا يكون يريد السلطنة، قال له: يا خوند نعوذ بالله. فأقام أياما وهو يستجلب خواطر الأمراء الأكابر، ثم الأمراء الخاصكية والأمراء الجوانية، وهو مع ذلك وحاشيته يحترسون على نفوسهم. ثم اجتمع بأكابر الأمراء وشرع معهم في ... ... بأمر المماليك، وما سمعه منهم وما يبلغه عنهم، وشكا شكايات كثيرة، ووقع الاتفاق بينهم على أن هؤلاء جماعة كثيرة فلا يمكن إخراجهم من مصر إلى غيرها، ولكن نفرقهم على الأمراء بمصر، كل واحد منهم، طائفة منهم، ثم اتفقوا على الاجتماع بالطواشى المقدم والحسام الأستاذدار، ويتفقون معهما على الدخول إلى السلطان، فدخلوا وشرعوا يعرفون السلطان أن هؤلاء يقصدون الفتنة بين المسلمين، وإراقة الدماء، فيسمع العدو بذلك فيطمع في الملك. فقال السلطان: مهما أشرتم به هو المصلحة فافعلوا ما تختارون. فخرجت الأمراء والخاصكية صحبة كتبغا، فجلسوا على باب القلعة، وطلبوا الطواشى المقدم، وصاروا يدعون طبقة بعد طبقة، فأي من حضر كتب اسمه واسم الأمير الذي يرسم له بهم، فيقوم كل واحد ويقبل الأرض ويأخذ ما يخصه منهم، وينزل وهم قدامه إلى منزله. وكتبوا باسم البيسرى مائة مملوك، وكذلك لكل أمير من الأمراء الكبار مائة مملوك، وسبعين مملوك وستين، وخمسين، ولكل أمير عشرة عشرة، وما دون ذلك، وبقيت منهم جماعة فأنزلوهم إلى المدينة، ثم سيروا منهم جماعة إلى قلعة الكرك، وأقاموا ثلاثة أيام يفعلون ذلك إلى أن استوفوا الكل، واطمأن قلب كتبغا والأمراء، وأمنوا من جهتهم. وبعد أيام حضر مملوك نائب حلب وصحبته بعض القصاد وأخبر أن السلطان بيدو - ملك المغول - لما قتل كيخاتو، ملك البلاد كلها، وأطمعته نفسه في الدخول بعساكره إلى الشام ليملكها، بسبب ما بلغه من أخبار مصر ومن اختلاف أمرائها وعساكرها، وأنه ليس فيهم كبير يرجع إليه، وأن سلطانهم صغير السن، وأنه قد سير وراء سائر أمراء المغول وجنده، وهو على تجهيز أمره للركوب. فكان هذا الأمر لكتبغا ولأصحابه أحب ما يكون، فطلبوا سائر الأمراء وجلس السلطان وأمراء المشورة وسمعوا ما قاله القصاد وكتاب نائب حلب. وبعد قيامهم أخذ كتبغا مع لاجين وقراسنقر في أمره، واتفقوا على أن يسعوا في أمر السلطنة لأجل صغر السلطان، وأن العدو ثقيل، والعسكر تحتاج إلى تدبير ونفقات، فصار لاجين وقراسنقر في هذا الكلام مع سائر الأمراء وأعيان العسكر وأرباب الدولة. قال صاحب النزهة: ذكر لي علاء الدين مغلطاى مملوك البيسرى أن أستاذه لما بلغ إليه هذا الأمر وسمعه من الأمراء، قال لي يا مغلطاى: عمل والله كتبغا على السلطنة ولعب بعقله لاجين وقراسنقر، قال: فقلت له يا خوند: أنتم توافقونه على ذلك. قال لي: نحتاج أن نوافقه لأن شوكته قويت، واستمال الحاج بهادر والأمراء، ولا بد له من هذا الأمر، وإلا فلا تسكن الفتن، على أنه ما يقيم في السلطنة إلا قليلا.

وما زال الأمر بينهم إلى أن وافقته سائر الأمراء، وكل ذلك بتعظيم كتبغا والأمراء الذين معه أمر العدو وحضوره، وأثبتوا ذلك أيضا في ذهن السلطان، وأجمع رأي الأمراء على أن يطلبوا زمام الآدر الشريفة ويعرفوه أنهم اختاروا أن يجتمعوا بأم السلطان ويعرفوها بالقضية، وكان هذا من رأي أمير سلاح حتى تعرف هي السبب الموجب لخلع ولدها من السلطنة تطييبا لقلبها؛ فطلبوا عند ذلك الزمام وعرفوه بان يعلم أم السلطان بالأمر الذي عقدوه، فدخل الزمام واستأذن أم السلطان، فأذنت لهم فحضروا إلى باب الستارة، وبعثوا السلام إليها، وعرفوها أن العدو قاصد بلاد الشام ومعه عسكر عظيم، وذلك لما سمع بوقوع الفتن في مصر من قتل السلطان والأمراء واختلافهم، وأن سلطانهم صغير، وقد أطمعه ذلك، وأن المسلمين في ألم عظيم بهذا السبب، وقد جفلت أهل البلاد، ونحن قد عزمنا على الخروج وإخراج العساكر والملتقى بهذا العدو، ونحن إذا خرجنا بالسلطان نخاف عليه من جهة السفر، وعند الملتقى أيضا، لأنه صغير السن، وأيضا ليس له حرمة في عين العدو، وهذا الأمر يحتاج إلى رجل كبير يدبر أمر المملكة، ويقيم ترتيب الملوك المتقدمة، ويكون له حرمة وسمعة في البلاد. وتكلموا من هذا القبيل كلاما كثيرا وهي تسمع جميع ما يقولون، فعلمت بمقاصدهم، ثم كان جوابها: إذا خلعتم ابني فمن تولوه؟ قالوا: نولي مملوكه الأمير زين كتبغا، هو مملوك السلطان، وهو أحق أن يحفظ ابن أستاذه وبيت أستاذه وهو نائب عنه إلى أن يلتقي هذا العدو، فإن فتح الله تعالى وكسر العدو وحضرنا إلى مصر رجع الملك إلى السلطان، ويكون هو على نيابته، وإن كان غير ذلك فالأمر لله تعالى، فوافقتهم على قصدهم، وقالت: هو ولدكم فالذي ترونه مصلحة لكم وللمسلمين افعلوه، وإن عملتم معنا خيرا خلوني وولدي نروح عنكم وانتصلوا أنتم ودبروا ملككم كيف ما أردتم، فأخذوا في تطييب خاطرها، وحسنوا القول معها. وخرجوا من عندها وشرعوا في تجهيز أمرهم، وأصبحوا نهار الأربعاء العاشر من محرم هذه السنة، فخلعوا السلطان الناصر محمد بن قلاون، وكانت مدة سلطنته في هذه المدة سنة إلا أياما قليلة. ثم عقدوا بالسلطنة للأمير زين الدين كتبغا في هذا اليوم، وركب من دار النيابة على فرس النوبة، ومشيت سائر الأمراء وأرباب الوظائف في خدمته إلى أن دخل باب القلعة وجلس على تخت الملك، ثم شاور الأمراء فيمن يكون نائب السلطنة فوقع الاتفاق على الأمير لاجين المنصوري، واستمر بالحاج بهادر أمير حاجب على عادته، والأمير عز الدين الأفرم أمير جندار. وفي يوم الخميس ثاني يوم السلطنة طلب سائر الأمراء وخلع عليهم. وفي يوم الجمعة خطب له على سائر المنابر، ولقب نفسه بالملك العادل، وكتب إلى سائر النواب بالاستمرار، وسفر سطلمش بن صلغاى إلى نائب الشام الأمير عز الدين الحموي؛ وسفر الأمير طقجى إلى حماة وحلب، وسفر أمير عمر إلى طرابلس وبها الأمير عز الدين أيبك المنصوري. وبعث إلى والدة السلطان بالشام فطيب خاطرها، وأهدى إليها شيئا كثيرا ورتب لها ولولدها جميع ما يحتاجون إليه من الكلف. ثم شرع فيما يصلح أمر دولته، ومسك جماعة من الأمراء، وأمر جماعة من مماليكه ... ... وممن يلوذ به، وعين طبلخاناه لسطلمش بن صلغاى، وكان هو ممن اعتنى بدولته، وأمر أيضا ناصر الدين بن طرنطاى، وابن الحاج طيبرس، وابن أمير سلاح، وابن كتبغا الذي يسمى أنص، وجماعة من مماليكه مثل بتخاص ورتبه أستاذ الدار، وبكتوت الأزرق، وغراو، وتكلان، وغيرهم نحو عشرين مملوكا، وأفرج عن الأمير قفجق، وعبد الله السلحدار، ونورى، وقبلاى، وأمير عمر، وجماعة من الذين كانوا قبضوا، وعزل الصاحب تاج الدين بن حنا عن الوزارة، وولى القاضي فخر الدين بن الخليلي، وعزل علم الدين الصوابي الجاشنكير من ولاية القاهرة، وولى عوضه شمس الدين الملقب بضلموه الحلبي، وكان واليا بمصر، وتولى مصر شمس الدين بن التكريتي. ثم رسم بتجريد الأمير شمس الدين سنقر البكتوتي، يعرف بالمساح، ومعه أربعة آلاف فارس، وصحبته الأمير حسام الدين الأستاذ دار، والأمير شمس الدين نوكيه، والأمير سيف الدين بلبان الحبشي إلى نحو سيس، ليكون سمعة للعدو خروج عسكر مصر.

وكتب إلى نائب الشام أن يبعث الأمير سيف الدين كرجى ليمسك الأمير عز الدين أيبك خزندار، نائب طرابلس، وذلك لتوقفه عن اليمين للسلطان كتبغا حين جاءه خبر عزل الناصر وتولية كتبغا ولم يوافق على ذلك حتى حكمت عليه الأمراء، وقالوا: إن كتبغا خشداشك وما هو غريب حتى وافقهم على ذلك الأمر حينئذ، وكان قد بلغ ذلك إلى كتبغا من المقلد له بالنيابة، فبقى في نفسه من ذلك ما حتى مسكه، فلما مسك قيد وحمل إلى مصر، وحبس بها، وتولى عوضه الأمير عز الدين الموصلي. وقال ابن كثير: وكان عمر العادل يوم توليته نحو خمسين سنة، فإنه من سبى وقعة حمص الأولى التي كانت في أيام الملك الظاهر بعد وقعة عين جالوت، وكان من الغويراتية، وهم طائفة من التتر. وفي يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول: ركب الملك العادل كتبغا في أبهة الملك، وشق القاهرة، ودعى له الناس. ومن غريب الاتفاق أن العادل كان قد قبض على عز الدين الموصلي واعتقله ببرج الساقية، وأقام ثلاثة وتسعين يوما وأخرجه إلى طرابلس، وقبض على عز الدين أيبك الخازندار من طرابلس واعتقله ببرج الساقية، فأقام ثلاثة وتسعين يوما نظير المدة التي كانت لأيبك الموصلي، وهذا أيبك وذاك أيبك والولاية واحدة ومدة السجن واحدة. وفيها: عزل العادل الحموي عن نيابة دمشق، واستناب مملوكه سيف الدين غرلو. وفيها: قصر النيل بالديار المصرية تقصيرا قلق له الناس، وحصل منه اليأس، فكان النوروز ولم يحصل وفاء ولا تغليق، فاقتضى الحال كسر الخليج بغير تخليق، وبدل العالم بالأتراح عوضا عن الأفراح والانزعاج بدلا من الابتهاج، فابتدأ الغلاء، في الغلال، والفناء في النساء والرجال، وأجدب الوجه الغربي من برقة وأعمالها وما يتاخمها فلم يصبها شيء من الوبل ولا من الطل، ولم يزرع بها ما جل ولا ما قل، فهلك أهلها جوعا وعدما وعطشا من ماء السماء، ثم أعقب حدوث الوباء عقبى السنة الشهباء فساقهم القحط والضر إلى انتجاع ديار مصر، فورد منهم إلى الإسكندرية والبحيرة أمم تتجاوز الإحصاء، وانبثوا في البلاد، وامتدوا في الربى والوهاد، وجلبوا الوخم إلى العباد ففشت الأمراض العامة، ومنى الخلق بالطامة، وبلغ سعر القمح بالقاهرة ومصر مائة وخمسين درهما نقرة الأردب، والشعير مائة درهم، والفول والحبوب نحو ذلك، واشتد الأمر، وأكل الناس الميتة جهارا، ولحوم الكلاب والقطط والحمير نهارا. وقيل: إن بعضهم أكل لحم بعض، وأن امرأة أكلت ولدها. وعم الفناء والموتان، وكثر بسائر البلدان حتى أن بعض البلاد التي كانت مشحنة بالرجال والنسوان خلت من ساكنيها، ولم يبق إلا النزر اليسير فيها. وأما القاهرة ومصر فإنه كان يموت فيهما كل يوم ألوف، ويبقى الميت مطروحا في الأزقة والشوارع ملقى على الممرات والقوارع اليوم واليومين لا يوجد من يدفنه، لاشتغال الأحياء بأمواتهم، والسقماء بأمراضهم، هذا وأكثر من يموت يلقون في حفائر الكيمان بغير غسل ولا أكفان، فتأكلهم الكلاب، ثم أكل الناس الكلاب، ففنيت، وفنى أكثر الدواب، ورسم السلطان بتوزيع الصعاليك والفقراء على الجند والأمراء، فوزعوا بالقاهرة ومصر ليقوموا بهم من أموالهم. هذا كله ذكره بيبرس في تاريخه فقال: وكنت إذ ذاك في الإسكندرية. والصعاليك الذين فيها والواردين إليها وزعوا على الأملياء، والفقراء على الأغنياء، وكنت متوليا أمر توزيعهم على التجار وأرباب المعايش والأيسار، ووظفت على نفسي منهم جماعة، وأجريت عليهم جاريا قام بأودهم إلى أن انقضت المجاعة، وتواصلت الغلال إلى الإسكندرية وتواترت من جزيرة صقلية والقسطنطينية وبلد الفرنجية، حتى أن الواصل إليها شف على ثلاثمائة ألف أردب قمحا، فتماسك أهل الثغر، ووجدوا رفقا بهذا الأمر، وانتهى سعر القمح إلى ثلاثمائة وعشرين درهما ورقا الأردب. وقال ابن كثير في تاريخه: مات في ذي الحجة بديار مصر نحو من عشرين ألفا. وفي نزهة الناظر: وفيها وصل من بلاد برقة جماعة كثيرة، وقد أثر الجوع فيهم، وشكوا من القحط في البلاد، وأنه لا ينزل لهم غيث في تلك السنة، ولا أعشبت أراضيهم، ونشفت الأعين، ولم يجدوا ببلادهم القوت، وهم نحو ثلاثين ألف نفر، وأفنى الجوع والعطش جميع ما كانوا يملكونه من الأغنام والإبل والمواشي، وكذلك الأطفال والنساء، وما سلم من الرجال إلا من كان في أجله تأخير.

ووصل عقيب ذلك كتاب من نائب الشام يخبر أن أيام الوسم الذين يزرعون فيه الأراضي فاتت، ووجدت أهل الشام لذلك مشقة عظيمة إلى أن خرجت المشايخ والصلحاء والفقراء واستغاثوا فلم يسقوا، وأقام الحال على ذلك ثلاثة أيام، ثم نودى في دمشق أن لا يبقى أحد إلا ويخرج للاستغاثة إلى الله تعالى، فخرج نائب الشام وجميع العسكر، وأن الله تعالى قبل دعاءهم، وأنزل عليهم الغيث. وجاءت الأخبار أيضا من جهة القدس والخليل عليه السلام أن الوسم الذي يعتادونه في أيام زروعهم قد فات أوانه، وانقطع الغيث عن بلادهم، وعن جميع بلاد الساحل، وأن الأعين والآبار قد جفت ولم يبق فيها ماء إلا قليل جدا حتى عين سلوان. وكذلك جف النيل بمصر وتناقص عن زيادته، فتحسن سعر الغلة إلى أن وصل القمح بعد الأربعين إلى سبعين، ثم لطف الله بالوفاء وكسروا الخليج، وبعد الوفاء بلغ النيل إلى سبعة عشر إصبعا، ثم نزل سريعا، وكسر بحر ابن منجى قبل أجله بثلاثة أيام خشية من النقص، فصار السعر يتزايد كل يوم إلى أن بلغ القمح إلى مائة درهم الأردب، والشعير إلى ستين، والفول إلى خمسين، وبلغ الرطل من اللحم إلى ثلاثة دراهم، وكان راتب البيوت في ذلك الوقت والجرايات لأرباب الرواتب كل يوم سبعمائة وخمسين أردبا من القمح والشعير، وراتب الحوائج خاناه عشرون ألف رطل من اللحم. وفيها: ورد البريد من الشام يذكر أنه قد وصل إلى الفرات بالرحبة من عسكر التتار تقدير عشرة آلاف بيت بحريمهم وأولادهم ومواشيهم، وأنهم من عسكر بيدو، ولما انكسر بيدو خافوا من قازان وقصدوا بلاد الإسلام راغبين في الإسلام، وأن المقدم عليهم أمير يسمى طرغاى، وهو زوج بنت هلاون، ومعه أميران يسمى أحدهما ككتاى والآخر أركاون، فأرسل الملك العادل إلى علم الدين الدواداري بأن يتوجه إلى لقائهم لأنهم من جنسه، فتوجه الدواداري من دمشق عاشر ربيع الأول، ثم توجه بعده سنقر الأعسر. ولما كان يوم الاثنين الثالث عشر من ربيع الأول: عاد سنقر الأعسر إلى دمشق وصحبته من مقدميهم وأعيانهم مائة فارس وثلاثة عشر فارسا، وخرج لملتقاهم نائب السلطنة، واحتفل الناس لدخولهم، وأنزلوهم بالقصر الأبلق، وأقاموا بدمشق إلى السابع من ربيع الآخر، ثم حضر الأمير حاج سيف الدين بهادر يستدعيهم إلى الأبواب الشريفة، فتوجهوا صحبة شمس الدين سنقر الأعسر، ثم ورد مرسوم للدواداري أن ينزل ببقيتهم في الساحل في أرض عثليث، فعبر بهم على دمشق من على المرج، ولم يمكن أحدا منهم من الدخول إلى دمشق. وأما قضية بيدو، فإنه ملك بعد مقتل كيخاتو بن أبغا بن هلاون بن طلوبن جنكزخان، وكان كيخاتو ملك التتار بالعراقين، فأساء السيرة، وتعرض إلى أولاد التتار ونسوانهم، وأفحش في الفساد فيهم، فنقموا عليه وشكوا إلى بيدو ابن عمه، وهو بيدو بن طرغاى بن هلاون، ما يلقون منه، فاتفقوا على إعدامه وتعجيل جمامه، فوثب عليه بيدو وطرغاى وبستاى وخجك، فعلم بما هموا به، ففر من الأردو هاربا، للنجاة طالبا، وتوجه إلى نحو كرجستان لائذا، فأدركه الهلاك وقتل بمقام بيلا سوار من أعمال موغان في ربيع الآخر من هذه السنة، فكانت مملكته ثلاث سنين وشهورا.

وفي جمادى الأولى منها: استقر بيدو في المملكة بعد هلاك كيخاتو، وكان قازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون بخراسان وصحبته نوروز أتابكه، فحسن له قصد بيدو ومحاربته، وانتزاع الملك منه، فجمعا وحشدا وحضرا من خراسان لحرب بيدو، وسار بيدو في عساكره إليهما، فلما تراءى الجمعان تبين لقازان أن جمعه لا يفي بلقائه، فراسله بالإذعان وعامله بالملاطفة وحلاوة اللسان، فاتفقا على الصلح، فاصطلحا، وعاد قازان راجعا إلى خراسان، وأقام نوروز عند بيدو، فإنه منعه من الرجوع صحبة قازان لكيلا يتفقا عليه وينفذا إليه، فاغتنم نوروز الفرصة مدة إقامته عند بيدو واستمال جماعة من الأمراء لقازان، واستوثق منهم أنه متى دنا انحازوا إليه وتركوا بيدو وخامروا عليه، فبلغ الخبر بذلك لقازان، فتجهز للمسير من خراسان، وبلغ بيدو خبره فأوجس خيفة منه، وذكر ذلك لنوروز. فقال له: أنا أكفيك أمره وأدفع عنك شره، ومتى وجهتني إليه ثنيت عليك عزيمته، وفرقت جماعته، وأرسلته إليك مربوطا، فاستحلفه أنه لا يخون في عهده إذا فصل من عنده، ثم سرحه فسار إلى خراسان، وأخبر قازان كل ما كان، وخرجا معا لقصد بيدو، وسارا طالبين الأردو، وأرسل نوروز إليه قدرا مربوطا في عدل، وقال: قد وفيت بما قلت لك، وأرسلت قزان إليك مربوطا بالوثاق، ولم أغير ما وقع به الميثاق، فغضب بيدو لرسالته، وتبين له مكره به من مقالته، وسار للقائه، فالتقى الجمعان بنواحي همدان، فخامر أمراء بيدو عليه وانحازوا إلى قاوان، فاستظهر بهم وقوى بسببهم، ولم يكن لبيدو بهم إلا الفرار وسلوك الأوعار، فلحقوه بنواحي همدان فقتلوه، وكانت مملكته ثمانية شهور، ومقتله في ذي الحجة من هذه السنة. وفي ذي الحجة: ملك قازان بن أرغون بن هلاون، واستقر في السلطنة، وترك أخاه خربندا مقيما بخراسان، واستقر نوروز أتابك العساكر ومدبر المملكة إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال ابن كثير: ولما تملك قازان على التتار في هذه السنة أسلم وأظهر الإسلام على يد الأمير نوزون رحمه الله، ودخلت التتار أو أكثرهم في الإسلام، ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رءوس الناس يوم إسلامه وتسمى بمحمود، وشهد الجمعة والخطبة، وخرب كنائس كثيرة، وضرب عليهم الجزية، ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد وظهرت السبح والهيا كل مع التتار. وفي بعض التواريخ: أن إسلام قازان كان في يد الشيخ صدر الدين ابن حمويه الجوينى. وفيه أيضا: أن بيدو لما انكسر لحق بالكرج وكان قد تنصر. وفيها: أنعم على الملك الأوحد بن الملك الزاهر بن أسد الدين صاحب حمص بإمرة بدمشق، وهو أول أمير تأمر بطبلخاناة من بني أيوب في دولة الترك، وكان نائب الشام كتب فيه إلى السلطان وعرف في كتابه كبر أهل البيت الذي هو منه وتقدمه في السن وجودته وديانته. وفيها: بلغ النيل إلى ستة عشر ذراعا وسبع عشرة إصبعا. وفيها حج بالناس الملك المجاهد أنص بن الملك العادل كتبغا وأهل بيته، وتصدقوا بصدقات كثيرة في الحرمين. وفي نزهة الناظر: لما حج أنص هذا أرسل إلى الشريف أبي نمى صاحب مكة شرفها الله عشرين ألف درهم إنعاما عليه، وأنعم على أولاده بعشرة آلاف درهم، وأنه طول الطريق معه روايا وأصعان مملوءة سكرا وسويقا وأقسما ومشروبا كثيرا، وأبيعت العلبة من الحلواء في الطريق بدرهمين، والرطل السكر بدرهم ونصف، وكان معه من سائر الأصناف، وخلع على جميع من صحبه من الأمراء والمماليك والجند وسائر من صحبه. وقال صاحب التاريخ: حكى لي خازن الداره أن جملة أنعامه على الأمير سيف الدين طقجى مائة وستون ألف درهم، وكان من جملتها بذلة كلها زركش وقباء تترى فيه ألف دينار، وكانت تفرقته على الغلمان والصعاليك ثمانين ألف درهم، وأخبر أنه أصلح بين الخليفة أبي العباس أحمد وبين الشريف أبي نمى صاحب مكة، لأنه وقع بينهما كلام ومشاجرة والركب واقف بجميع الأمراء، وبلغ من أمرهما إلى أن قال أبو نمى للخليفة: من أنت؟ ومن يقال لك؟ ومن أبوك؟ أما تستحي إذا ذكرت نسبك مع نسبي، ثم شرع يقول: أنا فلان بن فلان إلى أن أذهل الواقفين، ولم يقدر الخليفة بعده على الجواب: بل تمثل يقول: نسبٌ كان عليه من شمس الضحى ... نور ومن فلق الصباح عمودا

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ولم يزل الملك المجاهد يرضى الشريف والأمير طقجى معه إلى أن اصطلحا وطابت خواطرهما. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الصالح القدوة الزاهد العابد العارف أبو الرجال بن مرى بن بحتر المنينى. مات بقرية منين في عاشر المحرم منهما، ودفن في زاويته بالقرية المذكورة، وخرج الناس من دمشق فمنهم من أدرك الدفن ومنهم من صلى على قبره، وكانت له أحوال ومكاشفات، من المشايخ الأجلاء المعروفين بالخير والصلاح والورع، وكان أهل البلد يزورونه، وربما قدم هو بنفسه إلى دمشق فيكرم ويضيف، ومات وقد جاوز الثمانين، وكان شيخه الشيخ جندل من كبار الصالحين أيضا، ومن الأبدال، وكان من القرية المذكورة. الشيخ الصالح العابد الزاهد الورع بقية السلف جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن قاضي القضاة وخطيب الخطباء عماد الدين بن عبد الكريم بن قاضي القضاة جمال الدين عبد الصمد بن الحرستاني. سمع الحديث وناب عن أبيه في الإمامية وتدريس الغزالية، ثم ترك المناصب وأقبل على العبادة، وتوفى في آخر ربيع الآخر، ودفن بالسفح عند أهله وقد جاوز الثمانين. الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ مفتي بلاد الحجاز في زمانه محب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي. وكان شيخ الشافعية، وفقيه الحرم، ومحدث الحجاز، وسمع الكثير وصنف في فنون كثيرة، من ذلك: كتاب الأحكام في ست مجلدات وهو كتاب مفيد، وكتاب على ترتيب جامع المسانيد أسمعه لصاحب اليمن. وكان مولده يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة عشر وستمائة، ومات في هذه السنة، ودفن بمكة. وله شعر جيد، فمنه قصيدته في المنازل بين مكة والمدينة تزيد على ثلاثمائة بيت، كتبها عنه الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه. الشيخ الإمام العلامة الخطيب المدرس المفتي القاضي شرف الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقدسي الشافعي. ولد سنة ثنتين وعشرين وستمائة، وتوفى يوم الأحد السابع عشر من رمضان منها، ودفن بمقابر باب كيسان عند والده وأخيه، سمع الكثير، وكتب حسنا، وصنف فأجاد وأفاد، وكان مدرس الغزالية ودار الحديث النورية مع الخطابة، ودرس في وقت بالشامية البرانية، وأذن لجماعة من الفضلاء في الإفتاء منهم الشيخ الإمام أبو العباس ابن تيمية، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت لابن تيمية في الإفتاء، وكان يتقن فنونا من العلم، وصنف كتبا في أصول الفقه جمع فيه شيئا كثيرا ولم يخلف بعده مثله لأنه فيه ما لم يجمع لأحد من العلماء من علم الفقه والأصلين والحديث والنحو واللغة وحسن الخط والدين والعفة والتواضع والفصاحة وحسن الهيئة والمسارعة إلى قضاء حوائج الناس. وله شعر جيد فيه ما قاله في زهر اللوز: أحج إلى الزهر وأسعى به ... وأرم جمار الهم مستنفرا من لم يطف بالزهر في وقته ... من قبل أن يحلق قد قصرا وله لغز في الناعورة: وما أنثى وليست ذات فرج ... وتحمل دائماً من غير فحل وتلقى كل آونةٍ جنيناً ... فيجرى في الفلاة بغير رجل وتبكى حيت تلقيه عليه ... بصوت حزينة فجعت بطفل وقال يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحية مشتاقٍ بعيد مزاره ... إلى من بأكناف العقيق دياره وشكوى بعادٍ أنفد الدمع بعضه ... وأفنى مدى الصبر الجميل انتظاره وصبٍ عرنه للصبابة حسرة ... تنم بها أنفاسه واصفراره ووجد بأكناف الحمى سقى الحمى ... ولا زال يندى شيحه ومراره ودمع بأسرار المحبة ناطقٍ ... إذا لمعت دون المحصب ناره وجسمٍ غدا إثر الضغائن قلبه ... وإن كان في أرض البعاد قراره ركائب تحدو باسم خير مؤمل ... بنى علا في العالمين مناره فوا أسفا لو كان يجدى تاسفٌ ... وواحسرتا إذ شط عني مزاره إذا قدم الزوار تربة يثربٍ ... وفاضت من الدمع المصون غزاره

فكم خائف جان يلوذ بظله ... وكم تائب ثوب الخضوع شعاره أحن إلى ربع زكت تراب أرضه ... وأصبح نور المصطفى وهو جاره بني أضاء الكون من نور وجهه ... وعاد ظلام الشرك يبدو استناره وحن إليه الجذع والجذع يابسٌ ... وجاء بعير القوم يعلو خواره سلامٌ على من سلم الذئب خاضعا ... عليه كذاك الظبي زال نفاره له معجزات يبهر العقل بعضها ... وآيات مجدٍ ليس تحصى فخاره فطوبى لمن زار النبي محمدا ... وأضحى إلى البيت العتيق انتشاره ولبى مشوقا ثم طاف ملبياً ... وأصبح بعد السعي والبيت داره وسارٍ وقد نال المنى بعد حجه ... مشوقاً ودمع العين ثج قطاره وبعد منى نال المنى بوقوفه ... وعاد وجمر الشوق يذكو أواره فيا خير مأمولٍ وأشرف ماجدٍ ... تعطف على صب عراه انكساره وهبه ثواب الصابرين فإنه ... على ألم الأشواق قل اصطباره الشيخ الإمام العالم المفتي الخطيب الطبيب مجدا الدين أبو محمد عبد الوهاب ابن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون التنوخي الحنفي، خطيب جامع النيرب، ومدرس الدماغية للحنفية، وكان طبيبا بجامع الصالحية. وكان فاضلا جيدا، وله مشاركة في كل فن، وروى شيئا من الحديث، توفى ليلة السبت الخامس من ذي القعدة منها عن خمس وسبعين سنة، رحمه الله. وله شعر حسن فمنه قوله: فوالله ما هجري لأهل مودتي ... ملالا ولكني سكنت إلى العجز وما كان لي عنهم غنى غير أنني ... قنعت وحسبي بالقناعة من كنز وأعرضت عنهم لا ملالا وإنما ... رأيت مقام الذل في منزل العز وقال: لا تجزعن فما طول الحياة سوى ... روح تردد في سجن من البدن ولا يهولك أمر الموت تكرهه ... فإنما موتنا عودٌ إلى الوطن وسمع قول مجير الدين بن تميم في تفضيل الورد على النرجس بالبيتين وهما: من فضل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يغرس أما ترى الورد غدا جالسا ... إذ قام في خدمته النرجس فقال في جوابه: ليس جلوس الورد في مجلسٍ ... قام به نرجسه يوكس وإنما الورد غدا باسطاً ... خدا تمشى فوقه النرجس وله في مشاعلى: بأبى غزال جاء يحمل مشعلاً ... يكسو الدجى بملاء ثوبٍ أصفر فكأنه غصن عليه باقةٌ ... من نرجس أو زهرةٌ من نوفر وقال وقد أهدى إليه نرجس: ما تحجبت عن عيني وأرقني ... بعدي ولم تحظ عيني منك بالنظر أرسلت مشبهها من نرجس عطر ... كيما أراك بأحداقٍ من الزهر وقال في الياسمين: لله حسن الياسمين يلوح فو ... ق الورد للجلساء والندمان مثل الثنايا والخدود نواضرا ... أو كالفراش هوى على النيران وقال في الورد: وورد أبيض قد زاد حسنا ... فعند الصد للخجل احمرار يمثله النديم إذا رآه ... مداهن فضة فيها نضار الشيخ الإمام العالم الزاهد الخطيب عز الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر بن فرج بن أحمد بن محمد بن علي بن سابور الفاروثى الواسطي. ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع بالحديث ورحل فيه، وكانت له فيه يد جيدة، وفي التفسير والفقه، والمواعظ. وكان دينا عالما ورعا، قدم إلى دمشق في الدولة الظاهرية، فأعطى تدريس الجاروخية، ثم عاد إلى وطنه فمات في واسط في مستهل ذي الحجة، وكان يوما مشهودا بواسط. وكان قد لبس خرقة التصوف من السهر وردى، وقرأ القراءات العشر، وخلف ألفى مجلد ومائتى مجلد، وحدث بالكثير، وسمع منه البرزالى كثيرا من الصحاح والمسند. الشيخ جمال الدين أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي، المعروف بالمحقق. كان فاضلا في الطب، ومدرسا في عدة مواضع، شارك في فنون كثيرة. مات في هذه السنة، ودفن بمقابر الصوفية عند قبر الشيخ جمال الدين الحصيري

الصدر جمال الدين يوسف بن علي بن مهاجر التكريتي. أخو الصاحب تقي الدين توبة، مات في هذه السنة بدمشق، ودفن بتربة أخيه بالسفح. وكان ذا ثروة ومروءة وتواضع، وخلف ثلاثة بنين: شمس الدين محمد، وعلاء الدين علي، وبدر الدين حسن، وكان قد ولى حسبة دمشق في وقت. الصدر الكبير العدل عم الدين أبو بكر محمد بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري. واقف المدرسة الجوهرية على الحنفية. توفى ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال بدمشق، ودفن بمدرسته، وقد جاوز الثمانين. وكانت له خدم على الملوك وغيرهم. الشيخ الفاضل عبد العزيز الديريني. كان فاضلا، عالما بالنحو واللغة والأصولين، وله في كل فن فضل، وكان مع ذلك راضيا ببذاذة الحال، توفى ببلدته ديرين في هذه السن، ودفن فيها. عمر بن يحيى بن عبد الواحد الهنتاتي، سلطان أفريقية. توفى في هذه السنة، وكانت مدة ملكه أحد عشر سنة. صاحب اليمن، شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي ابن رسول التركماني. أقام في مملكة اليمن بعد أبيه سبعا وأربعين سنة، وعمر ثمانين، وكان أبوه قد ولى قبله أزيد من عشرين سنة بعد الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل، وكان عمر بن رسول مقدم عساكر أقسيس، فلما مات، وثب على الملك فتم له، وتسمى المنصور، واستمر فيه أزيد من عشرين سنة، ثم ابنه المظفر سبعا وأربعين سنة. وتوفى المظفر المذكور بقلعة تعز على فراشه في رجب من هذه السنة. وكان حاكما جيدا، كفيفا عن أموال الرعايا، حسن السيرة، كثير العدل والصفح، قليل المؤاخذة، وما قصده أحد إلا ناله منه خيرا كثيرا. وكان يحب الحديث، ويسمعه، وجمع لنفسه منها أربعين حديثا. واستقر في الملك بعد ولده الأكبر الملك الأشرف نجم الدين عمر. وكان للملك المظفر من الأولاد: الأشرف، والمؤيد، والواثق، والمسعود، والمنصور. وقال ابن كثير: فلم يمكث الأشرف بعد أبيه المظفر سنة حتى مات، ثم قام أخوه المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر، فاستمر في المملكة. وفي بعض التواريخ: لما مات المظفر ملك بعده ولده الملك الأشرف ممهد الدين، وهو ولى عهد أبيه، ثم نازعه أخوه الملك المؤيد هزبر الدين داود، وكان المؤيد - لما مات والده - ببلاد الشحر فجمع جمعا كثيرا لوقته، ومال إلى عدن فملكها، ثم توجه نحو تعز، فجرد الأشرف لقتاله الشريف على ابن عبد الله بجماعة من الجيش، ومعه ولده جلال الدين بن الأشرف، فالتقيا فيما بين تعز وعدن، بمكان يسمى الدعيس، واقتتلوا، فخذل المؤيد، وتفرقوا عنه، وبقى في نفر يسير، فقدم إليه جلال الدين ابن أخيه، وأشار عليه بالدخول في الطاعة، ومد له يد المحالفة، فرجع إلى الطاعة، وأراد جلال الدين أن يتوجه به إلى والده على ذلك، فامتنع عليه، ثم توجه إلى قلعة تعز، فاعتقل بها، إلى أن مات الأشرف سنة ست وتسعين وستمائة، فأخرج من الاعتقال لأجل دفن أخيه، فأمر بدفنه، واستمر المؤيد إلى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، كما سنذكره إن شاء الله. وفي تاريخ النويري: توفى المظفر المذكور مسموما، سمته بعض جواريه، والله أعلم. الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الأقرعي. مات بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير، بقرية ابن العيد، ولى شد الشام زمن الملك الظاهر، وعزل زمن الملك السعيد، وعاد في زمن المنصور قلاون، وتولى أيضا شد الصحبة، وهو الذي حبس قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، وتعصب عليه، وكان جبارا، عنيدا، عسوفا بالفعل والقول، سلطا، معجبا جدا بنفسه، غير أنه كان عفيفا عن أموال الناس، وبيت المال، وكان عليه الديون، ولم يتناول من أحد شيئا في مدة ولايته، لا هو ولا حاشيته، ولا قبل من أحد هدية، وكان ينتمي إلى أصحاب الشيخ عدى وانتفعت به العدوية. الأمير ركن الدين أمير عمر أخو تمر. توفى في هذه السنة، وكان قد ورد في الدولة المنصورية مع جماعة. الأمير بكتوت الفارسي، مملوك فارس الأتابك. كان من أجل الأمراء، والشجعان المجاهدين، حسن السيرة، توفى في هذه السنة. الأمير علاء الدين كشتغدى، حمو السلطان الملك العادل، توفى في هذه السنة. الأمير عساف بن الأمير أحمد بن حجى، أكبر عربان آل برمك وآل مرى.

السنة الخامسة والتسعين بعد الستمائة

مات في هذه السنة مقتولا، قتله جماز بن سليمان، ابن أخيه، بالقرب من مدينة النبي عليه السلام، وكان قصد الغارة على أهل المدينة وغار على بعضهم، فركب جماز ومعه جماعة، والتقوا معه، فقتله جماز، وتباشرت الناس بقتله، وكان كثير الفتن، وسفك الدماء، وكان شجاعا مقداما، وانتشر له صيت في البلاد، وكان يدعى أنه من نسل البرامكة، فكان القاضي شمس اليد ابن خلكان يصدقه، وكان يقدم معه عند الملوك إذا اشتد به أمر، وآخره في الدولة المنصورية. جمال الدين بن مصعب، توفى في هذه السنة بدمشق، وكان له فيها إقطاع، وكان ظريفا لطيفا شاعرا، وكان يلبس بالفقير. فمن شعره في قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق: دمشق سقاها من دموعي السحائب ... وحيا رباها مدمعٌ لي ساكب ولا برحت أيدي النسيم عواطفا ... غصونا لأعطاف الحبيب تناسب بحيث يمد الظل فاضل برده ... على الغوطة الفيحاء وتصفو المشارب ويا حبذا وادي المقاسم وادياً ... لقد جمعت في جانبيه العجائب ترى السبعة الأنهار فيه جواريا ... فهذا لهذا صاحب ومجانب وفي النيرب المعمور فض بنفسج ... به عطرت تلك الربا والربائب فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والتسعين بعد الستمائة استهلت وخليفة الوقت: الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي. وسلطان البلاد: الملك العادل زين الدين كتبغا، ونائبه بمصر: الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، والوزير: فخر الدين بن الخليلي، ونائب الشام: عز الدين الحموي. وصاحب حلب: سيف الدين بلبان الطباخي. وفي مستهل هذه السنة كان الغلاء والفناء بديار مصر شديدا، وقد تعانى الناس به، وكانوا يحفرون الحفيرة فيدفنون فيها القيام من الناس، والأسعار والأقوات في غاية القلة والغلاء، فمات بها في شهر صفر مائة ألف وثمانون ألفا، وامتد الغلاء بديار مصر حتى قيل إنه أبيع الفروج بالإسكندرية بستة وثلاثين درهما وبالقاهرة بتسعة عشر درهما، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وأفنيت الحمر والخيل والبغال والكلاب، ولم يبق شيء من هذه الحيوانات. وقال بيبرس في تاريخه: وكنت في الإسكندرية في أيام هذه المحن والفناء والغلاء، وعدت منها إلى الأبواب السلطانية في هذه السنة، فوجدت حال أهل القاهرة قد آل إلى التلف من المرض الشامل والموت العاجل، ولقد أبيع الفروج الواحد بعشرين درهما، والبطيخ الواحد بمائة درهم، والسفرجلة بثلاثين درهما، ومكث الناس على ذلك إلى أن لطف الله بهم وفرج الله هذه الشدة عنهم. وفي نزهة الناظر: دخلت هذه السنة والحال مستمر على تمادي الغلاء وقلة الجلب، وقبل إدراك الزرع هاجت في ناحية بلاد المغرب وبرقة ريح سوداء مظلمة، فأثارت ترابا أصفر فكسى زرع تلك البلاد كلها فأرمى سنبله، والذي تأخر دخل فيه فأفسده، فرحل أهل تلك البلاد إلى نحو مصر، واستمرت تلك الريح والتراب الأصفر إلى أن عمت إقليم البحيرة والغربية والشرقية، ثم وصلت إلى أعلى الصعيد، وأخرت الزرع الصيفي جميعه مثل الأرز والسمسم والقصب والقلقاس، وجميع ما يزرع على السواقي، فصار في كل يوم يتزايد سعر الغلة، ثم أعقب ذلك أمراض اعترت الناس وحمى مزعجة وأمراض مختلفة، فعم الضعف الناس حتى قل من سلم من أهل بيت من ذلك؛ بل غالب كل من في بيت أو منزل صاروا ضعفاء، فبسبب ذلك تحسن سعر السكر وأنواع الأدوية، وعدمت الفواكه، وبيع الفروج بثلاثين درهما، والبطيخة بأربعين، والرطل منها بدرهم، وبلغ سعر القمح بالتدريج في هذه المدة الأردب إلى مائة وستين، وسبعين، درهما، ثم إلى مائة وتسعين، والشعير إلى مائة وعشرين، والفول إلى مائة وعشرة دراهم، وكذلك العدس والحمص ونحوهما. ووصلت الأخبار من بلاد القدس والشام وصلت بتحسين الأسعار في الغلة، فوصل كل غرارة إلى مائتين وعشرين درهما، والشعير إلى مائة وعشرة، والرطل من اللحم إلى عشرة.

وكذلك وصلت الأخبار من بلاد مكة شرفها الله والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام أن الأردب من القمح وصل عندهم إلى تسع مائة درهم، والشعير إلى سبع مائة، وأن مكة لم يبق فيها من يطوف إلا نفر قليل، وأن أهل قراها وسكان حدائقها انتزحوا إلى أعلى الجبال، وإذا سافر الرجل من مكة إلى المدينة لا يجد من يدله على الطريق، والسعيد منهم من له ناقة أو شاة أو شيء من الماشية يأكل لحمها. وكذلك أهل اليمن وقع فيهم الغلاء المفرط حتى باعوا أولادهم بالقوت، وأن طائفة منهم خرجت قاصدة إلى مكة وعند وصولهم إلى محلة بنى يعقوب وجدوا بها جماعة من أهل مكة قد قتلهم الجوع ولم يبق منهم غير اثنين ضعيفين. وكذلك وصلت الأخبار من بلاد الشرق بأنهم في أسوء الأحوال من القحط والفناء وموت المواشي وقلة المرعى ومسك الغيث. ثم اشتد الحال بأهل مصر حتى صاروا ينهبون الخبز من الأسواق والأفران، وكان إذا خرج الرجل من بيته بطبق العجين يجتمعون عليه ويأخذونه قطعا قطعا، وإذا كان في الفرن خبز لا يقدرون على إخراجه حتى يكون حوله جماعة من أهل بيته وبأيديهم عصى يمنعون من يتعرض إليه، وكان بعضهم يرمى روحه على الطبق من الجوع والضرب عمال على رأسه وظهره وهو لا يلتفت فيضرب حتى يقع مغشيا عليه وهو ماسك رغيفا أو قطعة منه بأسنانه. ثم اتفق رأى السلطان مع الأمراء على أن يفرقوا الصعاليك على الأمراء والأغنياء، فكتبوا باسم أمير مائة، وباسم آخر خمسين، وباسم آخر عشرين، وباسم آخر عشرة، فخف عن الناس، ما كانوا يجدونه، ثم جاء الوباء والفناء في بلاد مصر وكثرت الأمراض الحادة وتحسنت أسعار الأشربة والأدوية والحقن ونحوها، فصار كل شيء بأضعاف قيمته. قال الراوي: كان دكان برأس حارة الديلم يعرف بدكان الهندي باع صاحبها في شهر واحد باثنين وثلاثين ألف درهم من الأشربة والأدوية، وكان مثل ذلك دكاكين أخرى معروفة في السيوفيين والوزيرية وخارج باب زويلة، وكان كل طبيب يحصل في كل يوم من مائة درهم إلى أقل أو أكثر، وكانت ورقة المواريث يكتب كل يوم من الموتى بثلاثة آلاف درهم وكسور هذا للإطلاق من الديوان، وأما الطرحا على الدكاكين والذين يموتون في الأزقة ونحوها فلا يحصرون ولا يضبطون، وكانوا يحفرون حفرا وآبارا ويرمون الموتى بعضهم على بعض إلى أن جافت بهم الطرقات والأسواق والنواحي، وكان الذي أعقب هذه الوباء في هذا الغلاء كثرة أكل لحم بني آدم، فإن الناس من الجوع كانوا يأكلون الموتى، وخصوصا موتى الأطفال، وكانوا يجدون الرجل والمرأة ميتين وعند رأسيهما لحم الميت، وكان يمسك بعضهم فيوجد معه كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه. وفي تاريخ النويري: أكل الناس الميتة من الآدميين والدواب والكلاب، وحكى أن متولى القاهرة وجد ثلاثة نفر وبين أيديهم صبي سباعي قد قطعوا يديه ورجليه وشووه وهم يأكلون فيه مع خل وبقل وليمون مالح، وقررهم فاعترفوا أنهم فعلوا بالأمس بصبي آخر كذلك، فشنقوا على باب زويلة، فلم يصبح منهم شيء؛ بل أكلهم الناس. وفي نزهة الناظر: ومن خزن في تلك السنة غلة ربح ربحا نهاية، ولكن كثير منهم أصيب في نفسه شيء من الآفات التي نفق فيها ما كسبه من ذلك. قال: إن بعض أصحابنا كان عنده نحو ستمائة أردب، وباع كل أردب بمائة وخمسين ونيفا، ثم لما رأى زيادة السعر في الثمن ندم على ذلك ندما عظيما، ثم عمر من ثمن القمح الذي باعه قصرا وزخرفه بالرخام وغيره، وعند فراغه احترق جميعه حتى لم يبق منه شيء ينتفع به أصلا. قال: وكان الناس في أشد ما يكون من ذلك، والسلطان ينزل إلى الميدان وهو خائف على نفسه، محترس من إيقاع فتنة، ووقع في خاطره أن يعمل اصطبل الجوق الذي للمماليك السلطانية ميدانا، وهو اصطبل مجاور لبركة الفيل مقابل للجامع الطولوني، وحسن له الأمراء ذلك فعمر ميدانا، وأنشأ حوله أماكن وبيوتات، وأول ما أنشأ فيه علم الدين سنجر الخازن، فنسب الحكر جميعه بإنشائه وبقى إلى يومنا هذا معروفا بين الناس بحكر الخازن، واتخذت فيه الأمراء الإصطبلات والمناظر، واتصلت العمارة إلى بركة الفيل، فصار حكرا كبيرا إلى الغاية، وكان السلطان ينزل إليه من القلعة ولا يجد أحدا من العالم يقف بين يديه، ولا يدعوا أحد غير جماعة من أصحاب الدكاكين هناك.

قال: وفيها توقف حال الوزير فظلم الناس كثيرا، ولذلك شرعت حاشية السلطان ومماليكه في أخذ الأموال والبراطيل، فحصل للناس بسبب ذلك ضرر عظيم، ومع ذلك كانوا يسيئون الأدب على الأمراء والأجناد، وضاقت الأحوال على الناس من وجوه كثيرة، ومع هذا توقفت حال الفلوس إلى أن استقرت بالميزان، وهذا أول من وزنت الفلوس في دولته، كل رطل بدرهمين. وقال بيبرس في تاريخه: وفيها وهي في سنة خمس وتسعين وستمائة ورد إلى البلاد الشامية طائفة كثيرة من التتار الأويراتية صحبة طرغاى، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في السنة الماضية على ما ذكره ابن كثير ولكنه ما ذكره مستوفى. قال بيبرس: وكان سبب هربهم من بلادهم أن طرغاى كان متفقا مع بيدو بن طرغاى على قتل كيخاتو، فلما وصل الملك إلى قازان بن أرغون خاف طرغاى على نفسه لئلا يأخذه بقتل عمه، فيجعل ذلك الذنب وسيلة إلى سفك دمه، وكان مقيما بتمانه بين بغداد والموصل، وكان ابن بغا مقيما بتمانه بديار بكر، فأرسل قازان بولاى ومعه تمان إلى ديار بكر عوضا عن أسنبغا، وأوصاه بأن يحفظ الطرقات على طرغاى وجماعته، وإذا وصل من يندبه لقتله يكون مساعدا له، وجهز قازان أيضا أميرا يسمى قطغو في ثمانين فارسا ليقبضوا على طرغاى ومن معه من قبيلة أويرات، فأحس بما دبر عليه قازان، وعلم أن قطغو إنما جرد إليه للقبض عليه، فاتفق هو والأمراء الذين معه وهم ألوص وككتاى فقتلوا قطغو ومن معه، وعبروا الفرات وحضروا إلى الشام، وبلغ بولاى أنهم ساروا نحو الفرات فسار في آثارهم، فالتقوا وتصافوا معه فكسروه، وقتلوا أكثر التمان الذين معه، وطرغاى هذا كان متزوجا ببنت منكوتمر بن هلاون. فلما وردت مطالعات نواب الشام إلى الأبواب السلطانية بوصول هؤلاء الأويراتية أرسل زين الدين كتبغا إليهم الأمير علم الدين سنجر الدويداري من دمشق لينزلهم في بلاد الساحل، ويحضر مقدميهم وكبارهم إلى الباب العزيز، فأنزل نسوانهم وأولادهم وعامتهم في بل الساحل، وأحضر من أعيانهم نحو مائتى فارس صحبة طرغاى وككتاى والوص مقدميهم، فلما وصلوا تلقاهم زين الدين كتبغا بالإكرام، وعاملهم بالإنعام، وألم بهم غاية الإلمام، وعجل لهم الخلع والهبات، وأعطى أكابرهم الطبلخانات وصاروا يجلسون بالقلة في مراتب الأمراء ومقاعد الكبراء. وكان الصواب أن يدرجوا قبل أن يقدموا ويهمل عليهم حتى يسلموا، فإذا دخلوا في الدين وأقاموا شعائر المسلمين، وعرف منهم ذلك باليقين، يرفع منهم من يستحق الرفعة، وينقلون إلى الأخباز والإمرة. فلما رأى أمراء الإسلام ما فعله مع هؤلاء على غير القياس، وأنه قدمهم على أكابر الناس كرهوا منه هذه الفعلة، مع ما في النفوس من تغلبه على السلطنة وخلعه وارث المملكة، فتغيرت له الخواطر، وتكدرت منه الضمائر، وتوثبت مماليكه على الإقطاعات والحمايات، وامتدت أيديهم إلى الرشى والجبايات، وتكبروا على الكبراء، وتقدموا على قدماء الأمراء، وغلبوه على رأيه، وحجبوه بحجاب وجعلوه من ورائه، ولم يتنبه لردعهم ولا تيقظ لمنعهم، فتمكنت البغضاء وتزيدت الشحناء، وهو لا يعلم بما تم، ولا ينظر فيه نظر من بحسمه يهتم، وصار الأمراء يعتقدونه راضيا بهذه الأمور، فامتلأت بالإحنة صدور الصدور، وكان كما قيل: وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وفي نزهة الناظر: ومما قاله شمس الدين ابن دانيال في ذلك: ربنا اكشف عنا العذاب فإنا ... قد هلكنا في الدولة المغلية جاءنا المغل والغلا فانسلقنا ... وانطبخنا في الدولة المغلية

توجه السلطان كتبغا إلى الشام

وفيه: لما قرب هؤلاء من القاهرة أمر السلطان لسائر الأمراء والعسكر إلى لقائهم، فخرجوا، وخرج أهل المدينة كافة، وكان يوما مشهودا، ثم أنعم على مقدميهم طرغاى بطبلخاناة، وكان عزم على أن يعطيه إمرة مائة وتقدمة ألف، فأشار عليه الأمراء أن يكون طبلخاناة وبعد قليل يكبره، وأنعم على ألوص بإمرة عشرة، والبقية بأخباز وإقطاعات، وعظمهم تعظيما عظيما، فصار طرغاى يجلس مع مقدمي الألوف، وتزايد ضرر العالم بالغلاء والويل، ورأت السوقة من تلك الطائفة وسوء أخلاقهم وبذاذة نفوسهم ما كرهوه، وقصد الأمراء بعد اتفاقهم مع السلطان أن يتحدثوا في أمر إسلامهم واشتمالهم على الدين الحنيفي، وأن يتعلموا فرائض الإسلام، فتحدث السلطان مع طرغاى في هذه القضية، فلم يجد لهم قابلية في ذلك الوقت، وعرف الأمراء أنهم يحتاجون إلى تطويل المدة فيهم والتدريج بأمرهم قليلا قليلا. قال ابن كثير: وفي يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى ولى قضاء القضاء بالديار المصرية الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، عوضا عن تقي الدين بن بنت الأعز. ثم أرخص الناس بمصر، وزال الضرر والجوع في جمادى الآخرة. وفيها في رجب: وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن المسجد الحرام، كان يؤذن على سطح القبة المذكورة، وكان قد روى شيئا من الحديث، رحمه الله. توجه السلطان كتبغا إلى الشام ذكر توجه السلطان الملك العادل كتبغا من الديار المصرية قاصدا إلى الشام: وفي نزهة الناظر: والسبب لذلك أن الأمراء الأكابر لم يعجبهم ما فعله السلطان مع الأويراتية من كثرة الإكرام وعلو منازلهم ورفعتهم فوق غيرهم، واتفق أنه دخل شهر رمضان المعظم ولم يروا أحدا منهم صام؛ بل رأوا أكثرهم مفطرين، فخاطب الأمراء السلطان في ذلك وقالوا: ينبغي أن يخاطب هؤلاء في الإسلام ويتعلمون شرائع الدين، ولا يمكن أن هؤلاء في بلاد الإسلام وفي مملكة مصر على غير دين الإسلام، فلم يرجع إلى شيء من كلامهم، فقال: لا يشوش أحد عليهم، فخلوهم يكونون على دينهم. فوجد الأمراء من ذلك أمرا عظيما مع تطاول مماليكه وحاشيته عليهم، وعلى الناس من كثرة المظالم والحمايات، مع ما اتفق من الغلاء والوباء، فاتفق الأمراء فيما بينهم على عزله من الملك، ولم يجدوا لذلك سبيلا غير أن يشيروا عليه بخروجه إلى السفر ليحصل لهم الغرض، فأخذوا معه في ذلك، وحسنوا له الخروج لافتقاد أمور البلاد والعباد، وعرض العساكر ونواب القلاع، ولتكون أيضا سمعة في بلاد العدو أن السلطان قد خرج ومعه العساكر، وأيضا يحصل التخفيف في الديار المصرية من العساكر. فأجابهم إلى ذلك، وخرج في العشر الأخير من شوال من هذه السنة، فقدم دمشق يوم السبت نصف ذي القعدة، ودخلها والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر على رأسه. قال صاحب النزهة: وخرج نائب الشام إلى ملتقاه، ولم يجد أهل الشام محتفلين له كعادة الملوك المتقدمة عند دخولهم، فطلب الوالي وأمره أن يخرج أهل دمشق إلى الملاقاة، ويوقدوا الشمع، ويظهروا الفرح بقدوم السلطان، ويزينوا المدينة، فركب الوالي وفعل ما أمره، ففعلوا ذلك مكرهين من غير خاطر، وأعلنوا بالدعاء للأمير حسام الدين لاجين ومماليك السلطان مثل بتخاص والأزرق وغيرهما، علموا ذلك وشاهدوا، فلم تطب خواطرهم، وعرفوا بذلك السلطان وأغروه على نائب الشام وأهلها، فطلب الصاحب فخر الدين بن الخليلي واتفق معه على مصادرة جماعة من دواوين الشام ومباشريها، فرسم عليهم وعلى شمس الدين سنقر الأعسر مشد الدواوين، وعلى الأمير سيف الدين اسندمر كرجى متولى البر، وشرف الدين بن فضل الله كاتب السر بدمشق، واستخرج من أهل الشام أموالا كثيرة، وأهانهم إهانة بالغة، ومسك الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام وولى عوضه مملوكه غرلو العادلي، وأخذ أموال نائب الشام، وختم على سائر حواصله فلم يطب ذلك على خواطر الأمراء.

ذكر اتفاق الأمراء على خلع السلطان

وكان قد ورد صاحب حماة إلى ملتقى السلطان، فاجتمعت به الأمراء واتفقوا معه على الكلام مع السلطان في أمر نائب الشام، فحضروا إليه وقالوا يا خوند: إن الأمير عز الدين رجل من أكابر الدولة، وله خدمة متقدمة، ولم يظهر منه قط حياته، فعلم السلطان أنهم متفقون على خلاصه، فأجابهم إلى ذلك، فطلب الحموي وخلع عليه خلعة الرضى، ثم خلع على مملوكه غرلو بنيابة الشام، وكانت خلعة العزل والرضى وخلعة التولية في وقت واحد، ثم إن السلطان جرد من عسكر الشام جماعة صحبة عسكر مصر وأمرهم أن يتقدموا إلى حلب، وأقام بعد ذلك بدمشق، وصلى بجامع بني أمية. وقال ابن كثير: لما كان يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي القعدة صلى الملك العادل بمقصورة الخطابة، وعن يمينه صاحب حماة الملك المظفر، وتحته بدر الدين أمير سلاح، وعن يساره أولاد الحريري، ثم بدر الدين البيسرى، وتحته قراسنقر، وإلى جانبه الحاج بهادر، وخلفهم الأمراء الكبار، وخلع على الخطيب خلعة سنية، وهو قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ولما قضى الصلاة سلم على السلطان، وزار السلطان المصحف العثماني، ثم اصبح يوم السبت فلعب بالميدان بالآكرة على العادة. وفي يوم الإثنين ثاني ذي الحجة عزل الأمير عز الدين الحموي عن النيابة، وعاتبه عتابا كثيرا على أشياء صدرت منه، ثم عفى عنه وأمره بالمسير معه إلى مصر، واستناب بالشام سيف الدين أغرلو، ثم حضر السلطان دار العدل وحضر عنده الوزير والأمراء والقضاة، وكان عادلا كما سمى. وفيه تولى شهاب الدين الحنفي الوزارة، عوضا عن التقي التكريتي، وولى تقي الدين بن شهاب الحسبة، عوضا عن أبيه، وخلع عليهما، ثم سافر السلطان في الثاني عشر من ذي الحجة واجتاز على جوسية، ثم أقام بالبرية أياما، ثم عاد فنزل حمص وجاء إليه نواب البلاد، ثم عاد نحو ديار مصر. وفي نزهة الناظر: وبعد أن صلى السلطان بجامع بني أمية خرج قاصدا نحو حمص، وضرب الدهليز على بحيرة حمص، وصار في كل يوم يتوجه إلى الصيد وصحبته صاحب حماة، واتفق أن السلطان رمى غزالا في الحلقة وأحضره معه إلى الدهليز، وكان قد حضر عنده الشيخ حسن القلندرى - شيخ القلندرية بدمشق - وكان ممن يصحب السلطان وينتمي إليه وإلى جماعة من الأمراء، فقال له يا شيخ حسن: هذا صيد يدي خذه لك، فقبل الأرض وقال: يا خوند: يأخذ الفقراء هذا الغزال ويودونه إلى موضع يختارونه، ويعملون هناك وقتا ويدعون للسلطان، فقال: وأين توديه؟ فقال: إلى صاحب حماة، فتبسم وقال له: خذ، فأخذه وأتى به إلى صاحب حماة فأنعم عليه بتشريف طرد وحش وكلوتاه زركش، فأراد أن يمتنع من لبس الكلوتاه وقال: أنا رجل فقير قلندرى لا يمكنني أن ألبس غير لبسي. فقال له: إن التشريف تشريف السلطان، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، فلبسه، وحضر عند السلطان وعرفه أنه أكرهه على لبس الكلوتاه، فاجتمعت حوله الأمراء وانبسطوا معه كما هي عادتهم معه من الانبساط والضحك، وهم في ذلك وإذا صاحب حماة قد حضر، فتقدم الشيخ حسن وقال له يا خوند: إيش عملت معي؟ وقد أنكرت على الأمراء والفقراء يطالبونني على ذلك، فأنعم عليه بألف دينار، ولما حضر إلى دمشق عمل وقتا عظيما في زاوية الشيخ الحريري، وحضرت عنده مشايخ دمشق وفقراؤها. ثم عن السلطان أقام هناك أياما برسم الصيد والتنزه، ثم رجع إلى ناحية دمشق وأقام بها أياما، وفي تلك المدة زاد في إكرام طرغاى وألوص والأويراتية، وقربهم إليه جدا، ووعد لهم بمواعيد حسنة، فصار يلهج بذكرهم مع أكابر الأمراء ويبث شكرهم، وكان كثيرا ما يذكرهم لنائبه الأمير حسام الدين لاجين، وكان لاجين يستحسن جميع ما يصدر منه من القول والفعل، ثم يعرف الأمراء ما في نفس السلطان من الفعل إلى أن تحملوا كلهم عليه، فاتفقوا على خلعه. ذكر اتفاق الأمراء على خلع السلطان

وكان السبب في لذلك أمورا منها تقديم السلطان الأويراتية لكونهم من جنسه، ومنها عدم التفات السلطان إلى كلام الأمراء الكبار، ومنها تطاول مماليكه على الناس وخصوصا على الأمراء بالإساءة وقلة الأدب، فشرعت الأمراء عند ذلك في التدبير على خلعه، وانتهزوا الفرصة في هذه سفرة، واجتمع الأمير حسام الدين لاجين بالأمير سيف الدين بهادر الحاجب وغيره، واستوثق بعضهم بالبعض باليمين، وكذلك قراسنقر وبقية الأمراء، فصار كل منهم يخلو بأمير أو بخشداشه إلى أن وصل الأمر إلى البيسرى والأمير قفجاق، فاتفقوا كلهم على خلعه من غير قتله، وقصدوا مجرد خلعه عن المسلمين وإزالة ما نالهم من الضرر والفناء والغلاء وقلة الوفاء من النيل والمظالم من مماليكه والتفاته إلى جهة الوافدين من الأويراتية، ووقع اتفاقهم على ذلك عند خروجه من دمشق وقبل دخوله إلى مصر. وكان خروجه من دمشق في العشر الأول من محرم السنة الآتية، وما وصل إلى منزلة العوجاء إلا وقد اجتمعت قلوب سائر الأمراء على خلعه من الملك وتفريق حاشيته، فحين وصلوا إلى العوجاء ونزلوا، ونزل السلطان، ركبوا، فأول ما ركب نائب السلطان والحاج بهادر الحاجب ونشر كل منهما سنجقه، وكان بقى العلامة بينهم، فعند ذلك ركب الأمير قفجاق وقراسنقر وبيسرى وسائر الأمراء، وأول ما اصطلى بنار الحرب الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة، ولم يكن له همة غير مخيم الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق - لما كان يعلم من قوته وشدته - وكان مشهورا بالفروسية فخشى عاقبة أمره فجعله قصده، ثم لما ساق إلى خيمته سمع الأزرق وقوع الصوت وهيجان الخيل، فنهض عند ذلك من خيمته ينظر ما ذاك، فرأى موكب لاجين قد أقبلت، ورأى الخبل قد أدركته، وأنه ليس له مهلة أن يعتد وما قدر إلا على فرسه، فركب وأخذ شطفته التي يعتادها، فأدركته الخيل، وبقى لا يدري يقصد من، واحتاطوا به، وضربه مملوك يسمى طيبرس ويلقب بوجه الحسب، وكان من جلة المماليك السلطانية الذين فرقهم كتبغا على الأمراء، وكان المذكور وقع للأمير حسام الدين لاجين، ولما ضربه بالسيف حل عاتقه فوقع على الأرض قتيلا وكانت خيمته مجاورة لخيمة بتخاص، فلما رأى الغلبة في مخيم الأزرق أراد أن يركب فلم يمهلوه فقتل على باب مخيمه. وأما السلطان فإنه قد كان تخلف وجلس مع بعض خاصكيته، فسمع الطبلخاناة والغلبة أمر من يكشف الخبر، فرجع وقد اختبل مما رآه، فنهض السلطان بنفسه فنظر، وإذا الخيل قد أقبلت، وسناجق الأمراء قد نشرت، وكان عنده بعض الخبر من ذلك فإن الأمير بدر الدين أمير شكار كان ممن أنشأه السلطان وكبره في دولته وقربه حتى صار أمير شكاره وصاحب مشورته، وكان من مماليك الخزاندار نائب الدولة الظاهرية، وكان صاحب معرفة وتدبير، وكان قد تنسم بعض الخبر عند خروجه من دمشق، وعرف السلطان بذلك وحذره، فلم يعبأ به السلطان، ولم يعتقد صحة ذلك، فلما رأى ما رأى تحقق الخبر، فقام ولم يلحق غير لبس شاشه وقباء فوقاني، وركب فرسه، وركب معه من مماليكه مقدار عشرين نفسا كانوا قريبين منه، وركب من سلحداريته مملوك له يسمى سيف الدين تكلان، وخرجوا من المخيم وقصدوا نحو دمشق، ولحق أيضا الأمير بدر الدين أمير شكار، وقال له: يا خوند: ما قلت لك، ما سمعت مني، فقال: فات الذي فات، وما لحقوا أن يخرجوا من أطراف الخيم حتى أدركهم لاجين في موكبه، وسبق إلى السلطان حمدان بن صلغاى، وكان ممن أحسن إليه العادل في دولته، فلم يمكنه أمير شكار. وصاح عليه، وقال: ويلك هذا جزاؤه منك، فرجع عنه، وقصد موكب لاجين الإدراك بالسلطان، فمنعهم من ذلك وقال: ما قصدنا غير خلعه وهو خشداشى وبيني وبينه أيمان، ما أخونه في نفسه، غير أنكم إن أردتم فألحقوا بمماليكه، وبقى يسوق على مهله، فرجع إليه مملوك العادل تكلان السلحدار، وأراد أن يهجم على لاجين ويشغله على أستاذه أو يقتله أو يموت، فرآه لاجين وقد عرج نحوه، فتقدم فأدركه وضربه بالسيف، فجرحه في وجهه، وضرب هو أيضا لاجين، فجرح فرسه، ثم ضربه لاجين في ثلاث مواضع وجرح فرسه في أماكن عديدة، فوقع الفرس على الأرض ووقع تكلان، فقصدوا قتله، ومنعهم لاجين، وأمر بأن يحمل فحملوه، وهو مثخن بالجراحات، وقال: مثل هذا المملوك إذا قاتل عن أستاذه ما ينبغي أن يقتل.

ووقعت النهبة في الوطاق، وما جاء المغرب حتى رجعت الأمراء بأطلابها وسكنت الحال، ورجعوا إلى مخيمهم ونزلوا، وأخذت حاشية كتبغا في الهزيمة، واستمر كتبغا سائقا إلى أن وصل إلى دمشق ومعه عشرون مملوكا، ودخل دار السعادة في السحر، واجتمع بمملوكه أغرلو نائب الشام، وأخبره ما اتفق له مع لاجين نائبه والحاج بهادر، وكيف غدروا به بعد الوثوق بهم. وبلغ أهل دمشق حضوره وعلموا أنه ما جاء على هذه الهيئة إلا لأمر حصل. وكان قد وقع في نفوسهم له من الكره لأجل مصادرته إياهم، واجتمع على باب سعادة خلق كثير. ورأى أغرلو أن السكوت في هذا الموقف يؤول إلى الفساد، فاقتضى رأيه طلب الأمراء والمقدمين، فحضروا، وطلب القضاة أيضا فحضروا، وعرفهم بما وقع من لاجين في حق السلطان، وأنه ما اختار أن يعمل فتنة، ولا يسفك دما، وأنه قصدهم لما يعلم فيهم خيرا، ثم قال لهم: هل أنتم على اليمين التي حلفتم، وأنكم رضيتم بسلطنتي، أو أنتم أيضا غدرتم، فقالوا: نحن ما حلفنا لغيرك وما رضينا سلطانا غيرك، فقدموا المصحف وحلفوا له ثانيا بأنهم باقون على أيمانهم لا ينقضون ولا يغدرون. ثم أسرع السلطان في تفريق الأموال والنفقات في الجند، وقدر في نفسه أن يملك دمشق ويستمر سلطانا بها، ويستخدم عساكرها، كما فعل من تقدمه. ؟ ذكر بقية الحوادث: منها أن السلطان أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الخزندار، نائب طرابلس، وكان اعتقاله دون أربعة أشهر، ولما كان السلطان بدمشق عرفه الأمراء بأنه من مماليك الشهيد، وأكبر خشداشية السلطان، وكان السلطان قال لهم إنه كثير الشر والعربدة، وأنه سكر، وقيل: أستاذ داره، لما تحدثوا معه في خلاصه، سعى إليه واستتابه عن الشراب فتاب، وضمنته الأمراء، وأفرج عنه وأنعم عليه بمال من الخزانة وإقطاع مائة فارس. ومنها أنه وردت الأخبار في هذه السنة بإسلام قازان بن أرغون بن أبغا ملك المغول، والسبب في إسلامه أن وزيره نوروز كان من أكابر أمراء المغول، وله المنزلة الكبيرة، وكان يصحب المشايخ والفقراء، واطلع على كتب كثيرة، وعلم حقيقة دين الإسلام، ولما حصل له من القرب من قازان، وتوثق به قازان، وحكمه في مملكته، اتفق في تلك المدة وصول الشيخ صدر الدين بن محمد ابن حمويه الشافعي إلى نوروز، فتحدث معه، وأمره أن يستميل قازان إلى الإسلام، فاجتمع نوروز بقازان وتحدث معه في دين الإسلام، وبين له محاسنه، وما يحصل له من البركة، واستجلاب الرعية والتجار، ولم يزل به على ذلك إلى أن وافق على ذلك، وقال له: ينبغي أن يكون إسلامك على يد الشيخ صدر الدين المذكور، والشيخ علم الدين بن البرزالي، وكان عند نوروز، وكان كبير القدر، واتفق مع ذلك وصول الشيخ صدر الدين الجوينى بن شيخ الشيوخ ببغداد، وكان معظم القدر، صاحب علم ودين وبر، فاتفق الجميع، ودخلوا على قازان، فتلقاهم بالإكرام والقبول، وهداه الله إلى دين الإسلام، فأسلم على يدهم، وكان ذلك في العشر الأخير من شعبان، فعند ذلك أمر بالمناداة في أوردو برفع المظالم عن الناس، وإظهار شرائع الإسلام، وأمر بعمارة المساجد والجوامع، وصام شهر رمضان، وأسلمت معه جماعة من المغول، وكان له يوم الفطر عيد عظيم، وسمع الخطبة، ونثر على رأسه يوم صلاته في يوم العيد الذهب والفضة، وأمر أن تعمل له سناجق خليفتية، ورسم أن تخرب الكنائس والبيع، وقرر على اليهود والنصارى الجزية، وأقام الشيخ عنده يعلمه فرائض الإسلام، وقصد الشيخ الحج فجهزه، وسير معه نفقات كثيرة تعطى لأشياخ مكة وفقرائها. وشاع خبره في بلاد مكة وغيرها بأنه أسلم. ولما وصل الخبر بذلك إلى السلطان، جمع الأمراء لذلك وعرفهم، فلم يعجب ذلك بعض الأمراء الكبار، وأنكروا إسلامه، وأنه ربما يكون ذلك مكيدة على المسلمين ليطمئنوا ثم يمشى عليهم على غفلة منهم. ولما بلغ ذلك طرغاى وأصحابه الأويراتية أنكروه أيضا، وخطر لهم أنهم أشاعوا ذلك ليرغموهم على الإسلام، فلم يلتفتوا إلى ذلك القول. وقد ذكرنا أن ابن كثير ذكر إسلام قازان في السنة الماضية، وذكرنا طرفا منه.

ومنها أنه وقعت في هذه السنة أعجوبة، وهي أن بعض الأمراء بالقاهرة كان جالسا على باب داره، وإذا بامرأة فقيرة تسأل، وهي من أحسن الناس صورة، فاستوقفها، وقال للخادم: خذ هذه وادخل بها الدار، واطعمها حتى تشبع، وكان ذلك من قوة الجاه، فدخل بها الخادم، وأحضر لها رغيفا فأكلته، ثم أحضر ثانيا فأكلته، ثم أحضر ثالثا فأكلته، ثم قال الأمير: هاتوا لها زبدية طعام لأجل الدسم، فأحضروا لها خافقية كبيرة، فأكلت أكثرها، ثم استندت إلى الحائط لتستريح، فإذا بها قد ماتت، ووجدوا على كتفها جرابا مسحورة باقى ما فيه يدر صغير ورجله. ومنها أنه ظهر بدمشق قتل فاحش، فكان كل يوم يوجد اثنان وثلاثة مقتولين، ولم يدروا ذلك حتى أتى.. .. حتى حضر والي المدينة، وأرصد جماعة.... أبوابا للدروب، وبقى يركب طول الليل دابته ويدور البلد، والأمر في تزايد والأقاويل مختلفة، وفي بعض الليالي مسكوا فقيرا مولها فاعترف أنه هو الذي يقتل، فأخذوه وسمروه، فسكن الناس واطمأنوا. ومنها في العشر الأول من المحرم أشاع في دمشق حديث عن قاض قرية عسال من قرى دمشق، أنه تكلم ثور في القرية المذكورة، وهو أنه خرج ليشرب من ماء هناك ومعه صبي، فلما فرغ من شربه حمد الله تعالى، فسمعه الصبي، وحكى ذلك لمالك الثور، فأنكره، وخرج في اليوم الثاني سقيه مع الثور، فلما شرب حمد الله، وحدث بذلك الحاضرين هناك، ثم قال الثور أن الله كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدبا، ولكن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها بالخصب، وذكر أن النبي عليه السلام أمره تبليغ ذلك، وأنه قال له: يا رسول الله ما علامة صدقي عندهم؟ ، فقال: أن تموت عقيب الإخبار. قال الحاكي: ثم قدم الثور إلى مكان مرتفع فمات، فأخذ أهل تلك القرية من شعره للتبرك، ثم كفن ودفن. ومنها ما قال بيبرس في تاريخه: جردت إلى الإسكندرية، وكان قد بلغ زين الدين كتبغا قبل سفره إلى الشام أن العربان الذين ببرقة قد عبثوا بالمسلمين، وباعوا منهم جماعة للفرنج، وأن منصور بن روق كان الباعث على بيعهم بسبب الغلاء الذي عم تلك البلاد، وأحوج الأباء إلى بيع الأولاد، فوردت إلي مكاتبات العادل بالتوجه إلى برقة ومقاتلة هؤلاء إن كان ما نقل عنهم حق، وجرد الأمير سيف الدين بلبان الحبشي وأصحابه وجماعة من الحلقة، فعزمنا على التوجه إلى الجهة الغربية، وبرز من ثغر الإسكندرية، ونزلنا على تروجة، فبينما نحن عليها نازلون وللرحلة مزمعون، ورد البريد يخبر بخلع زين الدين كتبغا من الدست واستقرار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري في الأمر، ورسم لنا بالعود إلى القلعة، فعدنا في أوائل سنة ست وتسعين وستمائة. ومنها: أنه ولى القضاء بالديار المصرية على الطائفة الشافعية الشيخ تقي الدين محمد بن علي بن أبي العطايا القشيري المعروف بابن دقيق العيد، بعد وفاة القاضي تقي الدين عبد الرحمن بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، وكانت وفاته في نصف جمادى الأولى، وتولية المذكور في الحادي والعشرين منه. وفي نزهة الناظر: ولما مات ابن بنت الأعز اتفقت الأمراء والأكابر على تولية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وعرفوا السلطان دينه وعلمه، وأنه قد عرض عليه القضاء قبل ذلك مرارا فلم يقبل، فنزلت إليه الأمراء وسألوه فأجاب إليهم، وهو أول من لبس الصوف من القضاة في السلطنة. قال المؤرخ: وبلغني من شيخ الحديث فتح الدين بن سيد الناس أن ولد الشيخ قال للشيخ: يا سيدي كيف قبلت الولاية في هذا الوقت وقد كنت تأبى عنها؟ فقال له يا ولدي: وجب ذلك على من وجوه. أحدها: أنه ليس لي شيء يكفيني للعيال، والثاني: عندي كتب العلم فأحتاج أن أبيع الكتاب الذي يساوي مائة بخمسين درهما. والثالث: لم يبق لتولية القضاء من هو أحق مني بالولاية، فتعين على. ولما ولى كتب بخطه لسائر نوابه وهو يحذرهم وينذرهم ويخوفهم من الله، ونسخة الكتاب:

ذكر من توفي فيها من الأعيان

بسم الله الرحمن الرحيم الفقير إلى الله محمد بن علي " يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم - إلى - ما يؤمرون " " يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور "، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، وتحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا، فما أحد سواه مغبون، ولا سيما القضاة الذين تحملوا أعباء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهمم نحيفة، والله إن الأمر لعظيم، والخطب لجسيم، وإن خفى عنكم من ذلك فتأملوا كلام النبوة: القضاة ثلاثة. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تتأمرون على اثنين ولا تلين مال يتيم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هيهات جف القلم ونفذ أمر الله ولا راد لما حكم. وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده، واستسلم عثمان رضي الله عنه وقال: من أغمد سيفه فهو حر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والخزائن بين يديه مملوءة، من يشتري مني سيفي، وقطع الخوف نياط عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فمات من خشية الغرض، فاجعلوا أكبر همومكم الاستعداد للمعاد والتهيؤ للجواب للملك الجواد، فهو يقول " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ". هذه نصيحتي إليكم وحجتي عليكم إذا وقفت بين يدي الله تعالى. وفيها: بلغ النيل ثمانية عشر ذراعا وإصبعا واحدة. وفيها: حج بالناس من مصر الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصوري، ومن الشام الأمير سيف الدين بهادر العجمي، رحمه الله. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام العالم العامل العلامة مفتي المسلمين زين الدين أبو البركات المنجي بن الصدر عز الدين ابن عمر عثمان بن أسعد بن المنجى بن بركات بن المؤمل التنوخي، شيخ الحنابلة وعالمهم. ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث، وتفقه، وبرع في فنون كثيرة من الأصول والفروع والعربية والتفسير، وصنف في الأصول، وشرح المقنع، وله تعاليق في التفسير، توفى يوم الخميس الرابع من شعبان، وتوفيت معه زوجته أم محمد ست البهاء بنت صدر الدين الخجندى من غير مرض، فغسلا في وقت واحد وحملا إلى الجامع، وصلى عليهما عقيب الجمعة، ودفنا بسفح قاسيون في تربة واحدة شمالي الجامع المظفري. الشيخ الصالح إسرائيل بن علي بن حسن الخالدي. له زاوية خارج باب السلامة يقصد فيها للزيارة، وكان مشتملا على عبادة وزهادة لا يقوم لأحد من الناس ولو كان من كان، وعنده سكون ومعرفة، لا يخرج من منزله إلا للجمعة حتى كانت وفاته في النصف من رمضان، ودفن بقاسيون. قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل الحسن بن الشيخ الإمام الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله بن الشيخ أبي عمر المقدسي. سمع الحديث وتفقه، وبرع في الفروع والنحو واللغة، وتولى القضاء بعد بجم الدين بن الشيخ شمس الدين في أواخر سنة تسع وثمانين، وكانت وفاته ليلة الخميس الثاني والعشرين من شوال وقد قارب الستين، ودفن بمقبرة جده بالسفح. الشيخ الإمام العالم البارع الناسك أبو محمد بن أبي جمره المغربي المالكي. توفى بالديار المصرية في ذي القعدة، وكان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف، نهاء عن المنكر. الصاحب محيي الدين أبو عبد الله محمد بن بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النحاس الأسدي الحلبي الحنفي. ولد سنة أربع عشرة وستمائة بحلب، واشتغل وبرع، وسمع الحديث، وأقام بدمشق مدة، ودرس بمدارس كبار منها الريحانية والظاهرية، وولى القضاء بحلب، والوزارة، ونظر الخزانة، ونظر الدواوين، ونظر الأوقاف، ولم يزل مكرما معظما، معروفا بالفضيلة والإنصاف في المناظرة، محبا للحديث وأهله على طريقة السلف الصالح، وكان يحب الشيخ عبد القادر وطائفته، وكانت وفاته ببستانه بالمزة عشية الاثنين سلخ ذي الحجة، وقد جاوز الثمانين، ودفن يوم الثلاثاء مستهل سنة ست وتسعين وستمائة بمقبرة له بالمزة، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة. قاضي القضاة تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن بدر العلائي الشافعي. توفى في جمادى الأولى ودفن بالقرافة في تربتهم، رحمه الله. الأديب تقي الدين شبيب بن حمدان بن شبيب الحراني. مات بالقاهرة، وكان فاضلا، أديبا وشاعرا مجيدا، ومن شعره:

وافى يعللني والليل قد ذهبا ... فجلت في راحةٍ من راحة ذهبا طبيٌ إذا قهقه الابريق وابتسمت ... له المدام بكا الراؤوق وانتحبا مترطقٌ لم يقم بالكأس عرسٌ هنا ... إلا وراح بنور الراح مختضبا يجلو على ابن غمام بنت معصرة ... فقم لتشهد أن العود قد خطبا كبرت لما يدار الكأس في يده ... عجبا بتمثال ناء بحمل اللهبا كأنه والطلى قد كللت حببا ... بدرٌ لشمس الضحى قد قلد الشهبا أغن ينضو على العشاق ناظره ... سيفا من الغنج لا ينبو إذا ضربا ما هز من قده العسال في رهج ... إلا عدا قلب جيش الصبر مضطربا ساق أقام على ساق قيامتهم ... فبادروا نحو جنات الهنا غضبا في خفض عيش يجرون الذيول وكم ... قد رفعوا الصوت للراووق إذ نصبا وقال: ومهفهفٍ قسم الملاحة ربنا ... فيه فأبدعه بغير مثال فلخده النعمان روض شقائق ... ولثغره النظام عقد لآلى ولطرفه الغزال أحيا الهوى ... وكذلك الإحياء للغزالي الأديب شهاب الدين أحمد بن شمس الدين يوسف ابن قرمش. أحد كتاب الإنشاء بالقاهرة، كان عنده فضيلة تامة. الصدر الرئيس ضياء الدين إسماعيل بن الصاحب بدر الدين محمد بن جعفر الآمدى. توفى في السابع والعشرين من جمادى الأخرى منها، كان مشكور السيرة، محمود الطريقة، تولى نظر بيت المال، وديوان الأهراء والذخائر، وكان والده ناظر الدواوين بدمشق، وهم من بيت كتابة ورئاسة وأمانة وتقدم عند الملوك. الشيخ الإمام العالم العامل القدوة الزاهد بقية السلف عز الدين أحمد بن عمر ابن الفرج الفاروثى الشافعي الواسطي. توفى بواسط، وكان من السادة العلماء الصلحاء الأبدال، سمع من الشيخ شهاب الدين السهر وردى ولبس منه خرقة التصوف، وسمع على أكثر مشايخ العراق وديار بكر والحجاز، وكان يعظ ويفسر القرآن ويفتى، وله أحوال ومكاشفات ولما قدم من العراق إلى الشام في الدولة الظاهرية أعطى تدريس الجاروخية وإمامة مسجد ابن هشام، وكان يستدين على ذمته ويطعم الفقراء، وفي بعض الأوقات لا يكون معه شيء فيقلع بعض ثيابه ويعطى السائل، ومولده بواسط سنة أربع عشرة وستمائة، ومات في أوائل هذه السنة، ودفن برباط والده. الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن عبد الكريم الموصلي المعروف بالأثري القادري. مات بدرب القلى بدمشق، ومولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة بالموصل، وعاش مائة سنة. الفقيه العدل برهان الدين إبراهيم بن الشيخ عز الدين عبد الرزاق بن رزق الله الرسعنى المعروف بابن المحدث. مات في هذه السنة ودفن بقاسيون عند التربة الموفقية، سمع وحدث، وكان يشهد تحت الساعات بدمشق. وله نظم فمنه: سلامٌ من الصب المقيم على العهد ... على نازح دانٍ خلى من الوجد عن العين نائى وهو في القلب حاضرٌ ... بنفسي حبيباً حاضراً غائبا أفدى غدت أرضه نجدا سقى زهرها الحيا ... فأقضى المنى نجدٌ ومن حل في نجد أبيت إذا ما فاح نشر نسيمها ... لفرط الأسى أطرى الضلوع على وقد وإن لاح من أكنافها لي بارقٌ ... فسحب دموع العين تهمى على الخد كلفت به لا انثنى عن صبابتي ... به والجوى حتى أوسد في لحدى فيا عاذلى خلى الملامة في الهوى ... وكن عاذرى فاللوم في الحب لا يجدى فلست أرى عنه مدى الدهر سلوة ... ولا لي منه قط ما عشت من بد الشيخ الجليل كمال الدين عبد الله بن محمد بن نصر بن قوام الرصافي. مات في هذه السنة، ودفن بمقابر الصوفية، وكان رجلا خيرا صاحب رواية، ومولده سنة خمس عشرة وستمائة بالرصافة. القاضي شرف الدين موسى بن القاضي نجم الدين محمد بن سالم بن مسلم البالسى قاضي طرابلس. توفى في السادس عشر من ذي الحجة منها. العدل عماد الدين أبو العباس أحمد بن هبة الله بن نصر الله بن علي بن المفرج ابن سلمة الدمشقي.

توفى في هذه السنة بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة. القاضي الإمام العالم علم الدين أحمد بن إبراهيم بن حيدره القرشي، المعروف بابن القماح المصري. توفى في الثاني والعشرين من ربيع الأول منها ودفن بالقرافة، ومولده يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان سنة ثلاثين وستمائة، وكان من العلماء الفضلاء وله شعر مليح، فمنه قوله: إذا كنت جار المصطفى ونزيله ... فيقبح بي شوقي لأهلي وأوطاني أأرغب من دارٍ بها الخير كله ... وفيها هوى القاصي وأمنية الداني ولست بجافٍ أهل ودي وإنما ... إذا فزت بالباقي فما لي والفاني حلفت يمينا أنها خير منزل ... لأشرف نزال وأكرم جيران فيا رب بلغ من أحب وصولها ... ليزداد إيماناً كما ازداد إيماني الأديب الفاضل سراج الدين عمر بن محمد بن الحسين المصري الوراق. أديب الديار المصرية في وقته، وقد جاوز التسعين سنة، كان يسكن بسوق وردان بمصر، توفى في هذه السنة ودفن بالقرافة، وكان أديبا مكثرا متصرفا في فنون الشعر، حسن النادرة، وديوانه في سبعة أجزاء فمن أشعاره قوله: سألتهم وقد حثوا المطايا ... قفوا نفساً فساروا حيث شاءوا وما عطفوا على وهم غصونٌ ... ولا التفتوا إلي وهم ظباء وقال: قلت قومي إلى الفراش فأنه ... وتأنت وذاك منهن صعب وقال في شخص اسمه عرفات: اطنبوا في عرفات وغدوا ... يتعاطون له حسن الصفات ثم قالوا لي هل وافقتنا ... قلت عندي وقفةٌ في عرفات وقال: والله ما من خبرٍ سرني ... إلا وذكراك له مبتدا وطالما باسمك في خلوتي ... ناديت أوكلت حروف الندا وقال في شاعر: أنشدني شعرا به ... ظننت فاه مبعرا وقال لي كيف ترى ... قلت أرى مثل الخرا فقال اسمع غيره ... قلت كفى ما قد جرا وقال: ألهي قد جاوزت تسعين حجةً ... فشكرا لنعماك التي ليس تكفر وعمرت في الإسلام فازددت بهجةً ... ونورا كذا يبدوا والسراج المعمر وعم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني إن السراج منور وقال يصف بيته في الشتاء: وبيتي في الشتاء يكاد يبدو ... به جسدي لسكان الجحيم تصد الشمس عنا فيه ... حتى كأنا فيه أصحاب الرقيم ونفتح طاقنا ليزور حيناً ... فيحجبها ويأذن للنسيم وقال: لما رأيت البدر والشمس معا ... قد انجلت دونهما الدياجى حقرت نفسي ومضيت هاربا ... وقلت ماذا موضع السراج وقال: باهذه لا تجحدى دمي الذي ... شهدت عليك لنابه خداك وسيوف قومك لم ترقه وإنما ... أصل البلية كلها عيناك وقال: بنى اقتد بالكتاب العزيز ... وراح كبدي سعيا وراجا فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أبا وكوني سراجا وقال صلاح الدين الصفدي: كان السراج الوراق أديبا أجاد المقاطيع، كثير الغوص، جيد المقاصد، صحيح المعاني، عذب التركيب، متمكن القوافي، عارفا بالبديع، أجاد فنون الشعر، وكان حسن الخط، واختار ديوانه في مجلده سماه: لمع السراج، وكان بينه بين شعراء عصره مجاراة ومباراة، وكان أشقر، أزرق العينين، وكان يكتب الدرج لسيف الدين أبي بكر بن أسباسلار والي مصر، وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة، رحمه الله. الصدر الرئيس الكبير الفاضل صدر الدين محمد بن الشيخ الكبير الرئيس جمال الدين محمود بن عمر بن أبي المكارم بن حمدان الأنصاري المعروف بابن القباقبي.

مات بثغر صفد، ودفن بمغارة النبي يعقوب عليه السلام في تابوت، ونقله أهله فيما بعد إلى دمشق ودفن بسفح قاسيون بتربتهم عند أسلافه، خدم في كتابة الدرج بصفد، فم نقل إلى نظر القدس الشريف، فباشره، ثم أعيد إلى كتابة الدرج بصفد، فباشره إلى أن مات في هذه السنة، ولم يبلغ الأربعين سنة، وكان يكتب مليحا، وينظم شعرا. ومن شعره: وصالٌ ولكن ما إليه وصول ... وحال وعنها الدهر لست أحول وهجرٌ وتعذيبٌ ونوحٌ وأنةٌ ... وقلبٌ خفوق للغرام حمول ودمع وتبريح مديدٌ وكامل ... وسهدٌ وليلٌ وافرٌ وطويل وصبر على ما ليس يحمل بعضٌه ... فسلوان قلبي ما إليه سبيل أبا بدر تم بخجل الشمس في الضحى ... ولحظك أم سيفٌ يهز صقيل وثغرك أم ورد جنى مضاعفٌ ... وريقك أم شهدٍ حلا وشمول وقال: خلع الربيع على الرياض ملابساً ... منسوجةً من سائر الألوان من أخضرٍ نضرٍ وأصفر فاقع ... في أبيض يقق وأحمر قاني وقال في زهر السفرجل: بزهر السفرجل معنىً على ... جميع الزهور به يفضل يشم ويؤكل شكرا له ... وتلك تشم ولا تؤكل وقال: عيون المزن تبكي والقناني ... تقهقه فامزجا لي واسقياني مدام من عهد الروم لا بل لها ... من عهد نوح في الدنان وحثا الدور بالثاني فإني ... أحب الدور موصولا بثاني وهاتا يا خليلي انشداني ... بسيطا في عراقٍ وأصبهان بأصوات القيان فإن قلبي ... وسمعي عند أصوات القيان وإن أنا مت شكرا فاغسلاني ... بفضلة ما تبقى في الدنان وفي ورق الدوالي كفناني ... وفي الكرم أحفرا لي وادفناني وإن حاولتما تشييع نعشي ... فحثا بالمثالث والمثاني وقولا عند قبري مات هذا ... قتيل الراح سكرا والقناني الأديب الفاضل أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود العلامي المصري الشافعي. مات في هذه السنة ودفن بسفح المقطم، كان فقيها أديبا. وقال الشيخ شرف الدين الدمياطي أنشدني المذكور لنفسه: ومن رام في الدنيا حياة خلية ... من الهم والأكدار رام محالا وهاتيك دعوى قد تركت دليلها ... على كل أبناء الزمان محالا الشيخ الإمام العلامة ذو العيون نجم الدين أحمد بن حمدان بن شبيب ابن حمدان بن محمود الحراني الحنبلي. توفى في هذه السنة بالمدرسة المنصورية، ودفن بسفح المقطم، ومولده بحران سنة ثلاث وستمائة، وكان شيخ المذهب، وله معرفة بالأصول، ويد طولى في علم الخلاف والجبر والمقابلة، وهو صاحب كتاب الرعاية في الفقه، وهو كتاب مشهور بكثرة النقل، سمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي، والخطيب فخر الدين ابن تيميه، وابن روزبة، وغيرهم، وسمع بحلب من أبي خليل، وبدمشق من ابن صباح، ومحمد بن غسان، وعمر بن المنجي، وغيرهم، رحمه الله. السيد الحسيب النسيب الحافظ عز الدين أبو القاسم بن الإمام أبي عبد الله العلوي الحسيني المصري، ويعرف بابن الحلبي، نقيب الأشراف بالديار المصرية. مولده سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفى في السادس من المحرم، ودفن بالقاهرة. الأمير الكبير بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله المسعودي. صاحب الحمام بالمزة، وأحد الأمراء الكبار المشهورين بخدمة الملوك، توفى ببستانه بالمزة يوم السبت السابع والعشرين من شعبان منها، ودفن بتربته بالمزة. الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جندار وهو الأفرم الكبير. توفى في هذه السنة، وكان ذا سعادة كثيرة تدخل عليه من ملكه وإقطاعه كل يوم ألف دينار مصرية خارجا عن ثمن القمح والشعير والحبوب ونحو ذلك، ولم يزل مقدما في الدول، ولم يكن في البلاد الإسلامية بلد إلا وله فيه علقة إما ملك أو ضمان أو زراعة، وخرب الله جميع ما خلقه بالمحق، ولم يبق مع ورثته شيء حتى كان أولاده يستعطون من الناس، هذا مع قلة ظلمه وعسفه.

وفي نزهة الناظر: وكان من الأمراء الكبار الصالحية، قديم الهجرة في الدول، وكان شجاعا مقداما، وله غزوات كثيرة، وإذا عرض غزاة استخدم جماعة من الجند في سبيل الله، وكانت له سعادة ضخمة، وهي من كثرة زراعته، وإن كانت له زراعات في سائر الوجه القبلي والبحري، فإذا وجد مكانا خرسا اشتراه أو استأجره وعمره، وأعطاه الله في الزراعة نصيبا وافرا، واستأجر بلادا كثيرة في الوجه القبلي، وكل مكان يكون له في نشا يعمر فيه جامعا أو مسجدا، وإذا بلغه أمر جامع خراب أو مسجد خراب عمره حتى حصرت الأماكن التي عمرها قريبا من ثلاثمائة مئذنة، واتخذ له أملاكا بمصر، وعمارات على بحر النيل، وعمر بقوص مدرسة للشافعية، ومدرسة على ساحل البحر. قال المؤرخ: وحكى لي بعض مباشريه في البلاد أن غلاله ومتحصل زراعاته في كل سنة تنيف على مائتى ألف أردب من سائر الحبوب، وعمل في سنة الغلاء خيرا كثيرا، وكان يجمع الصعاليك على الخبز والطعام، ويبر الأيتام وأرباب البيوتات، وكان له طبقة عالية في سماع الحديث، وحكى عنه الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس شيخ الحديث أنه سمع عليه الحديث هو وجماعة من أهل الشام حضروا لطلب الحديث في سنة إحدى وثمانين وستمائة. وعند غلبة المرض عليه أوصى إلى أولاده أنه إذا توفى يخرجون طلبه وهي على عادتها، فالخيول ملبسه والسناجق منشورة ومماليكه ملبسون على جاري عادتهم عند الخروج إلى الغزاة والعرض بالأطلاب، ولما توفى عرفوا لاجين نائب السلطنة ما أوصى به، فقال لهم: افعلوا ما قال لكم من غير دق النقارات: وصول نائب السلطان وسائر الأمراء من القلعة، وغلقت مصر ذلك اليوم من أول باب مصر إلى دار سكنه بباب القنطرة، وجميع القضاة والفقراء كانوا مشاة في جنازته، وطلبه سائرة معه على الحالة التي يخرج فيها إلى الغزو غير أنه لا تضرب الطبلخاناة والبوقات. الأمير بدر الدين بيلك المحسني المعروف بأبي شامة. توفى في هذه السنة، كان متولى الكشف بالوجه القبلي، وكانت له حرمة وصولة ومهابة، وأتلف جماعة كثيرة من المفسدين في الوجه القبلي. الأمير بدر الدين لقلق المسعودي، توفى فيها بدمشق. الأمير علم الدين سنجر المسروري، متولى القاهرة. توفى في هذه السنة، وكان يعرف بعلم الدين الخياط، لقبه به أستاذه الذي اشتراه، وكان ذا شكل حسن، مهابا مصطنعا للناس بالخير في ولايته، عاقلا محتشما، متعقلا عما يبدو من الفواحش، رضى الأخلاق مع لطف وكرم، وكان له تولع بالشراب واجتماع الندماء اللطاف مثل السراج الوراق وشمس الدين الكحال أبي دانيال ونصر الحمامي، وله مكارم عليهم وقبول شفاعات ينالون بها إلى مقاصدهم، واتفق لهم معه مجاري كثيرة من الهزليات المضحكة يطول شرحها، فمن ذلك أنه شرب معهم في بعض الليالي، وكان ليلة الموكب، فقام من السحر وتوضأ، ولبس ثيابه وأخذ في لف شاشه على كلوتاته، فلما فرغ جعل يدير يده على الشاش ويمشيها، فقال له السراج الوراق: يا خوند ابصرها في التحاريس، فضحك علم الدين وأعجبه هذا القول، فقال: والله يا سراج الدين لقد أحسنت في هذا، وأمر له بعطية، وقد علم أن عادة الخياطين غزو الإبرة في عمامته حتى يجد الإبرة فيأخذها.

السنة السادسة والتسعين بعد الستمائة

وكان له حسن تأنى في أموره واصطناع المعروف، فمن أغرب ما حكى عنه أنه أقام زمانا يتوقع وقوع بعض أرباب البيوت إلى أن أتى إليه البعض فأخبره بأن بعض أولاد الأمراء في بستان ومعه فلانة، وكان يبلغه عنها من اللطف والطرافة والملاحة، وصبر إلى الليل وركب وحده ومعه مملوك صغير فجاء ودخل عليهم، فلما رأوه وجموا منه وخافوا، فقال لهم: لا تخافوا، وأسهم في الحديث وشرب معهم، ورأى من تلك المرأة أكثر مما وصفوه له عنها، فلما أراد أن يقوم قامت تلك المرأة فدخلت إلى مكان وخلعت جميع ما عليها من الحلى والفصوص وغيرها وجمعت الجميع في منديل وخرجت إليه فوضعته بين يديه واعتذرت أن الأمير حضر عندنا على غفلة، وهذا يكون عندك على سبيل الرهن إلى حين أحضر إلى خدمتك ومعي ما يصلح لضيافتك، فلحقه من ذلك خجل وجياء، وجعل يحلف إلى أن قامت فكشفت رأسها وحلف صاحب المجلس بالطلاق، فعند ذلك أخذه وخرج من عندهم، وأقام على ذلك مدة لم يحضر إليه أحد، ثم أنه طلب بعض الصاغة وقال له: قوم ما في هذه الأشياء من الذهب والفضة، فأخذ الصائغ في النظر إليها، ثم قال يا خوند: هذا جميعه زغل معمول من الرصاص قد أطلى بالذهب والفضة، فتعجب الأمير من ذلك ودهش ورده إلى مكانه، وبقى متفكرا في هذه الحيلة من تلك المرأة، فحنق عليها وقال: ما لهذه إذا وقعت إلا أن تهتك، ولا آمن بعد هذا امرأة، فمضى على هذا بعض الأيام، ثم أنه ذات يوم كان جالسا؛ فإذا خادم له قد دخل عليه وقال له: إن على الباب امرأة محتشمة ومعها خادم وهي تريد أن تجتمع بالأمير، فأذن لها بالدخول فدخلت وعليها آثار الحشمة، فأجلسها وقال لها: لعل حاجة، فأخرجت كيسا فيه ثلاثمائة دينار، وقالت يا خوند: عندك رهن، وقد أحضرت المبلغ الذي عليه، فعرف الأمير في ذلك الوقت أنها تلك المرأة التي عملت ما عملت، فعند ذلك أمر الأمير فأخرجوا قماشها قطعة بعد قطعة، ثم قال لها: من صاغ لك بهذا المصاغ؟ قالت: شخص أعرفه. قال: فهل علمت ما فعل؟ قالت: نعم. قال: فما حملك على مثل هذا؟ قالت: فعلنا هذا لمثل من لا يخاف الله. قال: فلم أعطيتني هذا؟ قالت: خشيت أن يحملك الغيظ بقلة الوثوق من النساء في مثل هذه الواقعة ولا تقع منك رحمة في غيرنا ولا تستر أحدا بعدنا. فقال الأمير: جزاك الله عن مروءتك خيرا، فلا والله لا يتبعني منك شيء، وحلف بالطلاق على ذلك، فأخذت الذهب وذهبت، ثم أصبحت وسيرت له قماشا له صورة. الملك السعيد إيلغازى بن الملك المظفر فخر الدين قرا أرسلان الأرتقى، صاحب ماردين. توفى في هذه السنة وكانت مدة مملكته بها دون ثلاث سنين، وتولى عوضه أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي، رحمهم الله تعالى. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والتسعين بعد الستمائة استهلت هذه السنة والسلطان هو الملك العادل كتبغا، وكان مسافرا في الشام - كما ذكرنا -، ثم إنه توجه قاصدا الديار المصرية في أوائل المحرم، ولما وصل إلى ماء العوجاء ركب الأمراء - على ما ذكرنا - وجرى ما ذكرنا من هروب السلطان كتبغا إلى دمشق، ثم إنهم اتفقوا وهم بمنزلة العوجاء بعد سفر كتبغا على إقامة الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري سلطانا. ذكر سلطنة لاجين المنصوري قال بيبرس في تاريخه: في المحرم من هذه السنة اتفق الأمراء - وهم بمنزلة العوجاء بعد مفر كتبغا - على سلطنة لاجين المنصوري، فأقاموه ولقبوه بالمنصور، وشرطوا عليه شروطا فالتزمها، منها: أن يكون كأحدهم لا ينفرد برأي عنهم، ولا يبسط يد أحد من مماليكه فيهم. وكان الأعيان الحاضرون في هذه المشورة والمتفقون على هذه الصورة: الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري، والأمير سيف الدين قفجق، والأمير سيف الدين بهادر الحاج أمير حاجب، والأمير سيف الدين كرد، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير عز الدين أيبك الخزندار والأمير جمال الدين أقوش الموصلي، والأمير مبارز الدين أمير شكار؛ والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار، والأمير سيف الدين سلار، وسيف الدين طقجى، وسيف الدين كرجى، وعز الدين طقطاى، وسيف الدين برلطاى، وغيرهم.

ولما حلف لهم على ما شرطوه، وعاهدهم على ما طلبوه، قال له الأمير قفجاق: نخشى أنك إذا جلست في المنصب تنسى هذا التقرير، وتقدم الصغير من مماليكك على الكبير، وتخول منكوتمر مملوكك في التحكيم والتدبير، فتتصل، وكرر الحلف أنه لا يفعل، وعند ذلك حلفوا له، ورحلوا نحو الديار المصرية. فلما وصل إلى القلعة واستقر قراره رتب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائبا، والأمير سيف الدين بهادر الحاج حاجبا، والأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار، واستمر الصاحب فخر الدين بن الخليلي بالوزارة برهة ثم عزله بالأمير شمس الدين سنقر المعروف بالأعسر، ورتب في نيابة السلطنة بدمشق سيف الدين قفجاق، وتوجه إليها، ودخلها في السادس عشر من ربيع الأول منها. قال ابن كثير: ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد العادل زين الدين كتبغا، وهو في نواحي حمص يتصيد، ومعه نائب الديار المصرية حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري وأكابر الأمراء ونائب دمشق الأمير سيف الدين غرلو العادلي، ولما كان يوم الأربعاء ثاني المحرم دخل العادل إلى دمشق ضحى من نواحي حمص، وصلى الجمعة بالمقصورة، وزار قبر هود عليه السلام، وصلى عنده، وأخذ من الناس قصصهم بيده، وجلس بدار العدل يوم السبت، ووقع على القصص هو ووزيره فخر الدين بن الخليلي، ثم حضر السلطان دار العدل يوم الثلاثاء، ثم صلى الجمعة بالمقصورة يوم الجمعة، ثم صعد في هذا اليوم إلى مغارة الدم وزارها، وتصدق بجملة من المال، ثم خرج بالعساكر المنصورة من دمشق سحرة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم وخرج معه الوزير ابن الخليلي، وفي يوم الأربعاء آخر يوم من المحرم منها تحدث الناس بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر وتخلف وتشويش، فغلق باب القلعة، وركبت طائفة من الجيش على باب النصر وقوفا. وقال: فلما كان وقت العصر وصل الملك العادل إلى القلعة في خمسة أو ستة من مماليكه فجاء إليه الأمراء، وحضر ابن جماعة وحسام الدين الحمامي، وجدد تحليف الأمراء فحلفوا له، فخلع عليهم، وأمر بالاحتياط على نواب الأمير لاجين وحواصله، وأقام العادل بالقلعة هذه الأيام. وكان الخلف الذي وقع بينهم بوادي فحمة يوم الاثنين الثاني والعشرين من محرم هذه السنة، وذلك أن الأمير حسام الدين لاجين قد واطأ جماعة من الأمراء في الباطن بعزل العادل، ووثق منهم، فأشار على العادل - حين خرجوا من دمشق - أن يستصحب معه الخزانة، وذلك أنه لا يتقوى بها إن رجع إليها، وتكون قوة له في الطريق على ما قد عزم عليه من الأمور. فلما كانوا بالمكان المذكور قتل لاجين الأمير سيف الدين بتخاص، وبكتوت الأزرق النابلسي، وأخذ الخزانة بين يديه والعدد، وقصد ديار مصر، فلما سمع العادل بذلك خرج من الدهليز، وساق جريدة إلى دمشق، فدخلها كما ذكرنا، وتراجع بعض مماليكه كزين الدين أغليك وغيره. وأقام السلطان بالقلعة لا يخرج منها، وأطلق كثيرا من المكوس، وكتب بذلك تواقيع، وقرئت على الناس، وغلا السعر جدا. ولما دخل لاجين إلى مصر دخلها في أبهة عظيمة، وتابعه الأمراء، وملك عليهم، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة العاشر من صفر، ودقت البشائر، وزينت البلد، وخطب له على المنابر، والقدس، والخليل، والكرك، ونابلس، وصفد، وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق، وقدمت الجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير سيف الدين كجكن، فلم يدخلوا البلد، بل نزلوا بميدان الحصى، وأظهروا مملكة المنصور لاجين صاحب صاحب، وركبت إليه الأمراء طائفة بعد طائفة، وفوجا بعد فوج. فقوى أمر المنصور وضعف أمر العادل. فلما رأى انحلال أمره قال للأمراء: هو خشداشي، وأنا وهو شيء واحد، وأنا سامع له مطيع، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة حتى تكاتبوه، وتنظروا ماذا يقول. وجاءت البريدية بالمكاتبات تأمر بالاحتياط على الطرق، وعلى الملك العادل، وبقى الناس في هرج وأقوال مختلفة، وأبواب المدينة مغلقة سوى باب النصر وباب القلعة أيضا، والعامة حول القلعة حتى سقط منهم طائفة في الخندق، فمات بعضهم. وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين ودقت البشائر بذلك بعد العصر، ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى: " قل اللهم مالك الملك " الآية.

وأصبح الناس يوم الأحد فاجتمع القضاة والأمراء، وعزلوا العادل بدار السعادة، وحلفوا للمنصور لاجين، ونودى بذلك في البلد، وأن يفتح الناس دكاكينهم، واختفى الصاحب شهاب الدين وأخوه زين الدين المحتسب، فعمل الوالي ابن الشهابي حسبة البلد، ثم ظهر زين الدين فباشرها على عادته، وكذلك أخوه شهاب الدين. وسافر الأمير سيف الدين أغرلو، وسيف الدين جاغان إلى الديار المصرية يعلمان بوقوع التحليف على ما رسم به. وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة العاشر من صفر، وشق القاهرة في سادس عشرة في أبهة الملك، وعليه الخلعة الخليفتية والأمراء بين يديه مشاة، وقد استناب بديار مصر الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري. وخطب بدمشق للمنصور لاجين أول يوم من ربيع الأول، وحضرت القضاة المقصورة، وشمس الدين الأعسر، وكجكن، وأزدمر، وجماعة من أمراء دمشق، وتوجه القاضي إمام الدين القزويني، وحسام الدين الحنفي، وجمال الدين المالكي إلى مصر مطلوبين، وقدم الأمير حسام الدين أستاذ دار السلطان وسيف الدين جاغان من جهة السلطان، فحلف الأمراء ثانية، ودخلوا على العادل إلى القلعة ومعهم بدر الدين أبي جماعة وكجكن فحلفوه أيمانا مؤكدة بعد ما طال بينهم الكلام بالتركي، وذكر في حلفه أنه راض بما يعينه له من البلدان أي بلد كان، فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة صرخد. ودخل سيف الدين قفجاق المنصوري على نيابة الشام إلى دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الأول ونزل بدار السعادة، عوضا عن سيف الدين أغرلو العادلي، واستقر كتبغا بصرخد، وكتب له منشور إقطاعا له، ولم يتعرض إليه أحد، فسلمت له نفسه وأهله وأولاده ومماليكه وألزامه. وفي نزهة الناظر: لما تكمل الدست للاجين في السلطنة طلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وأمره أن يركب البريد ويذهب إلى العادل كتبغا في دمشق، ويجتمع بالأمراء والمقدمين والجند، ويعرفهم أن لاجين تسلطن، وأنهم يحيطون به ولا يمكنوه من الخروج إلى مكان آخر، فلما وصل اجتمع بالأمراء والأكابر وعرفهم بالذي أمر به لاجين، وكان جميعهم يميلون إلى لاجين ويحبونه من أيام نيابته عليهم، فوافوا كلهم متفقين على ما أمر به لاجين، وكان اتفق في اليوم الثالث من دخول سنقر الأعسر حضور الأمراء الذين كانوا مجردين إلى سيس وفيهم الأمير سيف الدين كجكن، وهو من أمراء الشام، والأمير حسام الدين الأستاذ دار، وهو من أمراء مصر، وكان الخبر وافاهم بحمص، وكان الأمير حسام الدين صاحب رأي وتدبير، وكذلك الأمير كجكن واتفق رأيهما مع رأي سنقر الأشقر إلى أن ركبوا ودخلوا إلى العادل وصحبتهم قاضي القضاة ابن جماعة، فلما تلاقوا بكى كتبغا وبكى هؤلاء أيضا، وشرع كتبغا يخبرهم بما وقع من لاجين في حقه، وشكى من الأمراء أيضا وأظهر شكوى عظيمة، وظهر منه تخضع وذلة حتى رحموه وبكوا بكاء كثيرا، وأخذوا يتلطفون به في الحديث، ويترققون له، ويظهرون الحزن والتأسف له. ويناسب هذه الحالة قول الشاعر: وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا أمر عاتب القدرا وأخذ الأمير حسام الدين يقول: إن الأيام دول، والله يعطى ملكه من يشاء، وما بقى الأمر إلا دخولك تحت طاعته، وهو خشداشك، فإنكم من بيت واحد، ومماليك أستاذ واحد، وإذا بلغه دخولك في طاعته فعل منك جميع ما تختاره، ونحن نضمن لك كل ما تقصده، وتكتب إليه، ويأتي الجواب إن شاء الله بما تختاره، فقال: أنا ما بقيت أريد غير سلامة رأسي وولدي وأهلي، وحيث اختار أن أكون فيه يعلمني بذلك، ويبعث عائلتي، وأنتم تعلمون ما عملت مع هذا الرجل من أول الزمان إلى آخره، وأقل ما يكون أن أكون أنا وعائلتي في الحياة مستورين، فتوجعوا كلهم من كلامه وشكايته، ثم أحضروا سائر القضاة وخلع نفسه من الملك، فحلف وحلفوا كلهم، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، فخطب باسمه ودعى له وقرأ رئيس المؤذنين " قل اللهم مالك الملك " الآية، فتناكب الناس وضجوا بالدعاء للملك المنصور لما سبق لهم من المحبة له.

ذكر إخراج الناصر من مصر إلى كرك

وفي ذلك اليوم انحط سعر الغلة عشرة دراهم من الغرارة، وكان زاد السعر يوم دخول العادل، وكذا زادت أسعار بقية الأشياء، ثم رجعت إلى ما كانت عليه، ثم أخلوا مكانا لكتبغا في القلعة ورسموا على أغرلو مملوكه وجميع حاشيته، ثم كتبوا إلى المنصور بجميع ما وقع عليه الاتفاق، وسألوه في آخر الكلام قبول الشفاعة في كتبغا، وأنه خشداشه على كل حال، وأنه أذعن لطاعته، وكان أول من حلف له عند وصول الخبر، وأرسلوا نسخة اليمين أيضا. فلما بلغ إليه ذلك فرح، وعرف الأمراء وقرأ الكتاب عليهم، ثم قال: كتبغا ما له ذنب، ولولا مماليكه ما جرى عليه شيء من ذلك، ولكن الأمور بتقدير الله تعالى، ثم كتب له تقليدا بنيابة صرخد، وكتب إلى الأمراء بدمشق أنه أجاب إلى سؤالهم، وأرسل التقليد مع مملوك له يسمى جاغان، وبعث معه أيضا تقليد الوزارة لتقي الدين توبة، وكان ممن يلوذ بخدمته، وأمر بحضور الأمير علم الدين الدويداري وصحبته القاضي حسام الدين الحنفي، وأمر لإمام الدين القزويني بقضاء دمشق، عوضا عن ابن جماعة، واستقر ابن جماعة خطيبا وناظر الأوقاف. وخلع على الأمير سيف الدين قفجاق واستقر نائب دمشق، وعلى الأمير شمس الدين قراسنقر واستقر نائب السلطان بمصر، وأمر لقفجاق أن يروح على البريد، وتقدم قدامه جاغان بالتقاليد، وخلع على الأمير سيف الدين الحاج بهادر أمير حاجب على عادته، وعلى الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار واستقر أمير جاندار، وخلع على الأمير سيف الدين سلار واستقر أستاذ دار، عوضا عن بتخاص. وتباشرت الناس بسلطنته، وانحطت الأسعار، وكثر الجلب، ورجع كل شيء إلى ما كان عليه، وتواترت الغلال من الأقاليم، وكثرت المواشي، والفواكه، والسلطان أيضا شرع في الإحسان للرعية والجند والأمراء، وأمر بتجهيز النفقات، وأخذ في تأمير مماليكه، فأمر منكوتمر، وجاغان، وبهادر المعزى، وبهادر الجوكندار، وسيف الدين بيدو، وأيدغدى شعير، وسيف الدين بالوج، وجمال الدين أقوش الرومي، وغيرهم من الطبلخانات والعشرات، وأفرج عن الملك المجاهد وخلع عليه، وشفع هو عنده في مملوك أبيه علاء الدين قطلوبوس، فقبل شفاعته، وخلع عليه، ورسم بنزوله دار والده المجاورة لدار الملك المنصور، وطلب بعد ذلك الصاحب فخر الدين ابن الخليلي وأمره أن لا يظلم أحدا، ولا يجور على الناس، ولا يرمي عليهم رماية، ولا يفعل شيئا إلا بما يقتضيه الشرع الشريف، ويسلك الطريق الحميدة، ثم خلع عليه، وكذلك أمر لناصر الدين الشيخي الشاد وشرط عليه ما شرط على الوزير. ؟ ذكر إخراج الناصر من مصر إلى كرك اتفق المنصور مع الأمراء على إخراج الناصر محمد بن قلاون من مصر، وقال لهم: إن هذا صغير وقد انحصر من منع الركوب والطلوع والنزول، والمصلحة أن يكون هو ووالدته في الكرك عند الأمير جمال الدين نائبها، يركب إلى الصيد والتنزه، فوافقت الأمراء على ذلك، وطلبوا الأمير سيف الدين سلار وعز الدين الحموي لا لا السلطان وعرفهما ما قصده، ثم نهض السلطان بنفسه إلى القاعة التي فيها والدة الناصر، فجلس وطلب الطواشى وعرفه أن يسلم على والدة الناصر ويخرج الناصر إليه، فردت السلام وأخرجوه، فأكرمه وأجلسه على ركبته، وشرع في تطييب خاطره، وعرفه أن يسيره إلى مكان الصيد والتنزه، والركوب كيف ما اختار هو ووالدته، وترقق له، وعرف والدته أنه ما فعل بالملك العادل ما فعله إلا ليكون نائبا عنه إلى حين يكبر ويصلح للملك، فهو الآن نائب عنه، ولما سمعت والدته بذلك أجابت إلى كلامه، وقرر سفره صحبة بهادر الحموي، والأمير سلار، والأمير تمربغا رأس نوبة، وأمر أن يكون مملوكه أرغون الدويدار صحبته ومعه عشرون مملوكا، ففرح الناصر بذلك ولا سيما وكان قد وجد حصرا عظيما من أولاد العادل وإهانة ونكدا.

ذكر القبض على الأويراتية

وكتب لاجين أيضا لجمال الدين نائب الكرك، وعرفه بوصول الناصر إليه، وأنه إذا وصل إليه يكرمه ويحترمه، ثم إنه سفره في الليل وأعطى له ألف دينار وتشريفا، وكتب كتابا إلى نائب الكرك، وذكر فيه أنه نائب عنه إلى أن يبلغ، وأنه ما فعل بالعادل ما فعله إلا لأجله، ثم إنه لما وصل إلى الكرك نزل إليه النائب وتلقاه وأكرمه، وطلع به، فأجلسه مكان جلوسه، ووقف هو والأمراء بين يديه، ومد له سماطا عظيما، وقرر عنده سائر ما يحتاج إليه الملك من أرباب الوظائف، وأقام الأمير سلار عنده ثلاثة أيام، ثم عاد، وقصد تمربغا عوده، فمنعه من ذلك وعرفه نائب الكرك أنه قد ورد مرسوم بإقامته بالكرك مع أستاذه في خدمته، فامتثل المرسوم وأقام عنده. ذكر القبض على الأويراتية قد تقدم ذكر حضورهم ووصولهم إلى الديار المصرية، وكيف حصل لهم الحظ الوافر والتقرب عند العادل، وأنه قدمهم على أكابر الأمراء لكونهم من جنسه، وكان قد اتفق أن العادل شرب معهم يوما قمزا وجرى بينهم حديث البلاد وكيف اتفق بينهم وبين قازان، وذكروا أنهم ما قصدوا بلاد مصر إلا أنهم يملكونها ويجعلونها وطنا، وأنهم كانوا يعتقدون أن ليس لها عسكر يمنع، وأن عسكرها عامة وعرب وأكراد، فلما نظروا إلى عساكرها من الأجناس المختلفة والأشكال المتباينة وأنهم لا يحصون ندموا على حضورهم غاية الندم، وأنهم لو أمكنهم الرجوع ما أقاموا، وكانوا أخذوا في مثل ذلك وأشباهه، وكان بعض الأمراء حاضرا في ذلك الوقت يشرب القمز مع العادل، فسمع جميع ما قالوا وأخبر به سائر الأمراء، وبلغ الخبر إلى النائب لاجين وقرا سنقر وكان هذا هو السبب لاتفاق الأمراء على كتبغا مع ما حصل من مماليكه. ولما تسلطن لاجين طلب الأمراء واستشارهم في أمر هؤلاء الأويراتية، فاتفق رأيهم على مسك كبارهم وتفريق البقية في الشام ومصر، فقبض على مقدمهم طرغاى وككتاى وألوص وجماعة من كبارهم وسفروا إلى الإسكندرية وكان آخر العهد بهم، ولا يعرف لأحد منهم قبر غير طرغاى فإنه معروف بمقابر إسكندرية، وأما ألوص فإنه أفرج عنه وأقام بمصر، ثم فرق المنصور بقيتهم، فمنهم من خدم عند الأمراء والأكابر، ومنهم من ذهب إلى الشام ورغب في استخدامهم الأمراء لأنه ما جاء طائفة من الشرق إلى مصر أجل منهم، وانتشرت منهم جماعة في حسينية القاهرة وكانوا قد نزلوا بها واتخذوا بها مساكن، فطابت أحوالهم، وكثرت محاسنهم، وانتشرت منهم بنات حسان لا يوصف حسنهن فرغبت فيهن أكابر الناس من الأمراء والأعيان والتجار وغيرهم. ذكر بقية ما جرى في هذه السنة منها: أن المنصور أخرج جميع من كان في السجون في الإسكندرية ودمياط وغيرهما من الأمراء والمماليك، فلما وصلوا إلى البحر رسم بإخراج المماليك المسجونين بخزانة البنود وخزانة شمائل وسائر السجون، وكان طلوعهم في يوم واحد، وغلقت المدينة للتفرج عليهم، وكان يوما مشهودا، وعند طلوعهم إلى السلطان فكوا قيودهم، وقبلوا الأرض، ولبسوا التشاريف، وكان فيهم مثل الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغى، والأمير سيف الدين الدكز، وكانوا خمسة وعشرين أميرا، ونزل كل واحد إلى مستقره، واستقر بالقلعة من كان عادته بها.

قال صاحب النزهة: بلغني من دواردار السلطان أنهم لما دخلوا عليه وخلع عليهم وخرجوا من بين يديه، نظر إليهم وإلى حسن أشكالهم وإلى المهابة التي فيهم لحقه ندم كثير وصار في فكر عظيم، وأن دواداره فهم مقصوده. وقال له يا خوند: والله لقد علمت فيهم خيرا وإحسانا. قال: فرفع رأسه إلي وقال: أخطأنا بإخراج هؤلاء جملة، ولو كان بالتدريج لكان أحسن، وما بات أحد منهم تلك الليلة إلا وقد ملأ اصطبله من الخيل والبغال وحملت إليهم الكساوي والأشياء المفتخرة من خشداشيتهم، وبلغ ذلك السلطان فازداد ندما على إخراجهم فطلب مماليكه وعرفهم بذلك، وقال لهم: كيف نعمل ولا يمكن الرجوع من ذلك والندم لا ينفع، فاتفق رأيهم على إخراج بعضهم إلى القلاع، وإخراج الأمراء الذي يخشى من فسادهم، ثم بعد أيام طلب الأمراء واستشارهم في أمرهم، وقال لهم: إن هؤلاء كثيرون، وفيهم أمراء، وما ثمت شيء في هذا الوقت من الإقطاعات، واتفق رأيه معهم على أن يكون الأمير ركن الدين بيبرس نائب السلطنة بالصبيبة، والأمير برلغى أميرا بدمشق، وفلان وفلان في طرابلس وصفد، واستقر أمرهم على ذلك، ولما بلغ هذا الاتفاق على هؤلاء، دخلوا على الأمراء وعلى خشداشيتهم على أن يدخلوا على السلطان في أمرهم وأنهم ما يختارون إلا أن يكونوا في ركاب السلطان، فتكلمت الأمراء بذلك، فأجاب إليهم ورسم بإقامتهم، وأخرج لهم الإمريات والإقطاعات بالتدريج. ومنها: أنه عزل الصاحب فخر الدين بن الخليلي عن الوزارة، وخلع على الأمير سنقر الأعسر واستقر في الوزارة، وهي وزارته الثانية، وسلم إليه الصاحب فخر الدين وأخذ خطه هو وأتباعه بمائة ألف دينار، كذا ذكره ابن كثير في تاريخه. وفي نزهة الناظر: كان فخر الدين ابن الخليلي صادر الأمير سنقر الأعسر ونكل به نكالا كثيرا على ما تقدم، ولما وزر الأعسر خشى فخر الدين على نفسه من النكال والإخراق، فسير إلى الأمير سلار ودخل عليه، وعرفه أن الأعسر متى تمكن منه حصل عليه كل سوء، وكان بين فخر الدين وبين سلار صحبة أكيدة من أيام السلطان الملك الصالح، فإنه كان ناظر ديوانه وسلار أمير مجلس، وكان يخدمه ويهاديه، ثم سير إليه خط الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يذكر فيه: من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تميم الداري وذريته هذا ما أعطاه محمد رسول الله لتميم الداري وذريته جيروم والمرطوم وبيت عيون وبيت إبراهيم وما فيهن وسلمت ذلك إليهم ولأعقابهم، فمن أذاهم أذاه الله ومن لعنهم لعنه الله، شهد بذلك عتيق ابن أبي قحافة وعمر بن الخاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وكتبه علي بن أبي طالب، فلما رأى سلار ذلك الخط أخذه ودخل على السلطان وعرفه أن هذا الرجل من أهل بيت كبير وذرية صالحة موصاة بوصية النبي عليه السلام وأخرج له الخط، فلما رآه السلطان نهض إليه وقبله ووضعه على رأسه وقال: السمع والطاعة، قبلت أمر رسول الله عليه السلام، ثم طلب الأعسر وعرفه بذلك، فأخذ الوزير في منع هذا وقال: لم يعقب تميم الداري، وربما يكون هذا مفتعلا، فقال السلطان: ما بقى إلا مكان للتعرض إلى هذا بوجه من الوجوه، وإن كان ما تقول صحيحا، فخرج الوزير من عنده وطلب ابن الخليلي إليه وأكرمه، وقال له على شيء يحمله يرضاه، فاتفق معه على حمل ثمانين ألف درهم وأفرج عنه. ومنها: أنه رسم بالإفراج عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، وكان قد منع الخروج والركوب وعن أمر يدخل إليه، وكانوا أخلو له برجا، وإلى الآن يعرف ببرج الخليفة، فلما حضر عنده قام إليه وأكرمه وأنعم عليه بأشياء كثيرة، ورسم أن يخلى له موضع بالكبش ويقيم فيه هو وعائلته، وأجرى له ولعائلته رواتب وجميع ما يحتاجون إليه، ورسم له أن يخطب يوم الجمعة ويؤم بالناس ونزل في موكب عظيم والأمراء والحجاب في خدمته، وكان يوما مشهودا، وجاءت إليه القضاة والمشايخ، ثم خطب يوم الجمعة خطبة بليغة. ومنها: أنه أمر بتجديد عمائر جامع أحمد بن طولون وترميم ما تشعث من جدرانه. قال ابن كثير: وندب لعمارته علم الدين سنجر الدواداري وأفرد له عشرين ألف دينار عينا من خاص ماله، فصرفت عليه، ورتب له أملاكا وجدد له أوقافا.

وفي نزهة الناظر: وكان السبب لذلك ما ذكرناه عندما اتفق للسلطان وقراسنقر من قتل الملك الأشرف، وأن السلطان لما هرب جاء ودخل جامع ابن طولون وأقام فيه ثلاثة أيام هي إقامته فيه نذر لله تعالى إن خلصه من هذه الورطة أن يعمر هذا المكان ويجدده، وأن يعمل فيه من الخير جهده، واتفق ما اتفق من تقلبات الدهر إلى أن تسلطن وصار له الحكم في سائر الأمور تذكر ذلك النذر، وكان قد طلب الأمير علم الدين الدواداري من دمشق وخلع عليه وولاه نيابة دار العدل لما كان يعلم من خيره وعلمه ودينه، وكانت له معه صحبة قديمة، وفوض إليه أمر العمارة وشراء الأوقاف، وأوصى إليه أن لا يسخر فيه صانعا ولا فاعلا، وأن لا يشتري شيئا إلا بقيمته، وأول ما اشترى من الأماكن لوقفه منية الدونة من الأعمال الجيزية، واشترى له أرض ساحة إلى جانبه وحكرها، ورتب فيه الدروس في المذاهب الأربعة، ورتب المقرئين وقراء المصحف والبوابين والوقادين، ودرس الأطباء، ومكتب الأيتام، وغير ذلك من جميع المعروف. وجدد أيضا المسجد الأخضر بين القرافتين، ومسجدا آخر بجوار الليث بن سعد رضي الله عنه، وجدد مواضع كانت قد هدمت من مساجد الفتح. ومنها: أنه ورد إليه كتاب الشريف أبي نمى صحبة قواده يهنئ بولاية السلطان ويعرض بذكر كتبغا بشيء من شعره: لقد نصر الإسلام بالملك الذي ... تزعزع من شم الملوك الشناخب حسام الهدى والدين منصوره ... الذي رقى بسماء المجد أعلى المراتب مضى كتبغا خوف الحمام وقد ... أنت إليه أسود الجند من كل جانب ومنها: أن السلطان المنصور قبض على الوزير شمس الدين الأعسر، وكانت توليته الوزارة في جمادى الأولى، وقبض عليه في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، وكان السبب لذلك كبره وتجبره وتعاظمه على الأمراء ومماليك السلطان، وبلغ كبره إلى أنه لا يرد الجواب للسلطان إلا بعد زمان وتأنى، ومع هذا كان يجيبه بما لا شفاء له، وكان قصده أن يسلك في الوزارة مسلك الشجاعي مع أرباب الأقلام والمتعممين، ولذلك ما كان يقبل شفاعة أحد من الأمراء، وكان بخرق بقصادهم ونوابهم ويتعاظم عليهم، فلذلك رماه الله على أم رأسه.

ومنها: أنه قبض على الأمير قراسنقر النائب والسبب لذلك أمور منها: أنه أراد أن يقيم مملوكه منكوتمر عوضه في النيابة، ومنها: أنه خشى من اتفاق الأمراء البرجية الذين أخرجهم من الحبس مع قراسنقر النائب؛ ومنها: أن قراسنقر أسرف في الطمع والحمايات وتحصيل الأموال على أي وجه كان، واتفق في نيابته شكوى كثيرة في دار العدل بقصص رفعت في حق مماليكه، وكان أكثر الشكاوى في حق كاتبه شرف يعقوب فإنه كان تحكم في بيته تحكم الملاك، وكان صاحب مال كثير ومماليك كثيرة وحفدة وأتباع، وكان متولعا باللهو والطرب واجتماع الندماء عنده، وكان يتكرم عليهم مكارم كثيرة وإنعام جسيم، وكان تعلق قلبه بامرأة بعض أرباب البيوت، فاتفق أنه سكر ليلة فدعاه سكره إلى أن أرسل وراءها، فعز عليها الحضور في تلك الليلة، فسير من أحضرها كرهاً وزوجها معها، فلما حضر زوجها أخرق به فضربه وأهانه، ثم إن الرجل قدم قصة للسلطان وذكر فيها ما جرى عليه وعلى امرأته، فقوى ما في قلب السلطان من جهته، فطلب أستاذه قراسنقر وأغلظ عليه في القول وقال له: لا بد من تأديب كاتبك وخروجه من عندك، ولما خرج قراسنقر من عند السلطان طلب كاتبه وأعطاه القصة، فقرأها، وأنكرها، ولم يكترث بذلك لا هو ولا قراسنقر، وصار السلطان بعد ذلك يذكر ذلك للأمراء، ويعد مساوئ هذا الكاتب، ويتكلم من ظلم قراسنقر، وظلم حاشيته إلى أن اتفق رأيه بحضور الأمير بدر الدين بيسرى وعز الدين الحموي وسنقرجاه الظاهري والحاج بهادر الحاجب على قبضه، ثم قال له البيسرى: يا خوند إذا مسكت هذا ما تريد نائبا غيره فقال: استنيب مملوكي منكوتمر، فسكت الجميع عند ذلك؛ بل وجموا عند ذكره، ثم قال السلطان ما سكوتكم عند ذكرى منكوتمر فقال البيسرى: يا خوند مملوكك منكوتمر شاب قوي النفس، حاد الخلق. وهذا المنصب يريد رجلا ثقيل الرأس، طويل الروح، يحسن الحكم والسياسة. وقال الحاج بهادر: يا خوند الأمراء كلهم ما يخشون إلا من تولية منكوتمر، وأنت قد كنت شرطت على نفسك مع الأمراء حين توليت السلطنة أن لا تولى منكوتمر أمرا، ولا مملوكك جاغان، ووقعت اليمين على ذلك، وأخذ يذكر ما وقع من ذلك عند سلطنته في العوجاء، ولما سمع السلطان ذلك منهم قال: حتى ننظر غير هذا. وخرجت الأمراء من عنده وقد تمكن في قلبة الغيظ من ذلك، ثم أحضر منكوتمر وخشداشيته من المماليك وأخبرهم بالذي وقع مع الأمراء، ثم قال: هذا منهم يدل على أني محكوم على في سلطنتي، وما خرجوا من عنده حتى اتفقوا معه على أن يفرق الأمراء إلى كشف الأقاليم ولا يؤخر عنده إلا من يريد مسكه والقبض عليه. فلما أصبح أمر بكتابة أوراق بذلك، فعين الأمير سيف الدين طغريل الأيغاني لكسف الشرقية، والأمير سنقر المساح لكشف الغربية، والأمير بدر الدين بيسرى لكشف الجيزية، وأمره أن يكون قريبا من المدينة ويعدى للخدمة أيام الاثنين والخميس، ويتصيد هناك ويتنزه، وبعد أيام قليلة خرجت الأمراء كل واحد إلى جهته. ثم بعد ذلك طلب كرجى وكان قد قدمه على المماليك السلطانية وعرفه المقصود، وأمره أن يتفق مع الأمير سيف الدين طقجى وناصر الدين منكلى التتري على مسك أمراء عينهم عند عبورهم للخدمة. ولما دخلت الأمراء إلى السلطان نهض هؤلاء فمسكوا قراسنقر النائب، والحاج بهادر، وعز الدين الحموي، ومسكوا أيضا ممن كانوا خارج الخدمة سنقرجاه الظاهري، والأمير أقوش، وعبد الله، وكورى، والشيخ علي، وقيدوا الجميع وحطوهم في الزرد خاناه، وأمر السلطان أن يخلى قاعة قريبة منه ويحط فيها قراسنقر، ويحمل إليه كل ما يحتاج إليه، ثم أمر بمسك كاتبه وعقوبته واستخراج أمواله وأموال أستاذه، وكتب أيضا إلى نائب الشام بإيقاع الحوطة على سائر موجوده وموجود الأمراء الذين مسكهم معه. ثم في اليوم الثاني يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة منها طلب منكوتمر وخلع عليه بخلعة النيابة وخرجت سائر الأمراء في خدمته، ووقف الأمير سيف الدين كرت أمير آخور حاجبا مكان الحاج بهادر، ثم رسم منكوتمر بإعادة الصاحب فخر الدين الخليلي إلى الوزارة، وعزل ناصر الدين الشيخي من شد الدواوين وخلع على شمس الدين شيخوه الحلبي وتولى عوضه شاد الدواوين، وسلمت إليه حاشية قراسنقر وكان يستخرج منه الأموال، وأوصى منكوتمر الوزير على أن يعاقب كاتب قراسنقر عقوبة الموت.

وقال بيبرس في تاريخه: استقل منكوتمر بالنيابة وأظهر العظمة والمهابة، وكان كالمعيدى في دمامة شكله وقباحة فعله، وسلم إليه أستاذه القياد، ووكل إليه تدبير البلاد والعباد، فبسط يده ولسانه وقلمه، واحتجز الأموال والتحف والهدايا واللطف، وأسرف غاية السرف، وأظهر من التكبر والتجبر والصلف، واستصغار الأكابر واحتقار الأصاغر ما نفر عنه الخواطر وبغضه إلى البوادي والحواضر، ولم يتقيد بما يجب من الآداب، ولا سلك سبيل الصواب، ولا علم مصرع الكبرياء، وسوء مغبة الخيلاء. ولله در القائل محذرا للإنسان من الزهو، ومنبها له من الوقوع في هذا السهو، حيث يقول: يا نفس ذا الكبرياء من أين ... ألست من مخرج السبيلين أبوك بالأمس كان من حمأ ... وجيفة أنت بعد يومين أقل ما ابتليت لاغيه ... بغائط في النهار وقتين إن تعسر فأنت هالكةٌ ... أو تيسر فرهن قولين ومن الحوادث في هذه السنة، ما ذكره صاحب نزهة الناظر، وهو عبور العسكر الحلبي إلى ماردين على سبيل الغارة والسبب الموجب لذلك أن السلطان كان بينه وبين صاحب ماردين واقعة من أيام نيابته الشام أوجبت ذلك، وأيضا وقع بين صاحب حلب وصاحب ماردين كلام بسبب مملوك ابتاعه صاحب ماردين من التجار وضع نائب حلب صفته، فسير إليه يطلبه منه، فأبى، ثم إن السلطان أرسل إلى نائب حلب وأمره أن يختار من أمراء حلب وعسكرها جماعة معروفة ليغيروا على ماردين، فجرد الحلبي والخطيب وابن العيثاني وجماعة من عسكر حلب معروفين، وجرد من خيار مماليكه ستين مملوكا ونحو خمسمائة فارس، فركبوا وساروا إلى أن بقيت بينهم وبين ماردين ليلة واحدة، وكانوا كلما دخلوا ضيعة من ضياع ماردين لا يأخذون منها شيئا ولا يتعرضون إلى رعيتها، وإذا سألوهم يقولون إنا قاصدون مكانا بالقرب منكم، وبلغ صاحب ماردين مجيئهم وأنهم ما شوشوا على أحد من بلاده، فسير إليهم الإقامات فاطمأن من جهتهم إلى أن كانوا بالقرب منه وركبوا في الليل وما طلعت الشمس إلا وقد أوقعوا الغارة في الرمض، ووقع الصوت في أهلها فاندهشت الناس، ووقع النهب واقتحموا سائر الحانات والبيوت. وكان الملك المنصور قد عمر مكانا للتنزه سماه الطور؛ وقد ذكره صفي الدين الحلى في شعره. من نفحة الطور لا من نفخة الصور ... ... وهي قصيدة طويلة. وسمع صاحب ماردين الصياح فطلع إلى أعلى القلعة فنظر ... .. ... العسكر قد أحاط بكل مكان، ونهبوا الحريم، واخربوا المستنزه، وكان قد غرم عليه أموالا عظيمة وعمر إلى جانبه مكانا آخر وسماه الفردوس. قال صاحب التاريخ، في خبر هذه الغارة، أنه رأى صاحب ماردين واقفا على قدميه، وعليه قباء أحمر مزركش، وهو يضرب يدا على يد، ويصيح على العسكر، ويشير بيده إليهم، ويقول لهم: لا تخربوا بستاني، واستمرت الغارة إلى آخر ذلك اليوم، وكان الثاني من شهر رمضان. وهذه الغارة هي التي أوجبت حضور قازان، لأنه استفتى من العلماء في أمر قتال أهل الإسلام الذين هتكوا الحريم، وسبوا الأولاد، وسفكوا الدماء واستباحوا الأموال، ولما عادوا فعلوا في الضياع أعظم مما فعلوه في الربض. ومنها ما ذكره ابن كثير: وهو أن السلطان أرسل إلى الملك الأشكرى بالقسطنطينية بإرسال أولاد الملك الظاهر إلى ديار مصر، فجهزهم الأشكرى في مركب من مراكب الفرنج إلى ثغر الإسكندرية، وخرجوا من ظلمة البلاد الرومية إلى نور البلاد الإسلامية، وهم نجم الدين خضر وأخواته وأمه وأم سلامش، وأما سلامش فإنه توفى بتلك البلاد كما ذكرنا، فأحضرته والدته مصبرا، ودفنته بتربتها في مصر، وسأل نجم الدين خضر أن يتوجه إلى الحجاز، فأجاب سؤاله، وجهزه بما يحتاج إليه من مال وزاد وهجن وجمال، ولما عاد سكن القاهرة. ومنها ما ذكره بعض المؤرخين، وهو أنه ظهر بالديار المصرية فأر، وأتت على الغلات والزروع، وكان ظهوره على وجه الحصاد، فكان يسابق الحصادين إلى الزرع، ولم يحصل من الزرع في تلك السنة إلا اليسير. ومنها أنه وصلت خلع إلى أمراء دمشق والمقدمين وأعيان الدولة والمتولين، فلبسوها، وعدتها ستمائة خلعة.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفيها بلغ النيل إلى خمسة عشر ذراعا ونصف ذراع ولم يبلغ الوفاء، وخشى عاقبته إن أسرع بنزوله، وذكر أنه كسر من غير وفاء، ثم مسك من النقص إلى أن بلغ الله به النفع. وفيها حج بالناس من الديار المصرية الأمير سيف الدين كرتيه المنصوري، وحج بالناس من الشام الأمير عز الدين كرجى. ذكر من توفي فيها من الأعيان قاضي القضاة الحنابلة هو عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي الحنبلي. سمع الحديث، وبرع في المذهب، وحكم بديار مصر، وكان مشكور السيرة، توفى في صفر، ودفن بسفح المقطم، وحكم بعده شرف الدين عبد الغني ابن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر الحراني. الشيخ الصالح المقرئ جمال الدين عبد الواحد بن كثير بن ضرغام المصري، ثم الدمشقي، نقيب السبع الكبير والغزالية. وكان قد قرأ على السخاوى، وسمع الحديث، وتوفى في أواخر رجب، ودفن بالقرب من قبة السيخ رسلان، رحمه الله. الصدر الكبير شرف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي ابن جعفر البغدادي السامري. واقف السامرية التي إلى جانب الكروسية بدمشق، وكانت داره التي سكن ودفن بها، ووقفها دار حديث وخانقاة، وكانت وفاته يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان، وكان كثير الأموال، حسن الأخلاق، معظما عند الدول، له أشعار رائقة، ومبتكرات فائقة، وكان ببغداد له حظوة عظيمة عند الوزير ابن العلقمى، وامتدح الخليفة المستعصم بالله وخلع عليه خلعة سوداء سنية، ولما أخذت التتار بغداد قدم إلى دمشق، فحظى عند صاحبها الملك الناصر، وصارت له عنده أعلى مكانة، فحسده أرباب الدولة، فشرعوا ينقبون عليه وعلى وجيه الدين بن سويد، فعمل الأرجوزة وذكر فيها جميع ... ... وادي دمشق وأخضرها ... ... على الملك الناصر، وأولها: يا سائق العيس إلى الشام ... وقاطع الوهاد والآكام مدرعا مطارف الظلام ... كبارق يلمع في غمام وقيت حوادث الأيام فلما سمعها الملك الناصر صادرهم جميعهم، وحصل للناصر بسببها مال عظيم. ومن شعره: أترى وميض البارق الخفاق ... قائدي إلى أهل الحمى العراقي ولعل أنفاس النسيم إذا سرى ... يحكى لوعة مغرم مشتاق أحبابنا ما آن بعد فراقكم ... أن يتهنى محبكم بتلاق بنتم فضنت بالرقاد نواظري ... أسفا وجادت بالدموع مآقي أجريت من جفني على أطلالكم ... دمعا غدا وقفا على الاطلاق أتراكم ترعون حيا رعتم ... أدواؤه بقطيعة وفراق بين الدموع وحر نار أضالعي ... عذبت بالاحراق والاغراق بالله يا ريح الشمال تحملي ... مني سلام الواله المشتاق وإذا مررت على الديار فبلغي ... أهل الكئيب بكل ما أنا لاق فهناك لي رشأ أعن مهفهف ... يصمى القلوب بأسهم ورقاق فإذا انثنى فضح القنا وإذا رنا ... سفكت لواحظه دم العشاق ويزين غصن القد منه ذؤابة ... وكذا الغصون تزان بالأوراق أأبيت ملسوعا بعقرب صدغه ... ويضن من فيه بالدرياق يا من أحل دمي وحرم وصله ... ووفيت لما خان في الميثاق صل أو فصد فلست أخشى حادثا ... والصدر نجم الدين حي باق الصاحب الصدر الذي أقلامه ... يجرين بالآجال والأرزاق وكان الصاحب بهاء الدين بن حنا قد صادره وأخذ منه ثلاثين ألف دينار في دولة الظاهر، وصادره الشجاعي في دولة المنصور وأخذ منه مائتى ألف درهم، وبقى عليه ديون كثيرة، وطباعه كما هي ما تغيرت، ولا غير ملبوسه ولا ترك هزله ومجونه وهدايا إلى نواب السلطنة وأعيان الدولة وإيثاره للفقراء، وآخر ما بقى له قاعة جعلها خانقاة وتربة كما ذكرنا، ووقف عليها مزرعة بالشاغور وبقايا من أملاكه، ولما مات مملوكه أقوش كانت له حصص في مواضع وقفها أيضا على خانقاته. العدل الرئيس نفيس الدين أبو الفدا إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن إسماعيل بن سلامة بن علي بن صدقة الحراني، ثم الدمشقي.

كان أحد عدول القسمة بدمشق، وولى نظر الأيتام في وقت، وكان ذا ثروة، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة وسمع الحديث، ووقف داره دار حديث، وهي التي تسمى النفيسية التي بالرصيف، وكانت وفاته يوم السبت بعد الظهر الرابع من ذي القعدة منها، ودفن بسفح قاسيون. الشيخ الإمام العالم البارع الفاضل عفيف الدين عبد السلام بن محمد بن مزروع البصري، نزيل الحرم الشريف النبوي. ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة، ومات في هذه السنة، ودفن بالبقيع، وكان عند الأمير عز الدين شيحة - صاحب المدينة - بمنزلة الأب والوزير، وعرض عليه وزارته فأبى، وكان يرسله في مهماته إلى مصر والشام والعراق، وجاور بالمدينة مدة خمسين سنة، وحج أربعين حجة. وله نظم، فمنه قوله: إليك رعاك الله لا زلت منعما ... ومن غير الدهر الخؤون مسلما كتبت ولولا حب ساكن طيبةٍ ... لوافاك شخصي دون خطى مسلما ولكنني أصبحت رهن صبابةٍ ... بجيرة سلع والعقيق متيما ولى بالنقا لا زلت جار أهيلةٍ ... قديم هوى في حبة القلب خيما وبين ثنيات الوداع إلى قبا ... لقلبي أسرارٌ أبت أن تكتما وبالحرم المأنوس آنست نسمة ... لأنعمى بها آنست سلمى وكلثما وكم فاح لي من طيب طيبة نعمة ... ألذ من الإثراء لمن كان معدما وكم حزت من فضل بمسجد أحمدٍ ... وبالروضة الزهراء كم نلت أنعما أروح وأغدو بين قبر ومنبر ... قلوب الورى شوقا تطير إليهما أقوم تجاه المصطفى ومدامعي ... على الخد تجرى فرحة لا تندما فلى كل يومٍ موسمٌ متجددٌ ... بقرب رسول الله يتبع موسما لعمري هذا الفخر لا فخر من غدا ... يرى مغرقا في الظاعنين ومشيما ولم أك أهلاً للوصال وإنما ... تطفلت تطفيلا فألفيت منعما وجاورت خير العالمين محمدا ... أبا القاسم الهادي العظيم المعظما أعز الورى جاها وأغزرهم نداً ... وأوسعهم حلما وأمنعهم حما فلا بدلت نفسي بطيبة غيرها ... إلى أن يوارى اللحد مني أعظما وله: طلبت سواكا منك يا غاية المنى ... وما لي قصد في السواك سواكا كذاك أراك قد أردت تفاءلا ... لعلي من بعد البعاد أراكا الصدر الرئيس الفاضل الأديب نور الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الضيف ابن مصعب الدمشقي. مات في هذه السنة ببستانه بسطرا، ودفن بسفح قاسيون قبالة المدرسة الأتابكية، كان فاضلا في النحو واللغة، وكان تجرد وهو شاب مع الفقراء الحريرية، وسافر إلى مصر وغيرها من البلاد، وكان من رؤساء دمشق. وله نظم مليح، ومن شعره ما كتبه إلى الأمير علم الدين الدواداري وهو: هل شمت بالشام برق لاح من أضم ... على المقطم من شوقي إلى العلم ومنزلي بين وادي النيربين إلى ... سفح البنفسج لا بالضال والسلم طوراً على جانبي ثورا نناشدني ... ورق الحمائم بالأسجاع والنغم وتارةً حول باناسٍ وفائضةٍ ... تجرى إلى بردى بالبارد الشيم وفي المقاسم أنهارٌ جداولها ... تجرى إلى الغوطة الفيحاء بلا قدم وحسن ربوتنا مع فضل معبدها ... يجاب فيه دعاء داع ومستلم مواطن هي مرباى ومرتبعى ... ودار لهوى وإخواني وملتزمى كم قد قطعت بها والدار تجمعنا ... من صفو عيش بطيب الوصل مبتسم منازل تشبه الجنات منظرها ... إن لم تكنها لما فيها من النعم لكنها تشتكي شوقٌ أضر بها ... إلى أميرٍ كثير الجود والكرم جمال الدين إبراهيم بن الشيخ شمس الدين أبي الحسن علي بن شيخ السلامية. مات ليلة الأربعاء غرة ربيع الأول منها، ودفن يوم الأربعاء بمقابر باب الفراديس، كان فاضلا أديبا، ومن شعره:

ومن يكن الرحمان أدنى محله ... وأعطاه دون العالمين مواهبا فلا طرفه يكبو ولا سيف عزمه ... مدى الدهر ينبو قوةً ومضاربا فلا زال هذا الدهر طوع يمينه ... ولا انفك للأعداء ما عاش غالبا عز الدين أبو الفضل أحمد بن الشيخ شمس الدين المسلم بن محمد بن المسلم ابن المكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن القيسى. مات في السادس من ربيع الأول، ودفن بقاسيون، ومولده في عاشر صفر من سنة أربع وعشرين وستمائة، سمع إبراهيم الخشوعي، وأبا نصر الشيرازي، والفخر الأربلي، وحدث، وكان منقطعا عن الناس، مواظبا على الذكر وحضور الجماعات. الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن محمد الفارسي، المعروف بالأيكى. مات يوم الجمعة الثالث من رمضان منها، ودفن بمقابر الصوفية، كان إماما عالما، ولى مشيخة الشيوخ بالديار المصرية مدة، ودرس بزاوية الغزالي بدمشق مدة، ولم يزل معظما موصوفا بالفضل والعلم إلى أن مات، رحمه الله. الشيخ عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن القاسم بن عثمان بن عبد الوهاب البابصرى البغدادي الحنبلي. مات في هذه السنة، ودفن بمقابر الصوفية بدمشق، ومولده ببغداد في صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة، سمع من جماعة بدمشق، وكان فاضلا، وله شعر حسن ومعرفة بالتاريخ. ومن شعره: قعدت في منزلي حزينا ... أبكي على فقد نور عيني عاندي الدهر فيه حتى ... فرق ما بينه وبيني وبان عصر الشباب عني ... فصرت أبكي لفقد ذين الشيخ الفاضل أبو الحسن بن عبد الله بن الشيخ غانم بن علي النابلسي. سمع من عبد الدائم، وعمر الكرماني، وكان صالحا، كثير التقشف، حسن المحاضرة، متواضعا، خيرا، مات يوم الأربعاء الرابع من ذي القعدة منها، ومولده بدمشق في شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. وله شعر حسن فمنه: هي النظرة الأولى جرت في مفاصلي ... شغلت بها في الكون عن كل شاغلي وأصبحت في وجدي فريد صبابة ... جنوني لا يخفى على كل عاقل أنزه طرفي أن أرى في خيامها ... سواها وسمعي عن حديث العواذل وأكتم ما بي من هواها صيانة ... فيظهر تأثير الهوى في شمائلي لها بالحمى عن أيمن الحمى منزل ... أعظمه من بين تلك المنازل سلام على تلك الخيام وأهلها ... ومن حل فيها من مقيم وراحل أسكان ذاك الحي أين ترحلوا ... بقلب محب ضاع بين المحامل سألتكمو ردوا الفؤاد فإنه ... متاع لأيام الحياة القلائل أجيراننا بالخيف إن دام هجركم ... ولم تسمحوا لي منكم بالتواصل ألا فابعثوا لي من حماكم رسالة ... تكون إلي قلبي أعز الرسائل ولا تبعثوها في النسيم فإنني ... أغار عليها من نسيم الأصائل الشيخ الإمام المسند، شيخ بغداد وسندها، كمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن عبد اللطيف بن محمد بن عبد الله بن وريده البزاز، عرف بالفويرة الحنبلي، المقرئ المحدث. توفى في هذه السنة، ودفن بباب حرب ببغداد، ومولده ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة، سمع ابن ضرما، ومحمد بن الحسن، وعلي بن يوسف الحمامي وأجازه ابن طبرزد، وابن سكينة، وهو آخر من أدى عنهما، وقرأ القراءات بالروايات على الفخر الموصلي، وأجازه أيضا أحمد بن الحسن العاقولي، وكان شيخ المستنصرية. تاج الدين علي بن الصاحب فخر الدين إسماعيل بن إبراهيم ابن أبي القاسم أبي طالب بن سعيد بن علي بن سعيد بن كسيرات المخزومي. مات في مستهل ذي الحجة من هذه السنة بطرابلس، ومولده في مستهل ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة، كان فاضلا أديبا، مليح الشعر، فمن شعره قوله: يقولون الغداة تموت وجدا ... فقلت لهم ورب الأخشبين لقد سربلت ثوب الفصل قسرا ... على رغم النوى لم أخش بيني شهاب الدين أحمد بن عثمان بن أبي الرجاء بن أبي الزهر بن السلعوس التنوخي.

السنة السابعة والتسعين بعد الستمائة

مات في هذه السنة، ودفن بمقبرة الباب الصغير في الثامن عشر من جمادى الأولى منها، وكان قد ولى النظر على جامع دمشق في وزارة أخيه شمس الدين، وكان مشكور السيرة في نظره، سمع من عثمان بن عوف، وابن عبد الدائم. الشيخ الصالح الزاهد العابد الخاشع الناسك نجم الدين أبو علي الحسن، المعروف بالشاورت الدمشقي. كان في مبدأ أمره كاتبا، ثم ترك ذلك وتزهد، وكانت له كرامات ومكاشفات وأشياء من علم الحرف وغيرها. الشيخ الفاضل شرف الدين أبو السماح عبد الكريم بن محمد بن محمد بن نصر الله الحموي المعروف بابن المغيزل، وكيل بيت المال بحماة. مات بها يوم السبت الرابع عشر من المحرم، ومولده في سنة ست عشرة وستمائة بحماة، سمع ببغداد الكاشغرى، وابن الخازن. الأمير حسام الدين كوسا الحاجب. كان من الأجواد الأخيار، توفى في هذه السنة. الأمير عز الدين أزدمر العلائي، أخو الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري. توفى في هذه السنة، كان من الأمراء الأعيان، والشجعان المشهورين. الخاتون الجليلة نسب خاتون بنت الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ماتت بدمشق، ودفنت عند والدها بقاسيون، سمعت إبراهيم بن خليل، وخطيب مردا، وابن عبد الدائم، وحدثت، وكانت صالحة خيرة. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والتسعين بعد الستمائة استهلت، والخليفة: الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي. وسلطان البلاد: الملك المنصور لاجين السلحدار المنصوري، ونائبه بمصر: منكوتمر، وبدمشق: سيف الدين قبجق، وبحلب: الأمير سيف الدين بلبان الطباخي. وقاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية: الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد. وقاضي القضاة الحنفية: حسام الدين الرازي، ثم ولى ابنه جلال الدين مكانه بدمشق في عاشر صفر وركب بالخلعة والطرحة، وهنأه الناس. وقاضي المالكية بدمشق: جمال الدين الزواوى. وقاضي الحنابلة: تقي الدين سليمان بن حمزة بن الشيخ أبي عمر المقدسي. وخطيب الجامع الأموي: بدر الدين بن جماعة. ثم طلب حسام الدين الرازي إلى مصر، فأقام عند السلطان لاجين وولاه قضاء القضاة الحنفية بمصر، عوضا عن شمس الدين السروجي، واستقر ولده جلال الدين بالقضاء في الشام، ودرس بمدرستي أبيه الخاتونية والمقدمية، وترك مدرستيه القصاعية والشبلية. وفيها: اتفق للشيخ تقي الدين قاضي القضاة مع منكوتمر نائب السلطان كلام أوجب أنه عزل نفسه من القضاء، والسبب لذلك أن تاجرا توفى وادعى رجل أنه أخوه، فأرسل منكوتمر إليه وعرفه أن المتوفى أخو هذا الرجل، ولم يخلف غيره، ولا وارث غيره، ولم يسمع منه الشيخ تقي الدين، فغضب بسبب ذلك منكوتمر، فدخل بينهما الأمير سيف الدين كرت الحاجب فقال لمنكوتمر: إن هذا الرجل كبير القدر ورجل صالح ولا ينبغي أن نسمع عن مولانا نائب السلطان إلا خيرا وأنا أذهب إليه ونرجو من الله أن ينقضى الشغل، فذهب إليه وهو جالس في محكمته وسلم عليه ووقف، فنظر إليه الشيخ ورد سلامه، وقام له نصف القيام، وأشار إليه بالجلوس فجلس، ثم قال: يا سيدي ولدك يسلم عليك ويقبل يدك فقال: وأي الأولاد فقال: الأمير سيف الدين منكوتمر، فشرع الشيخ يقول: منكوتمر، منكوتمر، ويكررها، ثم قال: ما مقصوده؟ فعرفه القضية مع تلطف وترقق. فقال في جوابه: إش يبنى على شهادته لهذا الرجل. فقال له: يا سيدي ما هو عندكم عدل. فقال: سبحان الله، وتمثل بقول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند وشرع يكررها ثلاث مرات، وفي الآخر قال: والله متى ما لم تقم عندي بينة شرعية ما حكمت بشيء، قم بسم الله، فنهض الحاجب من عنده وخرج. قال صاحب النزهة: وكنت أنا ووالدي مع الحاجب المذكور في ذلك الوقت. فقال لوالدي وهو خارج من عند القاضي: والله هذا هو الإسلام، ولما اجتمع بمنكوتمر تلطف معه وقال له: هذا الشغل ما ينقضى إلا إذا طلع القاضي إلى دار العدل واجتمع به مولانا النائب، فلعله إذا رأى الأمير يستحي منه، فسكن من غيظه بعض شيء.

ذكر خروج العساكر إلى سيس

فلما كان يوم دار العدل واتفق خروجه من عند السلطان والنائب جالس في الشباك، فخرجت إليه الحجاب واحدا بعد واحد يقولون له: الأمير يختار أن يجتمع بخدمتكم، وهو لا يلتفت ولا يجاوب أحدا منهم إلى أن ألحوا عليه، فالتفت إلى القضاة الذين معه وقال للحجاب: قولوا له ما وجبت طاعته على، وقال للقضاة، أشهدكم أني عزلت نفسي. قولوا له: يولى من يختار، فرجعوا إلى الباب وعرفوه بما وقع فسكت، فلما نزل القاضي إلى المدينة أغلق بابه وأرسل النقباء إلى جميع النواب وأصحاب العقود أن أحدا منهم لا يحكم ولا يعقد عقد إلى أن يتولى قاض. ثم في اليوم الثاني بلغ السلطان ما وقع من هذا، فطلب منكوتمر وصاح عليه وسبه وقال له: قد حكمتك في الجيش تتحدث فيهم، ما يكفيك حتى تدخل في أمر القضاة وتتحرش مع مثل هذا الرجل، ثم أرسل من وقته إلى القاضي يعتذر من ذلك الأمر وسأله الحضور إليه، فأبى القاضي وقال للقاصد: سلم على السلطان وقل له: إن القضاة كثيرون وقد جعل لي عذر في هذا الوقت يمنعني من الطلوع إليه، فلما عرفوا السلطان بذلك طلب الشيخ نجم الدين بن عبود والطواشى مرشد، وأرسلهما إليه وقال لهما: ثقلا عليه في الطلوع. فنزلا إليه وتكلما معه كثيرا، ثم قال له الشيخ نجم الدين: يا سيدي إن لم تطلع إلى السلطان فإنه ينزل إليك بنفسه، ولم يزالا به حتى قام معهما وطلع إليه، فتلقاه السلطان ونزل من مرتبته وأخذه بيده وأجلسه عليها، فأخرج القاضي من كمه خرقة فبسطها فوق الفرش الأطلس، فجلس عليها، ثم شرع السلطان يسأله في الولاية وألح عليه إلى أن قبلها، وتولى على عادته، ثم قال له: يا سيدي هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادع له، فنظر إليه ساعة وصار يفتح يده ويضمها ويقول: منكوتمر؛ لا يجئ منه شيء - ثلاث مرات -، فلما قام أخذ السلطان تلك الخرقة منه على سبيل التبرك، ثم طلب الأمراء أيضا، فأخذ كل واحد منهم قطعة. ذكر خروج العساكر إلى سيس في جمادى الأولى منها: استشار السلطان لاجين الأمراء في أخذ سيس والغارة على بلادها، وكان ذلك الوقت وقت اختلاف المغول، فقصد السلطان بذلك أن يذكر أن في دولته أخذت حصون وأخمدت أعداء كثيرة، ثم أعرض الجيش وجرد في مصر تجريدة فيها الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وشمس الدين آقسنقر كرتيه السلحدار، وسيف الدين بكتمر السلحدار، وسيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين أغرلو، والأمير علم الدين الدواداري الصالحي، والأمير حسام الدين، لاجين الرومي الأستاذ دار، وكتب كتابا لنائب الشام سيف الدين قبجق بأن يتجرد ويجرد معه ركن الدين جالق، والأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، وكتب إلى نائب طرابلس أيضا أن يتجرد بعساكرها، وإلى نائب حماة كذلك، وإلى نائب صفد فارس الدين اليكى الظاهري كذلك. فاجتمع هؤلاء مع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب حلب، وتوجهوا إلى سيس، وكان وصولهم إليها في شهر رجب الفرد، فشنوا الإغارة على أهلها، وأوقعوا بخيلها ورجلها، ودوخوا أرجاء حزنها وسهلها، وفتحوا تل حمدون والمصيصة وحموص وقلعة نجم وسروندكار وحجر شعلان والنقير وقلعة الهارونية. قال بيبرس في تاريخه: وعادوا من هذه الغزاة إلى مدينة حلب، فأقاموا بها، فلم يشعروا إلا وقد وصل سيفد الدين حمدان بن صلغاى من الديار المصرية بكتاب المنصور إلى الأمير سيف الدين بلبان النائب بحلب بالقبض عليهم وهم راكبون في الموكب، فلما وقف المذكور على المراسيم لم يسعه إلا اعتمادها، فطلب الأمراء واستدعاهم لينزلوا ويدخلوا معه دار النيابة ويحضروا السماط، وكان قد وقع لهم بعض هذا الخبر، وخامرهم الخور، وتقسمت بهم الفكر، وامتنعوا من حضور الخوان، وتحققوا مكيدة منكوتمر الخوان، ومضوا إلى خيامهم، فجهزوا أحوالهم وركبوا من وقتهم، وجاءوا إلى حمص إلى الأمير سيف الدين قفجاق لأنه كان بها وعسكر في دمشق، فأطلعوه على الأخبار، واتفقوا معه على الفرار، وكان بحمص علاء الدين الطوان نائبا، فلم يستطع منعهم، ولا أمكنه صدهم، ووضعوا أيديهم عليه، واستصحبوه معهم إلى القريتين مربوطا، وقادوه مكرها مضبوطا، ثم أنهم أطلقوه فعاد راجلا.

وكان الأمير سيف الدين قفجاق عند خروجه من دمشق متوجها إلى حمص أقام بها عوضا عنه الأمير سيف الدين صاغان متحدثا في النيابة، فلما اتفق مقتل المنصور لاجين على ما نذكره إن شاء الله وثب عليه قرا أرسلان أحد أمراء دمشق ومسكه وسجنه، وأرسل سيف الدين بلغان بن كيجك الخوارزمي وراء قفجاق ليعلمه الخبر ويستدعيه ليعود إلى دمشق، فجاءه وهو قريب الفرات وأعلمه الحال فلم يصدق المقال، وخاف أن تكون حيلة معمولة فلم يرجع، وسار على ما هو عليه فيمن انضم إليه وساروا مجدين، فعبروا الفرات وقصدوا بلد التتار، وأنشدوا بلسان الاضطرار: إذا ما خفت في أرض فدعها ... وحث اليعملات على وجاها ونفسك فزنها إن خفت ضيما ... وخل الدار تنعى من بناها فإنك واجد أرضا بأرضٍ ... ونفسك لم تجد نفسا سواها وكان الذين تظافروا على المسير واتفقوا على هذا التدبير: الأمير سيف الدين قفجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار، والأمير سيف الدين إلبكى الساقي، والأمير سيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين عزاز، الصالحي، فلحقوا بقازان وأقاموا عنده إلى أن كان منهم ما كان. ولما استقر بهم القرار تزوجوا بنسوان من التتار، فتزوج سيف الدين قفجاق بامرأة من الأكابر، وهي أخت بلغان خاتون زوجة قازان، وأقاموا جميعا إلى أن حضر قازان إلى الشام لقصد بلاد الإسلام، فحضروا معه، ثم فارقوه واستقروا بالديار المصرية على ما سنذكره إن شاء الله. وأما بقية الأمراء الذين كانوا في ذلك التجريد، فمنهم من مرض وقضى، ومنهم من عاد متمرضا. وقال الناس: إنهم اغتيلوا هنالك، والله أعلم بذلك.

وفي نزهة الناظر: أقامت العساكر على السيس نحو الشهر، وأخذوا البلاد المذكورة، وكتب نائب حلب إلى السلطان يبشره بذلك، فأعيد له الجواب بالشكر والثناء له وللأمراء، وكتب منكوتمر كتابا فيه غلظ على الأمراء، من جملة ذلك: متى لم تفتح سيس لا يحضر أحد من الأمراء إلى مصر، فإنه لم يبق له عند السلطان إقطاع، وكتب إلى نائب الشام سيف الدين قفجاق أن يركب مع عسكر الشام وينزل بهم على حمص ليصل خبره إلى العدو بأن عسكر الشام مقيمون ينتظرون العبور، ثم قال: وصل مملوك نائب حلب بأن العساكر مقيمون بحلب ينتظرون دستورا، وذكر في كتابه وفاة الأمير عز الدين الموصلي نائب طرابلس، ولما جاء هذا الخبر شرع منكوتمر في التصرف في أمور الأمراء وتفريق شملهم، وأراد أن يكبر خشداشيته، ثم اتفق مع السلطان على مسك جماعة من الأمراء المصريين والشاميين، وأن يطلب الأمير حسام الدين الأستاذ دار إلى مصر بمفرده على البريد ليفرق شملهم، فإذا وصل إلى مصر يمسك، وطلب حمدان بن صلغاى وعرفه بجميع ما وقع عليه الاتفاق من مسك بعض وقتل بعض وتغيير بعض، وأوثق الأمر معه، وكتب إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب وعرفه أنه ثم أمراء قد قصدوا تغيير دولتنا، ونقل عنهم كلام كثير، فينبغي أن تحسن في مسكهم وتساعد حمدان وأيدغدى شقير وبالوج، المماليك السلطانية، وركب حمدان إلى أن وصل إلى دمشق وعرف الأمير جاغان بالأمر الذي حضر بسببه، وكان معه كتاب إليه بأن يحترس على قفجاق ولا يمكنه من العبور إلى دمشق إلا بمرسوم، ثم ركب من عنده إلى أن وصل إلى قريب حمص وبطق البريد إلى قفجاق، فلما وصل إليه الخبر قال: نذهب إلى الصيد فإنه رجل نحس وما حضر في خير ولا بد معه مكيدة يفعلها، فنحن نبعد عنه، ثم إن حمدان لما ركب أوقع الله طريقه في الليل على المكان الذي نزل فيه نائب الشام وكان قد قاد غزالين، وكان متكئا، وإذا قد سمع ركض الخيل، فقام وجلس وإذا بجاغان، فقام وتلقاه وأكرمه وقال: ما هذه طريقتك؟ فقال والله جعل لنا نعاس، فخرجنا من الطريق إلى هذا المكان، وقال: النوم غلب علي فأريد أن أتكئ، فوطئوا له فراشا ونام إلى قريب الفجر، ثم قال له قفجاق نركب معك إلى حمص. قال: نعم ولكن أريد أن تطهى الأمير شماجا بلحم الغزال قبل أن أروح، فقال: نعم، وركب قفجاق وسبق وأمر بعمل الشماج، فلما وصل حمدان أحضروا الطعام بين يديه، وتقدموا للأكل، وجلس هو بحذا قفجاق نائب الشام، وأخرج سكينا من وسطه وأسرع يقطع اللحم ويأكل، ثم إنه قطع برأس السيخ لحما ورمى قدام قفجاق، ولم ير قفجاق أنه يأكل منه ولا مد يده إليه، فقال له يا أمير: لم لا تأكل معي من هذا؟ فقال له: بطني توجع، ولي أيام ما أكلت الزفر، فلما سمع هذا الكلام لم يجلس بعدها، وركب وراح، وبعد ركوبه أخذ قفجاق اللحم الذي قطعه برأس السكين ورماه للكلب، فحين أكله الكلب وقع ومات. فقال: جروه وارموه، فلما أرادوا أن يجروه تمرق لحمه من عظمه. ثم أرسل من ساعته إلى بكتمر السلحدار وجماعة الأمراء الذين يثق بهم وأخبرهم بخبر حمدان، وأنه ما جاء في خير، وأنهم يحترزون منه، وسير أيضا بعض النجابة إلى مصر إلى أصحابه، ولما وصل حمدان إلى حلب واجتمع بنائبها أعطاه الكتاب وعرفه بسبب الأمر الذي أتى فيه، فلما سمعه الطباخي تعجب وقال: يا أمير، كيف نعمل؟ وهذا ما هو أمر قليل يحتاج فيه إلى رجال، ولا يعمل بفتن كثيرة، وطارحه بأن أيدغدى شقير وأخبره بما قال النائب، وكان حمدان قد حضر ومعه تقليد لسيف الدين طقطاى بنيابة طرابلس بحكم وفاة نائبها، وتوفى طقطاى أيضا.

فأرسل هو وأيدغدى شقير مملوكين مع مملوك نائب حلب إلى السلطان وعرفوه بذلك، وذكر حمدان في كتابة توقف الطباخي عن مسك الأمراء، فحصل من ذلك لمنكوتمر حنق وغيظ على نائب حلب، وقال للسلطان: ينبغي مسك الطباخي وتولية أيدغدى شقير عوضه في النيابة، فقال السلطان: هذا الوقت لا يقتضى تحريك الطباخى، فكتبوا له بالشكر والثناء، وأمروه أن يتحبل على مسكهم بكل وجه، وأرسلوا تقليد الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار بنيابة طرابلس، فإذا حضر ولبس تشريفة يمسك، ثم يمسك الأمراء المذكورون بعده، ثم إن بكتمر تجهز إلى الخروج والتوجه إلى الديار المصرية، فخرج وسار إلى أن قرب من بلبيس، فلما وقعت بطاقته طلب منكوتمر حسام الدين الأستاذدار فقال له: يمسك بكتمر قبل دخوله إلى السلطان، فقال: ما هو مصلحة في هذا الوقت، والمصلحة تأخيره إلى أن يرد الجواب من نائب حلب بمن مسك من الأمراء. وقال صاحب النزهة: وكان سبب سلامته ما حكاه لي بعض مماليكه الذين حضروا معه، فقال: حين طلب أستاذي إلى مصر تحقق أنه إذا وصل إلى مصر ما يخلى سبيله، فأوصى على صغيرات، ووقف، وتصدق، وأخذ معه ألف دينار برسم الصدقة، وصار يتصدق بها طول الطريق، ولما وصل إلى بلبيس في آخر الليل أراد أن ينام ويستريح ساعة، فلم يأخذه النوم لكثرة فكره وقلقه، ثم قام توضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن ينجيه من شر من يخافه، وتضرع إلى الله كثيرا، ثم سمع المؤذن يسبح، ويقول في ابتداء كلامه: " بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحا مبينا "، الآية، فقام وتمرغ على الأرض، وسأل الله تعالى، وقال للعامل معه: والله لم يطب خاطري إلا عند ذلك، لأنه تفاءل باستفتاح ذلك المؤذن، وأوضح ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، وأفضل ما يكون التفاؤل من كلام الله عز وجل، ثم ركب وهو منشرح الصدر، إلى أن دخل عند السلطان، فأقبل عليه السلطان إقبالا حسنا، وأجلسه، وشرع يسأله عن أحوال العسكر، وعن الأمراء، وعن القلاع التي فتحت، وهو يخبره بالتفصيل، والسلطان ينشرح لحديثه، وآخر كلامه أن قال له: يا أمير ما طلبتك إلا لتخبرني بما وقع بين أمير سلاح وبين الدواداري، وما السبب في ذلك. فقال: والله يا خوند ما وقع بينهما شيء يوجب الخلف، وإنما أراد الأمير علم الدين الدواداري التقدم إلى العسكر، فكره أمير سلاح ذلك منه لكونه أتابك العساكر مدة عمره، ولما حضر مرسوم مولانا السلطان امتثلوه، ومشى كل واحد في مكانته. ثم بعد ذلك خلع عليه السلطان، وأنعم عليه بألف دينار، وخرج من عنده. وكان منكوتمر منتظرا لمسكه، فلما رآه وقد خرج وعليه الخلعة حصل عنده ضيق الصدر، وكان قد راود السلطان في أمره مرارا عديدة إلى أن وافق على مسكه، ولكن الله تعالى أزال ذلك عن خاطره. ثم إن منكوتمر لما دخل عند السلطان قال له: يا منكوتمر، والله ما زلت طالبا مسكه إلى أن دخل عندي، فزال ما في خاطري من ذلك، ولما رأيته استحييت منه، وذكرت له خدماً كثيرة علي، فطيب خاطرك فهذا أمر لا يفوت. وفيها كان الروك الحسامي بالديار المصرية، وكان ابتداؤه في جمادى الأولى، فريكت البلاد، وكتبت الأمثلة وفرقت، وجلس منكوتمر ليفرقها على العساكر، فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، فمن الجند من سعد، ومنهم من شقى، ومنهم من خاب، وأفرد للخاص السلطاني بلاد الأعمال الجيزية ونواحي الصفقة الاطفيحية، وثغرى دمياط والإسكندرية، ونواحي معينة من البلاد القبلية والبحرية.

وقال بيبرس في تاريخه: وفيها أجمع رأي المنصور ومنكوتمر نائبه على روك النواحي والجهات، وسائر المعاملات، وجميع الإقطاعات، وتجديد ترتيبها، فرسم بجميع الدواوين والكتاب والمستوفين لتحرير المقترحات الروكية، وتحقيق ارتفاع الديار المصرية، وتعيين قوانين نواحيها، ومكلفات مساحة ضواحيها، وجملة متحصلاتها، وعقد معاملاتها، وريع أموالها وغلاتها، فجمعوا جميعا، ورتب معهم الأمير بدر الدين ألك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الصوابي الظاهري وطولبوا بسرعة النجاز، فعملوا المقترح بعضا بالحقيقة وبعضا بالمجاز، وجددت الإقطاعات، وجمعت النواحي والجهات وكتبت بها المثالات، وجعلت ثلاث طبقات، وجلس منكوتمر لتفرقتها على العساكر، فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، ولا يمكنه الحيلة على تلافيه، فمن الجند من سعد، ومنهم من شقى، ومنهم من خاب، ومنهم من أنجح بما لقى، فانتقل بعضهم من بلاد عامرة إلى أراضي غامرة، ومن متحصلات وافرة إلى نواح دامرة، وفاز بعض بأكثر مما قصده، ووجد خيرا مما فقده. وكان كما قيل: يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام وأفرد للخاص السلطاني بلاد الأعمال الجيزية، ونواحي الصفقة الإطفيحية، وثغرى دمياط والإسكندرية، ونواح معينة من البلاد القبلية والبحرية، وجمعت إقطاعات الأمراء وأجنادهم، وأضيفت عبر الجند إلى عبر بلادهم. وعين لمنكوتمر من النواحي المعروفة، والإقطاعات الموصوفة، والجهات المتميزة، والبلاد المتعينة والمختارة لنفسه وأصحابه، وكان الحكم في تعيينه لدواوينه، والاختيار لكتابه، إلا أنه لم ينتفع بمباشرة فيه، ولا تملى به، فلله در القائل: اقنع تعز ولا تطمع تذل ... ولا تكثر تقل ولا تغتر بالأمل وكان نجاز الروك والفراغ منه في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة، واستقبل بالإقطاعات سنة ثمان وتسعين الهلالية، ونقلت السنة الخراجية من سنة ست إلى سنة سبع وتسعين وستمائة. وهذا النقل جرت العادة بإثباته في الدواوين، وإمضائه للمستخدمين من تقادم السنين، وأيام الخلفاء والملوك المتقدمين، وسببه الداعي إليه أن إدراك الغلال، واعتصار الأقصاب، وقبض الخراج، إنما المعول في حسابه على السنة الشمسية، وعقد الضمانات، وأقساط المعاملات على حكم أشهر السنة القمرية، وبينهما تفاوت في عدد السنين والحساب، يعلمه العلماء والكتاب، وله دليل من آي الكتاب، وهو قوله عز وجل: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا "، فقيل أن التسع مقدار التفاوت بين السنين الشمسية والهلالية، فإذا مضى ثلاث وثلاثون سنة انزحفت النسبة إلى السنة الخراجية فيحتاجون إلى تحويلها بالأقلام، ونقلها على جهة الإعلام من غير نقص في الأموال، ولا خلل في الأعمال، وكتب بهذا التحويل سجلات إلى البلاد ليكون عليها العمل والاعتماد. وقال صاحب النزهة: لما أرادوا روك البلاد، طلبوا تاجا الطويل ليعمل أوراقا بعبرة الأمراء والجند، وقوانين البلاد، واتفق الحال على أن العسكر جميعه أربع عشرة قيراطا، والسلطان أربع قراريط، وقيراطان وقف، والبقية تبقى إلى أن يسجل عليها جند بطالون لتقوية الجيش، والذي استقر للخاص الشريف السلطاني: الجيزية، والاطفيحية، ومنفلوط، والكوم الأحمر، ومرج بني هميم، والإسكندرية، ودمياط، وجرجة شمسطا، ورتب لمنكوتمر ما لم يكن لنائب قبله فكانت عبرة إقطاعه ما ينيف على مائة ألف دينار. وهذا الروك كان سبب إتلاف الجند والعسكر لتناقص الإقطاع الذي كان لجند الحلقة، وكان عشرة آلاف درهم إلى ثلاثين ألفا ونيفا، فجمع أكثره إلى عشرين وما دونها، فصار كل من كان خبزه يعمل عشرين ألفا نجده عشرة آلاف، ومن كان يعمل عشرة نجده ستة، وتوقفت أحوال الجند، وقلت الأرزاق، فهذا هو الذي ولد حب التضاغن في القلوب، والبغضاء في النفوس، فكان أقوى الأسباب على الفتنة، كما نذكره إن شاء الله. وفيها تقنطر المنصور لاجين بالميدان، فانكسرت يده، وانقطع أياما ثم عوفي وركب في الحادي عشر من صفر، ومدحه شمس الدين محمد بن. . . بأبيات منها: فمصر والشام كل الخير عمهما ... وكل قطرٍ علت فيه التباشير والكون مبتهج والوقت مبتسم ... والخير متصل والدين مجبور

وكيف لا وعدو الله منكسر ... بالله والملك المنصور منصور وفي نزهة الناظر: كانت عادة السلطان في لعب الآكرة العجلة والانهماك على اللعب، وعرف في الشام ومصر بجودة لعب الآكرة، وكان كثيرا ما يدع الآكرة في الهواء ويسوق تحتها، ويقوم في السرج ويأخذها من الهواء بيده ويصل بها إلى آخر الميدان، فاتفق له ذلك اليوم أنه ضرب الآكرة وساق تحتها وقام في السرج فخرج منه وسبقه رأسه إلى الأرض فالتقى الأرض بيمينه فانكسرت، وتتعتعت أضلاعه، وبقى ساعة في الأرض إلى أن نهض بنفسه وقام، فوجد جميع الأمراء قد ترجلت، وكانت العادة أن الملك إذا اتفق له وقوع من فرسه إلى الأرض لا يجسر أحد أن يتقدم إليه إلا بإذن منه لمن يختاره أو لمن له عليه إدلال مثل مملوكه الخاص أو غلامه، ويترجل سائر الأمراء، فإذا ركب ركبوا، وركب السلطان وأشار للأمراء أن يتموا لعبهم، وطلب المجبرين فعملوا في يده ما هو الواجب. وكانت العامة يحبونه لأنه كان يحبب نفسه إليهم، فلما رأوه وهو راكب تباشروا ودعوا له، وصاح بعض الحرافيش وقال: سلامتك يا قضيب الذهب ما تستهل، أرنا يدك، وكان قد علقها بمنديل، فلما سمعه أخرج يده وأخذ المقرعة وضرب بها على معرفة الفرس، فتصايحوا ودعوا له، ثم لما طلع طلب المجبرين فلما حلوا يده وجدوا الرباط قد تغير والعضو قد انزعج، فسألوه عن ذلك، فأخبرهم بما فعله عند صياح ذلك الحرفوش، فقالوا له: يا خوند كيف تخليه يفشو؟ قال: لا كان ينكسر خاطر الناس. ثم إنه أقام مدة شهرين إلى أن ركب، فلما ركب زينت مصر والقاهرة، وكتب إلى البلاد الشامية بعافيته، وزينت سائر الأقاليم. وأما ما أنفق يوم ركوبه إلى الميدان فكان شيئا غريبا، وكان يوما مشهودا، وكانت جميع دكاكين الصليبة إلى آخر الكبش مملوءة بالرجال والنساء، وكان الرجل منهم يجلس بنصف درهم، وأما البيوت فإنها أكريت في ذلك اليوم بأجرة سنة، ولما عاد وطلع القلعة خلع على سائر أرباب الوظائف وسائر الأمراء والمقدمين، وأمر بالصدقات على الفقراء والمشايخ، وأفرج عن المسجونين. وفيها: وفد سلامش بن أفاك بن بيجو التتري وأخوه قطقطو ومن معهما إلى الأبواب السلطانية، وسبب ذلك أن سلامش كان مقيما بلد الروم ومقدما على التمان المجرد فيها، فبلغه أن قازان عزم على أن يقتله، فأراد الانحياز إلى دار الإسلام طلبا للنجاة، وكاتب الملك المنصور حسام الدين لاجين مستأذنا ومعلما بوصوله مستأمنا، وأرسل من جهته شخصا يسمى مخلص الدين الرومي، فأجاب السلطان إلى ذلك، وقال: إنا لا نكره من يهاجر إلينا محبة في الله والرسول عليه السلام. وبلغ قازان مراسلته، فجرد عسكرا لحربه وأخذه، فالتقوا معه في بلد الروم، فلما التحم القتال بينهم خامر عليه بعض من كان مضافا إليه، فلم ينجه إلا الفرار وقصد هذه الديار. ولما وصل إلى البلاد الحلبية جهز معه من يحضره إلى الأبواب السلطانية، وعند وصوله عومل بالإكرام وقوبل بالإنعام، وخير في المقام بمصر إن شاء أو الشام، فذكر أنه ترك عياله وخلف أهله وأطفاله وسأل تجريد عسكر ليحضر أهله، فرسم بأن يجهز معه من عسكر حلب من يساعده على ما طلب، وعاد من الباب العزيز، فجرد النائب بحلب معه عسكرا إلى الروم وقدم عليه الأمير سيف الدين بكتمر الحلبي أحد الأمراء بحلب، فساروا إلى بلاد سيس، فلما وصلوا إليها شعر بهم صاحب سيس والتتار الذين ببلادها، فأخذوا عليهم مضايق الدروب وعاجلوهم بالحروب عن الهروب، فقتل الحلبي ومن معه وفر سلامش منهزما وجاء إلى قلعة ببلد الروم واعتصم بها، فأرسل قازان في طلبه، فأحضر إليه فقتله شر قتلة. وكان قد ترك أخاه بالديار المصرية على أنه رهينة عنه واسمه قطقطو وصحبته مخلص الدين الرومي، فاستقرا بها وأعطيا إقطاعا وراتبا. وفي نزهة الناظر: كان سلامش هذا كبير القدر معظما ببلاد الروم، وله بيت كبير في المغول.

ذكر القبض على الأمير بيسرى

قال صاحب النزهة: ذكر لي من أثق به من الروميين أن جد هذا الرجل هو الذي فتح بلاد الروم في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وملكها بعد قتل عالم كثير، وعند نزوله حضر إليه أبو بروانا وعرفه بنفسه وعرفه أيضا أن هذه أقليم عظيم، وأنه لا ينظر إلى من قتل منه، والتزم أن يحمل له كل سنة خراجا ويكون هو ومن معه رعيته، فوافقه على ذلك وقرر عليه في كل سنة ثلاثمائة وستين ألفا من الدراهم، وألف رأس غنم، وألف رأس بقر، وألف رأس جمل. وقال له بعض أمرائه: يا خوند هذا يأخذ هذا المقدار من ضيعة واحدة من هذه الإقليم. فقال له: إذا استمر هذا يجيء غيره، وبقى هذا إلى سنة أربع وخمسين وستمائة، فخرج هلاون ومات بيجو وأخذ ولده أفاك مكانه، وحضر إليه بروانا، وكان أيضا والده توفى فأكرمه وخلع عليه وقرر عليه ما كان يحمل والده لوالده، واستقر إلى أن توفى أفاك وملك سلامش ابنه البلاد وأقام فيها، وملك جبال قرمان وضياعا كثيرة، ثم عصى على ملوك المغول، فلما ملك قازان سير إليه جوبان وقطلوجا، فضربوا معه مصافا، فخامرت عليه أمراؤه فانكسر، وكان سبب عبوره إلى مصر. ثم قال صاحب النزهة: والأصح أن سلامش أرسل كتبه في دولة لاجين، يستأذن على الدخول إلى البلاد الإسلامية، فلما وصل إلى حلب قتل لاجين، ودخل إلى مصر في الدولة الناصرية وأكرمه بيبرس وسلار. وفيها: ابتدأ الخلف بين طقطا بن منكوتمر ملك بيت بركة بالبلاد الشمالية وبين نوغيه بن ططر بن مغل بن دوشى خان بن جنكزخان، وذلك لأسباب: منها: أن بيلق خاتون زوجة نوغيه استنفرت من ولديه وهما جكا وتكا وأظهرا لها الكره والامتهان، فأغرت طقطا بهما وأرسلت تحرضه عليهما. ومنها: أن بعض أمراء طقطا أوجسوا خيفة من أمر بلغهم عنه ففارقوه وانحازوا إلى نوغيه، فقبلهم وأحسن إليهم وأنزلهم في حوزته وزوج واحدا منهم اسمه طاز بن منجك بابنته. فأرسل طقطا يطلبهم منه، فمنعهم عنه، فأغضبه ذلك، وأرسل إليه رسولا وأصحبه: محراثا، وسهم نشاب، وقبضة من تراب، فلما جاء الرسول إليه وعرض ما معه عليه قال: إن لهذه الرسالة خبرا، ولهذا الزمن إشارة ورمزا، فجمع كبار قومه وذوي مشورته وقال: ما عندكم في هذا وما قصد طقطا بإرسال التراب والنشاب والمحراث؟ فقال كلا منهم مقالا، وجال في تأويلها مجالا. فقال: ما أصبتم القصد ولا أجدتم النقد، وأنا أخبركم بمراده وأعرفكم خبر فؤاده، أما المحراث فهو يقول: إن نزلتم إلى أسافل الأرض أطلعتكم بهذا المحراث، وأما النشابه فيقول: وإن طلعتم إلى الجو أنزلتكم بهذا السهم، وأما التراب فيقول: اختاروا لكم أرضا يكون فيها الملتقى، فعلموا أنه أصاب في تأويله وفهم فحوى رسالة طقطا ورسوله، فأعاد الرسول وقال: قل لطقطا إن خيلنا قد عطشت ونريد أن نسقيها من ماء تن وهو نهر على مقام صراي وفيه منازل طقطا. فعاد الرسول بالجواب، فاستعد طقطا وجمع جنوده، وأعد حشوده، وسار للقائه، وبلغ نوغيه وأولاده مسيره إليه وعزمه حربه، فجمع العساكر التي عنده والتوامين التي تحت حكمه، والمقدمين الذين هم إليه مضافون وبه مقتادون، وهم: طاز بن منجك وهو زوج ابنته، وطنغر بن قجان، وأباجى ابن قرمشى، وقراجين أخوه، ومنجى أخوهما، وماجى، وسدن، وألاج، وصنغى، وقوشب، وصلغاى، واشق، وكبجك، وشبتكاى، وتركرى، وقطلوبغا، ومغلطاى، ومعهم ما ينيف عن مائتى ألف فارس. وسار كل منهما لقصد صاحبه، فالتقوا على نهر يصل بين مقام طقطا ومقام نوغيه، فكانت الكسرة على طقطا وعسكره وانهزموا، وانتهت بهم الهزيمة إلى نهر تن فمنهم من عبره فسلم، ومنهم من هوى فيه فغرق، وأمر نوغيه عساكره أن لا يتبعوا موليا، ولا يجهزوا على جريح، وأخذ الغنائم والسبايا والأسلاب وعاد إلى مكانه. ذكر القبض على الأمير بيسرى

والسبب فيه أن منكوتمر كان يعلم عن السلطان الكتب والتوقيعات في الأيام التي وقع السلطان من الفرس في الميدان حين كان يلعب بالآكرة، وكان يخاف على السلطان من عارض، وكان يعلم أن ما في الدولة أكبر من بيسرى، ومع هذا كان البيسرى يكره منكوتمر في الباطن، وكان منكوتمر يخاف أنه إذا جرى أمر يكون البيسرى هو المقدم، وأنه إذا تقدم أوقع به، فشرع في التدبير على مسكه، وكان السلطان قد رسم فيما مضى أن يكون البيسرى كاشفا بالجيزة وأن يحضر الخدمة أيام الاثنين والخميس، وكان يجلس رأس الميمنة ويجلس فوقه حسام الدين بلال المغيثي الطواشى، لأجل كبره وتقدمه، وكان الملوك والأمراء يعظمونه، واتفق أن البيسرى حضر على عادته وقامت الأمراء، فلما رآه الطواشى قام إليه وشرع يبكي ويمسح عينه بالمنديل قدام الأمراء، فخشوا من بكائه وقالوا: يا سيدنا ما سبب بكائك؟ فقال: كلما رأيت هذا الأمير أفتكر أستاذي وأشم فيه روائح الملوك، فبلغ ذلك في وقته منكوتمر، فأثر عنده تأثيرا عظيما، وعرف السلطان بذلك، وبالغ في الكلام فيه، وما نهض من عنده إلا بعد الاتفاق على مسك البيسرى، ولكن استمهل السلطان في ذلك أياما، وبقى مفكرا في أمره، وكيف يدبر على مسكه وذلك لما كان يعلم من كبره وعظمته في النفوس وتقدمه في الدول، ولما كان يعلم من كثرة حاشيته. واتفق في تلك المدة أن حضر مملوك نائب حلب وأخبر أن العساكر المنصورة دخلت إلى بلاد سيس وأغاروا عليها، ولكن لم يتعرضوا لحصر القلاع، فإن السبب فيه أن صاحب سيس استنجد بصاحب قبرس وبأصحاب جزائر بحر الروم وبالإفرنج، ونفق أموالا عظيمة في العسكر، واستقل بعسكر السلطان، فلما سمع السلطان ذلك وجد فرصة في أمر البيسرى، فطلب منكوتمر واتفق رأيهما على تجريد عسكر أخرى، فعين الأمير بكتمر السلحدار والأمير طقطاى ومبارز الدين اوليا بن قرمان وأضاف إليهم جماعة من العسكر ورسم لهم بالسفر، ولما سافروا وجد أكابر الأمراء قد تفرقت ولم يبق من يخشى من جهته، وجلس منكوتمر وخشداشيته وأخذوا يتحدثون في ترتيب أمراء بدمشق من جهتهم وفي مسك أمراء آخرين لتكون الدولة كلها إنشاءهم في الديار المصرية والشامية. ثم بعد أيام لما طلع البيسرى الخدمة على العادة أخذ السلطان يسأله عن حاله وما هو فيه فقال يا خوند: أنا منشرح بما تصدق علي مولانا السلطان من قرب المكان، يعني كشف الجيزة، وهو مكان نزه وفيه الصيد وطيب الوقت، فتبسم السلطان ثم قال له: يا أمير ما تعزم على يوما عندك حتى تنشرح وتنبسط، فقام وقبل بالأرض وقال: قم يا خوند، وتواعد معه أن تكون ضيافته يوم الثلاثاء.

ثم خرج من عنده وشرع في تجهيز أمر الضيافة الهائلة، ورأى أن المخيم الذي فيه ما يسع للسلطان وحاشيته، فطلب أمير مجلسه وقال له: اذهب إلى منكوتمر وقل له يقول للسلطان إن مخيمي ضيق، ويكون مخيم السلطان في الموضع الفلاني، فجاء هذا إلى منكوتمر وبلغ الرسالة، ثم قال له: اجلس عندي حتى أبلغ السلطان ما قلته لي، ثم شرع معه في الحديث ولم يزل يستميله ويعد له بإمرة ومالٍ، وحلف له على ذلك على أن يذهب معه إلى السلطان ويقول له: إن أستاذي اتفق مع بعض الأمراء على أن السلطان إذا حضر إلى مخيم أستاذه يوقع به الأمر ويأخذ المملكة لنفسه، فاغتر هذا بقول منكوتمر ورضى بذلك، ثم قام منكوتمر وأخذه معه، فدخل على السلطان وقال له يا خوند: هذا قد حضر من عند البيسرى ومعه نصيحة للسلطان، وهو يقصد بذلك المكافأة عليها، فأخبر السلطان بما وقع عليه اتفاقهما، فشكره السلطان وأثنى عليه، ثم رسم السلطان بتجهيز الدهليز صحبة الفراشين إلى الجيزة وأعاد الرجل بالإجابة، فجاء إلى أستاذه البيسرى وأخبره بأن السلطان أجاب إلى ذلك وأن خيامه قد طرحت، فلما أصبح البيسرى طلع إلى الخدمة بناء على أن ينزل مع السلطان لميعاده على ما مضى من الاتفاق، فلما فرغت الخدمة، قال له السلطان: ميعادنا يكون يوم الأربعاء، فعند ذلك قام وأراد النزول، فلما وصل وسط الدهليز خارج باب النحاس قامت إليه مماليك كان السلطان قد أرصدهم هناك وأمرهم بأن بيسرى إذا وصل هناك يأخذوا سيفه ويمسكونه، فضربوا على الحلقة، وأخذوا سيفه من وسطه، ومسكوه، ووقع الضجيج بعد ذلك في القلعة، وبلغ إلى أهالي المدينة، فغلقت باب زويلة مقدار ساعة من النهار، فذهب الناس بجميع ما كان جهزه البيسرى للضيافة. ثم رسم السلطان بالحوطة على جمع موجوده، وحبس جماعة من مماليكه، وفرح منكوتمر بذلك فرحا عظيما فإنه كان كلما يراه يتنكد ويتنغص. وكان اعتماد المنصور في مسك الأمراء الظاهرية اعتماد أستاذه الملك المنصور قلاون فإنه لم يتم له الملك حتى مسك جماعة كبيرة من الظاهرية، وأول من مسك منهم كان البيسرى هذا، وأقام في الحبس تسع سنين وأيام إلى أن أفرج عنه الملك الأشرف على ما ذكرنا، ولما تولى لاجين أراد أن يفعل مثل فعل أستاذه قلاون. ولما مسك بيسرى أرسل يقول للسلطان: هذا جزائي منك؟ وأقسم على كرجى وهو يقيده أن يبلغ هذا إلى السلطان، فأبلغ كرجى كلامه هذا إلى السلطان، فقال له: هذا جزاؤك، بل جزاؤك أكثر من هذا، وأنا ما أقدر أن أعمل معك ما عمله كتبغا معك من الإحسان، فكان جزاؤه منك ما فعلته في حقه، فكيف آمن إليك بعده؟ . وفيها ورد الأمير حسام الدين مهنى بن عيسى، أمير آل عيسى، فتلقاه السلطان بالإكرام والقبول، وقد ذكرنا أن الملك الأشرف خليل لما مسكه كان قد سلمه إلى حسام الدين لاجين ليوصله إلى مصر، وأوصاه أن يطبق عليه، ولا يمكنه من الاجتماع بأحد، وحكى عن أخيه محمد بن عيسى أن من جار إحسان لاجين إلى أخيه مهنى أنا لما نزلنا خربة اللصوص في الليل، وانفرد لاجين عن الناس قلت: ويل لآل مهنى ما لهم من معين، ولا مخبر لأهلهم بخبرنا، والله إن هذه الطريق شين وتهم علينا، فقال لي أخي مهنى: اسكت، فنحن لا نبالي، ومعنا هذا الأشقر الذي تخافه العرب والترك، وأراد به لاجين. وكان لاجين يسمعه، فلما أصبحنا، وجدنا إنسانا على راحلة.

فقال أخي: يا أمير حسام الدين أما تتصدق علينا بأن تنادى هذا الرجل لعله جاء من بلادنا ومعه خبر من أهلنا، فقال نعم، وأشار إليه فحضر، فقال له أخي مهنى: من أين يا وجه العرب، فانتسب إلى قبيلة من العرب، فعرفه مهنى، ثم سأله عن أهله فأخبره عن أهلنا ومنازلنا، فقال له نقصدك أن تذهب إلى أهلنا وتخبرهم بأنا نحن طيبون، ونحن في قيد الحياة، لذلك علينا الملاقاة إذا أفرج الله عنا، فقال: نعم، إنها الأمير ... ... لاجين، فقال: يا أمير حسام الدين ترى أن تفعل معنا خيرا، والله تعالى يكافئكم، فقال: قل ما تريد، فقال: أن تأذن لنا بأن نكتب سطرين أو ثلاثة إلى أهلنا ليعلموا أنا نحن طيبون في خير، وأنا تحت حفظك وظلك، فتبسم وقال لدواداره: أعط الأمير الدواة والورق فإذا كتب كتابا توقفني عليه، فأعطاه، فكتب إلى أخيه هبة، وعرف أخيه أنه طيب في خير وعافية، وأمره أن يرحل بأهله إلى نحو الشرق إلى مكان سماه له، وأن يشن الغارة في المنازل القريبة منه، ولكن ذكر ذلك كله باللغز، فسمى تلك بأسماء أولاده، وبعض نسائه بحيث لا يفهم أحد ذلك إلا أخوه الذي كتب إليه، فلما وصل إليه الكتاب رحل هو بأهله من برية دمشق، ثم شرع في التشويش على المنازل، ونالوا بذلك مقاصدهم، ولما اتفق مجيء مهنى إلى السلطان أحسن إليه السلطان، فخلع عليه طرد وحش، وهو أول من لبس طرد وحش من آل مهنى، وكانت خلعته قبل ذلك كنجى أو مسمط، وطلب دستورا للحجاز من الشام، فأذن له بذلك وأنعم عليه. وفيها صودر القاضي بهاء الدين بن الحلى ناظر الجيوش، وكان له خدمة على السلطان في أيام نيابته، فلما تسلطن صارت له عنده مكانة كبيرة، واتفق أنه استشاره في بعض الأيام في أمر منكوتمر، وقال له: يا قاضي بهاء الدين، قد كثرت الشكوى في هذا النائب، وفي حاشية وكتابه، وإنما أريد أن أقيم مملوكي منكوتمر، وأكون مطمئنا من جهته. وتكون أنت تدبره وتعرفه الطرق التي يسلكها القواد. فقال له: والله يا خوند، نصحك واجب على كل أحد، وخصوصا على المملوك، ولا يخفى على السلطان أن دولة الملك السعيد ما أخربها إلا مملوكه كوندك، ودولة الأشرف ما أخربها إلا بيدرا، ودولة الملك السعيد ما خربت إلا بسبب مماليكه، ومملوكك منكوتمر شاب كبير النفس، حاد الخلق، لا يرجع لأحد، وربما يجري بسببه فساد كثير، وما هذا بأمره، وإنما أمر السلطان، فسكت السلطان، ولم يجبه بشيء. وبلغ ذلك منكوتمر في وقته، فكتمه في نفسه، وحط عليه مكائد السوء. قال الراوي: وبلغني أن بهاء الدين لما خرج من عند السلطان اجتمع بالأمير علم الدين الدواداري، وأخبره بما جرى بينه وبين السلطان، فقال له علم الدين: أخطأت يا قاضي في هذا الرأي، وسكت عنه. وبقى هذا الأمر إلى أن مسك قراسنقر النائب، وتولى منكوتمر النيابة، ودخلت عليه الناس تهنئه، وكان فيهم القاضي بهاء الدين فلما قبل يده وجلس، قال له: يا قاضي هذا كله ببركتك، وبركة وعظكم للسلطان، فأطرق رأسه إلى الأرض، وعلم أنه لا بد من شيء مترتب عليه من جهته مما لا طاقة له به. ثم شرع منكوتمر يعرف السلطان بما للقاضي بهاء الدين من السعادة والأموال والعقارات والبساتين بمصر والشام، فلم يزل يوحى إليه إلى أن اتفق معه على مسكه ومصادرته. قال الراوي: وكان للقاضي من السعادة والعظمة والأحكام النافذة على جانب كبير، وكانت له مسقفة. . . كبيرة اتخذها لنفسه، وله ميل إلى الشباب من أهل المحاسن، وكان له تعلق ببعض المماليك الخاصكية، وكان لذلك المملوك عادة، يأتي إليه في بستان بالقرب من الميدان حين يخرج من الخدمة، واتفق حضوره عنده على عادته، وكان منكوتمر قد بلغه ذلك عنه فأمر باسترصاده، ولما أخبروه بذلك أمر الطواشى المقدم أن يركب ويأخذ معه عدد من النقباء، ويأتي البستان، ويكبس عليه، فركب الطواشى بمن معه وهجموا عليه في البستان، وأخرجوا المملوك منه، ولم يتعرضوا لغيره، فلما أصبح وطلع إلى الخدمة مسك وسلم إلى جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، ومسك معه أيضا جمال الدين بن عزيز مقدم الركبدارية، ومجد الدين ناظر الأعمال الغربية وجماعة آخرون من الكتاب.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ورسم بالحوطة على جميع ما للقاضي بهاء الدين من الأموال والأملاك والبساتين بمصر والشام، وكذلك غلاله وسواقيه وجميع دواليبه، وتولى بجميع ذلك أقوش الرومي، وأوصى منكوتمر لأقوش بعقوبة القاضي بهاء الدين لما كان في نفسه منه، وكان المذكور بالغ في عقوبته حتى أنه كان يحمى الخوذة الحديد على جمرات النار، ثم يلبسها رأسه فيجد من ذلك ألما عظيما، وعذبه بأنواع العذاب إلى أن أخذ منه جميع أمواله، فكان جملة ما أخذ منه من موجوده بمصر والشام نحو مائة ألف وثلاثين ألف دينار، وقصد منكوتمر إتلافه بالكلية. ووقفت الأمراء وسألوا السلطان أن يصفح عنه، فقبل شفاعتهم وأمر بالإفراج عنه، وعن بقية المصادرين الذين مسكوا معه، وقرر أقوش الرومي على بهاء الدين مائة ألف درهم بشرط أن يضمن عنه جماعة من التجار، فأحضر جماعة من قيسارية جهاركس وجماعة من الجند والمقدمين، فضمنوه وأفرج عنه، ولم يمكث يومين حتى بعث إليه يطالبه بالمبلغ المذكور فخشى على نفسه من الرجوع إلى العقوبة فأخفى نفسه، فلما أخبر أقوش بذلك طلب الضمان وفرق عليهم المبلغ وأخذه منهم. وفيها: قصد منكوتمر بقطع كثير من المباشرين وأرباب الرواتب، وعرف السلطان أن الكتاب يأخذون هذه الرواتب والجرايات بأسماء أقاربهم وعبيدهم ويكتبونه بأسماء ناس صعاليك وهم يأخذون لأنفسهم، وأن ذلك يتحصل منه شيء كثير، فطلب الوزير فخر الدين بن الخليلي وأمره أن يكتب أسماء أرباب الرواتب وأرباب الرزق، فحصل للناس بذلك قلق عظيم. وفكر الوزير في ذلك، فأحضر إلى السلطان رسالة القاضي الفاضل في دولة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فقرأها عليه، فأعجب السلطان ذلك إلى أن دمعت عيناه، ثم قال: قل لمنكوتمر لا يتحدث في هذا بالجملة الكافية. وكان مضمون الرسالة النصيحة للسلطان صلاح الدين حين أراد أن يفعل مثل ما أراد منكوتمر أن يفعله، فبلغ هذا إلى منكوتمر، فلما دخل عليه الوزير قال له: ما أنت يا قاضي إلا نصحت السلطان نصحا كثيرا. فقال له الوزير: يا خوند النصح واجب على كل مسلم. فقال: اترك عنك الفشار وجهز لي الأوراق، وبعد يومين اتفق قتل منكوتمر على ما نذكره إن شاء الله. وفيها: قلت المياه جدا بدمشق، وغلا سعر الثلج بالبلد جدا إلى أن أبيع الرطل منه بدرهم وثلث، وجفت الأعين من سائر البلاد، واستسقى الناس بدمشق وبيت المقدس والخليل، ورأى المسافرون أيضا شده في سائر الطرقات، وأمانيل مصر فإنه كان في هذه السنة في غاية الزيادة والكثرة. وفي نزهة الناظر: وكان النيل في هذه السنة في الثامن عشر من ذي العقدة بلغ إلى ثمانية عشر ذراعا وست أصابع. وفيها: حج بالناس من مصر الإمام الحاكم بأمر الله ومعه أولاده، وأعطاه السلطان سبعمائة ألف درهم. وفي النزهة. وكان أمير الركب في هذه السنة الأمير طقجى، وحج في هذه السنة خلق كثير. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الصالح الاهد حسن بن الشيخ الكبير علي الحريري. توفى في ربيع الآخر منها بزاويته بقرية بسر، ومولده سنة إحدى وعشرين وستمائة. الصدر إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطا البصراوي الحنفي. درس وأفاد، وولى قضاء حلب في وقت، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر، فجاء بتوقيع فيه قضاء حلب، فلما اجتاز بدمشق توفى بها في رمضان منها، وله سبع وثمانون سنة. أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي الحنبلي، الشيخ شهاب الدين عابر الرؤيا. سمع الحديث، وروى الكثير، وكان عجبا في تفسير المنامات، وله فيه اليد الطولى، وله تصانيف فيه، ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفى في آخر ذي القعدة منها، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، مشى فيها نائب السلطان والقضاة، وكان يقول للشخص جميع ما جرى له من أول العمر إلى حين جاءه، ويقول ما في بيته يخبى، وإذا قص عليه المنام لا يفسره له حتى يستتيبه ويحلفه على ملازمة الصلوات، وكان كثير الصوم والصلاة والأوراد، ولا يفطر إلى بعد العشاء الآخرة، ويصلي من المغرب إلى العشاء الآخرة ولا يكلم أحدا من الناس. هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل، القاضي أبو القاسم بهاء الدين القفطى بفتح القاف - نسبة إلى قفط بلدة بصعيد مصر.

السنة الثامنة والتسعين بعد الستمائة

مولده بها سنة ستمائة، وقبل سنة إحدى وستمائة، وتولى قضاء إسنا والتدريس بالمدرسة العزية، وكانت إسنا مشحونة بالرافضة، فقام في نصرة السنة، وأصلح الله به خلقا، وهمت الرافضة بقتله فحماه الله منهم، وترك القضاء أخيرا، واستمر على العلم والعبادة، وكان فقيها فاضلا. متعبدا زاهدا خيرا، مشهورا، تفقه على المجد القشيري، وقرأ الأصول على شمس الدين الأصبهاني بقوص، وسمع من ابن الجميزي، وصنف في الرد على الرافضة كتابا، وانتهت إليه رئاسة العلم في إقليمه، وشرح الهادي في الفقه، وله تفسير لم يكمله، ومات بإسنا في هذه السنة، ودفن بالمدرسة المجدية. الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب السلطنة بالفتوحات. توفى فيها، وسير إليها عوضه سيف الدين كرد أمير آخور فأقام برهة واتفقت وقعة حمص على ما نذكره، فقتل فيها، فسير عوضا عنه سيف الدين قطلوبك على ما سيرد. الأمير عز الدين طقطاى الأشرفي. كان قد تقدم وكبرت منزلته وأخذ منية بنى خصيب دربستا كما كانت للأمير بدر الدين بيسرى، توفى فيها. الأمير شمس الدين محمد بن سنقر الأقرع، توفى فيها. الأمير سيف الدين كيكلدى ابن السرية، توفى فيها. الأمير عين الغزال، توفى فيها. الأمير قطباى والأمير طقطاى ماتا مسقيين في هذه السنة. الأمير علم الدين سنجر، من أمراء دمشق. توفي فيها من أثر جرح أصابه في حصار القلاع، وكان من الأمراء الناصرية، مشهورا بالشجاعة والفروسية والإقدام في الوقائع، وله طبقة عالية في سماع الحديث. الأمير سيف الدين اسنبغا من أمراء حلب. مات في هذه السنة من أثر جراحات حصلت له في الحصار. الأمير شمس الدين سنقر التكريتي المعروف بأستاذ الدار الملك السعيد. مات فيها من أثر جراحات أصابته. الأمير سعد الدين كوجبا الناصري من أكابر الأمراء الناصرية من أمراء مصر. توفى فيها وكانت له مباشرات بإسكندرية ومصر. الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيوش. كان رجلا خيرا، وكان في أول أمره مشغولا بلذات الدنيا، وتوفى على توبة وخير. الأمير علم الدين طرطش الصالحي. كان من الأمراء الصالحية الفرسان المشهورين بالشجاعة والإقدام والكرم والفتوة، وكانت له كلمة مسموعة عند الملوك وسمعة في البلاد، مات في هذه السنة. الأمير شمس الدين سنقر المساح. وكان من الأمراء الأعيان المشهورين بالشجاعة والإقدام في الحروب والحصارات، وكان السلطان الملك المنصور يجعله كل سنة مقابل حصن عكا، وكان يقع له مع صاحب عكا وفرسانه وقائع كثيرة، وينصر هو عليه، وما زال المنصور يعظمه ويستشيره في سائر أموره ويحترمه حتى أنه كان يركب إلى جانبه في المواكب وغيرها. الأمير نوروز، أتابك قازان ملك التتار. أوقع به قازان في هذه السنة وقتله، وكان سببه أنه هم بإعدامه فأحس نيروز بذلك، فكاتب الملك المنصور لاجين بأنه يقصد الانحياز إليه، والتمس منه تجريد عسكر ليساعده عليه، فوقعت كتبه في يد قازان، فأرسل إلى نائبه قطلوشاه يأمره بأن يجرد جيشا في طلبه، وأمره بأن متى وقع له يوقع به، فلما أحس نوروز بذلك التجأ إلى صاحب هراة وهو فخر الدين بن شمس الدين كرت صاحب سجستان، فقبض على نوروز وسلمه إلى قطلوشاه، فقتله، ثم قتل قازان أخويه فيما بعد في بغداد وهما حاجى ولكزى، وأوقع بأكثر ألزامه، وقتل القاصد الواصل إليهم بالكتب من مصر. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والتسعين بعد الستمائة استهلت، والخليفة: الحاكم بأمر الله العباسي. وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك المنصور لاجين، ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر. وقاضي القضاة الشافعي: الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. وقاضي القضاة الحنفي: حسام الدين الرازي. وأما نائب الشام فكان: سيف الدين قفجق، ولكنه قد هرب إلى قازان كما ذكرنا قضيته في السنة الماضية، وكان قد استناب في الشام عوضه الأمير سيف الدين جاغان، ولما اتفق قتل لاجين على ما نذكره وثب عليه قرا أرسلان أحد أمراء دمشق فمسكه وسجنه على ما ذكرناه مفصلا. وأما نائب حلب فإنه: سيف الدين بلبان الطباخي. ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين

ذكر بيبرس في تاريخه: أن السبب فيه أن لاجين فوض إلى مملوكه منكوتمر جميع الأمور، فاستبد بوظائف الملك ومهماته، وصار وقفا على إشاراته وانتهى حاله معه إلى أنه صار إذا رسم مرسوما أو كتب لأحد توقيعا وليس هو بإشارة منكوتمر يمزقه في الملأ ويرده ويمنع أستاذه منه ويصده، فاستثقل الناس وطأته، وكرهوا دولته، ورغبوا إلى الله في زوالها وتغير أحوالها، ونسبوا الذنب فيما يبدو من منكوتمر إليه لكونه جمع أمره كله عليه، وأنشد لسان حالهم: فإن لا تكن أنت المسئ بعينه ... فإنك ندمان المسئ وصاحبه وكان في مماليك السلطان شخص يسمى سيف الدين كرجى ممن أعان المنصور ووازره في تلك الأمور، فقدمه على المماليك السلطانية، فكان يتحدث في أشغالهم، وينظر في أحوالهم، ويدخل إلى السلطان متى أراد لا يحجبه عنه حاجب ولا راد، فغار منكوتمر من قربه وسعى في بعده، فلما ورد البريد مخبرا بأمر القلاع التي فتحها العسكر ببلاد الأرمن حسن لأستاذه أن يرسله إليها ليقيم فيها، فوافقه على إرساله، واتصل ذلك بكرجى، فدخل إلى السلطان وتضرر من الرواح إلى الجهات المعينة، وسأل الإعفاء منها وتعيين غيره لها، فأجابه وأعفاه، فكمن في نفسه من عداوته ما كمن. واتفق بعد ذلك أن منكوتمر فاوض شخصا من الخاصكية نسيبا لطقجى، فسبه وأغلظ عليه، فتوجه ذلك إلى طقجى وشكى الحال إليه، وكان يسمى طغاى، فاجتمع هؤلاء وتشاكوا سوء سيرة منكوتمر وعمله على إبعاد الأمراء وإتلافهم، وقالوا: هذا متى طالت مدته قويت شوكته وعمل علينا واحدا بعد واحد، وأستاذه مرتبط به ومتمسك بسببه، ومتى لم نبدأ بإعدامه ما ننال من مملوكه قصدا، والصواب أنا نبدأ بأستاذه قبله، وأبرموا أمرهم فيما بينهم. فلما كان ليلة الجمعة الحادية عشر من ربيع الآخر هجموا عليه وهو جالس يلعب بالشطرنج مع أحد جلسائه، فأرووا السيوف من دمائه، وقطعوه قطعا، وتركوه ملفعا، وخرجوا إلى دار النيابة في طلب منكوتمر، فلما أتوا إلى بابه استدعوه للنزول، فأحس بالأمر المهول، وعلم أنه مقتول، وكان طقجى ساكنا بدار الملك السعيد، فنزل منكوتمر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واستجار به من القتل فأجاره، وقال لكرجى ومن معه: اذهبوا به إلى الجب ودلوه، فلما صار في قعر الجب عرفه الأمراء المعتقلون، فظنوا أن أستاذه نقم عليه واعتقله، وسألوه عن أمره، فأخبرهم بقتله، فثاروا إليه وشتموه وضربوه وأهانوه لما في نفوسهم منه. وقيل: إنهم وجدوا عليه رائحة النبيذ. وقال صاحب نزهة الناظر: كان السبب لذلك أن طقجى حضر من الحجاز مستهل صفر، فوجد أن أمره قد احتكم بسفره من مصر إلى نيابة طرابلس، وأن منكوتمر قصد فرقته من خشداشيته حتى لا يكونوا مجتمعين، ولما استقر أياما طلبه السلطان وعرفه أنه عينه للنيابة لما يعلم من محبته ونصيحته وأنه متوثق به. فقال طقجى: والله يا خوند إني مدة عمري ما حكمت بين اثنين، ولا أعرف أحكم، وخرج من عنده على غير انفصال، واجتمع بكرجى وسلار وبيبرس الجاشنكير وأخبرهم بما وقع بينه وبين السلطان، وكان عندهم الخبر، فاجتمع رأيهم على أن يتحدثوا مع السلطان في قعوده، فاجتمعوا به، وترققوا له في السؤال، وقالوا: أحدث أحد ولى من السلطنة نائبا وليس له دربة بالنيابة، ولا يعرف الأحكام، فاستحى السلطان منهم، وأعفاه، وعلم بذلك منكوتمر، وتحدث مع السلطان، ولامه على موافقة هؤلاء، وخرج من عنده وهو حرج، فلقى كرجى في الطريق، فقطب في وجهه، وجفا عليه، وقال: كل واحد منكم بقى يعمل رأيه في السلطنة في السر، وحط على الأمراء الذين تكلموا معه وقت سؤالهم السلطان بإعفاء طقجى. ثم إن منكوتمر لما علم أن السلطان قبل الشفاعة في أمر طقجى امتنع من الحضور إلى الخدمة، وجعل يحتج بأنه ضعفت رجله عن الحركة، فعلم السلطان ذلك، فطلب قاضي القضاة حسام الدين الحنفي، واختلى به، وقال له: يا قاضي أنا قد تحيرت مع منكوتمر، إن طاوعته على جميع أغراضه، واتبعت ما يشير إليه لا آمن على نفسي وعليه، وإن أنا خالفته فما يهون على، وهو على كل حال شاب ما جرب الأمر بعد ... ... - وما أدري ماذا أفعل؟ .

ذكر قتل السلطان

وكان القاضي يعرف محبة السلطان له، فقال له: يا خوند أنا أروح إليه وأسمع ما يقول. فسلم ودخل عليه، وجعل يسأله عن حاله، فقال له: ما لي حاجة بالنيابة، ولا بالإمرية، وأنا أريد أعمل فقيرا، وتحدث في هذا الباب كثيرا، وفهم القاضي منه أنه يريد أن يسمع كلامه في كل ما في يده من مسك ناس وعمل آخرين، وإبعادهم عنه. فلما فهم القاضي مقصوده علم أنه متى أشار على السلطان بشيء لا يرجع فيه إليه، وأنه لا يرجع إلا لكلام منكوتمر. فدخل عليه، وعرفه ما قاله منكوتمر، وما قصده، فلم ينكر عليه شيئا، بل سير إليه وطلبه، وطيب خاطره، وقال له: افعل كل ما تختار، وأنه بعد أيام يمسك طقجى، وبعده بقليل يمسك كرجى، أو نرسله إلى نيابة موضع. وفي تلك الأيام وصل قاصد للأمير قفجق في خفية واجتمع بطقجى وكرجى، وأعطاهما الملطفات التي معه، ... ... وأخبرهم برواح الأمراء إلى قازان، وكيف خرج قفجق من دمشق، وتولى جاغان مكانه، وأنهم يعرفوا أنكم إما أنكم توقعوا القتل في السلطان ومنكوتمر، وإما تعرفوهم فيهاجرون، وذلك حتى يعرفوا حالهم. فلما سمع طقجى وكرجى هذا من القاصد اجتمعا مع بيبرس وسلار وعبد الله السلحدار ... ... يوافقهم على ما ... ...، وأرسلوا إليهم بأنهم يفعلون ما أشاروا به، ثم شرعوا في تدبير قتل السلطان. ذكر قتل السلطان فلما كانت الليلة التي يسفر صباحها عن يوم الجمعة الحادي عشر ربيع الآخر طلع في هذه الليلة نجم في السماء يسطع نوره، ويأخذ بالبصر وله ذنب يظن الرائى أنه يراه بقريب من الأرض، واشتغل الناس بالنظر إليه ... ... وقال بعضهم كان في تلك الساعة قران المشتري وزحل على رأي المنجمين، ثم وقعت الضجة في داخل المدينة، فركب الأمراء بالسلاح، وأشيع الخبر بأن لاجين قتل تلك الساعة. وركب الأمير جمال الدين قتال السبع الموصلي مع جماعة من الأمراء ... إلى ظاهر المدينة، ووقعت الضجة في سوق الخيل، فركب كثير من الناس ولم يبق من الناس أحد في منزله. قال الراوي: وأخبرني قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي عن كيفية قتل السلطان، فإنه كان حاضرا هناك، ونجم الدين بن العسال حاضر، وكانوا يحضرون عند السلطان ينادمونه فقال: كان السلطان جالسا وقدامه أصحاب الخدمة، وقد صلى العشاء الآخرة، وجلس بعض المماليك بين يديه يلعبون بالشطرنج، وهو ينظر إليهم، وقد أحضر له مأكول، فأكل منه، ثم رفع يده منه، وطلب الطشت فغسل يده، وقدم له الجمدار فوطة للمسح، فأخذها ومسح بها يده، وكانت الإشارة بين كرجى والمماليك أصحاب النوبة الذين اتفقوا على قتله أن كرجى إذا تقدم إلى الشمعة تكون إشارة إلى الهجوم على السلطان. قال: ولم يشهد إلا وكرجى قد تقدم إليه وضربه على كتفه، فرفع يده يلتقى الضربة، فطارت يده وأخذ كرجى النمشة من بين يديه وضربه عند نهضته فقطع مشط رجله، فوقع وهو يقول: الله الله، فأخذته السيوف من كل جانب، ووقع بعض أطرافه إلى الإصطبل. قال الراوي: حكى لي أنه قام على قدميه وصار يصيح: لا تفعلوا بسلطاننا، هذا ما يحل، ورفع إليه بعض السلحدارية بالسيف، وقال: اقتل بلا فضول، قال: فسكت، ولما تحققوا موته خرجوا على حميه، وفي أيديهم الشموع، ونزلت مماليك الأطباق، واجتمع الأمراء الذين داخل باب القلة، وفتحوا باب القلة وخرجوا، فوجدوا الأمير طقجى جالسا على باب القلة في انتظارهم، هو وخشداشيته، فتلقاهم، وتباشروا بما حصل لهم من الظفر، ثم أرسلوا وطلبوا بقية الأمراء المقيمين بالقلعة، فجاءوا أولا فأولا، وبسطوا من باب القلعة بسطا، وأوقدوا شموعا، ووقع الصوت في نواحي القلعة بأن السلطان قتل. وكان منكوتمر يتحدث فيما يبطق بالأمراء المجردين، فلم يشعر إلا وقد دخل مملوك وهو يقول: يا خوند، اسمع هذه الضجة في القلعة، فنهض وقام إلى الشباك فرأى باب القلعة قد انفتح، وخرجت الأمراء، والشموع توقد، والضجة قد ارتفعت، فقال: والله فعلوا، وأشار إلى مماليكه أن يغلقوا الأبواب، ويلبسوا، ويتحصنوا.

ذكر ترجمة السلطان لاجين

ثم قال كرجى للحسام الأستاذ دار: نقوم إلى دار منكوتمر ونحرقها إلى أن نخرجه، فقال له الحسام: يا أمير ما يحتاج، أنا أروح إليه وأخرجه، ومشى إلى أن وصل إلى الباب فوجد المماليك قد لبسوا، واعتدوا للقتال، فعرفه نفسه، وقال: قولوا للأمير سيف الدين يكلمني، ففتح الشباك؛ فسلم على منكوتمر وعرفه بما جرى من قتل السلطان وما ذكره كرجى من إحراق بيته، فصار يتلطف به حتى أذعن لخروجه على شرط أن يشفع الأمراء فيه، فخرج وقد شد وسطه بمنديل، ومشى صحبته إلى أن وصل إلى باب القلة، فوجد سائر الأمراء جلوسا والأمير طقجى جالس مكان النيابة، فلما رأوه قاموا إليه وتلقوه، فأخذ يد طقجى وباسها، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه، وشرعت الأمراء مع الأمير حسام الدين الأستاذ دار يترققون السؤال لطقجى أن يلطف بأمره مع كرجى ويسأله في إبقاء نفسه عليه، فأجاب إلى ذلك. وكان كرجى في ذلك الوقت غير حاضر، واتفق الحال أن يكون منكوتمر في الحبس إلى حين حضور كرجى، ثم يسألونه فيه، وأرسلوه مع جماعة إلى الجب بالقلعة، وكان في الجب جماعة من الأمراء منهم الأمير شمس الدين الأعسر، والأمير عز الدين الحموي نائب الشام، فلما نزل منكوتمر عندهم عرفوه، وقالوا: كيف جئت عندنا؟ فقال لهم: إن السلطان غضب عليه لأمر بلغه عنه وحلف أنه لا بد من حبسه، فأمسكوا عنه، وقصد الأعسر أن يوقع به في ذلك الوقت، فمنعه الحموي من ذلك، ورجوا أن أستاذه يرضى عليه ويكون هو الواسطة في إفراجهم من الحبس. ولم يلبث فيه يسيرا إلا وقد أرخوا القفة التي كانوا قد نزلوه بها وصاحوا من رأس الجب على منكوتمر بالصعود، فقاموا إليه وأكرموه، وهم يظنون أن القول الذي ذكره لهم صحيح، فلما أخرجوه وجد كرجى واقفا ومعه جماعة من المماليك السلطانية، فلما وقع نظره عليه أخذ يسبه ويهينه، فلم يلتفت إليه منكوتمر؛ بل كلمه بعزة نفس لأنه تحقق أنه لا يبقى عليه، فضربه بدبوس حديد كان في يده ورماه إلى الأرض، ثم ذبحه بيده على باب الجب، وتركه ومشى إلى الأمراء. وكانت الأمراء سألوا كرجى أن يبقى عليه قبل مجيئه إلى الجب. فقال لهم: إن السلطان ما عمل معي سوءا، بل والله أحسن إلى غاية الإحسان فكبرني وأنشأني، وإنما قتلته حتى أبلغ مرادي من منكوتمر، وما أحليه في الدنيا، ولو علمت أني إذا قتلت منكوتمر يخليني السلطان بعده بالحياة لما قتلته ولا شوشت عليه. وقال بعض الرواة: كان السلطان لاجين يوم الخميس صائما فأفطر ليلة الجمعة. ولما كان بعد صلاة العشاء الآخرة دخل عليه الأمير سيف الدين كرجى مقدم البرجية، وكان السلطان يلعب بالشطرنج وعنده قاضي القضاة حسم الدين الرازي الحنفي، وكان كرجى قد اتفق مع نغاى الكرموني سلاح دار السلطان، وكان صاحب النوبة تلك الليلة. فقال السلطان: يا أمير كرجى ما عملت؟ فقال: بيت البرجية وغلقت عليهم، وكان قد أوقف أكثرهم في دهليز الدار، فشكره السلطان وأثنى عليه للحاضرين، وقام يصلح الشمعة والنمجاة إلى جانبها، فرمى عليها فوطة، وقال للسلطان: ما تصلى؟ فقال السلطان: نعم، فقام ليصلي فضربه بالسيف على كتفه، فطلب السلطان النمجاة فلم يجدها، فقام من هول الضربة، فمسك كرجى ورماه تحته فخطف نوغاى الكرموني النمجاة وضرب بها السلطان على رجله فقطعها، فانقلب السلطان على ظهره قتيلا يخور في دمه، فصاح القاضي حسام الدين فأرادوا قتله، ثم أمسكوا عنه وتركوه مع السلطان وأغلقوا عليهم الباب. قال القاضي: كنت عند السلطان فما شعرت إلا وستة أسياف نازلة على السلطان، وهو منكب على لعب الشطرنج، فقتلوه. وكان رؤوس الذين اتفقوا على قتله طقجى، وكرجى، ونوغاى، وقراطرنطاى، وججك، وأرسلان، وأقوش، وبيليك الرسولي. ذكر ترجمة السلطان لاجين كان أصله من مماليك السلطان الملك المنصور نور الدين علي بن السلطان الملك العز أيبك التركماني.

قال صاحب النزهة: حكى لي بعض الخدام المعزية أن قطز لما كان نائب نور الدين على المذكور أشترى لاجين وهو صغير للسلطان، ثم لما تسلطن قطز والتقى بالتتار على عين جالوت وكسرهم وعاد إلى الديار المصرية، قتل قريبا من الصالحية وتسلطن بعده الظاهر بيبرس، ولما تسلطن بيبرس شيع أولاد الملك المعز إلى بلاد الاشكرى وبقيت من جماعته بعض المماليك، وكان لاجين هذا منهم، فشرعوا في بيعهم، فاشتراه قلاون مع مملوكين آخرين، وبقى عند قلاون إلى أن تسلطن، فجاء إليه تاجره وادعى أنه لم يقبض ثمنه عند بيعه، فنودى عليه ثانيا واشتراه قلاون شراء ثانيا صحيحا بثلاثة آلاف درهم، وكان في مماليك قلاون مملوك اسمه لاجين وكان من أكابر مماليك قلاون. فلما اشترى لاجين هذا قالوا له: لاجين الصغير، وكان بعضهم يسميه لاجين شقير لأنه كان أشقر أزرق العينين معرق الوجه طويلا، وذكر أنه كان جركسي الجنس، وكان شجاعا مهيبا، موصوفا بالشجاعة والإقدام، وفيه دين وعقل، وكان يلعب بالرمح ويرمى بالنشاب في غاية الاتقان، وظهرت له أمور من الشجاعة والإقدام في وقائع كثيرة خصوصا في نوبة أخذ طرابلس، وكان يصطلى الحرب بنفسه، ومما يدل على إقدامه ركوبه على الملك الأشرف وقتله، ثم ركوبه على السلطان الملك العادل كتبغا وقتل مماليكه. وذكر عن القاضي حسام الدين الحنفي أنه لما بلغه تجهيز قازان لغزو بلاد الإسلام شاهده مرارا يصلي ويقف على قدميه ويكشف رأسه ويسأل الله أن يطيل عمره حتى يلتقي مع قازان وجيشه. قال: فقلت له ليلة: يا خوند كيف يكون عزمك إذا صح أمر قازان؟ قال: يا قاضي حسام الدين كنت أختار من عسكر مصر ألفى فارس ممن أعرف فيه النجابة والفروسية، وأصدم قازان حيث كان، ولو كان في عشرين ألف فارس، ويعطى الله النصر من يشاء، ولكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه قال: قلت له: يا خوند الأعمال بالنيات. وذكر في السلطان أنه لما كان نائبا بالشام كان في عنفوان شبابه، وكان مشغولا بلذة العيش في اللهو والشغف بالشراب، وكان يعايش كبراء دمشق ورؤسائها، ويتخذ لهم المجالس، وينعم ويهب، وكانت له مكارم كثيرة على أهلها، فلذلك أهل الشام كانوا يحبونه ويتعصبون له. ومن كثرة انهماكه على الشراب واللهو والطرب بلغ الشجاعي خبره إلى السلطان الملك المنصور وعرفه أنه هتك حرمة السلطان بسبب معاشرته مع عامة دمشق وانهماكه على الشراب، فغضب السلطان عليه، وعرف الأمير حسام الدين النائب ما نقله الشجاعي عنه، فأخذ حسام الدين يرد عنه ويكذب الشجاعي ويقول: إنه صاحب غرض، ثم أمر السلطان بأن يكتب إليه كتاب، فكتب كتاب فيه توبيخ وتهديد ونهاه عن الشراب والمعاشرة مع أطراف الناس، وكذلك كتب إليه الأمير حسام الدين طرنطاى، فلما وقف على الكتابين قلل ما كان يرتكبه، وصار يقضى كثرة أوقاته في الركوب إلى الصيد ونحوه، ويغيب في ركوبه شهرا وشهرين، ويصحب معه الملاهي، وقطع على هذا لذة عظيمة من العيش، ولما كثر عليه العتب من السلطان رجعه طرنطاى وسد خلله إلى أن ترك ذلك كله. وكانت أيامه من أحسن ما تكون من العدل والإحسان إلى الرعايا، وكان دينا خيرا، مشفقا، كثير الصوم والعبادة، وقطع أكثر المكوس، وقال: إن عشت لا تركت مكسا واحدا، ولكن نائبه منكوتمر كان على خلاف ما ذكر، وكان يعمل ما يختاره، فوقع في دولته الفساد وكان ما كان. وكانت مدة مملكته سنتين وثلاث شهور، وقيل: ثلاث سنين وشهرين، وقيل: ثلاث سنين وستا وعشرين يوما، والأول أصح، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.

ذكر قتل منكوتمر وترجمته

وقال صاحب النزهة: حكى لي بيجان مملوك الأمير شمس الدين قراسنقر حكاية غريبة اتفقت لأستاذه مع السلطان لاجين، وهي أنهما بعد قتل الأشرف خليل بن قلاون لما هربا ودخلا القاهرة، واختفى كل منهما في مكان، فاختفى شمس الدين قراسنقر في حارة بهاء الدين، واختفى لاجين في مأذنة جامع ابن طولون - على ما ذكرنا فيما مضى - رأى قراسنقر مناما عظيما في حق لاجين، فلما اجتمعا وهما مختفيان قال له قراسنقر: يا أشقر والله لقد رأيت رؤيا عظيمة، ولكن أخاف إذا قصصتها عليك تطمعك نفسك وتغير نيتك وتغدر بي. فقال لاجين: لا يكون ذلك إن شاء الله، فآخر الأمر أحضرا مصحفا شريفا وتحالفا، وأكدا اليمين أن أحدهما لا يخون الآخر؛ ثم شرع قراسنقر فقص المنام وقال: رأيتك راكبا وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف، مجللة الأرقاب على عادة مراكيب الملوك. قال: ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس حلة الخلافة، وطلبتني فأجلستني بالقرب منك على ثالث الدرجات، وشرعت في الحديث معي، ثم رفضتني برجلك، فوقعت من المنبر، فاستيقظت عند وقوعي: وهذا يدل على قربي منك، ثم يجرى علي أمر من جهتك، ثم قال: يا أشقر النحس أنا والله حلفت وحلفتك فما أدري هل تثبت على يمينك أم لا؟ وبقى الأمر على هذا إلى أن تسلطن لاجين واستناب قراسنقر، ثم قبض عليه؛ ولكن أخلى له مكانا في بعض القاعات وأكرمه في محبسه؛ وأوصى أن تعمل له أطعمة مفتخرة، ولا تقطع من عنده فاكهة، ولا حلاوة، وكل ما يختاره من الأشياء المستطرفة، والمراسلات بينهما لا تنقطع، وكل وقت كان قراسنقر يسير إليه ويذكر له المنام المذكور ويسأل منه أن يجعل بشارة المنام الإفراج عنه وإرساله إلى أي مكان يشاء السلطان، وفي أثناء ذلك كان يذكره الأيمان المؤكدة بينهما، وكان السلطان كلما سمع من ذلك تبسم ويبعث إليه السلام ويقول له: ما بقى إلا قليل. وتمادى الأمر على ذلك إلى ليلة الجمعة التي قتل فيها السلطان، فأرسل إليه السلطان السلام ومعه فاكهة، وقال للرسول: قل للأمير شمس الدين إني اشتهيت بسلة بلحم قديد، ولا آكلها إن شاء الله إلا وأنت معي، فلما سمع قراسنقر بذلك استبشر وفرح غاية الفرح، ولما كانت ليلة قتله أرسل إليه بسلة مطبوخة، واعتذر بأنه صائم ولا يمكنه أن يفطر على بسلة، وفي الجمعة الأخرى تكون عندي إن شاء الله، فلما سمع قراسنقر ذلك أرسل إليه إني منتظر لرؤيته ولو ساعة واحدة أو بكلمة واحدة، فإن في خاطري أن أراه قبل الموت، ولما سمع السلطان ذلك تبسم وقال للقاصد: اذهب إليه وسلم عليه، وعرفه أنه لا يجمعني وإياه إلا يوم القيامة، فلما ورد إلى قراسنقر ذلك قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقتل السلطان في تلك الليلة. وحكى مجد الدين الحرمي وكيل بيت المال قال: كان السلطان متزوجا ببنت الملك الظاهر بيبرس، وكانت دينة عفيفة، فحكت أنها رأت في المنام ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة كأن السلطان جالس في المكان الذي قتل فيه، وكان عدة غربان سود على أعلى المكان، وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه وهو يقول: كرجى كرجى مرتين، فلما أصبحت ذكرت ذلك للسلطان وقالت له: أقم الليلة عندنا، فقال: ما تم إلا ما يقدره الله تعالى. ذكر هذا النويري في تاريخه. وذكر صاحب النزهة: أن زوجة السلطان أرسلت خادمها وراء علاء الدين ابن الأنصاري، وكان له علم في تفسير المنامات، لأجل تفسير رؤيا رأته. فقال علاء الدين: إني ضعيف لا أقدر على الطلوع إلى القلعة، ولكن قل لها: تكتب المنام في الورقة وأنا أرد الجواب عنها، فعاد الخادم إلى الخاتون وأخبرها بذلك، فأرسلت إليه ورقة مكتوبة فيها أن الخاتون رأت السلطان جالسا وهي إلى جانبه وإذا بطائر يشبه العقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار به إلى أن طلع من دور القاعة، وطائر آخر قاعد على خشب دور القاعة في حلية الغراب وهو يصيح كرجى كرجى كرجى ثلاث مرات، فلما وقف عليها علاء الدين قال: أيها الخادم هذا لا يفسر إلا بعد ثلاث جمع. قال: وقصدت بذلك التسويف إلى أن تنقضى إما ثلاثة أيام أو ثلاث جمع أو ثلاث شهور، وعلمت أنه يظهر سر منامها عن قريب، فوقع قتله ثاني ليلة الرؤيا. ذكر قتل منكوتمر وترجمته

ذكر تدبير كرجى

قد ذكرنا أن كرجى هو الذي قتله، وأن طقجى ومن معه لما قتلوا السلطان أتوا إلى دار منكوتمر فدقوا عليه الباب وقالوا له: السلطان يطلبه، فأنكر حالهم، وقال: إنكم قتلتم السلطان، فقال له كرجى: نعم يا مأبون، وجئنا نقتلك، فقال منكوتمر: قال أنا في جيرة الأمير سيف الدين طقجى، فأجاره، وحلف له أن لا يؤذيه، ولا يمكن أحدا من أذيته، ففتح باب داره، وتسلموه، وذهبوا به إلى السجن، كما ذكرنا مفصلا، ثم اغتنم كرجى غيبة طقجى وأخرجه من السجن، فذبحه من أذنه إلى أذنه، وأصبح كما قال الشاعر: ومن يحتقر في الشر بئرا لغيره ... يبيت وهو فيها لا محالة واقع وكان منكوتمر مملوكا من أحسن الأشكال، وأكمل صفات الحسن، وكان لاجين ممن يثق به، ويعتمد عليه في سائر أموره، ولما ولى الملك ولاه النيابة كما ذكرنا، وسلم إليه مقاليد الأمور، فتعاظمت نفسه، وساءت أخلاقه، ونفر منه النفوس، وعافته الأمراء وأرباب المناصب والكتاب، وأكبر ذنوبه عند الخاصة والعامة والذي أورث له ... منهم عند عمل روك البلاد، فإن السلطان قصد بذلك إصلاح أرزاق الجند، فرجعه عن قصده، ونقص أخبازهم، وتولى تفريقها، وكان يجلس في شباك دار النيابة ويفرق المثالات، وهو مولى الوجه، ظاهر الغضب ... ... فلم يكن أحد يجسر أحد على كلمة بين يده من خير أو شر. وكان السلطان قد كبر كرجى وقربه، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، وكان كلما حضر عند منكوتمر من عند السلطان في رسالة لا يأخذها منه بقبول، ويولى وجهه عنه، فإذا جاوبه، جاوبه بكلام غليظ منكر. وما سمع أنه دخل إليه في شفاعة وقبلها منه، وما زال يسعى عليه وعلى طقجى إلى أن وافق السلطان على إخراجهما إلى الشام، فوقفت الأمراء ومنعوه من ذلك، كما ذكرنا، وكان قصده إبعاد هؤلاء من عند السلطان، وإنشاء قوم من حاشيته وجهته. وكذلك كان قصده في نواب البلاد، فأوقع ذلك في قلوبهم حزازات لا يحصى عددها، ونارا تتلظى ولا يسكن وقودها، ولا يمكن خمودها، حتى جرى ما جرى. ذكر تدبير كرجى ولما جرى ما ذكرناه من قتل السلطان، ونائبه منكوتمر اجتمعت الأمراء للمشورة والتحدث في الأمور بينهم لسيف الدين طقجى، وسيف الدين كرجى، وأول ما بدأا فيه أن سيروا البريد إلى الشام وحلب، وكتبوا إلى النواب عما جرى من الأمور، وعرفوا نائب حلب الطباخى بأنهم قضوا الشغل الذي وقع عليه الاتفاق، وأمروه بأن يقبض على أيدغدى شقير الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب حلب، ويقبض على جاغان الذي هو نائب الغيبة في الشام، وهو الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب دمشق عوض سيف الدين قفجق. ويقبض أيضا على حمدان بن صلغاى الذي أرسله السلطان إلى النواب، كما ذكرنا، ويقبضوا جميع الأمراء الحسامية. وجعل الأمراء يحضرون كل يوم، ويجلسون على باب القلة، ويجلس الأمير طقجى مكان النائب، والأمراء الكبار في الميمنة والميسرة، ويمد سماط السلطان كما هي العادة. ووقعت المشورة بينهم في أمر السلطان الذي يولى عليهم، فاتفقوا على إحضار الملك الناصر من الكرك، وإجلاسه على التخت. والأمراء الكبار بالقلعة يومئذ الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخازندار، والأمير بدر الدين عبد الله السلحدار، والأمير سيف الدين كرد الحاجب، وطقجى في مكان النائب، والأمراء حوله، وديوان الجيش قدامه، وهو يأمر وينهى معتقدا أن الرقاع قد خلت، وأن البياذق قد تفرزنت. ولما اجتمعت آراؤهم على إحضار الملك الناصر من الكرك ليجلس في السلطنة، لأنه صاحب البيت، وابن صاحبه، ووارث ملك أخيه وولده.

ذكر قدوم الأمراء المجردين ومقتل طقجى

فقام كرجى بينهم يتكلم، فقال اسمعوا له، وقال: يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين، وأخذ ثأر أستاذي، والملك الناصر الذي في الكرك صغير لا يصلح أن يكون سلطانا، وما يكون سلطان إلا هذا، وأشار إلى الأمير طقجى، وأكون أنا نائبه، فأنا ما فعلت الذي فعلت إلا أن أكون أنا وهو ها هنا، والذي يقول غير هذا يقول قدامي، قلم يقدر أحد من الأمراء أن يرد عليه الجواب، فسكتوا عن آخرهم، وبقى كل واحد ينتظر جواب غيره، فأجاب الأمير سيف الدين كرد الحاجب وقال: يا خوند الذي فعلته أنت قد علمه الأمراء، وخاطرت بنفسك، ومهما أردت ما ثم من يخالف، وانفض هذا المجلس على أن موافقة الأمراء على ما يختاره. وفي ذلك اليوم وقعت بطاقة الأمير بدر الدين أمير سلاح، وصحبته الأمراء المجردة، وهي من أيام لاجين، كما ذكرناه، بأنهم قد وصلوا إلى الصالحية، قصد الأمير حسام الدين الأستاذ دار وكرد الحاجب إلى خدمة كرجى، وقالا له: إن الذي اخترته قد حصل، ولم يبق غير حضور هذا الرجل الكبير العقل، وهو موافق لنا في كل ما تختاره، وانقضى الأمر على هذا. ثم كتب الأمراء الكتب في الليل إلى خشداشيتهم من الأمراء الواصلين، وعرفوهم بجميع ما جرى، وأن كرجى وطقجى قد قويت شوكتهما، وأرادا أن تكون السلطنة لطقجى والنيابة لكرجى، ووقع اتفاقا معهما على ذلك من غير اختيار منا، وإنما أكرهانا على ذلك، وعرفوهم أن يأخذوا حذرهم، ويعملوا في رأيهم على الأمير بدر الدين أمير سلاح، ويتقيدوا برأيه في جميع ما يرسم به، وأنهم منتظرون ما يرى في أمرهم وأمر الأمراء الذين بمصر، إن الأمراء المجردين إذا وصلوا إلينا يقوى أمرنا، ويشتد قلبنا. ووقع الاتفاق أيضا من كرجى وطقجى وشاورشى والمماليك الأشرفية أن يكون كلهم يد واحدة، وتكون كلمتهم متفقة على أن تكون السلطنة لطقجى، والنيابة لكرجى، وعينوا لجماعة من حاشيتهما بإمريات وإقطاعات، واتفقوا على أن أحدا منهم لا ينزل من القلعة، ولا يلتقوا ببدر الدين أمير سلاح، ولا الأمراء المجردين الذين معه، وأن يظلوا مقيمين بالقلعة إلى حين طلوع الأمراء، ثم يتفقون عليهم، ويفعلون ما يختارونه. فبقى الأمر على ذلك إلى أن وصلت العساكر إلى بركة الحجاج وكان ذلك في النصف من شهر ربيع الآخر من هذه السنة. ذكر قدوم الأمراء المجردين ومقتل طقجى لما وصلت العساكر إلى بركة الحجاج، ودخل بعضهم المدينة، شرعت الأمراء المقيمون بمصر في تجهيز الملاقاة، وشاوروا طقجى وكرجى في ذلك. فقال كرجى: نحن ما عندنا أحد ينزل إلى ملتقى أحد، وكل واحد منهم يدخل إلى بيته، ثم إذا أصبح يطلع إلى قلعة السلطان ويلبس خلعته، ثم يروح إلى بيته وبعد ذلك ندبر ما نفعله، فقامت الأمراء على ذلك وتفرقوا. ثم اجتمع الأمير سيف الدين كرد الحاجب بالأمير حسام الدين الأستاذدار، وقال: هذا الذي اتفقت الأمراء عليه لا ينفع، ولما يتم أمر ما دام طقجى وكرجى في القلعة، والرأي أن تعلم الأمراء أنهم إذا طلعوا خدمة القصر يوسعون الحيلة في الحكم عليهما بالنزول والملاقاة بالأمراء القادمين، فأرسلا لكل أمير مملوكا وأعلما بذلك. فلما اجتمعوا في القلعة لخدمة القصر شرع الأمير جمال الدين قتال السبع وحسام الدين الأستاذدار وطغريل البوغاى وتحدثوا مع طقجى وكرجى وقالوا: هذا الأمير بدر الدين أمير سلاح رجل كبير، وأتابك عسكر مصر، وقديم الهجرة، وكان في الغزاة مع العدو، وقد أثر فيهم آثارا حسنة، وفتح إحدى عشرة قلعة، وله مدة سنة ونصف غائبا هو ومن معه، فيدخلون مصر ولا يجدون أحدا لاقاهم ولا التفت إليهم ولو كان السلطان في الحياة خرج بنفسه فالتقاه فأكرمه، ووافقهم سائر الأمراء في هذا الحديث، ولم يبق أحد حتى قال: والله هذا هو المصلحة، وكرجى لا يلتفت إلى سماع ما يقولون، ثم قال: لا ينزل أحد منا إليهم، فإن أردتم أنتم انزلوا ولاقوهم فإنهم خشداشيتكم، وطال شرح الكلام بينهم إلى أن استحى الأمير طقجى وقال لكرجى: قول الأمراء على هذا الوجه هو الصواب، وأنا أركب صحبة الأمراء ومماليك السلطان معي، وتركب بقية العسكر وحدهم، ويلاقون هذا الرجل ومن معه، وتكون أنت مقيما بالقلعة مع بعض مماليك السلطان إلى أن نلتقي ونرجع، فإن اختار طلوع القلعة طلعنا معه، وإن اختار غير ذلك عرفنا قصده وانتظم الأمر على الدول على هذا الوجه.

ذكر مقتل كرجى

ثم جلس طقجى وكرجى على باب القلعة وعرضا مماليك السلطان فاختارا منهم أربعمائة مملوك من خيارهم يكونون في خدمة طقجى ويركبون معه عند نزوله، ووصاهم أن يكونوا متيقظين على أنفسهم ولا يفارقون طقجى ويحفظونه إلى أن يرجع، وجهز لهم كرجى من الإصطبل خيار الخيل وخيار المراكيب. فلما أصبحوا ثاني اليوم ركبت سائر الأمراء ووقفوا ينتظرون ركوب طقجى إلى أن نزل في عصبة شديدة وموكب كبير، وكان الأمير سيف الدين كرد الحاجب أيضا راكبا مع الأمراء والجند في موكب كبير، ولم يبق في القاهرة أحد من العامة والسوقة إلا وقد خرج للتفرج، وكان يوما مشهودا، ثم سارت الأمراء والعسكر كلهم إلى أن التقوا، وفسح الحجاب طريقا لطقجى، فساق إلى أن اجتمع بالأمير سلاح، فتصافحا على الخيل وقبل طقجى يده، ومشى إلى جانبه إلى أن وصلوا إلى قبة النصر. فساق كرد الحاجب من وسط الموكب وقال للأمير سلاح: يا خوند الأمير يطلع إلى القلعة أو يروح إلى بيته، فقال الأمير سلاح: المرسوم مرسوم السلطان، وأنا موجوع من رجلي، فإن رسم بالطلوع طلعت. فقال له كرد: يا خوند وأين السلطان؟ فقال: ما هذا الكلام؟ فقال: السلطان - تعيش - قتله الأمير، فقال: من قتله؟ فقال كرد هذا قتله، وأشار إلى طقجى، فلما سمعه طقجى قال: نعم أنا قتلت السلطان؟ بالإنكار. قال كرد: نعم. قال طقجى: تكذب، وما خرج الكلام من فمه حتى ضربه بعض المماليك البرجية بالسيف على كتفه اليمين فلم يقطع منه شيئا، فلما أحس بالسيف ركض فرسه وخرج من الحلقة التي كان واقفا فيها مع الأمراء، فأشهرت بعد ذلك السيوف ووقعت الضجة والغلبة، وارتفع الغبار حتى لا يرى بعضهم بعضا. ورأى كرد الحاجب أن مماليك السلطان داروا بطقجى يحفظونه، فقال لهم: يا أولادي أنتم نزلتم حتى تقابلون هذا الرجل الكبير أتابك العساكر، وإذا رآكم على هذا الحال لا يعتقد إلا أنكم نزلتم لأجل قتاله، فيحصل بذلك فتنة كبيرة، وما زال يتلطف بهم إلى أن أخرجهم من الحلقة وأوقفهم بمعزل من الناس، ثم ساق كرد، وجاء إلى الأمير سلاح وقال يا خوند: متى ما وليت عن العسكر ههنا يهلك أهل الإسلام، وكان قد قصد أن يخرج من بينهم ويذهب، فعند ذلك أمر بأن ينشر سنجقه ويحرك النقارات حربيا، ولما رأت الناس ذلك اجتمعت المماليك كلها، وقامت ساق الحرب، وبقى طقجى وحده وخلفه سلحدار واحد، ونظر إلى العسكر وقد ضربوا عليه حلقة، ولم يبق معه أحد من المماليك، فقصد أن يلتجئ إلى أمير سلاح ويستجير به، فصادفه قراقوش الظاهري والتزق به، فضربه بالسيف، فجاءت الضربة في وسط حنكه، فقطع وجهه قطعتين وفصل الحنك من الوجه ووقع إلى الأرض، واجتمعت عليه الخيل، فبقى طريحا، فجاء أمير سلاح ووقف عليه وأمر بأن يشال على قبر عال، ويحمل إلى تربته. قال صاحب النزهة: فرأيته وقد سلب جميع ما كان عليه، ولم يجدوا شيئا يحمل عليه غير مزبلة من مزابل الحمامات، فوضع على بهيمة، ودارت به الناس إلى أن أوصلوه إلى تربته التي عمرها بجوار إصطبله ومدرسته. ذكر مقتل كرجى لما قتل طقجى وانهزمت المماليك الذين نزلوا صحبته كانت طائفة منهم هربت نحو القلعة، وأخبروا كرجى بأن العسكر جميعهم اجتمعوا على طقجى وهم في قتال معه، ولم يعرفوا أنه قتل أو بالحياة، فنهض كرجى من وقته وطلب سائر المماليك السلطانية الذين في القلعة، وفتح الزردخاناه وأخرج منها العدد وآلات الحرب وفرقها، وأمر بشد الخيل من إصطبل السلطان، ونزل في خمسمائة مملوك، ووقف تحت الطبلخاناه على أنه منتظر خبرا ثانيا، ثم ترادفت المماليك المنهزمة والذين حضروا مقتل طقجى، وعرفوا كرجى أنه قتل، وأن العسكر جميعهم قاصدون إليك، فوجد لذلك أمرا عظيما وقوى نفسه على ملاقاتهم بمن معه، ثم نظر إلى من معه، فرأى منهم من يناجز إلى ورائه، ومنهم من يلوى عنان فرسه، وعرف أن الأمر قد انحل ولم يبق معه غير مماليك نفسه، وأول العسكر قد بدأ وأعلامهم منشورة، فأثنى عنان فرسه إلى نحو القرافة، وتبعته الحرافيش وصاحوا عليه، وكان متولى القاهرة في ذلك الوقت ناصر الدين الشيخي، فصادفه وهو طالع من الصليبة وهو سائق، وقصد أن يرده، فرجع إليه وضربه بالسيف، فخرج فرسه، وساق إلى أن وصل بساتين الوزير، والخيل وراءه أولا فأولا، وهو يرجع إليه ويردهم عنه.

ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة

وكان كرجى على ما كان عليه من قصر القامة شجعا، فارس الخيل، وقد تعلم فنون الحرب، ولم يزل في مراددة الخيل الواصلين إليه إلى أن قابله صمغار ابن سنقر الأشقر واصطدم هو وإياه، فتطاعنا ساعة، فأدركه محمد شاه المعروف بالأعرج الخوارزمي، وكان من الفرسان المجيدين، وقابله وما زال يتطارد معه إلى أن رماه إلى الأرض، فاجتمعت الجند عليه فذبحوه وأخذوا رأسه وأتوا بها إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح والحسام الأستاذ دار، والأمراء وقوف عند الطبلخاناه، ورموا برأسه بين أيديهم، ففرحت الأمراء وتباشروا، ثم تفرقوا، ورجعت المجردون إلى بيوتهم. وفي تاريخ النويري: هرب كرجى حين علم بقتل طقجى، فلحقوه آخر القرافة فقتلوه هناك. وقال بيبرس: هرب إلى ظاهر مصر فأدركوه عند قبور أهل الذمة، فقتلوه هناك، فصرعه بغيه وأهلكه غيه، ولله أن در القائل: قضى الله أن البغي يصدع أهله ... وأن على الباغي تدور الدوائر ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة ولما جرى ما ذكرنا طلعت الأمراء الأكابر إلى القلعة في ثاني اليوم الذي قتل فيه طقجى وكرجى، واتفقت آراؤهم على النزول إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح وتكون المشورة بحضرته لأجل أمر السلطنة، فنزلوا إليه وشاوروه في ذلك، وأقاموا يترددون إليه يومين والثالث إلى أن اتفقت آراؤهم على أن يسيروا بعض الأمراء إلى مدينة الكرك ليحضروا الملك الناصر منها؛ ليجتمع شمل أهل الإسلام وتسكن الفتن بينهم، فإن مماليك السلطان البرجية جميعهم التفت على الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والمماليك الصالحية والمنصورية وبعض الأشرفيه التفت على الأمير سيف الدين سلار الصالحي، فأرادوا أن يسكنوا خواطر الناس بحضور ابن أستاذهم وسلطانهم، وأن يحفظوا دولته إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، فاتفقوا على ذلك، وقصدوا قتل من مسكوا من المماليك الذين شاركوا في قتل السلطان، ثم أخروا ذلك إلى وقت حضور السلطان من الكرك. واتفق رأيهم على تسيير الأمير علم الدين سنجر الجاولى، والأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار، وجهزوا لهما الهجن وما يحتاجان إليه. واتفقوا على أن تكون الكلمة بينهم متفقة واحدة، فكانوا يجلسون ويحكمون وتكتب الكتب بالعلائم، فأول من يكتب علامته الأمير حسام الدين لاجين الأستاذ دار، ثم الأمير عز الدين أيبك الخزندار، ثم الأمير سيف الدين سلار، ثم الأمير سيف الدين كرد الحاجب، ثم الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ثم الأمير جمال الدين عبد الله السلحدار، ثم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وكانوا إذا كتبوا كتبا لسائر النواب يكتب عن ألسنة هؤلاء الأمراء ويحط كل منهم علامته عليه، ثم ينزل الجميع يوم الاثنين ويم الخميس إلى خدمة الأمير بدر الدين أمير سلاح، ويأكلون على سماطه، ويستشيرونه فيما يفعلونه، فإنه كان هو المشار إليه من الأكابر، وهو الذي سكن الفتنة بينهم في ذلك الوقت وأشار أن المسلمين لا يسكنون إلى أن تجتمع كلمتهم على ابن أستاذهم، فإنهم مماليك أبيه وأخيه، وهو وارث ملكهم، ومالك عقدهم وحلهم، وقطع من الجميع علائق الطمع، وعرفهم أن حضوره وتملكه عليهم أحق وأولى، وإن كان صغير السن وأنتم تدبرون أمره برأيكم. ثم كتب كتابا من عنده إلى الملك الناصر، وكتابا آخر إلى جمال الدين أقوش نائب الكرك وعرفه ما اتفق من الوقائع في مصر وأن يجهز السلطان إلى الحضور لملكه. وكان الأمير عز الدين أيبك الخزندار يجلس مكان النيابة والأمراء دونه.

وكتبوا أيضا كتبا لوالدة الملك الناصر وعرفوها بالوقائع وطيبوا خاطرها، فأخذ نائب الكرك الكتب ودخل بها عليها وعرفها مضمونها، فظنت أن هذا مكر من حسام الدين لاجين أراد بذلك إحضار ولدها وقتله، فأبت وامتنعت، ولم تعلم أن الإرادة الإلهية حكمت له بالسعادة الطويلة، ثم إن نائب الكرك قال لها: إن امتناعك عن هذا يورث فسادا كثيرا بين المسلمين، ويوقع فتنا وسفك دماء، وحلف أن هذا الأمر حقيقة ليس فيه مكر ولا خديعة، وما زال بها إلى أن أجابت إليه، وقبلت كلامه، لما كان من سبق إحسانه إليها وإلى ولدها الناصر عند حضورهما إلى الكرك، وكان كل يوم يمد السماط بين يدي الملك الناصر ويقف هو مكان النيابة، وراعى ترتيب المملكة معه مدة إقامته في الكرك إلى حضور الأمراء بطلبه، ثم شرع في تجهيزه بما يليق به وسافر صحبته إلى أن وصل إلى مصر، فلما قرب منها ركبت إليه سائر الأمراء ولاقوه، فلما وقع نظره عليهم ترجلوا كلهم وقبلوا الأرض، وتباشروا بقدومه، وكان يوما مشهودا عظيما، ولم يبق في ذلك اليوم أحد من الأمراء والمقدمين والجند والعامة إلا وقد خرج إليه ولاقاه، وعند طلوعه أجلسوه على التخت، وجلس الأمير بدر الدين أمير سلاح والأمراء الكبار، وكان دخوله يوم السبت الرابع من جمادى الأول من هذه السنة. وفي يوم الاثنين السادس من الشهر المذكور حلف له سائر الأمراء، وعليه خلعة الخلافة، وهو ابن أربع عشرة سنة، وزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر. وكان خلو التخت من السلطنة من يوم قتل لاجين إلى يوم حضور الناصر أحدا وأربعين يوما، وبقى الأمر شورى بين ثمان أمراء لا ينفذ أمر إلا بهم ولا يخرج مرسوم إلا بخطهم أجمعين وهم: بيبرس، وسلار، وأيبك الخزندار، وعبد الله السلحدار، وبكتمر أمير جندار، والحسام أستاذ الدار، وأقوش الأفرم، وكرد الحاجب. وقال بيبرس في تاريخه: ولما استقر الناصر بالقلعة المحروسة استدعى الأمراء الكبار، فحضروا بين يديه، وهم الأمراء المذكورون، وقال: وبيبرس الدوادار مدون هذه الآثار، فوقع اتفاق الآراء؛ واجتماع الأمراء على أن يستقر الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير بكتمر جندار، والأمير سيف الدين قطلوبك حاجبا، والأمير شمس الدين الأعسر وزيرا، وفوضت نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، وأرسل الأمير سيف الدين كرد إلى الحصون نائبا؛ وأفرج عن الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار من الاعتقال وأعاده إلى ما كان عليه من الإمرة، وأنفق في العساكر نفقة عامة، فسرت به الخاصة والعامة. وفي نزهة الناظر: أرسل الأمير سيف الدين كرد الحاجب نائبا بطرابلس، عوضا عن الأمير عز الدين الموصلي بحكم وفاته، واستقر سيف الدين قطلوبك حاجبا، عوضا عن كرد، وكان ممن تأمر بدمشق فأخرجه لاجين إلى حلب ثم عاد إلى مصر واستقر فيها. قال: ثم اتفق الحال على كتب الكتب إلى سائر النواب الشامية والحلبية وسائر الممالك، وسيروا بها الأمير علاء الدين مغلطاى الدمشقي، ثم اجتمع رأيهم على الإفراج عن الأمراء المسجونين وهم: شمس الدين قراسنقر، والأمير سنقر الأعسر، والأمير عز الدين أيبك الحموي، ورسموا أن يكون قراسنقر نائب الصبيبة وأعمالها؛ وولوا فخر الدين بن الخليلي وزيرا؛ ثم بعد أيام قليلة عزلوه؛ وولوا سنقر الأعسر في شهر رمضان. ولما وصل الأمير جمال الدين أقوش إلى دمشق أفرج عن الأمير سيف الدين جاغان الحسامي وولاه البر. ووصل كتاب نائب حلب بوصول الأمراء إلى البلاد؛ وفي خدمتهم أمراء المغل. وذكر ابن كثير أن الأمراء الذين قفزوا إلى قازان إنما كان في أول هذه السنة، وإنما نحن ذكرناهم في السنة الماضية نحو ما ذكر بيبرس في تاريخه. وقال ابن كثير: جاءت الكتب إلى نائب الشام سيف الدين قفجق فوجدوه قد قفز خوفا من غائلة لاجين، فسارت البرد وراءه فلم يدركوه إلا وقد اجتمع بالمغول عند رأس العين من أعمال ماردين، وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.

وكان الذي شمر العزم وراءهم ليردهم الأمير سيف الدين بلغاق، وقام بأعباء البلد لغيبة النائب نائب القلعة الأمير علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاغان، واحتاطوا على من كان له اختصاص بتلك الدولة، فكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد وناظر المارستان، ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاغان، وحسام الدين لاجين والي البر، وأدخلا القلعة. وقدم الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائبا على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء - قبل العصر - الثاني والعشرين من جمادى الأولى، وكان هروب شمس الدين قفجق ومن معه من الأمراء يوم الثلاثاء الثامن من ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكانوا في خمسمائة فارس، وتوجهوا نحو الفرات، فتبعهم الأمير عز الدين بن ... ...؛ والملك الأوحد ليرجعوهم، فلم يقدروا على رضاهم، فرجعوا، ثم توجه أيدغدى شقير وكجكن من حلب ليدركوهم فوجدوهم قد قطعوا الفرات، وأدركوا بعض أثقالهم فأخذوها ورجعوا، فلما بلغوا رأس عين التقاهم بولاى في ألف فارس من المغل وأكرمهم وأحسن نزلهم، وكذلك التقاهم صاحب ماردين فأكرمهم وقدم لهم تقادم خوفا منهم أن يبلغوا قازان أنه كان يكاتب صاحب مصر، وأتموا السير حتى عبروا الموصل، ثم توجهوا إلى قازان، وهو مقيم بالأردو من أرض شبت من أعمال واسط، فلقيهم وأكرمهم، وأنعم على كل أمير منهم بعشرة آلاف دينار صرف الدينار عشرة دراهم، وأنعم على مماليكهم كل نفر بألف ومائتى درهم، والمماليك الصغار والغلمان كل نفر بستمائة درهم، وأعطى قفجق همذان فلم يأخذها، كما ذكرنا. وقال بيبرس في تاريخه: لما قدم الملك الناصر أشرقت الدنيا بطلعته، وفرحت الخلائق برجعته، وقال الدهر بلسان حاله لا بلسان مقاله: قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى ما كنت إلا كالسيف سلته ... يد ثم أعادته إلى قرابه ثم أنفق في العساكر نفقة عامة، فهو حقيق بقول القائل: الناصر الملك العالي المنار إذا ... أهل الفخار سموا للمجد والجود الواهب المال لم تعلق بساحته ... إلا بعد الأيادي غير معدود السابق الوعد بالحسنى يقدمها ... فما يحض على إنجاز موعود المشتري بالندى الحمد الثمين فقد ... أضحى بكل لسان عين محمود المشرق الوجه في ظلماء قاتمة ... والمغدق الجود في شهباء جارود الثابت الحزم في دهياء مظلمة ... والثاقب العزم في صماء صيخود ترب العلى ابن أبيه سطوة وندى ... أبو الوفود أخو الغر المناجيد أغر يعرب في أفعال نائله ال ... حسنى ويعرب عن طيب المواليد زاكي المغارس نهاب الفوارس وه ... اب النفائس ما شئت بتعريد ماضي العزائم غفار الجرائم عف ... ار الكرائم وضاح النواجيد يجود بالأعوجيات الجياد وبالب ... يض الحداد وبالسمر الأماليد وبالظبي والظباء الآنسات وبالب ... زل الهجان وبالمهرية القود يا ابن الأولى ملكوا الدنيا فامطرها ... نداهم الغمر عهدا غير معهود وأوسعوا العدل أقصاها فمهدها ... ولم تكن قبلهم دانت لتمهيد أحييت يا ابن الشهيد الملك مفخرة ... فيا رضى والدٍ عن خير مولود وشدت بيت قلاون فعشت له ... في ظل ملك على الآفاق ممدود أعدت للدولة الغراء بهجتها ... فاملك كملك سليمان بن داود أشرقت كالشمس في أبراج رفعتها ... فكان عودك عبداً أيما عيد

وفي نزهة الناظر: أن السلطان لاجين لما قتل سفر الأمير سيف الدين بلغاق من جهة الأمراء بمصر يعلمون الأمير سيف الدين قفجق بالوقائع التي جرت، ويعرفون صحته بالأمارات التي بينهم، ولما وصل إلى دمشق وجده قد قفز هو ومن معه إلى نحو الفرات، ولم يخبر أحدا بما حضر حتى وصل إلى حلب فوجد الأمر قد فات، وكان يوم وصوله إلى دمشق يوم سفر قفجق والأمراء من حمص، فلما وصل إلى حلب وقف نائب حلب على الكتب المكتتبة عن الأمراء، وحكى له بلغاق ما اتفق جميعه، ثم طلب بريديا من أكابر البريدية بحلب يعرف ببليان القصاص ووعد له بإمرة إذا أدرك الأمراء وأوقفهم على الكتب التي حضرت من مصر، وأمره أن يلحق بهم ولو دخلوا في البلاد، فركب المذكور من حلب على طريق الفرات، وساق تلك الليلة إلى بكرة النهار، والتقى بأيدغدى شقير وكجكن وبالوج ومعهم الأمراء الخاصكية وبعض الأمراء المجردين من مصر والشام ممن كان يلوذ بدولتهم، فلما رأوه أراد أن يعرج عن طريقهم أرسلوا إليه من أحضره، فلما رآه أيدغدى شقير قال له: إلى أين قصدت؟ قال: إلى الأمراء الذين قفزوا لعلىً ألحق بهم. فقال: من سيرك إليهم؟ قال له: نائب حلب. فقال: لأي سبب؟ فأنكره وقال: ما أعرف غير أنه سيرني إليهم قال: وأين كتابه إليهم؟ فقال: ما معي كتاب ولكن مشافهة، فأنكر أمره وقال للأمراء الذين معه: والله ما قضية هذا بخير، ثم أشار إلى بعض مماليكه أن يؤجل البريدي ويأخذ جرابه، فلما أخذه فتحه فوجد فيه كتب الأمراء وهم يعرفون قفجق بجميع ما اتفق من قتل لاجين ومنكوتمر وما مجدد من الوقائع، وكتب نائب حلب إليهم بأن الشغل قد انقضى وسألهم الرجوع، وترقق لهم في القول، فلما وقفوا على ذلك اتفق رأيهم على أن يطلقوا البريدي من غير الكتب فقال لهم البريدي: إذا قلت لهم هذا الكلام ما يصدقونني وأرد خائبا، فاستصوبوا كلامه وأعطوه الكتب، فذهب إلى طريقه. ثم إن أيدغدى شقير شرع في خلاص نفسه وكيف يكون حاله مع نائب حلب ومع الأمراء، وكان قد أساء على نائب حلب والأمراء المجردين، وعاملهم بالغلظة والكلام الفاحش والحماقة والكبرياء؛ فإن اتفاق منكوتمر كان معه أنه إذا قضى شغل الأمراء ومسك منهم الذين بينوا له مسكهم فيستقر نائبا بحلب، وكذلك كان الاتفاق أيضا مع جاغان في أمره مع نائب الشام قفجق، فإنه إذا مسك بكتمر السلحدار ومن عينوه بالمسك من الأمراء يكون هو نائب الشام. ولما تحقق أيدغدى وجاغان وقوع الأمير بلاجين ومنكوتمر خشداشيته، ووقفا على كتب الأمراء وكتاب نائب حلب علما أن الأمر قد فات وتحيرا فيما يعملان، ثم قوى أيدغدى شقير عزمه على أن يرجع بمن معه إلى قلعة تل حمدون ويتحصنون بها، فلم يوافقه على ذلك كجكن وقالوا: نحن بين أمرين: إما أن يفتحوا لنا القلعة أو يأبوا ذلك فنكون قد فرطنا في أمرنا، والرأي عندي أن نرجع إلى حلب وندخل على نائبها فهو على كل حال ما يرمى جانبنا ويشفع لنا، والذي قضى الله لا بد منه، فانتظم أمرهم على ذلك ورجعوا قاصدين حلب، ولما دخلوا على الأمير سيف الدين النائب أقبل عليهم بإقبال حسن، وأظهر التوجع لهم، وأمر لكل أحد بأن ينزل في منزلته. وفيها: اتفق بمصر مطر عظيم، وجاء عقبيه سيل لم يعهد بمصر مثله، ونزل من صوب المقطم إلى القرافة وأفسد تربا كثيرة ومقابر ودورا وأملاكا، وعم سائر القرافة، وكذلك نزل من الجبل إلى أن وصل إلى باب النصر وأفسد تربا ودورا كانت معمورة مجاورة للترب. وفيها: قتل أقطاجى بن طشتمر ابن بنت نوغيه بمدينة كفا، وذلك أن نوغيه جده لما كسر الملك طقطا استولى على البلاد، فأرسل ابن بنته الأمير أقطاجى هذا إلى بلاد قرم ليجبى المال المقرر على أهلها لأنه وهبها له، فسار إليها ومعه أمير يسمى الطبرس بن قينو وعسكره مقدار أربعة آلاف فارس، فدخل إلى كفا وهي مدينة الفرنج الجنوية بين اسطنبول وبين القرم، وطالب أهلها بمال فضيفوه وقدموا إليه شيئا من المأكول وخمر للمشروب، فأكل وشرب الخمر وحكم عليه السكر، فوثبوا عليه وقتلوه، وبلغ خبر مقتله نوغيه جده، فأرسل عسكرا كثيفا إلى قرم صحبة ماجى أحد أمرائه فنهبوها وأحرقوها، وفتكوا من القرم جماعة وسبوا من كان فيها من تجار المسلمين والفرنج، وأخذوا أموالهم، ونهبوا صار، وكرمان، وقرق ايدى، وكرج وغيرها.

وفيها: قتل أباجى بن قرمشى وأخوه قراجين، وهؤلاء أولاد قرمشى كانوا ثلاثة إخوة من كبار المقدمين وأصحاب التوامين ببلد الشمال، وكانوا يضاهون نوغيه في المنزلة والتقدم وعدة العسكر، وكانوا قد اتفقوا معه على حرب طقطا، وشهدوه معه وعاضدوه فيه، فلما استقام لنوغيه الأمر تحكمت أولاده وهم جكا وتكا وطراى، ولم يحصل لأولاد قرمشى ما كانوا يؤملونه منهم، فوقع بينهم، وقصدوا الانفراد عنهم، وهم أباجى وقراجين وينجى، ومالوا إلى طقطا، فبلغ ذلك نوغيه وأولاده، فجرد أولاده وهم الثلاثة المذكورون ليردوهم ويمنعوهم من الانحياز إلى طقطا، والتقى الجمعان واقتتلوا يومهم ذلك، وحجز بينهم الليل، فباتوا على تعبئتهم، فلما جن الليل هرب من عسكر أولاد قرمشى أمير يسمى قطغو مقدم ألف فارس، وانحاز إلى أولاد نوغيه، فأصبحوا وقد فقدوه هو وطائفته، فلم يتقدم أحد من الفريقين لحرب الآخر. فلما كان المساء أضرم أولاد قرمشى نارا وأزمعوا الرجوع، فأرسل إليهم أولاد نوغيه ولاطفوهم وخدعوهم وقالوا لهم: ما الحاجة إلى الخلف والحرب ونحن أقرباء وألزام، والأولى ترك الشنان وتقرير الصلح كما كان، واستمالوا ينجى وهو الأصغر، فمال إليهم، وسألوه يلاطف أخويه ويسألهم في الموادعة والمسالمة، فعاد إلى أباجى أخيه وأبلغه مقالتهم ولاطفه في الاجتماع بهم، فانقاد إلى كلامه وتوجه بنفسه إليهم. وأما قراجين أخوه فإنه كان أثبتهم جأشا، وكان متوليا تدبير العسكر، ولم يتوجه مع أخيه، فراسلوا والدته في توجهه، فأشارت إليه بالتوجه وتقرير الصلح، فتوجه، فلما حصل الأخوان أباجى وقراجين عند أولاد نوغيه قتلوهما، وشعر ينجى بذلك فلم يعاود إليهم، بل نجا بنفسه، ونهب أولاد نوغيه تمانات أباجى وأخيه، وأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا ونهبا، فقويت شوكتهم وكثرت عساكرهم وانبسطت أيديهم، واستظهروا حتى على أبيهم. وفيها: تواترت الأخبار بحركة التتار وقصدهم بلاد الشام، فجرد السلطان، وبرزوا الدهليز والخيام، وكان خروجه من قلعة الجبل في الرابع والعشرين من ذي الحجة. قال بيبرس في تاريخه: وأقمت بالقلعة نائبا، وانقضت هذه السنة المباركة. وكان السبب لتحرك قازان وعبوره إلى البلاد ما تقدم ذكره من الغارة التي وقعت على ماردين في شهر رمضان من عسكر الشام، وكانوا أفسدوا فيها فسادا عظيما. قال صاحب النزهة: أخبرني من حضرها أنهم كانوا يأخذون الولد من حجر أمه، والولد من كف أبيه، وكم من حرة كشفوا سترها، وكم من بكر أخرجوها من خدرها، وسفكوا دماء كثيرة، وكان صاحب ماردين على بعض أبراج القلعة يشاهد ذلك، ولما انفصل أمر الغارة ركب صاحب ماردين إلى قازان واستصحب معه ما يليق لملك مثله، وكان رجلا معظما عند المغول وسائر ملوكها فلما وصل إليه قربه وأكرمه، وعرفه صاحب ماردين ما اتفق من سلطان مصر وعسكر حلب، وما صنعوه في بلاده، وبكى بين يديه، فتوجع له قازان وسائر الخواتين وأكابر المغول، وصار قازان يكرر ويقول: هذا فعلوه في شهر رمضان وأين الإسلام مع هؤلاء القوم؟ وأخذ يتعجب من فعلهم فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فعند ذلك طلب قازان من القضاة والعلماء بتبريز وعرفهم بما صنعوا من الفسق وشرب الخمر في شهر رمضان، وسألهم أن يفتوه في أمر قتالهم أو الغارة على بلاد الشام، فأجابوا بأن مثل هذا لا يثبت بكلام فرد شخص وخصوصا في مثل ذلك، وربما يكون لهم جواب في ذلك، فشرعوا في البحث في هذا الأمر إلى أن اتفق رأيهم أن يسيروا رسلاً إلى صاحب مصر ويذكرون له ما وقع من هذا الأمر في مثل هذا الشهر الشريف، وما ارتكبوه من المعاصي، وطيبوا خاطر صاحب ماردين ووعدوا له بنصرته والقيام في حقه وردوه إلى بلده مكرما، ثم اتفق بعد ذلك دخول قفجق نائب الشام بمن معه من الأمراء إلى بلادهم، ولما اجتمعوا بقازان حرضوه على العبور إلى بلاد الشام، وكان عنده عزم من ذلك فقوى عزمه على ذلك، وكتب إلى سائر النواب والولاة بتجهيز العساكر إلى أردو، وتواترت الأخبار بذلك في مصر، واجتمعت الأمراء، وأمروا للعسكر بتجهيزهم؛ وكتبوا الكتب بتجهيز الإقامات في المنازل، وما انسلخ شهر ذي الحجة من السنة المذكورة إلا والعسكر قد خيمت، ثم رحلوا وأرسلوا الرد إلى نائب الشام بأخذ الأهبة والتجهيز للسلطان، ولما وصلت العساكر إلى غزة أقاموا أياما ينتظرون ما يرد من الأخبار.

ذكر وقعة الأويراتيه

ذكر وقعة الأويراتيه والسبب لخروجهم عن الطاعة قد ذكرنا أن أمراءهم وكبراءهم قتلوا في الدولة الحسامية لكونهم سببا في الركوب على الملك العادل كتبغا لميله إليهم لكونهم من جنسه، فالبقية منهم لما رأوا البرجية في السعادة الوافرة والسيادة العظيمة حسدوهم على ذلك، فسول لهم السلطان أن يكونوا عصبة واحدة ويكون الأمير قطلوبرس العادلي كبيرهم ورأسهم، وكان من أكابر مماليك السلطان العادل كتبغا، ولما اتفق لكتبغا ما ذكرنا كانوا أبقوه على إمرته لكونه من فرسان الخيل المعروفين، ولما اجتمعوا على ذلك عرفوه بما عزموا عليه وقالوا له: اجتمعنا ببرنطيه أحد المماليك السلطانية وخشداشه ألوص الذي كان من أكابر الأويراتية، وكان هؤلاء على جهل عظيم وكبر النفس، وكان اتفاقهم على أن يركبوا على بيبرس وسلار في موكبهما، فإذا حصل لهم مقصودهم يطلبون كتبغا ويعيدونه إلى السلطنة، ويأخذ أكابرهم إمريات أمراء البرجية. وكان قطلوبرس رجلا عاقلا صاحب رأي وتدبير وتحقق أن أمر هؤلاء إذا ظهر كان سبب تلافه وهلاكه، ورآهم مصرين على عزمهم، وقد غلب عليهم الجهل والطمع، وما بقى له منهم مخلص، فلما رآهم على ذلك أوصاهم بكتمان أمرهم، وأن يستجلبوا من قدروا عليه من المماليك السلطانية ليكونوا عونا لهم على مقاصدهم، وتحدثوا مع جماعة منهم، ووقع الاتفاق على أن الأمراء إذا ترجلوا يوم الموكب وترجلت مماليكهم يهجم برنطيه على بيبرس ويضربه بالسيف، وآلوص على سلار، وأن الأويراتية إذا نظروا إلى سيف برنطيه وقد أشهره يجذبون سيوفهم ويضرب كل واحد منهم مخدومه، أو من يكون قريبا منه من الأمراء أي من كان. وكانت العساكر السلطانية قد أقاموا على غزة أياما، ثم وصلوا إلى تل العجول وأقاموا هناك ينتظرون الأخبار كما ذكرنا، وكانوا قالوا لقطلوبرس أن يكون مجهزا بمن معه، فإذا رأى السيوف أشهرت ووقع الفعل نشر سنجقه وضرب طبلخاناته وعمل عمله. ولما كان الموكب وترجلت الأمراء على العادة، وكان بيبرس يتقدم سلار احتراما له، تقدم برنطيه وهجم على بيبرس، وقد جذب سيفه وهمز فرسه إلى أن قاربه، وكانت الأمراء يحجبون بيبرس وما شعروا إلا وقد رأوا برنطيه بينهم وسيفه مشهور يريد ضرب بيبرس، وكان في الأمراء الماشين في خدمته أمير من البرجية يقال له سيف الدين طشتمر الجمقدار، وكان جمقدار الملك الأشرف، وكان له قوة وشجاعة وشكل حسن، ولما رأى برنطيه وقد هجم على بيبرس جذب هو أيضا سيفه وضرب برنطيه، ولكن وقعت الضربة على كفل فرسه، فالتفت إليه برنطيه وضربه فقطع كلوتاته وشاشه وجرح وجهه جرحاً بالغاً ثم تناولت السيوف برنطيه فقتل من وقته، ووقع الصياح في العسكر فركبوا عن بكرة أبيهم، وطلب بعض الأويراتية والمماليك الذين كانوا متفقين معهم نحو دهليز السلطان، وركبت الأمراء الذين كانوا ترجلوا، وركبت مماليكهم وساقوا خلف القاصدين الدهليز إلى أن أدركوهم داخل الدهليز، ومنهم من دخل وهجم على السلطان. وركبت مماليك السلطان. وكذلك الأمير بكتمر الجواكندار، واعتقدوا أنهم قصدوا الهجوم على السلطان ليقتلوه، فركب ونشر العصائب السلطانية، ونشر سنجقه أيضا، واجتمعت إليه مماليك السلطان، وخرج السلطان من الدهليز، و ... ... وقصد الركوب بين مماليكه، فمنعه أمير الجندار وطيب خاطره، وقال له أمير جندار: ما عليك شيء، فكأن الأمراء وقع بينهم، أو جرى لأحد منهم شيء، فهذه الهجمة بسببه. وخشيت الناس على أموالهم، فصار الأمير منهم يركب بعض مماليكه ويخلى البعض لحفظ خيمته ودوابه. وكان يوما صعبا لم ير مثله، ولا أشد منه، ثم رجع بيبرس وسلار إلى مخيهما. ثم أمر الحجاب والنقباء أن يقولوا للمقدمين بأن يحضر كل مقدم بمضافيه، وكان كثير من المقدمين يأتون بمضافيهم إلى مخيم النيابة، ويرون سنجق السلطان منشورا فيرجعون إليه، وكانت الحجاب يردونهم، وأكثرهم لا يلتفتون إليهم، ويقولون: نحن إذا رأينا سنجق السلطان منشورا لا نلتفت إلى غيره.

والتفت جماعة منهم على السلطان، ثم رأى سلار أن هذا الأمر ما سينفصل إلا عن سفك دم كثيرة، وكان صاحب عقل وتدبير حسن، فسير من جهته أحد الحجاب وبعض المماليك إلى بكتمر الجوكندار الذي هو أمير جندار يقول له: ما هذه الفتنة التي قصدتم إثارتها؟ وكيف يحل لمسلم في هذا الوقت؟ ونحن جئنا لدفع العدو، وحركنا أنفسنا وأموالنا للذب عن الإسلام وعن المسلمين، وقد بلغنا أن بعض مماليك السلطان اتفقوا مع الأويراتية على قتلنا، وسفك الدماء بين المسلمين، فإن السلطان وأنتم أشرتهم عليهم بهذا الرأي، ولكن الله عز وجل، بمنه وكرمه، قد دفع عنا ذلك، فإن كان هذا بمشورتكم فنحن مماليك السلطان، ومماليك والده الشهيد، فنحن نكون فداء للإسلام، وإن كان ما عندكم من ذلك علم فسيروا إلينا غرماءنا فنجازى الذين أرادوا قتلنا وقيام هذه الفتنة. فلما وصل الذين أرسلهم سلار إلى السلطان، وبلغوه ما ذكر سلار، بكى السلطان، وحلف بالله أن ما عنده مما ذكروه خبر، وكذلك الأمير بكتمر حلف، وأنهم لما رأوا السيوف وقد وقعت اعتقدوا أنهم يريدون قتل السلطان ليسلطنوا أحدا منهم، واعتذروا اعتذارا كثيرا، وقالوا لهم: إن الذي قلتم حق، فإن كان يحصل لكم تشويش من السلطان ومن مماليكه، فها أنا آخذهم وأروح بهم إلى الكرك، وهي قريبة من هاهنا، وهو أنى أسير معهم فأقيم أنا وهو ومماليكه على الكرك، واحكموا أنتم بكل ما تحبون وتختارون. فلما سمعوا ذلك خرجوا من عندهم، وأتوا إلى سلار والأمراء الذين عنده، وبلغوهم الرسالة، فصعب ذلك عليهم، وثارت نفوس البرجية، وأرادوا أن يركبوا على الأمير بكتمر فقال الأمير سلار: ما هذه مصلحة، وأنتم تعلموا برأي أمير سلاح، هو شاليش العساكر وأتابكها، وهو قدامنا بمرحلة، وأما إذا فعلتم شيئا بغير مشورته تكون حجة علينا، وقد علمتم ما اتفق له مع كرجى وطقجى عند مشورته، والمصلحة أن نعرفه جميع ما اتفق عليه، ونستشيره فلما نعمله، فإنه أتابك العساكر، وكبير الدولة، والناس يرجعون إلى رأيه. فسيروا إليه أمير حاجب، وعرفوه كل ما وقع، وأن هذا الأمر كان باتفاق من السلطان مع مماليكه وبكتمر أمير جندار، فلما سمع كلامهم قال: إن عرف الأمراء أن هذا الحديث أنا ما أعرفه. فإني نازل عنكم ببعيد، والذي أقوله: إن دم المسلمين يتعلق بابن أستاذهم، وما أعرف غير هذا الكلام، ثم قام وخرج من عنده الحاجب. وعرف الأمراء ما قاله الأمير سلاح، بعد ذلك قال الأمير سلار: ما بقى إلا أن نلاطف أمرنا مع السلطان، وينفصل الأمر على خير. ثم طلع الأمراء الكبار، ودخلوا على السلطان، وأصلحوا بين أمير جندار وبين الأمراء، وقبلوا الأرض بين يدي السلطان، واجتمع رأيهم على طلب الأويراتية، والكشف عن أمرهم، ومن كان السبب لقيام هذه الفتنة، فمسكوا جماعة منهم، وعاقبوهم، فاعترفوا أن الاتفاق وقع بينهم على الهجوم على الأمير ركن الدين بيبرس والأمير سلار وقتلهما، وقيام دولة الملك العادل كتبغا، وأخذ ثأر من قتل من أمرائهم، وأن المحرك لذلك برنطيه، وألوص ورأس المشورة في ذلك قطلوبرس العادلي، وسموا جماعة كثيرة من العادلية. فاتفق رأي الأمراء على أن يستفتوا في أمرهم، فأفتوا بقتل الجميع لقوله تعالى " والفتنة أشد من القتل " ... فلما أصبحوا نصبت لهم الأخشاب، وشنق منهم نحو خمسين نفرا من أكابرهم، وصلبوهم صلبا بشيعا بكلوتاتهم وشاشاتهم، ونادى عليهم المشاعلية: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتنة بين المسلمين ويتجاسر على الملوك. وطلب علاء الدين قطلوبرس العادلي فلم يجدوه، فنودى في سائر الوطاق أن من أخفاه شنق. وكان قطلوبرس تلك الليلة قد جهز أمره الجميع، وكان عزمه أن الأمر الذي عزم عليه إن جاء على وفق مراده ينشر سنجقه ويتظاهر بالركوب، وإن كان بخلاف ذلك ينجو بنفسه، فلما تحقق أن الأمر انقلب عليه خرج مختفيا من أصحابه، واستصحب معه ما يعز عليه من المال، فجاء إلى غزة واختفى بها عند بعض أصحابه. وما علموا خبره إلا بعد يومين، وأمروا بنهب وطاقه، وجميع ماله من الدواب، وتركوا المصلوبين ثلاثة أيام، وأنزلوهم في اليوم الرابع، فحصل بسبب ذلك بكاء وتألم، وجافت الأرض من روائح أجسادهم.

ثم قصدوا الرحيل، واجتمع الأمراء البرجية، وقالوا لبيبرس نحن ما نرحل حتى نأخذ ما بقى من غرمائنا من المماليك السلطانية، وعرفوا بيبرس أن الأمير سلار ربما كانت له يد فيما اتفق، فاتهموه، فبلغ ذلك الأمير سلار فخاف في نفسه وقال: إن لم أدارهم في ذلك قامت الفتنة. ولما تكلم معه الأمير بيبرس في أمر المماليك، وأنه ما نرحل حتى ينجز الأمر معهم وافقه على ذلك، ثم اجتمعوا بالأمير جوكندار وقالوا له: إن من المماليك السلطانية من يرضى الفتنة، ومنهم من كانوا وافقوا الأويراتية، فرأى الجوكندار أن مخالفتهم في ذلك الوقت تؤدى إلى فساد كبير، فطاوعهم على ما قالوا، واجتمعوا ودخلوا على السلطان وقالوا: إن ههنا صبيانا من المماليك يقصدون الفتن بيننا وينقلون الكلام الفاسد، ونريد أن نطمئن من جهتهم في السفرة، فقال لهم السلطان: ما الذي يفعل بهم؟ فقالوا: يرسلهم مولانا السلطان إلى الكرك فيقيمون هناك إلى أن نعود من السفر فنأخذهم إلى مصر معنا، فإذا دخلنا مصر يفعل السلطان فيهم بما يرى، فأجاب إليهم السلطان، فأمر عند ذلك بطلب جماعة فأحضروهم وسيروهم إلى الكرك صحبة النقباء ورسم السلطان بحبسهم هناك. ثم بعد ذلك رحل السلطان بعساكره من تل العجول إلى قريتا وضربوا الدهليز هناك، وأمروا بالإقامة هناك إلى أن يكشفوا أخبار العدو من النواب. واتفق في تلك المنزله أمر غريب من مجىء سيل عظيم من رءوس الجبال في ضحوة النهار على غفلة فأخذ من الجمال والحيل والخيم والأثقال شيئا كثيرا، فوقعت ضجة عظيمة في العسكر، ومن لطف الله تعالى أنه كان من فرد جانب، فاستمر ذلك إلى وقت العصر من ذلك اليوم. وانفسد حال جماعة كبيرة من العسكر، ومنهم من أصبح فقيرا لا يملك شيئا، فتطيرت الناس بذلك وقالوا: لا يحصل خير في هذه السفرة. قال صاحب النزهة: واتفقت بعد ذلك نكتة غريبة وهي أنه كان رجل مشهور بالصلاح والمكاشفات، وقد كان وقعت منه أمور غريبة في نوبة الشجاعي وكتبغا قبل وقوع أمرهما، وكان لا يتكلم مع الناس، ولا يأخذ شيئا من أحد، وأكثر اجتماعه كان مع الأمير سلاح، ولكنه ما كان يتكلم معه، فإذا أخذ منه شيئا كان يفرقه على ذوى الحاجات، وكانت عادته أنه إذا ظهر أمر مما قدره الله تعالى من الخير والشر كان قبل وقوعه يلبس شيئا يناسب ذلك الأمر، وكان يعرف بالشيخ الحبشي، وكثيرا ما كان يمشي في الأسواق وعلى رأسه كلوتاه كشف. قال: ورأيته في ذلك اليوم حين وقع السيل جالسا خلف دهليز السلطان، ثم مشى ومشيت معه إلى قريب المطبخ السلطاني، فجلس في مكان يرمى فيه العظام التي تفضل من السماط، فصار يأخذ العظم ويمشمشه، ثم ينظر إلى السماء ويهز رأسه ويقول: والله قربوا وأشار بيده إلى السماء، ثم أشار إلينا وقال: أبصروا أبصروا وقد جاءوا، فنظرنا إلى السماء، ولا ترى السماء فكأنها قد سترت بالغمام من الجراد، فاستد ما بين السماء والأرض، حتى اشتغل بالنظر إلى ذلك جميع الناس، ووقع الصياح في الوطاق، وخرج السلطان وسائر الأمراء من الخيم ينظرون إليه، ويتعجبون من ذلك ومن كثرته. فحكى شخص هناك أنه لما كان صغير السن شاهد في بلاد الخطا جرادا مثل هذا، وإنه كان هناك رجل كبير السن أخبر أن هذا الجراد ما دخل على مكان فيه عسكر إلا وقد طرقهم أعداؤهم، ويحصل بذلك خذلان وينتصر أعداؤهم عليهم، فاشتاع ذلك الكلام بين العسكر فلم يبق أحد إلا وقد جزم بحضور العدو، وأن المسلمين ينخذلون وهذه إشارته قد لاحت. ثم شرعت الأمراء في تفسير البريدية إلى نائب حلب ليطالعهم بالأخبار، ثم اجتمعت آراؤهم على الرحيل إلى دمشق، فاجتمعت جماعة من مقدمي الحلقة وجندها إلى الأمير جمال الدين قتال السبع وأكابر الأمراء وعرفوهم ضعف حال الجند وقلة نفقتهم، وأن هذا السيل قد أضر ببعضهم وأخذ أموالهم، فاتفقت الأمراء على الكلام مع الأمير بيبرس والأمير سلار في أمرهم، فلما اجتمعوا عرفوهم ضرر الجند وشكواهم فقالوا: حتى نصل إلى دمشق وننفق فيهم، ورسموا بالرحيل من يومهم.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

وفيها: اتفق بزلار المنصوري وأقوام من أصحاب الأمير سيف الدين قفجق الذين تسحبوا معه وهم تبديه وغيره على الخروج من بلاد التتار والهرب إلى هذه الديار، وساروا ليلا، فاطلع عليهم التتار فساقوا خلفهم فأدركوهم بحدود بلد الأكراد فاتقعوا معهم، فقتل بوزلار وعلي بن اسنبغا وغيرهما، ومسكوا تبديه وجماعة آخرين معه، وأحضروهم إلى الأرد، فتلطف بهم الأمير سيف الدين قفجق، فخلصوا. وكان سيف الدين قفجق هذا مسموع الكلام عند قازان وذلك لأنه لما حضر عنده أعطى له همدون فلم يأخذها وقال: ليس لي قصد سوى خدمة القان، فأعجبه ذلك، وذكر أنه وجد أباه وإخوته سلاحدارية عند قازان واستمروا عنده إلى حين دخولهم الشام صحبة قازان. وفيها: تجهز يوسف بن يعقوب صاحب مراكش لقصد تلمسان وبها صاحبها عثمان يغمراسن، فسار إليها وشدد حصارها، وكانت من أحصن المدن قد حصنها يغمراسن وولده عثمان من العدو والذخائر والغلال والحواصل، فلما رأى يوسف بن يعقوب عسر مرامها وشدة امتناعها بنى عليها مدينة من غربيها، وبنت كل قبيلة من قبائل بني مرين حواليها ربضا فصارت في الوسط، وخندقوا عليها وأحاطوا بها، وسوروا عليها سورا، وقطعوا عنها المواد والمير والأقوات، وهلك أكثر أهلها جوعا، ومات منها خلق لا يحصى. وفيها: كان النيل ستة عشر ذراعا وثمان أصابع، وتوقف توقفا شديدا حتى أعان الله ووفى. وفيه: حج بالناس عز الدين أيبك الخزندار، وهو أمير جندار، ومن الشام الأمير شمس الدين العينتابي. ذكر من توفى فيها من الأعيان الشيخ نظام الدين أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصيري الحنفي، مدرس النورية. توفى في ثامن المحرم منها، ودفن يوم الجمعة تاسعه بمقابر الصوفية، كان مفتيا فاضلا، وناب في الحكم في وقت عن قاضي القضاة حسام الدين، ودرس بالنورية بعد أبيه، ودرس بعده بها الشيخ شمس الدين ابن الصدر سليمان في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من محرم. الشيخ الإمام العالم الزاهد جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين البلخي المقدسي الحنفي، المعروف بابن النقيب. مولده في نصف شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس الشريف فاستوطنه حتى مات في المحرم منها، كان فاضلا في التفسير، له فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفاسير، وكان الناس يقصدونه للزيارة بالقدس ويتبركون بدعائه. الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس الشريف. كان الناس يجتمعون به وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان ابن تيمية يقول فيه أنه على طريقة ابن عربي وابن سبعين، وكانت وفاته في المحرم منها. القاضي شهاب الدين يوسف بن الصاحب محيي الدين بن النحاس، أحد رؤساء الحنفية، ومدرس الريحانية والظاهرية. وقد ولى نظر الخزانة والجامع في وقت، وكان صدرا كبيرا كافيا، توفى ببستانه بالمزة في الثالث عشر من ذي الحجة، ودرس بعده بالريحانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين. الصاحب الكبير الصدر الوزير تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع ابن توبة الربعي التكريتي. ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفه بعرفه، وتنقل في الخدم إلى أن وزر بدمشق مرات عديدة حتى كانت وفاته ليلة الخميس الثامن من جمادى الآخرة، وصلى عليه غدوه بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وكان في مبدأ أمره تاجرا يتردد من بغداد إلى بلاد الروم وديار بكر والجزيرة، فلما أخذ التتار بغداد قدم إلى دمشق واستوطنها، وضمن الوكالة في الأيام الظاهرية، وبقى على ذلك إلى أوائل الدولة المنصورية، وكان قد خدم الملك المنصور قلاون في الدولة الظاهرية والسعيدية وأقرضه ستين ألف درهم بلا فائدة، فلما تولى السلطنة حل عنه الضمان وأطلق له ما كان عليه مكسورا، وكان يقارب مائة ألف درهم، ورسم له بمباشرة الخزانة بدمشق أولا، ثم رتبه بعد ذلك وزيرا بالشام، وتوزر لخمس ملوك: المنصور، والأشرف، والعادل كتبغا، والمنصور لاجين، والناصر محمد، وكان من أرباب المروءات والمكارم، وحسن الأخلاق والمداراة، والهمة العالية.

الصدر الكبير الرئيس الصاحب أمين الدين أبو الغنائم سالم بن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صرصرى التغلبي. كان أسن من أخيه نجم الدين بن صرصرى، وقد سمع الحديث وأسمعه، وكان صدرا معظما، ولى نظر الدواوين ونظر الخزانة، ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، وقدم إلى الشام فأقام بها دون السنة، وكانت وفاته يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة، ودفن بتربتهم بالسفح. القاضي جلال الدين عثمان بن أبي بكر بن محمد النهاوندي. قاضي صفد وأعمالها، وكان قاضيها منذ فتحها الملك الظاهر، وكان شكلا حسنا مهيباً، مات في هذه السنة. الصدر الكبير الرئيس زين الدين محمد بن أحمد بن محمود العقيلي القلانسى. مات في هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وكان شيخا حسنا من الكتاب المتصرفين العقلاء، وهو والد الشيخ جلال الدين، والشيخ عز الدين المحتسب بدمشق وناظر الخزانة. الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين محمد بن إبراهيم، المعروف بابن النحاس الحلبي النحوي. مات بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الملك العادل زين الدين كتبغا، ومولده في سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب، وانتقل منها إلى القاهرة واستوطنها، ومات في جمادى الأولى منها، كان إماما في العربية يشار إليه في عصره، وكان عنده مروءة وحسن خلق وكرم نفس، وله نظم كثير، فمنه قوله: إني تركت لذي الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقارٌ يخرب وله في مليح مشروط: قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق غير بدعٍ ما أتوا في فعلهم ... هو بدرٌ ستروه بالشفق وقال: اجتمعت أنا والشيخ شهاب الدين مسعود السنبلي والضياء المناوى، فأنشد كلٌ بيتين من شعره، فكان الذي أنشده السنبلي قوله في مليح مكارى: علقته مكارياً ... شرد عن عيني الكرى كأنه البدر فما ... يمل من طول السرى وقال الضياء المناوى: أفدى الذب يكبت بدر الدجى ... لحسنه الباهر من عبده سموه جمرياً وما أنصفوا ... ما فيه جمرى سوى خده وأنشد الشيخ بهاء الدين البيتين اللذين أنشدهما في المليح المشروط. وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: كنت أنا والشيخ بهاء الدين بن النحاس نتمشى بالليل بين القصرين فرأينا صبيا مليحا يسمى جمال وهو مصارع، فقال الشيخ شهاب الدين: تعال حتى ننظم في هذا المصارع: فنظم الشيخ بهاء الدين فيه: مصارعٌ تصرع الآساد سمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج ونظم الشيخ أثير الدين: سبانى جمالٌ من مليح مصارع ... عليه دليلٌ للملاحة واضح لئن عزمنه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح قال الشيخ أثير الدين وسمع شهاب الدين العزازى بنظمنا فنظم: هل حكمٌ ينصفني من هوى ... مصارعٌ يصرع أسد الشرى مذ فر مني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى أباح قتلي في الهوى عامداً ... وصاح كم من عاشقٍ في الورى رميته في أسر حبي ومن أج ... فان عينيه أخذت الكرى الشيخجمال الدين أبو الدر ياقوتبن عبد الله المستعصي الكاتب ببغداد مات في هذه السنة، وكان يكتب على طريقة ابن البواب، وهو من المشهورين في الكتابة والفضيلة والنظم وغير ذلك، وأصله رومي من مماليك الإمام المستعصم، كتب عليه خلق من الأكابر والكتاب. ومن نظمه ما ذكره علم الدين البرزالي، قال أنشدني أبو شامة، قال أنشدني ياقوت المستعصمي لنفسه: تجدد الشمس شوقي كلما طلعت ... إلى محياك يا شمسي ويا قمري وأسهر الليل ذا أنس بوحشته ... إذ طيب ذكرك في ظلمائه سمري وكل يومٍ مضى لي لا أراك به ... فلست محتسبا ماضيه من عمري ليلي نهار إذا ما درت في خلدى ... لأن ذكرك نور القلب والبصر وله:

يا خليلي والمنى كاذبةٌ ... والليالي شأنها أن تسلبا قم بنا ما قعدت حادثة ... نقض من حق الصبا ما وجبا نعص من لام على دين الهوى ... هذه سنة أيام الصبا وقال: رعى الله أياما تقضت بقربكم ... قصارا وحياها الحيا وسقاها فما قلت إيهٍ بعدها لمسامرٍ ... من الناس إلا قلبي أها وقال: وعدت أن تزور ليلاً فألوت ... وأتت في النهار تسحب ذيلا قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... هل توهمت أن ترى الشمس ليلا الشيخ شرف الدين أبو محمد جعفر بن علي بن جعفر بن الحسن بن إبراهيم ابن علي بن النفيس بن يونس الموصلي المقرئ، المعروف بأبي الحسن البصري لأن جده الحسن من البصرة. مات بدمشق في العشرين من جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصوفية، ومولده في السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع وستمائة، ذكر أنه سمع على الشيخ شهاب الدين السهروردي كتاب عوارف المعارف بالموصل، وسمع بدمشق من ابن الزبيدي، وبمصر من ابن الجميزي، وبالإسكندرية من ابن رواح، وكان شيخا حسنا صالحا، يحفظ كثيرا من الأخبار والأشعار. كتب عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي في معجمه قال: أنشدنا جعفر بن علي بدمشق قال: أنشدني أخي أبو محمد عبد العزيز بن علي بن جعفر الفقيه الحنفي لنفسه: حدث عن الوجد لا شطت بك الدار ... واسمع فنون غرامي فهي اسمار واستمل مني غريب الحب إن له ... عندي حديثا يقضى منه أوطار كم ليلة بت والأشواق تمزج لي ... كأس الغمام ولي بالفكر سمار والدمع والوجد والواشى ومصطبري ... واف ونام ونمامٌ وغدار إن اخلف البرق من لآلاء غرته ... أو غرني في الهوى فالنجم غرار أو مل سكناه في قلبي وفي بصري ... فالقلب والطرف نيران وتيار ذنوبه كلها بالعدل قد كتبت ... فالوجد يمحو وفرط الحب عقار وإن خبر الهجر والإعراض عن ملل ... قامت له بالهوى العذري أعذار الشيخ الفاضل الإمام بدر الدين يونس بن إبراهيم بن سليمان الصرخدي الحنفي. مات بصرخد، ومولده في سنة أربع عشرة وستمائة، كان فاضلا أديبا، مليح الشعر، شريف النفس، عارفا بالنحو واللغة. كتب عنه ابن الخباز قطعة من شعره منها: ظمئت إلى سلسال حسنك مقلة ... رويت محاجرها من العبرات تشتاق روضا من جمالك طالما ... سرحت به وجنت من الوجنات حجبوك عن عيني وما حجبوك عن ... قلبي ولا منعوك من خطراتي هل ينقضى أمر البعاد ونلتقي ... بلوى المحصب أو على عرفات وبضمنا بعد البعاد منازل ... بالخيف أو منى على الجمرات وأفيق من ولهى عليك وينقضى ... شوقي إليك وتنطفى جمرات الملك الأوحد نجم الدين يوسف ابن الملك الناصر داود بن المعظم، ناظر القدس الشريف. توفي ليلة الثلاثاء الرابع من ذي الحجة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة، وإحسانا إلى الضعفاء، وروى عنه الحافظ شرف الدمياطي في معجمه، وكتب عنه حديثا واحدا. الأمير شمس الدين بيسرى، من أكابر الأمراء المتقدمين في الخدمة في زمن المنصور وهلم جرا. توفى بالسجن بقلعة القاهرة في التاسع عشر من شوال منها، وما قبض إلا خوفا منه لكبره وموقعه في نفوس الناس، وكان كريما، كان عليه في أيام إمرته رواتب لجماعة من مماليكه وأولادهم، وكان رتب لبعضهم في اليوم من اللحم سبعين رطلا وما يحتاج إليه من التوابل والحطب، وسبعين عليقة، ولأقلهم خمسة أرطال وخمس علائق، ولبعضهم عشرة، ولبعضهم عشرين، وبلغ ما يحتاج إليه في كل يوم لسماطه ودوره والمرتب عليه ثلاثة آلاف رطل لحم، وثلاثة آلاف عليقة كل يوم، وكانت صدقته على الفقير ألفا أو خمسمائة، ولا يعطى أقل من ذلك، وكان إنعامه ألف أردب غلة، وألف قنطار عسل، وألف دينار، وكان الملك الظاهر يقول عنه: هذا ابن ملكنا في بلادنا، وكان يعظمه، وما بدا منه شيء قط، وكان يحتمل الجتر على رءوس الملوك من زمان الظاهر إلى حين وفاته.

وكان عمر داره المعروفة ببين القصرين في أيام الظاهر، وتجاوز الحد في عمارتها في كثرة المصروف من الذهب، وكان في تلك الأيام لا يعرف لأحد من الأمراء عمارة مع كبرهم وسعادتهم، فلامه الظاهر على ذلك وقال له: أصرفت مالك جميعه في عمرة دارك وما خليت للبيكار. فقال: خليت للبيكار صدقات مولانا السلطان، والله يا خوند ما عمرت هذه الدار حتى سمع بها من بلاد العدو. ويقال: إن بعض مماليك السلطان عمر دارا غرم عليها أموالا عظيمة، فرسم له بألفى دينار إعانة له. ولم يعرف أنه شرب من كوز مرتين، وكان من أحسن الأشكال والفرسان المشهورين، وتوفى وعليه ديون كثيرة، وفيت عنه بعد وفاته، رحمه الله. الأمير عز الدين أيدمر الجناحي. مات بحلب وكان مع العسكر المجردين، وكان يتهم بذهب كثير، فلم يظهر له خير. وقال أستاذ الدار وكاتبه: كنا نعرف له صندوقين فيهما ذهب وجواهر، ولما كان ساكنا بالصالحية أودعهما عند أولاد الحافظ عبد الغني ولم نعلم لهما خبرا، فأحضر أولاد الحافظ عبد الغني وجماعة معهم بهذا السبب، فظهر أن الأمير عز الدين قد أخذ الصندوقين منهم وأودعهما عند فخر الدين العزازى التاجر بقيسارية الشرب، ولم يطلع على ذلك غير الأمير وخزنداره، وكان قال لخزنداره إكتر لنا جملا ممن لا نعرف، وقم نصف الليل، وحمل الصندوقين على الجمل وامض بهما إلى فخر الدين العزازى، ففعل الخزندار ذلك وقال له: هذه وديعة الأمير عندك إلى أن يعود من التجريدة، ثم مات الأمير وخزنداره. وقيل: إنه سقى سما. ولما رأى فخر الدين أن أولاد الحافظ عبد الغني وجماعة آخرين قد اتهموا بهذا وهم بريئون، نهض واجتمع بالأمير سيف الدين جاغان - وهو يومئذ شاد الدواوين - وأخبره أن عنده صندوقين وديعة الأمير عز الدين أيدمر الجناحى الذي توفى بحلب، فقال له جاغان: جزاك الله خيرا أين الصندوقان؟ قال: عندي، فجهز معه العدول ووكيل بيت المال وحملوها، فكان فيهما من الذهب العين المصري ثلاثة وثلاثون ألف دينار وحلى وحوائص وكلوتات وكمرانات أكثر من ثلاثين ألف دينار، فعظم فخر الدين في أعين الناس بذلك الأمر. الأمير شمس الدين كرتيه. مات في هذه السنة بغزة، ودفن بها، وكان أميرا كبيرا، شجاعاً مقداماً، تترى الجنس. الأمير بدر الدين الدواداري يعرف بالمغربي، كان أصله من المغرب، وعمل دواداراً للسلطان لاجين، وكان على عمارة جامع أحمد بن طولون، وكانت له معرفة وخبرة، ومن غريب ما اتفق له أن كاتب السر القاضي شرف الدين ابن فضل الله كان قد مرض وانقطع أياما؛ فأمر السلطان للدواداري هذا أن ينزل إليه ويسلم عليه من جهة السلطان، فنزل إليه فوجده على غاية ما يكون من الضعف، فرجع إلى السلطان. فقال له السلطان: ما رأيت من حاله؟ فقال يا خوند: ابصر كاتب سر غيره فإنه ما يجى منه شيء، وبعد سبعة أيام توفى الدواداري وطلع كاتب السر وسلم على السلطان وعزاه في الدواداري، فتعجب السلطان من أمره وقال: لا إله إلا الله كان الدواداري يريد أن يعزينا في كاتب السر، فعزانا كاتب السر فيه. الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري. مات بدمشق في هذه السنة، وكان من أكابر الأمراء المنصورية، ولما مسك سيف الدين جاغان بدمشق مع من مسك من الأمراء، لما قتل السلطان لاجين ركب قرا أرسلان هذا في موكب النيابة والعصابة على رأسه، وحكم وكتب على القصص، وسولت نفسه أن يكون نائباً مستقلاً، وأن الأمراء لا يستكثرون نيابة دمشق عليه لأنه كان يدعى أنه أحق من بيبرس وأوقوش الأفرم والبرجية، ولم تطل مدته، وتوفى بقولنج أصابه. الأمير سيف الدين تمربغا. مات في هذه السنة، بطرابلس، وكان من الصور المبدعة في الحسن والجمال، وكان السلطان لاجين من الناظرين إليه، فحسده منكوتمر على ذلك واختار بعده عنه، فسيره صحبة الملك الناصر إلى الكرك، ثم نقله من بعد ذلك إلى طرابلس فتوفى بها. وقال صاحب النزهة: كان في الكرم والفتوة والمكارم السنية على جانب عظيم، وكان يميل إلى اللهو والطرب، مولعاً بالشراب.

السنة التاسعة والتسعين بعد الستمائة

قال: والذي شاهدت من كرمه أن السلطان أنعم عليه ليلة سفره بألف دينار، فحضرت مجلسه تلك الليلة فرأيته مغمراً بالطيب، والبليبل شاعر السلطان ومغنيه جالس عنده، فصار يغني والذهب مسكوب بين يديه، فشرع يفرقه على من حضر في مجلسه هذا، فأعطى المغني المذكور ورفقته أكثر من غيرهم، وكان له بابا يخدمه من قديم الزمان، فقال له: أنت قد كبرت ولا تقدر تجئ معنا، فأعطى له ثلاثمائة دينار. قال: وأعطاني تسعين دينارا، رحمه الله. الأمير جمال الدين أقوش المغيثى، نائب البيرة. توفى في هذه السنة، وكان كبير القدر، فارسا، شجاعا مقداما، أقام في البيرة نائبا نحو أربعين سنة. الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وابن ملوكها كابرا عن كابر. توفى يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي العقدة منها ودفن ليلة الجمعة، وكانت مدة ملكه خمسة عشر سنة وشهرا واحدا ويوما واحدا، وانقطع ملك بني أيوب من حماة بموته، وتولاها بعده قراسنقر المنصوري إلى أن ردت إليهم في سلطنة الناصر الثالثة. نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الأفضل علي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، مات بدمشق في الرابع عشر من ذي الحجة منها. وممن توفى في هذه السنة بحلب وغيرها: الأمير سيف الدين البسطى، وأحمد شاه، وناصر الدين محمد بن سنقر الأقرع، وعين الغزال، وبدر الدين كيكلدى بن السرية، وسيف الدين قطبية، وسيف الدين طقطية، وقيل: إن طقطيه توفى بمصر في سمنود بلده، وذلك أنه كان قد أخذ دستورا وسافر إليها وأقام بها أياما، وأن منكوتمر سير إليه من تحيل على طباخه حتى سمه في الطعام، فأحس بالوجع ونزل في الحراقة وما وصل إلا وقد توفى. وهؤلاء كانوا من أمراء الدولة الأشرفية تحيل منكوتمر على هلاكهم، بعضهم بالسم في القمز، وبعضهم في الطعام. /فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والتسعين بعد الستمائة استهلت والخليفة: الحاكم بأمر الله العباسي. وسلطان البلاد المصرية والشامية وما يتبعها من الممالك: الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بمصر: سيف الدين سلار، ونائب الشام: جمال الدين أقوش الأفرم، ونائب حلب: سيف الدين بلبان الطباخي. واستهلت هذه السنة والسلطان مسافر إلى جهة الشام كما ذكرنا، فإنه خرج بعساكره من القاهرة في الرابع والعشرين من ذي الحجة من السنة الماضية، ولما وصل إلى غزة أقام عليها مقدار شهرين لأجل التجهيز والتهيؤ للتتار، وقد ذكرنا ما جرى من أمور الأويراتية والعسكر مع السلطان على غزة، وكانت قضيتهم على منزلة تل العجول كما ذكرنا، ثم رحل السلطان ونزل على عسقلان، ثم رحل من عسقلان متوجها إلى الشام ودخل دمشق يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول من هذه السنة، ونزل بالقلعة. وكان يوم دخوله مطر شديد ووحل كثير، ثم شرع في الإنفاق على العساكر والخروج الى لقاء التتار. وفي يوم السبت ثاني يوم دخول السلطان دمشق، ورد جمال كثيرة وقفول وخلق كثير، أولاً فأولاً، جافلين من أخبار التتار. وورد مملوك نائب حلب ونائب طرابلس وصاحب حماة وأخبروا بقدوم العدو. وأنه وصل إلى شاطئ الفرات. وأخبروا أنهم في عسكر عظيم، ولما تحققوا ذلك اتفق رأيهم على النفقة في العسكر، ودارت النقباء وعرفوا سائر الأمراء والأجناد. وأصبحوا جالسين في الميدان، وشرعوا في تفريق النفقات، وسيروا لكل أمير مقدم ألف نفقة مضافية وكان كل واحد منهم يطلب مضافية ويفرق عليهم ما أرسلوه إليه من النفقة، وكان لكل جندي منهم ثلاثين أو أربعين ديناراً مصرية. وكان واحد منهم يأخذ النفقة من يده ويقلبها ويقول: إش أشتري اليوم بهذا؟ فوالله لأخليها حتى يأخذها التتار. فإن الأشياء من سائر الأصناف تحسنت وغلت جداً خصوصا الدواب وآلات الحرب، وكان الجندي منهم يقول: إش بقى إما ثلاثة أو أربعة أيام؟، فنحن أحق بالذي نشتري به، ومنهم من كان يقول: لعن الله من ينظر الى فرجة العدو، فوقع في نفوس الناس الخذلان والانكسار سلفاً وتعجيلاً. ذكر خروج السلطان الناصر من دمشق بعساكره إلى لقاء قازان

ثم خرج السلطان بجيش من دمشق يوم الأحد السابع عشر من ربيع الأول من هذه السنة، ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج خلق كثير من المطوعة. ولما وصلوا إلى حمص ضربوا الدهليز بها، وشرعوا يرسلون إلى العرب ويخبروهم بمجيء العدو. وشرعت الناس يتلقطون نصرة العدو على المسلمين، واشتهر ذلك بينهم، فوقع الجفل والخوف فيهم حتى أن المقدم الذي كان مضافيه خمسين نفساً أو أربعين يفتقدهم إذا كثروا قدر عشرين أو خمسة وعشرين، فصار رجال الحلقة يقول بعضهم لبعض: يا فلان من أش تنفع هذا وقت الغيبة خلّ البرجية الذين يأكلون مصر يقاتلون العدو. ثم تواترت الأخبار بأن التتار وصلوا إلى وادي الخزندار عند سلمية، فسارت العساكر إليهم ليهجموا عليهم، وقطعوا ثلاث مراحل في مرحلة واحدة، فلما أشرفوا على مجمع المروج ركب التتار وطلَّبوا، وكان قازان فيهم وصحبته الأمراء المتوجهون إليه وهم: سيف الدين قبجق، وسيف الدين بكتمر السلاح دار، وفارس الدين ألبكى الظاهري، وسيف الدين عزاز الصالحي. ولما أشرفوا على طلائع العدوّ نادت الحجاب والنقباء بين العسكر بأن يرموا رماحهم ويعتمدوا على الضرب بالسيوف، وكان هذا من سوء التدبير وعلامة الخذلان، فرمى جميع العسكر ما بأيديهم من الرماح إلى الأرض فحصل للخيل ضرر كثير منها لمصادمة حوافرها على أسنة الرماح وهي مطروحة على الأرض، وكان كل سنان منها يساوي مائة درهم إلى خمسين درهماً، فنظروا إلى التتار وقد ملأوا الأرض. ثم شرعت الأمراء والحجاب في ترتيب الجيش، ورتبوا في رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنى وأخاه فضلا، ومعهما آل مرا وآل علىّ وآل كلب وجميع العربان، ونائب حلب ونائب حماة بعساكرهما، وفي الميسرة بدر الدين بكتاش الفخري، والأمير جمال الدين قتّال السبع، والأمير علم الدين الدواداري، وطغربل الإيغاني، والحاج كرت نائب طرابلس، وطلب الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وفيه الأمراء الطبخانات من بقية الظاهرية ومضافوها، وفي القلب جمهور العسكر وفيهم سيق الدين سلار، وركن الدين بيبرس، وسيف الدين برلغي ومضافوه وسيف الدين قطلوبك الحاجب ومضافوه، والأمير عز الدين أيبك الخزندار ومضافوه، وجعلوا الجناحين المماليك السلطانية، ورتبوا أن يكون الأمير حسام الدين لاجين الأستادار صحبة السلطان يحفظه، وجعلوه في موضع بعيد عن الملاقاة خشية عليه، ورسموا للأمير علم الدين أن يكون سنجق السلطان منعزلاً عنه كي لا يُعرف أنه تحت الأعلام فيُقصد، ورتبوا جماعة من الزراقين نحوا من خمسمائة مملوك في مقدمة الجيش. وفي ذلك الوقت حصل للأمير بيبرس إسهال مفرط وحرارة عظيمة حتى ما بقى يمكنه الركوب على الفرس ولا الثبات على ظهره، فأركبوه المحفة، وأبعدوه عن الملاقاة. وأخذ الأمير سلار الحجاب ومعهم الفقهاء، وداروا على العسكر جميعهم، وهم يتلون الآيات المناسبة للجهاد، ويحرضون للجهاد وتوطين النفس على الملاقاة حتى غشى الناس البكاء والتوجع. وأما قازان فإنه طلب مقدمى التوامين وأمرهم أن أحداً منهم إذا رأى جيش المسلمين لا يحمل عليه ولا يتحرك من مكانه إلى حين يرى غريمه يدخل عليه، وأراد بذلك تضعيف خيل المسلمين وكسر همة الفرسان، وأن يمكّن رماته من رمي السهام، لأن ذلك أثبت لهم وأسكن، وكذلك كان، فإنه لما وقعت الصدمة، وتحركت العساكر، وأوقد الزراقون نفطهم، واعتقد المسلمون - على ما عهدوه من اللقاء في المصاف - أنه ساعة يحمل الجيش يحمل أيضاً جيش العدو، فتقع الصدمة من الطائفتين، ويعطي الله النصر لمن يشاء. ولما حملت العساكر وخرجت الخيول بقوة بأسها، وحدة شوطها، حتى قربوا من وجه العدو، لم يتحرك منهم أحد، ولا انزعج جيشهم، فلما شاهدوا ذلك منهم قلّ عزمهم، وانطفأ النفط الذي كان مع الزراقين في مقدم الجيش، لأنهم كانوا أوقدوه من بُعد على أنهم يتقدمون لهم، فبينما تقدم عسكر المسلمين إليهم مع بعد المسافة وثبات العدو وعدم حركتهم فرغ البارود، وبردت الهمة، بُعيد ذلك حملت التتار حملة صادقة حتى اختلطوا بالمسلمين، وأصابت سهامهم خيلاً كثيراً منهم، ورموا فرسانها.

ذكر من استشهد فيها من المسلمين

وأول ما أرجفوا طائفة العرب بأن أوهنوهم وأوهنوا خيولهم بالسهام، فكانوا سبب كسر الميمنة وفسادها، فإن الميمنة ولّت على أعقابها، فجاءت الهزيمة على الجيش الحلبي، فاستقلوا بأنفسهم، وأدركهم الموت، فرجع العسكر الحلبي على العسكر الحموي، ولم يقف، وتمت الهزيمة على ميمنة المسلمين من ميسرة العدو. وأما ميسرة الإسلام فإنها صدمت ميمنة العدو فقلقلتها وفرقت شملها. ولما عاين قازان انهزام ميمنته اعتزل في نحو ثلاثين فارساً وأخذ عن جيشه جانباً، ثم ركبت أخرياتهم الذين لم يركبوا في الصدمة الأولى وردّوهم وقوّوهم، فانكسر المسلمون، " فإنا لله وإنا إليه راجعون ". وكان السلطان الناصر قد انعزل في جمع قليل من المماليك، ومعه من الأمراء حسام الدين الأستادار لا غير، فكان يبكي وينظر إلى السماء ويقول: ياربّ لا تجعلني كعب الشؤم على المسلمين، ويدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويريد أن يلقي نفسه بين القوم وحسام الدين الأستادار يردّه ويمنعه. وقال صاحب النزهة: وكان الذي مع السلطان في ذلك الوقت اثني عشر مملوكاً من الشباب، وكنت أنا الثالث عشر. وقال بيبرس في تاريخه: لما انهزمت المسلمون وولّوا تفرقت عساكرهم المجتمعون، ونهب العدو الخيول والعدد والخزائن والأسلحة، وتبعوهم إلى حمص ونزلوا عليها، ففتحها لهم متوليها بالأمان وهو محمد بن الصارم، وأخذوا الدهاليز السلطانية والبيوتات والوطاقات ورحلوا إلى دمشق. وأما السلطان الناصر فإنه ساق بمن معه نحو بعلبك، ولو تربص في ذلك الوقت لكان أوقع نفسه بيده إلى التهلكة، فكان سبباً لفساد المملكة. ولقد فعل الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي يوم بدر مثل ذلك، وقال معتذراً هنالك هذه الأبيات: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فصدفت عنهم والأحبة فيهم ... طعماً لهم بعقاب يوم مفسد ذكر من استشهد فيها من المسلمين كانت الوقعة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، واستشهد فيها جماعة فازوا بالثواب الجزيل منهم: الأمير سيف الدين كرت نائب السلطة بالفتوحات، وكان من الأمراء الأعيان الفرسان الشجعان، وكان كثير الصدقة والخير والمعروف، وله أوقاف على وجوه البر والصدقات، وكان مشهوراً بالنخوة والمروءة، وكان عمل حاجباً، وأمير آخور، ونائب طرابلس والفتوحات. ومنهم: الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين الحلى، والأمير بدر الدين بيليك المنصوري المعروف بالطيار، وكان من أمراء دمشق. ومنهم: الأمير سيف الدين نوكية التتري، مات من أثر جراحات أصابته، فحمل في محفة إلى أن توفى ودفن بأرض عسقلان أو قريباً منها، وكان هذا وصل مع الوافدين في الأيام الظاهرية وأقام قليلاً حتى مسكه الملك الظاهر وحبسه بثغر الإسكندرية، وأقام إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون، ثم جعل له الأفراح وأعطى له تقدمة ألف. ومنهم: الأمير جمال الدين بلبان التقوى، وكان من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس العلمي، وكان نائباً بالمرقب. والأمير صارم الدين أزبك الطغريلي، وكان نائباً ببلاطنس. والأمير سيف الدين أقوش كرجي الحاجب. وقال ابن كثير: واستشهد نحو ألف نفس من الحلقة والمماليك، وهؤلاء الأمراء منهم من كان استشهاده في المعركة، ومنهم من أصابته جراحة فيها فمات بعدها، وفقد في المعركة قاضي القضاة الحنفية حسام الدين الرازي، وأسر التتار عامة العوام والأتباع والغلمان والرعاع. وقال صاحب النزهة: واستشهد أيضاً علاء الدين علي بن الشيخ الصالح إبراهيم الجعبري.

وقال: وأما الأمير بدر الدين بيليك الطيار فإنه قتل في طريق بيسان، فإنه لما انهزم العسكر - وكان من أمراء دمشق - أخذ حريمه عند وصوله إلى دمشق وخرج بهم، وما زال إلى أن وصل حرة بيسان ونزل بأهله للراحة، وإذا بجماعة من المغل الذين كانوا صحبة مولاي قد أدركوه، وكان معه تقدير أحد عشر مملوكاً، فلما رآهم وقد قصدوه ركب، وأخذ رمحه بيده، وشد لحريمه خيلاً فأركبهم عليها، وسيّر معهم ستة أنفس، وقال: انجوا بأنفسكم وها أنا واقف إلى أن تبعدوا. فقالوا: يا خوند إرجع معنا لعلنا أن نفوتهم. قال: لا والله ما انهزم قدامهم ولكن أموت ولا أمكنهم يصلون إلى حريمي وعيني تنظر، فلما رآهم المغل عطفت طائفة منهم إليهم، فلما رآهم مال إلى نحوهم، ولما رأوه مقبلاً إليهم ظنوا أنه يسألهم في أمرهم إلى أن صار معهم، فطعن واحداً فأرماه، وطعن آخر أيضاً فأخرج حدقته، وقتل أخر، وقد بهتوا لفعله، ثم تكاثروا عليه إلى أن أرموا فرسه، فوقع على الأرض، وجرح منهم آخر وهو راجل، ثم قُتل رحمه الله شهيداً دون حريمه وماله، وكان هذا من جملة المماليك المنصورية، وكان صاحب مروءة ومكارم، وصاحب شجاعة وفروسية. ومن الذين ماتوا من جراحة جرح في الوقعة المذكورة: سيف الدين الدواداري الصالحي النجمي، وكان قد جُرح في رجله بسهم وعند هزيمة العسكر رجع إلى أن وصل مع نائب حصن الأكراد إليها، فأقام بها يعلل جرحه إلى أن توفى. وكان كبير القدر، فإنه عمل دوادارية الملك الصالح، وبقي بعده ينتقل من حال إلى حال إلى أن كان له مائة فارس بمصر وخمسون بدمشق، وما زال معظماً في سائر الدول، وكان له سماع عالٍ في الحديث، وله علم وفقه وديانة، وهو الذي أنشأ القاضي بدر الدين بن جماعة وأنشأ فقهاء كثيرين، ومع هذا أنه صنع له طوبة من غبار الغزوات التي حضرها وغزا فيها، وأوصى أن تكون هذه الطوبة تحت رأسه إذا دفن، وكان إذا ركب يكون شعره على قربوس سرجه الوراني وجميعه أبيض، وكانت له صدقات وبر وأوقاف على عتقائه، وله بالقدس الشريف رباط رتب فيها شيخاً وفقراء ووقفا جارياً، ولما ورد خبره إلى دمشق صلّوا عليه صلاة الغائب في جامع بني أمية وسائر جوامع دمشق، وكذلك صلوا عليه صلاة الغائب بمصر. وذكر في النزهة أيضاً: أن سيف الدين كُرت نائب طرابلس قال للأمراء في ذلك اليوم: ها أنا أحمل لعل الله يرزقني الشهادة في هذا اليوم، ثم التفت إلى الأمير جمال الدين قتال السبع وقال: يا أمير وصيتي (197) لك على أهل بيتي، فإني والله ممن يُستشهد في هذا اليوم، فإني رأيت رؤيا تدل على الشهادة: رأيت في هذه الليلة طائر أخضر يرفرف على رأسي ويقول لي: أتل (ربنا لا تزغ قلوبنا) الآية. فتلوتها إلى آخرها، ثم حملني على جناحه الأيمن إلى أن وضعني في روضة خضراء، ثم انتبهت، فهذا يدل على الشهادة. ثم لما صدموا العدو كان هو أول من رمى فرسه بسهام كثيرة، فأصاب سهم منها نحره، فوقع إلى الأرض والسيف بيده مسلول يذب به عن نفسه إلى أن ضرب بسهم فسقط إلى الأرض، وقُتل من مماليكه عليه نحو ستة عشر مملوكاً، وجُرح نحو اثني عشر، وقُتل من عسكر طرابلس في تلك الوقعة ما ينيف على أحد عشر نفساً، وقُتل من كل أمير جماعة من المماليك وجرح آخرون.

ذكر ما جرى للعسكر بعد ذلك

وجُرح الأمير بدر الدين أمير سلاح بضربة سيف في يده، وجُرح الأمير جمال الدين قتال السبع في فخذه، ولما نظر أمير سلاح إلى الهزيمة ورأى جرحه بكى بكاءً شديداً وقال لمماليكه: هاتوا لي حصاني الدويك، وكان قد اشتراه بثلاثمائة دينار، وحياصة ذهب قيمتها مائتا دينار، وخلعة أطلس، وكلوتاة زركش، ثم بعد أيام رأى بائع الفرس المذكور - وهو راكب عليه - فقال له: طاب خاطرك بالثمن الذي دفعته إليك. فقال: والله يا خوند كان أملي فيه أكثر من ذلك الثمن. فلما سمعه يقول ذلك قال له: امش معي إلى البيت، فمشى معه حتى أتى داره، فخلع عليه خلعة بكلوتاة وحياصة ذهب وأعطاه ثلاثمائة دينار، وكانت هذه القضية في دولة كتبغا، فبلغ ذلك بتخاص والأزرق وغيرهما فصار كل واحد منهم يسأله ويطلب منه هذا الفرس إنعاما عليه، فيبعث إلى كل منهم حصاناً مشتراه خمسة آلاف درهم وصحبته خمسة آلاف درهم ويقول له: إني قد حبست هذا الفرس في سبيل الله يركبه الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ثم إن مماليكه أحضروا الفرس المذكور في ذلك اليوم لما طلبه، وكان جنيبا مع أحد الأوشاقية فقال له مماليكه: يا خوند هذا فرس قوي شديد وأنت اليوم تضعف عن رد عنانه لما فيه من القوة، وكان من شدته رتب له أوشاقيا وحده برسم ركوبه وخدمته، ولم يسمع منهم فركبه، فلما قعد على ظهره ألوى عنانه نحو العدو وقال للأمراء: من أراد الشهادة فليتبعني، فرجعت الأمراء إليه وسألوه أن يرجع فأبى وقال: والله كنت منتظراً لهذا اليوم، وقال له الأمير علم الدين الدواداري - وكان قد خرج في مواضع كثيرة -: يا أمير أنت اليوم قوام العسكر وأتابكه، وما فينا أحد إلا وقد جرح جراحات ومعظم مماليكنا قد قتلوا، وما يحل أن تلقي نفسك في التهلكة، فلم يلتفت إليه، بل قال: يا أمير ما بقى فينا شئ، فهل تنتظر خلاف هذا اليوم؟ فتقدم نحو العدو، واتفق رأى مماليكه على منعه وساق بعضهم إليه وأخذ برأس فرسه إلى نحو حمص وبعضهم ضرب كفل فرسه بالمقرعة، فخرج من تحته مثل البرق الخاطف، وأرادوا بذلك إبعاده عن الفرس حتى يأخذوا بعنانه ويتوجهوا إلى طريق النجاة، فلما أحس الفرس بالضرب فر مثل الريح العاصف حتى لم يروا منه إلا غباره، ولم يزل يجري على ميدان واحد إلى أن وصل إلى نهر حمص، فقوى عليه العطش من كثرة الجري وشدة العدو إلى أن أرمى نفسه في النهر، وشرع يعب من الماء، وأمير سلاح ماسك بيديه الشنن رافعه على أن يرفع رأسه من الماء فلا يرفع، فشرب حتى انتفخ فؤاده، ثم طلع من النهر ووقع طائحاً وقد انفقع من شرب الماء، فلحقه مماليكه وأركبوه جنيباً آخر، فكان هذا يعد من حسناته حيث اشترى فرساً بمائتى ألف درهم لركوب ساعة واحدة. وقال صاحب النزهة: ومن قوة خذلان العسكر الإسلامي عاينت الأمير حسام الدين لاجين المعروف بزيرياح ومعه أعناق الحسامى من المقدمين ومعهما نحو ثلاثة آلاف فارس منهزمين، وقد أفرد في أعقابهم رجل واحد من المغل ولا يلتفت إليه أحد منهم، ورأيت فتى شاباً من العرب راكباً على حجرة شقراء وليس عليه شيء يمنع السهام وقد أخذته الحمية وهو يقول: يا مسلمين أش خلفكم ما ثمة إلا رجل واحد، فلا يجيبه أحد، فلوى رأس فرسه عنهم ورجع إلى ذلك الرجل وهو يقول: الله أكبر، فلما رآه ذلك الرجل مصمماً عليه ولى فرسه ورجع عنهم، وما كان ذلك الرجل ينتظر في ذلك الوقت غير صناديق مفتوحة، وكلوتات زركش، وحوائص ذهب ملقاة، وأسلحة، وسناجب، وأكياس ذهب، ودراهم، وخزائن الأمراء الأمراء بما فيها. ذكر ما جرى للعسكر بعد ذلك

أما السلطان فإنه رجع في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك، وسار إلى مصر، وسافر جماعة من أهل دمشق من أعيانها وغيرهم إلى مصر كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضى المالكية جمال الدين الزواوي، وتاج الدين بن الشيرازي وعلم الدين الصوافي والي البرّ، وجمال الدين بن النحاس والي البلد، والمحتسب، وغيرهم وبقيت دمشق شاغرة ليس فيها حاكم ولا رادع سوى نائب القلعة علم الدين أُرْجواش، وهو مشغول عن البلد بالقلعة، وأما العسكر تفرقوا في كل ناحية ووصل بعضهم إلى القلاع القريبة من مكان الوقعة، ونجى بنفسه من كان فيه نهضة، وتوجه أقوام إلى جبال بعلبك وغيرها جياعاً عُراة مشاة، وتخطفت الجبلية بعض من سلك تلك الطرق وقتلوا منهم ونهبوا وسلبوا، فكان هؤلاء عدواً ثانياً، وكل من كان يهرب يرمي خوذته من رأسه ويقطع قرقله بالسكين إذا لم يلحق لحلها ويقطع البركستوان المثمنة، وكل ذلك قصداً للتخفيف. قال صاحب النزهة: ورأيت جماعة من مماليك السلطان تخرج من وسطه كيس الفضة ويناوله لرفيقه، فإن لم يأخذه سريعاً وإلاّ يرميه من يده إلى الأرض ويسوق. قال: ورأى الأمراء البرجية مع حسن أشكالهم وتزين لباسهم قد صاروا قطعة واحدة هاربين منهزمين، وقازان في أعقابهم وقد بسط جيشه من الجانبين وانفرد هو بنفسه في صدر جيشه ورجل قدامه وبين يديه على فرسه طبل أكبر من طبل الجمالق يضربه ساعة بعد ساعة ضربة واحدة، وكلما سمعها الجيش زادت هزيمتهم وهربت فرقة منهم إلى ناحية البرية وسلكوا فيها وهلكوا بأجمعهم، وفرقة سلكت ناحية البحر المالح فهلكوا، ولم يسلم منهم إلاّ الفرقة التي سلكت الطرق التي يُسلك فيها، ولكن الذين سلكوا الجبال قاسوا من أهلها ما قاسوا مثله من التتار، وقتل من المسلمين خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. وقال صاحب النزهة: وكان وصولنا إلى قلعة حمص والشمس في الغروب، فوجدنا أهلها فوق الأسوار يبتهلون إلى الله عز وجل بالدعاء وكانوا ينادون: يا مسلمون الرجعة الرجعة لا تسلمونا إلى العدو، يا مسلمون المروءة المروءة، ولم يلتفت إليهم أحد، فتباكوا وبكت الناس وبكى السلطان الناصر، ثم قال للأمير حسام الدين: يا أبي أنت ما قلت إن المسلمين يقفون ويقاتلون نوبة ثانية في حمص ومالي لا أنظر أحداً يقف ويقاتل. فقال: يا خوند ما يقاتلون إلا في دمشق وقصدهم أن يستجروا العدو حتى يتبعوهم ويدخلوهم في مواضع ليس لهم خبرة بها، وكل ذلك يريد به التعلل للسلطان لئلا يزداد خوفه. قال الراوي: وما وصلنا إلى حمص إلا وأكثر الخيل قد وقفت ولم تتحرك خصوصاً خيول الأمراء والمماليك الموقرة، ولما دخل الليل انقطع التتار من خلف عسكر المسلمين. قال: ثم وصلنا إلى بعلبك صبيحة الجمعة ونحن كلنا محتاجون إلى قوت أنفسنا ولخيولنا، فوجدناها قد أغلقت، وصعدت أهلها على الأسوار وكانوا يتناولون الفضة بالحبال، فمنهم من يُعطى ما يطلبه صاحب الفضة ومنهم من يأخذ الفضة ويغيب من فوق السور ولا يراه أحد. قال: ثم أصبحنا يوم السبت ودخلنا إلى دمشق وتلقتنا أهلها بالويل والثبور، وما أقمنا فيها غير ساعة واحدة ووقع الصياح بأن طوالع العدو قد لاحت، فخرجت الناس لا يلتفتون إلى شيء، وأكثرهم خرجوا بلا زاد، وأما أهل دمشق فمنهم من طلع القلعة ومنهم من توجه نحو القدس والخليل عليه السلام، ومنهم من طلب قلعة صفد وقلعة كرك، ومنهم من أقام وتوكل على الله، وصارت الناس كأنهم يُساقون إلى المحشر يوم القيامة، فلا يلتفت الأخ إلى أخيه ولا الأب إلى ابنه ولا المملوك إلى سيده.

قال الراوي: وأما الفرقة التي كان سفرهم على الساحل فإنهم قاسوا شدة عظيمة من أهل جبل كسروان، فكانوا ينزلون إليهم ويمسكون عليهم المضايق، ويأخذون الجندي قبضاً بالكف، ويأخذون ما معه، ويرسلونه عرياناً إذا أحسنوا إليه، وربما يقتلونه أو يرسلون عليه حجراً من فوق فيهلك هو وفرسه، وكانوا قد استوقفوا جماعة كثيرة عن المسير، وقصدوا أن يأخذوا منهم ما يريدونه حتى يفتحوا لهم الطرق، فاتفق في ذلك الوقت حضور طائفة من العسكر الذين هم صحبة الأمير بدر الدين أمير سلاح، وصحبته الأمير بلبان الطباخي نائب حلب وجماعة من الأمراء، فلما رأوا ذلك حملوا عليهم وأزاحوهم عن الطريق، فرجعوا، واجتمعوا جماعة كثيرة ووقفوا لمنع الأمراء أيضاً، فلما رآهم الأمير بدر الدين مصممين على القتال رسم الذين معه أن يترجلوا وأن لا يتهاونوا في أمرهم كيلا يدركهم التتار فيكونون بين العدوين، فترجلوا وزحفوا عليهم وقتلوا منهم جماعة، فقام القتال بينهم من ضحوة النهار إلى الظهر، وجُرحت من جماعة أمير سلاح خلقٌ، فآخر الأمر كسروهم وفتحوا الطرق وذهبوا، وبعض الأمراء وراءهم ساقة لهم إلى أن وصلوا إلى غزة، وأقام أمير سلاح فيها ينتظر المنقطعين من العسكر، والتحق به جماعة كبيرة من الناس والجند والأمراء، وهو يُداوي المجروح، ويركّب الراجل، ويكسو العاري، ومن جملة ما وجده في غزة القاضي فتح الدين بن القيسراني، فأركبه وكساه وصحبه إلى القاهرة. وأما قازان، فإنه لما رأى أن جيش المسلمين قد انهزموا فرح فرحاً عظيماً، وقصد أن يلحق المسلمين، فمنعه الأمير قفجق وقال له: لا تعجل فربما يكون لهم كمين ويكون انهزامهم هذا مكيدة منهم، فقبل كلامه وتوقف عن اللحوق بهم، وإلا لو مشى وراء المسلمين لكان أخذ الجميع. ولما أصبح يوم الخميس ورأى أن أخبار السلطان والعسكر قد انقطعت اطمأن، وسيّر إلى حمص وأخذ ما وجد فيها من الأموال والودائع والذخائر، وقبض على من وجد فيها من الجند من الجرحى والمنقطعين، وفيهم جماعة من الكتاب والموقعين وممن وقف فرسه، ثم اقتضى رأيه أن يجّرد أميراً يسمى بوري ومعه جماعة يكشفون الخبر، ثم توقف من ذلك خوفاً أن يكون في الطريق جماعة من عسكر السلطان يشوشون عليه، ثم أرسل شخصاً على هيئة جاسوس ليكشف خبر السلطان هل هو أقام بدمشق أم راح إلى مصر؟، فخرج الرجل وغاب يوماً وليلة، ثم جاء وأخبر أن دمشق خالية ليس فيها لا سلطان ولا عسكر. ولما سمع بذلك أمر بالمسير إلى الشام، لكنه انتظر المنهزمين من عسكره، ثم رجع هو إلى مكان الوقعة وهو وادي الخزندار، بينه وبين تربة خالد بن الوليد رضي الله عنه مسافة نصف يوم أو دونه، فوجد هناك بعض الجند جرحى ممن وقع في الوقعة، ووجد من أصناف الأسلحة والأقمشة المفتخرة والحوائص الذهب والكلوتات الزركش والأكياس من الذهب والفضة ما لا يوصف، وكذلك من السروج الزركش والبركستوانات والقرقلات والخوذ ما عجزوا عن حمله، وأما الدواب من الخيول المسومة فكان شيئاً كثيراً واقفة من مكان المصاف إلى قرب حمص، ورأى قازان من هذه الأشياء ما أذهله عن عقله، فإن الدولة كانت جديدة وأمراؤها كانوا يفتخرون بأنواع الزينة، وكل منهم كان يريد أن يزيد على صاحبه بالعدد المفتخرة والأشياء الحسنة. وكان من جملة من أسره من حمص برهان الدين المنجم، فلما أحضروه بين يدي قازان عرفه قفجق وبكتمر وقالا لقازان: هذا منجم عارف، فلما رآه قازان أحضر إليه ابن الخواجا نصير الدين الطوسي حكيم الزمان، وكان هو عند قازان حكيماً ومنجماً، كما كان أبوه نصير الدين عند هلاون وأمثاله، ولما قدم هلاون الشام كان الخواجا نصير الدين معه كما ذكرنا.

ذكر ما جرى في دمشق بعد انهزام الجيش

فقال له قازان: سلْ هذا المنجم كيف ما عرّف أستاذه الناصر بأمر هذه الواقعة؟ فسأله وقال له: يا حكيم كيف حكمت على صاحب مصر وعسكره أن يلاقي عدوه في مثل يوم الأربعاء وهو آخر الأربعاوات في السنة وهو يوم نحس مستمر؟ فقال له: قد عرّفته ذلك، وعرّفت أكابر عسكره، ولم يسمعوا مني ونهروني، ولم يلتفتوا إلى كلامي، وكان قد وقع ذلك، فإن السلطان عند نزوله حمص طلب الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس وشمس الدين الفارقاني وطلبوا برهان الدين هذا، ثم شرع سلار يسأل من الفارقاني عن أحوالهم وكيف يكون أمرهم عند الملاقاة وأي الأيام يصلح لذلك، وكان الفارقاني له اليد في أحكام البلد أكثر من برهان الدين المذكور. فقال له الفارقاني: يا خوند إن قدرت أن تؤخر الملاقاة مع العدو إلى مستهل الشهر تكون النصرة إن شاء الله لكم، وماعندي في هذا اليوم طائل، وكان يوم الأحد. قال: ولا يوم الإثنين ولا يوم الثلاثاء وخصوصاً أن يكون يوم الأربعاء فإنه يوم لا يحمد فيه لقاء العدو. فقال له سلار: إذا - وافانا عدو نقول له، اصبروا حتى نبصر يوماً جيداً نلقاكم فيه. ما هذا الفشار؟ ونهضوا من عنده مثل المطرودين. ذكر ما جرى في دمشق بعد انهزام الجيش بتاريخ ليلة الأحد الثاني من ربيع الآخر كسر المحبوسون بباب الصغير باب السجن، وخرجوا منه قريباً من مائتي راجل. فنهبوا ما قدروا عليه، وجاءوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب الجواني وأخذوا من الباشورة ما شاءوا، وكسروا أقفال الباب البراني وخرجوا منه على حمية، فتفرقوا حيث شاءوا، لايقدر أحد على ردّهم ولا صدهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد، فكسروا أبواب البساتين، وقلعوا من الأبواب والشبابيك وغير ذلك ما قدروا عليه، وباعوه بأرخص الثمن، هذا وسلطان التتار قد قصد ورود دمشق بعد الوقعة. واجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد على، واتفقوا على المسير إليه لتلقيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الإثنين الثالث من ربيع الآخر، فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ ابن تيمية كلاماً قوياً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ودخل المتسلمون للبلد من جهة قازان، فنزلوا بالباذرائية، وغلقت أبواب المدينة سوى باب توما، وخطب الخطبة يوم الجمعة سابع الشهر المذكور بالجامع ولم يذكر سلطاناً في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل التترى ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطريق، وحضر الفرمان بالأمان فطيف به في البلد، وقرىء يوم السبت ثامن الشهر. بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة. وفي نزهة الأنام: الذين خرجوا من دمشق لطلب الأمان من قازان هم: خطيب دمشق القاضي بدر الدين بن جماعة، والشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ تقي الدين بن تيمية، والقاضي نجم الدين بن صصري، والصاحب فخر الدين بن الشيرجي، والقاضي عز الدين بن الزكي، والشيخ وجيه الدين ابن المنجي، والصدر الرئيس عز الدين بن القلانسي وابن عمه شرف الدين، وأمين الدين شقير الحراني، والشريف زين الدين بن عدنان، والشيخ نجم الدين ابن أبي الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشرف الدين بن الشيرجي، والصاحب شهاب الدين الحنفي، والقاضي شمس الدين الحريري، والشيخ محمد بن قوام البالسي والقاضي جلال الدين أخو قاضي القضاة إمام الدين القزويني، والقاضي جلال ابن قاضي القضاة حسام الدين، وجماعة كثيرة من الفقهاء والقراء، وتوجهوا نحو جيش التتار.

وبقيت المدينة بلا نائب ولا حاكم، وأكل الناس بعضهم بعضاً، ومن قدر على أمر فعله، ووصلت أربعة من التتار، ومعهم الشريف القمي ونزلوا بالباذرائية، وأصبح الصباح ولم يفتح من أبواب دمشق باب، فكسرت أقفال باب توما، وكان الذي تولى كسرها نواب الولاة: الشجاع همام الدين وابن ضاعن وابن الذهبي النقيب، ووصل إلى ظاهر دمشق جماعة من التتار ومعهم أمير اسمه إسماعيل، فنزلوا ببستان الظاهر بطريق القابون، وأما الجماعة الذين خرجوا من دمشق فإنهم التقوا بالعساكر التترية بالنبك، واجتمعوا بالملك، ووقف الترجمان، وتكلم منهم، وكان المتكلم فخر الدين بن الشيرجي، وأحضروا ما كان معهم من المأكول، فلم يظهر له وقع ولا حضر قدام الملك. وقال الملك قازان: إن الذي تطلبونه من الأمان قد أرسلناه إليكم قبل حضوركم، فرجعوا إلى دمشق، وحضر الأمير إسماعيل إلى مقصورة الخطابة وحضر الخطيب ابن جماعة وفخر الدين ابن الشيرجي وابن القلانسي وابن منجي وجماعة لقراءة الفرمان، واجتمع الناس، وقرىء الفرمان على السدّة. فحمد الناس الله تعالى، وحصل للناس سكون وطمأنينة، وقرب التتار من دمشق وأحدقوا بالغوطة، وكثر العبث والفساد والنهب بالحواضر البرانية مثل العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر الساق، ووصل الأمير قفجق وبكتمر السلحدار مع جماعة ونزلوا بالميدان الأخضر. وورد مرسوم من الأمير إسماعيل بأن العلماء والقضاة والأكابر يتحدثون مع أرجواش نائب القلعة ويحسنون له تسليم القلعة وإلا يدخل الجيش البلد، ولا تبقى بعد هذا القلعة ولا البلد، فاجتمع جماعة منهم بدار الحديث وأرسلوا رسولاً إلى أرجواش فلم يجبهم، فقاموا في دار الحديث بأجمعهم إلى باب القلعة وأرسلوا إليه رسولاً ثانياً فبلغه سلامهم. فقال: ومن هم الذين أرسلوك؟ فسماهم له بأنسابهم، فقال: هم المنافقون الخائنون للمسلمين، وليس عندي جواب، ومع هذا فهذه بطاقة وصلت إلي من السلطان صاحب مصر مضمونها أنهم قد اجتمعوا على غزة وكسروا الطائفة الذين تبعتهم من التتار، وهو يوصيني بالقلعة، وكان من جملة الجماعة الواقفين بباب القلعة: بدر الدين بن فضل الله. فقال أرجواش: وصل ابن فضل الله ويقف على البطاقة فإنها بخط أحيه، فامتنع ابن فضل الله من الدخول واشتد خوفه وهرب من بين الجماعة، وتفرقت الجماعة على هذه الصورة. وفي اليوم الثاني: حضر الأمير قفجق وجلس بالمدرسة العزيزية وأمر بالمراجعة بأرجواش في أمر القلعة، فراجعوه فلم يجبهم، وكتبوافي هذا اليوم فرمانات كثيرة من شيخ الشيوخ نظام الدين للتتار، ولم يحصل بأكثرها نفع، وخاف الناس وأصلحوا أبواب الدروب، وكثر دخول التتار للبلد، ونزل شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادلية وادعى أنه يصلح أمور الناس، وطلب الأموال، ووقع النهب في جبل الصالحية، ودخلوا الناصرية، والمارستان القيمري وكسروا الأبواب والشبابيك، وصعدوا إلى مغارة الدم، وإلى مغارة الجوع، ولم يعص عليهم موضع، ودخلوا إلى جامع الحنابلة، وأخذوا بسطه وكسروا القناديل والمنبر، ودخلوا في مدرسة الشيخ ضياء فنهبوها، وأخذوا من الصالحية من المطعومات والقمح والشعير والدفائن والذخائر شيئاً كثيراً حتى كان الواحد يأتي إلى الخبيئة كأنه هو الذي خبأها من سرعة هدايته إلى مكانها. وبلغ الناس بالبلد ما جرى بالصالحية، فشق عليهم، وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية وجماعة إلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية وشكوا إليه الحال، فخرج معهم إلى الصالحية، فسمع التتار بخروجه فهربوا، ودخل أكثر الناس عرايا عليهم الجوالق والبلاسات، واشتد الأمر وسار التتار إلى قرية المزة؛ وكان أكثر أهلها لم ينتقلوا عنها فنهبوها، وسبوا أهلها، وفعلوا بها كما فعلوا بالصالحية؛ ثم ساروا إلى داريا فاحتمى أهلها بالجامع، فلم يزالوا حتى دخلوه وفعلوا كما تقدم؛ وقتل من التتار جماعة من أهل داريا جماعة.

ثم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم السلطان الذي يسمونه الأردو؛ وكان بتلّ راهط، فدخل عليه ولم يمكن من الإعلام كما ينبغي، بل أذن له في الدعاء والإسراع، وقيل: إنه كان مشغول الدماغ ولم يعلم بما جرى، ولو علم كان قتل جماعة من المغل، فيحصل بذلك فتنة وتفريق كلمة، فاجتمع تقي الدين بالوزير ابن سعد الدولة ورشيد الدولة وتحدث معهما، نذكر أن جماعة من مقدمي المغول الأكابر لم يصل إليهم شيء من مال دمشق ولا بد من إرضائهم، فدخل الشيخ تقي الدين البلد، وقد ضاق الأمر بالناس، وهم في شدة عظيمة، واشتاع بينهم أن قازان يريد الدخول إلى البلد، وقد جعل ما فيه للمغول خاصة، فضاقت صدور الناس، وقيل لهم: من لم يخرج من البلد ندقه في عنقه، ومن أراد الخروج فليخرج إلى الصالحية، وكان هذا الكلام من جهة شيخ الشيوخ، ثم حمل حوائجه وخرج إلى العادلية، فقالت الناس: لو لم يكن الخبر صحيحاً لما خرج مسرعاً، فلما كان آخر النهار رجع بعض حوائجه وحضر إليه أعيان البلد وقالوا: إن رسم السلطان أن يضع على البلد شيئاً معلوماً سعينا في استخراجه، ويكون مثل الشراء عن السلطان ويمنّ السلطان بالعتق على المسلمين، وكان قد قتل في هذه الليلة رجلان من متولي أمر المناجيق من جهة أهل القلعة، وكان السلطان غضب من ذلك غضباً شديداً. وقال الشيخ وجيه الدين بن منجي: أنا أبذل جميع ما أملكه من العين. وقال الرئيس عز الدين بن القلانسي: قد أخذ منا شيء كثير، ولم يبق إلا أن يموت بعضنا على بعض، كل هذا وشيخ الشيوخ ساكت مصمم لا يفرج كربة عن مسلم، ولكن اشتدّ الطلب من الناس فقرّر على سوق الخوّاصين مائة ألف وثلاثون ألف من الدراهم، وعلى سوق الرمّاحين مائة ألف درهم، وعلى سوق عليّ ستون ألف درهم، وعلى أكابر البلد ثلاثمائة ألف دينار، وجبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسِّم عليهم طائفة من المغل، مع كل إنسان طائفة منهم، وضيقوا عليهم، وعصروا ابن شقير، ووعدوا ابن منجي وابن القلانمي بوعيد، والمغل محيطين بهم يضربونهم، فصار جميع أهل دمشق في الذل والهوان، وكثر النهب في البلد، والقتل عمّال في ضواحي دمشق وضياعها. يقال: إنه قتل ما يقارب مائة ألف إنسان من الجند والفلاحين والعامّة، وكثر الطلب، وعجز المطلوب، وعسر الأمر على الناس، وكان متولي الطلب الصفي السنجاري وعلاء الدين أستادار قفجق وأولاد الشيخ علي الحريري الحنّ والبنّ، وكان هؤلاء من أكبر المصائب على الناس، فنظم فيهم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: لهفي على جلّق يا سوء ما لقيت ... من كل علج له في كفره فنّ بالطمّ والرمّ جاؤوا ولا عديد لهم ... فالجنّ بعضهم والحنّ والبنّ وقال علاء الدين الوداعي: دهتنا أمور لا يطاق احتمالها ... فسلّمنا منها الإله له المنّ أتتنا تتار كالرمال تخالهم ... هم الجنّ حتى معهم الحنّ والبنّ وقال الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة: رمتنا صروف الدهر منها بسبعة ... فما أحد منّا من السبع سالم غلاء، وغازان، وغزو، وغارة ... وغدر، وإغبان، وغم ملازم ثم استهل شهر جمادى الأولى: ففي أول ليلة منه بات المغل منتشرين بباب البريد إلى القلعة بسبب حفظ مناجيقهم التي بالجامع، وكانت لهم مدة يحاصرون القلعة، وكسروا دكاكين باب البريد وأخذوا ما فيها، وانتقل الناس من تلك الناحية، وتركوا حوائجهم وأقواتهم، وعجزوا عن حملها، وغلقت أبواب الجوامع وترك منها باب صغير، وانقطع الناس عن الجامع. وفي الجمعة الأولى من الشهر: نهب دير الحنابلة مرة ثانية، وسبيت من كان فيه من النساء والأولاد، ومن جملة ما أخذوا: مائة وعشرون بنتاً، وأسروا القاضي تقي الدين الحنبلي وعملوا في رقبته حبلاً يجرونه به، ثم تركوه.

ذكر نسخة فرمان التي كتبها قازان

وأما البلد فأحرقت منه دار الحديث الأشرفية وما جاورها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغيرة، وما جاورها، وأحرقت القيمارية وما جاورها إلى دار السعادة إلى المارستان النوري، ومن الجهة الأخرى إلى المدرسة الدماغية إلى باب الفرج، وأحاطت التتار بالقلعة من جميع الجهات، وبقيت الأماكن موحشة لا يجسر أحد أن يمرّ بها، ولم تبق حارة ولا محلة إلا وقد دخلها التتار ونهبوها، واختفى الناس، وكان الرجل إذا حصلت له حاجة يخرج في أثواب رثّة وهو خائف وجل، ثم يعود مسرعاً، ولم يكن يصلي في الجامع خلف الإمام إلا رجل أو رجلان، والتتار منتشرون فيه لأجل حفظ المناجيق، وشربوا في الجامع الخمور، وانتهكوا حرمته، وفجروا فيه بالنساء، ونجسوه بالبول، وامتنع الناس عن حضور الجمعة خوفاً على أنفسهم، والأمر في المصادرة والجباية حثيثاً لم يعف عنه أحد لا غني ولا فقير. وحصّل لشيخ الشيوخ من البراطيل فوق الثلاثين ألف دينار، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، ويفخم كلامه، ولم يكن فيه شيء من أخلاق المشايخ، وكان كثير الطمع وكان يستهزىء بقلعة دمشق ويقول: إش هذه؟ لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم جئنا، وإنما الملك يريد الرفق. كل هذا والناس في المصادرة، وكان المستخرج من الدراهم برسم خزانة الملك ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف سوى الدواب والقماش والسلاح والقمح والشعير، وذلك غير الذي أخذه المغول من النهب والبرطيل، وحصل لخواجا أصيل الدين بن النصير الطوسي نحو من مائتي ألف لأنه كان منجم الملك وناظر الأوقاف التي في ممالك التتار، وطلب من أوقاف دمشق أجرة النظر عن سنة كاملة، واستخرج الصفي السنجاريّ لنفسه مائة ألف درهم، وكل هذا غير الذي استخرجه قفجق لنفسه ولأمراء المغول، وسوى الرواتب المرتبة للملك في كل يوم ولخواصه، ونهب لأهل دمشق ما يقارب ذلك، وأحرق من الأملاك والأوقاف والمدارس مالا يقدر أحد على ضبط قيمته. ذكر نسخة فرمان التي كتبها قازان لما تولى قازان بظاهر المرج والغوطة خرج إليه أهل دمشق بمفاتيح أبوابها ونغائس هداياها، فأقبل عليهم وقبل ما أحضروه وأمنهم فكتب فرمان لأهل دمشق ونواحيها وأرسلها بأنهم آمنون وأن مغل لا يتعرضون للرعية ولا لأموالهم، وهم يقيمون جمع ما يختاره الملك، فإن البلاد بلاده والرعية رعيته، وكتب ذلك على يد الشريف، وصورة ذلك: ليعلم أمراء التوامين والألوف، وعموم عسكرنا المنصور من المغل والكرج والأرمن أن الله نور قلوبنا بالإسلام، وهدانا إلى ملة نبيه عليه السلام " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ". وأتم الله علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، وقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، وصدّرنا أن لا يتعرض أحد من العساكر على اختلاف أجناسها لدمشق وأعمالها، وسائر البلاد الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدي عن الأنفس والأموال والحريم والعيال، والتعرض لأهل الأديان، وكل راع مسؤول عن رعيته " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى عن الفحشاء والمنكر ". ثم أرسل قازان إلى دمشق قطلوشاه، ومعه يحيى بن جلال الدين، ورشيد الدين المسلماني، وزيره، ونجيب الدولة اليهودي، مشيره، والأمراء المصريون وهم: الأمير سيف الدين قفجق، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار، وأكابر دمشق صحبتهم، وكان ذلك يوم الجمعة، ولم يدركوا الخطبة بدمشق، وكان وصولهم دمشق بعد العصر، ودخلوا الجامع، وحضرت أهل دمشق، وقرىء الفرمان على المنبر، واطمأنت نفوس الناس بعض شيء، ثم أقاموا بها أياماً لجباية الأموال كما ذكرنا صورة الجباية.

وأطاع أهل دمشق جميعهم قازان ما خلا الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف بأرجواش نائب القلعة، وكان من مماليك السلطان الملك المنصور القدماء، فإنه أظهر حزماً واجتهاداً ويقظة واستعداداً ولم يسلم القلعة، بل صمم على امتناعه وأخذوه بأنواع من الترهيب والترغيب، فلم يرهب السطا ولا رغب في العطا، ونصبت عليه المجانيق، فما هاله أمرها فتح لها بابا حتى رحل قازان عن البلاد ولم ينل منها ما أراد، ولما اشتد الحصار وأحاطت بالقلعة جموع التتار خاف أن يستولوا عليها من الأماكن والمساكن التي عليها، فهدم جميع ما حولها من العمائر والبيوت وصيرها دكا، وهدم دار السعادة وكان هدمها من السعادة لئلا يتستر العدو في المنازلة بجدرانها ويتسلطوا بنصب المجانيق خلف بنيانها، فتناوبوا على حصارها أياماً متواترة، وليالي متكاثرة، ولم ينالوا منها مراماً ولا رأوا من نائبها تسليماً ولا سلاماً، فصبروا إلى أن أدركهم لطف الله، فسلموا وصابروا وما سلموا. وعلم قازان أن أموال دمشق جميعها بالقلعة، وفيها خزانة السلطان الناصر، وأموال الأمراء وغيرهم، وأنه لا يتم له ملك ولا يملك قلعة من قلاع الشام حتى يملك قلعة دمشق، فإن أمر االقلاع معدوق بأمرها، فطلب قفجق وبكتمر وغيرهما واستشارهم في أمرها، فعرفوه أنها قلعة حصينة، وأن نائبها رجل شديد البأس وما يمكن أخذها إلا بعد قتال شديد وتلاقي العسكر. وحضر في ذلك الوقت نجيب الدين وزير قازان من غزنة، فأشار عليه أن يعمل المنجنيق ويتوصل به إلى هدم القلعة، فرسم له عند ذلك بالإنعام الكثير، فشرع في عمل ذلك، وساعده جماعة من أهل دمشق على قطع الأخشاب وعمل المنجنيق في وسط الجامع الأموي، فبلغ ذلك أرجواش نائب القلعة، فصبر إلى أن هجم الليل، وأرسل جماعة من القلعة ومعهم النفط، فأطلقوا النار أولا في دار السعادة، ثم في سائر الأماكن القريبة من القلعة، فصارت تلك الأماكن شعلة نار، وكان فيها جماعة من التتار، فهربوا منهزمين، فبقيت النار تعمل يومين وثلاث ليال. ولما بلغ ذلك قازان غضب غضباً شديداً وأمر لسائر المغل بالركوب، وركب هو مع الأمراء إلى أن وصل إلى القلعة، ونظر إليها، واستهون أمرها، وأمر بردم الخندق. فقالوا له: لا يمكن ردمه في شهر لأن المياه مسلطة عليه وصعبوا أمره، وكان قصدهم إخماد النار، وأشار قفجق أن يخاطب نائب القلعة بحضور قازان ويعد - له - بكل خير، وسمع قازان جوابه، فخرج قفجق وبكتمر وبعض أمراء المغل، فوقفوا قريبا من الخندق، وكان أرجواش قد نصب له كرسي عال بحيث يراهم ويرونه، فلما رأوه سلموا عليه، وسلم عليهم، ثم شرع قفجق يعرفه عن قازان بالمواعيد والعطايا، وإنه إن لم يفعل فإن الملك يفعل كذا وكذا. فلما سمع أرجواش كلامه أجابه فأغلظ في جوابه، فقال له: يا منافق، من يتقرب إلى القلعة؟ والله لو تقرب إليها أستاذي الملك المنصور ما كان له عندي غير سهم في صدره، ولكن قل لقازان يتقدم حتى ينظر ما يجري عليه، وأخذ في سبّهم ولعنهم، وبّلغ المغل ذلك لقازان، فغضب غضباً شديداً، وأمر عند ذلك وأحدقوا بجوانبها، وما شعروا إلا وقد شقتهم سهام من أكف الرماة من سهام قسى وجرخ ونفط ومدافع ومكاحل، وكان في القلعة من الرماة أكثر من ألف رام، فنزلت السهام عليهم مثل المطر، واختلطت الرجالة بالخيالة، فقتلت طائفة وجرحت آخرون. ورأى قازان يوماً عظيماً لم ير مثل ذلك، فتقدم قفجق والأمراء منه وقالوا له: يا خوند أمهل حتى يفرغ عمل المنجنيق تبلغ به ما تريد، وتلطفوا معه في الكلام إلى أن رجّعوه، فعند ذلك جهز أمراء من المغل يستعجلون بعمل المنجنيق. وبقي أرجواش يكشف أمر المنجنيق إلى أن عرف أنه على الفروغ، فطلب أربعة أنفس من الرجال المعدودين فقال لهم: انزلوا واقتلوا صانع المنجنيق وارموا النفط فيه، فنزلوا وقد بايعوا أنفسهم من الله تعالى، فوجدوا المغل نائمين وعامل المنجنيق سهران في العمل، فوثب بعضهم عليه وضربه بسكين في بطنه أخرج أمعائه، وضرب كل واحد منهم آخر من رفقته فقتلوا ثلاثة، ورموا في الأخشاب النفط فعلق من ساعته، ووقع الضرب في الجامع، وقتل من المغل اثنان، وركبت المغل وهم متحيرون لم يعرفوا من أين جاءتهم الداهية، ورأوا النار تعمل في الجامع، وكانت ليلة عظيمة، ودقت الكوسات في القلعة.

ذكر إرسال قازان جماعة من جيشه

وبلغ ذلك قازان، فصعب عليه جداً، فطلب الأمير إسماعيل وأمره أن يأخذ معه جماعة من المغل ويتولى عقوبة أهل دمشق ويستخرج منهم الأموال، فركبوا، ورأى أهل دمشق منهم شدة عظيمة، فجاء قفجق إلى قازان وتلطف به وقال له: يا خوند الأموال لا تستخرج على هذه الحالة، ولكن بالتلطف على الناس. فأجاب إليه، وعين لذلك جماعة - وقد ذكرناهم - حتى جبوا الأموال التي ذكرناها. قال صاحب النزهة: واستمر الأمر على أهل دمشق من النهب وأخذ الأموال خمسة وأربعين يوماً، فإن قازان نزل الغوطة في العشر الأول من ربيع الآخر ورحل منها في منتصف جمادى الأولى، والله أعلم. ذكر إرسال قازان جماعة من جيشه ذوي الطغيان إلى الأغوار وبيسان: ولما وصل قازان إلى دمشق أرسل من عسكره عشرين ألفاً مجردين صحبة مولاي وأبشغا وجبجك وهلاجو، فنزلوا بالأغوار وبيسان وشنوا الغارات على تلك البلاد. ونهبوا ما وجدوا من المواشي والأقوات والأزواد، وقتلوا من وقع في أيديهم، وانتهت غاراتهم إلى القدس الشريف والخليل عليه السلام، ووصلوا إلى غزة وقتلوا بجامعها خمسة نفر من المسلمين كانوا به منقطعين، ثم رجعوا إلى الشام وقد عاثوا ونهبوا وسبوا وأسروا جماعات كثيرة، وحصروا قرى كثيرة وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، ولما وصلوا إلى دمشق - وكان قازان قد رحل بعسكره - جبى له قبجق من أهل دمشق جباية أخرى لأجل مولاي، وخرج تقي الدين بن تيمية إلى مخيم مولاي، فاجتمع به في مكان، فرأى من معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيراً منهم. وأقام عنده ثلاثة أيام، ثم عاد. وفي عشية يوم السبت الرابع من رجب: رحل مولاي وأصحابه، وأشمروا عن البلد، وساروا من على عقبة دمّر، فعاثوا في تلك النواحي فساداً، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، ولله الحمد. ذكر رحيل قازان من الشام لما ملّ قازان من الإقامة على الشام همّ بالرحيل، وكانت إقامته قدر شهرين، ثم رحل متوجهاً إلى بلاده في الخامس عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان قد ولّى الأمير سيف الدين قفجق النيابة بالبلاد الشامية، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار البلاد الحلبية والحموية، والأمير سيف الدين إلبكي البلاد الساحلية، ظناً أنه قد صارت الممالك الإسلامية في قبضته وانحازت إلى حوزته، فلم يتم له ما أراد، ولا بلّغه الله شيئاً من هذا المراد، وأقام بعد رحيله نائبه قطلوشاه مع جمع كثيف من الجيش، فلما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر المذكور قرىء بالجامع تقليد الأمير قفجق بنيابة السلطنة بالشام، وتولية الأمير يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة. وفي يوم الإثنين الثاني والعشرين من الشهر: رحل قطلوشاه والعساكر، ففرح الناس بذلك واطمأنت قلوبهم، وخرج الناس إلى جبل الصالحية وإلى الحواضر والمزارع وأظهر الناس ما تخلف من أمتعتهم، وجلسوا في الأسواق وباعوا واشتروا، واشتد الغلاء، فبلغ سعر القمح الغرارة منه بثلاثمائة درهم، ومن الشعير إلى مائتي درهم، والرطل الخبز بدرهمين، والرطل من اللحم بإثني عشر، والرطل من الجبن بإثني عشر، ومن الزيت بستةً. والبيض كل أربعة بدرهم. وأما الأمير قفجق فإنه لما عاد من وداع قازان ركب الموكب في دمشق والعصابة على رأسه، ونادى فيها برجوع الناس، وآمنهم على أنفسهم. وكان قد حضر إليه بعض أهل الفساد وضمنوا منه الخمر وبيعه وعين عليه كل يوم ألف درهم وجعل دار ابن جرادة خارج باب توما خمّارة وخانة. وأخذ أموالاً أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ثم شرع يركب بالعصابة والشاويشية بين يديه، وجهّز نحواً من ألف فارس نحو خربة اللصوص ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة والآراء، وصار كما قال الشاعر: يا لك من قنبرة بمعمري خلالك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ثم نهض الشيخ تقي الدين بن تيمية واجتمع بالأمير قفجق وقال له: إن الذي فعلته من ضمان الخمور شنعة كبيرة، وثلمة عظيمة في حق الإسلام، واستاذنه في إبطاله، فأذن له، وخرج بنفسه وأراق ظروف الخمر جميعها.

ذكر صور الفرمانات التي كتبها قازان

ولما كان يوم الجمعة رسم للخطيب بإعادة الخطبة في سائر الجوامع باسم السلطان الملك الناصر، وكان بالجامع الأموي ذلك النهار بكاء عظيم وتضرع إلى الله تعالى وتذاكر بما كانت الناس فيه من الشدة والنهب والسبي، وكانت مدة إنقطاع الخطبة عن ملك الإسلام نحو مئة يوم، ثم أعادها الله تعالى. وكان تقدير الذي حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف دينار سوى ما أخذ من البراطيل للأمراء والوزراء وأكابر المغل، وهذا هو الذي حصره ابن المنجي، وأما الذي نهب من دمشق والأماكن التي ذكرناها فإنه لايمكن حصره، وكذا الذي كسبه الأمراء والجند يوم الهزيمة، وذكر أن الذي صحبهم من الأسرى أحد عشر ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال، وكان معظمهم من جبل الصالحية ولم يصحب معهم إلى البلاد إلاّ القليل منهم، فإن منهم من هرب بالليالي، ومنهم من مات، ومنهم من اختفى، وأخذوا من البلد فوق عشرة آلاف فرس، وكان معظم فسادهم في جبل الصالحية، وكان غالب ذلك من طائفة الأرمن، فإن صاحب سيس كان في قلبه حزازات من فعل المسلمين في بلاده التي أخذت منهم وضياعه التي أخربت ورجاله الذين قتلوا والغارات التي كانت تتواتر على بلاده من جهة المسلمين ولما اتفق من نصرة قازان ما اتفق حضر صاحب سيس قدام قازان وسأله أن يمكنه من الدخول من الباب الشرقي والخروج من باب الجابية، ويضع السيف بين البابين ويشتفي من المسلمين ويقيم بألف ألف دينار، فوقف قفجق في طريقه وتحدث مع قازان وقال له: قد ملكت هذه البلاد وهي في يدك والمال الذي تحمله هذا تأخذه من أهل الشام من غير سفك دم، وما زال به حتى طرد صاحب سيس عن مراده. ذكر صور الفرمانات التي كتبها قازان وهي أربعة: الأول: كتبه إلى الأمراء والعساكر والجيوش والأكابر، وهذه نسخته: ميامين الملة المحمدية، فرمان قازان، ليعلم الأمراء والأكابر وأشراف السادات العظام، والمشايخ الكرام، وسائر مشاهير الأعراب، من الخواص والعوام، إنه في كل زمان يقتضي الدوران. يرسل الله تعالى نبياً لهداية العالم، ودلالة الإنسان إلى طريق الصواب. وحفظ الأساطير في ملل الدين، فلما انتهت النوبة إلى خاتم النبيين محمد المصطفى الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أرسله إلى جميع الخلائق ليهدي كافة الأنام من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ويرشدهم من علائق الجثمانيات إلى زوايا الروحانيات، ويزّينهم بكمال الدين وتهذيب الأخلاق، وأنزل عليه القرآن العظيم، وعلمه الأحكام الشرعية الشريفة المطهرة لينقذ بها التابعين من نار جهنم، فالواجب على كل أحد متابعة هذا النبي ومطاوعة شريعته، والذي يخالفه يكون مأواه جهنم وبئس المصير، ومن أول بعثته ومفتتح رسالته إلى زماننا هذا كلما وقع في أمور الدين الخلل وظهر الوهن في شريعة المسلمين، وأقدم الإنسان على العصيان وأصرّ على الطغيان، وأظهر لهم من أولى الأمر شخصاً يقوى الأمور الدينية ويزكي الخلائق طراً، وينهاهم عن الأمور المستنكرة، ويردّهم إلى الطرائق المستقيمة المستحسنة، وقبل زماننا هذا قد ظهر المشركون وعبدة الأوثان، والجماعة الذين كانوا يلايمونهم من المسلمين الذين يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ظلموا وتعدّوا، وكانوا يعلمونهم الحيف والجور على الرعية وغصب أموالهم وأكل الربا، وترك الصلاة والزكاة والصيام والصدقات وأعمال البر.

وقدر الله من المعجز النبوي المصطفوي المحمدي على صاحبة الصلاة والسلام أننا من أولاد جنكزخان الأعظم الذي تحت حكمهم معظم الأقاليم العظيمة دخلنا في هذا الدين القويم والصراط المستقيم بغير تكليف، بل جلا نور هداية الحق ودين النبي المصطفى على قلوبنا، وكرّمنا الله بالإسلام، وفضّلنا بالعدل والإحسان ورسخ في قلوبنا محبة الدين الحنيفي، ووفقنا الله تعالى بالجهاد في قتل المشركين وعبدة الأوثان والمخالفين، وهدم بيوت الأصنام ودفع شر الظالمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أمر الله في محكم كتابه: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية. فأمرنا في الممالك كلها ببناء المساجد ونصب المنابر وإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة، ونهينا عن أخذ الربا، ومنعنا من سائر أنواع الظلم والخطأ، فإن الظلم مرتعه وخيم، وقررنا في بلاد الإسلام الأموال المقننة لمصالح عساكر الإسلام عند المجاهدة في سبيل الله عز وجل، حسبما اقتضاه الشرع المطهر بلا إحداث قاعدة ولا حيف ولا عدوان ولا تطاول على أحد من المسلمين، واجتهادنا في استخدام هذه المعاني زائد عن الحد، " والحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ". وحيث آباؤنا وأجدادنا سمّونا غازان، كان ذلك بتقدير الله عز وجل في الأزل في الإلهام الإلهي الملهم بالتلقيب لهذا الاسم الذي هو مشتق من الغزو، أوجبنا على أنفسنا الغزو والجهاد، وقمع المشركين والخوارج والمتمردين والظالمين، وسمعنا أن أهل مصر والشام الذين أمسى منهم مسلمون ما لهم عهد ولا ميثاق ولا أمانة ولا ديانة، ويأخذون أموال المسلمين، ويقصدون دماءهم، توجهنا قاصدين دمارهم لدفع الحركات الردّية البادية منهم، وإثباتهم على دين الإسلام ليكونوا هم وذرياتهم مفلحين من أهل الجنة، ويحصل لنا ثواب الاجتهاد، ويردهم السؤال في معنى خللهم وزللهم في دين الإسلام. والجواب أنهم لما تحققوا أننا أولاد سلاطين ربع أقاليم الأرض، وإنا مسلمون ومعاونون دين الإسلام يجب على كل أحد مطاوعتنا، اقتداء بكلام الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم "، فحيث عصى من عندنا سولتمش، وانخرط في الخوارج والمرتدين، وأقدم على إيذاء المسلمين ببعض بلاد الروم، وتخريب بيوتهم، ونهب أموالهم، هرب من عسكرنا المنصور، وتوجه إلى تلك البلاد، كانت الشريعة النبوية والشفقة الإسلامية تقتضي أن تمسكوه وتبعثوه مغللاً بالحديد، مسلسلاً إلى عتبتنا العالية، فتغافلتم وتهاونتم عن هذا، بل زودتموه بالعساكر والأنعام والنجدة إلى فوج من التركمان، ووعدتموه مواعيد عرقوب حتى يقع القتال بين المسلمين من عسكرنا المغول وساكني بلاد الروم، وعسى ما بلغهم أن جميع عسكرنا من المغول والأيغورية والقفجاق والخطائية، وكل من كان بعد هذا من اختلاف الملل دخلوا كافة وطرا بصدق النية في الإسلام، وأدركهم بتوفيق الله حسن الاتفاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، ونحن كأسنان المشط في الاستواء والنفس الواحدة في التئام الأهواء، وما كان فينا من لم يؤمن بربه الأعلى ونبيه المصطفى، وعاش على دين المغول ثمانين عاماً، فإنه في هذه السنة آمن بالله والملة الحنيفية ودخل في زمرة المهتدين والحمد الله رب العالمين. وإذا كنتم متهاونين في قضية سولتمش وسائر الطاغين، فالله تعالى الذي هدانا للصراط المستقيم ردّه مقيداً مكبلاً على يد أقل مملوك من مماليكنا، فجاءوا به إلى عتبتنا العالية لما أنعم الله علينا بالدين القويم، ووفقنا، لتشييد قواعد سنن رسوله الكريم، وأرشدنا في عنفوان الصّبا وريعان الحداثة للانخراط في سلك أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه الكرام، عسى لم يعجبكم تقوية دين الله عز وجل التي نحن مصرون عليها. ولو وصل لأجل هذا لقلوبكم البهجة والسرور لشكرتم الرحيم الغفور، وبعثتم من يهنئنا بدخولنا في دين الحق من إخوانكم وأقاربكم، فما فعلتم من هذا شيئاً؟ ألا إن من اعتصم بالله كفاه.

وأيضاً من أفعالكم المذمومة أن تنصبوا في كل شهر وعام سلطاناً، وتبايعون وتحلفون على طاعته والإعراض عن مخالفته، ثم تخالفونه بعد قليل، وتقتلون ذوي الأمر منكم خلافاً لما أمر الله في كتابه العزيز بطاعة أولى الأمر منكم. وتنقضون ميثاقكم، ولم توفوا بعهدكم حتى تصيروا من " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "، وأي جرح أقبح من هذا. وأما سائر أخلاقكم وعدم مشروعيتها فهي واضحة غير خافية، ومستغنية عن الشرح والتفصيل. فقد وافقنا مع عمنا خان الأعظم وسائر أعمامنا وإخوتنا وعشائرنا فمنهم: قايدو، ونوقاي، وتوفتا، وقرمجي، وطو، وغيرهم، وها نحن متوجهون بأنفسنا إلى تلك البلاد بالعساكر الكثيرة التي مالا نهاية ولا حدّ، والكتائب الجرارة التي لا تحصى ولا تعدّ، ومن ولاية الإفرنج والروم والتكفور وديار بكر وبغداد بعثوا أفواجاً كثيرة لا تعد، وجعاً غفيراً لنهدي بهم سبيل الرشاد، وندفع عن سائر المسلمين الشر والفساد. فإن كنتم تتبعون الهدى وتستقبلون عساكرنا المنصورة، فنحن في هذه النهضة الميمونة عازمون على أن لا يصدر عن أمرنا المطاع إلاّ إطفاء النائرة، ومحافظتهم في الأمن والأمان، ليستريح المسلمون في عهد الشفقة والإحسان؛ تعظيماً لأمر الله وشفقة على خلق الله، وقد حرّمنا على عساكرنا المنصورة التعرض إلى نفوس المسلمين والطموح إلى أموالهم، فإن لم تسمعوا ما رسمنا ونصحنا: السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب ولما كانت همتنا المنصورة مقصورة على وضع قواعد العدل والإنصاف وعزمتنا المنيفة مصروفة إلى رفع قوانين الزور والاعتساف بحيث يستقيم الأمر في مركزه تأسّياً بقوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " الآية. ولهذا توجهنا إلى تلك الجهات، وكيف يجوز تعذيب الرعية من غير جريمة صادرة عنهم لا سيما سفك دمائهم وسبي حريمهم، فتجب علينا محافظتهم ودفع الأسواء عنهم بموجب قوله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته ". والتزمنا بمحافظة الرعية في أنفسهم وأموالهم، والسعي في ترفيه خواطرهم وتطييب قلوبهم، فينبغي أن يسكنوا في دورهم آمنين مستكنين، ويقيموا أسواقهم ويرتبوها، ويشتغلوا بالكسب والمعاملات بعد أداء وظائف العبادات وإقامة مراسم الطاعات، داعين لدوام هذه الدولة القاهرة، ودوام أيامنا الزاهرة؛ إذ وجب عليهم وعلى كافة المسلمين طاعتنا لقوله تعالى وأمره بطاعة أولى الأمر منكم؛ وعليهم أن يخطبوا على المنابر باسمنا، وعند قرب الوصول إلى بلادهم يستقبلوننا، وتصاحبنا القضاة والعلماء والصلحاء والمشايخ والسادات والفقهاء مرشدين إلى المزارات المباركة من مشاهد الأولياء ومواقف الأنبياء، مستوهبين من الله تعالى التوفيق لنيل مثوباتهم، وإحراز بركاتهم، وبعد ذلك نقصد الإحرام بحجة الإسلام وزيارة بيت الله الحرام، سيما وهو أكبر قواعد الإسلام؛ إذ هو على كافة لقوله عز وجل: " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ". وقد نذرت يميننا على ذلك، وانعقد نذر بأنه ينادي من جهتنا بأن جميع المسلمين وسائر المتوكلين في أمان من الله ورسوله، ويكونون مطمئنين، فارغي البال، رافعي الحال، ونحن عاهدنا الله ورسوله على جميع ذلك، وإذا وقفوا على ما أنفذنا إليهم يبعثون إلينا من يعرف أحوالهم، وخلوص عقيدتهم، وصفاء طويتهم حين نعين الشحاني المعتبرين. وفي صحبتهم التواقيع والفرامين ليحفظوا البلاد، ويقيموا الأسواق، ولا يمكنوا أحداً من الظلم والجور، ولا تشويش خواطرهم، لأن العسكر المجهز إليهم معهم ما يكفيهم سنة وأكثر، فاستراحوا من ذلك. فإذا تشرفوا بمطالعة هذا التوقيع الشريف، وامتثلوا مقاصده وفحواه فقد فازوا فوزاً عظيماً، وإلاّ فقد خسروا خسراناً مبيناً، وعقاب ذلك سفك الدماء وغارة الأموال بوقوع الهرج والمرج، ونحن نبرأ من ذلك، وقد أعذر من أنذر " والسلام على من اتبع الهدى ". الثاني من الفرامين: كتبه عند رحلته من الشام، فقريء بجامع بني أمية، بقوة الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان:

ليعلم الأمراء والنواب والولاة والقضاة والسادة والصدور والناس كافة بممالك الشام والسواحل أن جدنا جنكزخان كان ملكاً وابن ملك إلى سبعة جدود في بلاد المغول، وحيث أيده الله تعالى ملك بسيفه ربع الأرض المسكون، ولم يبلغنا في تاريخ من التواريخ من لدن آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا أن ملكاً ملك من الأقاليم ما ملكه، ولا تيسر له من التأييد ما تيسر له، ونحن سادس ملك من صلبه، وكان قد سبق في تقدير الله أن يصيب أولاده ممن سلف قبلنا عين نافذة، فوقع بينهم الخلف وطال التنازع بينهم سنين كثيرة، فاجتمع من بقايا سيوفهم أمم مختلفون يتسترون في الأكنان ويتغيبون في أبعد المكان، وكان منهم سكان مصر والشام، واجتمع بها من المماليك والخوارج زمرة غرّتهم سلامتهم من المغل المشتغلين عنهم بما كان أهم عندهم منهم، وطفقوا كل قليل يختارون من بينهم مملوكاً من أرذل الأجناس، فيملكونه على الإسلام، ويحكمونه في رقاب الأنام، وحسبوا أن ذلك تدبير الملك، ولم يتعرفوا طريق النجاة من الهلك، حتى وصلت نوبة المملكة إلينا، وزفّت عروسها علينا، زين الله قلوبنا بالإسلام، وأبهجها بأنوار الإيمان، وكان من الواجب المتعين وأدب الملوك الهين أن هؤلاء المماليك يهنئوننا بما وهب الله لنا من الملك العظيم وهدانا إليه من الصراط المستقيم، ويرسلون إلينا رسلهم بتحف السلاطين، ويجدون في استجلاب مودتنا أوضح القوانين، فمرت على ذلك ثلاث سنين، وهم يجهلون حقوق الأدب، ولم يؤدوا من عوائد الملك ما يجب، ولما علموا أننا دخلنا في الإسلام راغبين، ولرضى الله سبحانه طالبين، حسبوا أنهم إذا فتحوا إلينا طريق المودّة جاءنا أكثر عسكرهم هاربين، ولم يكن لهم من التمييز أن يعلموا أن الملك يؤتيه من يشاء من عباده، وقد ملّك كثيراً من الكفار أكثر بلاده، كما بلغهم عن جنكزخان وعن كثير ممن كان، ولو كان نيل الملك بالتقوى لكان بنو فاطمة عليهم السلام على الخلافة أقدر وأقوى، ولم يرضوا بذلك حتى سلكوا من التهجم والتقحم أقبح المسالك، وقصدوا طرفاً من أطراف بلادنا على غرّة، وهجموا عليها على فترة، وكذلك سلامش لما تسحب خوفاً من ذنوب اقترفها وديون ارتكبها حموه، وأنفذوا معه عسكراً، وقصدوا أن يشعثوا الروم، وقد يكون حتف المغرور فيما يروم. فلما رأيناهم قد تجاوزوا في البغي غاية الحد، واتخذوا المملكة لعباً واتكلوا على الجد، واغتروا بعدم التفاتنا إليهم، فكان ذلك وبالاً عليهم، لأنا رفعنا التنازع بيننا وبين أقاربنا، وجعلنا قصد مهلكتهم من مطالبنا، خشينا أن جيوشنا تستأصل من المسلمين الأصاغر والأكابر، فأرسلنا إليهم رسلاً ينذرونهم ويحذرونهم ويذكرونهم، فحبسوا الرسل وقطعوا السبل، ثم حملهم الجهل والغرة على مقابلة جيوشنا ومقاتلتهم، وتمثلوا في أنفسهم الغلبة فأقدموا على مماثلتهم، وكانوا قد عاجلونا وأكثر عساكرنا لم يركبوا خيولهم ولم يشهدوا الحرب، لما لم يعلموا تعجيلهم، وما لقيهم غير تسعة آلاف كانوا قد ركبوا معنا، فلقونا بأجمعهم، وما قابلوا جمعنا، وكان من أمرهم ما كان، وتبين لذوي البصائر أن الله لم يرض منهم ذلك العدوان، فاجتمعت معنا أمراء دولتنا، وذكروا لنا أن هذه الطائفة من المماليك لهم أربعون سنة يقصدون الحصون فيخربونها، والمدن المستصعبة فيدمرونها، حتى إنهم خرّبوا من البلاد وقتلوا من العباد ما يعادل أهل مصر والشام، وأوضحوا في ذلك مقول الكلام، والمصلحة أننا نشن الغارة على الشام من غزة إلى الفرات، وينقل من فيها من الرعية فيعمر بها ما خربوا ليقابل الفاسد بمثله، فما قبلنا مشورتهم، وقلنا: نحن لم نرض فعلهم، فنصير بما فعلوا مثلهم، وأعرضنا عن ذلك، ورحمنا الرعية، وجعلنا مأمنهم أول نعمة الله عليهم، ومبدأ عطية، وإن كان قد وقع إلى أحد من عساكرنا بعض من استضعف فقد أمنه بانتزاعه من يد من استلبه، حتى يبلغ برجوعه إلى أهله إربه، فأرسلنا إلى أهل القلاع والجبال والأعراب والتركمان والعشائر كتب الأمان ليكونوا في أمان الله ورسوله وأماننا، وإذا خفت العساكر من هذه البلاد ردّ كل إلى وطنه، ورجع كل إلى سكنه.

ولقصدنا مصلحة الرعايا وحمايتهم، رتبنا مولاي وجبجك وأبشغا وبغا وهلاجو وقرابغا وبهادر مقدمين على أربعين ألف فارس، وتركناهم على غزة والغور، وأمرنا الأمير سبا أن يقيم على حلب وحماة وحمص في عشرين ألف راكب، وأعطينا الأمير سيف الدين قفجق نيابة السلطنة بدمشق، ورتبنا الأمير سيف الدين بكتمر نائب السلطنة بحماة وحلب، والأمير فارس الدين إلبكي نائب السلطنة بصفد وطرابلس والسواحل، وجعلنا ملك الأمراء والوزراء ناصر الدين يحيى شادا على الدواوين في هذه الأقاليم كلها، فكل من أعطاه أحد من هؤلاء الأمراء أماناً فهو أماننا، وكل جندي أراد خدمتنا فقد أمرناهم أن يعينوا له إقطاعاً يليق به، وليثقوا بما أودعه الله لهم في قلوبنا من الرأفة وحسن النية، وليطيعوا هؤلاء الأمراء طاعة موفقة، ولا يتخلف أحد عن طاعتهم، فقد أخذنا عليهم العهود بالعدل والشفقة، وإن خالف أحد أو عصى فلا بد أن يذوق كأس الردى، والله تعالى يجمع قلوب رعايانا على الهوى، إن شاء الله تعالى. الثالث من الفرامين: فرمان الأمير سيف الدين قفجق: بتقوى الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان: الحمد لله الذي جرّد لنصر هذه الدولة القاهرة سيفاً قاضياً، وانتضى لتأييدها من أوليائها قاضياً قاضياً، وارتضى لها من أصفيائها من أصبح الملك عنه راضياً، نحمده ونشكره على نعمته التي أورثتنا الممالك، وجمعت لنا ما بين النصر والفتح وما أشبه ذلك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنيل النجاة وترفع الدرجات، ونشهد أن محمداً نبيه المرسل بالهدى والصدق، والمبعوث بدين الحق صلى الله عليه صلاة تنيله الوسيلة والفضيلة، وعلى آله خير آل وأشرف قبيلة، وبعد: فإن الله تعالى لما منّ علينا بالإيمان، وهدانا إلى أشرف الأديان، حمدناه وشكرناه على أنه أضاف إلى ملكنا للدنيا ملكنا للآخرة، وجلل علينا حلل الدين الفاخرة، ونذرنا أن نعم الرعيّة بعدلنا، ونشمل البرية بفضلنا، وأن لا نسمع بمظلوم إلا نصرناه، ولا نطلع على مقهور إلا أنقذناه، فلما اتصل بنا ما بمصر من المظالم، ومن فيها من غاضب وظالم، هاجرنا لنصر الله تعالى ونصرة الدين، وبادرنا لإنقاذ من فيها من المسلمين، وراسلناهم وأنذرنا، وكاتبناهم وزجرناهم، ووعظناهم فلم تنفع فيهم العظة، وأيقظناهم فلم تكن فيهم يقظة، فلقيناهم بتقوى الله تعالى، فكسرناهم وقطعنا آثارهم، وملّكنا الله تعالى أرضهم وديارهم، وتبعناهم إلى الرمل وحطمناهم كما حطم سليمان وجنوده وادي النمل، فلم ينج منهم إلا الفريد، ولا سلم إلا البريد، فلما استقر تملكنا البلاد وجب علينا حسن النظر في العباد، فأحضرنا الفكر فيمن نقلده الأمور، وأمعنا النظر فيمن نفوض إليه مصالح الجمهور، فاخترنا لها من يحفظ نظامها المستقيم، ويقيم ما أباد من قوامها القويم، يقول فيسمع مقاله، ويفعل فتقتفى أفعاله، يكون أمره من أمرنا، وحكمه من حكمنا، وطاعته من طاعتنا، ومحبته هي الطريق إلى محبتنا، فرأينا أن الجناب العالي الأوحدي الكفيلي المجاهدي الأميري الهمامي النظامي السيفي، ملك الأمراء في العالمين، ظهير الملوك والسلاطين قفجق، هو المخصوص بهذه الصفات الجليلة، والمحتوي على هذه المناقب الجميلة، وأن له حرمة المهاجرة إلى أبوابنا، ووسيلة القصد إلى ركابنا، فعرفنا له هذه الحرمة، وقابلناه بهذه النعمة، ورأينا أنه لهذا المنصب حفيظ قمين، وعلى ما استحفظ قوي أمين، وأنه يبلغنا الغرض من حفظ الرعايا، فأقمناه مقامنا في العدل والقضايا، فلذلك رسمنا أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الدمشقية والبعلبكية والحمصية والساحلية والجبلية والعجلونية والرحبية من العريش إلى سلمية، نيابة تامة عامة، كاملة شاملة، يؤتمر فيها بأمره، ويزدجر فيها بزجره، ويطاع في أوامره ونواهيه، ولا يخرج أحد عن حكمه ولا يعصيه، له الأمر التام والنظر العام، وحسن التدبير وجميل التأثير والإحسان الشامل لأهل البلاد، واستجلاب الغزاة والقوّاد، وتأمين من يطلب الأمان والطاعة والامتنان متفقاً في الاستخدام والتأمين مع ملك الامراء ناصر الدين، فإن اجتماع الآراء بركة، والهمم تؤثر إذا كانت مشتركة، وكل من أمّناه فإنه أماننا أجريناه على قلمهما ولسانهما.

ذكر قدوم السلطان مصر مع أمراء دولته

وقد أنعمنا عليه بالسيف، والسنجق الشريف، والكؤوس، والبائزة الذهب برأس السبع، ورسمنا له بألف فارس من المغل يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، وليكونوا تحت حكمه رفعةً لقدره، وتنويهاً باسمه، وسبيل الأمراء والمقدمين وأمراء العربان والتركمان والأكراد والدواوين والصدور والأعيان والجمهور بأن يتحققوا أنه نائبنا في السلطنة الشريفة، فإن له هذه المنزلة المنيعة، وليطيعوه طاعة تزلفهم لديه وتقربهم إليه، ويحصل لهم بها رضاه عنهم وإقباله عليهم وقربهم منه، وليلزموا عنده الأدب في الخدمة كما يجب، وليكونوا معه في الطاعة والموافقة على ما يحبّ. وعلى ملك الأمراء سيف الدين بتقوى الله في أحكامه، وخشيته في نقضه وإبرامه وتعظيم الشرع وحكامه، وتنفيذ قضية كل قاض على قول إمامه وليعتمد الجلوس للإنصاف والعدل، وأخذ حق المشروف من الأشراف، وليقم الحدود والقصاص على كل من وجبت عليه، وليكف الكفّ العادية عن كل من يتعدى إليه، وقد تقدم من الأمر بالآثار الجميلة في الشام المحروس ما تشوقت إليه الأعين وتاقت إليه النفوس، وقد رده الله سبحانه إليهم ردّاً جميلاً، فليكن بمصالح الدولة ومصالح الرعية كفيلاً، والله تعالى يجعل له إلى الخير سبيلاً ويوضح له إلى مراضى الله ومراضينا دليلاً، بمنّه ولطفه. الرابع من الفرامين: فرمان الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار. بقوة الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان: الحمد لله الذي أيدنا بالنصر العزيز والفتح المبين، وأمدنا بملائكته المقربين، وجعلنا من جنده الغالبين، نجدة على الهداية إلى سبيل المهتدين، والإرشاد إلى إحياء الدين، حمداً يوجب المزيد من فضله كما وعد الحامدين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنظمنا في سلك المخلصين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، أما بعد: فإن الله تعالى لما ملكنا البلاد وفوض إلينا النظر في أمور العباد، وجب علينا أن ننظر في مصالحهم، وأن نهتم بنصائحهم، وأن نقيم عليهم نائباً يتخلق بأخلاقنا في كرم السجايا، ويبلغنا الأغراض في مصالح الرعايا، فأعملنا الفكر فيمن نقلده الأمور، وأمعنا النظر فيمن نفوض إليه مصالح الجمهور، واخترنا لها من يحفظ نظامها المستقيم، ويقيم ما تأود من قوامها القويم، يقول فيسمع مقاله، ويفعل فتقتفى أفعاله، يكون أمره من أمرنا، وحكمه من حكمنا، وطاعته من طاعتنا، ومحبته هي الطريق إلى محبتنا، فرأينا أن الجناب العالي الأوحدي المؤيدي العضدي النصيري العالمي العادلي الذخري الكفيلي السيفي سيف الدين، ملك الأمراء في العالمين، ظهير الملوك والسلاطين بكتمر، هو المخصوص بهذه الصفات الجميلة، والمحتوي على هذه السمات الجليلة، وله حرمة المهاجرة على أبوابنا، ووسيلة الوصلة إلى ركابنا، فرعينا له هذه الحرمة، وقابلناها بهذه النعمة، ورأينا أنه لهذا المنصب حفيظ مكين، وخاطبنا لسان الاختيار " إن خير من استأجرت القويّ الأمين "، وعلمنا أنه يبلغ الغرض من صون الرعايا، ويقوم مقامنا بالعدل في القضايا، فلذلك رسمنا أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الحلبية، والحموية، وشيزر، وأنطاكية، وبغراس، وسائر الحصون، والأعمال الفراتية، وقلعة الروم، وبهنسي، وما أضيف إليها من الأعمال والثغور، نيابة تامة عامة، كاملة شاملة، يؤتمر فيها بأمره، ويزدجر فيها بزجره، ويطاع في أوامره ونواهيه، ولا يخرج أحد عن حكمه ولا يعصيه، له الأمر التام والنظر العام، وحسن التدبير وجميل التأثير، والإحسان الشامل إلى أهل البلاد، والإحسان الشامل إلى أهل البلاد، واستجلاب الولاء والوداد، وتأمين من يطلب الأمان، ويتلقى من يترامى إلى الطاعة والخدمة بالإمتنان، متفقاً في الإستخدام والتأمين مع ملك الأمراء والوزراء ناصر الدين، فإن اجتماع الآراء بركة.. إلى آخره مثل ما في آخر الفرمان الثالث. ثم في آخر الكل: مؤرخ في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة تسعة وتسعين وستمائة بمقام مرج. ذكر قدوم السلطان مصر مع أمراء دولته بعد الانهزام في الواقعة المذكورة:

ذكر ما دبر السلطان وأمراء دولته بعد قدومهم

لما جرى ما جرى من انهزام الجيش السلطاني وصل السلطان الناصر إلى القاهرة وصحبته الأمير سيف الدين سّلار، والأمير ركن الدين الأستادار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، ومن يلوذ به، وطلعوا القلعة في العشر الأخير من ربيع الآخر. وقال صاحب النزهة: وكان ذلك اليوم يوم الأربعاء بكرة النهار الثاني عشر من ربيع الآخر، وكان المصاف الكائن بينهم يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول بين الصلوتين، وتواردت بعده الأمراء المتأخرون والأجناد المنقطعون، وآخر من حضر كان أمير سلاح والطباخي وتغريل الأيغاني وهم الذين كانوا سافروا على الساحل وحملوا العسكر، وحملوا من وجدوه من المنقطعين، ووقع عند وصولهم في قلوب الخلق توجع كثير وأسف وبكاء، وأقاموا المأتم على من فقد، وأقاموا أياماً في الحزن والنياح على من فقد من الأمراء إلى أن منعوا من جهة السلطنة. وقال بيبرس في تاريخه: وصل الأمير سيف الدين بلبان السلحدار المنصوري المعروف بالطباخي نائب السلطنة بالمملكة الحلبية وصحبته العسكر الحلبي، وكان عبورهم على جانب الساحل من جهة طرابلس، وصادفوا المضيق، وقاسوا مشقة عظيمة من وعر الطريق، وخرج عليهم الجبلية ونهبوا منهم جماعة وقتلوا جماعة، ووصل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب السلطنة بالشام ومعه العسكر الدمشقي، والأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب السلطنة بصفد وصحبته العسكر الصفدي، وحضر بعدهم الأمير زين الدين كتبغا المنصوري من صرخد، وعبر في طريقه بالكرك وترك بها عائلته وأولاده، وأقبلت العساكر السلطانية واجتمعوا بالقاهرة. وقال صاحب النزهة: الأمير زين الدين كتبغا هذا قد كان تولى السلطنة وتلقّب بالملك العادل كما تقدم ذكره، ثم لما خلعوه ولّوه نيابة صرخد، فلما دخل العدو البلاد ووصل السلطان الناصر والأمراء إلى دمشق تكلموا في أمر حضوره، فلم يعجب الأمراء حضوره وسيروا إليه، فطلبوا مماليكه وعرّفوه أنهم أعفوه من الحضور ليحفظ قلعته، فسير إليهم جماعة من مماليكه، فحضروا المصافّ، فلما اتفق ما اتفق، نزل من صرخد وسافر على البريد إلى مصر، وكان يجلس مع الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس ويأخذ المرملة ويرمّل على العلامات التي يكتبها نائب السلطان فكان سلار يسأله أن يعفيه من ذلك، وكان كتبغا يحلف أن لا بد أن يفعله، فكانت الناس إذا رأوا ذلك يتعجبون من صنع الله تعالى وعظمة قدرته أن سلار وغيره من الأمراء الكبار وأصحاب الوظائف كانوا في خدمة كتبغا وهو سلطان يتخدمون له ويتضرعون إليه في الأمور، ثم قلب الله ذلك حتى صار كتبغا في خدمة سلار الذي هو أمير وليس بسلطان، ويرمّل على ما يكتبه من العلامات، ويسأله في أشغال كثيرة سؤال مملوك مخدومه، وهذا من غرائب الزمان وعجائب الدهر، فسبحان المعزّ والمذلّ. ومن العجائب أن كتبغا هذا عرضوا عليه جوشناً في أيام دولته وقد أعطى فيه بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، فلما رآه كتبغا قال للدلال: كم جاب هذا الجوشن؟ قال: يا خوند أربعة آلاف درهم على بيبرس الجاشنكير. قال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي؟ فأخذه ووزن ثمنه، ومرت الأيام إلى أن اتفق لكتبغا ما اتفق ونفي إلى الشام ووقعت الحوطة على جميع حواصله، ووجد ذلك الجوشن في حاصله، فأخذه لاجين، ثم انتقل بالعطاء من يد إلى يد حتى وقع في يد بيبرس فعرفه وأخذه، وجعله في حاصله إلى أن اتفق حضور كتبغا بعد هذه الوقعة، ولما اجتمع بالأمراء أراد بيبرس ينكي كتبغا، فأرسل من يحضر بالجوشن المذكور، فلما حضر به قام بيبرس ولبسه، والأمراء كلهم حاضرون وكتبغا فيهم، ثم نظر بيبرس إلى كتبغا وقال: يا أمير إش تقول؟ يصلح لي هذا الجوشن فألبسه أم لا؟ فنظر إليه كتبغا ولم يعلم ما في نفس بيبرس مما قصده من إنكائه. فقال: والله يا أمير هذا كأنه قد فصّل لك، ولو لبسه غيرك ما لاق به، فنظر بيبرس إلى الأمراء وتغامزوا، وعلم كل منهم ما قصده بيبرس فيما فعله، وهذا الذي اتفق لكتبغا لم يسمع في دولة من الدول، فسبحان الفعال لما يريد. ذكر ما دبّر السلطان وأمراء دولته بعد قدومهم

ذكر تصديهم للنفقات على العسكر

ولما استقر ركاب السلطان في القاهرة أمر للأمراء في أخذ الأهبة والتجهيز وتحصيل أصناف السلاح، فشرعوا في ذلك ولم يدعوا صانعاً إلا وأحضروه، وأمروا للوزير بجمع الأموال من سائر الجهات لأجل النفقات، وكان من أجلّ من قام في أمر النفقة الأمير سيف الدين سلار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار. قال صاحب النزهة: حكى لي بعض مماليك بكتمر فقال: خرجت أنا والأمير ومعنا من مماليكه ستة أنفس من المصافّ يوم الهزيمة، وإذا أنا بشخص جندي اعترضنا وبيده رمح، وقال للأمير: إلى أين يا من يأكل ثلث ديار مصر، أما تستحي من الله وأنت هارب؟ قال: فالتفت إليه الأمير فقال: ويلك أنا وحدي إش أقدر أعمل؟ فتقدم أغير أنا وأنت. فقال: لأي شيء عملت لي لما قبضت ربع خبزك، فقال: أنا وأنت نأكل، وأنت تأكل ثلث إقطاعات مصر وأنا آكل خمسة آلاف درهم، فالآن تقول: تقدم للحرب، فأعرض عنه وتولى راجعاً وهو يقول: لا بيّض الله لك وجهاً ولا لخشداشيتك. قال المملوك المخبر لهذا: قصدت أن أرجع إليه أنا وبعض رفقتي فنقتله على إساءته الأدب على الأمير، فمنعنا الأمير وقال: خلّوه فإنه معذور والله لقد قلت للأمير سلار عدة مرات انظر في حال الأجناد، فما قبل كلامي. قال صاحب النزهة: ثم حكى سيف الدين الطشلافي خشداش سلار قال: كنت مع سلار وخرجنا من المصاف وقد جرح فرسي وجرح لسلار فرساً تحته، ولما انهزمنا سقنا إلى أن وصلنا ديوسية فوق حمص في الليل، وكان أمامنا جماعة من الجند يتحدثون وفيهم واحد يقول لرفيقه: كيف كان خروجك وإش جرى لك؟ فقال: والله كنت أنا وفلان وفلان وسمى جماعة دخلنا في ضياع من ضياع حمص ووجدنا فيها جماعة يشترون شعيراً وكنا نحن ستة نفر، قد كنّا تحالفنا أن لا نحضر المصاف لأجل ما جرى علينا من أولئك الفعلة الترك بيبرس وسلار والبرجيّة، وذلك أنهم لا يذكرون الأجناد إلا بالسّبّ والشتيمة ويقولون: والله ما هم إلا سخرة، ولقد كتبنا قصة في غزّة وأعطيناهم لهم وقلنا: إنا قد خرجنا بلا نفقة متكلين على نفقة السلطان، وما معنا شيء ننفق، وألحفنا في الطلب، فكان جوابهم لنا: والله أنتم ما تنفقون شيئاً سواء تأخذون النفقة أو لا تأخذونها، ما عندنا شيء نعطيكم حتى نصير في دمشق، فلما حصلت النفقة في دمشق ألزمنا أنفسنا أن لا نحضر المصاف لأجل ما حصل لنا من الغبن،وهؤلاء يأكلون مصر كلها وقد تقاسموها ونحن كل واحد ما يصل خبزه ألفي درهم، ومع هذا ضاقت أعينهم علينا، وهذا الذي جرى عليهم بسبب الأجناد، فإن نياتهم للأجناد كانت سيئة، فقاتلهم الله تعالى وأحوجهم إليهم، وكان سلار يسمع ذلك ويبكي ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقعنا والله في ألسنة الناس، هم معذورون. قال: وبقيت أشاغله حتى لا يسمع ما يقولونه، وهو لا يريد إلا سماع كلامهم، فيسمع ويتوجع لهم. ذكر تصدّيهم للنفقات على العسكر لما اجتمع الأمراء للمشاورة لأجل النفقة كان أول من تكلم فيها الأمير سلار والأمير بكتمر الجوكندار، وشرعوا في طلب الخيل التي في الدشار جميعها من البغال والأكاديش، وكتب لسائر الأقاليم بطلب العربان المستجيزة، وأخذ الخيل من عرب الصعيد والولاة، وفي طلب السيوف والرماح وغير ذلك من آلات الحرب، وسفروا البريدية لذلك. وتحسنت أسعار الدواب، فالفرس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم بيع بألف، كذلك الجمال والبغال والهجن، واشترت الأجناد الخيل حتى من الطواحين، كذلك تحسنت أسعار سائر أصناف السلاح، والقرقل الذي كان يساوي مائة درهم بيع بسبعمائة، والبركستوان التي كانت تساوي مائتي درهم بيعت بألف، والجوشن الذي كان بخمسين بيع بمائتين وثلاثمائة، والخوذة التي كانت تساوي خمسين بيعت بمائتين وثلاثمائة وما توجد إلا نادراً، وتحسن أسعار سائر أصناف آلات الحرب، وأمروا أن يُضاف إلى كل واحد من الأمراء المقدمين الألوف عشرة من البطالين يقيم بهم طول السفر، ولكل واحد من أمراء الطبلخاناة خمسة أنفس، ولأمير العشرة شخصان، واستخدم الأمراء الذين لهم مقدرة جماعة برسم الغزاة في سبيل الله احتساباً، وكذلك كثير من الأغنياء، حتى استخدمت جماعة من نساء الأمراء اللائي فيهن الخير. ثم إن السلطان فتح بيوت الأموال والذخائر وأنفق في الجيش نفقة ما سمع مثلها، فجعل الحلقة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أعطى لكل واحد منهم ثمانين ديناراً. والقسم الثاني: لكل واحد منهم خمسة وسبعين ديناراً. والقسم الثالث: لكل واحد منهم خمسة وستين ديناراً. وأعطى لكل واحد من أجناد الشام خمسة عشر إردباً من القمح والشعير والفول، وأعطى لأجناد الأمراء لكل واحد منهم خمسين ديناراً. قال بيبرس في تاريخه: هذه النفقات حين أقبلت العساكر السلطانية واجتمعوا بالقاهرة فرقت عليهم، فأزالوا شعثهم، وجددوا عُددهم، ورخصت قيمة الذهب حتى بلغ الدينار إلى سبعة عشر درهماً، وقلت الدراهم حتى طاف الجند بالدنانير فلم يجدوا من يشتريها، وارتفعت أسعار العدد وآلات السلاح، وأثمان الخيل والبغال والجمال، ولم تمض على العساكر إلا أيام يسيرة حتى عادوا إلى أحسن صورة. وقال صاحب نظم الجمان: ثم أنفق السلطان نفقة ثانية لكل جندي اثني عشر ديناراً، وهذه النفقة حين خروج السلطان والعساكر إلى الشام بعد مجيئه إلى القاهرة بعد الانهزام على ما نذكره عن قريب إن شاء الله. قال صاحب النزهة: وكان قد قدم إلى القاهرة خلق كثير من سائر البلاد - عقيب انهزام السلطان - من الحلبيين والحمويين والدماشقة والحمصيين ومن أهل السواحل من الأجناس المختلفة حتى ضاقت بهم القاهرة ومصر، وسكنوا القرافة وجامع ابن طولون والحسينية، وكان من ألطاف الله تعالى على خلقه أنه رخّص أسعار سائر الحبوب والمأكول فكان الأردب من القمح قبل أن يسافر السلطان بستة عشر درهماً إلى ثمانية عشر، والأردب من الشعير بعشرة، والأردب من الفول بثمانية، ثم لما دخلت العساكر وفتح الأمراء والأجناد الشون باعوا الأردب من القمح بخمسة عشر وأربعة عشر وثلاثة عشر وباعوا الأردب من الشعير بعشرة وتسعة وثمانية، وباعوا الأردب من الفول بسبعة وثمانية، ولم تتحسن إلا أسعار آلات الحرب من أصناف السلاح وأسعار الدواب.

وقال صاحب النزهة أيضاً: وكانت الأمراء اجتمعوا عند السلطان قبل النفقة وتشاوروا أن يؤخذ من سائر التجار والسّوقة وسائر من يتسبب بمصر والقاهرة عن كل رأس دينار، وطلبوا مجد الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة وقالوا له: انزل وتحدث مع القضاة في ذلك وخذ لنا الفتوى منهم. فقال لهم مجد الدين: إن عندي فتوى بخط الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لما خرج الملك المظفر قطز إلى ملتقى نائب هلاون وهو كتبغا نوين لما سيره إلى أخذ مصر، فتلاقى معه على عين جالوت كما ذكرناه مفصلاً، وأنه لم يجد من المال ما يكفي نفقة العساكر وقصدوا أخذ المال من العامة استفتوا الشيخ عز الدين في هذا فأفتى لهم بأخذ دينار من كل أحد، وهذه الفتوى عندي، فأحضرها عندهم وقال له الأمير سلار: اكتب صورة الاستفتاء وانزل بها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة حتى يكتب عليها بخطه، فكتب مجد الدين صورة الاستفتاء ونزل بها إلى قاضي القضاة ومعه شخص من الحجاب، وتحدثوا مع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وناولوه صورة الاستفتاء، فأخذها وتأمل ما فيها، ثم هز رأسه وقال يا فقيه: ما القصد في ذلك؟ فقال: يا سيدي القصد أن تكتب على هذا لتطيّب خواطر الناس بالعطاء. قال: فرماها من يده وقال: لا حاجة للفتوى، وما ثم مانع إذا أراد ولاة الأمر بشيء قبل الناس، فخرج المحتسب والحاجب من عنده على هذا، وجاءوا إلى الأمراء وعّرفوهم بذلك. فقال الأمير سلار: ما بقي يمكن الكلام في ما قصدناه دون أن نجتمع بالقاضي ونعرفه بالأمر ونسأله هل هذا جائز أم لا؟ فإذا امتنع أخرجنا له فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ففي بكرة النهار انزلوا إليه، وسلموا عليه واسألوه الإجتماع بنا لالتماس بركته، فلما أصبحوا نزلوا إليه وبلّغوه الرسالة، فقام وركب وجاء عند الأمراء، والكل حاضرون عند الأمير سلار، فلما رأوه قاموا كلهم وتلقوه من أسفل الإيوان، وأخذ السلار بيمينه والأمير بيبرس بشماله إلى أن أجلساه بينهما، وبقيت الأمراء جلسوا بين يديه وتأنّسوا به حتى فتحوا له باب النفقات وقلة الحواصل في بيت المال وبينوا له الضرورات، ثم ذكروا له أمر الفتوى. فقال الشيخ: أيها الأمراء ما المانع لما تفعلوه إذا رسمتم بشيء ولا ثمة أحد يخالف. وقال الأمير سلار: يا سيدي نريد أن يكون معنا فتوى حتى لا نقع في أمر غير جائز، فيحصل علينا الإثم. فقال الشيخ: أما الفتوى فما يمكن أن أكتبها في مثل هذا. فقال له مجد الدين ابن الخشاب المحتسب: يا سيدي هذا خط الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتبها في أيام الملك مظفر قطز، فنظر إليه وتبسم وقال: يا فقيه تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهباً ولا لزوجته وأولاده مصاغ ولا غيره، فلما سمعوا هذا من الشيخ قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى، ويا فقيه أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير يجهّز بنته بأنواع اللؤلؤ والفصوص، ويعمل بكالى فضة لبيت الماء، وقباقيب مكللة بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل، ثم قام ناهضاً وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب. وكان الشيخ قصد بهذا تسميع الأمير سلار حيث جهز بنته لما زوجها من أمير موسى ابن أستاذه الملك الصالح، والأمير بيبرس حيث جهز ابنته لما زوجها من بُرلغى قريب السلطان، وكان كل منهما قد جهز بنته بما لا يوصف ولا يضبط.

ذكر خروج السلطان إلى الصالحية

ولما انقضى الأمر على هذا الوجه وعلموا مقصود الشيخ اقتضى رأيهم أن ناصر الدين الشيخي متولي القاهرة ينزل ويستعلم حال التجار وأرباب الأموال وينظر في أمرهم، ويأخذ من كل واحد مقدار ما يطيقه على قدر حاله، ثم بعد أيام قال ناصر الدين المذكور للأمراء: نحن نجني من المدينة ونواحيها، ونسير إلى ولاة الأقاليم كل إقليم يرتب عليه شيء ونسميه مقرّر الخيالة، فقالت الأمراء: هذا فيه شنعة كبيرة، وفيه شطط وعنف، والمصلحة أن يكون المقرر على كل أردب غلة خرّوبة، وفي القماش والسلع يؤخذ نصف السمسرة، ومعنى ذلك أن المنادي إذا باع قطعة قماش أو غيرها فإن له فيها درهمين فيكون الدرهم من ذلك باسم السلطان والدرهم الآخر للمنادي، والأردب إذا طلع للطحان يكون عليه خروبة، ومهما تحصل من هاتين الجهتين يستخدم به البطالون، فقرّر ذلك على هذا الوجه واستخدم به نحو مائتي نفر، ثم بعد ذلك شرعوا في طلب التجار من القياسر والدكاكين، واعتبر حال كل واحد منهم من قدرته وسعة ماله، فمنهم من حمل مائتي دينار، ومنهم من حمل مائة وخمسين وأربعين وثلاثين وعشرين وعشرة، واقترضوا أيضاً من التجار الكبار مما يأتي عليهم من الحقوق التي كانت توجد منهم، فانجمع من ذلك أموال عظيمة وصار يحمل أوّلاً فأولا إلى أن جمعت في بيت المال، ثم بعد ذلك شرعوا في النفقات. ذكر خروج السلطان إلى الصالحية قال بيبرس في تاريخه: وفي العشر الأوائل من شهر رجب من هذه السنة تجهز السلطان، والأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين الأستاذ الدار، وخرجوا بالعساكر الإسلامية، ولما وصلوا إلى الصالحية أقام السلطان بها وتوجه الأميران بالعساكر لتدبير البلاد وإصلاح ما استحكم بها من الفساد، واستصحبوا نواب الممالك الشامية وعساكر البلاد الإسلامية ليرتبوا كلاً منهم في مكانه ويعمروا كل بلد شغر من سكانه، وينظروا في المصالح التي يجب النظر فيها، ويتلافوا الأحوال التي ينبغي تلافيها، ورحلوا في الثاني والعشرين من رجب الفرد، فلما وصلوا إلى منزلة سكرير راسوا الأمير سيف الدين قفجق والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار والأمير فارس الدين ألبكي في الحضور إلى الخدمة والطاعة، والانتظام في سلك الجماعة وتوثقوا منهم وحضروا إليهم بمنزلة سكرير، فأرسل الأمراء الأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح على خيل البريد إلى الدهليز المنصور مخبراً بمهاجرتهم وحسن إنابتهم، فابتهجت بذلك الخواطر وضربت البشائر. وفي العاشر من شعبان: وصلوا إلى الوطاق، فركب السلطان لتلقيهم، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم، ورحل عائداً إلى القلعة، فوصلها رابع عشرة، وأسكنهم في القلعة، وأجرى عليهم الإقامات، ووصلهم بأجزل الصلات. وأما الأميران سيف الدين سلار وركن الدين أستاذ الدار فإنهما دخلا دمشق، ورتبا أحوالها. وسدّدا اختلالها، وأقرا الأمير جمال الدين أقوش الأفرم في وظيفته على قاعدته، وفوضا إلى الأمير زين الدين كتبغا نيابة السلطنة بحماة، وأولياه إحساناً، ورتبا الأمير سيف الدين قطلوبك بطرابلس والفتوحات والسواحل، عوضاً عن الأمير سيف الدين كرت المستشهد في الوقعة، وأرسلا الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار إلى حلب ليباشر النيابة بها بحكم إعفاء الأمير سيف الدين بلبان الطباخي منها، وأعاد كل قوم إلى وظيفتهم، وطيبا خواطر نواب الحصون، وأحسنا إلى من اعتمد المناصحة منهم، ثم عادا إلى الديار المصرية، فوصلا في العشر الأول من شوال. وعند وصولهما عينا للأمير سيف الدين قفجق نيابة الشوبك، وللأمير سيف الدين بكتمر السلحدار إمرة بالديار المصرية وتقدمة ألف فارس من العساكر الإسلامية. وللأمير فارس الدين ألبكي طبلخاناة بدمشق، واستقر الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بالديار المصرية بخبز الأمير سيف الدين كرتيه المتوفي إلى رحمة الله.

ذكر ما تجدد في الشام من الحوادث

وقال صاحب النزهة: ولما تكامل أمر النفقة نودي في الجند بالخروج، وأي من تخلف شنق، وكان قد حصل للجند تعب كثير بسبب نقص الذهب، فإن النفقات كلها كانت ذهباً، وكان صرف الدينار بخمسة وعشرين ونصفاً، فتناقص إلى أن أصرفوا الدينار بستة عشر حتى قام نائب السلطان في ذلك وطلب الوالي وأمره أن ينزل إلى الصيارف ويلزمهم بإخراج الدراهم وصرف كل دينار بعشرين، فنزل الوالي وهو ناصر الدين الشيخي وفعل ما أمره به حتى استقرت الأحوال. ثم خرج السلطان والأمراء من مصر في العشر الأول من رجب من هذه السنة، فكان بين دخوله مصر وإقامته وبين خروجه ثاني مرة شهرين وثمانية وعشرين يوماً، فإنه دخل في الثاني عشر من ربيع الآخر وخرج في العشر الأول من رجب. ولما دخل السلطان الصالحية وردت كتب قفجق وبكتكر السلحدار وألبكي بخروج التتار من دمشق وسائر الأماكن، وأنهم قاصدون الديار المصرية لخدمة السلطان ويستعيذون مما صدر عنهم مما قدّره الله عليهم. فلما وقعت الأمراء على ذلك اقتضى رأيهم أن يقيم السلطان على الصالحية إلى أن يشبع الصيد والتفرج، ثم إن شاء يدخل مصر وإن شاء يقيم هناك، وأن الأمراء يرحلون ويلاقون الأمراء الذين يحضرون، ثم رحلوا طالبين دمشق، فلما وصلوا إلى أرض عسقلان لاقوا قفجق ومن معه بين غزة وعسقلان. فلما تلاقوا ترجلوا كلهم وتعانقوا وتباكوا، ولم يزالوا حتى دخلوا دمشق، وكان يوم دخولهم نهاراً عظيماً وكان في مستهل شعبان، وخرجت سائر أهل دمشق ولاقوهم، وكان يوماً مشهوداً، ثم كتبوا كتباً لسائر النواب وأهل القلاع، وسيّروا بين يديه لسائر نواحي الشام وطرابلس وحماة وحمص وحلب، وللقلاع التي في بلاد حلب نحو كختا وكركر وبهسني وعينتاب وسائر النواحي، وجلبت أهل الضياع الخيرات من سائر النواحي، وجلبت التركمان الأغنام، وكان سعر الغلة قد تحسن فوصلت الغرارة من القمح إلى ثلاثمائة، ثم انحط قليلاً قليلاً إلى أن بقيت الغرارة بمائة وخمسين، وكان الرطل من الحم بدرهمين، وكثر الجلب، وطابت قلوبهم، ووقفت الدماشقة للأمراء واستغاثوا من جماعة منهم وافقوا المغل في أخذ أموال الناس والأذى، وكانوا يدخلون معهم بيوت السعداء والأكابر من أهل دمشق ويأخذون أموال لهم ويعاقبونهم، فرسم الأمراء لوالي المدينة ووالي البرّ أن يحصّلاهم وكانوا قد أخفوا أنفسهم، فأخرجوهم من المواضع التي اختفوا فيها، فلما أحضروهم أمروا بإشهارهم فكان منهم الشريف القمي، فرسم بتسميره وتسمير ابن العوفي، وكانا برددارية، ومنهم ابن خطليجا شنق وكان كاتب خطبه الولاية، وإبراهيم مؤذن بيت لهيا، ومنهم كجكن والحاج مندوه سمّرا، وقطع لسان ابن طاعن، ثم يده ورجله، وقطع يد الشجاع همام، ثم كحل وتوفي في ليلته، وقطعت أيدي جماعة وأرجلهم، وكحلت جماعة من المستصنعية بدار الولاية، ومن الحرافيش الذين عرفتهم الدماشقة وكانوا يؤذون الناس مع المغل ويأخذون أموالهم، ثم طلب الأمير سيف الدين أرجواش نائب القلعة وخلع عليه خلعة سنية، ورسم له بعشرة آلاف درهم إنعاماً عليه، ثم عادوا طالبين مصر، فوصلوا إليها في العشرين من شوال، وركب السلطان إلى ملاقاتهم، وصحبته الأمير سيف الدين قفجق وبكتمر السلحدار وفارس الدين ألبكي. ذكر ما تجدّد في الشام من الحوادث بتاريخ يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاء قضاة دمشق مع الخطابة بعد إمام الدين القزويني، ولبس الخلعة، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة. وفي الحادي والعشرين من شعبان: تولى قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي، عوضاً عن حسام الدين الرازي الذي فقد يوم المعركة، وباشر تاج الدين ابن الشيرازي نظر الدواوين. وفيها: ألزموا الناس بتعليق الأسلحة على الدكاكين، وعملوا لكل سوق مقدّما. وفيها: طلب المقدمون من قيس ويمن، وطلب منهم جميع ما اعتمده العربان من أصحابهم من الفساد وأخذ أموال الأجناد.

ذكر الحرب الذي وقع بين الملك طقطا وبين نوغيه

واتفق نائب طرابلس مع نائب حماة أن يركب كل منهما بعسكره إلى جبل كسروان، ثم رسم بتجهيز عسكر الشام وعسكر صفد أيضاً مع هؤلاء، فاجتمعت العساكر وجاءوا إلى جبل كسروان ووجدوا أهله كلهم مستعدين للقتال، وكان هذا الجبل حصيناً قوياً لا يمكن صعود الفرس إليه إلا بعد مشقة كبيرة مع عدم مانع منه، والراجل أيضاً لا يمكن صعوده إلا إذا كان مخفا، وكان أهله من أعظم غلاة الروافض والزنادقة، وحصل لهم في هذه السنة من الأموال من جهة العسكر لما انهزموا ما لم يحصل لأحد قبلهم، فإنهم كانوا يأخذون الأمير بطلبه عندما يتوسط الجبل قبضاً باليد، ولم يكن أحد يقدر أن يمانع عن نفسه، فإذا تعسر عليهم أحد منهم أرموا عليه حجراً يقتله أو يهشمه، وذكر أنهم كانوا في هذا الجبل نحو اثني عشر ألف رجل كلهم يرمون بقسى قوية، ولما نزلت الأمراء عليهم رتبوا أمرهم، وأصبحوا في الزحف إليهم من كل جانب، ولم يقدروا على الثبات معهم إلى الظهر حتى رجعوا وتأخروا وخرجت من العسكر جماعة كثيرة، فلما عادوا إلى الوطاق استشاروا فيما بينهم، وقالوا القتال معهم صعب، والرجوع عنهم أصعب، ثم اتفقوا أن يكون الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس بعسكره ومضافيه من ناحية من الجبل، وأن يكون الأمير زين الدين كتبغا نائب حماة ونائب حمص معه من ناحية أخرى، وأن يكون سيف الدين بهادرآص، وكجك من ناحية أخرى، وأن يكون الأمير سيف الدين قطلوبك - الذي كان نائب طرابلس وعزل - من ناحية أخرى، وأن يكون نائب الشام من ناحية أخرى، واتفقوا أن تكون المواظبة على الزحف ستة أيام. وأهل الجبل أيضاً قد تعرفوا على نواحي الجبل وجعلوا جانباً من الجبل للنساء والصبيان يرمون الأحجار. ولما ركبوا في ذلك اليوم وزحفوا ترجل الأمير أسندمر الكرجي، ثم أرسل إلى الأمراء وأخبرهم أنه ترجل وليترجل الأمراء أيضاً، فترجلوا كلهم في ذلك اليوم، وكان أول من صعد قدام العسكر أسندمر المذكور وكان شجاعاً مقداماً، ولما رأى أهل الجبل هؤلاء قد ترجلوا وقع في قلوبهم الرعب حتى ذكر عن بعضهم أنه قال: كنت أرمي على قوس أربعين رطلاً بالدمشقي، وفي هذا اليوم لحقتني رعدة في يدي ولم أقدر على الرمي، فأوقع الله فيهم الذلة والرعب وانهزموا، وقتلوا منهم جماعة كثيرة، فلما رأوا ذلك أرموا أسلحتهم وطلبوا الأمان، فكفوا عنهم القتل وأسروا منهم جماعة كثيرة ثم حضرت مشايخ الجبل وأكابرهم والتزموا أن يحضروا جميع ما أخذوه من العسكر ولا يخلون عندهم شيئاً يساوي درهماً ولا يخفونه، فرضي العسكر بذلك، وأقاموا هناك إلى أن أحضروا جميع ما أخذوه من القماش والسلاح والعدد من السيوف والرماح والقرقلات وغير ذلك، ثم حلفوهم على اعتقادهم أنهم لا يخفون شيئاً، وبعد ذلك قرروا عليهم مائتي ألف درهم، وأخذوا جماعة من مشايخهم وأكابرهم رهائن وأصحبوهم معهم إلى دمشق إلى أن يحضروا بالمال الذي قرر عليهم، ثم كتبوا للسلطان والأمراء بذلك. ذكر الحرب الذي وقع بين الملك طقطا وبين نوغيه وأولاده، ومقتل نوغيه: وفيما عزم الملك طقطا بن منكوتمر على حرب نوغيه للأخذ بثأره وإطفاء جمرة ناره. واتفق أن جماعة من أمراء نوغيه الذين كان يعتمد عليهم ويعتمدون عليه فارقوه وانحازوا إلى طقطا، فقويت بهم عزيمته واشتدت بهم شكيمته وهم: ماجي وسدن، وأتراج، واقبغا. وطيطا، ومعهم ثلاثون ألف فارس، فعزم على المسير إليهم واتصل بهم أنه هاجم عليهم: وأنه قد جمع لهم من العساكر أعداداً، واستصحب من الجيوش أمداداً، وكان قد صحبته من الخانات ومقدّمي التمانات: مرتد طقطا، ومنجك، وجهركس، وينجي، وصلجوادي، ويبلق، وتلك تمر، وأقبغا، وألطنبغا، وقجماز، وإخوة الملك وهم: برلك، وصراي بغا، وتدان، والأمراء الذين انحازوا إليه من عسكر نوغيه: وقد ذكرناهم، وركب نوغيه وأولاده وهم: جكا، وتكا، وطراي وأمراؤه وعسكره وتأهبوا اللقاء.

ذكر الخلف الواقع بين ولدي نوغيه

فلما صار بين العسكرين مسافة يوم واحد أرسل شخصاً يسمى بُغا ومعه مائة فارس ليكشفوا له الخبر، ويعلموا أين وصل طقطا ومن معه من العسكر، فسار لكشفهم، فلما أشرف عليهم أحاطوا به وقتلوا كل من معه وسلم هو بنفسه ورجع، فأخبر نوغيه بأنهم قد دهموه، فركب نوغيه وأولاده ومن عنده والتقى الجمعان على مكان يسمى كوكان تلك واقتتلوا: فكانت الكسرة على نوغيه وقت المغرب، وانهزمت بنوه وعساكره وتفرقوا، وثبت هو على ظهر فرسه، وقد طعن في السن وتغطت عيناه بشعر حواجبه وعلاه الكبر وضعفت به القدرة فوافاه روسيّ من عسكر طقطا فعرفه بنفسه وقال له: لا تقتلني فأنا نوغيه وأحملني إلى طقطا فإن لي به ولي اجتماعاً ولي معه حديث. فلم يصغ الروسي إلى مقاله، بل خرّ رأسه لوقته وحاله، وأحضرها إلى الملك طقطا وقال له: هذه رأس نوغيه، فقال له: وما الذي أعلمك أنه نوغيه؟ قال: إنه عرّفني بنفسه واستوقفني عن قتله، فلم أصغ إليه وأجهزت عليه، فغضب طقطا لذلك غضباً شديداً وأمر بالروسيّ فقتل لكونه تعدى على مثل هذا الرجل الكبير الشأن ولم يُحضره إلى السلطان، وقال: إن السياسة توجب قتله حتى لا يعود أحد يفعل مثل ذلك، وعاد طقطا إلى مقامه وقد ظفر بمناه، وقرّت بنصرته على أعدائه عيناه. وأما أولاد نوغيه ومن سلم من عسكرهم فإنهم استتروا بجنح الليل واختفوا في غمار عساكر طقطا، وتنادوا بشعارهم ليظنوا أنهم من أصحابهم، وكان شعارهم على ما حكاه من شهد الوقعة معهم: اتلَ بايق، فسلموا ليلتهم تلك، وساروا مغلّسين وعادوا راجعين، وكان الذي سُبي من نسوانهم وذراريهم الخلق الكثير والجمّ الغفير، وبيعوا بالأقطار، وجُلبوا إلى الأمصار، واشترى السلطان والأمراء منهم بالديار المصرية جماعة من الطوائف التي جلبها التجار، ودخلوا في دين الإسلام بالرغبة، وأقاموا الصلاة باجتهاد ومحبة، وصاروا من أنصار الملة وأعوان الأمة. ذكر الخلف الواقع بين ولدي نوغيه وهما جكا وتكا وذلك أنهما لما عادا إلى مقامهما من الهزيمة، ورجع إليهما فلّ عسكرهما الذين سلموا من القتل والغنيمة، استقر جكا في تقدمة أبيه واستأثر بها دون أخيه، فأوغر صدره وغير ضميره، وأراد مفارقته واللحاق بطقطا هو وجماعته، ولله درّ القائل في مثل ذلك: إذا أنت لم تُنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقلُ ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مرْحلُ واتصل بأخيه نفاره منه، وما أزمع عليه من الخروج عنه، فخشي غائلة ذلك، فجهز قوماً - في الباطن - إليه، فقصدوه ليلة من الليالي وهو راقد في خركاته خلي البال، فأحاطوا بالخركاة من كل الجهات، وطعنوه بالرماح وهو في الداخل حتى ظنوا أنه مات، وتركوه وعادوا، وبه رمق الحياة، فثارت الضجة في خيامه، وقام الصراخ بين أهله وألزامه، وسارعوا بإعلام أخيه إلى مصرعه، فبادر إلى نحوه سائلاً عن أمره، وموهماً أنه لم يشعر بقاصدي غدره، ودخل إليه في صورة الزائر، وأظهر له أنه متألم الخاطر، وأخذ يسأله عن القوم الذين أتوه، ويستخبره هل عرفهم حين طعنوه؟ فقال له أخوه إن الذي قتلني لن تطول مدته بعدي، وسيفقد عقيب فقدي، وإنك لتعرفه أكثر مني، وهو الذي جاءني ليسأل عني، فعلم أخوه أنه إليه يشير وله نسب تلك الحيلة والتدبير، فخرج من عنده ودسّ إليه من تمم قتله جهراً، فلما شاع ذلك بين عساكره وقومه أنكروه على أخيه، وتغيرت قلوبهم، وتشوشت خواطرهم، وفارقه كثير منهم. وفيها: اشتهر في آخر السنة قتل جماعة من المسلمين ممن أسروهم من المغل، وكان قتلهم سراً في ديار بكر. وقال علاء الدين علي بن مظفر الوداعي: ما لبست الصوفَ من عبث ... ولا الخلقات مجانا إنه زيّ لمن هو من ... فقراء الشيخ غازانا وقال أيضاً: أما دمشق فأهلها قد أصبحوا ... بكرية جعلوا التستّر مذهبا سّراً وجهراً أنفقوا أموالهم ... حتى تحلل كل شخص بالعبا وقال أيضاً: شيخ غازان ما خلا ... أحد من تجرده وغدا الكل لابسي ... خرقة الفقر من يده وفيها: حج بالناس الأمير. ذكر من توفى فيها من الأعيان

قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي. ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم من الروم مع الملك الظاهر سنة خمس وسبعين وستمائة إلى دمشق، فتولى القضاء بها مدة، ثم انتقل إلى مصر مدة، وتولى ابنه جلال الدين بالشام، ثم سار إلى الشام، فعاد إلى الحكم بدمشق، ثم لما خرج مع الجيش إلى لقاء غازان بوادي الخزندار عند سلمية، ففقد بين الصفوف، ولم يدر ما خبره وقد قارب السبعين. وقيل: إن مولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكان من سادات العلماء الأكابر الرؤساء الكرماء النبلاء، محبوباً إلى جميع الناس، لم يخيب قصد من قصده، ويستقّل الكثير في حق من سأله، ورزق سعادة في ولايته بالشام ومصر والروم، ولم يزل متقدماً عند الملوك. وكان له نظم حسن، وكان مولده باقسراي من بلاد الروم في المحرم من السنة التي ذكرناها، وكان فقده يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول منها، وهو يوم الواقعة، وولى قضاء الحنفية بعده شمس الدين بن الحريري. ويقال إن الجبلية أسروه وباعوه للفرنج، ولما وصل إلى قبرص جعل نفسه طبيباً، وكان صاحب قبرص مريضاً فداواه فتعافى، وكان قد وعد له أنه إذا تعافى يطلقه ويبعثه إلى بلاد المسلمين، فلما تعافى الملك مرض حسام الدين مرض الإسهال فأقام أياماً قلائل ومات إلى رحمة الله تعالى. قاضي القضاة الإمام العالم إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي. قدم هو وأخوه جلال الدين فقررا في تداريس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من يد بدر الدين بن جماعة، كما تقدم في السنة السابعة والتسعين، وناب أخوه عنه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتر سافر إلى مصر، فلما وصلها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي، ودفن بالقرب من قبة الشافعي رضي الله عنه عن ست وأربعين سنة، وعاد المنصب إلى ابن جماعة المذكور مضافاً إلى الخطابة كما كان، ودرّس أخوه بعده بالأمينية. قلت: وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس عشر من ربيع الآخر، وحضر جنازته خلق كثير وترحموا عليه لغربته، ومولده في سنة ثلاث وخمسين وستمائة. المسند الرحلة المعمر شرف الدين أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن أحمد ابن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي. ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الكثير وروى، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من جمادى الأولى منها عن خمس وثمانين سنة. الخطيب الإمام العالم الرئيس موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل البهراني القضاعي الحموي، خطيبها، ثم خطب بدمشق عوضاً عن الفاروثي، ودرس بالغزالية، ثم عزل بابن جماعة وعاد إلى بلده، وقدم دمشق عام قازان، فمات بها فيها. الصدر شمس الدين محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدمي المعروف بابن غانم. كان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية وجاوز الثمانين، وكان من الكتاب المشاهير المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم، ومولده بالقدس الشريف سنة خمس عشرة وستمائة، ومات في السادس عشر من شعبان، وكان قد حج هو ووالده فمات والده بمكة شرفها الله ودفن بالزاهر، وكان حجازي الأصل، وإنما مولده ببغداد بمحلة الجعافرة، وكان جعفرياً، وكان من الأجواد الكرام، رحمه الله. الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الموصلي الباجربقي الشافعي. أقام مدة بالموصل يشغل ويفتي، ثم قدم دمشق وأقام بها مدة كذلك، ودرس بالفتحية والدولعية، وناب في الخطابة، ودرس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام، مجموعاً عن الناس، وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والإنحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه. وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنف ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، ومات بالمدرسة الفتحية بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير. القاضي عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين بن الأثير الحلبي، كاتب السر بمصر. عدم في وقعة قازان في هذه السنة.

القاضي علاء الدين أحمد بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعزّ. كان فصيح العبارة، جميل الصورة، لطيف المزاح، فيه مكارم أخلاق وإحسان، تولى الحسبة بالقاهرة والأحباس، ودرس بالمدرسة الكهارية والقطبية، وحج ودخل اليمن، وقدم دمشق متولياً نظر ديوان الأمير حسام الدين طرنطاي الخزندار المنصوري، ودرس بالظاهرية، والقيمرية، ولما تولى علم الدين الشجاعي نيابة السلطنة بدمشق باشر عنده مدة يسيرة، ثم أنه طلب منه دستوراً للسفر إلى مصر خوفاً منه، فأذن له فسافر، وأقام بالقاهرة إلى أن مات في ربيع الآخر منها. وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: إن أومض البرق في ليل بذي سلم ... فإنه ثغر سلمى لاح في الظلم وإن سرت نسمة في الكون عابقة ... فإنها نسمة من ربة الخيم تنام عين التي اهوى وما علمت ... بأن عيني طول الليل لم تنم إذا هدى الليل يطويني وينشرني ... شوق أبيت به في غاية الالم وترسل الدمع أجفاني محاكية ... لفيض وبل من الوسمي منسجم لله عيش مضى في سفح كاظمة ... قد مر حلواً مرور الطيف في الحلم أيام لا نكد فيها نشاهده ... ولت بغير الرضى مني ولم تدم وحكى الشيخ أثير الدين أبو حيان قال: استدعاني القاضي علاء الدين بن بنت الأعزّ يوماً لمأدبة صنعها لنا بالروضة تجاه مصر، وهو مكان يحفه الماء من جميع جوانبه، وحضر معنا القاضي فخر الدين بن صدر الدين المارداني، فرأينا شاباً مليحاً يسبح، ثم يخرج من الماء فيتلطخ بالتراب، فقال لنا القاضي علاء الدين: لينظم كل منا في هذا الشاب شيئاً، فقام كل منا إلى ناحية وانفرد، فنظمنا نظماً قريب الاتفاق، ولم يطلع أحد منا على ما نظم رفيقه، فكان الذي نظمه القاضي علاء الدين: ومترب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا فكأنه بدر عليه سحابةٌ ... والترب ليل من سناه أقمرا والذي نظمه القاضي فخر الدين: ومترب تربت يدا من حازه ... كقضيب تبر ضمخوه بعنبر وكأن طرته ونور جبينه ... ليل أطلّ على صباح أنور والذي نظمه الشيخ أثير الدين رحمه الله: ومترب قد ظن أن جماله ... سيصونه منّا بترب أعفر فغدا يضمخه فزاد ملاحةٌ ... أو قد حوى ليلاً بصبح أنور وكأنما الجسم الصقيل وتربه ... كافورة لطخت بمسك أذفر وقال الشيخ أثير الدين: وحضرنا معه مرة أخرى بالروضة، ومعنا شهاب الدين العزازي، فأنشدنا لنفسه: تعطلت فابيضت دواتي لحزنها ... ومذ قلّ مالي قلّ منها مدادها وللناس مسودّ الثياب حدادهم ... ولكن مبيض الدواة حدادها ولعلاء الدين دو بيت: للسمر معان لا ترى في البيض ... تالله لقد نصحت في تحريضي ما الشهد إذا طعمته كاللبن ... يكفي فطنا محاسن التعريض وله: وقالوا بالعذار تسل عنه ... وما انا عن غزال الحسن سال وإن أبدت لنا خداه مسكاً ... فإن المسك بعض دم الغزال وله في دمشق: إني أدل على دمشق وطيبها ... من حسن وصفي بالدليل القاطع جمعت جميع محاسن في غيرها ... والفرق بينهما بنفس الجامع وقال في حماة: حماة غزالة البلدان أضحت لها ... من نهرها العاصي عيون وقلعتها لها جيد بديع ... ومن سود التلول لها قرون مات علاء الدين في هذه السنة بالقاهرة كما ذكرناه. الشيخ الإمام الحافظ الزاهد البارع الورع بقية السلف شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرج بن أحمد بن محمد اللخمي الإشبيلي. مات داخل دمشق بسكنه بتربة أم الصالح، وصلّي عليه في الجامع، ودفن بمقابر الصوفية. وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: غرامي صحيح والرّجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل وصبري عنكم يشهد القلب أنه ... ضعيف ومتروك وذلّي أجمل ولا حسن إلا سماع حديثكم ... مشافهة تملي علّي فأنقل

وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحد إلاّ عليك معول ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذّالي ترقّ وتعدل وعذل عذول منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يردّ ويهمل أقضي زماني فيك متّصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... يكّلفني مالا أطيق فأحمل وأجريت دمعي بالدماء مدبجاً ... وما هي إلا مهجتي تتحلّل فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي مبلبل ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظي وما منك آمل خذ الوجد عني مرسلاً ومعنعناً ... فغيري لموضوع الهوى يتحيل غريب يقاصي البعد عنك وماله ... وحقك من دار الفنى متحول فرفقاً بمقطوع الوسائل ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل فلا زلت في عزّ منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتحني فأعزل أروّي بسعدى والرباب وزينب ... وأنت الذي تعني وأنت المؤمل فخذ أوّلاً من آخر ثم أولاً من ... النصف منه فهو فيه مكمل أبرّ إذا أقسمت إني بحبّه ... أهيم وقلبي بالصباية يشعل مولده في سنة خمس وعشرين وستمائة، وسمع الكثير، توفي في التاسع من جمادى الأولى منها. الشيخ الإمام العالم المفتي شمس الدين محمد بن الشيخ فخر الدين عبد الرحمن ابن يوسف البعلبكي الحنبلي. كان من فضلاء الحنابلة في الفقه والأصول والنحو والحديث والأدب، درس وأعاد وأفتى، وأفاد وروى عن ابن عبد الدايم، وشيخ الشيوخ الحموي، وخطيب مردا، واليونيني، وغيرهم، مات في تاسع رمضان، ودفن بمقابر باب توما. وله نظم حسن فمنه قوله: الحسن أحمع جرء من محيّا ... ريم تبارك من بالحسن حلاّه حلو اللي غنج في طرفه دعج ... كأنما كحلت بالسحر عيناه مهفّهف خنث الإعطاف ريقته ... من الرحيق ومن در ثناياه داجي الغداير لا يحنو على دنف ... تذري الدموع على خديه عيناه الغصن قامته والمسك نكهته ... والورد والندّ خداه وريّاه بدر بدا وظلام الشعر غيهبه ... ظبي غدا وفؤاد الصبّ مرعاه نهى رقادي فتور في لواحظه ... والخصر للجسم بالأسقام أعلاه إن لم أنل منه وصلاً حبذا شرف ... بمهجتي إن غدت من بعض قتلاه لله كم من صبابات حوت كبدي ... ومن غرام بقلبي ظلّ مثواه جار الحبيب على قلبي بجفوته ... ولست أنسى طوال الدهر ذكراه وشى الوشاة بأني قد كلفت به ... وكيف لا وفؤادي بعض أسراه بالروح أفديه من ظبي تملّكني ... شفاء داء بقلبي قبلتي فاه رمى فؤادي بسهم من لواحظه ... عمداً فلم يحظ ذاك السهم مرماه أمات قلبي بالهجران منه ولو ... أراد بالوصل بعد الموت أحياه نهى العواذل عن حبي له سفهاً ... ولو رأوا حسنه يوماً لما فاهو يا سائلي ما اسم من أهوى لنعرفه ... اجمع أوائل أبياتي لتلقاه قلت: اسمه أحمد بن الجوبراني، كان صاحب جمال عظيم متفق على حسنه عند أهل دمشق، وكان محبوب الشيخ، وكل من في دمشق من فضلاء عصره نظموا فيه، وتفاخروا بعشقه، وعند طلوع وقته عشقته زوجة الحميدي وإلى نوى - وكانت قرابته - وتزوجت به، وأعطت له مالاً كثيراً، فبقي معها قليلاً ومات، وماتت بعده. ومن نظم شمس الدين المذكور دو بيت: أصبحت بسحر المقلة الكحلا ... صبّاً دنفاً مقلقل الإحشاء ما يطفىء ناراً أضرمت في كبدي ... إلا لثمي للشفة اللعساء وقال شمس الدين المذكور أنشدني بدر الدين الصانع لنفسه: لي في القدود وفي لثم الخدود ... وفي ضم النهود لبانات وأوطار

فإن توافق فذاك السؤال يا أملي ... وإلا فدعني وما أهوى وأختار وقال شمس الدين فعملت في المعنى: لي في النحور وفي رشف الثغور ... وفي ضم الخصور غرام ينقرض فإن توافق فذاك السؤال يا أملي ... وإلاّ فلاتك ممّن راح يعترض قال: وأنشدت للشيخ عز الدين البابصري خازن كتب الخانقاة الشميصاطيّة: قي صدرها كوكبا نور كأنهما ... ركنان لم يدنيا من لمس مستلم صانتها في ستور من غلائلها ... فنحن في الحل والركنان في الحرم وقال فأنشدني لنفسه: أهوى الغزال الذي قد نمّ عارضه ... كأنه عنبر من فوق كافور ولا أحبّ فتاة الحيّ قط ... ولو كانت من الآنسات الخرد الحور ولشمس الدين أيضاً: عراني الهوى الممدود من بعد ما هوى ... بجسمي الهوى المقصور حتى أذابه وبعضهما أعيى الأنام علاجه ... فكيف بمن هذا وذا قد أصابه وقال أيضاً: أأحبابنا إن رمتم في مسيركم ... مياهاً ترويكم فها فيض أدمعي وإن شئتم ناراً تأجّج وقدها ... فما قدّ آثار البين ما بين أضلعي وله دو بيت: ما أصرف عن جنابكم آمالي ... عمداً وأرى التخفيف من أثقالي إلا وتردّى إليكم طمعي ... في وصلكم وعلمكم بالحال الشيخ الفاضل الأصيل شمس الدين أحمد بن شرف الدين مفضل بن عيسى ابن إبراهيم بن مطروح، الكاتب الضرير، وهو ابن أخي الصاحب جمال الدين توفي بدمشق، ودفن بمقابر باب توما، كان كاتباً جيداً، وأضرّ في آخر عمره، وكان شاعراً فاضلاً، فمن شعره: رويد الهوى كم ذا يراق دمي عمداً ... ويغني وجودي في أهيل الحمى وجدا ولي بالكثيب الفرد أنّه وامق ... تذيب الحديد الصلب والحجر الصلدا وكم وقفة لي بالغوير ورامة ... أبثّ غراماً جاوز الوصف والحدّا وها جلدي عن حمل ما أنا واجد ... وجار الهوى ظلماً وكم نالني جهداً ألا في سبيل الحب مهجة مغرم ... قضى نحبه شوقاً وما بلغ القصدا الشيخ الإمام بهاء الدين أيوب بن أبي بكر بن إبراهيم بن النحاس، الحنفي الحلبي. مات بدمشق في شوال، ودفن بمقابر الصوفية، روى عن جماعة من البغداديين وغيرهم، وكان مدرساً بالمدرسة القليجية مدة طويلة، ومولده في سنة سبع عشرة وستمائة. الشيخ الإمام العالم العلامة بهاء الدين محمد بن يوسف بن محمد البرزالي. مات بدمشق ودفن بمقابر الباب الشرقي إلى جانب قبر والده بالقرب من أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، وهو والد الشيخ علم الدين البرزالي، وكانت له إجازات من بغداد وديار مصر والشام، وكان من أكثر الناس مروءة وديانة وصيانة، وكان عفيفاً نزهاً، ولم يكتب في مكتوب فيه ريبة أو منازعة. الشيخ الإمام العالم الفاضل جمال الدين عمر بن إبراهيم بن الحسين بن سلامة العقيمي الرسعني. مات بدمشق ودفن بسفح قاسيون، ومولده برأس العين سنة ست وستمائة، وكان فاضلاً جيد الشعر، حسن النثر، جمع مقامات كثيرة في فنون شتّى. ومن نظمه قوله: يا سائراً نحو الأثيل مبكراً ... عرج على أكتاف جلق مسحرا واحبس بوادي النيربين وبانه ... يستحل أنفاس النسيم معطرا وألمح قلائد زهرها منظومة ... والكلّ ينثر من نداه جوهرا وأجنح إلى الروض الأريض لتس ... مع لحن الغريض عن الهزار محرّرا حرم إذا اعتلّ النسيم بأرضه ... عبثت نعائمه بمسك أذفرا ما ناوحت ريح الشمال رياضه ... إلا حسبناها الشمول المسكرا أو صافحت ريح الجنوب جناحه ... إلا وجدناها كل ترب عنبرا وقال: سقى الله أكناف الجزيرة ريّها ... وحق لأرض تنبت الود أن تسقى أناس متى استمسكت من حبل ودّهم ... بأيسره استمسكت بالعروة الوثقى وقال: يا صبر لا تفعل فصبرك أجمل ... ودع العذول بناره يتململ

ضنّوا وما أنا بالضنين على هوى ... أنت الأخيرية وأنت الأوّل وكلت طرفي بالسهاد وبالسهى ... فإلى خيالك والكرا أتوسل فعلام طرفك طارق في فترة ... تدعو القلوب له وصدعك مرسل وإلام تهجر مغرماً هجر الكرى ... حتى لقد جارت عليه العذّل وأعجب لعذري في عذارك إنّني ... أدعى به المجنون وهو مسلسل وقال: شبّهت بدّر سمائها لما بدت ... منه الثريّا في قبص سندس ملكاً مهيباً قاعداً في روضة ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس وقال: أغضن النقا ابن القدود المواديس ... وابن الظبا النافرات الأوانس لقد درست أطلالهنّ وهل ترى ... يهيج الشجي إلا الطلول الدّوارس وعندي دواعي جمّة لفراقهم ... على أنّني من ذلك الوصل آيس مهاة كناس فارقته فمالها ... شبيه سوى ما مثلته الكنائس فجفني على آثارهم مطلق دمي ... ودمعي وقلبي للصّبابة حائس أبي بيننا إلاّ جماعاً وقسوة ... تذوب لملقاها نفوس نفائس بهاء الدين يوسف بن الشيخ تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي، عرف بابن الحيوان. مات بالمارستان النوري، ودفن عند والده بمقبرة باب الصغير، وكان شاباً صالحاً ذكياً، فاضلاً، له اشتغال بالعلوم وله شعر فمنه قوله: أناشدكم بالله ألاّ وقفتم ... ليقضي أوطاراً من الوصل مغرم أخو صبوة ما زال يكتم حبّه ... فأظهر قاني الدمع ما كان يكتم يقولون لي ما العشق والوجد ... والأسى وما البعد حتى يشتكيه المتيّم فوا حسرتا وأطول حزني ولوعتي ... يهتول أمر الحبّ من ليس يعلم الشيخ الصالح الواعظ سيدي أبو محمد عبد الله بن محمد المرجاني، شيخ المغرب وواعظه بتونس. كان عالماً متفنّناً مذكراً، حلو العبارة، كبير القدر، له شهرة في الآفاق، قدم الإسكندرية ومصر ووعظ بهما، وكان عارفاً بالحديث، وله قدم في التصوف، وكان ربما فسّر في الآية الواحدة ثلاثة أشهر، مات في هذه السنة وخلّف كتباً كثيرة، وعدة أولاد، رحمه الله. الشيخ الإمام البارع العلامة نجم الدين أحمد بن محسّن بن مليّ الأنصاري البعلبكي، الشافعي الأصولي المتكلم. مولده سنة سبع عشرة وستمائة ببعلبك، سمع من البهاء عبد الرحمن وابن الزبيدي وابن رواحة، واشتغل بدمشق، وأخذ العربية عن ابن الحاجب، والفقه عن ابن عبد السلام، والحديث عن زكي الدين المنذري، والأصول عن جماعة، وقرأ القانون وكتباً كثيرة في الطب، والأصول، واشتغل علي عز الدين بن مقبل في مذهب الشيعة، ودرس، وأفتى، وناظر، وتخرج به جماعة، وكان متبحراً في علوم كثيرة، فصيح العبارة، ذكياً متيقظاً، مقداماً شجاعاً، إماماً في مذهب الشيعة، يقتدى به، مات فيها بقرية بخعون من جبل الظنين. الشيخ الإمام العالم مفتي المسلمين شمس الدين محمد بن الشيخ الإمام العلامة شيخ المذاهب قاضي القضاة صدر الين بن أبي العزّ بن وهيب الحنفي. كان فقيهاً كبيراً في مذهبه، أفتى مدة أربعة وثلاثين سنة، ودرّس بالعذراوية، والخاتونية البرانية، والنورية، وكان لا يتردد إلى أحد ولا يخالط الناس، مات في النورية في السادس عشر من ذي الحجة، ناب في القضاء عن والده، وكان من خيار الناس. الشيخ العارف سعد الدين محمد بن أحمد الكاشاني الفرغاني، شيخ خانقاة الطاحون. مات في السابع عشر من ذي الحجة منها، ودفن في مقابر الصوفية، كان شيخاً فاضلاً عارفاً بكلام الشيخ محيي الدين بن العربي، وشرح قصيدة ابن الفارض. الشيخ الإمام العارف بدر الدين الحسن بن الإمام أبي الحسن على بن أمير المؤمنين أبي الحجاج يوسف بن هود المرسي.

توفي عشية الإثنين السادس والعشرين من شعبان منها بدمشق، ودفن بقاسيون، ومولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمرسية، وكان والده متوليها نيابة عن أخيه أمير المؤمنين المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود صاحب الأندلس. وكان يلبس الصوف، وعلى رأسه قبع صوف عسلي، وترك بلاده وهاجر إلى دمشق، وأقام بالخانقاة الشميصاتية وبالأندلسية وبخانقاة الطاحون. وقال الذهبي: كان ابن هود قد حصل له زهد وفراغ عن الدنيا وسكرة عن ذاته، وغفلة عن نفسه، فسافر وترك الحشمة، وصحب ابن سبعين واشتغل عليه بعلوم الأوائل، وحج وقدم اليمن، ثم رحل إلى الشام، وكان فيه انقباض عن الناس، حمل مرة إلى والي البلد وهو سكران، أخذوه من حارة اليهود خبثاً منهما ليقصوا منه بذلك، وكان أسلم على يده جماعة، وكان يمشي في الجامع باهت الطرف، ذاهل العقل، وهو رافع أصبعه السبابة كالمتشهد. ومن شعره: فؤادي من محبوب قلبي لا يخلو ... وسري على فكري محاسنه يجلو ألا يا حبيب القلب يا من بذكره ... على ظاهري من باطني شاهد عدل تجليت لي مني عليّ فأصبحت ... صفاتي تنادي: ما لمحبوبنا مثل أروّي بذكر الجزع عنه وبانة ... فلا البان مطلوبي ولا قصدي الوبل وأذكر سعدي في حديثي مغالطاً ... بليلي ولا ليلي مرادي ولا جمل ولم أر في العشاق مثلي لأنني ... تلذ لي البلوى ويحلو لي العذل مجانين إلا أنّ ذلّ جنونهم ... عزيز على أبوابهم يسجد العقل ومن شعره: خضت الدجنة حتى لاح لي قبس ... وبان بان الحمى من ذلك القبس فقلت للقلب هذا الربع ربعهم ... وقلت للسمع لا تخلو من الحرس وقلت للعين غضي عن محاسنه ... وقلت للنطق هذا موضع الحرس وله موشحه يصف دمشق: أشاقك البرق ساري ... أم راعك الطيف زائر فما لدمعك جاري ... وما لقلبك طائر لا ذا ولا ذاك ذكراً ... مني أثارت شجونا أيام شربي يرعى ... روض الأماني أمينا معنى به كل معنا ... يفيد دنيا ودينا فمن خليع عذاري ... له من الحسن عاذر ومن حليف وقار ... ذاكي الفؤاد وذاكر حيّاك ربع الأحبّة ... دمع الحيا المستهل وأطلع السعد شهبه ... بأفقك المستعل وعرس النجح ركبه ... ما بين ماء وظل لذي قرى وقرار ... بمزهر وزاهر عذب الجنا والنجار ... سامي العلا والمفاخر أشبهت جنة عدن ... دمشق حسناً وطيبا أبديت من كلّ فنّ ... للحسن معنى غريبا لا زلت منزل آمن ... رحب الفضا خصيبا بكل حامي الديار ... وكامل الفضل وافر طويل باع الفخار ... بسيط كف المآثر هل عائد لي عهد ... بروضة النيربين إني وقد دان بعد ... ما بين ذاك وبيني لله ودق ووقد ... بأضلعي وبعيني فكم أجنّ بجاري ... وحاكم البين جائر وكم أواري أوار ... والدمع لي متواتر الصبر دونك عجز ... لا تحسبيه اختيارا والذّل عندك عزّ ... ما آن أراه صغارا ترنّم الطير غمز ... به إليك أشارا معناه أنت اختياري ... وإنني جد خابر عليك يا خير دار ... قطب السعادة دائر عماد الدين يوسف بن أبي نصر بن أبي الفرج الشقاري. كان زمن الظاهر أمير الركب، وكان له حجّات كثيرة، ومولده سنة عشر وستمائة، مات في هذه السنة، ودفن بالنيرب بتربته جوار الجامع. الأمير جمال الدين أقوش المطروحي، وسيف الدين كرد، والأمير ركن الدين الجمالي، نائب غزّة، عدموا في وقعة قازان في هذه السنة. الزين خضر بن دانيال الأنطاكي الزرّادي الضرير المقرىء.

كان عارفاً بعلم النجم والرمل، وكان يخيط ويدخل الخيط في خرت الأبرة، وكانت خياطته في غاية الجودة، ويوصل الأوصال ويرقع ما يفصّله في مواضعه ترقيعاً حسناً، وكان آية من آيات الله، وأصله من ميحي أنطاكية وقع في قسم الأمير عز الدين الزرّاد نائب قلعة دمشق فربّاه وأقرأه القرآن، فحفظ الكتاب العزيز وتلا بالسبع على المشايخ، مات بدمشق في الثامن من شعبان منها، ودفن بمقابر باب الصغير. الأمير عماد الدين حسن بن علي بن محمد بن النشابي الحلبي. مات بالبقاع من أعمال بعلبك. ودفن بقاسيون بتربته، وكان قد ولى ولايات بالبر، ثم نقل إلى ولاية المدينة، ثم ولاية البر، ثم جعل أمير طبلخاناة، فمكث قليلاً ومات، وكان مشكوراً في ولايته، وعنده شهامة ونهضة وكفاية. الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى سنجر الدواداري التركي البرنلي. مولده في سنة نيف وعشرين وستمائة، وقدم من بلاد الترك في حدود الأربعين وستمائة، وكان عبس الشكل، كبير الوجه، خفيف اللحية، صغير العينين، ربعة من الرجال، حسن الخاق والخلق، مهيباً فارساً شجاعاً، ديناً، عالماً فاضلاً، حسن الحظ، حافظاً لكتاب الله، قرأ القرآن على الشيخ جبريل الدلاصي وغيره، وحفظ الإشارة في الفقه لسليم الرازي. وكتب بخطه، وحصل الأصول، وكانت له عناية بالحديث وسماعه، سمع كثيراً، وخرج له المزى جزأين عوالي، وخرج له ابن الظاهري، وحج ست مرات. وكان من الأمراء الظاهرية، ثم نقل إلى حلب، ثم قدم إلى دمشق، وكان من أصحاب سنقر الأشقر، ثم مسك، ثم أعيد إلى رتبته، ثم أعطى تقدمة ألف، وزادت رتبته في دولة لاجين المنصور، وقدمه على الجيش في غزوة سيس، وكان له معروف كثير وأوقاف بالقدس ودمشق، وروى عن الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، والرشيد العطار، والكمال الضرير، وابن عبد السلام، وجماعة كثيرة، وشهد الوقعة وهو ضعيف، فالتجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد، فمات به ليلة الجمعة الثالث من رجب الفرد منها، وكان المنصور لاجين قد فوض إليه عمارة جامع ابن طولون فعمره وعمر أوقافه وقرر فيه دروس الفقه والحديث والطب. وله شعر حسن، فمنه قوله: سلوا عن موقفي يوم الخميس ... وعن كرات خيلي في الخميس شربت دم العدى فرويت منه ... فشربي منه لا خمر الكؤس وجاورت الحجاز وساكنيه ... وكان البيت في الليل أنيسي وأتقنت الحديث بكل قطر ... سماعاً عالياً ملء الطروس أباحت في الوسيط لكل خبر ... وألقى القوم في حر الوطيس فكم لي من جلاد في الأعادي ... وكم لي من جدال في الدروس وقد ذكرنا من ترجمته فيمن استشهد من الأمراء في وقعة قازان. حسام الدين الطواشي المغيثي، خادم الملك المغيث صاحب الكرك. مات في هذه السنة، وخدم الملك الصالح، وكان معظما في الدولة المصرية يجلس فوق الأمراء كلهم. قال صاحب النزهة: وعاينته يجلس فوق البيسري وسنقر الأشقر إلى باب القبة، وكان السلطان الملك المنصور سلم إليه الملك الصالح علاء الدين وقال له: هذا ولدك ربه، وكان مقيماً في القلعة بدار الملك الصالح أستاذه، وكان له أوقاف على تربة النبي صلى الله عليه وسلم، وأوقاف على عتقائه وأولادهم، ولما توفي أثبت مجد الدين بن الخشاب أن بعض الأوقاف التي أوقفها كان في غير عقله وأنه كان مخبلاً في ذلك الوقت وأخذ منها ما اختاره، وكانت له مكارم، وقصده الشعراء ومدحوه، وكان يهب لهم ويعطيهم، وامتدحه في وقت شرف الدين القدسي الكاتب بقصيدة مطولة منها: مارأيت الناس مثل حسنك لالا ... هكذا هكذا وإلا فلالا فتبسم وقال: يا شرف الدين بعد الثمانين يكون الحسن، والله أسرفت في التجمل. فقال له: يا سيدي أحسن الشعر ما كذب الشاعر فيه، فأعجبه ذلك ورسم له بخمسمائة درهم. وكان قد خرج من مصر على نية الجهاد، فأدركه مرض منعه أن يحضر المصاف، وبقى إلى أن رجع العسكر فركبه ممالكيه إلى أن وصل منزلة السوادة، فتوفي بها ودفن هناك، ونقل بعد شقحب إلى مصر ودفن بتربته بالقرافة. الأمير سيف الدين جاغان مملوك السلطان لاجين، مات في هذه السنة بمرض أصابه بدمشق

السنة السبعمائة من الهجرة

الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي، مات في هذه السنة بعد شنقه في سوق الخيل، وأقام ثلاثة أيام، ثم دفن وكان قد هرب في نوبة الأويراتية واستخفى بمصر، ثم وجد عند مملوك له فيه هوى. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السبعمائة من الهجرة استهلت والخليفة: الإمام الحاكم أبو العباس أحمد بن أبي علي بن الإمام أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين العباسي. وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية: الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي، ونائبه بمصر: سيف الدين سلار، وفي دمشق: جمال الدين أقوش الأفرم، وفي حلب: شمس الدين قراسنقر المنصوري، وبطرابلس والسواحل: سيف الدين قطلوبك، وبصفد: سيف الدين بلبان طرنا السلحدار، وبحماة: زين الدين كتبغا العادلي، وبالكرك: جمال أقوش الأشرفي. والقاضي الشافعي بمصر: تقي الدين بن دقيق العبد، والحنفي: شمس الدين السروجي، والمالكي: زين الدين بن مخلوف، والحنبلي: شرف الدين الحراني. وقاضي الشافعية بدمشق: بدر الدين بن جماعة، وقاضي الحنفية: شمس الدين ابن الحريري، والمالكية: جمال الدين الزواوي، والحنابلة: تقي الدين سليمان بن مزة المقدسي، والخطيب: بدر الدين بن جماعة. والوزير بمصر: شمس الدين سنقر الأعسر. وصاحب المغرب: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن محمد وأبو يعقوب المريني. وصاحب اليمن: الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر. وصاحب ماردين: الملك المنصور نجم الدين غازي بن الملك الظفر الأرتقي. وصاحب مكة: الشريف نجم الدين أبو نمى محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسيني. وصاحب المدينة: عز الدين جماز بن شيحة الحسيني. وملك التتار: محمود قازان، وصاحب المملكة الشمالية: طقطاي ابن أخي الملك بركة، والمتولي على الصين قان بن قان بن جنكزخان، ومن حد بلاد خراسان إلى خان بالق الملك قيدو. وصاحب الحبشة: الأمحري النصراني. وصاحب الهند إلى نجد إلى كنبايت: الملك المسعود ناصر الدين محمود ابن علم الدين سنجر عتيق شمس الدين أيتمش مملوك شهاب الدين الغوري. ذكر اختلاف عربان بحيرة قال بيبرس في تاريخه: وفي سنة سبعمائة اختلفت عربان البحيرة، وهم طائفتان جابر ومرديس اختلافاً كثيراً أنشأ بينهم حرباً، وأفنى بعضهم بعضاً، وكانت مرديس هي المستظهرة على جابر، وقد كسرتها كسراً أعتى على الجابر، فاتصل ذلك بالأبواب السلطانية، فندبت لإخماد فتنتهم وإطفاء جمرتهم وردع المعتدين منهم، وجرد معي من أمراء الطبلخاناة عشرون أميراً، وهم: الأمير شمس الدين سنقرجاه السلحدار، والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير، والأمير سيف الدين بلبان الطغريلي، والأمير سيف الدين طشتمر الجمقدار، والأمير علاء الدين بن أمير مجلس، والأمير بدر الدين محمد الوزيري، والأمير عز الدين أيدمر الشمسي القشاش، والأمير بهاء الدين قراقوش الصوابي، والأمير سابق الدين بن بوزبا الساقي، والأمير ناصر الدين محمد بن طرنطاي، والأمير ناصر الدين محمد بن أيتمش السعدي، والأمير علاء الدين علي بن ددا التركماني، والأمير جمال الدين أقوش الرومي، والأمير شمس الدين الدكز السلحدار، والأمير سيف الدين قطز بن الفارقاني، والأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي، وأصحاب الأمير مظفر الدين أمير موسى، وأصحاب الأمير جمال الدين الطشلاقي وغيرهم، وأنهى إلى الأبواب الشريفة أنهم صافون، وعلى القتال عاكفون، وذلك على ظاهر تروجة، فسرنا سيراً حثيثاً، فوجدناهم قد اتفقوا وافترقوا، فتبعناهم فانهزموا، وقصدوا جهة الليونة وغربي الإسكندرية، فأخذنا مواشيهم من الجمال والأغنام، وسقنا إلى الباب الشريف، وأحضرنا هؤلاء العربان بالأمان، وقررنا قواعدهم، ونظمنا الصلح بينهم، وعدنا إلى الأبواب الشريفة، فتواترت الأخبار بحركة التتار. ذكر ورود القصاد من بلاد الشرق

ذكر عزم السلطان على السفر

وردت القصاد في أوائل هذه السنة من بلاد الشرق وأخبروا أن قازان ملك التتار قد بلغه أن قفجق التحق بمصر إلى السلطان بمن معه من الأمراء، وسلم إليه دمشق، وخطب للسلطان صاحب مصر، وأبطل اسمه، فعز عليه ذلك، ورسم أن يجمع جيشه للعبور إلى الشام، وكان قد حنق على قفجق، وجمع المغول واستشارهم، فمنهم من أشار عليه بالركوب، ومنهم من قال له: يا خوند الذي حصل لك ما حصل لأحد من ملوك المغول حيث نصرت على عسكر ما عرف قط أنه انهزم من المغول، وقد بقي لك في نفوسهم هيبة، وما في الاستعجال في الركوب إليهم فائدة، فربما يكون بعد الربح الخسران، ولا تأمن أن ينصروا علينا، والمصلحة أن تبعث إليهم رسلاً في ذلك وتطالبهم أن يحملوا لك مالاً ويكون ذلك راحة للعسكر وحرمة للملك. ثم تواترت مطالعات نواب الشام بأن التتار قاصدون البلاد، ووقع الجفل في أهل البلاد إلى الديار المصرية، وتتابعوا من جميع الأعمال حتى ملأوا الأقاليم والنواحي، وضاقت بهم الأماكن، وعجز أكثرهم عن المساكن، وظن الناس أنهم يعدمون الأقوات، فوضع الله البركة في الغلال، وأنزل الرخاء في الأسعار، فكانوا كلما تكاثروا انحطت الأسعار حتى أبيع الأردب من القمح بخمس عشرة درهماً. وقال ابن كثير: وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر وانزعج الناس، وازدادوا ضعفاَ على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم وشرعوا في الهروب إلى مصر والكرك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة درهم، وأبيع الجمل بألف، والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة بأرخص الأثمان وأبخسها، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، فحرض الناس على القتال، وتلا عليهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهي عن التسرع في الحركة، ونودي في البلدان لا يسافر أحد إلا بمرسوم، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدّث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر المنصورة، فبلغ السلطان ذلك، فقصد أن يجمع مالاً من الناس لأجل العساكر. ذكر عزم السلطان على السفر وأمره بجمع الأموال من الناس: لما جرى ما ذكرناه اجتمعت الأمراء عند السلطان وتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على تجهيز أمرهم، وخروج السلطان مع العساكر، وأن يجمعوا مالاً يكون في الخزانة برسم نفقات العساكر، وكتبوا لنائب الشام أن يدبّر أمره ويستخدم بطّالين إلى وقت حضور السلطان، وطلبوا ناصر الدين محمد بن الشيخي، وأمروه أن ينظر في أمر التجار والكارم والأكابر، ويتفقد أيضاً من لم يخرج مع العسكر في النوبة الأولى، فيأخذ منهم شيئاً، ثم اتفق رأيهم أن يعرضوا الجيش، وذلك لأنهم استجدوا جماعة كثيرة من الجند، وكان فيهم جماعة كثيرة من أهل الصنائع والناس المجمعين، فطلب مقدمي الحلقة وأمروهم أن يحضروا الأجناد راكبين خيولهم وأرماحهم بأيديهم ويدخل كل واحد ويعرض نفسه لينظر الأمراء إلى حملة الرمح وسوقة الفرس، ويعرفون بذلك هل هو أصيل في الجندية أو دخيل فيها، وأيضاً يعرف المقدمون من كان منقطعاً يوم الواقعة الأولى ومن كان حضرها، وكان الأمراء نصبوا لهم مخيماً بميدان القبق، وأقاموا أياماً يعرضون الجيش في كل يوم عشر مقدمين من الحلقة بمضافيها. وأما أمر المال فإن السلطان والأمراء قصدوا التوسع بشيء يعين على كلف العساكر، وسمّوا بتقدير مال على الأملياء والتجار وأرباب المعايش والأسباب بالقاهرة ومصر، فقرر، وتولاّه الأمير سنقر المعروف بالأعسر، والأمير ناصر الدين محمد الشيخي متولي القاهرة، فاستخرجا منه نحو مائة ألف دينار، وسّمي مقرر الخيانة.

ذكر خروج السلطان من القاهرة متوجها إلى الشام

وقال صاحب نزهة الناظر: لما تولى ناصر الدين الشيخي استخراج المال المقّرر على هؤلاء المذكورين عجز عن ذلك، وبلغه كلام كثير منهم، فاختار أن يشرك الوزير معه في أمر الجباية، واتفق مع ذلك حضور بعض الجند وشكايته إليه ما قاسى من العامة ومن كلامهم الفاحش، وذكر أن الأجناد ما بقيت لهم حرمة عند العوام، وإذا وقف واحد منهم لشراء حاجته مما يتعلق بحال الجندية يسمعونه الكلام الفج ويقولون له: أما تستحون بالله تتحدثون اليوم وبالأمس كنتم هاربين، والآن تتشطرون علينا، وإذا هب واحد منهم على أحد من العامة بمقرعة في يده، ينهض إليه ويمسكها من يده ويقول: إش معنى ما كانت هذه الحرمة على مثل الذين فعلوا بكم كذا وكذا وهربتم منهم، فصارت الأجناد في ألم عظيم من مثل ذلك، وعرّف ناصر الدين الشيخي ذلك للأمراء، وأختار أن يشرك معه في هذا الأمر من هو أكبر وأكثرحرمة، فرسموا أن يكون شريكه في ذلك الأمير شمس الدين الأعسر، فإنه كان ذا حرمة عظيمة وهيبة قوية بحيث أن أحداً من العوام إذا وقف بين يديه لم يقدر أن ينطق بكلمة واحدة، فاستقام حينئذ حال ناصر الدين المذكور، ثم نودي في القاهرة بأن أيّ عاميّ يزيد في الكلام على جندي كانت روحه وماله للسلطان، فانقطعوا بعد ذلك عماهم فيه من تشويشهم على الأجناد. قال الراوي: ثم جاء خبر من نائب الشام صحبة قاصد من عنده أن عسكر قازان يتواردون أولاً فأولا، وهو يحثهم على عبور الشام، وأنه قد استخرج من الأملاك والأوقاف وأصحاب البساتين أجرة أربع شهور وأنه استخدم بها من التركمان وغيرهم نحو ثمانمائة فارس، ونفق على كل جندي منهم ستمائة درهم نقرة، ثم أعرضهم وهم منتظرون حلول الركاب الشريف، فعند ذلك تجهزت الأمراء والسلطان للخروج. ؟؟ ذكر خروج السلطان من القاهرة متوجّهاً إلى الشّام لأجل حركة التتار: كان خروج السلطان مع عساكره في النصف من شهر صفر من هذه السنة، وتموا سائرين إلى أن وصلوا إلى غزّة وأقاموا عليها يومين، والثالث ورود خبر من نائب حلب ونائب الشام صحبة القصّاد أن قازان قد توجه بجيشه إلى نحو جبال أنطاكية وقد جفلت أهل السّواد بين يديه، فكتب السلطان الجواب بأن تكونوا على يقظة من أمره، وتعرفوا بحركاته كل وقت، فاقتضى رأيهم الرحيل من غزة إلى منزلة العوجاء، فضربوا الدهاليز بها، وشرعت الأجناد في تسفير جمالهم إلى تحصيل الشعير والتبن وما يحتاجون إليه، وجاءت الأمطار الكثيرة بإذن الله خارجة عن الحدّ والعادة، واستمرت ليلاً ونهاراً عشرة أيام، ثم أصبحت في نهار واحد من بكرة النهار إلى الظهر، ثم شرعت وتزايدت إلى أن منعت المسافرين والجافلين عن جلب الأشياء، فضاقت بهم الأحوال، فصار كل أمير إذا أراد طبخ شئ من الطعام يستر مطبخه باللبابيد الكثيرة حتى يتيسر إيقاد النار، فأقامت المطر على منوال واحد أحداً وأربعين يوماً بلياليها، لم يتلذذ فيها أحد بالنوم من شدة البرد والرّعد والمطر والثلج والبرد الذي يمنع الرجل عن القيام لمصلحته، وكذلك بلغت أحوال الخيول فلا يقدر أحداً منها أن يضع جنبه على الأرض ولا يشرب الماء إلا من النهر الذي يجري بين يديه، فتحسنت أسعار التبن والشعير وغير ذلك. قال صاحب النزهة: اشترينا الحمل من التبن بأربعين درهماً، والعليقة الواحدة بثلاثة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم، والرطل من اللحم بثلاثة دراهم، وانقطع الجلب من سائر الأماكن، ثم حصل بعد ذلك سيل عظيم من الأمطار والثلوج التي ذابت من الجبال وانحدر في النهر إلى أن فاض من جوانبه وارتفع إلى أن علا من فوق القنطرة، وجاء عقيب ذلك برد عظيم جداً حتى مات من الغلمان جماعة كثيرة من البرد، وتلفت حال العسكر، وتلف جميع ما معهم من الثياب والقماش والخيام وأنواع المأكولات بحيث أن أحداً ما كان يقدر على القعود في الخيام من المياه من كثرة المطر، ثم أجمع رأيهم على الرحيل، فنودي بالعسكر بالركوب بكرة النهار، وأول من ركب وتقدم الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، وقدّامه حزمة حطب على السرج ورماها في الوحل، ثم الأمير ركن الدين بيبرس، ثم بقية الأمراء أولاً فأولا ومماليكهم وغلمانهم، وكذلك أجناد الحلقة، وبيد كل واحد قفة أو مخلاة من التراب أو الحجر أو غير ذلك فيرميه في الوحل حتى تمشي الدواب عليه.

ذكر عود السلطان إلى مصر

وهم في ذلك إذ وصل مملوك من نائب حلب ومعه اثنان من الناصحين، وأخبروا أن قازان ركب بجيشه إلى أنطاكية، ثم إلى جبل السماق ورجع إلى قرون حماة وأرض شيزر، ونهب وسبى خلقاً كثيراً، وأخذ مواشي كثيرة للتركمان وأهل البلاد، وأن صاحب سيس بذل له مالاً عظيماً في شراء أسرى كثيرة من المسلمين، وأنه صمّم على عبوره الشام، فأرسل الله على جيشه أمطاراً عظيمة وثلوجاً لم يعهدوا مثلها قبل ذلك، ومع ذلك وقع الفناء في خيولهم، وكان الفرس منهم يصيبه البرد وينزل عليه الثلج فيقع على الأرض، ثم لا ينتفع به بعد ذلك، وحكوا أن قازان كان معه خصوصاً اثني عشر ألف رأس من الخيل دشار، فلم يبق منها إلاّ ما دون الألف، وأنه لما رأى ذلك استشار أمراءه في الرجوع، فرجعوا في أسوأ حال، وتفرق عسكره، ورآه يردف بعضهم بعضاً، فلما سمع السلطان والأمراء ذلك اقتضى رأيهم أن يجردوا بعض المقدمين بمضافيهم إلى حلب لأجل تطمئن البلاد ولسمعة العدو بأن عسكر مصر قد وردوا للقائهم، فعينوا الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار ومضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوب ومضافيه، وأشاروا برحيل بقية العساكر إلى مصر. ؟؟؟ ذكر عود السلطان إلى مصر ثم رحل السلطان ببقية العسكر وتوجهوا إلى مصر، فوصل السلطان إلى قلعة الجبل في عاشر جمادى الأولى، وكان العود أحمد وأولى. واستعفى الأمير سيف الدين كراي السلحدار من نيابة صفد، ورسموا بنيابتها للأمير سيف الدين بتخاص، وأنعم على الأمير كراي بإقطاع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بحكم وفاته. وكان عند العسكر فرح عظيم من رجوع السلطان إلى القاهرة بسبب ما قاسوا من الشدة والقلة، وقال بعضهم في ذلك: أقمنا على العوجاء خمسين ليلةً ... ندبر أمراً قد حكاه انعواجها وقال صاحب النزهة منشداً لنفسه: يا سفرة العوجاء من سفرة ... كادت بها أرواحنا تخرج سماؤها ممطرة دائماً ... وغيثها من برده يثلج والشمس في أركانها ظلمة ... وصحبها مع ليلها مدلج لا برح الجندي من أرضها ... إلاّ عليل الجسم أو أفلج وقال ابن كثير: ولما وصلت الأخبار إلى الشام بأن السلطان صاحب مصر قد رجع عائداً إلى مصر، كثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهاليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم قويت الأراجيف بوصول التتار، وتحقق أهل الشام عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي دمشق في الناس: من قدر على السّفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، وبقي على الناس ذلة وخمدة وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق، وتيقن الناس أن لا ناصر لهم، ودخل كثير من الناس إلى القلعة ولم يبق في دمشق من الأكابر إلاّ القليل، وسافر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشمس الدين بن الحريري، ونجم الدين ابن صصري، ووحيد الدين بن منجا، وقد كانت سبقتهم بيوتهم إلى ديار مصر. وجاءت الأخبار بوصول التتار إلى سرمين، وخرج الشيخ نجم الدين بن القرافي، وابراهيم الرقي، وابن قوام، وابن تيمية، وابن حيان إلى نائب السلطنة الأفرم، فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهني أمير العرب، فأجابه إلى السمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب الأمير سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة. ورجع ابن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيام، واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة وحرضهم، فأجابوه، وكان الشيخ قد خرج من الشام مستهل جمادى الأولى، وقد غلت الأسعار بدمشق جداً حتى أنه بيع خروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال جداً. ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعاً في عامه ذلك لضعف جيشه وقلة مدده، فطابت الأخبار، وسكن الناس، ورجعوا إلى منازلهم منشرحين آمنين، ولله الحمد رب العالمين، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق من المرج، وكان فيه مخيماً مدة أربعة شهور متتابعة، وكان هذا من أعظم الرباط، وتراجع الناس من الحصون حول دمشق إلى أوطانهم. ذكر وصول الرسل من جهة قازان

ذكر نسخة الكتاب

وفي أواخر شوال: جاء مملوك نائب حلب وأخبر بحضور الرسل من جهة قازان إلى السلطان، ورُسم للأمير سيف الدين كراي المنصوري أن يتجهز إلى لقائهم، فتجهز وخرج، وقد كتبوا بالإقامات في الطرقات، وتلقاهم الأمير كراي فأحضرهم، وهم: الأمير ناصر الدين على خواجة، والقاضي كمال الدين يونس قاضي الموصل، ورفيقهما، وكانوا رسموا قبل تمثلهم بين يدي السلطان أن يلبس سائر الجيش الكلوتات الزركش والطرازات الذهب، وأن يلبسوا أفخر ما عندهم، ورتبوا من باب القلعة إلى داخل الإيوان صفّين، فدخلوا، وكان دخولهم في النصف من ذي القعدة، فلما وصلوا إلى مجلس السلطان رأوا ما أذهلهم من الحشمة والهيبة، ورأوا عسكراً كأنهم خلقوا من حسن ومهابة وجمال، وهم صور حسان ووجوه جميلة، وباسوا الأرض، وأعطوا ما معهم من الكتب. واجتمعت الأمراء، وقُرئت الكتب بحضورهم، وفهموا ما فيها، ثم أنهم شافهوا السلطان بما حملهم قازان، فذكرها السلطان للأمراء، وأمر السلطان بإكرامهم واحترامهم، وأنزلوهم في أحسن منزلة، ورتبوا لهم الرواتب السنية، ثم اجتمعت الأمراء بعد ذلك فتشاوروا فيما بينهم عند السلطان، وطلبوا كاتب السر وأمروه أن يكتب الجواب عن سائر الفصول التي يتضمنها كتاب قازان. وقال القاضي شرف الدين بن الوحيد في تاريخه: لما حضر الرسل من جهة قازان استحضرهم السلطان في الليل، فلما وقعوا بين يديه أحسن إليهم وقربهم منه، ولما رأى قاضي الموصل ذلك خطب خطبة بليغة وذكر آيات في معنى الصلح بين الفريقين، واتفاق الملكين والعسكرين، ثم بسط يده ودعي لمولانا السلطان، ثم بعده لمحمود قازان، ثم أوضح الرسالة التي بيده وأعاد الكلام في معنى الصلح وقال: ودفع الكتاب للسلطان وهو مختوم بغير عنوان، فلم يفتحه السلطان في تلك الليلة، ورسم بإعادة الرسل إلى مكانهم، ولما كانت الليلة التالية طلب السلطان الأمراء المقدمين الأكابر وفتحوا الكتاب، وقُرىء على السلطان فإذا هو بالخط المغلي، وهو في قطع النصف البغدادي، أوله بسم الله الرحمن الرحيم. ذكر نسخة الكتاب بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان، ليعلم السلطان المعظم الملك الناصر أنه في العام الماضي بعض عساكرهم المفسدة دخلوا أطراف بلادنا وأفسدوا فيها، لعناد الله وعنادنا، كماردين ونواحيها، وجاهروا الله بالمعاصي فيمن ظفروا به من أهلها، وأقدموا على أمور بديعة وأحوال شنيعة من محاربة الله، وخرق ناموس الشريعة، فأنفنا من تهجمهم، وغرنا من تقحمهم، وأخذتنا الحمية الإسلامية، فحدتنا على دخول بلادهم ومقابلتهم على إفسادهم، فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجهنا بمن اتفق منهم أنه حاضر، وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، سلكنا سنن المرسلين، واقتفينا آثار المتقدمين، واقتدينا بقول الله تبارك وتعالى " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وأنفذنا صحبة يعقوب الكرجي جماعة من القضاة والأئمة الثقات، وقلنا: " هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة ". فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليكم وعلى المسلمين بالأضرار، وأهنتموهم وسجنتموهم، وخالفتم سُنن الملوك في حسن السلوك، فصبرنا على تماديكم في غيكم وإخلادكم إلى بغيكم إلى أن نصرنا الله وأراكم في أنفسكم قضاة، " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله "، وظننتا أنهم حيث تحققوا كُنه الحال، وآل بهم إلى ما آل، أنهم ربما تداركوا الفارط من أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، وأوجه إلينا وجه عذرهم، وأنهم ربما سيروا إلينا حال دخولهم إلى الديار المصرية رُسلاً لإصلاح تلك القضية، فبقينا بدمشق غير متحثحثين، وتثبطنا تثبط المتملكين المتمكنين، فصدّهم عن السعي في صلاح حالهم التواني، وعللوا نفوسهم بالأماني.

ذكر وقوع الفناء في الأبقار

ثم بلغنا بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم ألقوا في قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلتقونا على حلب أو الفرات، وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه، فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم، ووصلنا الفرات مُرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا لعلهم وعساهم، فما لمع لهم بارق، ولا ذرّ لهم شارق، فتقدّمنا إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطائهم غاية العجب، فبلغنا رجوعهم بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب، وفكرنا أنه متى تقدّمنا بعساكرنا الزاخرة، وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، وعم ضرر العباد، وخراب البلاد، فعدنا بفتياً عليها، ونظرة لطف من الله إليها. وها نحن أيضاً الآن مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون غرار عزماتنا المشهورة، ومُستعملون المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار، " وما كنا مُعَدّبين حتى نبعث رسولا ". وقد سيّرنا حاملي هذا الفرمان الأمير الكبير ناصر الدين بن علي خواجا، والإمام العالم ملك القضاة كمال الدين موسى بن يونس، وقد حملناها كلاماً يُشافهانهم بهن، فليثقوا بما تقدمنا به إليهما، فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى: " قل فلّله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين "، فتُعدّون لنا الهدايا والتحف، فما بعد الإنذار من عاذر، وإن لم تداركوا الأمر فدماء المسلمين وأموالهم مطلوبة بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول تقصيرهم. فليُمعن السلطان لرعيته النظر في أمره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من ولاّه الله أمراً من أمور هذه الأمة واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلّته وفقره ". وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر، " والسلام على من اتبع الهدى ". كتب في العشر الأول من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين. وسنذكر ما أجابه السلطان عن هذا الكتاب في السنة الآتية إن شاء الله تعالى. ذكر وقوع الفناء في الأبقار وفيها: أصاب الفناء الأبقار دون غيرها من المواشي حتى تعطلت الدواليب والسواقي، وغلت أسعارها غلواً لم يُسمع بمثله، وبيع الرأس البقر بألف درهم وما يقاربها، واستعمل الناس الخيل والجمال والحمير عوضاً عنها، فما أجدت في الحرث والكرب ولا أغنت عنها، فتعذرت الأقصاب وتعطلت، وتُرك زراعة أكثرها وأبطلت، فارتفعت قيمة القنود وبلغت عشرة دنانير القنطار. ولقد حكي عن شيخ من أهل الفلاحة ببلد أشموم أنه كان يملك من الأبقار الخيسية السارحة في تلك الجزائر ما جُملته ألف وإحدى عشرة رأساً، فماتت في هذا الفناء أولاً فأولاً حتى لم يبق له منها غير ثمانية لا سواها. وقال صاحب نزهة الناظر: كان مبدأ فناء الأبقار في أواخر سنة تسع وتسعين وستمائة، فلما دخلت سنة سبعمائة تزايد الأمر في موتها، وتعطلت الدواليب وزراعات الأمصار، وتوقف حال أرباب السواقي، وتزايد الأمر على الناس فكان يكون في الساقية عشرة أروس يصبح الستة منها موتي، ويأتي اليوم الثاني والثالث فلا ترى منها شيء، ويحتاج صاحبها إلى شراء غيرها بقيمة زائدة، فحصل الضرر البالغ لأصحاب البساتين، خصوصاً لأهل دمياط وأشمون والمزاحميين والقليوبيين، وكذلك بلاد الصعيد ودواليب المعاصر، وقال: لقد بلغني أنه كان بدمياط رجل من أكابرها وله عدة بساتين، وكان فيها مائة واثني عشر رأساً مثمنة، فما مضى عليها ثلاث شهور إلا وقد بقيت منها تسعة أروس لا ينتفع بها. وكتب الأمراء إلى سائر البلاد أن لا يذبح أحد شيئاً من البقر ولا من العجول، وكتبوا إلى نائب الشام بأن يجهز إليهم أبقاراً شامية من سائر البلاد للدواليب السلطانية، ثم وصلت أبقار كثيرة مع التجار، وأبيع الرأس منها بثلاثمائة، وبمائتين، وغلقت معاملة سوق البقر في تلك السنة للمقطعين، وفاضت على ذلك مائة وستون ألف درهم. ذكر بقية حوادث مصر والشام

وفيها: اقتضى رأي السلطان والأمراء أن يخرج الأمير شمس الدين سنقر الأعسر مع جماعة من المماليك السلطانية إلى الوجه القبلي ليحصّل من عزبة الخيل والجمال وآلات السلاح، والسبب لذلك أنهم علموا بسفر السلطان مع العسكر لحقهم الطمع في مغل الأمراء والجند، ومنعوا الحقوق، وعصوا على الولاة، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، فجرد لذلك سنقر المذكور وصحبته مائة نفر من المماليك السلطانية، فركب إلى أن وصل إليهم، وكان له في نفوس الناس حرمة عظيمة ومهابة قوية، فكبس البلاد، وأتلف كثيراً من المفسدين، ولم يزل سائراً إلى أن وصل الأعمال القوصية، ولم يدع فرساً في بلاد الصعيد من خيل العرب ولا خيل القضاة والفقهاء والمتعممين إلا أخذه، وأخذ سائر السلاح من الرماح والسيوف والدرق، فكانت عدة ما حضر معه من الخيل ألف وستون فرساً، ومن الجمال ثمانمائة وسبعون رأساً، ومن الرماح ألف وستمائة رمح، ومن السيوف ألف ومائتا سيف، ومن الدرق تسعمائة درقة، ومن الغنم ستة آلاف رأس، فأصلح تلك البلاد حتى أخذ الناس مغلهم كاملاً. وقال بيبرس في تاريخه: جرد الأمير سيف الدين سنقر الأعسر إلى الصعيد للكشف والتمهيد، ورسم له بحسم مادة العربان، فإنهم تظاهروا بالنفاق والعصيان وتوجهنا إلى الوجه فاجتمعنا بمنفلوط وأحضرنا أعيانهم، وقررت عليهم جباية من المال والخيل والجمال والسلاح، وجبيت فكانت ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، وألف رأس خيل، وألفي جمل، وعشرة آلاف رأس غنم، وحسمت مادتهم في ذلك الوقت. وفيها: في يوم الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة عزل شمس الدين ابن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين أبي حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه من قبله، وذلك باتفاق من الأمير سنقر الأعسر والنائب جمال الدين أقوش الأفرم. وفيها: استقال الأمير كراي السلحدار من نيابة صفد، فأقيل، وجهز إليها عوضاً عنه الأمير بتخاص المنصوري من دمشق. وفيها: استعفى سيف الدين قطلوبك من نيابة الحصون، فأعفي، وجهز إليها من دمشق سيف الدين أسندمر الكرجي، وأعيد قطلوبك إلى دمشق، فاستقر من أمرائها. وفيها: ولي الأمير فارس الدين البكي الظاهري نيابة السلطة بحمص، وجهز الأمير قفجق إلى الشوبك وأعطى بأعمالها إقطاعاً. وفيها: ألزمت السلطنة طائفتي النصارى واليهود بمصر والشام بلبس العمائم الغيار، فألبس النصارى عمائم زرقاء، واليهود عمائم صفراء، والسامرة بالشام عمائم حمراء، وغلقت كنائسها، ثم فتح بعضها أولاً فاولاً، ثم اتفق أن بعض أكابر النصارى سعى في فتح كنيسة وفتحها، واشتهر ذلك بين العامة، فوقفت حرافيش كثيرة للنائب والأمراء بسبب ذلك. وقالوا أيضاً: إن بعض النصارى تكبروا عن لبس الأزرق، وإن بعضهم احتمى ببعض أكابر الأمراء، فاقتضى رأيهم بإشهار النداء، فأمروا والي القاهرة بالمناداة في مصر والقاهرة بأن كل من لا يلبس الزرق من النصارى، أو الصفر من اليهود ينهبه العامة، ويستحل ماله وحريمه، وأن لا يستخدم نصراني عند أمير ولا في شغل من أشغال السلطنة إلا إذا أسلم، فتسلطت عليهم العامة من الحرافيش وغيرهم، فمن رأوا منهم ما عمل بموجب النداء ضربوه إلى أن كاد أن يقتلوه، وكذا إذا رأوا أحداً منهم راكباً على حمار من غير أن يثني رجله عليها، فصار كثير منهم لا يجترئ على الركوب ويمشي في الطريق وهو خائف على نفسه وأسلمت منهم جماعة كثيرة.

ذكر ما جرى في بلاد الشمال

وفيها: قصد الأمراء عزل الأمير شمس الدين سنقر الأعسر عن الوزارة، وذلك لكبره وشممه وزيادته عن الحدّ وعدم توقيره لمن يكون من جهة الأمراء حتى أنه مسك التاج بن سعد الدولة، وكان مستوفي الدولة وممن يلوذ بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وعراه وضربه بالمقارع ضرباً مؤلماً، فأسلم من حرارة الضرب وألزمه أن يشهد عليه بالإسلام، وبعد ذلك تحمل مال السلطان، فلما أطلقه دخل إلى زاوية الشيخ نصر والزم نفسه أن لا يخرج منها، وأرسل الشيخ نصر إلى بيبرس الجاشنكير أن يتحدث فيه ليعفى من المباشرة، ففعل ذلك واستمر عليه إلى أن وقفت الأمراء لبيرس وحسنوا له أن يطلب الأمير عز الدين أبيك البغدادي من نيابة الإسكندرية ويتولى الوزارة بالديار المصرية، عوضاً عن شمس الدين سنقر المذكور، وأجمع بيبرس مع الأمير سلاّر على ذلك وولوا أبيك المذكور الوزارة، ثم أتفق رأيهم أن يكون سمش الدين سنقر كاشف القلاع الشامية بأسرها، فينظر فيها ويصلح أمورها ويرتب الرجال وما تحتاج إليه من سائر الأصناف، فخلع عليه بذلك. وفيها: أعرس السلطان على بنت الأمير كرتيه، وكانت تعرف بالأشرفية، فكانت زوجة أخيه الملك الأشرف، فعمل على ذلك مهما عظيماً، وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف بخلع سنية. ذكر ما جرى في بلاد الشمال قد ذكرنا في العام الماضي ما وقع بين ولدي نوغيه، وهما جكا وتكا، وأن جكا استقر موضع أبيه، وكان عند استيلائه على المملكة قد أقام له نائباً يسمى طنغر من أكابر الأمراء، فلما أقدم على قتل أخيه تكا نفر عنه واتفق مع طاز بن منجك - وهو صهر نوغيه زوج ابنته طغلجا - على التوجه للإغارة على بلاد أولاق والروس، فسارا بمضافيهما، ولما خلا أحدهما بالآخر تحادثا وتفاوضا في أمر جكا وجرأته وسوء سيرته وقالا: إذا كان هذا لم يبق على أخيه، فكيف يبقي علينا؟، واتفقا على أن يعودا إليه ويقبضا عليه، فعادا نحو مقامه، فشعر واحد من عسكرهما أنهما اتفقا على إعدامه، فركب وساق مسرعاً، وأعلمه بالحال تنصحا، فلما تيقن أنهما قد دهماه ركب من ساعته في مائة وخمسين فارساً من جماعته ودخل بلاد آص، وكان بها مقدم وتمان من عسكره، فآوى إليهم وأقام بينهم. وحضر طنغر نائبه وطاز صهره إلى بيوته، فنهبوها واستولوا عليها، ووجدوه قد فاتهما. ولما أقام جكا ببلاد آص وتحقق عسكره أنه حي موجود باق تسلّل إليه كثير منهم، فكثرت بهم عدّته وعاد لحرب طنغر وطاز، والتقى الجمعان، فاستظهر عليهم وكسرهم، وفرق شملهم، وسبى وغنم ما شاء، واسترد بيوته وغنائمه منهم. ولقد حكى من شهد الواقعة أن أخته طلغجا - بنت أبيه نوغيه - ركبت الخيول وقابلته مع الفحول، فلما انكسر زوجها ومن معه كاتبوا طقطا يستمدونه ويلتمسون أنجادهم بعسكر يقاتلون به جكا ويعاودونه، فأمدَهم بجيش صحبة أخيه برلك بن منكوتمر، فلما جاءهم المدد من عند طقطا دعوا نزال وعادوا إلى القتال، فلم يكن لجكا بهم قبل، فهرب ولحق ببلاد أولاق، وكان ملكها والحاكم عليها متزوجاً إحدى أقاربه، فتطلع إلى حصنه معتقداً أنه يمتنع عنده، فقال لذلك أصحابه: هذا الوارد إليك هو عدو لطقطا، وهو مجدّ في طلبه، ومتى علم بمقامه عندنا سار إلى نحونا وأهلكنا، والصواب تعويقه وإعلامه بأمره، فقبض عليه وعوقه في قلعته، واسمها ترنو، وطالع طقطا بأمره، فأمره بقتله، فقتل في هذه السنة. وخلت مملكة طقطا ممن يناوئه، وبلغ من إبادة أعاديه أمانيه، ولم يبق من أولاد نوغيه إلا أصغرهم المسمى طرنه، ورتب ينجى بن قرمشي موضع أباجي أخيه، وجهز تكل بغا ويربصار ولديه إلى بلاد نوغيه، فأما تكل بغا فإنه استقر في طقجى ونهرطنا وما يلي باب الحديد، وهي منازل نوغيه، وأقام ايربصار بنهر بيق، وتكملت بلاد الشمال للملك طقطا. ذكر ما جرى في بلاد الغرب من الحوادث فيها

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومن الحوادث فيها أن جزيرة جربة كانت قد خرجت عن أيدي المسلمين، كما ذكرناه في سنة ثمانين وستمائة، وأقامت بيد المزاليا نائب الإفرنسي بصقلية يجبى إليه خراجها كل عام، فهلك في هذه السنة، أعني سنة سبعمائة، فاغتنم أهلها الفرصة بهلاكه فأرسلوا إلى صاحب تونس يعلمونه بذلك ويستنجدونه، فجهز إليهم ابن عمه أبا زكريا يحيى وجهز معه تقدير عشرين قطعة من المراكب، وثلاثة آلاف فارس، وعشرة آلاف راجل، فتوجه إليها ونزل عليها، وبلغ ذلك ولد المزاليا صاحب صقلية، فتجهز في طواعيته، وجاءهم بجماعته، فلما أقبلت شوانية خرجت شواني تونس عنها، وأقلعت منها، وعاد أبو زكريا اللحياني ولم ينل مراماً ولا شفى أواما، فدخلها ابن المزاليا وتملكها وأمن أهلها، وأقام بها إلى سنة ست وسبعمائة، والله وأعلم. وفيها: كان وفاء النيل المبارك على سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبع، وكانت السنة من السنين المقبلة على الناس من كثرة الغلال ورخص الأسعار. وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وصنع لفقراء الحرمين معروفاً، وفرق من الأموال ألوفاً، قيل: إنه قد فرق من ماله خمسة وثمانين ألف دينار مصرية. وقال صاحب أن الأمير بكتمر هذا جهز سبعة مراكب قمحاً وشعيراً ودقيقاً وسكراً، وزيتاً وحلواء وقاووتاً سوى ما حمله معه على الجمال، وعند وصوله إلى ينبع قد وجد ثلاث مراكب قد وصلت قبله بيومين، فأخرج جميع ما فيها وجعل كل صنف من الأصناف المذكورة كوماً بمفرده، وأمر منادياً ينادي في الركب أن أي من كان محتاجاً إلى مؤنة أو حلواء أو شيئاً من ذلك، فليحضر إلى خيمة الأمير، فحضرت الناس وفرق عليهم، ثم فرق على الأمراء والجند من الحجاج وعلى أرباب البيوت كذلك، وما فضل من ذلك فرق على أهل ينبع، وعند الرحيل بقيت بقايا من الدقيق والشعير. ولم يحج أحد في هذه السنة من الشام، والذي حج راح إلى غزة ولحق بالمصريين عند عقبة أيلا. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الصالح حسن الكردي المقيم بالشاغور في بستان يأكل من غلته، ويطعم من ورد عليه، وكان يزار، وكانت له كرامات وأحوال، ولما احتضر اغتسل وأخذ من شعره، واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي يوم الإثنين الرابع من جمادى الأولى منها وقد جاوز المائة، وصلى عليه بجامع جراح، ودفن بمقابر باب الصغير. الشيخ يعقوب بن محمد بن حسن الزرزاري الكردي العدوي، توفي في هذه السنة. الشيخ الإمام العالم العلامة محمود بن أبى بكر بن أبي العلاء الكلاباذي البخاري الفرضي، الملقب شمس الدين، أحد السادات الحنفية. له المصنفات الفائقة في الفرائض وغيرها، وكان محدثاً متقناً فاضلاً، حسن الأخلاق، سمع ببخاري وقدم بغداد، فأقام بها يسمع وصنف وكتب، ثم رحل إلى دمشق والقاهرة وسمع بها من أصحاب ابن طبرزد والكندي، وحدث. قال الذهبي: هو رأس في الفرائض، عارفاً بالحديث والرجال، جم الفضائل، مليح الكتابة، واسع الرحلة، سود كتاباً كبيراً في مشتبه النسب ونقلت منه كثيراً، وسمع منه الحافظ المزي وابن سيد الناس وغيرهما، ومولده ببخارى في مستهل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وستمائة. وفي تاريخ ابن كثير: توفي بدمشق في العشر الأول من ربيع الأول سنة سبعمائة. وذكر غيره: أنه مات بماردين. الشيخ الصالح المسند عز الدين أحمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن قدامة المقدمي. كان شيخا مباركاً كثير الصلاة والذكر، حسن الخلق، متودداً إلى الناس، سمع جماعة، وحدث بجميع مسموعاته، مات في هذه السنة بجبل الصالحية، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بقاسيون. الشيخ عماد الدين القصاص، الفقيه الأحمدي المزمزم. مات فيها بزاويته بميدان الحمصي، ودفن بمقابر الصغير، وكان فقيراً حسناً، مليح الشيبة، معروفاً ومشهوراً. الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي بكر عبد الرحمن بن عبد الله الكنجي. جاور بجامع بني أمية بدمشق أكثر من ستين سنة، وسمع من الزين خالد، والحرستاني، وابن عبد الدايم، وابن البرهان، وكان من الصلحاء الأخبار، كثير الذكر والعبادة، مات في هذه السنة، وكان قد بلغ تسعين سنة، ودفن بمقابر باب الصغير. الشيخ يوسف بن أحمد بن أبي بكر الغسولي الصالحي الحجار.

كان قد انفرد بالراوية عن موسى بن الشيخ عبد القادر وبأشياء، ومولده في سنة اثنتي عشرة وستمائة، ومات في هذه السنة. الشيخ الصالح عبد الله، المعروف بالفانولة. كان من عقلاء المجانين، وله كرامات ومكاشفات وكان على حاله مسفة من خشونة العيش، مات بمسجد الرفاعة العتيقة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون بتربة المولهين. الشيخ عمار المشرقي الموله. كانت له كرامات ومكاشفات، وكان يعلق في رقبته عظام الجمال، مات في هذه السنة. الشيخ الكبير المعمر شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيز الجزري الكتبي، المعروف بالفاشوشة، ويعرف أيضاً بابن سمعون. كان مشهوراً بالكتب ومعرفيها والتجارة فيها، وكانت عنده فضيلة تامة، ومذاكرة حسنة، ومروءة كثيرة، وكرم نفس، كثير السعي في حوائج أصحابه. وعلى ذهنه قطعة جيدة من التاريخ وأيام الناس وماجراياتهم. وله نظم حسن، فمنه قوله: وما ذكرتكم إلا وضعت يدي ... على حشاشة قلب قل مابردا وما تذكرت أياماً بكم سلفت ... إلا تحدر من عيني ما بردا وله مخمس: ولما وقفنا بالقوير وعينه ... من الربع قد بانوا وبان قرينه وقد كاد من حزن تدك حرونه ... بكيت على الوادي ففاضت عيونه ونحت على النادي فمالت غصونه زماناً تذكرت الحمى وأحبتي ... ولذة عيش معهم لي تولت سقيت رياه من سحائب مقلتي ... وأحرقت بان الجروع من حر رذى فأسهله مسوده وحزونه وكيف يطيق الغمض أو يعرف الكرى ... محب جرى من جفن عينيه ما جرى ويؤلمه مس النسيم إذا سرى ... وإني امرء أضحى من السقم لا يرى ولا يعرفون الناس إلا أنينه سألتكم بالله يا ساكني قبا ... صلوا مغرما أمسى حزيناً معذبا سوى حبكم لم يتخذ قط مذهبا ... يحن اشتياقاً كلما هبت الصبا وتبكيه شجواً سرب سلع وعينه له مهجة ذاب بطول عنائها ... وأجفانه قد فرجت من دمائها رحلتم فأضحى ذاهب العقل تائها ... وما جادت السحب العوادي بمائها سل الذي جادت عليكم جفونه لقد شمتت من بعد بعدكم العدا ... وقد بان يوم البين طرفي مسهدا فرقوا الصب بالسقام قد ارتدى ... تهيجه نوح الحمام إذا شدى ويعلقه وجدانه وحنينه غدا يوم وشك البين في زي حابر ... يسائل عنكم كل عاد سائر حكمتم عليه في الهوى حكم جائر ... ولولاكم ماهاجه نوح طاير ولافاض من أجل الظبا عيونه ألا أيها الحادي المحث لركبه ... إذا جزت في وادي الأواك وكثبه فقل للظبا الراتعات بسربه ... لكل محب فن وجد يحبه وصبكم فيكم كثير فنونه مات بدمشق في التاسع عشر من رجب منها، ودفن بسفح قاسيون، ومولده سنة اثنتين وستمائة بالجزيرة العمرية. الشيخ أبو جلنك أحمد بن أبي بكر الحلبي، الشاعر المشهور. كان بقلعة حلب أيام وصول التتار إليها، فنزل هو وجماعة للكشف والإغارة على التتار، فوقعت نشابة في فرسه فمات وبقى راجلاً فأسروه وأحضروه بين يدي المقدم، فسأله عن عسكر المسلمين فكثرهم ورفع شأنهم، فأمر بقتله، فقتل. ومن نظمه قوله: أتى العذار بماذا أنت معتذر ... وأنت كالوجد لا تبقى ولا تذر لا عذر يقبل إذ نم العذار ولا ... ينجيك من شره خوف ولا حذر كأنني بوحوش الشعر قد أنست ... بوجنتيك وبالعشاق قد نفروا وكلما مر بي مرد أقول لهم ... قفوا انظروا وجه هذا الحر واعتبروا هذا الذي قد سرت يا صاحبي له ... بقبح سيرته بين الورى سير قد كان شكلاً نقى الخد معتدلا ... كأنه غصن بان فوقه قمر ذا حمرة وبياض فوق وجنته ... لها اجتماع بطرف زانه الحور وحكمه نافد في عاشقيه فلا ... يخالفون له أمراً إذا أمروا

السنة الحادية بعد السبعمائة

فعاد لحيان فانفل الجماعة إذ ... رأوا طريقاً إلى السلوان وانتصروا وعاد في قبضتهم لا شكر جودلة ... الأفراح والدمع من عينيه منهمر يبكي على ما مضى من حسنه اسفا ... وعسكر الشعر من خديه معتكر لا يستطيع له رداً وكم حرصوا ... برد ذلك أقوام فما قدروا فهذه الموتة الأولى تجرعها ... فصار أولى من الدنيا به الحفر فاقرأ على نعشه آخر سبأ فلقد ... جاءت بما يقتضي أحواله السور إذ كان حاجبه نوناً وناظره صاداً ... وعشاقه من حوله زمر إذا رأى عاشقاً في النازعات غدا ... ما بعدها وهو قد أودى به الضرر فعاد والليل يغشى نور طلعته ... وزال عن عاشقيه الهم والحصر هذا جزاؤك يا من لا وفاء له ... والعاشقون لهم طوبى بما صبروا وله: جعلتك المقصد الأقصى وموطنك ال ... بيت المقدّس من روحي وجثماني وقلبك الصخرة الصّماء حين قست ... قامت قيامة أشواقي وأشجاني أما إذا كنت ترضى أن تقاطعني ... وأن يزورك ذا زور وبهتان فلا تغرك نار في حشاي فمن ... وادي جهنم تجري عين سلوان ولآخر ألطف من هذا: أيا قدس حسن قلبه الصخرة التي ... قست فهي لا ترثي لصبّ متيم ويا سولي الأقصى عيني باب رحمة ... ففي كبد المشتاق وادي جهنم ولأبي جلنك المذكور في مليح يصفع عاشقه: وشادن يصفع مغرى به ... براحة أندى من الوابل فصحت في الناس: ألا فاعجبوا ... بحر غدا يلطم في الساحل الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، الذي كان نائب الشام في الأيام الظاهرية. مات برباطه بالجبل ودفن به، وكان رجلاً كبير القدر، شجاعاً مقداماً، كريم النفس، وكانت له جماعة من المماليك أمراء، فمن جملتهم الأعسر وأيدمر النقيب وآخرون. الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء الهمداني الإربلي متولي دمشق. كانت لديه فضائل كثيرة في التاريخ والشعر، وربما جمع شيئاً من ذلك، قيل: جمع مجلداً ابتدأ فيه من النبي عليه السلام إلى وقعة قازان، وكان يسكن درب سعود فعرف به، فيقال: درب بن أبي الهيجاء. وقال ابن كثير: وهو أول منزل نزلناه حتى قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة. وكانت وفاة ابن أبي الهيجاء في طريق مصر بالسّوادة، ونقل إلى جبل قاسيون، فدفن به، ومولده سنة عشرين وستمائة بإربل، ومات وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة، حسن المحاضرة. الأمير جمال الدين أفوش الشريفي، وإلى الولاة بالبلاد القبلية. وتولى نيابة الصلت أيضا، توفي في شوال منها، وكانت له هيبةً وسطوةً. الأمير الكبير سيف الدين بلبان السلحدار المنصوري، معروف بالطباخي. مات بالعسكر على الساحل وهو البيكار الذي خرج فيه السلطان إلى جهة الشام، ودفن عند قبر بنيامين بن يعقوب عليه السلام، فورثه الملك الناصر بالولاء وصارت إليه أمواله ومماليكه، وكان من أعيان الأمراء وشجعانهم، وأكثرهم مماليك وأصحاب، وليّ نيابة السلطنة بحلب مدة، وكانت سيرته في ولايته حميدة، وكان قليل الأذى، كان إذا غضب على أحد يكون عقوبته البعد عنه من غير ضرب ولا مصادرة. وفي النزهة: كان بلبان هذا اشتراه الحاج إبراهيم أخو جاشنكير الملك المنصور، فرباه وهو صغير، وكان يدخل مع أستاذه يحمل سرموحته عند قلاون وهو أمير، فرآه فطلبه منه وأخذه، وعوضه عن ثمنه ثلاثة آلاف درهم، واستمر عنده إلى أن تسلطن قلاون وكان من أمره ما كان. الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي المحدث. اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان رجلاً جيداً، مباركاً صالحاً، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين، مات في هذه السنة، رحمه الله. فصل في ما وقع من الحوادث في السنة الحادية بعد السبعمائة استهلّت هذه السنة: والسلطان هو: الملك الناصر، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي، ونوّاب البلاد والقضاة وهم المذكورون قبلها. ذكر جواب السلطان عن كتاب قازان

ذكر نسخة الكتاب

قد ذكرنا كتاب قازان إلى الملك الناصر في السنة الماضية، وذكرنا نسخته. وفي أول هذه السنة حصل الإهتمام بإعادة جواب كتاب قازان وإرسال الرسل إليه، فجهز إليه الأمير حسام الدين أزدمر المجيري أحد الأمراء، والقاضي عماد الدين بن السكري من أعيان القضاة والكبراء، وكتب الجواب على يدهما وأنشأ الكتاب وكتبه القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن عبد الظاهر. ذكر نسخة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم: بقوة الله وميامين الملة المحمدية. أما بعد حمد الله الذي جعلنا من السابقين الأولين الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين بإحسان إلى يوم الدين، والصلاة على سيدنا محمد، والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان في كتابه المكنون. فقال سبحانه وتعالى: " والسابقون السابقون، أولئك المقربون ". بإقبال دولة السلطان الملك الناصر. كلام محمد بن قلاون. فليعلم السلطان المعظم محمود غازان أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام، ورعينا له حق القصد فتلقيناه منا بسلام، وتأملناه تأمل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه، فألفيناه قد تضمن مؤاخذة بأمور، هم بالمؤاخذة عليها أحرى، معتذراً في التعدي بما جعله ذنوباً لبعض طالب بها الكل، والله يقول: " ولا تزر وزرة وزر أخرى ". أما حديث من أغار على ماردين فمن رجّالة بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من الإقدام على الأمور البديعة، والأحوال الشنيعة. وقولهم إنهم أنفوا من تهجّمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحمية ركوبهم في مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التي أقاموها عذراً في العدوان، وجعلوها سبباً إلى ما ارتكبوه من طغيان فالجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنة والموادعة ما يكف يدها المتدة ولا يغير هممها مستعدة، وقد كان آباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والنفاق، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق، ولم يزل ملك ماردين ورعاياه منفذين ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد، عنهم متوليّين، كبر مكرهم، والله تعالى يقول: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم ". ومن حيث جعلتم هذا جنباً موجباً للحمية الجاهلية، وحاملاً على الانتصار الذي زعمتم أن هممكم به مليّة، فقد كان هذا القصد الذي ادعيتموه يتم بالإنتقام من أهل تلك الأطراف التي أوجب ذلك فعلها والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار، اتباعاً لقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها " لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفقة على اختلاف الأديان، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهك حرمة البيت المقدس الذي هو ثاني بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن احتججتم بأن زمام تلك الغارة بيدنا، وسبب تعدّيهم من سببنا، فقد أوضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة أوجب سلوك هذه المسالك. وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين، واقتفاء آثار المتقدمين في إنفاذ الرسل أولاً، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة، والجواب عن ذلك أنهم ما وصلوا إلاّ وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام عن السهام، وشارف القوم القوم، ولم يبق للقاء إلاّ يوم أو بعض يوم، وأشرعت الأسنة على الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأي العين، ولا نحن ممن لاحت له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولها، ولا ممن يسالم فيقابل ذلك بجفوة النفار والله تعالى يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ". كيف والكتاب بعنوانه، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أضمر الإنسان شيئاً إلاّ أظهره الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه. ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة في أغمادها، والأسنة مستكنةٌ في أعوادها، والسهام غير مفوقة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم. وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم، وأبدوه من غليظ كلمهم في قولهم: فصبرنا على تماديكم في غيّكم، وإخلادكم إلى بغيكم، فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة، قبل إرسال رسل المصالحة، وجاس خلال الديار، قبل ما زعمه من الإنذار والإعذار، وإذا فكروا في هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا الغدر في تأخير الجواب، وما يتذكر إلاّ أولوا الألباب.

وأما ما يتحججوا به مما اعتقدوه من نصرة، وظنوا من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب في كل كرة الكرّة، فلو تأملوا ما ظنّوه ربحاً لوجدوه هو الخسران المبين ولو أمعنوا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين، ولتحققوا أن الذي اتفق لهم كان غرماً لا غنماً، وتدبّروا معنى قوله تعالى: " انما نملي لهم ليزدادوا إثماً ". ولم يخف عنهم ما أبلته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللقاء لما ظهر خبر عنهم، فإنا كنا في مفتتح ملكنا، ومبتدي أمرنا حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد، فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا نقدّ أديم الأرض سيراً وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضرراً وضيراً ونؤدي من الجهاد السنة والفرض، ونعمل بقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة ردمن ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ". فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقاً بقوله تعالى: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة "، وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية التي كم وطئت موطئاً يغيظ الكفار، فكتب لها به عمل صالح، وسارت في سبيل الله يفتح الله عليها أبواب المناجح، وتعدّدت أيام نصرتها التي لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم أن تنكروها، وفي تعب من يجحد ضوء الشمس، وما زال الله لها نعم المولى ونعم النصير، وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ النصرة: " ولا ينبئك مثل خبير ". وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله فلا فخر فيها للغالب ولا عار على المغلوب، وكم من ملك أُستظهر عليه ثم نُصر، وعادوه التأييد فجبره بعدما كُسر، خصوصاً ملوك هذا الدين، فإن الله تكفّل لهم بحسن العقبى فقال سبحانه: " والعاقبة للمتقين ". وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، كوننا لم نسّير إليهم رسولاً عند حلولنا بدمشق، فنحن عندما وصلنا إلى الديار المصرية لم نُزد على أن اعتددنا وجمعنا جيوشنا من كل مكان، وبذلنا في الإستعداد غاية الجهد والإمكان، وأنفقنا جزيل الأموال في جمع العساكر والجحافل، ووثقنا بحسن الحلف لقوله تعالى " مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل ". ولما خرجنا من الديار المصرية بلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، فتوقفنا عن المسير توقف من أغنى رغبة عن حث الركاب، وتلبثنا تلبث الراسيات، " وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مرّ السحاب " وبعثنا طائفة من العساكر لمقابلة من أقام بالبلاد، فما لاح لهم منهم بارق ولا ظهر، وتقدمت فلحقت من حمله على التأخير الغرر، ووصلت الفرات فما وقعت للقوم على أثر. وأما قولهم إنا ألفينا في قلوب العساكر والعوام أنهم فيما بعد يلتقوننا على حلب أو الفرات. وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين وصولنا، فالجواب على ذلك أنه حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة على كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل معترض ومسلّم، طائعين لله ولرسوله في أداء فرض الجهاد، باذلين في القتال بما أمرنا الله غاية الاجتهاد، لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمتابعته، ومن والاه فقد حفظه الله وتولاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية تقدمت عساكرنا تملأ السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله في النصر الرجاء والأمل، ووصلت أوائلها إلى أطراف بلاد حماة وتلك النواحي، فلم يقدم أحد عليها، ولا جسر أن يمد حتى ولا الطرف إليها، فلم نزل مقيمين حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد، فعدنا لاستعداد جيوشنا التي لم تزل تندفع في طاعة الله تعالى اندفاع السيل، عاملين بقول الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".

وأما ما جعلوه عذراً في الإقامة بأطراف البلاد وعدم الإقدام عليها، وأنهم لو فعلوا ذلك ودخلوا بجيوشهم ربما أفسد البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، فقد فهم هذا المقصود، ومتى ألفت البلاد والعباد منهم هذا الإشفاق؟، ومتى اتصفت جيوشهم بهذه الأخلاق؟، وها آثارهم موجودة، ودعاوى خلافها بمشاهدة الحال مردودة، وهل هذا اعتماد من رمق شخص الإسلام بإنسانه؟، كيف ورسول الله عليه السلام يقول: " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه "، وأسارى المسلمين عندهم في أشدّ وثاق، في يد الأرمن والتكفور منهم يخالف ما أدعوه من الإشفاق. وقد كان المسلمون غزوا عسكر أبغا وقتلوا من قتلوا من التتار، وحصل لهم التمكن في البلاد والاستظهار. واستولوا على ملك آل سلجوق ولا تعرضوا لدار ولا جار، ولا عفوا أثراً من الآثار، ولا حصل لمسلم منهم ضرر، ولا أوذي في ورد ولا صدر، وكان أحدهم يشتري قوته بدرهمه وديناره، ويأبى أن يمتد إلى أحد المسلمين يد أضراره، هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام. وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا فيه عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه من الاهتمام بجمع العساكر، وتهيئة المجانيق إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ". وأما قولهم وإلا فدماء المسلمين مطلولة، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن لا يصدر عن ذلك جواب، ومن قصده الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول الذي عليه فيه من جهة الله وجهة رسوله أي جناح؟ وكيف يضمر هذه النية، وينجح بهذه الطوية، ولم يخف مواقع هذا القول وخلله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " نية المرء أبلغ من عمله ". وبأي طريق تهدر دماء المسلمين التي من تعرض إليها يكون الله له في الدنيا والآخرة مُطالباً وغريماً، ومؤاخذاً بقوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً ". وإذا كان الأمر كذلك فالبشرى لأهل الإسلام بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الإستعداد وجمع العساكر التي يكون لها الملائكة الكرام إن شاء الله تعالى من الإمداد، والإستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العُدد، المتكاثرة المدد، المدعوة بالنصر الذي يحفها في الظعن والإقامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة "، المبلغة في دين الله آمالاً، المستعدة لإجابة داعي الله إذ قال: " انفروا خفافاً وثقالاً ". وأما رسلهم وهم فلان وفلان فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، فأكرمنا وفادتهم، وعززنا لأجل مُرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم، هذا مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم، وأنهم ما دُفعوا لأفواه الخطوب، إلا لما ارتكبوه من ذنوب، وما كان ينبغي أن يُرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله، ولا يُندب لهذا المهم إلا من يُجمع على فصل خطابه وفضله. وأما ما التمسوه من الهدايا والتحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة لعوضناهم بأحسن منها، ولو أتحفونا بتحفة لقابلناها بأجل عوض عنها، وقد كان عمه الملك أحمد راسل والدنا السلطان الشهيد، وناجاه بالهدايا والتحف من مكان بعيد، وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.

ذكر ما جرى للأمير حسام الدين المجيري مع قازان

والآن فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الآنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم جنحنا لها، وإذا دخل في الملة المحمدية ممتثلاً ما أمر الله به مجتنباً ما عنه نهى، وانضم في سلك الإيمان، وتمسك بموجباته تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنّان، وتجنب التشبه بمن قال الله في حقهم: " قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان "، وطابق فعله قوله، ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولاً من جهته يرتل آيات الصلح ترتيلاً، ويروق جوابه وخطابه حتى يتلو كل أحد: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. صارت حجتنا وحجة المركبة على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك في سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب الكافرين هوانا، والمُشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ". وينتظم إن شاء الله شمل الصلح أحسن انتظام، ويحصل التمسك من الموادعة والمُصافاة بعروة لا انفصال لها ولا انفصام، وتستقر قواعد الصلح على ما يُرضي الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام. قال صاحب النزهة: وختم الكتاب وأرسل على يد الرسل الذين ذكرناهم من جهة السلطان صحبة الرسل الواردين من جهة قازان في العشرين من المحرم من هذه السنة. ذكر ما جرى للأمير حسام الدين المجيري مع قازان قال القاضي جمال الدين بن الكرم في تاريخه: قال المجيري لما حضرت بين يدي قازان أوقفني بعيداً منه وسألني عن أمور كثيرة وتحدث مع الحجاب، فكان أول كلامه لي: ما اسمك؟ قلت: أُزدمر. قال: لا أنتم تتسمون بأسماء ثلاثة، قلت: نعم. قال: وما هي أسماؤك أنت؟ قلت: حسام الدين أزدمر المجيري. قال: وما معنى المجيري؟ قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، نحن يشترينا التجار ونحن صغار، ثم يجلبوننا إلى البلاد، يُنسب كل منا إلى اسم تاجره أو لقبه، وكان اسم أستاذي الذي اشتراني مجير الدين. فقالوا لي: المجيري. قال: صدقت، ثم قال: ما جنسك؟ فقلت: تركي. قال: من أيّ الترك؟ قلت: من قفجاق. قال: صدقت. قال المجيري: لما سألني قازان عن أشياء كثيرة، فجاوبته عنها، وعرف مني الصدق في القول، قربني إليه، ثم سألني عن أشياء أخرى منها: أنه قال لي: ما محلك عند السلطان - يعني الملك الناصر -؟ قلت: جندي. قال: جندي؟ قلت: نعم. قال: فنظر إلي وأطال نظره، ثم قال: مثل ملك مصر يُرسل إلي مثلي جندياً. قلت: نعم. قال: ما أنت أمير؟ قلت: نعم. قال: على بابك طبلخاناة. قلت: نعم. قال: فكيف تقول: أنا جندي. قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان إنما الأمير هو جندي السلطان، والجندي هو جندي الأمير وكلنا جند الله، ثم قال لي: أنت مملوك هذا السلطان وشراء ماله. قلت: مملوكه ومملوك أبيه وأخيه، وهو الذي أحسن لي وأنشأني وعمل معي خيراً، وعمل على بابي طبلخاناة، وإنما أنا مملوك الملك الظاهر البندقداري، ثم قال لي: كم رأيت مصافاً؟ قلت: في نفسي ما للسكوت محل، فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، إني كنت مع جدك هلاون نوبة تمرقابو، قال: لما سمع هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض، ثم التفت إلى شيخ من التركمان إلى جانبه وتحدث معه، ثم قال: كيف هربتم منا؟ فقبلت الأرض وقلت: عسكراً كثيراً لهم سنون يهربون منا، ونحن هربنا منكم مرة واحدة، وما كان هروبنا منكم خوفاً من كثرتكم ولكن احتقاراً بكم. قال الملك: كيف ذلك؟ قلت: يحفظ الله القان، نحن كسرنا التتر مرات عديدة مدة سنين من أيام جدك هلاون حتى صار ملتقاهم علينا أهون ما يكون، وإن عساكر مولانا السلطان الملك الناصر عساكر كثيرة وخلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وإن لنا أعداء كثيرة من سائر الأقاليم، ولنا إقليم يُعرف ببلاد قوص، وهي تجاور بلاد السودان، تركنا فيها عشرة آلاف فارس، وتركنا أيضاً بإقليم يُعرف ببلاد دمياط مجاورة لأقاليم الإفرنج عشرة آلاف فارس، وكل هذا مع قلة اهتمامنا بالتتر، وكانت سعادة القان كبيرة، وكان في ذلك في الكتاب مسطوراً.

ذكر عصيان عربان الوجه القبلي

قال المجيري: وكل هذا جرى بيني وبينه ولم يكن بيننا غير حاجب واحد وهو يسمع كلامي مشافهة، ولم يحصل لي منه حرج إلا في كلام واحد. قال: ثم سألني قازان فقال: كيف يترك أمراؤكم الرجال ويستخدمون الشباب، وأراد بذلك المُردان. قال المجيري: فعلمت أنه يريد أذاي، فجاوبته بجواب أسخطه عليّ، فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، إن أمراءنا ما كانوا يعرفون شيئاً من ذلك، وإنما هذا استجدّ في بلادنا لما جاء إلينا طرغاي، فإنه لما ورد كان معه شباب من أولاد التتر، فاشتغل الأمراء بهم عن النساء. قال المجيري: لما سمع قازان مني هذا الجواب أطرق إلى الأرض وعظم عليه كلامي، والتفت إلى جماعة من أعيان التتر، فتحدث معهم بلسان التتر، وأنا واقف بين يديه، ثم التفت إلى القاضي عماد الدين بن السكري فقال: يا قاضي تشهد على صاحبك بما قال؟. قال: نعم، والله منذ حضرنا بين يديه إلى حين خروجنا من عنده لم يتحدث مع القاضي عماد الدين غير هذا الكلام. قال المجيري: ثم سألني قازان على لسان حاجبه ما تقول في نسائنا ونسائكم؟ فقبلت الأرض وقلت: أيدّ الله الملك، إنه ملك عظيم، فيقبح أن نذكر النساء في مثل هذا المجلس، إن نساءنا يستحين من الله ومن الناس، فيسترن وجوههن وأما نساؤكم فأنتم أخبر بحالهن. قال: فأطرق قازان رأسه إلى الأرض زماناً، ثم أمر حاجبه أن يحطونا في لفة منجنيق ويرمونها. قال: فلما خرجنا من عنده توضأ للموت، وقام القاضي عماد الدين ليتوضأ وهو يرتعد وتطقطق أسنانه، فتبسمت، فالتفت إلي وقال: يا حسام الدين هذا وقت الضحك. قلت له: يا قاضي لا تخف فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. قال المجيري: كان قازان سألني قبل أن أخرج من بين يديه كم يكون في عسكركم مثلك تركي؟ قلت: عشرون ألف من الفرسان، فالتفت الملك غازان إلى أمير علي بن بركنجان - وكان بعيداً منه - فأشار إليه، فدنا منه وقال: ما تقول في حسام الدين؟ أصحيح ما يقوله أم لا؟ قال: والله يا خوند ما قال صحيحاً. وحق رأس القان ما في عسكر مصر مثله خمسة أنفس. قال: فالتفت نحوي وقال: يا حسام الدين تسمع ما قال ابن بركنجان. قلت: وما يقول أيدّك الله؟ قال: يقول إنك ما قلت الصحيح. قال المجيري: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان هو والله ما قال الصحيح، وهو من جملة الذين ما رضى بهم السلطان أن يستخدمهم في عسكر مصر وأعطاه أربعة آلاف درهم في حلب، ولو وجد في مصر أربعة آلاف ما هرب وجاء إليكم، فالتفت قازان إلى ابن بركنجان فقال له: أنت من عسكر الشام، فأطرق، فقال قازان: أنت لما جئت إلينا ما قلت أنا من عسكر مصر. قال المجيري: قلت وحق رأس القان هو أقل من في عسكر الشام. قال: ثم لما خرجنا من بين يدي قازان على أنهم يحطونا في المنجنيق إذا بمرسوم ثانٍ أتى بأن يحبسونا في مدرسة هناك ولا يمكنوا أحداً من العبور إلينا لا المهمندار ولا غيره من الناس ممن نعرف وممن لا نعرف. قال: فعلمنا عند ذلك أنه غضبان علينا، وسنذكر ما جرى عليهم بعد ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر عصيان عربان الوجه القبليّ

قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة كثرت شكوى الولاة الذين بالوجه القبلي من فساد العربان، وما ظهر منهم من العصيان والنفاق والعدوان، وأنهم لم يزدجروا بالجباية التي أخذت منهم في السنة الماضية، ولم يسيروا مع الرعية والجند السيرة الراضية، بل منعوا الحقوق واعتمدوا العقوق، وقطع أراذلهم الطريق، وهاشوا على الأجناد، وثاروا في البلاد، وأكثروا من الفساد، فسار الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين أستاذ الدار كفيلا المماليك ومشيراها وممهدا الدولة ومدّبراها إلى الأعمال المذكورة في جموع من العساكر المنصورة، وفرقا العساكر ثلاثة فرق ليحيطوا بهم براً وبحراً، ويأخذوهم حيث حلوا سهلاً ووعراً، فتوجهت فرقة من البر الغربي، وفرقة من الحاجر، وفرقة من البر الشرقي، وضربوا على البلاد حلقة كحلقة الصيد، فبقي العربان جميعاً في حلقتهم، وحصلوا في قبضتهم، فما أفلت منهم أحد من ربقتهم، وأخذوهم بنواصيهم وأقدامهم، وجاءوهم من خلفهم وقدامهم، وأذاقوهم الوبال، ونكلوا بهم كل النكال، وأبادوا مفسديهم، وأهلكوا معتديهم، ومزقوهم تمزيقاً، وفرقوهم بيد الحتوف تفريقاً، وأوثقوا مشايخهم بالقيود، وملأوا من رهائنهم السجون، وأخذوا ما كان لهم من خيل وإبل وبقر وغنم، ومنعوا أن يركب أحد من العربان فرساً أو يحمل سلاحاً، فانطفأت جمراتهم، وزالت مضراتهم، وتمهدت تلك الأعمال تمهيداً واضحاً، وعاد من سلم من مفسدي العرب فقيراً صالحاً، وحمل أكثرهم السواك والسبحة، عوضاً عن حمل الرماح والأسلحة، وكان الذي أُخذ من موجودهم وسيق من خيولهم خمسة آلاف فرس، وعشرون ألف جمل، ومائة ألف رأس غنم، سوى الأبقار والأتن والأغنام، وتركوهم على الديار، وعادوا في أواخر شعبان وقد فرغوا من أمر العربان وتمهيد البلدان، فخلع عليهم السلطان. وقال صاحب النزهة: وفيها كثر فساد العرب بالوجه القبلي، وقطعوا الطريق، وأوغلوا إلى أن كانوا يدخلون مدينة أسيوط ومنفلوط ويقتسمون تجارها، ويأخذون من كل واحد مبلغاً على زي الجالية، وتسمى كل واحد منهم باسم أمير من أمراء البرجية، وأمروا من بينهم كبيرين، فسموا أحدهما بيبرس والآخر سلار، ومنعوا حقوق الجند والأمراء من المغل، وكانوا يهجمون على السجون ويخرجون منها المفسدين. ثم اتفق الأمراء على الخروج إليهم، وطلبوا ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي الجيزة، وقالوا له أن يمنع سائر المسافرين في البر والبحر، وأي من خرج من مصر شنق، وأشاعوا بالتجهيز إلى الشام، وكتبوا الأوراق بأسماء المقدمين، كل مقدم بمضافيه من الأمراء والأجناد، فكانوا أربعة وعشرين مقدماً بمضافيها، وافترقوا أربع فرق: فرقة في البر الغربي، وفرقة في البر الشرقي، وفرقة في البحر بالحراريق، وفرقة في الطريق السالك، واتفقوا أن يضعوا السيف في الكبير والصغير والرضيع، والحقير والجليل، ولا يرحموا شيخاً ولا صبياً، ولا يبقوا على أحد من الذين يظفرون به، ولا يقع لهم في قلبهم رحمة.

ذكر قضية الفتح أحمد بن البققي

وكان سفرهم من مصر في نصف ربيع الآخر، ورسم للأمير شمس الدين الأعسر أن يكون في جهة الواحات، وصحبته خمسة من الأمراء، وتفرقت عشرون من المقدمين الألوف بأمراء الطبلخانات، وتخلف مع السلطان أربع من المقدمين، وكان أول أمرهم من الجيزة وانتهوا في عمل قوص، واستقبلوا من وجدوه بسفك دمه، فمنهم من عف عن الحريم وعن الشيخ الكبير وعن الطفل، ومنهم من استحل الجميع، وكانوا إذا وجدوا رجلاً ويريدون مسكه فيقول الرجل حضري، فيقولون له قل: دقيق، فإذا قالها: دكيك يقتلونه، وإذا قال: دقيق يتركونه، وأخذل الله العرب إلى أن ضاقت عليهم المسالك، ورماهم الله في طريق المهالك، وما أحسوا بالعساكر إلا وقد دهموهم وأخذوا عليهم الطرقات، فأي موضع قصدوه وجدوا فيه طائفة من العساكر حتى إن الغلمان والجمالين يخرجونهم من الأماكن، أما الذين قصدوا جهة البحر فإن أكثرهم قتل بالنشاب والغرق، والذي سلم نفسه إليهم قتلوه، ولم يرفعوا عنهم السيف من الأعمال الجيزية إلى الأعمال القوصية من الشرق إلى الغرب حتى جافت سائر الطرق بالموتى، وأسروا منهم، فمن اختفوا بالفلاحة نحو ألف وستمائة نفر، وحصل للعسكر من الأموال والمواشي والخيل والسلاح ما لا يحصر، والذي فهم بالتقدير وأحيط به العلم من الغنم نحو ستة عشر ألف رأس، ومن الخيل نحو ألف وثمانمائة فرس، ومن الجمال نحو إثني عشر ألف رأس، ومن الأبقار من المعاصير وغيرها نحو ثمانية آلاف رأس، وما يعلم أحد ما حصل من الكسب للجمالين والغلمان، وبيع خروف سمين بثلاثة دراهم وما دونه، وبيع الماعز بدرهم وأقل من ذلك، والجزة الصوف المرعزي بنصف، والكساء بخمسة دراهم، والرطل من السمن بربع درهم، وكذلك الرطل من العسل. وكانوا يجدون مطامير القمح فلا يلتفت أحد إليها، ولا يجدون من يشتريها أو يحولها، وما رجعت العساكر من بلاد الصعيد إلا وقد تركوها كما قال الله تعالى: " قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ". وكان شخص يمشي في بلاد الصعيد بعد رجوع العسكر فلا يجد في طريقه أحداً، وإذا بات في بلد لا يجد من يحدثه فيه غير النساء أو الأطفال الصغار. ولما وصلوا إلى القاهرة عرضوا الرجال الذين أحضروهم على السلطان، فاقتضى رأيهم أن يصفحوا عنهم ليذهبوا إلى البلاد لحفظ الزراعات والسواقي وغيرهما. ذكر قضية الفتح أحمد بن البققي بتاريخ يوم الإثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول، قتل الفتح المذكور، وكان من أهل حماة، رمي بالزندقة، فمسك وسجن بالقاهرة ثم حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة المطهرة، واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضته المشابهات، وذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواطة وشرب الخمر لمن يجتمع بهم من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان لديه فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، ولبسة جيدة، ولما أوقف عند شباك الكاملية ببين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد وقال: ما تعرف مني؟ فقال: إنما أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضربت وطيف برأسه في البلد، هذا جزاء من طعن في الله ورسوله. وفي نزهة الناظر: وكان هذا الرجل من أهل حماة، وله اشتغال، وحفظ كتباً كثيرة، وكان ذكياً مفرطاً، وحفظ سائر كتب الفقه ودواوين الأشعار، وكان قليل الدين، سيء الاعتقاد، كثير الزندقة، وكان قد اشتغل بكتب المنطق والحكمة وهي التي أفسدت عليه نظامه، وكان له إدلال على القضاة وجرأة لسان من غير أن يهاب منهم. وقال صاحب النزهة: حكى لي الشيخ فتح الدين بن سيد الناس أنه دخل يوماً على قاضي القضاة الشيخ تقي الدين، فسلم عليه ووقف بين يديه وسأله مسألة، وقصد الشيخ أن يجيبه عنها، فولى ظهره وهو يقول: وقف الهوى، وقف الهوى، فأجابه الشيخ تتمة البيت، فلم يعبأ به، وتتمته: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملام على هواك يلذ لي ... حباً لذكرى فليلمني اللوم

قال: والتفت إلي الشيخ وقال لي: يا فتح الدين عقبى هذا الرجل إلى التلاف. قال: فوالله كان بين ذلك الكلام وقتله واحد وعشرون يوماً، فإنه صار يقع في حق القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي القضاة المالكية ويسبه، ويبلغه ذلك عنه، وبلغ من أمره إلى أن شهدت عليه عنده جماعة كثيرة ممن حضروه: أنه كان عزم على جماعة في بيته وأطعمهم طعاماً، وأنه قام إلى رف عنده في البيت يتناول منه شيئاً فقصرت يده عنه، فوضع الكتاب العزيز تحت رجليه ليطول إلى الرف، فقاموا وأنكروا عليه، فشرع في سبهم بأنهم ناس حمير، ثم تلفظ بعد ذلك بالكفر، فشهدوا عليه عند القاضي زين الدين، وكتبوا محضراً بأمور، ثم أتوا بها إلى قاضي القضاة تقي الدين، فلما وقف عليها قال: ما المراد من هذا؟ قالوا: يا سيدي إثباتها. قال: ما أفتي في رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورماها من يده، فتوقف حال إثباتها. وسعت جماعة كثيرة ممن كانوا يعنون بابن البققي من جملتهم ناصر الدين الشيخي وجماعة من أكابر القبط وغيرهم وسألوا القاضي زين الدين في أمره أن يستتيبه، وسعوا فيه بشيء كثير حتى أرادوا أن يثبتوا له جنوناً ليتخلص من هذه الورطة، فكتبوا محضراً وشهدت فيه جماعة كثيرة ممن يسمع قولهم، وأرادوا أن يثبتوه على قاضي القضاة الشيخ تقي الدين لما رأوا عنه الإعراض من إثبات كفره، وفهموا أيضاً أن للشيخ به عناية، فأحضروا المحضر إليه، فلما وقف عليه رفع رأسه وقال: من يجعل المولى فتح الدين مجنوناً؟ ما نعرفه إلا رجلاً عاقلاً، ثم لما أحضروا المحضر إلى القاضي زين الدين ونظر فيه خلاه إلى جانب منه وتفكر في أمره، واقتضى رأيه أنه يصلي تلك الليلة صلاة الاستخارة ويسأل الله في أمره، فلما نام تلك الليلة رأى كأن جماعة جاءوا إليه وبينهم كلب أسود زوبري قدر الكبش، وفي رقبته طوق وزنجير وهم يقودونه إليه، ثم قتلوه وألقوه في حفرة وهو يراه، فلما استيقظ حمد الله تعالى على تلك الرؤيا، وأصبح عازماً على قتله. ولما فتح بابه وجد شخصاً من طلبته جالساً على الباب، فسلم عليه وناوله ورقة مكتوب فيها من شهاب الدين الأعزازي الشاعر وأخبر أن شهاب الدين المذكور حضر إلى بيته وقت الآذان وأعطاه هذه الورقة وقال: عرف قاضي القضاة ما انتظاره في هذا الزنديق، وفيها من شعره: قل للإمام العادل المرتضى ... وكاشف المشكل والمبهم لا تمهل الكافر واعمل بما ... قد جاء في الكافر عن مسلم فلما وقف عليها تبسم وقال: شاعر ومكاشف، هكذا عزمنا إن شاء الله. وكتب وهو في سجن المالكي إليه من شعره: يا من يخادعني باسهم مكره ... بسلاسل نعمت كلمس الأرقم اعتد لي زرداً تضايق نسجه ... وعلى فكي عيونها بالأسهم وأرسلها إليه، فوقف عليها وقال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك، ثم اجتمع هو والقاضي زين الدين السروجي، وشاوروا السلطان، وعرفوه زندقته وكفره، وكان قد بلغ السلطان أمره، فتحدث السلطان بكلام فهم القاضي منه المهلة عليه، فانزعج القاضي لذلك وقال: هذا الرجل ثبت عندي كفره وزندقته، وقد وجبت عندي إراقة دمه، فلما رأى السلطان تصميم القاضي قال: إذا كان لا بد فاعقدوا له مجلساً بحضور الحكام، فإذا وجب عليه أمر شرعي افعلوه، ورسم لناصر الدين بن الشيخي والحاجب بأن يحضرا المجلس، فجلست القضاة والأمراء في شباك الصالحية وطلبوه من السجن، وشقوا به بين القصرين، وهو بزنجير في رقبته، مكشوف الرأس، وهو يستغيث: يا قوم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله ويعلن بالشهادة، إلى أن وصل إليهم، ووقعت الدعوى والإنكار، وأخرجوا الشهادة عليه والإثبات بكفره، فنهض القاضي السروجي وهو ينشد: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

ذكر غزوة سيس

وأشار أن يخرجوه إلى ظاهر المدرسة إلى أن وقف مقابل الشباك وهو يصيح ويعلن بالشهادة ويقرأ القرآن، والتفت الحاجب وناصر الدين للقاضي زين الدين وقالا: يا سيدنا إش ثبت عندك في هذا الرجل؟ قال: ثبت عندي كفره ووجب قتله، فنهض السروجي وقال: إضربوا رقبة الكافر ودمه في عنقي، فأشار في ذلك لعلاء الدين آقبرص بعض مقدمي الحلقة أن يضرب رقبته، وكان قوي اليد، ماضي السيف، فضربه ثلاث ضربات وأراد بذلك تعذيبه، ثم علق جسده على باب زويلة وطيف برأسه المدينة، وكان قد تكهل. وقال ابن دانيال فيه لما ضربت عنقه: لا تلم البق في فعله ... إن زاغ تضليلاً عن الحق لو هذب الناموس أخلاقه ... ما كان منسوباً إلى البق وقال فيه لما سجن ليقتل: يظن فتى البققي إنه ... سيخلص من قبضة المالكي نعم سوف يسلمه المالكي ... قريباً ولكن إلى مالك ولفتح المذكور شعر، فمنه قوله: جبلت على حبي لها وألفته ... ولا بد أن ألقى به الله معلنا ولم يخل قلبي من هواها بقدر ما ... أقول وقلبي خالياً فتمكنا وله أيضاً: أين المراتب في الدنيا ورفعتها ... من الذي جاز علماً ليس عندهم لا شك أن لنا قدراً رأوه ... وما لمثلهم عندنا قدر ولا لهم هم الوحوش ونحن الأنس ... حكمتنا تقودهم حيث ما شئنا وتعم وليس شيء سوى الإهمال ... يقطعنا عنهم لأنهم وجدانهم عدم لنا المرتجان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم قلت: عارض بهذه الأبيات الأبيات التي للقاضي تقي الدين بن دقيق العيد وهي: أهل المراتب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم فما لهم في توقي صبرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش من الإهمال عندهم فليتنا لو قدرنا أن نعرفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم لهم مرتجان من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم وله: لحى الله الحشيش وآكليها ... لقد خبثت كما طاب السلاف كما تصبي كذا تضني وتشقي ... كما تشقي وغايتها انحراف وأصفر دائها والداء جم ... بغاء أو جنون أو نشاف ذكر غزوة سيس وفيها كتب نائب حلب إلى السلطان والأمراء بأن تكفور صاحب سيس منع الحمل وتجاهر بالعصيان وادعى أن البلاد لقازان وأنه يحمل الحمل، فاقتضى رأيهم تجريد الأمير بدر الدين أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخزندار بمضافيهما أن يدخلوا بلاد سيس ومعهما نائب حلب وحماة وحمص ويخربوها وينزعوا زرعها، وأن لا يوغلوا في عتورهم إلا إذا وجدوا فرصة، وألا يكونون في أطراف البلاد. وقال ابن كثير: وكان رحيلهم في شهر رمضان، وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياماً بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة قدم الجيش إلى دمشق، فخرج نائب السلطنة والجيش إلى تلقيهم. ذكر الجزيرة التي سكنها الفرنج مقابل طرابلس وفيها: كتب الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس إلى السلطان بأن الإفرنج قد أنشأوا جزيرة مقابل طرابلس، واتخذوها لهم حصناً ونقلوا إليها عدداً ورجالاً، وتزايد أمرهم إلى أن صاروا يركبون البحر ويتجرمون فيه ويأخذون المراكب، وأضر ذلك بحال أهل الساحل، وأنه قصد على تجريد عسكر في مراكب تأتي إليهم مع جند طرابلس، ولعل الله أن يظفر المسلمون بها، وأخذ من فيها من الإفرنج قبل أن يشتد أمرها ويقوى حال العدو فيها، وهم يريدون أن يعمروا فيها قلعة، فإذا بنوها يصعب على المسلمين أمرها، فلما وقف السلطان على الكتاب أمر للوزير بالإهتمام في تعمير شواني، وفي المحرم من السنة الآتية: جهزت الشواني وتكملت.

قال بيبرس في تاريخه: وفي المحرم من سنة ثنتين وسبعمائة جهزت الشواني للسفر إلى جزيرة أرواد، وهي جزيرة قبالة انطرطوس في البحر المالح، وكان قد اجتمع فيها جمع من الفرنج الذين جلوا من الساحل وسكنوها، وأحاطوا بها سوراً وحصنوها، فجهزت الشواني لقصدها، وجرد فيها جماعة من الجند لأخذها، ولما تجهزوا وتكملوا ولم يبق إلا سفرهم ركب مقدم الأجناد الذين سفروا فيها في الشيني الكبير وهو جمال الدين أقوش العلائي المعروف بوالي البهنسا، ومعه جماعة، وخرجوا قبالة مقياس مصر ليلعبوا وينحدروا، فانقلب الشيني في خروجه، فغرق القدم المذكور وأكثر من كان فيه، فجهز عوضاً عنه سيف الدين كهرداش، وسفر بالشواني، فوصلوا إلى الجزيرة وأوقعوا بأهلها وأخذوا ما كان فيها، وأحضروا منها عدة أسرى وعبروا بهم عند وصولهم إلى القاهرة مصفدين، وشقوا بهم المدينة مقيدين وبقوا في الأسر مخلدين. وقال ابن كثير: وفي يوم الأربعاء الثاني من صفر من سنة إثنتين وسبعمائة فتحت جزيرة أرواد المذكورة، وقتلوا منها نحواً من ألفين، وكانت الأسرى قريباً من خمسمائة نفس. وقال صاحب النزهة: وكانت الشواني مشحونة بالعدد والسلاح والنفطية والزاد، وفيها جماعة من الحلقة، ومن كل مقدم نفران، ومن الطبلخانات والعشرات، وجرد أيضاً من المماليك السلطانية جماعة من الزراقين، وزينت الشواني بأشياء من الآلات، وباتت الناس تلك الليلة، لم يبت أحد في بيته، وغلقت مصر والقاهرة يومين لأجل التفرج، وكان من أول بولاق إلى الصناعة خلائق من البرين لا يحصى عددهم حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يضع قدمه إلى الأرض، وأما بقية مراكب البحر والشخاتير الصغار فإنها طبقت وجه البحر، والمركب الذي كان يكرى بعشرة أكروه بمائة درهم. ففي صبيحة يوم السبت الثاني عشر من محرم سنة ثنتين وسبعمائة: نزل السلطان والنائب وسائر الأمراء، ووقفت العساكر جميعهم على بربستان الخشاب، وعدى الأمراء في الحراريق إلى الروضة، ثم أمر بخروج الشواني واحدة بعد واحدة، فخرج الشيني الأول ولعب ساعة ولعبوا فيه بالنفط، وصاحت الخلائق من الجانبين، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم خرج الرابع وهو الذي كان فيه أقوش العلائي، ولعبت فيه الهوى، فمال ميلة، فانقلب فصار أعلاه أسفله، وصرخت الناس عن صوت واحد، وتكدر ذلك الصفاء، فتحيرت الأمراء والسلطان، وحزنوا حزناً عظيماً، وأدركت المراكب إليه، وخلصوا منه خلقاً وغرق آخرون، وممن غرق أقوش المذكور المقدم فيه. ومن الغرائب أن أقوش هذا كان فيه من الكبر والحمق ما لا يوصف، ومن الظلم وقتل النفس ما لا يعد، وكان هو الذي زين هذا الشيني من عنده بأفخر زينة وأكمل عدة، وعند نزوله إليه قدمت له الاسقالة، فمشى عليها إلى أن جلس، ثم عند الخروج استعجل، فقال له الرئيس: طول روحك يا خوند، فانحرف وشتمه وقال: اخرج لا كتب الله علينا بالسلامة ولا أحيانا أن نرد إليهم. قال الراوي: وأغرب من ذلك أن هذا الشيني انحدر إلى أن وقف عند بولاق وبقي هناك ثلاثة أيام مقلوباً إلى أن ركب والي الصناعة والرئيس ومعهم رجال، فجاءوا إليه وأقلبوه ووجدوا زوجة الرئيس وولدها وهي ترضعه وهما بالحياة، فسألوها عن حالها فقالت: إن الشيني لما انقلب لم يحصل عليها تشويش أصلاً ولا بذل عليها من الماء، فتعجبوا من ذلك وقالوا: قدرة الله أعظم من هذا.

ذكر وفاة الخليفة

ثم رسم السلطان بأن يجهز شيني آخر عوض ذلك، فجهزوه وكانوا قد أحضروا رؤساء من الإسكندرية ودمياط، ثم سافروا إلى أن وصلوا إلى طرابلس ودقت بوقاتهم، ووجدوا أهل طرابلس أيضاً قد تجهزوا كما ينبغي مما يحتاجون إليه من العدد والنفط وآلات الحصار، ثم ركبوا نصف الليل ورئيت لهم الجزيرة وجه الصبح، وصاحوا بالتكبير والتهليل، وزعقت البوقات والطبلخانات، وقاموا في المقاديف قومة رجل واحد، فتوجه كل مركب بمقدمه على الميناء ونفر الفرنج أيضاً، فبينما يركبون مراكبهم سبقت مراكب المسلمين بمقدميها على الساحل، وتسابقت الفرسان من المقابلة إلى أن أحاطوا الساحل وتقاتلوا بالسيوف في الوجوه والصدور وبالرماح بالطعن في المحاجر والنحور، وانعزلت الجرخية ناحية والأقحية ناحيةً، ولم تتعال الشمس صبيحة ذلك اليوم حتى خذلت الكفار، وانتصرت ملة الإسلام، وملأوا من قتلاهم الأرض، ورجع من بقي إلى قلعتهم وأغلقوها، وزحفت الرجال إليهم، وأرسلوا سهامهم إلى من فيها، فثبتوا ساعة مقاتلين، ثم وقع كلهم ما بين قتلى وجرحى، وصاحوا طالبين الأمان، وسلموا أنفسهم، وملك المسلمون القلعة أيضاً، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة الثامن والعشرين من صفر عام ثنتين وسبعمائة، وأخذوا جميع ما فيها من حواصل وسلاح، ووجدوا فيها تجاراً ومعهم تجارة. وكانت هذه القلعة اعتنى بها وبعمارتها صاحب قبرس مع جماعة من أكابر الفرنج على أنهم يتخذونها سكناً لهم ويسمونها عكا الصغيرة، ثم هدها المسلمون إلى أن صارت دكاً دكاً، فحصل للمسلمين بذلك السرور التام والشكر على دين الإسلام. ذكر وفاة الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الراشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي ثم المصري. بويع بالخلافة في الدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى منها بالمناظر المعروفة بالكبش بمرض عراه، وصلى عليه العصر بسوق الخيل، وصلى عليه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي شيخ الصوفية، ودفن بجوار مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، ومشى الأمراء والكبراء والقضاة والحكام والأعيان في جنازته إكراماً لمحله، وخلف من الأولاد سليمان، وهو أول من دفن بمصر من الخلفاء العباسيين. وقال صاحب النزهة: وصلى عليه شيخ سعيد السعداء كريم الدين المذكور ومعه الصوفية كلهم، وحضر السلطان أيضاً جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون. وقال بعض معاصرينا في تاريخه: وتولى تغسيله والصلاة عليه شيخ الشيوخ كريم الدين عبد الكريم المذكور، وخلّف من الأولاد سليمان أبو الربيع وإبراهيم أبو إسحاق. ذكر خلافة الإمام المستكفي بالله بو الربيع سليمان بن الإمام الحاكم بأمر الله بعهد من أبيه بويع له يوم وفاة أبيه، وتقدير عمره عشرون سنة، وخطب له على المنابر، واستمر في صحبة السلطان والركوب معه كأنهما أخوان، وفي اللعب بالصوالجة في الميدان، والسفر والتفرج في الصيد، وأجري له الإكرام والإحسان. وقال ابن كثير: وكان أبوه عهد إليه وكتب له بذلك تقليداً، وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة منها، وكان يوماً مشهوداً. ذكر مجلس عقد فيه لليهود وفي شوال: عقد مجلس لليهود الخيابرة، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وضع الجزية عنهم، فلما وقف فيه الفقهاء تبينوا أنه كذب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة والتواريخ المخبطة واللحن، وحاققهم عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وبين لهم كذبهم، وخطأهم وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية. وقال ابن كثير: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم إذ ذاك وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين، وفيه: كتب علي بن أبي طالب، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين على أنه يسند إليه علم النحو من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه.

ذكر بقية الحوادث

قال ابن كثير: وقد جمعت فيه جزءاً مفرداً وذكرت فيه ما جرى أيام القاضي الماوردي وكبار أصحابنا في ذلك العصر. ذكر بقية الحوادث وفيها: عزل شمس الدين الأعسر عن الوزارة، وسفر إلى الشام لكشف القلاع، وقرر عوضه نائب الإسكندرية الأمير عز الدين أيبك البغدادي، وهو الرابع من الوزراء الأمراء الترك أرباب السيوف والأقلام: أولهم علم الدين سنجر الشجاعي، ثم الأمير بدر الدين بيدرا قبل النيابة، ثم شمس الدين الأعسر، وهذا عز الدين أيبك. وفيها: في يوم الثلاثاء العاشر من ربيع الآخر: شُنق الشيخ علي الحوراني بواب الظاهرية على بابها، بسبب أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي. وقال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي وسط ربيع الأول ورد كتاب من حماة يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماة برد كبار على صور حيوانات مختلفة، منها سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز وبلشون، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة. وفيها: نقل ناصر الدين محمد الشيخي من ولاية القاهرة إلى الخاص السلطاني بالجيزية، وبقي فيها إلى أن نقل إلى الوزارة. وفيها: ولي الأمير سيف الدين أفجبا المنصوري نيابة غزة. وفيها: في شوال، حصل بالشام جراد عظيم أكل الزروع والثمار، وجرد الأشجار حتى صارت كالعصي، ولم يعهد مثل هذا. وقال ابن كثير: وفيها ولد كاتبه - يعني نفسه - إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي البصراوي الشافعي. وفيها: ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهديّ وادعى أنه من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأنه ينذر بوقائع يعلم وقوعها، فاعتقل امتحاناً لنقله، فلم يصح شيء من قوله، وظهر أن به فساداً في عقله، فعزَر تأديباً له، ثم خلَى سبيله. وفيها: كان خروج بكتمر الحسامي من وظيفة الأمير آخورية، بسبب غيظ الأمراء عليه، لأنه نقل عنه أنه يكثر الحديث مع السلطان ويذكر الأمراء عنده، وكان الأمراء قد اتفقوا أنهم لا يدعون أحداً يجتمع بالسلطان أو يتحدث معه، مع ما كان في نفوسهم منه من تكبره عليهم، فأخرجوه إلى الشام من غير إقطاع، وأقام مدة إلى أن توفي الأمير علاء الدين مغلطاي التقوى بدمشق وطالع نائب الشام بسببه، فرسم بإقطاع له، وتولى عوضه في الأمير آخورية علم الدين سنجر الصالحي. وفيها: وصل كتاب نائب الشام يخبر بحضور القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين بن القلانسي، وشرف الدين بن الأثير من عند قازان، وذلك أنهما كانا مع الوزير نجيب الدين وزير قازان، فإنه كان أخذهما رهينة إلى أن يحضر أخوه عبد اللطيف الذي كان معوقاً عند السلطان، والمذكوران قد تحيلا بحيل كثيرة حتى تخلصا، واختفى ابن القلانسي بتبريز، وتحيل وبذل مالاً إلى أن منَ الله عليهما بالخلاص. ذكر تحرك طراي بن نوغيه لطلب ثأر أبيه وأخويه فشرع في التحيل لإدراك مطلبه، فلحق بصراي بغابن منكوتمر، وقد ذكرنا أن أخاه طقطا رتبه في مقام نوغيه، فتوصل طراي إليه ولازمه، فلما آنس منه الميل إليه فاتحه في أمر أخيه طقطا، وفاوضه في أنه أحق منه بالمملكة وأقدر على تدبير السلطنة، فاستغواه فمال معه، وانصاع إلى خداعه، وركب في تمانه وعبر على نهر إتل وهو جامد بفرسانه، وخطر بباله أن يستشير أخاه برلك ويستعينه، فنزل العسكر ناحية، وتوجه جريدة، فاجتمع ببرلك وشاوره في أمره، فأظهر له الموافقة لهواه، ثم بادر لوقته بإعلام طقطا بما هم به صراي بغا أخوه وطراي بن نوغيه من الوثوب عليه، فركب طقطا لوقته في خواصه وبطانته، وجهز إلى نحوهما من أحضرهما، فقتلا بين يديه وتفرق عسكرهما، وأرسل طقطا ولده إيل بصار إلى المكان الذي كان قد رتب صراي بغا، فاستقر به عوض أخيه. وفيها هرب قراكسك بن جكا بن نوغيه، وهرب معه اثنان من أقاربه، وهما جركتمر ويلقطلو، وذلك أنه لما قتل طقطا أخاه صراي بغا وطراي بن نوغيه أرسل برلك في طلب قراكسك، فانهزم هو وهذان المذكوران وطرحتهم الجفلة إلى بلاد ششمن إلى مكان يسمى بدول بالقرب من كزل، ومعهم نحو من ثلاثة آلاف فارس، فأواهم ششمن وأصحابه، وأقاموا عندهم يغيرون على الأطراف ويأكلون بالأسياف. قال بيبرس في تاريخه: إلى يومنا هذا.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وفيها: حج الأمير ركن الدين بيبرس أستاذ الدار في جماعة من ألزامه وخواصه، وكان رحيله من البركة مستهل ذي القعدة. وقال بيبرس في تاريخه: فندبت للتقدم على الركب المصري وكان ركباً كبيراً، وقد جمع خلقاً كثيراً. وحج في هذه السنة ثلاثون أميراً، وجعلوا ركباناً ثلاثة يتعاقبون في المنازل والمراجل. قال: ولما حصل اجتماعنا في الحرم الشريف حضر إثنان من أولاد الشريف نجم الدين بن نمي أحدهما يسمى عطيفة والآخر أبو الغيث، وشكوا إلى المقر المشار إليه بحضرة من حضر من الأمراء في أخويهما الكبيرين، وهما أسد الدين رميثة وعز الدين حميضة، وذكرا أنهما لما اتفقت وفاة والدهم الشريف ابن نمى في هذه السنة، وثبا عليهما وأساءا إليهما واعتقلاهما ظلماً وبغضاً، فتحيلا وهربا من مكان سجنهما، وتوجها إلى بني عمهما أولاد إدريس بن قتادة، وأقاما عندهم، وسألا إنصافهما من أخويهما، ومقابلتهما بما جنياه عليهما، فاتفقت الآراء بإمساك رميثة وحميضة وتأديبهما بالسجن والعزل لإساءتهما على بني أبيهما، والجرأة عليهما وغير ذلك من أمور نقلت عنهما، فأمسكا، ونسبت إليهما ورتب المشار إليهما عطيفة وأبا الغيث عوضاً عنهما، وأحضرا هذان إلى الأبواب السلطانية واعتقلا مدة. وقال صاحب نزهة الناظر: لما فرغ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير من الوقوف بعرفة، ورجع إلى طواف الزيارة وطواف الوداع بعده، وقف له أبو الغيث وعطيفة وبقية إخوتهما من البنات، وشكوا من أخويهم حميضة ورميثة وبالغوا في الشكوى، فأرسل الأمير ركن الدين وراءهما، فحضرا بالحرم الشريف فقال لهم: اسمع يا حميضة لأي شيء تفعل كذا حتى يشكو منك أخويك؟ فأجابه بقوة نفس وقال: يا أمير نحن نفتصل مع إخوتنا، وأنتم قد قضيتم حجكم وجزيتم خيراً، فلا تدخلوا بيننا. فغضب بيبرس لذلك غضباً شديداً، وأشار إلى الأمير سيف الدين طشتمر الجمقدار أن يلكمه، فلكمه فأرماه إلى الأرض، وما قام إلا وقد وجد روحه مكتفاً هو وأخاه، ووقع الصوت في الحرم بمسكهما، فتصايحت النسوان والعبيد، وطلعوا على البيوت وأسطحة الحرم بالأحجار، وركبت الأشراف والعبيد. فلما رأت الأمراء ذلك أدركوا خيولهم وركبوها، وركّبوا الأميرين المذكورين مكتفين مزنجرين في رقابهما، وهم يصيحون يا لبني حسن، يا لبني أولاد نمى، فخرجت البنات من مكة وسبقت خيل الشرفاء، ومسكوا طرق الأبواب والأزقة، وسمعت أيضاً بقية الأمراء النازلين في الوطاق، فركبوا بالقسى والرماح، واستعدوا، ولما رأى بنو الحسن الجند والأمراء من خلفهم ومن بين أيديهم أخذ كل منهم في طريق، وخرج منهم نحو ثلاثة عشر نفراً، وقتل ستة نفر، وقيل ثمان رءوس من الخيل، وخرجت جماعة من الذين على الأسطحة إلى أن خرجوا إلى المخيم وطلبوا أبا الغيث وعطيفة وولوهما مكة، وخلعوا عليهما ودخلوا بالممسوكين مصر مزنجرين وأودعا السجن مدة. قال صاحب النزهة: وكان وصول الأمير ركن الدين بيبرس من الحجاز الشريف في أول المحرم من سنة اثنتين وسبعمائة، وكان خروجه من مصر نصف ذي القعدة، ووصل إلى مكة في التاسع والعشرين منه، فكان سفره أربعة عشر يوماً. قلت: بيبرس هذا هو بيبرس الجاشنكير أحد أركان الدولة بمصر، وليس هو بيبرس الدوادار، فإن بيبرس الدوادار كان أمير الركب على ما ذكرنا عنه الآن، وقد ذكرنا أيضاً أنه ذكر أن بيبرس الجاشنكير قد رحل من البركة مستهل ذي القعدة، وهذا صاحب النزهة ذكر أنه رحل في نصف ذي القعدة وبينهما تفاوت كثير على ما لا يخفى. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام العالم العامل شرف الدين أبو الحسن علي بن الشيخ الإمام العلامة الحافظ تقي الدين أبي عبد الله بن أبي الحسين بن عبد الله بن عيسى ابن أحمد بن محمد بن محمد اليونيني البعلبكي.

وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين، وولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، تفقه وسمع الكثير، وكان عابداً عالماً، كثير الخشوع، وكانت وفاته أنه دخل في الخامس من رمضان إلى خزانة الكتب التي بمسجد الحنابلة ببعلبك ليعزل كتبه من كتب الوقف وعنده خادمه الشجاع، فدخل عليه فقير اسمه مؤمن المصري، فضربه بعصى على رأسه ضربات، ثم أخرج سكيناً صغيراً فجرحه في رأسه، فاتقى بيده فجرحه في يده، فدخل عليه الناس، وأمسك وحمل إلى متولي البلد وضرب، فصار يظهر الاختلال ويتكلم بكلام غير منتظم، فحبس بعد الضرب الكثير. وأما الشيخ فإنه حمل إلى داره، وأقبل على أصحابه وتحدث معهم على جاري عادته، وأتم صومه، فحصل له حمى واشتد مرضه، فلما كان يوم الجمعة الثاني عشر من رمضان مات، وصلي عليه بدمشق وغيرها صلاة الغائب. وقال ابن كثير: ودفن بباب سطحا. الصدر ضياء الدين أحمد بن الحسين، ابن شيخ السلامية. والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيما بعد نظر الجيوش الإسلامية الشامية، وفي وقت المصرية أيضاً، وكانت وفاته يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة، ودفن بقاسيون. المعضد المعمر الشيخ الجليلي بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب الأبرقوهي الهمداني، ثم المصري. ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشر وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ الكثيرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخاً حسناً متيقظاً، وكانت وفاته بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام، ودفن بالمعَلا، رحمه الله. الإمام العالم الكامل الأوحد العلامة شمس الدين أبو الندى معد ابن الشيخ الإمام العلامة زين الدين أبي الفتح نصر الله بن رجب، المعروف بابن الصيقل الجزري. مات بهرمز، وكان فقيهاً شافعياً، متفنناً بعلوم كثيرة، صنف المقامات الزينية خمسين مقامة على منوال الحريري. الشيخ الإمام العالم الصالح الزاهد العابد مفتي المسلمين ركن الدين عبيد الله ابن محمد بن عبد العزيز السمرقندي الحنفي. مات بالمدرسة الظاهرية بدمشق، وجد بالبركة بها ميتاً، ولم يعلم حاله، فغسل وكفَن، وصلَى عليه، ودفن بمقابر الصوفية، وكان كثير الصوم والصلاة والاجتهاد في العبادة، وكان ورده كل يوم مائة ركعة، فلما اتفق له ذلك مسك يحيى قيم دار الحديث الظاهرية وضرب، فاعترف بقتل الشيخ ركن الدين، فشنق على باب الظاهرية في عاشر ربيع الآخر. الشيخ جمال الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن هبة الله بن أبي الحوافر، المتطبب بالقاهرة. مولده سنة تسع وعشرين وستمائة، وكان رئيس الأطباء بالديار المصرية، وإليه تنسب الحمام التي بمصر عند الجامع الجديد، مات في هذه السنة. شيخ الشيوخ فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ تاج الدين أبي بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن علي بن محمد بن حموية الجويني. مات في ربيع الأول بالشميساطية، ودفن بسفح قاسيون عند أخيه، وله من العمر خمسون سنة، وتولى عوضه في المشيخة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة. الخطيب علاء الدين علي بن الحسن بن عبد الله الشافعي، المعروف بابن الجابي، خطيب جامع جراح ظاهر باب الصغير. مات في هذه السنة، وكان يقصد لسماع خطبته من حسن صوته، وكان مهووساً بعلم الكيمياء، وتولى مكانه الشيخ شرف الدين الفزاري. الشيخ العالم الصدر وجيه الدين محمد بن عثمان بن أسعد بن النمجي الحنبلي. مات بمدرسته دار القرآن بدمشق، ودفن بقاسيون، ومولده سنة ثلاثين وستمائة بدمشق. الشيخ الصالح الزاهد العابد العارف القدوة عيسى بن الشيخ ثروان بن الشيخ محمد بن الشيخ الكبير ثروان التدمري البياني. مات بدمشق، ودفن بباب الصغير جوار قبر الشيخ أبي البيان، وكان شيخ البيان، وكان له صيت وقبول تام وكلمة مسموعة، وكان عمره جاوز تسعين سنة. الصدر الكبير الفاضل مجد الدين يوسف بن محمد بن علي الأنصاري، المعروف بابن القباقبي. مات بالقاهرة، ودفن بتربة ابن عبد الظاهر، كان فاضلاً في صناعة الترسَل وحساب الديوان، ولَى كتابة الدرج بالفتوحات الطرابلسية. وله نظم حسن، فمن ذلك قوله في زهر الباقلاء: عطّر زهر الباقلا الرّبى ... فنشره في الروض منشور

السنة الثانية بعد السبعمائة

لا يعجب الناشق من ريحه ... فإنه مسك وكافور وقال وقد وقع بدمشق ثلج عظيم: طمت الثلوج على الوهاد مع الربى ... فالكون يعجب منه وهو مفضفض فانهض لتجمع شمل أنس مقبل ... بلذاذة فاليوم يوم أبيض وكتب إلى الأمير علم الدين الدواداري: يا من كفاني وحرب الدهر قائمة ... بنصرة شمتها من فضله الخدم حللت من بابك العالي بذي سلم ... فليهني أنني من جيرة العلم الشريث الكبير أبو نمي محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني، صاحب مكة منذ أربعين سنة، توفي في هذه السنة وكان حليماً وقوراً ذا رأي وسياسة وعقل ومروّة، وخلف من الأولاد أحداً وعشرين ولداً ذكراً، ومن البنات عشرة. وقال بيبرس: ويكنى أبا مهدي أيضاً، وساق نسبه، وهو محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. الأمير الكبير المجاهد المرابط علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب قلعة دمشق. كان ذا همة وشهامة وقصد صالح، قدّر الله على يديه حفظ معاقل الشام لما ملكت التتار أيام قازان، وكانت وفاته بقلعة دمشق ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت، فصلي عليه، وحضر نائب السلطنة فمن دونه، ثم حمل إلى قاسيون ودفن في تربته. وقال صاحب النزهة: ولم يخلف غير أربع بنات، ووجد له من تركته من الذهب خمسة عشر ألف دينار، ومن الفضة خمسين ألف درهم، وأوصى بعتق مماليكه وجواريه، وأوقف عليهم وقفاً، ووجد له في زرد خاناته ثمانمائة قوس حلقة ومائتا عدة كاملة. وقال: حكى لي من كان خصيصاً بمنادمته، ولم يعرف أنه اجتمع بأحد غيره، أنه لحقه في بعض الأيام قولنج، فأحضر له طبيب يهودي، فوصف له حقنة ولم يجسر أحد يصف له صفة الحقنة غير ذلك النديم، فلما رآها قال: ما هذه؟ قال: هي الحقنة، فنهض وقعد، وأراد أن يشربها، فقال له الرجل: يا خوند هذا ما يشرب. فقال: وما يعمل به. فقال له كذا وكذا، فحين سمع ذلك تغيّر لونه، ثم توجه إلى اليهودي فقال: ويلك يا ملعون، أنا اشتراني الملك المنصور بعشرة آلاف درهم وما قدر أن يعيّر في دبري شيئاً، وأنت جئت في آخر عمري تحط في دبري عظماً، ثم أشار لمماليكه أن يسقوا اليهوديّ تلك الحقنة، فكتّفوه وأسقوه إياه، فلما شربها مات في اليوم الثاني. الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله النجيبي الدوادار، والي البر بدمشق، وأحد الأمراء الطبلخانات بها. مات بدمشق يوم الثلاثاء السادس عشر من ربيع الآخر منها، ودفن بسفح قاسيون، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته. قنجي بن أردنو بن دوشى خان بن جنكزخان صاحب غزنة وبامبان. توفي في هذه السنة، واختلف بنو عمه وأولاده وهم: بيان، وكبلك، وطقتمر، وبغاتمر، ومنفطاي، وصاصي، وافترق بعضهم من بعض، وكان كبلك قد استقر في الملك بعد أبيه، وسار أخوه بيان إلى طقطا مستنجداً مستمداً على أخيه، فأمدّه وعضده، وسار كبلك إلى قيدو مستغيثاً ومستعيناً، فأعانه وأيّده، ثم التقى الجمعان واقتتل الأخوان، فكسر كبلك وأدركه أجله، فهلك، واستقر بيان أخوه في المملكة الغزنوية. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية بعد السبعمائة استهلّت هذه السنة: والخليفة المستكفي بالله أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي. وسلطان البلاد: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلاّر، ونائب الشام الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ونائب حلب شمس الدين قراسنقر، وقضاة مصر والشام هم المتقدم ذكرهم. وفيها: وصلت رسل من جهة قازان، ولم تعد معهم رسل السلطان، وقد ذكرنا أن السلطان جهز إليه الأمير حسام الدين أزدمر المجيري أحد الأمراء، والقاضي عماد الدين بن السكري من أعيان القضاة والكبراء. وقال ابن كثير: ولم يعد رسل السلطان هؤلاء المذكورون إلاّ بعد هلاك قازان في أيام خربندا، وكان وصول رسل قازان يوم الأحد الثامن من محرم هذه السنة.

ذكر من جرد من الأمراء

وقال بيبرس في تاريخه: وتواترت الأخبار بحركة التتار، ثم وردت كتب النواب بالبلاد الحلبية مخبرة بأن قطلوشاه نائب قازان قد تحرك إلى جهة الفرات، ويخشى من تقدمه إلى هذه الجهات، وأنه قدّم بين يدي قدومه كتاباً محشواً من خبثه ولؤمه ومضمونه ما معناه أن بلادهم في هذه السنة قد أمحلت، وأراضيهم من الأعشاب والمراعي خلت، وأن التتار على عزم الانتشار لارتياد المروج والأماكن التي توجد بها المرعى ويروج، وربما وصلت منهم طائفة إلى صوب الفرات لأجل قصد الأعشاب، فيحصل بهم الارتياب، وليس قصدي سوى الانتجاع والنزول بمهما صادفوا به خصباً من تلك البقاع، فإذا سمع أهل البلاد الحلبية وسكان الأعمال الفراتية باقترابهم لا يبرحون من أماكنهم ولا ينزحون من مواطنهم، فلا بأس عليهم وليس ثمّ تعرض عليهم، فعلم أن هذا الكلام عين الخداع، ولم يلج القلوب ولا الأسماع. ثم تواترت الأخبار بقدوم التتار، وأنهم جاسوا خلال الديار، وقدمت طائفة منهم من جهة الرحبة، ووصلت إلى دير بسير، وجاءت طائفة على مرعش، فجفلت الرعية من البلاد الحلبية، وحصل التأهب والاهتمام، وبرزت المراسيم السلطانية بالاستخدام، وأن كل أمير من الأمراء بمصر والشام يستخدم نظير الربع من عدته ويضيفهم إلى جماعته، وقرر إلى أهل البلاد من الحواضر والبواد خيّاله يقومون بها من أموالهم، ويقيمونها من أحوالهم، واتفقت الآراء عند الاجتماع في المشاورة على تجريد مقدّمة من العساكر تقوية لجأش أهل الشام، وتثبيتاً لجيوشه على المقام إلى أن يتضح الحال ويزول الإشكال. وقال صاحب النزهة: لما وصل القاصد إلى السلطان والأمراء، وأخبرهم بأن قازان مجتهد على دخوله البلاد، وقع اتفاق الأمراء مع السلطان على أنه لا بدّ من تجريد عسكر ويكون صحبتهم أمير كبير يشار إليه في الأمور، فإن فيه إرداعاً للعدو وتطميناً للإسلام وأهل القلاع والنواب، ويكونون مقيمين في دمشق، فإن وجدوا حركة قازان صادقة كتبوا إلى مصر فيخرج السلطان بمن بقي من الأمراء والعساكر، وإن كان قازان يبعث من يختاره من جنسه، ورأى نائب الشام والأمراء أن يلاقوهم بجميع عسكر الشام، فالرأي رأيهم في ذلك، وإن بلغهم أن عسكر قازان كثيرون يتأخرون قدامهم منزلةً بمنزلة إلى أن يدركهم السلطان مع العسكر، وما نهضوا من المشورة حتى وقع اتفاقهم على تعيين أمراء للتجريدة. ذكر من جرد من الأمراء ومن مضافهم إلى الشام قال بيبرس في تاريخه: جرّد الأمير ركن الدين بيبرس أستاذ الدار، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير سيف الدين كراي المنصوري السلحدار، والأمير شمس الدين سنقرجاه المنصوري، وجامع هذا التأليف - وأراد به نفسه بيبرس الدوادار - قال: فكنا ستة من مقدمي الألوف، وجماعة المضافين من الأمراء والمقدمين، فرحلنا من مسجد التبر في الثامن عشر من رجب الفرد من هذه السنة، وسرنا على اسم الله وبركته، فلما وصلنا قاقون تواترت الأخبار بصحة وصول التتار، وأن قازان كان فيهم، وعبر الفرات معهم، وبلغ إلى الرحبة، فقصد منازلها ورام وحاولتها، وبها يومئذٍ نائب يسمى علم الدين سنجر الغتمي، فأرسل إليه الإقامات صحبة ولده، فتلطف به واستوقفه عما أزمعه من المحاصرة والمنازلة، وأرسل يقول له: الملك الآن سائر إلى الشام لقصد المدن العظام، وهذا بلد سهل المرام، فإذا أخذت البلاد التي قدامك وحويت تلك الممالك التي هي أمامك، فهذا البلد بين يديك وما يتعسّر أمره عليك، وخاطبع بهذا ومثله، فاستوقفه عن التعرض إليها، ثم أنه رحل ولم يعج عليها، وأخذ ولد علم الدين الغتمي المذكور صحبته إلى بلاد الشرق، ثم لم يلبث أن عاد راجعاً وعبر الفرات قاطعاً، وعدّى نحو بلاده مسارعاً، وجرّد من العسكر الذي وجهه نحو الشام قطلوشاه نائبه، ومعه اثني عشر تومان، لقصد هذه البلدان، وأخبروا أنه لما عاد عن الرحبة كتب منها كتاباً إلى أهل الشام يستغويهم ويستميلهم عن مضافرة أهل مصر ويخدعهم، وجعله ملطفاً، ودسه إلى من يوصله إليهم. ذكر نسخة الفرمان الذي سطّره قازان من رحبة الشام بسم الله الرحمن الرحيم فرمان السلطان محمود غازان

ليعلم الأمير أفرم وأكابر الأمراء، ورعاه العساكر. والأجناد، والقضاة والسادات، والأئمة والصدور، والأكابر، والمشاهير والرؤساء، وعوام الرعايا من أهل دمشق، أنه حيث خصنا الله تعالى بالعناية الأزلية، والسعادة الأبدية، وشرح صدرنا للإسلام، ونوّر قلبنا للإيمان، وأورثنا سلطنة الآباء والأجداد، وأمدنا بالنصرة المتواترة الأمداد، تصدينا لإثابة الشكر على نعمائه حسب الإمكان، فعاهدنا الله تعالى على ملازمة البر والإحسان، ودفع الرزايا عن الرعايا، وإيصال البرّ إلى البرايا، سيّما طوائف المسلمين، وطبقات المؤمنين، وأن لا نرخص في القتال، ما لم يبدأنا به الجهال، فكل لبيب يعلم أن البادي أظلم، والذي يحقق ذلك ما عرفه الداني والقاصي، من طريقتنا المسلوكة مع المطيع والعاصي، وما ترتب بيننا وبين أنسابنا الأصاغر والأكابر، وتركنا المقاتلة إلا مع باد مكابر. وحيث كان أهل مصر والشام، يحبّون ويؤدّون قوة الإسلام، كان الواجب عليهم إظهار السرور، وإبداء الحبور بإسلام ذراري جنكزخان، وعساكرهم التي لا غاية لأواخرهم وتؤمن غلبة المتسلطين في تلك البلاد، وإنفاذ الرسل إلينا عن الوداد، وإرسال التحف والهدايا، والشكر لله ولنا على تلك المزايا، فما أبصرنا منهم في عموم الأوقات إلا ما لا يحسن من الحركات حتى أنهم عمّوا على ماردين وديار بكر طغياناً، وأقدموا على القتل والنهب فيها عدواناً، فدعتنا الحمية على الإسلام إلى الفساد بالإنتقام، وهممنا بأن نجر إليهم العساكر، ونبيد البادي منهم والحاضر، فصادفتهم المراحم العميمة التي لم تزل لنا خلقاً وشيمة، فتوقفنا مقتدين بقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " فأنفذنا الإيلجية مع قضاة ثقات، لعلهم في أمرهم يتفكرون، وإلى الإنابة يهتدون، فأتوهم بصرائح النصائح، وهدوهم إلى جداد المصالح، فعصى سلطان مصر عنواً ونفوراً، وأودعهم السجن تجبراً وغروراً، فأفضت حركاتهم الذميمة إلى أن هال عليهم الجنود، وحل عليهم ما حل بعاد وثمود، ولولا رفقنا المجبول بنا لأضحت شام خالية الديار. وأما ما أصاب من لاحقه بعض العساكر من بعض الرعية فما كان أحد بذلك مأموراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحلّ بغير جانيه العقاب ولما ثنينا عنان العزيمة ترحما على البراء من الجريمة، ثنينا لتركيب الحجة الرسالة، لعلهم ينتهون عن التمادي في الجهالة، فما سمعوا من الرسول قيلاً، وحبسوه زماناً طويلاً. وأما في الإعادة، فقد خالفوا الذاهبين في العادة، لأنهم لم يصحبوه واحداً من رسلهم، ليتداركوا ما فرط من زللهم، ويا ليت ما حملوه من الجواب، كان متضمناً لوجه من الصواب، فإن كتابهم دلّ على فساد آرائهم، وتعمقهم في متابعة أهوائهم، فقد ضمنوا مهذين المقال مطواه، وكتبوا اسم سلطانهم بالألقاب البليغة بالذهب أعلاه، واسم الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بالمداد، واسمنا بعد عدّة سطور للعناد، فحملنا ذلك على عدم معرفتهم بالرسوم والآداب، وقلة ممارستهم مراسيم الخطاب والجواب.

وحيث أردنا أن لا يتأذى بذلك المسلمون، صفحنا عنهم وتلونا: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون وعاودنا إرسال الإيلجيّة مع أكابر القُضاة، وحملنا إليهم الخلع والموهبات، ليسلكوا مسالك الموافقات، ويجتنبوا جوانب المحالفات، فوصل الخبر عقيب توجه الإيلجيّة أن القوم قصدوا ديار بكر، وحلّوا حُبي الكيد والمكر، فأمرنا بركوب العساكر وإهلاك الباغين بالسيوف البواتر، فانتهى خبر ذلك إليهم، وفزعوا من سطواتنا عليهم، فأخذوا عن ديار بكر جانباً، وأصبح صحيح أملهم كاذباً، لكنهم عموا على خرت برت وملطية وسيس، وأخربوا أطرافها وحواليها بالحيلة والتلبيس، ولا شبهة لأحد إن خرت برت وملطية من ولايتنا وصاحب سيس من الداخلين في شريعة طاعتنا، وقد كانوا أظهروا للإيلجية الألية، واستلزم إقدامهم على ذلك كذب القضية، وأيضاً كاتبوا الأكراد والروم بخطاب الأخ مراراً، ودعوهم إلى إثارة الشر والفتن سراً وجهاراً، وما علموا أن صحارى بلادنا مملوءة من أمثال أولئك، ولا التفات لأحد إلى ذلك، وكتبوا أيضاً إلى ملك الكرج بار بن داود، وأثبتوا البّر والعبودية، مع أنه عندنا خالص النية والطوية، وحرضوه على العصيان، والبغي والكفران، وأرسلوا الرسل إلى طقطا وسائر أنسابنا بدست قفجاق، وأغروهم على إظهار الخلاف والشقاق، فوقفنا واطلعنا على ما يمكرون، وتوقفنا النظر بم يرجع المرسلون، فلما أتوا وقصوا العجب بما رأوا، وذكروا أنهم أمسكوا في البيوت إلى حين الإعادة، وقالوا هذه عادتنا وبئست العادة، وقد أتوا بمكتوب مسطور، على الوضع المذكور، فأفصح ذلك أنهم يتكبرون، وحيث يناسب التواضع يتجبرون، وإلا كيف يسوغ أن تكون مكاتباتهم مع المذكورين كذلك، والكتاب الذي أنفذ إلينا بذلك، لا سيما إذا زعموا الألية وخلوص النية، فما عساه أفضى إلى هذا الندا، كما أفضى مراراً فيما مضى، لكنه وصل الخبر حالته أنهم أنفذوا بيبرس بشبهة الحج مع جمع وافر، وعموا على ملوك مكة - شرفها الله تعالى - وأخذوهم بأنهم دعوا لنا في المواسم الشريفة، والمقامات المنيفة، وأي مسلم يقصد بيت الله الحرام، الواجب تعظيمه على كافة الأنام، وهو البيت المطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويستوي فيه الأمير والمأمور، والسلطان والجنود. فحيث لم يبق من وجوه العدد شيء، تبيّن أن آخر الطبّ الكيّ، فشحذنا عرار العزم متوكلين واثقين، بما عودنا الله من النصر العزيز والفتح المبين، ونهضنا من قرب منا من الجنود، ورفعنا على السماك الألوية والبنود، عازمين على الإقامة هذه الصيفية بالشام، منتقمين لما في الضمير من الانتقام، والله المستعان وعليه التكلان. وإنما المراد من تسطير هذا الفرمان الرابع: أنّا حيث نعلم أن أهل الشام من أهل الدهاء والفطنة، فلا يشاركون المصريين في الشر والفتنة، ولا يرون بما يؤول إلى وقوع المصريين في العذاب والمحنة، أردنا أن ننّبههم من رقدة الغفول، ونوضح لهم طرف الود والقبول، بينّا لهم أنهم هل وجدوا في قواعد الأصول والفروع، وصحائف المعقول والمشروع، وجهاً يقتضي أن يتبع من ليس إتباعه ضرورة، ولا نزلت في وجوبه آية ولا سورة، ويخالفوا من لاتعُارض شوكته، ولا تُطاق سطوته، فتصيبهم المحن والفناء، وينزل بساحتهم الجهد والبلاء، وها نحن قد وردنا بالجنود المجندة، والجيوش المؤيدة، وسيصل إلينا من الروم والكرج، وتكفور والإفرنج، عساكر لا تُحصى، كالنجوم في موعد مُقرر ووقت معلوم، ويكون مصيف الجميع ببلاد الشام وحواليها، وجبالها وصحاريها، فكشفنا القناع وركبنا الحجة، وقدمنا الوعيد وأظهرنا المحجة، وعقدنا النية بأنه كل من سلك سبيل مخالفتنا، ولم ينتهج طريق طاعتنا، فإنا نأمر برعي غلاتهم، وسبي أزواجهم وبناتهم، وبقطع أشجارهم، وبقتل صغارهم وكبارهم، ونحرق مساكنهم، ونتبع مخافيهم ومكانهم، ونجعل أطلالهم، ممحوة بالطمس، وأجسادهم كأن لم تغن بالأمس.

ذكر إغارة التتار على القريتين

وإن لاح لهم الإحتراز فليستدركوا فارطهم، وليرحموا أنفسهم وأزواجهم وأولادهم وأموالهم، وليبادروا إلى ما هو السبب للخلاص، ويدخلوا في طاعتنا عن صدق وإخلاص، وليتحققوا أنا لا نريد منهم خزائن ولا أموالاً، فإن الله تعالى قد أتانا من المال ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، أغنانا بما أعطانا، عما هو في أيدي من سوانا، وفيما مُنحنا من المملكة العريضة، والسلطنة المُستفيضة، والعساكر والجيوش غير المحصورة، والألوية والأعلام المنصورة، مُتسع وكفاية، بل يخطبون باسمنا، ويضربون الدينار بسكتنا حتى نقرر الجمهور على أمورهم، من أميرهم ومأمورهم، زائدين في الإقطاعات والمشاهرات، والمرتبات والإقرارات. ولا يخفى عليهم أن الشام كان في الأعوام الماضية، والأيام الخالية، تارة مع الروم وأخرى مع العراق، وعن مصر لا زال منقطع العلاق، إلى زمان تغلب طائفة من أهل الخروج والفتن، فكما كانوا يتصورون أن الثغر هو العراق وديار بكر، فليتصوروا بعد اليوم أنه غزّة وحدود الرمل، وكما كانوا يستمدون منهم علينا، يستمدون منا عليهم، ولا يعتمدوا على القلاع، فإنهم بالمحاصرة يعجزون، ومن الإضطرار يُسلّمون، ومهما تركوا الوساوس والخيالات، وأطاعونا بصدق النيات، فهم في أمان الله الملك العلام، وأمان الرسول عليه السلام، وأماننا في النفس والأهل والمال، ولا صيبهم في عساكرنا أذية في عموم الأحوال. وكتب في رابع شعبان سنة اثنتين وسبعمائة. والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين أجمعين وسلم تسليماً. وفي نزهة الناظر: كُتب ونحن بأرض الرحبة، على عزم الركوب، في مستهل شعبان المبارك، وقال أيضاً: واتفق قبل وصول رسله حضور البطائق من حلب، تخبر عن نائب الرحبة ما أخبره. وكان قد وصل إلى دمشق الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بمن معه من الأمراء المجردين، ووقفوا على سائر الأحوال، واتفق أمرهم على أن يكتبوا للسلطان وللنائب يعرفونهم بالحال، ويستحثوهم على الخروج، ثم توارد خيل حلب وحماة أولاً فأولاً. وكان أهل دمشق عند حضور عسكر مصر اطمأن أمرهم، وطابت نفوسهم، فلما وصلت جفال حلب، أخذ كل أحد لنفسه الخلاص، واعتّدوا للرحيل، واشتروا الدواب للسفر، فوقع اتفاق الأمراء مع نائب الشام أن ينادي بدمشق أن أي من خرج من بيته حلّ ماله ودمه، ثم وقع اتفاق الأمراء أن يجردوا عسكراً من الشام، ويقيمون بين حماة وحمص، فيكون في ذلك قوة وطمأنينة لأهل البلاد، فجردوا الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، وآنص الجمدار، وكتبوا لنائب حماة وطرابلس وحلب أن يركبوا بالعسكر، ويكون الجميع مقيمين بين حماة وحمص، وركبوا إلى أن وصلوا. وفي بكرة ذلك النهار حضرت جماعة من العربان وأخبروا أن طائفة من المغل قد طرقت نحو القريتين للغارة، فاجتمع الأمراء بنائب حلب وقالوا: ينبغي أن يركب بعض العرب على الهجن ويكشف خبر هذه الطائفة وهم في مثل ذلك، وإذا قد حضر الأمير ثابت بن يزيد وعرفهم أن الخبر صحيح، وطائفة من المغل كبست على القريتين وأخذت وتركمانها وجميع ما فيها من المواشي، ولم يدعوا فيها أحداً، وساقوا أموالاً عظيمة، وأنهم عازمون العود، وبكرة النهار يكونون بالقُرب من عُرض. ذكر إغارة التتار على القريتين

قال بيبرس في تاريخه: وعند دخولنا دمشق استبشر أهلها وفرحوا، واتصل بنا اجتماع عسكر حلب صحبة الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، نائب السلطنة بها، وعسكر حماة صحبة الأمير زين الدين كتبغا المنصوري الملقب بالعادل، وعسكر طرابلس صحبة الأمير سيف الدين أسندمر الكرجي نائب السلطنة بها، ومن كان قد جُرد إليهم من العساكر الدمشقية وهم: الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين آنص الجمدار وغيرهما، واتفق وصول مقدمة التتار إلى قريب القريتين فأغاروا عليها في خمسة آلاف فارس، وبها جمع كثير من التركمان الجافلين بحريمهم وأولادهم وأغنامهم، فوقع التتار عليهم وحووهم وما في يديهم، فاتصل بهؤلاء الأمراء الخبر، فركبوا على الأثر، وجردوا سيف الدين أسندمر، وسيف الدين بهادر آص، وسيف الدين آنص، وسيف الدين تمر الساقي، وشجاع الدين غُرلو الزيني مملوك الأمير زين الدين كتبغا، وهو يومئذ من أمراء حماة، وناصر الدين محمد ولد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، في ألف وخمسمائة فارس إلى نحو هؤلاء التتار الذين شنوا هذه الغارة، فساقوا خلفهم إلى مكان يسمى عُرض، فوجدوهم قد نزلوا بما كسبوا، واطمأنوا بما غنموا، وفرحوا بما أوتوا، فأشرفوا عليهم وأقبلوا من أمامهم، فظن هؤلاء أنهم من عسكرهم قد جاءوا في أثرهم، فما تحركوا من أماكنهم حتى خالطوهم واتصلوا بهم، فتحققوا أنهم من العساكر الإسلامية والعصابة المحمدية، فاعتزلوا ناحية وتركوا المواشي والغنائم مهملةً ليتشاغل العسكر بالنهب وينهمكوا على الكسب، فينالوا منهم الغرض إذا تشاغلوا بالعرض، ففطن الأمراء بمكائدهم، وعرفوا أن المكر عادتهم، فما عرجوا على الغنائم، بل تفرقوا على القوم أربع فرقات، وجاءوهم من أربع جهات، ورتبوا أن الفرقة الواحدة تحمل عليهم وتتقدم إليهم، فإذا اشتغلوا بقتالها واستعدوا لنزالها يحيط بهم الفرق الثلاث من سائر الجهات، ففعلوا كذلك وأخلطوا بهم فدهكوهم بهذا التدبير، وغلب القليل من المسلمين جمعهم الكثير، وكسروهم، واستنقذوا التركمان الذين كانوا أسروهم، وخلصوا النسوان والولدان، واقتلعوا منهم المواشي والأموال، وأبلوا بلاءً حسناً، وفازوا بالأجر والثناء، وتفاءلوا بهذه البداية المباركة، وأيقنوا النُصرة المتداركة، وكانت هذه مقدمة لنتيجة الظفر، وقضية موجبة للتأييد المنتظر، سالبة ما استلبه فُراط التتر، ولم يُستشهد في الوقعة إلا الأمير سيف الدين آنص الجمدار، وناصر الدين محمد بن باشقرد الناصري. وقال صاحب النزهة: كان السبب لغارة المغل على القريتين أن قطلوجاً لما عدّى الفرات طلب بعض أمراء التوامين وقال له: اركب بمن معك من عسكرك، وأغر على طريقك أي جهة رأيتها قريبة منك، واقتل وانهب واسب وسُق ما تجده وما تقدر عليه من أسرى المسلمين، وكان قصد بذلك إيقاع هيبته في قلوب الرعية والعساكر، ثم أنه أول ما جاءت طريقه على القريتين رأى بها بيوت التركمان والعرب والخلق الكثير، وقد سرحوا مواشيهم إلى أن سدت تلك الأرض، فضربوا عليهم حلقة ووضعوا فيهم السيوف، فلما رأوهم صاحوا بالأمان، وأقاموا ذلك اليوم وتلك الليلة، إلى أن ساقوا جميع أموالهم، وأخذوا مواشيهم، وشرعوا في أخذ الرجال والنساء والأطفال، وربطوا الجميع أسرى، وساقوهم بين أيديهم، والرجال تبكي، والنساء يصحن، والأطفال يتصاعون.

فلما جاء الخبر بذلك إلى الأمراء عينوا جماعة من الأمراء وهم الذين ذكرناهم ومعهم يزيد بن ثابت بجماعة من عربه، وكلهم بالهجن راكبون، وفرس كل واحد منهم جنيباً على يده، وساروا ذلك اليوم إلى أن دخل عليهم الليل فاستراحوا ساعة واحدة، وجاء في ذلك الوقت بعض العرب وأخبرهم أن العدو يكونون في نصف الليل نازلين على عُرض بمن معهم من الكسب والأسرى، فركبوا وساروا الليل كله إلى أن انبثق الفجر، وجاء في ذلك الوقت بعض العرب أيضاً وأخبروا أن العدو قد نزلوا في الليل وإنكم قربتم منهم، ثم أن الأمراء نزلوا واستراحوا، وتوضؤوا لصلاة الفرض، ثم بعدها صلاة الموت، وودّع بعضهم بعضاً، ثم ساقوا على نفس واحد إلى أن طلع قرص الشمس، فتراءت مضارب العدو، وكانوا تحت تل من تلك الأرض، فساق الأمراء بمن معهم إلى أن ركبوا التلّ، ثم قال لهم سيف الدين بهادر آص: إعلموا يا أمراء أن هذه الوقعة هي وقعة الانفصال بيننا وبينهم، فإن كانت النصرة لنا فهي بشارة تستمر بنا، وإن كان غير ذلك فنعوذ بالله. وقال الأمير سيف الدين أسندمر: كل زوجة لي طالق وكل جارية ومملوك لي حر إن ولّيت ظهري حتى أبلغ قصدي، وإن مت فما يكون لي موتة أكرم منها، ثم شرع كل واحد منهم يقول بمثل هذه المقالة، وكانت العدو في المقام، وكان يحرسهم أمير ومعه خمسمائة فارس، وأول من حمل بمن معه الأمير سيف الدين أسندمر، وصاح الله أكبر، فجاوبه العسكر بصوت واحد حتى الأسرى: الله أكبر، الله أكبر، وكانت الأسرى نحواً من ستة آلاف نفس. وكانت هذه الساعة ساعة عظيمة، وقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً، وأفنوا أكثرهم على السيف، وأسروا منهم نحو مائة وثمانين أسيراً، ومن وجد مجروحاً قتلوه، ثم كتبوا بهذا الفتوح لنائب حلب ونائب حماة، ورفعوا بعد ذلك طالبين الأمراء. وكانت الوقعة في الحادي عشر من شعبان من هذه السنة، واستشهد فيها الأمير آنص، وناصر الدين بن الباشقردي الناصري، ونحو ستة وخمسين من الجند ومماليك الأمراء، وجرحت نحو ثمانين نفراً، وقتلت خيول كثيرة. ولما سبق البشير إلى الأمراء، ركب الأمير شمس الدين قراسنقر نائب حلب، والأمير زين الدين كتبغا نائب حماة، وبقية الأمراء والعسكر، والتقوهم ودعوا لهم، وفرحوا. ولما نزلوا الخيم اجتمع رأيهم على أن يكتبوا لنائب الشام والأمراء المصريين ويبشرونهم بما فتح الله من النصر على الأعداء، وخلاص اسرى المسلمين، فكتبوا كتاباً، وخلقوا عنوانه، وأول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً "، " وينصرك الله نصراً عزيزاً ". ثم عرفوهم بما اتفق من لطف الله تعالى ونصره، فاستبشرت الأمراء بذلك، وضربت البشائر، وفرح أهل دمشق وشكروا الله على ذلك، وتيقن كل أحد منهم أنهم منصورون على عدوهم. ثم في ذلك الوقت وصلت جماعة من العرب وأخبروا أن قطلوشاه جاس خلال الديار، وقد سارت خيوله سيراً غير حثيث ينتظر قازان يأتي من بعده، فاتفق رأي الأمراء على أن يكتبوا للسلطان ويستحثوه على الخروج بالعسكر، ويعرفوه بما اتفق من النصر، فلما وصل الكتاب إلى السلطان فرح فرحاً عظيماً، وأمر بعرض العساكر والخروج سريعاً. وقال ابن كثير: قدمت الأسارى دمشق يوم الخميس منتصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى، ثم لما قوي خبر التتار خافت الأمراء والعسكر أن يدهمهم التتار لإقتراب محنتهم، فرحلوا ونزلوا المرج يوم الأحد الخامس والعشرين من شعبان، ودخل التتار إلى حمص وبعلبك، وعاثوا في الأرض فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً وخافوا خوفاً شديداً، واختبطت دمشق لتأخير قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء العدو لكثرتهم، وتحدث الناس بالأراجيف، فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان الأخضر وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي في البلدان لا يجفل أحد، فسكن الناس، وجلس القضاة، بالجامع، وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على حضور الغزاة، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك، وحلفوا معه.

ذكر ما جرى لعسكر الشام

وكان الشيخ ابن تيمية يحلف للأمراء وللناس أنكم لمنصورون في هذه الكرة على التتار، ثم يقول إن شاء تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول في ذلك أشياء منها قوله تعالى: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ". ولما كان يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان: خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسور ومعهم القضاة. ولما كان ليلة الخميس: ساروا إلى ناحية الكسوة، وقد وصلت التتار إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك، ولم يبق حول دمشق من القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة، وازدحم الناس في المنازل والطرقات، وخرج تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وفي صحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، وبقي البلد ليس فيه حاكم، وعاثت اللصوص والحرافيش في بساتين الناس يخربون وينهبون، وانقطعت الطريق إلى الكسوة، وظهرت الوحشة على البلد، ويتعجبون من أمر الجيش مع كثرتهم أين ذهبوا، ولا يدرون ماذا فعل الله بالناس، فانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال. ذكر ما جرى لعسكر الشام وما فعل التتار القادمون ولما كان الناس في الحيرة والدهشة من قدوم التتار وتأخر السلطان، وعدم علمهم بأمر عسكر الشام، جاء فخر الدين إياس أحد أمراء دمشق آخر نهار يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان يبشر بوصول السلطان واجتماع العساكر المصرية والشامية، وقد أرسل ليكشف هل طرق البلد أحد من التتار، فوجد الذين يكشفون الخبر أن التتار قد عرجوا عن دمشق إلى ناحية العساكر، ولم يشتغلوا بالبلد، لأنهم كانوا يقولون: إن غلبنا فالبلد لنا وإن غلبنا فلا حاجة لنا به، فعند ذلك نودى في البلد بتطييب الخواطر لأن السلطان قد وصل وإن التتار غير متوجهين إلى البلد، فسكنت قلوب الناس، والله المستعان. وقال بيبرس في تاريخه: ولما عاد التتار الذين انهزموا من القريتين اجتمعوا مع بقية عساكرهم وتحدثوا في مشاورهم وقالوا: إن السلطان لم يتحرك من الديار المصرية في هذه الأيام، وما ثم إلا بعض العسكر المصري وعسكر الشام، واتفقوا على المبادرة ليغتنموا الفرصة على زعمهم وأقبلوا مسرعين بطمهم ورمهم، فكثرت الأراجيف لمفاجأتهم والإنذار بمهاجمتهم، هذا والسلطان ومن معه لم يتحقق حالهم، ولا علم قبالهم، فتقسمت الأفكار والظنون، وتطلعت لقدومه العيون، واجتمعنا للاستخارة، واقتدحنا زناد الاستشارة، فأجمعنا على استطلاع الحال قبل العزم على الترحال. قال: فتوجهت مستكشفاً، وللأخبار متعرفاً، فلما وصلنا القطيعة صادفنا عسكر حلب وحمص وحماة قد تقدموا جائين، وأقبلوا متواترين، وأخبروا بأن العدو سائر سير المجد في الرواح والغدو، وقد اقترب الإفدام من الأقوام، ودنت الخيام من الخيام، فرجعنا إلى مرج راهط، وخرج الأمير ركن الدين الأستادادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ومعهما الأمراء المصريون والشاميون، فاقتضت الآراء التأخر عن المرج قليلاً والنزول من دونه ولو ميلاً، ريثما يحصل التوثق من وصول السلطان واجتماع العساكر قبل أن يلتقي الجمعان، فلما رجعوا إلى خلف شيئاً يسيرا ولت الأطلاب، وعادت العساكر على الأعقاب حتى إن أكثرهم ترك حماله، ورمى أثقاله، وأهمل قماشه وماله، ولم يتهيأ ردهم ولا أمكن صدهم، وعبروا على مدينة دمشق بهذه الصورة، فتصدعت قلوب أهلها المكسورة، وعجوا وضجوا واستصرخوا ولجوَا، وحملهم مادهموه من انتقاض العزائم على أن صرحوا بالشتائم، وبادر أكثرهم بالجفل لينجو، وقالوا: إذا رجعت عنا العساكر فأيَ حياة نرجو، فحصل بلطف الله التوقف والتثبط والتمسك بالمرج والتضبط، فما كان إلا كلمح شرارة أو وحي إشارة حتى أتى البريد مخبراً بإقبال الملك الناصر وأطلاب العساكر، فزال البأس وغلب الرجاء اليأس، ثم أقبل السلطان في جيوشه، وأسوده الكاشرة ووحوشه، فقويت القلوب، وانحلت الكروب، واجتمعت العساكر المصرية والشامية وتكتبت الكتائب المحمدية. وقال صاحب النزهة: وقد كان السلطان كتب إلى نائب الشام والأمراء وعرفهم بأنه خرج من مصر وصحبته الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان، فلما وصل إليهم الخبر فرحوا واستبشروا بذلك وطابت خواطر العامة بكون العسكر مقيمين عندهم، وكون السلطان في الطريق وهو جاي.

وفي ثالث اليوم من ذلك: جاءت الأمراء المقيمون بمصر وهم: نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، فلاقتهم الأمراء الذين بدمشق واجتمعوا، فلما نزلوا للمشورة تحققوا أن قطلوبغا نائب قازان بمن معه من العسكر قد وصل إلى قرون حماة طالباً دمشق طلباً لقلعتها، فإنه بلغه ما جرى على السرية التي غارت على أهل القريتين، وبلغه أن نائب الشام متوجهاً للقائه بعسكر الشام، فعند ذلك اجتمعت سائر الأمراء: نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة كتبغا العادل، ونائب طرابلس أسندمر، ونائب الشام الأفرم، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين الرومي، ومبارز الدين بن قرمان، وكراي المنصوري، وتغريل النوغاي، وسائر أمراء مصر والشام، على أنهم يخرجون إلى مرج دمشق ويلاقون العدو فيه، ولا يدعونهم يدخلون دمشق. فلما انتظم الحال على هذا لم يعجب هذا الرأي الحسام الأستاذ الدار ولا تحدث معهم في هذا الرأي، فقال له بيبرس: ما لك لا تتكلم مع الأمراء؟ فهذا ليس وقت السكوت، وأنت رجل كبير ورأيت ما لا رأيناه، وجرت عليك التجاريب، فلا يحل لك أن تسكت، فإن رأيت خيراً من هذا الرأي تكلم، حتى نوافقك على هذا إن رأيناه مصلحة، وإلا فأنت تعلم شيئاً فيه مصلحة وتسكت عنه تطالب به يوم القيامة. فقال يا أمراء: أنا أقول ما أعلم أنه يخلصني عند الله تعالى، ولكن ما يعجب ذلك بعض الأمراء. قال له بيبرس: قل حتى نسمع. فقال: اعلموا أن هذا عدو ثقيل، وهو قاصدكم وطامع فيكم لكون أنكم نواب البلاد، ولا يعلم أن عسكر مصر مع السلطان، قد قربوا منكم، فمتى لاقيناهم يجري علينا ما لا نحبه من غلبة العدو علينا، فيتفرق شمل العسكر الذين تجمعوا، ويحضر السلطان والعسكر على حال الفساد، ويكون العدو خلفنا، فيتوهم عسكر السلطان، وتنكسر قلوب الناس، ويقع العتب علينا أيضاً من السلطان حيث يقول: كنتم صبرتم حتى اجتمعنا كلنا جملة، والحال أنكم سمعتم بقدومي، فلا يفيد بعد ذلك الندم، وهذا السلطان قد قرب وبقي بيننا وبينه يوم أو يومان، والمصلحة عندي أن نرجع إليه، ونجتمع بين يديه، وتكون الآراء رأياً واحداً، واللقاء جملة واحدة، ويعطي الله النصر لمن يشاء. فلما سمع بيبرس هذا الكلام التفت إلى الأمراء فقال: والله أنا لا أخرج عن إشارة هذا، فإن الذي قاله وأشار إليه ما عليه فيه جناح عند الله، ثم قال نائب الشام للحسام الأستاذ الدار: يا أمير أنت إذا خرجت الساعة يغير العدو على دمشق من بعدك، ويضع السيف في أهلها، فماذا يكون عذرك عند الله؟ فقال له الحسام: يا أمير إن العدو إذا علم بخروج العسكر من دمشق لا يلتفت إليها، ولا يكون عزمه إلا على اللحوق بالعسكر ويقول: إن دمشق في يدنا، ومع هذا يتوهم عن خروج العسكر. فلما سمع الأمراء هذا الكلام منه أمروا ساعتئذ بقلع الخيام والركوب، ونادى المنادي بالرحيل، فوقع الصوت في دمشق، فتحير أهلها ودهشوا بحيث لا يغفل الوالد على ولده، ولا الولد على والده، وسيبت النساء والبنات، وغلت أسعار الجمال والحمير، فبلغ كل حمار كان يساوي مائة بخمسمائة وستمائة، وكل جمل كان يساوي ثلاثمائة بيع بألف وأكثر، وفي الناس من نجا بنفسه وخلى حريمه، ومن كان ظهره ثقيلاً طلع القلعة، وما جاء الليل إلا ودمشق يبكي عليها ويندبها النوادب. وأما الجند والعسكر فإن أحداً منهم لا يلتفت إلى رفيقه ولا إلى خشداشه، ولا ينظر المملوك إلى أستاذه، وخرجت الغلمان والحمالة على وجوهها، والصناديق التي فيها الأكل والحلواء يرمونها لأجل الخفة، وكان يوماً عظيماً، وأما فقراء دمشق ومشايخها وصلحاؤها وفقهاؤها وقضاتها، فقد اجتمعوا بالجامع الأموي، ووطنوا أنفسهم على الموت، وكشفوا رؤوسهم يتضرعون إلى الله تعالى ويبكون، ولم يزالوا كذلك إلى أن طلع الفجر، ولاحت للناس مواكب العدو وجحافله، وقد رجعوا عن دمشق وركبوا أعالي الغوطة، ففرحت الناس لذلك وعلموا أن الله قد استجاب دعاءهم ورحمهم.

ذكر خروج السلطان من القاهرة

وكان سبب عدولهم عن دمشق أن جواسيس قطلوشاه قد حضروا إليه في الليل، وعرفوه أن النواب مع عساكرهم، لما سمعوا بوصولك إليهم، وتحققوا أن عسكرك عظيم، وأنهم ليس لهم طاقة للملاقاة، اتفقوا على أن يخلوا لك دمشق حتى تدخل إليها وتشتغل بأهلها، وينجون هؤلاء بأنفسهم، مع أنا سمعنا أن لهم عسكراً خرجوا من مصر وهم مقبلون، فهؤلاء قد ذهبوا إليهم حتى يعتضدون بهم، ثم يرجعون جملة واحدة ويعملون شيئاً وأنتم مشغول في المدينة، فلما سمع قطلوشاه ذلك أعلم أمراءه بذلك وأكابر عسكره، واتفق رأيهم أن لا يدخلوا دمشق، فإنه إن دخلوا يفسد أمرهم ويشتغل العسكر بالكسب، فيحصل الفساد إن عاد عسكرهم علينا، ومع هذا يمكن أن يكون هذا مكيدة من نائب الشام، فعند ذلك ركبوا وقصدوا الطريق التي من وراء المرج حتى ينزلون من خلف دمشق على الكسوة، ثم يتتبعون آثار عسكر الشام، فحيثما يتلاقون يهم يحطمونهم. فلما رأت أهل دمشق ذلك حمدوا الله تعالى، واستمروا مقيمين في الجامع، مشتغلين بالدعاء والقنوت في الصلوات. قال الراوي: وكان يوم خروج الشاميين من دمشق يوم نزول السلطان الملك الناصر بعساكره على رأس العقبة، وكان يوم استهلال شهر رمضان المعظم. ذكر خروج السلطان من القاهرة ووصوله إلى شقجب كان خروج السلطان من مصر في الثالث من شعبان من هذه السنة، وأسرع في السير إلى أن وصل إلى راس العقبة مستهل رمضان كما ذكرنا، والتقى الأمراء بالسلطان وترجلوا وباسوا الأرض، وما لحقوا أن يقفوا إلا وأجناد العدو قد وصلت بوصوله، فوقف السلطان وأمر للنقباء والحجاب أن يدوروا على الجيش ويأمروهم بلبس الأسلحة والاستعداد للملاقاة، وبقي السلطان والأمراء راكبين في الموكب سائرين، واستعد العساكر باللبس والتجهيز. وفي ذلك الوقت وقع كلام فج بين الأمير شمس الدين سنقر العلائي - أحد الأمراء البرجية - وبين الأمير حسام الدين الأستادار، وكان هذا سنقر من جمرة البرجية التي تتعد وكان مدلاً بشبابه وقوة ساعده وفروسيته، ولما رأى الأمراء سلَم عليهم، ورآهم على تلك الصورة، أنكر عليهم، فصار كل أحد منهم يحكي له حكاية، ومال بعضهم فيها على حسام الدين الأستادار حيث أنه منع العسكر عن ملاقاة العدو، وترك دمشق وأخذ العسكر وأخلاها، وأشار إليهم أن الملاقاة تكون بحضور السلطان، وأن الأمير ركن الدين بيبرس وافقه على هذا الرأي، فتبعته الأمراء، فما سمع سنقر هذا الكلام إلا وقد ركض فرسه وسط الموكب وقال للأمير بيبرس: يا أمير إش هذا الرأي الذي فعلته بالناس حتى أفسدت حال العسكر، وكسرت قلوب أهل دمشق، ونهبت أموالهم، وسمعت من واحد قد كبر وخرف وما يشتهي الموت، والأمير حسام الدين إلى جانب السلطان يتحدث معه ويسمع كلامه، ثم التفت بيبرس إليه وقال له: اسكت، ما هذا الكلام؟ ثم قال حسام الدين: يا أمير - يخاطب سنقراً - أما أنا فإني أشرت إليهم، فالله يطالبني بها يوم القيامة إن كان قصدي فساد المسلمين، وأما أني كبرت فصحيح، ولكني ما خرفت، فوقع بينهما كلام كثير، ثم غضب بيبرس وصاح على سنقر العلائي وأخرجه من مكان كان واقفاً فيه. قال الراوي: سمعت من قال: إني رأيت حسام الدين تخرج الدموع من عينيه، وقد بلت شيبته، وهو يتمثل بأبيات من شعر الطغرائي: تقدمني رجال كان سوطهم ... وراء خطوي إذا أمشي على مهل هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل ذكر وقعة شقحب قال صاحب النزهة: هذه الوقعة عرفت بين الناس بوقعة شقحب، ثم بغباغب، فإنها كانت مشتملة على طرف شقحب وغباغب والصنمين، قلت: هذه أسماء قرى هناك، وهي أراضي وعرة ذات أحجار سود. قال بيبرس في تاريخه: ذكر كسرة التتار على مرج الصفر في غرة الشهر الأزهر: لما انتظم شمل العسكر انتظام الجمان، واصطفت صفوفه كأنها بنيان، أضحوا كما قال أبو الطيب المتنبي: وإذا رأيت إلى السهول رأيتها ... تحت العجاج فوارساً وجنائبا وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا فكأنما كسى النهار بها دجى ... ليل واطلعت الرماح كواكبا أسد فرائسها الأسود يقودهم ... أسد تصير له الأسود ثعالبا

ذكر ما اعتمد عليه قطلوشاه في ذلك اليوم

وقال النويري: لما وصل الملك الناصر رتب العساكر الإسلامية ميمنة وميسرة وقلباً، والتقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار. وقال صاحب النزهة: وكما قدر الله تعالى وصول السلطان والعسكر وجدوا قطلوشاه ومن معه من المغل قد وصلوا، ووقف على أعلا النهر وقد نظروا العساكر من علوه، فظنوا أنها عسكر الشام، فتباشروا، وأخذت الحجاب في ترتيب المواكب والأمراء والمقدمين، واجتمع الجميع قدام السلطان، وحضر الخليفة أبو الربيع، ووقفت أكابر الأمراء والنواب، وأجمعوا على تعيين أمراء للميمنة، وأمراء للميسرة. ووقف السلطان في القلب بلوائه، والخليفة بإزائه، والأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين أستادار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير جمال الدين أقوش نائب الشام ومن معه من عساكر الشام، وبلرغي، وأيبك الحموي، وبكتمر الأبو بكري، وقطلوبك، ونوغيه السلحدار، وأغرلو الزيني. وفي الميمنة: الأمير حسام الدين الرومي أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقوش الموصلي، والأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري، والأمير مبارز الدين بن قزمان، ومبارز الدين بن سواري أمير سنجار. وفي الميسرة: الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب ومن معه من العسكر الحلبي، والأمير سيف الدين بتخاص المنصوري نائب صفد، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير بكتمر السلحدار، والأمير بيبرس الدوادار صاحب التاريخ. وفي الجناح الأيمن: الأمير سيف الدين قفجاق نائب حماة ومعه العسكر الحموية، وجماعة العربان فيهم مهنى وآل فضل. وقال صاحب النزهة: وفي الجناح الأيمن شمس الدين قراسنقر نائب حلب مع مهنى وآل فضل، والأمير بهاء الدين أولياء بن قزمان، وفي الجناح الأيسر: سيف الدين برلغي، وعلم الدين الجاولي، وشمس الدين سنقر الكمالي. وقال صاحب النزهة: كانت الأمراء قصدوا أن يعزلوا السلطان مع جماعة بناحية عن المصاف، فأبى ذلك ولام الأمراء وقال: والله أنا أول من يحمل قدامكم. فقال له أسندمر كرجي نائب طرابلس: يا خوند نحن ما نريد منك أن تحمل، ولا للملوك عادة بالجملة، ولكن إثبت أنت مكانك، فإذا ثبت السلطان ثبت العسكر. فقال له: يا أمير إن اخترتم هانوا قيداً فقيَدوا فرسي به حتى أموت وهو واقف، فأعجب ذلك الأمراء ودعوا له. وقال ابن كثير: ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً، ويقال: إنه أمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله في ذلك الموقف. وقال صاحب النزهة: ولما تكامل ما رتبوا وقف كل أحد مكانه، والخليفة إلى جانب السلطان يتلو كتاب الله ويذكر ما أعد الله للمجاهدين من الثواب والأجر، ويقول: أيها المجاهدون لا تقاتلوا لأجل سلطانكم، فقاتلوا لأجل حريمكم، فعند ذلك ما كنت ترى إلا أدمعاً على الخدود تترادف، وزعقات من صميم الأكباد تتضاعف، وعاينت جماعة من الجند وقع بهم الاختلال في عقولهم في ذلك الوقت ووقعوا إلى الأرض، وبقي الأمير سيف الدين سلار في حفدته ومضافيه، والأمير ركن الدين في حفدته من البرجية ومضافيه، يترددان بين القلب والميمنة، وكان هؤلاء جمرة الإسلام، وعليهم العمدة في الأحكام، وكل منهما في نحو أربعين طبلخاناة. قال الراوي: وبلغني من أحد الأمراء أنه سمع بيبرس يقول: أنا عاهدت نفسي الموت، وذلك حين قال له سلار: يا أخي أنت تعلم أن الحديث فينا كثير، وأنا نسبوني إلى التتار لكوني من جنسهم، وأنت نسبوك إلى أنك تبغض الجند، فبالله أوص لأصحابك بالثبات وإلا لا يبقى لنا وجه عند أحد بعد هذا اليوم، وتعاهدوا، ووثق بعضهم بكلام بعض، ثم نشروا السناجق والأعلام الخليفتية والسلطانية، وسيروا النقباء فداروا على الركبدارية والغلمان والجمالة، وجمعوا الجمع، وأوقفوهم صفاً واحداً خلف أستاذيهم ليكثر بهم السواد، ونادى منادي: أي جندي خرج من المصاف بغير عذر أو جرح، فدمه حلال، وعدته وفرسه لهم، وكذلك الجمالة والغلمان. ذكر ما اعتمد عليه قطلوشاه في ذلك اليوم

ذكر كيفية الوقعة

ولما تناهى ترتيب المسلمين، عاين ذلك قطلوشاه مقدم المغل وهو أعلى الخيل، وهو في جيش قد سدّ السهل والوعر، ثم شرع في ترتيب أمره، فقصد أن يرتب مقابل كل موكب موكباً، وجمع الأمراء على ذلك، فلم يجد في أمرهم فسحة، ووجد ميسرة المسلمين قد انتشرت، وبينهم وبين التتار النهر الكبير هناك فلا يمكن الوصول إليهم، فمشوا إلى آخر النهر إلى أن وصلوا إلى رأس الميمنة، فوجدوا رائجاً مديداً، ولكن وجدوا مخافاً للجبل، فتشاوروا في أمر نزولهم، واتفق رأيهم على أنهم لا يجدون مكاناً للنزول أسهل من هذه المخاضة، وأنهم ينزلون جملة واحدة. وأنهم إذا كسروا هذه الطائفة التي بين أيديهم يدورون خلف الذين يبقون، فإنهم لما رأوا ميمنة المسلمين ورأوا عسكرهم أمثال هؤلاء استحقروهم. وقال بيبرس: وفي الوقت الحاضر أقبلت كراديس التتار كقطع الليل، لا يبين فيها الرجل من الخيل، وقد عراهم القتام والغبار، وفيهم من مقدميهم الكبار: قطلوشاه، وسوتاي أقطاجي، وجوبان بن تداون، ومولاي، وقرمشي بن الناق، وطوغان، وسبوشي بن قطلوشاه، وطغريل ابن آجاي، وآبشقا، وأولا جغان، والكان، وطيطق في مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم. ذكر كيفيّة الوقعة قال صاحب النزهة: لما رأت التتار عسكر الإسلام وهم على الجبل صاحوا وضربوا الطبول، ونزلوا وقد أحاطوا النهر، ووقفوا عند المخاضة، وكان مقابلهم من ذلك الجانب الأمير حسام الدين الأستادار. والأمير بهاء الدين أوليا بن قزمان، ولما رآهم حسام الدين قال: بسم الله نية الغزاة، فجذب سيفه ومشى، وقال بعض مماليكه: يا خوند ارجع قليلاً عن يمينك أو عن شمالك، فلم يلتفت إليهم إلى أن صدمته الخيل، وصدمت ابن قزمان أيضاً، فكان الاثنان بينهم كالواحد في ألف، فإن الجميع اجتمعوا على مخاضة واحدة، وطلعوا طلوع رجل واحد، وكان الأمير الجاولي رديفهم، وبرلغي رديف الجاولي، والأمراء متصلون بعضهم ببعض، وارتفع الغبار، ولم يشعر الناس إلا وقد اندق الجاولي وبرلغي على الكمالي، ورأى بيبرس وسلار ذلك، فصاح سلار: هلك والله الإسلام، وصاح على بيبرس والأمراء البرجية، فنهض الأمراء المنهزمون وصدموا جيش المغل، فرجّعوها قهراً، ورموا منهم جماعة كثيرة إلى أن كشفوهم عن المسلمين. وكان جوبان وقرمشي ومن معهما قد ساقوا يعينون مولاي وهو خلف المسلمين، فرأوا قطلوشاه وقد انكسر، فعادوا إليه، ووقف في وجه بيبرس وسلار. وكان السلطان والأمراء قد رأوا سلار وبيبرس قد خلى مكانهما، ورأوا أطلاب العدو تتواتر، فخرج أسندمر وقطلبك وقفجق والمماليك السلطانية وردفوهما، ولما رأى سلار السلطان والأمراء أخذ على جانب وتمكن من العدو، وطعن فيهم وأبادهم، ولم يبق أمير إلا وقد ألقى نفسه للموت، فلما رأى المغل ذلك أخذوا جهةً وتمكنوا منها، وكان الأمير سيف الدين برلغي بين أيديهم، فصدموه ومزّقوا طلبه وفرقوه، ثم صاروا أيّ جهة مالوا إليها فرقوها، وتم الحرب بين سلار بمن معه من الأمراء والسلطان وبين قطلوشاه تارةً تارة، وكل من الفريقين قد ثبت. ولم يعلم سلار والأمراء أن الجانب الذي نزلوا عليه قتلت أمراؤهم وانهزم من كان معهم، وأن طائفة من المغل ساقت وراء المنهزمين، وفي ذلك نهبت خزائن السلطان، فإن الكسرة حيث انتهت بالمسلمين على تلك الطريق جعلت الناس بين أيديهم، وتفرق من كان حول الخزائن، ولما رأى السواد الأعظم ذلك صاروا يبركون جمال الخزائن البخاتي ويكسرون الصناديق، ويخرجون أكياس الذهب والفضة، فيأخذ كل أحد ما يقدر عليه.

ذكر هزيمة التتار

ومازالت الحرب بينهم إلى أن مالت الشمس للغروب، وكان الملتقى بينهم بعد الظهر، ثم مال قطلوشاه بمن معه إلى جانب جبل إلى جانبه، وطلع عليه وفي نفسه أنه منصور، ورجع جماعة منهم كانوا وراء المنهزمين، ومعهم جماعة من أسراء المسلمين وفيهم الأمير عز الدين أيدمر النقيب من المماليك السلطانية، فلما اجتمعوا قال قطلوشاه: هذا عسكر كثير وليس الأمر كما ظننا فلا بد أن نعلم خبرهم، فاقتضى رأيهم أن يحضروا أسيراً من الأسرى ويستخبروا منه خبر العسكر، وقالوا لقطلوشاه: إن في الأسرى رجلاً وهو أمير، وهو عز الدين أيدمر المذكور، فأمر بإحضاره، فأحضروه بين يديه وقال: أنت من أمراء الشام؟ قال: لا أنا من أمراء مصر. فقال له: وما جاء بك ههنا؟ فقال: جئت مع السلطان. قال: مع الملك الناصر. قال: نعم. قال: وأين السلطان وعسكر مصر؟ قال: الكل واقفون. قال له: وعسكر مصر جميعهم الساعة ههنا حاضرون والملك الناصر حاضر. قال له: نعم. قال: فأي وقت وصلتم إلى ههنا، فأخذ يعرفه ويخبره بجميع أمور السلطان من يوم خرج من مصر إلى هذا اليوم. ومن جملة ما قال له: هذا الذي كسرتموه من الميمنة فقط، وعسكر الملك الناصر كثير، فلم يصدقوه حتى أحضروا غيره، فسألوه فأخبر نحو ما أخبره عز الدين أيدمر، ثم سألوا غيره وغيره إلى أن سألوا جماعة كثيرة، فالكل أخبروا بخبر واحد، ولما تحققوا صدق مقالهم وقعوا في بحر زخار، فقال لهم مولاي: تحققتم أن هذا هو الملك الناصر قالوا: ما بقي شك في أمره. فقال: ألم تعلموا أن الخان قازان قد كتب يغلق، وعاهدنا أننا إذا رأينا أو سمعنا أن الملك الناصر حاضر بعسكره أو بغير عسكره لا نضرب معه مصافاً؟ فقال له قطلوشاه: لو علمنا من الأول أن الملك الناصر حاضر ههنا ما ضربنا معه رأساً، ولكن اعتقادنا أنه نائب الشام مع عسكر الشام، والآن فقد وقعنا كلنا في فم السبع فما بقي إلاّ الموت جميعاً أو الحياة جميعاً، وهم في ذلك الكلام إذا بالكوسات قد دقت والبوقات قد زعقت، حتى ملأت الأرض وأزعجت القلوب، وكان ذلك برأي الأمراء حيث رأوا التتار قد تجمعوا فوق الجبل حتى تقع الهيبة في قلوبهم، وحتى يسمع المنهزمون فيرجعون. ولما سمعوا حسّ الكوسات، قال مولاي لقطلوشاه: هذا الطبل ما يدق إلاّ للسلطان، وأنا ما أخالف يسق الخان، فضرب طبله وخرج من قدام قطلوشاه بتومانه، ونزل من الجبل بين العشائين، ولم يزل إلى أن طلع من المخاضة التي نزلوا منها، وعلم به بعض العسكر، فلم يجسر أحد أن يقربه ولا أن يتبعه. وبات الأمراء والناس في هذه الليلة والنيران قد ملأت الأرض، والمشاعل توقد، وكذلك التتار قد أوقدوا النيران وباتوا محترسين على أنفسهم، ولم يزل في تلك الليلة النقباء والحجاب ومعهم سلار وبيبرس وأسندمر وقبجق وأكابر الأمراء دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم بأن يكونوا على يقظة من أمرهم، فعرفهم الأمير سيف الدين قفجق أن التتار لو قتلوا عن آخرهم في هذا المكان ما ينزل أحد منهم في الليل ولا يقاتل، وإنما لا بد لهم من النزول غداً. ذكر هزيمة التتار قال الراوي: وما أصبح الصباح إلا وقد انضم شمل عساكر السلطان، وأخذ كل أحد موضعه، وأما قطلوشاه فإنه شاور مع بعض الأمراء الكبار الذين معه فيما يفعله، وقد تحققوا في أنفسهم الموت، فوقع رأيهم على أن يقيموا على الجبل ولا ينزلوا ويقاتلوا العسكر إلى أن يفنوا ولا يسلموا أنفسهم، وما زالوا محترسين على أنفسهم إلى أن طلعت الشمس وقوي نورها، فنظروا إلى عسكر قد ملأ الأرض، ولم يروا مثلهم في أعمارهم، وأراهم الله في عيونهم في كثرة لا تحصى ولا تعد. ثم شرع المسلمون يريدون أن يهجموا عليهم، فمنعهم الأمراء، وفرقوا العساكر حول الجبل على بعد. وشرع قطلوشاه والأمراء ورتبوا عسكرهم، فجعلوا كل مقدم إلى جهة، ونزل منهم بعض ركاب وجماعة من الرجالة وقصدوا قتال العسكر.

ولما رأى السلطان والأمراء ذلك جعلوا قبالة كل مقدم مع طائفته أميراً من الأمراء، وأضافوا إليه من كان يناسبه، وخرج مماليك السلطان إلى مقابل قطلوشاه وجوبان، فشرعوا يقاتلون معهم تارةً بالرمي وتارةً بالهجوم عليهم، وقد لاح للإسلام وجه النصر على الأعداء، وصار كل مقدم من الأمراء يقاتل بالنوبة، يقاتل واحد ثم يذهب ويجيء غيره، وكذلك فعل المغل، والسلطان والأمراء واقفون ينظرون إليهم، فإذا قتل فرس واحد منهم أحضروا غيره في الساعة حتى أن بعضهم كان يقتل له فرس وفرسان وثلاثة من النشاب. ولم يزالوا في القتال إلى أن توسطت الشمس من نهار الأحد. وانفصل القتال بينهم، وطلع قطلوشاه ومن معه من التتار وقد قاسوا نهاراً عظيماً، وقتل منهم نحو ثمانين رجلاً، وخرجت جماعة وركبتهم الذلّة، وقاسوا من قلة الماء أمراً عظيماً لأنهم لم يحسنوا انحصارهم على الجبل، فما أخذوا من الماء إلا قليلاً، ولما رأوا ذلك أجمعوا على النزول بكرة النهار، فمن مات مات ومن له أجل عاش، وذبحوا من خيولهم وشووا وأكلوا. ولما أصبحوا اعتمدوا على النزول، وهرب منهم ناس من الأسرى وجاءوا إلى السلطان وأخبروه بما هم فيه من الذلة والعطش والخوف، وأنهم اتفقوا على أن يصدموا الجيش، وأنهم قد تحققوا الموت، فعند ذلك تشاور أكابر الأمراء، ووقع رأيهم على أن يفسحوا لهم طريقاً ولا يتقرب إليهم أحد إلى أن ينزل الجميع قدام العسكر، ثم يركبون ظهورهم. ولما أرادوا النزول رأوا جماعة من المغل قد عدمت خيولهم وبقوا رجالة، وما بقي مع أحد من الأمراء فضلة خيل، فاتفقوا أن يأخذوا خيول الأرمن الذين معهم، فأخذوا منهم نحو مائتي فرس وأعطوا هؤلاء، ثم شرعوا في تجهيز حالهم إلى الساعة الرابعة من النهار، ثم ضربوا طبولهم ونزلوا، وكل منهم قد أعدّ نفسه للموت وتموا سائقين إلى أن وصلوا إلى النهر، ورموا خيولهم فيه، فمن كان فرسه قوياً طلع ومن كان فرسه قليل القوة وقف فيه، ولما طلعوا منه تبعتهم خيول المسلمين، وأنزل الله عليهم الذلة والمسكنة، ومزّقت جموعهم، وتفرقوا بحيث لم يلتفت أحد إلى أحد. وكانت تلك الأراضي وعرةً كما ذكرنا لا يتمكن الفرس من حط رجلها إلا على حجر، فقاست خيول المسلمين من ذلك شدة. وأما التتار فإن راكباً منهم ما يهرب مقدار رمية نشاب إلا وقد وقع على الأرض. ولو عاينت ما كنت ترى غير رؤوس ترمى بالسيوف، ورجال يقبض عليهم بالأيادي والكفوف، وتمت خيل المسلمين تابعة أثرهم إلى أن صار وقت العصر، فرجعت الأمراء واجتمعوا عند السلطان، واتفق رأيهم على تجريد أمراء يتبعونهم، فجردت جماعة منهم بمضافيهم من أصحاب الخيول الجياد، فتزودوا وساروا وراءهم، ورسم للعرب أيضاً أن يتبعوا آثارهم، فأيّ موضع أدركوا منهم جماعة يقبضون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم. وقال النويري: التقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار، فاضطربت ميمنة المسلمين، واستشهد جماعة من الأمراء، وانهزم بعضهم إلى دمشق، وأردف القلب الميمنة فردّت التتار عنها، وأما الميسرة فثبتت وحملت على ميمنة التتار وكان مقدمهم مولاي، فولى منهزماً وتبعهم المسلمون، وحجز الليل بينهم، والتجأ التتار إلى الجبل وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وضايقوهم أشد مضايقة إلى الصباح، ثم أفرج لهم الأمير أسندمر فرجة من رأس الميسرة، فخرجوا منها هاربين على أعقابهم، وتبعتهم العساكر الإسلامية فأبادوهم قتلاً وأسراً وغنموا منهم خيلاً عظيمة حتى بيع الأكديش بخمسة دراهم. وقال ابن كثير: وأصبح الناس يوم الجمعة أول رمضان في هم شديد وخوف أكيد لا يعلمون ما خير الناس، فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير غرلو العادلي، فاجتمع بنائب القلعة، ثم عاد سريعاً ولم يدر أحد ما الخبر، ولم يفهم أحد من العامة فيم جاء غرلو. وأصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من شدة الحال، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدوّ، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله بالدعاء في الجامع والبلد، وطلعت النساء والصغار على الأسطحة، وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس.

ذكر دخول السلطان دمشق مؤيدا منصورا

فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش، ووصل الركاب السلطاني إلى مرج الصفّر، وفيه طلب الدعاء من الناس، والأمر بحفظ القلعة والتحرّز على الأسوار، فدعي الناس في المأذنة والجامع والبلد، وانقضى النهار، وكان يوماً مزعجاً هائلاً. وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلاً، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون. فلما كان بعد الظهر قرىء كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر باجتماع الجيش ظهر السبت بشقحب وبالكسرة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من النائب جمال الدين الأفرم إلى نائب الغيبة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقابهم ليلاً ونهاراً، وأنهم وهنوا وركنوا إلى الفرار، وأنه لا يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم ودقت البشائر بالقلعة. وفي يوم الإثنين الرابع من رمضان: رجع الناس من الكسوة، ودخل ابن تيمية وأصحابه البلد، ففرح الناس به ودعوا له، وذلك لأنه ندب العسكر الشامي إلى أن يسير إلى ناحية السلطان، وحرّض السلطان وبشره وجعل يحلف له بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه الكرة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وأفتى للناس بالفطر يومئذٍ، وكان يدور على الأطلاب فيأكل من شيء معه من يده فيأكل الناس ويناول في الشاميين قوله عليه السلام: " إنكم تلاقوا العدو غداً والفطر أقوى لكم "، يعزم عليهم في الفطر عام الفتح، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأما السلطان فإنه رجع مع الأمراء إلى مكان الوقعة، فوجدوا المجاهدين قد ملأوا تلك الأرض، وهم بين تلك الأحجار مطروحين، وكل من رأوه وجدوه مستقبل القبلة، وسبابته تشير بالشهادة، ووجهه يتقد نوراً، فكأنه في حال الحياة، وكل من رأوا من قتلى المغل وجدوه ملقى على وجهه، ثم أمر السلطان بأن يروح بدر الدين الفتاح مبشراً إلى مصر، وكتب معه كتاب البشارة، وكان النائب في مصر عز الدين البغدادي، وكتب إلى غزة أيضاً بالبشارة، وأمر النائب فيها أن لا يمكن أحداً من المنهزمين من التوجه إلى مصر، وكتب أيضاً إلى سائر القلاع والحصون بالبشارة والتهنئة بما فتح الله على الإسلام بالنصر على الأعداء، وأقام السلطان إلى يوم الثلاثاء، ثم ركب إلى نحو دمشق. ذكر دخول السلطان دمشق مؤيداً منصوراً قال ابن كثير: ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان، وبين يديه أبو الربيع سليمان الخليفة ونزل بالقصر الأبلق، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس، وصلى بها الجمعة، وخلع على النواب وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب الناس، وطابت قلوب الناس. ولما دخل السلطان دمشق خرجت إليه سائر الدماشقة من الصلحاء والمشايخ والحكام والكتاب والعامة حتى لم يبق بدمشق مخلوق، وتلقوه بالدعاء والثناء، وازدحموا عليه حتى لم يبق لفرسه مكان يمشي عليه من كثرة العامة، وضربت البشائر والكوسات، وسيقت الأسارى بين يدي موكبه مقرنين في الأصفاد، وسناجقهم بأيديهم منكوسة، وطبولهم معكوسة. وكان السلطان لما دخل دمشق ولي وعزل، وأمر ونهى، وقطع ووصل، وعزل ابن النحاس عن ولاية المدينة، وعوض عنه بالأمير علاء الدين أيدغدى أمير علم، وعزل صارم الدين ابراهيم والي الخاص عن ولاية البر، وعوّض عنه بحسام الدين لاجين الصغير رحمه الله. ذكر ما جرى للتتار بعد انهزامهم

ذكر نسخة الكتاب الصادر من السلطان من مرج الصفر إلى قازان في رابع شهر

وقال صاحب النزهة: لما انكسرت التتار انتشروا في الأرض، فكان الرجل منهم يقع من نفسه، وآخر يقف فرسه فينزل ويمشي ساعةً، ثم يقطع من لباده الذي عليه قطعة فيلفها على رجليه، هذا هم الذين غفل عسكر الإسلام عنهم، وأما الذي يصادفه أحد منهم فإما يقتله أو يأسره ويقوده مثل الكلب، وقد ملئت الأرض من دمائهم ومن أجسادهم، فأوقع الله عليهم الذلة والصغار حتى يقبض على واحد منهم فلا يمد يده ولا يقاتل، وإذا كان في يده قوس أو سيف يرميه إلى الأرض، وإذا رأى الرجل طالبه يمدّ رقبته إليه ويسلم نفسه من غير قتال، وقتلت منهم الغلمان والحرافيش خلقاً كثيراً، وكان الجند ومماليك الأمراء يتذاكرون في قتلاهم، فمنهم من يقول: قتلت عشرين وآخر يقول: قتلت ثلاثين، وآخر يقول: قتلت عشرة، ونحو ذلك، وأما العرب فقد فعلوا بهم من النهب والقتل ما لا يحصى، ومنهم خلق كثير ماتوا عطشاً في البراري، وكذلك دوابهم، ومنهم ناش التجأوا ببساتين دمشق فدخلوا فيها، فكان الرجل يجيء إلى بستانه فيجد فيها اثنين وثلاثة فيقتلهم، ولا يقدر أحد منهم على منعه من الخوف والجوع والتعب، ولما علم الأمراء بذلك نادوا في دمشق إن من وجد أحداً من المغل أو الأرمن ولم يحضره إلى نائب الشام فقد حل دمه، فصار من يظفر بواحد منهم أو أكثر يأتي به إلى النائب، فالنائب إما يقتله وإما يستخلصه لنفسه. وقال بيبرس في تاريخه: لما حصل التظافر على التتار أسرع مولاي أحد مقدميهم في الفرار، وفرّ معه منهم زهاء عشرين ألفاً، ثم افترق التتار ثلاث فرق: الأولى فرقة فيها جوبان في زهاء ثلاثين ألفاً، والثانية فرقة فيها قطلوشاه ومعه تقدير ثلاثين ألفاً، والفرقة الثالثة كانت مع طيطق تقدير عشرين ألفاً، فحملت العساكر عليهم فصيروهم رميماً، وركبوا أكتافهم فغادروهم هشيماً. ولما كان من غد يوم الوقعة يوم الإثنين ثالث رمضان: جرد خيل الطلب في الآثار، فكان فيها الأمير سيف الدين سلار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار وتتابعت العساكر تقفو قفى التتار، وتأخذ من حماتهم وكماتهم الثأر بالبتّار، فامتلأت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثاً في الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار: مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرجلهم بارؤوسهم عثار إذا فاتوا السيوف تناولتهم ... بأسياف من العطش القفار وسرح السلطان واحداً من أسراهم ليخبرهم بما تم، وأرسل على يده كتاباً تحدث فيه بنعمة ربه وما منحه من نصرة حزبه. ذكر نسخة الكتاب الصادر من السلطان من مرج الصفر إلى قازان في رابع شهر رمضان: الحمد لله على ما جدّد لنا من النعمة التامة، وسمح به من الكرامة العامة حين أعاد النعيم إلى كماله، والسرور إلى أتم حاله، فاستأنست النفوس إلى استمرار عوائدها، وارتاحت القلوب إلى معجز فوائدها، وأضاءت شمس المعالي، وطلعت بدورها بالسعد المتوالي، إذ كانت غلطة من الدهر فاستدركها، وسقطة بدت عنه فما تركها، فقرّت بذلك العيون، وتحققت في بلوغ الآمال الظنون، فلله الشكر الجزيل ما أومض في الجو بارق، وسرى في الآفاق نجم طارق. وبعد: فليعلم الملك الجليل محمود، جامع الجيوش وحاشد الجنود، أنه تظاهر بدين الإسلام، وأشهر ذلك بين الأنام، وأبطن خلاف ما ظهر، وتظاهر بالباطل والحقّ ستر، ثم فعل ما قدره الله عز وجل وما حكم به القدر، فحملنا ذلك على أنه تقدير، وأن ليس يجدي فيما أراد الله عز وجل تدبير، فما لبث الملك إلا أيسر مدّة، وأرسل رسله إلينا مجدّه، وهو يطلب الصلح ويحرّض عليه، ويذكر الإسلام ويندب إليه، وزعم أنه ليس يختار الفساد في الأرض، فإن الواجب علينا وعليه إصلاح ذوي الدين وأنّ ذلك فرض، فعلمنا مقصده في مقاله، وتستر منا بستر يلوح وجه القدر من خلاله، فأكرمن رسله كرامة تليق بفعالنا، وسمعنا رسالتهم وجاوبناهم على مقتضى حالهم لا مقتضى حالنا، وأعدناهم إليه بما هم مصرّون عليه، فعاد رسوله يطلب رسولاً يسمع كلامه وليس يخفي عنا مقصده ومرامه، فأرسلنا إليه ما طلب، وركبناه فرس البغي فيا بئس ما ركب.

فما كان إلا عند وصول رسلنا إليه، فجهز عسكره وأظهر من الغدر ما لم يكن يخفى عليه، وأمرهم بما عاد وباله عليهم، وحرّضهم على ما وجدوه حاضراً لديهم، ثم تقدم معهم وعدى بهم ماء الفرات، وجهزهم ورجع، وعلم أن الغلبة من قراه، فما كان إلا أن دخلوا البلاد، وعملوا بما أمرهم من الفساد، وتفرقت خيولهم في الأطراف والأوقاف، وقطعوا أيدي الأشجار وأرجل الزروع من خلاف، ونزلوا بالقرب من حلب، وشنوا الغارات وجدّوا في الطلب، وجيوشنا الشامية لهم بالمرصاد، وقد أخلصوا لله تعالى نية الجهاد، وهم يتقدمون إليهم كل وقت ويظهرون لهم الضعف والتأخير ليتوسطوا البلاد ويحصل هناك التدبير، فعاد منهم تومان إلى القريتين، فجهز من جيوشنا إليهم ألفان، فوجدوهم قد أخذوا أغنام التركمان، فوافوهم بالقرب من عرض فكانا كفرسي رهان، فلم يلبث الباغون ساعة من النهار، حتى عجل الله بأرواحهم إلى النار، وبقيت أجسادهم ملقاة بأرض عرض إلى يوم العرض، ولم يفلت منهم إلا من يفعل الخير إنهم قد صاروا أخياراً، ثم أخذ منهم جماعة أسارى: كرج، وأرمن، ومغل، ونصارى. فما أقنعهم ذلك، ولا اكتفى بأرواحهم مالك، وهموا طالبين الغوطة، ولم يعلموا أن من دونها رماحاً مشروعة وجياداً مربوطة، وعساكر يتأخرون عنهم قليلاً بعد قليل، وجيوشنا ترصدهم بالغداة والأصيل، فلما عاينوا دمشق المحروسة ظنوا أنهم بدخولها يستبشرون، وما علموا أنهم من حولها إلى جهنم يحشرون، فعبروا عليها وطلعوا إلى جبل يعرف بالمانع، فأخذ الرعب من قلوبهم بالمجامع، وتحققوا أن نتيجة الغدر الهلاك، وأن مصرع البغي ليس لهم منه فكاك، فمالوا إلى جانب البرية للفرار، وطلبوا أطراف الميمنة للذلة والانكسار، فضربت عليهم جيوشنا حلقاً، وسلبوهم أثواب الحياة والبقاء، ودارت بهم الخيول وبثت سنابكها سماء من العجاج نجومها الأسنة، فطارت إليهم عقبان من الجياد قوادمها القوادم وخوافيها الأعنة، وتصوبت عيون السمر إلى قلوبهم كأنها تطلب سويداها، وقصدت أنهار السيوف أكبادهم فكأنها أرادت تروي صداها، فشربوا كأس المنون لما تبلجت صفحات الصفاح، وعانتهم عيون الرماح، وأنشأت لهم الحوافر غمامةً من الغبار، ونزلت عليهم أمطار من السهام كمطار الشرار، وأخذتهم رعود من الصهيل وأبرقت في جوانبها بروق من كل سيف صقيل، ولم تغب الشمس حتى افترشوا أديم الأرض والوعر والسهل، والتجأ من بقي منهم إلى جبل يعصمهم من القتل، وباتوا عليه ليلة الأحد، وأيقنوا أن ليس ينجو منهم أحد، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، وأيسوا من الخلاص وقنطوا من السلامة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظنوا أن أرواحهم من أجسادهم قد ذهبت، ونادوا بلسان حالهم، وقد قربت مدّة آجالهم، اعتقنا أيها الملك الرحيم، واعف عنا أيها الملك العظيم، فإننا جميعنا مسلمون ولا تؤاخذنا بما جناه كفارنا المسرفون، فإننا منهم بريئون، فأردنا أن يطلب النصر من حيث عوّدنا من العفو، فأمرنا جيوشنا أن تفتح لهم طريقاً ليذهبوا، وتركناهم من فعالنا يتعجبوا، ففروا فرار الشاة من الأسد، ولم يلتفت منهم والد إلى ولد. فلو رأيت أيها الملك ذلك اليوم، لبقيت زماناً يروعك رؤياه في النوم، وما كنت ترى من جيشك إلا قتيلاً أو أسيراً وكان يوماً على الكافرين عسيراً فلله درّه من يوم تصاحب فيه الذئب والنسر، والقيد والأسر، وهلك الذين هم ديوية الفرسان، قد قادهم الذل والصغار ورعاة العربان، والكرج قد لحقت بقية آثارهم، وعجل الله بدمارهم، والأرمن وقد سيق من سلم منهم في القيود إلى خزانة البنود. ولو نظرت عيناك ما جرى من أرض حوران إلى الفرات، لراعك وأرعبك من الهول ما كنت تراه، ولو رأيت أصحابك كيف بقوا طعم الرخم والذباب، لقلت من هول ما شاهدت: يا ليتني كنت تراباً، وكيف لك بالتراب؟ ولكن روعك من السماع أسهل عليك من العيان، فنظرك إلى من عاد إليك من أصحابك يكفيك في البيان، وإنما لو حضرت لرأيت ذلك المقام مشهود، الذي فيه الملائكة شهود.

ذكر من استشهد من أمراء المسلمين

ولقد نصحنا لك أيها الملك فما ارعويت، وبذلنا من القول فما رعيت، وركبت من خيل البغي أجرى كُميت، وقلنا لك إن من جرد سيف البغي كان به المقتول، فلم تعِ القول ولم تضغ لمن يقول، فاستيقظ لنفسك، وتلق هذه المصيبة التي تدخل بها إلى رمسك، ولا يغرك بالله الغرور، واعلم أن ذلك في الكتاب مسطور، واندك المين بالإيمان، ودع عنك ما يسوله الشيطان، فإنه ما يأمرك إلا بما جنيت ثماره، ولا تحصد إلا ما زرعت بذاره. وأنت تزعم أن الإسلام شريعتك وبه تدين، فنجتمع نحن وأنت على كلمة الإيمان، ولا تعثوا في الأرض مفسدين وتخرج عن بغداد والعراق ونعيدها إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شرق به ظلام الآفاق، ونتبع نحن وأنت أمره ونؤيد به هذا الدين، ومن فعل غير هذا فعليه اللعنة إلى يوم الدين، لتعلم أنك كما تزعم متمسك بشريعة المسلمين، وإن أنت سولت لك نفسك خلاف ذلك، فأنت لا محالة هالك، وعن قليل تخلو منك العراق والعجم، ويصير وجودك إلى العدم، وقد أوضحنا لك القول لكيلا تميل، وهديناك إلى أقوم سبيل، ثم تتقدم بإرسال رسلنا المسيّرة إليك في أتم الكرامة، وتسيّر معهم من يوصلهم إلينا في حرز الأمن والسلامة، وترتحل بمن بقي من جيشك إلى طبرستان، وتخلى لمالكها هذه الأوطان. وبلغنا أنك قلت إن خيلك ورجلك تدخل الديار المصرية، فقد صدقت أنت لكن المنجمين غلطوا في القضية، أما الخيل فإنها دخلت مجنوبة، وأما الرجال فكان في حلوقهم الطبول وبأيديهم الصناجق مقلوبة، فقد صدقت منهم المقال، وتباركت بهذا الفأل، وعن قليل نأتيك برجال تميد من تحتها الأرض وتزحف، فترى ما يهولك حتى تتمنى أن تنجو ولو على بطنك تزحف، فتيقظ من رقدة المنام، وبادر الرحيل، والسلام. ذكر من استشهد من أمراء المسلمين الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافري، والأمير عز الدين أيدمر الشمسي القشاش، والأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب، وعز الدين أيدمر الرفا المنصوري، وعز الدين أيدمر النقيب، وعلاء الدين علي بن ددا التركماني، وحسام الدين علي بن باخل، واستشهد من أجناد الأمراء وغيرهم تقدير ألف فارس. وقال صاحب النزهة: وكان ولد الأمير حسام الدين الأستادار قد حمل والده في تابوت وأحضره إلى دمشق على أنه يدفنه بها، فشاور الأمراء، فأنكر عليه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سيف الدين سلار وقالا: إحضره، فأحضره، وكشفوا التابوت ورأوا تلك الشيبة الحسنة وقد تخضبت بالدماء وفي وجهه أثر ضرب السيوف وقد أصاب نحره النُشّاب، وقد ملء سلاحه دماً، فلما رأوا ذلك تباكوا، وتمنى كل منهم أن يموت هذه الموتة، وأشاروا لبعض أمراء دمشق ووالي البر أن يركبوا ويذهبوا إلى موضع الوقعة ويجمعوا من يجدونه من الموتى من الأمراء وغيرهم، ويدفنون الجميع - من غير أن يغسلوهم - في مكان واحد، ثم تبنى عليهم قبة، وأمروا أن يدفنوا الجند والمماليك الذين قتلوا مع أستاذهم خارج القبة. وقال الراوي: أخبرني من حضر دفنهم، شاهد الأمير أوليا بن قرمان وعليه من الأنوار والجلالة والمهابة ما لا رآه على أحد غيره، وأخبر عن بعض العسكر الذين أسروا من عدة جوبان أنهم لما قصدوا للقتال كان ابن قرمان هذا راكباً حصاناً أشهب، وأنه كان يعرف أستاذهم جوبان، فما جعل دأبه إلا هذا، وكان يحمل إلى أن يكاد يقرب منه، فتردّه جماعته، فينعطف، فيأتي من مكان آخر، وعلم جوبان أيضاً قصده إياه، قصده في جماعته ولم يبق بينهما إلا القليل، فرماه سلحدار جوبان بياسج في خاصرته، فمال عن فرسه، ثم استوى، ثم قصده ثانياً، فقتل فرسه بسهمين متواليين ووقع إلى الأرض، ونهض ابن قزمان قائماً، فرماه ذلك السلحدار في وجهه وفي صدره إلى أن وقع واستشهد. فقال جوبان: هذا أمير كبير، عرفه بلبسه وفرسه. وأما الأمير حسام الدين الأستادار فإنه من حين وقع بينه وبين سنقر العلائي قدام الأمراء والسلطان لم يسمع أحد عنه كلاماً غير وصيته لولده على بناته ومماليكه، ثم قال: كنت انتظر هذا اليوم، والله لا عشت بعد هذا اليوم، وقد عشنا سعداء، ونرجو أن نلقى الله ونحن شهداء، ثم إنه من حيث جذب سيفه وتقدم لم يلتفت إلى أحد بوجهه، ولا سمعوا منه غير الله أكبر، فقاتل حتى قتل.

ذكر رحيل السلطان من دمشق ودخوله القاهرة

ذكر رحيل السلطان من دمشق ودخوله القاهرة أقام السلطان بدمشق مع العسكر إلى يوم عيد الفطر، وقد ذكرنا أنه قد دخلها في الخامس من رمضان، وكان عيداً عظيماً لما اتفق فيه من نصرة أهل الإسلام واجتماع شملهم بالأمن والطمأنينة، ثم رحل السلطان من دمشق في الثالث من شوال، فوصل في ذلك اليوم شمردل الركاب، وأخبر السلطان والعسكر أن القاهرة قد صنعوا فيها زينة عظيمة وقلاعاً، والناس في أرغد عيش وأطيبه. وقال ابن كثير: عاد السلطان إلى مصر مع العسكر في يوم الثلاثاء الثالث من شوال، ودخل القاهرة يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شوال مؤيداً منصوراً، وزين له البلد، وكان يوماً مشهوداً، ويوم دخوله القاهرة كانت الأسارى بين يديه مقرنين في الأصفاد، وسناجق بأيديهم منكوسة، وطبولهم معكوسة، وشق المدينة، ولما وصل السلطان إلى تربة والده الشهيد الملك المنصور قلاون ترجل ودخل إلى ضريحه وزاره ثم ركب والأمراء في ركابه يمشون إلى أن طلع القلعة، وتحت حوافر فرسه شقق حرير مبسوطة. وقال بيبرس في تاريخه: وكانت مدة هذه السفرة السافرة عن وجه النجاح، المشرقة إشراق الصباح منذ استقلال ركابه وإلى حين إيابه ثمانين يوماً، وصل فيها إلى الشام وكسر عدوَ الإسلام، ورتب أحوال البلاد وأعاد النازحين بين الربى والوهاد. وقال صاحب النزهة: لما قدم السلطان إلى القاهرة خرج إليه سائر من كان في مصر من الجند والعامة وسائر المتعيشين والحرافيش، ولم يبق في البيوت من النساء والأطفال أحد، وبلغت بيوت الأرباع التي على طريقه كل بيت منها بمائة درهم وأكثر، وأقلها خمسون درهماً، وكان عبوره من باب النصر لأجل ما اتفق من نصب القلاع التي صنعها الأمراء وتباهوا فيها لما حضر الأمير بدر الدين الفتاح بالبشارة بنصرة المسلمين وهزيمة العدو كما ذكرنا. وكانوا قد قرأوا كتاب البشارة بحضور نائب الغيبة الأمير أيبك البغدادي، وكان من إنشاء القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر. بسم الله الرحمن الرحيم: " نصر من الله وفتح قريب "، خصه الله من البشائر بأحسنها وأجملها، ومن التهاني بأتمها وأكملها، ومن المسرات بأوفرها وأجزلها. نعلمه أن التتار المخذولين كانوا قد امتدوا إلى البلاد المحروسة ووصلوا إلى حمص، وتعدوا جهة دمشق، وكانت العساكر المنصورة بحلب وحمص قد انضموا إلى دمشق، وعند وصولنا إلى مرج شقحب ساق التتار المخذلون، ووصلوا إلى المنزلة التي نحن بها، وكانوا في العدد الذي لا يحصى، وذكر عدتهم عن مائة ألف أو يزيدون، وللوقت قابلناهم بالعزائم الصادقة، والنيات الخالصة وركبنا بالجيوش المؤيدة، وصدمناهم بالعساكر المنصورة الصدمة العظمى، وما زال الحرب إلى أن نصر الله تعالى عليهم، وقتل منهم ما لا يحصى عددهم إلا الله، ثم بعد ذلك استند من بقي منهم إلى جبل واجتمعوا به، فأحاطت عساكرنا المنصورة بهم، ومازلنا راكبين بأنفسنا وخيولنا، مجاهدين في الليل والنهار، والحرب قائمة على أوزارها، وفي كل وقت يتناقص عددهم حتى امتلأت من قتلاهم الأرض، وانهزموا من بين أيدينا، وكسبت العساكر المنصورة من أموالهم وخيولهم ما فتح الله، وبقينا يومين وليلة في مضايقتهم في الجبال التي تحصنوا بها إلى ظهورهم ثاني شهر رمضان، فنزلوا على حمية وساقت عساكرنا المنصورة في إثرهم إلى أن قتلوهم عن آخرهم بقوة الله تعالى. وسطرت هذه المكاتبة، ونحن نحمد الله تعالى طيبون سالمون، نحن وأمراؤنا وعساكرنا المنصورة، وقد رحلنا إلى دمشق، وكتبنا للجناب أن يشيع خبر هذه البشارة " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".

ذكر ما استجد في هذه السنة من الولايات

ولما وقف عليها، وفرحت قلوب الناس، واطمأنت أهل البلاد، واتفق رأيه مع الأمير بدر الدين الفتاح أن يصنعوا زينة مفتخرة، يراها السلطان والعسكر، وذكروا زينة السلطان الملك الأشرف عند أخذ عكا، وطلب سائر مباشري الأمراء وعرفهم أن مرسوم السلطان برز: يعمل كل أمير قلعة وتزيينها بأفخر ملبوس، ويكون من باب النصر إلى باب السلسلة، وعرفهم أنه متى فرغ شهر رمضان وتأخر عمل ذلك كانت روحه وماله للسلطان، وكتب مراسيم لسائر الأقاليم أنهم لا يدعون في بلاد الأمراء من مغاني العرب ولا من أرباب الملهى أحد إلا ويرسلوه إلى المدينة، وكل أمير في بلده مغاني وتكون في قلعة ذلك الأمير، وطلب ناصر الدين الشيخي متولي المدينة وعرفه أن يأخذ أستادرية الأمراء ويرتب لكل أحد مكاناً ويسلمه إليه، ثم شرع المباشرون في طلب الصناع بحيث أنه نودي على أرباب الصنائع أن أحداً منهم لا يعمل عند أحد وأن أحداً لا يستعمل أحداً منهم حتى يفرغ العمل الذي عينوه، ثم وقع الاهتمام في أمر العمل، وتحسنت معيشة التجار سيما تجارة الخشب والقصب وآلة النجارة، واستعملت الحرافيش بالأجرة، وشرع كل أحد يفتخر بصنعه على غيره من أرباب جنسه، وعملوا قلاعاً حسنة عظيمة، ووضعوا فيها آلات الحرب والحصار وجعلوا فيها من الصور المضحكة والوحوش والخيالة والفرسان، وزين كل أحد قلعته بأفخر ما يقدر عليه من الفصوص واللآلىء والحرير والزركش والأشياء المفتخرة. وما فرغ شهر رمضان إلاّ وجميع القلاع قد تكامل عملها وزينتها. وكان أول القلاع على باب النصر، صنعه متولي المدينة، ودخل على النائب بهذا السبب، وصنع فيها من كل شيء من الهزل والجدّ، وعمل حيضاناً برسم السكر والليمون، وعين هنالك مماليك بأيديهم كاسات يسقون الجند والأمراء. وعند وصول السلطان إلى باب النصر ترجلت أرباب الوظائف، وأول من ترجل على كبر سنه كان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، وأخذ السلاح، فطلبه السلطان وسأله أن يركب ويحمل السلاح وهو راكب، فأبى ذلك، وحمل الأمير مبارز الدين الرومي أمير شكار القبة والطير، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار العصاة، والأمير سيف الدين سنجر الجمقدار الدبّوس، ومشت سائر الأمراء في منازلها، وكان كل أمير من أصحاب القلاع بسط شققاً أطلس كل واحد من حد قلعته إلى قلعة صاحبه، وكان السلطان يمشي هوينا والأسراء بين يديه مقيدين، والأرقاب المضروبة معلقة في أرقابهم، ونحو ألف رأس على الأرماح مشتالة، ونحو ألف وستمائة أسير وطبولهم مخرقة في حلوقهم. وكانت الثانية من القلاع للأمير علاء الدين مغلطاي أمير مجلس، وبعده لابن أيتمش السعدي، ثم للأمير علم الدين الجاولي، ثم للأمير سيف الدين تغريل الأيغاني، ثم للأمير سيف الدين بهادر اليوسفي، ثم للأمير سيف الدين سودي، ثم للأمير بدر الدين بيبلك الخطيري، ثم برلغي، ثم للأمير مبارز الدين أمير شكار، ثم للأمير عز الدين أيبك الخزندار، ثم للأمير شمس الدين سنقر الأعسر، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، ثم للأمير شمس الدين سنقر الكمالي، ثم للأمير مظهر الدين موسى بن الملك الصالح، ثم للأمير سيف الدين آل ملك، ثم للأمير علم الدين الصوابي، ثم للأمير جمال الدين الطشلاقي، ثم للأمير سيف الدين آدم، ثم للأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ثم للأمير بدر الدين أمير سلاح، ثم للطواشي شهاب الدين مرشد الخزندار على باب المنصورية وبعده للأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، ثم للأمير عز الدين أيبك البغدادي، ثم لابن الأمير سيف الدين أمير سلاح، ثم للأمير بكتوت الفتاح، ثم تباكر التغريلي، ثم للأمير قلىّ السلحدار، ثم لبكتمر السلحدار، ثم للاجين زيرباج الجاشنكير، ثم لطيبرس الخرداري نقيب الجيش، ثم لبلان طرنا، ثم لسنقر العلائي، ثم لبهاء الدين يعقوبا، ثم للأمير الأبو بكري، ثم لبهادر العزي، وكو كاي بعده، ثم لقرا لاجين، ثم لكراي المنصوري، ثم للأمير جمال الدين الموصلي قتال السبع على باب زويلة، ومنه اتصل القلاع إلى باب السلسلة، وأولها من باب النصر كما ذكرنا، وكانت عدة القلاع سبعين قلعة. ذكر ما استجد في هذه السنة من الولايات

ذكر الزلزلة الكائنة بالبلاد المصرية

وفيها استعفى الأمير سيف الدين بتخاص من نيابة صفد، وتولاها الأمير شمس الدين سنقرجاه المنصوري، وأقام بتخاص بمصر، ورسم بنقل الأمير سيف الدين قفجق من مدينة الشوبك إلى نيابة حماة بحكم وفاة نائبها، ورسم للأمير سيف الدين بلبان الجوكندار بنيابة حمص بحكم وفاة نائبها الأمير سيف ألبكي، وكان بلبان المذكور نائب قلعة دمشق تولاها عوضاً عن الأمير سنجر المعروف بأرجواش بحكم وفاته، ثم تولى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن بلبان المذكور الأمير ركن الدين بيبرس التلادي، ثم استعفى الأمير بلبان المذكور عن نيابة حمص، وتولاها الأمير عز الدين الحموي الظاهري. وفوض قضاء القضاة الشافعية بالشام للقاضي نجم الدين أبي العباس أحمد ابن صصري الشافعي، عوضاً عن بدر الدين بن جماعة، وطلب بدر الدين للقاهرة، فتولى قضاءها، عوضاً عن تقي الدين ابن دقيق العيد بحكم وفاته، وفوضت خطابة جامع بني أمية لزيد الدين عبد الله بن مروان الشافعي الفارقي، وفوضت مشيخة الشيوخ بالشمبساطية للقاضي جمال الدين الزرعي، ثم عزل، وفوضت للشيخ أبي عز الدين بن عبد السلام، ثم عزل، وفوضت للشيخ صفي الدين محمد الأرموي المعروف بالهندي بسؤال من الصوفية، وباشر الشيخ شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية، عوضاً عن الشيخ شرف الدين الناسخ. ذكر الزلزلة الكائنة بالبلاد المصرية قال بيبرس في تاريخه: وفيها في يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة: حدثت زلزلة عظيمة بكرة النهار بالقاهرة ومصر وسائر أعمال الديار المصرية، وخاصة في ثغر الإسكندرية، وكانت عظيمة حتى أن الجدر تساقطت، والجبال تشققت، والمباني تهدمت، والصخور تقطعت، والمياه من خلال الأرضين تفجرت، ومادت الأرض بمن عليها، وماجت المساكن بساكنيها، وتشعثت الأسوار والأركان، وثار الصراخ بكل مكان، وخرجت النساء حاسرات إلى الطرقات، وظن الناس أنها إماتة الأحياء وقيامة الأموات، وابتهلوا إلى رب السموات لما عراهم من المخافات، فأدركتهم رأفته، وأنقذتهم رحمته بأن سكّن زلزالها، وخفّف أهوالها، ولو دامت ثلث ساعة من النهار لم يبق على الأرض دار ولا ثبت بها جدار، فكان تقصير مسافتها وتخفيف آفتها لطفاً من الله بعباده، ومنّةً على ساكني بلاده، وأثرت في البحرين العذب والأجاج، وأثارت فيها الأمواج، وارتج كل منهما غاية الارتجاج، وكان تأثيرها قوياً جداً بالإسكندرية والنواحي الغربية، وهدمت بالثغر أكثر الأبراج والأسوار، ورمت جانباً وافراً من المنار، وفاض البحر المالح وطمى، وتعطمط الماء وأغرق قماش القصارين، وكسر قوارب البحارين، وقطع مراسي المراكب الفرنجية وطرح أكثرها إلى الأسوار والشعاب. ولما عاين أهل الثغر هيجان البحار، وانهدم المنار، وتساقط المآذن والأسوار وتناثر الأحجار من الجدران، وتداعي الأركان المشيدة البنيان، بادروا مسرعين وخرجوا من باب السدرة هاربين، ولما سكّن الله حركتها، وأذهب رجفتها، تراجعوا إلى أماكنهم، وعادوا إلى مساكنهم. وتواترت الأخبار، فإن الزلزلة المذكورة كانت قوية الأثر في البلاد الغربية والجزائر البحرية، وجهات الفرنجية، وأنها أيضاً حدثت في تلك الساعة وذلك النهار ببلاد الكرك والشوبك والسواد وتلك الأقطار. وحكي أن شخصاً من الباعة يبيع اللبن في بعض الحوانيت بالقاهرة سقط في الزلزلة حانوته عليه، وظنه الناس قد مات وأقام ثلاثة أيام ولياليها تحت الردم، ثم نظف التراب ووجد الرجل سالماً وأخرج حياً سوياً، لأنه تشبكت عليه الأخشاب، وحملت عنه الطوب والتراب، وسلمت له من حانوته جرة لبن، فكان يقتات منها إلى أن نظف عنه الردم. وفيها: سقط جانب من قلعة صفد وأسوارها، وبرج الباب، عند حدوث هذه الزلزلة، فرممت في السنة القابلة. وفيها: تهدّم جانب من جامع بني أمية وأعيد ترميمه، وأقام الناس أياماً وهم خائفون وجلون، ومن مكان إلى مكان ينتقلون، ولمعاودة الزلزلة متوقعون وكان ذلك في الصيف فتوالت بعدها سموم تلفح فتشوي الوجوه حين تنفخ، ولم يمت مع ذلك إلاّ نفر قليل بالقاهرة ومصر وثغر الإسكندرية.

وقال النويري: وجزر البحر باسكندرية، ثم رجع فأتلف أموالاً عظيمة للتجار، وغرق جماعة كثيرة، وانكشف البحر بساحل عكا، فظهر في قاعه شيء كثير مما ألقاه أهل عكا في مدة حصارها، فتبادر الناس لأخذه، فرجع البحر عليهم فغرّقهم عن آخرهم. وقال صاحب النزهة: قد تقدم ذكر الاهتمام بعمل القلاع والتفاخر في زينتها، وكان ابتداء ذلك خامس رمضان وانتهاؤه في العشر الأخير، وتهتكت الخلائق على التفرج عليها، ولم يخشو الله تعالى، واستمروا على ذلك إلى أن استهل شوال، ومشى فيهم المنكر والأمور القبيحة، وصار لكل قلعة أهل يحمل إليها من المحرمات، ويتجاهرون بالمعاصي، وتهتكت بسبب ذلك مخدّرات النساء، وافتضح من كان يخشى الفضيحة من كل مستور، ولم يبق في المدينة من أكابر البيوت من الأمراء وغيرهم من الأعيان إلا من خرج من بيته مع غلمان أو خدام أو قهرمانات، وكان يرى ما يذهله ويروع به عقله، حتى كان يطرح الحشمة ويستحسن الفضيحة. وطمس الله على قلوبهم، لقضائه السابق وأمره اللاحق، حتى أرسل الله عليهم زلزلة عظيمة يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة عند صلاة الصبح، فتزلزلت الأرض بأركانها، وسمعت للحيطان قعقعة ورعدة، وكذلك السقوف، ومالت الأرض بالماشي وأخرجته عن طريقه، وأرمت الراكب، وقيل للخلق إن السماء انطبقت على الأرض، فكان الماشي يهرب من الخوف إلى زقاق آخر فيجد فيه من الرعد والقعقعة أكثر مما هرب منه، وخرجت النساء مستبيّات حاسرات، فما قدرت من الخوف أن تأخذ شيئاً تستتر به، وكذلك البنات والأطفال، وخرجت الفقراء من المساجد والزوايا، وأسقطت كثير من النساء الحبالى حملها، وورد على البحر ريح بموج عاصف متلاطم، ففاض البحر فيضاً حتى طلع بالمراكب التي على ساحل البحر وحدفهم من البحر مع الريح مقدار رمية نشاب، ثم لما عاد الماء إلى حاله بقيت المراكب على اليبس، فتقطعت مراسها، وكذلك مراكب المسافرين اقتلعها الريح من وسط البحر إلى ساحل البر. وقد ضرب كثير من الأمراء خياماً في الفضاء وأخرجوا حريمهم إليهم، وكذلك خرجت خلق كثير نحو بولاق والجزيرة والروضة وغير ذلك، وأصبحت المدينة إذا نظر إليها إنسان لا يجد فيها بيتاً صحيحاً، إما هدم منه حائط أو وقع منه جانب، أو اشتق بناؤه، وهمت الأزربة التي على البيوت، وبقيت الأتربة والطوب أكواماً أمام البيوت، وقنتوا في صبح الجمعة وفي ليلتها وفي سائر الجوامع والمساجد، وأقاموا ليلتهم ويومهم إلى حين صلاة الجمعة واقفين يبتهلون إلى الله تعالى ويتضرعون. ثم جاءت الأخبار من إقليم الغربية أن بعض بلادها وهي تعرف بسخا هدم جميعه حتى لم يبق فيه حائط، فصار كوماً، وكذا جرى على قريتين أخريتين وكذا وقع بإقليم الشرقية. ثم شرع الأمراء والسلطان في افتقاد الأعمال الضرورية التي لا بد منها ومن إصلاحها. وقد أفلح الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة ما هدم من الجامع العمري بمصر، وأصرف عليه مالاً جزيلاً. وتصدى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير لعمارة جامع الحاكم بأمر الله، وقد كان هدم منه حائط كبير ووقعت مأذنته، ولما نزل إليه ومعه المهندسون والمباشرون قال لهم: اجعلوا بالكم في هدم ما يستحق الهدم، فإني سمعت أن في ركن من أركان هذه المأذنة ذهباً كثيراً ادخره الحاكم بأمر الله، وربما أحاط بحكمته أن يعرض على هذا الجامع عارض من أمر الله يكون ذلك الذهب برسمه وعمارته، فإنه كان رجلاً حكيماً، ثم إنه عمّره كما ينبغي وزاد فيه زيادة واسعة للمصلين، وجدّد المأذنة وعمر فيها زيادة، وأوقف عليه أوقافاً حسنة، ووضع فيه مدرساً، وحديثاً، وصدقة، ومؤذنين، وقراء، وفقهاء، ورتب لهم الرواتب والصدقات، وأوقف وقفاً يكفي ذلك كله، وعند هدم المأذنة وجدوا في ركن منها كفاً بزنده ملفوفاً في قطن، وعليه أسطر مكتوبة لم يعلم أحد ما هي، والكف طرية، وعجزوا عن قراءة الكتابة. وتصدى الأمير سيف الدين سلار لعمارة الجامع الأزهر وإصلاحه، وإصلاح مأذنته، وإصلاح الواجهة التي وقعت، وجدّد فيه جميع أماكنه، وبلّطه وبيّضه، وأنفق عليه نفقات كثيرة، وكان للأمير شمس الدين سنقر الأعسر مشاركة له في الجامع الأزهر.

ذكر ظهور دابة عجيبة من النيل

وعمر جامع الصالح الذي خارج باب الزويلة من مال بيت المال، وكان الأمير علم الدين سنجر مشده، وأرصدوا لعمارة مأذنة المنصورية الأمير سيف الدين كهرواس الزرّاق، وأصرف على عمارتها من مال الوقف، ورسم للأمير ركن الدين بيبرس بالسفر لثغر إسكندرية ليكشف ما هدم من المنار وغيره، وأن يرمم جميع ما يحتاج إلى الترميم، وكان نائب إسكندرية كتب إلى السلطان أن هدم من المنار ستاً وأربعين بدنة، ومن السور خمس عشرة بدنة، ورسم السلطان أن يعمر جميع ذلك من مال السلطان. ذكر ظهور دابة عجيبة من النيل بتاريخ يوم الخميس الرابع من جمادى الآخرة: ظهرت دابة عجيبة الخلق من بحر النيل إلى أرض المنوفية، وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل غلظ الكيس المحشوّ تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل طولها دون شبر وعرض أصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرساً وسناً مثل بنادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل أظافر الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر، وزفرته مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظ جلدها أربع أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل، وأحضروه إلى القلعة المعمورة بحضرة السلطان، وحشوه تبناً، وأقاموه بين يديه، ذكر هذا الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه. وقال النويري: وهي التي تسمى فرس البحر، كانت تطلع ترعى في البرّ، ثم تعود إلى البحر، فرصدها الصيادون وصادوها بالمنوفية، وهي سوداء قدر البغل، بأظلاف كأظلاف البقر، وذنب قصير، وسلخت وحمل جلدها إلى القاهرة وحشّي تبناً، وتعجب الناس منه. قال صاحب النزهة: وكانت هذه الدابة تأتي من نحو جزيرة مقابل شبرا، وتنتقل في الأماكن، وتؤذي كثيراً من الزرع والمواشي، ولا يجسر أحد على أن يقربها، وبلغ ذلك الأمراء، وطلبوا متولي الجزيرة وأمروه أن يجمع عليها أهل البلاد ويتحيلون على مسكها، فجمعوا خلقاً كثيراً، وتتبعوا آثارها أياماً، وهي كلما رأت الرجال تحيد عنهم، وإذا غلبت تنزل إلى البحر، إلى أن أرموها في مكان وحل وتكاثروا عليها إلى أن قتلوها. ذكر ما أبطله الأمير بيبرس من الأمور المنكرة - رحمه الله - منها: كتب إلى مكة أن لا يمكنوا الزيدية من الآذان الذي كانوا يجهرون فيه بقولهم: حيّ على خير العمل، وأن لا يقتدوا بإمام منهم، ولا يدعوا أهل السنة أن يصلوا معهم. ومنها: ما كانت أهل مكة تربط الحاج بالصعود إلى التمسك بالعروة الوثقى، فكان الحاج يقاسي من الصعود إليها أمراً عظيماً حتى يصل إليها، وكان أكثر الشدة على النساء، وربما كان ينكشف عوراتهم، وكان كثير من الحرامية يقفون ويعاينون الناس عند انكشاف ما عليهم من نفقة مربوطة على وسطه من ذهب أو فضة فيتحيلون على أخذها. ومنها: أن النصارى كانوا يزعمون أن كبراءهم من علمائهم كانوا يزعمون أن إصبعاً من أصابع أحد الحواريين موضوعاً في تابوت، فإذا جاء أوان احتياجهم إلى زيادة النيل يرمون ذلك الإصبع في البحر فيزداد، ومتى لم يرموه لم يزد شيئاً، وكان يجتمع في ذلك اليوم الذي يرمى الإصبع فيه خلق من سائر الأقاليم من أهل الملة النصرانية ويركبون الخيل في ذلك اليوم ويلعبون عليها، وكان أهل مصر والقاهرة يرحلون إليهم في المراكب والخيل، ويضربون الخيام على جانبي البحر وفي وسط الجزائر، ولا يبقى شيء من الملاهي وأرباب الطرب إلاّ ويكون هناك في ذلك اليوم، ويجتمع هناك نساء خواطى، وربما يقتل فيه قتيل، وتقوم فيه فتن، وتباع فيه الخمور، بنحو مائة ألف درهم.

ذكر القصائد التي مدح بها السلطان في هذه الغزوة

قال صاحب التاريخ: حكى لي بعض النصارى أنه باع في ذلك اليوم خموراً بإثني عشر ألف درهم، ولما جاء أوان عيده سيّر الأمير ركن الدين بيبرس متولي المدينة وجماعة من الحجاب ومنعوهم من ذلك، وكتب للولاة أن ينادوا في النصارى أن لا يخرج أحد في ذلك اليوم، ولما بلغ ذلك النصارى اجتمعوا بالتاج بن سعد الدولة ودخلوا عليه على أن يتحدث مع الأمير بيبرس، لما كانوا يعلمون من منزلته عنده، فشرع في الحديث معه من طريق الأموال، وأن هذا يحصل منه مال عظيم، والعادة جارية به، فلم يلتفت إلى كلامهم وقال: إن كان النيل ما يزيد إلا بهذا الإصبع لا يزيد ولا يطلع، وإن كان الله عز وجل يتصرف فيه كيف يشاء فهؤلاء يفشرون، فأبطله. ومنها: أن القمامة التي بالقدس الشريف كان في وسطها قنديل كبير، صنعته أكابر النصارى، وفي كل سنة يوم معلوم عندهم يجتمع إليه النصارى من سائر الأجناس، ولا يوقد ذلك القنديل في كل السنة إلا في ذلك اليوم، ولا يظهر نوره إلا في الرابعة من ذلك اليوم، ومتى أبطأ في ذلك الوقت يقولون: إن نيل مصر في هذه السنة شحيح، وكانت عادة السلطان يبعث إليها قرب هذا اليوم من يثق بأمانته. فيحصّل شيئاً كبيراً من الذهب والفضة وسائر التحف، ثم يحضره إلى السلطان، وينقل من زيت ذلك القنديل إلى سائر نصارى البلاد من الملوك وغيرهم على سبيل التبرك عندهم، وكان هذا القنديل يشتعل من ذاته، وهو أمر عظيم عندهم، فهو الذي يكون سبباً لضلال النصارى وثباتهم على دينهم الباطل، واتفق أن نجم الدين بن الحباب سافر إليه في الدولة المنصورية حتى يتحقق أمر هذا القنديل، فلما حضر فحص عن ذلك واجتهد فيه إلى أن انكشف له أنه مصنوع من أدوية بحكمة مذكورة عندهم، وأن الشمس في الرابعة من النهار يقوى جرمها فيقع شعاعها من طاقة قريبة من القنديل المذكور، فإذا وقع يطلقون موضع وقوع جرم الشمس شيئاً من القلفونية المصنوعة بالحكمة فتصل قوتها إلى فتيلة ذلك القنديل فيشتعل، فلما ظهر له ذلك كتب إلى الوزير والسلطان في ذلك فتهاونوا في أمره، فأمر الأمير بيبرس بمنعه وتبطيله، فأنكروا عليه من حيث أنه يحصل من ذلك كل سنة جملة من المال لبيت المال، ولم يزل يسعى فيه إلى أن كتب السلطان بإبطال ذلك القنديل، وكان آخر ذلك في صحيفته. وفيها: كان صاحب سيس جهّز مركباً من مراكب الإفرنج وفيه أصناف كثيرة مقدار ما يساوي قيمتها مائة ألف دينار، على أنه يدخل بلاد قبرص والجزائر، فاتفق أن الله عز وجل أراد أن يجعلها غنيمة لأهل الإسلام، فأرسل ريحاً عاصفاً أتى به إلى ميناء دمياط، فأخذه المسلمون وغنموه. وفيها: كان الجدب والقحط والغلاء ببلاد الشمال - بلاد طفطاي - لأنهم زرعوا ثلاث سنين فلم ينبت لهم شيء، فهلك الخفّ والحافر، وبلغت حالهم من القحط إلى أن صاروا يبيعون أولادهم ونسوانهم في الأسواق، فاشتراهم الفرنج والتجار وجلبوهم إلى سائر البلاد خصوصاً إلى مصر. ذكر القصائد التي مدح بها السلطان في هذه الغزوة وأول من نظم في ذلك القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر، نظم فيها مجلداً صغيراً وسماه: الروض الزاهر في غزوة السلطان الملك الناصر، وتوصل إلى أن قرأه عليه، وأنعم عليه بمائة دينار، من غير أن يعلم بها بيبرس وسلار. ومن نظمه قوله: هم زعموا بأنك ليس تأتي ... ركبت إلى لقائهم البريدا ولاذوا بالفرار فلم تدعهم ... وأعددت السلاسل والقيودا ومنها: قصيدة من نظم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي الشاعر: لقد تمت النعمى وضوعفت البشرى ... وأظهر هذا الفتح في الأوجه البشرا فمن كان ذا ندر فهذا أوانه ... ومن كان ذا وتر فقد أدرك الوترا هناء هناء أيها الناس فالهدى ... علا الشرك والإيمان قد غلب الكفرا ولما غزا غازان عقر ديارنا ... وأعطاه من يعطي ومن يمنع النصرا تمرّد طغياناً وتاه تجبراً ... ولم يستبن نصحاً ولم يستفق سكرا وظنّ بأن لا غالباً لجنوده ... ولا قاهراً حتى فتكنا بهم قهرا وراسلنا في الصلح مكراً وخدعة ... وأي امرىء يرضى الخديعة والمكرا

فسار له منّا رسول مذكّر ... يحذّره العقبى فلم تنفع الذكرا وعاودنا بغيّاً وللبغى مصرع ... فشاهد من إقدامنا الآية الكبرى وأنصفت الأيام في الحكم بيننا ... وكانت له الأولى وكانت له الأخرى هو الدهر لا يبقى على فرد حالة ... فطوراً يرى حلواً وطوراً يرى مرا رعى الله يوم المرج للترك أنفساً ... تدرّعت الإقدام والبأس والصبرا غداة يرون القتل في الله طاعة ... صيام يودون الحمام لهم فطرا إذا ذكروا أحداً تمنوا بأنهم ... رأوا أحداً أو شاهدوا قبله بدرا تنادوا وقالوا في الثبات حياتنا ... ومن ههنا نلقى النجاة أو الخسرا وجاءت جيوش المغل كالرمل كثرة ... وقد ملأت سهل البسيطة والوعرا وأقبل سلطان الزمان محمد ... يقود العتاق الجرد والعسكر المحبرا فطارت قلوب المارقين مخافةً ... وذعراً ويا ما أقبل الخوف والذعرا رأت سيّفاً شهباً وبيضاً قواضباً ... وخطية سمرا وألويةً صعرا وحزباً من الأتراك شوساً ضراغما ... يذودون عن مصر وعن ساكني مصرا وكان نهار السبت بالنصر شاهداً ... صدوقاً وكان الوقت قد زاحم العصرا فكرّت وكرّ المسلمون فلا تسل ... لدى الروع عن بحرٍ غدا صادماً بحرا ومدّ سواد النقع ليلاً فأطلعت ... ذبال القنى في كل داجية فجرا ولله در الترك كم سفكت دماً ... وكم فلقت رأساً وكم طعنت نحرا وكم طعنت بالسمر حتى تقصّفت ... وكم ضاربت بالبيض حتى انثنت حمرا أمالوا عروش الكافرين وكافحوا ... عن الديّن يرجون المثوبة والأجرا فذلّت وكان العزّ ملء رؤوسها ... وقد أوطأتها الترك من بأسها جمرا وولّت ولاذت بالجبال تحصّنا ... ولولا تخاف القتل لاختارت الأسرا وجافت رحاب الأرض من قتلائها ... ولكنها طابت لنا شقهاً نشرا ولمّا أتى الفتّاح بالفتح نحونا ... شكرنا الذي يستوجب الحمد والشكرا فحمداً لمن أعلى منار نبيّه ... وشكراً لسلطان أباد العدى قسرا أجلّ الملوك النّاصر بن قلاون ... وأبركهم وجهاً وأرحبهم صدرا لقد خلّف المنصور هدياً وهيبةً ... ومنقبةً طولى ومنقبة بكسرا فلا زالت الأقدار طوع مراده ... ولا زال يعلو فوق هام السهى قدرا وقال الفقيه عبد الواحد التبريزي - الخطيب بعجلون - قصيدة منها: الله أكبر: جاء النصر والظفر ... والحمد الله، هذا كنت أنتظر وأبرز القدر المحتوم بارئه ... سبحانه بيديه النفع والضرر وهوّن الصعب بالفتح المبين لكم ... ربّ يهون عليه المقفل العسر أين النجوم وتأثير القران وما ... تخرّصوا فيه من إفكٍ وما زجروا قد دبّر الله أمراً غير أمرهم ... وخاب ما زخرفوا فينا وما هجروا وأقبل العسكر المنصور يقدمه ... من الملائك جند ليس تنحصر كنانة الله مصر جندها ثبتت ... لا ريب فيه وجند الله تنتصر ثاروا سراعاً إلى إدراك ثأرهم ... وهجّروا في طلاب المجد وابتكروا وأسهروا أعيناً في الله ما رقدوا ... أكرم بقومٍ إذا نام الورى سهروا وأوجفوا نفراً بالخيل ملجمة ... وبالركاب وما ملوا ولا نفروا حتى أتوا جلقا في يوم ملحمة ... فيه الأسود أسود الغاب تهتصر والجو أغبر والتتار راجفة ... مثل الجراد على الدنيا قد انتشروا

حتّى إذا عبّ مثل البحر جحفلنا ... ومدّ قبضاً على أعدائنا جزروا لاذوا بشمّ شماريخ الجبال فما ... حمتهم قلل منها ولا مغر ومزقوا شذراً بين الزحام فكم ... شلوٍ تنازع فيه الذئب والنّمر أين المفرّ وقد حام الحمام بهم ... هيهات لا ملجأ يرجى ولا وزر جاءوا وقد حفروا من مكرهم قلباً ... ألقاهم الله قسراً في الذي حفروا أتوا فراة وقد راموا النجاة فكم ... حلّت بهم عبر فيها وما اعتبروا جميعهم قتلوا صبراً وقد جعلت ... عظامهم بنواحي جلّق صبر لم يقبروا في نواويس ولا جدثٍ ... وإنما في بطون الوحش قد قبروا والطير ترعى نهاراً لحمهم فإذا ... ما الليل جنّ ففي إقحافهم تكر ملك أعيد به عصر الشباب لكم ... مسترغداً صافياً واستوقف العمر إنا لنرجوه من بغداد ينهلها ... بماء دجلة ريّا ثم تصطدر نؤمّها وإمام المسلمين معاً ... ثقوا بقولي فهذا منه منتظر فدام للدّين والدنيا يسوسهما ... فكر له فيه سرّ الله مستتر وعمره الجمّ أعياداً مجدّدة ... وأشهراً بعزيز النصر تشتهر وقال الشيخ بدر الدين محمد بن عمر البزار، المعروف بالمنبجي، الشاعر في ذلك أيضاً قصيدة: وافي على قدر ما يختاره القدر ... وجاء عمّا جناه الدهر يعتذر وإن أساءت لياليه التي سلفت ... ظلماً فقد أحسنت أيامه الأخر وبعد إدراكك الثارات منتصراً ... فكل ذنب جناه قبل مغتفر بشاير طار بالإقبال طائرها ... لمثلها كانت الآمال تنتظر فتح على جبهة الأيّام أسعده ... بالجدّ والسعد والتأييد مسطر ما شاهد الناس فتحاً مثله أبداً ... إلا فتوحاً تولّى أمره عمر سارت بأخبارها الركبان واقعة ... لم تحوّ أمثالها الأخبار والسير وفي اللّيالي إذا عدّت محاسنها ... السمّار في كل ناد ذكرها سمر عم السرور بها كل النفوس فما ... للنّاس في لذة من بعدها وطر إن البغاة بني خاقان أقدمهم ... على هلاكهم الطغيان والأشر راموا وقد حشدوا غلباً فما غلبوا ... وحالوا النصر تضليلاً فما نصروا أتوا وقاد مكر الله الخبير بهم ... فردّ كفارهم بالغيظ إذ مكروا وطبّقوا الأرض من سهل ومن جبل ... كأنما هم جراد فيه منتشر داسوا بلادك لا يثنى أعنّتهم ... عن قصدها جهلهم والتيه والبطر غرتهم فلتة في الدهر عن غلط ... منه فحلت بهم من بعدها الغير وأمّلوا أنّها مثل التي ذهبت ... فغودروا ودماهم في الفلا غدر قابلتهم بجيوش ما لهم قبل ... ببأسها فلقد قلّوا وإن كثروا قاموا وأقعدتهم عن قصدهم بشبا ... البيض الرقاق فقد غابوا وإن حضروا أفنيتهم بليوث منك باسلة ... وهل تقاوم آساد الشرى الحمر فكم قتيل لهم من بعد صولته ... تحت السنابك أمسى وهو منعقر عصابة لم تزل بالحق ظاهرة ... في الحرب بالله والأملاك تنتصر من سيد الرسل بالتأييد قد وعدت ... فالنصر يخدمها ما زال والظفر يا وقعة المرج الصفر افتخرت ... بك الوقائع في الآفاق والعصر رفعت بالنصر أعلام الهدى ولقد ... جرّدت للشرك كسراً ليس ينجبر يوم تدارك جمع المسلمين به ... من لم يزل في يديه النفع والضرر

يا من أوامره والله يعضده ... بها الليالي مع الأيام تأتمر لولا يثبّتك الله العزيز بعدة ... لم يبق للدين لا سمع ولا بصر قرّت به أعين الإسلام وابتهجت ... به القلوب وكادت فيه تنفطر نامت عيون الرعايا في ذرى ملك ... في رعيهم طرفع عاداته السهر المخجل السيف عزماً وهو منصلت ... والمرعب الليث بأساً وهو مهتصر والثابت الجأش والإقدام في دحضٍ ... فيه التثبّت إلاّ عنده عسر يا ناصر الدين يا من حسن دولته ... أمست على دول الماضين تفتخر فأوقدت نيران حرب أصبحوا حطباً ... للجمر منها لها شوك القنى شرر دارت عليهم رحى الحرب الزيون فما ... لجمعهم بعدها عين ولا أثر وضاقت الأرض مذ ولّوا بما رحبت ... عليهم فهم بالخوف قد حصروا وألبسوا الذلّ حتى أن أشجعهم ... يأتي إليك بألفٍ منهم نفر وأصبحوا بعد ذاك الكبر يحسد ... قتلاهم من الذلّ والتقريع من أسروا وبعد قد أمنا من كل حادثة ... فما لنائبةٍ منه ناب ولا ظفر بالسيد الناصر المنصور جحفله ... زهت برونقها الآصال والبكر هزّت معاطفها الدنيا به فرحاً ... وطاب بالأمن في أيامه العمر أزال عنّا مخافات النفوس فما ... يدور بالخوف أوهام ولا فكر يا من به راقت الأوقات وابتسمت ... بعد العبوس فما في صفوها كدر لا زال ملكك ملكاً لا نفاذ له ... ما شق شقّة جلباب الدجى سحر وقال الشيخ تقي الدين عبد الله بن تمام الحنبلي قصيدة طويلة، منها قوله: كرّر عليّ فمالي بعدها وطر ... بشارة كنت أرجوها وأنتظر هبّت علينا بنصر الله هاتفة ... لم ترو أخبارها الأخبار والسير نتلو أحاديثها دأباً وندرسها ... كأنها بيننا الآيات والسور وقال صاحب نزهة الناظر: لمثل ذا اليوم كان الدهر ينتظر ... فليهنك اليوم هذا النصر والظفر يا يوم شقحب لو عاش الألى سلفوا ... من الملوك لهذا اليوم ما ذكروا لله درك والأعداء قد بسطت ... خيولهم سرباً في الأرض تنتشر صدمتهم بخيول لو صدمت بها ... صرف الزمان لولى وهو منذعر يأتوا بليل تمنّوا أنه لهم ... ليل الضرير وصبح ليس ينتظر وجاوزوا النهر خوضاً من دمائهم ... محمّراً وصفاه منهم كدر ولّوا ظهورهم والسيف حاكمها ... كأنهم حمر واستنفروا نفروا وأصبح الدين منصوراً بناصره ... والكفر يخذل والإسلام منتصر وشتّت الله شملاً كان مجتمعاً ... وضرب الله أرقاب الألى كفروا فإن تكن زلة للدهر واحدة ... فقد أتاك وهو يعتذر فليهنك اليوم هذا الفتح يا ملكاً ... وافى لك الفتح ما وافى به عمر وافت لغازان أخبار معنعنة ... فصدّق الخبر لمّا عاين الخبر وأصبح النوح تترى في منازلهم ... بالحزن والويل والتعديد والفكر كل يؤمل أن يلقى لصاحبه ... حتى يراه فلا عين ولا أثر وأحسن ما قيل في هذه الوقعة قصيدة شمس الدين الطيبي، وهذه هي: برق الصوارم للأبصار تختطف ... والنقع يحكي سحاباً بالدما تكف أحلا وأغلا وأعلا قيمة وسناً ... من ريق ثغر الغواني حين يرتشق وفي قدود القنى معنى شغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيف ومن غدا بالخدود الحمر ذا كلفٍ ... فإنّني بخدود البيض لي كلف

ذكر ما اتفق لقطلوشاه ومن معه من التتار

ولامة الحرب في عيني أحسن من لام ... العذار الذي في الخدّ منعطف كلاهما زرد هذا يفيد وذا يردي ... فشأنهما في الفعل مختلف والخيل في طلب الأوتار صاهلة ... ألذّ لحناً من الأوتار تختلف ما مجلس الشرب والأقداح دائرة ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف والعزّ من تحت طلّ الرمح مقترن ... بالعزّ والذلّ يأباه الفتى الصلف لا عيش إلاّ لفتيان إذا انتدبوا ... ثاروا وإن بذلوافي غمّة كشفوا يقي بهم ملة الإسلام ناصرها ... كما يقي الدرّة المكنونة الصدف قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعفوا وجاهدوا في سبيل الله فانتصروا ... من بعد ظلمٍ ومما ساءهم أنفوا لمّا أتتهم جيوش الكفر يقدمهم ... رأس الضلاّل الذي في عقله جنف جاءوا وكل مقامٍ ظل مضطرباً ... منهم وكل مقام بات يرتجف فشاهدوا علم الإسلام مرتفعاً ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف لاقاهم الفيلق الجرار فانكسروا ... خوف العوامل بالتأنيث فانصرفوا يا مرج صفّر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل فالإسلام يؤتلف أزهر روضك أزهى عند لفحته ... أم يانعات رءوس فيك تقتطف غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بدماء المغل تغترف زلّت على كتف المصريّ أرجلهم ... فليس يدرون أنّى يؤكل الكتف آووا إلى جيل لو كان يعصمهم ... من موج فوح المنايا حين يختطف دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منهم وقد زحفوا ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعقاب فانتصفوا ففي جماجمهم بيض الطلا زبروا ... وفي كلاكلهم سمر القنا قصفوا فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقُتلوا في البراري حيث ما ثقفوا فما استقام لهم في أعوج بهج ... ولا أجارهم من مانع كثف وملّت الأرض قتلاهم بما قذفت ... منهم وقد ضاق منها المهمة القذف والطير والوحش قد عافت لح ... ومهم ففي مراح الضواري منهم قذف ردوا فكل طريق نحو أرضهم ... يدل جاهلها الأشلاء والجيف وأدبروا فتولى قطع دابرهم ... والحمد لله قوم للوغى ألفوا ساقوهم فسقوا شط الفراة ... وماوطهم بعباب السيف فانحرفوا وأصبحوا بعد لا عين ولا إثر ... غير القلاع عليها منهم شغف يا برق بلغ إلى غازان قصتهم ... وصف فقصتهم من فوق ما تصف بشرّ بهلكهم ملك العراق لكي ... يعطيك حلوانها حلوان والنجف وإن يسل عنهم قل تركتهم ... كالنحل صرعى فلا تمر ولا سعف ما أنت كفؤ عروس الشام مخطبها ... جهلاً وأنت إليها الهائم الدنف قد مات قبلك آباء بحسرتها ... وكلهم مغرم مغرس بها كلف إنّ الذي في جحيم النار مسكنه ... لا يستباح له الجنان والغرف وإن تعودوا تعد أسيافنا لكم ... ضرباً إذا قابلتها رضب الحجف ذوقوا وبال تعديكم وبغيكم في ... أمركم ولكأس الخزي فارتشفوا فالحمد لله معطي النصر ناصره ... وكاشف الضرّ حيث الحال منكشف ذكر ما اتفق لقطلوشاه ومن معه من التتار

ذكر من توفي فيها من الأعيان

قد ذكرنا عند نزولهم من الجبل اتبعهم العسكر وجردوا خلفهم الأمراء وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وكذلك العرب قتلوا منهم، ومات أكثرهم من العطش والجوع، والذي سلم منهم أو خرج قُتل في الطريق، وقتلت أهل المدن والضياع منهم خلقاً عظيماً، وما وصل قطلوشاه إلى الفرات إلا في نفر يسير، ولم يعد الفرات سالماً إلاّ مولاي فإنه ما عدم له إلاّ نفر يسير من الذين انقطعوا منه فإنه خرج أولاً وذهب كما ذكرنا، ولم يقابل العسكر، وبلغ الخبر إلى غازان، وإلى همدان، ووقعت الضجات، واستقبلهم أهل البلاد بالبكاء والعويل، وخرجت أهل تبريز وغيرها، وركبت النساء والخواتين لسماع أخبارهم، لينظرن من قتل ومن بقي، ونظر الخلائق إلى عسكر مُبدد ما بين ماش وراكب، ومحمول ومجروح، ونادب على ولده وعلى أخيه. قال الراوي: وحكى لي من حضرهم من تجار تبريز أنه أقام مدة شهرين لم يسمع غير بكاء ونياحة وتعديد بلسان المغل، ولما وُصف لقازان كيفية انكسارهم، وما جرى عليهم، خرج من منخريه دم كثير إلى أن كاد يقتله، ودخل إلى خركاته، ولم يجتمع بأحد من الأمراء، ولا من الخواتين إلى أن أخبروا له أنّ مولاي وصل، وحكى له طرفاً من أمره، وأقام إلى أن وصل قطلوشاه وعسكره، وملك مسامعه من البكاء والتعديد، وخرجت نساء المغل وأهل العسكر لملتقى رجالهم وأولادهم فلم يجدوا من كل عشرة واحداً، فركب الأُردو عن بكرة أبيهم، فهنّى بعضهم باللقاء، وقيل لبعضهم: خلفّناه في ماردين أو غيرها. وقيل لبعضهم: جُرح. وقيل لبعضهم: أُسر، ومثل هذا الكلام. فلما علم غازان بذلك خرج وجلس على التخت، وطلب أمراء التوامين الذين كانوا قد تأخروا عنده، والخواتين، فأجلسهم على العادة، ورسم بحضور قطلوشاه وجوبان وسوتاي، ومن كان معهم من الأمراء، وأوقفهم بين يديه موقف الذلّ، وقال للحاجب: قل لهم كيف خالفتم يسق السلطان حتى كسرتم عسكره؟ فقالت الأمراء: نحن كنا مع نائبك ويسقك أن لانخالفه فيما يفعله. فقال لقطلوشاه: كيف خالفت يسقي ولاقيت الملك الناصر صاحب مصر وعسكره. فردّ عليه الجواب بما اتفق له من سوقه خلف عسكر الشام وكيف أدركهم وكسرهم، وأن سلطان مصر وصل في ذلك الوقت على غفلة منه، فلم يقبل له عذراً، ورسم أن يقيد بالكلاليب، فقامت الأمراء والخواتين وشفعوا فيه، وقالوا له: إن له على الخان خدمةً كبيرةً، وأنه اجتهد غاية الاجتهاد. ولكن أتاه الأمر بغير ما حسبه، وما زالوا به وهم واقفون بين يديه، والخواتين قد كشفن رءوسهن إلى أن عفي عنه، ورسم أن يوقفوه على بعد من بين يديه وهو ممسوك بين الحجاب، ويقوم كل من حضر بين يدي الخان فيخرج إليه ويتفل في وجهه، وهذه حدّ الإهانة عندهم للكبير إذا لم يقتلوه، ثم رسم أن يخرج مع جماعته وعسكر آخر إلى كيلان ولا يوريه وجهه إلى أن يملكها، وكان من أمره ما سنذكره إن شاء الله، وطلب بعدها مولاي ورماه وضربه تسع عصا وقال: كنت متّ معهم. وأهانه الإهانة البالغة. وفيها: كان النيل أوفى على ستة عشر ذراعاً، وكان كسر الخليج خامس المحرّم. وقال صاحب النزهة: الصحيح أن النيل غلّق ثمانية عشر ذراعاً. وفيها: حج بالناس سيف الدين برلغي. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ الإمام شيخ الإسلام بقية المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الشيخ ال صالح بقية السلف مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المصري، المعروف بابن دقيق العيد. ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرون وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من صفر ببستان عند باب اللوق، وصلي عليه تحت القلعة، وحضر جنازته: نائب السلطان، والأمراء، وأعيان الدولة، وخلق كثير من الناس، ودفن بالقرافة. وكان أجل من بقي من علماء المسلمين علماء وديانة وعملاً، وكان من علماء الحديث، وكان إماماً متقناً، متفنناً، أصولياً، فقيهاً، أديباً، نحوياً، شاعراً، ناثراً، مجتهداً، وافر العقل، كثير السكينة، تام الورع، شديد التديّن، مديم السهر، مكباً على المطالعة والجمع، قلّ أن ترى العيون مثله.

وكان قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك حكايات عجيبة، وكان كثير التسري والتمتع، وكان مهوّساً بعلم الكيمياء، معتقداً صحتها، وكان له عدة أولاد بأسماء الصحابة العشرة، تفقه بأبيه وبالشيخ عزّ الدين بن عبد السلام وغيرهما، واشتهر اسمه في حياة مشايخه، وتخرج به أئمة، وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً. وقال ابن كثير: سمع الحديث الكثير، ورحل وخرج، وصنّف فيه إسناداً ومتنا بمصنفات عديدة مفيدة فريدة: وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه، وفاق جميع أقرانه، ودرس في أماكن كبار كثيرة، ثم ولي قضاء مصر سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية. وقال بيبرس: وكانت مدة ولايته ست سنين وسبعة أشهر وأياماً. وقال النويري: وكان نشوه بمدينة قوص، وتفقه على أبيه، وعزل نفسه عن القضاء، وسئل في العود: فامتنع، فألحّ عليه، فعاد، وهو الذي نقل خلع القضاة من الحرير إلى الصوف، وكان يخلع على القضاة قبله الحرير الكنجي، وتولى بعده القضاء بدر الدين بن جماعة. وقال صاحب النزهة: وصلى عليه السلطان وسائر الأمراء والأكابر. وهو آخر من ولى القضاء من المجتهدين الذين لم ير في دولة الترك من ولي منصب القضاء مثله. قال: ويذكر له نكتة غريبةً، وهي: أنه اتفق أن شخصاً أحضر إليه فتياً فكتب عليها، فلما فارقه تذكر أنه كتب فيها ما لا يجوز، فقلق لذلك قلقاً عظيماً ولم يحكم ذلك النهار. فلما كان بكرة اليوم الثاني حضر الرجل ومعه الفتوى، وسأل الشيخ أن يكتب له عليها بخط مفسّر وذكر أنه من حين خرج من عند الشيخ بالفتوى عرضها على الناس، فكل من أخذها لم يحسن قراءتها لكون حروفها مخبطةً ولم يظهر منها شيء ولا حرف واحد. فأخذها فكتب عليها بما يجوز. وروى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس شيئاً كثيراً من لطافته وكرمه واحتمال نفسه، ومن أشعاره الرائقة، ومن ذلك قوله: أفكّر في حالي وقرب منيّتي ... وسيري حثيثاً في مصيري إلى القبر فينشىء لي فكري سحائب للأسى ... تسحّ هموماً دونها وابل القطر إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدء العمر تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدّره والموت خاتمة الأمر وله: سحاب فكري لا يزال هامياً ... ولبل همي لا أراه راحلا قد أتعبتني فكرتي وهمّتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا وقال الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة، أنشدني الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه: أتعبت نفسك بين ذلّة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل وأضعت عمرك لا خلاعة ماجنٍ ... حصلت فيه ولا وقار مبجّل وتركت حظ النفس في الدنيا ... وفي الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل وله دو بيت: الجسم تذيبه حقوق الخدمة ... والقلب عذابه علو الهمّة والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة ومن العجب أن هذين البيتين حفظهما الشيخ تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، فاتفق له أنه قال: بينا أنا وقت الهاجرة بمسجد الجواري بالحسينية؛ إذ غلبتني عيناي فنمت ورأيت والدي الشيخ مجد الدين، فسلم عليّ وسألني عن حالي فقلت يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ - يعني الشيخ تقي الدين - فقلت: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني دو بيت، وأنشدته البيتين المذكورين. فقال: سلم عليه وقل: الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت والقلب معذّب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت فانتبه تاج الدين، وقد حفظ الدو بيت المذكور. وله أيضاً: يا معرضاً عني ولست بمعرض ... يا ناقضاً عهدي ولست بناقض أتعبتني بخلائق لك لم تفدفيها وقد جمحترياضة رائض أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... فيشيع للأعداء أنك رافضي وقال شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي: اجتمعت به مرة فرأيته في ضرورة شديدة. فقلت له يا سيدي ما تكتب ورقة لصاحب اليمن وأنا أقضي فيها الشغل. فكتب ورقة لطيفة فيها:

تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظّ في الثمن وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً ... ولا من له في مثلها نظر حسن ولم يبق إلاّ رفضها وإطراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن وأرسلها إليه. فأرسل له مائتي دينار، واستمرّ يرسلها له في كل سنة إلى أن مات صاحب اليمن، رحمه الله. الشيخ برهان الدين إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم السكندري. سمع الكثير وتفقه، ودرس القوصية، وأعاد وأفتى، وناب في الخطابة مدة، وفي الحكم عن ابن جماعة، وكان ديناً فاضلاً، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، ومات يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شوال، عن خمس وستين سنة، ودفن بالقرب من الصندلاوي بباب الصغير. الشيخ المحدث شرف الدين عمر بن محمد بن عمر بن الحسن بن خواجا إمام الفارسيّ، شيخ الحديث بدار الحديث الظاهرية. مات بها وقد ناهز التسعين سنة، ودفن عند مسجد القدم، وكان قد أوصى به، وأوصى أيضاً أن يشتري بخمسمائة درهم حلاوة صابونية وتفرق على قبره بعد دفنه على من يشيع جنازته، ففعلوا ذلك، فأكل الناس وترحموا عليه، وكان مشكور السيرة، حسن المخالطة. الشيخ محيي الدين عثمان بن الشيخ أحمد بن عثمان ابن إمام الكلاّسة، إمام مشهد عروة. مات في هذه السنة في عاشر شوال، ودفن بقاسيون، وكان من القراء الصيّتين. الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الصنهاجي، إمام المالكية بجامع دمشق. مات بالمارستان النوري ودفن بباب الصغير، وكان فقيهاً فاضلاً من أهل العلم والصلاح، وتولى مكانه أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي. الصدر الكبير العالم الفاضل كمال الدين أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود ابن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سلمان بن فتيان الشيباني. المعروف بابن العطار، كاتب الدرج الشريف منذ أربعين سنة. مات بباب البريد، وحمل إلى قاسيون فدفن في تربة له في نواحي الكهف، وكان فيه تلاوة قرآن، وذكر، وملازمة للصلوات مع الجماعة. واقتنى كتباً كثيرة جليلة، وله ترّسل ونظم، فمن نظمه: قل يا نسيم فإن رجعت مخبراً ... برضاهم ومبشراً بقبول فلك الهناء لأمنحك رقتي ... ولأخلعنّ عليك ثوب نحول الأمير فارس الدين ألبكي الساقي المنصوري نائب حمص. كان أميراً كبيراً مقدّماً. مات في هذه السنة يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة، وهو الذي توجه إلى قازان ملك التتار وعاد إلى الشام. وولى مكانه عز الدين أيبك الحموي، وكان نائباً بصرخد، فنقل إلى حمص، كذا قال النويري. وقال بيبرس: تولى عوضه الأمير بلبان الجوكندار المنصوري، وكان نائباً بقلعة دمشق. الأمير شمس الدين سنقر العينتابي. توفي في هذه السنة بدمشق، وكان من أمرائها. الأمير سيف الدين بكش رأس النوبة الجمدارية، توفي في هذه السنة. الأمير ناصر الدين بن باشقرد الناصري الأيوبي. تقنطر به فرسه في سوق الخيل، فوقع ميتاً، ودفن بجبل قاسيون عند والده. وكان شاباً حسناً جميلاً. الأمير حسام الدين الأستادار، استشهد في الوقعة المذكورة وكان يعرف بالرومي. وكان مملوك السلطان الملك المنصور قلاون، اشتراه من تاجر، وذكر أنه رومي ولقبه بلاجين، وكبّره عنده، وترقى إلى أن عمله أستاذ الدار، وحكي عنه أنه قال: ما أنا من الروم، وإنما جنسي وبيتي من التركمان، وكان أبي وأمي مسلمين، وكان اسمي خليلاً واتفق أن زوقنا كبست وأُغير عليها، فأُسر كل من فيها، وباعوني في بلاد الروم، ثم اشتراني تاجر وجلبني إلى مصر، وكان له تلاوة وسماع حديث. الأمير أوليا بن قرمان، وقد ذكرناه من المستشهدين في الوقعة المذكورة. وكان قد وفد إلى مصر في الدولة الظاهرية، وكان يُقال ابن قرمان، ولم يكن كذلك وإنما كان ابن أخت قرمان. الأمير عز الدين أيدمر الرفا، ذكرناه في المستشهدين. وكان من الأمراء المنصورية المشهورين بالفروسية والشجاعة، وحكي من أكابر مماليكه أنه أخذه التركمان. ثم وصل إلى بيت الملك الناصر صاحب حماة. الأمير عز الدين أيدمر القشاش. قد ذكرناه في المستشهدين أيضاً.

وكان له تقدم وسمعة في الولايات، وحرمة كبيرة، وآخر ولايته ولاية الغربية، وأضيفت له ولاية الشرقية، وكان يتحدث في الإقليمين، وكانت له اختراعات في الأعمال من جملتها: كان يضرب في الأرض خوازيق ويضع على علوها صاري ببكرة، فإذا علق عليه أحد من المفسدين يجذبونه إلى فوق جداً، ثم يُرخونه إلى أن يقع على خازوق من تلك الخوازيق، فيخرج من جسده حيث يقع منه، وكانت له مهابة في النفوس ولم يجسر أحد في أيام ولايته أن يلبس مئزراً أسوداً، ولا يتقلد بسيف، ولا يحمل عصيً، ولا يركب فرساً. ورُئي في المنام بعد موته راكباً حصاناً أشهب. وعليه عدة الحرب، وبيده رمحه، وعليه مهابة عظيمة، فقيل له: بم نلت هذه؟ فقال: غفر الله لي بعمارتي جسر السقفي، وهو جسر كان أنشأه بين ملفة صندفا وبين أرض سمنود. وكان في آخر عمره عرض له وجع المفاصل، فدخل على الأمراء أن يعفوه عن الولايات. فأُعفي وأقام في بيته إلى أن خرج السلطان إلى لقاء العدو، فتجهّز للسفر. فقيل له: إنك ما تحمل على الركوب على الخيل، فلم يسمع كلامهم وما زال راكب المحّفة إلى أن قامت الحرب، فركب فرسه وهو في غاية ما يكون من الألم ورجلاه متورمتان. فقيل له: أنت ترمي نفسك للموت. فقال: ويلكم لمثل هذا اليوم كنت أنتظر، وإلا كيف يخلّص القشاش نفسه من ربّه. فرفص فرسه وحمل عليهم ورمحه في يده. ووصل إلى صدر العدو وكأنه ليس به ألم، فلم يزل يقاتل حتى قُتل، ووجد فيه نحو من ست جراحات، رحمه الله. الشيخ نجم الدين أيوب الكردي، قُتل في هذه الوقعة. كان قد ورد من البلاد في سنة سبع وثمانين وستمائة، ومعه جماعة من الأكراد، وأقام بدمشق مدة سنتين، ونال من أمرائها حظاً كبيراً. وظهرت له أمور من المكاشفات والصلاحية. وكان لا يدخل إليه أمير إلاّ ويطالبه بالهدية، ولا بد أن يحمل له شيئاً من الدنيا، واتبعوا أمره فيما يأخذه، فوجدوه يتصدق به ولا يدخره. ثم رحل إلى مصر ويوم عبوره حصلت له معرفة مع ابن قرمان المذكور. فأخذه إلى بيته. ثم بنى له زاوية بجوار بيته. وأقام فيها إلى أن خرج السلطان للقاء العدو، فخرج معهم. ولما التقوا بالعدو كان راكباً بآلة الحرب، واقفاً إلى جانب ابن قرمان، فقُتل معه، ثم دفنا جملة واحدة. الأمير عثمان بن يغمراس بن عبد الواد صاحب تلمسان. توفي في هذه السنة على فراشه. وجلس بعده ولده محمد بن عثمان بن يغمراس. قال بيبرس في تاريخه: وقد أمضهم الحصار ومسّهم الجهد. فأقام أربع سنين والمحاصرة مستمرة والمضايقة متضاعفة، وعدمت الأقوات وغلت الأسعار، فبلغ الحمل من الملح إلى مائة دينار والحمل من القمح إلى ستين ديناراً كباراً ولحم الفرس الواحد إلى مائة دينار، والشاة إلى عشرة دنانير، والثور إلى ستين ديناراً. والدجاجة إلى ثلاثة دنانير. وورد على المحاصرين خبر من بلاد العدو فأوجب رحيلهم. الملك العادل زين الدين كتبغا. توفي بحماة نائباً عليها بعد صرخد كما ذكرناه. وكانت وفاته يوم عيد الأضحى ونُقل إلى تُربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، وله عليها أوقاف داره على وظائف قراءات وغيرها، وكان من كبار المنصورية، وقد تملك بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور قلاون، ثم عزله عنها لاجين وحوله إلى صرخد، فكان بها حتى قُتل لاجين وعاد المُلك إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فاستُنيب بحماة، وكانت وفاته بها. وكان من خيار الملوك وأعدلهم، وأكثرهم براً. ورتب بحماة عوضه الأمير قفجق، فتوجه إليها وولي النيابة فيها، وكان نائباً بالشوبك.

السنة الثالثة بعد السبعمائة

وقد تقدم في ترجمته أنه أُخذ في نوبة حمص هو وبيدرا عقيب كسرة المغل على عين جالوت، وحكى أنه لما فتح هلاون الشام أحضر منجماً حاذقا يقال له: نصير الطوسي، فقال: أبصر من يملك مصر من مقدمي عسكري فقد قيل إني لا أملكها. فنظر فلم يجد من الأسماء من يملكها إلا كتبغا، وكان صهر هلاون يسمى كتبغا نُوين، فظنه هلاون إياه، فأنفذه على العسكر الذي خذله الله على عين جالوت على يد الملك المظفر قطز، وكان بين ذلك وبين ملك كتبغا هذا مصر خمسة وثلاثين سنة، وملك صاحب هذا الاسم لكنه ليس من أصحاب هلاون. والذي اتفق لهذا ما اتفق لأحد من الملوك في دولة الترك، فإنه خرج من السلطنة إلى نيابة بلد، ثم حضر إلى مصر وجلس مع الأمراء، وصار يُرمل على ما يكتبه نائب السلطان، ويمشي في خدمته، ويخاطب بالأمير، وهذا لم يتفق أحد أصلاً والله أعلم. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة بعد السبعمائة استهلت هذه السنة، وخليفة الوقت: المستكفى بالله بن الحاكم العباسي. وسلطان البلاد: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونائبه بمصر الأمير سلاّر، وقاضي الشافعية بدر الدين بن جماعة، ونائب الشام جمال الدين أقوش الأفرم، وقاضي الشافعية بدمشق نجم الدين بن الصصري. ذكر المدرسة الناصرية التي بين القصرين قال ابن كثير: وفي هذه السنة كمل عمارة المدرسة الناصرية بين القصرين. وكان الملك العادل زين الدين كتبغا قد شرع في عمارتها وابتدأ في إنشائها، فلم تطل مدته لتمام بنائها، فعند عود الملك الناصر إلى مملكته ثانياً أمر بتكميلها، ورسم بترتيبها، ورتب الدروس على المذاهب الأربع، فللحنفية شمس الدين السروجي، وللمالكية زين الدين علي، وللحنابلة شرف الدين عبد الغني الحراني، وللشافعية الشيخ الفاضل صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل، ونقل الملك الناصر والدته من التربة المجاورة لمشهد السيدة نفيسة إلى قبة المدرسة المذكورة، ودُفنت بها، وعيّن لها أوقافاً جارية. وفي النزهة: وكانت هذه المدرسة داراً تُعرف بدار الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي. ولما تسلطن الأمير زين الدين كتبغا وتلقب بالملك العادل اختار أن يجعل له مدرسة ومكاناً يُدفن فيه، فسعى له جماعة ودلّوه على هذا المكان لأنه مجاور لمدرسة السلطان قلاون أستاذه، وفي وسط المدارس، ففرح بذلك واشتراه من ورثته، وشرع في عمارته، وجلب إليه سائر الصناع، وعمل لها باباً عجيباً، وهو رخام أبيض قطعة واحدة، وكذلك واجهة الباب وأعتابه، وأصل ذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما أخذ حصن عكا وجد فيها بناءً عظيماً من أيام السنين من العمائر العجيبة جداً، وكان هذا الباب في هذا البناء، وكان الأشرف قد رتب علم الدين الدوادار الصالحي على تخريب سور عكا وسور عثليث وغيرهما من القلاع التي فتحها الله على يديه، ولما سمع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بهذا الباب أرسل إلى الأمير علم الدين المذكور وطلب منه هذا الباب، وسأله أن يحمله إلى مصر، ويكون ذلك إحساناً منه إليه، ولما انتهى شغل الأمير علم الدين حمل هذا الباب إلى مصر، وقدمه له، وكان عند بيدرا إلى أن جرى عليه ما جرى في قضية الأشرف، وقُتل كلاهما وتسلطن كتبغا، وشرع في عمل هذه المدرسة، فأخبره من كان يعرف هذا الباب أنه عند ورثة بيدرا وأنه معدوم المثل، فسأل كتبغا ورثة بيدرا عن ذلك. فأحضروه إليه وأمر بوضعه باباً للمدرسة، ولما اتفق لكتبغا ما اتفق، وقدم الناصر محمد إلى مصر اشتراها القاضي زين الدين المالكي بطريق الوكالة عن السلطان الناصر، وشرع في استكمال عمارتها، وشرع في شراء أملاك ليوقفها عليها، فمن جملتها قيسارية أمير على بالشّرابشييّن. والربع المعروف بالدهشة، وحوانيت بباب الزهومة، والحمام المعروف بالفخرية بجوار السيفية، ودار والدة السلطان قلاون، والحمامان اللتان تعرفان بالشيخ خضر، وخان الطعم بظاهر دمشق0 ذكر الإفراج عن الشريفين أسد الدين رُمثية وعز الدين حميضة ولدي الشريف نجم الدين بن نُمي:

ذكر تجريد العساكر إلى سيس

ولما اتفق وصول الأمير سيف الدين بُرلغى الأشرفي من الحجاز الشريف، أخبر عن أميري مكة أبي الغيث وأخيه عُطيفة بأنهما عاجزان وليست لهما حرمة، وأن عبيدهما يشوشون على الحاج وأن الحال تقطع من مكة، اتفق رأي الأمراء بين يدي السلطان على إخراج الشريفين رميثة وحميضة من الإعتقال في الإسكندرية، وكان قد سبق سؤالهما في الإفراج عند حضور الأمراء والسلطان من الغزاة، وأن يقيما بمصر في خدمة السلطان، ولما ذكر سيف الدين برلغى ما ذكر، أمر السلطان بإخراجهما، وسيّروا أمير جندار إليهما، فأحضرهما، ولما قدما اقتضى رأي الأمير بيبرس والأمير سلار أن يخلع عليهما وأن يلبسا الكلوتات الزركش، فامتنع حُميضة من ذلك، وقالوا له: متى خالفت ذلك رجعت إلى السجن، فعند ذلك لبس، وأجلسوهما فوق الأمراء لشرف نسبهما، ثم أرسل إليهما سائر الأمراء ما يحتاجان إليه من سائر الأشياء، وخصوصاً - أحسن إليهما غاية الإحسان - سلار وبيبرس، وكانا يركبان مع السلطان في الميدان، وألزموا حُميضة أن يلعب الأكرة مع السلطان والأمراء تلعب، واتصل بهم اتصالاً حسناً. وقال بيبرس في تاريخه: وأُنعم عليهما وأُعيدا إلى منصبهما، وعُزل أخواهما عُطيفة وأبو الغيث، وسيّر صحبتهما الأمير عز الدين أيدمر الكوندكي، فرتبهما في الإمرة. ذكر تجريد العساكر إلى سيس قال ابن كثير: وفي هذه السنة أمر السلطان بتجريد العساكر إلى سيس، وسبقه أن طائفة من العسكر الحلبي دخلت بلاد الأرمن غارة، فكبستهم التتار ببلاد سيس وسلموا، فجرد السلطان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري ومعه عدّة من العسكر المصري ثلاثة آلاف، فتوجهوا إلى دمشق، ووصلوها ثاني عشر رمضان، وأضيف إليهم ألفان من دمشق صحبة الأمير بهادر آص، وساروا، فأخذوا معهم نائب حمص الأمير بلبان الجوكندار، ووصلوا إلى حماة، فصحبهم الأمير قفجق نائب حماة، وجاء إليهم الأمير أسندمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم الأمير قراسنقر نائب حلب، وانفصلوا كلهم عنها، فافترقوا فرقتين: فرقة سارت صحبة قفجق إلى ناحية ملطية وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر ودخلوا الدربندات، وحاصروا تل حمدون، فتسلموه عنوةً في الثالث عشر من ذي القعدة، بعد حصار طويل، ووقع الإتفاق مع صاحب سيس على أن تكون للمسلمين من نهر جهان إلى حلب، وللأرمن من النهر إلى ناحيتهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك بعد ما قُتل خلق كثير من أمراء الأرمن ورؤسائهم. وقال النويري: وتأخر بدر الدين بكتاش في حلب عن هذه الغزوة لمرض عرض له. وإن تلّ حمدون لما فتحوها كان بها جماعة من نواب القلاع المجاورة لها لقبض مال فلما أطلقهم المسلمون وصل رسول صاحب سيس يقول: إن هؤلاء الذين بتلّ حمدون هم ملوك القلاع، وكلما أردت بذل الطاعة وإرسال الحمول للسلطان خالفوني وعصوني، فإن أنتم مسكتموهم سلموا إليكم القلاع والأموال. فأرسل الأمراء من أدركهم قبل وصولهم إلى مأمنهم وكانوا ثمانية، فقتلوهم إلا واحداً اسمه السرماق صاحب قلعة نُجمية، فإنه لما شاهد الموت أسلم وقال: أنا لي أخ في خدمة السلطان الملك الناصر، وأنا أُسلّم قلاعي إلى السلطان، والتزم له فتح سيس بألفي فارس، فعادت العساكر إلى مصر ووصلوها في المحرم سنة أربع وسبعمائة. وقال صاحب النزهة: ولما تأخر بدر الدين أمير سلاح في حلب لمرض عاقه عن الذهاب مع العسكر أرسل طلبه صحبة ولده، ودخلت العساكر إلى بلاد سيس وأخربوا الضياع، وأحرقوا جميع المزارع، وأسروا أهلها، وبلغهم أن قلعة تل حمدون قد تجمع فيها جماعة كثيرة من الأرمن، فنزلوا عليها وأقاموا أياماً في حصارها إلى أن فتح الله عز وجل وتسلموها بالأمان، وكان فيها ثمانية من ملوك الأرمن أصحاب القلاع، وكانوا قد أتوها على سبيل زيارة كنيسة فيها، فبلغهم وصول العسكر، فخافوا النزول منها واستأمنوا، فأعطاهم الأمراء أماناً وأمهلوهم يومين، فبلغ ذلك صاحب سيس، فصعب عليه ذلك لكون مثل هذا الحصن يخرج من يده بمكيدة فعلها الأرمن، فأرسل قاصده إلى نائب حلب، وجرى ما ذكرناه آنفاً. ذكر وفود جنكلى بن البابا إلى السلطان أحد مقدمي التتار إلى السلطان:

ذكر وصول الرسول من جهة البرشوني الفرنجي

قال ابن كثير: وفي هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة الأمير سيف الدين جنكلى بن شمس الدين المعروف بابن البابا، أحد مقدمي التتار ومعه حريمه وألزامه عدتهم أحد عشر نفراً منهم أخوه نيروز، فأقبل عليه السلطان وأمره طبلخاناة، ثم نقله إلى أمير مائة، وكان مقام المذكور ببلاد آمد، وكان يُكاتب السلطان بالنصيحة، فلهذا عظم شأنه. قال صاحب النزهة: وفيها ورد مملوك نائب حلب وعرف السلطان أن جنكلى ابن البابا نائب رأس العين سير إليه وكاتبه في الدخول إلى مصر، فكتب السلطان إلى نائب حلب بالركوب إليه وتلقيه والإكرام إليه، وكذلك كتب لنائب دمشق وأن يخهز له الإقامات. وفي ثالث ذي الحجة منها: قدم جنكلى المذكور، وكان قد جهز حاله وهو في بلاده إلى أن اتفق موت قازان وبلغه ذلك، فوجد الفرصة فركب بمن معه من ألزامه وأقاربه، وأخذ كلّ ما عز عليه، وركب على نية افتقاد ما حوله من البلاد التي يتولاها وقصد الفرات وعدّى، وبلغ ذلك نائب حلب، فكتب إلى بهسني وكختا وسائر النواب بالركوب إليه وإكرامه، وعند وصوله إلى حلب تلّقاه نائبها وأكرمه، وكذلك نائب دمشق إلى أن وصل إلى مصر، وركب الأمير ركن الدين بيبرس إلى لقائه ومعه سائر الأمراء إلى قبة النصر، وأحضروه بين يدي السلطان، وباس الأرض ثم يده، فقّربه وتحدث معه، ووعده بكل خير، ورسم له أن يسكن في القلعة، وعند استقراره رسم للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري أن يذهب ثانياً إلى صفد ورسم بإقطاعه لجنكلى المذكور، وكتب له زيادةً على ذلك مائة ألف درهم، ورسم لأمير على أخو قطلوبك بعشرة، ولنيروز الذي جاء معه تقدمة. قال ابن كثير: وفيها وصل أيضاً الأمير بدر الدين بأهله من آمد ومعه جماعة إلى مصر، فأقبل عليهم السلطان وأحسن إليهم. ذكر وصول الرسول من جهة البرشوني الفرنجي قال ابن كثير: وفيها وصل رسول من جهة الريداكون البرشوني، أحد ملوك الفرنج، برسالة تتضمن الشفاعة في النصارى الذين بمصر ليجروا على عوائدهم، وينعم عليهم بفتح كنائسهم، فقبل شفاعته وفتحت لهم كنيستان بالقاهرة: كنيسة لليعاقبة بحارة زويلة، وكنيسة بالبندقانيين للملكية، وعاد الرسول إلى بلاده، وسيّر صحبته فخر الدين عثمان الأفرمي، فلما وصلا إلى إسكندرية وركبا منها في البحر تفاوضا مفاوضةً أدّت إلى أن رسول البرشوني طرح عثمان من المركب إلى القارب الذي خرج من الميناء، فشيعهم هو وغلمانه، فأقلع من فوره، فرجع فخر الدين عثمان إلى مصر. وفي النزهة: وصل رسول البرشوني وصحبته هدية حسنة خارجة عن عادته، فإن تناهى في التحف والأشياء المفتخرة من المصاغ والبلور والذهب للسلطان وأرباب الوظائف من الأمراء وغيرهم، فأعجب السلطان والأمراء ذلك، وكان في كتابه سأل أن يحضر إليه رسول من جهة السلطان فإنه اختار أن يشافهه، فرسم بتجهيز فخر الدين عثمان استادار الأمير عز الدين الأفرم، وكان قد تأمر وولي ولاية القاهرة أياماً وعزل، فتجهز وأولع في الطمع حتى اقترض على ذمته نحو ستين ألف درهم غير ما كان في حاصله، واشترى أصنافاً كثيرة من أصناف صالحة لتلك البلاد، ولما فرغ الرسل من التجهيز تمثلوا بين يدي السلطان وباسوا الأرض، وأخرجوا في ذلك الوقت مُلطفاً صغيراً وقالوا للترجمان: إن الملك كان أوصى إليهم أن السلطان إذا قضى حاجته في الكنائس نُخرج هذا الملطف ونعطيه، وإن لم يجب إلى ذلك فلا تعطوه، فلما قُرىء على السلطان وجد في ضمنه أنه طلب بعض الأسرى المحبوسين في مصر، وذكر أن أباه وأمه قد توفيا ولم يبق غير أخته، وأنها قد دخلت على زوجته أن تسأل صدقات السلطان أن يجمع بينها وبين أخيها، فرسم السلطان أن يفك قيد هذا الأسير المطلوب ويُسلم إليهم، ثم كتب لمتولي الإسكندرية بإكرامهم وتسفيرهم، ولما وصلوا إلى إسكندرية باتوا تلك الليلة على نية السفر، وعند طلوع الشمس تغير الهواء وأعاقهم عن الخروج من الميناء، وعندما تضاحى النهار وقعت بطاقة: إن كانت الرسل قد سافروا تحيلوا على ردهم إلى اسكندرية إن أمكن ذلك، وإن كانوا ما سافروا عوّقوهم وخذوا منهم ذلك الأسير الذي فكّ قيده وسُلم إليهم، وأحضروه إلى مصر، ويأذن السلطان بعد ذلك للسفر.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

وكان الموجب لذلك أن هذا الأمير لما طلب من بين الأُسراء كان قد حصل بينه وبين أحد منهم كلام أوجب التباغض بينهما، اجتمع بمشدّ الأمراء وعرّفه أن له نصيحة يريد أن يُبديها للسلطان، فعرّف المشد بذلك للأمراء وبلغوا السلطان فطلبه، فلما حضر قال: إن هذا الأسير الذي شفع فيه صاحب برشونة وأجاب إليه السلطان ابن ملك كبير في البلاد، وله مال عظيم، ولو طلب السلطان منه ملء مركب ذهباً أعطاه وأعطى أضعافه. فقيل له: كيف أصل أسر هذا وما جرى عليه؟ فقال: هذا كان قد حضر بمركب تجارة إلى مدينة طرابلس وأخذ منها متجراً عظيماً، وتردد إليها مرات، وكان يتردد أيضاً إلى جزيرة أرواد لما كانت عامرة، وجعل له فيها حواصل كثيرة، ولما أُخذت جزيرة أرواد واستولى عليها المسلمون كان هو مقيماً فيها، وأُخذ مع جملة الأسراء وقال: أنا أعرف بلده وأعرف أباه وأمه وما هو عليه من الدنيا الواسعة وأنا أُسرت معه، وتم الأمر علينا إلى هذه الأيام، ولما بلغ والده أن ابنه في قيد الحياة وأنه أسير عندكم، فتحيل ودخل على صاحب برشونة وقدم له هدية عظيمة، وهو الذي أقام بجميع ما جهزه إلى السلطان من عنده ما قيمته أربعون ألف دينار، وكتب صاحب برشونة إلى السلطان بسبب الكنائس وما كان قصده إلا خلاص هذا الأسير، وإنما جعل ذكر الكنائس حجةً وسلماً إلى وصول قصدهم. فعند ذلك كتب بطائق إلى متولي الإسكندرية، وسيروا بعدها البريد، فسبقت البطاقة، وأراد الله عز وجل أن لا يبلغهم آمالهم، وفسدت الريح إلى أن أدركهم الأمر، فركب متولي إسكندرية في الحال وأخذ الأسير منهم وأعاده للقيد، وسيره صحبة البريد إلى مصر، وعرف رسول صاحب برشونة أن السلطان علم خبر هذا الأسير ورسم أن يرجع إلى مكانه، وسافروا أنتم، فلم يمكنهم الكلام بعد ذلك، وعلموا أن الذي جاءوا بسببه لم يتم لهم، وخشيوا عاقبة أمرهم، فأقلعوا من وقتهم وسافروا. ولما بعدوا عن إسكندرية تشاوروا فيما بينهم في أمر الرسول الذي معهم من جهة السلطان، فاتفقوا على أن يأخذوا جميع ما معه من جهة السلطان، ثم يقتلوه ويسافروا، فتصدى شخص من عقلائهم فقال: قتل الرسول ليس بجيد وأيضاً إذا قتلناه نخشى عاقبة ذلك، وربما يصعب ذلك على الملك أيضاً، وصاحب مصر لا يُعاند، فعند ذلك اقتضى رأيهم أن يأخذوا جميع ما معه ويردّوه إلى إسكندرية، ولما انتظم الأمر بينهم على ذلك قاموا إليه وأخذوه وحده ووضعوه في قارب، وكان رجلاً ضخماً وقالوا له: رُح إلى مكان جئت منه، فلو كان قتل الرسول جائزاً لقتلناك ورميناك في البحر، فسألهم أن يردوا عليه شيئاً من ماله فإنه أخذه بالدين، فأبوا أن يردوا عليه شيئاً، وقالوا: هذا بعض ما جبناه إلى ملككم، وأقلعوا، ورجع هو بالقارب إلى الإسكندرية وليس معه سوى ما عليه من القماش، فجهزّه متولي الإسكندرية إلى القاهرة، وكتب إلى السلطان وعرفه بخبره، ولما وصل إلى مصر دخل إلى الأمراء وشكى حاله فقال: إني تداينت أموالاً كثيرةً على ذمتي وأُخذ جميعها، وبكى بين أيديهم، فكان جواب سلاّر: نحن سيرنا رسولاً ما سيرنا تاجراً، وأرسلوا إلى متولي الإسكندرية وأمروا له بأن يحتاط على من عنده من الإفرنج التجار وغيرهم من برشونة، وإن لم يكن عنده أحد منهم يترقب حضورهم، فإذا حضر أحد منهم يعرف الأبواب الشريفة بذلك. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أنه ولد للملك الناصر ولد من زوجته أردكين خاتون بنت الأمير سيف الدين نوكيه السلحدار الظاهري، وسماه عليّاً ولقبّه علاء الدين، ثم لُقبّ بعد ذلك بالملك المنصور، وكانت هي زوجة أخيه الملك الأشرف رحمه الله. وقال صاحب النزهة: وعملت له الأمراء مهماً كبيراً وفرحوا به، وقصد السلطان أن يقيم عنده المغاني سبعة أيام فلم يوافقه الأمراء على ذلك وعملوه يوماً واحداً. ومنها: أنه ارتفع سعر الغلال بالديار المصرية فبلغ الأردب من القمح إلى أربعين درهماً فما فوقها، ثم أخذ في الانحطاط. ومنها: أنه وقع الموتان في الحيوان بحلب والشام وأعمالها، فقيل إن الذي نفق منها يناهز ثمانين ألف رأس. قال بيبرس: ووصلت ريح الوباء التي أصابتها إلى الديار المصرية، فنفق من خيول العسكر شيء عظيم.

ذكر ما اتفق لناصر الدين الشيخي مع الدواوين وتوليته الوزارة

ومنها: أنه وقع ببلاد قاقون وغزة والساحل وما حولها جراد لا يحصى كثرة فجمع الفلاحون منه شيئاً كثيراً، ولم يؤذ الزروع وغيرها. ومنها ما قال بيبرس في تاريخه: وفي هذا العام شملني الإنعام بأن رُشحت بحمل الجتر السلطاني في المواكب، وهي وظيفة معزوقة بذوي المراتب، فشكرت الله تعالى على ذلك. ومنها: أن القاضي صدر الدين بن المرحل قدم من دمشق إلى القاهرة، ومعه كتاب نائب الشام إلى الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطان، بسبب وظائف كانت بيده وخرجت عنه، وكان هذا الرجل مشهوراً بالفضيلة، والشعر الحسن، والمنادمة الحسنة، وله شهرة بشغفه الشراب، ومنادمة الأكابر، وبهذه الأشياء اتصل بنائب الشام حتى كتب معه في حقه، ولما اجتمع الأمير بيبرس اتفق مبيته عنده تلك الليلة. قال الراوي: فحكى لي شمس الدين البلخي المؤذن شيئاً من بعض لطائفه، أنه لما بات عند الأمير بيبرس تلك الليلة أحضر إليه الأمير بيبرس بعد العشاء سلطانية كبيرة ملآنة بالسكر وماء الليمون مع بعض السقاة، وكان ذلك الساقي تركياً صاحب وجه حسن، ولكنه كان أجروداً كبيراً في العمر، فلما ناوله المشروب أخذه منه وبهت في وجهه زماناً، ثم التفت إليّ وقال: يا شمس الدين إن هذا شاب مليح. قال: فقلت له: يا مولانا لا يغرك نظر الشمع، هذا كبير ولكنه أجرود، ومع ذلك يا مولانا هو رجل مأبون ما منه خلاف، فقال: وإلي الآن، قلت له: نعم، فشرب منه فأنشأ يقول: شاب قلبي بشاب من سنى البدر أوجه ... كلما شاب ينحني بيّض الله وجهه ثم أنه حصل له ما طالع به نائب الشام، فكتب له توقيع بالعدراوية، ودار الحديث، وخطابة الجامع الأموي والإمامة، ثم سافر إلى دمشق، وأوقف نائب الشام على توقيعه، فعلّم عليه، وكان الخطيب إذ ذاك الشيخ شرف الدين الفزاري، وكان قد تولى الخطابة بحكم وفاة الشيخ زين الدين الفارقي. وكان الناس فرحوا بتولية الشيخ شرف الدين الخطابة لكونه من أهل الصلاح والدين والعلم، فلما بلغ أهل دمشق أن صدر الدين المذكور قد تولى هذه الوظائف المذكورة تعصبوا عليه، واتفقوا أنه إذا حضر وأراد أن يخطب لا يصلون وراءه، وكان حضوره من القاهرة يوم الأربعاء، فصبروا عليه إلى أن كان يوم الجمعة، اجتمعت أكابر دمشق مثل: كمال الدين ابن الزملكاني، وإمام الدين القزويني، وعلاء الدين بن العطار، والشيخ علي الكردي، والشيخ تقي الدين بن التيمية، وأصحابه، وقاضي الشافعية، وقاضي الحنفية، ومنعوا الناس عن سماع خطبته والصلاة خلفه، وكان نائب الشام ركب إلى الجامع للصلاة، فرأى المدينة قد انقلبت إلى أن دخل الجامع، وخرج الشيخ صدر الدين وهو لابس حلة الخطابة، وما لحق أن يصعد المنبر حتى صاحت الناس في وجهه، وخرجت جماعة، فخرجوا من الجامع وهم يصيحون ويقولون: أين الإسلام؟ كيف يجوز أن يكون هذا الرجل خطيب المسلمين وإمامهم، وصدر الدين لم يعلم ما يقال من قوة غلبة الناس والصياح، وما صدّق نائب الشام فراغه من الصلاة وسكون الحال حتى خرج وركب إلى دار السعادة، فحضرت إليه القضاة وابن تيمية والمشايخ، وقد نظموا محضراً على صدر الدين، وشهدوا عليه فيه أنه رجل فاسق يشرب الخمر، وأن الصلاة خلفه لا تجوز، وقرىء المحضر بحضرته. ورأى نائب الشام أنه لا يقدر على دفع هؤلاء، وعرف أن هذا الأمر لا يتم لصدر الدين، فمشى في طوعهم، وقال: أنا ما وليت هذا الرجل، وإنما جاب توقيعاً سلطانياً، وأنا امتثلت ما رُسم به، وعلّمت على توقيعه، وأنا أطالع السلطان فيه، فمهما رسم به اتبعناه، وكتب من وقته وعرّف للسلطان وللأمراء ما وقع من الأمر، وبقي صدر الدين يصلي بالجامع، ولكن أكثر الناس لا يصلون وراءه، ويصلون في الكلاّسة وغيرها إلى أن ورد الجواب أن يتبع ما يقوله القضاة وأهل الشرع، فإذا لم يختاروا صدر الدين يستقر من كان قبله، فطلب نائب الشام أكابر دمشق والقضاة، واستقر بشرف الدين الفزاري في الإمامة والخطابة، وهرعت الناس إليه، وكان حسن الصوت، فخطب خطبة في العزل والولاية، وكان يوماً مشهوداً. ذكر ما اتفق لناصر الدين الشيخي مع الدواوين وتوليته الوزارة

كان ناصر الدين هذا متولي القاهرة، ثم انتقل إلى ولاية الجيزية، ففي ولايته على الجيزية تعاظم على الوزير وعلى المباشرين لقوة حرمته، وما كان أحد منهم يجسر عليه، وقلّ متحصل أرباب الأقلام في أعمال الجيزة، فاتفق رأيهم مع الوزير أن يثبتوا في حقه وفي حق مماليكه أموالاً سلطانية، فسعى الوزير عند نائب السلطان سلاّر في أمره، لأنه كان يعلم أن سلار يكره ناصر الدين الشيخي، فقرر معه أن يحضر الأمراء عند النائب، ويحضر المباشرون، ويطلبون ناصر الدين وينظرون في أمره، فلما أصبحوا طلبوا ناصر الدين وسائر الدواوين والنظار، وشرعوا في المحاققة، وكان التاج الطويل مستوفي الدولة حاقق معه كثيراً، وكلما سألوه فصلاً من الأموال أجاب عنه ناصر الدين، وإذا أنكروا المصروف أخرج لهم خصمه بالشواهد، فأبطل كلامهم وأدحض صحتهم، فتزايد الكلام بينهم إلى أن قال التاج الطويل: يا ناصر الدين مال السلطان ما يؤخذ بالفجور. فقال ناصر الدين: ويلك أنتم أكلتم مال السلطان، وأنتم تقاسمتموه، ثم نهض واقفاً، ثم قال للأمراء: وحق نعمة السلطان هؤلاء هم الذين أكلوا مال السلطان، فسلموني إياهم آخذ منهم ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، واكتب خط يدي بذلك. فقال له التاج الطويل: يا ناصر الدين بقيت تأمر وتنهي، لو طلعت رأسك إلى السماء أنت عندي ضامن بتقارير مكتوبة عليك مثل سائر الضُمان، فلما سمع بيبرس بذلك غضب فقال: والك ما كفى كذبكم حتى تجعل أميراً من أمراء السلطان مثل الضامن الذي يأكل المقارع؟ والله ما يأكل مال السلطان غيركم يا مناحيس يا كلوب، فنهره وأشار بقيامه من المجلس. وكان في المجلس من الأمراء: الأمير سيف الدين سلاّر، والأمير برلغى، والبغدادي، وأيبك الخزندار، وبكتمر الخزندار، وغيرهم، فلما رأوا أن بيبرس مال عليه، وشدّ من ناصر الدين، مالوا معه عليه، وشدوا من ناصر الدين، ثم التفت إلى ناصر الدين وقال له: اعلم ما تقول إنك تحمل من جهتهم المبلغ الذي ذكرته. قال: نعم يا خوند وأكثر مما قلت، ثم قال الأمير بيبرس للوزير والحجاب: اجمعوا جميع الدراوين وسلموهم له يفعل فيهم ما يختاره، ويطالبهم بالحساب والمال، وإذا لم يقم بالذي قاله أخذته من أجنابه. وما بقي مستوفي ولا كاتب ولا متصرف ولا معين ولا مشد حتى سُلّم إليه، غير القاضي تاج الدين بن السنهوري، والقاضي شهاب الدين بن الواسطي، فإنهما كانا ناظرين في ذلك الوقت، وكانا محترمين لأمانتهما. ولما جمعهم ناصر الدين عنده طلب منهم حساب ثلاث سنين، ورسّم عليهم، وضيّق عليهم، وخصوصاً على التاج الطويل فإنه أهانه ونكل به، فما مضى عليهم أيام يسيرة حتى أظهر في حقهم أموالاً كثيرة من حاصل الأهراء والقنود والدواليب وغيرها، وعرف الأمراء بذلك، وقام معه بن سعيد الدولة وعرّف الأمير بيبرس في الباطن أن ناصر الدين ظهر عليهم، وكان كلامه عند بيبرس مقبولاً، فتحدث بيبرس مع سلار والأمراء، وشكر من فعل ناصر الدين، فرسموا له باستخراج الأموال منهم وعقوبتهم، فعند ذلك شدّ عليهم ناصر الدين، فشرعوا في تحصيل الأموال وتبع موجودهم، ثم سعوا عند أكابر الأمراء حتى دخلوا على ناصر الدين بأن يلطف في أمرهم، وحذّره بعض الناس أيضاً عاقبة أمرهم، وعرف ناصر الدين للأمير بيبرس أنه حمل من جهتهم لبيت المال ثلاثمائة ألف درهم، وهي التي وجد لهم. فحاصل الأمر لما كثر عليه الشفاعات رسم بالإفراج عنهم، وأعيدوا إلى مباشراتهم ووظائفهم، وكان الوزير هو الأمير عز الدين البغدادي، وكان بينه وبين ناصر الدين وقعة كبيرة بسبب المباشرين وما جرى عليهم، وأراد أن يعزل نفسه عن الوزارة، ولم يجد سبيلاً لذلك، غير أنه سأل أن يحج في خدمة الأمير سيف الدين سلار، وكان سلار في تجهيز الحج، فأجيب إليه، فعلم ناصر الدين بذلك فسعى بواسطة الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وسيف الدين برلغى، وسيف الدين بينجار، وبالأمراء الذين يُسمع كلامهم عند سلاّر، وأهدى إلى كل واحد من هؤلاء ما يناسبه، وحصل لهم بلاد في الجيزيّة بالإجارة من ديوان السلطان، وعمل لهم سواقي وغير ذلك، حتى ملأ أعينهم، ثم استعمل الأكواز الفضة والذهب، والسلاسل الذهب والفضة، وما يناسب سفر الحاج لمثل سلاّر نائب السلطان، وحصل، وكان في ذلك الوقت لا يوجد، وغير ذلك من الأشياء الحسنة وقدّم الجميع لسلار.

ذكر وفاة قازان بن أرغون

وكان سلار يكرهه لقربه من بيبرس وتعرضه للأمراء، ومع ذلك لما نظر إلى ما قدمه أعجبه ذلك، وأراه البشاشة والقبول، وشكره على ذلك، ثم بعد أيام خاطبه الأمير سيف الدين برلغى، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وغيرهما، وقالوا: يا خوند من تعملون وزيراً وأنتم تسافرون بخير وسلامة. فقال: النُظار يتحدثون إلى حين نعود من الحج. فقال بكتمر الجوكندار: أنا أعرف واحداً يصلح للوزارة. فقال: من؟ قال: ناصر الدين الشيخي، فلما سمعه أحمرّ وجهه وظهر فيه الغضب. وقال: يا أمير ما يكفي ما سمعنا في حقه حتى نعمله وزيراً. وبقي الأمير على ذلك إلى أن خرج الحاج، وتأخر الأمير سلاّر خلف الحجاج قليلاً، ففي يوم خروجه جاء إليه الأمير برلغى، وبكتمر الجوكندار، وطغلق، وتباكز، وجماعة آخرون من الأمراء، وسألوه أن يقبل شفاعتهم، وتولى ناصر الدين الوزارة إلى أن يحضر الأمير من الحجاز، فإذا حضر بخير وسلامة ووجده قد حصل من الأموال ما يرضيه يُبقيه وإلا فعل فيه ما يختاره، فقام برلغى وباس يده، وكذلك الجوكندار، وساعدتهما الأمراء الحاضرون ممن كان يتعصب لناصر الدين، فعلم الأمير سلار أنه لا يمكن ردّ كلامهم، ولا يفيد التعلل بعد وقوف هؤلاء، فأجاب إلى سؤالهم ورسم بكتابة توقيعه، وأحضروه، وباس يده، وما جاء آخر النهار حتى كُتب التوقيع، وفُصّلت له الخلعة، ولما أحضروا توقيعه قام الأمير سيف الدين برلغى وأخذ الدواة، وأخذ الأمير بكتمر الجوكندار المرملة، والأمير سلار ينظر إليهم وهم معتنون بأمره، ولكن قلبه يكره ذلك، فعلم على توقيعه وألبسوه الخلعة، وحضر ليبوس يده، فالتفت إليه والأمراء حاضرون وقال له: اسمع يا ناصر الدين أنا أقول لك قدام هؤلاء الأمراء: تعرف أشْ كنت وأين وصلت؟ وما أوصلك إلى هذه المنزلة سيفك ولا رمحك ولا فروسيتك؟ وإنما أوصلك شطارتك ومعرفتك وأمانتك، وأنا ما يمكنني أن أخالف هؤلاء، وإياك إذا حضرتُ من الحجاز أسمع عنك أنك ظلمت أحداً من الرعية، أو جددت ظلماً، أو أحدثت حادثاً، أو خنت في مال السلطان، فأسلخ جسد جنبك بالمقارع. فقال: يا خوند: ما يكون إلا ما يبيّض وجهي عندك، وباس يده وخرج من عنده، وهو طائر من فرحه بما نال، وما علم أن ليس لإرتقاء هذه الدرجة بقاء، ويصير ذلك التنعم إلى شقاء، وكل من تعدى درجته سقط، ومن استعلى على أبناء جنسه هبط. وقال الشاعر: ومن طلب العلياء ولم يك أهلها ... تُرجّله الأيام لو كان راكبا قال الراوي: ولما خرج ناصر الدين من عند سلار نظر إليه من ورائه نظر المغضب، ومسك لحيته بيده وقال: يا قواد إن عشت ورجعت إن لم أقتلك تحت المقارع فلا يكون اسمي سلار. ثم إن ناصر الدين جلس في دست الوزارة وحكم، وركب في اليوم الثاني في موكب عظيم، ثم طلب سائر المباشرين والولاة، فعزل ناساً وولى آخرين، ومدحته الشعراء مثل شهاب الدين الأعزازي، وشرف الدين القدسي، وغيرهما، فأحسن إليهم، وكان فيه كرم وأريحية، وسكن في دار الحاج بهادر آص المجاورة لمشهد الحسين رضي الله عنه، لأنه كان تزوج بزوجته، وكان إذا نزل من القلعة ينزل في حفدة كثيرة، وجميع أرباب الوظائف في خدمته إلى أن يصل إلى داره، وكانوا يترجلون له من بعيد حتى عز الدين الأشقر مشد الدواوين، والأمير بدر الدين المحسني متولي القاهرة، وكل منهما يعضده ويُنزله، ولا يلتفت إلى أحد منهم، وكان يفعل فعل من لا يفتكر في عاقبته، ومن غر بدنياه وسلامته، وسنذكر ما جرى عليه إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة قازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون بن طولو بن جنكزخان في الثالث عشر من شوال منها: قال بيبرس في تاريخه: وفيها، أي في سنة ثلاث وسبعمائة، اتفقت وفاة قازان ملك التتار بمقام جبل من نواحي الري، وذلك أنه لما بلغه انكسار جيوشه، واقتناص وحوشه، فاعتورته الهموم، واستولت عليه الغموم، ثم وصلت إليه صُبابات عسكره المغلول، مشمولة بالذلة والخمول، فسقط في يده، وفتّ ذلك في عضده، فمرض بحمى حادة، كان بها الحمام موصولاً، والحتف مقروناً، فمات مكموداً، وما نال مقصوداً، وأدركه الردى، وكفى الله شر العادي والعدى، وكانت مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر.

ذكر جلوس خربندا أخ قازان في السلطنة بعده

وقال ابن كثير: توفي قازان بالقرب من همدان ونُقل إلى تربته بتبريز، بمكان يُسمى بالشام، ويقال: إنه مات مسموماً، والله أعلم. وفي نزهة الناظر: لما حصل من كسر عسكر قازان ما حصل، وما عدم من أمرائه وأكابر المغل لم يطق ينظر إلى وجه بقية أمرائه ولا يتحدث معهم، وعزل نفسه عن النوم مع أزواجه، وصار كلما ركب يجد في أي مكان يجوز عليه أو ينزل عزاءً وبكاءً وتعديداً على من عدم من أهله، واشتاع بين نساء المغل أن قازان هو الذي قتل هؤلاء لأنه ما كانت عادة المغل أن يدخلون الشام بغير ملك، ومتى كان للمغل عادة بالدخول إلى بلاد الإسلام. واتفق في هذه الأيام وصول خبر من كيلان أن نائبه قطلوشاه قتل هو وأميران معه من أمراء المغل وجماعة من الذين كانوا معه، فازداد ناراً على نار وحرقة على حرقة، ولا سيما اشتاع الخبر بين نساء المغل وبقية العسكر أن أحداً من ملوك المغل لم يظفر بأخذ هذا المكان، وكانت عادة الملوك من المغل إذا أرادوا هلاك أحد من أمرائهم أرسلوه إلى هذا المكان، فلا بد وأن قازان سير قطلوشاه إلى هذا المكان ليُقتل هناك والجماعة الذين معه، ولما سمع بذلك قازان ازداد غيظاً في نفسه وانطلقت نيران في كبده بسبب ما اتفق لعساكره، وبقي متحيراً لا يدري أي جهة يقصد إلى أن قوي عزمه على جمع العساكر ليغزو بلاد الإسلام، ثم يتوجه إلى بلاد كيلان، وطلب وزراءه وأمرهم أن يحصلوا أموالاً لأجل النفقات. ولما سمع الأمراء بذلك أرادوا أن يسألوه أن يؤخر الغزاة في هذه السنة، ولم يجسر أحد على الكلام معه. ووجد قازان في نفسه من الانحصار وضيق الصدر، فطلب حكيماً وعرّفه بحاله. فقال له: إنه يصلح للملك الركوب والتنزه، وأمر بالتجهز إلى الري، وما وصل إليها إلاّ وقد أحسّ في جسمه بالألم. فمن الناس من أخبر أنه مات من دُبلة على قلبه. ومنهم من أخبر ان أمراء المغل اتفقوا مع امرأة غازان على إهلاكه وقالوا لها: إن الملك يريد إفناء المغل، ثم يدخل عسكر مصر وسلطانها إلى هذه البلاد ويخربوها، وإن القُصاد حضروا من مصر وعرفوهم بذلك، وإن سلطان مصر عزم على أن يفعل بهذه البلاد ما فعله قازان ببلادهم، وجهزوا لها فصوصاً مثمنةً وجواهر مقوّمة على أن تسقيه شيئاً يمرض به، ليشتغل بنفسه عن الركوب، ولم يزالوا بها إلى أن وافقتهم على ما اختاروا، وكان قازان يحب زوجته محبة عظيمة، واسمها بلغان خاتون، فصنعت له شيئاً من السموم في مشروب وسقته. ومنهم من يقول: إنها سمته في منديل الجماع، فسقطت محاشمه بعد أيام. وحُمل إلى تربة كان صنعها على مرحلة من تبريز، فسّماها دمشق الصغيرة، وعمّر فيها عمارات عظيمة، وأوقف عليها أوقافاً كثيرة. ذكر جلوس خربندا أخ قازان في السلطنة بعده قال بيبرس في تاريخه: جلس خربندا أخو قازان في السلطنة، ولُقبّ غياث الدين محمد، وله من الأولاد: أبو يزيد وبسطام. وقال ابن كثير: وكان جلوسه على سرير المملكة بتاريخ الثالث والعشرين من ذي الحجة، ولُقبّ أولجاتو سلطان، ولقب أيضاً غياث الدين محمد، وخُطب له على منابر العراق، وخراسان وتلك النواحي. وقال صاحب النزهة: وكان خربندا في جهة الروم، وكان قازان أرسل إليه ليحضر عنده، فحضر قبل وفاة أخيه، ولما تولى رسم لعسكره الذي جمعه قازان أن يذهب كل أحد منهم إلى مكانه، ثم طلب رسل السلطان الملك الناصر الذين عوقهم قازان عنده من يوم أرسلهم الناصر فأكرمهم وأنعم عليهم، ورسم بتجهيزهم، وتجهيز رسول من جهته صحبتهم، ليسعى بينه وبين السلطان بالودّ والمحبة وبرد الجواب. ذكر خروج السلطان إلى الصيد والتنزه

وفيها قصد السلطان الصيد والفرجة، وطلب الأمير ركن الدين بيبرس وعرفه أن صدره ضيق وأنه يختار أن يتصيد نحو البحيرة، فأجاب إليه، وسيّر وراء ناصر الدين الشيخي الوزير وعرّفه أن السلطان يقصد الخروج إلى الصيد نحو البحيرة، وأمره أن يجهز الإقامات، فقال له الوزير: يا خوند ما لهذا الأمر إلا أن يخرج المملوك بنفسه بهذا السبب، وأيضاَ أريد أن أكشف أحوال الإسكندرية وما يتحصل منها، وللسلطان فيها مصالح، فرسم له بذلك، وكتب لسائر الولاة بتجهيز الإقامات، ثم خرج الوزير والمباشرون معه قبل خروج السلطان، ووصل إلى الإسكندرية، وخرج إليه الأمير بدر الدين أمير شكار وتلقاه، فلم يكرمه الوزير، ولم يُرَوْ له وجهاً، وكان الأمير بدر الدين هذا له حرمة عند سائر الأمراء وتقدم في الدولة، وله وصلة بالأمير سلار والأمير بيبرس، فلما رآه تكبر عليه لم يلتفت إليه، ورجع إلى الإسكندرية، وشرع ناصر الدين في طلب الدواوين والحُسّاب، وطلب التجار وقصد العسف بأهلها، فلم يمكنه أمير شكار من ذلك، وأرسل إليه ناصر الدين يقول له إن أموال السلطان ضائعة وأنت تمنعني من استخراجها، وأرسل إليه أمير شكار يقول له: إن قصدك أن تخرب الإسكندرية وترميها في رقبتي، فاصبر إلى أن يجيء نائب السلطان وهو الذي تسلمتُ منه هذا الثغر فيتسلمه مني. وفي أثناء هذه المفاوضة وصل مركب من تجار الإفرنج فيه بضائع كثيرة وتجارة عظيمة فيها الموجب للسلطان أربعون ألف دينار، فتحدث فيها ولم يعارضه أمير شكار فيها. واتفق وصول السلطان على تروجة، فطلب ابن عبادة وهو وكيل السلطان، فقال له: أبصر لي دراهم ترسلها إلى الإسكندرية يُشترى بها هدية، فقال يا خوند: ما ثم الآن حاصل، فقال له: اقترض من أح من التجار ونحن نوفيه. فركب ابن عبادة إلى أن وصل قريب إسكندرية، فوجد الوزير نازلاً بخيمة فما أمكنه أن يتعداه، فنزل وسلم عليه، فرحب به وأكرمه، وسأله إش قصده؟ وعرفه ما سأله السلطان، وما هو فيه من قلة النفقة، وحاله ضعيف، وأن الأمراء ما يدعون له تصرفاً ولا له خزانة. وكان ناصر الدين ناظراً إلى حال السلطان مُلتفتاً إلى القرب منه، لأنه لما كان والي مصر، كان الأمراء رسموا له أن يكبس بيوت المنجمين، ويأخذ كتبهم وأوراقهم، لأنه بلغهم أنهم أخبروا أن الملك الناصر تطول أيامه وأنه يقتل الأمراء، ولما وقف ناصر الدين على كتبهم وأوراقهم وجد فيها أن الناصر يصلح شأنه جداً في آخر دولته وتطول أيامه، فلذلك كان ناصر الدين يتقرب إليه حتى تكون له منزلة عنده، ولما سمع كلام ابن عبادة قال يا مولانا: ملك مصر لا يجد لنفسه شيئاً حتى يقترض، ثم قال له: ارجع إليه وعرفه أن عندي ألفي دينار حاصلة، فإن كان السلطان يأذن لي أجيء إليه وأحضرها له، وقل له: إني أحق بجميع ما يختاره السلطان، فركب ابن عبادة وجاء إلى السلطان وأخبره بما جرى، ففرح بذلك فرحاً كثيراً. وفي اليوم الثاني حضر ناصر الدين، ودخل على السلطان، وباس الأرض، وأجلسه بين يديه، ورحب به، وشرع السلطان يقول له ما هو فيه مع الأمراء من قلة نفاذ الكلمة وقصر اليد، فقال ناصر الدين: يا مولانا السلطان مهما تحتاج إليه عرفني به أحمل إليك، ولا تتكل على الطلب من الأمراء، وطول روحك يا خوند فإن الأمور مصيرها إليك، وجسّر السلطان على الأمراء، وهون أمرهم عليه، ثم نهض من عنده. وكان هناك أصحاب النوبة والجمدارية، فسمعوا ما جرى بينه وبين السلطان، ثم إن السلطان أقام هناك أياماً، ثم رجع إلى المدينة، وكذلك ناصر الدين رجع إلى المدينة، بعد أن حصّل مالاً جزيلاً، وذهباً كثيراً، وكساوي هائلة، وبلغ الأمير ركن الدين بيبرس جميع ما جرى له مع السلطان، وأضمر في نفسه، ثم إن ناصر الدين عرّف بيبرس أن أمير شكار قد غلب على إسكندرية، وحصّل منها أموالاً عظيمةً، وكانت إسكندرية في ذلك الوقت ليس فيها للسلطان إلا شيء قليل، وكان فيها متجر وبيع وشراء لسائر الأمراء مثل سلار وبيبرس والجوكندار وبرلغى وغيرهم. وفيها: بلغ النيل المبارك بعد وفائه إلى ستة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً، وكان قد توقف في أوائل الأمر، وتحسن فيه سعر الغلة. وفيها توجه سلار إلى الحجاز الشريف بعد رحيل الركب المصري بأيام قلائل، وحج صحبته من الأمراء: الأمير عز الدين أيبك البغدادي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

والأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب. والأمير علم الدين سنجر الجاولي الأستادار. والأمير سنقر الأعسر. والأمير سيف الدين كوري الصالحي السلحدار. والأمير سيف الدين سودي. والأمير سيف الدين الملك الجوكندار. والأمير بدر الدين بكتوت الشجاعي. والأمير بدر الدين بكتوت القرماني. والأمير نظام الدين آدم. والأمير علاء الدين علي. والأمير سيف الدين سموك. والأمير سيف الدين أدكاون الحسامي. والطواشي شهاب الدين بن مرشد الخزندار. وآخرون من الأمراء جملتهم خمسة وعشرون أميراً، وحجوا وتوجهوا من المدينة النبوية إلى القدس الشريف، فقدّسوا حجهم، والتحقوا بالركب، ودخلوا المدينة صحبة سلار. وكان الذي حج بالركب المصري فيها سيف الدين الناق الحسامي، وجهز سلار في البحر عشرة آلاف أردب قمح برسم الصدقة، وجهز سنقر الأعسر ألف أردب، وكل أمير منهم سيّر على قدره لأجل الصدقة، وتصدقوا، وانتفع أهل الحرمين والمجاورين بها نفعاً كثيراً. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ القدوة الورع أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد ابن عبد الكريم الرقي الحنبلي. ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، اشتغل وحصل وسمع شيئاً من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمأذنة الشرقية في أسفلها، بأهله، إلى جانب الطهارة بالجامع وكان معظماً عند الخاص والعام، فصيح العبارة، كثير العبادة، خشن العيش، حسن المجالسة، لطيف المفاكهة، كثير التلاوة، عارفاً بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب وشعر حسن، وفي عمره ما أكل شيئاً من الوقف، وكان يعرض عليه المناصب فلا يتولى شيئاً، وكانت له رياضات ومجاهدات، وكانت وفاته بمنزله ليلة الجمعة الخامس عشر من المحرم، وصلَى عليه نائب السلطان وأكثر أهل البلد، ودفن بسفح قاسيون بتربة الشيخ أبي عمر، رحمهما الله. الخطيب ضياء الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل العقيلي السلمي. خطيب بعلبك نحواً من ستين سنة، بعد والده، وكان مولده في سنة أربع عشرة وستمائة، سمع الكثير، وتفرد عن القزويني، وكان رجلاً جيداً حسن القراءة، من كبار العدول، توفي ليلة الإثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا. الشيخ زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله بن الحسن الفارقي، شيخ الشافعية. ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل، ودرَس في عدَة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها من زمن قازان حين احترقت، وقد باشرها سبعاً وعشرين سنة، من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية، والخطابة، وإنما باشر الخطابة تسعة أشهر قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة، وكانت وفاته بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلَى عليه ضحى يوم السبت القاضي ابن صصرى عند باب الخطابة، وبسوق الخيل قاضي الحنفية ابن الحريري، وعند الجامع بالصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان، ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر، رحمه الله. الشيخ حسن بن السراج الحلبي - من قرية باب الله - المقرىء، وكان هو الملقن بالكلاسة، وكان مجتهداً على التلاوة، وعمر حتى انحنى كثيراً زائداً عن حد الركوع، مات في هذه السنة ودفن بمقبرة باب الصغير. الصدر كمال الدين موسى بن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان. مات فيها بقاسيون، ودفن عند والده، ومولده سنة خمسين وستمائة، وكان عاقلاً ذكياً ذا مروءة. الشيخ الصالح الزاهد بدر الدين علي بن محمد السمرقندي الحنفي. شيخ خانقاة خاتون، وشيخ الخانقاة الشبلية، مات في هذه السنة ودفن بقاسيون، وكان ديناً، متنعماً، يلبس الرفيع من الثياب الحسان، وعنده تجمل ومكارم أخلاق. الصاحب الوزير الصدر الكبير فتح الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد بن محمد بن نصر القرشي المخزومي، المعروف بابن القيسراني الحلبي.

كان شيخاً جليلاً، ديناً فاضلاً، شاعراً مجيداً، من بيت الرئاسة والوزارة، وولي وزارة دمشق مدة، ثم أقام بمصر موقعاً مدة، وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه وإسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئاً من أحاديثهم في مجلدين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، وتوفي بالقاهرة يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وأصلهم من قيسارية الشام، وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيراً لنور الدين الشهيد، وكان والده عز الدين وزير الملك الناصر صاحب دمشق، وكان من الكتّاب المجيدين، توفي في الأيام الصلاحية سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر، ولد بعكا قبل أن يأخذها الفرنج سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد التسعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب، فكانوا بها. وكان شاعراً مطيعاً، وله ديوان مشهور، ومعرفة جيدة بالنجوم والهيئة، وغير ذلك، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن بتربته بجوار مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها. ومن نظمه: بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تُحاشي ونسخة حسنة قُرئت وصحت ... وها خط الكمال على الحواشي وله في مليح بوجهه أثر: قالوا بوجه الذي أحببته أثر ... يشينُه فأنئذ في الوصف والقصر فقلت قد جاء بالآيات ظاهرة ... قس حُسنه وهي تُغنينا عن الأثر فكان كالشمس لكن خاف يوصف ... بالتأنيث يوماً فحاكى صورة القمر القاضي الإمام شمس الدين سلمان بن إبراهيم بن إسماعيل الحنفي الملطي. كان نائباً في الحكم مدة طويلة بدمشق عن قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي، وناب أيضاً بالقاهرة عن السروجي، وكان رجلاً مباركاً ديّناً صالحاً، مات بدمشق فيها، ودفن بقاسيون. القاضي علاء الدين علي بن عبد الرحيم بن مراجل الكاتب. كان ماهراً في صناعة الكتابة والحساب، ويعرف بلسان التركي، وعند فضيلة تامة، وأدب حسن، وهو والد الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل، مات في السادس عشر من ذي القعدة. ومن نظمه: أأحبابنا شوقي إليكم مضاعف ... وذكركم عندي مع البعد وافرُ وقلبي لما غبتم طار نحوكم ... وأعجب شيء واقع وهو طائرُ وله: هذا كتاب محب رق حاسده ... من فرط وجد بكم أضحى يكابده غرامه فيكم أضحى يحاكمه ... وشوقه نحوكم والله قائده وشوقه حاصل والقلب عندكم ... باق وخاطره فيكم يراوده والدمع مصروفة قد صح شاهده ... يود ناظركم لو كان شاهده والليل يحييه كي يرعى فراقده ... ومن يموت به وجداً فراقده عاهدتموه على حفظ الوداد لكم ... وهو المليّ بما قد كان عاهده قد مسّه الضر من طول السقام ... فما يضر طيفكم لو كان عائده وقال وهو بمصر لما دخل إليها في سنة إحدى وسبعمائة: أقول في مصر إذ طال المقام بها ... وساء من سوء خلقي أهلها خُلقي يا أهل مصر أجيبوني السؤال عسى ... يُسكن الله ما ألقاه من قلقي هل فيكم من يُرجى للنوال ومن ... يلقى لوفد بوجه ضاحك طلق أم عندكم لغريب في دياركم ... بقية من يد أو عارض غدق فقيل لي ذاك مما ليس نعرفه ... وإنما سُقتنا فيها على الملق الصدر شرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد، المعروف بابن الأثير، كاتب الإنشاء بدمشق. مات في سابع ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون، وكان شاباً حسناً، عاقلاً وقوراً، خلّصه الله من أسر التتار ورجع إلى أهله. الشيخ الصالح العارف المحقق السيد الشريف أبو فارس عبد العزيز بن عبد الغني ابن سرور بن سلامة، المعروف بالمنوفي. مات بمنزله بمصر ليلة الإثنين خامس عشر ذي الحجة، ودفن بالقرافة، وكان من الصلحاء الأخيار المعمرين، وله ديوان شعر، فمنه قوله: خيامٌ بنجد كل فلب ثوى بها ... وكل محب قد غدا في طلابها

وتمّ لليلى العامرية مضرب ... إذا جئت تلقاه قريب قبابها تجلّت على عشاقها من خبائها ... وقد لاح بدر التم تحت نقابها على رغم عُذالي وصلت لحبها ... وطفت سبوعاً كاملاً بخبائها وقبلت أعتاباً لها ومواطناً ... ومرغت خدي في التراب ببابها ولي شرف إن صح لي ما ذكرته ... إذا فزت في الدنيا بلثم ترابها ولما رأتني خاطبتني بلطفها ... وقد أسكرتني من لذيذ شرابها ودارت كؤوس العتب بيني وبينها ... وما العيش إلا ساعة من عتابها نعم جودها عدل نعم سخطها رضىً ... نعم كل عذب في أليم عذابها لقد كملت حُسنً وفاقت ملاحة ... وقد ملكت منها تمام نصابها وفي حبها كم مات من مغرم بها ... فلة جاوبته عاش عند جوابها وكم في رُبى نجد قتيل صبابة ... وكم طائح قد ظل بين شعابها وكم عاشق بين الخيام مُوله ... يهيم بها في بعدها واقترابها سبت قلبه والحجب ما ارتفعت له ... فما حاله عند ارتفاع حجابها وله يعارض بانت سعاد: قلبي وإن أطنب العذال مشغول ... عن الملام فمهما شئتم قولوا ما يكتم السرّ إلا كيّس فطن ... ويظهر الصبر إلاّ ما جد قيل ويودع السرّ إلاّ عند من ... تثبت له العدالة لا زيغ ولا ميل ما كل علم إذا الغيبة اتسعت ... له العقول ولا ماء الحسانيل أيضاً ولا كل مديح بالقريض إذا ... نظمته حسنت فيه الأقاويل يا مدّعي مدح من أسرى الإله به ... ليلاً فلم يدر إلا وهو محمول ماذا تقول إذا ما رمت تمدحه ... وقد أتاه بوحي الله جبريل هذا ومركبه متن البراق ... وقد جاءت ببشراه تورية وإنجيل وأنزلت فيه من حب الآله طه ... وشورى ويس وتنزيل فمن يرى أنه وفيّ المديح له ... فعقله وجلال الله مخبول هذا هو الحق عندي والدليل على ... ما قلته أنه بالعلم منقول ما يمدح المصطفى إلا الإله ... وقد جاءت بذلك آيات وتأويل إن النبيّ لمولى يستجار به ... عبد بسيف الهوى والحط مقتول يرجو شفاعته يوم المعاد ... إذا قال الآله له قل أنت مقبول صلى عليه إلآه العرش ما ... طلعت شمس وما لاح في الظلماء إكليل وازنت من قال قبلي وهو مرتجل ... بانت سعاد فقلبي اليوم متبول النصير - بفتح النون - ابن أحمد بن علي المناوي الحمامي، الأديب المشهور. مولده بمنية خصيب في سنة تسع وستمائة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: أخبرني الحافظ العلاّمة أثير الدين أبو حيان من لفظه قال: كان المذكور بمصر أديباً كيّس الأخلاق، يتحرّف باكتراء الحمامات، ثم طعن في السنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشعر، وكتبت عنه قديماً وحيثاً. قال: وأنشدني أثير الدين من لفظه، قال: أنشدني النّصير المذكور لنفسه قوله: لا تفه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً لديكا قد سمعت الصّدى وذاك جماد ... كل شيء تقول ردّ عليكا قال الصفدي: وأنشدني له أثير الدين أيضاً: أقول للكأس إذ تبدّت ... في كفّ أحوى أغنّ أحور خربت بيتي وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدوّر قال: وأنشدني له أيضاً: إن الغزال الّذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم عندي بعدما نفرا أظهرتها ظاهر باتوقد ربضت ... فيها الأسود رآها الظبي فانكسرا قال: وأنشدني له أيضاً: قالوا افتضحت بحبّه ... فأجبت لي في ذا اعتذار من لي بكتمان الهوى ... وبخدّه نمّ العذار قال: وأنشدني له أيضاً: ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضيء وذبت توقّدا

ويطيني حيّاً رويت بريقه ... فإذا دعا قلبي يجاوبه الصّدا قال: وأنشدني له أيضاً: ماذا يضرك لو سمحت بزورة ... وشفعتها بمكارم الأخلاق وردعت نفسك حين تمنعك اللقا ... وتقول هذا آخر العشاق قال: وأنشدني له أيضاً: إنّي لأكره في الأنام ثلاثةً ... ما إن لها في عدّها من زائد قرب البخيل وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي وتودّداً من حاسد ومن البليّة والرزيّة أن ترى ... هذي الثلاثة جمعت في واحد وقال الصّفدي: أنشدني القاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا الشهاب محمود قال: أنشدني النصير لنفسه بقلعة الجبل قوله: رأيت فتى يقول بشط مصر ... على درج بدت والبعض غارق متى غطّى لنا الدرج استقمنا ... فقلت نعم وتنصلح الدقائق وله أيضاً: ومذ لزمت الحمّام صرت فتىً ... خلاً يداري من لا يداريه أعرف حرّ الأشياء وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه وقال الصفدي: أنشدني الشيخ العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد ابن سيد الناس قال: أنشدني النصير الحمامي لنفسه: رأيت شخصاً آكلاً كرشة ... وهو أخو ذوقٍ وفيه فطن وقال ما زلت محبّاً لها ... قلت من الإيمان حبّ الوطن وكتب النصير إلى السراج الورّاق: أتى فصل الخريف علي جدّاً ... بأمراض لواعجها شداد وأعذر عائدي إن لم يعدني ... وربّ مريض قوم لا يعاد فأجاب الوراق عن ذلك: خلائفك الربيع فليس يخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد ولا والله لم أعلمك إلا صحيحاً ... والصّحيح فما يعاد وكتب إليه يستدعيه إلى حمامه: من الرأي أن تواصل خلوة ... لها كبد حرّي وفيض عيوني تراعي يوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع قارح وحزين غدا قلبها صباً عليك وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون وله دو بيت: في وجهك للجمال والحسن فنون ... في طرفك للسحر فتور وفتون أنّى يسلو هواك يا من باتت ... عيناه تقول للهوى كن فيكون وله: إن عجّل النوروز قبل الوفا ... عجّل للعالم صفع القفا فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفي الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء ابن درع القرشي. من بني حصلة، وهم منسوبون إلى الشرف، وبأيديهم نسب. وهو والد الشيخ الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير صاحب التاريخ المشهور. ولد عمر المذكور في قرية يقال لها الشركوين غربيّ بصرى، بينها وبين أذرعات، في حدود سنة أربعين وستمائة، واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وجمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الرائق الفائق في المديح والمراثي، وقليل من الهجاء، ونزل بمدارس بصرى، وأمّ بمبرك الناقة شمالي البلد، ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى، وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي وعز الدين الفزازي، فأقام نحواً من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها والدة الشيخ عماد الدين إسماعيل ولده، فأقام بها مدة طويلة، وقد ولد له عدّة أولاد من والدة الشيخ عماد الدين ومن أخرى قبلها، فأكبرهم إسماعيل، ثم يونس، وإدريس، ومن والدة الشيخ عماد الدين عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدّة.

قال ابن كثير في تاريخه: ثم أنا أصغرهم وسميّت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بالعلم، وسقط من سطح الشامية البرانية، فمات بعد أيام، ووجد عليه والده وجداً كبيراً، ورثاه بأبيات، قال: فلما ولدت أنا له بعده سمّاني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وأصغرهم إسماعيل. ثم قال: وكانت وفاة الوالد في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بقرية مجيدل، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتونة، وكنت إذ ذاك صغيراً ابن ثلاث أو نحوها، لا أدركه إلا كالحلم، ثم تحولنا بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة الأخ كمال الدين عبد الوهاب، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه بالعلم. ومن أشعار عمر بن كثير والد الشيخ عماد الدين إسماعيل: نأى النوم عن جفني فبتّ مسّهداً ... أخاً كلف جلف الصبابة مكمدا سمير الثريا والنجوم مدلهاً ... فمن ولهي خلت الكواكب ركّدا طريحاً على فرش الصبابة والأسى ... فما ضركم لو كنتم لي عوّدا تقلبني ايدي الغرام بلوعة ... أرى النار من تلقائها لي أبردا ومزّقني صبري بعد جيران حاجز ... سعيد غرام بات في القلب موقدا فأمطرته دمعي لعل زفيره ... يقلّ فزادته الدموع توقدا فبتّ بليل أنعى ولم أر ... على النأي من بعد الأحبّة مسعدا فيالك من ليل تباعد فجره ... عليّ إلى أن خلته أن يخلدا غراماً ووجدّاً لا يحدّ أقلّه ... بأهيف معسول المراشف أغيدا له طلعة كالبدر زان جمالها ... بطرّة شعر حالك اللون أسودا يهزّ من القدّ الرشيق مثقفاً ... ويشهر من جفنيه سيف مهندا إلى ورد خديه وآس عذاره ... وضوء ثناياه فنيت تجلدا غدا كل حسن دونه متقاصرا ... وأضحى له رب الجمال موحّدا أيا كعبة الحسن التي طاف حولها ... فؤادي أما للصدّ عنك من فدا قنعت بطيف من خيالك طارقاً ... وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا وقد شفني شوق تجاوز حدّه ... وحسبك من شوق تجاوز واعتدا سألتك إلا ما مررت بحينا ... بفضلك يا ربّ الملاحة والندا غلطت بهجراني ولو كنت صائباً ... لما صدّك الواشون عني ولا العدا الشيخ شهاب الدين أحمد بن سامة بن كوكب الطّائي الحنفي، إمام المدرسة الفارقانية التي بحارة الوزيرية. سمع من جماعة، وكتب وروى، توفي في هذه السنة، وكان عدلاً يشهد على القضاة، ويكتب الشروط والإسجالات. الأمير زين الدين قراجا أستادار الأفرم. توفي في المحرم منها، ودفن بتربته بميدان الحصى عند النهر. الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي. ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بستة أشهر إلى نيابة حمص، فكانت وفاته بها يوم الأحد عشر بن ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح، غربيّ زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمّره في أيام ولايته، وكان أميراً عاقلاً، شجاعاً مقداماً، كثير التلاوة، وكان من مماليك المنصور صاحب حماة هو والأمير علم الدين أبو خرص، وكان ضنيناً بهما، فأرسل الملك الظاهر وطلبهما منه، فاعتذر بمرضهما، فأرسل من يحضرهما في محفات، فأرسلهما إليه، وعند وصولهما أمّرهما، وصار لهما صورة في الدولة الظاهرية وغيرها، وولاه الملك الأشرف نيابة دمشق، عوضاً عن الشجاعي في سنة إحدى وتسعين، فاستمر في النيابة إلى سنة خمس وتسعين، ولما تملك كتبغا العادل عزله وولى غرلوا العادلي عوضه، وأرسله إلى صرخد، فأقام بها إلى هذه السنة، ثم أعطي نيابة حمص فأقام بها قليلاً، ومات في التاريخ المذكور. الأمير ركن الدين بيبرس التلاوي، مشد الدواوين بالشام. توفي يوم الإثنين تاسع رجب ودفن بقاسيون، وكان ظالماً عسوفاً جباراً، وكانت مدة ولايته سنة واحدة وستة وأربيعن يوماً، أقام منها مريضاً تسعة أشهر وأياماً، وولى الشدّ مكانه شرف الدين قيران الدواداري، وكان مشداً بطرابلس، فنقل إلى دمشق.

السنة الرابعة بعد السبعمائة

الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار الظاهري. توفي فيها، وهو أحد من كان توجه إلى قازان وعاد، وكان من أكابر الأمراء الشجعان الفرسان المقاديم في الحروب، وخدم الدولة الظاهرية والمنصورية، وكان يرمي على ستة وخمسين رطلاً بالدمشقي مع خفة ولطافة، وكان يحبّ الطرب ويتولع بالسماع والرقص فيه، ويلبس الكامليات، ويتعانى الطرافة في ملبسه، وفي الأكل المفتخر من الطعامات، وله مكارم كثيرة على الناس. الملك قازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون بن طلوبن بن جنكزخان. مات في هذه السنة، وقد ذكرناه وقازان - بالقاف، ويقال بالغين المعجمة، وبعد الألف زاي معجمة، وفي آخره نون - وكان تسمّى بمحمود لما أظهر الإسلام، كما أن أخاه خربندا تسمى بمحمد. فصل في ما وقع من الحوادث في السنة الرابعة بعد السبعمائة استهلّت هذه السنة: والسلطان: الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاون، وقد عاد من صيده وتنزهه في بلاد البحيرة، وقد ذكرنا خروجه من القاهرة في السنة الماضية وما اتفق لناصر الدين الشيخي الوزير معه. وذكر بيبرس في تاريخه: خروج السلطان إلى الصيد في هذه السنة. وقال: وفي سنة أربع وستمائة توجه الركاب الشريف إلى الإسكندرية والجهات الغربية متصيداً في الحمامات ومتفرجاً في تلك الجهات، ولما قضى وطره إلى دياره، وكان عوده في جمادى الأولى. قلت: التوفيق بين الكلامين أن سفره كان في أواخر السنة الماضية وعوده في هذه السنة، والله أعلم. ذكر مجيء ناس إلى خدمة السلطان من بلاده ومجيء رسل من ملوك بلاده غيره: منهم ما قال بيبرس في تاريخه: وفد إلى الأبواب الشريفة من الشرق أعيان العربان منهم: الأمير قطايا بن سيف أمير بني كلاب وجماعة من شيوخهم، فأكرم مثواهم، وأصغى لنجواهم، وشملتهم الصدقات بالإقطاعات، وعادوا إلى حلب وقد نال كل فوق ما طلب. وقال صاحب النزهة: وفي مستهل المحرم تواترت الأخبار بوصول الأمير سيف الدين قطايا بن الأمير سيف أمير بني كلاب، وكان هذا الرجل قد خرج عن طاعة السلطان وأفسد في نواحي حلب وقطع الطريق، فطلبته السلطنة، فدخل هو وجماعته إلى بلاد الشرق، وأقاموا مع المغل وأكرموهم إكراماً كثيراً، فلما اتفق موت غازان كاتب نائب حلب، ورجع إلى الطاعة، وورد إلى مصر، وأقبل عليه السلطان والأمراء وأكرموه، وكتبوا لنائب حلب بردّ أخبارهم وإكرامهم، وهؤلاء قوم معروفون بالفروسية والشجاعة، وكانوا يركبون ويغيرون على المغل كل وقت، وكان يتفق لهم معهم وقائع غريبة، وما كانوا يخرجون من بلاد المغل إلا بالكسب والغنيمة. ومنهم ما ذكره بيبرس وغيره: أنه قدم إلى مصر الأمراء الذين توجهوا إلى بلد سيس في السنة الحالية وهم: الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الصوابي، والأمير سُنقرجاه المنصوري، ومن معهم من العسكر المنصور بعد ارتجاع القلاع التي كان الأرمن قد عدوا عليها وتطرقوا إليها وخربوا تل حمدون. ومنهم: رسل السلطان الذين كانوا قد توجهوا إلى قازان وعوقهم قازان عنده كما ذكرنا، وهما الأمير حسام الدين أزدمر المُجيري، والقاضي عماد الدين علي بن عبد العزيز ابن السكري، وقد عادوا إلى الديار المصرية في رمضان، وحضر صحبتهما رُسل خربندا برسالة مشتملة على طلب الصلح وكف الغارات من الجهتين، فأحسن السلطان إلى رسل خربندا وأعادهم، وأرسل صحبتهم علاء الدين علي بن سيف الدين بلبان القلنجي، أحد مقدمي الحلقة، والقاضي صدر الدين سليمان المالكي الشبرامريقي، وشُبرا مريق: قرية من قرى الغربية من أعمال مصر، وتوجهوا في ذي القعدة وعادوا في رمضان سنة خمس، ومعهم رسول خربندا. وفي نزهة الناظر: وعند تملك خربندا بلاد قازان وجلوسه على التخت جهّز رسل السلطان: حسام الدين المجيري ومن معه بعد أن أنعم عليهم، وكتب معهم كتاباً خاطب فيه السلطان بالأخوة، وسأل إخماد الفتن والصلح بين المسلمين، وآخر كلامه في كتابه: وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه. وسيّر صحبتهم قليلاً من الهدية، ولما وردوا أكرمهم السلطان أيضاً وأجاب إلى سؤالهم، وأرسل معهم هدية تليق به. ومنهم: رسل الملك طقطاي صاحب سراي وبر القفجاق، وصلوا إلى الأبواب الشريفة.

قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة وصل رسول من جهة الملك طقطا اسمه قرقجي، فأكرم غاية الإكرام، وأُنزل بمنظرة الكبش في خير مقام، وتفرّج في الجيزة والأهرام، ثم أُعيد جوابه، وجُهزّ إلى مُرسله بأنواع التحف والهدايا، وسُفرّ الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي صحبته رسولاً من الباب العزيز. وقال صاحب النزهة: وصل رسول طقطاي ومعه هدية وتحف، وكان قد حمل مماليك وجواريا كثيرة، فمات أكثرهم فب البحر وبقي منهم قليل، ولما حضر قدّم بعضهم وباع بعضهم، ومن جملة مضمون كتابه: أن السلطان يركب بعسكره وهو أيضاً يركب بعسكره ويأخذون بلاد قازان وعسكره بينهم، ويكون لكل منهما مكان يصل إليه خيله، وكتب السلطان في جوابه: أن الله عز وجل كفاهم أمر غازان، وأن أخاه قد سيّر إليه رسولاً فسأله الصلح، وأنه أسلم واتبع الدين المحمدي والشريعة الإسلامية. ومنهم: جماعة وصلوا من جهة أبي يعقوب المريني صاحب الغرب، وفيهم رسول سمي علاء الدين أيدغدي الشهرزوري، أصله من أولاد الشهرزورية الذين نُفيوا إلى المغرب في الدولة الظاهرية، وحضر صحبته من جهة صاحب المغرب المذكور هدايا جليلة، وتحف كثيرة، وخيل عربية، وبغال مغربية، وجمال وقماش، وجملة كثيرة من الذهب العين على سبيل الإمداد والهدية، ووصل معه ركب كبير فيه من المغاربة خلق كثير لقصد الحجاز الشريف، ولما كان أوان الحج حج الرسول المذكور، وحجوا معه جميعاً، وعادوا إلى مرسله في سنة خمس وسبعمائة. وفي النزهة: وكان علاء الدين أيدغدي المذكور من أصحاب الأمير بهاء الدين يعقوبا أمير الأكراد الشهرزورية، ولما حصل له العبور إلى مصر مُسك يعقوبا في الدولة الظاهرية هو وجماعة من أكابرهم، فهرب هذا الرجل مع جماعة من الأكراد إلى بلاد البحيرة، ثم دخلوا إلى الإسكندرية، وكان معه شيء من المال، واجتمع بجماعة من المغاربة وعاشرهم إلى أن أخذوا له بضائعاً تصلح للمغرب، وركب معهم في مركب هو وأصحابه، ولما وصلوا إلى أبي يعقوب المريني عرّفوه بحاله، فأكرمه وقرّبه، فوجده كافياً للأمور، فتعاظم عنده في تلك المدة إلى أن مكنّه في التحدث في الوزارة، وسار فيها سيرة حسنة، وعرف أخلاق المغاربة لطول مدته عندهم، وكان وقت دخوله إليهم شاباً، ثم سأل المريني ان يحج ويقضي فرضه، فأنعم له بذلك، وجهّز أيضاً صحبته جماعة من أهله وأقاربه، وتبعتهم جماعة كثيرة، وسيّر صحبته خيلاً وبغالاً، وتحفاً سنية تصلح للملوك، وأخذ الوزير أيضاً صحبته ما يليق به، ولما دخل على السلطان أكرمه وقرّبه وأمر بإنزالهم في الميدان، ورتبّ لهم كل ما يحتاجون إليه، ورسم للوزير والمباشرين أن يجهزوهم بكل ما أمكن. ومنهم متملك دُنقلة وبلاد النوبة واسمه أياي، وصل إلى مصر وأحضر معه هدية من الرقيق والهجن والجمال والأبقار والشبّ والسُنباذج، وأُنزل بدار الضيافة، وقُبلت هداياه، وشُرّف بالخلع الملوكية والتشاريف السلطانية، وسأل أن يجرد معه عسكراً لينهض به على إعداده، فجرف معه جماعة من أجناد الأمراء وجند الولايات وعربان الصعيد، وجعل سيف الدين طُقصُبا الذي كان والي قوص مقدماً عليهم. وقال صاحب النزهة: وجرّدوا من مصر نحواً من ثلاثمائة فارس من جند الحلقة والأمراء، فخرجوا إلى أن وصلوا في المركب والبر أيضاً إلى قوص، وأقاموا إلى أن اكتمل الجند والعرب، ورحل طقصبا بالعسكر جميعه وصحبتهم ملك دنقلة، فبلغه خبر بهروب صاحب دنقلة صحبته جماعة كثيرة من السودان، وعلم أنه لا ينال طائلاً، واتفق مع الملك، ورجع بالعسكر إلى مصر. ومنهم: جماعة من التتر نحو مائتي فارس وصلوا في جمادى الأولى منها بنسائهم وأولادهم وأموالهم، ودخلوا دمشق تاسع الشهر، وقيل: إن فيهم أربعة من السلاحدارية للملك قازان.

ذكر بقية الحوادث في هذه السنة

وقال صاحب النزهة: ورد مملوك نائب حلب يخبر أن جماعة من المغل قصدوا بلاد الإسلام، وفيهم جماعة من ألزام قازان، وفيهم بعض أولاد سنقر الأشقر، وعند وصولهم إلى مصر تلقوهم ملتقى حسناً، وأكرموهم، وأعطوا بعضهم الأخباز، وأطلقوا لبعضهم الرواتب، وفرق منهم جماعة على الأمراء، وكان فيهم ناس من ألزام الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، فأخذهم إليه، وكان السبب لحضورهم أن الأمير سيف الدين سلار كان سيّر جماعة من القصاد بسبب حضور والدته وبقية إخوته، ووقع النحيل في أمرهم، فلم يجدوا التمكّن من ذلك، واتفق موت غازان وتفرق عسكره بحيث لم يلتفت أحد على أحد، فتحيلوا وخرجوا بهم، ووصلوا إلى قريب حلب، ووجس في خاطرهم الدخول إلى مصر والاجتهاد في الرغبة في الإسلام، ولما وصلوا إلى مصر حصل لهم الخير، وعند حضور والدة الأمير سيف الدين سلار وإخوته: فخر الدين داود وسيف الدين جبا، عمّر لوالدته في الميدان الذي أنشأه الملك العادل، وكان اصطبل الجوق في الدولة المنصورية، ثم آل أمرها إلى أن يعرف بحكر الخازن. وقال الراوي: أخبرني شخص من جهتهم أن هذين الاثنين افترقا عن أخيهما سلار في وقعة أبلستين للملك الظاهر مع تداون، وبعد ذلك لم يكن أحد يعرف حال صاحبه ولا مكانه إلى أن أراد الله باجتماعهم في هذه المدة. ذكر بقية الحوادث في هذه السنة منها: أن الأمير سيف الدين سلار قدم من الحجاز في رجب المحرم، وذكر عنه أنه أنفق في هذه السفرة ما لم ينفق أحد من الأمراء مثله، ولما أراد أن يحج طلب مباشريه وقال لهم: جهزوا لي أشياء لأعمل خيراً ما سبقني أحد إليه، واعملوا أضعاف ما عمله الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار لما حج، وقد ذكرنا ما فعله فيما مضى، وقال لهم أيضاً: خذوا معكم شيئاً كثيراً من الذهب والفضة، واحملوا من الغلال في المراكب، فإن سلمت فيها ونعمت، وإلاّ يكون معنا شيء نعوّض عنها، فأوسقوا ثماني مراكب ما بين غلّة ودقيق وسكر وغير ذلك، وجهّزوا المال في صناديق صحبته. وعند وصوله إلى مكة شرّفها الله جلس وسيّر أستاداره بدر الدين أبا غدّة وجماعة ممن يثق بهم إلى المجاورين بالحرم، واستعلم من كل منهم ما عليه من الدين وكم مؤنته في السنة، وما يحتاج إليه، فداروا على الجمع وكتبوا أسماءهم وأسماء أصحاب الديون، فطلب الجميع وأوفى ما على المجاورين وغيرهم من الديون، ثم أعطى لكل واحد منهم مؤنة سنة، وفي ذلك الوقت وصل قاصده من جدّة وأخبره بوصول المراكب سالمة إلى جدة، فرسم بحمل ما فيها، ثم سيّر إلى بيوت أهل مكة وطلب الجمع، الجليل منهم والفقير، وأعطى لهم من الذهب والفضة والغلة مؤنة سنة حتى لم يبق في مكة لا كبير ولا صغير، ولا شيخ ولا شاب، ولا فقير ولا غني، ولا شريف ولا عبد إلاّ وقد حصل له من ذلك شيء، ولما فرغ من ذلك طلب الحاج من الزيلع وفرق عليهم من الذهب والفضة والغلة والسكر والحلواء شيئاً كثيراً، وكان الزيلع تطوف بالبيت ويقولون في طوافهم: يا سلار كفاك الله همّ النار، ثم سيّر المباشرين إلى جدة وفعلوا بأهلها كما فعل هو بأهل مكة. ولما أتم سلار حجّه ركب إلى المدينة، وعند وصوله وادي بني سالم وقفت العرب التي بالجبال التي هناك، وعبثوا على الحاجّ، وأخذوا أطرافهم، ونهبوا جمالاً كثيرة، فركبت الأمراء عليهم وقاتلوهم بالحجارة ساعة، فانهزموا، فتبعوهم إلى الجبال، وأخذوا منهم خمسين نفراً، وجرحوا منهم جماعة، وأحضرهم الأمير سيف الدين سلار إلى المدينة واستفتى العلماء فيهم، فأفتى الجميع بقوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ". الآية، فأمر عند ذلك بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. قال الراوي: وبلغني ممن حضر هذه القضية، أنه من الخمسين، صبي ما دون البلوغ، فرحمه الأمراء، وسألوا سلاراً بإطلاقه، فأمر بإطلاقه، فقال: لا والله لست أكون سالماً دون أبي وأخي وأصحابي ولي أسوة بهم، فأمر عند ذلك بقطعه، فتعجبت الناس من قوة نفس هذا الصبيّ. ولما وصل سلار إلى مصر أراد مباشروه أن يرفعوا حساب ما نفق في هذه السفرة فلم يرض بذلك، وقال: مال أنفقناه في سبيل الله من وجه حل، فنرجو قبوله، ولا ينبغي أن نحاسب فيه.

ومنها أن الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كتب إلى السلطان والأمراء أن أميراً من أمراء طرابلس يقال له سيف الدين بالوج الحسامي - من مماليك لاجين - أساء عليه الأدب في دار السلطنة بحضور الأمراء كلهم، وأخرق حرمة السلطنة، فالمسؤول تأديبه، فكتب السلطان بأن يطلبه قدام الأمراء ويأخذ سيفه ويحبسه، فلما وصل إليه الكتاب طلبه وأخذ سيفه وأهانه وحبسه. وكان السبب في ذلك أن شخصاً من السمرة كان يتحدث في ديوان النائب ويتجر له في سائر الأصناف، فطغى بسبب ذلك حتى صار يركب الحجورة العربية بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ولم يدع كلاماً لأحد في طرابلس حتى صار يحكم في الجيش، وحصّل أموالاً عظيمة له وللنائب، وتألم منه أهل طرابلس ألماً عظيماً، ولم يخلّوا أحداً من الأمراء حتى شكوه إليه، ولم يكن أحد منهم يجترىء أن يبلغ ما يفعله للنائب إلى أن تزايد أمره وفشى طغيانه، ثم أن بالوج المذكور اتفق مع الأمراء على أن يتحدث مع النائب بسبب ذلك بشرط أن يساعدوه عند فتح الكلام، فاتفقوا على ذلك، ولما حضروا يوم الموكب للخدمة شرع الأمير بالوج وفتح الكلام، وقال: يا خوند أهل طرابلس جميعهم يشكون من هذا السامري، وعندهم ألم كثير وضرر عظيم بسببه. فالتفت إليه النائب كالمغضب وقال: يكذب أهل طرابلس فإنهم مراجفون مناجيس، وأنت أيضاً بقيت مثلهم، وكان بالوج شرس الأخلاق، فقال: يا أمير أقول لك إن هؤلاء ناس مسلمون يشتكون من هذا الخنزير الكافر وتقول لي أنت منهم، يعني تقول لي تكذب. قال: نعم، فلما سمع بالوج هذا الكلام نهض قائماً، وقال: والله لأضربن عنق هذا السامريّ حيث وجدته، فالسلطان ما يشنقني لأجل سامريّ خبيث، ثم اتفق ما ذكرناه من النائب في حقه، فتزايد السامريّ على الناس إلى أن وقع منه كلام في يوم من الأيام يوجب قتله، فشهدت جماعة بذلك من العدول وغيرهم، وكتبوا بذلك محضراً وأرسلوه إلى قاضي المالكية بدمشق، فأثبته القاضي، ثم اجتمع بالقاضي الشافعي والحنفي، وتوجهوا إلى ملك الأمراء جمال الدين الأفرم وعرّفوه بالقضية، فكتب إلى الأمراء بمصر وعرّفهم بجميع ما وقع، وعرّف أيضاً أن هذا الرجل خصيص بنائب طرابلس، فقام الأمير ركن الدين في ذلك وكتب إلى اسندمر نائب طرابلس أن يرسل هذا السامري إلى دمشق ليتولى أمره القاضي المالكي، ويفعل فيه ما يجب عليه بالشرع، ويطلق سيف الدين بالوج عن الحبس، فلما وصل الكتاب إلى أسندمر، وفيه الإنكار عليه بسبب ما بلغ الأمراء من أمر السامريّ، وعلم أنه لا دافع عنه، وتصوّر أن السامريّ إذ وصل إلى دمشق يحدّث بما كان يفعله هو، أراد به أسندمر نفسه، فيقع بسبب ذلك في أمر أعظم مما كان، فطلب سيف الدين بالوج، واعتذر إليه وقال: ما كنت أعرف حال هذا الملعون وما كان يفعله حتى ظهر لي في هذا الوقت، وخلع عليه وطيب خاطره، ثم طلب السامريّ بين يديه وأهانه وقيده، وحعله في زنجير، وسلّمه إلى البريديّ، وسيّر معه بعض مماليكه ووصّى بهم بأنكم إذا وصلتم إلى حمص وركبتم منها في الليل اضربوا رقبة السامري، وخذوا معكم رأسه، فإذا وصلتم إلى الشام عرفوا نائب الشام بأنا لما نزلنا في حمص جاءت علينا جماعة في الليل وضربوا رقبته، وهم من أهل طرابلس، فإنهم اتبعونا من طرابلس لما خرجنا منها، فما وقعت لهم فرصة في قتله إلا في حمص، وكانوا أرادوا أن يفعلوا هذا وهم في طرابلس ولكن ما اتفق لهم ذلك، وذلك أن الأمير سيف الدين بالوج لما كان في الحبس، وأخذ بعض الناس هذا السامري إلى أن ركب في ليلة من مكان كان يتنزه فيه، فوقفوا له في طريقه، فضربه بعضهم بالسيف على أن يطيّر رقبته، فلم تجيء الضربة إلاّ على شاشه فأرمته من رأسه، ووقع السامريّ على الأرض مذعوراً، فهرب أولئك القوم ونجا السامري، ولما بلغ ذلك نائب طرابلس قال: هذا شغل بالوج، سلّط عليه هؤلاء القوم، ولما سمع نائب الشام بذلك طلب القضاة وأخبرهم بما جرى على السامري في الطريق وأراهم رأسه، فقالوا: قد قتله الله وكفى المسلمين شرّه.

ومنها: أنه حضرت جماعة من الكارم من جهة اليمن في هذه السنة، وأخبروا أن الملك المؤيد صاحب اليمن تعرّض لهم، ولم يجزهم على عادتهم، وقال لهم: إن السلطان صغير، وقطع أيضاً الهدية التي كانت ملوك اليمن ترسلها إلى صاحب مصر، خارجاً عما كان مقرراً عليهم في كل سنة في الأيام الظاهرية، فإن الملك المظفر ولي اليمن نحو أربعين سنة، ولم يقطع ما كان عليه من المقرر وهو ستة آلاف دينار في كل سنة، كان يشتري بها أصناف المتجر، ويسيرها إلى قلعة الإسماعيلية فكانت ترصد هناك، وهذا كانت عادتهم من تقادم السنين مع هدية يختص بها السلطان، فلما ولي ولده الأشرف أياماً قليلة وخرج عليه هزبر الدين ملك اليمن قطع الجهتين، وتجاهر للتجار بصغر السلطان، ولما سمع الأمراء بذلك اقتضى رأيهم أن يسيّروا إليه رسولاً وكتاباً وينتظرون ما يجيء جوابه، فعينوا لذلك مقدماً من مقدمي الحلقة يقال له ناصر الدين الطوري، ومعه القاضي شمس الدين محمد بن عدلان، وكتبوا كتاباً، وأغلظوا عليه في الكلام، وهدّدوه وقالوا له: لا تحوج نفسك إلى مجيء عسكر إليك، فيكون دماء أهل اليمن في ذنبك. وكتب الكتاب القاضي ناصر الدين بن عبد الظاهر، ومن محاسن كتابه: أنه غير خاف عليك ما كان والدك عليه وما صار إليه، وكان عندنا بالاستعفاء والجنوح إلى سبيل الوفاء، وسلك فيه من التلطف أبهج المسالك، واجتنب أن يوقع نفسه في المهالك، وحسم تلك المادة أن ترعى، وربما أوصى بها أصلاً وفرعاً، ووافاه الموت فقصم عروة عتابها، وفي حال بين المسألة وبين أعتابها وأفضت نوبة الملك إلينا فدانت لنا الرقاب وتباطت لنا الهضاب، وكاتبنا الملوك شرقاً وغرباً، ووصلت إلينا هداياهم، وكان اعتقادنا أنه أول ملك تصل إلينا كتبه، فكان أوحدهم عقوقاً وأوعرهم طريقاً، فكما علمت أن عدونا المقهور، وسلطاننا الناصر المنصور، وعلمت أمر التتار، وما لها من المنازلة في طول المدد، وقوة الجأش، واقتياتهم ما على الأرض من خشاش، فما لبث ملكهم أن سلّم جيشه وولّى، بعدما قال أنا ربكم الأعلى، وكانوا مائة ألف أو يزيدون، هذا وهم العدو الأكبر، والخصم الأقدر، فما ظنك بمن هو أضعف ناصراً، وأقلً عدداً، ممن قد ألف الوساد، وأوصل النوم، وجفى السهاد، وجعل دأبه فينةً، زاعماً بعدم الوصول إليه من بعد المسافة، وهي أقرب إلينا من حبل الوريد، ولا مانع عنه في اقتحام الأهوال، وما ذلك على جندنا ببعيد، والطريق التي استولى عليها الملك المسعود ابن مولانا السلطان الملك الكامل معروفة، ومسالكها مألوفة، ونحن نحمد الله ما ثارت إلينا سحابة إلا وجنت بحمد الله ثمراتها من حيث حلّت، ولا أتيحت سفينة إلا ألقت ما فيها وتخلّت، فيقف عند حدّه ويستدرك هزله بجدّة، فما بعد العتاب من ألم، ويقتفي سنن المهادنة، فمن أشبه أباه فما ظلم، ويقدّم ما في ذمته لبيت مال المسلمين من الحقوق، ويتجنب طريق العقوق، فمن النهج أن لا تكون عقوق. وقرئت هذه النسخة على السلطان والأمراء، فطلبوا الطوري والقاضي شمس الدين وعرفوهما ما يقولانه، واتفق رأيهم أن يكتب الخليفة أيضاً إليه كتاباً وينهاه، فكتب من جهته كتاباً وأغلظ على الملك المؤيد فيه، وأمره ونهاه. ومنها: أن قاضي القضاة المالكي بدمشق حكم بإراقة دم شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الباجربقي بمقتضى ما ثبت عنده ما يوجب ذلك، فهرب المذكور واختفى، ثم حكم تقي الدين سليمان الحنبلي بحقن دمه بثبوت عداوة الشهود الشاهدين عليه، فأنكر المالكي عليه ذلك وأشهد على نفسه أنه باق على ما حكم به من إراقة دمه، فاستمر هروب الباجربقي لذلك.

ذكر الإيقاع بناصر الدين الشخي الوزير

ومنها: أن نجم الدين أبا بكر بن بهاء الدين بن خلكان ادعى بدمشق أنه حكيم الزمان، وأنه يخاطب بكلام يشبه الوحي من جملته: يا أيّها الحكيم افعل كذا، يا أيها الحكيم افعل كذا، وادعى أنه قد اطلع على علوم كثيرة وطلسمات عظيمة منها: طبل إذا ضرب به انكسر العدو وانهزم، وغير ذلك، وادعى أنه أرسل إلى الملك الناصر بمصر أنه إذا اجتمع به عمل له طلسمات عظيمة في فنون شتى، فعقد مجلس بدمشق بحضرة النائب جمال الدين أقوش الأفرم وطولب بإقامة البرهان على صحة دعواه، فلم ينهض، فاستتيب وأطلق على أنه لا يعود، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه فأمسك واستتيب وأطلق، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه، فأودع المارستان وأقام مدة، ثم خرج منه، فتوجّه إلى القاهرة وعاد إلى دعواه، فأمسكه الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار واستتابه وأطلقه، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه ولم يزل مصرّاً عليها، وكان هذا الرجل قبل هذه الدعوى ينوب عن الحكام بالشام، فلما غلب عليه هذا الحال ترك الولايات الحكميّة وأخذ في هذه الحال. ومنها: أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية توجه ومعه جماعة إلى مسجد النارنج بدمشق، فأحضر جماعة من الحجارين وقطع صخرة هنالك كان الناس يزورونها ويندرون لها، وكان لهم فيها أقاويل كثيرة فأزالها. وقال صاحب النزهة: وفيها وصل كتاب نائب الشام يذكر فيه عن الشيخ تقي الدين بن تيمية أنه جرى بينه وبين أهل دمشق منازعة بسبب الصخرة التي كانت بمسجد النارنج، وكان كثير من الدماشقة يترددون إليها يدّعون أن فيها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتغالون في أمرها، ففسدت بذلك حال جماعة كثيرة من الرجال والنساء، واتفق أن الشيخ تقي الدين أنكر ذلك، وأنكر على جماعة كثيرة، فوقع بينهم تنازع، فبلغ ذلك إلى نائب الشام، وبلغ أنه يريد قطعها، وأكابر الشام والقضاة لا يمكنونه، وآخر الأمر قام الشيخ فيه قياماً عظيماً، وركب بنفسه، وأخذ جماعة من الحجارين ودخل المسجد، وأخذ الفأس بيده، وقطع الحجارون بعده، ولم يبق لها أثر، وكيف يكون العمل في هذا الرجل؟ فإنه يقول: إن هذه بدعة، وإنه لم يصح عنده شيء فيها، فكتب الجواب عن كتاب نائب الشام: أن الأمر إن كان على ما زعمه ابن التيمية فقد فعل الخير وأزال بدعة في الإسلام، وإن كان أمره غير صحيح فبينوا عليه عدم صحة ما فعله وتعديه، ثم قابلوه على ما فعله. ومنها: كان دخول الأمير مظفر الدين موسى بن الملك الصالح علاء الدين علي بن الملك المنصور على بنت الأمير سلار نائب السلطان. وقال صاحب النزهة: وكان سلار مملوك الملك الصالح، وهو الذي ربى أمير موسى المذكور، وأحسن تربيته، ورأى أن ابن أستاذه أحق وأولى من غريب يأتي، فعرف السلطان والأمراء بذلك، وسرعوا في أمر التهادي والتقادم للعرس، فقدّموا شيئاً كثيراً، ويقال: إن سلار أقام ثلاث سنين يعمل جهاز بنته من سائر الأصناف، وعمل من كل شيء حتى عمل برسم بيت الخلاء بكلة من الفضة والنحاس المكفت، وكان جملة ما صنعه من الجهاز - على ما نقله من يوثق به - مبلغ مائة ألف وستين ألف دينار، وكان المهم في القلعة، ولم يبق أحد من الأمراء إلاّ وقد مشى في خدمته، وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير هو الذي تولى أمر ذلك المهم، وجميع الأمراء، وحمل له من الشمع ثلاثمائة وثلاثون قنطاراً. ومنها: أن نيابة صفد فوضت لسيف الدين سنقرجاه المنصوري، عوضاً عن الأمير بتخاص، وحضر بتخاص إلى مصر وأقام بها، وفوضت الحجوبية بدمشق للأمير بكتمر الحسامي. ومنها: أنه ظهر في معدن الزمرد بمصر قطعة كبيرة لم تكن ظهرت في المعدن من أول ظهوره إلى ذلك الوقت مثل ذلك، وكان وزنها مائة وخمسة وسبعين مثقالاً، فسرقها الضامن وحملها إلى ملك اليمن، فدفع له فيها مائة ألف وعشرين ألف، فما رضي ببيعها ورجع بها، فأخذت منه وحملت إلى الملك الناصر، فانفطرت مرارة الضامن ومات، وهذا المعدن لا يوجد في الدنيا إلا بالديار المصرية فقط، والله أعلم. ومنها: أنه أجدب الشام من الغور إلى مصر جدباً عميماً، وقلت المياه حتى ارتحل بعض أهلها من عدم الماء واختلاف أنواء السماء. ذكر الإيقاع بناصر الدين الشخي الوزير

قال بيبرس في تاريخه: وفيها أوقع بناصر الدين الشيخي الوزير إيقاعاً شديداً، وعزل عن الوزارة عزلاً مبيداً، وخلع من الإمارة خلعاً عنيفاً عتيداً، وطولب بالمال، وجنح سعده فمال وآل إلى شر مآل، وبسط عليه العقاب، وعذّب أمر العذاب، فأدركه حتفه، وفارقه إلفه، ومات شرّ ميتة، فكثر الشامت بوفاته، والناعت لسوء صفاته، والذاكر لظلماته ومحدثاته التي كان بها يتوصل إلى أرباب الدول، ويتوسل بأحداثها في تولية العمل، ولا يفكرفي جانب الله عز وجل، ولا يعلم أن الدعاء لا بد من تأثيره وإن طال الأجل، فأسخط الله عليه الذين أرضاهم بظلم عباده، وعجل له عذاب الدنيا قبل عذاب معاده، فلله در القائل: وابغ رضى الله فأغنى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد قلت: وناصر الدين المذكور كان من أولاد القاهرة فقيراً، وكان يتكسب بخياطة الكوافي والأقباع، ثم امتدت به أسباب الأطماع، فسافر مع الفقراء المجردين، ووصل إلى بلد ماردين، واتفق إلمامه بابن الصاحب، وهو الأمير شمس الدين محمد المعروف بابن التيتي، وحضر معه إلى الديار المصرية عند تردده في الرسيلة من جهة أحمد سلطان بن هلاون في الدولة المنصورية، ولما أقام شمس الدين المذكور بالأبواب السلطانية أقام المذكور وتظاهر بالجندية، وأعطى مبلغاً مرتباً على ساحل الغلة بالقاهرة ومصر، فما لبث أن تحدث في المعاملة حديثاً كثيراً، وأظهر فصولاً وأبدى فضولاً، وألزم بها لمقطعها ضماناً، وحدد فيها رسوماً ظلماً وعدواناً، ثم توصل حتى أنه باشر شدّ الدواوين، وانتقل منه إلى ولاية القاهرة، ومنها إلى ولاية الخاص بالجيزيّة، ثم طمحت نفسه إلى الإمارة، وسوّلت له طلب الوزارة، فبذل بذولاً قرّرها، ووعد أرباب الدولة وعوداً كررها وكثّرها، فتولى الوزارة كما ذكرنا، وآثر فيها ما شرحنا، ولم يخل من تفتيق مظلمة وتجديد حادثة مؤلمة، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأولاه ما كان به من الهوان أولى، وأنجز للظالم وعيده، وللمظلوم وعده، إن وعده كان مفعولاً، فليحذر الغافل إذا نزقت به الأيام إلى المعاقل، فإن لها بعد الرفع وضعاً، وبعد التمكين صرعاً، وليأخذ بالرفق ويتجنب الجور والخرق. قال الشاعر: فإن المظالم يوم المعاد ... لمن قد تزوّدها شر زاد

وقال صاحب نزهة الناظر: وكان السبب للإيقاع به أنه لما حضر الأمير سلار من الحجاز بلغه من خواصه ما فعله ناصر الدين المذكور عند سفر السلطان إلى بلاد البحيرة للتصيد، وما تحدّث للملك الناصر من السّر وحمله إليه ألفي دينار كما ذكرنا، وأنه جسّره على أمور كثيرة لم تكن في ذهنه، وأن السلطان ملتفت إليه التفاتاً كبيراً، وكل ما كان يحتاج إليه طلبه منه فيحمله إليه، ولما سمع سلار بذلك خرج عليه نقماً كان في نفسه منه، فكتم ذلك في باطنه إلى أن جهّز الأمير ركن الدين بيبرس لأجل سفر الحجاز، وعلم أنه متى أوقع به في غيبة بيبرس كان يتوهم أنه كياد في حقه حيث ما فعله وهو حاضر، فاستشار الأمير علم الدين الجاولي في أمره واتفق الحال على أن يقيموا شخصاً من القبط يرافع عليه ويظهر في جهته أموالاً كثيرة أخذها هو ومماليكه، فأحضروا شخصاً من القبط وأمروه بذلك، فكتب أوراقاً عليه بجملة مستكثرة، ولما حضر الأمراء في دست المملكة شرع الأمير سلار وتحدث فيه بأنه فعل كذا وأخذ. فقالت الأمراء: إذا ظهر أنه حاق قطع جلده بالمقارع، فعند ذلك. رسم بطلبه وطلب مماليكه، كبك وبكتوت وغيرهما، وكان قد أرصد هؤلاء يتحدثون في أعمال الجيزة، فلما حضر قال له سلار: اسمع إش يقول هذا الرجل فيك بأنك أخذت من مال السلطان كذا وكذا، وإنك خنت، وقد عرفت كيف شرطت على نفسك، ثم قال للمرافع: تكلم معه وقل له على هذه الفصول التي ذكرتها عنه، فأخذ ناصر الدين يتكلم بعزة نفس وقال: إش هذا النجس حتى أتكلم معه أو يسمع منه في حقي، فما هو أتم كلامه حتى قال سلار: وأنت أيضاً يا قواد يا نجس ما كنت بين الخلق حتى تكبر نفسك ونتكلم بنفس وعزة، وإذا عرف أحد خيانتك تخرق به قدامنا، فما لنا عندك حرمة، ثم التفت إلى الحاجب وقال له: انزل على رأسه، فضربه على رأسه إلى أن أخرب شاشه، ثم طلب مشد الدواوين وقال له: خذ هذا ومماليكه واستخلص منهم مال السلطان، ولم يتكلم أحد من الأمراء كلمة واحدة، وخرج به مشد الدواوين منكّلاً به وقد أخذ سيفه. وفي اليوم الثاني: شاور عليه مشد الدواوين الأمير عز الدين الأشقر فقال له: اطلبه قدامك وطالبه بالمال وإلا أسلخ جلده بالمقارع، فخرج عز الدين وطلبه إليه، وعرّفه ما رسم به نائب السلطان. فقال: السمع والطاعة، وشرع في تحصيل المال وفي بيع خيله وعدته وجميع حواصله أولاً فأولا، وصار مشد الدواوين كل يوم يخرجه وينكل به، وكان في نفسه منه شيء كثير لما سبق له من إهانته إياه وتكبرّه عليه، وجلس يوم الثلاثاء في الصناعة، وسيّر وراءه من أحضره من القلعة، وهو راكب حمار وعليه أربع رسل، ودخلوا به إلى سوق مصر ونواحي أسواق الصناعة، فقامت إليه أهل مصر وصاحوا عليه وسبوه ولعنوه وأرادوا أن يرجموه، فمنعهم من ذلك مماليكه، فبلغ ذلك سلاراً وكان يعلم أن الأمير بيبرس ممن يعينه ويساعده، وبقي ينتظر أن بيبرس يفتح معه كلاماً في حقه فلم يتكلم بشيء في حقه. ثم أقاموا اياماً إلى العشر الأول من شهر رمضان يتشاورون فيمن يولّوه وزيراً يدبّر أمر الدولة، فاقتضى رأيهم وزارة القاضي سعد الدين بن عطايا، وسنذكر توليته، وقد ذكرنا أن ناصر الدين هذا كان قد تزوج بامرأة الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، وسكن في بيتها المجاور لمشهد الحسين رضي الله عنه، وكانت أولادها جركتمر وأمير علي وخليل أولاد بهادر خصيصين بخدمة الأمير بيبرس، وكانوا يسعون لناصر الدين عند بيبرس، وبيبرس تارة يجيبهم، وتارة ما يردّ عليهم كلاماً، ومع هذا كان لبيبرس عناية لناصر الدين في الباطن، ولكن كان يعلم أن سلاراً يكرهه، ولا يريد أن يعارضه في أمر يفعله هو.

ذكر تولية ابن عطايا الوزارة

وبقي الأمر على هذا إلى ليلة عيد الفطر، وطلعت زوجته إلى بيت بيبرس، ودخلت على أهله في أمر زوجها ناصر الدين، وتكلمت امرأة الأمير بيبرس معه في أمره، فوعد لها بأن يتكلم في خلاصه، ولما جلست الأمراء في الشباك، وهنّوا نائب السلطان سلاراً، فتح الأمير بيبرس معه الكلام في أمره وقال: هذه ليلة العيد، تصدّق على هذا المسكين وارسم بخلاصه. فقال له سلار: يا أبي أنت غافل عما فعل هذا، والله والله أنت تعلم محلك عندي، لو كان هو إلى اليوم باقياً في الوزارة ما كنت أنا ولا أنت في الحياة، وأنا أعرفك به، فإن كان ذهبه يسيراً وأمرت لي بخلاصه أخلّصه، ثم شرع يحدثه ما فعله في غيبته، وكيف راح إلى الإسكندرية، وكيف اجتمع مع السلطان وتكلم معه شيئاً كثيراً، ومن جملة ما قال: أش هم هؤلاء وأراد به إيانا، فأي وقت اشتهيت مسكتهم مثل الكلاب، واتفق معه على أمور كثيرة في الفساد والإيقاع بنا، وجسّر السلطان على أمور ما كانت في نفسه، وهذا الرجل قد قصد فتنة كبيرة بين المسلمين، والله عز وجل يقول: " والفتنة أشد من القتل ". فإن كنت تختار أن نطلقه، نفرج عنه، قد عرفتك ذنبه، فلما سمع بيبرس ذلك منه تحقق أن سلار ما يفعل كذباً. فقال له: من يرمي فتنة بين المسلمين يستحق هذا وأنحس منه، ثم قام من عنده وشرع في تجهيزه إلى الحجاز الشريف. ولما استهل شهر ذي القعدة: ركب الأمير بيبرس والأمراء صحبته، وأمر لمشد الدواوين بعقوبة ناصر الدين المذكور وضربه بالمقارع، فأقام يعاقبه سبعة أيام، وتوفي بعدها من ألم الضرب، وكان فيه عصبية ومروءة وأريحية، وكان ينبعث للخير، وله كتابة حسنة، ومعرفة بالحساب. قال صاحب النزهة: وكان أصله من بلادماردين، وكان قدم إلى الديار المصرية مع رسل السلطان أحمد وقاصد صاحب ماردين، وكان ماشياً طول الطريق فقيراً، ثم عمل صنعة الأقباع في مصر في دكان أشهراً، ثم عمل جندياً شاداً في موضع، وصار يكثر التردّد إلى خدمة الحسام يرتاق مشدّ الكيالة مدة طويلة إلى أن عرف الدخل والخرج، ثم ضمن ساحل الغلة وفاض معه جملة، ثم خدم الصاحب ابن الخليلي وبعض الأمراء، وقدم لهم الهدايا والتقادم، وأرغب حكام الدولة إلى أن تولى مشد الدواوين، ومنه تنقل إلى شدّ الأعمال الخيرية، ثم إلى الطبلخاناة، وعمل ولاية القاهرة مضافاً للجيزة، ثم انتقل إلى الوزارة، ومنها كان هلاكه. ذكر تولية ابن عطايا الوزارة قد ذكرنا أن سلاراً شاور الأمراء في منصب الوزير، واتفق رأيهم على تولية القاضي سعد الدين محمد بن عطايا، وكان ناظراً بديوان البيوت السلطانية، وله إلمام بالأمير علم الدين الجاولي من جهة أستادرية الدار، ففوضت إليه الوزارة، وخلع عليها، وحملت إليه دواتها وبغلها، وكانت مباشرته لها في الثاني عشر من شهر رمضان. وقال ابن كثير: وتولى ابن عطايا الوزارة بعناية علم الدين سنجر الجاولي، وجلس يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر رمضان. وقال النويريّ: رأيت الصاحب شمس الدين بن عطايا قبل وزارته بثلاثة أيام قائماً بين يدي علم الدين سنجر يقرأ عليه ورقة حساب، ورأيته يوم جلس في الوزارة والأمير سنجر الجاولي جالس بين يديه، وقد وقع الصاحب وكتب علم الدين بالامتثال وذيل على خطه، وكان علم الدين المذكور أستاذ الدار. ذكر حج الأمير بيبرس حج الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري وصحبته جماعة من الأمراء وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، والأمير يعقوبا، وآخرون من الأمراء، وأولاد الأمراء، وتسامعت الناس بحج الأمير ركن الدين بيبرس وكثروا، فاجتمع عالم كثير إلى أن خرج المحمل إلى البركة، ورأى أمير الركب خلقاً كثيراً لم يعهد الناس مثلهم، واجتمع رأي الأمراء على أن يكون الحج ثلاث ركوب: ركب صحبة الأمير بيبرس الدوادار، وركب صحبة الأمير بهاء الدين يعقوبا، وركب صحبة الأمير عز الدين أيبك الخزندار، وتأخر الأمير ركن الدين بيبرس إلى العشر الأخير من شوال، ثم قصد أن يسافر مع الحاج وعرض له أمر أخره إلى أن سافر مستهل ذي القعدة على الهجن مخففاً.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

وحصل للحاج في هذه النوبة أمر لم يعهد بمثله، لأنهم كانوا ثلاث ركوب، ومن حين خرجوا من مصر لم يجد أحد ماء يروي دوابه إلى العقبة، وعند نزولهم إلى العقبة قل الواصل، وتحسّن الشعير، وبيع الأردب من الشعير بخمسين درهماً، وتم الأمر على ذلك وهم يرجون وصول المراكب إلى ينبع من مراكب الأمراء والتجار، فلم يصل شيء، وغرقت مراكب كثيرة، فتخبطت أحوال الناس، وغلت الأسعار، ثم عند رحيلهم إلى وادي النار لفح الناس هؤلاء بسموم، فهلك خلق كثير، ونشفت قربهم حتى صارت كالقدّ من اليبس، ولم يجدوا في الوجه ماء إلا قليلاً، ولفح الناس هواء أيضاً، فكان الركاب يقعون من الجمال موتى، وأما المشاة فإن أكثرهم ماتوا، وبعضهم انقطعوا، وهرب المقومون، وقاست الناس شدة عظيمة، وتاه ركبّ الأمير يعقوب بدليله، فانقطعت منه جماعة كثيرة وماتوا، واشتد الغلاء إلى أن بيعت الويبة من الشعير بأربعين درهماً، والبقسماطة بإثني عشر درهماً، وكانت سنة شديدة، وسمت الناس تلك السنة سنة راعم، وبلغ الخبر مع المبشرين إلى الأمير سيف الدين سلار وبقية الأمراء، فجهزوا للحاج من الأمراء ولغيرهم الإقامات والجمال بالأحمال، واستقبلوا الحاج بالشعير إلى قريب ينبع بجمال العرب، وبالدقيق وغيره إلى عيون القصب وعقبة، وأرسلوا إلى نائب غزة أن يجلب للناس الزيت والعسل وغير ذلك، فألزم نائب غزة تجاراً كثيرين بذلك، وحضرت أيضاً جماعة إلى العقبة من الكرك والشوبك ومعهم أصناف كثيرة، وحصل للناس بذلك رفق عظيم. وفيها: كان وفاء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً. وفيها: حج بالناس عز الدين أيبك الخزندار المنصوري أمير الركب المصري كما ذكرناه، وحج بالركب الشامي الأمير ركن الدين بيبرس المعروف بجالق، ومعه سيف الدين جوبان المنصوري. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف بن الحسن بن شرف بن الخضر ابن موسى الدمياطي، شيخ الحديث بمدرستي الظاهر والمنصور ببين القصرين. وكان إماماً في وقته، صدراً في طبقته، مات فيها بالقاهرة، ودفن بباب النصر. وقال ابن كثير: ولم يزل في إسماع الحديث دائماً إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء، فغشي عليه وحمل إلى منزله، فمات من ساعته يوم الأحد الخامس عشر من ذي القعدة، وكان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكان جمع معجماً لمشايخه الذين لقيهم بالحجاز والشام والجزيرة والفرات ومصر يزيدون على ألف وثلاثين شيخاً، وهو عندي بخطه رحمه الله. وذكر بعضهم وفاته في السنة الآتية، وكان يخرج بالحافظ زكي الدين المنذري، وروى عنه المزيّ والذهبي وخلق، وكان مولده بتونه، قرية من أعمال تنيس، ونشأ بدمياط، ومات وله اثنان وتسعون سنة. الشيخ المحدث الصالح نور الدين علي بن مسعود بن نفيس الموصلي، ثم الحلبي. مات بالمارستان الصغير بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان رجلاً صالحاً من المشهورين بطلب الحديث وكتابته وقراءته عن نحو خمسين سنة، روى عن ابن رواحة، وأصحاب البوصيري، وأصحاب الخشوعي، وغيرهم. الشيخ الإمام علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر، المعروف بالعراقي. كان عالماً كثير الفضائل، شافعي المذهب، جاوز الثمانين، مات في هذه السنة، وولى مكانه بالقبة المنصورية الشيخ عز الدين النمراوي. الشيخ الكبير المعمّر ركن الدين أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائم المقرىء، القزويني، الصوفي، الطاوسي. مات بالشميساطية، ودفن بقابر الصوفية، وكان يذكر أن مولده في شعبان سنة إحدى وستمائة، وكانت وفاته في سابع جمادى الأولى منها. الشيخ أمين الدين محمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن أحمد القسطلاني. مات بمكة في المحرم منها، وكان شيخاً صالحاً من بيت الصلاح والحديث، أسمعه أبوه بمكة على مشايخها والواردين إليها شيئاً كثيراً، وكان عنده فضيلة في علم الحديث، وكان شيخ الحديث بمكة، روى عن ابن الجميّزي وغيره. الشيخ العالم نجم الدين عمر بن أبي القاسم بن أبي الطيب. مات بداره داخل باب الفرج، ودفن بمقبرة باب الصغير، وكان رجلاً جيداً، مشكوراً في ولاياته، باشر نظر المارستان النوري، ونظر ديوان الخزندار، صاحب حماة، ونظر الخزانة، ووكالة بيت المال، وكان مدرّساً بالكروسية نحو أربعين سنة، وسمع الحديث من الجمال العسقلاني، وغيره.

السنة الخامسة بعد السبعمائة

الشيخ بهاء الدين عبد المحسن بن الصاحب محيي الدين محمد بن أحمد ابن هبة الله بن أبي جرادة. مات بالديار المصرية، ودفن بمقابر باب النصر، روى عن يوسف بن خليل وغيره، وكان شيخاً جليلاً فاضلاً. الشيخ الحكيم الفاضل الأديب النحوي شهاب الدين أبو بكر بن يعقوب ابن سالم الديري الرحبي، المعروف بالشاعور. مات في أوائل هذه السنة ببلاد اليمن بقلعة تعز، كان قد حصل مالاً كثيراً، وحصل له إقبال من أهل اليمن، ومن صاحبها الملك المؤيد، وله التصانيف المفيدة. الشيخ الإمام الزاهد أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد القبتوري الإشبيلي. مات بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل السنة، ومولده في سنة خمسة عشر وستمائة، وله نظم ونثر، وفضائل كثيرة، فمن شعره. ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذى كفّي ولو يشاء الذي أجرى علّي بذا ... قضاءه الكف عني كنت ذا كفي وله: واحسرنا لأمور ليس يبلغها ... مالي وهّن مني نفسي وآمالي أصبحت كالآل لا جدوى لديّ ... وما ألوت جدّاً ولكن جدّي الآل الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الكبير بهاء الدين علي بن محمد بن سليم، المعروف بابن حنا. كان رئيساً كبيراً، فقيهاً شافعياً، ذا حرمة وافرة، ودين متين، وله قضيلة تامة في العلوم الشرعية، روى الحديث عن سبط السلفي وغيره، مات في صفر منها ودفن في قبر كان قد حفره لنفسه تحت رجلي الشيخ ابن أبي حمزة بالقرافة قبلى الحوش الظاهريّ. الصدر شرف الدين محمد بن علي بن محمد بن سعيد التميمي، المعروف بابن القلانسي. مات بداره بقاسيون، ودفن به، وكان من بيت كبير، وورث أموالاً كثيرة، وهو صاحب حمام الزهور بجبل الصالحية بدمشق، سمع في صغره من السخاوي، والقرطبي، والعزّ بن عساكر، وابن مسلمة، وغيرهم، وهو خال المولى عز الدين بن القلانسي. شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبي سعد الآمدي، عرف بابن التيتي. مات بالقاهرة، جفلت به الفرس فوقع وتعلقت رجله بالركاب فتكسرت أعضاؤه، وحمل إلى منزله، فبقي قليلاً ومات، وكان رجلاً فاضلاً، عارفاً خبيراً، خالط الملوك والدول، وباشر المناصب الجليلة، وكان نائب دار العدل بالقاهرة، يقعد مع القضاة، وله سماع كثير من ابن المقير، وابن الجميزي، والكفرطابي، وغيرهم، ومات وله من العمر خمس وستون سنة. شمس الدين محمد بن الخطيب شيخ بن ثابت العرضي، خطيب داريا. مات بمدرسة سيف الدين السامري بدمشق، سمع من والده، وغيره. الشريف الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، صاحب المدينة النبوية. مات فيها، وكان شيخاً كبيراً، أضر في آخر عمره، وقام بالأمر بعده ولده الشريف ناصر الدين منصور. الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي المنصوري، مات فيها بدمشق، وظهر بعد موته بقليل أن مماليكه خنقوه وهو سكران، وجرى في ذلك فصول كثيرة، وادعى أولاد سنقر الأشقر أنه مملوكهم باق على ملكهم، فلم يثبت لهم ذلك. الأمير سيف الدين بهادرسمز المنصوري. مات بأرض المرج، كان مع نائب السطنة والأمراء في الصيد، فدهمهم في الليل طائفة من العرب فقاتلوهم، فقتل من العرب أكثر من نصفهم، ودخل سمز بينهم ولم يرجع عنهم، فضربه واحد منهم برمح فقتله، وحمل إلى قبر البيت فدفن هناك. وقال ابن كثير: لما دهمهم العرب كان يرميهم بالنشاب ويقول: أنا بهادر دمشق، فرماه بعض العرب بحربة وقال: خذها، وأنا عصفور بن عصفور، فقتله. الأمير مبارز الدين سواري بن بركري الجاشنكير الرومي، أمير شكار، توفي في هذه السنة. الشيخ تاج الدين بن الرفاعي، شيخ الأحمدية بأمّ عبيدة من مدة مديدة. وكان يكتب عنه إجازات الفقراء، توفي في هذه السنة، ودفن هناك عند سلفه بالبطائح. فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة بعد السبعمائة استهلت هذه السنة، والسلطان، الملك الناصر محمد بن قلاون. والخليفة المستكفي بالله العباسي. ونائب الشام: جمال الدين الأفرم، ونائب حلب: شمس الدين قراسنقر المنصوري. ذكر من قدم من الرسل ومن غيرهم

ذكر من أنعم عليه بوظيفة أو إمرة أو أفرج عنه

وفيها: وصل رسول الملك المؤيد صاحب اليمن، ومعه الهدية الثمينة من البهار والقنا والشاشات والتحف، فقومت هديته فكانت أقل قيمة من الهدايا الجاري بها عادة أبيه، فصدرت إليه الكتب الشريفة بالإنكار والتهديد والإغلاظ والوعيد، وأرسلت على يد بدر الدين محمد الطوري أحمد مقدمي الحلقة، فلم يصادف منه لما اجتمع به قبولاً، ولا أعاد معه رسولاً، فرجع بعد مدة. وفيها وصل من بلاد التتار اثنان من أخوة المقر السيفي سلار. أحدهما بعد الآخر ببرهة يسيرة، وهما الأمير سيف الدين جبا، والأمير فخر الدين داود، ووصلت والدته صحبة الأول، فقرّت عينه بجمع شمله، وحضور أهله بعد طول الافتراق والإياس من التلاق، فإن له منذ فارقه أهله وانصدع شمله، من نوبة الأبلستين في الدولة للظاهرية في سنة خمس وسبعين وستمائة، ثلاثين سنة معدودة إلى هذه المدة المحدودة، فأتوه من شاسه البلاد، وبلغ بقربهم المراد، كما صنع الله ليوسف بن يعقوب، وابتهجت بجمعهم القلوب. قد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا فأمّر كل منهم بطبلخاناة، وانتظم عقدهم جميعاً، وعاد خبائهم منيعاً. وفي كتاب اللطائف: كان وصول سيف الدين ووالدته وأولاده أولاً في العشر الأوسط من صفر، وبعدهم وصل داود في العشر الأول من جمادى الأولى. وفيها: وصلت رسل من جهة ملك الكرج إلى القسطنطينية لقصد الأبواب الشريفة، فجهز الأشكريّ معهم رسولاً من عنده وأرسلهم، فوصلوا في البحر إلى ثغر الإسكندرية، ومنها إلى الأبواب الشريفة برسالة يسألون فيها أن تعاد إليهم كنيسة معروفة بهم بالقدس الشريف تسمى المُصلّبة، كانت قد أخذت منهم منذ مدة، وبني فيها مسجد بمئذنة، فأعيدت إليهم، ورُدّت ضالتهم عليهم. وقال ابن كثير: وكان الشيخ خضر انتزعها منهم في الدولة الظاهرية، وجعلها زاوية فأعيدت عليهم بمقتضى فتاوى العلماء، وأذن لهم في الاستواء في الركوب، وكانوا قبل ذلك يركبون عرضاً من ناحية واحدة. وفيها: كان عود رسول البرشوني الواصل من جهته، وفخر الدين عثمان الأفرمي المجهّز في صحبته، فلما خرجا من الأبواب الشريفة، ووصلا إلى الإسكندرية ركبا المركب، وعزما على الإقلاع، فتفاوضا مفاوضة أفضت إلى الخصام، فاستشاط الفرنجي غضباً، وطرح فخر الدين من المراكب إلى قارب الخيمة التي خرج من الميناء مُشيعاً للمركب على العادة، هو وغلمانه، ولم يعطهم شيئاً مما كان معهم، وأقلع من فوره، فعاد المذكور إلى الثغر، وحضر إلى الباب العزيز خائباً مُسعاه، مُجدباً مرعاه. وفيها عاد علاء الدين أيدغدي الشهرزوري رسول المريني من الحجاز، وجهّز إلى بلاد المغرب، وجُهز صحبته الأمير علاء الدين أيدغدي التُليلي، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصحبتهم ما يليق من الهدايا النفيسة والتحف الثمينة، وسيّر صحبتهم خمسة عشر تترياً من المأخوذين في وقعة مرج الصُفّر، وخمس مماليك أتراك، وغير ذلك. وفيها: وصل إلى دمشق رسل خربندا، ومعهم صدر الدين المالكي الخطيب رسول المسلمين، فأقاموا بدمشق يومين وتوجهوا إلى الديار المصرية. ذكر من أنعم عليه بوظيفة أو إمرة أو أُفرج عنه وفي أول المحرم: باشر القاضي جلال الدين القزويني الحكم بدمشق نيابة عن القاضي نجم الدين بن صصري. وفيها: رسم للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب أن يباشر شدّ دمشق، فامتنع من الدخول في ذلك إلا بشروط، وكتب مطالعة، فعاد الجواب بما اشترطه، وأجيب إلى سؤاله. وقال ابن كثير: تولى سيف الدين بكتمر الحسامي الحاجب بدمشق وشد الدواوين بالشام، عوضاً عن شرف الدين قيران، واحتيط على قيران المذكور. وفيها: رُسم للقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن سليمان الأذرعي بقضاء الحنفية بالشام، عوضاً عن شمس الدين الحريري. وفي شهر جمادى الآخرة: أُمرت جماعة بدمشق وأقطعوهم جبال الجرذبين والكسروانيين وهم: علاء الدين بن معبد البعلبكي، وسيف الدين بكتمر عتيق بدر الدين بكتاش أستادار حسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، وركبوا بالشرابيش، ثم بعد ذلك توجهوا لأجل عمارة الجبال وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت وتلك النواحي.

ذكر غزوة سيس

وفيها: قصور الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي من الكبر وعجز القدرة، وسأل الإعفاء من الخدمة، فأجيب إلى سؤاله، وارتجع إقطاعه إلى الخاص السلطاني، وأضيفت أجناده إلى الحلقة المنصورة. وفيها: أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر السلحدار، وأعطى إمرة بدمشق، فسافر إليها. ذكر غزوة سيس وفيها: جرّد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب عسكراً إلى بلد سيس ليُغيروا عليها، وذلك أن صاحبها أخرّ حمل المال المقرر عليه، وقطع القطيعة، فتوجه العسكر المذكور صحبة سيف الدين قشتمر الشمسي، ومعه من أمراء حلب: شمس الدين آقسنقر الفارسي، وفتح الدين بن صُبرة المهمندار، وسيف الدين قشتمر النجيبي، وسيف الدين قشتمر المُظّفري، ومن معه من الحلقة والأجناد فدوّخوا تلك البلاد، وشنّوا الغارة على الأرمن. وكان التتار المجردون ببلد سيس قد علموا بهم، وكمنوا لهم في موضع مخرجهم، فلما رجعوا ونزلوا بأثناء الطريق خرجوا إليهم وصالوا عليهم، ودهموهم بغتةً: ولما اقتتلوا قُتل من المسلمين جماعة، وأُسر الأمراء الأربعة المذكورين، وجماعة من الجند وأرسلوهم إلى الأُردو. فلما خرجت هذه الوقعة استشعر صاحب سيس الخور، وتحقق وقوعه في الغرر، وأيقن أنه من السطوات الشريفة على خطر، فأرسل إلى الأمير شمس الدين قراسنقر رسلاً يبدي الطاعة، ويذكر الإنابة، والقيام بما عليه من القطيعة، ويسأل الصفح والإغضاء والمسامحة والإعفاء، فوردت كتب المشار إليه إلى الأبواب العالية يعرض ذلك على الآراء الشريفة ويذكر ما التمسه المذكور ويستأذن في هذه الأمور، فاقتضى الحال أن يُجرد عسكراً إلى حلب، ويكتب لصاحب سيس بأنه أجيب إلى ما طلب، فإن حقق قوله بفعله وحمل ما جرت عادته بحمله أعفى من الإغارة وكفى من الإستثارة، وإن سوف وتوقف كانت الجيوش قريبة من إرهاقه متمكنة من خناقه. قال الراوي: فجُرد أربعة آلاف فارس وجماعة من الأمراء والمقدمين وأصحاب الطبلخانات والمئين صحبة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح. قال بيبرس في تاريخه: وكنت في المجردين، فرسم لي بالحديث معه في تقدمة العسكر، وتدبير أحوال التجريد، وتلقي الوارد والصادر من البريد، لأن المشار إليه كان قد مكن منه الكبر وخانه الثُّقبان، السمع والبصر، فلم يكن يستبين شخصاً، ولا يُسمع لمخاطب نصاً، فتحدثت في التقدمة وأسبابها، وحملت عنه جميع أتعابها، ولم أقطع أمراً دون عرضه عليه، وتوصيله إليه، رعاية لقدمته، وحفظاً لسابقته. وكان في التجريد من مقدمي الألف: الأمير جمال الدين الموصلي قتال السبع، والأمير شمس الدين الدكز السلحدار، وجماعة من الحلقة. وكان الخروج من القاهرة في منتصف شعبان من هذه السنة. ولما وصلنا غزة أقمنا بها، وصدرت الكتب إلى الأمير شمس الدين قراسنقر معلمة له بذلك، فكاتب صاحب سيس يخبره بالصورة، وينذره بحركة العساكر المنصورة ويعرفه أنه إن بذل الطاعة والإنابة، وعجّل القطيعة قرين الإجابة، فإنه يوفر من المغزى الصائر، ويغني من الغزو الثائر، وإلا فالعساكر تطأ بلاده وتستأصل طريفه وتلاده، فعند ورود هذه الرسائل عليه، أرسل يبذل الإذعان، ويلتمس تحقيق الأمان بالأيمان، ووصلت رسله إلى الأمير شمس الدين، فأرسلهم إلى الأبواب العالية، ونحن بظاهر غزة نازلون، فاقتضى الحال عودنا، إذ قد حصل الغنى عن العنا، فعادت العساكر. وكان الرحيل من غزة آخر شوال، والوصول إلى الباب الشريف أول ذي الحجة، ولما وصل الأمير بدر الدين أمير سلاح إلى الأبواب العالية استعفى من الخدمة لأجل كبره فأجيب إلى سؤاله، وقد ذكرناه عن قريب.

ذكر قضية جبال الكسروان

وقال ابن كثير: لما جرّد هؤلاء الأمراء المذكورين إلى غزوة سيس، كان ولد قطلوشاه بأطراف بلاد الروم في ثلاثة آلاف فارس، فأرسل إليهم صاحب سيس، وبذل لهم مالاً جزيلاً، وكان عنده جمع من الفرنج فاجتمعوا هم والتتار في ستة آلاف فارس، فلما بلغ العسكر الحلبي اجتماعهم أشاروا على مقدمهم قشتمر بالرحيل بالغنائم قبل أن يدركهم العدو، فلم يرجع إلى رأيهم وقال: أنا وحدي ألقي هذا الجمع، ففارقه بعض الأمراء في نحو ربع العسكر، وساقوا تلك الليلة كلها فنجوا، وبقي بقية العسكر، فأدركهم التتار ومن انضم إليهم من الفرنج والأرمن، فانهزم العسكر الحلبي من غير قتال، وأسر التتار منهم الأمراء الأربعة المذكورين وجماعة من الجند، وأرسلوهم إلى الأردو، وسلم قشتمر في جماعة ووصل إلى حلب، ثم إن صاحب سيس ندم وخاف العاقبة وكتب إلى نائب حلب يبذل له الطاعة والأموال ويسأل العفو، فكاتب النائب الملك الناصر في ذلك، فأجيب إلى سؤاله، ثم جرى ما ذكرناه الآن. ذكر قضية جبال الكسروان قال ابن كثير: وفيها توجهت العساكر الشامية إلى جبال الكسروان، وكان أهلها قد طغوا واشتدت أذيتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر عند انهزامه في سنة تسع وتسعين وستمائة، وتراخى الأمر وحصل الإغفال. فزاد طغيانهم وخرجوا عن الطاعة، فتوجه إليهم الشريف زين الدين بن عدنان، ثم توجه بعده تقي الدين بن تيمية، وقراقوش الظاهري، ووعظوهم فلم يفد فيهم، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل مملكة من المماليك الشمالية، فتوجه أقوش الأفرم من دمشق يوم الإثنين ثاني المحرم بالعساكر الشامية، وصحبته من الرجالة نحو خمسين ألفاً على ما قيل، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرذيين، وطلع إليهم سيف الدين أسندمر النائب بطرابلس من أصعب المسالك، واجتمعت عليهم العساكر من الرجال والتراكمين الأبطال، فأبادوهم قتلاً وتشتيتاً في البلاد، وسُبيت نساؤهم، وبيعت أولادهم، واستخدم أسندمر المذكور منهم جماعة بطرابلس، وانقطع أثرهم من الجبال، وعاد العسكر إلى دمشق، وقُتل في هذه الوقعة الأوحد ابن الملك الزاهر، أحد أمراء دمشق، وعاد الناس إلى دمشق في رابع صفر. ذكر مهلك قطلوشاه نائب خربندا ملك التتار قال بيبرس في تاريخه: وفيها هلك قطلوشاه نائب قازان، وكان قد استقر به خربندا على قاعدته، وجرّده إلى بلاد كيلان لقتال الأكراد والغارة على تلك البلاد، فسار إليهم، وقد حشدوا واستعدوا، فخرجوا للقائه، واقتتلوا معه، فكانت لهم النصرة وعليه الكسرة، فعلت كلمتهم لأنها كلمة التوحيد، وتبدّد التتار أي تبديد، وقتل قطلوشاه في الوقعة. قلت: وكان السبب في تجريد خربندا نائبه قطلوشاه إلى بلاد كيلان ما بلغه عنهم أنهم على مذهب يخالف مذهب المسلمين، فقال: لابد لي أن أبعث إلى كيلان وأطلب أكابرهم وأجمع بينهم وبين فقهاء تبريز، فيبحثون معهم في عقيدتهم، فإن لم يظهر لها صحة ضربت أعناقهم، فكتب إلى ملوك كيلان، وكانوا سبعة عشر ملكاً، وكبيرهم الذي يرجعون إليه يقال له: نوبرشاه، فلما وصل إليه رسول خربندا وناوله الكتاب وقرأه. قال: من أين لخربندا معرفة بهذا الأمر؟ فسألوا الرسول عن ذلك. فقال: قد بلغ الملك من الشيخ براق، وهو شيخ يعتقد فيه الملك اعتقاداً عظيماً بأنكم على مذهب شخص من أهل دمشق يقال له: ابن تيمية، وقد وقع عليه الإنكار من المسلمين، وقد ذكر عنكم أنكم مجسّمون، وأن مذهبكم بطال، وما أنتم على شيء من الدين. ولما سمعوا بذلك جمعوا فقهاءهم وأخبروهم بهذا الخبر. فقالوا: أيّ من راح منا أو منكم إلى خربندا يقتل بلا خلاف لأن فقهاءهم لا يرجعون إلينا، فأيّ شيء يذكر لهم يردّونه، ثم يفتون في إباحة أرواحنا وأموالنا. فقال نوبرشاه: ما الحيلة في ذلك؟ فقالوا: نحن نكتب عقيدتنا ونسيّرها إليهم ونقول: هذه عقيدتنا ما نعتقد بشيء غيرها. فقال لهم نوبرشاه: افعلوا ذلك.

فخرجوا من عنده وكتبوا بعد البسملة: اعلم أيها الملك العظيم الشأن، صاحب الأقاليم والبلدان، أنا نحن قوم منقطعون في هذه البلاد، وقد نقل عنا بأنا مجسمون، فنعوذ بالله من ذلك، ونحن نرى بأن من يجسّم ماله توبة عندنا، وليس حده إلا القتل، وأما ما ذكره الملك من أمر حضورنا وتمثلنا بين يديه لنبحث مع الفقهاء، فالملك لا يخفى عليه أن ضد كل أحد من جنسه، ونحن في هذه البلاد نتسبب ولا نتناول شيئاً في الجوامك، وجميع فقهاء بلادكم أصحاب الجوامك، وأكثرهم يتناولونها بغير استحقاق، فنحن نرى بحرمة هذا، بل فيهم أناس بلغنا أنهم يتناولون من المكس ومن المظالم، فمن هذا الوجه بيننا وبينهم نزاع، فإذا بحثنا معهم لا ينصفوننا، وأما عقيدتنا فهذه، وكانوا كتبوا عقيدة على طريقة أهل السنة والجماعة كما هي المذكورة في الكتب. فعاد رسول خربندا بذلك، فلما وقف عليه ازداد غضباً فقال: لا بد من إحضارهم، فأرسل رسولاً آخر، فلما حضر قال له نوبرشاه: ارجع من حيث أتيت، فما عندنا أحد يروح، وأنتم قوم تتار، فإش تعرفون من أمور الدين، فإن كان قصدكم خراب البلاد فافعلوا. فقال الرسول: إن لم تسمعوا كلام الملك يأتي إليكم بنفسه بعساكر المغل جميعها، فيخرب البلاد، ويسفك الدماء، ويسبي الحريم والأولاد. فقال له نوبرشاه: افعلوا ما شئتم. فرجع الرسول وأخبر خربندا بذلك، فغضب غضباً شديداً، وطلب نائبه قطلوشاه وأخبره بالخبر، ثم جمع أمراءه وأمرهم بالتجهيز، وكان قد سيّر جوبان إلى ناحية باب الحديد، ولما جمعت عساكره ولم يبق إلا الرحيل تقدم إليه وزيره رشيد الدولة وقال: أيّد الله القان، هذا الأمر الذي عوّلت عليه لم يعول عليه أحد من القانات، فهذا الذي تفعله يخرّب بلادك، ويضعف أجنادك، ويجعل لك عدوّاً في وسط بلادك، والصواب أن تبطل هذا الرأي، فإن كان قصدك أهل كيلان فأنا أحضرهم إليك، فقال: لا بدّ لي من الدخول إلى بلادهم على كل حال، فسكت رشيد الدولة وركب عدو الله في عساكره، ومعه أمراء التوامين والألوف، وكان أشدّ المغل حنقاً على أهل كيلان قطلوشاه. ولما نزلوا على مكان، كان بني به مدينة، فأقاموا هناك ثلاثة أيام، وجرد عساكره فكانوا سبعين ألفاً، ثم أرسل إلى جوبان وهو في ناحية باب الحديد وأمره أن يجوز إلى كيلان، ويضع فيهم السيف ولا يرفعه عنهم حتى يفنيهم، ثم هم أن يركب من هذه المنزلة تقدم إليه أمراء الألوف وقطلوشاه معهم. فقالوا له: يا خوند إش هؤلاء؟ أوباش العجم، حتى تذهب إليهم بنفسك وتقلّ حرمة المغل بذلك - فقال: من يشفيني فيهم في هذه النوبة؟ فقال قطلوشاه: أنا أذهب إليهم وأخرب ديارهم، وأقتل رجالهم، وأسوق إليك نساءهم وأولادهم، فلما سمع بذلك خربندا قال: أخاف عليكم أن يجري مثل نوبة مرج الصفّر. فقالوا: يا خوند ليس هذا مثل ذلك، فإن هؤلاء ناس أعجام أوباش، لا قدر لهم ولا قدرة، ولا لهم عسكر، فعند ذلك أمر قطلوشاه أن يأخذ أمراء التوامين ويسير، وأوصاه أن لا يبقي على كبير ولا على صغير، فسار قطلوشاه طالباً بلاد كيلان.

وبلغ ذلك أهل كيلان، فوقع فيهم صائح بذلك، وبلادهم كلها جبال وأودية ودر بندات وعرة ما يقدر أحد أن يسلكها إلا بمشقة عظيمة، واجتمع أهلها مع ملوكهم وحصّنوا الدربندات، واجتمعوا كلهم في مكان واحد، وكان أمر ملوكهم وغيرهم يرجع إلى ثلاثة أنفس، وهم: نوبرشاه ودوباج وزكايزن، فتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن يسيّروا جواسيس، وقالوا: إن قصدونا من رأس الدربند نزلنا إليهم، وربما يقع الصلح بيننا وبينهم لأنه لا قدرة لنا معهم، فسارت الجواسيس وغابوا أربعة أيام، ثم حضروا وأخبروا أن المغل وصلت إلى رأس الدربند وهم في جمع عظيم قد سدّوا تلك الأراضي، فحصل لهم فزع وخوف، فقال لهم دوباج: يا قوم أنتم تعلمون أن بيني وبين قطلوشاه صحبة عظيمة، وله عندي لباس فتوة، فإن رأيتم أن أسيّر إليه ولدي ومعه شيء من الهدية، ويدخل عليه، فلعله أن يردّ هذا العسكر عنا، ومهما أرادوا نحمل إليهم، فاستصوبوا ذلك منه، ثم جهز ابنه ومعه عشرة من أكابر كيلان، ومعهم هدية سنية، ولما وصلوا إلى رأس الدربند لاقاهم طوالع قطلوشاه. فقالوا لهم: نحن رسل ملوك كيلان فحملوهم إلى قطلوشاه، فتقدم ابن دوباج وقبّل الأرض، وقدم ما معه من الهدية، ثم قال: إن والد المملوك يقبل الأرض بين يدي النوين، ويذكر أن بينكم وبينه صداقة ومودة، ويسألكم أن تكونوا سبباً للصلح نظراً في حال المساكين أهل كيلان، وهؤلاء أكابرهم، وقد أحضرتهم بين يديك، فافعل فيهم ما شئت. فقام هؤلاء ودعوا له ولخربندا وتحدثوا، فقال لهم: ما الذي تريدون؟ فقالوا: نريد أمان القان على حريمنا وأولادنا، وكل ما يطلبه القان والنوين يحمله، وندخل تحت ما يرسم به، فعند ذلك ضحك قطلوشاه اللعين وقال: هيهات هيهات، فأمر بضرب رقبة ابن دوباج، فضربوا رقبته، ثم علقوا رأسه في رقبة واحد من هؤلاء العشرة، وكان من فقهائهم، وقال لهم: روحوا في أسرع وقت وقولوا لهم: يحضر الجميع بأولادهم ونسائهم وملوكهم حتى نحضرهم بين يدي القان، فمن شاء قتله ومن شاء أبقاه وأخذ كل ما كان معهم، ثم شيّعهم، فخرجوا ولا يصدقون بالنجاة. ولما وصلوا قصوا بقصّتهم، ولما علين دوباج إلى رأس ابنه قامت عليه القيامة، وحزن على ولده حزناً عظيماً ووبّخ نفسه على إرساله ولده، ثم أقسم بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم أنه إن مكّنه الله منهم لأنزل بهم ما يتحدث به الركبان في كل زمان ومكان. وكان له أخ يسمى جوان يغير ما يشاء على بلاد العجم، أشد بأساً منه والأكثر شجاعة. وكان مغرماً بتواتر الغارات على بلاد الكرج، وكان له مدة شهر غائباً في بلاد الكرج وكان دوباج متعلقاً بسبب غيبته، وكان يتمنى أن يكون عنده ليلاقي به التتار. وأما باقي ملوك كيلان فقد ضعفت قلوبهم، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا ما لنا قدرة بهؤلاء العدو، وقد عجز عنهم سلطان مصر وجيشه، فاتفقوا كلهم على النزول إلى قطلوشاه إلا اثنان منهم عارضا بذلك، هما: دوباج وزكايون، فإنهما قالا: لا سمع ولا طاعة، ولا نبدل إيماننا بكفر ونحن قط ما رأينا ولا سمعنا بعبور التتار إلى بلادنا، وعندنا سناجق الخليفة، ونحن على إيمانه وعهوده، ومن قال غير هذا ما نسمع منه، فمال إليهما أكثر أهل كيلان. وشجعان الرجال، ومن في رأسه نخوة الإسلام، والفقهاء، والعلماء. ولما مضى ذلك النهار وأقبل الليل ركب نوبرشاه، وأخذ أصحابه، وسار بهم يطلب قطلوشاه. ولما أصبح دوباج لم يجد إلا زكايون لا غير، والبقية راحوا إلى التتار، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، راحت والله البلاد منا، وصعدت أكثر الناس إلى الجبال والمواضع المنيعة، وتحصنوا فيها. وركب دوباج وزكايون. وأخذ معهما الفقهاء وأهل بلادهما، وكان هؤلاء أصحاب البلاد الجوانية من كيلان على جانب البحر، فتشاوروا فيما بينهم. وكانوا جماعة كثيرة. وقالوا إذا كان هؤلاء قد وطنوا أنفسهم إلى الذلة فنحن ما نقدر على ذلك، وكانت لهم في ساحل البحر مائة مركب. فنقلوا إليها أولادهم ونساءهم وما يعز عليهم من أموالهم، وأوسقوا بها المراكب. وقالوا، إذا رأينا التتار تدخل إلى بلادنا وملوكها ركبنا في المراكب. فاتفقوا على ذلك، ولكن في قلب دوباج نار بسبب غيبة أخيه.

ثم سيروا كشافة إلى رؤوس الجبال، وهم في ذلك، فإذا أخو دوباج قد وصل، ومعه أصحابه - ورفقته، ومعهم غنائم كثيرة، فلاقى أخاه، وهو يبكي وينوح لأجل ولده، وأظلمت الدنيا في وجهه بسبب ذلك، وغضب على أخيه على تسييره ولده إلى قطلوشاه الكافر الظالم، وقال: وإش هذه المراكب الموسوقة، فأخبروه بحكايتهم، فلما سمع بذلك، قال: والله العظيم لقد كان في قلبي من هؤلاء الكلاب من سنة عبر قازان إلى بلاد الشام، وقال لأخيه: وكم مرة أردت الغارة على بلادهم، وتمضي أنت! ويلك إذا هربنا من أعداء الله ورسوله، فأين الإيمان؟ وأين الإسلام؟ ثم إنه جمع رجاله، وكانوا سبعمائة فارس مجردين لخوض البلاد، وكان قد جعل عليهم مقدماً يسمى توكل، رجل طويل، عريض الهامة، معجر الوجه، مكسر الأبدان، عريض القلال، وافي النيبال، صاحب زنود عريضة، وأعضاد قوية، فقال له: يا توكل خذ أصحابك وسيرهم إلى رأس الدربند، فاكشفوا لنا خبر هؤلاء الكلاب، ولا تنزل من مكانك وإن جاء قطلوشاه، ثم أرسل وأعلمني بذلك، فقال له: السمع والطاعة، فسار من ساعته، وثبت قلوب الناس من الغم، وقال: كونوا مكانكم فوحدي ألتقي أعداء الله، وسوف ترون مني ومنهم العجب. وسمعت أهل تلك البلاد بقدوم جوان شير، فأتت الناس من جميع الجهات ثم كتب كتباً إلى جبال اللكّزية والقيدية، وكان بينه وبينهم هدنة ومصاحبة، وقال لهم: هؤلاء العدو قاصدون إلينا، وأنتم تعرفون أن آباءنا وأسلافنا قط ما أطاعوا التتار، فإن هؤلاء قوم ما يحبون إلاّ الفساد وهتك حريم الناس، فإن تخليتم عنا أخذونا، ثم عبروا إليكم، ولما وقفوا على كتبه وكان مقدمهم يومئذٍ شخص يقال: أمير حاج ابن ناجي. قال: والله ما نقعد عن نصرة جوان شير، فإن له علينا أيادي كثيرة. فتجهزوا وساروا إليه في جمع كثير، فلاقاهم دوباج، وأنزلوهم في أعز مكان، وحملوا إليهم ما يحتاجون إليه من سائر الأشياء، ثم تشاوروا فيما بينهم في أمر العدو. فقال جوان شير: قد رأيت رأياً فلا تخالفوني فيه. فقالوا: ما هو؟ فقال: يأخذ أمير حاج رجاله ويسير بهم، ويُمسك لنا رأس الدربند، فإذا رآهم وقد دخلوا الدربند يُعلمنا بذلك، فنقوم وندور من خلفهم ونقطع الطريق عليهم، فإذا رآنا وقد التقينا، وكان النصر لنا، لا يمّكن أحداً من الخروج. فقال دوباج: أنت تعلم إنك تكسر هؤلاء الجيش العظيم. فقال له: إما أكسرهم أو أموت، فلا أبالي بما يكون بعدي. فقال أمير حاج: يا جوان شير إعلم أني ما جئت إليك بهؤلاء الرجال إلا ونحن قد بايعنا الله على أنفسنا، فمُرنا بما تريد. فدعى لهم جوان شير، ثم ركب أميرها من وقته وسار بجيشه إلى الدربند، وكان جوان شير قد أوصى له بأنه إذا رأى أنا نحن كسرنا التتار لا يمكن أحداً من الخروج، وإن رأى أنهم كسرونا يذهب هو بمن معه إلى رؤوس الجبال، ثم يذهب إلى بلاده. وفي ذلك النهار وصلت إلى جوان شير أخبار من عند توكل: بأن أول العدو قد وصلوا إلى رأس الدربند، وهم معولون على العبور، وقد منعناهم، فألحقوا بنا سريعاً، أو ترسل إلينا وتعلمنا ماذا نفعل لأنهم خلق كثير. فلما سمع جوان شير بذلك طلب أخاه دوباج وزكايون وقال لهما: إني قد عولت على أمر. فقالا: ما هو؟ فقال: أسير إلى رأس الدربند بمن معي، وكان معه أربعمائة رجل، ومع التوكل ستمائة، فأضرب مع العدو رأساً في الدربند في آخر النهار، ثم أظهر لهم الإنهزام، فيتحققون منا الإنكسار ولا يتبعوننا من وجهين: أحدهما: إقبال الليل وهجوم الظلام وهم لا يعرفون حال تلك الأرض. والآخر: يستخفون بنا لقلتنا ويستحقرون شأننا، ثم آخذ أنا بقية الجيش الذين عند توكل ونطلب موضع مقدمهم، ويكون رجاله قد تفرقوا لأجل طلب الكسب، فآخذهم بعون الله تعالى. فقالوا له: أفعل ما بدا لك. فأخذ أربعمائة فارس، وسار بهم تحت الظلام في تلك الليلة وصبيحة الغد، وأما توكل فإنه لما أصبح ثار عليه غبار حتى سدّ الدربند وعلا على عنان السماء، ثم انكشف عن خيل قد سدّت الأرض بكثرتها وأظلمت الدنيا من غبرتها.

ولما رأت المغل رجال العجم تقدمت كالعقبان، وصاح توكل على رجاله فكبروا، وذكروا النبي صلى الله وسلم، ثم حملوا، ورشّت المغل السهام عليهم كالمطر، واختلطت الخيل بالخيل، فصار النهار كالليل، وكان مقدم هؤلاء المغل شخص يقال له: دمندار، فلما رأى ما حل بهم من العجم نبه رجاله، وصرخ في أبطاله، فحملت المغل حملة رجل واحد، فبينما هم في الحرب الشديدة، إذ وصل من المغل تومان مع شخص يسمى نوين رمضان، فرأى الحرب في عمل عظيم، فعند ذلك تأخرت العجم وقد كثر عليهم الرجال، ولما رأى ذلك توكل كشف رأسه وزعق: إلى أين يا لئام؟ تسلمون البلاد إلى هؤلاء الأوغاد؟ أما لكم نخوة الكرام؟، ثم نادى: يا لدين محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل، فعند ذلك تراجعت العجم كأنهم أسود قد خرجت من الآجام. فلله درّ توكل في ذلك اليوم، لقد قاتل قتالاً شديداً، ما رأت الراؤون مثله، ولا سمعت السامعون نظيره، ولقد قاتل بستمائة فارس مع عشرين ألف فارس من أول النهار إلى آخره، ولما أمسى الليل تأخرت المغل وخرجوا من الدربند، ونزلت العجم مكانهم. ثم افتقد توكل أصحابه، فوجد مائة نفس عدموا، وجُرح أكثر البقية، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أفغدا لا يبقي معي أحد، فأرسل تلك الليلة فارساً يعلم جوان شير إن لم تلحقنا لا يبقي منا أحد، فلما علم بذلك جوان شير أسرع في السير حتى وصل إليهم في آخر الليل، ولما رآهم على تلك الحالة ضاق صدره إلا أنه أضمر ذلك في نفسه، فشرع يثّبت قلوبهم ويشجعهم. ولما أشرق الصبح، ركب ورفع على رأسه السناجق، ودقت الطبول، ونُفخ في البوقات، وصاحت العجم، ورأى الترك ذلك فعلموا أن مدداً جاء لهم، وكان قطلوشاه قد وصل إلى رأس الدربند، فلما رأى المغل على تلك الحالة استعجزهم فقال: إش هؤلاء العجم حتى طولتم هذا المقدار، فقالوا: يا نوين والله قد قاسينا منهم أمس ما قاسينا يوم مرج الصفّر. فضحك قطلوشاه من ذلك ثم أمرهم بالحملة، ولما رأت العجم ذلك أعلنوا بالتكبير والتهليل، ثم حملوا وتصادموا في وسط الدربند، وتقدم جوان شير، وعمل بالمغل حتى أيقنوا بالهلاك، وخُيلّ لهم أن قد نزل عليهم من السماء عذاب، ولكنهم يستطيلون لكثرتهم، وتخبلت العجم أيضاً، فلما رأى جوان شير ذلك مزّق درعه، ورمى خوذته عن رأسه، وصرخ: يا لدين محمد! إلى أين تفرون يا بني الأندال وتتركون حريمكم وأولادكم إلى أعداء الله ورسوله، فلله درّ فارس ما أجرأه، وسيد بأمور الحرب ما أخبره وأدراه، فلقد زلزل المغل عن مكانهم، وأنزل بهم الويل والثبور، ومن خلفه أولاد أخيه وهم ينادون: يا لثأرات أخينا الذي قتله قطلوشاه حين راح إليه في الرسيلة لأجل الإصطلاح، كما ذكرنا. ولقد أخبر من حضر هذه الوقعة أن جوان شير غير في ذلك اليوم عشرة أروس من الخيل. وكلما رجع لأجل تغيير الفرس يتزاحم أصحابه في الهروب إلى الخيام، فإذا رجع هدر كالأسد فيرجع أصحابه إلى الحرب، ففي أقل من ساعة أخرج المغل من الدربند، فنظر إلى ذلك قطلوشاه فكفر ونحر وعتى وتجبر، ثم حمل بمن معه وكان آخر النهار، ولما رأى جوان شير ذلك، قال لأصحابه: انقلعوا من بين أيديهم لأن الليل قد أقبل، وأكون أنا خلفكم، فتقلعوا وخرجوا من الدربند، وصاحب المغل وراءهم من سائر النواحي، وتبعوهم، وقالوا: لو حمل قطلوشاه من أول النهار ما وقفت العجم ساعة واحدة، وانقطع جوان شير من خلف العجم ومعه جماعته الخواص، ورأى ذلك أمير حاج بن ناجي مقدم اللكزية من رأس الدربند وقال: والله ما بقي تقوم لهم قائمة، وروحوا بنا في رؤوس الجبال. وأما المغل فإنهم لا زالوا خلف العجم إلى دخول الليل، ورجعوا إلى قطلوشاه، وكان نازلاً في رأس الدربند من داخل، وقالوا له: إنا لم نزل سعياً وراء العجم حتى أظلم علينا الليل، ففرح قطلوشاه فرحاً عظيماً، وقال: إلى أين تذهبون؟ والله لا أبقي منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً.

ثم إنه بات مكانه في تلك الليلة إلى الصباح، فلما أصبح ركب وسار يطلب كيلان وبلادها، فنظر إلى المدينة وإلى رستاقها وما فيها من الأموال والخيل والأبقار والأغنام، وكان دوباج نادى فيهم بأن يتركوا أموالهم وأولادهم ويحفلوا بأنفسهم فقط، فلما عاين قطلوشاه ذلك قال لأصحابه: والله لقد رابني أمر العجم، وأخاف من ردهم علينا. فقالت له الأمراء: وكيف يكون ذلك؟ فقال: لأنهم ما حصنوا أموالهم ولا أولادهم، وأخاف أن تكون ذلك مكيدة كانوا قد دبروها حتى نشتغل وتنصرف عسكرنا، ثم يرجعون إلينا. فضحك دمندار وقال: أطال الله عمر النوين، ومن أين للأعجام هذا الفهم؟ وهم مثل البقر السارحة، غير أنهم أرادوا النجاة لأرواحهم وتركوا أموالهم وأولادهم، فعند ذلك تفرقت المغل في البلاد والشعاب والأودية والتلال في طلب الكسب، فحاشوا أموالاً لا تعد ولا تُحد، ولم يبق عند قطلوشاه إلا اليسير من المغل، والباقي تفرقوا في طلب الكسب. وكان جوان شير لما انكسر أرسل إلى أمير حاج بن ناجي أمير اللكزية: لا يهولنكم ما جرى علينا، فنحن هربنا من بين أيديهم مكراً منا وحيلة دبرناها لعل الله أن يجعل فيها دمارهم، فاحفظوا أنتم الدربند، وانظروا منا العجب، ولما سمع أمير حاج هذه الرسالة قال للرسول: والله لولا وصولك إلينا في هذه الساعة لعولت على المسير إلى بلادي. وأما جوان شير ودوباج وزكايون فإنهم قد جمعوا العجم، فكان فرسانهم ألفين وخمسمائة، ومُشاتهم ثلاثين ألف راجل، وقد بايعوا الله تعالى وتحالفوا بالله الذي لا إله إلا هو أنهم لا يولون من بين أيدي المغل ولو يبقي واحد منهم. ثم أن جوان شير أرسل كشافة يكشفون الخبر فقال لهم: إذا رأيتم قطلوشاه قد وصل إلى مرج الجاموس تعالوا اعلموني بذلك. فسارت الكشافة، وإذا قطلوشاه مع عسكره قد أشرفوا على المرج، فعادوا في الحال وأعلموا جوان شير. فقال جوان شير: الحرب خدعة فما ترون في أمر الكبسة على هؤلاء بالليل؟ فقالوا له: افعل ما بدا لك، فركب وركبت العساكر، وساروا على طريق ليس فيه ديدبان قطلوشاه، فساروا بين جبال شامخات، وأماكن وعرات، وآجام وغابات، ومع ذلك هم خبيرون بتلك الأراضي لأنها أرضهم، ثم قال لهم جوان شير: يا قوم قد قربنا منهم ولم يبق بيننا وبينهم إلا هذا الجبل، والرأي عندي أن تنزلوا وتستريحوا، وتُريحوا خيولكم إلى آخر الليل، وفي وقت السحر في الغلس نكبسهم فنزلوا.

وقال جوان شير: أنا أروح وأكشف هؤلاء، فمنعوه ولم يسمع منهم، فأخذ معه جماعة ممن يثق بهم ويتكل عليهم في الشدائد، وساروا وهم مشاة، فصعدوا إلى ذلك الجبل، ثم نزلوا إلى مرج الجاموس، فإذا هم نازلون فيه، وهم آمنون مطمئنون، وخيولهم سارحة، فدار جوان شير مع أصحابه حولهم. فقال: القوم نحو ثلاثين ألفاً والباقي تفرقوا في طلب الكسب، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقال لهم: قوموا ندهمهم قبل إسفار الصبح. فقاموا وركبوا، وساروا غير بعيد، فإذا بصياح من خلفهم يقول: قد دهمت الخيل من ورائنا فقال دوباج: قد عملت التتار علينا الحيلة وسبقونا إلى ما قد دبرناه. فقال لهم جوان شير: سيروا أنتم هُوينا وأنا أرجع وأكشف لكم هذا. فأطلق عنان جواده وطلب المكان الذي سمع منه الصياح، فلما قرب منه سمع صهيل الخيل وزمجرة الفرسان وقعقعة السلاح. فقال: هذا والله عسكر لا محالة وهلكنا لا محالة. فأنصت إليهم وإذا هم يتحدثون بالعجمي ويقولون: ما نظن أن نلحق بجوان شير لأنه رجل مقدام على البلاء وربما يكبس الكفرة من قبل وصولنا إليه، فناداهم جوان شير بالعجمي: من أنتم رحمكم الله؟ فأنا جوان شير. فلما سمعوا به تسابقت إليه الفرسان وفي أوائلهم نشاوور الشُشتري صاحب مازندران، وهم أربعة آلاف فارس كأنهم الأسود العوابس، وقد أتوا إلى نُصرة جوان شير، فلما تلاقوا اعتنقوا على ظهور الخيل وساروا يطلبون دوباج وزكايون، فتلاقوا واعتنقوا وفرحوا ولم ينزلوا، بل ساروا من وقتهم فأشرفوا على أعداء الله وهم على الحالة التي خلاّهم جوان شير - ولهم - يزك من ناحية كيفان ففرق جوان شير أصحابه حولهم من الخيالة والرجالة، وقال لهم: لا تخرجوا حتى تسمعوا النفير وقد ضرب، فكل منهم يحرك كوسانه ويخرج من مكانه، ودَوّسُوهم بسنابك الخيول. ففعلوا مثل ما قال، وصرخوا صرخةً واحدةً وقالوا: الله أكبر فتح الله ونصر. قال: فنادتهم الجبال والأشجار، فخيل للمغل بأن السموات قد انطبقت على الأرض، وثأر قطلوشاه وقد طار فؤاده، ثم قال: حسبت هذا الحساب، ونطّ على ظهر جواده، وكان هذا الجواد لا يبرح واقفاً في النوبة، فلما ركب صرخ في مماليكه وأتباعه وقال: لا تفارقوني وإذا هو بدمندار ورمضان نوين وسيباوجي ونوينات المغل وأمراؤها وقد أقبلوا إلى قطلوشاه، فلما رآهم وقد اشتد ظهره، وقال لهم: ماذا ترون في هذه الحيلة التي تمت علينا؟ فقال سيباوجي: اعلم أنهم عملوا شيئاً، وما تم معهم. فقال له: وكيف العمل؟ فقالت الأمراء: ها نحن قد اجتمعنا عليك والآن يلوح الضوء فنأخذهم على رؤوس الرماح والمرهفات الصفاح. فقال لهم دبندار: إش هذا الكلام والله ما يصبح الصباح إلا وعسكرنا على الأرض وهم أشباح بلا أرواح. وهم في الكلام فإذا العجم قد صرخت كالأسود فكشف جوان شير رأسه وحمل، فحملوا معه حملة الأسود على فرائسها. وبينما قطلوشاه في جماعته وأصحابه، وهو يحرضهم على القتال، إذ هجم عليه جوان شير وضربه ضربة صادقة، فوقعت الضربة على بيضته فغدتها نصفين وقطعت أذنه، وحافت رأسه ووجهه، فصاح وصرخ، وقال: أيها الفارس لا تعجل علي فأنا قطلوشاه، فانتظر وأعطيك ما شئت، فلم يلتفت إلى كلامه، وجذبه وأخذه أسيراً، وقاده حقيراً، ووصل نشاوور إلى دمندار، وضربه من حديد فأرماه، وأخذه أسيراً، ووصل دوباج إلى ابن قطلوشاه، وهو هارب، فقال له: إلى أين يا لئيم ابن اللئيم، فأنا الذي أقتلك لآخذ ثأري، وأُقر عيني، ثم أخذه أسيراً، فعند ذلك عملوا السيوف في المغل، وقتلت منهم جماعة لا تحصى، والذين هربوا وأتوا إلى الدربند فوجدوها مسدودة، كما ذكرنا. وكان قطلوشاه لما عبر بعساكره أخلى الدربند، وكان أمير حاج نزل إليها في اللكزية، وسدوها بالأحجار والأخشاب. وهرب جماعة من المغل. ودخلوا الدربند، والعجم مشغولون بالقتال والأسر، فلحقهم نشاوور وجوان شير على مسيرة يوم. ثم عادوا والمغل معهم أسارى في القيود.

ثم احترست العجم، وجمعوا ما حصّلوا من خيول المغل. وأثاثهم، وقماشهم، وساروا إلى أن أتوا مدينة دوباج، وهي على يقال لها ذماهي، فالتقاهم أهل المدينة مهللين ومكبرين إلى أن دخلوا البلد، ولما استقروا قام إليهم دوباج وهو يبكي ويصرخ بسبب ولده الذي قتله قطلوشاه، وأرسل رأسه إليه - كما ذكرنا - فقالت له أمراء العجم: لا تبك. فهؤلاء المغل بين يديك، ونحن نمتثل كلامك، فافعل بهم ما تريد، فقال: والله إني أريد أن أعذبهم عذاباً ما عُذبّ به أحد في العالم. فقالوا له: إفعل ما تريد. فعند ذلك طلب قطلوشاه والأمراء الذين كانوا معه، وكانوا سبعين أميراً، وطلب جماعة من اليهود المزينين، وأمرهم بأن يقطعوا أيديهم وآذانهم وأنوفهم، ويحلقوا ذقونهم، ففعلوا بهم ذلك، ثم أركبوهم حميراً وداروا بهم في بلادهم، ثم أمر بعد ذلك بأن تنصب لهم خوازيق، فلما نظر قطلوشاه إلى ذلك عرف ما يريد به وبكى وتحسر، ونظر إلى دوباج، وقال له: يا أمير ارحمني، فالله عليك لا تهلكني بهذه الخوازيق، واعلم بأنك ميت بعدي، وبلادك تخرب، فقدم إلي حبلاً، وما يضيع فيّ، فقال له: يا كلب بن كلب ما عملت معي من الخير حتى أقدم لك جميلاً، وقد قتلت ولدي وقطعة كبدي. فأمر لمماليكه بأن يشيلوه فشالوه، وهو يبكي ويقول: هل من مخبر يخبر خربندا بحالنا، وما نحن فيه، وأرموه على الخازوق فدخل في دبره وخرج من ظهره. وأقاموا أياماً والعجم يأتون برجال من المغل حيث خمسة وعشر مقشرة، وأكثر وأقل، ويضربون رقابهم، فحسبوا القتلى منهم. فمات أربعون ألف نفس، وسبعون أميراً من الأمراء الكبار، فهذا الذي جرى على هؤلاء المغل. وأما خربندا فإنه كان نازلا على مدينته الجديدة التي بناها، وهو ينتظر خبر قطلوشاه ساعة بساعة، وفي بعض الأيام ركب إلى الصيد إلى ناحية الدروب. فإذا بغبار قد لاح من بعيد، فقال: إيتوني بخبر هذا، وأظنه من عسكري، فتسابقت إليه الخيل. ثم رجعوا ومعهم بعض ناس من المنهزمين، فلما رأوا خربندا أرموا أنفسهم على الأرض، وحثوا التراب على رؤوسهم، وعووا مثل ما تعوي الكلاب، ونعوا لأهلهم وأصحابهم، ثم احكوا لخربندا بما جرى عليهم مفصلاً. فقال خربندا: ما فعل قطلوشاه؟ فقالوا: ما نعلم إلا أنهم تبعونا إلى الدربند، وكانوا قد مسكوا الدربند، فقاتل قطلوشاه بمن معه وهم مشاة، والظاهر أنهم أخذوا أسرى. ولما سمع بذلك خربندا ألوى رأس فرسه ورجع، وبات تلك الليلة بأشر بيات، ولما أصبح أرسل كشافة إلى رأس الدروب ليستصحوا الأخبار، ورحل هو طالبا مدينة تبريز، ثم بعد مدَة رجعت كشافته وأخبروا بما جرى على عسكره، وما فعلوا بقطلوشاه وبقية الأمراء، ولما سمع بذلك خربندا طار فؤاده وخرج من عقله من الغضب والقهر، وكان في ذلك الوقت الشيخ براق حاضرا وهو الذي كانت هذه الفتنة من تحت رأسه. وكان بينه وبين قطلوشاه مودة عظيمة. فقال لخربندا: لا تحمل الهم فأنا اسير إلى بلاد كيلان فأحضر بقطلوشاه ومن معه، وكان يعتقد أنهم أحياء. فقال له خربندا: افعل بما تريد، فركب الشيخ براق وسار طالباً كيلان. وأما خربندا فإنه انقطع عن الركوب سبعة أيام، فلما رأت المغل ذلك خافوا أن يطمع أعداؤه في الملك. فقالوا لجوبان نائب أبي سعيد: هذه التي فعلها الملك ما هي عادة الملوك فإنه قوي يوري الناس الضعف، وهذا نقص في حقه. فقال لهم جوبان: اليوم أركب إليه وأتحدث معه في هذا الأمر. فقام وركب، وجاء إلى باب خربندا وطلب العبور، فمنعوه، ثم قال لبعض الخدام: اعبر وقل للملك إن جوبان على الباب يريد أن يتحدث مع الملك من باب النصيحة، فدخل الخادم واستأذن له، فأذن، فدخل جوبان وقبّل الأرض ودعا له. فقال له خربندا: ما معك من النصيحة؟ فقال له: أيد الله الملك، الملوك يورون الناس القوة عند الضعف لأجل حرمة المملكة، وأنت توري الضعف عند القوة، فلا تحمل هذا الهم على قلبك، فرجالك أجواد، وليوثك أفراد، وسيوفك حداد، ويُخشى أن يسمع الملك الناصر صاحب مصر فيطمع فيك وفي مملكتك. فقال له: يا جوبان كيف لا أحمل الهم وقطلوشاه وسبعون أميراً في الأسر وأكثر عسكري قد فني. فقال يا مولانا: أما أمر الأجناد هين، فإن المغل لو باتت عند نسائها ليلة واحدة لجابت النساء أكثر من ذلك، ولم يزل عليه جوبان حتى أمر بشد الخيل للصيد، فركب وركبت معه الأمراء وسار يطلب الصيد.

ذكر ترجمة الشيخ براق

وأما الشيخ براق فإنه وصل إلى دربند كيلان، فمسكه اللكزية الذين يحفظون الدربند، وأتو به إلى دوباج، فلما مثل بين يديه سلم عليه، فقال له دوباج: أنت براق. فقال: نعم، فأمره بالجلوس، فجلس وكان قد بلغه منه أنه هو الذي حرض المغل على الدخول إلى بلادهم، ثم قال دوباج: الحمد لله الذي أتى بك يا شيخ براق من غير تعب، فوالله لقد كان في قلبي نار من جهتك، ثم قال له: لماذا أتيت في هذا الوقت؟ فقال له: اعلم أن سلطان البلاد، ومالك رقاب العباد خربندا قد سيرني إليكم ناصحاً، لما علم أنني صادق، وكلامي للحق موافق، وهو يأمركم أن تحلوا قطلوشاه ومن معه من الأمراء وتبعثوا إليه ما عليكم من الأموال، وأن ترجعوا عما تعتقدون من مذهب المجسمة، وتعتقدوا بما قاله الأشعري، وإلا سار إليكم بعساكر تضيق لها الأرض. فلما سمع دوباج بذلك قال له: أنت يا براق ما جئت إلا في هذا الأمر. قال: نعم. فقال له: فكأنك تحب قطلوشاه، فقال: نعم، لأنه أخي وصاحبي. فقال له يا فقير: وأين الإسلام الذي عندك إذا كان مثل هذا أخوك؟ وإش هذه الحالة التي أنت عليها؟ محلوق الذقن والرأس وقد خليت شواربك كأنك شيطان، إش هذا الذي تعتقده من الأديان؟ اليوم أخلي منك الأوطان، وأفجع فيك أصحابك والخلان، ثم قال: ردوه إلى أخيه قطلوشاه فإنه يحبه، فأخذوه وجاءوا به إلى قطلوشاه وهو قاعد على الخازوق، وهو ميت قديد، فلما رآه على هذه الهيئة بكى وصاح، ثم نظر فإذا هم قد نصبوا له خازوقاً مثله بجنب قطلوشاه، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا له: هذا مجلسك الذي أمرنا بأن نجلسك عليه، فقال: يا قوم لا تفعلوا فما أظن دوباج يفعل بهذا لأنه صاحب دين ويقين صادق، وهو صالح من الصالحين، فقالوا له: لا تطول هذا الكلام، فلا بد لك من الجلوس على هذه الخشبة، ونصبوا مع خشبته ثلاثين خشبة لأصحابه، وأقعدوا جميعهم على الخوازيق، ولم يتركوا منهم إلا واحداً من غلمانهم ليروح بالخبر، ثم قطعوا أنفه وأذنيه، وقالوا له: اذهب واعلم حربندا بالذي رايت، فسار وهو ذليل حقير حتى وصل إلى جوبان، فلما رآه جوبان على هذه الهيئة قام ودخل على خربندا. وكان خربندا ينتظر قدوم الشيخ براق، فقال له يا مولاي: قد جاء واحد من أصحاب الشيخ براق، وهو مقطوع الأذنين والأنف ومحلوق الذقن والشنبات، فقال: أتوني به، فلما دخلوا به عليه أرمى روحه على الأرض، وبكى وانتحب، ونعى الشيخ براق، فقال خرنبدا: ويلك حدثني ما جرى لكم، فحدثه بجميع ما جرى، وأنه رأى قطلوشاه ومن معه من الأمراء قاعدين على الخوازيق وهم أموات صاروا قديداً، فلما سمع خربندا بذلك أرمى روحه على الأرض من سريره، وبكى حتى غشي عليه لأجل براق وقطلوشاه والأمراء الذين معه، ثم قال: كيف هان عليهم عملوا هذا بالشيخ الصالح، ثم قال: والله يا أمراء لقد حملت هماً على الشيخ براق أكثر من همي على قطلوشاه وعسكري، ثم نادى بالتجهيز إلى كيلان ويكون البيكار ثلاث سنين إما تفنى المغل أو تخرب كيلان، ثم إنه فتح الخزائن وأنفق الأموال، وسنذكر ما جرى بعد ذلك. واعلم أن قضية الشيخ براق مع أهل كيلان إنما كانت سنة ست وسبعمائة، لأن المؤرخين ذكروا قدوم الشيخ براق إلى الشام في سنة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله، وإنما ذكرناها في هذه السنة قصداً لسوق ما جرى لأهل كيلان مع عسكر خربندا على تمامها وكمالها من غير فصل بأجنبي. ذكر ترجمة الشيخ براق كان أصله رومياً من بعض قرى توقات، وكان يمشي وفي صحبته مائة فقير كلهم محلوقة اللحى وقد وفروا شواربهم، عكس ما وردت به السنة، وعلى رؤوسهم قرون لبابيد، ومعهم أجراس وكعاب وجواكين خشب، وكانت له منزلة عند قازان، ذلك أنه سلط عليه نمراً، فزجره فانهزم منه، فحظي عنده، وصارت له مكانة، وأعطاه في يوم ثلاثين ألفاً ففرقها كلها، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون الصلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان الشيخ براق يزعم أنه إنما سلك هذا الزي ليخرب به على نفسه، ويرى أنه في زي المسخرة، وإنما المقصود الباطن ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله متولي السرائر.

ذكر بقية الحوادث

وقال صاحب النزهة: كان الشيخ براق شيئاً عجيباً، قد حلق ذقنه وترك شواربه، وعمل على رأسه من اللباد على صفة قرون البقر، وعلّق في رقبته أجراساً وكعاب الأبقار والأغنام، وفي رقبته سلاسل الحديد، وهو جبّار من الجبابرة، ومعه مائتا نفس بهذه الصفة. قال: وهؤلاء الذين يأكلون الحرام، وأكثرهم ما يصومون شهر رمضان، وقد جعل براق له منهم نائباً وقاضياً ووزيراً وحاجباً ومحتسباً وسلحدارية، وله طبلخاناة، وكان كلامه مقبولاً عند التتار، وأمره مسموعاً نافذاً خصوصاً عند الملك خربندا، وكان يقال عند التتار إنه يركب السباع، ولما قتل في بلاد كيلان على ما ذكرنا كان عمره ما ينيف على أربعين سنة. ذكر بقية الحوادث منها ما قال ابن كثير: وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية الرفاعية إلى نائب السلطنة بالقصر بدمشق، وحضر ابن تيمية، فسألوا من النائب بحضرة الأمراء أن يكفّ تقي الدين إنكاره عليهم وأن يُسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا لا يمكن ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الشريعة قولاً وفعلاً، ومن خرج عنها وجب الإنكار عليه على كل أحد، فأرادوا أن يفعلوا أشياء من الأحوال التي يتعاطونها في سماعهم، فذكر الشيخ أن هذا كله من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منكم أن يدخل النار فليدخل الحمام وليغسل جسده غسلاً جيداً ويدلكه بالخل، ثم يدخل النار إن كان صادقاً، ولو فرض أن أحداً من أهل البدعة دخل النار، فإنه لا يدل على صلاحه، بل هذا من الأحوال الدجالية المخالفة للشريعة المحمدية إذا كان صاحبها على غير الطريقة السنية، فابتدر شيخ المُنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا تتفق عند التتار ما تتفق عند الشرع، فضبط عليه هذه الكلمة الأمراء والحاضرون، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج منهم عن السنة ضُربت عنقه، وصنف ابن تيمية جزءاً لطيفاً في طريقة الأحمدية وأصل مسلكهم، وما في ذلك من مقبول ومردود بالشرع. ومنها ما ذكره ابن كثير أيضاً: أن في خامس رمضان يوم الإثنين جاء كتاب من الأبواب السلطانية وفيه الكشف عما كان وقع للشيخ ابن تيمية بسبب فُتيا الطلاق، وأن يُحمل إلى مصر، وكذلك نجم الدين بن صصري، فتوجها على البريد يوم الإثنين ثاني عشر رمضان، وكان دخول تقي الدين إلى غزة يوم السبت، فعمل فيها مجلساً بجامعها، ودخلا معاً إلى القاهرة يوم الإثنين الثاني والعشرين من رمضان، وعُقد لإبن تيمية مجلس بالقلعة، وأراد أن يتكلم فلم يمكن على عادته، وحُبس ببرج هناك أياماً، ثم نقل إلى الجُبّ ليلة عيد الفطر هو وأخواه زين الدين وشرف الدين. وأما ابن صصري فإنه أكرم وجُدّد له توقيع بالقضاء، وخُلع عليه، وجاء بعده كتاب إلى دمشق فيه الحط على ابن تيمية ومخالفته في العقيدة، وأن يُنادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه مخالفته، وكذلك وقع بمصر تُجاه الجاشنكير والشيخ نصر المنبجي، وساعدهم طائفة كثيرة من الفقهاء، وجرت فتن منتشرة، وحصل للحنابلة بمصر إهانة كثيرة جداً، وكان قاضيهم كثير العقل، كثير العلم، وهو شرف الدين الحراني، ولولاه نال أصحابه أذى كثير، فلطف الله بهم إذ كان هو قاضيهم. وقال بيبرس في تاريخه: استدعى الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية الحنبلي من دمشق لأمور نقلت عنه، وعُقد له مجلس بحضور الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سيف الدين سلار والقضاة وغيرهم، واقتضى الحال اعتقاله مدة، ثم خُليّ سبيله أياماً، ثم ردّ إلى السجن.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ومنها: أن أبا سعيد ابن عم محمد بن الأحمر - صاحب مالقة - أخذ مدينة سبتة بالأندلس، وكانت في يد شخص من أهل الأندلس يسمى العسفي، كان أولاً ينوب فيها عن الموحدين، فخلع طاعتهم لما وهت مملكتهم واستبد بها وانتمى إلى المريني إذ كان أشد شوكة وأكثر جماعة، وجعل له جعالة يحملها إليه كل سنة، فاتفق بينه وبين شخص يسمى ابن زيد مستحفظ القلعة التي بسبتة شيئاً، ووقع بينهما واقع، فكاتب ابن زيد صاحب مالقة وهو ابن عم الأحمر يستدعيه ليُسلم له قلعة سبتة، فعزم على التوجه إليه وخشي من ظهور أمره واتصال خبره بالعسفي فيحتاط لنفسه، فلا يبلغ منه مراماً، فأعمل الحيلة، وورّي بقصد طنجة، وكتب إلى العسفي بسببه يقول له: إن أهل طنجة قد كاتبوني وقرروا الأمر معي أن يُسلموها إلي على أن أوجه إليهم بأربعين ألف دينار وأسير إليهم وأتسلمها، وقصدت أن تكون لي مساعداً بأمرين: أحدهما: أن تُسعفني ببعض المال. والثاني: أن أجعل عبوري على سبتة وتسير جفاني - يعني المراكب - من تحتها ليخفى على من بطنجة أمرنا، فنأتيهم بغتة فنظفر بالبغية. فمشت هذه الخدعة على صاحب سبتة، وظن المكيدة حقاً، وسار أبو سعيد على الأثر بجفانه وأنصاره وأعوانه إلى نحة سبتة، فلما رأى النواظير والأحراس مراكبه مقبلة أخبروا صاحب سبتة. فقال: لا بأس عليكم منه، فإن له مقصداً هو قاصده، فلما جنّ الليل طرق البلد على غفلة، وتسلم القلعة من مستحفظها من أول وهلة واحتلها، وانبسط في البلد، هو ومن معه، فأخذها وأسر أولاد العسفي، وساقهم إلى غرناطة في الأسر، واستولى على سبتة بكيده، وبقيت في يده وأيده. ومنها: أنه في رمضان جاء كتاب من مقدم الخدّام بالمشهد النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي، ففيها قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، وأن يصرف ذلك في بناء مئذنة عند باب السلام، الذي عنده المطهرة، فرسم بذلك، وشرع في بنائها، وولي خطيبها سراج الدين عمر قضاءها، مع الخطابة بدمشق، ذلك على الروافض. ومنها: أن في هذه السنة اختلفت السوقة والعامة في أخذ الفلوس المصكوكة عدداً، وقرروا أمرها وزناً، وقطع سعرها - بدرهمين ونصف - الرطل، واستمرت على ذلك. ومنها: أن في شهر رجب قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب أفعال البخاري تحت قبة النسر، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: نحن المقصودون بهذا التكفير، وسعوا به إلى قاضي القضاة ابن صصري، فأحضره إلي بين يديه ورسم بحبسه، فبلغ ذلك الشيخ ابن تيمية فقام حافياً وأصحابه خلفه إلى الحبس فأخرجه منه، وطلع القاضي إلى النائب، وطلع الشيخ تقي الدين، التقوا عند النائب، وتخاصما، فأسقط تقي الدين على القاضي، وذكر نائبه جلال الدين، وأنه آذى أصحابه بسبب غيبة ملك الأمراء، فأمر ملك الأمراء أن يُنادى في المدينة: من تكلم في العقائد حلّ قتله، ونهبت داره. وكان قصد الأمراء تسكين الفتنة. ومنها في رجب طلبوا القضاة والمفتين والفقهاء والشيخ تقي الدين بن تيمية إلى حضرة نائب دمشق، بالقصر الأبلق، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدين عن عقيدته، فأملى شيئاً منها، ثم أحضر عقيدته: الواسطية، وقرئت في المجلس، وبحث فيها، وبقي مواضع أخر أخرت لمجلس آخر، ثم اجتمعوا يوم الجمعة الثاني عشر من رجب، وحضر المجلس أيضاً الشيخ صدر الدين الهندي، وبحثوا معه، وسألوه عن مواضع، وجعل الشيخ صدر الدين يتكلم معه، ثم رجعوا عنه، واتفقوا على أن الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني يحاققه، ورضوا بذلك، وانفصل الحال أن الشيخ تقي الدين أشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فرضي منه بهذا القول وانصرفوا، وبعد ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقي الدين كلام، وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا، فأحضر واحد منهم إلى القاضي جلال الدين القزويني، وأمر بتعزيزه، فشفع فيه، وكذلك فعل القاضي الحنفي بإثنين من أصحابه. ومنها: أن الله تعالى أغاث الشام بالأمطار، ووقع الرخاء، وكان عالياً. وفيها انتهت زيادة النيل إلى ستة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً. وفيها حج بالناس حسام الدين لاجين الجاشنكير المنصوري، أميراً على الركب المصري، وكان على الركب الشامي الأمير شرف الدين حسين ابن حيدر. ذكر من توفي فيها من الأعيان

الشيخ عيسى بن الشيخ القدوة الكبير سيف الدين رجيحي بن سابق بن الشيخ يونس. توفي في هذه السنة، ودفن بزاويتهم التي بالشرف الأعلى، غربي الوراقة المطلة على الميدان الأخضر. وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم منها. الخطيب شرف الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المقرىء، النحوي، المحدث، شيخ الشافعية. ولد سنة ثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح، والسخاوي، وغيرهما، وتفقه، وأفتى، وناظر، وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذاً في العربية، واللغة، والقراءات، وإيراد الأحاديث النبوية، مات عشية الأربعاء تاسع شوال عن خمس وسبعين سنة، ودفن عند أبيه وأخيه العلامة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بباب الصغير؛ وولي الخطابة بعده ابن أخيه العلامة برهان الدين شيخ الشيخ ابن كثير. ورثاه الشيخ شمس الدين بن الصائغ بقوله: لا تطمعي يا عين في الإغفاء ... وثقي بعهد دائم وبكاء فلقد بليت بصدمة ما مثلها ... صبري عدمت بها وعزّ عزائي مالي وما للنائبات فقد رمت ... قلبي بأنواع من البرحاء يا ليلة حققت فيها ما جرى ... كم بتّ تبكي بليلة ليلاء قالوا خطيب المسلمين أصيب في ... عليائه فقضى بسهم قضاء فوجمت في البر الفسيح تألماً ... حتى حسبت بضيقة النداء وترنم الحادي فقلت له: اتئد ... فالحزن قدّامي وكان ورائي أفلت نجوم المجد بعد طلوعها ... وخبت بروق العلم بعد ضياء وتوقدت شمس النهار تأسفاً ... وأصيبت السراء بالضراء "................................. " ... وبكى الرجاء سائر الأرجاء وجدوا على الشيخ الإمام أخي العلم ... اء قطب الأئمة سيد العلماء من للمنابر عند مجتمع الورى ... لعظيمة يا فارس الخطباء وهي قصيدة طويلة. الصدر علاء الدين علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الوزير. كان فاضلاً، بارعاً في صناعة الحساب، وانتفع به جماعة. وكانت وفاته في أواخر صفر منها فجأة، ودفن بقاسيون. الشريف الرئيس الصدر عماد الدين يحيى بن أحمد بو يوسف بن السراج الحنفي، المعروف بالبصراوي، ناظر ديوان الأشراف. كان من أعيان الأشراف، ديناً، صالحاً، ورعاً، من أهل السنة، وكان على ذهنه طرف جيد من التاريخ والمحاضرات، كثير المحفوظ، وكان أميناً في مباشرته، باشر ديوان الأشراف نحو خمسين سنة، مات بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية. الأديب الفاضل بدر الدين محمد بن عبد الله، المعروف بابن البابا، المغزى الشاعر. وكان قد توجه من دمشق إلى طرابلس، إلى نائبها الأمير سيف الدين أسندمر ومدحه بقصيدة فأدركه أجله، فمات بها، ومن شعره: لاح مثل الهلال وهو منير ... وانثنى كالقضيب وهو نضير رشا فات اللحاظ كحيل الطرف ... ساجي الجفون أحور غرير بابلي الألفاظ حلو لما ... بابلي اللحاظ فيها فتور يتهادى مثل "......... " ولم لا ... وهو من ريق ثغره مخمور فهو للأحياء روض أنيق ... وهو للثّم جنة وحرير شفّني خدّه وناهيك خدّ ... وسباني عذاره المستدير وسقاني من ريقه العذب ... كأساً كالحمّيا مزاجها كافور بشفاه مثل العقيق ... وثغر لؤلؤي كأنه بلور وهي طويلة. الشيخ الصالح تقي الدين حسين بن صدقة بن بدران الموصلي. كان رجلاً صالحاً، خيراً، على قدم التجريد لا يملك شيئاً، وربما بقي أياماً لا يحصل له ما يأكله وهو صابر لا يسأل أحداً، وعنده فضيلة.

السنة السادسة بعد السبعمائة

وله شعر، فمنه قوله في مجد الدين يوسف بن القباقبي وكان بديع الحسن، وقد رآه يشتغل في النحو على شيخه النور المصري: يحق لقلبي لا يقرّ قراره ... إذا بان من أهوى وشط مزاره فيا عذلي لا تنكروا فرط ذلّتي ... فذلّ المعنّي للحبيب فخاره تمرّ ليالي الصبر شوقاً وحسرة ... وتفنى بما قاساه ليلاً نهاره بليت بمن لا يعرف العطف قلبه ... كذلك قلبي ليس تخمد ناره فيا منيتي رفقاً بمن عيل صبره ... غداً نازحاً عنه وشط مزاره وصله فإنّ الهجر راح بعمره ... فحتى متى هذا الغرام حواره ولم أنس يوماً فيه شاهدت يوسف ... كبدر على غصن زهاه اخضراره فحاولت أخفي الغرام فلم أطق ... وقام بعذري في هواه عذاره فكن أيها المصريّ يا أفصح الورى ... سجياً بعلم النحو فهو اختياره وعلمه باب العطف كيما يرّق لي ... ويحنو فقد أوّدى بقلبي نفاره وعرّفه معنى الوصل في شرح درسه ... جعلت جوار للذي عزّ جاره القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي، خطيب حلب، المعروف بالدمشقي. باشر نيابة الحكم بدمشق عن قاضي القضاة بهاء الدين بن زكي، وتولى قضاء القضاة بحلب، وكان ديناً صالحاً ورعاً، مات بحلب في مستهل جمادى الأولى منها وقد بلغ الثمانين. القاضي مجد الدين سالم بن أبي الهيجاء بن حميد الأذرعي، قاضي نابلس. أقام قاضياً بها مدة أربعين سنة، وعزل عنها في آخر عمره، فحمله أولاده على التوجه إلى الديار المصرية للتسبب فأدركه أجله هناك، ومات في ثاني عشر صفر، ودفن بمقابر باب النصر، رحمه الله. الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي. مات بدمشق بالمارستان الصغير، ودفن بقاسيون، وكان شيخاً كبيراً، كثير الصلاة والذكر، صحب الفقراء طول عمره، وروى عن أبي مسلمة، والمرسي وغيرهما. الملك الأوحد تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادي ابن مروان. مات بقرية من عمل الجرد، وحمل منها إلى الصالحية فدفن بتربة والده بسفح قاسيون، وكان أحد الأمراء بدمشق، معظماً في الدولة، وكان لديه فضيلة وخبرة بالأمور، ومولده سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكانت وفاته في ثاني صفر منها آخر نهار الأربعاء. ذكر فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة بعد السبعمائة استهلت هذه السنة: والخليفة: المستكفي بالله العباسي. وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونواب مصر والشام وقاتها هم المذكورون في التي قبلها. والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب في قلعة الجبل. ذكر من قدم من الرسل وغيرهم وفيها: عادت الرسل السلطانية من عند طقطا ملك التتار وهم: الأمير سيف الدين بلبان الصرخدّي، وسيف الدين بلبان الجكمي، وفخر الدين إياز أمير آخور الشمسي، وصحبتهم رسول اسمه نامون من جهة الملك المذكور، فبولغ في إكرامه، وأعيد بجواب لرسالته، وحهّز معه شمس الدين بكمش الخزنداري رسولاً، وفخر الدين إياز أمير آخور الشمسي. وقال بيبرس في تاريخه: وكان من مساهلة سفرهم وتيسيره لهم على ما أخبر به من لسانه سيف الدين الجكمي المذكور إنهم استهلوا هلال صفر من هذه السنة في قرم، وسافروا أول الشهر، فوصلوا في العشر الأخير منه إلى إسكندرية، وتوجهوا في الحراريق إلى مصر فوصلوها سلخ صفر، وكانت المسافة شهراً من قرم إلى إسكندرية. وفيها: وصلت رسل صاحب سيس بالقطيعة إلى الباب العزيز، وأطلق من أسرى المسلمين مائتين وسبعين أسيراً، وأوصلهم إلى حلب. وفيها: وصل فتح الدين بن صبره من بلاد التتار، وكان قد أُسر في جملة الأمراء الذين أُسروا ببلاد سيس كما ذكرنا.

وفي يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى دخل الشيخ براقي إلى دمشق وصحبته فقراؤه، أكثر من مائة فقير، وقد ذكرنا صفاتهم وزيّهم وهيئتهم في ترجمة الشيخ براق في السنة الماضية، فنزلوا بالُنيبع، وحضروا صلاة الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى مصر، فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق، فصاموا بها رمضان، ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق إذ لم يجدوا بدمشق قبولاً ولا منزلاً ومقيلاً. وفي بعض التواريخ، ونظم في الشيخ براق السراج المحار موشحة أولها: جتنا عجم من جُوّا الروم ... صور تحير فيها الأفكار لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصبح منهم زنهار وهي طويلة: ولما قدم دمشق أراد الدخول إلى الأفرم في الميدان، فأرسل الأفرم نعامة كان قد تعاظم أمرها وتفاقم شرها فلا يكاد يقاومها أحد، فلما عرضوه لها قصدته، فتوجه إليها وركبها، فطارت به في الهواء في الميدان تقدير خمسين ذراعاً إلى أن قرب من الأفرم فقال له: أطير بها إلى فوق شيئاً آخر. فقال: لا، ثم أحسن إليه، وكان القان قازان أحضره مرة وأحضر له سبعاً ضارياً، فركب على ظهره ولم ينله سوء، فأعظم قازان ذلك، ونثر عليه عشرة آلاف ديناراً فلم يتعرض لشيء منها.

ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة ومن قطع

وقال صاحب النزهة: وكان خربندا أرسله إلى الشام في الرسلية وذلك لأمر جرى له كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ولما توجه الشيخ براق إلى الشام كان معه بيرق خربندا وكتابه إلى سائر البلاد أن يخدموه أوفر خدمة، ولم يزل سائراً حتى وصل من ناحية الروم إلى بلاد سيس، فسمع صاحب سيس بقدومه، فركب إلى ملتقاه وأنزله في دار المضيف، وحمل إليه كل ما يحتاج، وكان معه خط خربندا بأنه يعطيه عشرة آلاف درهم، فأحضرها له وسير معه جماعة من أصحابه في خدمته إلى دربساك، وهي حده إلى بلاد المسلمين، ولم يزل براق حتى وصل إلى حلب، وعلم قراسنقر بقدومه فطلبه إليه، فلما حضر قرّبه وأدناه، ولما خلا به حدثه وسأله لما جاء به، فقال: جئت حتى أصلح بين الملك الناصر وبين خربندا بحيث أن لا يعلم بذلك أحد غيره، وفي الحال أرسل قراسنقر بريدياً إلى الملك الناصر يُعلم بذلك، وبعد قليل جاء البريدي وطلبه إلى دمشق، فجهز قراسنقر معه جماعة يخدمونه إلى دمشق، ودخلها في يوم مشهود لأنه قد كان وقع صيته بين الناس بأن شيخاً جاء من بلاد التتار يركب السبع، واجتمع خلق كثير عنده إلى أن دخل ميدان دمشق إلى القصر الأبلق، وحوله أصحابه، وكان نائب السلطان الأفرم جالساً في شباك القصر الذي يشرف على الميدان، وحوله أمراء دمشق مثل: بهادر رأس نوبة، وقطلبك الشيخي، وبكتمر أمير آخور، والبدري، وقطلوبك الوشاقي، فلما رآهم براق زمجر وأخذه حال الفقراء، وحمل عليهم يطلبهم، وكان في الميدان طير نعامة لها أربع سنين يربونها في الميدان، فلما رأت الشيخ براق حملت عليه، وقبضت بفمها على رقبته، وكادت أن تقصفها، وأرمت براق تحته وبركت فوقه، ولو لم يدركه الرجال لمات براق تحته، فتعجبت الناس منه، وعلم براق أن هذه عبرة ليعتبرها، فأسّرها في نفسه، ثم لما قام تقدم إلى الأفرم وسلّم عليه، وكذلك سلّم على الأمراء، فقال له بهادر آص: أش هذا يا براق؟ أنت تقول: إنك تركب الأسد في خراسان، فهذا طير من طيور الشام عمل بك ما حارت به الأوهام، ولكن أزلْ ما قلبك، واستغفر ربك، وتأدب مع رجال الشام، ثم إن بهادر آص حقق النظر فيه، فإذا هو محلوق الذقن، وقد عفى عن شواربه، وفي رقبته خيوط من صوف الأغنام، وفيها كعاب البقر والغنم والأحراش. فقال له: إش هذا؟ هو دينك. فقال يا أمير: المملوك رجل فقير من جملة فقراء المسلمين. فقال له بهادر آص: ما أنت مسلم. فقال له: لم؟ فقال له: بدليل واضح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو صادق في المقال: " قصّوا الشوارب واعفوا عن اللحى ". وأنت خالفت، قصّيت اللحية وعفوت عن الشارب، وهذه مخالفة لدين الإسلام ولمحمد عليه السلام، والله لولا حرمة مولانا السلطان لأضربن رقبتك. فقال براق: استغفر الله من سوء فعلي، ثم إن بهادر آص طلب مقصاً، فقص شواربه، ثم أمر ملك الأمراء أن ينزلوهم في اللمُنيبع، وأن ينقلوا إليهم كل ما يحتاجون إليه، ورتب لهم كل يوم: خمس أروس من الغنم، وقنطار خبز، وعشرين رطلاً من الحلاوة السكرية، وعشرة أطباق فاكهة، ثم أرسل البريدي إلى مصر بسببه، فرجع البريدي بطلبه، فجهزه النائب ورتب له الإقامات في الطرقات إلى غزة، ولما ورد غزة، فإذا بمرسوم السلطان حضر بالإقامة إلى حين يطلبهم، وذلك أن السلطان لما جاء إليه خبره شاور الأمراء فيه وما يكون الصواب، فاتفق رأيهم على أن لا يمكن من الدخول إلى مصر، فربما يكون من دخوله غائلة، فأرسل إليه مملوكاً من مماليكه يقول له: اكتب ما معك من المشافهة وسيّره، ثم رجع براق من غزة إلى دمشق، وصاحب دمشق جهّزه إلى أطراف البلاد وسار يطلب خربندا. ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة ومن قطع وفيها: تولى بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح وظيفة أمير جندار على ما نذكره. وفيها: تولى قضاء الحنفية بدمشق يوم الأحد العشرين من ربيع الأول القاضي شمس الدين الأذرعي الحنفي، ثم عزل، وتولى عوضه قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم بن محمد الحنفي البصراوي، وذلك يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة منها.

ذكر بقية الحوادث

وفيها: سفّر الأمير علم الدين سنجر الجاولي الأستادار إلى الشام، وقُطع خُبزه من مصر لتغيّر حصل من ركن الدين بيبرس من جهته، وبعد وصوله إلى الشام بمدة أنعم عليه بإقطاع وإمرة، وكان قد تقدم إلى الدواوين بمحاققته على ما يتعلق بمباشرته، فعملوا عليه أوراقاً بجملة، وطُولب بجملتها، فشملته الصدقات السلطانية بالإعفاء من كلها، بعد وصوله إلى الشام بمدة أيام. وفي الثامن من ذي الحجة: عزل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب عن شدّ دمشق، وولي عوضه الأمير جمال الدين أقوش الرسمي وإلى الولاة، وأعيد سيف الدين بكتمر إلى الحجوبية بدمشق. وفيها: صرف القاضي سعد الدين بن عطايا عن الوزارة، وصودر على مائة ألف درهم خرّجت في معاملة البيوت مذ كان يباشرها، فقام بثمانين ألف منها، ثم سومح وأطلق، فلزم بيته، واستوزر عوضاً عنه القاضي ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشائي، وكان يباشر ذلك الوقت نظر الدواوين، وقبله استيفاء المقابلة، فلما صارت الوزارة إليه كان فيها محكوماً عليه إلا أنه اعتمد لين الجانب وخفض الجناح، ومسالمة الناس. وكان الأمر والنهي والحل والعقد إلى التاج بن سعيد الدولة، فإنه كان مستبداً بالإشارة والنظر على الوزارة. قال ابن كثير: وفي أول المحرم ظهر الوحشة بين الملك الناصر وبين الأمراء: سلار النائب، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وكان السلطان قد امتنع عن العلامة زماناً حتى ظنه الناس مريضاً، ثم عبرا له في ثالث الشهر، فتنكر لهما ومنعهما، فاستعطفاه وألانا له الكلام حتى رضي وخلع عليهما. ولما خرجا قويت نفوسهما، وأظهرا ما بنفوسهما، ورسما بأن يركب جماعة من العسكر وتقف تحت القلعة، فركب شمس الدين الأعسر بعد العشاء، فظهر السلاح، وشق القاهرة، ووقف تحت القلعة، وكذلك ركبت إخوة سلار، وهم: داود، وسمول، وحبا، فخرج إليهم بعض الوشاقية، فراسلوهم بالنبل، ووصل معهم سمول أخي سلار إلى الشباك الذي يجلس فيه السلطان. وبات الأمراء تلك الليلة على مساطب الدركاه بباب القلة، ولما أصبحوا ترددت المراسلة بينهم وبين السلطان على لسان أقوش الموصلي، وسيف الدين أكراي، وبهاءالدين يعقوبا الشهر زوري، وسألوا رضى السلطان، والتمسوا منه بعض الخاصكية الذين هم سبب إثارة هذه الفتنة، فسيرهم إليه بعد أن استحلفهم أنهم لا يتعرضون إليهم بمكروه، وهم: سيف الدين بيبغا، الذي كان من خواص السلطان، وسيف الدين خاص ترك، وسيف الدين بقتمر، فأرسلوهم من وقتهم إلى القدس، وانتظم الصلح. ولما بلغ ذلك الأمير أقوش الأفرم - نائب دمشق - أرسل يلوم الأمراء، ويعنفهم على ما وقع منهم في حق الأمراء، ويسأل إعادتهم، وإلاّ حضر هو بنفسه، فأعادوهم، فلم يسكن الأمير بيبغا القلعة بل بسويقة العزى، ثم لم يلبث أن مرض ومات، في السنة المذكورة. وفي خامس عشر المحرم منها - بعد إخراج المماليك السلطانية - رسم بإخراج سيف الدين بكتمر الجوكندار وقطع خبزه، فأخرج من ساعته إلى الشام، فلما وصل إلى غزة عيّنت له الصبيبة فتوجه إليها فاستوحشها، فسأل غيرها، فعينت له صرخد، واتفقت وفاة الأمير سنقرجاه المنصوري - نائب صفد - فرسم له بها، فتوجه إليها، ولما خرج من مصر تولى بعده وظيفة أمير جاندار بمصر بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح. ذكر بقية الحوادث منها: ابتداء الأمير بيبرس في عمارة الخانقاه والتربة داخل بابي النصر، موضع دار الوزارة، فعمرت، وأوقف عليها أوقافاً جليلة، ومات قبل فتحها، فأغلقها الملك الناصر مدة ثم فتحها، ورتب فيها جماعة من الصوفية وأبقى بعض الأوقاف التي كانت لها، وارتجع البقية، وأما التربة فاستمرت مغلقة إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها: كملت عمارة الجامع الجديد الذي بسفح قاسيون، والذي أنشأه جمال الدين أقوش الأفرم، وخطب فيه شمس الدين أبو العز الحنفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من شوال.

ذكر قضية أبي يعقوب المريني صاحب المغرب ومقتله

وفيها: وردت كتب من حماة تتضمن حدوث أمر غريب، متضمنة فيها محضر مثبوت بأنه كان في حصن الأكراد جبلين بالقرب من بارين - من بلد حماة - بينهما واد تجري الماء فيه، فانتقل نصف الجبل الواحد من موضعه، وتعدى الوادي، والتصق بالجبل الآخر، ولم يسقط في الوادي الذي بينهما شيء من الحجارة، وبقي ما انسلخ منه منقطعاً من الجبل كهيئة محراب، والماء جار على العادة، وكشف ذلك القاضي والحاكم ببارين، وعمل به محضراً، وكان طول النصف الذي انفصل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع، وعرضه خمسة وخمسون ذراعاً، ومسافة الوادي الذي بين الجبلين مائة ذراع، واسم الجبل: بنبابة، واسم القرية القريبة منه: دانة. وفيها: إهتم الأمراء المصريون بتعزير الخيول السوابق ورياضتها حتى إذا بلغت الحد من التعزير وأخذت مأخذها من التسيير خرجوا جميعاً إلى بركة الحجاج، وتتباهى وتتهادى حتى إذا كان انتهاء المطلق تقدم فرس الأمير سيف الدين سلار وانطلق ففاز بالسبق، وكان الرهن لمن سبق، وجملته سبعة آلاف درهم لمن سبق - عن كل فرس مائة درهم، وعدة الخيول الأخرى سبعين فرساً. وفيها: في آخر يوم من رمضان أحضر نائب السلطنة الأمير سلار القضاة وجماعة من الفقهاء كالباجي والجزري وغيرهما، وتكلموا في إخراج ابن تيمية من السجن، فاشترط بعض الحاضرين شروط عليه في ذلك، وأرسلوا إليه المحضر فامتنع، وصمم، وتكررت الرسالة ست مرات فلم يجب، وطال عليهم المجلس، فتفرقوا عن غير شيء، فطلب النائب أخاه الشيخ شرف الدين عبد الله، وأخاه الآخر زين الدين عبد الرحمن، وجرى بينهما وبين المالكي كلام كثير. ولما كان يوم الجمعة أحضروا شرف الدين وحده، وحضر شمس الدين بن عدلان في مجلس النائب، ووقع بينهما بحث كثير. وفيها: في يوم عرفة عقد مجلس الأبلق بدمشق، وحضر القضاة والعلماء، وحضر موسى أحد فقهاء الباذرائية من المارستان فاعترف إنه مصر على القول بخلق القرآن، وأصر على ذلك، فاختلفوا في تكفيره، ورسم بتعزيره، فضرب وأخذ ونودي عليه، وحبس، ثم أحضر إلى مجلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصري، وأظهر التوبة، والتبرؤ من ذلك، فأطلق سبيله. وفيها اختلف أهل جزيرة جربة فيما بينهم، فسعى محمد بن السمو من - شيخ الوهّبية - في ابن أمغر شيخ النكارة، ونقل إلى الفرنج عنه أموراً منكرة، فأمسكوه، وسيّروه إلى بلاد صقلية، فاعتقل هناك ثم إنه فدى نفسه بمال، فأطلقوه، فعاد إلى جربة، وحشد حشوداً كثيرة، وقصد ابن السمو من ومن معه من الفرنج، فخرجوا لقتاله والتقوا معه، فكانت الكسرة على ابن السمو والفرنج، وظهر ابن أمغر عليهم، وأرسل يعلم صاحب تونس باستظهاره وسأله نجدة، وأرسل الفرنج الذين بحربة يعلمون أصحابهم بصقلية بحالهم ويسألونهم إنجادهم، فكان منهم ما ذكره، إن شاء الله تعالى. ذكر قضية أبي يعقوب المريني صاحب المغرب ومقتله وكان أبو يعقوب هذا بمدينة تلمسان، وهو نازل فيها، محاصراً إياها، وكان قد ضايقها سنين كثيرة، ونفذ ما كان لأهلها ولصاحبها من الأزواد والأقوات، وخلت من سكانها، فمنهم من تسلّل من الضرّ والضيق، ومنهم من مات، ولم يكن بقي عندهم إلى هذه الغاية إلا شيء يميرهم مقدار شهر لا غير، واتفق موته مقتولاً.

وكان سبب قتله: أنه كان قد تعلق بخدمته شخص من بني عبد الوادّ يسمّى الزعيم، من أصحاب صاحب تلمسان، فحظي عنده، وبقي في خدمته سنين ثم غضب عليه، فسجنه مدة طويلة، وكان له وزير يقال له العزّ، فلما سجن الزعيم العبد الوادي تعرّض العز الوزير إلى حرمه، ثم إن المريني رضي عن الزعيم، وأطلقه ونفاه إلى بلد الأندلس، اتفق بعد مدة أن ولدت جارية من جواري المريني اسمها إزرزارة بنتاً، ومعنى هذا الإسم الغزالة، فبشّر بها المريني فأنكرها، وقال: ما أعلم أنني باشرت أمها. فقالت له إحدى النساء الحاضرات. إن مولاي باشرها وهو على حالة سكر فسلم وأمسك، وبلغ الزعيم الخبر وهو يومئذ بالأندلس، وكان قد اطلع على ما فعله العز الوزير بحريمه، فأرسل يقول للمريني: إنني لم يشق عليّ تعرض الوزير العزّ إلى حرمي كما شق على تعرضه لحرمك، وما فعله بإزرارة حتى إنه أولدها الطفلة التي أنكرت كونها منك، وهي في الحقيقة منه، فاستشاط المريني غضباً، وأمر من ساعته بإحضار العزّ وجبّه، وقلع عينيه، وصلبه، واستدعى الخادم الذي هو زمام داره واسمه عنبر، واتهمه بمواطأة العزّ على فساد حريمه، وأمر بإخراجه ليقتل، وفيما هم مارون به رآه جماعة أصحابه الأزمة والخدام، فسألوه عما جرى، فقال لهم: يجر لنا خير وهاهم ذاهبون بي إلى القتل وكلكم يقتل بعدي، فانظروا لنفوسكم ماذا تصنعون؟ وكان أبو يعقوب قد خضّب لحيته بالحناء ذلك النهار، واستلقى مضطجعاً في خضابه داخل داره، وليس عنده إلا بوابة الباب، فهجم عليه خادم من الخدم وفي يده سكين فضربه في جوفه وابتدر الخروج عنه، وأغلق الباب عليه، فصاحت البوابّة فدخل أصحابه عليه فأدركوه وبه بعض الرمق. وكان ابنه أبو سالم عنده فقال له: إني ميت فانظر في أمرك. وقضى أبو يعقوب من يومه، فأمر ابنه أبو سالم أن تضرب الطبول، فضربت واستدعى أعيان القوم لمبايعته، فبلغ ذلك ابن أخيه أبا ثابت عامر بن عبد الله، وعمه يحيى، وكانا على مباشرة الحصار، فاشتورا واتفقا على أن يقصدا أبا سالم ويمنعاه من السلطنة، وأن تكون لأبي ثابت دونه، ويكون عمه يحيى مدبراً لأمره، وأبرما هذا الرأي بينهما. ولما اتفق المذكوران على هذا الرأي أرسلا إلى محمد بن عثمان صاحب تلمسان العتيقة، وهو على شفا جرف هار لما توالى عليه من تضييق وحصار، وصالحاه، ورفعا عنه المحاصرة، والتمسا منه المناصرة، فأمدهما بمن كان قد بقي عنده من الجند، وتوجها نحو أبي سالم، فهرب منهما وخرج على وجهه، فحصل في يد بعض أهل البلاد، فأمسكوه وأرسلوا يخبرون ابن أخيه بأنهم قد قبضوا عليه، فأرسل جماعة من فوارس الفرنج والمسلمين فقتلوه هناك، وجاءوا إليه برأسه. واستقر أبو ثابت المذكور في هذه السنة، وأمر بقتل الخادم الذي أقدم على قتل أبي يعقوب، فقتل من وقته، وأخذ الخدم كافةً فقتلوا، وأضرمت لهم النيران، وزجّوهم فيها بالرماح، ولم يترك أبو ثابت بمملكته خادماً خصّياً حتى أباده، ثم وثب على عمه بسعاية قومه فقتله ثاني يوم، فكان بين يحيى وبين أخيه أبي يعقوب يوم واحد أو يومان، ورحل أبو ثابت من تلمسان وأطلق لمحمد بن عثمان العبد الوادي كل ما كان عنده بتسلمان الجديدة من الحواصل والذخائر والغلال والأزواد، وكان شيئاً كثيراً، وأخذ المال صحبته، وكان من الذهب ثلاثمائة حمل، كل حمل إثنان وعشرون ألف دينار كباراً، ومن الفضة مائتين وسبعين حملاً، ومن حفائظ الذهب التي تكتب في آخر جمعة من رمضان للتعوذ والتبرك على عادة المغاربة وقر إثني عشر بغلاً، وسار إلى فاس، وجهز مستحفظاً من بني عمه إلى مراكش اسمه يوسف بن أبي عياد، وجهز معه جماعة ليقيم بها، وأرسل إليه شخصاً من الحاضرة يسمى الحاج محمد، ولقبه المحنة، ليكون على جباية الأموال، فوقع بينهما، فقتله ابن أبي عياد، فكانت الأحنة قاتلة للمحنة، وخلع يوسف المذكور طاعة أبي ثابت وعصي عليه، وقعد بما في يديه من العمل، فسار أبو ثابت لقتاله على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها: انتهت زيادة النيل إلى ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً. وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين نُغيه قفجاق السلحدار أميراً على الركب المصري، ومن الشام ركن الدين بيبرس المجنون.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

ولما حضر المبشرون من الحج أخبروا أن أمير الحاج حصل بينه وبين أمير مكة حميضة وعبيده كلام أوجب سفك الدماء، وذلك أنه يوم النزول من عرفة شرعت عبيد الشريف تخطف التجار وتتعرض للحاج، فأخذوا من بعض التجار قماشاً، فمنعهم، فضربوه، فصاح صياحاً منكراً إلى أن أفلت الركب، فسمع أمير الحاج نُغيه، فأرسل بعض مماليكه ليكتشفوا الخبر، فحضر من عرّفه الأمر، فأشار لمماليكه بمسكهم، فساقوا إليهم، فانهزموا، فلحقوا البعض بعد أن خرج منهم جماعة، ووقع الصوت في مكة بوصول العبيد، فركب حُميضة لابساً سلاحه، وركب معه بنو حسن، وكان عند حميضة جهل كبير، فجاء الخبر إلى الأمير نُغيه، فركب هو ومماليكه وركب من كان في الركب من الأمراء والجند ووقع الصوت، ثم أن نغيه نادى للحجاج أن لا يخرج أحد من خيمته، وتوجه هو ومن معه فأشاروا عليه بأن يقف إلى أن يحضروا إليه، فلم يقبل وساق، فلقي جماعة من السرو، فظن أنهم عبيد للشرفاء، فوضع السيف فيهم، فترجل إليه بعض الأمراء وعرّفه أن هؤلاء أناس صالحون، ووصل الخبر إلى حميضة أن أمير الركب قتل السرو - وهو واصل إليك، وهو رجل تتري لا يعرف الإسلام، فحكموا على حميضة بالرجوع، فرجع إلى مكة، وبلغ ذلك نغيه فلم يرجع، ووصل إلى مكة، ونظر الأشراف إلى جيش لا يهابون شريفاً ولا غيره، فهربوا، وخرج إليه شيوخ مكة والمجاورون وسألوه، فرجع وقتل في هذه النوبة من السرو خلق كثير. ذكر من توفي فيها من الأعيان القاضي تاج الدين صالح بن ثامر بن حامد بن علي الجعبري الشافعي، نائب الحكم بدمشق، ومعيد الناصرية. وله فضائل، وعلوم، وديانة، وأمانة، مات في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بقاسيون. الشيخ ضياء الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي الطوسي، مدرس النجيبية، شارح الحاوي، ومختصر ابن الحاجب. كان شيخاً فاضلاً، دخل الحمام وخرج، فغشي عليه ومات، وشُكّ في موته، وأخّروا دفنه إلى ثاني يوم، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت جنازته حفلة. وقال ابن كثير: وكان موته في التاسع والعشرين من جمادى الأولى منها. الشيخ الجليل سيف الدين الرجحي بن سابق الدين هلال بن يونس، شيخ اليونسية بمقامهم. مات فيها ودفن في داره التي كان يسكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة، وكان ضخم الهامة جداً، محلوم الشعر، وخلف أولاداً، وجلس مكانه ولده الشيخ حسام الدين فضل، وكان له حرمة وافرة، ومنزلة عالية في الدولة من حين قدم من الشرق في زمان المنصور قلاون، وكان عنده أتباع كثير. الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد سعد الطيبي، المعروف بابن السواملي، والسوامل الكاسات. كان معظماً ببلاد الشرق جداً، وكان تاجراً كبيراً، مات في جمادى الأولى منها، وكان قد سافر في أول عمره إلى الصين ومعه مال يسير، ففتح عليه، وتمول إلى الغاية، وكان ينطوي على دين وكرم وبر وصدقة، واعتقاد في أهل الخير، وكان يحمل إلى الشيخ عز الدين الفاروثي في كل عام ألف مثقال، ثم مالت عليه التتار بالأخذ حتى تضعضع حاله وقلت أمواله، وانتقل إلى واسط. قال ابن منتاب، قال لي جمال الدين السواملي: ما بقي لي شيء سوى هذا الحبّ، وأراني حبّاً فيه ثمانون ألف دينار، فبعثه إلى الصين، فكسب الدرهم تسعةً، وولي ابنه سراج الدين عمر نيابة الملك بالمعبر، وصار ابنه محمد ملك شيزار، وابنه عز الدين كامل جميع الممالك التي لفارس، ورزق جمال الدين من السعادة ما لاحد لها. قيل: إنه اشترى صدفة مجوفة بدرهم، وذلك في أول سعادته، وكسرها، فخرج منها درة بيضاء مدورة زنتها خمسة عشر حبة، فقيل: إنها قومت على الملك أيضاً بستين ألف دينار، وهي التي كانت أول سعادته، وكان من حسنات الزمان، رحمه الله. الشيخ العابد الصالح خطيب دمشق شمس الدين محمد ابن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي، إمام الكلاّسة.

كان شيخاً حسناً بهي المنظر، باشر إمامة الكلاسة قريباً من أربعين سنة، وخطب لحطابة جامع دمشق من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصفاً، وكان حسن الصوت، طيب النغمة، عارفاً بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعفة، وكانت وفاته فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن اثنتين وستين سنة، ودفن بقاسيون فوق مغارة الجوع، وكان أولاً أمّ بالمسجد الذي بالقرب من المارستان النوري مدة وهو صبي، ثم انتقل إلى إمامة مشهد ابن عروة، ثم لما مات والده انتقل إلى إمامة الكلاسة، رحمه الله. الشيخ القدوة العابد أبو عبد الله بن مطرف. توفي بمكة في رمضان، وكان مجاوراً بمكة ستين سنة، وكان يطوف في كل ليلة خمسين أسبوعاً، توفي عن تسعين سنة، رحمه الله. الشيخ الصالح عمر السعودي. توفي بزاويته بالقرافة في ثاني جمادى الآخرة، ودفن بها. القاضي شرف الدين محمد بن القاضي فتح الدين بن عبد الله بن القيراني الحلبي، أحد كتاب الدرج بمصر. توفي فيها، ودفن بالقرافة، وكان ديناً فاضلاً، سمع الحديث النبوي. القاضي جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم الشافعي، المعروف بابن السفطي، خليفة الحكم العزيز. توفي فيها ليلة الإثنين حادي عشر شعبان بالقاهرة، ودفن بالقرافة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وولي نيابة الحكم بالقاهرة نحواً من أربعين سنة وتركها في آخر عمره. الصاحب الكبير شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا الحنفي الأذرعي. مات في هذه السنة، ودفن قبالة داره بسفح قاسيون، وكان رجلاً حسناً متواضعاً، مليح الملتقى، حصّل أملاكاً كثيرة، وعمّر عمائر كثيرة، وخالط الدولة من الأيام الظاهرية، وولي الوزارة في دولة الملك العادل زين الدين كتبغا أياماً يسيرة، وولي حسبة دمشق مدة مضافاً إلى الديوان العادلي، وغير ذلك. الصدر الرئيس بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي العدوي. مات بدمشق، ودفن بقاسيون، وكان من أعيان الكتاب المتصرفين، جاوز السبعين من العمر، وهو أخو القاضي شرف الدين، والقاضي محي الدين، وهو الأوسط، وكان التتار قد أخذوه معهم من دمشق في سنة تسع وتسعين وستمائة، ولطف الله به وخلّصه حتى مات بين أهله وولده، رحمه الله. الصدر علاء الدين علي بن الحسن بن النحاس المعروف بابن عمرون. مات بدمشق ودفن بقاسيون، وكان ناظر ديوان الحشرية بدمشق، وخدم في عدة جهات، وأقطار كبار، وكان مشكور السيرة. الشيخ أبو بكر بن مسعود بن عصرون القدسي، المعروف بالزرعي. مات في دمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وكان فقيراً، وعمّر، وأضر في آخر عمره، ومولده في سنة اثنتي عشرة وستمائة. وله شعر، فمنه في زهرة السفرجل: زهر السفرجل قد أتاك مبشر ... بالورد وهو لذلك غير مخلّد فكأنه عيسى بن مريم قد أتى ... للعالمين مبشراً بمحمد وله: لا سحر إلا الذي تبديه عيناك ... ولا ملاحة إلا "......... " لمحياك قال زجل: مالي وللناموس ... أش بي عبوس الشرب بالقادوس يحيي النفوس الشرب في الماجور قلبي يحنّ ... ومجلسي معمور، من كل فن ودع نصير طنبور ... أنقر أطنّ أرنّ بالناقوس ... بين القوس الشرب بالقادوس يحيي النفوس يوم أرى عندي ... نكرش خليع فذاك يكون سعدي ... وأنا جميع وكلما عندي ... أرهن وبيع وأجور في السالوس ... وأهجم وبوس الشرب بالقادوس يحيي النفوس ما العيش يا حضار ... عيش خطيب غير الزهّر والطار ... وأغيد حبيب مالي ويلتقيان ... كأني خطيب قاعد كذا كيموس ... أسمع دروس الشرب بالقادوس يحيي النفوس يا عاذلي اقصر ... عن الملام في الراح واستبصر ... يا ذا الغلام وكلما نقتدر ... نوش المدام واخلع الملبوس ... على الجلوس الشرب بالقادوس يحيي النفوس

السنة السابعة بعد السبعمائة

ما أحسن الخضرة ... ما بيننا وساقي الخمرة ... هو زيننا ما عندنا فكرة ... ولا عنا ووقتنا محروس ... من كل بوس الشرب بالقادوس يحيي النفوس وله موالياً: لما رقم طرز أطلس ... وجنتو سندس قال العذول صباحو ... قد رجع حندس دعو فورد خد ... وذ قد ملي كندس فقلت ما أظرف ... الأطلس مع القندس وقال: جاء البشير يبشرنا بعزل البرد ... فقدّم الباطيه يا صاحبي والنرد واشرب على وجه أغيد في الملاحة فرد ... يجلو عليك البنفسج في رياض الورد وقال له دو بيت: عرج بربوع جيرة قد خانوا ... عهدي وناءوا كأنّهم ما كانوا ساروا سحراً وأضرموا حين باتوا ... من قلبي من مرامهم نيران الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري، نائب حمص. توفي فيها، وتولاها سيف الدين بكتمر الساقي، وكان بلبان المذكور من خيار الترك، ولي نيابة قلعة صفد، وشدّ دمشق، ونيابة القلعة بها، ونيابة حمص في آخر عمره. الأمير علم الدين سنجر الصوابي الجاشنكير، أحد الأمراء المقدمين بمصر، توفي فيها. الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح. كان أصله من مماليك الأمير فخر الدين بن الشيخ، وارتجع إلى مملكة السلطان الملك الصالح، وكان من أكابر الأمراء الصالحية المترددين في الغزوات، المشهورين بالهير والصدقات، ولما قتل الملك المنصور لاجين أجمعوا على تمليكه فلم يوافق، وأشار بالملك الناصر محمد بن قلاون، وفي آخر عمره طلب النزول عن الإمرة لكبر سنه، فأجيب إلى ذلك، فأقام في منزله حتى مات، وكان منزله داخل القاهرة. ووفاته في ربيع الأول من هذه السنة وكان بين موته وقطع خبزه ثلاثة أشهر كوامل، وكان ذا همة ونهضة، ورأي ومعرفة، وهو آخر من مات من الأمراء الصالحية النجمية من الركب الأول رفيق الملوك. وقيل: آخر من مات ركن الدين بيبرس الجالق. الأمير علاء الدين علي بن الملك القاهر عبد الملك بن المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. توفي فيها بدمشق، ودفن بقاسيون. الأمير فارس الدين أصلم الردّادي، توفي فيها. الأمير سيف الدين كاوركا المنصوري، توفي فيها. الأمير بهاء الدين أصلم بن مرداش، توفي فيها بدمشق. الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري، مات في سابع عشر ذي الحجة منها بمصر. الأمير عو الدين أيبك الطويل الخازندار المنصوري. مات فيها، ودفن بقاسيون، وكان أميراً ديناً، كبير القدر، له بر وصدقة. الطواشي الكبير الصالح شمس الدين صواب السهيلي الخزندار. مات فيعا بالكرك، وقد قارب المائة سنة، وكان الملك الظاهر قد سلّم إليه قلعة الكرك، فاستمر بها إلى سنة إحدى وثمانين وستمائة في أيام الملك المسعود نجم الدين خضر بن الظاهر، فتوجه إلى الحجاز الشريف في جملة الركب الشامي، فلما وصل إلى تبوك لحقه الأمير عينه أمير بني عقبة وقبض عليه وحمله إلى الملك المنصور قلاون، فلما ملك المنصور قلعة الكرك أعاده إليها وثوقاً بأمانته وديانته، فلم يزل بها إلى أن مات فيها، وكان له برّ ومعروف، ورباط وتربة، وكان كثير المال كبير السن. الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوري، مقدم المماليك السلطانية. توفي في سابع ذي الحجة منها، وكان ذا مهابة وسطوة، وأخلاق حسنة. ذكر فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة بعد السبعمائة استهلت هذه السنة: والخليفة المستكفي بالله العباسي. والسلطان: الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائب دمشق الأفرم، ونائب حلب قراسنقر، وصاحب البلاد الشمالية طقطا، وصاحب العراقين وما ولاها الملك خربندا، وصاحب اليمن المؤيد هزبر الدين داود. وذكر بيبرس في تاريخه في هذه السنة: وقوع الوحشة بين السلطان الملك الناصر محمد وبين الأمراء سلاّر وبيبرس وغيرهما، وقد ذكرناه في السنة الماضية كما ذكره ابن كثير. ذكر إغارة خربندا على بلاد كيلان

قال بيبرس في تاريخه: وفيها وصل الأمير فتح الدين صبرة المهمندار من بلاد التتار، وأخبر من لسانه أن خربندا سار إلى بلاد كيلان وأغار عليها، ونهب من بها من العجم والأكراد، وقتل منهم خلقاً يتجاوز الأعداد، وسبى النسوان والأولاد، وباعوهم بتبريز وتلك البلاد، مجازياً لهم مما فعلوه من كسر عسكره وقتل قطلوشاه نائبه. قلت: قد ذكرنا فيما مضى قضية قطلوشاه وكيف قتل، ولما جاء الخبر بذلك إلى خربندا اغتم غناً شديداً وأمر بأن ينادي في عسكره بأن البيكار ثلاث سنين إلى كيلان، إما تفنى المغل أو تموت كيلان، ثم إنه فتح الخزائن، ونفق الأموال، وأمر أن من قتل له أخ أو قريب فليتزوج بامرأته، وإن كان ما له أخ ولا قريب فليتزوجها أكبر غلمانه، وأخذت العساكر الأموال، وأخذوا في إصلاح أحوالهم. وقد كانت جماعة من ملوك كيلان قد هربوا وجاءوا إلى قطلوشاه، لما سار قطلوشاه إلى بلادهم، وكان قطلوشاه قد أرسلهم إلى خربندا، فلما جرى للمغل ما جرى من الإنكسار والهزيمة، وقتل قطلوشاه، ندم هؤلاء على مجيئهم، واجتمعوا عند كبيرهم نوبرشاه، وقالوا له: أخطأنا في مجيئنا إلى ههنا، وتركنا أموالنا وأولادنا، وجرى علينا ما جرى، وما بقينا نقدر على الرواح إلى كيلان، ولا نأمن على أنفسنا من المغل، فقال لهم: والله يا قوم ما ظننت أصلاً أن أهل كيلان تكبس التتار، ولكن النصر بيد الله تعالى ينزله على من يشاء من عباده، فما بقي إلا أننا نستغفل خربندا ونهرب طالبين بلادنا. فقالوا: ما يكون عذرنا عن جوان شير - وكان أكبر ملوكهم - وعند أصحابه إذا لامونا على خطئنا. فقال: نقول لهم: كان رواحنا لكم لأنا خشينا عواقب الأمور، فقلنا إن جرى أمر والعياذ بالله كنا لكم عليه عند الشدة، ونكون عيناً لكم عندهم، فاتفقوا على مثل ذلك، ولم يعلموا ما قدره الله في الأزل. ثم إنهم خرجوا في بعض الليالي، وباتوا خارج تبريز في وليمة صنعت لهم، فقاموا في نصف الليل وركبوا، وطلبوا بلادهم. فسمع خربندا بذلك، وأركب جوبان خلفهم ومعه ألفا فارس، فساقوا خلفهم ولاحقوهم في أرض سوداء ليس فيها أنيس، ولا حس حسيس. ولما رأى هؤلاء غبار التتار، قال بعضهم لبعض: جاءنا الفناء، خذوا في رواحكم، وقالوا: وماذا نصنع في هذه البرية، فقال نوبر شاه: نقاتل عن أنفسنا، وإلاّ أيّ من سلّم نفسه يقعدونه على الخازوق، كما فعل بقطلوشاه، وكانت عدتهم خمسة عشر أميراً ومائتي جندي، فتحالفوا أنهم لا يسلمون أنفسهم حتى تشقط رؤوسهم عن أبدانهم. فعند ذلك نزلوا عن خيولهم، واعتدوا للحرب ووهبوا أنفسهم لله عز وجل، وأيقنوا الموت، وهم في ذلك، فإن الغبار قد انكشف، وأظهرت التتار الإهتمام، فتسابقوا إليهم، وكان أسبق الناس إليهم قجمرن، وكان من فرسان التتر المشهورين، ولما رأته المغل، وهو قاصد إليهم حملوا عليه، وضجوا بكلمة التوحيد، ووثبت عليهم التتار "......... " فلم يفكروا فيه، وواجهوهم بالرماح، فكم من رأس قد طارت، وكم من دماء قد سالت، وفي ذلك الوقت "............ " فحمل كل منهما على صاحبه، فرمى كلتمر على نو برشاه - زعيمهم - فأصاب نحره، وخرج من ظهره، ثم ولّى فصوّب نو برشاه رمحه إليه - وهو في ألم شديد مشرف على الموت - وطعنه بين كتفيه، فخرج الرمح من صدره، فوقع كلاهما، فولّى هذا إلى الجنة وذاك إلى النار. فلما نظر جوبان إلى ذلك أظلمت الدنيا في عينيه، وصرخ فيمن معه من التتار، وضربوا عليهم حلقة، وشرعوا في الحرب، فلله در العجم، لقد قاتلوا قتال الموت، وجعلوا الآخرة نصب أعينهم، وما أمسى الليل إلاّ والقوم صرعى على وجه الأرض، ولم يسلم منهم أحد. فأمر جوبان بأن تحز رؤوسهم، وبات تلك الليلة في مكان الوقعة. ولما أصبحوا رحلوا طالبين خربندا، فلّما وصلوا، ومعهم رؤوس هؤلاء، فرح خربندا فرحاً عظيماً بذلك الثأر، وخلع على جوبان، وولاّه موضع قطلوشاه، وجعله صاحب المشورة والتدبير. وكان ذلك الوقت مستهل الشتاء، فأعطى خربندا الأمراء دستوراً ليروح كل أمير إلى مشتاه، ويتجهز، فإذا خرج الشتاء يجتمعون ليسير بهم خربندا إلى كيلان، وسار خربندا أيضاً إلى مشتاه، وهو موضع يسمى موغاي.

وفي أول الربيع رجع إلى تبريز، وأمر بحضور العساكر، وكتب إلى جبال الأكراد يأمرهم بالحضور، فحضرت أمراء الأكراد، ومعهم خلق عظيم، ولم يخّل طائفة من بلاده حتى سير خلفهم، فجمع خلقاً لا يحصون. وكان لأهل كيلان جواسيس أتوا إليهم، وأعلموهم بأن خربندا قد جمع العساكر، وهو قاصد إليكم، فتحصنوا في الجبال، وسدّوا الدربندات، وتجهزوا للملتقى معه، وكتبوا إلى أمير حاج، وتشاوروا بأن يجهزا أحوالهما حتى إذا سيروا خلفهما يكونان متجهزين، فأخذا في التجهيز، ثم إن جوان شير قال: إني أريد أن آخذ معي مائة فارس، وأكشف الأخبار، فسار غير بعيد، ثم رجع، وقال: الذي طلبت من الله قد أعطاني. فقالوا له: وما ذاك؟ فقال: كنت أريد من الله أن يسوق إلينا من نأخذ الخبر، وقد ساق الله إلينا جماعة منهم، فحين رأيتهم رديت، فقالوا: وكم يكون هؤلء؟، قال: مقدار أربعين فارساً أو أقل، ثم إنه فرّق أصحابه ما بين تلك الرجوم، وقال لهم: إذا سمعتم حس الطبل باز اخرجوا وأمسكوا عليهم الطرق من بين أيديهم وأنا آخذ عليهم الدرب من خلفهم. وكان خربندا لما نزل على قنغر أولان طلب علجاً من علوج المغل - يقال له: زنبور، كان معروفاً عندهم في المهمات، وقال له: اذهب واكشف لي جبال كيلان ودربنداتها، وكان أخبر الناس ببلاد كيلان، فأخذ معه خمسين فارساً، وسار بهم، فلما أشرف على هذه الرجوم، وكانت تعرف عندهم برجوم الغيلان، قال لأصحابه: يا قوم هذا مكان نحس، وعر مضيق، ونخاف من هذا المكان، فقال له بعض المغل: يا زنبور تخاف في قنغر أولان من جوان شير؟، فقال: نعم، فتضاحكت المغل عليه، فاستحى زنبور، وسار قدامهم، وقلبه خائف، فلما توسط الرجوم نظر إلى الأرض فإذا عليها أثر خيل جديد، فصرخ في المغل، فتشوشوا وهموا بالرجوع، وإذا قد خرج من خلفهم جوان شير وضرب عليهم طبل بازه، فخرج أصحابه من كل ناحية وأخذتهم الصيحات من جميع الجهات، وتنادوا جوان شير، قال لهم زنبور: ما قلت لكم، ما سمعتم مني، وضحكتم علي ورديتم نصيحتي، ولا بقي لكم غير الصبر على البلاء، ثم صرخ زنبور في أصحابه، وحمل على العجم، وهو على مقدمتهم فرمى واحد من العجم بسهم فأرماه، فتهاربت العجم من بين يديه، وفتحوا له طريقاً، خرج هو وأصحابه وطلبوا صوب كيلان، لأن جوان شير كان قد ملك الطريق الذي جاءوا منه. ولما رأى جوان شير أن طرائق المغل قد أخذت خرج على أصحابه وقال لهم: دونكم وإياهم، ثم أطلق عنان فرسه، وكان حصاناً كرجياً أبرش، إن حمحم أدهش، وإن صهل أرعش، وساق وراءهم فأيقنت المغل بالدمار، ثم لحق جوان شير الهاربين فطعن فارساً منهم فأرماه، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم وصل أصحابه إليه وأحاطوه بهم، ومسكوا منهم ثلاثين فارساً، وهرب زنبور ومعه عشرة من أصحابه، والتجأوا إلى تل عال، وأسندوا ظهورهم إليه، وأخذوا قسّيهم بأيديهم، وأيقنوا بالحمام، وجاء جوان شير بمن معه، فضربوا عليهم حلقة، ونادى جوان شير ويلكم يا كلاب، سلّموا أرواحكم وإلا نزل بكم الدمار، ولما رأى زنبور أن الذي ينادي جوان شير طلب منه الأمان عليه وعلى من معه، فأمنهم جوان شير، وسلّموا أنفسهم، وفرح بذلك جوان شير، ثم سأل عن خربندا، فأخبروه بأنه نازل على قنغر أولان ومعه خلق لا تحصى، وهو قاصد إليكم وقد سيّرنا لنكشف له الأخبار. ثم قال جوان شير لتوكل: خذ معك عشر فرسان وخذ هؤلاء الأسرى وسرّ بهم إلى البلاد، فقال له: وأنت؟. فقال: أنا قد عولت أن أغار على دشارات خربندا وعسكره ما داموا آمنين من جهتنا. فقال توكل: لا تفعل. فقال: لا غنى عن ذلك، ثم قال توكل: فإن كان لا بد من ذلك فأنا ما أروح مع هؤلاء، ولا أنقطع عنك، وسألتك بالله العظيم أن لا تحرمني الغزوة في هذه النوبة فقال جوان شير: أين الفارس منكلي؟ فأجابه بالتلبية. فقال له: سر بهؤلاء، فسار منكلي بهم.

ورجع جوان شير وأصحابه طالبين دشارات المغل، فسار في ذلك اليوم والثاني وعند آخر النهار أشرف على قنغر أولان وإذا عليها عساكر قد سدت تلك الأراضي، ونصبت خيام وقباب لا تحصى، ودشارات الخيل والجمال سارحات في البرية، فلما عاين جوان شير ذلك أكمن بأصحابه في جانب من العسكر بين كثبان رمل إلى أن ولّى النهار وأقبل الليل، ولما أظلم الليل قام ومعه أصحابه وقصدوا موضع الدشارات فأتوها وهي سارحة، والرعاة نيام لكونهم آمنين في هذا الموضع، فضربوا عليها الحلقة، ومن الغرائب أنهم وقعوا بدشار خربندا من خيوله الخاص التي يعتمد عليها، وخيل الأمراء أيضاً، وهي سبعة آلاف حصان، ثم ساقوها من بعد ما تمكنوا من قمم الرعيان، وقال للدليل: افتح عينك واسلك طريق السلامة ولا تخف، فها نحن خمسون فارساً خلفك، ثم ساروا والخيل أمامهم وجوان شير وراء الكل، ولم يزالوا سائرين إلى الصبح، فما أصبحوا إلا في أراضي بعيدة. ثم علم بذلك المغل وبلغوا الخبر لخربندا بأن جوان شير ساق الدشارات، فماجت عساكره، وركب خربندا وقد خفق فؤاده، وطار رقاده، وكان إلى جانبه رشيد الدولة الوزير، وسعد الدين، وقدامه جوبان، وأتته أمراء الألوف من كل جانب، ولم يزالوا واقفين إلى طلوع الفجر، وكان جوبان سير جماعة من أصحابه يكشفون له الدشارات فينظرون ما نقص منها، فحضروا عند الصباح وقالوا: إنما ساقوا خيل خربندا الخاص ودشارالأمراء، فأعلم جوبان بذلك لخربندا، فصعب عليه وكبر لديه وقال: ما دلّهم على هذا إلا أحد من جندنا، وإلاّ كيف يكون هذا؟ فقال جوبان: طيب قلبك يا خوند، فأنا آتيك بها، فإلى أين يسيرون بها ونحن في طلبهم، ثم إنه انتخب خمسة آلاف فارس وسار خلفهم، وخربندا يقول له: اجعل بالك من حيلة تعمل عليك، فلا تهمل لهم أمراً، وقلبي خائف من جهة الكشافة الذين سيّرناهم، فلا يكون التقاهم في الطريق شيطان العجم - يعني جوان شير - فقال جوبان: إن زنبوراً خبير بهذه الأراضي، وما أظن أنه يسلك على الطريق الجادة ثم سار جوبان على عجل، ويقطع الأراضي في اليوم الأول والثاني والثالث. وأما جوان شير فإنه جدّ في السير، وكلّما يقف فرس من الدشارات يعرقبه، ولم يزل كذلك حتى أشرف بمن معه على دربند كيلان، ثم جاوزوا الدربند، فإذا دوباح التقاهم ومعه ألف فارس وخمسمائة راجل، وذلك لأنه لما وصل إليه منكلي ومعه زنبور وأصحابه، وأخبره منكلي بأن جوان شير قد عوّل على أن يذهب ويسوق دشارات خربندا وأمرائه، ففزع من ذلك وخاف على جوان شير، وركب من وقته وساق بمن معه إلى أن التقى جوان شير، وكان آخر النهار، ولما رأى دوباج تلك الخيل تعجب منها، وكان لها أيام وهي في السوق والطرد، وفي الدربند عشب ومرعى ومياه تجري من تلك الجبال، فوقفت تلك الخيل في تلك المراعي واشتغلت بها. فقال لهم دوباج؛ انزلوا بنا نبيت في هذه الليلة ههنا ونستريح ونريح الخيل ونقوم وقت الصباح، فأجابوه إلى ئلك ونزلوا. ولما دخل الليل أخرج دوباج من أصحابه يزكا إلى باب الدربند فباتوا ليلتهم إلى الصباح، ثم عولوا على الرحيل، وإذا باليزك قد جاءوا من باب الدربند وأخبروا بأنهم رأوا غباراً قد ظهر من الدرب الذي جاءوا منه. فقال جوان شير: هذا والله خيل خربندا وقد جاءوا وراءه. فقال دوباج: تخّلى الدشارات، وتأخذ معك مائة فارس وتدبر لنا عليهم مكيدة، ثم إن جوان شير ودوباج وأصحابهما جميعهم ساروا إلى رأس الدربند، وإذا بالغبار قد نما ولحق بعنان السماء، فقال دوباج عندي رأي. فقالوا: وما هو؟ فقال: أنا أكمن خارج الدربند في لحف هذا الجبل بين الصخور والأحجار، ويقف جوان شير بجماعة مقدار سبعين أو ثمانين فارساً، فإذا رأوك يحملون عليك لأنهم لا يعتقدون أن معك أكثر من هؤلاء، فصابروا ساعة، ثم اهربوا واطلبوا الدربند، فإذا ساروا وراءك وعبروا إلى الدربند أخرج أنا من خلفهم، وأملك عليهم الدرب، وترد أنت أيضاً بمن معك "......... ".

ذكر مقتل هيثوم صاحب سيس

وسار الوزير يطلب خربندا ومعه جماعة من أهل كيلان من أكابرها وأعيانها حتى وصلوا إلى خربندا، وحدثه الوزير بما جرى، فرضى خربندا بما وقع عليه الإنفاق، ثم خلع على هؤلاء وردهم إلى بلادهم في إكرام، ثم رحل خربندا، وسار حتى وصل إلى قنغر أولان، وإذا بها خراب، وقد وقع من قلعتها ثلاثة أبراج وبدنتان من الزلزلة، وخرب أكثر بيوتها، وأقام عليها ثلاثة أيام، ثم رحل حتى أتى تبريز، ونزل من قلعتها، ثم سيّر خلف أمرائه وملوك بلاده، فأتى جميعهم وجمعهم للمشورة، وتحدث معهم في الركوب إلى الشام، وذلك لأنه أمن من جهة كيلان ومن جهة خراسان. فقال رشيد الدولة: الرأي عندي أن تتركوا حديث الشام، وذلك لأن العسكر ضعيف، ولهم ثلاث سنين في البيكار، ووافقه الأمراء على كلامه، فسكتوا عن ذلك واشتغلوا بغيره. وسنذكر ما جرى بعده في السنة الآتية والتي بعدها إن شاء الله. ذكر مقتل هيثوم صاحب سيس قال بيبرس في تاريخه: وفيها: وئب مقدم من مقدمي التتار، كان مجرداً ببلاد سيس، مقدماً على التومان المقيم بها، اسمه برلغو على هيثوم صاحب سيس فقتله. قيل: كان السبب في ذلك أن برلغو قصد أن ينشىء مدرسة ببلد أذنه، ويجعل فيها مئذنة، فلم يوافق هذا رأي صاحب سيس، وأرسل إلى خربندا يشكوه ويقول له: إنه اتفق مع أهل الشام وواطأ بلاد الإسلام، فأطلع بعض أصحاب برلغو المقيمين بالأردو على ذلك، فأرسلوا يعرفونه بشكوى المذكور منه، فخاف على نفسه، وخطر له أن يحيل بالذنب على صاحب سيس ويحتال عليه، فعزم على أن يعمل له طوى وهي الوليمة ويدعوه، ورتب مع أصحابه إذا حضر واستقر به القرار يقتلونه فلما هيأ له الضيافة حضر إليه هو وإخوته وهم: الناق، وليون وأوشين، فما استقر بهم القرار إلا وقد وثب أصحاب برلغو عليهم وبذلوا السيوف فيهم، فقتب هيثوم والناق، وجرح برلغو، جرحه بعض الأرمن، فسار متوجهاً نحو الأردو، وأمسك شخصاً يسمى أيدغدي الشهرزوري من مماليك الأمير شمس الدين قراسنقر نائب حلب، كان عند صاحب سيس من جهة المشار إليه، وجهه له في طلب القطيعة، وعلم برلغو به، فأمسكه وأخذه معه على أنه إذا قدمه إلى خربندا يثبت فعله عن صاحب سيس في مواطأته للمسلمين ومراسلته لهم، ثم إن أخاً صاحب سيس المسمى ليون توجه إلى الأردو واستصحب معه نساء أخويه الذين قتلا، لابسات الحداد، متذرعات بالسواد، شاكيات من قتل أصحابهن، فلما وقف خربندا على الخبر أمر بقتل برلغو بالسيف، فقتل على مكانته، وأقر صاحب سيس على مملكته وأعاده إلى بلاده. ذكر ما اتفق لابن تيمية في هذه السنة وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر: اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بابن تيمية في دار الأوحد من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام، ثم تفرقا قبل الصلاة، وابن تيمية مصمم على عدم الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول: جاء الأمير حسام الدين مهنى ابن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه، وأقسم على الشيخ ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم لا يعود حتى يأتي معه إلى دار سلار: فاجتمع به بعض الفقهاء في دار سلار وجرى بينهم بحوث كثيرة، ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب، وبات تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان أول النهار، ولم يحضر أحد من القضاة، بل اجتمع هناك الفقيه نجم الدين ابن رفعة، وعلاء الدين بن الباجي، وتقي الدين ابن بنت سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدلان، وانفصل المجلس على خير، فبات الشيخ عند نائب السلطنة. وكان حسام الدين مهنى يريد أن يستصحبه معه إلى الشام، فأشار سلار بإقامة الشيخ مدة بمصر ليرى الناس فضله، ويجتمعوا به، وكتب الشيخ كتاباً إلى الشام بمضمون ما وقع من الأمور. ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الإجتماع به ليلاً ونهاراً. وفي بعض التواريخ: وفيها حضر إلى الأبواب الشريفة الأمير حسام الدين مهنى بن عيسى، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فخاطب السلطان في أمر الشيخ ابن تيمية، فأجاب سؤاله فيه، وأحضر مهنى بنفسه إلى الجبّ وأخرجه منه، ثم جرى ما ذكرناه.

ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة أو قطع

وفي شوال اجتمع نحو خمسمائة من الصوفية، وفيهم شيخ الشيوخ كريم الدين الآملي إلى الحاكم الشافعي، فاشتكوا الشيخ ابن تيمية من كثرة ما ينال من ابن عربي، فلم يثبت من ذلك شيء، وجرى كلام فيما يتعلق بالإستغاثة، فعنفه الحاكم وقال: هذا يعزز، ثم خيرته الدولة بين المسير إلى الإسكندرية أو إلى الشام بشروط، وبين الحبس، فاختار الحبس على ذلك. فأشار عليه بعض أصحابه بالشام، فاختارها، فأركب على البريد، فلما انفصل لحقه بريدي آخر فرده، ثم أحضره إلى الحاكم الشافعي فقال له: الدولة لا ترضى إلا بالحبس، فأناب القاضي شمس الدين التونسي المالكي. فقال: ما ثبت عليه شيء وامتنع أن يحكم، فأناب نور الدين الزواوي المالكي، فامتنع أيضاً. فقال الشيخ: أنا أمضي بنفسي إلى السجن من غير حكم للمصلحة، فحبس في حبس القاضي - في المكان الذي كان فيه تقي الدين بن بنت الأعز حين سجن - وجعل عنده من يخدمه، وكل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي، فأقام الشيخ في السجن مدة يستفتيه الناس ويزورونه ويتوالونه ويحبونه. وقال بعضهم: في شوال اجتمع الشيخ ابن عطا السكوني وشيخ الخانقاة وجميع الصوفية، فكانوا أكثر من خمسمائة نفس وطلعوا إلى القلعة، فلما وصلوها كان هناك جماعة من أرباب الصنائع، فاختلطوا معهم، فصاروا جمعاً كثيراً، فلما رآهم أهل الدولة قالوا لهم: اش مرادكم؟ قالوا: إن تقي الدين بن تيمية تكلم في مشايخ الطريقة وأنه قال: لا ينبغي أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسألوا أن يعقد لهم وله مجلس، فردوا الأمر في ذلك إلى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، ففوض ابن جماعة إلى القاضي تقي الدين الزواوي المالكي، فاقتضى الحال تسفيره إلى الشام، فسافر مع البريدي، ثم ردوه، وحبس بحبس الحاكم. وفيها: عقد مجلس بالقصر الأبلق لنجم الدين بن خلكان بحضور نائب السلطنة، وأحضروا مسطوراً كتب عليه بالتوبة في سنة أربع وسبعمائة، وذكروا أنه تجدد منه أمور بعد ذلك واختلفوا في أمره، فبعضهم أشار بقتله وبعضهم رأى ضربه وتعزيزه، ومنهم من جنح إلى استتابته وحبسه عن الناس، والرفق به، وهو الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين، فرسم نائب السلطنة أن يعمل بقوله، وانفصل الحال على ذلك، وكتب عليه مكتوب آخر بالتوبة والإقلاع عما صدر منه من الكلام في المغيبات، ووضع بالمارستان مدة، وأخرج منه وأقام بالنيرب. ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة أو قطع وفيها: تولى نيابة غزة الأمير ركن الدين بيبرس العلائي الحاجب، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا. وفيها: نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه وعدته، واستقال من إمرته، واختار الإنقطاع والتخلي عن الإقطاع، وارتجع خبزه، وأعطى للأمير يتخاص ومضى إلى القدس، وأقام ببلاد غزة. ذكر ما فعل الملك طقطا صاحب البلاد الشمالية ملك التتار وفيها: نقم طقطا على الفرنج الجنوية الذين بقرم وكفا والبلاد الشمالية، لأمور قيلت عنهم منها: استيلاؤهم على أولاد التتار واستجلابهم إلى هذه الأقطار وغير ذلك، فأرسل جيشاً إلى مدينة كفا وهي مسقط رؤوسهم، فأحسوا بوصولهم فتهيأوا في مراكب في البحر وركبوا وساروا إلى بلادهم، فلم يظفر التتار منهم بأحد، فنهب طقطا أموال من كان منهم بمدينة صراي وما يليها. ذكر العزم على تجهيز العساكر إلى اليمن وفيها: وقع عزم ولاة الأمور بمصر على تجهيز عسكر إلى اليمن، لأن صاحبها الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر صلاح الدين يوسف بن رسول منع الهدية التي كانت العوائد جارية بإرسالها إلى الأبواب السلطانية، فبرز المرسوم على أن كل مقدم ألف منهم يُعمر مركباً كبيراً يسمى جلبة، وقياسة لطيفة تسمى فلوة، برسم حمل الأزواد والآلات، وتسفيرها إلى جهة الطور والسويس على الظهر لتركب هناك وتُرمى في البحر وتُسّفر، فاشترك كل مقدم ألف ومضافيه في مركب وقارب، وندب عز الدين أيبك الشجاعي المشد إلى قوص لعمارة هذه المراكب، وانقضت هذه السنة والإجتهاد مستمر في ذلك، على أنه إذا تنجزت الأشغال توجه العسكر المجرد صحبة سيف الدين سلار.

فسأل أعيان الكارم الإمهال إلى أن يتوجه الرسل إلى صاحب اليمن ويعود الجواب، فأمهلوا، وأرسل القاضي شمس الدين بن عدلان والأمير سنقر السعيدي رسلاً إلى اليمن، وكُتب إلى صاحب اليمن كتاب من الخليفة ليتقدم بين يدي البعوث المجهزة بألفاظ مرجزة، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ". " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هُداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفق من اختاره إلى محجة صواب لا يضل سالكها، ولا تُظلم عند اختلاف الأمور مسالكها، ومُلهم من اصطفاه لإقتفاء آثار السنن النبوية، والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والإنتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سُدّته الجليلة برودها، وملّكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وصارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة، وشيدت بأحكامه مناهج الدنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كل منبر بذكره في ثوب من السيادة معلم، وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينار ودرهم، الذي يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة مُحوطة، ويُصلى على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تشييد المعالم الدينية فأقاموها على قواعدها، صلاة دائمة الغدو والرواح، متصلاً أولها بطرةّ الليل وآخرها بجبين الصباح، هذا وأن الدين الذي فرض الله على الكافة الإنضمام إلى شُعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطاً، وفي سلك أحكامنا مخروطاً، وقلّدنا من أمر الخلافة المعظمة سيفاً طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلامية، فإلى حُرمنا تُجبى ثمراتها، ويُرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إذا مضى في غابة شبله، ويلقى في الخبر والخبر مثله. ولما أفاض الله علينا حُلة الخلافة، وجعل محلنا الشريف محل الرحمة والرأفة، وأقعدنا على سدة خلافة طالما تشرفت بالخلائف من آبائها، وابتهجت بالسادة الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة من ملابس السؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، أمضينا على سدتنا الشريفة أمر الخاص والعام، وقلدنا كل إقليم من عملنا من يصلح سياستها على الدوام، واستكفينا بالكفاة من عمالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبة الإسلام، وقبة الإمام، وثانية دار السلام، تعين علينا أن نتصفح جرائد أعمالنا، ونتأمل نظام عمالنا، مكاناً فمكاناً، وزماناً فزماناً، فتصفحناها فوجدنا قطر اليمن خالياً من ولايتنا في هذا الزمن، عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه والممالك الإسلامية عيناً وقلباً، وصدراً ولباً وفوضنا إليه من الممالك الإسلامية فقام فيها قياماً ما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها، فهابه الإصدار، وغاته الإيراد، وهو السلطان الأجل السيد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جواباً لما ذكرناه، ولا عذراً عما أبديناه إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغييرات الأحوال، يرون الموت مغنماً إن صادفوه، وسبا المرهف مكسباً إن صافحوه، لا يشربون سوى الدماء مدامة، ولا يلبسون غير الترايك غمامة، ولا يعرفون طرباً إلا ما أصدره صليل الحسام من غنى، ولا ينزلون قفراً إلا ونبت ساعة نزولهم قنا.

ذكر قضية أبي ثابت المريني

ولما وثقنا منه بإيفادهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في مهالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولاً، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته خللاً، برز مرسومنا الشريف النبوي أن يكاتب من قعد على تخت ملكها، وتصرف في جيع أمور دواتها، فطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر الذي له شبهة تمسك بأذيال المواقف المستعصمية، وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات، أو ما تحقق الحال التي بين النفي والإثبات، أصدرناها إلى الرحاب الثغرية، والمعالم اليمنية، نُشعر من تولى فيها فاستبد، وتولى كبره، فلم يعرج على أحد أن أمراء اليمن ما برحت نوابنا، تحكم فيه بالولاية الصحيحة، والتفويضات التي هي غير جريحة، وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور ما تمشي به الجمال وئيداً، وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات وليداً، ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، ومجال معاهده ومُعاهده، ولك أسوة بوالدك فلان، هلاّ اقتضيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دونته أيدي الزمن من أخباره. واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك: منها: وهي العظمى التي ترتب عليها ما ترتب: قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه وادٍ غير ذي زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرق إليه بمنع. ومنها: انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث. ومنها: تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلو تلك الأماكن من أمر عقدنا وحلنا. ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال ولاتسعت فيه دائرة المقال، رسمنا بها، والسيف يود لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يود لو فات العلم، واهتز بتلك الروابي قدّه، والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب، وأهل العزم والحزم يودون إليك إعمال الركائب، والجوار المنشآت قد تكونت من ليل ونهار، وبرزت كصور الأفيلة لكنها على وجه الماء كالأطيار. وما عمدنا إلى مكاتبتك إلا للإنذار، ولا جنحنا إلى مخاطبتك إلا للأعذار، فاقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم في سلك من استخلفناه، فأخذ بيمينه ما أعطى من كتاب، وصُن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون في سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك، فلسنا نشن الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبه، ودان الله بما يجب من الديانة، وتقلد عقود الصلاح، والتحف مطارف الأمانة، ولسنا ممن يأمر بتجريد سيف إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله، ونزع عن مبايعتنا. فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقص عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدة دولته، وسيد قواعد صولته، ونستدعي منه رسولاً إلى مواقفنا الشريفة، ورحاب ممالكنا المنيفة، لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه، وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها، ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه، بعد أن يُصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمته وخفّ حملاً، وتعالى رتبةً وحسن مثلاً، واشرط على نفسك في كل سنة قطيعة ترفعها إلى بيت المال، وإياك ثم إياك أن تكون عن هذا الأمر ممن مال، ورتّب جيشاً مقيماً تحت علم السلطان الأجل الملك الناصر للقاء العدو المخذول التتار، ألحق الله أولهم بالهلاك وآخرهم بالبوار، وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة، وتواريخ سيرهم المنكورة، فأحرص على أن يخصك في هذا المشرب السائغ أوفر نصيب، وأن تكون ممن جهز جيشاً في سبيل الله، فرمى بسهم فله أجر، كان مصيباً أو غير مصيب، ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها، حاملاً أهله أعلامنا المنصورة، شاكراً بر مواقفنا المبرورة، وإن أبى حالك إلا أن استمريت على غيك، واستمريت مرعي بغيك، فقد، فقد منعناك التصرف في البلاد، والنظر في أحكام العباد حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرات حصونك، وتعجل حينئذ ساعة منونك. وما علمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهمناك غير ما حدسه لبك، ولا تكن كالصغير تزيده كثرة التحريك نوماً، ولا ممن غره الإمهال يوماً فيوماً، أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفقاً إن شاء الله. ذكر قضية أبي ثابت المريني

ذكر بقية الحوادث

قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة سار أبو ثابت عامر بن عبد الله ابن أبي يعقوب المريني لمحاربة يوسف بن أبي عياد متحفظ قلعة مراكش لخروجه عن الطاعة، فخرج يوسف لمحاربته والتقيا على مراكش، فكانت الهزيمة على ابن أبي عياد، فأُخذ أسيراً، وقُتل من جماعته تقدير ألف نفر، وعاد أبو ثابت إلى طنجة ظافراً، وكان بها أقدام من عرب رباح وغيرهم قد نافقوا عليه فقتلهم، وقتل منهم خلقاً، ثم أقام بطنجة فمرض ومات، وكانت مدته سنة وثلاثة أشهر وأياماً. وجلس بعده علي بن يوسف بن يعقوب، عمه، وذلك أنه كان مع العسكر لما مات ابن أخيه، فاستقر في الأمر وظن أنه يتم له فوثب عليه شخص اسمه عبد الله بن أبي مدين، كان وزير الدولة فخلعه لليوم الثاني من جلوسه، ووافقه العسكر على ذلك. ولما خلع على المذكور اتفق عبد الله الوزير مع الأشياخ ونصبوا سليمان ابن عبد الله وبايعوه، فاستمال الناس إليه، وأخرج الأموال المدخورة وفضها فيهم، وفرقها عليهم، وزاد في أعطيات بني مرين، وأحسن إليهم، وأبطل المكوس، ووضع المظالم، وأحسن إلى الرعية، فمالت إليه النفوس، وقبض على المخلوع، واعتقله بطنجة، واستوزر عبد الله المذكور وأقام ثنتين من بني مرين لجباية الأموال، أحدهما يسمى رجو بن يعقوب، والآخر إبراهيم ابن عيسى. وقال بيبرس أيضاً وفيها: خرج الشيخ أبو إدريس بن إبراهيم بن عيسى المريني ابن عم أبي يعقوب من المغرب قاصداً الحج، فاتفق وصوله إلى تونس في أواخر هذه السنة، فسأله صاحب تونس أن يتوجه إلى جزيرة جربة مقدماً على جيش جهزه إليها، فأجابه وأخر حجه وتوجه. ذكر بقية الحوادث منها: أنه جُرد الأمير شرف الدين أمير أحمد بن قُصرا التركمان، والأمير بدر الدين بيليك المُحسني إلى برقة لتمهيد العربان الثائرين بذلك الوجه، فساروا في شعبان وأوقعوا بأهل العصيان، واستاقوا إبلهم وعادوا. ومنها ما قاله بيبرس في تاريخه وفيها: مدّا النيل مداً أروى البلاد وشمل الربى والوهاد، وكان قد قصّر منذ سنوات عن المعتاد، وتضرر بتقصيره أهل السواد، فلطف الله تعالى في عامه وأجراه بإنعامه، فانتهت زيادته إلى تسعة عشر ذراعاً إلا ثلاثة أصابع، وكانت بركته كثيرة، وبلغ غاية ما بلغته الآمال العزيزة، وزُرعت البلاد زرعاً شاملاً، وخُضّرت تخضيراً كاملاً، وأقبل الزرع إقبالاً أعجب الزراع، فاهتزوا طرباً، وتاهوا به عُجباً وعَجباً، فلما كان في أواسط نيسان الموافق لشهر شوال من السنة العربية وبرمهات من السنة القبطية، وهو وقت كمال الغلة وختامها، وحين نهايتها وتمامها، أرسل الله تعالى عليها ريحاً زعزعاً، فخفقت من الحّب ما كان مُمرعاً، فهاف أكثر الزروع وجف معظم الضروع، حتى ترك أكثرها في الأرض بغير حصاد، وغالب الناس لم يسترد ما بذر، وأكثرهم من خسر وانكسر، ولم يتحصل للأمراء وأصحاب الإقطاعات إلا النذر اليسير من الغلات، واحتبسوا بأكثرها بالمسامحات تخفيفاً عن الفلاحين ورغبة في العمارة والتوطين، فكان ذلك كما قال عز من قائل في محكم تنزيله: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ". إلى قوله " لقوم يتفكرون ". وتميزت أسعار الغلال حتى انتهى القمح إلى خمسين درهماً الأردب، ثم انحط يسيراً بعد يسير بلطف المسهل كل عسير. وفيها: حج بالناس الأمير طغريل السلحدار الإيغاني، أميراً على الركب المصري، وبالركب الشامي الأمير سيف الدين بلبان البدري. ذكر من توفي فيها من الأعيان الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي، شيخ المنيبع. وكان التتار يكرمونه لما قدموا دمشق ولما جاء قطلوشاه نائب ملك التتار نزل عنده، وهو الذي قال لإبن تيمية حين تناظروا بالقصر: نحن ما يتفق حالنا إلا عند التتار وأما قدام الشرع فلا. الشيخ الصالح أبو حقص عمر بن يعقوب بن أحمد السعودي، توفي يوم الأربعاء ثاني جمادى الآخر منها. الشيخ فخر الدين عثمان بن جوشن السعودي، توفي فيها، وجلس أحد أولاده مكانه. الصدر الرئيس أمين الدين يوسف بن محمد بن رجب الرومي المحتسب بدمشق. مات فيها، ودفن بتربته جوار الصوفية، وكان مشكور في حسبته. أقام متوليها سنين، وعزل قبل موته بنصف سنة، ومات وهو ناظر المارستان النوري، وكان موصوفاً بالأمانة والكفاية في جميع أموره.

الصدر الكبير شرف الدين محمد بن فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد القيسراني الحلبي، أحد أعيان الموقعين بالديار المصرية. مات في مستهل شعبان بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان مشكور السيرة، حسن الطريقة، كثير التلاوة ولديه فضيلة مشهورة، وبيته مشهور، رحمه الله. أفضى القضاة جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم الشافعي المعروف بابن السقطي. مات بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى، كان مشكور السيرة في قضاياه، ناب في القاهرة مدة أربعين سنة، وترك القضاء في آخر عمره، ومولده سنة اثنين وعشرين وستمائة، ووفاته في حادي عشر شعبان منها. الشيخ الصالح أبو القاسم عمر اليونيني السّلاري. مات بزاويته خارج باب النصر بدمشق، كان رجلاً صالحاً خيراً، وهو ابن أخت الشيخ ناصر الدين السلاوي، ومولده في سنة خمس وعشرين وستمائة. الشيخ المسند شهاب الدين محمد بن أبي العز بن مشرف البزاز الأنصاري الدمشقي. مات بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان قد تفرد بالرواية عن ابن صبّاح، واشتهر بالرواية، وصار متسمعاً بدار الحديث الأشرفية، رحمه الله. الصاحب الكبير الفاضل تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الكبير الوزير بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المصري الدار والوفاة، المعروف بابن حنا. سمع من سبط السلفي جزء الذهلي، ومن الشرف المزيني بدمشق، مات بمنزله ببركة الحبش، وحمل إلى تربته بالقرافة بالقرب من مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكانت عنده رئاسة وحشمة وكرم نفس، وحسن عقيدة في الفقراء والصالحين، وجده لأمه الوزير شرف الدين الفائزي، وهو من بيت رئاسة ووزارة كابراً عن كابر، وهو الذي اشترى الآثار النبوية على ما يقال بأربعمائة ألف درهم، وهي قطعة من العترة، وبرود، ومخصف، وملقط، وقطعة من قصعة، وجعلها في المكان المعروف بالمعشوق، انتهت إليه رئاسة عصره بمصر، وكان يتباهى في المطاعم والملابس والمساكن، وكان كثير الصدقات والتواضع. قال القاضي شرف الدين بن فضل الله: اجتزت على تربته بالقرافة فرأيت إلى جانبها مكتباً للأيتام وهم يكتبون القرآن في الألواح، فإذا أرادوا مسحها غسلوا ألواحهم وسكبوا ذلك الماء على قبره، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا شرط الواقف، وهذا قصد جيد، وعقيدة صحيحة. وله شعر حسن، فمنه قوله: لله في الأحوال لطف جميل ... فاغن به عن ذكر قال وقيل ولا تفارق أبداً بابه ... فمنه قد جاء العطاء الجزيل واشكر على الإنعام فيما مضى ... كم أسبل الستر زماناً طويل وأخيبه المعرض عن بابه ... خلّى كريماً أم البخيل فقل لمن عدد أنعامه ... كل لسان عند هذا كليل وله موشح: قد انحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذحل يميل ... وعنه لا أميل يحول ... وعنه لا أحول أقول ... إذ زاد بي التحول أما حل عقد الصدود ينحل ... ويرحل عن نجمي المزحّل برغمي ... كم يستبيح ظلمي ويرمي ... بحربه لسلمي وجسمي ... مع التزام سقمي منحل وقد غدا مزحل ... فلم حل سفك دمي وما حل متوج ... بالحسن هذا الأبهج مدبخ ... عذاره البنفسج مفلح ... يرنو بطرف ادعج مكحل وريقه المنحل ... مفحل بالعنبر المحلل كم أبعد ... وكم أبيت مكمد ويعمد ... بهجره لا يفقد ويجهد ... في ارتضاء من قد تمحل والحاسدون دحّل ... ومحل والوعد منه أمحل قلاني ... واشترط هذا الجافي

رماني ... في عشقه زماني خلاني ... أشكو لمن يراني قد انحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذ حل وله أيضاً: بالله انشدوا لي فؤادي ... قد ضاع وقت الرحيل واستجيروا كل حادي ... واستوقفوهم قليل لا أوحش الله منكم ... يا أهل وادي العقيق والله مذ غبت عنكم ... انسان عيني غريق والقلب قد سار عنكم ... مرفقاً بذلك الرقيق غربتموه عن بلادي ... والظن فيكم جميل يهيم في كل وادي ... ما ترحموا ابن السبيل قد ذاب قلبي وطرفي ... وشرح حالي يطول ما تنظرون لضعفي ... أو تسمعوا ما أقول يا جفن ما صرت تخفي ... ما اشتكي عن عذول أشمت بي الأعادي ... كم ذا عليهم تميل قد سار عني رقادي ... وصار ليلي طويل فاشهد إن جزت نجداً ... فاقرىء عليها السلام وجز ديار..... ... وانزل بتلك الخيام وقل لهم مات وجداً ... قتل ذاك الغرام وإن صحبت فادي ... .................. في حبكم بالبعاد ... وليس عنكم بديل يا لائم الصب جهلاً ... دع عنك ما لا يفيد أكثرت في الحب عذلاً ... والصبر عنك بعيد وأنت يا شوق مهلاً ... كم ذا عليهم يزيد هذي العرب في البوادي ... ترعى ذمام النزيل من فضلهم والأيادي ... تلقاك ظل ظليل البرق يخق وهناً ... يحكي فؤادي الحزين والد تبكي حزناً ... في دارهم بالأفين والجسم أصبح مضني ... والقلب معهم رهين يا ساكناً بفؤادي ... ارحم خضوع الذليل فأنت مالك قيادي ... بكل فضل جزيل الأمير الكبير ركن الدين العجمي بيبرس الصالحي النجمي، المعروف بالجالق. أحد الأمراء البحرية، كان رأس الجمدارية في أيام الصالح نجم الدين أيوب، وأمره الملك الظاهر، رحمه الله، وكان من أكابر الدولة، كثير المال. وكان له مدة بالشام. مات بالرملة في منتصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس، وكان قد أسّن فكان آخر البحرية، وخاتمة الأمراء النجمية، رحمه الله. الأمير علاء الدين مغلطاي البيسري، توفي فيها بدمشق. الأمير بهاء الدين يعقوبا بن نور الدين بدل الشهرزوري. مات بالقاهرة، وكان من أكابر الأمراء مقدمي الألوف بالديار المصرية، وله مكانة عالية في الأيام الظاهرية، والمنصورية. وكان من فرسان المسلمين المشهورين، رحمه الله. الأمير شمس الدين الخضر الحلبي، المعروف بشلّحونه. كان في أيام الظاهر والي القاهرة، واستمر في الولاية أيام الظاهر والمنصور، ولما تولى الأشرف عزله وجعله شاد الدواوين لأنه كان ناهضاً أميناً في جميع ما تولاه، وعنده معرفة ومروءة وديانة، ولقب شلحونة زمن الولاية، لأنه كان إذا أراد أن يضرب أحداً يقول: شلحونه، فبقيت عليه لقباً. وكان والده أمير جاندار الملك الظاهر صاحب حلب. علاء الدين أيدمر السناني. مات فيها، ودفن بمقابر الحمزيين بدمشق. كان معروفاً بتعبير المنامات، وينظم الشعر الجيد، وخدم بقلعة دمشق، وبقي في مغارة بها. ومن شعره: سفرت فخلت الصبح حين تبلجا ... في جنح فودٍ كالظلام إذا شجا فتاته فتاكة من طرفها ... كم حاول القلب النجاة فما نجا نحلت نضير الغصن قامة قدها ... وحبت مهاة الجزع طرفاً أدعجا تفتر عن برد نقى برده ... بالرشف حر حشاشتي قد أثلجا ما إن دخلت رياض جنةٍ وجهها ... فرأيت عنها الدهر يوماً مخرجا لما رشفت رحيق فيها ظامياً ... فازددت إلا حرقة وتوهجا

تعطو برخص طرفته بعندم ... وتريك ثغراً كالأقاح مفلجا أنى نظرت إلى رياض جمالها ... عاينت ثم مفوقاً ومدبحا زارت وعمر الليل في غلوائه ... فغدا من الشمس البهية أبهجا وسرى نسيم الروض ينكر إثرها ... فتعرفت آثاره ونأرجا وله: ورد الورد فأوردنا المداما ... وأرح بالراح أرواحاً هيامي وأجلها بكراً على خطابها ... بنت كرم قد أبت إلا الكراما ذات ثغر جوهري وصفه ... في رحيق رشفه يشفي الأواما برقعت باللؤلؤ الرطب على ... وجنتها كالنار لا تألو ضراماً أقبلت تسعى بها شمس ضحى ... تخجل البدر إذا يبدو تماما بجفون بابلي سحرها ... سقمها أهدى إلى جسمي السقاما ونضير الورد في وجنتها ... نبته أنبت في قلبي الغراما ودّت الأغصان لما خطرت ... لو حكت منها التثني والقواما قال لي خالٌ على وجنتها ... حين ناديت أما تخشى الضراما منذ ألقيت بنفسي في لظى ... خدها ألفيت برداً وسلاما السلطان أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يعقوب المريني. توفي فيها بطنجة، وكانت مدة سلطته سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وجلس بعده علي بن يوسف بن يعقوب المريني، وقد مر خبر قضيته. والحمد لله وحده. يتلوه فصل فيما وقع من الحوادث في السنة: الثامنة بعد السبعمائة، إن شاء الله تعالى.

§1/1