عش مع الخلفاء والملوك

مرزوق بن هياس الزهراني

عش مع الخلفاء والملوك سيرة مختصرة تأليف الدكتور/ مرزوق بن هياس الزهراني

الطبعة الأولى 1437 هـ _ 2015 م {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} (¬1). ¬

(¬1) الآية (140) من سورة آل عمران.

الإهداء إلى صانع الحزمين خادم الحرمين الشريفين؛ الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أيده الله بنصره وتوفيقه، وأعز به البلاد والعباد، فلم يكن لنا عز إلا بالله ثم به وبجنوده البواسل، وشعبه الصادق الوفي، فنبارك جهوده في خدمة دينه وطنه وشعبه والأمة الإسلامية، لقد طرق بابا بَزَّ فيه الأقران اليوم بقيادة المملكة العربية السعودية لعاصفة الجزم الأول لنجدة الشعب اليمني، فأرسى نواة مباركة في وحدة الصف العربي الإسلامي، وجدد الآمال في النفوس الأبية بنجدة جار طلب الغوث لحمايته من دمار شامل، ولحماية حدود أرض الحرمين مهبط الوحي، ومهوى أفئدة المسلمين فلا يطالها عبث عابث من قريب أو بعيد، وهو اليوم الرابع من ربع الأول (1437 هـ) الموافق الخامس عشر من ديسمبر (2015 م) يعلن الحزم الثاني التحالف الإسلامي العسكري، ولئن كانت نواة التحالف العربي اثنتا عشرة دولة ونطلب المزيد، فإن نواة التحالف الإسلامي العسكري أربعا وثلاثين دولة، وننتظر المزيد، فمرحى ومرحبا لباني الوحدة الإسلامية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود فله مني ومن أبنائي ومن الشعب السعودي تحية ولاء وإكبار على هذا الإنجاز العظيم، إنجاز لا يصنعه إلا العظماء، والتحية موصولة لقادة التحالفين الأول العربي، والثاني الإسلامي، شكر الله لهم المسعى، وبارك في الجهود، وخيب الله كيد الأعداء وأطماع الطامعين، ولك يا سلمان خالص الدعاء، وصادق الولاء، أعدها جذعة للإسلام والمسلمين. المؤلف

المقدمة

المقدمة الحمد لله القائل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1) وقوله هذا موافق لقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، وَعَدَ عباده المؤمنين التمكين في الأرض فقال - عز وجل -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3)، وتحقق وعد الله - عز وجل - والله لا يخلف الميعاد، فتح الله لعباده المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم الدول، وبإخلاصهم لله - عز وجل -، وعملهم بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين والحق هزموا أعظم دولتين في ذلك الوقت؛ فارس والروم، وهذا الوعد لا يتخلف عن مؤمن صدق مع الله - جل جلاله - إلى قيام الساعة، ولن يمكِّن الله - عز وجل - غير عباده المؤمنين إلا بتخلف منهم عن العمل بطاعته. وصلى الله وسلم وبارك على سيد الاولين والآخرين نبينا محمد القائل في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله» (¬4)، فما أعظمها من وصية يتحقق بها ما وعد الله - عز وجل - عباده المؤمنين. ¬

(¬1) الآية (140) من سورة آل عمران. (¬2) الآية (26) من سورة آل عمران. (¬3) الآية (55) من سورة آل النور. (¬4) البخاري حديث (5900) ومسلم حديث (2347).

ورضي الله عن آل بيت سيدنا محمد وأصحابه الأبرار، ولعن الله أعداءهم الزنادقة الفجار. أما بعد: فقد تاقت النفس إلى مطالعة سير الرعيل الأول من الخلفاء والملوك في الإسلام، والتعرف باختصار على بعض من سيرهم، وما ذكر من محامد أو مثالب لتكون عظة وعبرة لمن طالع ما دونت، ومن المعلوم أن فجر الإسلام طلع بمبعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغه السن الذي بُعث فيه - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو أربعون سنة؛ سِنُّ اكتمال الأشد وقوة العقل، وهذه سُنة في الأنبياء قال تعالى في يوسف - عليه السلام -: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬1)، وقال تعالى في موسى - عليه السلام -: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬2)، وكذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - روى ذلك الأئمة الأثبات عن أنس - رضي الله عنه - قال: «بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء» (¬3)، هذا على قول أن عمره - صلى الله عليه وسلم - ستون سنة، فأسفر صبح الإسلام في مكة بنزول الوحي على رسول الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬4)، وأشرق فجر الإسلام بهجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى مهاجره الذي اختاره الله له؛ وهو المعروف في الجاهلية "بيثرب" وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيبة؛ وهي المدينة المنورة اليوم ولها أسماء كثيرة، تنمي عن حب المؤمنين لها ومكانتها العظيمة عندهم، جعلنا الله من محبيها، وممن يحسن الجوار فيها، وكانت الهجرة بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة، فيكون عمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته ثلاثا ¬

(¬1) الآية (22) من سورة يوسف. (¬2) الآية (10) من سورة القصص. (¬3) البخاري حديث (3548) ومسلم حديث (2347). (¬4) الآية (10) من سورة القصص ..

ونبدأ في الحديث عن ضحى الإسلام عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -.

وخمسين سنة، واكتمل الشروق في أجمل صورة، في حياة يسودها العدل الكامل، والرحمة والطهر والعفاف وتكوّن أنظف مجتمع عرفته الدنيا، كان سيده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكد ضحى الإسلام ينير طيبة لينبثق منها إلى أقطار الأرض حتى فجع المجتمع الإسلامي في طيبة بأعظم مصيبة أصيب بها كل مؤمن إلى يوم القيامة، وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعظم منها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته فإنها من أعظم المصائب» (¬1)، وكان هذا الحدث الجلل في ربيع الثاني بعد عودته من حجة الوداع في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وعمره - صلى الله عليه وسلم - ثلاث وستون سنة، قال أنس - رضي الله عنه -: " لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء" (¬2). نسأل الله أن يجمعنا به وبإخوته الأنبياء والصحب الكرام في الفردوس الأعلى من الجنة بفضله وكرمه. هنا نقف عن التفصيل في العهد النبوي وهو موقف عظيم، فمن يجرؤ على تقييم نهج نبي يخاطبه الوحي صباح مساء، اللهم لا أحد إلا سفيها فارق سنة العقلاء، وقد أوضحت هذا في كتابي "الهادي والمتهدي". ونبدأ في الحديث عن ضحى الإسلام عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -. أولهم: أبو بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو عبدالله بن أبي قحافة واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي التيمي، لم يختلفوا في اسمه ولا اسم أبيه، وكذلك لم يختلفوا أن لقبه عتيق. ¬

(¬1) الدارمي حديث (85) بتحقيقي، صححه الألباني. (¬2) مسند أحمد حديث (13830) صحيح.

الثاني: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

وأمه أم الخير؛ واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وقد ذُكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: من أكبر، أنا أو أنت؟ ، فقال: بل أنت أكبر وأكرم وخير مني، وأنا أسن منك. والصحيح أنه أصغر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد استوفى أبو بكر - رضي الله عنه - مدة خلافته سِنَّ رسول الله - رضي الله عنه -، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، في ليلة الثلاثاء، لثمان ليال بقين، أو سبع بقين، من جمادى الآخرة، بين المغرب والعشاء. ودفن عشاء من ليلته، سنة ثلاث عشرة (¬1)، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم -، وهو أفضل الناس على الإطلاق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم تشبه شائبة، ولم يقدح فيه إلا الزنادقة. فهو أول من جمع القرآن في مصحف، زَبَرَهُ بالمزبر: وهو القلم، وأتقنه، والمزبور هو المكتوب (¬2)، وقد استوفيت الكلام عنه في كتابي "الهادي والمهتدي". الثاني: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن قرط بن رياح بن عبدالله بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة. وإذا قيل: العدوىّ، فهو نسبة إلى عدي بن كعب (¬3). وأمه حنتمة بنت هاشم ذي الرمحين بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة, وهي بنت عم خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، ومن قال فيها: حنتمة بنت هشام بن المغيرة فقد وهم؛ لأن هشام بن المغيرة هو أخو هاشم والدها، وهشام هو والد أبي جهل، وهو ابن عم خالد بن الوليد، فالثلاثة أبناء العم: خالد بن الوليد بن المغيرة، وحنتمة بنت ¬

(¬1) باختصار من الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/ 1614، تأريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 174، 217، تأريخ الطبري 3/ 418. (¬2) انظر: المحيط في اللغة 2/ 296. (¬3) المعارف 1/ 179.

هاشم ذي الرمحين بن المغيرة، وأبو جهل الحارث بن هشام بن المغيرة, كنيته أبو الحكم، وكنّاه الصحابة أبا جهل لعدم قبوله الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكان عمر - رضي الله عنه - أول من لقب بأمير المؤمنين، كان يكتب "من خليفة خليفة رسول الله" وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى عامل العراق أن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة، ودخلا، فوجدا عمرو ابن العاص، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل عليه عمرو فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ لتخرجن مما قلت، فأخبره، وقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب بذلك من يومئذ. هو أول من كتب التاريخ بالهجرة، وأول من اتخذ بيت المال، وأول من سن قيام شهر رمضان، وأول من عسَّ (¬2) بالليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من ضرب في الخمر ثمانين، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات، وأول من اتخذ الديوان، أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كُتَّاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بعدها الأقرب فالأقرب، وأول من فتح الفتوح ومسح السواد بالعراق، وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة، وأول من احتبس صدقة في الإسلام، وأول من أعال الفرائض، وأول من أخذ زكاة الخيل، وأول من أخذ زكاة العسل، وأول من قال: أطال الله بقاءك، قاله لعلي - رضي الله عنه -، وأول من قال: أيدك الله قاله لعلي - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) بتصرف المؤتلف والمختلف للدارقطني 2/ 914. (¬2) حراس لحماية الممتلكات العامة والخاصة، وهي ما يسمى بالدورية الأمنية اليوم.

الثالث: عثمان بن عفان - رضي الله عنه -

وهو أول من استقضى القضاء في الأمصار، وأول من مصّر الأمصار: الكوفة، والبصرة، والجزيرة، والشام، ومصر، والموصل (¬1). ومر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال: "نور الله على عمر في قبره كما نور علينا في مساجدنا". واتخذ عمر - رضي الله عنه - دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق، والسويق، والتمر، والزبيب، وما يحتاج إليه: يعين به المنقطع، ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطريق ما يصلح من ينقطع به، وهدم المسجد النبوي، وزاد فيه ووسع، وفرشه بالحصباء، وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشام، وأخرج أهل نجران إلى الكوفة، وهو الذي أخَّر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم، وكان ملصقًا بالبيت، وهو أول من اتخذ الدرة، وكان ناصرا للحق قامعا للباطل، فقيل: لَدُرة عمر أهيب من سيفكم (¬2). وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنه وأرضاه. مات أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - مقتولا يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، قتله أبو لؤلؤة فيروز المجوسي في صلاة الصّبح، وقد كتب الله له الشهادة على يد ذلك المجوسي الخاسر في الدنيا والآخرة. وقد استوفيت الكلام عنه في كتابي "الهادي والمهتدي". الثالث: عثمان بن عفّان - رضي الله عنه -: وهو عثمان بن عفّان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة، يكنى: أبا عمرو، وأبا عبدالله، وأبا ليلى، اجتمع في النسب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، ومع معاوية في أمية، وأم عثمان - رضي الله عنه - ¬

(¬1) تأريخ الخلفاء 1/ 110، والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 3/ 103. (¬2) تأريخ الخلفاء 1/ 110، والمنتظم 4/ 266.

أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أمها: البيضاء بنت عبد المطلب، وهي بنت عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولد عثمان - رضي الله عنه - في السنة السادسة بعد عام الفيل. وأسلم قديمًا، وهو ممن دعاه الصديق إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة. وتزوج رقية بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة، وماتت عنده في ليالي غزوة بدر، فتأخر عن بدر لتمريضها، بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضرب له بسهمه وأجره، فهو معدود في البدريين بذلك. وجاء البشير بنصر المسلمين ببدر يوم دفنوها بالمدينة، فزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها أختها أم كلثوم، وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة. قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، ولذلك سمي ذو النورين: فهو من السابقين الأولين، وأول المهاجرين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن - رضي الله عنهم -، وقال ابن سعد: استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، وإلى غطفان. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث، وستة وأربعون حديثًا (¬2). اشترى عثمان الجنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين: لما حفر بئر رومة المعروفة اليوم في المدينة ببئر عثمان ولما جهز جيش العسرة. ¬

(¬1) المعارف 1/ 191. (¬2) تأريخ الخلفاء 1/ 118.

وفي سنة ست وعشرين زاد عثمان في البيت الحرام، ووسعه واشترى أماكن للزيادة، وفي سنة تسع وعشرين زاد عثمان في مسجد المدينة ووسعه، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من الحجارة، وسقَفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع (¬1). وهو وأول من زاد الأذان في الجمعة، لتنبيه الناس في السوق إلى وقت الجمعة، وأول من جعل للمؤذنين رواتب من بيت المال. وهو أول من اتخذ صاحب الشرطة، وكان على شرطته عبدالله بن قنفذ من بني تيم قريش وحاجبه حُمران بن أبان وأول من أكثر من الإقطاعات (¬2)، ولما زادت إبل الصدقة زاد في الحمى، وقد سبقه إلى ذلك عمر رضي الله عنهما، ولما فتحت هذه البلاد الواسعة كثر الخراج على عثمان، وأتاه المال من كل وجه، حتى اتخذ له الخزائن وأدر الأرزاق، وكان يأمر للرجل بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف أوقية، وكان على بيت المال عبدالله بن أرقم ثم استعفى فأعفاه، وكان كاتبه مروان ابن الحكم (¬3). قتل يوم الجمعة لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة، بعد أن حجّ بالناس عشر سنين متوالية، والسنة التي قتل فيها أقام لهم الحج عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وصلّى بالناس في بالمدينة وخطبهم على بن أبى طالب - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) تأريخ الخلفاء 1/ 122. (¬2) تأريخ خليفة بن خياط 1/ 179. (¬3) تأريخ الطبري 4/ 354، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 179.

الرابع: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

ودفن ليلا في البقيع، بأرض اشتراها فزادها توسعة في البقيع، وكانت ولايته اثنتي عشرة سنة، إلا اثنتي عشرة ليلة (¬1). ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، كان القتلة أوباش وسفهاء وزنادقة قدموا من مصر والشام والعراق. وقد استوفيت الكلام عنه في كتابي "الهادي والمهتدي". الرابع: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: آخر الخلفاء الراشدين، المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم -، وهو عليّ بن أبى طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكنى: أبا الحسن رضي الله عنهما. أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أسلمت وهي أوّل هاشمية ولدت لهاشميّ (¬2). وفي سنة ثلاثين من ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولد علي بن أبي طالب، ونشأ في كنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو ربيبه ومعلمه الخير والهدى (¬3). وثبتت إمامة علي - رضي الله عنه - بعد عثمان - رضي الله عنه - بعقد مَن عقدها له من الصحابة - رضي الله عنهم -، من أهل الحل والعقد، قال عمر - رضي الله عنه - "لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من حمر النعم" قيل: وما هن يا أمير المؤمنين؟ ، قال: "تزويجه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسكناه المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل له فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر". ¬

(¬1) انظر: المعارف 191 ـ 198 بتصرف. (¬2) انظر: المعارف 1/ 203. (¬3) إنارة الدجى في مغازي خير الورى 1/ 760.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نقول على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبو بكر، ثم عمر، "ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم: تزوج فاطمة، وولدت له، وغلَّق الأبواب غير بابه" (¬1)، ودفع الراية إليه يوم خيبر (¬2)، وهذه مما خص به علي - رضي الله عنه -، أما ولايته بعد عثمان رضي الله عنهما فلم يدَّعِها أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد أجمعوا على فضله وعدله، وأحقيته بالخلافة، وقد حان وقتها له - رضي الله عنه -، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقا، لعلمه أن ذلك ليس وقت قيامه، لم يحتجّ علي - رضي الله عنه - على أحقيته بنصٍ من الكتاب ولا من السنة، لا بحديث الغدير ولا بغيره، وإنما ظن أنه الأحق لقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبا وصهرا، ولو علم إشارة واحدة في كتاب الله - عز وجل - أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تحتمل التأويل على أحقيته بالخلافة لبادر إلى ذكرها والاستشهاد بها، ولكان أبو بكر وعمر وبقية الصحابة من أطوع الناس لعلي - رضي الله عنهم - تنفيذا لما أورد، وقد كان عليٌّ الخليفة الراشد - رضي الله عنه - ذكيا حافظا، فقد استدل على خطأ الزبير، قال علي للزبير رضي الله عنهما: تذكر يوم مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني غَنْم فنظر إليَّ فضحك وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له» قال الزبير: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً، فانصرف عليٌّ - رضي الله عنه - إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم، ورجع الزبير - رضي الله عنه - إلى عائشة رضي الله عنها فقال لها: "ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا"، ¬

(¬1) المراد الأبواب التي تفتح على السجد، ومنها بيت علي - رضي الله عنه -، وكذلك بين أبي بكر - رضي الله عنه - لم يغلق. (¬2) البداية والنهاية 7/ 341، والسنة لابن أبي عاصم حديث (5601) ..

قالت: "فما تريد أن تصنع؟ " قال: "أريد أن أدعهم وأذهب" (¬1)، فكيف يستدل على خطأ الزبير - رضي الله عنه -، ولا يستدل على الإمامة الكبرى، لم يكن ذلك من الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - إلا لعدم مجرد الإشارة فضلا عن النص على إمامته، وأنه قلما كان لنفسه في وقت الخلفاء قبله، ثم لما صار الأمر أظهر وأعلن، ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد - رضي الله عنه -، كما مضى من قبله من الخلفاء، أئمة العدل على السداد والرشاد، متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، هؤلاء هم الأئمة الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم أجمعين، هم أصحاب الخلافة الراشدة، المأمور باتباع ما سنوا، قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور» (¬2)، وهذا علي رابع أربعة هم الخلفاء الراشدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم من العشرة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم -. وقد استوفيت الكلام عنهم في كتابي "الهادي والمهتدي". هذا ضحى الإسلام صفوة الزمن بعد زمن رسول الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، انصرم ويتلوه ظهر الإسلام وهو بداية الحكم بعد الخلافة الراشدة، وهو ملك وليس خلافة، وإنما جرى إطلاق الخليفة على ما عهد الناس في الخلافة الراشدة، يبين هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت، يُستحل فيها الخمر، والحرير» (¬3)، وهذا ما حدث فعلا، ومن هنا يبدأ ¬

(¬1) الكامل 2/ 44 .. (¬2) أبو داود حديث (4607). (¬3) فيه انقطاع بين مكحول الشامي، وأبي ثعلبة، واختلاف على ذكر أبي وهب، وأخرجه أبو داود الطيالسي (المسند رقم 228) وأبو يعلى (المسند 1/ 177، رقم 873، 874) والبزار (كشف الأستار 2/ 232، رقم 1589) والطبراني (المعجم الكبير 20/ 53، رقم 91، 92) ومعناه صحيح.

ظهور ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سير الحكم لا على الإطلاق بل المراد برهة من الوقت فقال - صلى الله عليه وسلم -: «الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة والأمانة في الأزد» (¬1)، ولا يكون على الإطلاق ما لم يتمسك الملك بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصا وروحا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله» (¬2). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (¬3)، في بعض طرق الحديث الصحيحة «كلهم يجتمع عليه الناس» فالمراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم عمر - رضي الله عنه -، ثم عثمان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فلقب معاوية يومئذ بالخليفة، ثم اجتمع الناس على معاوية - رضي الله عنه - عند صلح الحسن - رضي الله عنه -، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين - رضي الله عنه - أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبدالملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبدالعزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبدالملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ¬

(¬1) أحمد حديث (8761) رجاله ثقات. (¬2) مسلم حديث (1218). (¬3) مسلم حديث (1821).

تلا ظهر الإسلام بدءا بخلفاء بني أمية؛ وهم أربعة عشر خليفة

ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، فلم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبدالملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة، ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك، فعلى هذا يكون المراد بقوله ثم يكون الهرج: يعني القتل الناشئ عن الفتن، وقوعا فاشيا يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان والله المستعان (¬1). انتهى ضحى الإسلام بخلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. تلا ظهر الإسلام بدءًا بخلفاء بني أمية؛ وهم أربعة عشر خليفة: الأول: الصحابي معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، ولو لم يكن له من الفضل إلا الصحبة، وكتابة الوحي بين يدي رسول الله لكفى، وآخرهم مروان الجعدي، نسبة إلى الجعد بن درهم القائل بخلق القرآن، وكانت مدة ملكهم نيفاً وتسعين سنة؛ بذكر خلافة عبدالله بن الزبيرً (¬2)، من سيئات بعض خلفاء بني أمية إباحتهم سب علي - صلى الله عليه وسلم -، من سنة إِحدى وأربعين؛ السنة التي خلع الحسن فيها نفسه من الخلافة، إلى أول سنة تسع وتسعين، آخر أيام سليمان بن عبدالملك، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، كتب إِلى نوابه: بإبطاله، ولما خطب يوم الجمعة، أبدل السب في آخر الخطبة ¬

(¬1) فتح الباري 13/ 214. (¬2) المختصر في أخبار البشر 1/ 184، بتصرف.

بقراءة قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1) فلم يسب علي بعد ذلك. واستمر الخطباء على قراءة هذه الآية، إلى يومنا هذا، وزال المنكر والحمد لله. لذلك مدحه كثير بن عبدالرحمن الخزاعي فقال: وُلِّيت فلم تشتم علياً ولم تُخفْ ... برياً ولم تتبع سجية مجرمِ وقلتَ فصدَّقتَ الذي قلتَ بالذي ... فعلتَ فأضحى راضياً كل مسلم. ومن سيئات بعضهم مواظبتهم على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع، إلا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وشدتهم على أولاد علي - رضي الله عنهم - (¬2)، وصحح بعض العلماء حديث «إذا بلغ بنو العاص ثلاثين: اتخذوا دين الله دغلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولاً» (¬3)، وربما انطبق هذا على بعضهم. وقد ألصقت ببني أمية تهم، هي افتراءات صنعتها الخلافات السياسية، وهذا لم تسلم منه أي دولة على وجه الأرض، من عهد أبي بكر - رضي الله عنه - إلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة. ¬

(¬1) الآية (90) من سورة النحل. (¬2) المختصر في أخبار البشر 1/ 201، البداية والنهاية ط إحياء التراث 9/ 106، بتصرف. (¬3) أخرجه أبو يعلي حديث (1152) والحاكمُ 4/ 480.

أما معاوية - رضي الله عنه - فهو الخليفة الخامس على ترتيب الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الملك الأول من ملوك بني أمية

أما معاوية - رضي الله عنه - فهو الخليفة الخامس على ترتيب الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الملك الأول من ملوك بني أمية بعد تحول الحكم من الخلافة الراشدة إلى الملك. وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدشمس بن عبد مناف بن قصي، الأموي، أبو عبدالرحمن، أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، وشهد حُنينًا وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان أحد الكتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولد معاوية بن أبي سفيان في سنة أربع وثلاثين من ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا (¬3). من أقواله: قال لشاب من قريش دخل عليه فأغلظ، فقال له معاوية - رضي الله عنه -: يا ابن أخي، أنهاك عن السلطان يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد، كتب زياد إلى معاوية في رجل، فكتب إليه معاوية "إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسوس الناس بسياسة واحدة؛ أن نلين جميعًا فتمرح الناس في المعصية، أو نشتد جميعًا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون للشدة والفظاظة، وأكون للين والرأفة" (¬4)، وذكروا الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية وهي امرأة من أهل الكوفة شهدت مع قومها صفين وكان لها لسان وعقل فقال معاوية: "أيكم يحفظ كلامها يوم صفين قال القوم كلهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال ما تشيرون عليَّ في أمرها قال بعضهم: ¬

(¬1) وهو تأريخ الخلفاء 1/ 148. (¬2) إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم 1/ 760. (¬3) تأريخ الخلفاء 1/ 148. (¬4) تأريخ الخلفاء 1/ 154.

نشير عليك بقتلها، قال: بئس الرأي أشرتم، أيحسن بمثلي أن يتحدث عنه أنه قتل امرأة بعد أن ظفر، فكتب إلى عامله بالكوفة أن أوفد إليّ الزرقاء بنت عدي مع ثقة من محرمها وعِدة من فرسان قومها ومهد لها وطاءً ليناً، واسترها بستر حصيف، وأوسع عليها في النفقة". فأرسل إليها فاقرأها الكتاب فقالت: "أما أنا فغير زائغة عن طاعة؛ فإن كان أمير المؤمنين جعل الاختيار لي لم أرم من بلدي هذا، وإن كان حتم الأمر فالطاعة له" فحملها في هودج جعل متناه خزا مبطنا بعصب اليمن، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها: "مرحبا وأهلا، خير مقدم أقدموك وأفضل، كيف أنت يا خالة؟ ، وكيف كان مسيرك؟ " قالت: "خير مسير؛ كأني كنت ربيبة بيت، أو طفلا في مهد"، قال "بذاك أمرتهم، فهل تعلمين لم بعثت اليك؟ "، قالت: "لا يعلم الغيب إلا الله"، قال: "ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين، وأنت بين الصفين توقدين الحرب وتحضين عليها؟ "، قالت: بلى، قال: "فما حملك على ذلك؟ "، قالت: "يا أمير المؤمنين، إنه قد مات الرأس وبتر الذنب، والدهر ذو غِيَر، ومن تذكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر"، قال لها: "صدقت فهل تحفظين كلأمك؟ "، قالت: "والله ما أحفظه"، قال: "لكني والله أحفظه، لله أبوك لقد سمعتك تقولين: أيها الناس إنكم في فتنة غشيتكم جلابيب الظلم، وحادت بكم عن قصد المحجة، يا لها من فتنة عمياء صماء، لا يُسمع لداعيها ولا يُنقاد لسائقها، أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكوكب لا ينير في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الدق لا يوازي الحجر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبرا يا معاشر المهاجري والأنصار على المضض، فكان قد التأم شعب الشتات، وظهرت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنَّى، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولله عاقبة الأمور، إن خضاب النساء الحناء، وإن

خضاب الرجال الدماء، ولهذا ما بعده والصبر خير في العواقب، إِيْهِ إلى الحرب قُدُما غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده". قال معاوية: "يا زرقاء لقد اشركت عليا في كل دم سفكه"، فقالت: "أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك، مثلك من بشر بخير سَرَّ"، قال لها: "وقد سرك ذلك؟ "، قالت: "نعم وأنَّى لي بتصديقه"، فقال معاوية: "والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليَّ من حبكم له في حياته، أذكري حاجتك"، فقالت: "يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألا أسال أحدا أعنت عليه أبدا شيئا، ومثلك من أعطى من غير مسالة، وجاد عن غير طلبة"، قال: صدقت، ثم أقطعها ضيعة استغلتها في أول سنة عشرة آلاف درهم (¬1). ولم يرض معاوية من أخته أم الحكم تفضيله على علي رضي الله عنهما، بل قال لها معاوية: "يا أختاه لا يَكذبَنَّك ظنك، ولا يبعد عنك ذهنك، والله ما عادلتُ عليا قط، فكيف وهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم من ولد إبراهيم الخليل - عليه السلام -، وكان عبد المطلب بن هاشم جواد العرب، وفارس الكُرب، المطعم بالسَّغَب، وكان أبو طالب السهل الطريقة، الحامي الحقيقة، وكان علي بن أبي طالب قاضي الأمة، وأعظمهم فخرا، وأكرمهم مجدا، حامي الذمار، عزيز الجار، صهر الرسول، وسيد الكهول، وزوج البتول، فأيم الله لأُصْبِحَنَّ جالسا ولأُسْمِعَنَّكِ ممن وفد عليَّ من سائر العرب خلاف ما ظننت، وغير ما وصفت" (¬2). وأخذ معاوية يستثير من يدخل عليه ليسمع أخته ثناءهم على عليِّ - رضي الله عنه -، لتعلم أن المقدم علي رضي الله عنهما. ¬

(¬1) أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان 1/ 63. (¬2) أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان 1/ 63.

وقال معاوية - رضي الله عنه -: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"، قالوا: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ ، قال: "كنت إذا أرخوها شددتها وإذا شدوها جررتها" (¬1). توفي معاوية - رضي الله عنه - بدمشق يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وأربعة أشهر إلا ليال، وكانت له يوم مات ثمان وسبعون سنة (¬2). وهو أول من اتخذ الخصيان: الخصي: هو من قُطع خصاه، والمجبوب: من قُطع ذكره، واختير أنهما في حرمة النظر إلى النساء كغيرهما من الأجانب، وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يُعتد برأيه، وهو على ما قيل: أول من اتخذ الخصيان، وعن ميسون الكلبية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله تعالى، وليس لأحد أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء (¬3). ومعاوية هو أول من اتخذ ديوان الخاتم لختم الكتب؛ وأول من اتخذ البريد في الإسلام (¬4). وأول من استحلف الناس على الوفاء بالبيعة، وأول من عهد إلى أحد أبنائه، وهو يزيد، ولم يجعل الأمر شورى (¬5)، فانتقل من الخلافة إلى الملك. ¬

(¬1) تهذيب الرياسة وترتيب السياسة 1/ 131، ولعل الصواب: وإذا شدوها أرخيتها، أو أجريتها، فإن الجر ريف الشد. (¬2) صحيح ابن حبان 15/ 39. (¬3) روح المعاني 9/ 339. (¬4) صبح الأعشى 1/ 470. (¬5) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 1/ 471.

الثاني من ملوك بني أمية: يزيد بن معاوية

كان من قواده جنادة بن مالك الزهراني - رضي الله عنه -، كان من صغار الصحابة، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، وكان قائدا بحريا، على الصوائف فتح جزيرة رودس، وجزيرة طرسوس سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، وفي سنة أربع وخمسين من الهجرة فتح جزيرة أرواد وهي قريبة من القسطنطينية، وأقام المسلمون بها سبع سنين، فأتاهم خبر وفاة معاوية - رضي الله عنه -، وأمر يزيد بن معاوية بعودة القائد جنادة ومن معه، وشارك جنادة في فتح مصر، وعرض عليه معاوية استلحاقه أخا فرض جنادة ذلك العرض. الثاني من ملوك بني أمية: يزيد بن معاوية: الخليفة السادس، من ملوك بني أمية، وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدشمس، أبو خالد الأموي، ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع في حياة أبيه على أن يكون وليَّ العهد له الخلافة من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متوليا إلى أن توفي. وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي، طلقها معاوية وهي حامل بيزيد، وقيل: رأت في النوم كأن قمرا خرج من قبلها، فقصت رؤياها على أمها، فقالت: لئن صدقت رؤياك لتلدين من يبايع له بالخلافة. روى عن: أبيه، وحج بالناس سنة إحدى وخمسين، وسنة اثنتين، وسنة ثلاث. وقيل: خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله، فبلغه ما أمَّلت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك (¬1). ¬

(¬1) البداية والنهاية ط إحياء التراث 8/ 248، تأريخ الإسلام ط التوفيقية 5/ 162, 163.

توفي لأربع عشرة خلت من ربيع الأول من سنة أربع وستين، بقرية من قرى حمص يقال لها: حوارين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثين، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر (¬1). الخليفة السابع: عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه -: ليس من ملوك بني أمية، وهو بمسمى الخلافة الصق، حُصر بمكة، وهو عبدالله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر ويقال له: أبو خبيب القرشي الأسدي، أول مولود ولد بعد الهجرة بالمدينة من المهاجرين، على رأس عشرين شهرا من المهاجر، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المسلمون قد تحدثوا بينهم أن اليهود قد سحرتهم، فلا يولد لهم، وكان تكبيره - صلى الله عليه وسلم - سرورا بذلك. وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، هاجرت وهي حامل به فولدته بقباء أول مقدمهم المدينة، وحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة، وأذن أبو بكر في أذنه. ولم يزل مقيما بالمدينة إلى أن توفي معاوية، فبعث يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بالبيعة، فخرج ابن الزبير إلى مكة، وجعل يحرض الناس على بني أمية (¬2)، فوجد عليه يزيد إلا أن ابن الزبير مشى إلى يحيى بن الحكم والي مكة، فبايعه ليزيد، فقال يزيد: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق، فأبى ابن الزبير، وقال: اللهم إني عائذ ببيتك، روى الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وغيرهم (¬3). ¬

(¬1) المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 34. (¬2) المحبر 1/ 275، والبداية والنهاية 8/ 367، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 3/ 96. (¬3) المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 137، والبداية والنهاية 8/ 367.

بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، وغلب على أهل الحجاز واليمن والعراق ومصر وأكثر الشام؛ فأقام في الخلافة تسع سنين؛ إلى أن قتله الحجاج في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وصلبه، وأقبل عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حتى وقف حذاء عبدالله بن الزبير، فنظره مصلوبا منكسا فتأمله ساعة وبكى واستغفر له وقال: "والله يا ابن الزبير لئن علتك رجلاك اليوم فطال ما قمت عليها في ظل الليل بين يدي ربك، وإني لأسمع قوما يزعمون أنك شر هذه الأمة، ولقد أفلحت أمة أنت شرها، وانصرف عبدالله بن عمر إلى منزله، وأقبلت إليه أمه في اليوم الثالث حتى وقفت قبالته ثم بكت وقالت: اللهم! إني راضية عنه فارض عنه، ثم أقبلت حتى دخلت على الحجاج فوقفت عليه ثم قالت: يا حجاج، أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ ، فقال الحجاج: أما روحه فإلى مالك، وأما جثمانه ففي طريق البلاء. فقالت: كذبت يا حجاج! إن الله تبارك وتعالى في ذلك أعدل من أن يجمع على ابني سيف القاسطين وثأر الظالمين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يكون في أمتي رجلان: أفاك ومبير، فأما الأفاك فصاحبك عبدالملك بن مروان، وأما المبير فأنت يا حجاج، فقال: صدقت يا أسماء؛ أنا مبير المنافقين (¬1)، فقالت: عملك شاهد عليك، ثم ولت وهي باكية، فرق لها الحجاج وأمر بابن الزبير فأنزل عن خشبته وحمل إليها، فأمرت به فصب عليه الماء وحنط وكفن وصلي عليه ودفن - رضي الله عنه - (¬2). ¬

(¬1) كفى بالحجاج شرا أنه قتل ابن الزبير الصحابي الجليل، وسعيد بن جبير سيد التابعين رحمه الله، فضلا عن غيرهم كثير، وأمره إلى الله. (¬2) حسن المحاضرة في تأريخ مصر والقاهرة 1/ 212، وتأريخ مصر والقاهرة 1/ 213، والفتوح لابن أعثم 6/ 343.

الثالث من ملوك بني أمية: عبدالملك الخليفة الثامن

ومن أبرز أعماله بناء الكعبة وكسوتها؛ كساها حين فرغ من بنائها القباطي، وكساها الديباج - رضي الله عنه -، ووسع المسجد من جانبه الشرقي، وهو أعلاه مما يليه من جانبه الشامي، ومن جانبه اليماني، وكان مما وسع به في الجانب الشرقي، واشترى نصف دار الأزرقي جد الأزرقي المؤرخ، اشتراها ببضعة عشر ألف دينار (¬1). الثالث من ملوك بني أمية: عبدالملك الخليفة الثامن: وهو أبو الوليد عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أميه بن عبدشمس بن عبد مناف كنيته أبو الوليد. أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبوها هو الذي جدع أنف حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد (¬2). ولد في سنة ست وعشرين هو ويزيد بن معاوية، وقيل: ولد في سنة أربع وعشرين، وحُمل به ستة أشهر فقط، وكان أبيض. استعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة، وهو وأول من سمي في الإسلام بعبدالملك، سمع عثمان بن عفان، وشهد الدار مع أبيه، وله عشر سنين، وهو أول من سار بالناس في بلاد الروم سنة ثنتين وأربعين، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء (¬3). وروى الحديث عن أبيه، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، وأم سلمة، وبريرة مولاة عائشة. ¬

(¬1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 165، 296. (¬2) والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 39، والبداية والنهاية 9/ 63. (¬3) تأريخ الطبري 6/ 419، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 39، والبداية والنهاية 12/ 377.

ذُكر أن معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم ومعه عمرو بن العاص فمر بهما عبدالملك بن مروان فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مروءته. فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع، وترك خصالا ثلاثا: أخذ بحسن الحديث إذا حدث، وحسن الاستماع إذا حُدث، وحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف. وترك من القول ما يُعتذر منه، وترك مخالطة اللئام من الناس، وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته. وكان فقيها راويا ناسكا، يدعى حمامة المسجد، شاعرا، قيل لابن عمر: من نسأل بعدكم، فقال: إن لمروان ابناً فقيها فسلوه. وقال نافع: أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم من عبدالملك بن مروان. بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير، وبقي على مصر والشام، وابن الزبير على باقي البلاد مدة سبع سنين، ثم غلب عبدالملك على العراق، وما والاها في سنة اثنتين وسبعين، وبعد سنة قتل الحجاج ابن الزبير، واستوسق، الأمر لعبدالملك. خطب عبدالملك بن مروان سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين فقال: "أما بعد فإنه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون من هذا المال ويؤكلون وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف ولست بالخليفة المستضعف يعني عثمان، ولا الخليفة المداهن يعني معاوية.

أيها الناس إنا نحتمل لكم كل اللغوية ما لم يك عقد راية أو وثوب على منبر ... " (¬1). قلت: هذا غيض يكتفى به عن فيض يطول ذكره. توفي عبدالملك بن مروان لعشر خلون من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن اثنتين وستين سنة. (¬2). هو أول من ضرب الدنانير المنقوشة، في الإسلام، في سنة خمس وسبعين وكتب عليها قرآنا، وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية في الجاهلية. وهو أول من كسا الكعبة الديباج، وقيل: الحجاج، وقيل: عبدالله بن الزبير، وذكر في أخبار عمارة المسجد الحرام من غير توسعة فيه، أن عبدالملك بن مروان رفع جدرانه وسقَفَه بالساج، وجعل في رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا ذهبا، وعمره عمارة حسنة (¬3)، وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعونهم (¬4)، وكان عبدالملك أول من غدر في الإسلام، وسبب ذلك أن عمرو بن سعيد بن العاص خلع عبدالملك بن مروان، وأخرج عبدالرحمن بن أم الحكم من دمشق؛ وكان واليا عليها، فسار عبدالملك إلى عمرو واصطلحا جميعا على أن يكون عمرو الخليفة بعد عبدالملك، وأن لعمرو مع كل عامل عاملا، وفتح المدينة ودخل عبدالملك ثم غدر بعمرو فقتله، وقال له: لو أعلم أن تبقى وتصلح قرابتي ¬

(¬1) تأريخ الإسلام ط التوفيقية 6/ 69، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 273. (¬2) المحبر 1/ 25. وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 292. (¬3) فتوح البلدان 1/ 449، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 147، كنوز الذهب في تأريخ حلب 2/ 92، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 297. (¬4) الكامل في التأريخ 3/ 534.

الملك الرابع من ملوك بني أمية: الوليد الخليفة التاسع

لفديتك بدم النواظر، ولكنه قلما اجتمع فحلان في إبل إلا أخرج أحدهما صاحبه، ثم قتله وأنشأ يقول: أدنيته مني لآمن مكره ... فأصول صولة حازم مستمكن غضبا وحمية لديني إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن وكان عبدالملك أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية (¬1). الملك الرابع من ملوك بني أمية: الوليد الخليفة التاسع وهو الوليد بن عبدالملك ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو العباس الأموي، شقيق سليمان أمههما وأم سليمان اسمها وليدة، وقيل: ولاّدة، وهي بنت العباس بن جزيء بن الحارث ابن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن قطيعة بن عبس. بويع الوليد بدمشق في اليوم الّذي توفى فيه عبدالملك، بعهد من أبيه (¬2). وكان أهل الشام يرون للوليد فضلا ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة، وأعطى المجذومين، وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع، كان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، وكثُرت الفتوح في أيام الوليد، وكان مسلمة بن عبدالملك يتغلغل في بلاد الروم، وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك، وفتح ¬

(¬1) الكامل في التأريخ 3/ 534، تأريخ خليفة بن خياط 1/ 266، الأخبار الطوال 1/ 286، المحبر 1/ 377، بتصرف. (¬2) المحبر 1/ 25، 26، التنبيه والإشراف 1/ 274، تأريخ الإسلام ط التوفيقية 6/ 286.

الملك الخامس من ملوك بني أمية: سليمان بن عبدالملك

كاشغر، وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند، وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر (¬1). وتوفي يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ودفن بها، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام (¬2)، وهو أول من منع أن ينادى باسمه بل بأمير المؤمنين، أو بـ"يا مولاي" من ألقاب الخلافة والمُلك، ولم يمنع السابقون نداءهم بالأسماء المجردة. الملك الخامس من ملوك بني أمية: سليمان بن عبدالملك: وهو الخليفة العاشر، سليمان بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبدشمس القرشي الأموي، أبو أيوب. ولد بالمدينة في بني جذيلة، نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس، وقيل: نشأ بالشام عند أبيه. بويع سليمان في اليوم الّذي توفى فيه أخوه الوليد، وأمه ولادة أم أخيه الوليد فهما شقيقان. وكان فصيح اللسان، كثير الأدب، لين الجانب: شديد العُجب بشبابه وجماله، أكولا، نهما، نكّاحا، لا يعجل إلى سفك الدماء، ولا يستنكف عن مشورة النصحاء. فافتتح بخير واختتم بخير، ورد المظالم وآوى المسيرين، وأخرج المحبوسين، واستخلف عمر بن عبدالعزيز، وعزل ابن أبي كبشة عن العراق، واستعمل عليها يزيد بن المهلّب. ¬

(¬1) المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 268. (¬2) المحبر 1/ 25، 26، التنبيه والإشراف 1/ 274.

كان سليمان، صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يلتقون فيسأل الرجلُ الرجلَ عن التزويج والجواري، وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكورا، فانظر في هذا فرقَ ما بينه وبين الوليد قبله، وعمر بن عبدالعزيز بعده. ذُكر أنه خرج يوما لصلاة الجمعة، وكان سوي الخلق حسنه، وقد لبس حلة خضراء، وهو شاب ممتلئ شبابا، وينظر في أعطافه ولباسه، فأعجبه ذلك من نفسه، فلما بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه فأنشدته: أنت نعم لو كنت تبقى ... غير أن لا حياة للإنسان ليس فيما علمت فيك عيب يذكر ... غير أنك فان فصعد المنبر الذي في جامع دمشق وخطب الناس، وكان جهوري الصوت يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر، فضعف صوته قليلا قليلا حتى لم يسمعه أهل المقصورة، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها، وقال: كيف أنشدتيني تينك البيتين؟ فقالت: ما أنشدتك شيئا. فقال: الله أكبر نُعيَتْ والله إليّ تفسي. هلك وهو مُعَسْكِرٌ بمرج دابق (¬1) من أعمال قنسرين، ممدا لأخيه مسلمة، وهو على حصار القسطنطينية يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة تسع وتسعين، وله ¬

(¬1) قرية قرب حلب من أعمال عزاز، بينها وبين حلب أربعة فراسخ (22 كم) عندها مرج معشب نزه كان ينزله بنو مروان إذا غزا الصائفة إلى ثغر مصيصة، وبه قبر سليمان بن عبدالملك بن مروان، وكان سليمان قد عسكر بدابق وعزم أن لا يرجع حتى يفتح القسطنطينية أو تؤدي الجزية، فشتى بدابق شتاء بعد شتاء إذ ركب ذات عشيّة من يوم جمعة فمرّ بالتل الذي يقال له تلّ سليمان، فرأى عليه قبرا فقال: من صاحب هذا القبر؟ قالوا: هذا قبر عبدالله بن مسافع بن عبدالله الأكبر بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبدالله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قصيّ بن كلاب القرشي الحجبي فمات هناك، فقال سليمان: يا ويحه لقد أمسى قبره بدار غربة! قال: ومرض سليمان في أثر ذلك ومات ودفن إلى جانب قبر عبدالله بن مسافع في الجمعة التي تليه أو الثانية (معجم البلدان (/ 416 _ 417).

الملك السادس من ملوك بني أمية: عمر بن عبدالعزيز

تسع وثلاثون سنة، وكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمس ليال، وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس. أوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبدالعزيز رحمه الله (¬1). الملك السادس من ملوك بني أمية: عمر بن عبدالعزيز: وهو الخليفة الحادي عشر في عداد الخلفاء، والحقيقة أنه لم يتخلق بأخلاق الملوك، بل بأخلاق الخلفاء الراشدين، فعد الخليفة الخامس - رضي الله عنهم -، وهو أبو حفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان أميرا على المدينة من قبل عبدالملك بن مروان ولَّاه سنة سبع وثمانين في أولها أو آخر سنة ست وثمانين، فأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين ثم عزل (¬2). وُلِّي الخلافة بدابق يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين. ¬

(¬1) تأريخ الطبري 6/ 497، والبداية والنهاية 9/ 177، 201، 319 والتنبيه والإشراف 1/ 275، والبدء والتأريخ 6/ 41، فتوح مصر والمغرب 1/ 241، تجارب الأمم وتعاقب الهمم 2/ 455. (¬2) المحبر 1/ 27، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 311، 317.

ذكر رجاء بن حيوة سبب توليته فقال: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبدالملك ثيابا خضرا من خز، ونظر في المرآة، فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر فيه ولم أعزم عليه، قال: فمكث يوما أو يومين، ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبدالعزيز؟ فقلت: أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما، فقال: هو والله على ذلك، ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبدالملك غائب على الموسم، قال: فيزيد بن عبدالملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به، قلت: رأيك قال: فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز، أني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبدالملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم، وختم الكتاب ... ، أما عمر فهو التقى النقي الصوّام القوّام، كان فاضلا يؤثر الدين على الدنيا، ويعمل عمل من يخاف يومه ويرجو غده، ويقر بتدينه لما يجري أهله عليه، وكان نقش خاتمه "لكل عمل ثواب" وقيل: "عمر يؤمن باللَّه مخلصا".

كان حسن السيرة عادلا في الرعية، يعود المرضى، ويشيّع الجنائز، ويأخذ مال الله من وجهه، ويصرفه في حقه. وكان شبيها في السيرة بعمر بن الخطاب جده لأمه (¬1). كان قبل خلافته يلبس الحلة بألف دينار ويقول: ما أخشنها، وحين ولى الخلافة كان قميصه وعمامته وجميع ما يكون على بدنه من ثوب واحد خشن وتحته جبّة صوف تلاقي جلده على بدنه ويقول: هذا لمن يموت كثير. وبعد وفاته رئي في المنام وهو على حالة حسنة، وعليه ثياب فاخرة، وهو جالس في روضة نزهة، فقال له الرائي له في المنام: يا أمير المؤمنين قل لي ما أعيده عنك إلى أهلك ورعيتك، فقال له عمر: قل لهم: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (¬2) ثم تلا بعد ذلك قول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3)، وكان بنوا أميّة كلهم يلعنون عليّا - رضي الله عنه - على المنبر، فمذ وُلّى عمر ابن عبدالعزيز قطع تلك اللعنة، واستبدلها بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬4)، وبقيت السنة بعده إلى يومنا هذا، نسأل الله أن يثيبه عليها أعظم ثواب وأجزله. ¬

(¬1) تأريخ الطبري 6/ 550، 551، التنبيه والإشراف 1/ 276، الإنباء في تأريخ الخلفاء 1/ 50، 51. (¬2) الآية (61) من سورة الصافات. (¬3) الآية (83) من سورة القصص. (¬4) الآية (90) من سورة النحل.

الملك السابع من ملوك بني أمية: يزيد بن عبدالملك

وقد كثر صلاح الناس في عهده فكانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وِرْدك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى ختمت، ومتى تختم؟ ، عكس ما كان تقاولهم في عهد سليمان (¬1). توفي عمر بن عبدالعزيز بدير سمعان من أرض حمص، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب، سنة إحدى ومائة، وصلى عليه يزيد بن عبدالملك بن مروان، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام (¬2)، رحمة الله علينا وعليه. هذا من فضائله وقصته رحمه الله في الأمر بتدوين العلم مشهورة معلومة، ولا شك أنه استأنس برأي العلماء، وكان أول من حقق له هذه الغاية الإمام الزهري رحمه الله، وكان يفخر بذلك ويقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني (¬3). الملك السابع من ملوك بني أمية: يزيد بن عبدالملك: وهو الخليفة الثاني عشر في عداد الخلفاء، وهو أبو خالد يزيد بن عبدالملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. ولد سنة إحدى أو اثنتين وسبعين. بويع يزيد بن عبدالملك بن مروان في سنة إحدى ومائة، بعهد من أخيه سليمان بعد عمر بن عبدالعزيز، وكان جسيما أبيض مدور الوجه أفقم متقدم الثنايا السفلى، لم يشب. ¬

(¬1) المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 6/ 268. (¬2) تأريخ خليفة بن خياط 1/ 321 (¬3) تأريخ الطبري 6/ 574، والرسالة المستطرفة.

الملك الثامن من ملوك بني أمية: هشام

ولما احتضر عمر، قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبدالملك، ثم كتب إليه: أما بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة، حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام. ولكنه لم يستفد من وصية عمر عمد يزيد إلى كل ما صنعه عمر بن عبدالعزيز مما لم يوافق هواه، فرده، ولم يخف شناعة عاجلة، ولا إثما آجلا. توفي يزيد بن عبدالملك بن مروان، سنة خمس ومائة، وهو ابن تسع وعشرين سنة (¬1). الملك الثامن من ملوك بني أمية: هشام: وهو الخليفة الثالث عشر، وهو أبو الوليد هشام بن عبدالملك بن مروان، وأمه فاطمة بنت هشام بن إسمعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة. ولد سنة نيف وسبعين، واستُخلف بعهد من أخيه يزيد بن عبدالملك، وبويع لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وعمره أربع وثلاثون سنة يومئذ. وكان متيقظا في سلطانه، سائسا لرعيته، مباشرا للأمور بنفسه، لا يغيب عنه شيء من أمر مملكته، وكان نقش خاتمه "الحكم للحكيم" (¬2). ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي 3/ 327، والكامل في التأريخ 4/ 120، 121، وتأريخ الطبري 6/ 574. (¬2) المحبر 1/ 28، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 321، 322، المحبر 1/ 29، 8/ 282، وتأريخ الإسلام ت تدمري 8/ 282.

مات هشام بن عبدالملك بن مروان بالرصافة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول من سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. فكانت ولايته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. وذكر سبب موته سالم أبو العلاء قال: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، فسألته عن حاله، فقال: لا أغتم، وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاث وثلاثين يوما. فلما استكمل الأيام إذا خادم يدق الباب يقول: أجب أمير المؤمنين واحمل معك دواء الذبحة، وقد كان أخذه مرة فعولج به فأفاق، فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به فازداد الوجع شدة ثم سكن، فانصرفت إلى أهلي فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات. فأغلق الخزان الأبواب، فطلبوا له قمقما يسخن فيه الماء فما وجدوه حتى استعاروه من بعض الخزان. قال علماء السير: لما رأى هشام أولاده حوله يبكون في مرضه، قال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له (¬1). زعموا أن عبدالملك رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من يسأل سعيد بن المسيب عنها وكان يعبر الرؤيا وعظمت على عبدالملك فقال: سعيد يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان هشام آخرهم (¬2). ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 1/ 279، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 356، والمحبر 1/ 30، المنتظم في تأريخ الملوك والأمم 7/ 246. (¬2) تأريخ الإسلام ت تدمري 8/ 283.

الملك التاسع من ملوك بني أمية: فاسق زنديق

الملك التاسع من ملوك بني أمية: فاسق زنديق: لا يستحق لقب الخلافة حسب تعدادها العام، وهو الوليد بن يزيد بن عبدالملك يكنى: أبا العباس. ظهر للناس منه تهاون في الدين واستخفاف حتى اتهموه بالزندقة وبلغ ذلك هشاما، فطمع في خلعه، وتمادى الوليد في شرب الخمر وطلب اللذات فأفرط، حتى قيل: إنه فتح المصحف في وقت، فخرج عليه {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} (¬1)، فنصب المصحف ورماه حتى خرقه، وقال في ذلك: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله لا أدري على الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش فيه، فكتب إليه الوليد هذا: يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة وكان يكنى أبا شاكر، وقال له: يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة فالزم الأدب واحضر الجماعة، وولَّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة هذه الأبيات: يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر ¬

(¬1) الآيتان (15، 16) من سورة إبراهيم.

يُعرِّض بالوليد بن يزيد، فلم يلبث الوليد بعد ذلك إلا يسيرا حتى قتل. وكان ماجنا سفيها يشرب الخمر، ويقطع دهره باللهو والغزل، ويقول أشعار المغنّين، يعمل فيها الألحان، فسار إليه يزيد بن الوليد بن عبدالملك فقتله، وكان المتولي لذلك عبدالعزيز بن الحجّاج بن عبدالملك، قال حكم الوادي: "بينما نحن مع الوليد بن يزيد بن عبدالملك بالبخراء (¬1) وهو يشرب إذ دخل عليه مولى له مخرّق ثيابه، فقال: هذه الخيل قد أقبلت، فقال: هاتوا المصحف حتى أقتل كما قتل عمّي عثمان، فدخل عليه فقتل، فرأيت رأسه في طشت ملقى ويده في فم الكلب، ثمّ بعث برأسه إلى دمشق" (¬2). وكانت ولايته سنة وشهرين وعشرين ليلة. وقد بلغ من السن اثنتين وأربعين سنة. وقد برر يزيد بن الوليد قتله الوليد، فمما قال: "خرجت غضبا لله ودينه وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه حين درست معالم الهدى وطفئ نور أهل التقوى وظهر الجبار العنيد المستحل الحرمة والراكب البدعة والمغير السنة فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم على كثرة من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم وأشفقت أن يدعو كثير من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه من أجابه منكم فاستخرت الله في أمري وسألته ألا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابني ... " وقد نزه قوم الوليد مما قيل فيه، وأنكروه ونفوه عنه وقالوا: إنه قيل عنه وألصق به، وليس بصحيح. ¬

(¬1) قصر في برية ورمل بن تدمر على أميال (تأريخ خليفة بن خياط 1/ 364). (¬2) معجم البلدان 1/ 356.

الملك العاشر من ملوك بني أمية: يزيد بن الوليد

وكان سبب إمارته أن أباه يزيد بن عبدالملك استخلفه بعد هشام بن عبدالملك، فلما انقضى أمر هشام صار الأمر إليه (¬1). كان الأمير في أيامه على دمشق عثمان بن سراقة الزهراني، وكان قاضيا؛ وهو عثمان بن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة، من بني الخيار بن سعد بن الغطريف الأكبر عامر بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب. الملك العاشر من ملوك بني أمية: يزيد بن الوليد وهو الخليفة الخامس عشر، بعد الفاسق، وهو يزيد بن الوليد بن عبدالملك الناقص، استولى على الأمر في أول رجب، بعد قتل الوليد بن يزيد بخمسة أيام، سنة ست وعشرين ومائة. وأمه شاه فريذ بنت فيروز بن كسرى يزدجرد بن شهريار بن كسرى إبرويز بن هرمز ابن أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد. مات يزيد بن الوليد بن عبدالملك بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة، سنة ست وعشرين ومائة وهو ابن خمس أو ست وثلاثين سنة، وقيل: ابن ست وأربعين، وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك، ولي خمسة أشهر آخرها سلخ ذي القعدة (¬2)، ولم يمتع بالخلافة أو الملك، ولكنه أحسن بقتل الوليد الفاسق، والله أعلم بالقصد. ¬

(¬1) الفتوح لابن أعثم (8/ 302، 303، والكامل في التأريخ 4/ 307، 308، المعارف 1/ 366، تأريخ خليفة بن خياط 1/ 365. (¬2) تأريخ خليفة بن خياط 1/ 368، 369، والمحبر 1/ 31، 32.

الملك الحادي عشر من ملوك بني أمية: إبراهيم بن الوليد

الملك الحادي عشر من ملوك بني أمية: إبراهيم بن الوليد: وهو الخليفة السادس عشر، وهو إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك الناقص، أمه أم ولد. وبايع أهل الشام إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك ما خلا أهل حمص فإنهم أبوا أن يبايعوه، ولم يتم له أمر، وكان يسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمارة، وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة، فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بن محمد فخلعه بعد أربعة أشهر في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيا حتى أصيب في وقعة قطع فيها الجسر فكان فيمن غرق يومئذ في سنة اثنتين وثلاثين ومائة (¬1). الملك الثاني عشر آخر ملوك بنى أمية: مروان: وهو أبو عبدالملك مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، بويع له في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة وكانت خلافته خمس سنين وثمانية أشهر ويومين، وانقرضت أيام بنى أمية، وكان عبدالله بن عليّ بن عبدالله بن العباس عم السفاح لقيه على الزاب الكبير (¬2) وكسره واستباح عسكره وقتل أكثرهم وغرق في الزاب من نجا من السيف منهم، ونجا هو بنفسه وقصد نصيبين (¬3) فأُغلق الباب في وجهه فمضى على تلك الحالة إلى دمشق وكانت سرير ملكه وفيها خزائنه وذخائره فأُغلق الباب في وجهه فمضى من هناك إلى مصر وحين وصلها بلغه الخبر بأن عبدالله بن عليّ مُجدّ في طلبه على أثره ¬

(¬1) تأريخ الطبري 7/ 434، والإنباء في تأريخ الخلفاء 1/ 52، 53، وتأريخ خليفة بن خياط 1/ 369، وتأريخ الطبري 7/ 299. (¬2) نهر نبعه من أرمينيا ومصبه في دجلة عند مدينة الحدثة. (¬3) مدينة في ديار ربيعة قرب جبل ماردين، وهي الآن في الحدود التركية.

ويشمل ظهر الإسلام زمن ملوك بن العباس

فارتحل منها وأوغل في بلاد المغرب حتى انتهى إلى قرية يقال لها: بوصير (¬1) فنزل في دار رئيسها وكان وصوله إليها ضحوة النهار، واتفق أنه اتهم قائدا من قواده بأنه يكاتب بنى العباس ويميل إليهم فأمر بسلّ لسانه من قفاه، ففعل به ذلك في دار ذلك الرئيس، فنزلت سنّورة من الدرجة فرأت اللسان فاختطفته وأكلته، وفي عشية ذلك اليوم وصل عسكر عبدالله بن عليّ إلى تلك القرية ودخلوا الدار التي فيها مروان وسلّوا لسانه من قفاه، ورموه على الأرض، فجاءت تلك السنّورة بعينها فأخذته وأكلته. ثم بلغهم ما فعل بذلك القائد في صبيحة ذلك اليوم فتعجبوا من ذلك حتى قال واحد منهم: لو لم يكن من عجائب الزمان إلا أنّا رأينا لسان مروان بن محمد ملك الشرق والغرب في فم هرّة تمضغه لكفانا ذلك (¬2). وهنا أسدل الستار على ملوك بني أمية، وعددهم اثنى عشر ملكا عدا عبدالله بن الزبير فليس أمويا، وسبحان من له الملك الدائم في الدنيا والآخرة. وقد ضرب صبرا عنق عمارة بن عمرو الزهراني لما قال حين قتل الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان: "لئن انتضيت سيفي لا أغمده وفي الأرض قرشي حتى أقتله" وعمارة هو ابن أبي كلثم خالد بن معمر بن وهب بن زهير بن عمرو بن عامر بن غنم بن غنام بن أسامة بن مالك بن عامر بن حرب بن سعد ين ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. ويشمل ظهر الإسلام زمن ملوك بن العباس ¬

(¬1) بوصير: بالفيوم، من أرض مصر، وبها قتل مروان أخر خلفاء بني أمية بالمشرق (برنامج التجيبي 1/ 80). (¬2) الإنباء في تأريخ الخلفاء 1/ 53.

الملك الأول من ملوك بني العباس: أبو العباس السفاح

وقد قيل فيهم: لئن كان لكلّ من الخلفاء مناقب مروية وطرائق مرضية، فإنّ لأربعة منهم فضائل أفردوا بمزاياها وحظوا بمرباعها وصفاياها: قام أمير المؤمنين السفّاح؛ سفح دماء الأعداء وتأخّى كشف الغمّاء، وتفرّد وتفضّل بفضيلة الابتداء، والمنصور بالله، أيّد بالنصر في توطيد قواعد الأمر، فذلل كلّ صعب وأزال كلّ شَعْب، وثقّف كلّ مناد، ومهّد لمن بعده أحسن مهاد، ثم المعتضد بالله عضَّد الدولة بحسن تدبيره وسياسته، وتلافاها بشرف نفسه وعلوّ همّته، وأعادها بعد الضعف إلى القوّة، وبعد اللين إلى الشدّة، وبعد الأود إلى الاستقامة، وبعد الفتنة إلى السلامة، ثم القادر بالله قدِر من صلاحها على ما لم يقدر عليه سواه، وسلك من طريق الزهد والورع ما تقدّمت فيه خطاه، فكان راهب بنى العباس حقّا وزاهدهم صدقا، ساس الدنيا والدين، وأغاث الإسلام والمسلمين، واستأنف في سياسة الأمر طرائق قويمة، ومسالك مأمونة سليمة، لم تعرف منه زلّة، ولا ذُمّت له خلّة، فطالت أيّامه، وطابت أخباره، واقتفيت آثاره، وما عدا هؤلاء كان الحكم للمتغلبين من الملوك، والوزراء والموالي، وليس للخليفة معهم إلا الاسم فقط (¬1)، ولا سيما لدى أواخر الخلفاء، وعدد ملوكهم سبعة وثلاثون ملكا. الملك الأول من ملوك بني العباس: أبو العباس السفاح: أول خلفاء الدولة العباسية، وهو عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب. أمه ريطة بنت عبيد الله بن عبدالله بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ¬

(¬1) تجارب الأمم وتعاقب الهمم (7/ 246، 247، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 505، بتصرف.

كان مولده بالشراة (¬1) سنة خمس ومائة، واستخلف وهو ابن سبع وعشرين سنة، وهو أصغر من أخيه المنصور، قيل: إنما لقب بالسفاح لما سفح من دماء المبطلين. ورفعت إليه سعاية مكتوب عليها بنصيحة فوقع عليها: "تقربت إلينا بما باعدك من الله تعالى، ولا ثواب عندنا لمن آثرنا عليه". وكان نقش خاتمه: "الله ثقة عبدالله". بويع بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة، خلت من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وانتقل إلى الأنبار فسكنها حتى مات (¬2). وكان مبدأُ الدعوة العباسية بالكوفة وخراسان وغيرها من الأمصار في سنة مائة للهجرة، كان أبو العباس السفاح قد عهد عند موته إلى أخيه المنصور، ومن بعده إلى عيسى بن موسى، ومولد عيسى سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، فشرع المنصور بعد قتل محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان قتلهما جميعا على يدي عيسى بن موسى سببا في تأخير عيسى، وتقديم المهدي في ولاية العهد، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائة. توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين فكانت خلافته أربع سنين وعشرة أشهر وقيل: ثمانية أشهر (¬3). ¬

(¬1) مدينة الشراة، شراة الشام، أرض معروفة وبها الكهف والرّقيم فيما زعم بعضهم (معجم البلدان 1/ 489). (¬2) التنبيه والإشراف 1/ 292، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 7/ 298، 299، والمعارف 1/ 372. (¬3) التنبيه والإشراف 1/ 292، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 8/ 291، وتلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 62.

الملك الثاني من ملوك بني العباس: المنصور

الملك الثاني من ملوك بني العباس: المنصور: ثاني خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو جعفر المنصور عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس، وأمه بريرة، أم ولد ويقال لها: سلامة بنت بشير. ولد بأرض الشراة في أيام الوليد بن عبدالملك بن مروان وكان أكبر من أبي العباس بثمان عشرة سنة. ولي الخلافة وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، فاستوسقت له الأمور، وبايعه الجمهور، ونزل ببغداد قبل استتمام بنائها. وفي سنة سبع وثلاثين ومائة قتل المنصور أبا مسلم الخراساني لضغينة بينهما. وكان المنصور أول من عني بالعلوم، ومع براعته في الفقه كان كلفا في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم (¬1). وقتل محمد بن سعيد بن حسان المصلوب في الزندقة. بعث أبو جعفر المنصور إلى الإمام مالك حين قدم المدينة وقال له: "يا أبا عبدالله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنّب فيه رخص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر ووطّئه للناس وقال: إن الناس قد اختلفوا بالعراق، فضع للناس كتابا نجمعهم عليه"، فوضع "الموطأ". ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 1/ 295، والبدء والتأريخ 6/ 90، والمعارف 1/ 377، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/ 66، وتأريخ مختصر الدول 1/ 120، تأريخ مختصر الدول 1/ 136.

بنى المنصور بغداد وأسماها مدينة السلام، لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام، ووسع المسجد الحرام من جانبه الشامي ومن جانبه الغربي، وكان ابتداء عمل ذلك في المحرم سنة سبع وثلاثين ومائة، والفراغ منه في ذي الحجة سنة أربعين ومائة. وكان الذي زاد فيه المنصور الضعف مما كان عليه قبل (¬1). كثر اعتماده على غير العرب كالبرامة. مات المنصور ببئر ميمون (¬2)، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه. فكتم الربيع موته، وألبسه وسنده، وجعل على وجهه كلّة خفيفة يرى شخصه منها، ولا يفهم أمره وأدنى أهله منه، ثم قرب منه الربيع كأنه يخاطبه، ثم رجع إليهم وأمرهم عنه بالبيعة للمهدي بن المنصور بن محمد الإمام، ولابن عمه عيسى بن موسى بن محمد الإمام بعده، فبايعوا، ثم أخرجهم. وبعد ذلك خرج إليهم باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه، ثم وجه الى المهدي بخبر وفاة المنصور وبالبيعة له ولابن عمه عيسى بن موسى بعده، فأبى عيسى بن موسى من البيعة للمهدي وامتنع بالكوفة وأراد أن يتحصن بها. ¬

(¬1) تأريخ الإسلام ت تدمري 9/ 45، 269، 11/ 321، 332، وتأريخ ابن خلدون 7/ 683، البداية والنهاية ط إحياء التراث 10/ 108، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 297. (¬2) كانت بأعلى مكة فيها توفي العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي، عبدالله بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن مقنع بن حضرموت حليف بني أمية، احتفرها أخوه في الجاهلية (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/ 76).

الملك الثالث من ملوك بني العباس: المهدي

مات المنصور لست خلون من ذي الحجة، سنة ثمان وخمسين ومائة، خرج للحج وقال لابنه المهدي: إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وهو الذي حداني على الحج، فاتق الله فيما أعهد إليك، ووصاه طويلا وودعه وبكيا فمات ببئر ميمونة (¬1) محرما، وعاش ثلاثا وستين وخلافته اثنتان وعشرون سنة وثلاثة أشهر وكسر (¬2). كان على شرطته عبد الجبار بن عبدالرحمن الزهراني، وهو عبد الجبار بن عبدالرحمن بن يزيد بن قيل بن قَيس بن يزيد بن جابر بن رافد بن سُبالة بن عامر بن عمرو بن كعب بن الغطريف الأصغر الحارث بن عبدالله بن الغطريف الأكبر عامر بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب. وكان أخوه عبدالعزيز بن عبدالرحمن الزهراني على البصرة. الملك الثالث من ملوك بني العباس: المهدي: ثالث خلفاء الدولة العباسية، وهو المهدي محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية، فقدم المهدي من جرجان وقعد في الخلافة عشر سنين، تولى الخلافة في سنة ثمان وخمسين ومائة. وله أخبار وأسمار لا تدخل في الفتوح. ¬

(¬1) في بعض المصادر "قبر" ميمونة، وهو خطأ، وتقدم بيانه. (¬2) تاريخ مختصر الدول 1/ 125، وتاريخ ابن الوردي 1/ 190.

بنى في خلافة والده المنصور مدينة الري (¬1)، وجعل حولها خندقا، وبنى فيها مسجدا جامعا. وذُكر أن المهدي قال في ذات يوم: إني داخل ذلك النهر نائم فيه فلا يوقظني أحد حتى أستيقظ أنا من ذاتي، إذ سمعوا بكاءه، فبادروا إليه وقالوا: مما بكاءك؟ ، فقال: رأيت الساعة رجلا لو كان في مائة رجل لما خفي، فوقف على باب هذا النهر وجعل يقول هذه الأبيات فحفظتها منه: كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه أهله ومنازله وصار عميد القوم من بعد نعمة ... وملك إلى قبر عليه جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي بليل معولات حلائله فلم يشك أحد أن أجله قد اقترب. قال علي بن يقطين: فكنا معه بعد ذلك في قصر الرصافة ببغداد فأرسل إلى وجوه بني هاشم ورؤساء القوم فأحضرهم ثم أخذ عليهم البيعة لابنه موسى وسماه الهادي وجعل هارون من بعده ولي العهد وسماه الرشيد، ثم لم يلبث المهدي بعد ذلك قليلا حتى مات، فكانت مدة خلافته عشر سنين وشهرا واحدا، وتوفي بموضع يقال له ماسبذان (¬2) ودفن في دير الغنم (¬3) ليلة الخميس لثمان ليال بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة. ¬

(¬1) سنة ثمان وخمسين ومائة، وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا، وكتب اسمه على حائطها (معجم البلدان (3/ 118). (¬2) اسم هذه الكورة مضاف إلى اسم القمر وهو ماه، وهي مدينة حسنة في الصحراء بين جبال كثيرة الشجر (معجم البلدان 5/ 41، 49). (¬3) لم أقف على ما يفيد عنه.

وذُكر في سبب موته أنه في المحرم سار المهدي إلى ماسبذان عازما على تقديم ابنه هارون في ولاية العهد، وأن يؤخر موسى الهادي، فنفذ إلى موسى في ذلك فامتنع، فطلبه فلم يأت، فهم المهدي بالمسير إلى جرجان لذلك، فساق يوما خلف صيد فاقتحم الصيد خربة، ودخلت الكلاب خلفه، وتبعهم المهدي، فدق ظهره في باب الخربة مع شدة سوق الفرس، فهلك لساعته. وقيل: بل أطعموه السم، سقته جارية له سما اتخذته لضرتها، فمد يده، وفزعت أن تقول: هو مسموم، وكان لِباً فيما قيل، وقيل: كان إنجاصا، فأكل وصاح: جوفي، وتلف من الغد (¬1). وسّع المهدي المسجد الحرام من أعلاه، ومن الجانب اليماني، ومن الموضع الذي انتهى إليه أبوه المنصور في الجانب الغربي، وكان توسعته له في نوبتين: الأولى: في سنة إحدى وستين ومائة، وفيها زيد فيما زاد أبوه في المسجد رواقان، والثانية: في سنة سبع وستين، وكان أمر بها لما حج حجته الثانية في سنة أربع وستين، ولم تكمل هذه الزيادة إلا في خلافة ابنه موسى الهادي، لمعاجلة المنية المهدي، ونقل المهدي أساطين الرخام من الشام وغيرها، حتى أنزلت بجدة، وحملت منها على العجل إلى مكة (¬2). ¬

(¬1) وتأريخ الطبري 8/ 110، والفتوح لابن أعثم 8/ 370، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412، الفتوح لابن أعثم 8/ 370، 371، تأريخ الإسلام ت تدمري 10/ 32. (¬2) تأريخ دمشق لابن عساكر 12/ 287، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 297.

الملك الرابع من ملوك بني العباس: الهادي

وقد ولى عبدالرحمن بن عبدالله الزهراني على السراة، وهو الذي قتل الحازوق الخارجي المبعوث من قبل نجدة الخارجي؛ وهو عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالله بن النعمان بن عبدالله بن وهب بن سعد بن عوف بن عامر بن غنم بن غنام بن أسامة بن مالك بن عامر بن حرب بن سعد ين ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. الملك الرابع من ملوك بني العباس: الهادي: رابع خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو محمد موسى الهادي بن محمد المهدي بن عبدالله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، وأمه الخيزران، فهو شقيق الرشيد. بويع بالخلافة في عسكر المهدي، يوم توفي المهدي، في المحرم سنة تسع وستين ومائة وهو مقيم بجرجان (¬1) يحارب أهل طبرستان (¬2)، وكان مما عمل في المسجد الحرام بعد موت أبيه المهدي بعض الجانب اليماني وبعض الغربي، وذلك من الأساطين الحجارة في الجانب اليماني إلى الموضع الذي انتهى إليه عمل المنصور في الجانب الغربي. توفي موسى الهادي يوم الجمعة بموضع يقال له: عيسى أباذ من سواد العراق (¬3)، وذلك يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكان له يوم توفي خمس وعشرون سنة، وكانت ولايته أربعة عشر شهرا إلا ست ¬

(¬1) جُرْجان: بالضم، وآخره نون: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان، قيل: إن أول من أحدث بناءها يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة الأزي (نسبة ومنسوب رقم 623). (¬2) من بلاد فارس طَبَرِستان: بفتح أوله وثانيه، وكسر الراء، بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، (نسبة ومنسوب رقم 1393). (¬3) منسوبة إلى عيسى بن المهدي (البلدان لابن الفقيه 1/ 308).

الملك الخامس من ملوك بني العباس: الرشيد

ليال، وصلى عليه أخوه هارون الرشيد بن محمد المهدي، وكان نقش خاتم "الهادي الله ربي" (¬1). الملك الخامس من ملوك بني العباس: الرشيد: خامس خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو جعفر هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبدالله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، وهو شقيق الهادي. وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، مولدها بنجران، ثم بيعت إلى جرش ثم إلى مكة. ولد هارون الرشيد بالري (¬2) لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور. وكان تام الخلقة جميلا، طويلا أبيض مسمنا، قد وخطه الشيب، له وفرة إذا حج حلقها. بويع له بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي في سنة سبعين ومائة، وكانت سنه يوم ولي اثنتين وعشرين سنة، وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة، وبايع لابنه محمد بن زبيدة بالعهد بعده ثم لعبدالله المأمون بعد محمد، وكان كامل الأخلاق سمحا شجاعا كثير الحج والجهاد، حج في خلافته ثماني حجج وغزا ثماني غزوات، واتسع ملكه فكان يقول للسحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك" رد على تهديد "نقفور" ملك الروم فقال: ¬

(¬1) تأريخ خليفة بن خياط 1/ 445، وتأريخ الطبري 8/ 187، والمختصر في أخبار البشر 2/ 10، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 297، فتوح البلدان 1/ 311، الثقات لابن حبان 2/ 326. (¬2) الرَّي: بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن بفارس.

بسم الله الرحمن الرحيم "من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، فقد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام". وبالفعل جهز جيشا قاده بنفسه وغزا دولة الروم وانتصر بنفسه على "نقفور" وأعاده للهدنه ودفع الجزية. وتسلط الرشيد على الأمور بعد مدة من خلافته، فأفسد الصنائع، وأحب جمع الأموال واستوزر البرامكة يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، ثم نكبهم في صفر سنة سبع وثمانين ومائة، واختلّت أموره بعد البرامكة، وبان للناس قبح تدبيره وسوء سياسته، وكان نقش خاتمه "باللَّه يثق هارون". قال الأصمعي: بعث إليَّ هارون الرشيد وقد زخرف مجالسه وبالغ فيها وفي بنائها، ووضع فيها طعاما كثيرا، ثم وجه إلى أبي العتاهية، فأتاه، فقال: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا؛ فأنشأ يقول: عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور فقال: أحسنت! ثم ماذا؟ فقال: يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور فقال: أحسنت أيضا! ثم ماذا؟ فقال: فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور

الملك السادس من ملوك بني العباس: محمد بن هارون

فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته! فقال هارون: دعه؛ فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى (¬1). توفى بقرية يقال لها سناباذ من طوس من أرض خراسان يوم السبت لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة أشهر، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وستة عشر يوما (¬2). الملك السادس من ملوك بني العباس: محمد بن هارون: سادس خلفاء الدولة العباسية، وهو محمد بن هارون الرشيد ويكنى أبا موسى، وأمه زبيدة أم جعفر ابنة جعفر بن أبى جعفر المنصور. بويع له يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وبايع له المأمون بخراسان، وكتب إليه بالطاعة والخضوع وامتثال أمره ونهيه، انقيادا إلى ما تقدم به العهد. وكان حسن الوجه، تام القامة، أبيض مسمنا، صغير العينين، بعيد ما بين المنكبين، شديدا في بدنه، باسطا يده بالعطاء، وفي الخلافة لم يُحمد، فقيل: كان قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه، وعمل الأمين في خلع المأمون والاحتيال لذلك، وكتب إليه يأمره بتسليم بعض أعماله إلى من يرسم له، فامتنع من ذلك، فكتب إليه يأمره بالمصير إليه لمعاونته على تدبير ملكه، فاعتل بأمور ¬

(¬1) المجالسة وجواهر العلم 4/ 427. (¬2) التنبيه والإشراف 1/ 299، 300، 301، وتأريخ الطبري 8/ 230، نقض الدارمي أبي سعيد 1/ 49، صفة جزيرة العرب 1/ 243.

الملك السابع من ملوك بني العباس: المأمون

ذكرها، فوجه إليه يسأله تقديم ابنه عليه بولاية العهد، ويرغبه في ذلك ويرهبه، فأبى وقوّى الفضل بن سهل ذو الرئاستين عزمه على محاربته. فلما عادت الرسل إلى الأمين بذلك بايع لابنه موسى ولقبه "الناطق بالحق" وهو يومئذ صبي صغير (¬1). قلت ليس هذا من الوفاء لعهد والده، وليس من المروءة مع أخيه، وهو من طيش الملك ونشوته. وبعد مواجهة انتهت بكسر من أرسل الأمين، وذلك لعشر خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، وحينئذ سُلّم على المأمون بإمرة المؤمنين، وبعث كل منهما جهده في الانتصار، ولكن المأمون دالت له أمور، فوجه إلى الأمين من قتله، وأنفذ رأسه إليه في خراسان. وكان مقتل الأمين ليلة الأحد لخمس ليال بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وله ثلاث وثلاثون سنة، وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وعشرة أيام (¬2). الملك السابع من ملوك بني العباس: المأمون: سابع خلفاء الدولة العباسية، وهو عبدالله بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد باذغيسية تسمى مراجل، ماتت بعد ولايته بقليل. ولد ليلة استخلف الرشيد في النصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكان يكنى أبا العباس في أيام الرشيد، وتكنى في خلافته بأبي جعفر تفاؤلا بكنية ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 1/ 299، 300، 301. (¬2) التنبيه والإشراف 1/ 299، 300، 301، 302.

المنصور والرشيد في طول العمر، وكان أبيض، أقنى، أعين، جميلا، طويل اللحية، قد وخطه الشيب، ضيِّق الجبهة، بخده خال أسود يعلوه صفرة. ولما وضعت الحرب بين محمد وعبدالله ابني هارون الرشيد أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبدالله المأمون بالطاعة، أخذ المأمون البيعة العامة بعد قتل أخيه الأمين يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم، سنة ثمان وتسعين ومائة، وبايع للرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالعهد بعده، وأزال لبس السواد، ولبس بدله الخضرة، وأخذ الناس بذلك، فاضطرب من بمدينة السلام من الهاشميين، وعظم ذلك على أهل بغداد عامة، وعلى الهاشميين خاصة، لزوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبى طالب (¬1). ودخل المأمون مدينة السلام يوم السبت لثمان عشرة ليلة خلت من صفر سنة أربع ومئتين، وأمر بإعادة لبس السواد بعد ثمانية أيام من قدومه. وكان المأمون شديد الميل إِلى العلويين، والإحسان إِليهم رحمه الله تعالى، ردّ فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسلمها إِلى محمد بن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون مشاركاً في علوم كثيرة. ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 302، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم (10/ 49.

كانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد (¬1). ومن سيئاته أن قامت في عهده فتنة القول بخلق القرآن وأراد حمل الناس على القول بذلك متأثرا بخلصائه وأصفيائه من المعتزلة، ومنهم بشر بن غياث المريسي أشهر القول بخلق القرآن، وشبَّه على المأمون واستقوى به على الناس ودعا الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه، ودفع الناس إلى محنة الدخول في هذا الكفر والضلالة، ففزع الناس من مناظرة المريسي، وأحجموا عن الرد عليه، فقد ناصره المأمون على ذلك، فأرهب الناس واستتر المؤمنون في بيوتهم وانقطعوا عن الجُمعات والجماعات، وهرب البعض من بلد إلى بلد خوفا على أنفسهم وعقيدتهم، وكثرت موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته. وقد جرت المناظرة في هذه المسألة بين بشر المريسي، وعبدالعزيز الكناني رحمه الله، وأورد الكناني الأدلة القاطعة الدامغة لمن ينتحل هذه الفكرة بأسلوب أدبي علمي عجيب، دل على سعة علم الكناني ومعرفته لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وانتزع من الكتاب والسنة الحجج القطعية التي أبطل بها مذهب الجهمية والمعتزلة ومن يقول إن القرآن مخلوق، وقد دونت هذه المناظرة في رسالة سميت "الحيدة والاعتذار". ولما دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن، وكان الإمام أحمد في السجن ببغداد، وطلبه للمناظرة ولكنه مات قبل أن يصل الإمام أحمد إلى الشام قادما من بغداد. ¬

(¬1) تأريخ الطبري 8/ 527، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412، والمختصر في أخبار البشر 2/ 32.

الثامن من ملوك بني العباس: المعتصم

توفي المأمون ببلاد بيزنطة من بلاد الروم في آخر غزواته سنة ثمان عشرة ومائتين، موصيا بالخلافة من بعده للمعتصم (¬1). الثامن من ملوك بني العباس: المعتصم: ثامن خلفاء الدولة العباسية، وهو المعتصم محمد بن هارون الرشيد، ويكنى أبا إسحاق، وأمه أم ولد من مولدات الكوفة، تسمى ماردة، لم تدرك خلافته، وكانت أحظى النساء عند الرشيد. ولد بالخلد (¬2) ببغداد، في سنة ثمانين ومائة، في الشهر الثامن. وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وفتح ثمانية فتوح، وولد له ثمانية بنين، وثماني بنات، ولذلك كان يسمى الثماني، وكان أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون، حسن العينين. بويع بالخلافة، بعد موت المأمون، ولما بويع له، نادوا باسم العباس بن المأمون ليكون خليفة، فأرسل المعتصم إِلى العباس وأحضره، فبايعه العباس، ثم خرج إِلى الجند فقال لهم: قد بايعت عمي، فسكنوا، وانصرف المعتصم إِلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان، في سنة ثمان عشرة ومائتين، ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 1/ 305، والمنتظم في تأريخ الملوك والأمم 11/ 25، والمختصر في أخبار البشر 2/ 32، ونقض الإمام أبي سعيد الدارمي على المريسي 1/ 21، والرد على الجهمية والزنادقة 1/ 34. (¬2) قصر المنصور الذي يسمى الخلد على دجلة، ابتناه على دجلة، سمي الخلد تشبيها له بجنة الخلد، وما يحوي من كل منظر رائق، ومطلب فائق، وغرض غريب، ومراد عجيب، وكان موضعه وراء باب خراسان، وقد زال فلا عين له ولا أثر (تأريخ بغداد ت بشار 1/ 385). قلت: لم يكن اسما على مسمى؛ فلم يخلد القصر فضلا عمن سكنه، فلله الدوام وله الملك الذي لا يزول، نسأله أن يجعل قصورنا في جنة الخلد.

وكان بلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شكالا، وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد، وهو عبدالرحمن بن إسحاق، وشعبة بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله تعالى، وثلثا لمواليه. هدد ملك الروم المعتصم فكتب المعتصم إليه جوابا قال: "الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، والسلام". وقيل: إن رجلا وقف على المعتصم حال شربه وقال يا أمير المؤمنين كنت بعمورية وجارية من أحسن النساء أسيرة قد لطمها على وجهها علج فقالت: "وامعتصماه" فقال لها العلج: عساه أن يأتيك على خيل بلق، فلما سمع المعتصم كلامه أمر بالختم على الكأس وقال وقرابتي من رسول الله لا شربته حتى أغزوه ثم سار إليه على الخيل البلق فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى، وهذا الخبر أقرب للواقع. فلما ظفر المعتصم ببابك قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. فسار المعتصم بسُرَّ مَنْ رأى، وقيل: كان مسيره سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقيل: سنة أربع وعشرين.

وتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح، والعدد، والآلة، وحياض الأدم، والروايا، والقرب، وغير ذلك، فأنكى في العدو نكاية عظيمة، ونصب على عمورية المجانيق وفتحا، وقتل ثلاثين ألف وسبى مثلها، وكان في سبيه ستون بطريقا، ثم أحرقها وهي من أجل فتح وقع في الإسلام (¬1). وقد كان مع المعتصم خالد بن عمران الزهراني؛ وهو خالد بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مجاسر بن سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. وفي ذلك قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي: السَيفُ أَصدَقُ أَنتباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في ... مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ وَالعلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً ... بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما ... صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً ... لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ عَجائِباً زَعَموا الأَيّامَ مُجفِلَةً ... عَنهُنَّ في صَفَرِ الأَصفارِ أَو رَجَبِ وَخَوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمَةٍ ... إِذا بَدا الكَوكَبُ الغَربِيُّ ذو الذَنَبِ وَصَيَّروا الأَبرُجَ العُليا مُرَتَّبَةً ... ما كانَ مُنقَلِباً أَو غَيرَ مُنقَلِبِ ¬

(¬1) أخبار الدولة العباسية 1/ 412، والتنبيه والإشراف 1/ 305، والكامل في التأريخ 6/ 38، سمط النجوم العوالي 3/ 451، والكامل في التأريخ 6/ 38، 39، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1/ 82.

يَقضونَ بِالأَمرِ عَنها وَهيَ غافِلَةٌ ... ما دارَ في فُلُكٍ مِنها وَفي قُطُبِ لَو بَيَّنَت قَطُّ أَمراً قَبلَ مَوقِعِهِ ... لَم تُخفِ ما حَلَّ بِالأَوثانِ وَالصُلُبِ فَتحُ الفُتوحِ تَعالى أَن يُحيطَ بِهِ ... نَظمٌ مِنَ الشِعرِ أَو نَثرٌ مِنَ الخُطَبِ فَتحٌ تَفَتَّحُ أَبوابُ السَماءِ لَهُ ... وَتَبرُزُ الأَرضُ في أَثوابِها القُشُبِ يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت ... مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ ... وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ أُمٌّ لَهُم لَو رَجَوا أَن تُفتَدى جَعَلوا ... فِداءَها كُلَّ أُمٍّ مِنهُمُ وَأَبِ وَبَرزَةِ الوَجهِ قَد أَعيَت رِياضَتُها ... كِسرى وَصَدَّت صُدوداً عَن أَبي كَرِبِ بِكرٌ فَما اِفتَرَعتَها كَفُّ حادِثَةٍ ... وَلا تَرَقَّت إِلَيها هِمَّةُ النُوَبِ مِن عَهدِ إِسكَندَرٍ أَو قَبلَ ذَلِكَ قَد ... شابَت نَواصي اللَيالي وَهيَ لَم تَشِبِ حَتّى إِذا مَخَّضَ اللَهُ السِنينَ لَها ... مَخضَ البَخيلَةِ كانَت زُبدَةَ الحِقَبِ أَتَتهُمُ الكُربَةُ السَوداءُ سادِرَةً ... مِنها وَكانَ اِسمُها فَرّاجَةَ الكُرَبِ جَرى لَها الفَألُ بَرحاً يَومَ أَنقَرَةٍ ... إِذ غودِرَت وَحشَةَ الساحاتِ وَالرُحَبِ لَمّا رَأَت أُختَها بِالأَمسِ قَد خَرِبَت ... كانَ الخَرابُ لَها أَعدى مِنَ الجَرَبِ كَم بَينَ حيطانِها مِن فارِسٍ بَطَلٍ ... قاني الذَوائِبِ مِن آني دَمٍ سَرَبِ بِسُنَّةِ السَيفِ وَالخَطِيِّ مِن دَمِهِ ... لا سُنَّةِ الدينِ وَالإِسلامِ مُختَضِبِ لَقَد تَرَكتَ أَميرَ المُؤمِنينَ بِها ... لِلنارِ يَوماً ذَليلَ الصَخرِ وَالخَشَبِ

غادَرتَ فيها بَهيمَ اللَيلِ وَهوَ ضُحىً ... يَشُلُّهُ وَسطَها صُبحٌ مِنَ اللَهَبِ حَتّى كَأَنَّ جَلابيبَ الدُجى رَغِبَت ... عَن لَونِها وَكَأَنَّ الشَمسَ لَم تَغِبِ ضَوءٌ مِنَ النارِ وَالظَلماءِ عاكِفَةٌ ... وَظُلمَةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ فَالشَمسُ طالِعَةٌ مِن ذا وَقَد أَفَلَت ... وَالشَمسُ واجِبَةٌ مِن ذا وَلَم تَجِبِ تَصَرَّحَ الدَهرُ تَصريحَ الغَمامِ لَها ... عَن يَومِ هَيجاءَ مِنها طاهِرٍ جُنُبِ لَم تَطلُعِ الشَمسُ فيهِ يَومَ ذاكَ عَلى ... بانٍ بِأَهلٍ وَلَم تَغرُب عَلى عَزَبِ ما رَبعُ مَيَّةَ مَعموراً يُطيفُ بِهِ ... غَيلانُ أَبهى رُبىً مِن رَبعِها الخَرِبِ وَلا الخُدودُ وَقَد أُدمينَ مِن خَجَلٍ ... أَشهى إِلى ناظِري مِن خَدِّها التَرِبِ سَماجَةً غَنِيَت مِنّا العُيونُ بِها ... عَن كُلِّ حُسنٍ بَدا أَو مَنظَرٍ عَجَبِ وَحُسنُ مُنقَلَبٍ تَبقى عَواقِبُهُ ... جاءَت بَشاشَتُهُ مِن سوءِ مُنقَلَبِ لَو يَعلَمُ الكُفرُ كَم مِن أَعصُرٍ كَمَنَت ... لَهُ العَواقِبُ بَينَ السُمرِ وَالقُضُبِ تَدبيرُ مُعتَصِمٍ بِاللَهِ مُنتَقِمٍ ... لِلَّهِ مُرتَقِبٍ في اللَهِ مُرتَغِبِ وَمُطعَمِ النَصرِ لَم تَكهَم أَسِنَّتُهُ ... يَوماً وَلا حُجِبَت عَن رَوحِ مُحتَجِبِ لَم يَغزُ قَوماً وَلَم يَنهَض إِلى بَلَدٍ ... إِلاّ تَقَدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرَعَبِ لَو لَم يَقُد جَحفَلاً يَومَ الوَغى لَغَدا ... مِن نَفسِهِ وَحدَها في جَحفَلٍ لَجِبِ رَمى بِكَ اللَهُ بُرجَيها فَهَدَّمَها ... وَلَو رَمى بِكَ غَيرُ اللَهِ لَم يُصِبِ مِن بَعدِ ما أَشَّبوها واثِقينَ بِها ... وَاللَهُ مِفتاحُ بابِ المَعقِلِ الأَشِبِ

وَقالَ ذو أَمرِهِم لا مَرتَعٌ صَدَدٌ ... لِلسارِحينَ وَلَيسَ الوِردُ مِن كَثَبِ أَمانِياً سَلَبَتهُم نُجحَ هاجِسِها ... ظُبى السُيوفِ وَأَطرافُ القَنا السُلُبِ إِنَّ الحِمامَينِ مِن بيضٍ وَمِن سُمُرٍ ... دَلوا الحَياتَينِ مِن ماءٍ وَمِن عُشُبِ لَبَّيتَ صَوتاً زِبَطرِيّاً هَرَقتَ لَهُ ... كَأسَ الكَرى وَرُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ عَداكَ حَرُّ الثُغورِ المُستَضامَةِ عَن ... بَردِ الثُغورِ وَعَن سَلسالِها الحَصِبِ أَجَبتَهُ مُعلِناً بِالسَيفِ مُنصَلِتاً ... وَلَو أَجَبتَ بِغَيرِ السَيفِ لَم تُجِبِ حَتّى تَرَكتَ عَمودَ الشِركِ مُنعَفِراً ... وَلَم تُعَرِّج عَلى الأَوتادِ وَالطُنُبِ لَمّا رَأى الحَربَ رَأيَ العَينِ توفِلِسٌ ... وَالحَربُ مُشتَقَّةُ المَعنى مِنَ الحَرَبِ غَدا يُصَرِّفُ بِالأَموالِ جِريَتَها ... فَعَزَّهُ البَحرُ ذو التَيّارِ وَالحَدَبِ هَيهاتَ زُعزِعَتِ الأَرضُ الوَقورُ بِهِ ... عَن غَزوِ مُحتَسِبٍ لا غَزوِ مُكتَسِبِ لَم يُنفِقِ الذَهَبَ المُربي بِكَثرَتِهِ ... عَلى الحَصى وَبِهِ فَقرٌ إِلى الذَهَبِ إِنَّ الأُسودَ أُسودَ الغيلِ هِمَّتُها ... يَومَ الكَريهَةِ في المَسلوبِ لا السَلَبِ وَلّى وَقَد أَلجَمَ الخَطِّيُّ مَنطِقَهُ ... بِسَكتَةٍ تَحتَها الأَحشاءُ في صَخَبِ أَحذى قَرابينُهُ صَرفَ الرَدى وَمَضى ... يَحتَثُّ أَنجى مَطاياهُ مِنَ الهَرَبِ مُوَكِّلاً بِيَفاعِ الأَرضِ يُشرِفُهُ ... مِن خِفَّةِ الخَوفِ لا مِن خِفَّةِ الطَرَبِ إِن يَعدُ مِن حَرِّها عَدوَ الظَليمِ فَقَد ... أَوسَعتَ جاحِمَها مِن كَثرَةِ الحَطَبِ تِسعونَ أَلفاً كَآسادِ الشَرى نَضِجَت ... جُلودُهُم قَبلَ نُضجِ التينِ وَالعِنَبِ

يا رُبَّ حَوباءَ حينَ اِجتُثَّ دابِرُهُم ... طابَت وَلَو ضُمِّخَت بِالمِسكِ لَم تَطِبِ وَمُغضَبٍ رَجَعَت بيضُ السُيوفِ بِهِ ... حَيَّ الرِضا مِن رَداهُم مَيِّتَ الغَضَبِ وَالحَربُ قائِمَةٌ في مَأزِقٍ لَجِجٍ ... تَجثو القِيامُ بِهِ صُغراً عَلى الرُكَبِ كَم نيلَ تَحتَ سَناها مِن سَنا قَمَرٍ ... وَتَحتَ عارِضِها مِن عارِضٍ شَنِبِ كَم كانَ في قَطعِ أَسبابِ الرِقابِ بِها ... إِلى المُخَدَّرَةِ العَذراءِ مِن سَبَبِ كَم أَحرَزَت قُضُبُ الهِندِيِّ مُصلَتَةً ... تَهتَزُّ مِن قُضُبٍ تَهتَزُّ في كُثُبِ بيضٌ إِذا اِنتُضِيَت مِن حُجبِها رَجَعَت ... أَحَقَّ بِالبيضِ أَتراباً مِنَ الحُجُبِ خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن ... جُرثومَةِ الدِينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ بَصُرتَ بِالراحَةِ الكُبرى فَلَم تَرَها ... تُنالُ إِلاّ عَلى جِسرٍ مِنَ التَعَبِ إِن كانَ بَينَ صُروفِ الدَهرِ مِن رَحِمٍ ... مَوصولَةٍ أَو ذِمامٍ غَيرِ مُنقَضِبِ فَبَينَ أَيّامِكَ اللاتي نُصِرتَ بِها ... وَبَينَ أَيّامِ بَدرٍ أَقرَبُ النَسَبِ أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ ... صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ (¬1). قارن بين هذا الموقف العظيم، وبين مواقف المسلمين اليوم ومنهم العرب، ولقد صدق الشاعر عمر أبو ريشة: أمتي كم غصة دامية ... خنقت نجوى علاك في فمي ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 451 _ 354.

تسمعي نوح الحزانى تطربي ... تنظري دمع اليتامى تبسمي رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم (¬1) ومن سيئات المعتصم أنه أمر بسجن الإمام أحمد قرابة ثلاثين شهرًا، وضرب ظهره بالسياط، لعدم قوله بخلق القرآن رحمه الله، وكان يدني المعتزلة وينتصر لآرائهم. توفي المعتصم رحمه الله يوم الخميس لتسع عشرة خلت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين فكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين وقيل وثمانية أيام (¬2). قرَّب الأتراك، واعتمد عليهم في جلائل الأمور، وأكثرهم مواليه، وأقصى العرب، وكان لهذا التصرف الأثر السيء على سير الخلافة فيما بعد. وقد عارضت قصيدة أبي تمام هذه، لما نعيشه من الأحداث المحدقة بالمسلمين اليوم ولاسيما بلاد الحرمين حرسها الله، بعنايته ثم بقيادتنا الحازمة، ثم بجنودنا البواسل، نسأل الله أن يحرسهم بقدرته، ويؤيدهم بنصره، فقلت على ضعف في نظمي الشعر: 1. الضربُ أصدقُ أفعالاً من الأمم ... في وَقْعِهِ الفَصْلُ بين الصدق والكذب 2. ضربُ القنابلِ لا ضربُ الْكُفُوْفِ بِهِ ... يَكُوْنُ رفعُ غشاء الشكِّ والحُجُب 3. بِيْضُ المواقف لا سودُ المَجالسِ في ... فِعْلِهِنَّ جِلاءُ الغَدْر والكذب ¬

(¬1) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية 1/ 327. (¬2) الرد على الجهمية والزنادقة 1/ 34، ونقض الدارمي على المريسي 1/ 22، وتلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 63.

4. والنصر في أفق الإسلام موقعه ... بين الفريقين لا في الخمسة القُطُب 5. أين المواقفُ؟ ! بل أين النُّفُوذ؟ ! وما ... صاغوه من كيدِهِم للدِّيْنِ والنُّخَب؟ ! 6. تَكَهُّنٌ بل سياساتٌ ملفقةٌ ... يَصُوْغُها الْحِقْدُ للإسلامِ والْعَرَبِ 7. الْغَرْبُ يَزْعُمُ والأيامُ كاشفةٌ ... عن المزاعم والتلفيق والصخَب 8. وهَدَّدُوا العُرْبَ بالتقسيم في فِتَنٍ ... تَتْرَى عليهم لبترِ الرأسِ والذنب 9. وواعدوا كل خوَّان بمَرْتَبَةٍ ... سووا بها بين شرعي ومُنْقَلِب 10. العُرْبُ يَقْضِيْ عليها وهي غافلة ... مَنْ دارَ في فَلَكٍ أو سار في لجب 11. لو بَيَّنَ الغَرْبُ أمراً قَبْلَ مَوْقِعِهِ ... لم يُخْفِ ما حَلَّ بالأفغانِ والعَرَبِ 12. وقادةُ العُرْبِ أَضْحَوا قد يُحِيْطَ بهم ... شرُّ الخلافِ وسوءُ القصْدِ واللَّعِب 13. فِسْقٌ تُفَتَّحُ أبوابُ الهلاكِ له ... ويَبْرُزُ الذُّلُّ في أَشكاله القُشُبِ 14. والحوث أجهل خلق الله ما ادَّرعوا ... من السياسة من ريش ولا زغب 15. سوى الغواية من (إيران) مغنمهم ... ونهج (عفاشٍ) المخلوع ذي الريب 16. تلون عنده والعهد ينقضه ... وليس للعرف يرعى لا ولا الطِّيَب 17. دَعْواهُمُ (اليمنُ) المسعودُ خدمتَهم ... وهم الساعون به للفقر والعطب 18. أنى لهم أن ينيلوه سعادته؟ ! ... وقد مضوا لشقاء جد مُرتَقَب 19. لم يفقهوا أنهم خانوه إذ عمدوا ... (إيران) يهدونه للنار واللهب 20. ماذا بـ (إيران)؟ ! ماذا الشعب حالته ... فيها؟ ! وهيهات أن ينجوا من النصب

21. شعب بها (والملالي) صار مغنمهم ... من كده الخمس مَصَّوه لِمُحتلب 22. حتى إذا غدا الشعب في فقر ومسغبة ... يسري لهم ألم في الروح والعصب 23. هذي سعادة (حوثيين) إذ جهلوا ... ما سوف تجلبه (إيران) من تعب 24. غطى على بصر منهم ومسمعهم ... غَشْيُ الدعايات والتضليل والكذب 25. وليتهم وقفوا في حد ما وصفوا ... وعللوا النفس بالتغيير والكَسَب 26. وشر (إيران) في هذا سيسعدهم ... في كل مُطَّلَبٍ في كل مُرْتَغَب 27. بلادهم برخاء سوف تتحفهم ... وخيرها سوف يأتيهم بمُطَّلَب 28. إذن لجروا لأوطان لهم خدعا ... بيوتهم بيَدَي عاثٍ ومخترب 29. لكنهم جاوزوا حدا ولم يقفوا ... عند الحدود بإسراف لدى الطلب 30. بحيث قالوا هراء وادعوا كذبا ... بأن حقا لهم في كل منتشب 31. وأن للحرمين العزم ينهزهم ... لمكةَ وبناءٍ فيه خير نبي 32. وأن (مملكةَ) آلُ السعود بها ... يغشونها دون ما شك ولا ريب 33. وأن حكما لهم فيها وسيطرة ... ستسقر بلا شك ولا تعب 34. وذاك حلم لهم أضحى يراودهم ... بكل وسواسه حتى مع الكذب 35. ولم يُسرِّب لهم تفكيرهم صورا ... لِما يكون بهذا الدرب من عَطَب 36. استيقضوا واخسأوا يا (حوث) مطلبكم ... هذا به الموت ولتجفوا عن اللعب 37. وأنت (سلمانُ) قد خضت العباب له ... كيما يعود نصاب الحق في قُصُب

38. لك الولاء يا قائد مسيرتنا ... لو مسنا الجوع لن نجثو على الركب 39. نقوم وبحبل الله نعتصم ... ونقتدي في الولاء أقوالَ خير نبي 40. يا يومَ قادَ الجيوشَ الَعُرْبُ في حُلَلٍ ... لم تُخْفِ ما حَلَّ بالأوثان والصُلُبِ 41. أَبْقَيْتَ حَظَّ بَنِيْ الإسلامِ صاعِدَةً ... والتائهين ودارَ الغي في صَبَبِ 42. واليوم يبكي بَنُوْا الإسلامِ من كَمَدٍ ... السيفَ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ 43. يا يومَ مُعْتَصِمٍ عُدْ لِيْ وفي عَجَلٍ ... لِبَرْزَةِ الوَجْهِ في يافا وفي حلب 44. بِكْرٌ تَفَرَّعَها وَغْدٌ لِيَنْحَرَها ... بالفُحْشِ والموتِ في الأيامِ من رَجَبِ 45. في عهدِ بشّارَ بَلْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ قَدْ ... كانت سياستُهُمْ أَقْسَى من الشُّهُبِ 46. حتَّى إذا كانتِ الغازاتُ مُهْلِكَةً ... كُلُّ الأُمَم تَدَّعِيْ شَجْبَا ولم تُصِبِ 47. للهِ أَمْرُ بلادِ الشّامِ قاطِبَةً ... إِنْ شَاءَ يَجْعَلْ لَها فَرَّاجَةَ الكُرَبِ 48. يَجْرِيْ لَها الفَأْلُ سَعْداً يومَ قارِعَةٍ ... تُشِلُّ بشّارَ تُحْيِيْ مَيِّتَ الطَّرَبِ 49. مِنْ بَعْدِها النَّصْرُ يأْتِيْ لِلْعِراقِ شَذَىً ... لَمَّا تَرَى أُخْتَها بالأَمْسِ في طَرَبِ 50. بَعَدَ انْتِصارٍ على الأَعْداءِ يُفْرِحُها ... تَرَى الشّهِيْدَ لِذاتِ اللهِ خَيْرَ مُنْتَدَبِ 51. بِسُنَّةِ المُصْطَفَى والدِّيْنِ مُعْتَصِمً ... مُضَمَّخً بالْهُدَى بالطِّيْبِ مُخْتَضِبِ 52. دَا سَرِيْعاً لِجَنَّاتٍ بِها نَهَرٌ ... أَرْدَى عَدُواً غَدَا للنَّار كالْخَشَبِ 53. يا خادمَ الحرمين اليومَ أَنْتَ ضُحًى ... أَشْرَقْ بِكَ السَّعْدُ في أَعْوَانِكَ النُّجُبِ 54. برزت للحزم تبغي الخير منتصرا ... وناصرا لجوار بالجحفل اللجب

55. إن الضحى قد تُعَكر صفوَه سحب ... هي الجَهام فلا تسلم من اليَبَب 56. فاحذر رعاك الله وَدْق غيمتها ... ما هل بالخير بل بالشر والكرب 57. شَمْسٌ تَبَدَّتْ لِبانٍ قَادَ مَرْكَبَها ... رَسَا وَغَابَ كَرِيْماً والشَّمْسُ لَمْ تَغِبِ 58. نَرَى الجزيزةَ في ضَوْءِ النهارِ عاكِفَةً ... وظُلْمَةَ الليلِ وَلَّتْ من سَنا الشُّهُبِ 59. والشمسَ طالعةً في ليلها سَرَباً ... لا ينقطع ضَوؤُها مَكْشُوْفَةَ الحُجُبِ 60. تَكَشَّفَ الدَّهْرُ عن حُبِّ لقائدنا ... يَحْمِيْ عَقِيْدَتَنا أَلْكُلُّ عن كَثَبِ 61. شبابُنا من بَنِيْ الإسلامِ متنظرٌ ... مَزِيْدَ خَيْرٍ ويُدْرِكْ عالِيَ الرُتَبِ 62. مِنْ كُلِّ عادِيَةٍ يَحْمِيْ البلادَ ومِنْ ... فِكْرٍ دَخِيْلٍ على الأقلامِ والكُتُبِ 63. وما الصُّدُودُ عن الإسلامِ في خَجَلٍ ... من طَبْعِ رَابٍ على فَضْلٍ وفي أَدَبِ 64. سماحةُ الدِّيْنِ والإسلامِ يَرْضَعُها ... شبابُ دولتنا في مَرْبَأِ الْعَجَبِ 65. لَهُم بِذاكَ على الإسلامِ مَنْقَبَةٌ ... جاءَ تْ بَشائِرُها في حُسْنِ مُنْقَلَبِ 66. سَعَى بِذاكَ إليهم كُلُّ تَقِيْ ... للهِ مُرْتَقِبٌ في الدِّيْنِ مُرْتَغِبِ 67. جَحَافِلُ الخَيّرِ تَتْرَى من بلدي ... للهِ تُعْطِيْ بِلاَ مَنٍّ ولا عَتَبِ 68. لَمْ تَغْزُ قوماً ولم تَذْهَبْ إلى بَلَدً ... إلّا لِخَيْرٍ على الساحاتِ والرَّحَبِ 69. حِمَى الوطن لا نساوِمْ في حِمايَتِهِ ... نُفْدِيْهِ يومَ الْوَغَى في جَحْفَلٍ لَجِبِ 70. يُرْمَى به كُلُّ مَنْ يَبْغِيْ مُناجَزَةً ... ومَنْ رَمَيْناهُ لَمْ يَسْعَدْ ولَمْ يُصِبِ 71. مَنْ شَبَّ نارَ الوغَى يوماً يُنازِلُنا ... نَبْعَثْ له كُلَّ شَبَّابٍ لَها شَبِبِ

72. يَصْدُرْ يَجُرُّ الرَّدَى من موقفٍ صَدِدٍ ... بالحزم والعزم والنيران والشُّهُبِ 73. ومَنْ تَمَنَّى حِمَى الإسلامِ نُرْغِمُهُ ... على الْهَزِيْمَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ والسَّلَبِ 74. ما غَلَّ قَلْبٌ على أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ ... إِلاَّ الزَّنادِيْقُ من حِقْدٍ ومن عَشَبِ 75. لَبَيْكَ لَبَيْكَ يا قائد مسيرتَنا ... أَصدرت أمرا لِنَشْرِ الْعَدْلِ لَمْ تَخِبِ 76. فَدَاكَ كُلُّ مَنْ يَشْنَأْ على عَجَلٍ ... في حُبِّكَ الشَّعْبُ يَغْدُو شامَةَ العَرَبِ 77. أَجَبْتَهُ مُعْلِنَا عِلْماً وتَنْمِيَةً ... لَوْ لَمْ تَكُنْ في بِنَاءِ الْفَرْدِ لَمْ تُجِبِ 78. واليومَ تجعل مَجالَ الخيرَ مُطَّردا ... يَحْظَى بِهِ مَنْ وَفَد بَلْ كُلُّ مُغْتَرِبِ 79. ومَنْ رَأَى الْخَيْرَ رَأْيَ الْعَيْنِ في وَطَنٍ ... أَعْطَى الْمُوَالِيْ ولِلتَّأْلِيْفِ ذَا الْحَرَبِ 80. وصَرَّفَ المالَ إِصْلاحاً وتَنْمِيَةً ... وقُوَّةُ الجيش ضِدَّ الصائِلٍ الذَرِبِ 81. وأَنْفَقَ الذَّهَبَ المُرْبِيْ بِكَثْرَتِهِ ... على الرِّمالِ لِيُعْطِيْ كُلَّ مُكْتَسِبِ 82. في الخيرِ يُعْطِيْ وما قَلَّتْ عَطِيّتُهُ ... في جانِبِ البِرِّ يُغْرِيْ كُلَّ مُحْتَسِبِ 83. هَيْهاتَ يُعْطِيْ العَدُو يَوْماً مُصَانَعَةً ... كُلُّ الشَّغامِيْمِ يومَ الرَّوْعِ في طَرَبَ 84. إِنَّ الأُسُوْدَ لَتَطْرَبُ في الْوَغَى طرباً ... يومَ الْكَرِيْهَةِ لِلْمَسْلُوْبِ والسَّلَبِ 85. وتُلْقِمُ الطّاغِيَ الباغِيْ حَجَراً ... فَيَنْتَكِسْ حَظُّهُ والناسُ في صَخَبِ 86. يا دَارَةَ الْعِزِّ والأوطانُ تتبعُها ... لَكِ الْحُماةُ مَدارَ السِّلْمِ والْغَضَبِ 87. مُوَكِّلُوْنَ بأَطْرافِ الثُّغُوْرِ حَرَساً ... يَحْمِيْكِ مِنْ نَزْغَةِ الأَعْداءِ والْخُطُبِ 88. مُرَابِطُوْنَ لِدَفْعِ الشَّرِ عَنْ بَلَدٍ ... تَهْوِيْ إِلَيْهِ قُلُوْبُ الناسِ مِنْ كُرَبِ

الملك التاسع من ملوك بني العباس: الواثق

89. هُمُ الزُّكَاةُ بَيْنَ الناسِ قاطِبَةً ... مُنَجَّذُوّنَ على التَّدْرِيْبِ والرُّتَبِ 90. أَوْصِيْهُمُوْا بَعْدَ تَقْوَى اللهِ يَحْتَسِبُوْا ... أَعْمالَهُمْ في جَلاءِ الشَّكِّ والرِّيَبِ (¬1). الملك التاسع من ملوك بني العباس: الواثق: تاسع خلفاء الدولة العباسية، وهو الواثق بالله أبو جعفر هارون بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد تسمى قراطيس. ولد بطريق مكة سنة تسعين ومائة، وقيل: ولد سنة ست وتسعين ومائة وقيل: سنة أربع وتسعين. بويع له في الوقت الّذي توفى فيه والده المعتصم، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومئتين، ورد رسوله بغداد يوم الجمعة على إسحاق بن إبراهيم، فلم يظهر ذلك، ودعا للمعتصم على منبر بغداد وهو ميت، فلما كان الغد يوم السبت أمر إسحاق بن إبراهيم الهاشميين والقواد والناس بحضور دار أمير المؤمنين، فحضروا، فقرأ كتابه على الناس بنعي أبيه، وأخذ البيعة، فبايع الناس. ومن سيئاته: أنه سار سيرة والده في الانتصار للمعتزلة، والقول بخلق القرآن، فقد أمر بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم، وتشدد في فرض آرائه، مما أثار أهل بغداد عليه، كما لاحظ المؤرخون في عهده الضعف الذي شاب السياسة الإدارية، يذهب في كثير من أموره مذاهب المأمون، شغل نفسه بمحنة الناس في الدين فأفسد قلوبهم، وأوجدهم السبيل إلى الطعن عليه ونقش خاتمه "الله ثقة الواثق". ¬

(¬1) قوم هذه القصيدة وأجاز نشرها أخي وزميلي فضلة الأستاذ الدكتور إبراهيم نور سيف، عضو هيئة التدريس بكلية الحديث/ قسم علوم الحديث.

الملك العاشر من ملوك بني العباس: المتوكل

توفي بسُرَّ مَنْ رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة وقيل: في سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل لثلاث بقين منه سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وكانت خلافته خمس سنين وشهرين وأحد عشر يوما وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما، وقيل: تسعة أشهر وستة أيام، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة (¬1). الملك العاشر من ملوك بني العباس: المتوكل: عاشر خلفاء الدولة العباسية، وهو أخو الواثق، المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد. أمه أم ولد اسمها شجاع، ولد سنة سبع ومئتين. بويع في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. كان أسمر مليح العين نحيف الجسم خفيف العارضين إلى القصر أقرب. وكانت خلافته بداية لما يسمى بعصر نفوذ الأتراك، وكان في أول أمره يدني أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي حتى جعله كبير القضاة، وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين غضب عليه وقبض ضياعه وأمواله وحبسه، وأظهر السنة وتكلم بها في مجلسه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وإظهار السنة وبسط أهلها ونصرهم، وأمر بترك الجدل الذي أثير في عهد المأمون والمعتصم، وكتب بذلك إلى الأمصار الإسلامية مما كان له أكبر الأثر في نفوس المسلمين، فكان من حسناته أن الله رفع محنة القول بخلق القرآن في خلافته وعاد الأمر إلى أهل السنة، وأشهر القول ببدعة ¬

(¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 64، والتنبيه والإشراف 1/ 312، 313، ونقض الدارمي على المريسي 1/ 22، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم 4/ 283، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412، وتاريخ دمشق لابن عساكر (73/ 323.

الملك الحادي عشر من ملوك بني العباس

القول بخلق القرآن، وأعلن مذهب أهل السنة في القرآن؛ وأنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود (¬1). قتله ابنه المنتصر ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. كان خالد بن عمران الزهراني من حجابه ثم ولاه على الموصل، وقال: نوليك أهلك وبلدك؛ وهو خالد بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مجاسر أو مجاشع بن سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. وكان أخوه المعافى بن عمران الزهراني من أئمة العلم والعمل، رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وجالس العلماء، ولزم سفيان الثوري وتأدب بآدابه، وتفقه بمجالسته، وأكثر الكتابة عنه، وعن غيره، وصنف حديثه في الزهد، والسنن، والفتن، والأدب، وغير ذلك، وكان زاهدا فاضلا، شريفا كريما عاقلا، صاحب دنيا واسعة، وضِياع كثيرة. الملك الحادي عشر من ملوك بني العباس: المنتصر: حادي عشر خلفاء الدولة العباسية، قيل: اسمه الزبير، وفي كنيته ثلاثة أقوال: أبو جعفر، وأبو عبدالله، وأبو العباس وقيل: وهو محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور أخي السفاح بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب. ¬

(¬1) نقض الدارمي على المريسي 1/ 22، والحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن 1/ 16، والوافي بالوفيات 11/ 100، 101.

الملك الثاني عشر من ملوك بني العباس: المستعين

ولد بسر من رأى في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وكان أعين، قصيرا، أقنى، أسمر، ضخم الهامة، عظيم البطن، جسيما، مليح الوجه، مهيبا، على عينه اليمنى أثر وقع أصابه وهو صغير. وأمه أم ولد، رومية، يقال لها: حبشية. لقبه المنتصر بالله تولى الخلافة بعد أن قتل أباه في سنة سبع وأربعين ومائتين، وبادر بخلع أخويه: المعتز، والمؤيد، من ولاية العهد، ومال إلى العلويين، وسمح لهم بزيارة قبر الحسين، وأدنى منه الأتراك، ثم ما لبث أن قلب لهم ظهر المجن، فتآمروا مع طبيبه على قتله بالسم وكان ذلك، فمات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وعمره ست وعشرون سنة، وصالح المنتصر أخويه عن إرثهم من أبيهم على أربعة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم بذلك (¬1). قتل أباه، وخلع أخويه، وكان الجزاء من جنس العمل، ولا أستبعد أن ذلك كان بمشورة من الأتراك الذين قربهم. وكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام وقيل سبعة (¬2). الملك الثاني عشر من ملوك بني العباس: المستعين: ثاني عشر خلفاء الدولة العباسية، تولى الخلافة في اليوم الّذي توفى فيه المنتصر، في سنة ثمان وأربعين ومائتين. ¬

(¬1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 11/ 353، 354، وأخبار الدولة العباسية 1/ 412. (¬2) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 471، أخبار الدولة العباسية 1/ 412، ونقض الإمام الدارمي على المريسي 1/ 23.

وهو أحمد بن محمد بن محمد المعتصم، ويكنى أبا عبدالله، وأمه أم ولد يقال لها: مخارق، وغلب على التدبير والأمر والنهي، أوتامش ابن أخت بغا الكبير، وجرت أمور منها خروج شرذمة من الأتراك يقولون: يا معتز يا منصور، وخلافات أدت إلى خلع المستعين نفسه، وسلّم الخلافة الى المعتز لليلتين خلتا من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وقتل بقادسية سُرَّ مَنْ رأى يوم الأربعاء لثلاث ليال خلون من شوال في هذه السنة، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، فكانت خلافته منذ بويع إلى أن خلع ثلاث سنين وثمانية أشهر وثمانية وعشرين يوما، ومنذ خلع إلى أن قتل تسعة أشهر، وكان أبيض حسن الوجه، ظاهر الدم، بوجهه أثر جدري (¬1). وهو أول من أحدث لبس الأكمام الواسعة، فجعل عرضها نحو ثلاثة أشبار، وقد ورد النهي عن لبس القمصان ذات الأكمام الواسعة الطوال، لأنها من جنس الخيلاء. وكان أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة: وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس فأمر المستعين بتقصيرها (¬2). وفي أيامه ولَّت الأزد من زهران وغيرها قيادتها يحيى بن سليمان بن عمران الزهراني؛ هو يحيى بن سليمان بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن ¬

(¬1) أخبار الدولة العباسية 1/ 413، 415، والتنبيه والإشراف 1/ 315، والبداية والنهاية 11/ 5، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 12/ 6. (¬2) تاريخ الخلفاء 1/ 24، 261، وتاريخ الطبري 8/ 42، 43، وكنوز الذهب فى تاريخ حلب 2/ 11، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/ 55.

الملك الثالث عشر من ملوك بني العباس: المعتز

لبيد بن مجاسر بن سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. الملك الثالث عشر من ملوك بني العباس: المعتز: ثالث عشر خلفاء الدولة العباسية، خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وبايع المعتزّ، وهو محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور عبدالله، يكنى: أبا عبدالله، وقيل: إن اسم المعتز أحمد، وقيل الزبير، دعي للمعتزّ على منبري بغداد ومسجدَي جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند. أمه تركية اسمها قبيحة لفرط جمالها بين النساء، أخذها ابن وصيفتها وعذبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهبا ونصف أردب لؤلؤ ومثله زمرد وسدس أردب ياقوت أحمر ثم أخرجت إلى مكة وأقامت بها إلى أن ماتت وأقل الناس الترحم عليها حيث إن هذا المال عندها وشحت به عن ولدها عند احتياجه فكان عليه ما كان. كان المعتز بديع الحسن جدا مليح الصورة حسنا، طويلا، أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين والجسم، ضيق الجبهة، أحمر الوجنتين، وكان مستضعفا مع الأتراك. ولد بسُرَّ مَنْ رأى وبقي منذ بويع أربع سنين وبعض أخرى. مات في الثاني من شهر رمضان بسر من رأى، ودفن بموضع يقال له: باب السميدع، سنة خمس وخمسين ومائتين، وله ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافة المعتز بالله من يوم دعي له بالخلافة ببغداد إلى يوم دفن ثلاث سنين وسبعة أشهر إلا ثلاثة أيام.

وقيل: كانت خلافه المعتز إلى أن خلع يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب، سنة خمس وخمسين ومائتين أربع سنين وستة أشهر وأربعة عشر يوما، وعمره ثلاثا وعشرين سنة، وقيل: يوم السبت ليومين من شعبان، وصلى عليه محمد بن الواثق المهتدي بالله، ودفن عند قبر المنتصر بالله يوم السبت لثلاث خلون من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. اتفق الأتراك على خلعه، وهجموا عليه وجروا برجله، وأوقفوه في الشمس فصار يرفع رجلا ويضع رجلا وعذبوه، وهم يلطمونه ويقولون اخلعها ويتقي بيديه ويمتنع، ثم أجابهم وخلع نفسه، فأدخلوه الحمام ومنعوه الماء إلى أن مات عطشا، وقيل: أتوه بماء مالح فشربه وسقط ميتا، ثم أخرجوه وأشهدوا عليه أنه لا أثر به (¬1). قلت: هذا جزاء من يقرب الأباعد، ويعرض عن العزوة من القرابة وغيرهم، مع أنه اختلط الحابل بالنابل، من أجل الحكم والرئاسة، ومن المُوالي من يسمع ويطيع ولو كان من الأباعد، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقد كان واليه على حرب الموصل وصلاتها سليمان بن عمران الزهراني؛ وهو سليمان بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مجاسر بن سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. ¬

(¬1) أخبار الدولة العباسية 1/ 413، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 12/ 43، وتاريخ بغداد وذيوله 2/ 123، 124، 487 وبغية الطلب في تاريخ حلب 8/ 3776. (¬2) من الآية (21) من سورة يوسف.

الملك الرابع عشر من ملوك بني العباس

الملك الرابع عشر من ملوك بني العباس: المهتدي: رابع عشر خلفاء الدولة العباسية، وهو محمد بن هارون الواثق بن المعتصم ويكنى أبا إسحاق، ويقال: أبو عبدالله، وأمه أم ولد رومية: تسمى قُرْب. ولد بالقاطول (¬1) في ربيع الأول سنة تسع عشرة ومائتين، وكان منزله بسُرَّ مَنْ رأى. ولم يقبل بيعة أحد حتّى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم "هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبدالله ابن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه، وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه، فأخرج نفسه من الخلافة، وبرئ منها وخلع نفسه، وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن ¬

(¬1) نهر حفره الرشيد عند سامرا سمّاه القاطول، وبنه قصر للرشيد وفيه يقول جحظة: إلى شاطئ القاطول بالجانب الذي ... به القصر بين القادسية والنخل. معجم البلدان 3/ 134، 4/ 293.

قرئ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. فوقّع المعتزّ في ذلك: أقرّ أبو عبدالله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه، يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من رجب سنة خمس وخمسين مائتين. قلت: هذا الكتاب ينقضه ما جرى للمعتز، على يدي الأتراك، والغمز فيه ظاهر، يؤيد هذا ما ورد ضمنه عبارة " بعد أن قرئ عليه حرفا حرفا " ولا أشك في أنه من تدبير الغالب على الأمر والقيم بالتدبير صالح بن وصيف، وموسى بن بغا الكبير، وهما المتآمران على المعتز، غير أن بغا أنكر ما جرى على المعتز لما قدم على المهتدي من الري وكان عاملا عليها، ورده المهتدي من حيث أتى, وجرت بينهما وبين المهتدي مواقف انتهت بقتل صالح، والتصالح مع بغا، أخذ كل واحد منها على صاحبه الأيمان والمواثيق بالوفاء والمناصحة. وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، وعمره ثمان وثلاثون سنة وكان رحب الجبهة، أجلح، جهم الوجه، أشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرا، طويل اللحية. وقيل: كان أسمر رقيقا أجلى، رحب الوجه، حسن اللحية، أشهل العينين، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرا، طويل اللحية، أشيب. وكان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهبا، وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعا، وأكثرهم عبادة، ورعاً تقياً متعبداً عادلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الخير. وقيل: إنه سرد الصوم مدة إمرته، وكان يقنع بعض الليالي بخبز وخل، وزيت، وكان يشبه بعمر بن عبدالعزيز، وورد أنه كان له جبة صوف وكساء يتعبد فيهما

لله، وكان قد سد باب الملاهي والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم، وكان يجلس بنفسه لعمل حساب الدواوين، وأسند عنه أحمد بن علي بن ثابت الخطيب حديثا قال: أخبرنا ابن رزق حدثنا محمد بن عمرو بن القاضي الحافظ، أخبرنا محمد بن الحسن بن سعدان المروزي، حدثنا محمد بن عبد الكريم بن عبيد الله السرخسي قال: حدثني المهتدي بالله قال: حدثني علي بن هاشم بن طبراخ عن محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى، عن داود، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله، ما لنا في هذا الأمر شيء؟ قال: «لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم» (¬1). قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس: «من أحبك نالته شفاعتي ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي» (¬2). ذكر أحمد بن سعيد الأموي قصة فيها إرهاص بموت المهتدي قال: كانت لي حلقة وأنا بمكة أجلس فيها في المسجد الحرام، ويجتمع إلي فيها أهل الأدب، وإنا يوما لنتناظر في شيء من النحو والعروض، وقد علت أصواتنا وذلك في خلافة المهتدي، إذ وقف علينا مجنون، فنظر إلينا ثم قال: أما تستحون الله يا معدن الجهل ... شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل إمامكم أضحى قتيلا مجدلا ... وقد أصبح الإسلام مُفترِق الشمل. وأنتم على الأشعار والنحو عكف ... تصيحون بالأصوات لستم ذوي عقل ¬

(¬1) تاريخ بغداد 4/ 553، وابن عساكر 7/ 247، ولعل المراد ختمه بالمهدي؛ وهو من بني هاشم. (¬2) المصدر السابق.

الملك الخامس عشر من ملوك بني العباس: المعتمد

ثم انصرف المجنون، وتفرقنا، وقد أفزعنا ما ذكره المجنون، وحفظنا الأبيات، فخبرت بذلك إسماعيل بن المتوكل، فحدث به قبيحة أم المعتز بالله فقالت: إن لهذا لنبأ فاكتبوا هذه الأبيات، وأرخوا هذا اليوم، واطووا هذا الخبر عن العامة. ففعلنا، فلما كان يوم الخامس عشر ورد الخبر من مدينة السلام بقتل المهتدي. فقد اتفق الأتراك على قتل المهتدي، فخرجوا عليه، فلبس السلاح وشهر سيفه وحمل عليهم فأسروه وخلعوه، ثم قتلوه إلى رحمة الله، في رجب وكانت دولته سنة، وعمره نحو ثمان وثلاثين سنة، وذلك في يوم الثلاثاء، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، ولم يخلع المهتدي نفسه فقتلوه، وقيل مات من سهم وضربة كانا به، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، وقيل: سموه (¬1). وفي عهده ولي عبدالله بن سليمان بن عمران الزهراني على حرب الخوارج في الموصل؛ وهو عبدالله بن سليمان بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مجاسر بن سليمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران بن كعب. الملك الخامس عشر من ملوك بني العباس: المعتمد: خامس عشر خلفاء الدولة العباسية، ولما قتل المهتدي أقام الأتراك بعده المعتمد على الله وهو أحمد بن جعفر المتوكل، ويكنى أبا العباس، وأمه أم ولد تسمى فتيان. ¬

(¬1) التنبيه والإشراف 1/ 317، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 12/ 81، 82، 120، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم (4/ 389، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، تاريخ الطبري 9/ 469، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان 2/ 124، والمختصر في أخبار البشر 2/ 47. وشذرات من كتب مفقودة في التاريخ 2/ 417، وتاريخ بغداد ت بشار 7/ 272.

تولى الخلافة يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، فأهمل أمور رعيته وتشاغل بلهوه ولذاته، حتى أشفى الملك على الذهاب، فغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه: أبو أحمد الموفق طلحة بن جعفر المتوكل، ويسمى بالناصر لدين الله، وصيره كالمحجور عليه ولا أمر ينفذ له ولا نهى، فقام بأمر الملك أحسن قيام، وقمع من قرب من الأعداء، واستصلح من نأى، على كثير ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم وتشغبهم، فلم تزل أمور الموفق جارية على ذلك الى أن توفي المعتمد، ولبث المعتمد ثلاثا وعشرين سنة في أثنائها جرد أخاه الموفق لقتال صاحب الزنج كان من أخبث الخوارج مشتتا للمسلمين، واستحل دماءهم، وكان ينادي على المرأة في محطته باسمها ونسبها، وربما كانت شريفة فتباع بالبخس، وبهذا بان عدم شرفه، وبُحث عن نسبه فلم يوجد له في العلويين صحة نسب، وكانت فتنته مختصة بالبصرة، ولم يزل الموفق يحاربه حتى قتله في صفر سنة سبعين ومئتين، مدته أربع عشرة سنة وهو من أشد مُدد الخوارج. كان المعتمد جهيرا فصيحا صيتا إذا خطب أسمع أقصى الناس، وكان يمثل بينه وبين المستعين بالسخاء. وهو أول من حجر عليه التصرف في شؤون الدولة لما سبق ذكره، وهو أول من قهر بالوكالة، فقد كان أخوه الموفق الوكيل المتصرف في أمور الدولة، إلى أن توفى بمدينة السلام في صفر سنة ثمان وسبعين ومئتين (¬1). ¬

(¬1) السلوك في طبقات العلماء والملوك 1/ 199، والتنبيه والإشراف 1/ 318، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، وشذرات من كتب مفقودة في التاريخ 2/ 417.

الملك السادس عشر من ملوك بني العباس: المعتضد

الملك السادس عشر من ملوك بني العباس: المعتضد: سادس عشر خلفاء الدولة العباسية، وهو أحمد بن أبي أحمد الموفق بالله، واسم أبي أحمد: محمد وقيل: طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، ويكنى: أبا العباس، وأمه أم ولد: كان اسمها ضرار، ثم سميت: تحقين، وتوفيت قبل خلافته بيسير. وكان مولده بسُرَّ مَنْ رأى سنة ثلاث وأربعين ومائتين. بويع المعتضد يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وكان لقبه "المعتضد بالله" ونقش خاتمه "الحمد للَّه الّذي ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء". وكان نحيفا ربعة من الرجال حسن اللحية خفيف العارضين يخضب بالسواد سريع النهضة عند الحادثة قليل الفتور، يتفرد بالأمور ويمضى تدبيره بغير توقف، ولى الأمر بضبط وحركة وتجربة، وكف من كان يتوثب ويتشغب من الموالي. توفى بمدينة السلام ليلة الأحد وقيل: الثلاثاء لثمان بقين وقيل: لست ليال بقين من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وثمانين ومائتين، وله سبع وأربعون سنة فكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما (¬1). ¬

(¬1) المختصر في أخبار البشر 2/ 59، وتاريخ الإسلام 21/ 35، والتنبيه والإشراف 1/ 320، 321، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 12/ 306، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 13/ 3.

الملك السابع عشر من ملوك بني العباس: المكتفي

الملك السابع عشر من ملوك بني العباس: المكتفي: وهو سابع عشر خلفاء الدولة العباسية، وهو المكتفي على بن أحمد المعتضد، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ولد تركية يقال لها: خاضع. ولد سنة أربع وستين ومائتين. وليس في الخلفاء من اسمه علي غير علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والمكتفي. بويع بالخلافة بعد موت أبيه ليلة الاثنين من ربيع الآخر، وقيل: الأول، سنة تسع وثمانين ومائتين، وكان المكتفي مقيما بالرقة، ثم خرج شاخصا من الرقة الى بغداد، وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الاولى دخل المكتفي الى داره بالحسنى. توفى بمدينة السلام ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وله إحدى وثلاثون سنة وستة أشهر، وقيل: أكثر من ذلك، وكانت خلافته ست سنين وتسعة عشر يوما، وكان دقيقا أسمر اللون، أعين قصيرا حسن الشعر واللحية كبيرهما، حسن الوجه والبدن، أفضى الأمر اليه بعد توطئة أبيه الأمور له، فبُلي بكثرة الفتوق عليه واضطراب الأطراف. وكان ماله جما، وجيوشه كثيفة، فقام بتلك الأمور مقتفيا فعال أبيه، محتذيا طرائقه، ولم يكن ممن يوصف بشجاعة ولا جبن (¬1). الملك الثامن عشر من ملوك بني العباس: المقتدر: ثامن عشر خلفاء الدولة العباسية، وهو جعفر بن المعتضد لقب المقتدر بالله، كنيته أبو الفضل، وقيل إن اسمه إسحاق، وإنه إنما اشتهر بجعفر لشبهه بالمتوكل. ¬

(¬1) تجارب الأمم وتعاقب الهمم 5/ 23، والتنبيه والإشراف (1/ 321، وتاريخ الطبري 10/ 88، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

ولم يكن في الخلفاء من اسمه جعفر إلا جعفر المتوكل، وجعفر المقتدر، وكان مقتلهما جميعا في شوال قتل المتوكل ليلة الأربعاء لثلاث ليال خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، وقتل المقتدر بين خاصته دون سائر من كان معه يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال وتولى قتل المقتدر موالي أبيه المعتضد. ولد ليله الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وأمه أم ولد يقال لها: شغب. بويع بالخلافة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنه خمس وتسعين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر واحد، وواحد وعشرين يوما، وكانت البيعة للمقتدر في القصر المعروف بالحسنى، فلما دخله ورأى السرير منصوبا أمر بحصير صلاة فبسط له، وصلى أربع ركعات، وما زال يرفع صوته بالاستخارة ثم جلس على السرير، وبايعه الناس، ولم يل الخلافة أصغر سنا منه. جرت محاولة خلع المقتدر وتنصيب ابن المعتز يوم السبت للنصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، ولم تنجح، فقبض على ابن المعتز وقتل، وصفا الأمر للمقتدر، ثم خلع بعد ذلك، وأزيل عن سرير ملكه، وأخرج عن دار الخلافة للنصف من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم تبايع أشياع المقتدر وخواصه، فأعيد إلى سرير ملكه، وجددت له البيعة، وصفا له الأمر، وذلك في يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم من هذه السنة، وخرج المقتدر فيمن بايعه من الجيوش للقاء الخارجين عليه، فقتل بظاهر مدينة السلام، مما يلي الشماسية، يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وله ثمان وثلاثون سنة وشهر وسبعة عشر يوما.

الملك التاسع عشر من ملوك بني العباس: القاهر

وكان رَبع القامة الى القصر ما هو، دري اللون، صغير العينين، أحور حسن الوجه واللحية أصهبها، أفضت الخلافة إليه، وهو صغير، غِرّ، تَرِف، لم يعان الأمور، ولا وقف على أحوال الملك، فكان الأمراء والوزراء والكتاب، يدبرون الأمور، ليس له في ذلك حل ولا عقد، ولا يوصف بتدبير ولا سياسة وغلب على الأمر النساء والخدم وغيرهم، فذهب ما كان في خزائن الخلافة من الأموال والعدد بسوء التدبير الواقع في المملكة، فأداه ذلك الى سفك دمه، واضطربت الأمور بعده، وزال كثير من رسوم الخلافة (¬1). الملك التاسع عشر من ملوك بني العباس: القاهر: تاسع عشر خلفاء الدولة العباسية، وهو القاهر محمد بن أحمد المعتضد، ويكنى أبا منصور، وأمه أم ولد، تسمى قبول. بويع بالخلافة يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. وسبب خلافته، أن محمد بن المكتفي بالله، خوطب في تولى الخلافة فامتنع وقال: عمي أحق بالأمر، فخاطب عمه القاهر، فأجاب وحلف وبايعه الأعيان والقضاة، وذلك سَحَر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال. وكان فص خاتمه ياقوتا أحمر وعليه منقوش: "بالله محمد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق". ثم خُلع وسُملت عيناه يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وله ست وثلاثون سنة وأشهر. ¬

(¬1) أخبار الدولة العباسية 1/ 413، وتاريخ الطبري 10/ 139، 11/ 191، 284، والتنبيه والإشراف 1/ 326، 327، 328.

الملك العشرون من ملوك بني العباس: الراضي

ولم يسمل قبله أحد من الخلفاء وملوك الإسلام. وكانت خلافته سنة وستة أشهر وستة أيام وكان أبيض يعلوه حمرة، مربوعا، حسن الجسم، أعين، وافر اللحية، ألثغ، شديد الإقدام على سفك الدماء، أهوج، محبا لجمع المال على قلته في أيامه قليل الرغبة في اصطناع الرجال، غير مفكر في عواقب أموره، راكبا ردعه، واطئا عشواته يريد الشبه بمن تقدم من آبائه، فلا يمكنه ذلك لسوء تدبيره وقبح سياسته (¬1). الملك العشرون من ملوك بني العباس: الراضي: العشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو الراضي بالله محمد بن جعفر المقتدر ويكنى أبا العباس. وأمه أم ولد تسمى ظلوم. بويع بالخلافة يوم الخميس لست ليال خلون من جمادى الاولى سنة اثنتين وعسرين وثلاثمائة. توفى بمدينة السلام يوم السبت لست عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وله اثنتان وثلاثون سنة وأشهر، وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. وكان أسمر، أعين، مسنون الوجه، خفيف العارضين، دحداحا، نحيفا، جوادا، محبا للأدب، حسن الشعر، شديد التضريب بين أوليائه، لاستبدادهم بالأمور دونه، وقصور يده عن تغيير ذلك. ¬

(¬1) تاريخ الطبري 11/ 273، والتنبيه والإشراف 1/ 336.

الملك الحادي والعشرون من ملوك بني العباس: المتقي

وانفذ إلى القاهر بمن طالبه بتسليم خاتمه إليه، وكان فصه ياقوتا أحمر وعليه منقوش: "بالله محمد الامام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق" فامر أن يسلم إلى نقاش حاذق فمحاه (¬1). الملك الحادي والعشرون من ملوك بني العباس: المتقي: الحادي والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المتقي بالله إبراهيم بن المقتدر، ويكنى أبا إسحاق. وأمه أم ولد تسمى خلوب، أدركت خلافته. ولد في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. بويع بالخلافة يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وخُلع وسُملت عيناه يوم السبت لعشر ليال بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وله ثلاثون سنة، وأشهر، وكانت خلافته ثلاث سنين وعشرة أشهر وعشرين يوما، وهو الثاني من الخلفاء الذي سُملت عيناه، والأول القاهر، ولم يغدر بأحد قط، ولا تغير على جاريته التي كانت له قبل الخلافة، ولا تسرى عليها، وكان حسن الوجه، مقبول الخلق، قصير الأنف، أبيض مشربا بحمرة، في شعره شقرة وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبيَّ النفس، لم يشرب النبيذ قط. وكان يتعبد ويصوم جدا، وكان يقول: المصحف نديمي، ولا أريد جليسا (¬2). ¬

(¬1) تاريخ الطبري 11/ 284، والتنبيه والإشراف 1/ 336، 337، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413. (¬2) التنبيه والإشراف 1/ 344، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14/ 3، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

الملك الثاني والعشرون من ملوك بني العباس: المستكفي

الملك الثاني والعشرون من ملوك بني العباس: المستكفي: الثاني والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المستكفي بالله أبو القاسم عبدالله، وقيل: عبيد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله، يجتمع هو والمتقي لله في المعتضد. أمه رومية اسمها غصن. ولد في صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين. ولي الخلافة، وسنه يومئذ إحدى وأربعون سنه، وسبعه أيام، وكان في سن المنصور يوم ولي. بويع المستكفي في الموضع المعروف بالبثق على نهر عيسى بإزاء القرية المعروفة بالسندية، في الوقت الّذي سُملت فيه عينا المتقي. وخلع يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وسُملت عيناه، وله ثمان، وقبل ثلاث وأربعون سنة وأشهر، وكانت خلافته سنة وشهرين وثمانية وعشرين يوما، وهو الثالث من الخلفاء الذين تسمل أعينهم، فالأول القاهر، والثاني المتقي. كان المستكفي مغلوبا على أمره مع "توزون" وابن "شيرزاد"، ولما بويع المطيع لله، سُلم إليه المستكفي، فسمله وأعماه، وبقي محبوسا إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.

الملك الثالث والعشرون من ملوك بني العباس: المطيع

وكان مليح الشخص، أبيض اللون، حسن الوجه، صغير الفم، بعارضه شيب، ربعة من الرجال، ليس بالطويل ولا بالقصير، معتدل الجسم، مشربا بالحمرة، أسود الشعر، سبطا، خفيف العارضين، أكحل، أقنى الأنف (¬1). الملك الثالث والعشرون من ملوك بني العباس: المطيع: الثالث والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر باللَّه، ويكنى أبا القاسم. وأمه أم ولد صقلبية، تسمى مشعلة، وقيل: مشغله، وتوفيت في مستهل ذي الحجه سنه خمس وأربعين وثلاثمائة. بويع بالخلافة يوم الخميس لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان له يوم بويع: ثلاث وثلاثون سنة، وخمسة أشهر، وأيام، بايعه معز الدولة، وأحضر المستكفي إليه، فسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع، وسُمل واعتُقل عنده، وكان لما ولي المستكفي بالله الخلافة، خافه المطيع; لأنه كان بينهما منازعة، وكان كل منهما يطلب الخلافة، وهو يسعى فيها، فلما ولي المستكفي خافه واستتر منه، فطلبه المستكفي أشد الطلب، فلم يظفر به، فلما قدم معز الدولة بغداد، قيل: إن المطيع انتقل إليه، واستتر عنده، وأغراه بالمستكفي حتى قبض عليه وسمله. ثم ظهر ما كان المطيع لله يستره من مرضه وتعذر الحركة عليه وثقل لسانه بالفالج، فدعاه حاجب عز الدولة "سبكتكين" إلى خلع نفسه وتسليم الأمر إلى ولده الطائع لله، ففعل ذلك، وعقد له الأمر في يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، فكانت مدة خلافة المطيع تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة وعشرين يوما، ¬

(¬1) تاريخ الطبري 11/ 349، والكامل في التاريخ 7/ 134، 159، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14/ 40، والتنبيه والإشراف 1/ 345، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

الملك الرابع والعشرون من ملوك بني العباس: عبد الكريم

وأثبت خلعه، ثم خرج المطيع وولده الخليفة الطايع لله إلى واسط فمات هناك في المحرم سنة أربع وستين وثلاثمائة، بعد ثلاثة أشهر من عزله، وعمره ثلاث وستون سنة (¬1). الملك الرابع والعشرون من ملوك بني العباس: عبد الكريم: الرابع والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد. وأمه أم ولد. بويع لَهُ يَوْم الاربعاء لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَلم يتقلد الْخلَافَة من لَهُ أب حَيّ غَيره، وَغير أبي بكر الصّديق - رضي الله عنهم -. وكان سبب توليته الخلافة ما ظهر على والده من علة لحقته، والفالج الَّذِي تَمَادى بِهِ حَتَّى ثقل لِسَانه، دعاه ذلك إلى خلع نَفسه، وَجعل الأمر إلى وَلَده الطائع لله. ثم اعتُقل الطايع، وكُتب عليه كتاب بالخلع، وتسليم الأمر إلى القادر بالله، وشهد الشهود عليه، وكانت مدة خلافة الطايع سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام، كان أشقر مربوعا كبير الأنف (¬2). ¬

(¬1) تاريخ الطبري 11/ 355، والتنبيه والإشراف 1/ 345، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14/ 46، والكامل في التاريخ 7/ 159، وتاريخ الإسلام 26/ 253، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، سير أعلام النبلاء 15/ 118. (¬2) تكملة تاريخ الطبري 1/ 215، وسير أعلام النبلاء 15/ 118، 19، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم 7/ 243، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

الملك الخامس والعشرون من ملوك بني العباس: القادر

الملك الخامس والعشرون من ملوك بني العباس: القادر: الخامس والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر. أمه أم ولد اسمها تمني، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وكانت من أهل الدين. ولد في يوم الثلاثاء التاسع من ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. بويع بالخلافة بعد خلع الطايع ودخل القادر دار الخلافة ثاني عشر شهر رمضان، وبايعه الناس، في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وخطب له يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان، وكان القادر حسن الطريقة، كثير المعروف، مائلا إلى الخير والتدين، صنف كتابا في فضل الصحابة وذم الروافض وكان يُقرأ في المساجد والجوامع. جدّد القادر معاهد الخلافة وأنار أعلامها، وكشف غُمم الفتنة وجلّى ظلامها، وقَدِر من صلاحها على ما لم يقدر عليه سواه وسلك من طريق الزهد والورع ما تقدّمت فيه خطاه، فكان راهب بنى العباس حقّا وزاهدهم صدقا. ساس الدنيا والدين وأغاث الإسلام والمسلمين واستأنف في سياسة الأمر طرائق قويمة ومسالك مأمونة سليمة لم تعرف منه زلّة ولا ذمّت له خلّة. فطالت أيّامه وطابت أخباره واقتفيت آثاره. مات القادر بالله يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إِحدى وأربعون سنة وشهر (¬1). ¬

(¬1) المختصر في أخبار البشر 2/ 128، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 14/ 353، 15/ 217، والمختصر في أخبار البشر 2/ 128، 158، وتجارب الأمم وتعاقب الهمم 7/ 244، 246، 247، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 496، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

الملك السادس والعشرون من ملوك بني العباس: القائم

الملك السادس والعشرون من ملوك بني العباس: القائم: السادس والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو القائم بأمر الله عبدالله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد. ولد يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة، وقيل: نصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وأمه أم ولد أرمنية اسمها بدر الدجى، وقيل: قطر الندى، أدركت خلافته. بويع بالخلافة القائم بعد موت أبيه القادر بالله يوم الثلاثاء الثالث عشر من ذي الحجة، سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وكان القادر بالله جعله ولي عهده من بعده، ولقبه القائم بأمر الله وخطب له بذلك في حياته، واستخلف القائم بأمر الله، وعمره إحدى وثلاثون سنة، وكان خيرا دينا فاضلا صالحا مغلوبا على أمره مدة زمانه، مات سنة سبع وستين وأربعمائة (¬1). الملك السابع والعشرون من ملوك بني العباس: المقتدي: السابع والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المقتدي بأمر الله أبو القاسم عمدة الدين عبدالله بن ذخيرة الدين محمد بن الخليفة القائم عبدالله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس. ولد في سَحَر يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى، سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. ¬

(¬1) المختصر في أخبار البشر 2/ 158، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 498، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 15/ 217، وتاريخ الإسلام 29/ 6، 12، 31/ 226.

وأمه أم ولد أرمنية، تسمى: أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته وخلافة ابنه وابن ابنه، المستظهر، والمسترشد، وكان الذخيرة قد بقى من أولاد القائم ولم يبق له ذكر سواه. بويع بالخلافة يوم الجمعة ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وعمره عشرون سنة. وكان سبب بيعته أن الناس رأوا انتقاض الدولة وانقضام الأمر لعدم وِلْدٍ للبيت القادري، وأن من سواهم من الأسرة مخالط للعوام في البلد، وجارٍ مجاري السوقة، ولذلك تنفر قلوب العوام عن المتولي، فحفظ الله هذا البيت بأن كان محمد بن القائم الملقب ذخيرة الدين توفي في حياة أبيه القائم، وقد ألم بجاريته أرجوان فتشوقت النفوس إلى ما يكون من ذلك، فجاءت بالمقتدي بعد موت الذخيرة بخمسة أشهر وكسر، فوقعت البشائر ولم يزل جده ضنينا به، حذرا عليه، فبلغ والقائم حي، فأشهد القائم على نفسه بولاية العهد، فظهرت ألطاف الله سبحانه في أمر المقتدي من حيث ولادته وأنها كانت سببا لحفظ ذلك البيت من جهة حراسته في الفتنة، ومن جهة بلوغه مرتبة الخلافة في حياة جده، ونشأ في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا، وكان في غاية الجمال خلقا وخلقا. مات المقتدي فجأة في ليلة السبت خامس عشر المحرّم، سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وكان عمره ثمان وثلاثين سنة وثمانية أشهر ويومين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر (¬1). ¬

(¬1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 16/ 164، 165، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 500، والبداية والنهاية ط إحياء التراث 12/ 135، والبداية والنهاية 12/ 135، والمختصر في أخبار البشر 2/ 191، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 5/ 140، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

الملك الثامن والعشرون من ملوك بني العباس: المستظهر

الملك الثامن والعشرون من ملوك بني العباس: المستظهر: الثامن والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المتقدي بن محمد القائم عبدالله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد. أمه أم ولد. بويع المستظهر بالخلافة بعد ثلاثة أيام من موت والده المقتدي، سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وكان عمره ست عشرة سنة وشهرين. كان كريم الأخلاق، لين الجانب، سخي النفس، مؤثرا للإحسان، حافظا للقرآن، محبا للعلم، منكرا للظلم، فصيح اللسان، له شعر مستحسن منه قوله: أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... يوما مددت على رسم الوداع يدا فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به ... من بعد ما قد وفي دهرا بما وعدا إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ... من بعد هذا فلا عاينته أبدا توفي المستظهر في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بعلّة الاستسقاء، وحين اشتدت به العلّة في الليلة التي مات فيها جعل ولاية العهد للمسرشد.

الملك التاسع والعشرون من ملوك بني العباس: المسترشد

كانت خلافته خمسا وعشرين سنة، وسنّه يوم مات اثنتين وأربعين سنة (¬1). الملك التاسع والعشرون من ملوك بني العباس: المسترشد: التاسع والعشرون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المسترشد بالله الفضل بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبدالله بن محمد الذخيرة بن القائم بن عبد لله بن القادر بن أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بن المعتضد. أمه أم ولد اسمها لبابة. بويع يوم وفاة والده المستظهر وكان شجاعا دينا فصيحاً، حسن الخط، مشتغلا بالعبادة، شهما لم يل الخلافة بعد المعتضد أشهم منه، وكان شديد الهيبة ذا رأي ويقظة وهمة عالية ضبط الأمور وأحيا مجد بني العباس وجاهد غير مرة. أسر المسترشد وقتل يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة بظاهر مراغة (¬2)، وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً (¬3). ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 502، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 17/ 12، والإنباء في تاريخ الخلفاء 1/ 208، 209. (¬2) مَرَاغَة: بالفتح، والغين المعجمة: بلدة مشهورة عظيمة، أعظم وأشهر بلاد أذربيجان رقم (1634). (¬3) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 503، والمختصر في أخبار البشر 3/ 10. وأخبار الدولة العباسية 1/ 413، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان 3/ 195، وكانت خلاته سبع عشرة سنة ونصفا.

الملك التلاثون من ملوك بني العباس: الراشد

الملك التلاثون من ملوك بني العباس: الراشد: الثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو الراشد بالله منصور بن المسترشد بن المستظهر بن المقتدي. بويع له في سنة تسع وعشرين وخمسمائة يوم وفاة أبيه بعهد منه، فمكث ما شاء الله ثم خلع في ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة، وقيل: في سادس عشر ذي الحجة، وهرب إلى فارس، ثم دخل أصبهان (¬1) وحاصرها فتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه، وكانت مدته إلى أن خلع سنة إلا أياما، وعمره إحدى وعشرون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، كان شابا أبيض تام الشكل، شديد البطش شجاع النفس، كريما جوادا فصيحا، قال العماد الكاتب: كان للراشد الحسن اليوسفي، والكرم الحاتمي (¬2). الملك الحادي والثلاثون من ملوك بني العباس: المقتفي: الحادي والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المقتفي أبو عبدالله محمد بن المستظهر بن المقتدي، وهو أخو المسترشد، وعم الراشد. ولد المقتفي في ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة. أمه أم ولد اسمها نسيم، وكانت جارية صفراء يقال لها: ست السادة، وكان يضرب بها المثل في الكرم. بويع له يوم خُلع ابن أخيه الراشد بيومين في ثامن عشر ذي الحجة، سنة ثلاثين وخمسمائة، ولقب بالمقتفي. ¬

(¬1) أَصبَهَان: منهم من يفتح الهمزة، وهم الأكثر، وكسرها آخرون، مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها، وهي في إيران اليوم (نسبة ومنسوب رقم 122). (¬2) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 504، وأخبار الدولة العباسية 1/ 413.

وسبب تلقيبه بالمقتفي أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام قبل الخلافة بأشهر وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر فاقتف بي، فقام بتدبير المملكة، وكان بيده أزمة الأمور، لا يجري في خلافته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه، وكان محمود السيرة مشكور الدولة، يرجع إلى فضل ودين وعقل، ورأي وسياسة، جدد معالم الإمامة، ومهد رسوم الخلافة، وامتدت أيامه ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة مثله في شهامته وصرامته، مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته، ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت، ولم يبق للخليفة منازع من الملوك والسلاطين. وكان المقتفي محبا للحديث وسماعه، معتنيا به وبالعلم مكرما لأهله. ومن غرائب ما حدث في خلافته أنه في سنة أحدى وثلاثين وخمسمائة في خلافته قال ابن الأثير ظهر بدمشق الشام سحاب أسود فاشتد الظلام حتى لا يرى أحد أحدا ثم انقشع وظهر بعده سحاب أحمر فتلونت السماء بلون النار ثم بعد ذلك ظهرت ربح عظيمة عاصف تقلع الأشجار العظيمة من أصولها، وفي سنة خمس وأربعين وخمسمائة من خلافته أمطرت السماء دما أحمر لا ينكر منه شيء وكان ذلك الإمطار في بلاد نيسابور. وفي سنة تسع وأربعين وخمسمائة من خلافته كانت قصة أهل قرية المعلف وهي قرية بين الكدر والمهجم من أعمال تهامة اليمن، وقيل: قريتان اسم أحمدهما معلف، ولأخرى سحلة، أرسل الله عليهما سحابة سوداء فيها رجف وبرق وشُعَل نار تلهّب وريح، فلما رأوا ذلك زالت عقولهم فألتجأ منهم قوم إلى المساجد، فغشيهم العذاب، فاحتملت الريح أصل القريتين من تحت الثرى بمساكنهم بمن فيها من الرجال والنساء والأطفال والدواب، فألتقتهم بمكان بعيد نحو خمسة أميال من

الملك الثاني والثلاثون من ملوك بني العباس: المستنجد

حيث احتملتهم، فوجدوا حيث ألقتهم صرعى، ولبعضهم أنين، وهم صم وبكم وعمى، فماتوا عن آخرهم في يومهم. وتوفي الخليفة المقتفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول وقيل: الآخر، وقيل: رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة مدة خلافته خمس وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونصف، وعمره سبع وستون سنة وشهر واحد (¬1). الملك الثاني والثلاثون من ملوك بني العباس: المستنجد: الثاني والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي. أمه أم ولد حبشية اسمها طاوس. ولد مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة. بويع له يوم وفاة والده، وكان أديبا فاضلا أهلا للخلافة. حكي أنه قبل أن يستخلف رأى في منامه أن ملَكا نزل من السماء فكتب في كفه خمس خاءات، فلما أصبح سأل عن تعبير ذلك فقيل له: إنك ستلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فكان كذلك وليها سنة خمس وخمسين وخمسمائة فالخاء الأولى للخلافة وكان موصوفا بالعدل والديانة أبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين روى أنه سجن رجلا كان يسعى بالفساد في الناس فجاء إليه رجل وبذل فيه عشرة آلاف دينار فقال المستنجد له أنا أعطيك عشرة آلف دينار على ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 505، 506، وأخبار الدولة العباسية 1/ 414، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم 17/ 313، والكامل في التاريخ 9/ 77، البداية والنهاية 16/ 310، المختصر في أخبار البشر 3/ 49.

آخر مثله تأتيني به فأحبسه وأكفي الناس شره وله شعر متوسط منه قول في البخل: باخل أشعل في بيته ... تكرمة منه لنا شمعة فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت من عينه دمعة وقوله: عيرتني بالشيب وهو وقار ... ليتها عيرت بما هو عار إن تكن شابت الذوائب مني ... فالليالي تزينها الأقمار وفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة وهي السنة الثالثة من خلافته جرت الكائنة الغريبة وهي أن الملك العادل نور الدين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه ليلة ثلاث مرات وهو يشير إلى رجلين أشقرين يقول أنجدني من هذين فأرسل إلى وزيره وتجهزا في بيته ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفرا وصحب مالا كثيرا فقدم المدينة في ستة عشر يوما فزار ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم وصار يتأمل في كل ذلك تلك الصفة إلى أن انقضت الناس فقال هل بقي أحد؟ قالوا: لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة فطلبهما فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما النبي عليه الصلاة والسلام فسأل عن منزلهما فأخبر أنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة فأمسكهما ومضى إلى منزلهما فلم ير غير ختمتين وكتبا في الرقائق ومالا كثيرا فأثنى عليهما أهل المدينة خيرا فبقى مترددا متحيرا فرفع حصيرا في البيت فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة فارتاعت الناس لذلك فقال لهما السلطان أصدقاني وضربهما ضربا شديدا فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة وأمالوهما بالمال العظيم ليتحيلا في الوصول إلى الجناب الشريف ونقله وما يترتب عليه فنزلا قرب رباطا

وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلد والذي يجتمع من التراب يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع إذا خرجا بعلة الزيارة فلما قرب من الحجرة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجف عظيم فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة فلما ظهر حالهما بكى السلطان بكاء شديدا وأمر بضرب رقابهما فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة المسمى الآن شباك الجمال ثم أمر بإحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص وملأ الخندق فصار حول الحجرة سور من رصاص إلى الماء، وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة ذكر صاحب الخميس عن شمس الدين صواب الموصلي بواب المسجد النبوي والقائم بأمره بإسناد صحيح عنه أن جماعة من الروافض وصلوا من حلب فأهدوا إلى أمير المدينة الشريفة من الأموال والجواهر ما لم يخطر ببال فشغله ذلك وأنساه دينه والتمسوا منه أن يخرجوا جسد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلِما غشيه من حب الدنيا والتشاغل بالأموال عن الدين وافقهم على ذلك قال صواب الموصلي المذكور: فطلبني أمير المدينة وقال: إن في هذه الليلة يصل إليك سمط كذا وكذا من الرجال فحين يصلون إليك سلم إليهم مفتاح الحجرة الشريفة النبوية ولا تتشاغل عنهم وإلا أخذت ما فيه عيناك، قال صواب: فأخذتني رعدة ودهشة ولا أدري إلام يؤل الأمر فانتظرت، فلما كان نصف الليل أقبل أربعون رجلا فدخلوا من باب السلام فسلمت إليهم مفتاح الحجرة المطهرة، فإذا معهم المقاحف والمكاتل وآلات الحفر فعرفت مرادهم، وغاب حسى من الهيبة النبوية ثم سجدت لله وجعلت أبكي وأتضرع، فما نظرت إلا وقد انشقت الأرض واشتملتهم بجميع ما معهم من آلات الحفر والتأمت لساعتها وذلك عند المحراب العثماني، فسجدت شكرا لله، فلما استبطأ الأمير الخبر أرسل لي رسولا فأخبرته بما رأيت، فطلبني عاجلا فوصلت إليه فإذا هو مثل الواله فسألني مشافهة فحققت

الملك الثالث والثلاثون من ملوك بني العباس: المستضيء

له ما رأيت، فقال: إن خرج منك هذا الأمر قتلتك، فلم أزل ساكتا عن بث هذا الأمر مدة حياة ذلك الأمير خوفا منه. توفي المستنجد يوم السبت ثالث ربيع الآخر، سنة ست وستين وخمسمائة، ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة إلا يوما أو يومين، وعمره سبع وأربعون سنة وقيل: تسع وأربعون وشهر، وكان أسمر طويل اللحية. وقال ابن الجوزي: توفي يوم الثلاثاء بعد الظهر، ثامن ربيع الآخر من سنة ست وستين وخمسمائة، وحضرتُ الصلاة يوم الأحد قبل الظهر في التاج، ودفن في الدار، وبلغ من العمر ثمان وأربعين سنة، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة وشهرا. وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، فاتفق الحاقدون مع الطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم إنه دخلها وغُلِّق عليه الباب، ومات (¬1). الملك الثالث والثلاثون من ملوك بني العباس: المستضيء: الثالث والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو الحسن بن يوسف المستنجد بالله، يكنى: أبا محمد. وأمه أرمنية تدعى: غضة، وقيل: عصمت. ولد في سادس شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة. ولم يكن في الخلافة من اسمه الحسن ويكنى أبا محمد إلا الحسن بن علي - رضي الله عنه - وهذا، فقد اشتركا في الاسم والكنية والكرم. ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 507، 508، 509 وتاريخ الإسلام 39/ 258، وأخبار الدولة العباسية (1/ 414، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 18/ 195، المختصر في أخبار البشر 3/ 49.

وله من الولد: أبو العباس أحمد وهو الذي تولى الخلافة بعده، وأبو منصور هاشم. بويع يوم توفي والده المستنجد بيعة خاصة بايعه أهل بيته، ثم جلس المستضيء بأمر الله بكرة الأحد تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة فبايعه الناس، وصلى في التاج يومئذ على والده المستنجد، ونودي برفع المكوس، ورُدت مظالم كثيرة، وأظهر العدل والكرم، وفرق الإمام المستضيء بأمر الله مالا عظيما على الهاشميين، والعلويين، والعلماء، والأربطة، وكان دائم البذل للمال، ليس له عنده وقع، وخلع على أرباب الدولة، والقضاة، والجند، وجماعة من العلماء، ثم أذن للوعاظ في الوعظ بعد أن كانوا قد منعوا مدة، وخطب له على منابر بغداد يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر. وأنشد الحيص بيص: أقول وقد تولى الأمر خير ... ولي لم يزل برا تقيا وقد كشف الظلام بمستضيء ... غدا بالخلق كلهم حفيا وفاض الجود والمعروف حتى ... حسبناه حبابا أو أتيا بلغنا فوق ما كنا نرجي ... هنيئا يا بني الدنيا هنيا سألنا الله يرزقنا إماما ... نسر به فأعطانا نبيا ونعتذر له عن قوله: " فأعطانا نبيا " أنه يريد وصفه في السيرة والاقتداء. مرض المستضيء بأمر الله واشتد به المرض وكثرت الأراجيف بموته ولم يتحقق الناس ذلك وكانت الأسواق تغلق في أكثر الأوقات لا يجسر أحد أن يبيع ويشتري

الملك الرابع والثلاثون من ملوك بني العباس: الناصر

فكانت وفاته أول ليلة من ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكانت خلافته تسع سنين وستة أشهر وأحدا وعشرين يوما (¬1). الملك الرابع والثلاثون من ملوك بني العباس: الناصر: الرابع والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو العباس أحمد بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. لما توفي أبوه في سلخ شوال من سنة خمس وسبعين وخمسمائة، بايعه الأمراء والوزراء والكبراء والخاصة والعامة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكان قد خطب له على المنابر في حياة أبيه قبل موته بيسير، فقيل إنه إنما عهد له قبل موته بيوم، وقيل بأسبوع، ولكن قدر الله أنه لم يختلف عليه اثنان بعد وفاة أبيه، ولقب بالناصر، ولم يل الخلافة من بني العباس قبله أطول مدة منه، فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث وعشرين وستمائة; وكان ذكيا شجاعا، فيه شهامة وإقدام، وله عقل ودهاء، وكان مستقلا بالأمور بالعراق، متمكنا من الخلافة، يتولى الأمور بنفسه، وكان يشقّ الدّروب والأسواق أكثر الليل والناس يتهيبون لقاءه، وكان أبيض، تركيّ الوجه، أقنى الأنف، خفيف العارضين، رقيق المحاسن، وكان أطول بني العبّاس خلافة، أصابه الفالج آخر أيامه، وتوفي في سلخ رمضان سنة ثلاث وعشرين وستمائة وله سبعون سنة إلّا أشهرا، وقد دانت السلاطين للناصر، ودخل تحت طاعته من كان من المخالفين، وذلّت له العتاة والطّغاة، وانقهرت لسيفه الجبابرة، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدّمه من السلاطين والخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، وكان أسد ¬

(¬1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 18/ 190، 191، 192، وأخبار الدولة العباسية 1/ 414، والبداية والنهاية 12/ 262، ومضمار الحقائق وسر الخلائق 1/ 4.

الملك الخامس والثلاثون من ملوك بني العباس: الظاهر

بني العبّاس تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخَلق، لطيف الخُلق، كامل الظرف، فصيح اللّسان، بليغ البيان، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة. كانت أيامه غرّة في وجه الدّهر، ودرّة في تاج الفخر، أحيا هيبة الخلافة وكانت قد ماتت بموت المعتصم ثم ماتت بموته، أجاز الناصر الرواية لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه، منهم ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن النجار، وابن الدامغاني، وآخرون. وقال سبط ابن الجوزي وغيره: قلّ بصر الناصر في آخر عمره، وقيل: ذهب بالكلّية، ولم يشعر بذلك أحد من الرّعية، حتّى الوزير وأهل الدّار، متهم بالتشيع والله أعلم (¬1). الملك الخامس والثلاثون من ملوك بني العباس: الظاهر: الخامس والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي. كان قد عهد الناصر أولا إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر، وخُطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي علي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخُطب له ثانيا، فحين توفي والده بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، ولما ولي الخلافة، أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا، وأسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي بعقوبا ¬

(¬1) مضمار الحقائق وسر الخلائق 1/ 4، والبداية والنهاية ط إحياء التراث 12/ 374، 375، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 510، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب 7/ 172، 173.

الملك السادس والثلاثون من ملوك بني العباس: المستنصر

سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج، ولما ولي الظاهر أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فإنه أعاد من الأموال المغصوبة، والأملاك، في أيام أبيه وقبله شيئا كثيرا، وأطلق المكوس في البلاد جميعها، وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدده أبوه، وكان كثيرا لا يحصى، فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يُحصّل منها قديما نحو عشرة آلاف دينار، فلما تولى الناصر لدين الله، كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا، وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يُحصّل منها هذا المبلغ، فأمر أن يؤخذ الخراج القديم وهو عشرة آلاف دينار، وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبدالعزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يحُل إلى الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر، وتوفي في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة فكانت خلافته تسعة أشهر وأياما (¬1). الملك السادس والثلاثون من ملوك بني العباس: المستنصر: السادس والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء الحسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بن المقتدي. بويع له بالخلافة بعد موت أبيه الظاهر في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فنشر العدل وبذل الإنصاف، وقرب أهل العلم والدين، وبني المساجد والرُّبُط والمدارس، ¬

(¬1) المختصر في أخبار البشر 3/ 136، وأخبار الدولة العباسية 1/ 414، والكامل في التاريخ 10/ 401، والبداية والنهاية ط إحياء التراث 13/ 125، 526، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 512، تلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 68، وتاريخ الإسلام ت تدمري 45/ 166،

الملك السابع والثلاثون من ملوك بني العباس: المستعصم

وأقام منار الدين، وقمع المتمردين، ونشر السنن وكف الفتن، وحمل الناس على أقوم سنن، وحفظ الثغور، وافتتح الحصون، واجتمعت القلوب على محبته، والألسن على مدحته، ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معابا، وكان جده الناصر يقربه ويسميه القاضي؛ لهديه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر، وكان المستنصر راغبا في فعل الخير، مجتهدا على أعمال البر، وله في ذلك آثار جميلة، وهو الذي أنشأ المستنصرية التي لم يبن مثلها في مدارس الإسلام، بناها على دجلة من الجانب الشرقي؛ وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، ولم يوجد في المدارس أكثر كسبا منها، ولا أكثر أوقافا عليها، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم. توفي يوم الجمعة عاشر جمادى الأخرى سنة أربعين وستمائة فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وأحد عشر شهرا وعشرة أيام (¬1). الملك السابع والثلاثون من ملوك بني العباس: المستعصم: السابع والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو المستعصم بالله أبو أحمد عبدالله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد، وهو آخر الخلفاء العباسيين بالعراق. أمه أم ولد حبشية اسمها هاجر. بويع له بالخلافة عند موت أبيه المستنصر يوم الجمعة عاشر جمادى الأخرى سنة أربعين وستمائة، وكان لينا هينا قليل الرأي بعيد الفهم فوض جميع أموره إلى وزيره مؤيد الدين بل مدمر الدين ابن العلقمي الرافضي جالب التتار إلى بغداد والمستعصم ومن معه في غفلة عنهم، وأخفى ابن العلقمي عنه سائر الأخبار إلى ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 513، 514، وتلقيح فهوم أهل الأثر 1/ 68، وأخبار الدولة العباسية 1/ 414.

أن وصل هولاكو خان إلى بلاد العراق، واستأصل من بها قتلا وأسرا، وتوجه إلى بغداد وأرسل إلى الخليفة يطلبه، فاستيقظ من نوم الغرور، وندم على غفلته حيث لا ينفع الندم، وجمع من قدر عليه وبرز إلى قتاله، وجمع من أهل بغداد خاصته ومن عبيده وخدامه ما يقارب أربعين ألف مقاتل؛ لكنهم مرفهون بلين المهاد وساكنون على شط بغداد، في ظل ثخين، وماء معين، وفاكة وشراب، واجتماع أحباب، ما كابدوا حربا، ولا ذاقوا طعنا ولا ضربا، وعساكر المغول ينوفون على مائة ألف مقاتل، فوقع التصاف والتحم القتال، وزحف الخميس إلى الخميس يوم الخميس، عاشر محرم سنة ست وخمسين وستمائة، وصبر أهل بغداد فعجزوا عن الاصطبار، وانكسروا أشد انكسار، وولوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة، وقتل أكثرهم شر قتلة، ووضعت التتار فيهم السيف والنار، فقتلوا في ثلاثة أيام ما ينوف على ثلاثمائة ألف وسبعين ألفا، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الخزائن والأموال، وأخذ هولاكو جميع النقود وأمر بحرق الباقي، ورمى كتب مدارس بغداد في دجلة، وكانت لكثرتها جسرا يمرون عليها ركبانا ومشاة، وتغير لون الماء بحبرها إلى السواد، فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم وقال: أنا في تقرير الصلح، فخرج ووثق لنفسه بينهم ورجع إلى الخليفة وقال: إن الملك هولاكو قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يؤثر أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع سلاطين الديلم والسلجوقية، وينصرف عنك بجنوده فيجيب مولانا إلى هذا فإن فيه حقنا لدماء من بقي من المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد فالرأي أن تخرج إليهم، فخرج الخليفة في أعيان دولته، فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم، وكذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من فيها من العلماء والأمراء والحجاب والكتاب، واستبقى هولاكو المستعصم أياما إلى أن

استصفي أمواله وخزائنه وذخائره، ثم رمى رقاب أولاده وذويه وأتباعه، وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة ويرفس بالأرجل حتى يموت ففعل به ذلك، قال الحافظ الذهبي عند ذكر قتل الخليفة: وما أظنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وبني عمه وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها. فكان ابن العلقمي سبب هلاكه وزوال ملكه، بل دولة الإسلام. يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ... حزنا على ما تم للمستعصم دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي كانت مدة خلافته ست عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة، وقيل: ست وأربعون وشهران، وهذا آخر خلفاء بني العباس، وعدتهم سبعة وثلاثون خليفة أولهم عبدالله السفاح بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس وآخرهم هذا المستعصم بالله عبدالله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بنور الله حسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبدالله بن الأمير محمد الذخيرة بن القائم بأمر الله عبدالله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن أحمد بن الأمير طلحة الموفق بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس رضي الله عنهما (¬1). ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 516 _ 520.

هذا ما راق لي أن أكتب فيه، فقد حكم المسلون بعد فجر الإسلام العهد النبوي، مدة ضحى الإسلام، وظهر الإسلام أربعةُ خلفاء راشدون؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنه -، وخليفتان: عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه -، وعمر بن عبدالعزيز عُد خامس الراشدين رحمه الله، واثنا عشر ملكان من بني أمية، وسبعة وثلاثون ملكا من بني العباس، وكان في الملوك الممدوح والمثلوب، والعصمة لمن عصمه الله - عز وجل -. وقد بدأت خلافة بني العباس في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وختمت في المحرم محرم سنة ست وخمسين وستمائة، كانت مدة حكمهم ست وخمسين وخمسمائة سنة تقريبا. وسنة انتهى ملك بني العباس تسمى سنة المصائب وبقيت الدنيا بلا خليفة ثلاث سنين ونصفا؛ ست وخمسين وستمائة وسبع وخمسين وثمان وخمسين وتسع وخمسين إلى رجب منها. وبعدها قام حكام مصر، ولم ينشط ذهني في متابعة البحث في أحوالهم، ولا قلمي في الكتابة عنهم، اكتفاء بما تقدم من الكلام عن ملوك بني أمية، وبني العباس المحسن منهم والمسيء، وفي ذلك من الوعظ الاعتبار ما فيه غنية لذوي الألباب. وللعلم فإن المسترشد والمقتفي هما أخوان شقيقان، وكذلك السفاح والمنصور أخوان شقيقان، والهادي والرشيد أخوان شقيقان، والواثق والمتوكل ابنا المعتصم أخوان شقيقان. وأما ثلاثة إخوة: فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد أشقاء، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل أشقاء، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد أشقاء، والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر أشقاء.

فأما أربعة أخوة أشقاء: فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبدالملك (¬1). وبالمناسبة فقد حدث في سنة أربع وخمسين وستمائة ظهور النار "بركان المدينة" في حرة بني قريظة، قال أبو شامة في كتاب الروضتين: جاءنا كتب من المدينة الشريفة فيها لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة، فكانت ساعة بعد ساعة، إلى خامس الشهر المذكور، فظهرت نار عظيمة في الحرة الشرقية قريبا من قريظة، نراها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وسالت أودية منها وادي شظا سيل الماء، وطلعنا نقصدها فإذا الجبال تسير نارا، وسارت هكذا وهكذا كأنها الجبال، وطار منها شرر كالقصر، وفزع الناس إلى القبر الشريف مستغفرين تائبين، واستمرت هكذا أكثر من شهر. وقال الذهبي: كانت تدب دبيب النمل، وكانت تحرق كل ما مرت عليه من الحجارة وغيرها، فكانت الحجارة تذوب كما يذوب الرصاص، وكانت لا تحرق أشجار المدينة على مشرفها الصلاة والسلام، وكان نساء المدينة يغزلن على ضوئها، ثم انطفأت بعد مدة قريبة من شهر، ومع ذلك ما كان لها حرارة، وما كانت تؤثر فيمن وصل إليها (¬2)، ذكر أن أمير المدينة الشريفة أرسل رجلين ليتحققا أمر هذه النار، فلما وصلا إلى قربها وشاهدا عدم حرارتها تقربا إليها حتى إن أحدهما أخرج نشابا فأدخله النار فذاب نصله، ولم يحترق العود، فقلب النشاب وأدخله النار فاحترق الريش، ولم يحترق العود، لأن السهام كانت من أشجار المدينة، وذلك من معجزاته عليه الصلاة السلام. ¬

(¬1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 17/ 313، بتصرف. (¬2) المصدر السابق 3/ 518.

قال اليافعي في تاريخه: وهذه النار هي التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «تظهر في آخر الزمان نار شرقي المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببصرى». ذكر الحافظ الذهبي أن لفظ الحديث «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بأرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» ثم قال: وأمر هذه النار متواتر وهو مصداق ما أخبر به المصطفى (¬1). تم تدوينه بعد إعلان تحالف (34) دولة إسلامية لمحاربة الإرهابيين الغلاة بقيادة المملكة العربية السعودية، وكان التمام ساعة الأذان لظهر يوم الخميس 6/ 3/1437 من الهجرة النبوية على صاحبها تمام الصلاة وكمال السلام في مهاجره المبارك طيبة الطيّبة، فلله الحمد والمنة على التوفيق والعون، وأسأله أن ينفع به من قرأه وطالعه، ويجعله ثقلاً في ميزان الحسنات. ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/ 518.

§1/1