عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح

السبكي، بهاء الدين

مقدمة المحقق

بسم الله الرّحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذى خص بهذا العلم قوما هم به قائمون، وجعلهم حفظة لكتابه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فلما جزم الله تعالى بحفظ كتابه من عوادى الدهر ونوازله، تكفل لأولى الألباب حفظه تعالى لهذه الطائفة ما بقى كتابه أبد الدهر. فلا يخلو عصر من مجدد للبلاغة معيد لرونقها يجلو عنها ما علاها من غبرة الأخلاط، ولكنة الاختلاط. ولقد مرت البلاغة بعصور مزهرة فاح عبيرها وشذاها فى كتب الأوائل، ولا زلنا نتنسم إلى اليوم نسيمها، ونعطر رسائلنا بعرفها وأريجها. والبلاغة وإن تعددت مناهج الناس فى دراستها، واختلفت وتباينت مسالكهم إليها، فإن لها فى النهاية غاية واحدة، وهى الوقوف على وجوه جمال التعبير، ومعرفة أسرار الجمل والتراكيب. لقد مرت البلاغة العربية فى مسيرتها بأطوار شتى اختلفت فيها دروب السالكين ومناهجهم وإن اتحد القصد - كما بينا - فتفاوتت تلك المناهج بين الذاتية والموضوعية وبين الأدبية والتجريدية، والكلامية والمنطقية، وبين الإيجاز والإطناب، الإيجاز الذى قد يصل إلى حدّ التعقيد، ويتسم بجفاف المادة، وقلة الشواهد، وندرة التحليل، والإطناب الذى يبالغ فى الشرح والإفصاح والإكثار من الشواهد والتحليلات كما رأينا عند ابن الأثير والعلوى على سبيل المثال. كما تنوعت بين الميل إلى التجريد والتعقيد الشديد أو قل: التعقيد كما رأينا عند ابن قدامة وابن سنان والرازى وغيرهم. وبين إرسال القول على عواهنه وإرخاء الزمام لخواطر العقل، وسوانح الفكر كما رأينا فى مصنفات الأقدمين. ومنهم من سلك طريقة وسطا بين العناية بالتحليل ورونق التعبير، وحلاوة المنطق، وفصاحة التعبير

وبين التعقيد والتجريد كما فعل عبد القاهر فى كتابه أسرار البلاغة، غير أنه قد اضطرب الزمام فى يده فى دلائل الإعجاز لانشغاله بالرد على متكلمة زمانه والسابقين عليه. وبعد هذه المقدمة أقول: إن لكل مرحلة إذا طبيعتها من حيث منهج التأليف سواء فى علوم البلاغة أو غيرها من العلوم، وإنه لمن الظلم الواضح البين أن نحاكم مؤلفات القرن الثامن الهجرى وما بعده - حيث شروح التلخيص والمفتاح على كثرتها - إلى المناهج الحديثة فى الدرس البلاغى، فلكل عصر طبيعته ومنهجه. وينبغى ألا يصدنا ذلك عن الاهتمام بتحقيق تلك المصادر وتنقيحها وإعادة طبعها ونشرها على الوجه العلمى اللائق بها، حيث تبدو أهميتها فى كونها حلقة من حلقات التراث البلاغى الذى إن فقدنا حلقة منه انقطع إسناده إلينا. وكما ينبغى على راوى الحديث أن يثبت سلسلة الإسناد بكل رواتها دون نظر إلى حالهم من حيث العدالة أو التجريح، فكذلك تقتضى الأمانة العلمية إظهار التراث البلاغى بكل حلقاته كما هى بما فيها من ضعف أو قوة. وأخيرا نقول: إن هذه المؤلفات قد أثرت تأثيرا كبيرا فى الإنتاج اللاحق بها، ولا يمكن تفسير ذلك الإنتاج وفهمه على وجه الصواب، إلا بعد الاصطبار على تلك المصنفات ومحاولة فهمها واستيعابها مهما لقى الباحث فى سبيل ذلك من معاناة، وبذل من جهد. ولذا فنحن نقدم لدارس البلاغة كتاب عروس الأفراح فى ثوب قشيب يليق بجلالته، وبما ترك من تأثير كبير فى التأليف البلاغى بعده، وبما أثاره من مباحث وقضايا عديدة فى التراث البلاغى. ولقد ذاع صيت السبكى صاحب هذا الكتاب بمصنفه هذا، وبلغت شهرته الآفاق، فحرىّ بنا أن نقف على ما فيه حتى تكتمل لدينا حلقات تراثنا البلاغى وحتى يتصل إلينا إسناده على حقيقته من قوة أو ضعف. هذا وقد حاولنا جهدنا فى ضبط الكتاب على نسخه القديمة العتيقة، مع مراجعة بعض نسخه المخطوطة بدار الكتب المصرية.

كما قمنا بتفقيره ووضع علامات الترقيم حيث جاءت طبعاته السابقة خلوا من تلك العلامات تماما، فاختلط شعره بنثره، ومتنه بشرحه، وامتلأ بالتصحيفات والأخطاء، فحاولنا إصلاح ذلك ما أمكن، كذلك فقد اعتنينا بتخريج شواهده القرآنية والحديثية والشعرية. ووضعنا كتاب التلخيص متنا له، وذلك لصعوبة وصول القارئ إلى بغيته من شرح ما يبتغى من متنه لتداخل بعضه ببعض. هذا، والله نسأل أن يغفر لنا زلاتنا، وأن يجزل لنا المثوبة، وأن ينفع به من شاء من عباده، إنه تعالى هو نعم المولى ونعم النصير. وكتبه/ عبد الحميد هنداوى مدرس البلاغة والنقد الأدبى بكلية دار العلوم جامعة القاهرة الجيزة فى 15/ 3 / 1421 هـ

خطة التحقيق

خطة التحقيق 1 - قمنا بضبط النص على مخطوطة الكتاب المحفوظة بدار الكتب المصرية. 2 - قمنا بترقيمه بعلامات الترقيم المناسبة. 3 - تخريج الشواهد القرآنية. 4 - تخريج الشواهد الحديثية فى كتب الحديث المشهورة. 5 - تخريج الشواهد الشعرية فى دواوينها ومصادرها لا سيما كتب الأدب وكتب التراث البلاغى. 6 - شرح معانى الألفاظ الغريبة. 7 - الترجمة لأعلام البلاغة المذكورين فى الكتاب. 8 - ترجمنا ترجمة مختصرة لكل من الخطيب القزوينى صاحب التلخيص والسبكى صاحب عروس الأفراح. 9 - وضع متن التلخيص أعلى الصفحة وعروس الأفراح كالشرح عليه أسفل الصفحة. 10 - الفهارس العلمية الشاملة للموضوعات وللشواهد القرآنية الشعرية.

ترجمة جلال الدين القزوينى صاحب" التلخيص"

ترجمة جلال الدين القزوينى صاحب" التلخيص" اسمه ونسبه: هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن على بن إبراهيم بن على بن أحمد بن دلف بن أبى دلف العجلى القزوينى جلال الدين أبو المعالى بن سعد الدين بن أبى القاسم بن إمام الدين الشافعى العلامة. ولادته ونشأته: ولد سنة ست وستين وستمائة 666 هـ وسكن الروم مع والده وأخيه واشتغل وتفقه حتى ولى قضاء ناحية بالروم وله دون العشرين، ثم قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق. صفته: كان فهما ذكيّا مفوها حسن الإيراد جميل الذات والهيئة والمكارم، وكان جميل المحاضرة حسن الملتقى حلو العبارة حاد الذهن جيد البحث منصفا، فيه مع الذكاء والذوق فى الأدب حسن الخط. وكان جوادا صرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين. وكان مليح الصورة فصيح العبارة كبير الذقن موطأ الأكناف جم الفضيلة يحب الأدب ويحاضر به ويستحضر نكته. طلبه للعلم ومشايخه: سمع من العز الفاروتى (¬1) وطائفة وأخذ عن الأيكى وغيره وخرج له البرزالى جزءا من حديثه وحدث به وتفقه واشتغل فى الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعانى والبيان. وكان يرغب الناس فى الاشتغال بأصول الفقه وفى المعانى والبيان. ¬

_ (¬1) كذا فى الدرر الكامنة، وفى بغية الوعاة: الفاروثى، وفى مفتاح السعادة: الفاروقى.

مصنفاته

ولى القضاء فى ناحية الروم ثم دمشق ثم مصر ثم دمشق، وخطب بجامع القلعة لما أتى مصر بأمر من السلطان. قال عنه صاحب كشف الظنون:" المعروف بخطيب دمشق" ولعل هذا سبب شهرته بالخطيب القزوينى، وكان يفتى كثيرا. مصنفاته: قال ابن كثير:" له مصنفات فى المعانى، مصنف مشهور اسمه التلخيص اختصر فيه المفتاح للسكاكى". وهو من أجل المختصرات فيه كما قال السيوطى. وله: إيضاح التلخيص، والسور المرجانى من شعر الأرجانى. وفاته: قال ابن حجر:" قال الذهبى: مات فى منتصف جمادى الأولى سنة 739 هـ وشيعه عالم عظيم وكثر التأسف عليه وسيرته تحتمل كراريس وما كل ما يعلم يقال. هذا كلام الذهبى على عادته فى الرمز إلى الحط على من يخشى غائلة التصريح فيه". اه كلام ابن حجر. وقال الحافظ ابن كثير:" دفن بالصوفية .. وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها" (¬1). ¬

_ (¬1) راجع ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر (4/ 3، 4)، والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (14/ 185)، وبغية الوعاة للسيوطى (1/ 156، 157)، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (1/ 194) والأعلام (6/ 192)، وكشف الظنون (1/ 473).

ترجمة بهاء الدين السبكى صاحب شرح عروس الأفراح

ترجمة بهاء الدين السبكى صاحب شرح عروس الأفراح اسمه ونسبه ونسبته: أحمد بن علىّ بن عبد الكافى بن على بن تمّام بن يوسف بن موسى بن تمّام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن على بن مسوار بن سوّار بن سليم السّبكى. هكذا ساق أخوه تاج الدين نسب والده فى الطبقات الكبرى (¬1)، ووقع فى بعض المراجع" سوار" مكان" مسوار"؛ قال محققا الطبقات (¬2):" وضبطناه بكسر فسكون، وما بعده بفتح فتشديد من الطبقات الوسطى" اه. والطبقات الوسطى من تأليف تاج الدين أيضا وفى بعض المراجع تصحيفات أخرى، انظر الدرر (الكرنكوى ج 1 ص 210). وأمّا نسبته" السبكى" فهى إلى" سبك" الواقعة فى المنوفية، وهى موجودة إلى الآن، غير أن اسمها" سبك العبيد" وهى الآن سبك الأحد أو سبك العويضات، وفى محافظة المنوفية أيضا" سبك الثلاثاء" وكانت تعرف قديما ب" سبك الضحاك"، أما البيت السّبكى الذى نترجم لواحد منهم فمنسوب إلى" سبك العبيد" أو" سبك الأحد" كما يسمى الآن؛ قال السيد محمد مرتضى الحسينى الزبيدى، نزيل مصر، فى تاج العروس من جواهر القاموس (سبك) (¬3):" (وسبك الضحاك بالضمة بمصر) (¬4) من أعمال المنوفية، وهى المعروفة الآن بسبك الثلاثاء، وقد دخلتها وبت بها ليلتين". " (وسبك العبيد) قرية أخرى بها من المنوفية أيضا، وقد دخلتها مرارا عديدة، وهى تعرف الآن بسبك الأحد وبسبك العويضات منها شيخنا تقى الدين على بن عبد الكافى بن على بن تمام ¬

_ (¬1) ج 10 / ص 139. (¬2) الأستاذ الدكتور/ محمود الطناحى والأستاذ الدكتور/ عبد الفتاح الحلو رحمهما الله تعالى. (¬3) ج 7 ص 140. (¬4) التاء المربوطة يرمز بها إلى القرية.

قاضى القضاة، أبو الحسن السبكى، شافعى الزمان، وحجة الأوان ... " (¬1). وينسب السّبكية إلى الأنصار، رضى الله عنهم. قال تاج الدين فى (طبقات الشافعية الكبرى) (¬2):" نقلت من خط الجد - رحمه الله - نسبتنا معاشر السبكية إلى الأنصار رضى الله عنهم". وقد رأيت الحافظ النّسابة شرف الدين الدّمياطى - رحمه الله - يكتب بخطه للشيخ الإمام الوالد - رحمه الله -: الأنصارى الخزرجى. وصورة ما نقل من خط الجد: حدثنا الصاحب بهاء الدين أبو الفضائل تمّام، الوزير المالكى المذهب، ولد يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن على بن مسوار ابن سوار بن سليم بن أسلم الأنصارى الخزرجى ... وهو عن مسوّدات بخطّ الجدّ - رحمه الله - وذكر بعده النسبة إلى آدم عليه السّلام، ثم قال فى آخره: وقد نقلت هذا من خط الفقيه الفاضل الحافظ شرف الدين محمد بن المخلص بن أسلم السّنهورىّ، فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة ... ولم يكتب الشيخ الإمام - رحمه الله - بخطه لنفسه: الأنصارىّ، قطّ، وإن كان شيخه الدّمياطى يكتبها له، وإنما كان يترك الشيخ الإمام كتابة ذلك؛ لوفور عقله، ومزيد ورعه، فلا يرى أن يطرق نحوه طعن من المنكرين، ولا أن يكتبها مع احتمال عدم الصحة، خشية أن يكون قد دعا نفسه إلى قوم وليس منهم. وقد كانت الشعراء يمدحونه، ولا يخلون قصائدهم من ذكر نسبته إلى الأنصار، وهو لا ينكر ذلك عليهم، وكان رحمه الله أورع وأتقى من أن يسكت على ما يعرفه باطلا ... اه. ثم ذكر تاج الدين أمثلة من الشعر فيها ذكر تلك النسبة، وسكوت الشيخ تقى الدين، وإقراره ¬

_ (¬1) ونسبة السبكى إلى سبك العبيد التى هى سبك الأحد الآن، هو ما حقق صحته الأستاذ/ محمد الصادق حسين فى كتابه القيم" البيت السبكى"، ورد القول بأنها سبك الضحاك أو سبك الثلاثاء، فراجعه إن شئت، والكتاب المذكور فيه فوائد جليلة وإن كنت أرى أيضا فيه بعض التسرع فى الحكم على بهاء الدين السبكى وأيضا على سلاطين المماليك، والحق هو ما كتبه الأستاذ/ محمود رزق سليم فى موسوعته القيمة:" عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمى والأدبى" انظر فيه - على سبيل المثال - المجلد الثالث ص 16 - 86، ثم - على وجه الخصوص - ص 21 - 25. (¬2) 10/ 91 - 94.

الأسر البارزة

على ذلك. وخلاصة الأمر أن تقى الدين السبكى لم يكن ينكر نسبته إلى الأنصار - رضى الله عنهم - وهو أيضا لم يكن يجزم بها جزما، وإنما يرى احتمالا لعدم صحتها، وهذا مذهب الذين ترجموا له فى الجملة، وبعضهم جزم بها كالشيخ الأديب صلاح الدين أبى الصفاء خليل بن أيبك الصّفدى فى كتابه" أعيان العصر" (¬1). الأسر البارزة: عرف تاريخ الإسلام أسرا اشتهر أفرادها بالعلم، كما عرف أسرا اشتهر أفرادها بالشجاعة، أو الحكمة ... ، وقال الأستاذ/ محمود رزق سليم فى موسوعته (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمى والأدبى) (¬2): " أشرقت فى أفق هذا العصر أسر عدة من صميم الأمة أنجبت، ونبغ منها رجال خدموا الدولة فى مصر، أو الشام خدمات جليلة، سواء أكان ذلك فى وظائف الجيش أو الإدارة أو القضاء أو الكتابة، أو فى العلم والأدب. والبحث عن هذه الأسر ونجائبها وذكر مآثرهم بحث طريف، يحتاج إلى عناية مستقلة يبذلها أحد الأدباء". ثم ذكر أسرة السبكى ضمن ما ذكر. والده (¬3): على بن عبد الكافى: سبق سياق نسبه، أول من ذاع صيته فى العالم الإسلامى من علماء السبكية، ذاع صيته فى مصر والشام والعراق والحجاز، وإن عرف بالعلم من السبكية قبله من أب وقريب، لكن لم ينتشر ذكر أحد منهم كما انتشر ذكر تقى الدين أبى الحسين شيخ الإسلام. أراد الله به خيرا فى طلب العلم، فقدّر له أبوين صابرين على تعليمه، وقدّر له نفسا صابرة ¬

_ (¬1) عن الطبقات الكبرى 10/ 157. (¬2) ج 2 ص 357. (¬3) من مصادر ترجمته: البداية والنهاية 14/ 252، البدر الطالع 1/ 467، بغية الوعاة 2/ 176، تذكرة الحفاظ 4/ 1507، حسن المحاضرة 1/ 321 وقبل كل هذا الطبقات الكبرى لابنه تاج الدين ج 10، وانظر مصادر أخرى فى حاشية الطبقات.

إخوته

على الطلب، وقد عاش نحو 73 سنة، وكان إلى أن بلغ نحو 56 سنة منقطعا للعلم تحصيلا وتدريسا، وتأليفا، وفتيا، فبلغ الغاية، وطار اسمه فملأ الأقطار، وحلق على الدنيا، ولم يكتف بمصر من الأمصار. " ولد فى صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وتفقه فى صغره على والده وعلى غيره، وصحب فى التصوف الشيخ تاج الدين بن عطاء، ودرس بالقاهرة، وولى قضاء دمشق ستّ عشرة سنة، ودرّس بعدة مدارس. وقد ذكر له ولده فى (الطبقات الكبرى) ترجمة طنانة. ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر" (¬1). وكان أشعريّا فى الاعتقاد لم يختلف فى ذلك من ترجموا له، بل قطعوا بذلك، وانظر ما حكاه ابنه تاج الدين فى الطبقات الكبرى ج 10 ص 200 - 201. هذا من حيث علم التوحيد، وأما فى الفقه فكان شافعيّا. إخوته: أخوه محمد بن على - أبو بكر: أكبر أولاد على بن عبد الكافى؛ لكنه مات قبل أن يكون له شأن، ولم أقف على شئ من أخباره سوى ما جاء فى الطبقات، ومن ذلك قول تاج الدين (¬2): " أنشد الشيخ الإمام قصيدة يخاطب بها أخى الأكبر أبا بكر محمد - تغمده الله برحمته - وهى طويلة الأبيات ... ". أخوه الحسين: قال أخوهما:" واجتمعنا ليلة أنا والحافظ تقى الدين أبو الفتح، والأخ المرحوم جمال الدين الحسين ... ". أخته سارة: بنت على بن عبد الكافى (734 - 805 هـ) ذكرها ابن حجر العسقلانى فى معجمه (¬3). ¬

_ (¬1) بتصرف من (ابن قاضى شهبة) وفيات سنة 756 هـ. (¬2) الطبقات الكبرى ج 10 ص 177، وانظر البيت السبكى ص 65 - 66. (¬3) الضوء اللامع ج 12 ص 52، البيت السبكى ص 65.

إجلال أخيه ووالده له

أخته ستيتة: بنت على بن عبد الكافى، ت 776 هـ بالطاعون (¬1). أخوه عبد الوهاب تاج الدين أبو نصر: ولد بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة - على الراجح (¬2)، وتوفى عام 771 هـ، صاحب طبقات الشافعية، كان يجل أخاه بهاء الدين أبا حامد إجلالا، ونقل فى طبقاته كثيرا مما يتعلق بوالده عن أخيه، وبهاء الدين يكبره بنحو عشر سنين. إجلال أخيه ووالده له: يذكر أخوه تاج الدين فى طبقاته:" نقلت من خط أخى شيخنا شيخ الإسلام أبى حامد أحمد، سلمه الله تعالى أن الوالد ... " الطبقات 10/ 181. ووصفه بشيخ الإسلام أيضا فيها 10/ 209، 9/ 124. تاج الدين:" كتاب المناقضات للأخ الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبى حامد أحمد، أمتع الله ببقائه ... " 10/ 190. ووصفه بالشيخ الإمام العلامة أيضا فى 10/ 216. تاج الدين:" ورأيت الأخ، سيدى الشيخ الإمام أبا حامد، سلمه الله، ذكر فى شرح التلخيص فى المعانى والبيان ... ". الوالد: يقول تاج الدين عن والده:" وأنشدنا لنفسه وقد وقف على كتاب المناقضات للأخ الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبى حامد أحمد، أمتع الله ببقائه: أبو حامد فى العلم أمثال أنجم … وفى النقد كالإبريز أخلص بالسّبك فأوّلهم من إسفرايين نشؤه … وثانيهم الطوسىّ والثالث السبكى ¬

_ (¬1) شذرات الذهب ج 6 ص 242، البيت السبكى ص 67. (¬2) قلت على الراجح؛ لأن هذا قول الصفدى فى الوافى (19/ 315)، وقيل سنة 727، وقيل سنة تسع وعشرين، وإنما رجحت قول الصفدى؛ لأنه من أقرب الناس إلى هذه الأسرة.

أبناؤه

وهذه منقبة للأخ، سلمه الله، فأى مرتبة أعلى من تشبيه والده، وهو من هو، علما ودينا وتحرزا فى المقال، له بالغزالى وأبى حامد الإسفرايينى. ولقد كان الوالد - رضى الله عنه - يجل الأخ ويعظمه، سمعته غير مرة يقول:" أحمد والد" ... وكذلك سمعت الشيخ الإمام - رحمه الله - يقول فى مرض موته، والأخ غائب فى الحجاز:" غيبة أحمد أشد علىّ مما أنا فيه من المرض". وبلغه أن دروس الأخ خير من دروسه فقال: دروس أحمد خير من دروس على … وذاك عند علىّ غاية الأمل (¬1) أبناؤه: 1 - تقى الدين أبو حاتم محمد: ترجم له عمه (¬2) فقال: ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة وتوفى فى طاعون القاهرة سنة أربع وستين وسبعمائة، وله ذكر فى الطبقات الكبرى لعمه تاج الدين (¬3). 2 - صالحة: ذكرها الأستاذ/ محمد الصادق حسين نقلا عن الضوء اللامع 12/ 70 العدد 428. 3 - عبد الله - جمال الدين: ت 776 هـ ذكره الأستاذ/ محمد الصادق حسين. 4 - عبد العزيز: ت 776 هـ مع أخيه عبد الله بالطاعون، راجع شذرات الذهب 6/ 242 (نقلا عن البيت السبكى). شيوخه: أحضر على أبى العباس الحجار وأسمع على يونس الدبوسى وأبى الحسن على بن عمر الوانى، والبدر بن جماعة، وجماعة، وبدمشق من الجزرى والمزى، وغيرهما. وأخذ عن أبيه وأبى حيان والرشيدى، والأصبهانى، وسمع على الشيخ تقى الدين بن الصائغ ¬

_ (¬1) الطبقات 10/ 190. (¬2) 9/ 124. (¬3) 10/ 209

تلاميذه

عدة قراءات، وتفقه على المجد الزنكلونى وابن القماح وغيرهما. هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر (¬1) وغيره، وأكثر هذه الأسماء يحتاج إلى ترجمة وتحقيق، فلعل الله ييسر ذلك فى مقام آخر. تلاميذه: - الدميرى: كمال الدين محمد بن موسى صاحب كتاب" حياة الحيوان الكبرى" ويقول ابن شهبة:" إن الدميرى قدم على الشيخ بهاء الدين السبكى وأخذ عنه ... " (¬2). وقد نقل ابن حجر فى الدرر كلاما للدميرى يدل على صحبته لبهاء الدين السبكى فراجعه. وظائفه: أذن له بالإفتاء وعمره عشرون سنة (¬3) ولما توجه والده إلى قضاء القضاة بالشام ولاه السلطان الملك الناصر محمد مناصب والده فى تدريس المنصورية، والسيفية والهكارية (¬4) وله عشرون سنة (¬5). وذكر الصفدى توليه مشيخة الحديث بالجامع الطولونى والجامع الظاهرى (¬6) ولفظ ابن قاضى شهبة بعد ما ذكر المنصورية والسيفية والهكارية (¬7). " ثم درس بتربة الشافعى، وبجامع الحاكم، ودرّس بالشيخونية أوّل ما فتحت، وخطب بجامع ¬

_ (¬1) الدرر الكامنة ج 1 ص 210. (¬2) عن مقدمة (حياة الحيوان الكبرى) ط. دار الشعب، والمقدمة منقولة عن دائرة معارف الشعب مادة حياة الحيوان الكبرى. بقلم د. حسين فرج زين الدين. (¬3) الوافى 7/ 246. (¬4) السابق. (¬5) ابن قاضى شهبة سنة 773 هـ. (¬6) الوافى 7/ 246 وما بعدها. (¬7) هذه أسماء لمدارس نسبت إلى من أنشأها أو قام عليها أو غير ذلك من مكان ونحوه؛ فالهكارية مدرسة بدرب الهكارية بجواره حارة الجودرية، هكذا نقل الأستاذ/ محمد صادق حسين من خطط المقريزى ج 2 ص 41، ونقلته من كتابه (البيت السبكى)، والأمر مع ذلك يحتاج إلى الرجوع إلى كتب المدارس والحضارات للعلم بدقيق ذلك.

وفاته

الحاكم، وولى إفتاء دار العدل، ثم ولى قضاء الشام فى شعبان سنة ثلاث وستين (أى 763 هـ) كارها لذلك (¬1)، وتوجه أخوه إلى مصر على وظائفه، ودرس بدمشق بمدارس القضاء، ثم عاد إلى مصر فى صفر سنة أربع وستين على وظائفه، ثم ولى قضاء العسكر (¬2) ". اه. وثمة وظيفة أخرى تولاها شابا؛ لكن سرعان ما نزعت منه، ذلك ما فهمته من كلام أخيه فى الطبقات الكبرى (¬3) وهى قضاء القضاة بالعساكر المنصورة، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. وفاته: توفى البهاء السبكى سنة 773 هـ، قال الحافظ ابن حجر فى كتابه الدرر الكامنة (¬4): " ومات بهاء الدين مجاورا بمكة ليلة الخميس السابع عشر من شهر رجب سنة 773 وله أربع وخمسون سنة وبضع أشهر، ووهم ابن حبيب فقال: عاش ستا وخمسين سنة". ¬

_ (¬1) لأن أخاه عزل وكان هو عوضه. (¬2) وذلك فى سنة 766 هـ. (¬3) 9/ 97 ترجمة محمد بن أحمد الكنانى. (¬4) ج 1 ص 216 ترجمة 544.

مصنفاته

مصنفاته: - تناقض كلام الرافعى والشيخ محيى الدين النووى: صنفه وكان عمره ست عشرة سنة. - تعليق على الحاوى: ذكره فى مصنفاته ابن حجر فى الدرر الكامنة 1/ 125 ط. دار الكتب العلمية. وذكره أيضا صاحب معجم المؤلفين. - تكملة شرح المنهاج. - شرح مختصر ابن الحاجب: وقد وصف هذا الشرح بأنه مطول، كما فى معجم المؤلفين. - شرح كتاب تسهيل الفوائد لابن مالك: ذكره فى معجم المؤلفين. - شرح التخليص للقزوينى فى المعانى والبيان، سماه" عروس الأفراح": وهو كتابنا هذا. ذكره صاحب معجم المؤلفين وقال أخوه فى الطبقات الكبرى (¬1):" ورأيت الأخ، سيدى الشيخ الإمام أبا حامد، سلمه الله، ذكر فى شرح التلخيص فى المعانى والبيان ... ". - قطعة على شرح المنهاج: شرح المنهاج لأبيه. فكأنه أراد أن يكمله لا أن يعلق عليه؛ ولهذا يقال له: تكملة شرح المنهاج. كما فى معجم المؤلفين. - هدية المسافر فى المدائح النبوية: وقد ذكره بهاء الدين السبكى ضمن شعراء المديح النبوى فى العصر المملوكى، وذلك فى موسوعة الأستاذ/ محمود رزق سليم (¬2). ¬

_ (¬1) 2/ 196. (¬2) (عصر سلاطين المماليك) ج 8 ص 284.

الفنّ الأول علم المعانى

مقدمة المصنف لعروس الأفراح

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المصنف لعروس الأفراح قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، حجة الإسلام، مفتى الأنام أوحد الفصحاء والبلغاء، شيخ النحاة والأدباء، كنز المحققين وسيف المناظرين بهاء الملة والدين: أبو حامد أحمد ابن سيدنا ومولانا قاضى القضاة بقية المجتهدين ولسان المتكلمين تقى الدين السبكى، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته: الحمد لله الذى فتق عن بديع المعانى لسان أهل البيان، ورتق الأفواه عن تفسير المثانى إلى أن فتحتها بلاغة آل عدنان، ومحق ببراعة كتابه العربى، وأسنة دينه القوى ما خالفهما من جدال اللسان، وجلاد السنان، ورزق الفصاحة المحمدية من الحكمة البالغة ما مزق حكم اليونان. نحمده على نعمتى الإنشاء والإعادة، ونشكره شكرا ورد به الخبر المسند فنصدر عن مبتداه بمنتهى السعادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشتمل على جناح القلب فتسكن بمد النصر لها يرمى بشرر كالقصر، وتنكس حصون الشرك بملائكة السبع الطباق لما شيد لها النفى والإثبات من القصر، وتفتح عند موازنة الأعمال باب الغفران بعد المعاضلة، وتتحف بالجبر (¬1) إذا بدت من كتاب السيئات تخاريج المقابلة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صاحب الفصل والوصل فى الواقعة إذا وقف الصف يوم الحشر، والمسند إليه الشفاعة إذا التفت الساق بالساق، واشتد كرب ذلك اللف والنشر صلّى الله عليه وسلّم وعلى آل محمد وصحبه، الذين اغتدوا باستخدامه لهم ملوكا يستعبدون معالى الصفات، وارتدوا ملابس التقوى بتجريد قلوب لم يكن لها إلى غيره التفات، واقتدوا به فهم فى التشبيه كالنجوم، لأن محاسن الأمة منهم استعارة، وإليهم إضافات صلاة جارية على الخطاب المنصف والأسلوب الحكيم، حاوية لتمام الاتصال بالصراط المستقيم، وسلم تسليما يعلن به اللسان الطاهر، ويبطن القلب من اعتباره المناسب ما يساعده مقتضى الظاهر، ما خفقت للبلاغة راية مجد فى بنى غالب بن فهر، وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر، لما لهم من نسب وصهر. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل المخطوط بدار الكتب المصرية 38 بلاغة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (أما بعد) فإن تلخيص المفتاح (¬1) فى علم البلاغة وتوابعها بإجماع من وقف عليه، واتفاق من صرف العناية إليه أنفع كتاب فى هذا العلم صنف، وأجمع مختصر فيه على مقدار حجمه ألف، ولم أزل مشغوفا بهذا الفن وله محبا، مشغول الخاطر بالعزم على التجرد إليه وإن كنت على غيره من العلوم مكبا، منذ أبرزتنى الإرادة إلى الوجود إبراز الهلال، وبشرتنى حال المولد بالبلوغ لهذا العلم براعة الاستهلال، وآذنتنى الفراسة أن حسن التخلص حينئذ إنما كان كناية عن مقتضى الحال، وتعريضا بحقيقة ما سيكون من إدراك الآمال. أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى … فصادف قلبا خاليا فتمكّنا (¬2) إلى أن أعربت عن حال التمييز، وبلغت ما تنازع إليه النفس من الاشتغال بمصنفاته ما بين مطنب ووجيز، فلم أطلع للمتأخرين فيه على تصنيف محكم تقر بتهذيبه العين، ولا وقفت لهم فيه على تأليف مجمل أو مفصل أشاهد صحاح معانيه فلا أطلب أثرا بعد عين، أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم، والفهم المستقيم، والأذهان التى هى أرق من النسيم، وألطف من ماء الحياة فى المحيا الوسيم، أكسبهم النيل تلك الحلاوة، وأشار إليهم بأصبعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة، فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلا عن الأغمار الأعمار، ويرون فى مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار. والسيف ما لم يلف فيه صيقل (¬3) … من طبعه لم ينتفع بصقال (¬4) فيا لها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عديّة ولا بلحاق لا حق وانسكاب سكاب، فلذلك صرفوا هممهم إلى العلوم التى هى نتيجة أو مادة لعلم البيان، كاللغة، والنحو، والفقه، والحديث، وتفسير القرآن. وأما أهل بلاد المشرق، الذين لهم اليد الطولى فى العلوم، ولا سيما العلوم العقلية والمنطق، فاستوفوا هممهم الشامخة فى تحصيله، ¬

_ (¬1) طبع الكتاب فى طبعة أنيقة بتحقيقى فى مكتبة دار الكتب العلمية. بيروت. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى مفتاح العلوم ص 91 ط المطبعة الأدبية، والتبيان للطيبى بتحقيقى (1/ 143) ط المكتبة التجارية بمكة. وهو لقيس ليلى العامرية فى روح المعانى للآلوسى (1/ 39). (¬3) الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. (¬4) الصقل: الجلاء، والاسم: الصّقال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله، ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا من عندها (¬1) بملء مسجلهم، وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، فلذلك عمروا منه كل دارس، وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنه الحارس، وبلغوا عنان السماء فى طلبه" ولو كان الدين بالثريا لناله رجال من فارس" (¬2)، إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة بلاد المغرب المصباح، فكأنما حيل بينه وبينهم وأدارت المنون على قطبهم الدوائر، فتعطلت بوفاته من علومه أفواه المحابر، وبطون الدفاتر، وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف، وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف، فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة - رحمهم الله تعالى - من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته، ومخض النصح فنشر على أعطاف العارى بردته، ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة، ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة، ولا رأينا بعد أن انطمست تلك الشموس المشرقة، واندرست طبقة تحرى الفرقة، ولم يبق إلا رسوم هى من فضائلهم مسترقة، من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقه، ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال: وافق شن طبقة (¬3)، بل ركدت بينهم فى هذا الزمان ريحه، وخبت مصابيحه، وناداهم الأدب سواكم أعنى، ورب كلمة تقول دعنى. وما بعض الإقامة فى ديار … يهان بها الفتى إلّا بلاء (¬4) فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل، وآذن بالتحول: وإذا الكريم رأى الخمول نزيله … فى منزل فالرّأى أن يتحوّلا وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار، وأنشد من ناداهم من تلك الديار: ¬

_ (¬1) فى الأصل: عنها. (¬2) لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه فى" فضائل الصحابة"، باب: فضل فارس، (ح 2546)، واتفقا على صحته بلفظ آخر. (¬3) وافق شنّ طبقة: هذه عبارة تضرب مثلا، وتفسيرها فى بعض الروايات: أن شن قبيلة كانت تكثر الغارات فوافقهم طبق من الناس فأباروهم وأبادوهم، عن اللسان. (¬4) البيت من الوافر، وهو لقيس بن الخطيم فى ديوانه ص 153، ولسان العرب (نوك)، وتاج العروس (نوك)، وخزانة الأدب 7/ 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أقمت بأرض مصر فلا ورائى … تخبّ بى الرّكاب ولا أمامى (¬1) ولقد وصل إلينا من تلك البلاد على التلخيص شروح رحم الله مصنفيها؛ فإنهم ماتوا وهم أخيار وبيض وجوههم فى الآخرة كما سودهم بالمعالى فى هذه الدار، لا تنشرح لبعضها الصدور الضيقة، ولا تنفتح عندها مغلقة، ولا ينقدح فيها زناد الفكر عن مسألة محققة. يتناولون المعنى الواحد بالطرق المختلفة، ويتناوبون المشكل والواضح على أسلوب واحد كلهم قد ألفه، لا يخالف المتأخر منهم المتقدم إلا بتغيير العبارة، ولا يجد له على حل ما أشكل على غيره أو استشكال ما اتضح جسارة. ولا يطمع أن يذوق ما فى الاستدراك من اللذة، ولا تطمح نفسه لأن يقال برز على من سبقه وبزّه (¬2)، بل يسرى خلف من تقدمه حتى فى الكلمة الفذة، ويسير أثره حذو القذة بالقذة، قصارى أحدهم أن يعزو أبياتا من الشواهد لقائليها، ويوسع الدائرة بما لا يقام له وزن من تكميل ناقصها وإنشاد ما قبلها وما يليها، وينشر للراغب مفردات الألفاظ من واضح كلام العرب، ويذكر ما لا حرج على مخالفه من اصطلاحات لبعض أهل الأدب، ولا يزيد فى شرح عبارة المصنف على الإيضاح زينا وجد فيه أم شينا، فلو نطق التلخيص لتلا ما جئتم به هذه بضاعتنا ردت إلينا، هذا والشرح يطول، والوقت ينفق ولم يكتب لطالب البيان وصول، قد استفرغوا فى ذلك قوى أفكارهم واستوعبوا مدى أعمارهم فليت شعرى وقد انقضى العمر متى يسبحون فى اللجة، ويجنحون إلى بياض المحجة. أبعد أن يشيب الغراب ويرجع الشباب الحائل. أم يصيرون إلى أن تعود إلى الدنيا القرون الأوائل؟ وحتّى يئوب القارظان كلاهما … وينشر فى القتلى كليب لوائل (¬3) (¬4) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه (2/ 247) ط. دار الكتب العلمية. والخبب ضرب من المشى، الركاب: الإبل، يعنى أنه مكث فى مصر ولم يبرح على غير عادته فى السفر الدائم. اه من هامش الديوان. (¬2) يقال: بزّ فلان أقرانه، إذا فاقهم وتقدمهم. (¬3) القارظ: الذى يجمع القرظ ويجتنيه، ومن أمثالهم: لا يكون ذلك حتى يئوب القارظان، وهما رجلان: أحدهما من عنزة، والآخر عامر بن تميم بن يقدم بن عنزة خرجا ينتحيان القرظ ويجتنيانه فلم يرجعا فضرب بهما المثل، عن اللسان. (¬4) البيت من الطويل، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص 147، ولسان العرب (قرظ)، وتاج العروس (قرظ)، وتهذيب اللغة 9/ 68.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى أية مدة يصلون إلى تلك اللطائف، ويحصلون على تلك الحقائق التى طاف بأركان بيتها ممن له حجر سليم ومقام كريم كل طائف. لولا العقول لكان أدنى ضيغم … أدنى إلى شرف من الإنسان فكم من معضلة فى الكتاب يمرون عليها وهم عن حلاوة حلها معرضون، ومشكلة يصححون ألفاظها وهم للمعانى ممرضون، وكم أوردوا أسئلة وصارخ من التوفيق يناديهم: لو قبل ما هكذا تورد يا سعد الإبل (¬1). وكم هتف بطائرهم هاتف من العقل بصوت شجى: هيهات ما هذا بعشك فادرجى، وكم عاود النظر فى شئ من هذه الشروح على سبيل التنزل مطالع، ثم ثنى طرفه وهو يقول: يا خيبة المطامع، ويحلف صادقا أنها لم تكن تكتب إلا بأطراف الأصابع، هنالك يعلم الطالب أنه أملى له فيما أملى عليه، وأنه فى مهمه مهمل لا يجاب داعيه ولا يلتفت إليه. فلو أنشدت نعشا هناك بناته … لمات ولم يسمع لها صوت منشد وإنما أحلت ذلك كله على سوء تصرف من لسان الناقل أو يد الناسخ وأحلت أن يصدر شئ منه عن المصنفين فإنهم أرباب قدم فى العلم راسخ. ولله در القائل: أخا العلم لا تعجل بعيب مصنّف … ولم تتيقّن زلّة منه تعرف فكم أفسد الرّاوى كلاما بعقله … وكم حرّف المنقول قوم وصحّفوا وكم ناسخ أضحى لمعنى مغيّرا … وجاء بشئ لم يرده المصنّف فحدانى ذلك على أن أشد جياد الحزم، وأمد ركاب العزم، إلى شرح للتلخيص يحيى من هذا العلم الرفات، ويدرك منه ما فات، ويمتطى من معاليه أقصاها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمال مصنفيه إلا أحصاها، ويجمع من شتاته ما تفرق شغر بغر (¬2)، ويضم من شذوره ¬

_ (¬1) هذا قريب من عجز بيت من الرجز وتمام البيت: أوردها سعد وسعد مشتمل … ما هكذا يا سعد تورد الإبل وهو للنوار زوجة مالك بن زيد مناة فى اللسان (خنطل)، ولمالك بن زيد مناة فى جمهرة الأمثال 1/ 93 ولعلى بن أبى طالب - رضى الله عنه - فى مجمع الأمثال 1/ 406، وتاج العروس (سعد). (¬2) شغر بغر: يقال تفرقت الإبل وذهب القوم شغر بغر، وذهب القوم شغر مغر، وشغر بغر، أى: متفرقين فى كل وجه، اللسان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذهبية ما ذهب أيدى سبا وتمزق شذر مذر (¬1)، ويقتض من أبكاره ما مضت عليه القرون، ويفتض من ختامه ما انطوى على كل در مكنون، وينسج على منوال التفهيم تفاصيل محرره، ويحوى من القصب ما أحرز المدى وأطرب، وسكرت عن تبعه أبصار قوم لم يذوقوا حل ألوانه المكررة، ويقدم للطلاب معمولا على نمط ما قلاه من المتحلين باستعمال الأدب عام ولا خاص، محشوا بتأليف حبات من القلوب تصلح مسيرا طبقا عن طبق لدست (¬2) الخواص، مختصا بصواب من مختار القول لأنه معمول ومقدم وتقديم المعمول مفيد للاختصاص. ويكون واسطة بين مفتاح المشرق ومصباح المغرب، خليا من العصبية حريا بالنسبة إلى مصر فإنها بقعة من عند الله مباركة طيبة لا شرقية ولا غربية فسبحان فالق إصباحها عن اعتدال يكون بين الحق والباطل فيصلا. وجاعل الشّمس مصرا لا خفاء به … بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا (¬3) وكيف لا يدرك الفسطاط من هذا العلم المدى ويسلك فى إبراز حقائقه طرائق قددا، ويستخرج من ركابه أفلاذ الأكباد، ويضم من جياده ما سرح فى البلاد بداد، وهو قد اقتلع من تخوم خوارزم أساس البلاغة وأخذ زهرة أصفهان وأخلى ابن داود منها باعه وزفت إليه من ثم الخريدة بالأغانى وكفل لنيسابور اليتيمة فكان كما دل عليه الخبر خير المغانى، واقتطع من جيد المغرب عقده، ورشق مصنفاته بسهام النقد فما أغنت عن ابن رشيق العمدة (¬4). ونشر قلائد ¬

_ (¬1) شذر مذر: يقال ذهب القوم شذر مذر، أى: متفرقين، وتفرقت إبله شذر مذر إذا تفرقت فى كل وجه، ويتمذر: يتفرق، ويتشذر القوم: تفرقوا، عن اللسان. (¬2) طبقا عن طبق لدست الخواص: أى حالا بعد حال لدست الخواص أى: مجلس الخواص وكلمة دست: معربة عن المعجمة واستعملها المتأخرون بمعنى الديوان ومجلس الوزارة والرئاسة، انظر تاج العروس (1/ 543). (¬3) البيت من البسيط، وهو لعدى بن زيد فى ديوانه ص 159، ولسان العرب (مصر)، وأساس البلاغة (مصر)، والتنبيه والإيضاح (2/ 206)، ولأمية بن أبى الصلت فى تاج العروس (مصر)، والمخصص 13/ 164. ويروى: وجعل الشمس ... والمصر: الحاجز والحدّ بين الشيئين، أى جعل الشمس حدّا وعلامة بين الليل والنهار. اللسان (مصر). (¬4) لنا تحقيق على كتاب العمدة لابن رشيق، ط. المكتبة العصرية - بيروت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عقيانه، ونثر زهر آدابه عن أفنانه. واستولى على الذخيرة. واستوفى محاسن أهل الجزيرة، فلذلك رجوت أن تخرج طينته فى هذا العلم كتابا يملى على المغترين من العلم فيملأ صدورهم ملاءة، وأن يرد ما أخذه عباءة ملاءة. ثم أحجمت عن سلوك هذا المسرى فصرت أقدم رجلا وأؤخر أخرى لعلمى أن الباع قصير والمتاع يسير، والبضاعة مزجاة، والصناعة لا تسعف الآمل كل وقت بما رجاه. هذا موضع ضيق الوقت بأعداء ندرأ بالله فى نحورهم، ونعوذ به من شرورهم: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (¬1). ويمكرون ويصدفون عما انتهى إليهم منا فنتلو: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (¬2). إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا … منّى وما سمعوا من صالح دفنوا مثل العصافير أحلاما ومقدرة … لو يوزنون بزفّ (¬3) الرّيش ما وزنوا صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به … وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (¬4) يتناهبون من العمر الأيام والليالى، ويحولون لو قدروا بين القلب وما يحاوله من العلوم والمعالى، لا تصدع المواعظ قلوبهم فتردعهم، ولا يسمعهم المذكر بأيام الله ولو أسمعهم، ولم يرد الله نفعهم فما نفعهم، هذا مع غشيان الفتنة لهم فى كل عام، وإتيان دائرة السوء عليهم بما ينحرهم كالأنعام، وأن أحدا منهم لا يصل إلى ما يتمناه. فإنا حول مائدة الكرم نستبشر بقوله تعالى كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ (¬5). وأيّامنا مشهورة فى عدوّنا … لها غرر (¬6) معروفة وحجول ¬

_ (¬1) سورة النحل: 83. (¬2) سورة يوسف: 38. (¬3) الزّف: صغير الريش، وخصّ بعضهم به ريش النعام. اللسان (زفف). (¬4) الأبيات من البسيط، وهى لقعنب ابن أم صاحب فى لسان العرب (شور)، (همع)، (أذن) والأول فى سمط اللآلى ص 362، والثالث فى تاج العروس (أذن) ويروى الأول: (إن يسمعوا سبة)، (وما يسمعوا). (¬5) سورة المائدة: 64. (¬6) الغرة: البياض فى جبهة الفرس، والتحجيل: بياض فى أقدام الفرس حتى موضع القيد، يعنى أن وقائعهم بين الأيام، كالأفراس الغر المحجلة بين الخيل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأسيافنا ألطاف رب دفاعه … منيع يردّ الطّرف (¬1) وهو كليل معوّدة نصرا من الله غالبا … يعزّ على من كاده ويطول هو الصّمد الفرد الّذى مستجيره … عزيز وجار المعتدين ذليل سلى إن جهلت النّاس عنّا وعنهم … فليس سواء عالم وجهول فإنّ رسول الله قطب رحائنا … تدور رحانا حوله وتجول (¬2) ألهم الله كلا منا ومنهم توبة تضع من الأوزار عن الظهور كلا. وكفانا وإياهم حصائد الألسنة" وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا" (¬3). وحساد على نعم الله تعالى لا فى اثنتين، ولا يتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، لا أقول حان حينهم، بل كفينا عينهم ومينهم، وحال الله بين مناهم وبينهم، يريدون إطفاء العلم بأفواههم، فلا يحصلون إلا على إتعاب شفاههم وتسويد جباههم. وفى تعب من يحسد الشّمس نورها … ويجهد أن يأتى لها بضريب نسأل الله أن يجعلنا من قوم عرفوا نعمته فحمدوا. محسّدين على ما كان من نعم … لا ينزع الله منهم ما له حسدوا (¬4) ¬

_ (¬1) الطرف: النظر والعين أيضا، أى يرد طرف الناظر وهو حسير، عن هامش الحماسة. (¬2) الأبيات من الطويل، وهى من قصيدة طويلة، فى الحماسة البصرية ص 146 - 149. منسوبة للسموأل بن عاديا (جاهلى)، وتروى لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثى من شعراء الدولة العباسية والأبيات هنا مختلفة فى الترتيب والألفاظ عما فى الحماسة البصرية بل ركبت فيها صدور لأعجاز أبيات أخر. فألفاظها هنا إسلامية وألفاظها فى الحماسة البصرية محتملة وهى أقرب لأن تكون جاهلية. وانظر أيضا ديوان السموأل ص 90 - 92، وخزانة الأدب 10/ 331. (¬3) جزء من حديث معاذ بن جبل، أخرجه أحمد والترمذى وابن ماجه، والحاكم وغيرهم، وأورده الشيخ الألبانى فى صحيح الجامع (ح 5136)، وقال:" صحيح". (¬4) البيت لزهير فى العمدة لابن رشيق (2/ 105) وروايته: محسدون ...

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ما انضم إلى ذلك من فراق لذلك الوالد استولى على الجسد فهد قواه، ورمى القلب بسهام الوجد فأصماه، وشارفه باستيفاء أقسام الحزن عاملا على مباشرة سهمى رقيبه ومعلاه. فانصرفت آمال النفس عن الأمانى وانحرفت عما كان يعز عليها من معالى المعانى. قد كنت أشفق من دمعى على بصرى … فاليوم كلّ عزيز بعدهم هانا إلى استغراق الزمان بذكر الدروس التى هى لغير هذا العلم موضوعة، والأخذ فى تصانيف فى الفقه وأصوله نرجو إكمالها إن شاء الله تعالى وتكميل ما شرع فيه من الخير سنة مشروعة، فليت شعرى هل تفضل من العمر عن هذه الشواغل بقية؟ وهل دون هذه السهام القواتل من تقية؟ غير أنه قد أسعفت الألطاف الإلهية، وأسعدت العناية المحمدية (¬1) حتى وضعت لهذا الكتاب شرحا ليس غائب الرسم فأعرفه بالحد، ولا مجانب الوسم فأصفه بما يوجب القبول أو الرد، بل هو بادى الصفحة، مدرك باللمحة، وها أنا قد أخرجته عن يدى وجعلته موقوفا فى سوق الاعتراض، مصروفا لمن يستحق منافعه وهو المبرأ من أمراض الأغراض، فمن نظر بعين الإنصاف، واعتبر وهو مصاف، وله بصحة الذهن اتصاف، علم أهو جدير بأن ينبذ بالعراء ويهجر هجر واصل للراء؟ أم هو حقيق بأن تضرب له أيدى النجباء آباط النجائب، وتعقد الخناصر على ما فيه من عجائب المحاسن ومحاسن العجائب؟ فإن تصفح الناظر فيه الغلط فليصفح ولا يكن من أناس بالأغاليط يفرحون، وليصلح ما يجده فاسدا فإن الله تعالى ذم رهطا قال فيهم: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (¬2)، وإن رآه أمثل مما فرح الطلاب بجمعه من كلام كثيرين فليعوذه بقوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (¬3). وكأنى بمن لا يعرف من التحقيق قبيلا من دبير، ولا هو من التدقيق فى العير ولا فى النفير، ولا تملك يده من هذا العلم قطميرا، وإن بسط ذراعيه بوصيد كهف العلم كأنه قطمير، يجد فى كتابى هذا قواعد مخترعة، ومعاقد هى فى بادئ الرأى هاذمة لقواعد المتقدمين وإنما هى عند التأمل والتحقيق من كلامهم منتزعة، وركوب لجة ما ركبها السابحون، ¬

_ (¬1) هذا مما تسلل إلى الشيخ من عقيدة المتصوفة التى كانت سائدة فى ذلك العصر. (¬2) سورة النمل: 48. (¬3) سورة يونس: 58.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وسلوك محجة ما طرقها الشارحون، ولا سلكها الغادون والرائحون، أو ينظر أول كلامى دون آخره، ويقصر عن درك دقائقه حتى تمضى ساعاته حول ظواهره، فيظن أنه قد وجد تمرة الغراب، أو أنه قد سبق الهجين العراب. عذرت البزل إن هى خاطرتنى … فما بالى وبال بنى لبون هيهات لا يدرك شأوى الضليع هذا الضالع، ولا يملك ما طمع فيه وإنما تقطع أعناق الرجال المطامع، فليعلم هذا القصير الباع المبطن من مكيدته ما استطاع، أنه لم يبق وجهه بل فضح نفسه وصنفه، ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأنه لا يزال يتقلب من كمده على الجمر، ويأمر من اجتناب هذا الكتاب بالفحشاء ولا يطاع لقصير أمر: وكم من عائب قولا صحيحا … وآفته من الفهم السّقيم ولكن تأخذ الآذان منه … على قدر القرائح والعلوم (¬1) أيحسب أن ما فقده من كلام الشارحين صار الكتاب منه غفلا؟! أم يظن أن التقصير أغلق على خزائنهم دونى قفلا؟! ولا يدرى أننى وردت حياضهم فرشفت صفوا وقذفت ثفلا، وجبت أنجادهم وأغوارهم فتخيرت منها ما يصلح علوا وسفلا. أولى له فأولى إن لم يعط القوس باريها، لقد كان الأحرى به والأولى أن ينظر آخر الكلام أو يرجع من كتب المتقدمين ما فيها، فالاستيعاب لأطراف الكلام الموطأ يرشده ويوقظه من سنة الكرى، والاستذكار لما أسسه السلف من تمهيد القواعد ينشده: أطرق كرا، أطرق كرا … إنّ النّعام فى القرى (¬2) كأنما ضرب بينه وبين العلم بسور من الشدائد، وجعل عليه دون هذا الكتاب سدّا من حديد فهو يضرب فيه بذهنه الكليل الشارد، وقيل ارجع وراءك فالتمس نورا فإنما أنت تضرب فى حديد حتى يرجع بخفى حنين (¬3)، ويسمى بحسده أشغل من ذات النحيين «3»، ولو ¬

_ (¬1) البيتان من الوافر، والأول منهما بلا نسبة فى تاج العروس (كفر). (¬2) هذا قول للعرب لكنه مرجوز، وهو فى اللسان (كرا) وتاج العروس (كرا)، والكامل بتحقيقى - ط دار الكتب العلمية. (¬3) حتى يرجع بخفى حنين: هذه عبارة تضرب مثلا لمن رد عن حاجته ورجع بالخيبة، وتفسيرها فى بعض الروايات: أن حنينا كان رجلا شريفا ادّعى إلى أسد بن هاشم بن عبد مناف فأتى إلى عبد المطلب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أوتى رشده لأنف أن يسخر منه الساخر، واغترف من هذا البحر الزاخر، واعترف بأنه الذى يلتقط منه جواهر المفاخر، وترى الفلك فيه بشراع العلم مواخر، ويقول من تقرع أسماعه: كم ترك الأول للآخر؟ وهب أنه ظفر بزلات معدودة، وعثر على هفوات ليست أمثالها عن جهابذة هذا الفن مردودة، ألم يعلم أن السعيد من عدت غلطاته، وردت إلى استقصاء الإحصاء سقطاته؟! فمن ذا الّذى ترضى سجاياه كلّها … كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه (¬1) ولكن لأمر ما يسود من يسود، وعسى أن يكره الإنسان من ذم الحاسد ما تسفر عقباه عن محمود السعود: وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت … ما كان يعرف طيب عرف العود (¬2) أعاذنا الله تعالى من هوى يرمى بالخرس لسان الاعتراف، ويعمى أبصار البصائر عن جميل الأوصاف، ويصمى (¬3) القلوب فلا يصل إليها نور الإنصاف، ولما أوصلتنى السرى منه إلى صباح قدر صدته فلاح، وأسفر صبحه فأجاب من سمع من مناديه حى على الفلاح، وشرح طائره الميمون ببطاقة بالحتم مبشرة بالقدوم يخفق بها جناح النجاح، ووصلت فيه إلى اجتناء غروس ثمارها على أفنان الفنون مرتصة، وحصلت منه على اجتلاء عروس فى حلى الأفراح ¬

_ - وعليه خفان أحمران، فقال: يا عم، أنا ابن أسعد بن هاشم فقال له عبد المطلب: لا وثياب هاشم، ما أعرف شمائل هاشم فيك فارجع راشدا، فانصرف خائبا، عن اللسان. أشغل من ذات النحيين: هذه عبارة تضرب مثلا، وتفسيرها أن ذات النحيين امرأة من تميم كانت تبيع السمن في الجاهلية، فأتى خوّات بن جبير الأنصاري يبتاع منها سمنا فساومها، فحلت نحيا - زقا من سمن - مملوءا، فقال: أمسكيه حتى أنظر غيره ثم حل آخر وقال لها: أمسكيه، فلما شغل يديها ساورها حتى قضى ما أراد وهرب، عن اللسان. (¬1) البيت من الطويل، وهو ليزيد بن محمد المهلبى فى تاج العروس (حبر). وروايته (ومن ...). (¬2) البيتان من الكامل، وهما لأبى تمام فى ديوانه ص 85 ط. دار الكتب العلمية، وأسرار البلاغة ص 92 ط. رشيد رضا، والمصباح ص 113، 114، والإيضاح ص 204. والعمدة لابن رشيق (2/ 189). (¬3) الوصم: المرض، عن اللسان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على منصة حمدت الله تعالى على إتمام نعمتى الإتمام والافتتاح، وسميته: (عروس الأفراح فى شرح تلخيص المفتاح) ولقد احتوى هذا الشرح بحمد الله تعالى من المباحث التى هى من بنات فكرى فلم أسبق إليها، ومن هبات ذكرى فما عثر أحد فيما علمت من أهل هذا الفن عليها، على جملة لا أعقد لها عددا حتى أفرغ من عدّ النجوم، ولا أعهد لها مددا سوى إلهام الحى القيوم، وكأين فيه من شاهد يردّ على هذا العلم ما يدعيه عن حق ضائع، ويثبت له عرفا يحفظ طيب الثناء بعرف ضائع، ويأمن من الإسقاط فإنى استخرجته بالفكرة، وعدلته بتزكيتى العقل والنقل عند قاض من التأمل ليست عنده فترة، وأجلسته فى مجالس العلماء فأثبتوا فخره، وأطلت البحث عنه ولم أجده فى كتاب ولم أسمعه من ذى فطرة. واعلم أنى مزجت قواعد هذا العلم بقواعد الأصول والعربية، وجعلت نفع هذا الشرح مقسوما بين طالبى العلوم الثلاثة وأكاد أقول بالسوية، وأضفت إليه من إعراب الآيات الواقعة فيه ما هو محرر وإن كان رقيق الحاشية، ومن ضبط ألفاظ أحاديثه النبوية ما كانت خباياه من الجامع الأزهر الصحيح فى زاوية، وضمنته شيئا من القواعد المنطقية والمقاعد الكلامية والحكمة الرياضية أو الطبيعية، وأتحفته من فوائد الوالد (¬1) وتحقيقه، ومن فوائد علمه الطارف والتالد وتدقيقه، ما هو تاج على هام الكواكب، وسراج إذا ادلهمت الغياهب، وطراز على حلة الطالب، وغرة فى جبهة العلوم ترفع عن عين اليقين الحاجب، وهو الذى تلقفت عنه علم البيان، وتكيفت منه بكل ما منحنى الله من المواهب الحسان، وأنا أسأل الله تعالى وأتضرع إليه، وأتوسل (¬2) إليه بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فإنه أكرم خلقه عليه أن يسكنه وإياى وسائر ذريته فى الجنة مكانا مرفوعا، وأن يجعل المحمول على ظهورنا من مقدمات سوء المنطق وغيره من أشكال للأعمال المنتجة للأصغر والأكبر من الأوزار موضوعا. واعلم أننى لم أضع هذا الشرح، حتى استعنت عليه بنحو من ثلاثمائة تصنيف، وأنه تضمن الخلاصة من مائة تصنيف فى هذا العلم، منها ما وقفت عليه، ومنها ما وقفت على كلام من وقف عليه، وقال: إنه جمع بين طرفيه وإنى اختصرت فيه أكثر من خمسين مصنفا فى علم البلاغة وقفت عليها، لم أترك منها إلا ما هو خارج عن هذا العلم، أو قليل الجدوى فيه، أو هو فى غاية الوضوح، أو شواهد لا حاجة لها لكثرتها، أو ما زاغ البصر عنه، أو ما إن تأملته علمت أنه فاسد لا ترتضيه فمن ¬

_ (¬1) سبق التعريف به فى ترجمة المصنف. (¬2) هذا ونحوه مما تسرب إلى الشيخ من عقيدة المتصوفة، وقد سبق التنبيه على مثله.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك: دلائل الإعجاز للشيخ عبد القاهر الجرجانى (¬1)، والبديع لابن المعتز (¬2) وإعجاز القرآن للرمانى (¬3)، والواسطة لعلى بن عبد العزيز الجرجانى (¬4)، والبديع لابن المنقذ (¬5)، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجى (¬6)، والعمدة لابن رشيق القيروانى (¬7)، والعدة فى اختصار العمدة للصقلى (¬8)، وكنايات البلغاء لأحمد بن محمد الجرجانى (¬9)، والنصف من حلية المحاضرة للحاتمى (¬10)، ومنهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم (¬11)، والصناعتان للعسكرى (¬12)، ¬

_ (¬1) عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى النحوى أبو بكر صنف أبدع كتابين فى علوم البلاغة وهما: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، المغنى فى شرح الإيضاح فى النحو، المقتصد فى شرحه، إعجاز القرآن الكبير والصغير، الجمل، العوامل المائة، العمدة فى التصريف، عن بغية الوعاة 2/ 106. (¬2) عبد الله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسى أبو العباس الشاعر المبدع خليفة يوم وليلة صنف: الزهر الرياض، البديع، الآداب، أشعار الملوك، طبقات الشعراء، عن الأعلام 4/ 118. (¬3) على بن عيسى بن على بن عبد الله أبو الحسن الرمانى، كان إماما فى العربية صنف: التفسير، شرح سيبويه، شرح مختصر الجرمىّ، عن بغية الوعاة 2/ 180، 181. (¬4) على بن عبد العزيز بن الحسن الجرجانى أبو الحسن، قاض، من العلماء بالأدب، من كتبه الوساطة بين المتنبى وخصومه، وتفسير القرآن، وديوان شعر، عن الأعلام 4/ 300. (¬5) أسامة بن مرشد بن على بن مقلد بن نصر بن منقذ الكنانى أبو المظفر مؤيد الدولة، أمير له تصانيف فى الأدب، والتاريخ منها: لباب الألباب، والبديع فى نقد الشعر، والنوم والأحلام. الأعلام 1/ 291. (¬6) عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان أبو محمد الخفاجى الحلبى، شاعر أخذ الأدب عن أبى العلاء المعرى وغيره. له ديوان شعر، وسر الفصاحة. الأعلام 4/ 122. (¬7) الحسن بن رشيق - بفتح الراء وكسر الشين المعجمة - القيروانىّ، كان شاعرا نحويّا لغويّا أديبا حاذقا عروضيّا، له العمدة فى صناعة الشعر، والأنموذج فى شعراء القيروان. بغية الوعاة 1/ 504. (¬8) مصعب بن محمد بن أبى الفرات القرشى العبدرى الصقلى أبو العرب شاعر عالم بالأدب من أهل صقلية: الأعلام 7/ 249. (¬9) أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الجرجانى قاضى البصرة وشيخ الشافعية بها فى عصره وكان عارفا بالأدب له نظم مليح، وصنف المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء. الأعلام 1/ 214. (¬10) محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمى أبو على البغدادى أحد الأعلام المشاهير له مع أبى الطيب المتنبى مخاطبة أقذعه فيها. وله من التصانيف: حلية المحاضرة فى صناعة الشعر، وتقريع الهلباجة فى صناعة الشعر. بغية الوعاة 1/ 87. (¬11) حازم بن محمد بن حسن الأنصارى القرطبى النحوى أبو الحسن، شيخ البلاغة والأدب. صنف: سراج البلغاء فى البلاغة، كتابا فى القوافى، قصيدة فى النحو على حرف الميم. بغية الوعاة 1/ 491. (¬12) الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران أبو هلال العسكرى له من التصانيف: كتاب صناعتى النظم والنثر، شرح الحماسة، جمهرة الأمثال. بغية الوعاة 1/ 506.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ونهاية الإنجاز (¬1) فى الإعجاز للإمام فخر الدين الرازى (¬2)، والمعيار للزنجانى (¬3)، وقوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادى (¬4)، والمفتاح للسكاكى (¬5)، وشرحه للإمام قطب الدين الشيرازى (¬6)، وشرحه للشيخ ناصر الدين الترمذى (¬7)، وشرحه للشيخ شمس الدين الخطيبى الخلخالى (¬8)، وشرحه أيضا للشيخ عماد الدين الكاشى (¬9)، وشرحه أيضا للقاضى حسام الدين (¬10) قاضى الروم، وتنقيح المفتاح للشيخ تاج الدين التبريزى (¬11)، وروض الأذهان للشيخ بدر الدين بن مالك (¬12)، والمصباح أيضا له، وضوء المصباح مختصر المصباح لابن النحوية (¬13)، وشرحه له، والأقصى القريب للشيخ زين الدين ¬

_ (¬1) تصحفت فى المطبوع إلى الإعجاز، وما أثبتناه من كشف الظنون (2/ 1986). (¬2) محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمى البكرى، أبو عبد الله فخر الدين الرازى الإمام المفسر، له: مفاتيح الغيب، الأربعون فى أصول الدين، وشرح سقط الزند للمعرى. الأعلام 6/ 313. (¬3) عبد الوهاب بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن أبى المعالى الخزرجى الزنجانى، يقال له العزى عز الدين، له: تصريف العزى فى الصرف، ومعيار النظار فى علوم الأشعار. بغية الوعاة 2/ 122 والأعلام 4/ 179. (¬4) عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن على البغدادى موفق الدين، من كتبه: قوانين البلاغة، ذيل الفصيح، وغريب الحديث، وتهذيب كلام أفلاطون. الأعلام 4/ 61. (¬5) يوسف السكاكى أبو يعقوب العلامة كان علامة بارعا فى فنون شتى خصوصا المعانى والبيان وله كتاب مفتاح العلوم فيه اثنا عشر علما من علوم العربية. بغية الوعاة 2/ 364. (¬6) محمود بن مسعود بن مصلح الفارسى قطب الدين الشيرازى الشافعى العلامة، له شرح المختصر لابن الحاجب، وشرح المفتاح، وغرة التاج فى الحكمة. بغية الوعاة 2/ 282. (¬7) لم أقف على ترجمته، لكن له ذكر فى كشف الظنون (2/ 1763) فيمن شرح مفتاح العلوم وقال عنه صاحب كشف الظنون:" وكان معاصرا للقطب الشيرازى". (¬8) محمد بن مظفر الخطيبى الخلخالى شمس الدين له التصانيف المشهورة كشرح المصابيح وشرح المختصر وشرح المفتاح وشرح التلخيص. بغية الوعاة 1/ 246. (¬9) يحيى بن أحمد الكاشى (أو الكاشانى) فاضل له علم بالحساب والأدب والحديث، من كتبه" لباب الحساب" و" شرح مفتاح العلوم للسكاكى". الأعلام 8/ 135، 136. (¬10) لم أقف على ترجمته، لكن ذكره صاحب كشف الظنون (2/ 1764) فيمن شرح مفتاح العلوم. (¬11) لم أقف على ترجمته، لكن ذكره صاحب كشف الظنون (2/ 1767) فى كلامه على مفتاح العلوم. (¬12) محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الإمام بدر الدين بن الإمام جمال الدين الطائى. له من التصانيف: شرح ألفية والده، المصباح فى اختصار المفتاح فى المعانى وروض الأذهان فيه. بغية الوعاة 1/ 225. (¬13) محمد بن يعقوب بن إلياس الدمشقى الإمام بدر الدين المعروف بابن النحوية له يد طولى فى الأدب، اختصر المصباح لبدر الدين بن مالك فى المعانى فسماه بضوء المصباح وشرحه. بغية الوعاة 1/ 272.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ محمد بن محمد بن محمد بن عمرو التنوخى (¬1)، والمثل السائر للصاحب ضياء الدين نصر الله بن الأثير (¬2)، والجامع الكبير لأخيه (¬3)، ومختصر المثل السائر لابن العسال، والنصف الأول من كنز البلاغة (¬4) لعماد الدين إسماعيل بن الأثير (¬5)، ومختصر كنز البلاغة المذكور لولد مصنفه (¬6)، وروضة الفصاحة لزين الدين الرازى الحنفى (¬7)، والفلك الدائر على المثل السائر لعز الدين بن أبى الحديد (¬8)، وقطع الدابر عن الفلك الدائر لعبد العزيز بن عيسى (¬9)، وتحرير التحبير لابن أبى الإصبع (¬10)، وموارد (¬11) البيان لأبى الحسن على بن خلف بن على بن عبد الوهاب الكاتب (¬12)، وبديع ¬

_ (¬1) محمد بن محمد بن محمد بن عمرو أبو عبد الله زين الدين التنوخى أديب دمشقى استقر فى بغداد. له كتب منها" الأقصى القريب فى علم البيان". الأعلام 7/ 35. (¬2) نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الوزير الفاضل ضياء الدين أبو الفتح الشيبانى الخزرجىّ المعروف بابن الأثير، له من المصنفات: كتاب المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر، والوشى المرقوم فى حل المنظوم. بغية الوعاة 2/ 315. (¬3) على بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانى أبو الحسن عز الدين بن الأثير من العلماء بالنسب والأدب، من تصانيفه: الكامل، وأسد الغابة فى معرفة الصحابة، والجامع الكبير فى البلاغة. الأعلام 4/ 331. (¬4) كذا ذكره فى كشف الظنون (2/ 1514) وذكره فى الأعلام باسم" كنز البراعة". (¬5) إسماعيل بن أحمد بن سعيد عماد الدين بن تاج الدين بن الأثير، كاتب من العلماء بالأدب شافعى له كنز البراعة - كما قال الزركلى - وإحكام الأحكام فى شرح أحاديث سيد الأنام. الأعلام 1/ 309. (¬6) أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيد نجم الدين بن الأثير له جوهر الكنز اختصر به كتاب كنز البراعة لأبيه، وله المختصر المختار من وفيات الأعيان. الأعلام 1/ 97. (¬7) ابن السراج زين الدين بن محمد بن أبى بكر بن عبد القادر الحنفى الرازى. كشف الظنون 1/ 929. (¬8) عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبى الحديد أبو حامد عز الدين عالم بالأدب من أعيان المعتزلة، له شرح نهج البلاغة، والفلك الدائر على المثل السائر، والعبقرى الحسان. الأعلام 3/ 289. (¬9) لم أقف على ترجمته، لكن ذكره صاحب كشف الظنون (2/ 1586) فى كلامه على المثل السائر. (¬10) عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن أبى الإصبع العدوانى شاعر من العلماء بالأدب له تصانيف منها: بديع القرآن، وتحرير التحبير، وغيرها. الأعلام 4/ 30. (¬11) وقع فى المطبوع: مواد البيان، وما أثبته من كشف الظنون. (¬12) لم أقف على ترجمته، لكن ذكره وذكر كتابه حاجى خليفة فى كشف الظنون (2/ 1888).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن والتبيان لابن الزملكانى (¬1)، والبرهان له، والتبيان للشيخ شرف الدين الطيبى (¬2)، وشرحه له، والإيضاح للمصنف (¬3)، وحواشى الإيضاح للجزرى (¬4) شيخ والدى فى علم الكلام، وشرح التلخيص للإمام الزاهد ولى الله شمس الدين القونوى (¬5)، وشرحه أيضا للخطيب، وشرحه للشيرازى (¬6)، وشرحه للزوزنى (¬7)، وشرح البديعية للصفى بن سرايا الحلى (¬8)، والطريق إلى الفصاحة للشيخ الرئيس علاء الدين بن النفيس شيخ والدى فى الطب (¬9)، والمقدمة فى علم ¬

_ (¬1) عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الأنصارى الزملكانى أبو المكارم كمال الدين ويقال له: ابن خطيب زملكا، أديب من القضاة له شعر حسن، له التبيان فى علم البيان المطلع على إعجاز القرآن. الأعلام 4/ 176. (¬2) الراجح أن اسمه الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبى خلافا لمن سماه بالحسن أو الحسين بن محمد الطيبى أو غير ذلك. وانظر ترجمة وافية له فى مقدمة تحقيقنا لكتابيه التبيان فى المعانى والبيان، ولطائف التبيان فى المعانى والبيان. المكتبة التجارية بمكة المكرمة. وانظر كذلك رسالتنا فى الماجستير عن الطيبى تجديداته وجهوده البلاغية، طبعتها المكتبة التجارية بمكة المكرمة كذلك. (¬3) أى القزوينى، وانظر تحقيقنا له ط مؤسسة المختار بالقاهرة. (¬4) ذكر صاحب كشف الظنون (1/ 211) فى كلامه على الإيضاح:" من الحواشى حاشية الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الجزرى، المتوفى سنة 833 " ولعله الإمام الجزرى شيخ الإقراء فى زمانه محمد ابن محمد بن محمد بن على بن يوسف أبو الخير شمس الدين الجزرى صاحب" النشر" و" المقدمة الجزرية". (¬5) محمد بن يوسف بن إلياس الشيخ شمس الدين القونوى الحنفىّ صنف كتبا مفيدة منها" درر البحار" فقه، و" شرح تلخيص المفتاح". بغية الوعاة (1/ 287، 288) والأعلام (4/ 153). (¬6) حبيب الله المشتهر بملا ميرزاجان الباغنوى الشيرازى الأشعرى الشافعى، له حواش فى المنطق والمعانى والبيان منها حاشية على التلخيص وهى مفيدة تامة لكنها قليلة الوجود. كشف الظنون (1/ 475) والأعلام (2/ 167). (¬7) هو شرح الفاضل شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الزوزنى المتوفى سنة 792. كشف الظنون (2/ 474). (¬8) عبد العزيز بن سرايا بن على بن أبى القاسم السنبسى الطائى الحلى صفى الدين، شاعر عصره، تعاطى الأدب فمهر فى فنون الشعر كلها وتعلم المعانى والبيان، له العاطل الحالى والبديعية وشرحها. الدرر الكامنة (2/ 225)، والأعلام (4/ 17، 18) وكشف الظنون (1/ 233). (¬9) على بن أبى الحزم القرشى، علاء الدين الملقب بابن النفيس: أعلم أهل عصره بالطب أصله من بلدة قرش ومولده فى دمشق ووفاته بمصر له كتب كثيرة منها: المهذب، الشامل، .. ، عن الأعلام 8/ 270، 271.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البيان لشيخنا شمس الدين الأصبهانى (¬1) الموضوعة فى أول تفسيره، والمقدمة فى البيان والبديع الموضوعة فى أول تفسير ابن النقيب (¬2) (¬3)، والنظم فى علم البديع لابن معط (¬4)، والفوائد الغياثية للشيخ عضد الدين (¬5). وإذا أردت أن تعلم مقدار ما زادته القريحة من المباحث والفوائد، فراجع هذه الكتب فإنك تعلم أن غالب ما عندك عنها رائد وبالله تعالى أستعين، وهو حسبى، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وأفوض أمرى إلى الله، إن الله بصير بالعباد، وحسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وما شاء الله لا قوة إلا بالله لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم. ¬

_ (¬1) شمس الدين أبو الفخر مسعود بن ... الشهير بفخرى الأصبهانى الأديب الشاعر المتوفى سنة 925 من تصانيفه البدائع فى الصنائع ... كذا فى كشف الظنون 6/ 430، وقد نسخت فى المطبوع (الأصفهانى)، وكلاهما صحيح. (¬2) مقدمة تفسير ابن النقيب طبعت مرارا وترجم عنوانها خطأ بالفوائد المشوق لابن قيم الجوزية، وهذا خطأ فى العنوان والنسبة أثبتها الناشر على سبيل الظن والتخمين، وقد أثبت زميلنا العزيز د/ زكريا سعيد أن الكتاب لا تصح نسبته لابن القيم بل هو مقدمة ابن النقيب لتفسيره وقد أخرجه فى طبعة متقنة نشرتها مكتبة الخانجى بالقاهرة محققة تحقيقا جيدا بهذا الاسم الصحيح؛ فجزاه الله خير الجزاء. (¬3) محمد بن سليمان بن الحسن البلخى، المقدسى، أبو عبد الله، جمال الدين بن النقيب: مفسر، من فقهاء الحنفية، أصله من بلخ، ومولده فى القدس، انتقل إلى القاهرة وأقرأ فى بعض مدارسها، وعاد إلى القدس فتوفى بها، له تفسير كبير حافل، سماه التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير قال المقريزى فى سبعين مجلدة، عن الأعلام 6/ 150. (¬4) يحيى بن عبد المعطى بن عبد النور الزواوى، أبو الحسين، زين الدين: عالم بالعربية والأدب، واسع الشهرة فى المغرب والمشرق نسبته إلى قبيلة زواوة (بظاهر بجاية فى إفريقية) سكن دمشق زمنا .. ودرس الأدب فى مصر وتوفى فيها، أشهر كتبه الدرة الألفية فى علم العربية فى النحو و" المثلث" فى اللغة، و" العقود والقوانين" فى النحو، و" الفصول الخمسون" فى النحو و" ديوان خطب" و" ديوان شعر" و" أرجوزة فى القراءات السبع" و" نظم ألفاظ الجمهرة" و" البديع فى صناعة الشعر" عن الأعلام 8/ 155. (¬5) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل، عضد الدين الإيجى، عالم بالأصول والمعانى والعربية، من أهل إيج (بفارس) ولى القضاء توفى سنة 756 هـ من تصانيفه:" المواقف" فى علم الكلام و" العقائد العضدية" و" الرسالة العضدية" فى علم الوضع و" جواهر الكلام" مختصر المواقف و" شرح مختصر ابن الحاجب" فى أصول الفقه، و" الفوائد الغياثية" فى المعانى والبيان، و" أشرف التواريخ"، و" المدخل فى علم المعانى والبيان والبديع"، عن الأعلام 3/ 295.

شرح مقدمة صاحب التلخيص

بسم الله الرّحمن الرّحيم كلمة الافتتاح للخطيب القزوينى الحمد لله على ما أنعم، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ شرح مقدمة صاحب التلخيص ص: قال المصنف رحمه الله: (الحمد لله على ما أنعم). (ش): الحمد هو الثناء بالقول على جميل الصفات والأفعال. وبين الحمد والشكر عموم وخصوص من وجه، فإن الشكر يكون على الأفعال فقط: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، وعبارة الزمخشرى: وهو بالقلب، واللسان، والجوارح. يريد التنويع، لا أن الشكر لا يكون إلا بمجموع الثلاثة. ثم استدل على ذلك بقوله: أفادتكم النّعماء منّى ثلاثة … يدى ولسانى والضّمير المحجّبا (¬1) وفيه نظر؛ لأن البيت لا تعرض فيه بأن شيئا من ذلك يسمى شكرا، فضلا عن كل واحد، نعم يدل على إطلاق الشكر على أعمال الجوارح والقلوب، قوله صلّى الله عليه وسلّم - وقد رآه بلال يصلى ويبكى، كيف تبكى وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -:" أفلا أكون عبدا شكورا" (¬2) وقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً (¬3) وأما المدح، فاختلف النحاة فى أنه مقلوب الحمد أو لا، ويعزى الأول لابن الأنبارى، وأما المعنى فقال الزمخشرى: الحمد والمدح أخوان لا يريد أنهما متشابهان غير مترادفين كما توهمه الطيبى؛ بل يريد ترادفهما؛ لأنه صرح بذلك فى الفائق، فقال: الحمد هو المدح، وإليه أشار أيضا فى تفسير قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ (¬4) وبه صرح الشيخ عز الدين بن عبد السّلام، ولا ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة فى الكشاف للزمخشرى (1/ 7) وتفسير ابن كثير (1/ 23)، والدر المصون 1/ 63. (¬2) أخرجه البخارى فى" التفسير"، (ح 4836، 4837)، لكن من حديث المغيرة وعائشة، ومسلم (ح 2819). (¬3) سورة سبأ: 13. (¬4) سورة الحجرات: 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقدح فيه أن السكاكى فى خطبة المفتاح عطف أحدهما على الآخر، وفصل بين المحامد والممادح، فقال:" حمد الله ومدحه بما له من الممادح أزلا وأبدا وبما انخرط فى سلكها من المحامد متجددا"؛ لأنه فى مقام إطناب يناسبه عطف الشئ على نفسه بلفظين مختلفين، وإنما جعل ما سماه متجددا منخرطا فى سلك ما سماه أبديا وغاير بين اللفظين؛ لأنه جعل معنى المحامد منخرطا فى معنى الممادح فيكون بينهما تباين، أو عموم وخصوص، وقد فرق السهيلى بينهما بأن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما، وقال لهذين الشرطين: لا يوجد الحمد لغير الله تعالى، وهو المستحق له على الإطلاق وقد يرد عليه قول عائشة رضى الله عنها فى قصة الإفك:" لا أحمد إلا الله" (¬1) وقولها:" أحمد الله لا أحمدك" وقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (¬2) قال ابن عباس رضى الله عنهما: يحمده فيه أهل السموات والأرض. ولا أدرى كيف استخرج السهيلى من الشرطين اللذين ذكرهما كون الحمد لا يستعمل لغير الله؟ فإن صفات النبى صلّى الله عليه وسلّم صفات كمال يصدر كثير من ذكرها (¬3) عن علم لا ظن، ثم لا نسلم له امتناع إطلاق الحمد لغير أهل الكمال، فقد يحمد غير الإنسان، كقول العرب: عند الصباح يحمد القوم السرى ومن أسمائه تعالى: الحميد. وقد قال الإمام فخر الدين فى تفسيره فى أواخر البقرة وفى كتابه اللوامع: إن حميدا يصح أن يكون بمعنى حامد، أى: يحمد الأفعال الحسنة وبمعنى حامد (¬4)، وقال الشاعر: ومن يلق خيرا، يحمد النّاس أمره … ومن يغو، لا يعدم على الغىّ لائما (¬5) ولا يقدح فى الاستدلال به أن البيت للمرقش الأكبر، والكلام إنما هو فى الجواز ¬

_ (¬1) حديث الإفك، أخرجه البخارى فى" التفسير" (8/ 306)، (ح 4750)، وفى غير موضع من صحيحه، ومسلم (ح 2770). (¬2) سورة الإسراء: 79. (¬3) كذا بالأصل. (¬4) كذا بالأصل والصواب" محمود" ليغاير ما قبله. (¬5) البيت من الطويل، وهو للمرقش الأصغر فى ديوانه ص 565، وللمرقش دون تحديد أهو الأكبر أم الأصغر فى لسان العرب (غوى)، وتاج العروس (غوى)، وشرح اختيارات المفضل ص 1104.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرعى، بل فى موضوع الكلمة لغة؛ لما يعلمه من وقف على كلامه، وقد يحمد من فعل خيرا كائنا ما كان. كقول تلك المرأة بالحديبية: يا أيّها المادح دلوى، دونكا … إنّى رأيت النّاس يحمدونكا (¬1) وهذا البيت ذكره ابن إسحاق فى السيرة، وظاهر كلامه أنه من شعر هذه المرأة. لكن قال ابن الشجرى فى أماليه: إنه لرؤبة، وأنه فى مال لا فى ماء، فذكر الدلو حينئذ استعارة. وعلى هذا فيحمل كلام ابن إسحاق على أن المرأة فى الحديبية أنشدته من كلام غيرها، وقد يستأنس بأن الحمد لا يكون لغير الله تعالى، بما ورد فى الكتاب والسنة من أنه تعالى له الحمد، وهذه صيغة اختصاص، وبالاستغراق الذى هو ظاهر الألف واللام فى قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ (¬2) فأما قول الزمخشرى: إن الاستغراق الذى يتوهمه كثير من الناس فى الحمد وهم، فقيل: إنها نزعة اعتزال؛ لأنهم يرون أن أفعال العباد مخلوقة لهم، وأنهم يحمدون عليها - تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا - وكأن قائل هذا القول لم يطرق سمعه قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (¬3)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم عند الصباح:" اللهم ما أصبح بى من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك" (¬4) وقيل: إن أراد أن الألف واللام ليست للاستغراق إذا دخلت على اسم الجنس، وليس كذلك؛ بل هى للاستغراق عنده، وعند الأكثرين وقيل: إن أراد أن التقدير: أحمد الله حمدا، لأنه مفسر بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬5)، فكان المقصود به حمدا خاصا، فلا تكون للاستغراق، وإن أراد ذلك ففيه نظر. ¬

_ (¬1) الرجز لجارية من بنى مازن فى الدرر 5/ 301، وشرح التصريح 2/ 200، والمقاصد النحوية 4/ 311، وبلا نسبة فى لسان العرب (ميح)، وخزانة الأدب 6/ 200 - 201 - 207، وهو لجارية من الأنصار فى السيرة لابن هشام (3/ 231 - 232)، وتاريخ الطبرى (2/ 118) والبداية والنهاية (4/ 165). ولم أجده فى ديوان رؤبة لوليم بن الورد. (¬2) سورة الفاتحة: 2. (¬3) سورة النحل: 53. (¬4) أخرجه أبو داود فى" الأدب"، باب: ما يقول إذا أصبح، وابن حبان من حديث عبد الله بن غنم البياضى وفى سنده عبد الله بن عنبسة لم يوثقه غير ابن حبان، ومع ذلك فقد حسنه الحافظ فى" أمالى الأذكار"، وقال الشيخ الألبانى فى تعليقه على" الكلم الطيب"، (ح 26):" إسناده ضعيف". (¬5) سورة الفاتحة: 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال عبد اللطيف البغدادى فى شرح الخطب النباتية: معناهما متقارب، إلا أن فى الحمد تعظيما وفخامة ليست فى المدح والشكر، وهو أخص بالعقلاء والعظماء منهما، فلذلك إطلاقه على الله تعالى أكثر، وقد يطلق عليه المدح. قال صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله يحب المدح؛ ولذلك مدح نفسه) ويقال: مدح الإنسان نفسه، ولا يقال: حمدها، إلا إذا طلب منها فضيلة فطاوعته. قلت: ولفظ الحديث:" لا أحد أحب إليه المدح من الله؛ ولذلك مدح نفسه" (¬1). ومراد عبد اللطيف بقوله: قد يطلق المدح على الله تعالى أنك تقول: مدحت الله، وما ذكره هو ما فهمه النووى، وليس صريحا، لاحتمال أن يكون المراد أن الله تعالى يحب أن يمدحه غيره، ولذلك مدح نفسه، لا أن المراد يحب أن يمدحه غيره. وقيل: المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يحصل للعاقل وغيره، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار. قاله الإمام فخر الدين الرازى، ويرد عليه بما سبق. وقال الراغب: المدح أعم، لأن الحمد يكون على الصفات الاختيارية والمدح على أعم من الاختيارية والخلقية. وقال سيبويه، فى باب ما ينتصب على المدح: إن الحمد لا يطلق تعظيما لغير الله تعالى، وذكر فى باب آخر، أنه يقال: حمدته: إذا جزيته على حقه. وهذا الكلام هو التحقيق فتلخص أن الحمد إن أريد به التعظيم، اختص به الله سبحانه وتعالى، وإن أريد به المجاز، لا يكون خاصا، ولا يرد شئ مما سبق على هذا القول؛ فإن الحمد فيه على المعنى الجائز وهو المجاز، والثناء جنس للجميع؛ بل لأعم، فإنه يكون فى الشر. وفى الحديث مر بجنازة،" فأثنى عليها شرا" (¬2) بل ربما يأتى الشكر فى الشر، كما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السّلام فى بعض كلامه. وقوله: (على ما أنعم) أى لأجله إن كانت" على" للتعليل، وهو مذهب كوفى، وإن أبقيناها على معناها من الاستعلاء، فلعله لاحظ فيه من البلاغة الإشارة إلى تفخيم الحمد، قلت: وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الحمد من جملة النعم، والثانى: أن إرادة الاستعلاء على النعمة مخل بالبلاغة فى هذا المحل، ولهذا كانت النعمة فى الغالب إذا ذكرت مع الحمد فى القرآن لم تقترن بعلى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ (¬3)، الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" التفسير"، (8/ 146)، (ح 4634)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم (ح 2760). (¬2) أخرجه البخارى فى" الجنائز"، (3/ 270)، (ح 1367)، وكذا مسلم (ح 949) من حديث أنس. (¬3) سورة الأنعام: 1. (¬4) سورة فاطر: 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وحيث أشير إلى ذكر النعمة أتى بعلى كقوله صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يكره:" الحمد لله على كل حال" (¬1) إشارة إلى ستر النقمة، واستعلاء الحمد عليها، ولذلك جاء الحمد لله على ما أولانا؛ لأن منه النقمة والنعمة فأريد التغطية لأجل النقمة، وهو كالحمد لله على كل حال. وقد ذكرنا أن البلاغة تقتضى ذكر المحمود عليه بلفظ" على" فى جانب النقمة، واجتنابها فى جانب النعمة، فليتنبه لهذه الدقيقة. لا يقال ينتقض بقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ (¬2) فإن المقصود فى ذلك المحل استعلاء التكبير برفع الصوت، والأولى أن يجعل الحمد لله جملة، وعلى ما أنعم يتعلق بمحذوف، التقدير نحمده على ما أنعم إذ لا يصح تعلقه بالحمد المذكور، إذا جعلنا الحمد لله جملة، ولا بحمد مقدر، ويجوز أن يكون خبرا. وقوله: (ما) هى مصدرية، أى على إنعامه إما على حقيقته، أو بمعنى المنعم به إن جوزنا انحلال الأداة والفعل بمصدر مجازى، وهو أحد قولين وهو أولى من الموصولة، لأمرين: أحدهما: أن الجملة التى بعدها خالية من العائد فيلزم أن يكون العائد محذوفا، فيحتاج قوله: ما لم يعلم إلى تقدير ما يعمل فيه، أو يكون استغنى عن العائد بقوله: ما لم يعلم، كقولهم: أبو سعيد الذى رويت عن الخدرى، وهو ضعيف، أو ممتنع. والثانى: ما يلزم عليه من استعمال غير الأكثر من تعدى أنعم إلى المنعم به بنفسه فإن الغالب تعديته بالباء، كقولك أنعم عليه بكذا، وإنما لزم ذلك؛ لأنا نقدر العائد مجرورا لامتناع حذفه حينئذ إلا بتكلف وعلى هذه اللغة التى حكاها ابن سيده قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ (¬3). وقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (¬4). لا كما قاله أبو البقاء وغيره، من أنه توسع فيه بحذف الحرف فحذف العائد بعده منصوبا، ويحتمل أن يعود الضمير على المصدر، كقوله تعالى: لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (¬5). ¬

_ (¬1) " حسن" أخرجه ابن ماجه وابن السنى والحاكم، وانظر الصحيحة (ح 265). (¬2) سورة البقرة: 185. (¬3) سورة الأنفال: 53. (¬4) سورة البقرة: 47. (¬5) سورة المائدة: 115.

وعلّم من البيان ما لم نعلم، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وعلم) من البيان ما لم نعلم. (ش):" علم" معطوف على" أنعم" لا على" الحمد لله"، فرارا من عطف الجملة الفعلية على الجملة الاسمية؛ ولأن المعنى عليه أمكن، فحينئذ هذه السجعة جارية على آخر كلمة من السجعة قبلها، وهى أنعم طارحة لما قبلها، وهو غير الأحسن فى صناعة البديع، إذ الأحسن ملاحظة الثانية للأولى حتى يكونا كفرسى رهان. وعطف (علم) على (أنعم) من عطف الأخص على الأعم إن كانت" ما" مصدرية، ومن عطف الخاص على العام، إن كانت موصولة، فإن ما الموصولة عامة، وكلاهما خارج عن الأصل والغالب، لاستدعاء الأول عطف الشئ على نفسه. واستدعاء الثانى عطف بعض الشئ عليه، أو أحد أفراد الكلية عليها المستدعيين أيضا لعطف الشئ على نفسه، غير أن كلا منهما بليغ مستحسن، كما سيأتى إن شاء الله تعالى. وليتنبه لدقيقة، وهى أن الأصولى يؤول ما يرد من ذلك، حيث قدر على إرادة ما عدا الخاص بالعام، فرارا من التأكيد، حتى ذهب بعضهم إلى التزام ذلك، وجعله من المخصصات. أما هنا: فنحن لا نفر من التأكيد، بل نحافظ عليه؛ لما فيه من البلاغة، ولا سيما فى المقامات الخطابيات، ثم نحافظ على إدخال نعمة تعلم البيان فى قوله: (ما أنعم)؛ لتحصل براعة الاستهلال بذكر ما يناسب المقصود، كقوله: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا (¬1) بل قد يقال: إنها فقط هى المرادة، ويكون من العام المراد به الخصوص؛ لما ذكرناه، ويكون الأول على جهة الطرح، كقولك: أعجبنى علم زيد وفقهه. والبيان يطلق على معان لا نطيل بذكرها والمراد هنا منها: الفصاحة، أو هذه العلوم التى ستأتى فى هذا المختصر؛ فإن الثلاثة تسمى علم البيان. وقوله: (ما لم نعلم) هو نفى غير متصل بالحال بقرينة أنه إنما قصد الحمد على العلم الموجود حال هذا ¬

_ (¬1) صدر البيت من البسيط، وعجزه: وكوكب المجد فى أفق العلا صعدا وهو لأبى محمد الخازن فى الإيضاح ص: 371 والتبيان للطيبى 2/ 484. أنجز: قضى ووفى. الإقبال: قدوم الدنيا بخيرها. كوكب المجد: استعارة للمولود. الأفق: الناحية من نواحى الفلك وإثباته للعلا تخيل، واسم الخازن عبد الله بن محمد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلام، فهو كقوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (¬1). ولو قال: ما لم نكن نعلم، كقوله تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (¬2). لكان أوضح فى هذا المراد؛ لإشعار كان غالبا بالانقطاع، وقد نص النحاة على أن (لم) يجوز انفصال نفيها عن الحال. هذا حظ النحوى والأصولى يجعل ذلك مجازا من مجاز التخصيص، وما ستراه فى آخر باب الفصل والوصل من كلام البيانيين، وابن الحاجب، مما يوهم أن ذلك حقيقة لا تعويل عليه، لما قررنا ثمّ. وقد عجبت من ابن مالك وابنه حين مثلا ذلك بقوله: وكنت إذ كانت إلهى وحدكا … لم يك شئ يا إلهى قبلكا (¬3) فإن كون الشئ لم يكن قبله نفى متصل، وقد اعترض عليهما شيخنا أبو حيان، وقد عجبت من ابن مالك، ومن شيخنا أبى حيان فى تمثيلهما لانقطاع نفى (لم) بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (¬4) فإن الحال هنا مقيدة بالحين، التقدير: لم يكن فيه شيئا مذكورا، ولم ينقطع ذلك أصلا، كقولك: لم يقم زيد أمس. والتحقيق أن النفى الذى نتكلم فى انقطاعه هو نفى الحدث المحكوم بنفيه، وإذا كان مقيدا بظرف فاتصاله باستغراق النفى الظرف، كقولك: لم يقم زيد أمس. فهذا نفى متصل، ولو قلت: لم يقم زيد أمس، تريد: أنه لم يقم فى بكرته، لكان ذلك مجازا، وأما القيام فيما بعد أمس فلا تعرض فى اللفظ إليه بنفى ولا إثبات، بخلاف النفى الذى لا يتقيد بظرف، فإنه يستغرق الأوقات التى لا غاية لها إلا زمن النطق. والعجب من شيخنا أكثر، فإنه اعترض على ابن مالك فى المثال الأول فيما يعترض به عليه هنا فى المعنى. فإن قلت: هلا استدللت على عدم اتصال النفى بقوله (علم)؛ لأن أحدهما أثبت ما نفاه الآخر؟ قلت: لأن (علم) قد ينازع فى اقتضائه لحصول العلم؛ فإن العلماء اختلفوا فى أن (علم) هل يستدعى مطاوعة أو لا؟ ويشهد ¬

_ (¬1) سورة العلق: 5. (¬2) سورة النساء: 113. (¬3) الرجز لعبد الله بن عبد الأعلى القرشى فى الدرر 5/ 23، وشرح أبيات سيبويه 2/ 29، والكتاب 2/ 210، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 3/ 112. (¬4) سورة الإنسان: 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للأول قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ (¬1). فأخبر عن كل من هداه بأنه مهتد، وأما قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬2). فليس منه؛ لأن الهدى فى تلك الآية بمعنى الدعوة؛ بدليل فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (¬3). وقد يشهد لوجود الفعل دون مطاوعة قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (¬4). وقوله: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (¬5)؛ لأن التخويف حصل، ولم يحصل للكفار خوف نافع يصرفهم إلى الإيمان، فإنه المطاوع للتخويف المراد بالآية الكريمة. وعلى الأول، تكون الفاء فى قولك: أخرجته فخرج للتعقيب فى الرتبة، لا فى الزمان ولا يصح أخرجته فما خرج، إلا مجازا. وعلى الثانى: تكون الفاء للتعقيب فى الزمان، ويكون (أخرجته فما خرج) حقيقة. ورأيت بخط الوالد ما نصه: يقال: علمته فما تعلم، ولا يقال: كسرته فما انكسر؛ والفرق أن العلم فى القلب من الله يتوقف على أمور من المتعلم، ومن المعلم فكان (علمته) موضوعا للجزء الذى من المعلم فقط؛ لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم، ولا بد بخلاف الكسر، فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار. اه. وقد بسطت القول فى هذه المسألة فى شرح مختصر ابن الحاجب، ومن الغريب أن (لم) استعملت للنفى المنقطع، والمتصل استعمالا واحدا. وقد استنبطت ذلك من قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ (¬6) فنفى العلم عنهم منقطع، وعن آبائهم متصل، والفائدة حينئذ فى ذكر المفعول، وهو قوله تعالى: ما لَمْ تَعْلَمُوا [وإن كان الإنسان لا يعلّم إلا ما لم يعلم] (¬7) التصريح بذكر حالة الجهل التى انتقلوا عنها، فإنه أوضح فى الامتنان خلافا للسهيلى، إذ يرى: أن نحو (ما قام زيد ولا عمرو) من عطف الجمل، ولابن مالك حيث ادعى فى نحو: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (¬8)، أنه من عطف الجمل، فنظيره أن يكون التقدير هنا: ولم يعلم آباؤكم والذى ذهب إليه سيبويه وغيره أن الفعل الأول هو العامل، وإن لم يصلح:" تعلموا ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 17. (¬2) سورة فصلت: 17. (¬3) فصلت: 17. (¬4) سورة الإسراء: 59. (¬5) سورة الإسراء: 60. (¬6) سورة الأنعام: 91. (¬7) ما بين المعكوفين جملة اعتراضية، وما بعدها خبر المبتدأ (الفائدة ...). (¬8) سورة البقرة: 35.

والصلاة والسّلام على سيّدنا محمد خير من نطق بالصواب، وأفضل من أتى الحكمة وفصل الخطاب، ـــــــــــــــــــــــــــــ واسكن" لمباشرة" آباؤكم وزوجك". كما تقول: تقوم هند وزيد، وإن كان زيد لا يصلح لمباشرة" تقوم" فإنه من عطف المفردات كما صرح به ابن الحاجب وغيره. وأما تصريح السهيلى فى قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ (¬1): أنه من عطف الجمل، فليس ذلك لاختلاف المتعاطفين بالتذكير والتأنيث بل لتكرار (لا) كما هو معروف عنه، والأولى فى هذه أن تكون موصولة، لاقتضاء المقام ذلك. ص: (والصلاة والسّلام على سيدنا محمد، خير من نطق بالصواب، وأفضل من أوتى الحكمة وفصل الخطاب). (ش): الصلاة من الله الرحمة، ولها معان يطول ذكرها، قد أوعبنا الكلام عليها فى شرح المختصر، والصلاة هذه إما من الله فتكون بمعنى الرحمة، أو من العبد فتكون معناها: صلاة العبد على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهى قوله: اللهم صل عليه، وهى على التقديرين إنشاء، وكذلك الحمد، وقوله: (سيدنا) فيه استعمال السيد فى غير الله سبحانه وتعالى وقد روى نحوه عن ابن مسعود، وابن عمر رضى الله عنهم، ويشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم:" أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (¬2)،" إن ابنى هذا سيد" (¬3)،" قوموا إلى سيدكم" (¬4)، وقوله تعالى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً (¬5)، وقوله تعالى: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ (¬6)، وفى المسألة ثلاثة أقوال، حكاها ابن المنير فى المصفى أحدها: أن السيد يطلق على الله وعلى غيره، والثانى: أنه لا يطلق على الله تعالى، وعزاه لمالك، والثالث: أنه لا يطلق إلا على الله بدليل ما روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قيل له: يا سيدنا فقال:" إنما السيد الله" (¬7) ولا أدرى كيف غفل هذا القائل عما تقدم من الآيات والسنة، ونقل فى الأذكار عن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 255. (¬2) " صحيح" أخرجه أحمد والترمذى وابن ماجه عن أبى سعيد، وانظر صحيح الجامع (ح 1428). (¬3) أخرجه البخارى فى" الصلح"، (5/ 361)، وفى غير موضع من صحيحه. (¬4) أخرجه مسلم فى" الجهاد والسير"، (ح 1768). (¬5) سورة آل عمران: 39. (¬6) سورة يوسف: 25. (¬7) " صحيح" أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن الشخير، وانظر صحيح الجامع (ح 3700).

وعلى آله الأطهار .. ، وصحابته الأخيار ـــــــــــــــــــــــــــــ النحاس أنه جوز إطلاقه على غير الله تعالى إلا أن يكون بالألف واللام. قال النووى: والأظهر جوازه بالألف واللام لغير الله تعالى. وقوله: (خير من نطق) ماش على مذهب أهل الحق من تفضيله صلّى الله عليه وسلّم على الملائكة، ولما كان النطق من خواص الألفاظ التى تنزه البارى عز وجل عنها، تم عموم هذا الكلام، وأخرجت من الموصولة قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (¬1)، وأيضا فهو نطق مجازى. والحكمة: علم الشرائع، وفصل الخطاب: الكلام البين فهو فصل بمعنى مفصول بعضه من بعض، أو بمعنى فاصل؛ لأنه فاصل بين الخطأ والصواب، وفيه تلميح لإشارته إلى أن فصل الخطاب هو المقصود من هذا العلم. وقيل: هو قول: أما بعد، ففى ذلك توطئة لذكرها بعد ذلك. ص: (وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار). (ش): آل النبى صلّى الله عليه وسلّم هم بنو هاشم، وبنو المطلب، وقيل: جميع الأمة، وقيل: أولاد فاطمة رضى الله عنها. وكان الأحسن إضافتها إلى ظاهر؛ لأن الصلاة على الآل رويناها من طرق كثيرة ليس فيها الإضافة إلى مضمر، ولأن الكسائى، والنحاس، والزبيدى منعوا إضافة الآل إلى المضمر، لكن يرد عليهم قوله: وانصر على آل الصّلي … ب وعابديه اليوم آلك (¬2) وقوله: (الأطهار) جمع طاهر - ذكره ابن سيده - وهو نادر كجاهل وأجهال، والمراد الطهارة من الأدناس والنقائص. والصحابة الأكثر فيها فتح الصاد، ويجوز كسرها على لغة، وهم كل من رآه النبى صلّى الله عليه وسلّم مسلما، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره. والأخيار جمع خيّر كميّت وأموات. وبين الآل والصحابة عموم وخصوص من وجه؛ لأن التابعى الذى هو من بنى هاشم وبنى المطلب من الآل وليس من الصحابة، وسلمان الفارسى مثلا بالعكس فلذلك حسن عطفهم عليهم. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية: 29. (¬2) البيت من مجزوء الكامل، وهو لعبد المطلب بن هاشم فى الأشباه والنظائر 2/ 207، والدرر 5/ 31، وتاج العروس (أهل).

مقدمة فى أهمية علم البلاغة

أما بعد: فلمّا كان علم البلاغة وتوابعها من أجلّ العلوم قدرا؛ وأدقّها سرّا؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة فى أهمية علم البلاغة ص: (أما بعد): (ش): هى كلمة فصيحة. قيل: إنها فصل الخطاب الذى أوتيه داود عليه السّلام، وقد كان النبى - صلّى الله عليه وسلّم - يذكرها فى خطبه، وكذلك العرب قال سبحان: لقد علم الحىّ اليمانون أنّنى … إذا قلت: أمّا بعد. أنّى خطيبها (¬1) وسيأتى ذلك فى آخر الكتاب، والمعنى: أما بعد الحمد والصلاة. ص: (فلما كان علم البلاغة وتوابعها من أجل العلوم قدرا، وأدقها سرا). (ش): علم البلاغة تارة يطلق على العلوم الثلاثة التى تضمنها هذا المختصر، وتارة يطلق على علم المعانى والبيان، وعلم البديع حينئذ تابع. والمصنف جعل علم البلاغة مجموع العلمين، وجعل علم البديع من توابع البلاغة، والتابع والمتبوع علما واحدا. وقوله: (من أجل العلوم قدرا) يقع مثله فى الكلام كثيرا، أعنى دخول من على أفعل التفضيل، وإنما يكون ذلك فى أحد موضعين: الأول: أن تكون الأفراد مستوية الرتبة فى تميزها على غيرها، فيقال عن كل منها إنه الأفضل؛ لأنه بعضه فيصح ما ذكره المصنف، إن كانت علوما مستوية الرتبة. وهيهات أن يعلم ذلك، أما إذا كانت العلوم متفاوتة، فلا يصح أن يقال عن أعلاها: إنه من خيرها بل هو خيرها ولا يقال عما يليه: إنه من خيرها؛ لأنه ليس شيئا منه، تقول: زيد أفضل الناس، ولا يقال: من أفضلهم إلا إذا كان له مساو. الثانى: أن يكون بعض أنواع الحقيقة أفضل أنواعها، فيقال حينئذ عن ذلك النوع: إنه خيرها فيلزم عنه أن يقال عن كل فرد من أفراده: إنه من خيرها، أى من النوع الذى هو خيرها، ومن هذا القسم قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لسحبان وائل فى خزانة الأدب 10/ 369، 372، وبلا نسبة فى لسان العرب (سحب).

إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها، وتكشف عن وجوه الإعجاز فى نظم القرآن أستارها، ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنْفُسِكُمْ (¬1) على قراءة فتح الفاء أى من النوع الأنفس، ولا يكون من النوع الأول؛ لأنه ليس له من يساويه فى النفاسة، فلو أراد ذلك المعنى لقال: أنفسكم دون" من" فليتنبه لهذه الدقيقة. وعبارة السكاكى: أن هذا أعظم العلوم، وكأن المصنف أتى بمن خلافا له، وقد يوجه كلام السكاكى بأنه إذا كانت وجوه الإعجاز لا تدرك إلا بهذا العلم - كما ادعوه - صدق أنه أعظم العلوم؛ لتأديته إلى علم الأصول الشرعية، وقوله: (وأدقها سرا) سيأتى بيانه، وأتى المصنف بالطباق لمضادة الأجل للأدق، ثم شرع فى تعليل ذلك فقال: ص: (إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها، ويكشف عن وجوه الإعجاز فى نظم القرآن أستارها). (ش): اعلم أن علم العربية على ما قال الزمخشرى، يرتقى إلى اثنى عشر علما، غير أن أصولها أربعة: اثنان يتعلقان بالمفردات هما: اللغة، والتصريف، ويليهما الثالث وهو: علم النحو، فإن المركبات هى المقصود منه، وهى كالنتيجة لهما، ثم يليها علم المعانى، ولعلك تقول: أى فائدة لعلم المعانى فإن المفردات والمركبات علمت بالعلوم الثلاثة، وعلم المعانى غالبه من علم النحو؟ كلا إن غاية النحوى أن ينزل المفردات على ما وضعت له، ويركبها عليها، ووراء ذلك مقاصد لا تتعلق بالوضع مما يتفاوت به أغراض المتكلم على أوجه لا تتناهى، وتلك الأسرار لا تعلم إلا بعلم المعانى، والنحوى وإن ذكرها فهو على وجه إجمالى يتصرف فيه البيانى تصرفا خاصا لا يصل إليه النحوى وهذا كما أن معظم أصول الفقه من علم اللغة، والنحو، والحديث، وإن كان مستقلا بنفسه. واعلم أن علمى أصول الفقه والمعانى فى غاية التداخل؛ فإن الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما علم المعانى، هما موضوع غالب الأصول، وإن كل ما يتكلم عليه الأصولى من كون الأمر للوجوب، والنهى للتحريم، ومسائل الأخبار، والعموم والخصوص، ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 128.

وكان القسم الثالث من مفتاح العلوم الذى صنّفه الفاضل العلّامة أبو يعقوب يوسف السّكّاكى أعظم ما صنّف فيه من الكتب المشهورة نفعا؛ لكونه أحسنها ترتيبا، وأتمّها تحريرا، وأكثرها للأصول جمعا، ولكن كان غير مصون عن الحشو والتطويل والتعقيد؛ قابلا للاختصار مفتقرا إلى الإيضاح والتجريد -: ـــــــــــــــــــــــــــــ والإطلاق والتقييد، والإجمال والتفصيل، والتراجيح، كلها ترجع إلى موضوع علم المعانى. وليس فى أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره، إلا الحكم الشرعى، والقياس، وأشياء يسيرة. وقوله: (تكشف) فيه ترصيع مع قوله: (تعرف) وفيه ترشيحان لاستعارة الوجوه: ترشيح سابق، وهو تكشف، ولا حق وهو أستارها، فهى استعارة مرشحة؛ لاقترانها بما يلائم المستعار منه، وهذه تدخل فى عبارة المصنف، حيث قال فى الاستعارة: إنها تسمى مرشحة إذا اقترنت. والسكاكى إنما قال: إذا عقبت بما يلائم المستعار منه، فلا يدخل فيه ترشيحها قبلها، إلا بتأويل كلام السكاكى - كما ستراه - وإنما يكون ذلك استعارة ذات ترشيحين، إن كان الوجوه استعارة. ويحتمل أن يراد بوجوه الإعجاز ضروبه وأنواعه، وقدم قوله: (به) ليفيد الاهتمام. فإن قلت: أين كان هذا العلم فى زمن الصحابة الذين يعرفون أسرار العربية، وانكشف لهم أوجه الإعجاز؟ قلت: كان مركوزا فى طبائعهم. وقوله: (أسرارها وأستارها) فيه جناس لاحق؛ لاختلاف الكلمتين بحرف واحد، والنظم: ترتيب الكلمات على حسب ترتيب المعانى فى النفس كما ذكره عبد القاهر. ص: (وكان القسم الثالث ... إلخ). (ش): لا شك أن المفتاح جدير بما ذكره، والمراد بالترتيب: أن يجعل للشئ المتعدد هيئة، بحيث يعتبر بعضها بالنسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر والأصول قواعد هذا العلم، والحشو: ذكر ما لا حاجة لذكره، وهو قريب من التطويل، وسنتكلم عليه فى بابه. والتعقيد: ما يحصل من عدم تهذيب العبارة. وقوله: (مفتقرا إلى الإيضاح) أى ليزول ما نسبه إليه من التعقيد، وتبعد إرادة كتابه الإيضاح؛ لأنه إنما صنفه، وسماه بالإيضاح بعد هذا المختصر، وأيضا هو يريد ذكر الحامل على التلخيص، فلو أراد أن المفتاح محتاج لكتاب الإيضاح، لما ناسب قوله مختصرا. ووصف التلخيص بكونه مختصرا لا ينفى أن يحصل به الإيضاح فقد يحصل من تقصير العبارة وضوح لا يحصل بتطويلها. وقوله: (والتجريد يعود إلى الحشو)، وقوله: (الاختصار يعود إلى التطويل) ففيه لف، ونشر غير مرتب.

ألّفت مختصرا يتضمّن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، ولم آل جهدا فى تحقيقه وتهذيبه؛ ورتّبته ترتيبا أقرب تناولا من ترتيبه، ولم أبالغ فى اختصار لفظه تقريبا لتعاطيه؛ وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه، ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ألفت مختصرا يتضمن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة، والشواهد). (ش): يشير إلى هذا المختصر، وقوله: (ما فيه) أى ما فى المفتاح، ويحتاج إن كان مبنيا للفاعل، فالضمير يعود على هذا المختصر، أو على المفتاح والشواهد ما كان من كلام من يستدل بقوله، من كتاب، وسنة، وقول العرب، والأمثلة أعم من ذلك، وأتى بالتضمن فى القواعد والاشتمال فى الأمثلة والشواهد؛ لأن ما هو فى ضمن الشئ كالحقير بالنسبة إليه، فقصد أن يجعل أعظم ما فى المفتاح - وهو قواعده - فى ضمن كتابه، وجعل ما يزيده من أمثلة وشواهد مشتملا عليه؛ تفخيما له أيضا فإن المضمن جزء من المتضمن، فقصد أن القواعد متضمنته؛ لأنها أجزاء الكتاب، والأمثلة لما لم تكن ركنا من موضوع الكتاب، جعل مشتملا عليها، فإن الشئ قد يشتمل على ما هو زائد على أجزائه الأصلية. ص: (ولم آل جهدا فى تحقيقه، وتهذيبه، ورتبته ترتيبا أقرب تناولا من ترتيبه). (ش): لم آل له استعمالان: أحدهما: لم أقصر، والثانى: لم أمنع نفسى جهدا. ومنه قوله عز وجل: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا (¬1) وعلى الأول لا يكون جهدا مفعولا، والضمير فى قوله: من ترتيبه يعود على المفتاح، وفيما قبله يحتمل عوده عليه، وعلى هذا الكتاب وهو أقرب. ص: (ولم أبالغ فى اختصار لفظه، تقريبا لتعاطيه، وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه). (ش): يعنى بذلك أن الكلام إذا بولغ فى اختصاره صعب دركه، واستغلقت ألفاظه، فلذلك لم يبالغ فى اختصاره، بل جعله وسطا. بقى فى كلام المصنف بحث، وهو أن قوله تقريبا وطلبا لا يستقيم أن يكون معمولا ل (أبالغ) مجردا عن النفى؛ لعدم ملاءمته له. فهو كقولك: لم أضرب زيدا إكراما له، فهو مفعول له بعد تقدير دخول النفى عليه، والمشهور فى مثل ذلك خلافه كقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 118.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَبِداراً (¬1). ولو جاء على ما ذكره المصنف لقال صيانة وحفظا وكذلك: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ (¬2). فالقياس أن يقول على هذا: لم أبالغ فى اختصاره؛ إبعادا له على أن الأسلوب الذى استعمله يستعمله الناس كثيرا، وهو أحسن من جهة أن فيه نفى ذلك بكل تقدير، بخلاف اعتبار الفعل مقطوعا عن النفى فإنه يقتضى النفى بقيد وهذا البحث لم يزل يدور فى خلدى، ثم رأيت ابن الحاجب ذكره فى أماليه، فقال فى قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (¬3): إذا قلت: ما ضربته للتأديب، فإن أردت نفى ضرب معلل فاللام متعلقة بضربت! ولم تنف إلا ضربا مخصوصا وإن أردت نفى الضرب مطلقا؛ فاللام متعلقة بالنفى، والمعنى أن انتفاء الضرب كان من التأديب؛ لأن بعض الناس قد يؤدب بترك الضرب، ولا يستبعد تعلق الجار بالحرف الذى فيه معنى النفى؛ لجواز قولهم: ما أكرمته لتأديبه وما أهنته للإحسان إليه، وإنما يتعلق بما فى الحرف من معنى النفى، وقوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ لو علق به، لكان المراد نفى جنون من نعمة الله، وهو غير مستقيم؛ لأن الجنوس ليس من نعمة الله، ولأنه إنما أريد نفى الجنون مطلقا، فتحقق أن المعنى انتفى عنك الجنون مطلقا بنعمة الله، وعلى هذا يحكم فى التعلق، فإن صح تعلقه بالفعل، وإلا علق بالحرف. وعلى هذا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (¬4) معناه: فى أن تبتغوا، فهى متعلقة بجناح، المعنى: أن الجناح فى ابتغاء التجارة منتف وتعلقه بليس بعيد؛ لأنه لم يرد نفى الجناح مطلقا، ويجعل ابتغاء التجارة ظرفا للنفى، فبهذا يبعد أن يكون متعلقا، انتهى. وحاصله ما قلناه، وأن الأصل التعلق بالفعل من غير نظر إلى النفى، وقول ابن الحاجب: (التعلق بليس بعيد) لعله يريد التعلق المعنوى، وإلا فالراجح أن ليس لا يتعلق بها الجار والمجرور لفظا. وقال ابن الحاجب أيضا فى شرح خطبة المفصل فى قول الزمخشرى: لا يبعدون منابذة وزيغا: هو نصب على المفعول لأجله، لما تضمنه معنى: لا يبعدون. كأنه قيل: يقربون منهم لأجل المنابذة، أو انتفى بعدهم لأجل المنابذة لا بيبعدون؛ لأنه يفسد المعنى ثم رأيت للوالد فى بعض التعاليق ¬

_ (¬1) سورة النساء: 6. (¬2) سورة الإسراء: 31. (¬3) سورة القلم: 2. (¬4) سورة البقرة: 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نحو كلامه الأول، وقال: الذى تقتضيه صناعة العربية التعليق بالفعل الصريح، ثم ذكر الاحتمال الآخر، وذكر له مأخذين: أحدهما: ما ذكره ابن الحاجب من تعلقه بفعل دل عليه حرف النفى، قال: كما يفعله بعض النحاة، والزمخشرى فى بعض المواضع. والثانى: أنه قد يؤخذ الفعل بقيد كونه منتفيا. قلت: والذى تلخص فى ذلك على التحقيق، أنه إذا ورد شئ من تعليقات الفعل اللفظية أو المعنوية بعد النفى، فالأصل تعلقه بالفعل المنفى، لا بالنفى إلا أن يقوم دليل على تعلقه بالنفى، فيتعلق به على أحد المأخذين السابقين، والذى يترجح المأخذ الثانى الذى ذكره الوالد، لا ما ذكره ابن الحاجب؛ لأن عمل معانى الحروف لا يساعد عليه أكثر النحاة، ثم ليتنبه إلى أن هذين الاحتمالين يأتيان فى كثير من تعلقات الفعل، فيأتى ذلك فى المفعول له تقول: ما ضربته إهانة، إذا أردت التعليق بالفعل الصريح، وتقييد النفى، وتقول: ما ضربته إكراما، إذا أردت تعليل انتفاء الضرب مطلقا. وتقول: ما ضربته لأكرمه، وما ضربته لأهينه، وتقول فى الحال: ما ضربته مصلوبا، إذا أردت وقوع الضرب فى غير حال الصلب، وما ضربته مكرها إذا أردت ترك الضرب، وتقول فى الغاية: لا أضربه حتى يموت، إذا أردت أنك تضربه ضربا لا يموت منه. فالضرب حتى يموت منتف، لا مطلق الضرب، وتقول: لا أضربه حتى يسئ فانتفاء الضرب مطلقا قبل الإساءة حاصل وكذلك إلى أن يموت وإلى أن يسئ وتقول فى الاستثناء: لا يقوم القوم إلا زيدا، والمعنى: أن قيام القوم غير زيد منتف، إما بقيام الجمع أو بقيامه، ولا يقوم القوم إلا زيدا بمعنى قيامه، أى انتفى قيام غير زيد، وتقول: ما ضربته حقا، إذا أردت تأكيد عدم الضرب، وما ضربته حقا إذا أردت نفى الضرب المؤكد، وتقول فى الظرف: لا أحب زيدا اليوم، والمعنى: أن انتفاء المحبة المستمرة وقع اليوم، ولا أحبه اليوم، بمعنى أن محبتك له فى هذا اليوم هى المنتفية وتقول فى المفعول معه: ما سرت والنيل إذا أردت انتفاء مصاحبة النيل. وتقول: ما سرت والكسل، إذا أردت انتفاء السير مطلقا بمصاحبة الكسل. وتقول فى الجار والمجرور: ما ضربت زيدا عن بغضه أو كراهته، إذا أردت التعليق بالصريح، وإن ترده قلت: ما ضربت زيدا عن محبته، أو من محبته. وقد ظفرت من القرآن العظيم بأمثلة لذلك، مع بعضها ما تصرفه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قطعا إلى الفعل، ومع بعضها ما تصرفه إلى الانتفاء. قال تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ (¬1) فاليوم ظرف للظلم، وليس المعنى: أن ذلك اليوم وقع فيه الحكم بانتفاء كل ظلم ذلك اليوم وغيره، وعكسه قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (¬2) ليس معناه نفى تثريب ذلك اليوم فقط، بل إنه وقع فى ذلك اليوم انتفاء كل تثريب، وقال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (¬3) فلا شك أن الحل منتف من الطلاق إلى النكاح والمعنى أن انتفاء الحل إلى النكاح حاصل وليس المراد انتفاء الحل المغيا (¬4) فيلزم الحل بعد الطلاق، لا إلى تلك الغاية وكذلك: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (¬5) وكذلك: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (¬6) وكذلك: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (¬7)، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (¬8)،" نهى عن الصلاة بعد الصبح، حتى تطلع الشمس" (¬9)، وقد كثر فى حتى دون غيرها. وكذلك قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (¬10) أى انتفى قتله يقينا. هذا أحسن ما قيل فيه، وأما الوارد على الأصل فكثير قال تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (¬11) (فعن أمرى) يتعلق بفعلته، لا بالانتفاء؛ لأن الواقع أنه فعله، وقال تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (¬12)، وقال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (¬13)، وقال تعالى: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (¬14) فإن قلت: تجويز الأمرين يوقع فى إلباس؟ قلت: سبق أن الأصل أحدهما فلا إلباس، على أنه يجوز أن تقول: زيد لا يقوم ويقعد مريدا العطف على يقوم تارة، وعلى لا يقوم أخرى، وهما معنيان متنافيان. قال تعالى: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ (¬15) بعطف نكون على ¬

_ (¬1) سورة غافر: 17. (¬2) سورة يوسف: 92. (¬3) سورة البقرة: 230. (¬4) المغيا: أى ما ضربت له غاية. (¬5) سورة آل عمران: 179. (¬6) سورة البقرة: 222. (¬7) سورة النساء: 43. (¬8) سورة البقرة: 196. (¬9) أخرجاه فى الصحيحين من حديث عمر رضى الله عنه. (¬10) سورة النساء: 157. (¬11) سورة الكهف: 82. (¬12) سورة البقرة: 273. (¬13) سورة الأنفال: 25. (¬14) سورة الأنفال: 20. (¬15) سورة الأنعام: 27.

وأضفت إلى ذلك فوائد عثرت فى بعض كتب القوم عليها؛ وزوائد لم أظفر فى كلام أحد بالتصريح بها ولا الإشارة إليها، وسميته: تلخيص المفتاح خ خ. وأنا أسأل الله تعالى من فضله أن ينفع به، كما نفع بأصله؛ إنه ولى ذلك، وهو حسبى ونعم الوكيل! ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نكذب، وهذه القاعدة ربما تخرج من كلام المصنف فى باب الاستفهام، حيث يقول فى نحو: (ألم تعلم) أنه استفهام تقرير رعاية للمنفى، وإنكار رعاية للنفى، وقد وجدت الغالب التعلق بالفعل لا بالنفى إلا فى (حتى) فإنى لا أستحضر فى القرآن استعمال حتى بعد نفى أو نهى إلا والمقصود النفى مطلقا. نعم فى السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم فى الضيف:" حتى تحرجه" (¬1)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم:" لا تصف المرأة جارتها لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها" (¬2) ولا فرق فى حتى فيما نحن فيه بين أن تكون جارة أو غيرها؛ لأن المقصود التعلق المعنوى، وإنما أطلت فى ذلك؛ لأنه قاعدة مهمة يحتاج إليها فى جميع العلوم، ولم أر تحقيقها فى كتاب ولله الحمد والمنة. ص: (وأضفت إلى ذلك فوائد عثرت فى بعض كتب القوم عليها، وزوائد لم أظفر فى كلام أحد بالتصريح بها، ولا الإشارة إليها). (ش): هذا الكلام ربما يخالف ما بعده. ص: (وسميته تلخيص المفتاح). (ش): هذا الاسم إن كان علما قصدت مناسبته، أو وصفا ففى هذه التسمية نظر من وجوه. منها: أنه ليس تلخيصا للمفتاح، بل للقسم الثالث منه، وكأنه أحاله على ما سبق من التصريح بذلك. ومنها: أن التلخيص يؤذن بالاقتصار والموافقة، وهو قد خالفه كثيرا، وزاد عليه كما سبق وعده به. ومنها: أنه جعله فيما سبق مختصرا، والاختصار والتلخيص متنافيان، فالاختصار تقليل اللفظ، وتكثير المعنى مأخوذ من الخصر، وهو المجتمع فوق الوركين، ومنه الخنصر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" الأدب"، (10/ 548)، (ح 6135). (¬2) أخرجه بنحوه البخارى فى" النكاح"، (9/ 250)، (ح 5241).

مقدمة فى بيان معنى الفصاحة والبلاغة.

مقدّمة فى بيان معنى الفصاحة، والبلاغة ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن الجوهرى ذكره فى مادة خصر فيكون وزنه: فنعل، لكن ابن سيده ذكره فى المحكم فى الرباعى، فيكون وزنه: فعلل كزبرج، والمبسوط هو المختصر منه، والاختصار حاصل فى كل منهما، ويتعدى الفعل إلى واحد منهما أيهما كان بنفسه، وإلى الآخر بحرف مختلف، فتقول: اختصرت المبسوط من اللطيف، واختصرت اللطيف من المبسوط، وعند الإطلاق لا يقع إلا على المبسوط، فتقول: اختصرت المبسوط، واسم المفعول وهو المختصر حقيقة فى كل منهما بقيد، وعند الإطلاق اشتهر على اللطيف ومنه تسمية المصنف هذا مختصرا، باعتبار اختصاره من المفتاح، غير أنه قد زاد ونقص، وليس ذلك شأن الاختصار. وأما التلخيص فهو الشرح كما قال الجوهرى، فهو عكس الاختصار ومادته كلها ترجع إلى البسط، فلذلك لا يجتمع مع الاختصار، إلا أن يقال: إنه لم يرد اختصاره من المفتاح، بل إنه مختصر فى نفسه، وكأنه أراد ما سبق من إزالة التطويل والحشو، ثم لا يخفى أن فى إطلاق التلخيص على المختصر استعمال المصدر بمعنى المفعول مجازا. مقدمة فى بيان معنى الفصاحة والبلاغة. ص: (مقدمة). (ش): المقدمة مأخوذة من التقديم، وفيها الفتح وهو الأشهر، بمعنى أن الإنسان يقدمها، ومنه مقدمة الرحل، والكسر بمعنى أنها تقدم الإنسان لمقصوده، ومنه مقدمة الجيش؛ لأنها تقدمه أى تجسره على القدم، أو من قدم بمعنى تقدم، قال تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (¬1)، ومقدمة الشئ تارة تكون منه فالإضافة فيها على معنى من، ومنه مقدمة الجيش، ومقدمة الرحل، ومقدمة البرهان التى هى أحد أجزائه. وتارة تكون خارجة عنه كالذريعة، فالإضافة فيها على معنى اللام، وأما قول المصنف: (مقدمة) فإن أراد أنها مقدمة الكتاب فهى جزء منه، وإن أراد أنها مقدمة العلوم فهى ذريعة إليها، بدليل أنه سيذكر هذه العلوم مستقلة، ويجوز أن تكون جزءا لكل من الثلاثة، فلذلك قدمها عليها، فالراجح أنها جزء على التقديرين خلافا لقول الخطيبى: إنها ذريعة. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 1.

ما يوصف بالفصاحة

الفصاحة: يوصف بها المفرد (¬1)، والكلام، والمتكلّم ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يوصف بالفصاحة: ص: (الفصاحة يوصف بها المفرد). (ش): اعلم أن الفصاحة هى صفة اللبن الذى تؤخذ عنه الرغوة، ومنه الفصيح، وهو هذا اللبن، وفصح إذا أخذت عنه الرغوة، قال الشاعر: وتحت الرّغوة اللّبن الفصيح (¬2) كذا قال الجوهرى، وفى الاستشهاد نظر، فإن كلامه يقتضى أن فصاحة اللبن أخذ الرغوة عنه وأنه إنما سمى فصيحا عند ذلك. والبيت يدل على أنه فصيح قبل نزع الرغوة، بل ظاهره أن بقاء الرغوة شرط حتى لا يسمى فصيحا بعد أخذها؛ لأنه ليس حينئذ تحت الرغوة إلا أن يقال أراد بقوله: أخذت عنه الرغوة أنها استعملت عليه بعد أن كانت منبثة فى أجزائه لكن يبعده عبارة ابن سيده فإنه قال: إذا ذهبت عنه الرغوة، وعبارة الراغب، فإنه قال: إذا تعرى من الرغوة فأفصح اللبن إذا زال عنه اللبأ، وأفصح العجمى إذا خلص من اللكنة، وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية، وقيل: بالعكس قال الراغب: والأول أصح. وقيل: الفصيح الذى ينطق وأنكر النضر أفصح، كما نقله ابن عباد فى المحيط، وفى التنزيل وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً (¬3) وهو دليل على أنه من الثلاثى، وأفصح الصبح إذا طلع، وأفصح النصرانى جاء فى فصحه، وفى الاصطلاح اختلف فيها عباراتهم. والمصنف عدل عن حد الفصاحة باعتبار الحقيقة الصادقة على أعم من فصاحة المفرد والكلام والمتكلم، وأفرد فصاحة المفرد عن فصاحة الكلام برسم، وقد تقدمه لذلك الخفاجى فى كتاب سر الفصاحة. ¬

_ (¬1) أى الكلمة المفردة فيقال: كلمة فصيحة، وشرط ذلك أن ينظر إلى الكلمة داخل سياقها، لا كما فعل البلاغيون حيث نظروا إلى الكلمة المفردة معزولة عن سياقها، ثم وضعوا لها ما سوف يتلى عليك قريبا من شروط فصاحتها. (¬2) عجز بيت من الوافر، وصدره: فلم يخشوا مصالته عليهم وهو لنضلة السلمى فى لسان العرب (فصح)، ومجمل اللغة (فصح) وتاج العروس (فصح). وبلا نسبة فى شرح عقود الجمان 1/ 8. (¬3) سورة القصص: 34.

ما يوصف بالبلاغة

والبلاغة: يوصف بها الأخيران فقط ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله (المفرد) إما يعنى به اللفظ بكلمة واحدة، كما يقتضيه ما فسر به فصاحة المفرد بعد ذلك فيخرج عنه نحو: عبد الله علما كان أم لم يكن، وذلك يوصف بالفصاحة لا محالة، أو يعنى: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه، فيخرج عنه أيضا. الثانى: أو يعنى: ما يقابل الجملة فيخرج عنه الجملة الموصول بها، كقولك: رأيت الذى ضربته فإنها ليست بكلام فلا تدخل حينئذ فى المفرد، ولا فى الكلام، وكذلك كل واحدة من جملتى الشرط، وجوابه وهذه الأمور إذا خرجت عن المفرد ولم تدخل فى الكلام؛ لأنها ليست بكلام ففى أين يشرح فصاحتها؟ ولو قال المفرد والمركب لكان أحسن وقوله (والمتكلم) سيأتى ما عليه إن شاء الله تعالى. ما يوصف بالبلاغة: ص: (والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط). (ش): اعلم أن البلاغة فى اللغة من قولهم: بلغ بالضم إذا انتهى، ولا يوصف بها الكلمة إنما يوصف بها الكلام والمتكلم، وسيأتى ما على ذلك إن شاء الله تعالى. وقدم الفصاحة؛ لأنها أكثر مجالا من البلاغة، ولكون الفصاحة كالشرط للبلاغة على ما ستراه. وقال بعض الشارحين: لكونها أعم من البلاغة، وليس بجيد لما سيأتى، وقال الخطيبى الشارح: فلا يقال: كلمة بليغة فكل ما يوصف بالبلاغة يوصف بالفصاحة من غير عكس، وهذا بحسب الاصطلاح الذى ذكره ابن الأثير، وتابعه المؤلف وبعضهم يقول: الفصاحة والبلاغة مترادفان. فعلى هذا كل فصيح بليغ أيضا. اه. قلت: قوله: كل ما يوصف بالبلاغة، يوصف بالفصاحة صحيح؛ لأن شرط البليغ أن يكون فصيحا كما سيأتى، وقوله: (وغيره يقول مترادفان) هو ما صرح به الجوهرى حيث قال: البلاغة الفصاحة والظاهر أنه يقصد بذلك أن البلاغة تكون فى الكلمة، كما تكون فى الكلام وذلك لا يوجب ترادفا؛ بل يوجب أن كل محل صلح للفصاحة صلح للبلاغة، وإن اختلف معناهما. وقد صرح جماعة بأن بين البلاغة والفصاحة تغايرا وأن كل ما صلح لإحداهما من كلام ومتكلم وكلمة، صلح للأخرى، وقوله بعد ذلك: (فعلى هذا كل فصيح بليغ أيضا) أى سواء كان كلمة أم كلاما أم متكلما. ثم قال بعضهم: البلاغة لا توجد فى الكلمة، فكانت أخص من الفصاحة فبذا قدمت الفصاحة عليها؛ لتقدم العام على الخاص؛ لأن الخاص عام مع شئ آخر.

الفصاحة فى المفرد

ف الفصاحة فى المفرد: خلوّه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس: ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: فيه نظر، وليس بين حقيقتى الفصاحة والبلاغة عموم وخصوص؛ بل هما كل وجزء، فالبلاغة كل ذو أجزاء مترتبة، والفصاحة جزء غير محمول كما ستراه. وعبارة الخطيبى التى قدمناها قريبة من هذا الكلام، وقال ابن الأثير: البلاغة شاملة للألفاظ والمعانى فهى أخص من الفصاحة كالإنسان مع الحيوان، فلذلك تقول: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا. قلت: هذا الكلام أيضا ظاهر الفساد، وليست الفصاحة أعم من البلاغة ولا العكس بل الفصاحة جزء البلاغة، وإنما هو سمى المركب تركيبا غير حملى أخص، والمفرد أعم، وجعل الفصاحة عامة والبلاغة خاصة، لاشتمالها على الأمرين ثم عبر عن ذلك بالعام والخاص، وإنما هو كل وجزء، فليس ذلك اصطلاح القوم، ثم دخول الفصاحة فى الكلام سترى ما فيه، وقال حازم فى منهاج البلغاء: الفصاحة أخص من البلاغة. (تنبيه): مما يوصف به الكلام والكلمة أيضا: البراعة، وأهملها الجمهور، وقد ذكرها القاضى أبو بكر فى الانتصار مع الفصاحة والبلاغة وحدها بما يقرب من حد البلاغة. الفصاحة فى المفرد: ص: (فالفصاحة فى المفرد خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس). (ش): كان الأحسن اجتناب لفظ الخلوص؛ لغلبة استعماله فى الانفكاك عن الشئ بعد الكون فيه، وليس المراد هنا كذلك، ولهذا عيب على من حد المبتدأ بأنه المتجرد من العوامل اللفظية غير الزائدة؛ فإن المبتدأ لم يكن له عامل يجرد عنه، وكذلك قولهم: ما عرى من عامل لفظى. ثم يرد عليه أن الخلوص من هذه الأمور عبارة عن عدمها فهو تعريف بالأمور العدمية وإنما يكون التعريف بالذاتيات، أو الخواص الوجودية فكان ينبغى أن يقول: الفصاحة التئام الحروف، وكثرة الاستعمال وموافقة القياس إلا أن هذا عدم مضاف فالأمر فيه سهل والمراد بالاستعمال: استعمال العرب، وبالقياس: قياس التصريف. (تنبيه): اعلم أن مقصود المصنف خلوص المفرد من كل واحد من الثلاثة المذكورة، لا من مجموعها، وعبارته لا تدل على ذلك فإنك إذا قلت: خلصت من

فالتنافر (¬1) نحو [من الطويل]: غدائره مستشزرات إلى العلا ـــــــــــــــــــــــــــــ زيد وعمرو وبكر كان معناه أنك خلصت من مجموع الثلاثة، وذلك صادق بخلوصك من أحدهم بخلاف قولك: خلصت من زيد ومن عمرو ومن بكر، فإن تكرار حرف الجر مثله يؤذن بذلك، كما أن قولك: مررت بزيد وعمرو يقتضى مرورا واحدا، وبزيد وبعمرو يقتضى مرورين، وإنما جاءنا هذا فى مادة الخلوص؛ لأنها فى معنى النفى فإن المعنى: أن لا يكون مشتملا على الأمور الثلاثة، وأنت لو قلت: الفصيح ما لم يشتمل على الثلاثة لما اقتضى زوال كل منها فليتأمل. ونظير ما يقتضيه تكرر حرف الجر فى مررت بزيد وبعمرو فيما سبق من تكرر الفعل ما يقتضيه تكرر الحرف هنا، من تعدد المفعول الذى حصل الخلوص منه. ص: (فالتنافر نحو: غدائره مستشزرات إلى العلى) (ش): قسّم فى الإيضاح التنافر إلى: ما تكون الكلمة بسببه متناهية فى الثقل، وعسر النطق بها، كما روى أن أعرابيا سئل عن ناقته، فقال: تركتها ترعى الهعخع. وروى عن الخليل أنه قال: سمعنا كلمة شنعاء وهى: الهعخع ما ذكرنا تأليفها نقله الخفاجى والهاء والعين لا يكاد واحد منهما يأتلف مع الآخر من غير فصل، وشذ من ذلك قولهم هع يهع إذا قاء والظاهر أنه الخعخع، وهو نبت. قال الصغانى فى العباب ابن دريد: الخعخع مثال هدهد ضرب من النبت، وقال ابن شميل: الخعخع شجرة، وقال أبو الدقيش: هى كلمة معاياة لا أصل لها، وقال ابن سيده: الخعخع: ضرب من النبت حكاه أبو زيد، وليس بثبت، وقال عبد اللطيف البغدادى فى قوانين البلاغة: وشذ قولهم الهعخع، وقيل: إنما هو الخعخع. اه. وقال الصغانى فى كتابه المسمى الصحاح على ما نقل عنه: إنه العهعخ بضم العينين المهملتين حكاه عن الليث قال: قال: وسألنا الثقات فأنكروا أن يكون هذا الاسم فى كلام العرب، وقال الفذ منهم: هى شجرة يتداوى بها وبورقها، وقال ابن الأعرابى: إنما هو الخعخع بخاءين معجمتين مضمومتين وعينين مهملتين. قال الليث: ¬

_ (¬1) هو وصف فى الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا موافق لقياس العربية والتأليف، وفى نهاية الإيجاز للإمام فخر الدين أيضا: ترعى العهعخ فتخلص فى هذه الكلمة حينئذ أربعة أقوال: أحدها: أنه الخعخع. والثانى: الهعخع وهو فيهما بضم الهاء والخاء كما رأيته مضبوطا بخط عبد اللطيف. والثالث: أنه لا أصل لها. والرابع: أنه العهعخ وهذا فيه الغرابة أيضا. ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزرات، واستغنى المصنف بذكره هنا عن الأول؛ لأنه يدل عليه بطريق أولى، ولم يفعل ذلك فى الغرابة كما سيأتى، وإنما كان الثقل فى مستشزرات، لتوسط الشين، وهى مهموسة رخوة بين التاء، وهى مهموسة شديدة، والزاى وهى مجهورة، وقد استعمل ذلك فى قول عثمان لسعد وعمار: ميعادكما يوم كذا حتى أتشزن، أى: أستعد وذكره فى الفائق. وقول سليمان بن صرد - رضى الله عنه -: بلغنى عن أمير المؤمنين قول تشزن لى به، والإشارة بقوله: غدائره إلى قول امرئ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم … أثيث كقنو النّخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى … تضلّ المدارى فى مثنّى ومرسل (¬1) الفرع: الشعر، والأثيث: الكثير، والقنو: العنقود، والمتعثكل: المتراكم، والغدائر: الذوائب، والمستشزرات روى بفتح الزاى: أى مرفوعات، وبكسرها أى: مرتفعات ويقال: استشزر الشعر واستشزره صاحبه لازما ومتعديا حكاهما ابن سيده وغيره، ويروى العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وفيه زحاف بالقبض، وتضل العقاص: أى تخفى تحت الشعر، وفى البيتين شاهد للوصف بالجملة قبل الوصف بالمفرد، كقوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ (¬2) ولا يحتمل القطع فى البيت كما يحتمل فى الآية؛ لأن الصفات فى البيت غير مرفوعة إنما يحتملان معا أن تكون المتقدمة حالا. ¬

_ (¬1) البيتان من الطويل، وهما لامرئ القيس فى ديوانه ص 115، ولسان العرب (شزر)، (عقص)، (أثث)، (وعثكل)، وشرح المعلقات السبع ص 17، وشرح المعلقات العشر ص 63. والثانى له فى التبيان للطيبى (2/ 496)، والإيضاح ص 3، وشرح عقود الجمان (1/ 10). (¬2) سورة الأنعام: 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): قالوا: التنافر يكون إما لتباعد الحروف جدا، أو لتقاربها، فإنها كالطفرة، والمشى فى القيد، ونقله الخفاجى عن الخليل بن أحمد، ورأى أنه لا تنافر فى القرب وإن أفرط، ويشهد له أن لنا ألفاظا متقاربة حسنة، كلفظ الشجر والجيش والفم، ومتباعدة قبيحة مثل: ملع إذا أسرع، ويرد على من جعل القرب والبعد موجبين للتنافر، أن نحو الفم حسن مع تقارب حروفه، وقد يوجد البعد ولا تنافر مثل: (علم)، ومثل: (البعد)، فإن الباء من الشفتين والعين من الحلق، وهو حسن، وأو غير متنافرة مع أن الواو بعيدة من الهمزة، وكذلك (ألم) متباعدة، وكذلك (أمر) ولا تنافر، والحق فى الجواب عن ذلك أن المدعى إنما هو الغلبة - كما هو شأن العلامات - لا اللزوم، ويشبه استواء تقارب الحروف وتباعدها فى تحصيل التنافر استواء المثلين اللذين هما فى غاية الوفاق والضدين اللذين هما فى غاية الخلاف فى كون كل من الضدين والمثلين لا يجتمع مع الآخر فلا يجتمع المثلان؛ لشدة تقاربهما، وكما يقال العداوة فى الأقارب، ولا الضدان؛ لشدة تباعدهما، وحيث دار الحال بين الحروف المتباعدة والمتقاربة، فالمتباعدة أخف حتى جعل جماعة تباعد مخارج الحروف من صفات الحسن، ونقله ابن الأثير فى كنز البلاغة عن علماء البيان، وقال الخفاجى: إنه شرط للفصاحة ورد عليه فى المثل السائر بأنا نعلم الفصاحة قبل العلم بالمخارج وهو ضعيف؛ لأنه لم يجعل العلة العلم بتباعد المخارج، بل نفس التباعد، وذلك مدرك لكل سامع، ثم قالوا: إن كلام العرب ثلاثة أقسام: أغلبه ما تركب من الحروف المتباعدة، ويليه تضعيف الحرف نفسه، وأقله المركب من الحروف المتجاورة فهو بين مهمل وقليل جدا، وإنما كان أقل من المتماثلين، وإن كان فيهما ما فى المتقاربين وزيادة؛ لأن المتماثلين يخفان بالإدغام. قال ابن جنى فى آخر سر الصناعة: التأليف ثلاثة أضرب: أحدها: تأليف الحروف المتباعدة، وهو الأحسن، الثانى: تضعيف الحرف نفسه، وهو يلى الأول فى الحسن، وتليهما الحروف المتقاربة فإما رفض وإما قل استعماله، ولذلك لما أرادت بنو تميم إسكان عين معهم، كرهوا ذلك فأبدلوا الحرفين حاءين، فقالوا: محم؛ فرأوا ذلك أسهل من الحرفين المتقاربين. ثم قال: والتضعيف واحتمال الحروف المكروهة والاعتلال بأواخر الحروف أولى منها بأوله.

والغرابة (¬1): نحو [من الرجز]: وفاحما ومرسنا مسرّجا (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: والغرابة) ينبغى أن يحمل على الغرابة بالنسبة إلى العرب العرباء، لا بالنسبة إلى استعمال الناس، ولو أراد الثانى لكان جميع ما فى كتب الغريب غير فصيح، والقطع بخلافه، والمراد قلة استعمالها لذلك المعنى لا لغيره، ومثل المصنف الغرابة بقوله: (وفاحما ومرسنا مسرّجا) مشيرا إلى قول العجاج: أيّام أبدت واضحا مفلّجا (¬3) … أغرّ برّاقا، وطرفا أبرجا ومقلة وحاجبا مزجّجا … وفاحما، ومرسنا مسرّجا (¬4) (¬5) ¬

_ (¬1) هى كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال، يصعب تخريج معناها. (¬2) أورده بدر الدين بن مالك فى المصباح ص 123 وعزاه للعجاج، وأسرار البلاغة 1/ 124 الفاحم: الشعر الأسود كالفحم. والمرسن: الأنف، ومسرج هى موضع الشاهد لعدم ظهور معناها. وقبله: ومقلة وحاجبا مزججا وقد اختلفوا فى تخريج كلمة (مسرّجا) هذه، فقيل: المعنى وصف الأنف بأنه كالسيف السريجى فى الدقة والاستواء، وسريج اسم حداد تنسب إليه السيوف، أو كالسراج فى البريق واللمعان، أو هو من قولهم: سرج الله وجهه، أى بهجه وحسنه، وقيل غير ذلك. (¬3) فى المطبوع/ ملفجا، وما أثبتناه من شرح عقود الجمان 1/ 11. (¬4) الرجز لرؤبة بن العجاج فى شرح عقود الجمان 1/ 11، والثانى للعجاج فى ديوانه 2/ 34، ولسان العرب (سرج)، (رسن)، وتاج العروس (سرج)، (رسن)، وعجز الثانى للعجاج فى الإيضاح ص 4، 252، والمصباح ص 123. (¬5) مفلجا: من الفلج وله معان عدة منها فلج كل شئ نصفه فلعلها أظهرت نصف وجهها، ومن معانيه الظهور أفلج الله حجته أى أظهرها فلعلها أظهرت وجهها وأسفرت عنه. أبرجا: البرج: سعة العين فى شدة بياض صاحبها وقيل: سعة بياض العين وعظم المقلة وحسن الحدقة. مزججا: الزجج: رقة محط الحاجبين ودقتهما وطولهما وسبوغهما واستقواسهما، وزججت المرأة حاجبها بالمزج: دفقته وطولته. الفاحم: الشعر الأسود، الفحم، والمرسن: الأنف، وأصله موضع الرسن من الدابة. ومسرج هى موضع الشاهد لعدم ظهور معناها.

أى: كالسيف السّريجى فى الدقة والاستواء، أو كالسراج فى البريق واللمعان ... ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: أى كالسيف السريجى فى الدقة والاستواء، أو كالسراج فى البريق) يشير إلى أنه لم يعلم ما أراد بقوله: مسرجا حتى اختلف فى تخريجه فقيل من قولهم للسيوف سريجية، أى منسوبة إلى قين يقال له سريج، يريد أنه فى الاستواء والدقة كالسيف السريجى، قاله ابن دريد، غير أنه يوهم أن البيت فى مذكر، وإنما هو فى مؤنث بدليل أيام أبدت، وقيل من السراج يريد فى البريق، من قولهم: سرج الله وجهه أى حسنه قاله ابن سيده. فإن قلت: لا يصح أنه كالسراج فى البريق، لأن اسم الذات لا نشتق منه أسماء الفاعلين أو المفعولين، ثم البيت ليس فيه أداة تشبيه. قلت: أما جعله تشبيها من غير أداة التشبيه، فالمراد تشبيه فى المعنى، أو تشبيه محذوف الأداة، كما ستراه منقولا عن جماعة فى قوله: فأمطرت لؤلؤا من نرجس، وسقت … وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد (¬1) إلا أن المصنف لا يراه فيصح له الجواب الأول، فلعله أطلق المسرج، وهو للسيف على المرسن لمشابهته له، ولا مانع من تسمية السيف السريجى مسرجا من التسريج، وهو التحسين بحيث صار يشبه السراج. فقوله: كالسراج فى البريق، تفسير معنى ألا ترى إلى قوله فى الإيضاح: وهذا يقرب من قولهم: سرج وجهه، وسرج الله وجهه وفيما قاله نظر؛ لأنه تقدير ثالث من غير مراعاة السراج، إلا أن يقال: إنه يقرب منه من حيث المعنى وعبارة المحكم أى كالسراج، وقولهم: سرج الله وجهه. والمرسن (بفتح الميم مع فتح السين وكسرها) حكاهما ابن سيده، وقال الجوهرى: إنه بكسر الميم وهو وهم. واعلم أن السكاكى ذكر المرسن فى باب المجاز، وذكر ما لا يوافق عليه، وسيأتى فى موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن المصنف فسر الغرابة فى الإيضاح بما ذكره وفيه نظر؛ لأن هذا غرابة معنى لا غرابة كلمة، وفسرها أيضا بكون الكلمة لا يعرف معناها إلا بالبحث فى كتب اللغة المبسوطة، وهذا النوع من الغرابة أخف من الذى قبله، فكان ينبغى للمصنف أن يذكره ليستدل به على أشد منه، كما فعل فى التنافر، وقد مثل فى الإيضاح هذا بما روى عن عيسى بن عمر النحوى ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، للوأواء الدمشقى فى دلائل الإعجاز ص 446، وعزاه الشيخ محمود شاكر إلى ديوانه، وشرح عقود الجمان، 2/ 25، والمصباح ص 120، 121.

والمخالفة (¬1) نحو [من الرجز]: الحمد لله العلىّ الأجلل (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه سقط عن حمار، فاجتمع الناس عليه، فقال: ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنة افرنقعوا عنى؛ فإن تكأكأتم بمعنى اجتمعتم، وافرنقعوا بمعنى تفرقوا لا يكاد يطلع عليه من غير بحث. قلت: وكذلك حكاها الجوهرى، وقد حكاها الزمخشرى عن أبى علقمة عند قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ (¬3) وكذلك حكاها عنه الخفاجى، وقال: إن هذا التركيب أخرجه عن الفصاحة أمران: ضعف التأليف فى تتكأكأون، ونقله بصيغة المضارع، والغرابة فى افرنقعوا، ويعنى بقوله (ضعف التأليف) تنافر الحروف وقال الزمخشرى: افرنقعوا مأخوذ من حروف الفرقة مع زيادة العين، وفيه نظر؛ لأن العين ليست من حروف الزيادة، وجعله الجوهرى مشتقا من فرقعة الأصابع فوزنه على هذا افعنللوا، وعلى الأول افعنلعوا، وحكى ابن الجوزى فى كتاب الحمقى هذه عن أبى عبيدة، وقال: ما لكم تكأكأون ثم قال: فقال الناس: تكلم بالعبرانية فعصروا حلقه إلى أن استغاث، وآلى أن لا ينحو على الجهل، وقد اعترض على المصنف فى تفسير الغرابة بما ذكر، إنما الغرابة قلة الاستعمال كما يقتضيه كلام المفتاح وغيره، وكون الكلمة ثقيلة نوع آخر مما يخل بالفصاحة ولو سمى هذا باسم التعقيد لكان حسنا. وقوله: (والمخالفة نحو الحمد لله العلى الأجلل). يشير إلى قول أبى النجم: الحمد لله العلىّ الأجلل … أعطى، فلم يبخل، ولم يبخّل (¬4) لأن قياس التصريف الأجل لاجتماع المثلين، وتحرك الثانى وذلك يوجب الإدغام وأمثال ذلك كثيرة جدا، وأنشد سيبويه: ¬

_ (¬1) هى أن تكون الكلمة على خلاف قواعد الصرف. (¬2) البيت لأبى النجم الراجز. وبعده: أنت مليك الناس ربّا فاقبل والشاهد فيه كلمة (الأجلل) لأن الموافق. لقواعد الصرف هو (الأجلّ) بإدغام اللامين. (¬3) سورة سبأ: 23. (¬4) الرجز لأبى النجم فى خزانة الأدب 2/ 390، ولسان العرب (جلل)، وتاج العروس (جزل)، (جلل)، (خول)، والإيضاح ص 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقى … أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا (¬1) وقد يرد على المصنف ما خالف القياس، وكثر استعماله فورد فى القرآن، فإنه فصيح مثل: استحوذ. قال الخطيبى: أما إذا كانت مختلفة الاستعمال لدليل فلا تخرج عن كونه فصيحا، كما فى سرر يريد أن قياس سرير أن يجمع على أفعلة وفعلان، مثل أرغفة ورغفان. قلت: إن عنى بالدليل ورود السماع فذلك شرط؛ لجواز الاستعمال اللغوى لا للفصاحة، وإن عنى دليلا يصيره فصيحا وإن كان مخالفا للقياس فلا دليل فى سرر على الفصاحة إلا وروده فى القرآن فينبغى حينئذ أن يقال: إن مخالفة القياس إنما تخل بالفصاحة حيث لم تقع فى القرآن الكريم، ولقائل أن يقول حينئذ: لا يسلم أن مخالفة القياس تخل بالفصاحة، ويسند هذا المنع بكثرة ما ورد منه فى القرآن، بل مخالفة القياس مع قلة الاستعمال مجموعهما هو المخل، وإن أراد الخطيبى أن سررا خالف القياس، لعدم الإدغام فليس بصحيح، فإنه ليس قياس الإدغام وليس كل مثلين يدغم أحدهما فى الآخر. ثم اعلم أن ما ذكره المصنف ظاهره يقضى بأن كل ضرورة ارتكبها شاعر فقد أخرج الكلمة عن الفصاحة. قال حازم فى المنهاج: الضرائر السائغة منها المستقبح وغيره، وهو ما لا تستوحش منه النفس كصرف ما لا ينصرف وقد تستوحش منه النفس فى البعض، كالأسماء المعدولة، وأشد ما تستوحشه النفس تنوين أفعل من وما لا يستقبح قصر الجمع الممدود، ومد الجمع المقصور، ويستقبح منه ما أدى إلى التباس جمع بجمع مثل: رد مطاعم إلى مطاعيم، أو رد مطاعيم إلى مطاعم، فإنه يؤدى إلى التباس مطعم بمطعام، وأقبح ضرائر الزيادة المؤدية لما ليس أصلا فى كلامهم كقوله: من حوثما نظروا أدنو فأنظور (¬2) ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لقعنب ابن أم صاحب الخصائص 1/ 160، 257، وشرح أبيات سيبويه 1/ 318، والكتاب 1/ 29، 3/ 535، ولسان العرب (ظلل)، (ضنن). (¬2) البيت ثانى اثنين فى الإنصاف (1/ 24)، بلا نسبة ولفظه: وأنّنى حيثما يثنى الهوى بصرى … من حيثما سلكوا أدنو فأنظور وعزاهما فى الإنصاف إلى اللسان (شرى) والخزانة (2/ 58 بولاق).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أى أنظر، أو الزيادة المؤدية لما يقل فى الكلام، كقول امرئ القيس فى بعض الروايات: طأطأت شيمالى (¬1) أراد شمالى، وكذلك يستقبح النقص المجحف، كقول لبيد: درس المنا بمتالع فأبان (¬2) أراد المنازل، وكذلك العدول عن صيغة لأخرى، كقول الحطيئة: فيها الزّجاج وفيها كلّ سابغة … جدلاء محكمة من نسج سلّام (¬3) أراد سليمان عليه السّلام. قلت: وما ذكره تفصيل حسن ينبغى اعتباره، إلا أن الضرائر المتعلقة بحركة إعراب الكلمة لا ينبغى أن ينظر إليها المتكلم فى فصاحة الكلمة؛ لأن الحركة زائدة على وضع الكلمة تحدث عند التركيب، وقد قسم النحاة الضرائر إلى المستقبح وغيره، وإنما ذكرت كلام حازم لما فيه من الزيادة، وأطلق الخفاجى أن صرف المنصرف وعكسه فى الضرورة مخل بالفصاحة فتلخص فى ذلك قولان، وصرح الخفاجى أيضا بأن فصاحة الكلمة يعتبر فيها إعراب الكلمة، ورد على من عساه يمنع ذلك، وفيه نظر كما سبق. نعم اعتبار حركة الإعراب فى فصاحة الكلام، سأذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) رواية لبعض بيت من الطويل ونصه: كأنّى بفتخاء الجناحين لقوة … دفوق من العقبان طأطأت شملالى وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 129 ط دار الكتب العلمية، ولسان العرب (دفق)، (شمل)، وتاج العروس (دفق). (¬2) صدر بيت من الكامل، وعجزه: فتقادمت بالحبس فالسّوبان وهو للبيد بن ربيعة فى ديوانه ص 138، والدرر 6/ 208، ولسان العرب (تلع)، (أبن). (¬3) البيت من البسيط، وهو للحطيئة فى ديوانه ص 75، ولسان العرب (جدل)، (سلم)، وتاج العروس (جدل)، والأغانى (12/ 164). وروايته: فيه الرماح وفيه ...

قيل (¬1): ومن الكراهة فى السمع؛ نحو [من المتقارب]: كريم الجرشّى شريف النّسب (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: قيل: ومن الكراهة فى السمع نحو كريم الجرشى شريف النسب). يشير إلى قول المتنبى: مبارك الاسم أغرّ اللّقب … كريم الجرشّى شريف النّسب (¬3) فإن السمع يمج الجرشى، والمراد بها النفس، وربما مج السامع الكلمة، وتبرأ منها كما يتبرأ من سماع الصوت المنكر، وربما استلذ بسماع بعض الألفاظ. (قوله: وفيه نظر) يريد أن الكراهة من جهة الصوت لا تعلق لها بالفصاحة، لأن السمع قد يستلذ بغير الفصيح بحسن الصوت وبالعكس، فإن كان كراهة الجرشى لاستغرابه، فقد دخل فيما سبق. قال الخطيبى هذا على ما بناه من أن الكراهة فى السمع راجعة إلى الغنم. ويجوز أن تكون راجعة إلى اشتمال اللفظ على تركيب ينفر الطبع عنه فتكون الكراهة فى السمع حينئذ راجعة إلى نفس اللفظ. قلت: هذا القسم الذى فرضه، لا يوجد إلا فى الكلام، فإن نفرة الطبع عن تركيب الكلمة إنما تكون لتنافر حروفها، وقد تقدم الاحتراز عنه، وهو إنما يتكلم الآن فى فصاحة المفرد على أنا نمنع الكراهة فى لفظ الجرشى، وقد ذكر حازم كراهة لفظ الجرشى، وعلله بتتابع الكسرات، وتماثل الحروف، وكونها حوشية. (تنبيه): قد ذكر العلماء أمورا، بعضها يمكن أن يقال: إن الخلوص منه شرط لفصاحة المفرد، وبعضها لا يمكن ادعاء ذلك فيه؛ لوروده فى القرآن الكريم، وما قاله الزوزنى فى شروح التلخيص من أن الكلمة غير الفصيحة، قد تقع فى القرآن الكريم زلة قدم، وكذلك ما وقع فى كلام الطيبى فى سورة الأنعام وفى كلام ابن عصفور مما يوهم ذلك، منها أن تكون متوسطة بين قلة الحروف وكثرتها، والمتوسطة ثلاثة أحرف فإن كانت الكلمة على حرف واحد، مثل: قه - فعل أمر فى الوصل - قبحت، وإن ¬

_ (¬1) أى قيل: فصاحة المفرد خلوص مما سبق ذكره، وأيضا من الكراهة فى السمع. (¬2) البيت للمتنبى، وهو فى مدح سيف الدولة، والجرشى: النفس. (¬3) البيت من المتقارب، وهو للمتنبى فى ديوانه 2/ 198، ط. دار الكتب العلمية، وشرح عقود الجمان 1/ 11، والإيضاح ص 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت على حرفين، لم تقبح إلا بأن يليها مثلها، ذكره حازم. قال حازم: المفرط فى القصر ما كان على مقطع مقصور، والذى لم يفرط ما كان على سبب. والمتوسط ما كان على وتد أو على سبب ومقطع مقصور أو على سببين، والذى لم يفرط فى الطول ما كان على وتد وسبب. والمفرط فى الطول ما كان على وتدين، أو على وتد وسببين. اه. وفيه مخالفة لكلام غيره، وقال حازم أيضا: إن الطول تارة يكون بأصل الوضع، وتارة تكون الكلمة متوسطة فتبطلها الصلة وغيرها، كقول المتنبى: خلت البلاد فى الغزالة ليلها … فأعاضهاك الله كى لا تحزنا (¬1) وقول أبى تمام: ورفعت للمستنشدين لوائى (¬2) اه، فإن قلت: زيادة الحروف لزيادة المعنى، كما فى اخشوشن بمعنى خشن، واقتدر فى قوله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (¬3). وقوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (¬4). وغير ذلك فكيف جعلتم كثرة الحروف مخلا بالفصاحة مع كثرة المعنى فيه؟ قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقل معنى من الأخرى، وهى أفصح منها. إذ الأمور الثلاثة التى يشترط الخلوص عنها لا تعلق لها بالمعنى، ثم كون زيادة الحروف دائما لزيادة المعنى المراد به أن يكونا لمعنى واحد ومادة واحدة. فخرج بالأول نحو علم واستعلم وكسر وانكسر وبالثانى المادتان المستقلتان فلا تفاضل بينهما. ومن الغريب أن التنوخى نقل عن بعض الناس أن صيغة فاعل أبلغ من فعيل لكثرة استعمالها، وذكره ابن الأثير فى المثل السائر، وأخوه فى الجامع، وقال: لأن اسم ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو للمتنبى فى ديوانه 1/ 198. (¬2) عجز بيت من الكامل، وصدره: وإلى محمد ابتعثت قصائدى وهو لأبى تمام فى ديوانه ص 16. (¬3) سورة القمر: 42. (¬4) سورة الشعراء: 94.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفاعل لا يكون إلا بمعنى الفاعل، والفاعل قوى، وفعيل يكون بمعنى الفاعل والمفعول، فهو دائر بين قوى وضعيف، وما يختص بقوى أبلغ مما دار بين قوى وضعيف، ولأن فاعل أشمل لشموله المتعدى والقاصر. ورده التنوخى بأن المفاضلة إنما تكون بين كلمتين ومادة واحدة، لا بين الأوزان، ثم قد يرد على هذه القاعدة أمور منها: أن ياء التصغير تنقص المعنى وتحقره غالبا، ويمكن الجواب عنه بأنه إنما يكثر المعنى بزيادة حرف لا لمعنى، أما الحرف المراد لمعنى، فإنه لا يتجاوز معناه، كما أن حرف المضارعة لا يزيد المعنى فى يضرب على ضرب بل يغير الزمان فقط. أو يقال: إن ياء التصغير زادت المعنى؛ لأن مدلول الاسم قبل التصغير مطلق الحقيقة، وبعده الحقيقة بقيد الحقارة، أو التحبيب ونحو ذلك من أسباب التصغير. وبعد أن ذكرت ذلك بحثا رأيت علاء الدين بن النفيس، قد سبقنى إليه فى كتابه طريق الفصاحة، فقال: التصغير وإن دل على الاحتقار والنقص فذلك لا محالة زيادة فى المعنى. اه. ولكن فيه نظر لما سيأتى. ومنها قولهم لمن مات: ميت بالإسكان، ولمن قارب الموت: مائت، وإن كان مائت يطلق أيضا على من مات. فإن قيل: إنهما لمعنيين مختلفين، فجوابه أن المعنى الذى فى المقارب للموت بعينه موجود فى الميت حقيقة وزيادة عليه. ومنها أن جموع القلة أقلها حروفا أفعل وفعلة، وهما أكثر حروفا من أشياء من جموع الكثرة مثل فعل وفعل وفعل بل غالب جموع الكثرة لا يتجاوز خمسة أحرف، وكذلك أفعال وأفعلة وهما جمعا قلة، وجموع السلامة كلها للقلة، وأقلها خمسة أحرف. فنحن نجد فى كثير من المواد جمع قلة حروفه أكثر من نظيره من تلك المادة، وهو جمع كثرة. ومنها أن اسم الفاعل من الثلاثى على أربعة (ف اع ل)، فإذا أردت المبالغة، ساغ لك أن تحوله إلى مثله عددا، وهو فعيل أو أقل وهو فعل، وقد يجاب عن فعيل بأنّا لم ندع أن العلامة مطردة منعكسة، ولا قلنا: إن عدم زيادة الحروف يدل على عدم زيادة المعنى. ويجاب عن فعل بأنه حصل فيه معارض، وهو أنه على وزن أفعال السجايا، فكان أبلغ من جهة أخرى، والجواب السابق أيضا: فإن فاعل لم تزد حروفه على فعل، حتى يلزم أن يكون أبلغ بل فعل نقصت حروفه عن فاعل، فإن فاعلا هو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأصل، والمدعى أن اللفظ إذا حول إلى أكثر حروفا منه كان أبلغ. وأما إذا حول إلى أنقص فلا يلزم أن ينقص المعنى، بل قد يقترن بما يجعله أبلغ. ونقل الزمخشرى هذه القاعدة بعد أن قال: قيل: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. قال ابن المنير: حاصله أن الرحمة المستفادة من رحمن، أعم من الرحمة المستفادة من رحيم، والدلالة للعموم على قصور المبالغة أولى كما أن ضاربا أعم من ضراب، وضراب أبلغ منه بخصوصه، واستحسنه صاحب الإنصاف. قلت: فيه نظر من وجوه: الأول: أنهما بنيا على أن مراد الزمخشرى برحمن الدنيا والآخرة، أنه يراد به ما هو أعم من كل منهما، وهو ممنوع لجواز أن يريد أن الرحمن، يراد به مجموع الرحمتين، فيكون مدلول الرحيم بعض مدلول الرحمن، ولا يكونان أعم وأخص، بل كل وجزء، فيتم ما قاله حينئذ. الثانى: أن قوله: والدلالة بالعموم على قصور المبالغة أولى فيه نظر. لأنا نقول: سلمنا أن الأخص أكثر معنى من الأعم، لأنه يدل على الأعم وزيادة ولكن الزمخشرى: لا يعنى بزيادة المعنى هنا ذلك، بل المبالغة فى المعنى فى غير انضمام معنى إليه زائد، ولا منافاة بين كون الأخص أزيد معنى، والأعم أبلغ منه فى الدلالة على أصل المعنى، فإن معنى الإنسان أكثر من معنى الحيوان. والظاهر أن دلالة الحيوان على معناه، أبلغ من دلالة الإنسان على الحيوان، لأن الأولى بالمطابقة، والثانية بالتضمن. وإذا صح لنا هذا فى ذلك فلننقله إلى مقصودنا، وهو أعم وأخص من مادة واحدة. الثالث: أن ضرابا وضاربا ليس أحدهما عند التحقيق أعم من الآخر؛ لأن ضرابا لا يتميز عنه بوصف ذاتى، بل ضراب عبارة عن ذى ضروب كثيرة، أو ذى ضرب يوصف بالقوة، وذلك لا يوجب له حقيقة الأخص لما تقرر فى علم المنطق، وليس عندى فى الجواب عن ذلك كله إلا أن هذه علامات لا يشترط اطرادها. فإن قلت: قد اشتمل القرآن على كثير من الرباعى والخماسى، فليكن فصيحا. قلت: لم يدعوا أن غير الثلاثى غير فصيح بل الثلاثى أفصح، ومع هذا فمن شرط ذلك أن تكون كلمتان لمعنى واحد إحداهما ثلاثية والأخرى رباعية، ولا يكون ثم مرجح لإحداهما على الأخرى - فيكون العدول إلى الرباعية عدولا عن الأفصح، وأين يوجد هذا فى القرآن؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومما يجب ضبطه لينتفع به فى هذا الكتاب كله أنه ليس لكل معنى كلمتان فصيحة وغيرها فربما لا يكون للمعنى إلا كلمة فصيحة أو غير فصيحة، ويضطر إلى استعمالها. ومنها: أن تجتنب الحركة الثقيلة على بعض الحروف كالضمة على الجيم، وأن تجتنب الأسباب الخفيفة المتوالية، كقولهم: القتل أنفى للقتل، ويرد عليه وروده فى القرآن. قال تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (¬1). وقال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ (¬2). وقد يقال: إن هذا كله يتعلق بفصاحة الكلام، لأن الأسباب لم تجتمع فى كلمة واحدة. ومنها أن لا تجتمع الأفعال المتوالية، كقول المتنبى: عش ابق اسم سد قد جد مر انه رف اسر نل … غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل اثن نل (¬3) وقال حازم: إن بيت المتنبى إنما قبح لقصر كلماته المتوالية التى على حرفين، وينبغى أن يذكر هذا فى شروط فصاحة الكلام. ومنها: أن لا تكون الكلمة مبتذلة، إما لتغيير العامة لها إلى غير أصل الواضع كاللقالق ولهذا عدل فى التنزيل إلى قوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ (¬4)؛ لسخافة لفظ الطوب، وما رادفه كما قال الطيبى، ولاستثقال جمع الأرض لم تجمع فى القرآن، وجمعت السماء، وحيث أريد جمعها قال: الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ (¬5) وقد قسم حازم فى المنهاج الابتذال والغرابة فقال ما ملخصه الكلمة على أقسام: الأول: ما استعملته العرب دون المحدثين، وكان استعمال العرب له كثير فى الأشعار، وغيرها فهذا حسن فصيح. ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 6. (¬2) سورة الإسراء: 100. (¬3) البيت من الطويل، وهو لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه 2/ 92، والعمدة لابن رشيق 2/ 25، والمصباح ص 180. وروايته فى كل مصدر مختلفة بعض الشئ عن روايته التى ذكرها المصنف. (¬4) سورة القصص: 38. (¬5) سورة الطلاق: 12.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: ما استعملته العرب قليلا، ولم يحسن تأليفه ولا صيغته فهذا لا يحسن إيراده. الثالث: ما استعملته العرب وخاصة المحدثين دون عامتهم فهذا حسن جدا لأنه خلص من حوشية العرب وابتذال العامة. الرابع: ما كثر فى كلام العرب وخاصة المحدثين وعامتهم ولم يكثر فى ألسنة العامة فلا بأس به. الخامس: ما كان كذلك، ولكنه كثر فى ألسنة العامة، وكان لذلك المعنى اسم استغنت به الخاصة عن هذا، فهذا يقبح استعماله لابتذاله. السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة، وليس له اسم آخر، وليست العامة أحوج لذكره من الخاصة، ولم يكن من الأشياء التى هى أنسب بأهل المهن فهذا لا يقبح، وليس يعد مبتذلا، مثل لفظ: الرأس والعين. السابع: أن يكون كما ذكرناه إلا أن حاجة العامة له أكثر، فهو كثير الدوران بينهم، كالصنائع، فهذا مبتذل. الثامن: أن تكون الكلمة كثيرة الاستعمال عند العرب والمحدثين لمعنى، وقد استعملها بعض العرب نادرا لمعنى آخر، ويجب أن يجتنب هذا أيضا. التاسع: أن يكون العرب والعامة استعملوها دون الخاصة، وكان استعمال العوام لها من غير تغيير، فاستعمالها على ما نطقت به العرب ليس مبتذلا، وعلى التغيير قبيح مبتذل اه. ثم اعلم أن الابتذال فى الألفاظ وما يدل عليه ليس وصفا ذاتيا، ولا عرضا لازما؛ بل لاحقا من اللواحق المتعلقة بالاستعمال فى زمان دون زمان، وصقع دون صقع، ومن أسباب الفصاحة أيضا أن لا تكون مشتركة بين معنيين: أحدهما مكروه كقولك: لقيت فلانا فعزرته، إلا بقرينة، كقوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ (¬1). ولك أن تقول: القرينة لا بد منها لكل إطلاق لفظ مشترك، فإن لم تكن قرينة، لم يجز ذلك إلا لغرض الإبهام، وإن وجدت القرينة فهو فصيح لوروده فى القرآن الكريم، وقد يقال: هذا يتعلق بفصاحة الكلام لا الكلمة، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 157.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن تكون الحروف لذيذة عذبة، وقد يقال: إن غالب ذلك راجع إلى التنافر فدخل فى كلام المصنف، وجعل من الإخلال بالفصاحة أيضا أن يجمع بين ثلاث حركات متوالية، وليس بصحيح لوروده فى القرآن، ولو صح فهو من التنافر، وأيضا فهو فى الكلمة الواحدة: أما الكلمات فقد تجتمع فيها الحركات المتوالية، وتصل إلى ثمانية، قال تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً (¬1) وجعل حازم فى المنهاج من المستقبح تتابع الكسرات، وحروف العلة نحو الكيماء. (تنبيه): ليس من شرط الكلمة أن تكون قابلة هذه الأمور الثلاثة، فقد لا تقبلها كالكلمة التى على حرف واحد فلا تنافر فيها، بل الحروف كلها ليس فيها تنافر حروف. (تنبيه): قال فى الإيضاح: ثم علامة كون الكلمة فصيحة، أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها. قلت: قوله: أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها فيه نظر؛ لاستلزامه أن مراتب الفصاحة لا تتفاوت، لأنه إذا كان استعمالهم لها أكثر من غيرها وجعلناه دليل الفصاحة فلا يكون غير فصيح بحال، لا يقال: قوله كثيرا يرفع هذا الوهم؛ لأنه إنما يقصد بقوله: أن يكون استعمالهم لها كثيرا كون الكلمة ليس لها مرادف؛ فكثرة استعمالها دليل فصاحتها. أما إذا كان كلمتان مترادفتان، فقد شرط فى فصاحة إحداهما الأكثرية، ولا شك أن رتب الفصاحة متفاوتة، ولو كان مراده الكثرة من كلمة لها مرادف لما قال: أو أكثر؛ لأن الأكثر كثير. (تنبيه): قال ابن النفيس فى كتاب الطريق إلى الفصاحة: قد تنقل الكلمة من صيغة لأخرى، أو من وزن لآخر، أو من مضى لاستقبال وبالعكس، فتحسن بعد أن كانت قبيحة، وبالعكس فمن ذلك خود بمعنى أسرع قبيحة فإذا جعلت اسما خودا، وهى المرأة الناعمة قل قبحها، وكذلك ودع يقبح بصيغة الماضى؛ لأنه لا يستعمل ودع إلا قليلا، ويحسن فعل أمر أو فعلا مضارعا، ولفظ اللب بمعنى العقل يقبح مفردا، ولا يقبح مجموعا، كقوله تعالى: لِأُولِي الْأَلْبابِ (¬2) قال ولم يرد لفظ اللب مفردا إلا ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 4. (¬2) سورة آل عمران: 190.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مضافا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن" (¬1) أو مضافا إليها، كقول جرير: يصرعن ذا اللّبّ حتّى لا حراك … وهنّ أضعف خلق الله أركانا (¬2) وكذلك الأرجاء تحسن مجموعة كقوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها (¬3) ولا تحسن مفردة إلا مضافة، كقولنا: رجا البئر، وكذلك الأصواف تحسن مجموعة نحو قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها (¬4) ولا تحسن مفردة، كقول أبى تمام: فكأنّما لبس الزّمان الصّوفا (¬5) ومما يحسن مفردا ويقبح مجموعا المصادر كلها، وكذلك طيف وطيوف وبقعة وبقاع، وإنما يحسن جمعها مضافا مثل بقاع الأرض. (تنبيه): رتب الفصاحة متقاربة، وإن الكلمة تخف وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربا أو بعدا، فإن كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر: الأول: الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، نحو ع د ب. الثانى: الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط نحو ع م د. الثالث: من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو ع م هـ. الرابع: من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو ع ل هـ. الخامس: من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو م ل ع. السادس: من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو ب ع د. السابع: من الأدنى إلى الأعلى إلى الأسفل نحو ف ع م. الثامن: من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو ف د م. التاسع: من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو د ع م. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" الحيض"، باب: ترك الحائض الصوم، (1/ 483)، (ح 304)، فى مواضع أخر من صحيحه. (¬2) البيت من البسيط، وهو لجرير فى الأغانى 7/ 325. (¬3) سورة الحاقة: 17. (¬4) سورة النحل: 80. (¬5) عجز بيت من الكامل، وهو لأبى تمام فى ديوانه ص 194. وصدره: كانوا برود زمانهم فتصدعوا

الفصاحة في الكلام.

وفيه نظر (¬1): وفى الكلام: خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، مع فصاحتها: ... ـــــــــــــــــــــــــــــ العاشر: من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو د م ع. الحادى عشر: من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو ن ع ل. الثانى عشر: من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو ن م ل. إذا تقرر هذا فاعلم أن أحسن هذه التراكيب وأكثرها استعمالا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأسفل، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى فهما سيان فى الاستعمال، وإن كان القياس يقتضى أن يكون أرجحهما ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى، وأقل الجميع استعمالا ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط، هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلت عنه، فإن رجعت فإن كان الانتقال من الحرف الأول إلى الثانى فى انحدار من غير طفرة، والطفرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه - كان التركيب أخف وأكثر، وإن فقدا بأن يكون النقل من الأول فى ارتفاع مع طفرة - كان أثقل، وأقل استعمالا، وأحسن التراكيب ما تقدمت فيه نقلة الانحدار من غير طفرة بأن ينتقل من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى، أو من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط، ودون هذين ما تقدمت فيه نقلة الارتفاع من غير طفرة. وأما الرباعى والخماسى فعلى نحو ما سبق فى الثلاثى، ويختص ما فوق الثلاثة بكثرة اشتماله على حروف الذلاقة لتجبر خفتها ما فيه من الثقل، وأكثر ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوق الثلاثى مفصولا بينهما بحرف خفيف، وأكثر ما تقع أولا وآخرا وربما قصد بها تشنيع الكلمة لذم أو غيره. الفصاحة في الكلام. ص: (وفى الكلام خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد مع فصاحتها). (ش): أى الفصاحة فى الكلام: خلوصه من ذلك مع فصاحة الكلمات وعليه من السؤال ما تقدم فى فصاحة الكلمة من اقتضاء كلامه الخلوص من المجموع فقط، وغير ¬

_ (¬1) لأن الكراهة فى السمع هنا من قبيل الغرابة.

فالضعف (¬1) نحو: ضرب غلامه زيدا ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك ثم قوله: تنافر الكلمات فيه نظر؛ لأن الكلام قد يكون كلمتين فقط، ويعنى بقوله تنافر الكلمات منافرة كل واحدة للأخرى، لا تنافر أجزاء كلمة واحدة، فإن ذلك من فصاحة الكلمة. قوله: (فالضعف نحو ضرب غلامه زيدا) فإن فيه رجوع الضمير إلى المتأخر لفظا ورتبة، وقد اختلف فى جواز ذلك، فالجمهور على منعه، وجوزه أبو الحسن، والطوال، وابن جنى، وابن مالك مستدلين بقوله: جزى ربّه عنّى عدىّ بن حاتم … جزاء الكلاب العاويات وقد فعل (¬2) وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر جزى، وكذلك قوله: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر … وحسن فعل كما يجزى سنمّار (¬3) وأجيب عنه بجواز أن يكون الضمير لمتقدم فى بيت سابق. واعلم أن المصنف والشراح قالوا: إنما كان ضعيفا؛ لأن ذلك ممتنع عند الجمهور، ولا يجتمع القول بضعفه، وكونه غير فصيح مع القول بامتناعه. فإن أرادوا أنه جائز، ولكنه ضعيف؛ لأن الأكثر على امتناعه فلا يلزم من القول بجواز ما منعه الجمهور الاعتراف بضعفه، فربما ذهب ذاهب إلى جواز شئ وفصاحته مع ذهاب غيره إلى امتناعه، فليتنبه لذلك. وقد وقع فى عبارة الخفاجى أن التصرف الفاسد يخل بالفصاحة، فإن أراد ما ليس بكلام ففيه نظر؛ لأن الفصاحة من صفات الكلمة والكلام فما ليس بكلام لا يسمى غير فصيح، إذ لا تسلب الصفة عن غير القابل، ولو خلينا وعبارة التلخيص، لأخذنا منها جواز ذلك، كما اختاره ابن مالك. وعليه اعتراض ثان، وهو أن هذا على تقدير جوازه وضعفه ليس مثالا صحيحا، لأن هذا ¬

_ (¬1) هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النحوى المشهور بين الجمهور، كالإضمار قبل أن يذكر اللفظ. (¬2) البيت من الطويل، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه 1/ 166، والخصائص 1/ 294. وبلا نسبة فى الإيضاح ص 5 بتحقيقنا ط. مؤسسة المختار. (¬3) البيت من البسيط، وهو لسليط بن سعد فى الأغانى 2/ 119، وخزانة الأدب 1/ 293، 294. وبلا نسبة فى تخليص الشواهد ص 489، وتذكرة النحاة ص 364، وخزانة الأدب 1/ 280، وشرح عقود الجمان (1/ 13).

والتنافر (¬1): كقوله [من الرجز]: وليس قرب قبر حرب قبر ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس ضعفا فى الكلام فإن الكلام هنا هو الفعل وفاعله الضعف، إنما جاء هنا من إضافة الغلام، أو من تأخر المفعول بعد تقدم ضميره، وذلك أمر دائر بين الفاعل وما أضيف إليه، أو بين المفعول وغيره لا من الكلام، أو نقول: الضعف فى استعمال هذا الضمير مخل بفصاحة الكلمة لا الكلام، وهذا بعض ما قدمت الوعد به، وبه تبين أن مراده بالكلام ما زاد على كلمة من الجملة، وما يتعلق أو يتصل بها، ثم ذلك الضعف ربما كان فى النثر دون الشعر؛ لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز، فقد تقوى ما هو ضعيف فعلى البيانى أن يعتبر ذلك، فربما كان الشئ فصيحا فى الشعر غير فصيح فى النثر، ولذلك جوز جماعة: ضرب غلامه زيدا فى الشعر فقط، وابن مالك المجوز لهذا فى النثر، لا ندرى هل يوافق على ضعفه فى الشعر أو لا؟ فإن قلت: الضعف فى ضرب غلامه زيدا إنما حصل من الحركة الإعرابية، لا من مادة الكلمة، وقد قدمتم أن ضعف حركة الإعراب لضرورة أو غيرها، لا يقدح فى الفصاحة. قلت: ذلك بالنسبة إلى فصاحة الكلمة المفردة فضعف حركة إعرابها لا يخل بفصاحتها، لكنه قد يخل بفصاحة مجموع الكلام الذى فيه تلك الكلمة إذا أوجب تعقيدا، كما نحن فيه، وقد لا يخل بفصاحة الكلام، إذا لم تتعلق تلك الضرورة بالمعنى، كصرف المنصرف، وعكسه. فإن الإفادة التى هى مقصودة من الكلام، لا تختل بذلك فليتأمل. وقد تلخص من ذلك أن ضرورة حركة الإعراب، لا تخل بفصاحة الكلمة أبدا، وتخل بفصاحة الكلام تارة دون أخرى. (قوله: والتنافر كقوله: وليس). يشير إلى قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر … وليس (قرب قبر حرب قبر) (¬2) ¬

_ (¬1) هو أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان وإن كان كل منها فصيحا. (¬2) الرجز أنشده الجاحظ كما فى دلائل الإعجاز ص 57، والإيضاح ص 26 ونهاية الإيجاز لفخر الدين الرازى ص 123. من الرجز مجهول القائل: ويدعى بعض الناسبين أنه لجنى رثى به حرب بن أمية جد معاوية بعد أن هتف به فمات. والقفر: الخالى من الماء والكلأ.

وقوله (¬1) [من الطويل]: كريم متى أمدحه أمدحه والورى … معى وإذا ما لمته لمته وحدى ـــــــــــــــــــــــــــــ وبخط عبد اللطيف البغدادى: وما بقرب قبر حرب قبر قال الكرمانى: ذكروا أنه من شعر الجن، وأنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرار فلا يتتعتع اه. وفيه إقواء، لأن البيت مصرع أو هما بيتان من مشطور الرجز، وحركة الأول الخفض والثانى الرفع، ولا يمكن أن يكون مصرعا، ويكون بيتا واحدا. فإن قوله (بمكان قفر) لا يصلح أن يكون عروضا إنما هو ضرب لما تقرر فى علم العروض، فلا بد من جعله بيتا مشطورا، أو نصفا مصرعا فإن التصريع يلحق العروض بالضرب، وجعل بعض الشراح ذلك من تنافر الحروف، وليس كذلك؛ لأن كل كلمة على انفرادها لا تنافر فيها، وكل ما حصل فيه تكرار الحروف، فإن فيه هذا التنافر، ولا يرد قوله تعالى: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (¬2) لأن فى مخرجى الميم والنون - وهما طرف اللسان والشفة وذلاقتهما، وتوسطهما بين الضعف والقوة - ما أزال ثقل التكرار، وجعل الخفاجى ثقل هذا البيت؛ لتقارب الحروف المتماثلة وتكررها أيضا، ومن التكرار القبيح على ما ذكره ابن الأثير فى الجامع: وازورّ من كان له زائر … وعفّ عافى العرف عرفانه (¬3) (وكقوله: كريم متى أمدحه) قد جعل فى الإيضاح التنافر منقسما إلى أعلى وهو ما سبق، ودونه وهو قول أبى تمام: كريم متى أمدحه، أمدحه والورى … معى وإذا ما لمته، لمته وحدى (¬4) ¬

_ (¬1) البيت لأبى تمام أورده فخر الدين الرازى فى نهاية الإيجاز ص 123 وجاء البيت برواية: كريم متى أمدحه أمدحه والورى … جميعا ومهما لمته لمته وحدى (¬2) سورة هود: 48. (¬3) البيت من السريع، وهو فى مقامات الحريرى من المقامة التفليسية كما فى المثل السائر (1/ 309). وازور: مال وأعرض، وعاف: استقذر، والعافى: طالب العطاء (هامش المثل السائر). (¬4) البيت من الطويل، أورده فخر الدين الرازى فى نهاية الإيجاز ص (123) وعزاه لأبى تمام، وهو كذلك فى الإيضاح بتحقيقنا ص (6)، وتلخيص مفتاح العلوم ص (7)، والتبيان للطيبى بتحقيقنا 2/ 496 وشرح عقود الجمان (1/ 14).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال فى الإيضاح: لأن فى قوله: (أمدحه) ثقلا؛ لما بين الحاء والهاء من التنافر، فإنهما حرفان متنافران لتقاربهما، فإن التقارب قد يكون سببا للتنافر؛ ولذلك حكم على الكلمات التى تكررت فيها الحروف المتماثلة بالثقل كما تقدم، ثم فيما قاله من ثقل (أمدحه) نظر؛ فإن اجتماع الحاء والهاء فصيح؛ لوروده فى القرآن قال الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ (¬1) وإنما جاء الثقل هنا من تكرار أمدحه، وسيأتى فى التكرار والتصريح من كلام حازم فى المنهاج بأن ما لعله يعزى لهذا البيت من الثقل إنما هو من التكرار فى (أمدحه)، وفى (لمته) وبه جزم الخفاجى فى سر الفصاحة، وقيل: إنما حصل الثقل من اجتماع الحاء والهاء بعد الفتحة، وليس ذلك فى الآية الكريمة، وقيل: الثقل من الهاء والحاء والهمزة. واعترض أيضا بأن الكلام إنما هو فى تنافر الكلمات، وهذا من تنافر الحروف. قلت: ليس كذلك بل التنافر على هذا التقدير بين الكلمات لأن الهاء كلمة وحدها نعم يرد على المصنف فى هذا وفى الذى قبله أن التنافر فيهما ليس فى الكلام بل فيه مع متعلقاته إلا أن يراد بالكلام جزءا الإسناد، وما يتعلق بهما كما سبق وكما سيأتى فى الإيجاز، وذكر الخطيبى أنواعا من ذلك لا حاجة لذكرها؛ إذ هى داخلة فى كلام المصنف. (فائدة): بيت أبى تمام المذكور معناه واضح، غير أن فيه نقدا، وهو الإتيان فى المدح (بمتى) وفى اللوم (إذا)، والمعنى على العكس، فإن (إذا) دالة على ما تحقق أو رجح وجوده و (متى) لا تدل على ذلك، غير أن الذى دعاه إلى (متى) احتياجه لجزم الفعل بعدها، وأما (إذا) فكان مستغنيا بأن يقول: (ومتى ما لمته) وكان أولى لموافقة الأول لفظا ومعنى، وعدم اقتضائه ما لا يليق من نسبة توقع اللوم إلى نفسه، وقد اعترض بأن المدح لا يقابله اللوم بل الذم، قلت: الإتيان باللوم أحسن؛ لأنه ينفى الذم من باب أولى على أنه روى (ذمته ذمته وحدى) يقال: ذامه يذيمه، أى عابه على أن الحبيب سلفا فى مقابلة المدح باللوم، قال: ومن يلق خيرا يحمد النّاس أمره … ومن يغو لا يعدم على الغىّ لائما (¬2) ¬

_ (¬1) سورة ق: 40. (¬2) البيت من الطويل، وهو للمرقش فى ديوانه ص 565، ولسان العرب (غوى)، وتاج العروس (غوى)، وشرح اختيارات المفصل ص (1104).

والتعقيد: ألّا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد؛ لخلل: إمّا فى النظم: كقول الفرزدق فى خال هشام: وما مثله فى النّاس إلّا مملّكا … أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه أى: ليس مثله فى الناس حىّ يقاربه إلا مملّكا أبو أمّه (¬1) أبوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التعقيد أن لا يكون ظاهر الدلالة على المراد لخلل إما فى النظم). يعنى فى اللفظ، وهو أن يختل على السمع نظم الكلام فلا يدرى كيف يصل إلى معناه، كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومى، خال هشام بن عبد الملك بن مروان. هذا هو الصواب. وفى المهذب للشيخ أبى إسحاق يمدح هشام بن إبراهيم بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة، فوضع هشاما موضع إبراهيم، ووضع إبراهيم موضع هشام؛ فإن الممدوح إبراهيم بن هشام لا هشام بن إبراهيم. واعلم أن الشيخ محيى الدين النووى توهم أن الشيخ وهم بأن جعل الممدوح هشاما، وإنما هو ولده إبراهيم وليس كذلك؛ بل الشيخ علم الممدوح وأباه ولكن وهم فى تسمية كل منهما باسم الآخر، فقد اشتبه عليه الاسم لا المسمى، ثم أوجب هذا الوهم للشيخ محيى الدين أنه أبقى إبراهيم قبل هشام، كما هو فى عبارة الشيخ أبى إسحاق؛ لتوهمه أن إبراهيم الذى ذكر الشيخ أنه ولد هشام غير إبراهيم الذى هو ابنه، فقال: إن الممدوح إبراهيم بن هشام بن إبراهيم، وإنما هو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، ثم إن الشيخ محيى الدين لما جعل إبراهيم والد هشام، أسقط ذكر أبيه إسماعيل، ثم إنه جعل جد هشام هو المغيرة، وإنما المغيرة هو جد جده، فإنه هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة، وقد حررت نسبته كذلك من أنساب القرشيين للشيخ شرف الدين الدمياطى بخطه، ومن مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر اختصار الذهبى بخطه، ثم اجتمع الشيخ أبو إسحاق والنووى على إسقاط هشام والد إسماعيل، فحاصله أن الشيخ أبا إسحاق وهم فى أمرين، والشيخ محيى الدين وهم فى أربعة أمور، اشتركا منها فى وهم واحد، فاجتمع فى كلاميهما خمسة أوهام. إذا تحرر ذلك فبيت الفرزدق المذكور: وما مثله فى النّاس إلا مملّكا … أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه (¬2) ¬

_ (¬1) مملكا: أى رجل أعطى الملك وهو هشام المذكور، وأبو أمه: أى أبو أم هشام أى أبو الممدوح وهو خال هشام، وحاصله الإخبار بأن الممدوح لا مثل له فى الناس إلا ابن أخته الذى هو المملك. (¬2) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى دلائل الإعجاز ص 83، وشرح عقود الجمان (1/ 14)، ولسان العرب (ملك)، ومعاهد التنصيص (1/ 43) والإيضاح ص (6). وهو فى مدح خال هشام بن عبد الملك بن مروان: أحد ملوك بنى أمية وخاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يريد وما مثل إبراهيم الممدوح فى الناس حى يقاربه إلا مملكا، وهو هشام أبو أمه، والضمير فى (أمه) للمملك، وهو هشام وفى (أبوه) للممدوح ففصل بين (أبو أمه) وهو مبتدأ و (أبوه) وهو خبر بحى الأجنبى، وفصل بين المبتدأ والخبر، وهما مثله وحى بقوله (فى الناس إلا مملكا أبو أمه) وفصل بين (حى) وهو موصوف ب (يقاربه) (بأبوه) وهو أجنبى، وقدم المستثنى على المستثنى منه فلذلك كان ضعيفا ذا تعقيد، فالخالى من التعقيد ما لا يكون فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك، إلا بقرينة ظاهرة لفظا أو معنى مع نكتة. وهذا البيت أنشده سيبويه فى الكتاب، ونسبه إلى الفرزدق. قال الصغانى: ولم أره فى شعره، وأنا أيضا نظرت كثيرا من شعره فلم أجده، واعترض الخطيبى بأن التعقيد كما فى (ضرب غلامه زيدا) لأنه يوهم عوده على غير زيد، وقد لا يؤدى لذلك، والتعقيد قد يكون لا عن ضعف تأليف فبينهما عموم وخصوص من وجه، وفى البيت أعاريب منها: أن مملكا بدل من حى قدم فانتصب، وقيل: مثله اسم ما، ولا يصح؛ لأنه يلزم نصب الخبر ثم الفرزدق تميمى لا يعمل ما ولو أعملها هنا لأعمل مع انتقاض النفى، إلا أن يكون تبع لغة غيره كما أعملها فى قوله: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم … إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر (¬1) وأحسن من ذلك كله، أن يجعل (مثله فى الناس) مبتدأ وخبرا، وإلا مملكا فى موضعه، وحى خبر ثان، وهذا البيت فيه اعتراض؛ لأن المماثلة والمقاربة لا يجتمعان، ولا يعترض على ذلك بأنك إذا قلت: (زيد مثل عمرو) فالمشبه دون المشبه به فقد اجتمعت المماثلة والمقاربة لما سيأتى؛ ولأن المقاربة حينئذ أمر اقتضاه التشبيه ليس مقصودا للمتكلم، أما قصد الإخبار بالمثلية وبالمقاربة فلا يجتمعان، والمعنى على أن (حى) مبتدأ، و (مثله) هو الخبر، ويسهل ذلك وصف حى وعدم تمحض إضافة مثله، وأعرب المغربى (يقاربه) صفة ثانية لمملكا فسلم من الفصل بين الصفة والموصوف، إلا أن يقال: إن (حى) لما فصل بين أجزاء الصفة الاسمية فقد فصل بين الصفة والموصوف، ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو للفرزدق فى ديوانه 1/ 185، والأشباه والنظائر 2/ 209، والكتاب 1/ 60 والمقتضب 4/ 191، وخزانة الأدب 4/ 133، 138.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه نقض معنوى لتصريحه بمقاربة هشام بن عبد الملك له المقتضى لعدم المماثلة، وذلك ذم لهشام وهو غير مقصوده، وهذا السؤال وإن تقدم إيراده على كل تقدير فهو هنا أصرح وأقوى، وأنشد ابن الطراوة أبياتا فى التعقيد فى باب ما يحتمل الشعر من الكلام على أبيات سيبويه منها قوله: لها مقلتا عيناء كلّ خميلة … من الوحش ما تنفكّ ترعى عرارها (¬1) أى لها مقلتا عيناء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها، ومثله قول القلاخ: فما من فتى كنّا من النّاس واحدا … نبتغى منهم عديلا نبادله وقوله الآخر: وما كنت أخشى الدّهر إحلاس مسلم … من النّاس ذنبا جاءه وهو مسلما (¬2) أى: ما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلما من الناس ذنبا جاءه وهو أى جاءاه معا، وأنشد السكاكى لأبى تمام: كاثنين فى كبد السّماء ولم يكن … كاثنين ثان، إذ هما فى الغار (¬3) قال ابن النفيس فى كتاب الطريق إلى الفصاحة: ومنه قول الفرزدق: إلى ملك ما أمّه من محارب … أبوه، ولا كانت كليب تصاهره (¬4) معناه: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، أى ما أمه منهم. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى كتاب العين 1/ 86. وصدره فيه: لها مقلتا أدماء طلّ خميلها (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (حلس). (¬3) البيت من الكامل، وهو لأبى تمام فى ديوانه ص (145)، ودلائل الإعجاز ص (84)، ومفتاح العلوم (المطبعة الأدبية بسوق الخضار) ص 221، والمصباح لابن الناظم ص 160، والموازنة ص 29، وأسرار البلاغة ص 13 ط رشيد رضا ولم أجد فى أى هذه المصادر رواية صدره: كاثنين ورواية الديوان: ثانية فى كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثان إذ هما فى الغار. (¬4) البيت من الطويل وهو للفرزدق فى ديوانه 1/ 250، والخصائص 2/ 394، والدرر 2/ 70.

2 - وإمّا فى الانتقال (¬1): كقول الآخر (¬2) [من الطويل]: سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا … وتسكب عيناى الدّموع لتجمدا فإن الانتقال (¬3) من جمود العين إلى بخلها بالدموع، لا إلى ما قصده من السرور ... ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وإما فى الانتقال) يعنى أن يكون التعقيد راجعا إلى خلل معنوى، وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الذى هو ظاهر إلى المراد ظاهرا. فإن قلت: هذا والذى قبله، يرجعان إلى المعنى فلم جعل الأول لفظيا والثانى معنويا؟ قلت: لأن الأول أوقع فى الجهل البسيط وهو عدم الفهم، والثانى أوقع فى الجهل المركب، وهو فهم الشئ على غير ما هو عليه، ومثله بقول العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا … وتسكب عيناى الدّموع لتجمدا (¬4) المعنى: أن من عادة الدهر معاكسة المقاصد. قال فى الإيضاح: كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب؛ لأن البكاء يكنى به، كقول الحماسى: أبكانى الدّهر، ويا ربّما … أضحكنى الدّهر بما يرضى (¬5) قلت: لا حاجة إلى الكناية بالبكاء، وجاز أن يكون أراد حقيقته، والمراد أنه انتقل عن المعنى الظاهر وهو جمود العين إلى السرور بالاجتماع. قال: وأراد أن يكنى عما يوجبه التلاقى من السرور بجمود العين لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شئ آخر وأخطأ؛ إذ الجمود خلو العين من البكاء حال إرادة البكاء منها، ¬

_ (¬1) أى لخلل واقع فى انتقال الذهن من معنى اللفظ الأصلى إلى معنى آخر ملابس للأصلى قد استعمل اللفظ ليفهم منه ذلك الملابس على وجه الكناية أو المجاز. (¬2) هو العباس بن الأحنف الشاعر الغزل المشهور. والشاهد فى قوله: لتجمدا. (¬3) أى انتقال الذهن المعهود من جمود العين إلى بخلها بالدموع إنما يكون فى حالة الحزن والبكاء لا فى حالة الفرح والسرور. (¬4) البيت من الطويل: وهو للعباس بن الأحنف فى الإيضاح ص 7، وشرح عقود الجمان 1/ 15، والبيت فى ديوانه أيضا ص 106 ط دار الكتب، ودلائل الإعجاز ص 268، والإشارات والتنبيهات ص 12، وبلا نسبة فى التلخيص للقزوينى ص 8. (¬5) البيت من السريع، وقوله: كقول الحماسى نسبة إلى الحماسة وهى مختارات لأبى تمام من شعر السابقين وصاحب هذا البيت هو حطان بن المعلى الشاعر الإسلامى، والبيت فى شرح ديوان الحماسة للتبريزى 1/ 152، ودلائل الإعجاز 269، وشرح عقود الجمان 1/ 15، والإيضاح ص 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يكون كناية عن المسرة، بل كناية عن البخل، كقول الشاعر - وهو أبو عطاء - يرثى ابن هبيرة: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط … عليك بجارى جمعها لجمود (¬1) ويمتنع أن يراد بالجمود هنا عدم البكاء مع عظم الحزن؛ لأنه يتحد معناه مع قوله: (لم تجد) فكأنه قال: إن عينا لم تجد لم تجد، وأيضا المعنى على أنه يريد أن كل أحد حزين وبعض العيون بخلت، فهو أمدح من قوله: إن من الناس من لم يحزن، ولو كان الجمود عدم البكاء مطلقا لجاز أن يدعى به، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك، وهو باطل. قلت: وفيه لطيفة؛ لأن الجمود بالحقيقة إنما يكون للمائع، ووصف العين بالجمود، إما على إرادة دمعها، أو إرادتها على سبيل الاستعارة عن الدمع، فلا بد أن يتخيل أن الدمع موجود فى العين، ولكن حصل له جمود منعه من الانسكاب، وذلك لا يتأتى فى حال السرور؛ لأن المعدوم لا يوصف بالجمود. واعلم أن هذا الاعتراض فيه نظر؛ لأن استعمال الجمود فى هذا البخل إن لم يكن جائزا فليس هذا كلاما غير فصيح، بل هو غير عربى، وإن كان يستعمل فمن أين جاء التعقيد؟ ثم عليه من الاعتراض من كون الإخلال بالفصاحة هنا ليس فى الكلام ما سبق. واعلم أن المبرد فى الكامل فسر هذا البيت بغير هذا، فقال: هذا رجل فقير يبعد عن أهله ويسافر؛ ليحصل ما يوجب لهم القرب، وتسكب عيناه الدموع فى بعده عنهم لتجمد عند وصوله لهم، وأنشد: تقول سليمى لو أقمت بأرضنا … ولم تدر أنّى للمقام أطوّف (¬2) (تنبيه): يجوز فى قوله: (وتسكب) النصب عطفا على بعد من باب: ¬

_ (¬1) البيت من البسيط وهو لأبى عطاء السندى فى رثاء ابن هبيرة، وهو فى الإيضاح ص 8، وشرح الحماسة للتبريزى 2/ 151، ودلائل الإعجاز ص 269، والإشارات والتنبيهات ص 12. (¬2) البيت من الطويل، وهو لعروة بن الورد فى الكامل 1/ 155 ط. المكتبة العصرية، وشرح عقود الجمان بلا نسبة 1/ 16.

شروط فصاحة الكلام

قيل (¬1): ومن كثرة التّكرار، وتتابع الإضافات؛ كقوله [من الطويل]: سبوح لها منها عليها شواهد (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ للبس عباءة وتقرّ عينى أحبّ (¬3) ويؤيده أمور: أحدها: تصريح جماعة كالخطيبى فى مغنى اللبيب، بأنه أراد طلب سكب الدموع. الثانى: أنه المطابق للنصف الأول. الثالث: أنه لا يحسن أن يقول ستسكب عيناى الدموع، والفرض أنها ساكبة كما أن الدار بعيدة، وإنما تجدد طلبه لهما. بقى هنا فائدة: وهو أن هذا البيت على كثرة المستحسنين له، قد يقال: فاسد المعنى؛ لأنه إذا كان الدهر يناكده فكيف يخلص من ذلك بأن يطلب بعد الدار ليقرب، والطلب هنا هو النفسى. فإن كان مستمرا على طلب القرب لم يقرب أبدا، ولا يمكن حينئذ جعل طلب البعد وسيلة له؟ وجوابه: أنه الآن يقول: سأطلبها؛ لتقربوا، وهو حال طلب البعد لا يطلبه للقرب، فقوله: لتقربوا علة لقوله: سأطلب لا لأطلب، أو يجعل متعلقا ببعد، والمعنى ما سبق، ثم نقول: من أين لنا أنه لم يرد حقيقة الجمود؟ شروط فصاحة الكلام: ص: (قيل: ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات). (ش): أى من الناس من شرط فى فصاحة الكلام أن يكون خاليا من كثرة التكرار، وتتابع الإضافات، وأنشد على الأول قول أبى الطيب: وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة … (سبوح لها منها عليها شواهد) (¬4) ¬

_ (¬1) أى فصاحة الكلام ترجع أيضا إلى خلوصه من كثرة التكرار ... إلخ. (¬2) مثال لكثرة التكرار. والبيت للمتنبى وصدره: وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة، وسبوح أى فرس حسن الجرى لا تتعب راكبها، كأنها تجرى فى الماء. (¬3) صدر بيت من الوافر، وعجزه:" أحب إلى من لبس الشفوف" وهو لميسون بنت بحدل فى خزانة الأدب 8/ 503، 504، والدرر 4/ 90، وشرح شذور الذهب ص 45، ولسان العرب (مسن). (¬4) البيت من الطويل، وهو لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه (2/ 70)، والإيضاح ص 8، وشرح التبيان 1/ 187، والإشارات والتنبيهات ص 13، وشرح عقود الجمان 1/ 16، والتبيان للطيبى 2/ 526، وبلا نسبة فى التلخيص للقزوينى ص 8.

وقوله [من الطويل]: حمامة جرعا حومة الجندل وفيه نظر! ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى التمثيل بهذا البيت نظر سيأتى، وعلى الثانى قول ابن بابك: حمامة جرعا حومة الجندل اسجعى … فأنت بمرأى من سعاد ومسمع (¬1) قال فى الإيضاح: (وفيه نظر)؛ لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل فى اللسان، فقد حصل الاحتراز عنه، وإلا فلا يخل بالفصاحة. وقال عبد القاهر: لا شك فى ثقل ذلك فى الأكثر، إنما هو قد يحسن إذا سلم من الاستكراه. قال: ومما حسن فيه قول ابن المعتز: فظلّت تدير الرّاح أيدى جآذر … عتاق دنانير الوجوه ملاح (¬2) قلت: وأين الإضافات هنا فضلا عن تتابعها، وإنما هنا إضافتان. وقد اعترض على المصنف فى قوله: (إن أدى إلى الثقل على اللسان) فقد احترز عنه بأنه إنما تقدم ما يحترز به عن تنافر الكلمات، وهذا ليس كذلك. قلت: والحق التفصيل، فالتنافر الحاصل من التكرار تقدم الاحتراز عنه؛ لأن الكلمات المتماثلة متنافرة. ألا ترى أن التنافر فى وقبر حرب البيت إنما هو تكرار المتماثلات، والتنافر الحاصل من الإضافات لم يتقدم ما يحترز به عنه، وادعى بعضهم التعقيد فى تكرار هذه الضمائر، وفيه نظر؛ لأن رجوعها إلى شئ واحد واضح. فإن فرض ذلك حيث تختلف الضمائر اختلافا لا يظهر معه المعنى، كان عدم الفصاحة للتعقيد، لا للتكرار، ثم قال فى الإيضاح: وقد قال النبى صلّى الله عليه وسلّم:" الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" (¬3). وهذا الحديث رواه ابن حبان فى صحيحه فى النوع ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لابن بابك أبو القاسم عبد الصمد بن بابك فى الإيضاح ص 9، والإشارات والتنبيهات ص 13، والتبيان للطيبى 2/ 528، وشرح عقود الجمان 1/ 16، وبلا نسبة فى التلخيص للقزوينى ص 8. (¬2) البيت من الطويل، وهو لابن المعتز فى ديوانه (باب الشراب)، والإيضاح ص 10، ودلائل الإعجاز ص 104، وشرح عقود الجمان 1/ 16. (¬3) أخرجه البخارى فى" أحاديث الأنبياء"، (6/ 480)، (ح 3382)، وفى مواضع أخر من صحيحه، بذكر لفظ" الكريم" أربع مرات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابع من القسم الثالث، وليس كما ذكره المصنف؛ بل فيه ذكر الكريم أربع مرات، ونصه" الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" قلت: هذا لا تعلق له بالإضافات، فإن قصد أن يستشهد به لعدم كراهية التكرار، ففيه نظر؛ لأن كل اسم لمعنى غير الآخر، بخلاف الضمائر فى بيت المتنبى، فإنها ترجع لشئ واحد. ثم نقل عن الصاحب بن عباد، أنه كره الإضافات المتداخلة، وأنها لا تستعمل إلا فى الهجاء، كقوله: يا علىّ بن حمزة بن عماره … أنت والله ثلجة فى خياره (¬1) قلت: وقد جعل المصنف نحو هذا البيت من أنواع البديع كما ستراه، وسماه بالاطراد. ولعل الجمع بين كلاميه أنه نوعان، ثم نقل المصنف، أن عبد القاهر قال: لا شك فى ثقله فى الأكثر إلا إذا لطف. قلت: فيما قالوه نظر. وأين تتابع الإضافات هنا؟ وأحسن ما يستدل به على فصاحة تتابع الإضافات قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (¬2) وقد ينازع فيه فيقال: إن الإضافات هاهنا ترجع إلى إضافتين، أو إضافة فإن ذكر الرحمة رحمة، ورحمة الله صفته، ويؤيد ذلك قول النحاة: إنه يراد الحال من المضاف له، إذا كان المضاف جزأه، أو كجزئه؛ لأنه يصير وجود الإضافة كعدمها، ثم المضاف إليه ضمير. ومثله أيضا فى تتابع الإضافات قوله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (¬3) وقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي (¬4) وقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ (¬5) وقوله تعالى: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ (¬6) وقوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (¬7) إن جعلنا الكاف اسما، وقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (¬8) والحديث: " قاب قوس أحدكم وموضع سوط أحدكم فى الجنة خير من الدنيا وما ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة فى الإيضاح ص 9، ودلائل الإعجاز ص 104، وشرح عقود الجمان 1/ 16. (¬2) سورة مريم: 2. (¬3) سورة المجادلة: 12. (¬4) سورة الإسراء: 100. (¬5) سورة الأنعام: 158. (¬6) سورة غافر: 31. (¬7) سورة آل عمران: 11. (¬8) سورة الرحمن: 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها" (¬1) وإذا اعتبرنا الإضافة المعنوية، كان فى (يوم يأتى) خمس إضافات؛ لأن تقديره: يوم إتيان بعض آيات ربك، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكى عن ربه:" أنا عند ظن عبدى بى" (¬2) وقد يستشهد لتتابع التكرار بقوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا (¬3) وقوله تعالى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا (¬4) ويمكن الجواب بأن ذلك فى جملة، والآيتان فى جمل. لكن يرد حينئذ نحو قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها (¬5) وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ (¬6) الآية، وقوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ (¬7) إلى آخره. (تنبيه): قوله: (تتابع الإضافات) لم يتبين مقصوده فيه، وذكره لبيت ابن المعتز، دليل أنه يكتفى فى ذلك بإضافتين وفيه نظر، لأن فى القرآن والسنة ما لا يكاد يحصى من ذلك. وإذا أردت تحرير العبارة، قلت: قد يكره تتابع الإضافات بشروط: أن تكون ثلاثا فأكثر، وأن لا يكون واحد منها جزءا أو كالجزء، وأن لا يكون المضاف إليه الأخير ضميرا، وأن لا يكون فيها إضافة فى علم، كقول أبى سفيان:" لقد أمر أمر ابن أبى كبشة" (¬8) فليس فى مثل ذلك استكراه، وإذا اعتبرت هذه الشروط حصل الجواب عن الآيات السابقة. (تنبيه): إذا تأملت ما ذكره المصنف، علمت أن كل هذه الأمور غير مخلة بالفصاحة فى الكلام بل فى الكلمات المتعددة التى لا إسناد بينها وبه تبين أن مراده بالكلام ما زاد عن الكلمة. (تنبيه): ذكر غير المصنف أمورا تعتبر فى فصاحة الكلام منها: عدم تتابع الأفعال، وليس من ذلك قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى بنحوه فى" الجهاد والسير"، (6/ 100)، (ح 2892) من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه. (¬2) أخرجه البخارى فى" التوحيد"، (3/ 395)، (ح 7405)، ومسلم فى" التوبة"، (ح 2675). (¬3) سورة آل عمران: 194. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) سورة النحل: 80. (¬6) سورة التوبة: 24. (¬7) سورة التوبة: 112. (¬8) كلمة أبى سفيان هذه أخرجها البخارى فى" بدء الوحى"، ضمن حديث أبى سفيان مع هرقل عظيم الروم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ (¬1) لتوسط الواو وتعلق كل بمفعول مع زيادات فى الابتداء والانتهاء. ومنها: تتابع الصفات المترادفة. ومنها: كثرة الألفاظ المصغرة، وكثرة التجنيس، أو الطباق، كما ذكره الخفاجى والتنوخى، وإن كان القليل من كل هذه الأمور حسنا. بقى على المصنف أسئلة: الأول: أن قوله: (الخلوص من كثرة التكرار وتتابع الإضافات) موضوعه الخلوص منهما معا، ومقصوده من كل منهما كما سبق. الثانى: أن التكرار أقل ما يصدق عليه الاسم منه ذكر الشئ مرتين، فكثرة التكرار لا تصدق بذكره ثالثا فلا كثرة تكرار فى نحو: لها منها عليها، وقد يمنع ذلك، فإن الزائد عن الأقل وهو ثلاثة يصدق عليه اسم الكثرة. الثالث: أن المصنف ذكر فى باب القصر أن التكرار من عيوب الكلام، وكلام السكاكى أيضا يشعر به، وذكر المصنف فى الإيضاح هنا أنه ليس بعيب، وكذلك فى باب الإطناب؛ بل جعله حسنا فإنه أحد أنواع الإطناب، وجعله فى باب الإيجاز عيبا، والجمع بين الجميع أن منه الحسن، ومنه القبيح. ونقل حازم عن جماعة، أن التكرار يحسن فى مواضع الشوق والمدح والهجاء. ويرد بأن هذه المواضع وغيرها سواء فى اختلاف ذلك باختلاف المقام والحال، وذكر من قول أبى تمام: كريم متى أمدحه أمدحه والورى … معى وإذا ما لمته لمته وحدى قال: فإنه لا سبيل إلى التعبير عن هذا المعنى إلا بالتكرار. وقال: وكذلك كل ما لا يمكن التعبير عنه إلا بالتكرار فهو حسن. قال: فهذا بيت تكررت فيه حروف الحلق، وتكررت فيه ألفاظ، وهو يحسن. قلت: ومنه يعلم أن ما لعله يتخيل فيه من الثقل، إنما هو للتكرار، لا لاجتماع الحاء والهاء كما سبق، ألا ترى إلى قوله: (تكررت فيه حروف الحلق) ولم يقل: تعددت. قال: ومما لا يمكن التعبير عنه إلا بالتكرار فحسن، وإن خالف فيه بعضهم قول المتنبى: ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 5.

الفصاحة فى المتكلم

وفى المتكلّم (¬1) ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود، بلفظ فصيح ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وحمدان حمدون وحمدون حارث … وحارث لقمان، ولقمان راشد (¬2) فلعل ممدوحه كان له قصد فى ذكره الأسماء على هذا الترتيب. اه. وقال الخفاجى أيضا فى سر الصناعة: إنه حسن؛ لأنه لا يتم ذكر أجداد الممدوح إلا به. وبالغ ابن رشيق فى ذمه، وقد وقع فى هذا البيت فائدة سأذكرها فى باب الاطراد من البديع، وشرط الخفاجى أيضا فى قبح التكرار عدم فصل كلمة بينهما، كقولك: (له به عناية) فلو قلت: له عناية به، لم يقبح. ونقل عن قدامة أنه أنكر قبح تكرار الرباطات - يعنى الضمائر - مثل: سبوح لها منها عليها شواهد (¬3) الفصاحة فى المتكلم: ص: (وفى المتكلم). (ش): أى الفصاحة فى المتكلم (ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح) وإنما قال: ملكة ليشير إلى أنها صفة راسخة فيه فلهذا لم يقل: صفة، فإن الملكة كيفية نفسانية راسخة، وقال: (يقتدر بها) ولم يقل: يعبر؛ لأنه لا يشترط النطق بالفعل، وقوله (بلفظ فصيح) يشمل المفرد والمركب، وقد اعترض على المصنف، بأنه يلزم أن لا يكون المتكلم هو الفصيح، وبأنه يلزم أن لا يسمى فصيحا حقيقة لا حال النطق!! وجوابهما أن الملكة من فعل المتكلم، وهو كالفاعل لها، نطق أم سكت، فإن قلت: يلزم عدم إطلاق الفصيح على من تكلم بكلام فصيح، ولا ملكة عنده، قلت: والأمر كذلك، فإن قلت: كل محل قام به معنى وجب أن يشتق له منه اسم، قلت: المعنى هو الملكة ولم يقم، واعترض بأن ذكر فصاحتى الكلام والكلمة يغنى عن ذكر فصاحة المتكلم إغناء حد العلم عن حد العالم وليس كذلك، فإنا لم نجد الفصيح، بل حددنا فصاحته، وفصاحته غير فصاحة كلامه وكلمته. نعم قد يورد على المصنف أمور: ¬

_ (¬1) أى الفصاحة الكائنة فى المتكلم. (¬2) البيت من الطويل وهو لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه 2/ 72، وشرح عقود الجمان 1/ 17. (¬3) سبق تخريجه.

البلاغة فى الكلام

والبلاغة فى الكلام: مطابقته لمقتضى الحال، مع فصاحته. وهو (¬1) مختلف؛ فإنّ مقامات الكلام متفاوتة: فمقام كل من التنكير، والإطلاق، والتقديم والذكر: يباين مقام خلافه. ومقام الفصل: يباين مقام الوصل. ومقام الإيجاز: يباين مقام خلافه. وكذا: خطاب الذكى مع خطاب الغبىّ، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدها: أنه ذكر لفظ الفصيح فى حد فصاحة المتكلم، والحد لا يذكر فيه شئ مشتق من المحدود، ولعل جوابه: أن فصيحا المذكور فى حد فصاحة المتكلم، مشتق من فصاحة الكلام التى عرفت، لا من فصاحة المتكلم التى هو يحدها. والثانى: أنه يحد فصاحة المتكلم، والملكة لا تتوقف على التكلم بل هو يقصد حدها، سواء أنطق أم لا كما سبق. والثالث: أنه يلزم أن من له ملكة على التكلم بالكلمة المفردة الفصيحة - ولا ملكة له على الكلام الفصيح - لا يسمى فصيحا، وهذا إن فرض وجوده قد يلتزمه. فإن قلت: التعبير عن المقصود لا يكون إلا بالمركب لفظا، أو تقديرا، فلا يمكن بكلمة، قلت: بل يمكن إذا كان المقصود التصور، كقولك فى حد الإنسان: ناطق. (تنبيه): اعلم أن أكثر الناس ذكر الفصاحة حيث كانت حدا واحدا، وذكروا حدودا كثيرة ترجع إلى ما ذكره المصنف فى فصاحة المتكلم لم أر التطويل بذكرها. البلاغة فى الكلام: ص: (والبلاغة فى الكلام، مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ... إلخ). (ش): هو غنى عن الشرح، وللمتقدمين فى البلاغة رسوم واهية، قيل: لمحة دالة، وقيل: معرفة الوصل من الفصل. نقلوه عن ابن جنى، ونقله فى موارد البيان عن الفارسى، وقيل: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل، وقيل: اختيار الكلام، وتصحيح الأقسام. وقيل: قليل يفهم، وكثير لا يسأم. وقيل: الإشارة إلى المعنى بلمحة تدل عليه. وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضجار. وقيل: ¬

_ (¬1) أى مقتضى الحال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إدراك الطالب، وإقناع السامع (¬1) وقيل: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة، نقل أكثر ذلك فى موارد البيان. وقال محمد ابن الحنفية: قول تضطر العقول إلى فهمه بأيسر العبارة، وقال بعض أهل الهند: هى النظر بالحجة، والمعرفة بمواقع الفرصة، وقيل: إجاعة اللفظ بإشباع المعنى، وقيل: معان كثيرة فى ألفاظ قليلة، وهى: إصابة المعنى وحسن الإيجاز، وقال الخليل: كلمة تكشف عن البغية، وقيل: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، وقيل: أن تفهم المخاطب بقدر فهمه من غير تعب عليك، وقيل: حسن العبارة مع صحة الدلالة، وقيل: دلالة أول الكلام على آخره، وارتباط آخره بأوله، وقيل: القوة على البيان مع حسن النظام. وعن الخليل أيضا: البلاغة ما قرب طرفاه وبعد منتهاه، وقال أرسطاليس: البلاغة حسن الاستعارة، وقال خالد بن صفوان: البلاغة إصابة المعنى، وقصد الحجة، وقال إبراهيم الإمام: هى الجزالة والإطالة. وقيل: تقصير الطويل، وتطويل القصير. وقال ابن المعتز: هى بلوغ المعنى، ولما يطل سفر الكلام. وقال ابن الأعرابى: التقرب من البغية، ودلالة قليل على كثير. وقيل: إهداء المعنى إلى القلب فى أحسن صورة من اللفظ، وقيل: ما صعب على التعاطى، وسهل على الفطنة، وقيل: سد الكلام ومعانيه، وإن قصر، وحسن التأليف، وإن طال. والظاهر أن أكثر هذه العبارات إنما قصدوا بها ذكر أوصاف للبلاغة، ولم يقصدوا حقيقة الحد ولا الرسم؛ وإنما أفرد قوله ومقام وما بعده لزيادة الاعتناء بذكر ذلك، لكونه أهم من غيره، والكلام فيه أكثر، ومثال مقام التنكير والتعريف قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (¬2) ومثال مقامى الإطلاق، والتقييد: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ (¬3) لعموم الدعوة وخصوص الهداية على بحث فيه يذكر فى غير هذا الموضع، والتقديم: لا فِيها غَوْلٌ (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: (وقيل: تصحيح) إلخ هو مكرر مع ما قبله بسطر كتبه مصححه. (¬2) سورة المزمل: 15 - 16. (¬3) سورة يونس: 25. (¬4) سورة الصافات: 47.

رجوع البلاغة إلى اللفظ

وارتفاع شأن الكلام فى الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب (¬1)، وانحطاطه بعدمها، فمقتضى الحال: هو الاعتبار المناسب. فالبلاغة؛ راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى بالتركيب، وكثيرا ما يسمّى ذلك فصاحة - أيضا - ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وارتفاع شأن الكلام فى الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب). يعنى: كما إذا كان المقام يستدعى تأكيدا أو تأكيدين أو أكثر ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة التى هى عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال فقد علم أن المراد بالاعتبار المناسب، ومقتضى الحال واحد، وإلا لما صدق أنه لا يرتفع إلا بالمطابقة للاعتبار المناسب، ولا يرتفع إلا بالمطابقة لمقتضى الحال فليتأمل. رجوع البلاغة إلى اللفظ: ص: (فالبلاغة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى بالتركيب). (ش): قد اختلف الناس فى البلاغة والفصاحة من صفات اللفظ أو المعنى، وهل هما مترادفان أو لا على ما سبق؟ قال حازم نقلا عن أفلاطون: الفصاحة لا تكون إلا لموجود، والبلاغة تكون لموجود ومفرد. ونقل فى الإيضاح عن عبد القاهر، كلاما فى ذلك مختلف الظاهر وأن حاصل مجموع كلامه: أن الفصاحة ليست من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب. ومال الإمام فخر الدين إلى أن الفصاحة راجعة إلى الألفاظ والمعانى، واستدل عليه بما يطول ذكره. قال الشيخ تقى الدين القشيرى: إن خصت الفصاحة بالألفاظ وردت أسئلة الإمام فخر الدين أو لألزم تسمية المعنى فصيحا، وهو غير مألوف، والذى أراه أن الفصيح: لفظ حسن مألوف له معنى حسن صحيح، وبهذا القيد تندفع أسئلة الإمام، وللناس فى ذلك كلام يطول ذكره. (قلت): وأنت إذا تأملت عبارة المصنف فى حدود الفصاحة، علمت أن فصاحة المفرد كلها لفظية لا تعلق لها بالمعنى البتة، والغرابة لفظية فإنها تتعلق بسماع اللفظ، وفصاحة الكلام تنقسم إلى: معنوى، وهو الخلوص من التعقيد والضعف، ولفظى: وهو الخلوص من التنافر والتعقيد اللفظى. وفصاحة المتكلم معنوية، وما أحسن عبارة ¬

_ (¬1) أى للحال والمقام.

طرفا بلاغة الكلام

ولها (¬1) طرفان: أعلى: وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه. وأسفل: وهو ما إذا غيّر الكلام عنه إلى ما دونه، التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات. وبينهما مراتب كثيرة، وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا. وفى المتكلم: ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد اللطيف البغدادى، حيث قال فى قوانين البلاغة: البلاغة شئ يبتدئ من المعنى، وينتهى إلى اللفظ، والفصاحة شئ يبتدئ من اللفظ، وينتهى إلى المعنى؛ فإن فيها جمعا بين ما افترق من كلام الناس، وهى الحق إن شاء الله تعالى. فإن قلت: إذا كانت الفصاحة أو البلاغة راجعة إلى اللفظ، فكلام الله تعالى ليس بلفظ، وهو محتو على أعظمها. قلت: المراد اللفظ الدال على ذلك الكلام القديم النفسانى. طرفا بلاغة الكلام: ص: (ولها طرفان: أعلى وهو حد الإعجاز، وما يقرب منه). (ش): ظاهره أن حد الإعجاز لا يتفاوت، وليس كذلك، بل هو لا نهاية له. وما وقع فى كلام بعض شراح المفتاح مما يوهم خلاف ذلك، لا عبرة به، ثم يرد عليه أن ما يقرب من حد الإعجاز ليس أعلى؛ لنقصانه عن حد الإعجاز. قوله: (وأسفل وهو ما لو غير عنه إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات) يعنى البهائم. قوله: (وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا) قد يقال على أحد القولين السابقين: أن هذه الوجوه من البلاغة، فلا حاجة لذكرها. فإن قلت: هذا يقتضى أن كل كلام بليغ؛ لأنه ليس شئ من الكلام ملتحقا بأصوات البهائم. قلت: إنما يريدها ما لو غير لما دونه التحق بأصوات البهائم مع كونه كلاما، والتحاقه بها ليس فى كونه غير مفيد، بل فى عرائه عن الحسن. ملكة المتكلم: ص: (وفى المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ). ش): عليه من الإيراد ما على حد فصاحة المتكلم. ¬

_ (¬1) أى بلاغة الكلام.

فعلم: أنّ كلّ بليغ فصيح، ولا عكس. وأنّ البلاغة مرجعها: 1 - إلى الاحتراز عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد. 2 - وإلى تمييز الفصيح من غيره: والثانى (¬1): منه ما يبيّن فى علم متن اللغة، أو التصريف، أو النحو، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعلم أن كل بليغ فصيح ولا عكس) يعنى سواء كان كلاما أم متكلما؛ لأن البلاغة لا بد فيها من فصاحة الكلام والكلمات، قال الخطيبى: معناه أن البلاغة أخص من الفصاحة؛ لأن الفصاحة مأخوذة فى حد البلاغة كالفصل، فكانت كالحيوان للإنسان. قلت: إذا تأملت ما سبق علمت أن ليس بينهما عموم وخصوص، وليست كالفصل، بل البلاغة كل ذو أجزاء مترتبة، والفصاحة جزء. قوله: (وأن البلاغة مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد) هو واضح مما سبق؛ لأنه إذا كانت البلاغة المطابقة فالذى يحترز عنه الخطأ. وقوله: (فى تأدية المعنى المراد) جوز فيه أن يكون المعنى الخطأ الواقع فى تأدية المعنى، وأن يكون حالا عنه - أى عن الخطأ حال وقوعه فى تأدية المعنى. قلت: لا يصحان؛ لأن الخطأ الآن ليس فى تأدية المعنى، بل فى عدمها، والذى يظهر أنه متعلق بالاحتراز. ص: (وإلى تمييز الفصيح من غيره ... إلخ). (ش): هو واضح لا يقال: ينبغى أن يقول: وإلى الاحتراز عن غير الفصيح؛ لأن السامع ليس عنده غير التمييز، والمتكلم لا يسعه ترك (¬2) غير الفصيح فهو يفعل ما يقتضيه المقام والحال. قوله: (والثانى منه ما يبين فى علم متن اللغة أو التصريف أو النحو) الثانى مبتدأ ومنه ما يبين جملة خبرية، ويجوز أن يكون (منه) خبرا عن الثانى، وما يبين فاعله، كقوله سبحانه: أولئك لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا (¬3) وقوله: متن اللغة أى العلم الذى يعلم به معانى المفردات يحترز بقوله (متن) عن النحو والتصريف، فإنهما من اللغة، وليس موضعهما متنها، والمراد (بالثانى) هو تمييز الفصيح من غيره. ¬

_ (¬1) أى تمييز الفصيح من غيره. (¬2) ترك غير الفصيح كذا فى النسخة ولعل لفظة" غير" من زيادة الناسخ أو أسقط لفظ" إلا" قبل" ترك". (¬3) سورة سبأ: 37.

أو يدرك بالحسّ، وهو ما عدا التعقيد المعنوىّ. وما يحترز به عن الأوّل (¬1): علم المعانى. وما يحترز به عن التعقيد المعنوىّ: علم البيان. وما يعرف به وجوه التحسين: علم البديع. وكثير (¬2) يسمّى الجميع: علم البيان. وبعضهم يسمّى الأول: علم المعانى، والأخيرين: علم البيان، والثلاثة: علم البديع. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يدرك بالحس، وهو ما عدا التعقيد المعنوى) أى من تنافر الحروف والتئامها (¬3) وضعف التأليف وقوته لا يقال: ضعف التأليف إنما يعلم من النحو؛ لأنا نقول: المعنى يتعقد بعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، إلا أنه يرد عليه حينئذ أن ذلك من النحو، وأنه ليس بحسى لفظى؛ لأن المدعى أن ضرب غلامه زيدا تعقيد لفظى؛ لا معنوى ففيه نظر. وقوله: (وما يحترز به عن الأول) أى عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد علم المعانى، (وما يحترز به عن التعقيد المعنوى علم البيان، وما يعرف به وجوه التحسين علم البديع) مناسبة هذه الاصطلاحات واضحة إلا أن فى إطلاق لفظ البديع على غير الله تعالى نظرا؛ لأن الراغب قال فى كتاب الذريعة إلى محاسن الشريعة: إن لفظ الإبداع لا يستعمل لغير الله تعالى لا حقيقة ولا مجازا، وقد يخدش فيه قوله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها (¬4) (ومنهم من يسمى الجميع: علم البيان) لما فى كل من معناه اللغوى، وهو الظهور، (ومنهم من يسمى الأخيرين علم البيان) وهذا يقع كثيرا فى كلام الزمخشرى فى الكشاف. (والثلاثة علم البديع) وعلى ذلك قول الزمخشرى عند قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى (¬5) أنه من الصنعة البديعية. ¬

_ (¬1) أى عن الخطأ فى تأدية المعنى المراد. (¬2) أى كثير من الناس. (¬3) قوله: وضعف التأليف ... إلخ هذه العبارة لا تخلو من خلل فتأمل وحرر. كتبه مصححه. (¬4) سورة الحديد: 27. (¬5) سورة البقرة: 16.

الفن الأول: علم المعانى

الفنّ الأوّل علم المعانى وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفن الأول: علم المعانى ص: (الفن الأول علم المعانى وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال). (ش): إنما قدم هذا على علم البيان والبديع؛ لأنه منهما كالأصل للفرع. قال الخطيبى: علم المعانى يبحث عما يعرف منه كيفية تأدية المعنى باللفظ، وعلم البيان يبحث عما يعلم منه كيفية إيراد ذلك المعنى فى أفضل الطرق دلالة عقلية. فنسبة علم المعانى إلى علم البيان نسبة المفرد إلى المركب، ولذلك قدم عليه. قلت: فيه نظر لجواز أن يكون العلم اسما لذلك الجزء وتطبيق الكلام شرط له، وسيأتى تحقيق هذا الموضع، وما عليه أول علم البيان. وقوله: (علم) جنس وليس المراد منه هنا الصفة الموجبة لتمييز لا يحتمل النقيض؛ بل المراد منه أمور اصطلاحية وأوضاع يتوصل بها إلى معرفة غيرها، ويشهد له قوله فيما بعده: وينحصر فى ثمانية أبواب فإن المنحصر المعلوم لا العلم. وقوله: (يعرف به أحوال اللفظ) أى: كلها، وإنما قال: يعرف، ولم يقل: يعلم؛ لأن الأحوال التى ينسب العرفان هنا إليها جزئية، والعرفان تختص به الجزئيات؛ لكونها تشبه البسيط، والعلم يشمل الكليات لشبهها بالمركبات، والعلم يتعلق بالنسب، والمعرفة تتعلق بالذوات، وقد وافق المصنف ابن سينا فى حده للطب: بأنه علم يعرف به إلخ. واشتهر أن المعرفة تستدعى تقدم جهل فلا يوصف بها البارئ عز وجل، بخلاف العلم. وصرح القاضى أبو بكر فى التقريب والإرشاد، بأن المعرفة تستدعى تقدم جهل، وقيل: المعرفة تستدعى تدقيقا وتأملا دون العلم. فيقال: عرف فلان الله، ولا يقال: علمه، ويقال: علم الله، ولا يقال: عرف نقله الرافعى فى التذنيب، وذكر الآمدى فى أبكار الأفكار نحوه، وقال الراغب أيضا: فالمعرفة تتعلق بالبسيط، والعلم بالمركب؛ ولذلك يقال: عرفت الله لا علمته اه. وهذه العبارة توهم إطلاق اسم البسيط عليه - عز وجل - وليس كذلك، فكان من حقه أن يقول: العلم يتعلق بالمركب والمعرفة بغيره، بسيطا كان أم غيره، وقوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يعرف به أحوال اللفظ أخرج به ما يعرف به أحوال غير اللفظ من أحوال المعنى فقط وغيره، واللفظ نفسه لا يقال: علم المعانى يعرف به أيضا أحوال المعنى كالإسناد فإنه معنى؛ لأن المرجع فى ذلك إنما هو إلى اللفظ. وقوله: (العربى)؛ ليخرج غيره فإنه إنما يتكلم فى قواعد اللغة العربية، وإن كانت هذه المعانى يمكن تنزيلها فى كل لغة على قواعد تلك اللغة، ولم يذكر هذا القيد فى علم البيان، وفى كتاب أقصى القرب للقاضى التنوخى ما يقتضى أن الفصاحة لا تكون إلا فى كلام العرب، والبلاغة تكون فى جميع اللغات، كما سبق. وفيه نظر؛ لأن كل لغة فيها تنافر الحروف والغرابة ومخالفة قياسها، فإذا أخلصت الكلمة الأعجمية من ذلك، صدق عليها حد فصاحة الكلمة. وقوله: (التى بها يطابق مقتضى الحال) قال الخطيبى: يخرج علم البيان، والبديع قال: وفيه نظر؛ لأن المصنف فسر مقتضى الحال بالاعتبار المناسب، ولا شك أن العلوم الثلاثة داخلة فى ذلك. (قلت) يخرجهما قوله: (يطابق) فإنه قدم المعمول، فأفاده الاختصاص، والأحوال التى لا يطابق مقتضى الحال إلا بها هى التى فى علم المعانى، وما فى العلمين بعده يحصل المطابقة به، وبدونه. ثم أقول: يحترز بقوله: التى بها يطابق عن علم التصريف والنحو غيرهما، وقيل: إن المنطق خرج بقوله: اللفظ؛ لأن المنطق وإن بحث فيه عن اللفظ، لكن معظم النظر فيه فى المعنى، وقيل: إنه لا يخرج، وإليه يشير كلام الشيرازى فى شرح المفتاح. واعلم أن المصنف عدل عن حد المفتاح، وهو قوله: تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره، وأورد عليه أن التتبع ليس بعلم، وأنه قال: أعنى بالتراكيب تراكيب البلغاء، ومعرفة البليغ متوقفة على معرفة البلاغة، وقد حدها بقوله: هى بلوغ المتكلم فى تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، فإن أراد بالتراكيب فى هذا لحدّ تراكيب البلغاء، فقد جاء الدور، فإنا لا نعرف حد المعانى حتى نعرف تراكيب البلغاء ولا نعرف تراكيب البلغاء حتى نعرف البلاغة، وإذا علمنا البلاغة فقد وصلنا إلى حد تعرف به توفية خواص التراكيب حقها، وإن لم يكن أرادها فالحد غير مفيد قلت: أما قوله: التتبع ليس بعلم فصحيح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن العلم من مقولة الانفعال؛ لأنه انفعال النفس والتتبع من مقولة الفعل فهما متغايران ضرورة. إنما التتبع من غير واضع العلم ثمرة العلم. وأجيب عنه: بأنه أراد بالتتبع العلم. فإطلاقه عليه من إطلاق المسبب على السبب، ويشهد له قول السكاكى فى آخر علم البيان: وإذ قد تحققت أن المعانى والبيان معرفة خواص تراكيب الكلام؛ لكن ليس هذا جيدا؛ لأنه استعمال مجاز فى الحد لم تقم عليه قرينة واضحة، ولذلك أخذ ابن مالك فى روض الأذهان هذا الحد، وأبدل لفظ المعرفة بالتتبع. قال بعضهم: المراد بالتتبع انتقال الذهن فيكون حدا للعلم، وفيه نظر؛ فإن الانتقال أيضا ليس علما، وسؤال الدور لا يرد فلو ورد لورد مثله على المصنف فى حد الفصاحة والبلاغة؛ بل الجواب عن هذا الحد هو الجواب عن المصنف كما سبق، وهو أن بلاغة الكلام، غير بلاغة المتكلم. فلا يتوقف العلم بالبليغ المتكلم، على العلم ببلاغة الكلام، والتحديد إنما هو واقع فى بلاغة الكلام فلا يمتنع أخذ البليغ فى الحد. ثم هذا السؤال إنما يرد على هذا الحد، وإن كان حد الفصاحة لا البلاغة؛ لأن الفصاحة جزء من البلاغة فلا يذكر فى حدها كلمة مشتقة من البلاغة التى هى مركبة من الفصاحة وغيرها، وإنما يجئ الإيراد على السكاكى والمصنف من جهة اشتمال الحد على لفظ مشترك، أو مجاز، وذلك نقص فى الحدود كما تقرر فى علم المنطق إلا أن يجاب عن هذا الحد وعن الذى قبله: أن هذا ليس بحد حقيقى، أو يقال: يجوز استعمال المشترك والمجاز فى الحد، إذا دل على معناهما دليل كما ذكره الغزالى فى المستصفى، وغيره، وأورد عليه أيضا: أن قوله وغيره مبهم فلا يجوز استعماله فى الحد، وجوابه: أن مبهم اللفظ علم بقرينة ذكر الاستحسان أن المراد الاستهجان، ثم عليه أن غيره محمول على الخواص المستهجنة، وهى لا تلحق بتراكيب البلغاء والحد دال على أنها تلحقها، وأجيب عنه بأن الاستهجان قد يلحق تراكيب البلغاء، وأنه أمر نفسى فقد يكون التركيب (¬1) مستحسنا مستهجنا باعتبارين، وبأن الاستهجان، وإن لم يلحق البليغ فبواسطة الاستحسان يعرف مقابله، وهو الاستهجان. لا يقال: إن لفظ البلغاء لم يصرح به فلا دور؛ لأنه مطوى كالمنطوق به. وقوله: (يطابق) يصح أن يقرأ بكسر الباء والضمير ¬

_ (¬1) فى الأصل:" التراكيب" بصيغة الجمع، والصواب ما أثبتناه، وهو ظاهر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للفظ، وفى بها للأحوال، ويجوز أن يقرأ الباء بالفتح. أى يطابق بها. بقى على المصنف سؤال، رأيته بخط الوالد، وهو أن التعريف: إما بذكر جنس المعرف وفصله، أو بذكر فصله، أو بخاصته مع الجنس، أو دونه، أو بشرح اسمه، ويقصد بشرح الاسم معرفة المذكور، وبغيره تصور الحقيقة. والتعريف الذى ذكره ليس فيه تعريف الحقيقة، ولا مدلول الاسم لكن ما ينشأ عن تلك الحقيقة مع بقاء الحقيقة على جهالتها، فالعلم فى كلامه مجهول، ولو كان المعرفة به معلوما. فإن ذلك لا ينفى جهالته فإن أراد أن العلم: المعرفة، كان خلاف مذهب القوم. وإن أراد أنه علم بمعلوم يحصل به المعرفة، لم يحصل تعريف ذلك المعلوم الكلى. ومثل هذا السؤال وارد على ابن الحاجب فى حده التصريف بقوله: (علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم) وقول ابن سينا قبله: (الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان) وكذلك قول ابن عصفور: (النحو علم مستخرج) فإنه لم يعرف العلم المستخرج، بل ذكر ما هو مستخرج منه وما هو مستخرج، وإذا أردنا تصحيح كلامهم لم نجعل ذلك تعريفا، بل إخبارا بما يحصل بهذا العلم من النفع من معرفة تلك الأشياء. (تنبيه): قال بعضهم: قد يعرف الشئ بإحدى العلل الأربع: إما بالعلة المادية، كما يقال: الكوز إناء خزفى. أو الصورية: كقولنا: الكوز إناء شكله كذا أو الفاعلية، كقولنا: إناء يصنعه الخزاف، أو الغائية كقولنا: إناء يشرب فيه الماء، والأحسن فى ذلك ما أشير فيها إلى علله الأربع، وحد السكاكى للمعانى مشتمل على الأربع؛ لأن التتبع وهو المعرفة إشارة إلى الفاعلية أعنى العارف. وخواص تراكيب الكلام إشارة إلى المادية. وفى الإفادة إشارة إلى الصورية، وليحترز إشارة إلى الغائية. ونظيره تعريف علم البيان بأنه: معرفة إيراد المعنى الواحد فى طرق مختلفة ونظيره حد النظر بأنه تركيب أمور حاصلة فى الذهن يتوصل إلى تحصيل ما ليس حاصلا، فأشير بالأمور للعلة المادية، وبالترتيب إلى الصورية، وبالمرتب المدلول عليه بلفظ الترتيب إلى الفاعلية، وبالتوصل إلى الغائية، ونظيره تعريف الطب: بأنه علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح، ويزول عنها؛ لتحفظ الصحة، ويسترد زائله، فيعرف إشارة إلى الفاعلية وهى العارف، وأحوال إشارة إلى المادية، ومن جهة هى الصورية، ولتحفظ هذه الغائية. (قلت) ولا شك أن التعريف بالعلة المادية واضح؛ لأنه تعريف بالذاتيات

أبواب علم المعانى

وينحصر فى ثمانية أبواب: 1 - أحوال الإسناد الخبرىّ. 2 - أحوال المسند إليه. 3 - أحوال المسند. 4 - أحوال متعلّقات الفعل. 5 - القصر. 6 - الإنشاء. 7 - الفصل والوصل. 8 - الإيجاز والإطناب والمساواة. لأنّ الكلام إمّا خبر، وإما إنشاء، لأنه: إن كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه: فخبر، وإلا: فإنشاء. والخبر: لا بدّ له من مسند إليه، ومسند، وإسناد. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما بالعلة الغائية والفاعلية والصورية فكيف يمكن؟ إلا إذا فرض أن ذلك الفاعل وتلك الغاية وتلك الصورة خاصة، لازمة، غير موجودة بغير المحدود؛ فيكون ذلك تعريفا رسميا واعلم أن الترمذى قال: إن علم العرب إنما خرج بقوله: (ليحترز بها ... إلخ)، لأن علمهم بطبعهم، وكل ما يكون كذلك لا يكون لغرض؛ لأن الأغراض إنما تكون فى الأفعال الاختيارية؛ لا فى الأفعال التى بسبب الطبيعة. وفيه نظر؛ لأن الأفعال التى لا لغرض هى أفعال الطبيعة المذكورة فى علم الحكمة، وهى مبدأ الأفعال الذاتية للأجساد، من غير شعور؛ كالقوة للحجر. والمراد بالطبيعة هنا: هى الفطرة التى جبلت العرب عليها؛ من التمكن من الكلام، من غير احتياج إلى تفكر وتدقيق نظر وتعلم. أبواب علم المعانى: ص: (وينحصر ... إلخ). (ش): عبارة الإيضاح (وينحصر المقصود منه) وهما متقاربتان فى المعنى، وهذا العلم ينحصر فى ثمانية أبواب. قالوا: ودليل الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء، لما سيأتى، والخبر لا بد له من إسناد، ومسند، ومسند إليه؛ فهذه ثلاثة أبواب. والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا مثل: (ضرب)، أو ما فى معناه؛ كاسم الفاعل، كقولك: (أضارب زيد) وهذا الباب الرابع. ثم كل من التعلق والإسناد إما بقصر أو بغير قصر؛ وهذا الخامس. والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فالثانية إما معطوفة على الأولى، أو غير معطوفة، وهما الفصل والوصل فهذا الباب السابع. ثم لفظ الكلام البليغ إما زائد على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصل المراد لفائدة أو لا ويدخل قوله (أو لا) قسمان: الناقص والمساوى، وهذا الثامن. فانحصر فى ثمانية أبواب على ما سبق، وقوله (ينحصر) عائد إلى العلم، وانحصاره فى ذلك لا يصح الاستدلال عليه بغير الاستقراء، وإنما ذكرت التقسيم السابق جريا على عادتهم، ثم يحتمل أن يكون من حصر الكل فى أجزائه بأن يكون علم (¬1) البيان عبارة عن مجموع هذه الأبواب، واحتمل أن يكون من حصر الكلى فى جزئياته بأن يكون من علم بابا منها صدق عليه أنه علم المعانى؛ والظاهر الأول. بقى هناك إشكال؛ وهو أن حصر الكل فى أجزائه لا يمكن؛ لأن الحصر جعل الشئ فى محل محيط به؛ فالمحيط حاصر، والمحاط محصور مظروف، وشأن الكل مع أجزائه على العكس؛ لأن الكل محيط بالأجزاء من حيث المعنى، فالأجزاء منحصرة فى الكل، فكيف يجعل الكل محصورا فيها؟ وهذا بخلاف التقسيم؛ فإن الكل يقسم إلى أجزائه كما يقسم الكلى إلى جزئياته، وقد قررنا هذا البحث فى أول شرح المختصر. وقد أورد على الحصر أنه يخرج عنه الاعتبارات الراجعة إلى الخبر نفسه، من حيث هو هو؛ فإن المجموع المركب مغاير لكل من الإسناد والمسند والمسند إليه، وأجيب بأن الاعتبارات الراجعة إليه هى الراجعة إلى الإسناد؛ لأنه جزء خبر يستدعى جميع الأجزاء، وفيه نظر؛ لجواز أن يختص المجموع بحال لا تكون لشئ من أجزائه. ثم لو اعتبرنا ذلك لكان ذكر أحوال الإسناد مغنيا عن ذكر أحوال طرفيه، ثم من أحوال الخبر استعماله بمعنى الإنشاء، وليس ذلك شيئا من الأبواب الثلاثة وقوله: (أحوال الإسناد ... إلخ) لا يصح أن يقرأ بالجر بدلا مما قبله، ولا بالرفع على القطع بتقدير هى؛ لأن هذه المذكورات ليست الأبواب؛ لأن أحوال الإسناد - مثلا - ليست بابا كما أن قولنا: الطهارة والصلاة والزكاة معان فى أنفسها، ليست باب الطهارة والصلاة والزكاة، فلا يصح أن يقال: الباب أحوال الإسناد، فتعين حينئذ أن يقال: أن يقدر مضاف محذوف، أو يقدر له ما يناسبه، والأحسن أن يقدر: تراجمها، إلا أن يقال: إن أبواب العلم قطع متفرقة منه، فيكون أحوال الإسناد مثلا بابا. وقدم المسند إليه على المسند تقديما للموضوع على المحمول. وقوله: (والإسناد الخبرى) يحترز عن الإنشائى، فإنه مذكور فى باب الإنشاء؛ لأنه إنما ¬

_ (¬1) قوله: البيان، هكذا فى الأصل، والمناسب: المعانى كما هو ظاهر. كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تكلم هاهنا فى الإسناد الدائر بين المبتدأ والخبر، مثل (أنت طالق). (قلت) هما نسبتان فليتأمل، إحداهما دائرة بين المبتدأ والخبر، والأخرى نسبة معنوية مدلول عليها بقوله - مثلا -: (طالق)، وحمل طالق على أنت غير مدلول طالق؛ فإن قلت: فقد ذكر فى أحوال الإسناد الخبرى الإنشاء؛ كقوله تعالى حكاية عن فرعون يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً (¬1) وكذلك السكاكى، قلت: على سبيل الاستطراد وليس مقصودا له. قوله: (وأحوال المسند إليه) إنما لم يقيد المسند إليه، ولا المسند بكونه خبريا؛ لأن أحوال كل منهما فى الإنشاء كأحوالهما فى الخبر غالبا، بخلاف الإسناد نفسه، فإن أحواله إذا كان خبريا تغلب فيها المخالفة لأحواله إذا كان إنشائيا. ثم ليعلم أن المراد بأحوال المسند إليه وأحوال المسند أحوالهما من حيث كونهما مسندا إليه ومسندا وإلا فكل ما سيأتى من علم البيان - من استعارة وكناية وغيرهما - من أحوال المسند إليه والمسند ولكنها ليست من أحواله، من حيث كونهما كذلك، وإنما كرر لفظ الأحوال فى الثلاثة؛ لأنه لو قال: والمسند إليه فإما أن يكون من غير تقدير (أحوال) مضافة محذوفة، أو لا؛ فإن كان من غير تقديرها لزم أن يكون الباب فى نفس المسند إليه لا فى أحواله، وذلك وظيفة النحوى، ثم لو أراد ذلك لقال الإسناد ولم يقل أحوال الإسناد، وإن كان مع تقدير المضاف المحذوف أوهم العطف على الإسناد، ولا يصح؛ لأنه يلزم أن تكون أحوال الإسناد والمسند إليه واحدة. وقوله: القصر هو وما بعده معطوف على أحوال فى رفعه أو جره ولا يصح عطفه بالجر على إسناد، ولا على متعلقات، ولا على الفعل؛ لأن المصنف عند ذكره يقول: القصر ويقول: الإنشاء ولا يقول: أحوال القصر، كما سيفعل فى أحوال الإسناد. ويدل عليه أيضا ذكره الأحوال فى الثلاثة دون ما بعدها، ولو أراد هذا لكررها فى الجميع، أو تركها فى غير الأول، وأيضا القصر نفسه حال من أحوال اللفظ، فلم يحتج أن يقول حال القصر وكذلك ما بعده. وقوله: (وأحوال متعلقات الفعل) هى بكسر اللام؛ لأن المفعول متعلق بالفعل لا متعلقه، وهذا من جهة اللفظ والتركيب، أما من جهة التعلق فالفعل متعلق بمفعوله، ¬

_ (¬1) سورة غافر: 36.

والمسند: قد يكون له متعلّقات إذا كان فعلا أو فى معناه. وكلّ من الإسناد والتعلّق: إما بقصر أو بغير قصر. وكلّ جملة قرنت بأخرى: إمّا معطوفة عليها أو غير معطوفة. والكلام البليغ: إمّا زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد ... ـــــــــــــــــــــــــــــ والمفعول متعلقه، لا أعنى من حيث المعلولية؛ بل من حيث الذات، فمن هذه الحيثية يصح أن يقرأ (متعلقات) بالفتح، ويعنى الفعل وما فى معناه، كما ذكره بعد، وفى الإيضاح إذا كان فعلا أو متصلا به أو ما فى معناه فقوله: (أو ما فى معناه) يريد كاسم الفاعل، كما سبق، وقوله: (أو متصلا بالفعل) لا أدرى ما يريد به؛ إلا أن يريد عمل المصدر، وسماه متصلا بالفعل؛ لأنه أشد تعلقا به؛ لأنه جزؤه، فلينظر، إلا أن الزمخشرى فى المفصل سمى اسم الفاعل مثلا بالفعل، فعلى هذا يحتمل أن يراد بما هو فى معنى الفعل المصدر العامل لمشاركة الفعل له فى معناه، الذى هو الحدث، ويكون اسم الفاعل متصلا لكونه فرع الفعل، بخلاف المصدر، فإنه أصله. لكن الصحيح أن كلا من الفعل واسم الفاعل مشتق من المصدر. قوله: (والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو فى معناه) ظاهره أن الفعل لا يلزم أن يكون له متعلقات، وليس كذلك؛ فإن لكل فعل وما أشبهه متعلقات من المفعول به إن كان متعديا، ومن مفعوله المطلق وظرفه؛ إلا أنها تارة تذكر، وتارة تحذف، كما ينبئ عنه قوله فى الكلام على متعلقات الفعل، أما حذف المفعول به، وأما ذكره فالفعل المتعدى له مفعول به يتعلق به حذف أم ذكر، وكل فعل فله مصدر، وظرف زمان، ومكان، يذكر تارة، ويترك أخرى، وإن كنا نسمى ترك المفعول به حذفا، ولا نسمى ترك المصدر والظرف - مثلا - حذفا، على بحث سنذكره فى باب الإيجاز - إن شاء الله تعالى - ثم قول المصنف (أحوال متعلقات الفعل) يقتضى أن لكل فعل متعلقات؛ فإن قلت: إنما دل كلامه على أن المسند قد يكون له متعلقات، وقد لا يكون، فالحالة التى يكون له فيها متعلقات هى إذا كان فعلا، أو فى معناه، والحالة التى لا يكون له فيها متعلقات إذا كان اسما نحو: (زيد أخوك)! قلت: لا يصح ذلك؛ لأنك إن جعلت (إذا) شرطية فتقديره: إذا كان فعلا فقد يكون له متعلقات؛ لأن الجواب طبق مفسره السابق، ولا يصح أن يراد المتعلقات المذكورة، وقد لا يكون للفعل متعلقات مذكورة؛ لأنه إنما يتكلم على المتعلقات مطلقا؛ لأنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سيقول: أما حذفه وأما ذكره، وإن جعلتها ظرفية ولفظ يكون عاملا فيها - فمعناه قد يكون له فى هذا الوقت متعلقات، وقد لا يكون، فصار كقولك (قد يقدم زيد غدا) فلا يصح ذلك إلا بتقدير عامل فى (إذا) التقدير ذلك إذا كان فعلا، أو فى معناه. وقوله: (والكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد) دخل فى غير الزائد الناقص والمساوى، والمراد: أو غير زائد لفائدة؛ وإنما قدم الخبر لأنه أكثر بحثا؛ ولأن كثيرا من الإنشاء فرع عن الخبر، كالجملة التى يدخل عليها ليت، ولعل، والاستفهام، فذكر المصنف الإسناد والمسند إليه والمسند ثم المتعلقات ثم القصر الذى يعم الإسناد والتعلق ثم ذكر الإنشاء وكان ينبغى تأخير القصر عنه؛ لأن القصر يدخل فى الإنشاء كما يدخل فى الخبر. ثم ذكر الفصل والوصل؛ لأن اعتبار العطف بعد تكميل أجزاء الجملة، ثم ذكر الإيجاز، والإطناب، والمساواة؛ لأنها تشمل جميع ما سبق، وذكر المصنف حصر الكلام فى الخبر والإنشاء، وهو كذلك؛ إلا أن منهم من يخص الإنشاء بما لا طلب فيه، ويقسمه إلى: خبر، وطلب، وإنشاء، ومنهم من يجعله ثلاثة أقسام: (خبر) و (إنشاء) وهو ما دل على الطلب دلالة أولية، (وتنبيه)، ويدخل فيه الاستفهام، والتمنى، والترجى، والقسم، والنداء، وهو اصطلاح الإمام فخر الدين. (قلت): ومنهم من يجعل الكلام خبرا وطلبا، وهو ابن مالك فى الكافية، ومنهم من يربع الأقسام فيقول: خبر واستخبار وطلب وإنشاء. واستدل المصنف على الحصر بأن الكلام إما يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا يكون له خارج، فالأول والثانى: الخبر، والثالث: الإنشاء وقد يقال: يرد على ظاهر عبارتهم الإخبار عن المستقبلات نحو (سيقوم زيد)؛ فإنه عند النطق به ليس له خارج يطابقه، أو لا يطابقه، فلا يمكن وصفه بذلك، ولا بصدق، ولا بكذب، وعند وجود المخبر به ليس الخبر موجودا حتى نصفه بصدق، ولا شك أن الإخبار عن المستقبلات يوصف بالصدق والكذب، قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (¬1) فلهذا ينبغى أن يقال: إن كان محكوما فيه بنسبة خارجية فهو الخبر، كما فعل ابن الحاجب، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا فرق فى ورود ذلك عليهم، بين أن يكون المخبر به محقق الوقوع، مثل (ستطلع الشمس غدا)، أو لا، فليؤول كلامهم على أن مورد التقسيم ما له خارج بالقوة، أو الفعل، وقيل: الكلام لا يخلو: إما أن يمكن أن يحصل للمخاطب من غير أن يستفاد من المتكلم، مثل (زيد منطلق)؛ فإنه يمكن علمه بالمشاهدة، أو لا يمكن أن يحصل إلا بالاستفادة من المتكلم نحو (اضرب أو لا تضرب فالأول الخبر، والثانى الإنشاء، وهو فاسد؛ لأن الكلام ليس هو الذى يقال فيه: يمكن حصوله، أو لا؛ بل النسبة التى تضمنها الكلام هى المنقسمة لذلك. وأيضا يرد عليه نحو (أردت القيام) فإنها لا تعلم إلا من المتكلم فإن قلت يرد على عبارة المصنف أيضا؛ فإنه ليس له خارج، قلت: المعنى بالخارج ما كان خارجا عن كلام النفس، كما ذكره ابن الحاجب وغيره، ويمكن الجواب بأن المراد الإمكان العقلى، ونحو أردت القيام يمكن عقلا أن يطلع عليه من غير استفادته من المتكلم، ويمكن عادة بالقرائن، وخلق العلم الضرورى، وغير ذلك؛ بخلاف (اضرب زيدا). والظاهر أن مرادهم إما أن يحصل فى الوجود بالكلام، أو بغيره، فالأول الإنشاء، والثانى الخبر، وقد خرج من تقسيم المصنف حد الإنشاء، والخبر على رأيه فالإنشاء ما لم يكن لنسبته خارج تطابقه، والخبر ما لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه. وقد اختلف الناس فى حد الخبر؛ فقيل: لا يحد لعسره، وقيل: لأنه ضرورى؛ لأن قولنا: (زيد موجود) - مثلا - ضرورى؛ وإذا كان الأخص ضروريا فالأعم كذلك؛ لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة، وأجيب بأن الحصول غير التصور، ولنا فى هذين الوجهين مباحث ذكرناها فى شرح المختصر، وذهب الأكثرون إلى أنه يحد؛ فقال القاضى أبو بكر، والمعتزلة: الخبر الكلام الذى يدخله الصدق والكذب، فأورد عليه أن يستلزم اجتماعهما فى كل خبر، وخبر الله تعالى لا يكون إلا صادقا، وأن كل خبر لا يجتمع عليه الصدق والكذب، وأجاب عنه القاضى بأنه صح دخوله لغة، وأورد عليه أنه دور؛ لأن الصدق هو الموافق للخبر، والكذب نقيضه، فتعريفه به دور، وقيل: الذى يدخله التصديق أو التكذيب، فورد عليه سؤال الدور، واستعمال أو فى الحدود. وجواب الثانى أن الترديد فى أقسام الحدود لا فى الحد، وقال السكاكى: إن صاحب هذا الحد ما زاد على أن وسع الدائرة، قلت: بل زاد، لأنه سلم عن السؤال الأول، وقال أبو الحسين البصرى: كلام يفيد بنفسه نسبة،

تنبيه صدق الخبر: مطابقته للواقع، وكذبه: عدمها. وقيل: مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطأ، وعدمها (¬1)؛ بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬2): ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: بنفسه ليخرج نحو قائم؛ فإن الكلمة عنده كلام، وهى تفيد نسبة مع الموضوع، وأورد عليه نحو قم فإنه يدخل فى الحد؛ لأن القيام منسوب؛ والطلب منسوب، وقيل: الكلام المفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور، نفيا أو إثباتا، بعد أن قال هذا القائل: إن الكلام المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، فورد عليه نحو قولنا (غلام زيد) فإنه كلام عنده، وهو يقتضى إضافة أمر إلى أمر، وهذا القريب من حد أبى الحسين. وقيل: القول المقتضى بصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفى أو الإثبات، وأورد عليه السكاكى نحو قولنا ما لا يعلم بوجه من الوجوه لا يثبت، ولا ينفى، فإنه يلزم أن لا يكون خبرا، قلت: وجوابه أن غير المعلوم بوجه من الوجوه معلوم ببعض الوجوه، وهو ما وقع به جعله محكوما عليه فى هذه القضية، وأورد عليه أيضا ما ورد على الأول، فيلزم أن يكون خبرا وليس كذلك. ص: (تنبيه صدق الخبر إلى آخره). (ش): اعترض الخطيبى عليه بأن التنبيه فى الاصطلاح: ما اشتمل على حكم يكفى فى إثباته تجريد المسند والمسند إليه من اللواحق، أو النظر فيما سبقه من الكلام، وهنا لم يسبقه شئ يكون النظر فيه كافيا فى إثبات الأحكام التى ذكرها، وليس جميع ما ذكر يكفى فى إثباته تجريد المسندين فيحتمل أن يشير بالتنبيه إلى معناه اللغوى (قلت) وقوله: إن التنبيه فى الاصطلاح ذلك إن أراد به اصطلاح أهل المعانى فممنوع، وإن أراد غيرهم فلا علينا إذا لم نسلكه، ثم الذى اصطلح على ذلك - كما قال الإمام فخر الدين - هو ابن سينا فى الإشارات، ولعل الخطيبى إنما أخذ هذا من كلامه. وقوله: صدق الخبر مطابقته للواقع؛ أى فى الخارج، وكذبه عدمها؛ أى عدم مطابقته للواقع فى الخارج، فعلم بذلك أن الخبر ينحصر فى الصادق والكاذب، ولا واسطة بينهما، وهذا مذهب الجمهور، وفى المسألة أقوال: ¬

_ (¬1) أى وكذب الخبر: عدمها. (¬2) المنافقون: 1.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدها: أنه لا واسطة بينهما أيضا، ولكن صدق الخبر مطابقته للخارج، مع اعتقاد المخبر ذلك، فإن لم تكن فكاذب، فدخل فى الكذب ما كان غير مطابق، والمتكلم يعتقد عدم المطابقة، أو غير مطابق، وهو يعتقد المطابقة أو غير مطابق وهو لا يعتقد شيئا، أو مطابقا وهو يعتقد عدم المطابقة، أو مطابقا وهو لا يعتقد لشك، أو غيره، وهذا القول هو الذى أراد ابن الحاجب بقوله. وقيل: إن كان معتقدا فصدق، وإلا فكذب، على ما فهم الشراح كلهم، وإن كان ظاهر عبارته فيه لا يقتضى اشتراط المطابقة. الثانى: أن الصدق مطابقة الخبر لاعتقاد المخبر، ولو كان خطأ، أى ولو كان غير مطابق لما فى الخارج، وكذبه عدمها ولو صوابا، وهذه العبارة ظاهرة فى أنه لا واسطة بينهما أيضا؛ لأنه يدخل فى قوله: عدمها الخبر الذى لا اعتقاد معه، أو معه اعتقاد العدم. وكلام المصنف فى الإيضاح أظهر فى عدم الواسطة على هذا القول، وعلى هذا الخبر الشاك كذب، ولم أر من صرح بهذا القول غير المصنف، وهو ظاهر عبارة ابن الحاجب؛ غير أن الشراح حملوه على غيرها كما سبق. الثالث: - وهو الذى نسبه المصنف للجاحظ - وقوله: الجاحظ أى قال الجاحظ: إن صدق الخبر مطابقته؛ أى للخارج، مع اعتقاد مطابقته وعدمها، أى: وكذبه عدم مطابقته، مع اعتقاد المخبر عدم مطابقته، وعبارة المصنف لا تعطى ذلك، بل تخالفه؛ لأنه قال: وعدمها معه، وظاهره أنه عدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وليس هذا المراد؛ بل المراد مع اعتقاد ذلك، وهو عدم المطابقة. قال: وغيرهما ليس صدقا ولا كذبا، فدخل فيه ما إذا كان مطابقا وهو غير معتقد لشئ أو مطابقا وهو يعتقد عدم المطابقة، أو غير مطابق وهو يعتقد المطابقة، أو غير مطابق ولا يعتقد شيئا، فالأربعة لا صدق ولا كذب. الرابع: أن الصدق المطابقة للخارج والاعتقاد معا، فإن فقدا لم يكن صدقا فقط؛ بل قد لا يكون صدقا، وقد يوصف بالصدق والكذب بنظرين مختلفين، إذا كان مطابقا للخارج غير مطابق للاعتقاد، مثل قول الكفار: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (¬1) قاله الراغب. ¬

_ (¬1) سورة المنافقون: 1.

وردّ: بأن المعنى: لكاذبون فى الشهادة، أو فى تسميتها، أو فى المشهود به فى زعمهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامس: وهو الذى قدمه المصنف - وهو الصحيح وعليه الجمهور - أن الصدق المطابقة للخارج، سواء كان معتقدا أم لا، والكذب عدمها، وقد علم من هذه الأقوال أن قولنا: الخبر إما صدق أو كذب منفصلة حقيقة على قول، ومانعة الخلو فقط على قول، ومانعة الجمع فقط على قول، وقد أهمل المصنف دليل المختار لكثرة أدلته؛ فمنها الإجماع على أن من قال: محمد ليس بنبى كاذب، ومن قال: الإسلام حق صادق، وبقول النبى لأبى سفيان:" كذب سعد" (¬1) حين قال سعد لأبى سفيان: اليوم تستحل الكعبة، وقول ابن عباس:" كذب نوف" (¬2) حين قال نوف البكالى: ليس صاحب الخضر موسى بنى إسرائيل. (قلت): وفيه رد على من جعل الصدق تابعا للاعتقاد فقط أولهما، وبقول بينهما واسطة، ولا رد فيه على من جعله تابعا لهما معا، ويدل له أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم:" من كذب علىّ متعمدا" (¬3) لدلالته على انقسام الكذب إلى متعمد وغيره، وقد استنبطت من القرآن الكريم دليلا أصرح من الجميع، وهو قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (¬4) وقد ذكر المصنف شبهة القائل بأن العبرة بالاعتقاد فقط، ولا نظر إلى المطابقة الخارجية، وهو قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬5) فلو كانت العبرة بالمطابقة لكانوا صادقين؛ لأنهم يشهدون أنه رسول الله. قال: ورد بثلاثة أمور: أحدها: أن المعنى: لكاذبون فى الشهادة؛ لأنها تتضمن التصديق بالقلب، فهى إخبار عن اعتقادهم، وهو غير موجود، فهو تكذيب لقولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (¬6) بالنسبة إلى ما تضمنه الاعتقاد القلبى، وعلم من تصديرهم بالجملة الاسمية، ومن تصديرها بلفظ الشهادة، ومن التأكيد بإن واللام. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" المغازى"، (7/ 597 - 598)، (ح 4280). (¬2) أخرجه البخارى فى" التفسير"، (8/ 263 - 264)، (ح 4726)، ومسلم (ح 2380). (¬3) أخرجه البخارى فى" أحاديث الأنبياء"، (6/ 572)، (ح 3461). (¬4) سورة النحل: 39. (¬5)، (¬6) سورة المنافقون: 1.

الجاحظ (¬1) مطابقته مع الاعتقاد، وعدمها معه (¬2)، وغيرهما (¬3) ليس بصدق ولا كذب؛ بدليل: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ (¬4)؛ لأن المراد بالثانى غير الكذب؛ لأنه قسيمه، وغير الصدق؛ لأنهم لم يعتقدوه خ خ: وردّ: بأنّ المعنى: أم لم يفتر؟! خ خ؛ فعبّر عنه ب الجنّة خ خ؛ لأنّ المجنون لا افتراء له. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: أنه عائد إلى تسمية ذلك شهادة؛ لأن الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن ذلك حقيقة، وهذا الجواب مخالف للأول فى الصورة لا فى المعنى؛ لأنه يرجع إلى التكذيب فى ادعاء مواطأة القلب اللسان المدلول عليها بنشهد، والأول يرجع إلى مواطأة القلب اللسان المدلول عليها بالجملة الاسمية وإن واللام. فإن قلت: إذا كان ذلك بالنسبة إلى التسمية فقد تجوزوا بقولهم نشهد، والمجاز ليس بكذب! قلت: إنما يكون مجازا حيث قصد إطلاق الشهادة على القول، وهم لم يطلقوا ذلك؛ إنما أرادوا حقيقة الشهادة على سبيل الكذب. الثالث: أن الكذب بالنسبة إلى زعمهم - أى هذا الخبر - وإن كان صادقا لكنه عندهم كاذب، ويخدش فى هذا أمران: أحدهما: أن فيه تجوزا لا يخفى. والثانى: أن المنافقين كانوا يعلمون نبوة النبى إنما ينكرونها بألسنتهم، وهذا وارد على الأوجه الثلاثة. وإذا علم أن هذه الشبهة تصلح أن تكون من هذا القول، كما فعل المصنف، وأن تكون من القائل أن الصدق راجع إلى الاعتقاد والمطابقة معا، ولا واسطة بينهما، كما فعل ابن الحاجب، على ما نسبه إليه الشراح؛ وإن كان ظاهر عبارته وعبارة المصنف واحدا، ولا أدرى من أين للشارحين حمله على ما حملوه عليه. وقوله: (فى زعمهم) أى اعتقادهم الفاسد، والزعم فى الغالب قول قام الدليل على بطلانه، أو لم يقم الدليل عليه، وسيأتى تحقيق معناه فى باب الفصل والوصل. وذكر المصنف شبهة الجاحظ وهى قوله تعالى: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ فإنهم حصروا دعوى النبى الرسالة فى الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى ¬

_ (¬1) أى: قال الجاحظ. (¬2) أى مع اعتقاد أنه غير مطابق. (¬3) أى غير هذين القسمين. (¬4) سورة سبأ: 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه لا يخلو الحال عن أحدهما، وليس الإخبار حال الجنون كذبا؛ لأنه جعل قسيمه، ولا صدقا؛ لأنهم لا يعتقدونه، فثبت الواسطة، قلت: وهذا لا يدل لهذا القول فقط، بل يدل لأن المطابقة ليست هى معيار الصدق، ووراء هذا أمران: إما اشتراط الأمرين وثبوت الواسطة كما ذكر، أو اشتراط الاعتقاد فقط فى كل من الطرفين، ليكون خبر غير المعتقد واسطة؛ لكن هذا القول لم يثبت عن أحد؛ إنما هو احتمال ذكره الخطيبى فى كلام المصنف. وأجاب المصنف بأن المعنى: أفترى أم لم يفتر، وعبر عن الثانى بالجنة؛ لأن المجنون لا افتراء له، وحاصله أن الافتراء ليس مطلق الكذب؛ بل الكذب عن عمد، ويكون خبر المجنون كذبا لا عمد فيه، أو لا يكون صدقا ولا كذبا، لا باعتبار أن ثم واسطة، بل باعتبار أن ما ينطق به ليس مقصودا، فليس بكلام. وهذان جوابان ذكرهما ابن الحاجب فى المختصر، ولك فيهما طريقان: أحدهما: أن يكون الجنون أريد به لازمه مجازا، والثانى: أن يكون أريد معناه كناية، فهذه أربعة أجوبة. واستدل للجاحظ أيضا بقول عائشة - رضى الله عنها -:" ما كذب ولكنه وهم" (¬1) وأجاب بتأويل ما كذب عمدا، وهو مجاز تخصيص. واعلم أن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬2) قد يرد على الجاحظ؛ فإنه تعالى سمى قولهم كذبا، مع أنه لم تحصل عدم المطابقة، بل عدم الاعتقاد؛ لكن لا يرد عليه على الجواب السابق؛ لأنهم أخبروا أنهم معتقدون لذلك، وإخبارهم غير مطابق، ولا هم معتقدون. (تنبيه) قد يطلق الكذب على عدم المطابقة والصدق فى المطابقة فى غير الخبر، كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" وكذب بطن أخيك" (¬3)، وقول الأنصار:" إما لصدق عند اللقاء"، وقوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ (¬4)، وقال تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه مسلم فى" صلاة المسافرين"، (2/ 484) ط. الشعب. (¬2) سورة المنافقون: 1. (¬3) أخرجه البخارى فى" الطب"، (10/ 178)، (ح 5716)، ومسلم (ح 2217). (¬4) سورة الفتح: 27. (¬5) سورة القمر: 55.

(أحوال الإسناد الخبرى)

أحوال الإسناد الخبرىّ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال تعالى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ (¬1)، قال الراغب: يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا كان أم باطنا بالصدق اه. ومنه صدق الظن، وربما وقع الكذب فى عدم المطابقة فى الإنشاء، وذلك فى قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ إلى قوله: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (¬2) أى فى قولهم: وَلا نُكَذِّبَ، وذلك يجوز أن يكون إنشاء؛ لأنه يجوز أن يكون معطوفا على خبر (ليت) كما قاله الزمخشرى، وأجاب عن دخول الكذب فى التمنى: بأنه تضمن معنى العدة، وظاهر عبارته أنه مع ذلك باق على الإنشاء، وسنذكر ذلك فى باب التمنى - إن شاء الله - وقد قيل فى الآية غير ذلك، مما يطول ذكره، وأنشد فى دخول التكذيب فى التمنى: وقد كذبتك نفسك فاكذبنها … لما منّتك تغريرا قطام ومن وقوع التكذيب فى الإنشاء لفظا لكنه خبر فى المعنى قوله تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ إلى وإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (¬3). ص: (أحوال الإسناد الخبرى) (ش): استغنى بقوله فيما سبق أنها ثمانية أبواب عن أن يسمى هذا بابا، وإنما ذكرنا فى هذا الباب ما هو إسناد إنشائى، وهو قوله تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً (¬4)؛ لأنه قد نبه على أن ذلك إنشاء، وذكره على سبيل الاستطراد والإلحاق. فإن قيل: ما باله ذكر الإسناد الخبرى وما يتعلق بالمسند والمسند إليه؛ ولم يذكر الإسناد الإنشائى؛ بل اقتصر على قوله فى آخر باب الإنشاء أن الإنشاء كالخبر فى كثير مما فى الأبواب الخمسة؟ قلت: قد ذكر الخطيبى ما لا طائل تحته، والذى عندى فى ذلك أن حقيقة الإسناد فى الإنشاء كالفرع للإسناد فى الخبر؛ بل الإسناد فى الإنشاء لا يتحقق إلا بتوسع، وذلك لأن الإسناد نسبة دائرة بين المنتسبين، وهى تنقسم إلى طلب وغيره، فالطلب مثل: اضرب، المسند فيه هو الضرب، والمسند إليه المخاطب، والمتحقق الآن ¬

_ (¬1) سورة يونس: 2. (¬2) سورة الأنعام: 27 - 28. (¬3) سورة العنكبوت: 12. (¬4) سورة غافر: 36.

لا شك أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب: إمّا الحكم، أو كونه عالما به؛ ويسمّى الأول: فائدة الخبر. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو طلب هذا المسند، أما إسناد الضرب حقيقة فلم يوجد. فالمتحقق إنما هو طلب المسند، وكلامنا إنما هو فى الإسناد المعنوى، أما الإسناد الذى اصطلح عليه النحاة فهو تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه، فهو منطبق على ما نحن فيه، وأما غير الطلب فالترجى والتمنى كقولك: (لعل زيدا قائم)، (ليت زيدا قائم)، المسند فيه هو قائم، والكلام فيه كالكلام فيما قبله، والاستفهام كذلك. وأما نحو: (أقسمت) و (أنادى) المقدرين مع و (الله) و (يا زيد) و (طلقت) مثلا، فالإسناد فيها وقع من المتكلم، ومن شرط الإسناد تقدم المنتسبين، والطلاق أو القسم أو النداء المسند - مثلا - لم يكن له تحقق قبل نطقك به، وإنما صح إسناده لتقدم طرفى الإسناد فى العقل، والإسناد الحقيقى لا بد له من خارجى حقيقى يستعقب الإسناد. وفى ذلك ما يشرح صدرك لتخلص الكلام فى الإسناد الخبرى، فطرح التبويب للإسناد الإنشائى، والذى يحتاج إليه فى الإسناد الإنشائى يعلم من أصله وهو الإسناد الخبرى؛ فلذلك قال المصنف: إن كثيرا من الإسناد الخبرى، ومن أبوابه يجرى فى الإنشاء. فإن قلت: هلا قدم الكلام على المسند والمسند إليه على الإسناد وهما متقدمان! قلت: طرفا الإسناد من حيث هما طرفاه لا يتصور تقدمهما عليه، ولا تأخرهما عنه، فلما كانا معه فى زمن واحد كان الإسناد أجدر بالتقديم؛ لأنه محل الفائدة، ولأنه مدار الصدق والكذب المتقدمين عليه، ولأنهما مشتقان عليه من الإسناد. وقولهم: النسبة تستدعى تقدم منتسبيها صحيح باعتبار تقدم ذاتيهما، لا أنهما يتقدمان من حيث النسبة، فإن حقيقة الضارب والمضروب لا تتقدم عن الضرب، ولا تتأخر عنه، وبهذا يعلم أن نحو قوله:" من قتل قتيلا" (¬1) حقيقة، وأن ما ذكره من لا أحصيه عددا من الأئمة أنه يسمى قتيلا باعتبار مشارفة القتل - لا تحقيق له، وأن معنى قولهم: اسم الفاعل واسم المفعول حقيقة فى الحال إنما يعنون به حال التلبس بالحدث. لا حال النطق فليتأمل والله أعلم. ص: (لا شك أن قصد المخبر بخبره إلخ). (ش): تقدم على شرح كلام المصنف قواعد: ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" المغازى"، (7/ 630)، (ح 4321)، ومسلم (ح 1751).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداهن: أن المقصود من الكلام إنما هو إفادة المعانى، فإنه إنما وضع للإفهام وليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها، بل ولا يجوز؛ لأنها تكون حينئذ معلومة فيلزم الدور. هذا ما ذكره فى المحصول، وخالفه غيره محتجا بأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره، وفيه نظر؛ لأن الحصول دون التصور ليس كافيا فى توجه القصد إلى الوضع للمعنى، ولا يرد الدور الذى قاله الإمام فى المركبات؛ لأن الوضع لها إن كانت موضوعة لا يتوقف على العلم بها. الثانية: مدلول الخبر الحكم بالنسبة لا ثبوتها. قال الإمام فخر الدين: وعلل ذلك بقوله: وإلا لم يكن الكذب خبرا، واعترض عليه بأنه يوهم أن يكون الكذب متحققا، ولا نصفه بالخبرية، والواقع على هذا التقدير انتفاء الكذب، وتوهم جماعة أن هذا انقلب على الإمام وغيره فى التحصيل فقال: وإن لم يكن الخبر كذبا، وهى أيضا عبارة فاسدة، لما توهم من أن كل خبر كذب، والصواب فى العبارة أن تقول: وإلا لم يكن شئ من الخبر كذبا. هذا ما ذكره الإمام؛ وفيما قاله نظر؛ أما الدليل الذى ذكره فقد قال: لا يلزم لأن اللفظ دليل على وجود النسبة، وقد لا تكون موجودة؛ لأن الخبر دليل بمعنى المعرف، وقد تتأخر المعرفة عن المعرف لأمر ما ثم ما قاله قد يعكس، فيقال: لو كان مدلول النسبة الحكم لم يكن خبر كذبا؛ لأن كل من قال: (قام زيد) فقد حكم بقيامه فيكون خبره مطابقا، سواء كان فى الخارج أم لا، ولا سيما والإمام قائل: إن الألفاظ وضعت بإزاء المعانى الذهنية، ثم نقول: لو كان المدلول الحكم بالنسبة لكان الخبر إنشاء، ولما لم يكن له خارج يطابقه، والمسألة متجاذبة وللنظر فيها مجال. الثالثة: مورد الصدق أو الكذب المحكوم به على ما ذكره أهل هذا العلم هو النسبة التى تضمنها الخبر، فإذا قلت: (زيد بن عمرو قائم) فالصدق والكذب راجعان إلى القيام، لا إلى بنوة زيد. وإليه أشار فى المفتاح. قلت: ويرد عليهم ما جاء فى البخارى مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم:" يقال للنصارى يوم القيامة ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد" (¬1). وسنتكلم على هذه الآية فى باب الحال، آخر باب الفصل ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" التوحيد"، (13/ 431)، (ح 7439)، ومسلم (ح 183).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والوصل. وكذلك استدل على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ (¬1)، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ (¬2) والحق أن الدلالة على نسبة المحمول للموضوع بالمطابقة، وعلى غيره بالالتزام وينبغى أن يستثنى من ذلك ما كانت صفة المسند إليه فيه مقصودة بالحكم، بأن يكون المحكوم عليه فى المعنى الهيئة الحاصلة من المسند إليه وصفته، كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" (¬3) فإنه لا يخفى عن الذوق السليم أن المراد أن الذى جمع كرم نفسه وآبائه هو يوسف، وليس المراد الإخبار عن الكريم الذى اتفق له صفة الكرم، كما فى قولك: (زيد العالم قائم). وكذلك الصفات الواقعة فى الحدود، كقولك: الإنسان حيوان ناطق؛ فإن المقصود الصفة والموصوف معا، ولو قصدت الإخبار بالموصوف فقد لفسد الحد. ومن هنا يتنبه لقاعدة كلية، وهى أن الصفات المذكورة فى الحدود لا يجوز أن تعرب أخبارا ثوانى؛ بل يتعين إعرابها صفة، لما يلزم على الأول من استقلال كل خبر بالحد، ومن هنا منع جماعة أن يكون (حلو حامض) خبرين وأوجب الأخفش أن يعرب (حامض) صفة، والجمهور القائلون أن كلا منهما خبر لا يلزمهم القول بمثله فى نحو الإنسان حيوان ناطق؛ لأن (حلو حامض) ضدان، فالعقل يصرف عن توهم أن يكونا مقصودين بالذات، وأن يكون كل منهما قصد معناه، فلا يوقع فى الغلط، بخلاف الإنسان حيوان ناطق، ليس فى اللفظ، ولا العقل إذا كانا خبرين ما يصرف كلا منهما عن الاستقلال. ولأمر آخر. وهو أن الجزء الأول من حلو حامض كالجزء الثانى؛ ليس له حكم بالكلية، حتى نقل عن الفارسى أنه لا يتحمل ضميرا وما شأنه ذلك لا يدخل فى الحدود؛ لأن كل واحد من حيوان وناطق مثلا مقصود وحده. ألا ترى أنك تقول دخل بالجنس كذا، ثم خرج بالفصل الأول كذا، ثم بالفصل الثانى كذا، فقد جعلت لكل معنى مستقلا، وليس ذلك شأن (حلو حامض) فلم يبق إلا أن يكونا خبرين مستقلين؛ فيفسد الحد، أو يكون الثانى صفة وهو المدعى فليتأمل. ثم لا ينبغى أن يؤخذ هذا على إطلاقه بل يقال: مضمون الخبر هو النسبة بما لها من قيود الحكم؛ فإن قولك: ¬

_ (¬1) سورة القصص: 9. (¬2) سورة التحريم: 11. (¬3) الحديث سبق تخريجه.

(زيد ضرب عمرا) لم يحكم فيه بالضرب فقط، بل بضرب على عمرو، حتى لو كان إنما ضرب بكرا كان الخبر كذبا، وإن كان الخبر وهو ضرب زيد صدقا، وكذلك الحال فى نحو: (جاء زيد راكبا) وسيأتى الكلام عليه فى كونه خبرا مقيدا، لا خبرين، وذلك لا ينافى ما قلناه. وكذلك الظرف والمفعول من أجله، فقولك: (ضربته تأديبا) فى معنى خبرين، قال الزمخشرى. فى قوله تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (¬1) إذا لم تجعل اللام زائدة الأمر بالإخلاص والأمر به لكذا شيئان، وإذا اختلفت جهة الشئ وصفاته ينزل منزلة شيئين، فعلم بهذه القاعدة أن ما ذكروه إنما يأتى فى نحو الصفات، فى نحو: (زيد بن عمرو جاء) ونحو: (زيد العالم جاء) وسيأتى تحقيق ذلك عند الكلام على الحال فى آخر باب الفصل والوصل. الرابعة: الإسناد هو الحكم، وهو نسبة أمر إلى أمر بالإثبات أو النفى والمسند إليه المحكوم عليه وهو المسمى عند النحويين مبتدأ، وعند المنطقيين موضوعا وأصغر والمسند المحكوم به وهو المسمى عند النحاة خبرا، وعند المنطقيين محمولا وأكبر. إذا تقررت هذه القواعد عدنا إلى كلام المصنف فقال: لا شك أن قصد المخبر بخبره أحد أمرين إما الحكم، ويعنى به النسبة المحكوم بها من إطلاق المصدر على المفعول مجازا، بدليل قوله، أو كونه عالما به ولتمثيله بعد ذلك فى لازم الخبر، ولو أراد حقيقة حكم المتكلم لاستحال انقسامه إلى ما المخاطب عالم به، أو جاهل. وهذا الذى ذكرناه من أن المراد بالحكم المحكوم به هو مقتضى عبارة الإيضاح أيضا، ومقتضى عبارة السكاكى هنا؛ لكنه قال عند الكلام على الحالة التى تقتضى تعريف المسند إليه ما يقتضى إرادة نفس الحكم حيث قال: فائدة الخبر هو الحكم أو لازمه كما عرفت، وعلم المتكلم ليس هو لازم النسبة المحكوم بها، بل لازم الحكم الذى هو المصدر. وفى شرح الخطيبى هنا، وفى الكلام على المفتاح كلام غير محرر فليتأمل. ثم ما ذكره المصنف غير ماش على ما ذكره الإمام من أن مدلول الخبر الحكم بالنسبة؛ لأنه جعل فائدة الخبر هو ثبوت النسبة، وقد يمكن تأويله عليه بأن يقال: إن الفائدة غير المدلول فمدلول الخبر الحكم بالنسبة، وفائدة ذلك اعتقاد ثبوتها، فالمتكلم يقصد بحكمه أن يعتقد وجدان النسبة التى حكم بها، ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 12.

والثانى: لازمها. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال المصنف: إن هذا يسمى فائدة الخبر، كقولك لمن لا يعلم قيام زيد: (زيد قام). ففائدة الخبر تحصيل العلم للمخاطب بقيامه، ومن هنا يعلم أن المراد بالحكم المستفاد هو ما تضمنه المحمول، لا ما يستفاد من تعلقات الموضوع وتعلقات المحمول كما تقدم. والأمر الثانى: هو ما يسمى لازم فائدة الخبر، وهو ما يستفاد منه كون المخبر عالما بالحكم، كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: (زيد عندك) وسمى لازما لأنه يلزم من استفادة الجاهل الحكم من الخبر أن يستفيد علم المخبر به. قال السكاكى: والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع. وبيانه أن العلم بالحكم من الخبر يلزم منه العلم بعلم المخبر به، فمن وجد الملزوم - وهو استفادة الحكم من الخبر - وجد اللازم وهو استفادة علم المخبر به؛ لأنه يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومتى وجد اللازم وهو علم المخاطب بعلم المخبر لا يلزم وجود الملزوم، وهو استفادة المخاطب الحكم، كما إذا كان المخاطب عالما به. واعلم أن التلازم إنما هو بين العلم بالحكم والعلم بعلم المخبر، أما الحكم وعلم المخبر أعنى به مجرد الاعتقاد فلا تلازم بينهما وهو واضح وكذلك قصد إفادة الحكم وقصد العلم بعلم المخبر فلا تلازم بينهما، بل لمانع أن يمنع ويقول: لا يلزم من استفادة العلم بالحكم استحضار علم المتكلم به، وإن كان لازما فى نفس الأمر وإنما علم المتكلم لازم بإخباره لا لعلم المخاطب بذلك، بل لقائل أن يقول: قد يخبر الإنسان بالشئ خبرا محصلا للعلم ولا يكون معتقدا صحة ما أخبر به بأن ينصب معه دليلا يقتضى صحة ما أخبر به، وهو لا يعتقد صحته. فإن قلت: هذا التقسيم إنما هو للخبر الصادق، قلت: بل والكاذب، لأن قصد الإعلام موجود فيه - سنتكلم عليه - فإن قلت: إنما يقصد فى الكاذب اعتقاد الحكم على غير ما هو عليه، وذلك جهل! قلت: السؤال صحيح، ولكنهم سموه علما على ما يتوقعه المتكلم من اعتقاد المخاطب، ثم الظاهر أن مرادهم بالعلم ما هو أعم من الظن؛ وإلا ورد عليه أن غالب الأخبار إنما يقصد بها الظن. وفى الإيضاح تعقيد فى هذا المحل لا حاجة إليه، وهو كلام صحيح فى نفسه.

وقد ينزّل العالم بهما منزلة الجاهل؛ لعدم جريه على موجب العلم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يرد على السكاكى ما قال من أنه لا يلزم امتناع حصول شئ قبل شئ كون الممتنع حصوله قبل لازما، ولا يلزم من امتناع حصول الثانى قبل الأول أن يكون لازما؛ لأنه لم يتمسك بذلك فقط، وإنما جاءه هذا من خصوص هذه المادة، لا أن الثانى إذا امتنع أن يحصل قبل، والخبر كاف فى حصول الثانى فلا تتخلف استفادته عنه، ويلزم من ذلك أن لا تتخلف استفادة الثانى عن استفادة الأول، وأورد أنه هلا اكتفى بلازم الفائدة عنها؟ وجوابه: أنه نظر إلى قصد المتكلم، وقد يقصد الفائدة ولا يقصد اللازم وإن كان يلزم من وجود الفائدة وجود لازمها، ولكن لا يلزم من قصدها قصد فائدتها، وقد يورد عليه أنه ينبغى أن يقول: أو قصدهما! وجوابه: أن قصد كل واحد منهما أعم من قصد الآخر، فيدخل قصدهما فى عموم الصورتين. (تنبيه): قول المصنف: قصد المخبر، المصدر فيه بمعنى المفعول، وقوله: (أو كون المتكلم) على حذف مضاف تقديره أو إفادة كون المتكلم؛ إذ لا يريد أن المتكلم يقصد إفادة أيهما كان، وقوله: (إفادة) خبر أن؛ أى لا شك أن مقصود المتكلم إفادة المخاطب، والحكم مفعول إفادة، وقوله: (ويسمى الأول) المراد بالأول هو إفادة المخاطب، وذكره لأن المعنى المقصود الأول، ويوجد فى بعض النسخ الأولى، وهو أحسن لعوده على مؤنث، ورجحه ابن الحاجب، والثانى لازمها: أى ويسمى الثانى وهو إفادة علم المخبر لازم فائدة الخبر، وقوله: (المخاطب) فيه نظر، وينبغى أن يقول السامع: لأنه أعم. ص: (وقد ينزل العالم بهما منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم). (ش): قد يرد الخبر كثيرا، إلا لواحدة من هاتين، فأراد أن يعتذر عنه فقال: قد ينزل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، وهو العمل به، فتقول لمن يعلم أن زيدا أبوه وأنت تعلم ذلك: (زيد أبوك فأحسن إليه) معناه: أنك تعامله معاملة من يجهل أبوته، فالفائدة هنا ترجع إلى استفادة الحكم، وقد علم من قوله: العالم بهما أن ينزل العالم بأحدهما أيضا، كذلك، فيقول السلطان لمن أهان أباه وهو لا يعلم أن السلطان يعلم أنه أبوه: (فلان أبوك) يقصد بذلك إظهار إعلامه بذلك، تنزيلا له منزلة الجاهل به، ويحصل بذلك إعلامه أن السلطان يعلم ذلك ولا يتصور العكس لما تقدم من اللازم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه) قال السكاكى: وإن شئت فعليك بكلام رب العزة سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (¬1) كيف نجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمى، وآخره ينفيه عنهم، حيث لم يعملوا بعلمهم. ونظيره فى النفى والإثبات: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ (¬2) وقوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ (¬3). قال فى الإيضاح: وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هى من أمثلة تنزيل العالم بالشئ منزلة الجاهل به. (قلت): ويمكن جوابه بأن يقال: هذا تمثيل تنزيل العالم منزلة الجاهل مطلقا؛ لتعديه إلى ما نحن فيه، لأن ما نحن فيه فرد من أفراد ذلك، وإذا نزل العالم بالشئ منزلة الجاهل به صح تنزيل العالم بهما منزلة الجاهل، ومما يدل لهذا تمثيله بقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وليس فيه إلا تنزيل الموجود منزلة المعدوم، ويمكن أن يقال: هو مثال لما نحن فيه لأن قوله تعالى: لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ خبر لم يقصد به إعلام الكفار بمضمونه، ولا علمهم أن الله تعالى عالم به؛ لأنهم يعلمون الأمرين، أما الأول فلقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا، وأما الثانى فواضح. وإنما نزلوا منزلة الجاهل ورشح هذا التنزيل بقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ * لكن يرد عليه أن الخطاب مع النبى، وقد يكون إنما علم علمهم من هذه الآية، فإن المخبر به فى (لمن اشتراه) هو أيضا علمهم لأن (علموا) معلقة عن الجملة؛ إلا أن يقال: لما كان الكلام يتعلق بهم فكان الخطاب معهم، وعلى هذا التأويل الأخير يجب اجتناب لفظ الجاهل تأدبا، كما فعل السكاكى فى علم البديع. (تنبيه) تمثيلهم بقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ فيه نظر؛ لأن المذكور من تعلقات فعل الشرط، لا يكون مخبرا بوقوعه، كالمذكور فى حيز النفى، فإذا قلت: (لا يفى زيد بأيمانه) لا يكون فيه إخبار بأن له أيمانا؛ لأنها سالبة محصلة، وكذلك إذا قلت: (إن نكثوا أيمانهم) ليس فيه إثبات أيمان لهم؛ لأن الفعل بعد إن غير محقق الوقوع، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 102. (¬2) سورة الأنفال: 17. (¬3) سورة التوبة: 12.

فينبغى أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة: فإن كان خالى الذّهن من الحكم، والتردّد فيه: استغنى عن مؤكدات الحكم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتعلقاته كذلك، وكذلك المذكور فى حيز الجواب فإن مدلول الجملة الشرطية إنما هو الارتباط، فليتأمل. (تنبيه) قد يخرج عن هاتين الفائدتين أمور منها الخبر الكاذب - كما سبق - لا يقال: إن قصد إفادة العلم بالحكم فيه موجود، لأن الموجود فيه إنما هو قصد الاعتقاد الفاسد، لا قصد العلم، إلا أن يقال: الكاذب أفاد اعتقاد السامع علم المتكلم؛ إلا أنه اعتقاد فاسد، ومنها كلام العباد مع الله تعالى لا يقبل شيئا منهما لأنه عالم بجميع الكائنات، وجوابه أنه ليس من شرط الإفادة أن تكون لمن الخطاب معه، بل تكون لغيره كذا، قيل: وله جواب تحقيقى يضيق المجال عن ذكره. ومن ذلك قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى (¬1)، وقوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وقوله تعالى: حكاية عن موسى صلّى الله عليه وسلّم: إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (¬2) قد يجاب بأن فيه قصد الإنشاء ففى (إنى وضعتها أنثى) معنى تقبلها منى، وكذلك الجميع، وقيل غير ذلك. ومنها أن الشخص قد يقصد إغاظة السامع بذلك الخبر، وجوابه أنه يرجع إلى لازم الفائدة. ص: (فينبغى أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، فإن كان خالى الذهن من الحكم والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم). (ش): يعنى إذا كان قصد المتكلم المخبر أحد هذين الأمرين فينبغى أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، فإن كان المخاطب خالى الذهن عن الحكم بأحد طرفى الخبر على الآخر، والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم، كقولك: (زيد قائم) لمن هو خالى الذهن عن ذلك، ليتمكن من ذهنه بمصادفته خاليا، وذلك لأن خلو الذهن عن الشئ يوجب استقراره فيه، وأنشدوا فى هذا: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى … فصادف قلبا خاليا فتمكّنا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 36. (¬2) سورة القصص: 24.

وإن كان متردّدا فيه، طالبا له: حسن تقويته بمؤكّد. وإن كان منكرا: وجب توكيده بحسب الإنكار؛ كما قال الله - تعالى - حكاية عن رسل عيسى، عليه السّلام، إذ كذّبوا فى المرّة الأولى: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (¬1)، وفى الثانية: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (¬2). ويسمّى الضّرب الأول: ابتدائيّا، والثانى: طلبيّا، والثالث: إنكاريّا، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه نظر؛ لأن موقع البيت أنه كان خالى الذهن من هواها وهوى غيرها؛ لأن المراد بالهوى الثانى الجنس، لا الأول على ما يظهر، وإن كانا معرفتين وستأتى هذه القاعدة قريبا - إن شاء الله تعالى - فنظيره مما نحن فيه أن يكون المخاطب خالى الذهن من مطلق القيام بالنسبة إلى زيد، وغيره، فتقول له: زيد قائم، وليس هو المقصود هنا، بل المقصود أن يكون خالى الذهن من قيام زيد، سواء كان مستحضرا لقيام غيره، أم لا، ويرد على المصنف أنه ينبغى أن يقول: (من الحكم ومن التردد) لأن هذه العبارة هى المعطية لمقصوده من خلو الذهن من كل منهما، لا من مجموعهما فليتأمل. ص: (وإن كان مترددا ... إلخ). (ش): أى إذا كان المخاطب مترددا فى المخبر به حسن أن يقوى بمؤكد واحد، كقولك: (لزيد قائم) أو (إنه قائم)، وإن كان منكرا وجب تأكيده بحسب الإنكار فتقول لمن ينكر صدقك، ولا يبالغ: (إنى صادق) كذا فى الإيضاح، فإن قلت: وإنى صادق ليس فيها إلا مؤكد واحد، وقد مثل به الخطاب المتردد فيلزم استواؤهما، قلت: لكن المؤكد الواحد فى الصورة الأولى حسن، وفى الثانية واجب، إلا أنه يلزم استواء الابتدائى والطلبى، حيث ترك أسلوب الحسن، وعلى هذا الموضع سؤال وله بقية تحقيق يذكر فى باب الوصل والفصل. قال: وتقول لمن يبالغ فى الإنكار: إنى لصادق، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن رسل عيسى - عليه الصلاة والسّلام - حين أرسلهم إلى أهل أنطاكية إذ كذبوا فى المرة الأولى: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ «1» وفى الثانية لما تكرر منهم الإنكار: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ «2» ونقل المصنف هذا الترتيب عن المبرد. ويسمى الأول من الخبر ابتدائيا، لكونه وقع ابتداء، والثانى طلبيا، والثالث إنكاريا. ¬

_ (¬1) يس: 14. (¬2) يس: 16.

وإخراج الكلام عليها: إخراجا على مقتضى الظاهر. وكثيرا ما يخرج على خلافه. إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر فيجعل غير السائل كالسائل: إذا قدّم إليه ما يلوّح له بالخبر؛ فيستشرف له استشراف الطالب المتردّد؛ نحو: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى عبارة المصنف تسامح، حيث قال عن الرسل إنهم كذبوا فى المرة الأولى، وإنما كذب فيها اثنان، ولعله يريد أن القائلين: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ثلاثة، فالتكذيب الذى واجهوا به اثنين فى الأول تكذيب فى المعنى للثالث، فكأن الثلاثة كذبوا فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ والتكذيب الثانى كان أبلغ، لكونه تكذيبا لثلاثة بالصريح، ولكونه تكذيبا ثانيا، ولكونه تكذيبا بعد إقامة الدليل؛ لكونه وقع بعد تكرار الإنذار، وكان ينبغى أن يقول المصنف أن فى (ربنا يعلم) تأكيدا أيضا؛ لأنه فى معنى القسم كقوله: ولقد علمت لتأتينّ منيّتى فعلم الله أجدر بذلك. ونص عليه سيبويه، مع تأكيد إن واللام، ففيها حينئذ ثلاث تأكيدات، قال الزمخشرى: إن الأول ابتداء خبر، ولذلك لم يؤكد إلا بإن، وقد يعترض عليه فيه فيقال: إن التكذيب وقع صريحا، لقوله تعالى: (كذبوهما) ويمكن جوابه بأمرين: أحدهما: أن يقال: تكذيب الثلاثة لم يقع قبل ذلك، وإنما وقع تكذيب اثنين. الثانى: أن يقال إنه لم يعن أن الخطاب ابتدائى، بل يريد أنه خبر أول؛ فلذلك لم يحتج لكثرة التأكيد، ولا شك أنه أول خبر صدر من الثلاثة. ص: (وإخراج الكلام عليها إخراجا على مقتضى الظاهر). (ش): أى ويسمى إخراجا على مقتضى الظاهر، ويعنى بمقتضى الظاهر ما يقتضيه المقام، وهو أخص من مقتضى الحال؛ لأن الحال قد يقتضى الإخراج على خلاف الظاهر، كذا قيل، وفيه نظر؛ فإن الظاهر أن بين مقتضى الحال ومقتضى الظاهر عموما وخصوصا من وجه، ثم إن مقتضى الظاهر قد يكون باعتبار أحد هذه الأساليب، وقد يكون باعتبار غيرها من اعتبارات المعانى. ص: (وكثيرا ما يخرج الكلام على خلافه إلخ). (ش): يعنى خلاف الظاهر (فيجعل غير السائل) يعنى خالى الذهن (كالسائل إذا ¬

_ (¬1) المؤمنون: 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قدم له ما يلوح بالخبر فيستشرف له) أى يتطلع له، مأخوذ من المستشرف وهو الواقف بالشرف، وهو المكان العالى، وقوله: ينزل غير السائل يقتضى أن الخبر الطلبى من شرطه السؤال، وليس كذلك، إلا أن يراد بالسؤال السؤال المعنوى الملازم فى المعنى للتردد والذى يلوح بالخبر هو كقوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬1) فإنه يلوح بإهلاكهم، وفى عبارته تسامح؛ فإنه يلوح بأعم من الخبر، وحاصله أنه لما حصل التلويح بقوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي صار الخطاب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ طلبيا، فأكد، فإن قلت: التلويح هو تقديم ما يدل على الشئ والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لا يترددون فى خبر الله تعالى المدلول عليه بالتلويح! قلت: أجيب عنه بأن التلويح ليس دليلا، ولا بدليل يفهم أنه قد يكون المراد ذلك، وفيه بعد؛ لأن هذا تلويح قوى يقارب الصراحة، ولا يحسن الجواب بأن التردد فى أن ذلك مما يدعى بزواله فيزول، أو لا لأنا إذا جعلناه خبرا بهلاكهم فخبر الله لا يخلف - وعيدا كان أم غيره - على رأى جمهور أهل السنة، ومن عفى عنه من العصاة لم يدخل فى عموم الوعيد، ولا يحسن الجواب بأنه جوز أنهم يسلمون كذلك أيضا، فتعين أن يقال: (ولا تخاطبنى) دل على مطلق الإهلاك، فحصل التردد فى كيفيته، من إهلاك وغيره، فجاء الخطاب طلبيا. ومن ذلك: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (¬2) وقول الشاعر: فغنّها وهى لك الفداء … إنّ غناء الإبل الحداء (¬3) ومنه بيت بشار: بكّرا صاحبىّ قبل الهجير … إنّ ذاك النّجاح فى التّبكير (¬4) وقد قال له خلف الأحمر: لو قلت: بكرا فالنجاح فى التبكير ثم رجع إليه وذلك بمحضر من أبى عمرو بن العلاء. ¬

_ (¬1) سورة هود: 37. (¬2) سورة يوسف: 53. (¬3) الرجز بلا نسبة فى الإيضاح ص 22، ودلائل الإعجاز ص 273، 316، وجمهرة اللغة ص 964، 1047، والإشارات للجرجانى ص 31، والطراز 2/ 203. (¬4) البيت من الخفيف، لبشار فى ديوانه 3/ 203، ودلائل الإعجاز ص 272، 316، 323، والإشارات والتنبيهات للجرجانى ص 31، والأغانى 3/ 185، والإيضاح ص 23.

وغير (¬1) المنكر كالمنكر: إذا لاح عليه شئ من أمارات الإنكار؛ نحو [من السريع]: جاء شقيق عارضا رمحه … إنّ بنى عمّك فيهم رماح والمنكر كغير المنكر (¬2): إذا كان معه ما إن تأمّله ارتدع؛ نحو: لا رَيْبَ فِيهِ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وغير المنكر كالمنكر إذا لاح عليه شئ من أمارات الإنكار). (ش): يعنى إن فعل ما جرت العادة أنه إنما يصدر مع الإنكار، ينزل منزلة الإنكار كقوله: جاء شقيق عارضا رمحه … إنّ بنى عمّك فيهم رماح (¬4) يعنى بقوله عارضا مظهرا، أو حامله على كتفه، من قوله:" ولو أن تعرضوا عليه عودا" (¬5) يعنى أن هذه حالة من يدعى الشجاعة، وأن خصمه ليس عنده ما يقابل به رمحه، وأنه غير ملتفت له، وقوله: فيهم رماح، الذى ذكروه أنه جمع رمح، ولو قيل: إنه مصدر استعارة من رمح الدابة برجلها لكان أليق بقوله فيهم من الجمع، (قلت): وفيما قاله المصنف نظر، لأن هذا الخبر ليس فيه إلا مؤكد واحد، فمن أين لنا أنه إنكارى؟ جاز أن يكون طلبيا، ويكون من القسم السابق، ويكون هذا التأكيد الواحد فيه استحسانيا لا واجبا. ص: (والمنكر كغير المنكر ... إلخ). (ش): إشارة إلى أن هذا الذى أنكره واضح الأدلة، لا يحتاج إلى تأكيد، كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وفى المثل نظر؛ لأن هذا نفى، وسنفرده بالكلام، بل ينبغ أن ¬

_ (¬1) أى ويجعل غير المنكر كالمنكر. (¬2) أى: ويجعل المنكر كغير المنكر. (¬3) سورة البقرة: 2. (¬4) البيت من السريع، وهو لحجل بن نضلة الباهلى، فى شرح عقود الجمان 1/ 39، وبلا نسبة فى الطراز 2/ 203، والمصباح ص 11، والإيضاح ص 24، والتلخيص ص 11. (¬5) أخرجه البخارى فى" الأشربة"، (10/ 72)، (ح 5605، 5606)، ومسلم (ح 2011)، ويعنى: " اللبن".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يمثل بقول الإنسان: الإسلام حق، لمن ينكره، كما مثل فى الإيضاح، ثم قال: وعليه قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وعلى هذين الاعتبارين قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (¬1) أكد تأكيدين، وإن لم ينكره أحد، لتنزيل المخاطبين لتماديهم فى الغفلة تنزيل من ينكر الموت، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا، وإن كان أكثر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر ويتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين فيه حثا لهم على النظر فى أدلته الواضحة. (تنبيه) اعلم أن أقسام هذا الفصل متعددة، وقد حاول الكاتبى والخطيبى فى شرح المفتاح تعدادها فذكراها على وجه قاصر وها أنا أذكرها على التحرير - إن شاء الله تعالى - فأقول: المخاطب إما عالم بفائدة الخبر ولازمها معا، أو خال منهما، أو طالب لهما، أو منكر لهما، أو عالم بالفائدة خال من اللازم، أو عالم بالفائدة طالب للازم، أو عالم بالفائدة منكر للازم أو عالم باللازم خال من الفائدة، أو عالم به طالب للفائدة، أو عالم به منكر للفائدة أو خال من اللازم طالب للفائدة أو خال من اللازم منكر للفائدة أو خال من الفائدة طالب للازم، أو خال منهما منكر للازم أو طالب للفائدة منكر للازم، أو منكر للفائدة طالب للازم. يبطل منها عالم باللازم خال من الفائدة، أو خال من الفائدة منكر للازم، أو خال من الفائدة طالب للازم؛ فالثلاثة مستحيلة، ومنها ثلاثة ممكنة إن حملنا اللازم على الاعتقاد، مطابقا كان أو لم يكن، وهو: عالم باللازم متردد فى الفائدة، أو عالم به منكر للفائدة، أو منكر للفائدة طالب للازم. وإن حملنا للازم على الاعتقاد المطابق للخارج سقط الثلاثة أيضا، فعلى الأول تبقى الأقسام الممكنة ثلاثة عشر، كل منها إما أن تأخذه على كل واحد من الأوجه العشرة السابقة ولا تأخذه على كل شئ من الستة التى قلنا: إن ثلاثة منها مستحيلة قطعا، وثلاثة مستحيلة على أحد الاحتمالين؛ لأن الستة هنا مستحيلة على الاحتمالين معا، فتضرب ثلاثة عشر فى عشرة تبلغ مائة وثلاثين، يسقط منها ثلاثة عشر؛ وهو كل مخاطب من هؤلاء الثلاثة عشر فرضناه عالما بالفائدة واللازم، فإنا لا نخاطبه، لا يقال: قد تكرر الإخبار تأكيدا، فيكون الخبر الثانى واقعا بعد العلم بالفائدة ولازمها؛ لأنا نقول: لا نؤكده حتى ننزله بالإخبار الثانى، كأنه لم يعلم بالخبر الأول شيئا، ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالباقى من الأقسام مائة وسبعة عشر، وإن شئت سرد الأقسام فهى هذه: الأول - عالم بهما، أخذناه خاليا منهما، أو طالبا لهما، أو منكرا لهما، أو عالما بالفائدة خاليا من اللازم، أو عالما بالفائدة طالبا للازم، أو عالما بالفائدة منكرا للازم، أو خاليا من اللازم طالبا للفائدة، أو خاليا من اللازم منكرا للفائدة، أو طالبا للفائدة منكرا للازم، فهذه تسعة ثم نأخذ العاشر خاليا منهما فى التسعة، كذلك صارت ثمانية عشر، ثم نأخذ طالبا لهما فى تسعة كذلك، صارت سبعة وعشرين، ثم نأخذ المنكر لهما كذلك، ثم العالم بالفائدة الخالى من اللازم كذلك، ثم العالم بها الطالب للازمها كذلك، ثم العالم بها المنكر للازمها كذلك، ثم الخالى من اللازم الطالب للفائدة كذلك، ثم الخالى من اللازم المنكر للفائدة كذلك، ثم الطالب للفائدة المنكر للازم كذلك، ثم العالم باللازم الطالب للفائدة كذلك، ثم العالم باللازم المنكر للفائدة كذلك، ثم المنكر للفائدة الطالب للازمها كذلك، صارت مائة وسبعة عشر قسما. (تنبيه) تمثيل المصنف بقوله تعالى: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (¬1) وهو مثال أخص من الممثل، والمثال الذى ذكره لتنزيل خالى الذهن منزلة المنكر من بيت شقيق يصلح أن يكون مثالا له، وللقسم الذى سيأتى - إن شاء الله تعالى - ومن تنزيل السائل منزلة خالى الذهن قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (¬2) كذا قيل، وقد يعترض عليه بأن توكيد الطلبى غير لازم، فلا حاجة إلى التنزيل! ويجاب بأنه مستحسن، فالعدول عنه إنما يكون للتنزيل، وذلك كثير، وتنزيل السائل منزلة المنكر لبعد المسؤول عنه عن الإفهام كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إنكم لترون ربكم" (¬3) فى جواب هل نرى ربنا؟ تنزيل المنكر منزلة خالى الذهن مثل لا رَيْبَ فِيهِ (¬4)، وتنزيل المنكر منزلة السائل المتردد نحو: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (¬5). وقد يقال: إن ما تقدم من أدلة البعث يقتضى جعل المنكر كالمعترف لا كالمتردد، وقوله: جعل كالمتردد حثا له على النظر فى الأدلة يأتى بعينه فى (لا ريب فيه). ¬

_ (¬1) سورة هود: 37. (¬2) سورة طه: 105. (¬3) صحيح أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن أبى عاصم فى" السنة"، وقال الشيخ الألبانى فى تعليقه عليه (ح 443):" إسناد صحيح". (¬4) سورة البقرة: 2. (¬5) سورة المؤمنون: 16.

وهكذا اعتبارات النّفى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وهكذا اعتبارات النفى ... إلخ). (ش): يعنى أنه يكون كالإثبات فى التأكيد وعدمه، لا أن ينزل على غيره، كما سبق ففى الابتدائى تقول: (ما زيد قائم) أو (قائما) (وليس زيد قائما) أو (ما ينطلق زيد) وفى الطلبى والإنكارى تأتى بمؤكد استحسانا فى الأول، ووجوبا فى الثانى، فتقول: (ما زيد بقائم) أو (ليس بقائم) و (لا رجل فى الدار) بالبناء، فهو آكد من (لا رجل) بالرفع، أو (والله ليس زيد منطلقا)، أو (ما إن ينطلق)، أو (ما كان زيد ينطلق)؛ لأن (كان) تعطى تأكيدا، ولنفى المستقبل (والله لن ينطلق زيد) و (لا ينطلق زيد) إن قلنا: لا لنفى المستقبل فقط، كما هو مذهب سيبويه، وتقول لمن يبالغ فى الإنكار: (والله ما زيد بمنطلق) أو (ما إن ينطلق زيد) أو (ما هو بمنطلق) و (ما كان زيد لينطلق) إن لم تجعل المراد مريدا لينطلق، فإن جعلنا المراد ذلك فهذا معنى آخر. على أن فيها أيضا تأكيدا لأن نفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه. (فوائد): إحداهن: اعلم أن المراد بالتأكيد هنا تأكيد لمضمون الخبر، وهو الحكم بالنسبة، أو ثبوتها على ما سبق، لا تأكيد المسند وحده، ولا المسند إليه، فلو قلت: (زيد هو القائم)، أو (زيد ضروب)، أو (زيد نفسه قائم)، فليس مما نحن فيه فى شئ؛ لأنه لا يلزم من تأكيد واحد من طرفى الإسناد تأكيد النسبة، وكذلك لو أتيت بما يفيد الاختصاص، كقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (¬1) وبهذه الفائدة يتبين لك الحكمة فى عدم تعرضهم للتأكيد (بأن) المفتوحة. فإن لقائل أن يقول: يأتى فيها الخطاب ابتدائيا وطلبيا وإنكاريا، تقول فى الابتدائى: (علمت زيدا قائما) وفى الطلبى: (علمت أن زيدا قائم) وفى الإنكارى: (علمت أن زيدا قائم والله) فجوابه أن (أن) المفتوحة تنحل مع ما بعدها لمفرد، فالتأكيد لذلك المصدر المنحل، لا للنسبة، والكلام الآن إنما هو فى تأكيد الإسناد، لا فى تأكيد أحد طرفيه. على أن التنوخى فى أقصى القرب لما ذكر ألفاظ التأكيد ذكر أن المفتوحة والمكسورة، والتحقيق ما قلناه. وإذا ثبت ذلك اتجه لك منع فى حصول التأكيد لمضمون الجملة فى كثير مما سبق من صيغ النفى، فإن التأكيد ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 16.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فى (لا رجل) بالبناء إنما هو للمحكوم عليه، وتقوية العموم، والتأكيد فى (ما زيد بمنطلق) الظاهر أنه للانطلاق المنفى، لا لمضمون الجملة، ومما ذكرناه يعلم أنه ليس من هذا الباب الحال المؤكدة، ولا المصدر المؤكد لنفسه، أو لغيره، فإنهما إنما يؤكدان الفعل. الثانية: ذكر النحاة من ألفاظ التأكيد (لكن) وينبغى أن يلحق بما نحن فيه، فيكون الخطاب بها طلبيا، أو إنكاريا، وكذلك عدها أيضا التنوخى، لكنه يحتاج إلى زيادة تحقيق؛ لأن من قال من النحاة: إنها للتأكيد مع الاستدراك إنما أراد تأكيد الجملة قبلها، فينبغى أن يقال: (لكن) حرف تأكيد، يكون الخطاب بما قبلها طلبيا، أو إنكاريا، لا الخطاب بما دخلت عليه، أو يقال: هى تأكيد للجملة التى بعدها؛ لاستلزامها حكم ما قبلها؛ لأن الغالب أن ما بعدها ضد ما قبلها، فتأكيد وجودها تأكيد لعدم ما قبلها؛ لأن الضدين لا يجتمعان، فهو تأكيد لما بعدها فى الصورة، وتأكيد لما قبلها فى المعنى. نعم إذا قلنا: إنها مركبة من (لكن) و (أن) - كما هو قول الفراء - أو إنها مركبة من (لا) و (لن) - كما هو رأى الكوفيين - أو إنها مركبة من (لا) و (كاف) التشبيه و (إن) فالتأكيد فيها إن ثبت للجملتين معا؛ لأن (لا) أكدت ما قبلها؛ وإن أكدت ما بعدها. ومن ألفاظ التأكيد (كان) كما عدها التنوخى، وهو صحيح؛ لأنها إن كانت بسيطة فهى لتأكيد النسبة، وإن كانت مركبة فهى متضمنة (لأن)، فالخطاب بها طلبى، كما سبق، وسيأتى تحقيق معناها فى علم البيان. ومن ألفاظ التأكيد كما ذكره التنوخى (ليت) و (لعل) ومن ألفاظ التأكيد (لعن) لكن تأكيدها للمفرد لأنها لغة تميم وهم يبدلون همزة أن المفتوحة عينا، فحكمها حكم أن المفتوحة كما سبق. الثالثة: الذى يظهر ولا ينازع فيه منصف أن تأكيد الجملة يكون لأغراض كثيرة، من جملتها الإنكار وغيره، فربما كان الشخص خالى الذهن وأكد له بأن واللام، وربما كان منكرا ولم يؤكد له، لغرض ما، أو أكد له لغير ذلك. فإن كان ما ذكروه من التأكيد للطالب والمنكر بأن واللام على سبيل المثال فحسن، وإن كانوا يحصرون التأكيد فى خطابهما ويحصرون خطابهما فى صيغة التأكيد فهو فى غاية البعد، ويحتاج إلى تأويل غالب الاستعمالات، ولا ينتهض له دليل، ولا أعتقد أن المبرد أراد ذلك أصلا، فإنه تحجير واسع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابعة: هذه التأكيدات التى ذكروها إنما هى للجملة الاسمية، وأعرضوا عن تأكيد الجملة الفعلية، وعن ذكر التفاوت بين الخطاب بالاسمية والفعلية، وكان ينبغى ذكر كل منهما، ثم جعلوا الخطاب بنحو: (زيد قائم) خاليا عن التأكيد، وكان يمكن أن يقال: إنه يتضمن التأكيد؛ لتضمنه الدلالة على الثبوت والاستقرار، ولم يزل ذلك فى نفسى إلى أن وقفت على كلام التنوخى فوجدته قال فى أقصى القرب: إذا قصدوا مجرد الخبر أتوا بالجملة الفعلية، فإن أكدوا فبالاسمية، ثم (بإن)، ثم (بها وباللام) وقد تؤكد الفعلية (بقد) وإن احتيج لأكثر أتى بالقسم مع كل من الجملتين؛ وقد تؤكد الاسمية باللام فقط نحو: (لزيد قائم) وقد تجئ (قد) مع الفعلية مضمرة بعد اللام، قال امرؤ القيس: لناموا فما إن من حديث ولا صالى (¬1) ومقتضاه أن الخطاب على درجات (قام زيد)، ثم (لقد قام) ثم (والله لقد قام)، فإنه جعل الفعلية كلها دون الاسمية، ثم قال: إنها تؤكد (بالقسم) و (بقد)، فعلمنا أنها بجميع درجاتها دون الفعلية (¬2) ثم (إن زيدا قائم) و (لزيد قائم). ولم يتبين من كلامه أيهما آكد؟ ويظهر أن التأكيد (بإن) أقوى لوضعها لذلك، ثم (إن زيدا لقائم) ثم (والله لزيد قائم) (والله إن زيدا قائم)، ثم (والله إن زيدا لقائم). وقد يقال عليه: إن قوله إذا أرادوا مجرد الخبر أتوا بالجملة فيه نظر؛ لأن الفعلية يقصد بها التجديد، وتعيين الزمان، لا مجرد الخبر؛ إلا أن يريد مجرد الإخبار بالنسبة المتجددة فى وقتها من غير قصد زيادة التأكيد. وإن قوله: إن الجملة الاسمية للتأكيد فيه نظر؛ فإن الاسم وإن دل على الثبوت والاستقرار فإنما يدل على استقرار مصدره الذى اشتق منه، فالتأكيد فى (زيد قائم) للقائم المفرد، لا للجملة التى كلامنا الآن فيما يؤكدها، كما تقدم فى التأكيد بأن المفتوحة، فإن تم هذا الجواب ظهر عذر البيانيين فى كونهم لم يعدوا الجملة الاسمية خطابا طلبيا ولا ¬

_ (¬1) عجز بيت من الطويل، وصدره: حلفت لها بالله حلفة فاجر، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 32، والأزهية ص 52، وخزانة الأدب 10/ 71، 73، 74، 77، 79 والدرر 2/ 106. (¬2) دون الفعلية كذا فى الأصل ولعل الصواب: دون الاسمية كما هو ظاهر كلامه سابقا، ولاحقا، فتأمل. كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنكاريا. ومن الغريب أن ابن النفيس قال فى طريق الفصاحة: الجملة الاسمية كقولنا: (زيد قائم) تدل على ثبوت القيام بالمطابقة، فهى أدل من الفعلية، مثل: (قام زيد)، إذ (قام) يدل على القيام بالتضمن، فلذلك كانت الاسمية أقوى من الفعلية، قلت: وهذا غلط سرى إليه من قول النحاة: إن الفعل يدل على الحدث بالتضمن، ولم يعلم أن دلالة الفعل على كل من حدثه وزمانه، وإن كان بالتضمن؛ لكن دلالة جملة الكلام على كل من حدث الفعل وزمانه بالمطابقة، (فقام زيد) يدل على وقوع القيام فى زمان ماض بالمطابقة. الخامسة: لم يتعرضوا لتأكيد الجملة الإنشائية؛ لأن هذا الباب معقود للإسناد الخبرى، وسنتكلم عليه فى باب الإنشاء إن شاء الله تعالى. السادسة: من مؤكدات الجملة أيضا ضمير الفصل؛ فإنه تأكيد - كما سيأتى - وليس تأكيدا للمسند فقط، ولا للمسند إليه فقط كما سيأتى تقريره فى موضعه، ومن المؤكدات أيضا للجملة تقديم الفاعل المعنوى، نحو: (زيد يقوم)، و (أنت لا تكذب)، و (أنا قمت)، إذا لم تجعلها للاختصاص؛ فإنها لتأكيد الحكم، لا لتأكيد المحكوم عليه كما صرح به الجرجانى وغيره. أما (أنا قمت) إذا جعلناه للاختصاص وقلنا: إنه مقدم من تأخير، على أن أصله بدل فيحتمل أن يقال: إنما يفيد الاختصاص، فلا يفيد تقوية الحكم، ويحتمل أن يقال: يفيد مع الاختصاص التقوية، كما قالوا بمثله فى تقديم المعمول، وعلى هذا فيحتمل أن يقال: يفيد تقوية الحكم، كهو إذا لم نجعله للاختصاص، ويحتمل أن يقال: إنما يفيد تقوية المحكوم عليه رعاية لحاله قبل التقديم حين كان بدلا، فإن البدل إنما يؤكد المبدل منه، وهو فى هذا المثال هو المسند إليه، وعلى كل تقدير فلا شك أن نحو: (زيد يقوم) و (أنت لا تكذب) و (أنا قمت) حيث كانت لا تفيد الاختصاص للتقوية والتأكيد، ولعلهم إنما لم يذكروه هنا؛ لأن المسند إليه وإن كان مؤكدا للجملة لكنه جزء من جملة الكلام. وإنما يتكلمون هنا فى التأكيد بما ليس من أجزاء الكلام - كما سيأتى تنبيه المصنف عليه - والخبر فى هذه الأمثلة وإن كان جملة فهو فى حكم المفرد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن مؤكدات الجملة أيضا (أما) فإنها من ألفاظ التأكيد، قال الزمخشرى فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (¬1) فائدة (أما) فى الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول: (زيد ذاهب)، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة؛ قلت: (أما زيد فذاهب) ولذلك قال سيبويه فى تفسير (مهما يكن من شئ فزيد ذاهب): وهذا التفسير مدل بفائدتين: بيان كونه تأكيدا، وأنه فى معنى الشرط اهـ كلامه. ومن مؤكدات الجملة (ألا) التى هى حرف استفتاح؛ فإنها للتأكيد كما صرح به الزمخشرى فى قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (¬2) ويدل عليه قولهم: إنها للتحقيق، أى تحقيق الجملة بعدها، وهذا معنى التأكيد قال الزمخشرى: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد الجملة تقع بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقى به القسم، نحو: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (¬3) ومنها (السين) التى للتنفيس - على رأى الزمخشرى - فإنه قال فى قوله تعالى: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ (¬4): السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد، فى قولك: (سأنتقم منك يوما) تعنى أنك لا تفوتنى وإن تباطأ ذلك، ونحوه: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (¬5)، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (¬6)، سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ (¬7) اهـ. وقال فى قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ: فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفى التأكيد والتأخير؟ قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة، وإن تأخر اهـ. يريد أن حرف التأكيد اللام، وحرف التأخير السين، وأن كون العطاء واقعا لا محالة مستفاد من اللام، وأن التأخير مستفاد من السين، وظاهره يخالف ما ذكره فى سورة التوبة، ونقل الطيبى عن صاحب التقرير أن ما قاله الزمخشرى فيه نظر وهو جدير بالنظر؛ لأنه كالمتفرد به، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 26. (¬2) سورة البقرة: 12. (¬3) سورة يونس: 62. (¬4) سورة التوبة: 71. (¬5) سورة مريم: 96. (¬6) سورة الضحى: 5. (¬7) سورة النساء: 152.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أجاب الطيبى عنه بأن المقصود بالتأكيد أن السين فى الإثبات مقابلة (لن) فى النفى، وليس كما قال؛ لأنه لو أراد ذلك لم يقل: السين توكيد للوعد، بل كانت حينئذ توكيدا للموعود به، كما أن (لن) لا تفيد زيادة عن (لا) فى تأكيد الجملة، بل تفيد تأكيد المنفى بها، ولعل الزمخشرى يريد أن السين يحصل بها تربية الفائدة؛ لأنها تفيد أمرين: أحدهما - الوعد، والثانى - الإخبار بظرفه، وأنه متراخ، فهو كالإخبار بالشئ مرتين، ولا شك أن الإخبار بالشئ وتعيين ظرفه مؤذن بتحققه عند المخبر به، لكن لو تم له ذلك وجب أن كل فعل ذكر معه ظرف فيه تأكيد. ومن مؤكدات الجملة الفعلية (قد) فإنها حرف تحقيق، وهو معنى التأكيد، وإليه أشار الزمخشرى بقوله: فى قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (¬1) معناه هدى لا محالة. السابعة: لا فرق فى كون (إن) لتأكيد الجملة بين أن تلحقها (ما) أو (لا)، فقولك: (إنما زيد قائم) يفيد مع الحصر التحقيق، كما صرح به القاضى عبد الوهاب المالكى وهو حق. الثامنة: من فوائد الوالد - رحمه الله - وهى (زيد قائم) فيه ثلاث تصورات: (زيد) و (قائم) و (النسبة)، وفيها إذا حكمت أمر رابع، وهو إيقاع تلك النسبة إثباتا أو نفيا، فعلم أن نحو: (زيد قائم) ليس فيه إثبات، ولا نفى؛ بل هو محتمل لهما على السواء، فإذا حكمت فقلت: (زيد قائم) فالإثبات؛ مستفاد منه، مع تجريدك إياه عن حرف النفى، فإذا قلت: (إن زيدا قائم) كان آكد فى الإثبات؛ لأن دلالة إن أقوى من دلالة التجرد، ولا تقول: إنها دخلت عليها وأكدتها؛ لأن التجريد مع الحرف لا يجتمعان، وإنما المعنى أنها دخلت على زيد قائم المحتمل للنفى والإثبات؛ فرجحت طرف الإثبات، وإفادته أقوى من إفادة التجريد؛ لأنها وجودية، والتجريد عدمى، ثم تؤكد تأكيدا أقوى باللام وبالقسم، والدلالات الثلاثة كل منها أقوى من التجرد، وإنما دل التجريد على الإثبات ولم يدل على النفى وإن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كانا بالنسبة إلى اللفظ على السواء؛ لأن حكم الذهن توجه إلى المذكور، وهو وجود ذلك الشئ لا عدمه. هذا فى طرف الإثبات، أما النفى فلاحظ له فى التجرد، فلا بد من شئ يدل عليه، فوضعت له حروف أدناها ما ونحوها، فهى فى طرف النفى كالتجريد فى طرف الإثبات، إلا أنها أقوى قليلا، لأن دلالتها لفظية مستقلة مقصودة، وكذلك (ليس) وفوقهما (لا) فهى لتأكيد النفى، بمعنى أنها لنفى مؤكد، أو بمعنى أنها ترجح طرف النفى المحتمل فى أصل القضية رجحانا قويا، أكثر من ترجيح (ما) و (ليس)، ويدل عليه بناء الاسم معها ليفيد نسبة العموم، وبهذا يعتذر عن قول ابن مالك: إن (لا) لتأكيد النفى، كما أن (إن) لتأكيد الإثبات، فإن جماعة استكرهوا قوله هذا من جهة أن (إن) داخلة على إثبات أكدوه، و (لا) لم تدخل على نفى. قلت: هذه القاعدة ذكرها الوالد - رحمه الله - بحثا، ثم رأيت كلاما فى بعض التعاليق يوافقه، لا أدرى من كلام من هو؟ فأحببت أن أذكره بلفظه، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، مباركا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على سيدنا محمد، النبى الأمى، وعلى آل محمد، وسلم تسليما - (وبعد)؛ فإنه كان قد جرى بحث فى شئ ضاق الوقت عن تحقيقه فى ذلك المجلس، فأحببت أن أعلق فيه كلاما مبسوطا مضبوطا؛ ليكون ذلك الضبط مبعدا له عن إنكار سامعيه، والبسط مقربا لمعانيه على الناظر فيه، وذلك أنى كنت ذكرت فى أثناء كلام أن قول القائل: (زيد قائم) و (قام زيد) ونحو ذلك من الجمل، إذا نظر إلى أصل وضعها فليست موضوعة لتدل على الإثبات من حيث هى، والذى يدل على الإثبات تجردها من علامة النفى، وغيرها من المعانى التى تضاد الإثبات. وإنما هى موضوعة للنسبة الذهنية مطلقا، من غير تعرض لكون النسبة ثابتة، أو منفية، أو مستفهما عنها، أو مشروطة، أو غير ذلك؛ فإذا قلت: (ضرب زيد) فلقولك: (ضرب) معنى معقول عند إفراده، ولقولك: (زيد) معنى، فإذا أسندت ضرب إلى زيد حدث بالإسناد معنى ثالث معقول وهو نسبة مدلول ضرب إلى مدلول زيد، فهذا المعنى الذى هو نسبة الضرب إلى زيد معقول مفهوم، وإن لم يحكم بثبوته ولا بنفيه، كما أن معنى ضرب ومعنى زيد كل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد منهما معقول، من قبل أن يحصل بينهما نسبة، ثم حدثت النسبة، وكذلك النسبة معقولة مفهومة، وإن لم يحكم عليها بنفى أو إثبات، ثم بعد تعقل معنى النسبة يحكم بالثبوت والوقوع تارة، وبالنفى أخرى، ويستفهم عنها مرة، ويتمنى أخرى، ويرجى، ويشترط، إلى غير ذلك من الأحوال التى تعرض لها. والذى يدل على ما ذكرناه وجوه (الأول) أن قول القائل: (ما ضرب زيد عمرا) وقوله: (هل ضرب زيد عمرا) اشتركا فى شئ، واختلفا فى شئ، فالذى اشتركا فيه نسبة الضرب إلى زيد وعمرو بجهتى الفاعلية والمفعولية، والذى اختلفا فيه أن الجملة الأولى أفادت نفى تلك النسبة، والثانية أفادت الاستفهام عن تلك النسبة، وطلب العلم بثبوتها، أو انتفائها، فالقدر الذى اشتركا فيه غير ما اختلفا فيه، ولولا أن القدر الذى اشتركا فيه معنى معقول موجود فى الموضعين لما كان المنفى هو المستفهم عنه، وإذا علم أن النسبة متحققة مع المنفى والاستفهام دل على أنها ليست ثبوتا، فإن ثبوت الشئ لا يكون حاصلا مع نفيه، والمستفهم عن الشئ لا يكون مثبتا له؛ نعم لما كانت هذه النسبة تعرض لها أحوال مختلفة جعل الواضع الحكم لكل واحدة من تلك الأحوال دلالة تدل عليها، فجعل للنفى حرفا، وللاستفهام حرفا، وكذلك للتمنى، والشرط، والرجاء، والتنبيه، وغيرها من المعانى اللاتى تعرض لهذه النسبة؛ إلا الإثبات فإنه لما كان أكثر هذه المعانى وقوعا فى الاستعمال، وقد جعل لكل واحد منهما علامة وجودية - جعل علامة الإثبات عدم تلك العلامات قصدا للتخفيف، عند كثرة الاستعمال، وتنبيها على أنه كالأصل الأول، وسائر تلك المعانى كالفرع له. ونظير ذلك فى كلام العرب فى الضمائر أنهم جعلوا لكل واحد من المتكلم، والمخاطب، والمثنى، والمجموع إذا اتصل بالفعل الماضى علامة لفظية، كقولك: ضربت، وضربت، وضربا، وضربوا، وضربن، وضربتما، وضربتم، ونحوها، وقالوا فى المفرد المذكر الغائب: (زيد ضرب) فلم يأتوا فيه بعلامة لفظية، بل كان تجرده عن تلك العلامات كلها دليلا على كونه للمفرد المذكر الغائب، لما لم يشاركه فى ذلك التجرد واحد منها، وحال الحرف مع الاسم والفعل فى مثل ذلك معلومة، تغنى عن الإطالة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. (الوجه الثانى): أن قول القائل: (ضرب زيد) لو كان بلفظه دالا على الإثبات، ولم يكن لتجريده عن أدوات الشرط وغيره مدخل فى الدلالة لكان حينئذ دالا على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإثبات، تجرد أو لم يتجرد، وإذا كان كذلك كان دالا على الإثبات، فى قولك: (ما ضرب زيد) وهو محال؛ لأنه يلزم أن يكون قد أثبت الضرب ونفاه فى حال واحدة. والذى يوضح ذلك أن (إن) لما كانت دالة على الإثبات، و (ما) دالة على النفى امتنع دخول (ما) على (إن) فلا يجوز (ما إن زيدا قائم) فلو كان اللفظ من غير تجرد يدل على الإثبات لتنزل قولك: (ما زيد قائم) منزلة قولك: (ما إن زيدا قائم)، وهذا واضح. وكذلك (ليس زيد قائما) لما كان دالا بلفظه على النفى - استحال دخول حرف الإثبات عليه، فلا يجوز (والله لليس زيد قائما) فكما يمتنع دخول الإثبات على النفى يمتنع دخول النفى على الإثبات؛ لاستحالة أن يكون الشئ مثبتا منفيا فى حالة واحدة، فإن قلت: فقد أدخلوا (إن) على (ما) فى قولهم: (إنما أنا بشر) ونحوه؛ قلت: ليست (ما) هنا هى النافية، وإلا كان المعنى إثبات نفى البشرية، والمراد إثباتها لا نفيها، وهذا المحال الذى ألزمناه، إنما لزم من تقدير اللفظ دالا على الإثبات بنفسه، فعلم أن ذلك باطل، لكنه دال على مجرد النسبة من غير تعرض لنفيها، ولا إثباتها، فإن أردت النفى جئت بحرف النفى، وإن أردت الإثبات جردته من علامة النفى وغيره، وكان التجريد دالا على الإثبات، وإذا دخل حرف النفى زال التجريد الدال على الإثبات، فلم يجتمع النفى والإثبات، فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون اللفظ نفسه دالا على الإثبات وشرط دلالته عليه تجرده من علامة غيره؟ قلت: الجواب عن هذا من وجهين: (أحدهما): أن هذا تسليم للحكم الذى ادعيناه، ومنازعة فى العبارة؛ فإذا كان اللفظ لا يدل على الإثبات إلا إذا جرد، فكأن الواضع قال: متى جردت هذا اللفظ فاعلموا أننى أردت الإثبات، ومتى لم أجرده فاعلموا أنى لم أرد الإثبات! فقد جعل التجريد علامة على الإثبات، فتسميه أنت شرطا أو ما شئت فلا مشاحة فى التسمية. (الوجه الثانى): هو أن دلالة اللفظ على المعنى ليست لمناسبة بينهما، بل لأنه جعل علامة عليه، ومعرفا له بطريق الوضع، فإذا كان التعريف مشروطا بشئ غير اللفظ، يعدم بعدمه، ويوجد بوجوده - لم يكن اللفظ هو المعرف، إنما المعرف ذلك الشئ، ولا سيما وقد رأينا اللفظ مفيدا لشئ آخر غير الإثبات؛ وهو النسبة الذهنية التى هو مفيد لها فى الإثبات وفى غيره، والتجريد لا يفيد معنى آخر سوى الإثبات، ورأينا التجريد لا ينفك عن إفادة الإثبات، واللفظ ينفك عن إفادة الإثبات، فالحكم بأن الإثبات مستفاد من التجريد الذى لا يحصل بدونه ولا ينفك عن إفادته، وله فائدة غيره أولى من الحكم بأنه مستفاد من اللفظ الذى ينفك عن إفادته، وله فائدة غيره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (الوجه الثالث): أنّا رأيناهم كما جعلوا فى غير القسم النفى محتاجا إلى حرف، والإثبات غنيا عن الحرف عكسوا فى باب القسم؛ فلم يجيزوا إذا كان المقسم عليه مثبتا أن يخلو من حرف الإثبات، فلا يقولون: (والله زيد قائم) ولا (والله يقوم زيد) وهم يريدون الإثبات؛ بل لا بد من حرف الإثبات، وإذا كان المقسم عليه منفيا وهو فعل مستقبل جوزوا أن يكون بغير حرف، فقالوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (¬1) و (تالله يبقى على الأيام) و (تالله أبرح قائما) فنبهوا بصنعهم فى هذا الفصل ضد ما صنعوه فى عموم الأحوال على أن كل واحد من النفى والإثبات محتاج إلى علامة، وأنهم تارة يجعلون علامة هذا وجودية، وعلامة الآخر عدمية، وتارة يعكسون الأمر. وإلا فلو كان قولك: (زيد قائم) دالا على الإثبات بنفسه إذا لم يكن قسم؛ فالقسم لا يزيده إلا تأكيدا، فلأى معنى اشترط فيه الإتيان بحرف الإثبات؟ ولو كان قولك: (يقوم زيد) فى غير القسم دالا على الإثبات بنفسه لكان إذا حذف حرف النفى فى باب القسم إثباتا؛ لكونه دالا بنفسه، وليس هناك ما يعارضه، ولا ما يمنع دلالته. فإن قلت: لا نسلم أنه ليس هناك ما يعارضه، فإن حرف النفى محذوف مراد، قلت: الأصل عدم الحذف، والتقدير. (الوجه الرابع): أن قولك: (ضرب زيد) لو كان دالا على الإثبات بنفسه لكانت تلك الدلالة مستفادة من مفردية أو من أحدهما، أو من النسبة بينهما، أو من المجموع، وكل واحد منها موجود مع حرف النفى، وحرف الاستفهام، وهو غير دال على الإثبات معهما، فإن قلت: الحرف مانع من دلالته على الإثبات، قلت: لو كان الحرف مانعا لكان شرط الدلالة التجريد، وقد قدمنا فى الوجه الثانى أن كون التجريد علامة أولى من كونه شرطا، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. التاسعة: قد يكون الخطاب ابتدائيا وطلبيا وإنكاريا، بأن تقول لمن لا يستحضر قيام زيد، ويتردد فى قيام عمرو، وينكر قيام بكر: (زيد وعمرو وبكر قائمون) فماذا تصنع ولم يبق إلا التغليب؟! والذى يظهر أن تعامل الجميع معاملة الإنكارى، فإن تأكيد الابتدائى لا بدع فيه، بخلاف ترك تأكيد الإنكارى، فإنه لا يجوز. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 85.

نوعا الإسناد

ثم الإسناد: 1 - منه: حقيقة عقلية، وهى: إسناد الفعل - أو معناه - إلى ما هو له عند المتكلّم، فى الظاهر؛ كقول المؤمن: أنبت الله البقل، وقول الجاهل: أنبت الرّبيع البقل، وقولك: جاء زيد، وأنت تعلم أنه لم يجئ. ـــــــــــــــــــــــــــــ نوعا الإسناد: أ - الحقيقة العقلية: ص: (ثم الإسناد ... إلخ). (ش): إنما جعل ذلك فى علم المعانى، وجعله السكاكى فى علم البيان؛ لأن السكاكى كان ينكر هذه الحقيقة، وهذا المجاز، فلذلك ذكرهما، ثم منبها على عدمهما، وقوله: (ثم) أى ثم نقول، وقسم المصنف الإسناد إلى حقيقة ومجاز. واعلم أن لفظى الحقيقة والمجاز تارة يقصد بهما الألفاظ، وذلك سيأتى فى علم البيان، وهو معناهما الاصطلاحى، وتارة يستعملان فى المعانى، وعليه عبارة من يقول فى المجاز المفرد: هو استعمال اللفظ فى غير موضوعه، ولا يقول: اللفظ المستعمل، غير أن كثيرا من الأصوليين أطلق أن المجاز استعمال اللفظ فى غير موضوعه وأراد المجاز اللفظى؛ وهى عبارة مدخولة، ومراد المصنف هنا الحقيقة والمجاز فى الإسناد نفسه، وهو عقلى، فلذلك جعلهما حقيقة ومجازا عقليين، وعلى الحقيقة إسناد الفعل أو معناه من اسم الفاعل ونحوه، مما يقبل الإسناد، إلى ما هو له عند المتكلم فى الظاهر فدخل فى ذلك أقسام: أحدها: إسناده إلى ما هو له عند المتكلم وفى الخارج، كقول المؤمن: (أنبت الله البقل). الثانى: ما هو له عند المتكلم، كقول الكافر: (أنبت الربيع البقل) ومنه قول الكفار: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (¬1)، ولا يكون مجازا؛ لأنه تعالى قال: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. * الثالث: ما هو له فى الخارج فقط، كقول المعتزلى: (الله تعالى خالق الأفعال كلها) يريد إظهار خلاف ما عنده ظانا أنه يفترى الكذب. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية: 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابع: إسناده إلى ما ليس له عند المتكلم ولا فى الخارج، ولكن السامع يتوهم أنه عنده كذلك، وعلم بذلك أن قوله إسناد الفعل أو معناه جنس، وقوله لما هو له خرج به المجاز العقلى، مثل: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (¬1)، وضمير هو يعود على الفعل، أو معناه، وفى له يعود على (ما)، ودخل القسمان الأولان فى قوله: عند المتكلم، والآخران بقوله: فى الظاهر، فإن السامع يتوهم أنه له عند المتكلم، وخرج إخبار الإنسان بخلاف ما فى ذهنه، والسامع يعلم ذلك، وفيه نظر؛ لأنه إسناد عقلى، لكنه كذب، وليس فيه إسناد مجازى، فتعين أن يكون إسنادا حقيقيا كذبا. وقد يجاب عنه بأنه لم يخرج، فإن كلام الكاذب فيه إسناد الفعل لما له عند المتكلم فى الظاهر بحسب وضع اللغة؛ لأنه كلام من شأنه أن يدل ظاهره على ذلك وإن تخلفت الدلالة هنا لمانع اعتقاد الكذب. (تنبيه): قول المصنف (¬2) خرج بقولنا إسناد الفعل أو معناه إسناد غيرهما إلى شئ فليس حقيقة ولا مجازا، مثل: الإنسان جسم، وليس كما قال؛ بل كل خبر ففيه الإسناد، وما ذكره يؤدى إلى نفى الإسناد؛ لأن من أثبت الحقيقة والمجاز العقليين فتقسيمه الإسناد إليهما منفصلة حقيقة، مانعة الجمع، والخلو، فكل إسناد ليس حقيقة، ولا مجازا لا وجود له، ومن وقف على حدى الإسناد الحقيقى والمجازى عرف ذلك. ثم نقول: الإنسان جسم فيه معنى الفعل، باعتبار رجوعه إلى الإسناد المعنوى، وقد قدروا فى (زيد أسد، زيد جرى). وكذلك يقدر فى الجميع، ولا يلزم من ذلك أن يتحمل ضميرا، بل هذا تأويل معنوى لا لفظى، ولو لم يقل بتأويله بمشتق فلا شك فى حصول الإسناد كما هو ظاهر عبارة الشيخ عبد القاهر والسكاكى. (تنبيه) هذا التقسيم مبنى على ثبوت الحقيقة والمجاز العقليين، وقد أنكره ابن الحاجب تصريحا فى أماليه، ومختصره الكبير، واستبعادا فى مختصره الصغير فى الأصول، وسيأتى الكلام عليه فى المجاز الإسنادى إن شاء الله تعالى. (تنبيه): اعلم أن الإسناد الحقيقى ليس باعتبار التأثير، بل لأعم من ذلك، كقولك: (خلق الله السماء) و (قام زيد) فزيد غير مؤثر القيام، بل هو واقع بخلق الله تعالى، ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة: 2. (¬2) قال المصنف: أى فى كتابه الإيضاح أثناء الكلام على تعريف السكاكى. كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولكن نسبة القيام إليه حقيقة، بمعنى أن العرب إنما وضعت (قام) لفعل العبد الواقع بخلق الله تعالى، فإن قلت: إذا كان الله تعالى هو الفاعل فالعبد غير فاعل حقيقة، قلت: الحقيقة تطلق على الأمر المحقق المقابل للعدم، وليس كلامنا فيه، وتطلق على ما هو محل الأوضاع اللغوية، وكلامنا فيه؛ فالعرب لم تلاحظ فى (قام زيد) غير نسبة القيام إليه، وإن كان الله تعالى خالقها ولذلك لا يصح سلبه عنه، فلا تقول: (ما قام زيد) بمعنى أن الله تعالى هو الفاعل. وأما قوله: حين حلف أنه لا يحمل قوما ثم حملهم:" ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" (¬1) فهو نفى مجازى، مثل: وَما رَمَيْتَ (¬2)، فإن قيل: فهل يصح نفيه عن الله تعالى، أعنى فعل العبد؟ قلت: أما شرعا فلا، وأما لغة فنعم، وكيف لا، وقد لاحظت العرب فى ذلك ما لا ينسب إلا إلى العبد من الحركات؟ بل لا يسوغ شرعا إسناد الفعل إلى الله - سبحانه وتعالى - إذا كان غير لائق، وإن كان خالقا له، كالقيام، والقعود منا، والأفعال المحرمة، وحاصله أن الإسناد الحقيقى أقسام: الأول: ما يراد وقوعه من فاعله حقيقة، بمعنى التأثير، وذلك يختص بالله تعالى، كقولنا: (خلق الله) و (رزق الله). الثانى: ما يراد وقوعه حكما، مثل: (قام زيد). الثالث: ما يراد به مجرد الاتصاف، مثل: (مرض زيد)، وكل ما لا كسب فيه، مثل: (برد الماء). وإذا اتضح ذلك فقد ظهر أن قول المصنف: (ما هو له) معناه له لغة، ومن الغريب أن ابن قتيبة قال فيما نقله عن ابن رشيق فى العمدة، وصاحب مواد البيان: لو كان المجاز كذبا لكان أكثر كلامنا باطلا؛ لأنا نقول: (نبت البقل) و (طالت الشجرة) و (أينعت الثمرة) و (أقام الجبل) و (رخص السعر) وكان الفعل فى وقت كذا، وهو لم يكن، وإنما يكون فيه. اه. ولا يخفى ما فيه من النظر، إلا أن يريد بكون هذه الأمور مجازا أنه ليس فى واحد منها فعل محقق الوجود من فاعله، ومن الغريب أيضا أن الراغب قال فى كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" الأيمان والنذور"، (11/ 525)، (ح 6623)، وفى غير موضع من صحيحه، ومسلم (ح 1649). (¬2) سورة الأنفال: 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذريعة إلى محاسن الشريعة: أكثر الأسباب التى يحتاج الفعل فى وجوده إليها عشرة أشياء: فاعل يصدر عنه، كالنجار، وعنصر يعمل فيه، كالخشب، وعمل كالنجر، ومكان وزمان يعمل فيهما، وإلى آلة يعمل بها، كالمنجر، وإلى غرض قريب، كإيجاد النجار الباب، وإلى غرض بعيد، كتخصيص البيت به، وإلى مثال يعمل عليه، ويهتدى به، وإلى مرشد يرشده، وكل ذلك قد ينسب الفعل إليه فتقول: (أعطانى زيد) و (أعطانى الله) قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (¬1)، وقال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (¬2) فأسنده إلى الآمر، وإلى المباشر، وقال الشاعر: وألبسنيه الهالكى وقال: كساهم محرق فنسب الفعل لعاملها؛ وفى الثانى لمستعملها، وقيل: (يداك أو كتا) و (فوك نفخ) فنسب إلى الآلة كما يقال: (سيف قاطع) ويقال: (ضرب) فيصل فنسب إلى الحدث و (عيشة راضية) فنسب إلى المفعول، وقال تعالى: حَرَماً آمِناً (¬3) فنسب إلى المكان وقيل: (يوم صائم) و (ليل ساهر) فلما كانت أفعالنا كذلك صح فى الفعل الواحد أن يثبت لأحد الأسباب مرة، وينتفى أخرى، بنظرين مختلفين، وعليه قول الشاعر: أعطيت من لم تعطه ولو انقضى … حسن اللّقاء حرمت من لم تحرم فأثبت له الفعل، ونفاه بنظرين، وتقول: (هذا الخشب قطعته أنا لا السكين) و (قطعته السكين لا أنا). واعلم أنه من أجل ما قدمناه قال قوم من المحصلين: لا شئ من الأفعال فاعله واحد على الحقيقة إلا الله تعالى؛ لاستغناء فعله عن الزمان، والمكان، والمادة، والآلة، وغيرها، ولهذا لا يصح أن ينسب الإبداع إلى غيره تعالى، لا حقيقة ولا مجازا اه. وظاهر كلامه أن هذه الإطلاقات ونسبة الفعل لجميع ما سبق حقيقة، وهو وما سبق ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 42. (¬2) سورة السجدة: 11. (¬3) سورة القصص: 57.

ب- المجاز العقلى

2 - ومنه: مجاز عقلىّ، وهو: إسناده إلى ملابس له غير ما هو له بتأوّل. وله (¬1) ملابسات شتّى: يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزّمان، والمكان والسبب: فإسناده إلى الفاعل أو المفعول به - إذا كان مبنيّا له حقيقة كما مرّ. وإلى غيرهما - للملابسة -: مجاز؛ كقولهم: عيشة راضية، وسيل مفعم، وشعر شاعر، ونهاره صائم، ونهر جار، وبنى الأمير المدينة. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن قتيبة قولان غريبان آخذان بطرفى الإفراط والتفريط، والحق بينهما - إن شاء الله تعالى - ولا يخفى ما فى كلام الراغب من الاعتراك. (تنبيه): الحقيقة والمجاز التركيبيان هل هما لغويان أو لا؟ وذلك مبنى على أن المركبات موضوعة أو لا، إن قلنا بالأول فنعم، وإلا فلا، وقد أوعيت الكلام على هذه المباحث فى شرح المختصر فليطلب منه. ب - المجاز العقلى: ص: (ومنه مجاز عقلى وهو إسناده إلى ملابس له غير ما هو له بتأول). (ش): قوله إسناد جنس، والضمير لأحد أمرين: الفعل، أو معناه. وقوله: (إلى ملابس له): أى الفعل أو معناه، وضمير هو كذلك، أى غير ما الفعل له، أو معناه. وقوله: (بتأول) يتعلق (بإسناد) وخرج به قول الجاهل: (أنبت الربيع البقل) كما سيأتى. فقد تكمل إخراج أقسام الحقيقة بمجموع الفصلين. ملابسات المجاز العقلى: ص: (وله ملابسات شتى ... إلخ). (ش): أى للفعل، أو معناه ملابسات متعددة، فهو يلابس الفعل، والمفعول به، ويلابس المصدر، وظرفى الزمان والمكان، والسبب. واعلم أن الإسناد هنا إما أن يراد به الحكم الدائر بين المسند والمسند إليه، أو مجرد النسبة الصادقة على نسبة المفعول، أو غيره من متعلقات الفعل. أما الأول: فاعلم أن الإسناد لا بد له من مسند إليه، كما سبق، وذلك المسند إليه إما فاعل، أو ما هو فى حكم الفاعل، مثل المبتدأ، واسمى كان وإن، وغير ذلك من المحكوم عليه. ¬

_ (¬1) أى للفعل، أو معناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا فى كل إسناد، مجازيا كان أو حقيقيا، فنقول: إذا وقع الإسناد فالمحكوم عليه إما أن يكون هو الفاعل فى نفس الأمر، أو المصدر، أو الزمان، أو المكان، أو المفعول، أو السبب. فالأول - وهو إسناد الفعل إلى فاعله لا يكون إلا حقيقة، ونعنى فاعله الذى هو له، مثل: (قام زيد) فقد أسند الفعل لفظا ومعنى إلى فاعله. هذا مضمون كلامهم. الثانى - إسناده إلى المفعول، معناه أن يجعل ما هو له فى المعنى مفعول فاعلا، أو فى حكم الفاعل، فالفاعل كقوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (¬1) فإن راضية مسندة إلى ضمير العيشة، فقد جعلت العيشة فاعلا، وإنما هى مفعول فى المعنى لأنها مرضى بها، وكذلك: ماءٍ دافِقٍ (¬2) فقد جعل المرضى به راضيا، والمدفوق دافقا، ومنه (سر كاتم) أى (مكتوم) حكاه ابن السكيت، والذى فى حكم الفاعل (سيل مفعم)، لأن المفعم هو المملوء، والسيل فى الحقيقة مالئ للوادى، لا مملوء، فقد أسند الفعل إلى الفاعل، معناه أنه جعل ما هو الفاعل فى المعنى أى فى الأصل، وهو السيل، نائبا عن الفاعل لفظا، والنائب عن الفاعل لفظا مفعولا معنى، فقد أسند الإفعام فى المعنى إلى الوادى الذى كان مفعولا، فصار السيل مفعولا فبنى الفعل له. ونظر (¬3) المصنف فى الإيضاح فإنه فى (عيشة راضية) جعل المفعول معنى فاعلا لفظا، وفى (سيل مفعم) جعل الفاعل معنى نائبا عن الفاعل، وهو المفعول فى الأصل، فقال: إن هذا عكس الذى قبله، وليس كذلك، بل (سيل مفعم) مثل (عيشة راضية)، فإن العيشة كانت مفعولا، جعلت فاعلا، والوادى كان مفعولا صار فاعلا، ولذلك انقلب السيل الذى كان فاعلا مفعولا، فبنى له الفعل، فقيل: مفعم، وكذلك لو بنيت المفعول من عيشة راضية لقلت: عيشة مرضية. الثالث: إسناده إلى المصدر، وهو أن تجعل ما هو فى المعنى مصدر فاعلا لفظيا، أو فى حكمه، مثل: شعر شاعر، فإن (شاعرا) أسند إلى ضمير الشعر، قلت: وليس مثالا صحيحا، لأن شاعرا فى قولنا شعر شاعر المراد به المشعور وهو نفس المنظوم لا الشعر الذى هو المصدر والمثال الصحيح: ¬

_ (¬1) سورة القارعة: 7. (¬2) سورة الطارق: 6. (¬3) قوله ونظر: تحرر هذه الكلمة فإن الأصل الذى بيدنا سقيم. كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سيذكرنى قومى إذا جدّ جدّهم … وفى اللّيلة الظّلماء يفتقد البدر (¬1) وكذلك قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (¬2). الرابع: إسناده إلى اسم الزمان، مثل: (نهاره صائم) فقد أسند صائم إلى النهار، معناه أنا نجعل اسم الزمان فاعلا، فنسند الصوم إليه، وينبغى تقييد ذلك بإرادة هذا المعنى، فإنه يصح أن تقول: (نهاره صائم) حقيقة، أى قائم الظهيرة، يقال: صام النهار إذا قام قائم الظهيرة، ولا بد من إرادة الحقيقة الشرعية، فإن الصوم فى اللغة مطلق الإمساك، فيصح إسناده للنهار حقيقة، ومن هذا الباب قولهم ولد له ثلاثون عاما، وصيد عليه يومان، وليلة ماطرة، وليل ساهر، وقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً (¬3). الخامس: اسم المكان مثل: (نهر جار) وهو كظرف الزمان، وهذا المثال إنما يصح إذا كان النهر اسما للشق، فإن كان اسما للماء وحده فهو حقيقة، ولأهل اللغة فى ذلك عبارات مختلفة تشهد لكل من الاحتمالين. السادس: السبب وهو أن تجعل ما هو سبب الفعل فى المعنى فاعلا، أو فى حكمه، مثل (بنى الأمير المدينة) لكونه تسبب فى بنائها، قال الخطيبى: يريدون بنيت المدينة للأمير، وبعضهم يجعل هذا المثال للمسبب، وكلاهما صحيح. (قلت): ليس معناه ما ذكره، وإنما يكون معناه بنيت للأمير بتقدير أن يكون للمسبب، فيكون من القسم الذى ذكره بعد، وقوله: (وكلاهما صحيح) فيه نظر؛ لأنه على المسببة يرجع فى المعنى إلى المفعول من أجله، فيمكن دخوله فى قسم عيشة راضية، إلا أن مرادهم بالمفعول فى عيشة راضية المفعول به فقط. هذا كله على تقدير أن المراد بالإسناد ذلك فقولك: بنيت المدينة لا يطلق على بنائها للأمير، ولا يفهم منه لا حقيقة ولا مجازا، وأما قولك: للأمير فليس مسندا إليه، وأما على التقدير الآخر أن المراد بالإسناد النسبة - ولا تستبعده - فسيأتى عن سيبويه والسكاكى مثله فى الكلام على أسباب العلمية، فالحكم على ما سبق واضح؛ لأنه يكون تعلق الصفة بالموصوف، كراضية بعيشة، وغيره مجازا، من غير نظر إلى ضميره المستتر فيه، ويكون فى (ضرب زيد عمرا) إسناد باعتبار الفاعلية، وإسناد باعتبار المفعولية. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة فى شرح عقود الجمان 1/ 45. (¬2) سورة الحاقة: 13. (¬3) سورة يونس: 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وبعد أن تحررت هذه القاعدة على التحقيق فنقول: الإسناد إلى الفاعل المعنوى قد يكون والفعل مبنى له لفظا، مثل: (قام زيد) فزيد فاعل لفظا، ومعنى حقيقة، ولا يكون إلى نائبه، لأنك إذا قلت: (ضرب زيد) لم تسند الضرب باعتبار الفاعلية إلى أحد، إنما أسندته باعتبار المفعولية فالفاعل المعنوى ليس المفعول الذى هو نائبه نائبا فى المعنى، بل فى اللفظ فقط، والإسناد إلى المفعول به المعنوى قد يكون مع البناء للفاعل، كما يقول رضيت العيشة، وإن بنيته للمفعول ألبس بالحقيقة كقولك: رضيت العيشة بضم الراء، وعلى هذا القياس، إلا أنه قد يقال: لا يلزم من جعل المفعول فاعلا أن يجعل كذلك الفاعل مفعولا، بل يستعمل منه القاصر، فإن (دفق) فى الأصل متعد، فلما أسندناه إلى الماء قد يقال: إنه صار قاصر بمعنى مندفق، وفيه نظر، وقد يقال: هو متعد، أى دافق نفسه، والظاهر أنا إذا جعلنا المفعول فاعلا انقلب الفاعل مفعولا، ويوضحه ما تقدم فى (سيل مفعم)؛ لأنا إنما قلنا مفعم بالبناء للمفعول؛ لأنا قدرنا أن المفعول هو الفاعل، فقلنا: ملأ الوادى السيل، فلذلك صح بناء الفعل للسيل، فقلنا: (أفعم السيل) فتبعه قولنا سيل مفعم. ولنرجع حينئذ إلى عبارة المصنف، فقوله: إسناده إلى الفاعل حقيقة لا يريد الفاعل اللفظى، وإلا ورد عليه أن الإسناد المجازى أيضا لا يكون إلا لفاعل لفظى، كما ستراه فى الجميع، وإنما أراد المعنوى ويعنى به ما هو له عند المتكلم فى الظاهر، ولا يريد لما هو له حقيقة، أو بتأويل؛ لأن كل إسناد كذلك، وقوله: (أو المفعول إذا كان مبنيا له) يعنى إسناد الفعل فى نحو: (ضرب زيد عمرا) إلى الفاعل الحقيقى؛ إذا كان الفعل أو معناه مبنيا له، أو إلى المفعول؛ إذا كان الفعل أو معناه مبنيا له. وقيدناه (بالحقيقى) احترازا عن إسناد الفعل لما جعلناه مفعولا به مجازا، فإن الإسناد فيه مجازى كما سبق فى (سيل مفعم)، ولا يصح إطلاق أن الإسناد إلى المفعول والفعل مبنى له حقيقة، فتصحيح الكلام أن يقال: إسناد الفعل إلى مفعوله الحقيقى والفعل مبنى له حقيقة، مثل: (ضرب زيد)، وكذلك إسناده إلى الفاعل الحقيقى، والفعل مبنى له مثل: (ضرب زيد عمرا) فالأول إسناد الضاربية، والثانى إسناد المضروبية، ولا يكون الإسناد فى هذين إلا حقيقة، والأقسام الآتية وإن صح بناؤها للمفعول فالمفعول الذى بنى الفعل له فيها ليس مفعولا حقيقيا. وقوله: (إلى غيرهما للملابسة) مجاز أى سواء كان مبنيا للفاعل

وقولنا: بتأوّل خ خ: يخرج ما مرّ من قول الجاهل؛ ولهذا لم يحمل نحو قوله [من المتقارب]: أشاب الصّغير وأفنى الكبي … ر كرّ الغداة ومرّ العشى ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل: عيشة راضية، أو للمفعول مثل: سيل مفعم؛ على أنه قيل فى عيشة راضية غير ذلك، فقال البصريون: هو على إرادة النسب، أى عيشة ذات رضا، وفيها ضمير الفاعل، كما هو فى قولك: رجل هندى. وقال الكوفيون: أصله مرضية، فأقيم راضية، مقام مرضية. قال الفارسى: فعلى هذا ليس الضمير المستتر فاعلا، بل هو قائم مقامه، فعلى الوجهين هو مجاز إفرادى لا عقلى، وقيل: الأصل راض صاحبها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فارتفع مستترا، وأنث لإسناده لمؤنث، وقيل: راضية معناه كاملة. وقوله: وسيل مفعم الكلام فيه كعيشة راضية فتطرقه هذه الأقوال وكذلك الجميع وقوله: شعر شاعر تقدم الكلام عليه. (تنبيه): عرف مما سبق أن الإسناد إلى الفاعل والمفعول أقسام أربعة: أحدها - أن يسند إلى الفاعل والفعل مبنى له مثل: (قام زيد). الثانى - أن يسند إلى الفاعل والفعل مبنى للمفعول مثل: (رضى صاحب العيشة). الثالث - أن يسند إلى المفعول والفعل مبنى للفاعل، مثل: (عيشة راضية). الرابع - أن يسند إلى المفعول وهو مبنى له مثل: (ضرب زيد). (تنبيه): المراد بقولنا الإسناد إلى المفعول وما معه هو الذى كان مفعولا، وكذلك فى الجميع، ولا نعنى أنا نسند إليه حال كونه مفعولا، فلا نقول: إن راضية بمعنى مرضية، والضمير للفاعل، ولو قلنا ذلك لتهافت، بل الصيغة فاعل لفظا صناعيا، ومعنى مجازيا. (تنبيه): لك أن تقول: الملابسة لا تختص بالسببية، بل جميع العلاقات المذكورات فى المجاز اللفظى ينبغى أن تأتى فى المجاز الإسنادى. قوله: (وقولنا بتأول يخرج ما مر من قول الجاهل) يعنى قوله: أنبت الربيع البقل، ويعنى الجاهل بالله تعالى، وهو الكافر. قوله: ولهذا لم يحمل على المجاز قول الصلتان العبدى، وقيل السعدى: أشاب الصّغير وأفنى الكبي … ر كرّ الغداة ومرّ العشى (¬1) ¬

_ (¬1) الأبيات من المتقارب، وهى للصلتان العبدى: قثم بن ضبية العبدى، فى شرح الحماسة للمرزوقى ص 1209، والمعاهد 1/ 71، ولطائف التبيان للطيبى ص 117 بتحقيقى، والتبيان للطيبى 1/ 320 بتحقيقى، ونهاية الإيجاز -

على المجاز؛ ما لم يعلم أو يظنّ بأنّ قائله لم يرد ظاهره؛ كما استدلّ على أنّ إسناد ميّز فى قول أبى النّجم [من الرجز]: ميّز عنه قنزعا عن قنزع … جذب اللّيالى أبطئى أو أسرعى (¬1) مجاز بقوله عقيبه [من الرجز]: أفناه قيل الله للشّمس اطلعى ـــــــــــــــــــــــــــــ نروح ونغدو لحاجاتنا … وحاجة من عاش لا تنقضى تموت مع المرء حاجاته … وتبقى له حاجة ما بقى يعنى كل مجاز إسنادى لا يحمل على المجاز، حتى يظن أن قائله لم يرد ظاهره، فإن شك فالأصل الحقيقة. وعلى المصنف فى هذا المثال اعتراض سيأتى، وقوله: كما استدل مثال لما إذا ظن أن قائله لم يرد ظاهره، فإن أبا النجم لو اقتصر على قوله: ميّز عنه قنزعا عن قنزع … جذب اللّيالى أبطئى أو أسرعى (¬2) لما علمنا أنه مجاز إلى أن قال: أفناه قيل الله للشّمس اطلعى (¬3) وعكسه قولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (¬4) استدل على إرادة الحقيقة بقوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. * (تنبيه): أنشد فى الإيضاح لملابسة السبب قول عوف بن الأحوص: ¬

_ - للرازى ص 170، والإشارات والتنبيهات ص 25، والمفتاح 208 ط المطبعة الأدبية، والمصباح ص 144، والإيضاح ص 27، والتلخيص ص 12، وشرح عقود الجمان 1/ 46. (¬1) أورده بدر الدين بن مالك فى المصباح ص 145، وفخر الدين الرازى فى نهاية الإيجاز ص 182 وعزاه لأبى النجم وميز عنه: أى عن الرأس. القنزع: الشعر المجتمع فى نواحى الرأس. جذب الليالى: أى مضيها واختلافها. أبطئى أو أسرعى: حال من الليالى، على تقدير القول، أى مقولا فيها. (¬2) الرجز لأبى النجم فى الإيضاح ص 28، والتلخيص ص 13، والمصباح ص 145، ونهاية الإيجاز ص 182، وشرح عقود الجمان 1/ 46، ودلائل الإعجاز ص 278، والطراز 2/ 196. (¬3) انظر ما سبق فى تخريج البيت السابق. (¬4) سورة الجاثية: 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تسألينى واسألى عن خليقتى … إذا ردّ عافى القدر من يستعيرها (¬1) أراد أنه أطلق عافى القدر على المرق الذى يتأخر فيها، وإنما هى حقيقة فى المستعير؛ لأن عافى القدر هو المستعير الراد. (قلت): كذا قال الجوهرى يقال: عفوت القدر إذا تركت فيها شيئا، لكن قال ابن سيده فى المحكم: عافى القدر ما يبقيه فيها المستعير من المرق وأنشد البيت. (تنبيه): عرف صاحب المفتاح الحقيقة العقلية بقوله: هو الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه، وعرف المجاز العقلى بقوله: هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه، لضرب من التأول إفادة للخلاف، لا بواسطة وضع، وقال: إنما قلت ما عند المتكلم من الحكم دون أن أقول ما عند العقل، وفى الثانى خلاف ما عند المتكلم دون أن أقول خلاف ما عند العقل، ليتناول الأول كلام الجاهل، حيث عد منه حقيقة، مع أنه غير مفيد لما فى العقل من الحكم فيه، ولا يدخل هذا الكلام فى الثانى، فإنه لا يسمى كلام ذلك مجازا، وإن كان بخلاف العقل فى نفس الأمر، ولئلا يمتنع عكس الثانى، بمثل: (كسا الخليفة الكعبة) فإنه لا يمتنع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة، ولا يقدح ذلك فى كونه فى المجاز العقلى. قال المصنف فى كلامه: هذا نظر، أما فى الأول؛ فلأنه غير مطرد لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا، ولا متصلا به، مثل: الإنسان حيوان، مع كونه لا يسمى حقيقة، ولا مجازا. ولا منعكس، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم، وما لا يطابق شيئا منهما مع كونهما حقيقتين عقليتين. (قلت): أما السؤال الأول فممنوع، ولا شك أن الإسناد فى زيد حيوان حقيقة، بخلاف ما قاله المصنف، وهو مقتضى كلام عبد القاهر، حيث حدها بما يقتضى دخول مثل ذلك، كما تقدم، والثانى صحيح، إلا أن يحمل على أن مراده بما عند المتكلم، ما يدل لفظه عليه مع عدم القرينة الصارفة عنه، وقد ذكر فى الإيضاح اعتراضات على ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، ويروى (ما خليقتى)، وهو لمضرس الأسدى، فى لسان العرب (عفا) وتاج العروس (عفا)، وللكميت فى أساس البلاغة (عفو)، وليس فى ديوانه، وبلا نسبة فى الإيضاح ص 27 بتحقيقنا، وص 22 ط. وعزاه المحقق لعوف بن الأحوص من قصيدة له فى المفضليات.

أقسام المجاز العقلى

وأقسامه أربعة: لأنّ طرفيه: إمّا حقيقتان: نحو: أنبت الربيع البقل. أو مجازان: نحو: أحيا الأرض شباب الزّمان. أو مختلفان: نحو: أنبت البقل شباب الزمان، وأحيا الأرض الربيع. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحد، لم أطل بذكرها، وقد تبين بما ذكرناه أن المسمى بالحقيقة والمجاز العقلى عند المصنف هو الإسناد نفسه، وعليه عبارة ابن الحاجب فى النقل عن عبد القاهر، وقول الزمخشرى فى الكشاف، وغيره، وعلى عبارة السكاكى يكون المجاز نفس الكلام. قال المصنف: وإنما اخترنا هذا؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا على هذا لنفسه بلا واسطة شئ وعلى الأول لاشتماله على ما ينسب إلى العقل، قلت: بل لا يصح من جهة المعنى إلا ذلك، والسكاكى فى جميع الباب يقول: إسناد حقيقة وإسناد مجاز، كما قال غيره. أقسام المجاز العقلى: ص: (وأقسامه أربعة؛ لأن طرفيه إلى قوله وغير مختص). (ش): أى أقسام المجاز العقلى أربعة، لأن له طرفين: هما المسند والمسند إليه فإما أن يكونا حقيقتين أى كل منهما حقيقة لغوية، مثل: أنبت الربيع البقل، فالإنبات والبقل حقيقتان، لاستعمالهما فى موضوعهما ومنه: وشيّب أيّام الفراق مفارقى (¬1) وكذلك قول الشاعر: ونمت وما ليل المطىّ بنائم (¬2) أو مجازين مثل أحيا الأرض شباب الزمان، فإن الإحياء والشباب مستعملان مجازا فى الإنبات والربيع، أو يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازا، مثل: أنبت البقل شباب الزمان، أو عكسه، نحو: أحيا الربيع البقل، ووقع المجاز العقلى كثيرا فى القرآن كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) صدر بيت من الطويل وعجزه: وأنشزن نفسى فوق حيث تكون، وهو بلا نسبة فى الإيضاح ص 31، بتحقيقنا، وينسب لجرير وليس فى ديوانه. (¬2) عجز بيت من الطويل، وصدره: لقد لمتنا يا أم غيلان فى السرى، وهو لجرير فى ديوانه ص 419، وخزانة الأدب 1/ 465، 8/ 202، والكتاب 1/ 160، ولسان العرب 2/ 442، والإشارات والتنبيهات ص 26، والإيضاح ص 31.

وهو فى القرآن كثير: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً (¬1)، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ (¬2)، يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما (¬3)، يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (¬4)، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (¬5). وهو غير مختص بالخبر، بل يجرى فى الإنشاء؛ نحو: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً (¬6) ـــــــــــــــــــــــــــــ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «1» - نسب الزيادة للآيات وهى لله تعالى، وكذلك يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ «2» نسب التذبيح لفرعون لكونه الآمر به، وكذلك يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما «3» باعتبار السبب فى النزع، وكذلك يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً «4» وكذلك أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «5». (تنبيه): هذه الأقسام الأربعة تأتى فى الإسناد الحقيقى، فقد يكون طرفاه حقيقتين، مثل: (خلق الله زيدا) وقد يكونان مجازين، كقولك: (أحيا البحر زيدا) تريد (أعطى الكريم زيدا) وقد يكون المسند مجازا، والمسند إليه حقيقة، مثل: (أحيا الله البقل)، وعكسه، مثل: (جاء فلان) يريد غلامه، وإنما يجوز ذلك بقرينة ترشد إلى المعنى. (تنبيه): هذه الأقسام الثمانية هى دائرة بين الفعل وفاعله، ولا شك أن الفعل يلابس فضلات باعتبار المفعول، والحال، وغيرهما، وذلك باعتبار الحقيقة أو المجاز، فنقول: كل واحد منهما قد يكون فى الفاعل والمفعول، والمفعول يلابس الفعل حقيقة أو مجازا، وكل واحد منهما قد يكون فى نفسه مجازا إفراديا، وقد يكون حقيقيا، فهذه أربعة أحوال تضرب فى الثمانية أعنى الأقسام الأربعة الحقيقية والأقسام الأربعة المجازية - تبلغ اثنين وثلاثين قسما، وتأتى فى المفعول الثانى أربعة وستين، وفى الثالث مائة وثمانية وعشرين، وتتضاعف بالتوابع والحال والمصدر والظرف ونحوه، فعليك باعتبار ذلك، وافعل ما تقتضيه القواعد السابقة، وينبغى أن يسمى هذا مجاز الملابسة، ولا يقال: مجاز إسناد؛ لغلبة استعمال الإسناد بين الفعل وفاعله، أو ما قام مقامه فقط. ص: (وغير مختص بالخبر بل يجرى فى الإنشاء كقوله تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً «6»). ¬

_ (¬1) الأنفال: 2. (¬2) القصص: 4. (¬3) الأعراف: 27. (¬4) المزمل: 17. (¬5) الزلزلة: 2. (¬6) سورة غافر: 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ش): لأن هامان ليس مأمورا أن يبنى بنفسه، وقوله: غير مختص معطوف على كثير، ولكنه لا يشاركه فى ظرفه الذى هو فى القرآن، وهذا مثال لمجاز السببية ويأتى ذلك فى الجميع، كقولك: لعل العيشة ترضى، والنهار يصوم، والنهر يجرى، والجد يجد، وفى القسم تقول: أقسمت بالله، حقيقة، فإذا أردت الإسناد المجازى لا تكاد تقدر عليه، ولا تقدر عليه أيضا فى النداء ولا الاستفهام، لا يقال: قد يأتى فى القسم فى نحو: حلف الزّمان ليأتينّ بمثله … حنثت يمينك يا زمان فكفّر (¬1) فإنك يصح أن تقول: على هذا قال الزمان: أقسمت لآتين بمثله؛ لأن الإسناد حينئذ فى قول الزمان: (أقسمت) حقيقة وفى قولك: قال الزمان: هو المجاز. (قاعدة هذا أول مواطن ذكرها لا بأس بالتيقظ لها فقد غلط فيها من لا أحصيهم عددا من الأئمة) والاختصاص والتخصيص معناهما الانفراد والإفراد، فإذا قلت: اختص زيد بالمال فمعناه أنه انفرد به لم يشاركه أحد من الناس فيه، وخصصته به أى أفردته من دون سائر الناس بالمال، كما صرح به أهل اللغة، وقال: الراغب: التخصيص (¬2) والاختصاص والتخصص تفرد بعض الشئ بما لا يشاركه فيه الجملة اه. وهذا واضح، ولذلك قال تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (¬3) أى يفرد من يشاء برحمته، أو ينفرد من يشاء برحمته، فمعناه على التقديرين انفراد من يشاء بالرحمة، فإذا قلت: اختص زيد بالمال فمعناه أن زيدا منفرد عن غيره بالمال، فهو المختص بمعنى اسم الفاعل، والمال مختص به، والمختص أبدا هو المنفرد، والمحتوى على الشئ فهو كالظرف له، والمختص به أبدا هو المأخوذ، كالمظروف، فلو قلت: اختص المال بزيد مريدا ما أردته بالمثال السابق لم يصح؛ لأنك فى المثال الأول حصرت المال فى زيد، وفى الثانى حصرت زيدا فى المال، فلا يكون له صفة غير الاحتواء على المال، ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة فى شرح عقود الجمان 1/ 48. (¬2) التخصيص: كذا فى الأصل، ولا يستقيم الإخبار عنه بالتفرد، فلعله من زيادة الناسخ، أو سقط بعض العبارة. كتبه مصححه. (¬3) سورة آل عمران: 74.

أهمية القرينة للمجاز الإسنادى

ولا بدّ له من قرينة: لفظيّة: كما مرّ. أو معنويّة: كاستحالة قيام المسند بالمذكور: عقلا: كقولك: محبّتك جاءت بى إليك. أو عادة: نحو: هزم الأمير الجند. وكصدوره عن الموحّد فى مثل [من المتقارب]: أشاب الصّغير ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو غير المراد فإن زيدا قد يكون له صفات من دين وعلم وغير ذلك، فإن تخيل متخيل صحة ذلك قال: معنى اختصاص زيد بالمال أن المال لا يخرج عن ملكه، ومعنى اختصاص المال بزيد أن زيدا لا يخرج عن أن يكون مالكا له، ولا ينفى ذلك أن يكون له صفات أخرى لا تنافى ملكه للمال، قلنا له: فما تصنع بقولهم: التخصيص إفراد بعض الشئ بما لا يشاركه فيه الجملة؟ فإذا قلت: خصصت المال بزيد كان معناه إفراد المال بما لا يشاركه فيه غير المال، ويلزم فى ذلك نفى غير المال، من صفات زيد، ثم إنه يلزم أن يكون مدلول اختص الثوب بزيد أن زيدا لا يفارقه أبدا، فلا يزال مالكا له، وهذا وإن كان صحيحا فى نفسه فلا شك أنه معنى آخر، غير قولك: اختص زيد بالثوب، وإنما نبهت على ذلك؛ لأنه وقع التساهل فى عبارات كثير من الأكابر عن غير قصد، وقد كثر ذكر هذه العبارة مقلوبة فى كلام ابن الحاجب، وابن مالك، والسكاكى، والمصنف، حتى فى عبارة سيبويه، وهذا أول موطن ذكرها فيه مقلوبة، فإنه قال: غير مختص بالخبر وصوابه غير مختص به الخبر، وسترى فى عبارة المصنف كثيرا منه، فعليك باعتباره، ولقد كثر الغلط فى ذلك حتى رأيت بعض المصنفين فى هذا العلم إذا وجدوا العبارة على السداد يتوهمون أنها مقلوبة، وأشكل على شراح المفتاح مواضع، وإنما نشأ لهم ذلك عن قلب العبارة فليتأمل. أهمية القرينة للمجاز الإسنادى: ص: (ولا بد من قرينة ... إلخ) (ش): أى لا بد للمجاز الإسنادى من قرينة، إما لفظية؛ كما تقدم من قول أبى النجم: (أفناه قيل الله) فإنه قرينة صرفت اللفظ إلى مجازه، أو قرينة معنوية، كاستحالة قيام المسند بالمذكور عقلا، أى بالمسند إليه، ودخل فيه الصفات الحقيقية كالعلم، والجهل، والإضافية، كالقرب، والبعد، ونحو الموت أيضا، وكذلك ذكر فى الإيضاح كاستحالة صدوره من

ومعرفة حقيقته: إمّا ظاهرة: كما فى قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (¬1) أى: فما ربحوا فى تجارتهم. وإمّا خفيّة: كما فى قولك: سرّتنى رؤيتك، أى: سرّنى الله عند رؤيتك، وقوله [من مجزوء الوافر]: إذا ما زدته نظرا (¬2) … يزيدك وجهه حسنا أى: يزيدك الله حسنا فى وجهه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المسند إليه، أو قيامه به، ليدخل ذلك كله. وقوله: كقولك: محبتك جاءت بى إليك الباء فيه للتعدية، أى محبتك أحضرتنى، وإنما أتت به نفسه، كذا فى الإيضاح، ويصح أن يقال: إنما أتى به الله تعالى وقوله: (أو عادة) أى استحالة عادة نحو: هزم الأمير الجيش، وبنى المدينة؛ لأن العادة أنه لا يفعل ذلك وحده. وقوله: وصدوره عن الموحد فى مثل: (أشاب الصغير) يعنى أن العلم بأن قائل ذلك البيت موحد قرينة صرفت الإسناد إلى المجاز. (قلت): وهذا القسم هو الأول؛ لأن العقل يقضى باستحالة صدور الإشابة والإفناء من غيره عز وجل، فأى فرق بين هذا وبين الأول؟ ثم لا نسلم أن القرينة هنا غير لفظية؛ لأن تلك القصيدة فى بعض أبياتها ذكر النبى فهو قرينة لفظية، كبيت أبى النجم، أنشد صاحب التتمة فى أولها: على دين صدّيقنا والنّبى (¬3) … فملّتنا أنّنا مسلمون فإن قلت: قد تقدم من المصنف أن ذلك البيت لم يحمل على المجاز، قلت: ليس كذلك، بل الذى تقدم أن نحو ذلك البيت لا يحكم عليه بالتجوز ما لم يعلم أن قائله أراد معناه، وقد علم. ص: (ومعرفة حقيقته ... إلخ). (ش): معرفة حقيقته أى حقيقة المجاز الإسنادى إما أن يريد معرفة وجوده، أو معرفة كيفية ملابسته، إما ظاهرة أى واضحة، أو خفية، والمعرفة لا توصف بالظهور ¬

_ (¬1) البقرة: 16. (¬2) البيت لأبى نواس الشاعر، أورده فخر الدين الرازى فى نهاية الإيجاز ص 177 بلا عزو. (¬3) البيت فى شرح عقود الجمان 1/ 48 من إنشاء صاحب اليتيمة فى أولها.

وأنكره (¬1) السكاكىّ؛ ذاهبا إلى: (أنّ ما مرّ ونحوه استعارة بالكناية؛ على أنّ المراد بالربيع الفاعل الحقيقىّ؛ بقرينة نسبة الإنبات إليه، وعلى هذا القياس غيره): وفيه نظر (¬2): أ - لأنه يستلزم أن يكون المراد ب عيشة فى قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (¬3): صاحبها؛ كما سيأتى. - ألّا تصحّ الإضافة فى نحو: نهاره صائم خ خ؛ لبطلان إضافة الشئ إلى نفسه. - وألّا يكون الأمر بالبناء لهامان. - وأن يتوقّف نحو: أنبت الربيع البقل على السمع. واللوازم كلّها منتفية. ب - ولأنه ينتقض بنحو: نهاره صائم خ خ؛ لاشتماله على ذكر طرفى التشبيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والخفاء باعتبار نفسها، بل باعتبار سهولة تحصيلها وعسره، فإنها قد تدرك بالبديهة، أو بأدنى تأمل، فتسمى ظاهرة، وقد تحتاج لطول نظر فتكون خفية، ومثل الظاهرة بقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (¬4) أى فما ربحوا فى تجارتهم، والخفية كقولك: (سرتنى رؤيتك) أى سرنى الله عندها، وهو من الإسناد إلى الظرف المجازى أو من الإسناد بملابسة السبب؛ لأن الرؤية سبب السرور، وكذلك قول أبى نواس: إذا ما زدته نظرا (¬5) … يزيدك وجهه حسنا أى يزيدك الله حسنا فى وجهه كذا قاله المصنف. (قلت): لكن يلزم منه حمل حسنا على استحسانا، فإن الذى ازداد حسنا هو الوجه لا الناظر، ويحتمل أن يقال فيه: إنه على السببية، أى بسبب وجهه، وملابسة هذا بالظرفية كالذى قبله. (قوله: وأنكره السكاكى) قال السكاكى: الذى عندى نظمه فى سلك الاستعارة بالكناية فى قولهم: أنبت الربيع البقل إلخ، وأورد عليه المصنف ما أورده، وفيه نظر؛ أما ¬

_ (¬1) أى: أنكر السكاكى المجاز العقلى. (¬2) أى: فيما ذهب إليه السكاكى نظر. (¬3) القارعة: 7. (¬4) سورة البقرة: 16. (¬5) البيت لأبى نواس فى ديوانه ص 35، ط. بيروت، والتلخيص ص 13، وشرح عقود الجمان 1/ 49، والأغانى 25/ 41، والمفتاح ص 211، والتبيان للطيبى 1/ 322، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز ص 177، والإيضاح ص 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: إنه يلزم أن يكون المراد بعيشة فى قوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ (¬1) صاحبها فليس كذلك، بل لنا فى تصحيح كلامه طريقان: إحداهما: أن راضية فى معنى الصفة الجارية على غير من هى له فى المعنى، لا من حيث الصناعة، كأنه قال: راض صاحبها، لا على أحد التقادير السابقة، فإن ذلك تقدير لفظى، وهذا معنوى، فإنا نجعل الإسناد إلى ضمير العيشة، وهى صفة جارية فى اللفظ على العيشة، وفى المعنى على صاحبها، والمعنى فى عيشة رضى صاحبها، فضمير راضية يعود على العيشة، وهو استعارة بالكناية، والمسند وهو اسم الفاعل استعارة تخييلية، قارنت المكنية، فإن قلت: كان السكاكى مستغنيا عن هذا بأن يجعل الإسناد إلى صاحبها الحقيقى، كما هو أحد التقادير السابقة، ولا حاجة إلى الاستعارة بالكناية، قلت: تفوت المبالغة المقصودة. الثانية: أنه يلتزم ما ذكره المصنف، وأن المراد بعيشة صاحبها، ولا يلزم أن يكون الشئ فى نفسه، ويجعل العيشة وضميرها المستتر فى راضية، أريد بهما صاحب العيشة، فتكون العيشة استعارة بالكناية، والمسند فى راضية استعارة تخييلية، ولا بدع أن يكون صاحب العيشة الحقيقى فى صاحبها المجازى على سبيل الاستعارة للمبالغة، فإن قلت: المصنف لا يرى أن الاستعارة بالكناية أريد بها غير موضوع اللفظ، فكيف يقول: يلزم السكاكى أن يكون المراد بعيشة صاحبها؟ قلت: ألزمه برأيه؛ لأن السكاكى يرى أن الاستعارة بالكناية مجاز، بإطلاق لفظ المشبه، وإرادة المشبه به، مدعيا أن المشبه به فرد من أفراد المشبه، وقد خبط كثير من الناس فى هذا المكان، والتحقيق ما قلناه، والله تعالى أعلم. على أن الجزرى اعترض عليه فى إلزامه أن المراد بعيشة صاحبها، بأن قال: يلزم ذلك، فإن الزمخشرى ذكره، وهو وهم؛ لأن التزام ذلك التزام للمحال، إذ يلزم أن يكون الشئ فى نفسه، ولا يصح التزام ذلك إلا بالطريق التى ذكرناها، والزمخشرى لم يذكر أن المراد بعيشة صاحبها، بل أن المراد براضية صاحبها، وبينهما فرق، وأما قوله: إنه يلزم أن يكون المراد (بماء دافق) فاعل الدفق فلا يلزم، بل يحتمل ما سبق، وأما قوله: إنه يلزم عدم صحة الإضافة فى نحو: (نهاره صائم) إذ يصير من باب ¬

_ (¬1) سورة القارعة: 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إضافة الشئ إلى نفسه فممنوع، ولا نسلم أنه يلزم التجوز فى نهاره، بل فى صائم، على ما سبق. وأما إلزامه بنحو: (يا هامان ابن لى صرحا) بأن لا يكون الأمر بالبناء لهامان، مع أن النداء له، فجوابه أن يلتزم أن المأمور بالبناء البانى بنفسه بعد اعتقاد دخول هامان نفسه فى زمرة من يبنى بنفسه مجازا، مدلولا على خطابه بيا هامان، وعلى أن المراد البناء بقوله: (ابن). وأما اعتراضه بلزوم توقف (أنبت الربيع البقل) على النقل الشرعى فهو أحسن الأسولة (¬1)، وأجاب عنه الجزرى بأن السكاكى لم يرد أن الربيع أطلق على الله تعالى، إنما أراد أن الإسناد إلى هذه الأشياء جعل كناية عن الإسناد إلى الفاعل، وأسند إلى الربيع ليعلم أن المقصود منه الإسناد إلى الله - سبحانه وتعالى - كما يعلم من قولك: (زيد كثير الرماد) أن المقصود الكرم، وهذا الكلام يمكن سلوكه فى كل ما سبق، إلا أنه لا يصح الجواب به عن السكاكى، فإن جعله كناية يخرجه عن أن يكون استعارة بالكناية، لكن الجواب أن يقال: أسند إلى الربيع على أنه فاعل حقيقى لا بمعنى المؤثر بل بمعنى أنه حقيقة فى الفعل الصورى، كقولك: قام زيد فكما أن معنى كونه حقيقة أن العرب وضعت اللفظ له، وإن كان الفاعل الحقيقى هو الله تعالى فكذلك لا يمتنع أن تضع العرب (أنبت الربيع) لوجود صورة الإنبات فيه وعن السكاكى جواب آخر تحقيقى يضيق المجال عنه وأما قول الخطيبى: إن السكاكى لا يرى أن أسماء الله تعالى توقيفية وأخذه ذلك من كلامه على نحو: أنبت الربيع البقل على ما يقتضيه لفظه - فضعيف؛ لأن مثل ذلك كلام مستطرد لا يؤخذ منه قاعدة كلية تقضى بأن مذهبه أن أسماء الله تعالى اصطلاحية إلا أن يكون أراد أن السكاكى يرى أن الأسماء اصطلاحية لكونه معتزليا والظاهر أن المعتزلة يرون ذلك ولو ذهب إليه فهو مذهب فاسد مردود وأما قوله: إن ذكر طرفى التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة فليس كذلك لأن المراد ذكر الطرفين على جهة التشبيه وأجيب عنه بأن المشبه به فى هذا المثال شخص ما إنسانى موصوف بالصوم وهو أعم من المذكور فيكون غيره فلا يكون الكلام مشتملا على طرفى ¬

_ (¬1) لغة فى" الأسئلة" انظر اللسان (س ول).

[الجزء الاول] أحوال المسند إليه

أحوال المسند إليه (¬1) أولا: حذف المسند إليه، وذكره. حذف المسند إليه: ـــــــــــــــــــــــــــــ التشبيه وفيه نظر لأنك لو قلت: زيد كنهار صائم كان تشبيها بالاتفاق مع وجود هذا التغاير وأما الإلزام بأنه لا يكون استعارة فى نحو: نهاره صائم فجوابه ما سبق؛ من جعل المجاز فى الخبر وهو صائم. (تنبيه): اعلم أن المصنف فى باب الاستعارة بالكناية جعلها كلها مجازا عقليا، وذلك مناقض لما ذكره هنا من إثبات المجاز العقلى فى هذه الأمثلة، وإنكار أن يكون استعارة بالكناية، وتصريحه بتغايرهما، وهذا الاعتراض أقوى من جميع ما اعترض به على السكاكى. (تنبيه): تلخص فى نحو: (أنبت الربيع البقل) إذا لم يكن من كافر ولا كذبا، وفى نحو: (زيد الجبل العظيم) أقوال: أحدها - أن المجاز فى أنبت، وهو رأى ابن الحاجب. الثانى - أنه فى الربيع، وهو رأى السكاكى. الثالث - أنه فى الإسناد، وهو رأى عبد القاهر والمصنف. الرابع - أنه تمثيل، فلا مجاز فيه فى الإسناد، ولا فى الإفراد، بل هو كلام أورد ليتصور معناه فينتقل الذهن منه إلى إنبات الله تعالى، وهو اختيار الإمام فخر الدين. [الجزء الاول] أحوال المسند إليه: [- حذف المسند إليه] ص: (أحوال المسند إليه أما حذفه إلى قوله: وأما ذكره). (ش): المسند إليه قد تقدم ذكره، وإنما قدمه على المسند؛ لأن المسند إليه كالموصوف، والمسند كالصفة، والموصوف أجدر بالتقديم؛ لأنه الموضوع، والصفة هى المحمول، وأحواله أقسام: أحدها أن يكون محذوفا، والإضافة فى قوله حذفه إلى المفعول؛ لأن الحذف فعل المتكلم، وكذلك ما بعده من قوله ذكره، وغير ذلك، وقدم ¬

_ (¬1) المسند اصطلاحا هو: المتحدث به أو المحمول أو الخبر، والخبر هو: كل ما يصلح أن يخبر به كخبر المبتدأ. والمسند إليه: هو موضوع الكلام أو المتحدث عنه. ويسمى أيضا: المحكوم عليه ويسمى العمدة والمتحدث عنه.

أما حذفه: 1 - للاحتراز عن العبث بناء على الظاهر. 2 - أو تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ؛ كقوله [من الخفيف]: قال لى: كيف أنت قلت: عليل (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكر الحذف على الذكر؛ لأن الذكر هو الأصل فلا تتشوف النفس إلى ذكر الموجب له، بخلاف الحذف، وحذفه لأحد أمور بمعنى أن الاعتبار المناسب حذفه عند وجود واحد من هذه الأمور؛ فإن حذف لا لواحد منها كان حذفا على غير الوجه المناسب. الأول: الاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، يعنى بقوله فى الظاهر أن ذكره يكون فى الظاهر عبثا لإغناء القرينة عنه، وإن كان فى الحقيقة غير عبث، كقولك لمن يستشرف الهلال: (الهلال والله) أى هذا الهلال، فلو صرحت بذكر المبتدأ لكان ذكره عبثا فى الظاهر، بمعنى أنه لا يظهر له فائدة. واعلم أن المصنف جعل هذا فى الإيضاح جزء علة، وأضافه إلى الاختصار، وإنما اقتصر على هذا هنا؛ لأنهما يرجعان لشئ واحد، والظاهر أن الاختصار هنا هو الحذف، والاقتصار على الخبر يترتب على الحذف، فإن كان كذلك فكيف يعلل الحذف بنفسه؟ وإن كان الاختصار هو جعل معانى اللفظ الكثير فى لفظ قليل فلا يتأتى هنا؛ لأن معنى المسند إليه ليس مجعولا فى المسند، بل حذف، ودل عليه بالقرائن، وقد يجاب بأن مراده بقصد الاختصار أن يقصد المتكلم الاختصار فى الجملة، والمراد بالحذف حذف شئ خاص، وهو المسند إليه. الثاني: أن يقصد تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ، كقولك: (قائم) فى جواب: (كيف زيد؟) وإنما قلنا: أقوى الدليلين لأنك لو قلت: (زيد قائم) أو (هو قائم) لكان الكلام مفيدا للمسند إليه بلفظه، ولو قلت: قائم لكان يدل عليه بدلالة العقل القاضية بأن السؤال كالمعاد فى الجواب، فالدليلان هما العقل واللفظ، وأقواهما العقل؛ فالعقل يدل على المسند إليه، واللفظ لو ذكر دل عليه، ¬

_ (¬1) عجزه: سهر دائم وحزن طويل. والبيت فى دلائل الإعجاز غير منسوب 184، والمعاهد (1/ 100)، والإيضاح (1/ 56، 32).

3 - أو اختبار تنبّه السامع عند القرينة. 4 - أو مقدار تنبّهه. 5 - أو إيهام صونه عن لسانك. 6 - أو عكسه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا أن الدلالة المعنوية أقوى. وقال الخطيبى: لأن اللفظ لا يفيد إلا الظن، والدلالة العقلية تفيد القطع، قلت: فيه نظر؛ لأنه لا يعنى بالعقل إلا دلالة القرائن التى لا تفيد بمجردها فى الغالب إلا الظن، وفى عبارته أيضا أن العقل دليل على الترك، واللفظ دليل على الذكر، فهى عبارة قلقة، وصوابها العقل دليل عند الترك، واللفظ دليل عند الذكر. قال المصنف: كقوله: قال لى كيف أنت قلت عليل … سهر دائم وحزن طويل (¬1) تقديره أنا عليل، وهذا يصلح أن يكون مثالا لهذا، وأن يكون مثالا للذى قبله، وأن يكون مثالا للحذف؛ لضيق المقام (¬2)، كما سيأتى. والمعنى الأول هو لما يلزم عليه، من عدم الفائدة فى الذكر. والمعنى الثانى فيه نقص الفائدة وضعفها، فالأول أعم من الثانى؛ لأن فى الثانى تحصيل الصيانة عن العبث، فإن سلوك أضعف الدليلين عبث، وعبارة المصنف التخييل، وينبغى أن يقول: للعدول؛ فإنه وقع حقيقة لا تخييلا. هذا على ما اقتضاه كلامهم وقد تبعناهم فيه، ولك أن تقول: ليست القرائن أقوى من اللفظ، بل مراد المصنف أن المتكلم إذا حذف فقد خيل للسامع أن المسند إليه مدلول عليه بالعقل، فلا يحتاج إلى ذكر، وعلى هذا تعين ذكر التخييل. الثالث: أن يقصد بحذفه اختبار تنبه السامع عند القرينة أله تنبه أم لا؟ وإنما قلنا: عند القرينة؛ لأن الفهم عند عدم القرينة لا سبيل إليه، ولا يجوز الحذف حينئذ أو يعلم أن له تنبها ولكن يريد أن يختبر مقدار تنبهه، وهل يكتفى بقرينة بعيدة، أو يحتاج إلى قرينة قريبة، أو لقرائن؟ الرابع: إيهام صونه عن لسانك لتعظيمه، أو صون لسانك عنه وتحقيره. وقول المصنف: إيهام كقوله فى السابق: تخييل، ولا يأتى فيه ذلك الجواب، ولو قال: ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة فى التبيان للطيبى 1/ 146، ودلائل الإعجاز ص: 238، وقال الشيخ محمود شاكر: مشهور غير منسوب، وفى الإشارات والتنبيهات ص: 34، والمفتاح ص: 94، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 52، والإيضاح ص 38. (¬2) فى الحذف نكتة أخرى، وهى رعاية حال المتكلم؛ فالعليل يضيق صدره عن التفصيل والتطويل، ولعلّ هذا هو المراد بقولهم: إن الحذف هنا لضيق المقام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للصون لكان جيدا، وقد يجاب عنه بأن الصون ليس هو الترك، بل قصده للصيانة، وهو لم يوجد، بل وجد ما يوهمه، ومثال الأول: سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى … أيادى لم تمنن وإن هى جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت (¬1) هما لأبى الأسود الدؤلى يمدح عمرو بن سعيد بن العاصى، وكذلك قول الآخر: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم … دجى اللّيل حتّى نظم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب … بدا كوكب تأوى إليه كواكبه (¬2) ولو عبر المصنف بقوله: لقصد التعظيم؛ لمثلنا ذلك بقوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها (¬3). وفى هذا المعنى يقول يزيد: وإيّاك واسم العامريّة إنّنى … أغار عليها من فم المتكلّم (¬4) ومثال الثانى: قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (¬5)، وقوله: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ (¬6)، وإنما يصح التمثيل بهاتين الآيتين الكريمتين؛ لصون اللسان عن المسند إليه باعتبار لسان القارئ، لما لا يخفى، وكقوله: ¬

_ (¬1) البيتان من الطويل، وهما لعبد الله بن الزبير فى ديوانه 142، ونسبهما فى الحماسة البصرية 1/ 135 إلى عمرو بن كميل، وهما فى ديوان إبراهيم بن العباس الصولى فى الطرائف الأدبية ص 130، وفى التبيان للطيبى 1/ 147، والمفتاح ص 94، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 52 ونسبهما لأبى الأسود الدؤلى، وفى دلائل الإعجاز ص 149، والإشارات والتنبيهات ص 303، 34، وبلا نسبة فى الإيضاح ص 38، والتلخيص ص 109. (¬2) البيتان من الطويل ينسبان لأبى الطحان القينى، وللقيط بن زرارة، انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 711، وحماسة أبى تمام 522، والتبيان للطيبى 1/ 146، والإشارات والتنبيهات ص 34، والمفتاح 94، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 52، وبلا نسبة فى الإيضاح ص 39. (¬3) سورة النور: 1. (¬4) البيت ليزيد فى شرح عقود الجمان 1/ 52. (¬5) سورة البقرة: 18. (¬6) سورة القارعة: 10 - 11.

7 - أو تأتّى الإنكار لدى الحاجة. 8 - أو تعيّنه. 9 - أو ادّعاء التعيّن. 10 - أو نحو ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه … وليس إلى داعى النّدا بسريع (¬1) يقول عن ابن عم له لطمه الأصل: هو سريع فحذفه تحقيرا له، وسيأتى ذكر هذا البيت فى البديع مثالا لرد العجز على الصدر. وفيما ذكرناه من الشواهد لهذا والذى قبله نظر؛ لجواز أن يراد إيهام التعيين، أو الاختصار، أو غير ذلك: وفى معنى صون اللسان يقول الشاعر: ولقد علمت بأنّهم نجس … وإذا ذكرتهم غسلت فمى (¬2) وقوله: (أو عكسه) معطوف على إيهام أى: أو إيهام صون لسانك عنه، ولا يصح عطفه على صونه؛ لأنه يكون لإيهام أحد الأمرين، وليس هو المراد. الخامس: لتأتى الإنكار عند الحاجة؛ لأنه قد تدعو الحاجة إلى التكلم بشئ، ثم تدعو الحاجة لإنكاره مثاله: أن يذكر شخص فتقول: فاسق. ثم تخشى من غائلة ذلك فتنكره، فلو قلت: زيد فاسق؛ لقامت البينة بذلك، ولم تستطع الإنكار. لا يقال: كيف ينفع الإنكار مع القرينة؟ لأنا نقول: القرينة ترجح أحد الطرفين ترجيحا لا يسوغ الشهادة، لا يقال: فهذا حينئذ مدعاة إلى الكذب المحرم؛ لأنا نقول: نحن نتكلم على أسباب الحذف التى لاحظتها العرب، سواء كان ذلك شرعا أم لا، ثم نقول: قد يجب الإنكار والكذب، كما إذا كان فيه مصلحة شرعية، ثم إنما يتأتى ذلك إذا لم يكن استفهام، فلو قيل لك: ما زيد؟ فتقول: فاسق. لم ينفع الإنكار بعد ذلك، ولم يصدق المنكر، حتى لو قال له: ما حال زوجتك؟ فقال: طالق. لم يصدق إذا ادعى عدم إرادتها. السادس: التعيين فيه أى: أن ذلك المسند معين للمسند إليه منحصر فيه؛ فلا حاجة لذكره، كقولك: خالق لما يشاء أى: الله. قيل: وقول السكاكى: لما يشاء، لا حاجة لذكره، وإنه إنما ذكره اعتزالا؛ لأنهم يرون أن العبد خالق؛ ولكن لا لكل ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للمغيرة بن عبد الله المعروف بالأقيشر الأسدى، وهو فى لطائف التبيان ص 45، والإشارات والتنبيهات ص 34، والمفتاح 94، والخزانة 2/ 281، ودلائل الإعجاز ص 105، والإيضاح ص 39، والتلخيص ص 104. (¬2) البيت بلا نسبة فى شرح عقود الجمان 1/ 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يشاء وفيما قيل نظر؛ لأن هذا المثال هو المطابق لقوله سبحانه وتعالى: يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1) وقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ (¬2) فلعل السكاكى لم يقصد بقوله: لما يشاء الاحتراز؛ بل قصد التأسى بالآية الكريمة. قلت: وهذه الفائدة داخلة فى الأولى، إلا أن يقال: المقصود الإعلام بالتعين، أو إحضاره فى ذهن السامع، وهذا القسم بهذا المثال هو الجدير بأن يقال فيه: ترك المسند إليه لدلالة العقل، ويسمى الأول: دلالة المعنى وقوله: (أو ادعاء التعيين) فهو كقوله: (يعطى بدرة) يعنى السلطان، ولو قال المصنف: ادعاء التعين إما ادعاء مطابقا، أو غير مطابق، لكان أحسن، وسيأتى عن قريب ما قد يورد على هذا. (تنبيه): ينبغى أن يلحق هذا بما يحصل به القصر، ويذكر فى بابه. وقوله: (أو نحو ذلك) ذكر فى الإيضاح بعد ذكره أنه يترك إذا كان ذكره عبثا، أنه يحذف إما لذلك، وإما لذلك، مع ضيق المقام، ومقتضاه أن ضيق المقام قد يقصد منضما إلى غيره، لا مستقلا. والسكاكى جعله فائدة مستقلة، قسيمة للعبث ثم كيف يحسن أن يكون ذلك علة مستقلة، وجزء علة أخرى، وهذا القسم يصلح أن يمثل له بقوله: قال لى كيف أنت قلت عليل (¬3) لأن الاستفهام قد يكون مع ضيق المقام عن طول الإجابة، وهى حالة العليل، وقد يكون مع اتساعه، كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السّلام: قالَ هِيَ عَصايَ (¬4) وذكر السكاكى من أسباب الحذف: كون الاستعمال واردا على تركه، أو ترك نظائره، كقولهم: رمية من غير رام وكقولك: نعم الرجل زيد، على قول من يرى أن التقدير: هو زيد. وقيل: عكسه، وقيل: زيد مبتدأ، خبره نعم الرجل. وهذا السبب يدخل فيه جميع المواضع التى ذكر النحاة وجوب حذف المبتدأ فيها، وهى: إذا أخبر عنه بنعت مقطوع لمدح، أو ذم، أو ترحم، أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله، نحو: ¬

_ (¬1) سورة النور: 45. (¬2) سورة القصص: 68. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سورة طه: 18.

ذكر المسند إليه

ذكر المسند إليه: وأمّا ذكره، ف: 1 - لكونه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه. 2 - أو للاحتياط؛ لضعف التعويل على القرينة. ـــــــــــــــــــــــــــــ سمع وطاعة، أو بصريح قسم، وبعد لا سيما إذا رفع الاسم بعدها، وفى المصدر الذى انتصب توكيدا للجملة نفسها، إذا رفعت نحو: صنع الله، وذكر المبرد نحو قولهم: دار فلانة أى: هذه دار فلانة وفى قولهم: من أنت؟ زيد أى: مذكورك زيد، وقولهم: لا سواء، وقد يحذف سرورا بالمسند، كقولك: غزال أى: هذا غزال، يخاطب من يريد صيده. (تنبيه) اقتصر المصنف على المبتدأ من المسند إليه؛ لأن الفاعل لا يحذف عند البصريين، وما ندر من ذلك فى: قام الناس، لا يكون زيدا ونحوه، على رأى ابن مالك، لا عبرة به ولعله لم يقصد الحذف. وكذلك مواضع يسيرة فإن جوزنا حذفه، كما هو مذهب الكسائى، كان حذفه ما يتأتى فيه من الاعتبارات السابقة، فى حذف المبتدأ، دون ما لا يتأتى مثل: السرور بالمسند، فإنه حاصل حذف الفاعل أم ذكر؛ لأن المسند إلى الفاعل مقدم عليه. ذكر المسند إليه: ص: (وأما ذكره إلى آخره). (ش): ذكر المسند إليه يكون لأحد أمور: الأول - أنه الأصل، ولك أن تقول: هذا المعنى يعارض كلا من مقتضيات الحذف، فما تصنع حينئذ بتعارض المقتضيين؛ فينبغى أن يزاد فيه، ولا مقتضى للحذف، كما فعل فى الإيضاح؛ ليدل على أن الأصل، إنما يراعى، حيث لا مقتضى يعارضه. وقولنا: ولا مقتضى سواء شرط للتعليل لا جزء علّة فرار من التعليل بالعدم. الثانى - أن يضعف التعويل على القرينة، هذه عبارته، ولك أن تقول: إن كان المراد أن القرينة ضعيفة فى نفسها، لا يغلب على الظن إفادتها، فلا مقتضى للحذف. فإن القرينة الدالة على المحذوف شرط الحذف وإن كان المراد ضعف اعتماد السامع عليه، لعدم تنبهه فلا يسوغ الحذف حينئذ، أو المراد: ضعف تعويل المتكلم

3 - أو التنبيه على غباوة السامع. 4 - أو زيادة الإيضاح والتقرير. 5 - أو إظهار تعظيمه. 6 - أو إهانته. 7 - أو التبرّك بذكره. 8 - أو استلذاذه. 9 - أو بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب؛ نحو: هِيَ عَصايَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها، فذلك عبارة عن عدم الحذف. وإن أراد: أن الاعتماد على القرينة فى نفسه ضعيف، أو أن المتكلم يفرضه ضعيفا، كان منافيا لقوله فيما سبق: بحذف للاعتماد على أقوى الدليلين: العقل واللفظ، وفرض المتكلم القوى ضعيفا لا موجب له. الثالث - أن يقصد التنبيه على غباوة السامع، حتى أنه لا يفهم إلا بالتصريح، وينبغى أن يقول: إيهام غباوته؛ لأن التنبيه على غباوته إنما يكون عند غباوته، وحينئذ لا يسوغ الحذف وإذا لم يسغ وجب الذكر؛ لأنه الأصل ولا مقتضى للحذف. الرابع - أن يقصد زيادة الإيضاح والتقرير. فإن قلت: قد تقدم أن الدلالة مع الحذف أقوى. قلت: لكنها ربما احتاجت إلى فكر ونظر بخلاف الصراحة. الخامس - إظهار تعظيمه بالذكر كقوله: القهار يصون عباده؛ لعظم هذا الاسم، أو إهانته لما يدل عليه اسمه من الحقارة، كقولك: اللعين إبليس. السادس - التبرك باسمه، كقولك: محمد رسول الله خير الخلق. السابع - الاستلذاذ بذكره، كقولك: الله خالق كل شئ، ورازق كل حى وعد السكاكى هذين شيئا واحدا؛ لأن بينهما تلازما والأحسن أن يمثل للاستلذاذ بذكره بما تكون حروف المسند إليه عذبة، من غير نظره لمعناه. الثامن - بسط الكلام، حيث يقصد الإصغاء، كقول موسى عليه السّلام: هِيَ عَصايَ ولذلك زاد على الجواب بقوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وما بعده وإنما أجمل المآرب؛ لأن تفصيلها يطول، وقد يفضى الطول إلى الخروج عن الفصاحة. قلت: وقولهم: (حيث الإصغاء مطلوب) فيه نظر؛ لأن المطلوب هو الكلام المستدعى من موسى عليه السّلام لا الإصغاء، وأن أخذ الإصغاء من جانبه عز وجل فذلك لا يسمى إصغاء. ولو سى فإنما كان المقصود كلام الله تعالى له، وأن يصغى هو له، ¬

_ (¬1) سورة طه: 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك لا يحصل ببسط الجواب، ولم يكن المقصود سماع الله تعالى، فإنه حاصل لا يزال إلا أن يقال: قصد تطويل المكالمة والمراجعة. ومن هذا أيضا قالوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (¬1) هذا ما ذكره المصنف. قال السكاكى: وقد يذكر لقصد تخصيص المسند بالمسند إليه بعد أن كان عاما، كقولك: زيد جاء وعمرو ذهب، وقوله: الله أنجح ما طلبت به … والبرّ خير حقيبة الرّجل (¬2) وقوله: والنّفس راغبة إذا رغّبتها … وإذا تردّ إلى قليل تقنع (¬3) قال المصنف فى الإيضاح: وفيه نظر؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره، وإلا فيكون ذكره واجبا. وأجيب على هذا بأنه لا مانع من اجتماع الأسباب، فيكون ذكره لعدم القرينة وللتخصيص، فإن وجوب ذكره لعدم القرينة، لا ينافى ذلك. وفيه نظر؛ لأن المصنف يقول: هب أنه لا ينافى، فأى مناسبة فى عموم الخبر وإرادة تخصيصه يقتضى الذكر؟ كما أشار بقوله: لا يقتضيان ذكره وأجيب عنه بأن إرادة التخصيص توجب التصريح به وهو لا يحصل إلا بالذكر. نعم هنا سؤال على الجميع، وهو: أن قولهم: لقصد تخصيص المسند بالمسند إليه كلام بعيد عن الصواب؛ لأن تخصيص المسند بالمسند إليه معناه: ما الله إلا أنجح، وما النفس إلا طامعة؛ لأن تخصيص الشئ بالشئ، إن يجعل له شيئا، لا يجعله لغيره، كما سبق. فتخصيص المسند، وهو الطمع بالنفس معناه أن لا ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 71. (¬2) البيت من الكامل، وهو منسوب لامرئ القيس بن حجر، وهو فى ديوانه ص 131 ط. دار الكتب العلمية، ونسبه فى الأغانى 3/ 301 لامرئ القيس بن عابس الكندى الصحابى، وانظر: الإشارات والتنبيهات ص 35، والتبيان 1/ 147، والمفتاح ص 95، والإيضاح ص 40. (¬3) البيت من الكامل، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى لطائف التبيان ص 46 برواية (والنفس)، والمفتاح ص 95، والإيضاح ص 40.

تعريف المسند إليه

ثانيا: تعريف المسند إليه، وتنكيره. أ - تعريف المسند إليه: ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون للنفس صفة إلا الطمع، وهذا لا يصح؛ لأمور منها: أن القطع حاصل بأنه غير مقصودهم ولا هو صحيح فى نفسه، إذ لا يقول أحد: إن قولنا: زيد قام، معناه ما زيد إلا قام، وإنما قيل بذلك فى نحو: صديقى زيد. ومنها: أن قولهم فى الخبر بعد أن كان عام النسبة لا يوافقه؛ لأنهم يريدون بعد أن كان الخبر عام النسبة، كما صرح به فى المفتاح. ولو أرادوا هذا لقالوا: بعد أن كان المسند إليه عاما. ولا شك أن هذا ليس مرادهم وإن أرادوا أن معناه: ما طمع إلا النفس فذلك تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلى، ولا يصح لأمرين: أحدهما - أن العبارة مقلوبة؛ لأن التعبير عن مثله أن يقال: تخصيص المسند إليه بالمسند. الثانى - أنه مخالف لقاعدة السكاكى، فإنه يقول: متى كان المبتدأ اسما ظاهرا، لا يفيد التخصيص؟ ولا جواب عن هذا السؤال، إلا بأن يقال: لعله أراد بالتخصيص، ذكر مسند إليه خاص أى: معين. فإن قلت: كيف يجتمع هذا مع قوله قبل ذلك: إنه يترك المسند إليه للتعين أو ادعاء التعين، مثل: أعطى بدرة يعنى السلطان، فكيف يكون التخصيص علة الذكر والترك، والشئ لا يكون علة للضدين؟ قلت: لم يجعل الحذف سببا للحصر؛ بل جعل العلم بالحصر سببا للحذف، والمراد ادعاء أن هذا المسند لا يقبل أن يصدر إلا من هذا المسند إليه، وعند الذكر، يريد أن يعين فيه ما هو قابل أن يكون منه، وأن يكون من غيره. (تنبيه): كل واحد من الحذف والذكر، قد يكون مع كل واحد مما سيأتى من تعريف وتنكير وغير ذلك. تعريف المسند إليه: ص: (وأما تعريفه). (ش): إنما قدم الكلام على تعريف المسند إليه على الكلام على تنكيره؛ لأن التنكير هو الأصل، فليس للنفس تشوق طائل إلى ذكر سببه. وقيل: لأن التعريف وجودى، والتنكير عدمى. وقيل: لأن المعرف أعم من المنكر، فقدم عليه. ولعل قائله أراد أن المنكر، يدل على الحقيقة بقيد القلة، أو الكثرة، أو غير ذلك على ما سيأتى. والمعرف يدل على الحقيقة لا بقيد، أو أراد أن المعرف عام، إذا دخلته الألف واللام الجنسية، أو

تعريف المسند إليه بالإضمار

تعريف المسند إليه بالإضمار: وأمّا تعريفه: فبالإضمار: 1 - لأنّ المقام للتكلّم. 2 - أو الخطاب. 3 - أو الغيبة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإضافة بخلاف النكرة المثبتة. قال فى الإيضاح: التعريف لتكون الفائدة أتم لأن الحكم كلما كان بعيدا من الذهن، كان الإعلام به أكبر فائدة، وكلما كان أكبر كانت الفائدة أضعف وبعده بحسب تخصيص المسند إليه، والمسند كلما ازداد تخصيصا، ازداد الحكم بعدا، وكلما ازداد عموما، ازداد الحكم قربا. وإن شئت فاعتبر حال الحكم فى قولنا: شئ ما موجود يعنى أن الفائدة فيه ضعيفة، بخلافها فى قولك: فلان ابن فلان يحفظ الكتاب، والتخصيص كماله بالتعريف. اه. وأورد عليه الخطيبى أن ما ذكره يقتضى التخصيص، وهو أعم من التعريف. قلت: قد أجاب المصنف عن ذلك، بقوله: وكمال التخصيص بالتعريف. تعريف المسند إليه بالإضمار: ص: (فبالإضمار؛ لأن المقام للتكلم أو الخطاب أو الغيبة). (ش): الذى يظهر أن قوله: لأن المقام هو خبر تعريفه، والفاء داخلة عليه، وفصل بينهما قوله: بالإضمار، وهو حال لأنه لا يريد أن يخبر بأن التعريف يكون بالإضمار وغيره؛ فإن ذلك حظ النحوى، بل يريد ذكر أسباب التعريفات، غير أن فيه الفصل بين الفاء والمعطوف بالحال. فإذا كان التعريف بالإضمار فذلك يكون لأحد أسباب: الأول - أن يكون المقام يحتاج لضمير يبين المقصود، فتارة يكون باعتبار التكلم، كقوله: أنا المرعّث لا أخفى على أحد … ذرت بى الشّمس للقاصى وللدّانى (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لبشار فى مقدمة ديوانه 1/ 75، وفى الإشارات والتنبيهات ص 37. والمرعث: الذى يلبس الرعثة، أى القرط فى أذنه، والقاصى والدانى: البعيد والقريب. قال المرزوقى فى شرح الحماسة عند قول الأحوص الأنصارى: إنّى إذا خفى الرّجال رأيتنى … كالشّمس لا أخفى بأىّ مكان إن بشارا أخذه من هذا البيت.

وأصل الخطاب أن يكون لمعيّن، وقد يترك إلى غيره؛ ليعمّ كلّ مخاطب؛ نحو: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (¬1) أى: تناهت حالهم فى الظهور؛ فلا يختصّ بها مخاطب. ـــــــــــــــــــــــــــــ والبيت لبشار، والمرعث: المقرط، وكان بشار يلقب بالمرعث لرعثة كانت له فى صغره، والرعثة: القرط، وإما أن يكون مكان خطاب، كقوله: وأنت الّذى كلّفتنى دلج السّرى وقوله: وأنت الذى أخلفتنى ما وعدتنى … وأشمتّ بى من كان فيك يلوم (¬2) وإما أن يكون مقام غيبة؛ لتقدم ما يرجع إليه المسند إليه لفظا، كقوله: من البيض الوجوه بنى سنان … لو انّك تستضئ بهم أضاءوا هم حلّوا من الشّرف المعلّى … ومن حسب عشيرة حيث شاءوا (¬3) أو فى حكم الملفوظ به؛ كقوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (¬4). ص: (وأصل الخطاب أن يكون لمعين، وقد يترك إلى غيره؛ ليعم كل مخاطب). (ش): أصل الخطاب أن يكون لمعين، إما مفرد، أو جمع، أو مثنى، وقد لا يقصد به معين، كما تقول: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه، أساء إليك. فلا تريد مخاطبا بعينه، بل تريد أكرم، أو أحسن إليه فتخرجه فى صورة الخطاب، ليفيد العموم، وأن سوء معاملته، لا يختص بواحد دون آخر. ومنه قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (1) أخرج فى صورة الخطاب لما أريد العموم، يريد أن حالهم تناهت فى ¬

_ (¬1) السجدة: 12. (¬2) البيت من الطويل، وهو لمعشوقة ابن الدمينة فى ديوانه ص 42، ولأميمة امرأته فى الأغانى 17/ 53، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1381، وبلا نسبة فى البيان والتبيين 3/ 370، والحيوان 3/ 55، ومغنى اللبيب 2/ 504، والإشارات ص 37. (¬3) البيتان لأبى البرج القاسم بن حنبل المرى فى شرح الحماسة 4/ 96، وهما بلا نسبة فى الإشارات ص 37، والبيت الثانى مع آخر بلا نسبة فى دلائل الإعجاز ص 148. (¬4) سورة المائدة: 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الظهور، بحيث لا يختص بها راء دون راء، بل كل من أمكن منه الرؤية داخل فى ذلك الخطاب. (تنبيه): مثل هذا الخطاب هل نقول: إنه عام عموم الصلاحية، أو عموم الاستغراق، ويحتمل أن يقال بالأول، ويكون الخطاب مع شخص لا بعينه، لكن فيه إشكال، من جهة أن ذلك يزيل تخصيص الضمير، ويجعله شائعا، وذلك بمعنى التنكير، وضمائر المخاطب لا تكون إلا معرفة، وإن كان ضمير النكرة قد يقال: إنه نكرة - كما هو أحد قولين - لكن ذاك فى ضمير الغيبة، فلو جعلنا ذلك الشخص لا بعينه لضاهى تنكير الأعلام، والمضمرات لا تنكر كما ينكر العلم، ويحتمل أن يقال: إن المراد أنه خطاب مع كل من يقبل أن يخاطب، وعلى هذا فيكون عاما للشمول، ويحتمل أن يقال: إنه استعمل ضمير المفرد مرادا به، الجمع فيكون مجازا إن جوزنا التجوز فى المضمرات، وفيه بحث. ويحتمل أن يقال: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز، على معنى أنه خوطب الجميع ليكون لواحد منهما حقيقة، ولغيره مجازا، فأيهما فرضته فيه حقيقة كان فى غيره مجازا، لكنه لا يتعين فى الخارج، فلم يقع حينئذ إلا على معين يفيد التعيين المطلق الذى لا يتميز فى الخارج، ويحتمل أن يقال: إنه حقيقة، يدل على كل فرد بالمطابقة، كدلالة العام على أفراده، والمشترك على معانيه، ولا يلزم عليه أن يصير مدلوله جمعا، بل ينصب على كل فرد فرد انصبابا واحدا، وهذا هو الظاهر، ولم أر من تكلم على ذلك فليتأمل. (تنبيه): إنما يتأتى ذلك حيث كان المخاطب به صالحا لأن يخاطب به كل أحد، فإن لم يكن فلا، كقوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ (¬1). واعلم أن خطاب القرآن ثلاثة أقسام: قسم لا يصلح إلا للنبى صلّى الله عليه وسلّم وقسم لا يصلح إلا لغيره، وقسم يصلح لهما، وقد تكلمنا على ذلك فى شرح مختصر ابن الحاجب. ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 3.

تعريف المسند إليه بالعلمية

تعريف المسند إليه بالعلمية: وبالعلمية: 1 - لإحضاره بعينه فى ذهن السامع ابتداء باسم مختصّ به؛ نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ تعريف المسند إليه بالعلمية ص: (وبالعلمية لإحضاره بعينه فى ذهن السامع ابتداء باسم مختص به نحو قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1»). (ش): المراد بالعلمية هنا علم الشخص، لا علم الجنس؛ لأن ما ذكره لا ينطبق عليه أى التعريف إذا كان بالعلمية، يكون لأحد أسباب: منها: أن يقصد إحضاره فى ذهن السامع. وقوله: (بعينه) احتراز من اسم الجنس نكرة كان، أو معرفة: وقوله: (ابتداء) احتراز عن المضمر، وقيل: يعنى بلا واسطة، فإن كلا من المعارف، إنما يفيد بواسطة، كالصلة، والمشار إليه، والتكلم، والخطاب، والغيبة. وقوله: (باسم مختص به) احتراز عن اسم الإشارة، والموصول. وقال الخطيبى: قوله: (بعينه) يخرج النكرة. وليس كما قال، بل يخرج المعرفة إذا أريد به الجنس، إلا أن يريد بالنكرة ما هو أعم منه، ثم قال: وفى كون الإحضار المذكور يقتضى أن يكون بالعلمية نظر؛ لأن الإحضار المذكور قد يحصل ببعض المعارف. (قلت): وقد علمت بما قدمناه، أنه ليس كذلك، وقد مثل المصنف له ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعنى بالعلم لفظ الجلالة الشريفة، وهذا بناء على القول بأنها علم، وهو المشهور. قال الخطيبى: فى جعله علما نظر؛ لأن ما وضع له هو المستحق للعبودية، أو الواجب لذاته، وكل واحد منهما، وإن انحصر فى الخارج فى فرد واحد لدليل يدل عليه، وذلك لا يمنع كليته، ومفهوم العلم جزئى. قلت: ليس كما قال بل الكلى هو الإله، وأما لفظ الله فإنه علم حقيقى على الراجح. ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص: 1.

2 - أو تعظيم. 3 - أو إهانة. 4 - أو كناية. 5 - أو إيهام استلذاذه. 6 - أو التبرّك به. 7 - أو نحو ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (أو تعظيم، أو إهانة، أو كناية أو إيهام استلذاذه أو التبرك به). (ش): أى يؤتى بالعلم لإشعاره بتعظيم المسند إليه، أو إهانته، كما فى الكنى، والألقاب المحمودة، والمذمومة أى الألقاب من الأعلام، فإن بين العلم واللقب عموما وخصوصا من وجه. وقوله: (كما فى الكنى) فيه نظر، فإن الكنية إن أشعرت بضعة، أو رفعة، فهى من الألقاب وإلا فلا إشعار لها بشئ من ذلك، إلا أن يقال: الخطاب بالكنية - كيف كانت - تعظيم قال الشاعر: أكنّيه حين أناديه لأكرمه … ولا ألقّبه والسّوأة اللّقب (¬1) وبين الكنية واللقب اللذين هما قسمان من العلم، عموم وخصوص من وجه. فإن قلت: كيف يشعر العلم اللقب بشئ، ومعناه غير مراد؟ فإن الأعلام لا تدل على معناها الذى كانت موضوعة له قبل العلمية. قلت: يشعر باعتبار استحضار معناه، واستحضار أنه ربما كان حاملا على التسمية، وإن لم يكن معناه مرادا، ولذلك قال: أنا الّذى سمّتنى أمّى حيدره (¬2) لأن موضوعه قبل العلمية الأسد. وقوله: (وإما للكناية) يعنى أن يكنى عن الإهانة، أو غيرها، والعلم صالح لذلك. والفرق بينه وبين الأول: أن الأول لم يقصد معناه؛ إنما قصد التسمية وأشعر، وفى الثانى كنى به عن معناه، وفيه تنازع فى تسميته الآن علما. ومما هو صالح للكناية من غير باب المسند إليه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ (¬3) ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لبعض الفزاريين فى شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1146، والمقاصد النحوية 2/ 3، 411/ 89، وبلا نسبة فى خزانة الأدب 9/ 141، وشرح الأشمونى 1/ 224، ورواية عجزه:" ... اللقبا". (¬2) الرجز لأبى الحسن على بن أبى طالب رضى الله عنه، كما فى صحيح مسلم فى" الجهاد" باب: غزوة ذى قرد 4/ 467، وفيه: أنا الّذى سمّتنى أمّى حيدره … كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصّاع كيل السّندره (¬3) سورة المسد: 1.

تعريف المسند إليه بالموصولية

تعريف المسند إليه بالموصوليّة: وبالموصوليّة: 1 - لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصّة به سوى الصّلة؛ كقولك: الذى كان معنا أمس رجل عالم. 2 - أو لاستهجان التصريح بالاسم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يحضر فى الذهن لهب النار، التى هى داره، لا أنه سمى أبا لهب بذلك. فإنه قيل: إنما سمى أبا لهب؛ لأن لونه كان ملتهبا، وأيضا الظاهر أنه سمى بذلك فى صغره، قبل استحقاقه النار. وإنما قلنا: من غير باب المسند إليه، لأن المسند إليه فى الآية الكريمة يدا لا العلم، وقد أورد على السكاكى أنه أورد هذا فى أمثلة كون المسند إليه علما، وأجيب عنه بأن المراد بيديه نفسه، إطلاقا لاسم الجزء على الكل، فيكون منها. وفيه نظر؛ لأن يديه حينئذ أريد بهما ذاته، وذاته لا تشعر بهذا الاسم الذى يشعر بالإهانة، وأيضا فالمسند إليه على هذا التقدير ليس علما، بل هو مضاف إلى العلم، أو يقال عند السكاكى: هذا من باب المسند إليه يعنى به إسناد النسبة، كما نقل عن سيبويه أنه قال: غلام زيد. معناه: زيد ملك غلاما. وهذا ما تقدم الوعد به عند الكلام على الإسناد العقلى. وإما لإيهام استلذاذه، كقول المتنبى: أساميا لم تزده معرفة … وإنّما ذكرناها (¬1) قال السكاكى: وما شاكل ذلك، أى: من إرادة العلم باسمه، والحكم عليه، أو نحو ذلك. تعريف المسند إليه بالموصولية: ص: (وبالموصولية إلخ). (ش): التعريف بالموصولية يكون لأحد أسباب: الأول: أن لا يكون المخاطب يعلم من أحوال المسند إليه غير الصلة، كقوله: الذى كان معنا أمس رجل عالم. الثانى: أن يكون اسمه مستهجنا، فيطوى ذكره لهجنة تنزه عنها لسانك، أو سمع المخاطب كإذا أردت أن تقول: أبو جهل فعل كذا، فتأتى بصفة من صفاته بدل اسمه، وتجعلها صلة. ¬

_ (¬1) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 2/ 505.

3 - أو زيادة التقرير؛ نحو: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ (¬1). 4 - أو التفخيم؛ نحو: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: زيادة التقرير، أى: تقرير المسند، كقوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ «1» فإنه لو قيل: زليخا، لم يفد ما أفاده هنا من ذكر السبب، الذى هو قرينة فى تقرير المراودة، وهى كونه فى بيتها. وهذا مثال للمسند إليه وهو فاعل؛ إذ لا فرق بين المبتدأ والفاعل. الرابع: إرادة تفخيم المسند إليه، كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «2» ولقائل أن يقول: يحصل ذلك بالتنكير، أو يقول: إن ما نكرة موصوفة، ولو قيل: فغشيهم الغرق؛ لم يفد هذا التفخيم، وأنشد فى الإيضاح: مضى بها ما مضى من عقل شاربها … وفى الزّجاجة باق يطلب الباقى وقد قيل فى قوله تعالى: ما غَشِيَهُمْ إنما أتى به للتقليل؛ لأن الماء كان أضعاف ما يغرقهم. معناه أنه شئ يسير من ذلك الماء غشيهم، وعلى هذا يترجح التنكير. قال فى الإيضاح: ومنه فى غير هذا الباب قوله تعالى: فَغَشَّاها ما غَشَّى (¬3) أى فغشاها الله ما غشاها، فيكون الموصول مفعولا. وفيه نظر، والذى يظهر أن الموصول فاعل، ويؤيده أنه لو كان مفعولا، لكان المفعول الثانى ضميرا منفصلا، ولا يجوز حذفه؛ لأنه عائد منفصل أو متصل، فلا يجوز لاتحاد رتبته برتبة ما قبله. أو غشاها به فيلزم حذف العائد المجرور، وهو لا يجوز هنا. وأما قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (¬4) وقوله تعالى: فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ (¬5) فهو مؤول، وحيث لا حاجة إلى التأويل، تركناه. وأنشد بعد ذلك ما ليس من هذا الباب أيضا؛ لكونه ليس مسندا إليه، كقول دريد بن الصمة: صبا ما صبا حتّى علا الشّيب رأسه … فلمّا علاه قال للباطل: ابعد (¬6) فإن: ما مفعول به أو مطلق. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 23. (¬2) سورة طه: 78. (¬3) سورة النجم: 54. (¬4) سورة البقرة: 3 (¬5) سورة الطور: 18. (¬6) البيت من الطويل، وهو لدريد بن الصمة فى ديوانه 69، والأصمعيات 108، والشعر والشعراء 755، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى 821، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة 298.

5 - أو تنبيه المخاطب على خطأ؛ نحو [من الكامل]: إنّ الّذين ترونهم إخوانكم … يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا (¬1) 6 - أو الإيماء إلى وجه بناء الخبر؛ نحو: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (¬2). 7 - ثم إنّه ربّما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم: لشأنه؛ نحو [من الكامل]: إنّ الّذى سمك السماء بنى لنا … بيتا دعائمه أعزّ وأطول ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامس: أن يقصد تنبيه المخاطب على غلطه، كقوله: إنّ الّذين ترونهم إخوانكم … يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا (¬3) فإن الصلة هى المنبهة على أن المخاطب أخطأ فى اعتقاده، وهذا البيت نسبه ابن المعتز فى البديع لجرير وأنشده: إنّ الّذين ترونهم خلّانكم … يشفى صداع رءوسهم أن تصدعوا السادس: أن يقصد الإيماء إلى وجه بناء المسند على المسند إليه، والمراد ببنائه: جعله مسندا بأن يذكر فى الصلة ما يناسبه، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (2) فإن الاستكبار الذى تضمنته الصلة، كان مناسبا لإسناد سيدخلون جهنم داخرين أى: ذليلين إلى الوصول، ولك أن تقول هذا كالقسم الذى مثله بقوله: وراودته بل هو إياه. السابع: أن يجعل ذريعة إلى التعريض بشأنه أى: شأن الخبر، كقول الفرزدق: إنّ الّذى سمك السّماء بنى لنا … بيتا دعائمه أعزّ وأطول (¬4) ¬

_ (¬1) البيت لعبدة بن الطبيب، وهو شاعر مخضرم (شعر 5/ 48)، التبيان (1/ 156)، المفضليات (147)، شرح عقود الجمان ص 67، معاهد التنصيص (1/ 100). (¬2) سورة غافر: 6. (¬3) البيت من الكامل لعبدة بن الطبيب فى شعره ص 48، وفى علم البديع وفن الفصاحة للطيبى 2/ 159. (¬4) البيت من الكامل وهو للفرزدق فى ديوانه 2/ 155، والأشباه والنظائر 6/ 50، وخزانة الأدب 6/ 539، 8/ 278، 276، 243، 242، وشرح المفصل 6/ 99، 97، والصاحبى فى فقه اللغة 257، ولسان العرب 5/ 127 (كبر)، 374 (عزز)، وتاج العروس 15/ 227 (عزز)، والمقاصد النحوية 4/ 42، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى 2/ 388، وشرح ابن عقيل 467، وتاج العروس (بنى).

أو شأن غيره نحو: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ أى: أعز وأطول من كل شئ، وقيل: من بيت جرير، وقيل: يعنى عزيزة طويلة. وقال الخفاجى فى سر الفصاحة: إن المراد: أعز وأطول من السماء المذكورة فى البيت مبالغة، وإن جعله أطول من بيت جرير، أو بمعنى طويلة، فيه تعسف. والبيت قيل: الكعبة، وقيل: بمعنى العزة. فلا شك أن الموصول كان ذريعة إلى ذكر صلته، وذكرها ذريعة إلى تعظيم الخبر الذى هو بناء البيت، وذلك تدركه بالذوق فإن: سمك السماء، فيه تعريض، بأن المسند إليه من شأنه أنه رفع السماء، فهو قادر على المخبر به. وتارة يقصد به تعظيم شأن غير الخبر، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ فإنه قصد به تعظيم شأن شعيب صلّى الله عليه وسلّم ويحتمل أن يقال: إنه لبناء الخبر عليه، فإن تكذيبهم شعيبا صلّى الله عليه وسلّم مناسب لخسرانهم. قال فى الإيضاح: قال السكاكى: وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر، كقوله: إنّ التى ضربت بيتا مهاجرة … بكوفة الجند غالت ودّها غول (¬2) وربما جعل ذريعة إلى تنبيه المخاطب على خطأ، كقوله: إنّ الّذين ترونهم ... البيت. وفيه نظر؛ لأنه لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وتحقيق الخبر فرق. (قلت): الفرق بينهما واضح: فإن الإيماء إلى وجه الخبر، أن تذكر ما يناسبه، وتحقيق الخبر أن تذكر ما يحقق وقوعه بأى نوع كان. والفرق بين بناء الشئ على غيره وتحققه، واضح. ثم قال فى الإيضاح: وكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثانى، والمسند إليه فى البيت الثانى ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه؟ بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه. (قلت): وهو اعتراض فاسد؛ فإن السكاكى إنما استشهد به على ما قصد فيه التنبيه على الخطأ، ولم يجعل الأول ذريعة للثانى؛ بل هما كلامان متفاصلان. ثم قوله: لا يبعد أن يكون فيه إيماء عجيب فإن فيه التصريح بذلك قطعا، قال السكاكى: ربما كان ذريعة لمعنى آخر، كقوله: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 92. (¬2) البيت من البسيط، وهو لعبدة بن الطيب العبشمى فى ديوانه 59، وتاج العروس 24/ 341 (كوف)، ومعجم البلدان 4/ 491 (الكوفة)، وشرح اختيارات المفصل 646.

تعريف المسند إليه بالإشارة

تعريف المسند إليه بالإشارة: وبالإشارة: 1 - لتمييزه أكمل تمييز؛ نحو [من البسيط]: هذا أبو الصّقر فردا فى محاسنه … من نسل شيبان بين الضّال والسّلم (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ إنّ الّذى الوحشة فى داره … تؤنسه الرّحمة فى لحده وهذا يمكن جعله من وجه بناء الخبر، ويمكن أن يجعل ذريعة لجبر خواطر الفقراء قال: وربما قصد توجه ذهن السامع إلى ما قد يخبر به، كقول المعرى: والذى حارت البريّة فيه … حيوان مستحدث من جماد (¬2) قيل: أراد ابن آدم؛ لأنه من تراب، وقيل: أراد به ناقة صالح صلّى الله عليه وسلّم وسنتكلم عليه عند الكلام على تقديم المسند إليه. تعريف المسند إليه بالإشارة: ص: (وبالإشارة لتمييزه أكمل تمييز إلخ). (ش): يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأحد أمور: الأول: أن يقصد تميزه؛ لإحضاره فى ذهن السامع حسا، فالإشارة أكمل ما يكون من التمييز، كقول ابن الرومى: هذا أبو الصّقر فردا فى محاسنه … من نسل شيبان بين الضّال والسّلم (¬3) وقول المتنبى: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا … وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا (¬4) وقول مادح حاتم الطائى: ¬

_ (¬1) البيت لابن الرومى، وسقط عجزه فى بعض النسخ. (¬2) البيت لأبى العلاء فى المصباح فى المعانى والبيان والبديع لبدر الدين بن مالك ص 15، وفى الإشارات والتنبيهات للجرجانى ص 46. (¬3) البيت لابن الرومى فى الإشارات والتنبيهات للجرجانى ص 38. (¬4) البيت من الطويل وهو للحطيئة فى ديوانه 41، ولسان العرب 3/ 297 (عقد)، 14/ 94، 89 (بنى)، والمخصص 2/ 5، 64/ 15، 122/ 139، وتهذيب اللغة 1/ 15، 197/ 492، وتاج العروس (بنى)، وله رواية: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا … وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا

2 - أو التعريض بغباوة السامع؛ كقوله [من الطويل]: أولئك آبائى فجئنى بمثلهم … إذا جمعتنا يا جرير المجامع (¬1) 3 - أو بيان حاله فى القرب، أو البعد، أو التوسّط؛ كقولك: هذا أو ذلك أو ذاك زيد. 4 - أو تحقيره بالقرب؛ نحو: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا تأمّل شخص ضيف مقبل … متسر بل سربال ليل أغبر أوما إلى الكوماء هذا طارق … نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى فقوله: (تأمل) فيه نقض أدبى، والصواب أن يقول: تخيل، أو توهم. ولك أن تقول: كون أكمل التمييز يحصل باسم الإشارة دون غيره ظاهر إن قلنا: إنه أعرف المعارف، وإلا ففيه نظر. الثانى: التعريض بغباوة السامع؛ حتى إنه لا يتميز له الشئ إلا بإشارة الحس، كقول الفرزدق: أولئك آبائى فجئنى بمثلهم … إذا جمعتنا يا جرير المجامع (¬3) الثالث: أن يقصد بيان حاله فى القرب، أو البعد، أو التوسط، كقولك: هذا، أو ذاك، أو ذلك زيد أى: كقولك: هذا زيد للقريب، أو ذاك عمرو للمتوسط، أو ذلك بكر للبعيد وهذا تفريع على أن رتب اسم الإشارة ثلاث، وأما من جعل المتوسط والبعيد سواء، فهو لا يجعل اسم الإشارة تمييزا للمتوسط عن البعيد، ولا عكسه. الرابع: أن يقصد تحقيره بالقرب، قال فى الإيضاح: وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير، وكلامه فى ظاهره أن هذا ليس سببا آخر؛ بل هو من بقايا هذا الرابع، وهو الصواب، ومثل له بقوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ (2)، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (¬4) ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق فى ديوانه (11/ 418)، وأساس البلاغة (جمع)، والإشارات والتنبيهات 184، والإيضاح (1/ 119)، (والتبيان) للطيبى (1/ 157) بتحقيقى. (¬2) سورة الأنبياء: 36. (¬3) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه 11/ 2418، وأساس البلاغة (جمع). (¬4) سورة الفرقان: 41.

5 - أو تعظيمه بالبعد؛ نحو: الم ذلِكَ الْكِتابُ (¬1). 6 - أو تحقيره؛ كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا. 7 - أو التنبيه عند تعقيب المشار إليه بأوصاف على أنه جدير بما يرد بعده من أجلها؛ نحو: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ (¬3) وعليه من غير باب المسند إليه قوله تعالى: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا (¬4) وقوله (أو تعظيمه بالبعد) قال فى الإيضاح: وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم، كقوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ (¬5) ذهابا إلى بعد درجته، وقد قيل فيه: إنه على بابه، فإن الكتاب لم يكن كمل إنزاله، وقيل الإشارة إلى: الم، ولكنها لما انقضت، صارت فى حيز البعد. ومن مثال ما نحن فيه، قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها (¬6) وقوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (¬7) وقوله: (أو تحقيره) أى قد يقصد تحقيره بالبعد، كقولك: ذلك اللعين فعل كذا، ووجهه أنك تستحقره عن أن يقرب منك، كما تستعظم فى الوجه السابق أن يدنو منك. ومن هنا يعلم أنه قد يقصد تعظيم المشار إليه بالقرب، ومنه قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (¬8) وأمثاله فى القرآن كثير، وكان ينبغى للمصنف أن يذكر التعظيم بالقرب، كما ذكر التعظيم والتحقير فى البعد. الخامس: التنبيه بعد ذكر المشار إليه بأوصاف قبله (على أنه) أى المشار إليه (جدير بما يرد بعده من أجلها نحو: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬9) فذكر الأوصاف بعد الذين، ونبه باسم الإشارة على أن المشار إليه - وهو الذين - جدير بذلك. ولك أن تقول: أى مناسبة فى اسم الإشارة، اقتضت ذلك؟ ولو أتى بغير اسم الإشارة من المعارف، لحصل هذا. ومن هذا قول حاتم الطائى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 1 - 2. (¬2) سورة البقرة: 7. (¬3) سورة العنكبوت: 64. (¬4) سورة البقرة: 26. (¬5) سورة البقرة: 1، 2. (¬6) سورة الزخرف: 72. (¬7) سورة يوسف: 32. (¬8) سورة الإسراء: 9. (¬9) سورة البقرة: 5.

تعريف المسند إليه باللام

تعريف المسند إليه باللام: وباللام: 1 - للإشارة إلى معهود؛ نحو: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى (¬1) أى: ليس الذى طلبت كالتى وهبت لها. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولله صعلوك يساور همّه … ويمضى على الأحداث والدّهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة … ولا شبعة إن نالها عدّ مغنما إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت … تيمّم كبراهنّ ثمّت صمّما ترى رمحه ونبله ومجنّه … وذا شطب عضب الضّريبة مخذما وإحناء سرج فاتر ولجامه … عتاد أخى هيجا وطرفا مسوّما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه … وإن عاش لم يعقد ضعيفا مذمّما (¬2) وبقى من الأسباب أن لا يكون طريق إلى معرفة المسند إليه، إلا اسم الإشارة، كما فى المفتاح. وكان ينبغى للمصنف ذكره، كما ذكر نحوه فى الموصول. تعريف المسند إليه باللام: ص: (وباللام للإشارة إلى معهود إلخ). (ش): التعريف بالأداة، وهى اللام على مذهب، والألف واللام على مذهب، تكون لأحد أمور: الأول: أن يشار به إلى معهود. قال فى الإيضاح: للإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك، كما إذا قال لك قائل: جاءنى رجل. فتقول: ما فعل الرجل؟ ومنه قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى (1) أى: وليس الذكر الذى طلبت، كالأنثى التى وهبت والإشارة لمعهود سابق، وهو قولها: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً (¬3) وقولها: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى (¬4) غير أن المعهود السابق فى الذكر؛ ¬

_ (¬1) آل عمران: 36. (¬2) الأبيات في ديوانه ص 45، شرح وتقديم أحمد رشاد، دون البيت الأخير، وهو فى شعره في موسوعة الشعر العربي لمطاوع صفدى وإبلى حاوى ص 514، والبيت استشهد به الطيبي فى التبيان بتحقيقى 1/ 159. (¬3) سورة آل عمران: 35. (¬4) سورة آل عمران: 36.

2 - أو إلى نفس الحقيقة؛ كقولك: الرجل خير من المرأة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لتعريف عهد تقديرى، إذ لم يتقدم صريحا، وإنما تقدم: (ما فى بطنى محرّرا) والمراد به الذكر؛ لأنهم لم يكونوا ينذرون تحرير الإناث وفى الأنثى لتعريف عهد حقيقى صريح لتقدم (وضعتها أنثى) كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن قولهم: ليس الذكر الذى طلبت، يدل على أنه قد وقع طلب الذكر حقيقة، فيكون اللام فيه لتعريف عهدى حقيقى، والذى أحوج لإخراجها عن الجنسية: أنه لو كانت للجنس، لقيل: ليست الأنثى كالذكر، وليس هذا مقام قلب التشبيه، والمعهود قد يكون حاضرا لفظا، كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (¬1) أو حسا وهو مبصر، كقولك: القرطاس لمن سدد سهما، أو علما، كقوله تعالى: إِذْ هُما فِي الْغارِ (¬2) وقوله: بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ (¬3)، إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (¬4) هذا هو المعهود الشخصى، وأما الجنسى فسيأتى. الثانى - أن يراد نفس الحقيقة، كقولك: الرجل خير من المرأة، أى: حقيقة الرجل من حيث هى هى، خير من حقيقة المرأة من حيث هى هى، وقول المعرى: والخلّ كالماء يبدى لى ضمائره … مع الصّفاء ويخفيها مع الكدر (¬5) فلا يدل هذا حينئذ على وحدة، ولا تعدد. ثم قال المصنف: وقد تأتى لواحد باعتبار عهديته فى الذهن، كقولك: ادخل السوق، حيث لا عهد، يعنى: إن الدخول إنما يكون فى سوق معين قال: وعليه قول الشاعر، وهو عميرة بن جابر الحنفى: ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّنى … فمضيت ثمّت قلت لا يعنينى (¬6) ¬

_ (¬1) سورة المزمل: 15، 16. (¬2) سورة التوبة: 40. (¬3) سورة طه: 12. (¬4) سورة الفتح: 18. (¬5) البيت فى المفتاح ص 99، ولطائف التبيان ص 52، وسقط الزند ص 58، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 62، والخل: الصديق، و (ال) فى قوله (الخل) جنسية؛ إذ ليس الحكم هنا على خل معهود، وإنما هو على جنس الخل. وضمائره: ما يضمره من المودة وغيرها. (¬6) البيت لعميرة بن جابر الحنفى 1/ 78، وشرح التصريح 2/ 11، وهو منسوب لشمر بن عمرو الحنفى فى الأصمعيات ص 126، ولعميرة بن جابر فى حماسة البحترى ص 171، وخزانة الأدب 1/ 357، 358، 3/ 201، 4/ 207، 5/ 23، 503، 7/ 197، 9/ 119، 383، والخصائص 2/ 338، 3/ 330، وشرح شواهد الإيضاح ص 221، ولسان العرب 12/ 81 (ثمم)، 15/ 296 (عنى)، ودلائل -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رواه البحترى فى حماسته: ولقد مررت. لا يقال: كل ما يقع فى الوجود مشخص؛ لأنا نقول: لو نظر لذلك، لما كان العهد مفارقا الأداة، قال: وهذا فى المعنى كالنكرة، ولذلك يقدر يسبنى وصفا للئيم، لا حالا. يعنى أن اللئيم لما لم تكن الأداة فيه لمعين يعرفه المخاطب، صار شائعا بحسب الظاهر، فعومل معاملة النكرة، فصح وصفه، وإن كان معرفة بيسبنى، وإن كان نكرة. ولو عومل معاملة المعرفة، لجعل حالا، والحال فى المعنى غير مقصود؛ لأن الحال يدل على الانتقال، وليس ذلك مقصودا هنا. ومن حيث اللفظ أيضا لا يتضح؛ لكونه فى حكم النكرة على ما سبق وسيأتى الكلام على ذلك فى الكلام على الحال. ومثله فى القرآن كثير كقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (¬1)، وقوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ (¬2) إلى أن قال: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فإن قلت: لأى شئ فصل المصنف بين هذا، وما قبله من العهد بالجنس، وإن كان هذا والأول عهديين؟ قلت: لأن هذا وإن كان عهديا، فهو من حيث شياعه فى الظاهر كالجنس، فجعل بعدهما؛ لأن فيه شبها من كل منهما، ولك أن تقول: أقرب من هذا القسم شبها بالنكرات، ما اشتمل على الأداة الجنسية التى لتعريف الحقيقة، فإن شياعها فى نفس الأمر، وشياع ما نحن فيه فى الظاهر فقط، فكان أولى أن يعامل معاملة النكرات فى الوصف، وغيره. ولا شك أن الأمر كذلك؛ لكن ظاهر عبارة المصنف خلافه. وقد يجاب: بأن مدلول الجنسية هو الحقيقة، من غير نظر لإفرادها، وهى حينئذ غير مبهمة لكن لك أن تقول حينئذ: فما الذى أفادته هذه الأداة؟ (تنبيه): نسبة ما نحن فيه من التوسط بين العهد الشخصى والجنسى المعهود الجنسى، فإن العهد قد يكون شخصيا، كقوله تعالى: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (¬3) ¬

_ - الإعجاز ص 206، والإشارات والتنبيهات ص 40، والمفتاح ص 99، وشرح المرشدى 1/ 62، والتبيان 1/ 161، وثمت حرف عطف لحقته تاء التأنيث، وقوله (أمرّ) مضارع بمعنى الماضى لاستحضار الصورة، ورواية الكامل" فأجوز ثم أقول لا يعنينى". (¬1) سورة يس: 37. (¬2) سورة النساء: 98. (¬3) سورة المزمل: 16.

3 - وقد يأتى لواحد باعتبار عهديّته فى الذهن؛ كقولك: ادخل السوق خ خ؛ حيث لا عهد، وهذا فى المعنى كالنّكرة. 4 - وقد يفيد الاستغراق (¬1)؛ نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (¬2)، وهو ضربان: - حقيقىّ؛ نحو: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (¬3) أى: كلّ غيب وشهادة. - وعرفىّ؛ نحو: جمع الأمير الصّاغة، أى: صاغة بلده أو مملكته. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد يكون جنسيا، بمعنى إرادة جنس هو نوع لما فوقه، كقولك: الرجل، تريد به فردا من أفراد الرجال الحجازيين دون غيرهم، وهذا يقع كثيرا فى الكلام ولعل منه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ (¬4) فإن المراد جنس كتب الله، ليكون صالحا للتوراة، والإنجيل، والزبور التى أوتيها من تقدم ذكره من الأنبياء صلّى الله عليهم وسلم تسليما فاللام فيه عهدية جنسية، وكذا قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ (¬5) قال الزمخشرى: أى جنس كتب الله المنزلة، وتصير هذه الألف واللام عهدية، جنسية، استغراقية. وعلى هذا فينبغى أن يجعل: (وليس الذكر كالأنثى) من هذا القسم؛ فإن المعهود الذكر الذى قام بذهنها كيفيته المطلوبة، وذلك معهود جنسى لا شخصى، كما سبق فى: ولقد أمر على اللئيم. الثالث: أن تكون للاستغراق، وإليه الإشارة بقوله: وقد يفيد الاستغراق، وإنما قال: وقد يفيد لأنه يريد أن اللام الجنسية قد تفيد الاستغراق ومعنى الجنسية مع ذلك لا يفارقها، ومثله بقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) فإنه عام، بدليل الاستثناء منه، وكذلك: خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (¬6) ثم قال: إن الاستغراق على قسمين: أحدهما: حقيقى، نحو: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (3) فإن معناه: كل غيب، وكل شهادة، وفى جعل هذا من هذا القسم بحث، سيأتى إن شاء الله. والثانى: عرفى، كقولنا: جمع الأمير الصاغة أى: صاغة بلده أو مملكته. والحق وهذا أنه عام أيضا؛ ولكنه مخصوص بالعقل، كقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (¬7) ثم ¬

_ (¬1) أى المعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة. (¬2) سورة العصر: 2. (¬3) سورة السجدة: 6. (¬4) سورة الأنعام: 89. (¬5) سورة البقرة: 177. (¬6) سورة النساء: 28. (¬7) سورة الأنعام: 102.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جعل ذلك استغراقا عرفيا، فيه نظر؛ لأنه يقتضى أن العرف اقتضى عمومه، وليس كذلك، بل العرف اقتضى تخصيصه ببعض أفراده، والظاهر أنه يريد بالاستغراق العرفى أن ذلك فى العرف يعد مستغرقا، وليس بمستغرق لجميع ما يصلح له، بل لبعض أنواعه. (تنبيه): اعلم أن كون الألف واللام للعموم أو لا، مسألة مهمة يحتاج إليها فى علوم المعانى، وأصول الفقه، والنحو، ولم أر من المصنفين فى شئ من هذه العلوم، من حررها على التحقيق؛ وها أنا أذكر قواعد يتهذب بها المقصود، ويبنى عليها ما بعدها، وبالله التوفيق: الأولى: والألف واللام إما أن تكون اسما موصولا، أو حرفا. فإن كانت اسما، فليس كلامنا فيه؛ لأنه حينئذ داخل فى الموصولات، فله حكمها فى العموم بجميع أحواله وهذه فائدة جليلة يستفاد منها: أن غالب ما يستدل به من لا أحصيه عددا من الأئمة، فى إثبات العموم، أو نفيه من المشتقات المعرفة بالألف واللام، مثل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (¬1)، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي (¬2)، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ (¬3) ليس من محل النزاع فى شئ، إنما النزاع فى الألف واللام الحرفية بشروط ستأتى. وليتنبه لفائدة جليلة أيضا، أهملها النحاة، أو أكثرهم، وهو أن إطلاق أن الألف واللام الداخلة على المشتقات موصولة، لا يصح؛ لأنها إنما تكون موصولة، حيث أريد بها معنى الفعل من التجدد، أما إذا أريد بها الثبوت، فلا. فخرج بذلك أسماء الفاعلين، وأسماء المفعولين إذا قصد بها الثبوت، وخرج بذلك: أفعل التفضيل، وخرجت الصفة المشبهة فإنها يقصد بها الثبوت، ولذلك قال ابن الحاجب، فى نحو قوله تعالى: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (¬4): إن الألف واللام هى المعرفة الموصولة، فلا حاجة لتقدير عامل. وبهذا يعلم أن إطلاق أهل المعانى أن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار، ليس ماشيا على عمومه. الثانية: ما تدخل عليه الألف واللام الحرفية، التى ليست شيئا مما سبق أقسام: ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 5. (¬2) سورة النور: 2. (¬3) سورة المائدة: 38. (¬4) سورة يوسف: 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: جمع تصحيح أو ملحق به غير العدد، أو جمع تكسير للقلة، أو الكثرة، سواء كان له واحد من لفظه، أم لا. نحو: الزيدين، والعالمين، والأرجل، والرجال وأبابيل، وكذلك الداخلة على صيغة الأعلام بعد تنكيرها، إما لقصد الشركة على رأى الزمخشرى، حيث قال: تدخل أل على العلم للشركة، كما أضاف فى قوله: علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم أو لغير ذلك، ومدلول كل منها الآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد، كما صرح به بدر الدين بن مالك فى أول شرح الألفية، وهو حق ودلالة الجمع على كل واحد من أفراده بالمطابقة، ويكفيك فيه إطباق الناس على قولهم: الجمع كتكرار الواحد، ويكفيك أيضا قولهم: إنه لا يجوز أن تقول: جاء رجل ورجل ورجل فى القياس قالوا: إذ لا فائدة فى هذا التكرار؛ لإغناء لفظ الجمع عنه، فلو كانت دلالة رجال على رجل بالتضمن، لكان قولنا: رجل ورجل ورجل مشتملا على أعظم فائدة، وهى الانتقال من دلالة التضمن إلى دلالة المطابقة، كما يجوز ويحسن الانتقال من الظاهر إلى النص، ولكان جائزا حسنا. وتحقيقه أن لفظ: رجال فى الحقيقة، لفظ رجل، إنما تغيرت هيئته فصار دالا على آحاد ينصرف لكل منها وينصب كل منها انصبابا واحدا، ولا يكون دالا عليه بالتضمن؛ لأنه لم يوضع لمجموع الثلاثة، وهو يضاهى اللفظ المشترك إذا استعمل فى معانيه، فإنه يكون دالا على كل منهما بالمطابقة، ويضاهى العام فإنه دال على كل من أفراده بالمطابقة، وإن كان القرافى قد أشكل عليه دلالته، حتى قال مرة: إنه يدل بالتضمن، ثم رجع عن ذلك فقال: إنه لم يتضح له دلالته، والحق ما قلناه. ويضاهى قول القرافى: إن دلالة الفعل على كل من حدثه وزمانه بالمطابقة. لا يقال: دلالة المطابقة، هى دلالة اللفظ على تمام مسماه، وليس رجل تمام مسمى الرجال، ولا الفرد الواحد تمام مسمى العام؛ لأنا نقول: التمام فى مقابلة النقص، فإنما نعنى بالدلالة على تمام المسمى ما يقابل الدلالة على جزئه. فتمام المسمى كلى، قد يكون له فى الخارج جزئى واحد، وقد يكون له جزئيات، كل منها تمام المسمى وهو موجود فى ضمنها، كما أن تمام مسمى الحيوان الجسم النامى الحساس المتحرك بالإرادة، وذلك يوجد كله فى الإنسان، وفى الفرس، وغيرهما من أنواعه. وكذلك المشترك يوجد تمام مسماه فى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كل واحد من معانيه، ولا أعنى أن لفظ الجمع كلى بالنسبة إلى مفرداته، ولفظ المشترك كلى بالنسبة إلى معانيه؛ بل أردت مثالا يبين لك أن تمام المسمى، لا ينفى أن يكون معه غيره. ثم إن شئت اقتصرت على ذلك وقلت: مدلوله رجل ورجل ورجل، وليس الجمع موضوعا بطريق الأصالة؛ بل الوضع للمفرد. والعرب استعملت أوزانا للجموع، سوغت بها للمستعمل أن يجمع ما شاء على وزنها، فلا يرد أن يقال: يلزم أن يكون الجمع وضع للمفرد على انفراده، وعلى هذا نقول: الجمع هو المفرد بالمادة وغيره بالصورة، وإن شئت قلت: الجمع موضوع لكل مفرد بقيد كونه معه اثنان أو أكثر. والدلالة أيضا على كل فرد بالمطابقة؛ لأنه ليس موضوعا لمجموع الأفراد وفرق واضح بين الوضع للمجموع، وبين الوضع لكل واحد بشرط غيره. فإن قلت: لو كانت دلالة الجمع على كل واحد بالمطابقة، لكان قولك: ما عندى رجال، كقولك: ليس عندى رجل فى نفى كل واحد، وليس كذلك؛ بل هو لنفى المجموع قلت: بل مدلول: ليس عندى رجال، ليس رجل ورجل ورجل، وأنت قلت: ذلك لم يدل على أنه لا رجل عندك؛ لأن الجمع كتكرار الواحد بالعطف، بخلاف العدد. فلو قلت: جاءنى رجال، دل على كل واحد بالمطابقة. ولو قلت: جاءنى ثلاثة تريد الرجال، دل على كل واحد بالتضمن. ولو قلت: جاءنى رجال ثلاثة، كنت واصفا للآحاد بصفة هى للمجموع؛ لأن الآحاد فى الإثبات تستلزم المجموع، ولو قلت: جاءنى ثلاثة رجال، كان معناه: كل منهم رجل. وقد نازع الأخفش فقال فى ركب ونحوه: إنه جمع. القسم الثانى: اسم جمع سواء كان له واحد من لفظه، أو لم يكن، مثل: ركب، وصحب، وقوم، ورهط. قال بدر الدين بن مالك: إنه موضوع لمجموع الآحاد. ما قاله حسن؛ لأن اسم الجمع وضع فى الأصل وله مدلول وهو الأفراد، فكل منها جزء مدلوله، كما أن التخت لما كان اسما لذى أجزاء، كان مدلوله مجموعها. وكما أن الثلاثة اسم مجموعها بخلاف الجمع، فإن الوضع فى الأصل للمفرد. وبهذا يعلم أن دلالة اسم الجمع على أحد أفراده بالتضمن؛ لأنه جزء المدلول. القسم الثالث: اسم الجنس الذى يفرق بينه وبين واحده تاء التأنيث، وليس مصدرا، ولا مشتقا منه، مثل: تمر، وشجر، وغير ذلك مما لم تلتزم العرب فيه التأنيث؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ احترازا مما التزمته فيه، كتخم جمع تخمة. فهذا القسم ذهب الفراء إلى أنه جمع، وسماه ابن مالك اسم جمع، فإنه حين ذكر أسماء الجموع عده منها، ومثل له بتمر ونحوه، وسماه فى شرح الكافية: اسم جنس لا اسم جمع، كما فعل الجمهور. وكذلك فى أول باب أمثلة الجمع من التسهيل فى بعض النسخ. واختلف فى مدلوله على أقوال: أحدها: وهو الذى يظهر أنه يصلح للواحد والتثنية والجمع؛ لأنه اسم للجنس، والجنس موجود مع كل من الثلاثة. وقد حكى الكسائى عن العرب إطلاقه على الواحد، وقال به الكوفيون، سواء كان الواحد مذكرا أم مؤنثا. قال الراغب فى مفرداته: النحل يطلق على الواحد والجمع، وهذا أوضح الأقوال؛ بل لا ينبغى أن يقال: صالح للواحد والجمع، بل يقال: موضوعه الحقيقة؛ ليصدق اسم التمر على بعض تمرة واحدة؛ لأن الجنس موجود فيه. الثانى: أنه لا يطلق على أقل من ثلاثة قاله ابن جنى، وتبعه ابن مالك حيث قال، فى الكلم: إنه اسم جنس جمعى، لا يطلق على أقل من ثلاثة. الثالث: أنه لا يطلق إلا على جمع الكثرة، ونقل ذلك عن الشلوبين وابن عصفور، وهو مقتضى كلام ابن مالك فى باب أمثلة الجمع، ولأجل ذلك أورد شراح سيبويه على قوله: باب علم ما الكلم من العربية، وقالوا: إنما هى ثلاث: اسم، وفعل، وحرف، ثم أجابوا بأن تحت كل واحد منها أنواعا، ولا يدل لمن قال: إنه لا يطلق إلا على الجمع، أن سيبويه إنما ذكر ذلك فى باب الواحد الذى يقع على الجمع؛ لأنه لم يقل: لا يقع إلا على الجمع، ولا يدل له أنهم عند إرادة الواحد، يأتون بالتاء؛ لأن التاء يؤتى بها للتنصيص على الوحدة، وإزالة احتمال التعدد؛ كما يؤتى عند إرادة جمع القلة بالألف والتاء ولا دلالة فى قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (¬1) على إرادة الواحد، بل قد يراد الجنس، وعاد ضمير التثنية باعتبار لفظهما ومعناهما، وقد يراد الجمع وهو رعاية للفظهما. الرابع: المثنى نحو: الزيدين، والرجلين، والضاربين، والركبين، وما ألحق به من نحو اثنين، فدلالته على كل واحد، كدلالة الجمع على أفراده على ما سبق. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامس: الاسم الدال على الحقيقة، وأفراده متميزة، وليس له مؤنث بالتاء مثل: رجل، وأسد، وفرس. قد يقال: إنه قصد فيه الجنس مع الوحدة، ما لم يقترن بما يزيلها من تثنية، أو جمع، أو عموم، وبه جزم الغزالى فى المستصفى، والقرافى، وإليه أشار السكاكى عند الكلام على تعريف المسند، وجزم به الكاشى، وهو الظاهر، ويشهد له تثنيته وجمعه، وصحة قولك: ما عندى رجل بل رجلان، وقولهم: إن واحدا من قولك: جاء رجل واحد، تأكيد، وأنه لا يصح: عندى رجل عاقلون، أو رجل كثير، ويحتمل أن يقال: إنه لأعم من الواحد وغيره، بدليل صحة قولك: رجل خير من امرأة، لا تريد إلا الجنس. ولقول النحاة: لا التى لنفى الجنس، فى نحو: لا رجل، ويقولون: إنه لنفى الحقيقة؛ ولذلك لا يصح أن تقول: بل رجلين؛ ولأنه كلى، والكلى لا تعرض فيه لوحدة ولا تعدد؛ ولأن الزمخشرى قال فى قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا (¬1): إنه وحده لفظا؛ لأن الغرض الدلالة على الجنس، ويحتمل: يخرج كل واحد منكم طفلا، يريد وحد طفلا؛ لأن المراد الجنس لا الوحدة. وهذا وإن لم يكن صحيحا فى نفسه؛ لأن طفلا يستعمل للجمع والمفرد لغة؛ لكنا استفدنا منه أنه يرى أن نحو: طفل ورجل، لا يختص به الواحد، وكذلك قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (¬2) ويشهد له أيضا، أن الإمام صرح فى المحصول بأن الإنسان مطلق، ليس لوحدة، ولا كثرة. وقال الزمخشرى أيضا فى قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ (¬3): الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص. فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما هو العدد، شفع بما يؤكده، فدل على القصد إليه. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. اه. وهو كالصريح فى أن نحو: رجل يحتمل الوحدة والتعدد. ولا ينافى هذا قولهم: إن ذكر الواحد تأكيد؛ لأن لقائل أن يقول: المتحقق فيه هو الجنس، ولكن ¬

_ (¬1) سورة الحج: 5. (¬2) سورة الفرقان: 74. (¬3) سورة النحل: 51.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الغالب استعماله فى المفرد، فصار الذهن يتبادر إليه فيكون الواحد تأكيدا؛ لأنه أزال احتمالا مرجوحا. وقول المصنف فيما سيأتى إن أداة العموم تدخله مجردا عن معنى الوحدة، قد يتعلق به مدعى الوحدة؛ لأن التجريد عن الشئ فرع الكون فيه، وقد يتعلق به منكرها؛ لأنه لو دل عليها لما تغير عن موضوعه بالأداة، كما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. السادس: الاسم الدال على الحقيقة وأفراده متميزة، وهو مؤنث؛ لإطباقهم على أن اسم الجنس ما يفرق بينه وبين واحدة التاء. السابع: الاسم الدال على الحقيقة من حيث هى هى، ولا يتميز بعضها عن بعض، وليس لها مؤنث. ولا إشكال أنه لا دلالة فيه على وحدة ولا تعدد، مثل: الماء والعسل فى الأعيان، ومثل: الضرب والنوم فى المصادر، سواء كانت موضوعة بالتاء، مثل: الرحمة أو لا. الثامن: ما كان كذلك إلا أن فيه التاء من أصل الوضع، مثل: ضربة واستخراجة، فهذا مدلوله الوحدة بلا إشكال. التاسع: ما كان عددا مثل الثلاثة، فهذا نص فى مدلوله هو موضوع لمجموعها، ودلالته على أحدها بالتضمن، كما تقدم فى اسم الجمع بل أوضح، ويظهر أن الملحق بجمع السلامة من أسماء العدد كذلك، مثل عشرين إلى التسعين، فيدل على الآحاد بالتضمن، كاسم الجنس، وإن أعطيت فى الإعراب حكم جمع السلامة. القاعدة الثالثة: دلالة العام على أفراده بالمطابقة على ما سبق، ومحل تقريره علم أصول الفقه. الرابعة: اسم الجنس، يطلق باصطلاح النحاة على ما الفرق بينه وبين واحده تاء التأنيث، أو ياء النسب على ما سبق، ويطلق عند الأصوليين على جميع الأقسام السابقة، ما عدا الجمع والمثنى، وسبب ذلك أن النحاة ينظرون فيما يتعلق بالألفاظ والأصوليين أكثر نظرهم فى المعانى، فيطلقون الجنس على كل من الكليات السابقة، يعنون بالجنس: ما لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه جنسا كان، أم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نوعا، أم فصلا، أم خاصة أم عرضا عاما، أم صنفا، وقد توسعوا فى ذلك. فإن حقيقة الجنس فى الاصطلاح المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو، وما اصطلحوا عليه يقع أيضا فى كلام النحاة، ألا تراهم يقولون: الألف واللام الجنسية، يعنون جميع ذلك. الخامسة: إذا دخلت الألف واللام المذكورة على شئ مما ذكر غير مثنى، صار عاما على الصحيح فى الجميع بما سنذكره من الشروط، لا يقال: كيف يعم نحو: جلسة مع أنها للوحدة لما سيأتى - أما إن كانت جمعا فالأصوليون كالمنطقيين عليه، إلا شرذمة يسيرة. وأما إن كان اسم جنس، وما أشبهه فى الدلالة على الحقيقة، فكذلك على الصحيح، وهو الذى ذكره أصحاب الشافعى - رضى الله عنه وعنهم - وعولوا عليه، واختاره ابن الحاجب والأكثرون. وقيل: ليس بعام إلا بقرينة، وهو رأى الإمام فخر الدين فى أكثر المواضع. وقيل: إن كان اسم جنس يفرق بينه وبين واحده التاء، أو كان لا يوصف بالوحدة، كالماء والذهب، فهو عام، وإن كان يتميز بالشخص، كالرجل، والدينار، فليس بعام إلا بقرينة، كقولنا: الدينار أفضل من الدرهم؛ علم العموم فيه بقرينة التسعيرة، قاله الغزالى فى المستصفى، واختاره الشيخ تقى الدين القشيرى، والمريسى، ومحل الاستدلال لذلك أصول الفقه. وأما اسم الجمع فهو أقرب من المفرد إلى الجمع، فهو رتبة بينهما، وأما المثنى فلم أر من تعرض له إلا القرافى فإنه قال: إنه كالجمع فى العموم، ومن العجب أنه قال: لا يفهم العموم من إضافة التثنية فى شئ من الصور، سواء كان المفرد يعم، أم لا. فإذا قال: عبداى حران، فلا يتناول إلا عبدين، وكذلك لو قال: مالاى، فالفهم ينبو عن العموم فى التثنية جدا، بخلاف الجمع والمفرد. اه. والإضافة والتعريف فى ذلك على السواء، فكلامه الأول لا يجتمع مع الثانى، وفى كل من الإطلاقين نظر والحق التفصيل، فإن ما ذكره فى عبداى حران صحيح، يجب القول بمثله، فى قوله: العبدان حران؛ لأن المفرد يعم لإرادة الحقيقة، وصلاحية المفرد لها، والجمع يعم لصلاحيته لاستيعاب الأفراد، والتثنية وإن صلحت لاستيعاب كل اثنين فالعدول إليها مع مجاورة المفرد، والقصور عن الجمع قرينة لإرادة اثنين معهودين؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لكن قد توجد التثنية خالية عن القرينة الصارفة للعموم، أو مشتملة على قرينة إرادته، ولا نكاد نجد ذلك إلا فى اثنين بينهما تواصل ما، ويمكن الاستدلال له بقوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ (¬1) وقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إذا التقى المؤمنان بسيفيهما" (¬2) فإنه يعم كل اثنين ومؤمنين، وهذا وإن لم يكن مما نحن فيه لأنهما موصولان؛ لكن يشهدان لما نحن فيه من تثنية ما فيه الألف واللام الحرفية، وكذا قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (¬3) يعم كل أخوين، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم:" البيعان بالخيار" (¬4)، وكذلك: " رجلان تحابا فى الله" (¬5) وهو وإن لم يكن عام اللفظ، فهو عام المعنى. وأما نحو: لبيك، ودواليك، فقال أبو عبيدة: إنه عبر فيه بالمثنى عن الجمع، والذى اختاره الوالد فيه أنه اكتفى فيه بأول العدد، كقوله: لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم وعلى كل هذا قسم آخر يمكن ادعاء عمومه بالإضافة، وإن كان مثنى فى اللفظ. السادسة - دلالة العموم على كل من هذه الأقسام كلية، بمعنى أن الحكم على كل فرد نفيا كان، أم إثباتا، وإن كان فى النفى، لا يرتفع الحكم عن كل فرد، فرد بخلاف الإثبات على ما يأتى تحقيقه فى عموم السلب وسلب العموم، بخلاف ما ذكروه من قولهم: إن الحكم فى النفى على المجموع. السابعة - إذا أثبت العموم فى هذه الأقسام على سبيل الكلية، فكل منها يعم بحسب مدلوله. فالإرادة الداخلة على اسم الجنس، وكل ما يصلح للواحد وغيره على ¬

_ (¬1) سورة النساء: 16. (¬2) أخرجه البخارى فى" الديات" باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها ... 12/ 199 (ح 6875) وفى غير موضع فى صحيحه، ومسلم فى" الفتن" (ح 2888) من حديث أبى بكرة رضى الله عنه. (¬3) سورة الحجرات: 10. (¬4) أخرجه البخارى فى" البيوع" باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا (4/ 362) وفى غير موضع فى صحيحه، ومسلم فى" البيوع" ايضا (ح 1532). (¬5) أخرجه البخارى فى" الزكاة" باب: الصدقة باليمين (3/ 344) (ح 1423) وأخرجه فى مواضع أخرى من صحيحه، ومسلم فى" الزكاة" أيضا (ح 1031) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، وطرفه: " سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السواء، كالرجل إن قلنا: إنه لا يدل على الوحدة يعم رتب الآحاد بالالتزام، فيقع الحكم فيه على حقيقة الجنس التى ليست واحدة، ولا متعددة، مع ملاحظة وجوده فى الجزئيات، ويلزم من الحكم عليها الحكم على كل فرد من جزئياتها. فإذا قلت: الماء يروى إلا الحمار، فقد حكمت على مطلق الماء الموجود فى ضمن الجزئيات، ويلزم من الحكم عليه الحكم على أفراده، وهذا لا ينافى قولنا: دلالة العموم كلية؛ لأن ذلك أعم من أن تكون كليتها باللازم، أو غيره، وكذلك الصلاة مطلوبة إلا فى وقت الكراهة، والإنسان فى خسر إلا المؤمن إن لم يجعله للوحدة، أو جعلناه لها، ولكنه تجرد منها عند إرادة العموم، وهذا فيما لا يتميز أجزاؤه، كالماء، وأوضح منه فى المميز، كالإنسان، والفرس وهو فى المصادر، أوضح منه فى غيرها. فإن قلت: إذا كان شمول الأفراد لازما للحكم على الجنس، لزم أن تكون الإرادة الجنسية، تساوى الاستغراقية فى استيعاب الأفراد لأنها للجنس الذى لا يفارق شيئا من جزئياته. قلت: من هنا توهم كثير أن النكرة فى سياق الإثبات للعموم، ونقل ذلك عن الحنفية، ولذلك توهم ابن جنى أن أسماء الأجناس، لا تستعمل غالبا إلا مجازا؛ لعدم إمكان استيعاب أفراد الجنس غالبا، وليس كذلك؛ لأنا نقول: الجنسية جزء، وقصد المتكلم فيها إلى الجنس، ولم يلاحظ الأفراد، واستلزام الجنس للأفراد إزالة ما يدل عليه التنكير من التقييد بوحدة، أو غيرها من معانى التنكير. وأما الاستغراقية، فالاسم بعدها فى الدلالة على الجنس، لم يمنعه مانع والحكم عليه غير مقصود لذاته؛ بل للأفراد؛ وهو يشابه الكناية فى أن الحكم فيها على شئ، والمقصود ملزومه. إذا تحرر هذا فعموم اسم الجنس المعرف بالألف واللام، أقوى من عموم الجمع؛ لأنه ادعاء الشئ بدليله كما ذكره البيانيون فى غير موضع، وعموم الجمع ادعاء تحول الاسم للأفراد بغير دليل، ويتخلص أن عموم المفرد، أقوى عند البيانيين؛ لأن دلالة الالتزام عندهم أقوى، وعموم الجمع أقوى على ما تقتضيه قواعد الأصوليين؛ لأن دلالة المطابقة عندهم أقوى، ودلالة العام فى الجمع مطابقة؛ لكن يخدش فيه ما سيأتى عن إمام الحرمين، وسيأتى تحقيق هذا الموضع عند قول المصنف: واستغراق المفرد أشمل، والداخلة على الجمع، هل تصيره آحادا، أو تصير جزئيات العام مفردات،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو تعم فى رتب الجموع السالمة، إن كان جمع سلامة والمكسرة إن كان جمع تكسير؟ فيه خلاف مشهور، وعليه ينبنى التخصيص. فعلى الأول، يجوز إلى أن يبقى أقل ذلك، والداخلة على المثنى، كالداخلة على الجمع والداخلة على اسم الجمع. إن قلنا: إن أداة العموم تستغرق مراتب الجموع، ولا تصيره آحادا؛ فاسم الجمع الدال على الهيئة الاجتماعية أولى. وإن قلنا: إن أداة العموم تقلب الجمع آحادا، فلا يلزم القول بمثله فى اسم الجمع؛ لأن الجمع على ما سبق مدلوله الآحاد، يدل على كل منهما بمادته دون صورته، فليس فيه إذا دخلته أداة العموم بغير طائل بخلاف اسم الجمع، فإن لكل واحد من جزئياته هيئة اجتماعية ذات أجزاء، وكذلك الداخلة على الأعداد مثل: العشرة فيعم جزئيات العشرات وأسماء الجموع بالمطابقة، غير أنها تدل على أجزاء كل عشرة، واسم جمع بالتضمن، وحاصله أن نحو العشرة والركب، يعم الآحاد تضمنا، ويعم الجموع والأعداد مطابقة، والجمع يعم آحاده مطابقة. فإن قلت: قد حكيتم الخلاف فى أن صيغة العموم تقلب الجمع آحادا أولا، فإذا كان مدلول الجمع آحادا، استويا. قلت: نحن وإن قلنا: إن الجمع يدل على الآحاد بالمطابقة، فلا نجعله كالآحاد من كل وجه، فإن رجالا أفاد كل رجل دلالة غير مطابقة، بل منضم إليها اجتماعه مع غيره، سواء قلنا: إن الجمع وضع لذلك، أم إن هذا وظيفة المستعمل، بخلاف رجل ورجل ورجل، فإن كل واحد من المحكوم عليهم، لا تعرض فيه لغيره فحينئذ قولنا: إن لا رجال سلب معنى الجمع، معناه: أنه صار الحكم فيه على كل إنسان مطلقا، وقولنا: إنه باق على معنى الجمع معناه: أنه حكم فيه على كل إنسان مع غيره، ولذلك لا يجوز التخصيص إلى الواحد، وربما تترتب على ذلك فوائد أخر محلها علم أصول الفقه. وأما الدال الوحدة، كالضربة، وكالرجل إن قلنا: إنه موضوع بقيد الوحدة، وكالتمرة والبقرة، فيعم الوحدات، ولا ينافى ذلك العموم. فإذا قلنا: الضربة تؤلم كان معناه كل ضربة واحدة تؤلم؛ وإنما ينافى العموم أن لو كان معناه: واحدة من الضربات تؤلم ليس كذلك؛ وإذا اتضح لك ذلك فيما هو صريح فى الوحدة، فانقله فيما، هو ظاهر فيها، يكون أوضح، كقولك: الرجل يشبعه رغيف، وسيأتى الكلام على هذا البحث، فإن المصنف ذكره. وإذا حققت هذا انحل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كل ما أشكل على من لا أحصيهم عددا من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، من أنه كيف يجتمع العموم مع جمع القلة، والأول يستغرق الأفراد، والثانى لا يجاوز العشرة، لأنا بينا أنه يجتمع مع ما يتجاوز الواحد. فاجتماع العموم مع ما لا يتجاوز العشرة، أوضح فإذا قلت: أكرم الزيدين فمعناه: أكرم كل واحد مجتمع مع تسعة، أو دونها إلى اثنين، بخلاف: أكرم الرجال، فمعناه: أكرم كل واحد منهم منضم إلى عشرة فأكثر. ويجوز التخصيص فى نحو: الضربة إلى أن يبقى واحد، وفى نحو: الزيدين إلى أن يبقى ثلاثة، وفى نحو: الرجال إلى أن يبقى أحد عشر، إن فرعنا على جواز التخصيص، إلى أن يبقى فرد من أفراد العام، وفرعنا على أن معنى الجمعية باق. الثامنة - يشترط فى عموم الاسم الذى تدخل عليه هذه الأداة، أن تكون مادته، غير صارفة عن العموم، كالبعض، والجزء، والنصف، والثلث بالنسبة إلى الباقى. فإذا قلت: أخذت البعض من الدراهم، وأكلت الثلث من الرغيف، لا يتخيل أحد أنه يعم الأبعاض والأثلاث، وإن كان داخلا فى إطلاقهم. وإنما لم يعم؛ لأن هذه الكلمة إنما تستعمل غالبا لإرادة عدم الاستيعاب، ولذلك احتاجوا إلى تأويل قوله: وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ (¬1) وقول الشاعر: ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى … لولا الحياء ولولا الدّين عبتكما فمن قائل: هو على سبيل التنزل، ومن قائل: هى فيه بمعنى كل، ولم نر أحدا أجاب بأن هذا اسم أضيف، فيعم جمع الأبعاض. فإن قلت: قد قال المنطقيون: إن الجزئية المسورة ببعض، لا تنافى صدق الكلية لصحة بعض الإنسان حيوان. قلت: ونحن لا ندعى امتناع الصدق، وإنما ندعى العلية. نعم البعض، والجزء، والثلث، قد يعم كغيره من الأسماء، كقولك: الثلث أكبر من الربع، والبعض لا يطلق على الكل، وكذلك إذا أريد العموم فى أمثاله من ماهية أخرى كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" الثلث كثير" (¬2) أى كل مال فثلثه فى الإيصاء كثير وإذا قوبل البعض بالبعض فتارة تكون قرينة يمكن معها ¬

_ (¬1) سورة غافر: 28. (¬2) أخرجه البخارى فى" الوصايا"، باب: إن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس (5/ 427) (ح 2742) وفى" الجنائز"، ومسلم فى" الوصية" (ح 1628) فى حديث مرض سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القول بالعموم، كقولك: البعض من هؤلاء يحب البعض قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (¬1) أى كل واحد ولى الآخر، وتارة تكون معه قرينة تنافى العموم كقوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ (¬2) إذ لا يمكن تفضيل كل منهم صلّى الله عليهم وسلم على الأخير، بل البعض الأول المفضل جميعهم إلا واحدا أو جماعة مستوين، والثانى من عداه، وقد أطلقنا فى هذه المسألة لفظ البعض والكل تبعا لكثرة الاستعمال، وإن كان الأكثرون منعوا دخول الألف واللام عليهما، ومما يلتحق بالبعض فى الاستثناء من العموم فى بعض المواد لفظ (الآن) فإنه لا يقبل التعدد، فلا عموم فيه إذا قلنا: إن الألف واللام فيه للحضور، كما هو رأى الشيخ أبى حيان، فإن قلنا: زائدة فليست مما نحن فيه فى شئ. التاسعة: يستثنى من الأداة المذكورة الألف واللام التى فى (التى والذى) وفروعهما، على القول الضعيف: إنها للتعريف، فإنه لا يطرقه الخلاف فى الألف واللام الداخلة على اسم الجنس، بل الموصول الذى هو (الذى والتى) مقتض للعموم، وهو فى العموم أقوى من عموم الجمع المعرف، والقائل به أكثر من القائل بعموم الجمع، ويشترط فيهما أن لا تكون عهدية، ولا قصد بها مجرد الجنس، ولا زائدة، ولا عوضا من مضاف إليه مصحوبها - إن جوزناه، ولا هى للمح الصفة، ولا للغلبة، وذكرنا هذا الأخير وإن كانت الأداة فيه عهدية على المشهور، لأن من الناس من قال: إنها غير عهدية. العاشرة: تقرر أن الألف واللام للعموم عند عدم العهد، وليست للعموم عند قرينة العهد، لكن هل الأصل فيها العموم حتى يقوم دليل على خلافه؟ أو الأصل أنها موضوعة للعهد حتى يقوم دليل على عدم إرادته فيه نظر، وكلام الأصوليين فيه مضطرب، ومن أخذ بظواهر عبارتهم حكى فى ذلك قولين، ويظهر أثرهما فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة عهد، وشككنا فى أن العهد مراد أو لا، هل نحمله على العموم أو لا، والظاهر الأول، فإن قلت: إذا كانت القرينة تصرف إلى العهد وتمنع من الحمل على العموم فهلا جعلتم العام بالألف واللام مصروفا إلى العهد بقرينة السبب الخاص، وقلتم: إن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؛ قلت: تقدم السبب الخاص قرينة ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 71. (¬2) سورة الإسراء: 55.

واستغراق المفرد أشمل؛ بدليل صحة: لا رجال فى الدار خ خ: إذا كان فيها رجل أو رجلان، دون: "لا رجُلَ". ـــــــــــــــــــــــــــــ فى أنه مراد لا أن غيره ليس بمراد، فنحن نعمل بهذه القرينة فنقول: دلالة هذا العام على محل السبب قطعية، ودلالته على غيره ظنية؛ إذ ليس فى السبب ما يثبتها ولا ما ينفيها. الحادية عشرة: ما كان دالا على الحقيقة - كما ذكرنا - ينبغى أن يعلم أن مدلوله الحقيقة لا بقيد، ولا يقال: هو موضوع للجمع أو الواحد أو التثنية. قال الإمام فى البرهان: قال بعض من حوم على التحقيق ولم يرد مشرعه: إن المصدر صالح للمجموع وهو فى حكم اللفظ المشترك بين مسميات، فهو يصلح لآحادها على البدل وهو زلل وذهول عن مدرك الحق؛ وذكر كلاما معناه أن المصدر موضوع للحقيقة لم يوضع لاستعماله فى الواحد أو الجمع أو التثنية على البدل ولم يلاحظ فيه شئ من الثلاثة، ونقل عن سيبويه فى قول القائل: ضربه ضربا كثيرا أن كثيرا صفة والموصوف لا يشعر بالصفة، ولو كان الموصوف يشعر بالصفة لاستغنى عنها وجرت مجرى التأكيد. (ص): (واستغراق المفرد أشمل بدليل صحة: لا رجال فى الدار، إذا كان فيها رجل أو رجلان). (ش): هذا الكلام هو الذى دعانا إلى تقديم تلك القواعد السابقة، وهذه العبارة من المصنف سبقه إليها السكاكى، والظاهر أنه أخذ ذلك من قول الزمخشرى عند الكلام على قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ (¬1)، وقرأ ابن عباس: (وكتابه) يريد القرآن أو الجنس، وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة فى وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شئ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. اه. قلت: لا شك أن قولنا: استغراق المفرد أشمل، تارة يعنى به أن المفرد دل على فرد زائد لم يدل عليه الجمع، وتارة يعنى به أن مجموع جزئيات المفرد أكثر عددا من ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 285.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جموع جزئيات الجمع، وتارة يعنى به أن دلالة المفرد على الشمول أقوى من دلالة الجمع عليه. إذا تقرر ذلك فنقول: للمفرد والجمع أحوال: الأول: أن يكونا مثبتين، فالقول بأن استغراق المفرد فى هذه الحالة أشمل، إن عنى به أنه دل على فرد لم يدل عليه الجمع فليس بصحيح قطعا؛ لأن قولك: جاء الرجال استوعب جميع أفراد الرجل، فليس فى قولك: قام الرجل زيادة عليه، وأما ما يتخيل من أن الأعراب والعالمون والذين جموع وهى أعم من العرب والعالم والذى فغير صحيح؛ لأن الأعراب جمع للعرب بمعنى سكان البادية وعالمون والذين، إما جمع لعاقل من مفرديهما أو هما اسما جمع كذلك، وإن عنى به أن مجموع جزئيات الرجل أكثر عددا من مجموع جزئيات الجمع، انبنى ذلك على الخلاف السابق: فى أن الألف واللام هل يسلب الجمع معناه ويصير أفراده آحادا، أو لا؟ إن قلنا: نعم فليس فى: قام الرجال، زيادة أفراد عن قام الرجل قطعا، وإن قلنا: إن معنى الجمع باق، فأفراد الجمع لا شك أنها أقل من أفراد المفرد، سواء قلنا: دلالة الجمع على الآحاد بالمطابقة أم بالتضمن، وهذا واضح فى الأفراد المتناهية، لأن قولك: رأيت العبيد الذين لزيد وهم تسعة فيه أفراد العام ثلاثة، وقولك: رأيت العبد الذى لزيد أفراده تسعة، ويظهر أثر ذلك فيما لو قال: أعط الرجل درهما درهما فعلى هذا يعطى كل واحد درهما، بخلاف: أعط الرجال درهما درهما، فإنه يعطى كل ثلاثة درهما وفى غير المتناهى الظاهر أن الأمر كذلك، لأن الجموع أقل عددا من أفرادها بضرورة العقل وقد يتوقف فى ذلك ويقال: الأكثر والأقل أمر إضافى يتوقف على العدد، وما لا يتناهى لا عدد له فكيف تتعلق به الأكثرية والأقلية وهما إضافيان، وإن عنى به أن دلالة المفرد على الشمول أقوى من دلالة الجمع عليه، فصحيح ولا يستنكر أن يقال: المفرد أشمل بمعنى أن شموله أقوى، لأن الزيادة التى يدل عليها أفعل التفضيل أعم من أن تكون فى الكمية أو فى المعنى، ويشهد له التحقيق والنقل، أما التحقيق فما قدمناه فى القاعدة السابقة، وأما النقل فقال الإمام فى البرهان: هنا أمر ينبغى أن يتفطن له الناظر وهو أن لفظ التمر أحرى باستيعاب الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظه والتمور يرده إلى تخييل الوحدان ثم الاستغراق بعده بصيغة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع اه. يريد كما ذكره شراح كلامه أن المطلق يطلق لفظ التمر بإزاء المعنى الشامل للآحاد، والتمور يلتفت فيه إلى الوحدان فلا يحكم فيه على الحقيقة، بل على أفرادها وهذا عين ما ذكرناه فيما سبق على بحث فيه قدمناه، وقال الزمخشرى: فى قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (¬1) وحد العظم، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية وقصده إلى أن هذا الجنس قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها اه. يريد أنه قصد الحكم على حقيقة العظم؛ فإن الحكم عليها يستلزم الحكم على أفرادها كما ذكرنا، ولو جمع لقصد الحكم على الإفراد أولا، والأول أبلغ وإليه يشير بقوله: لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، يريد أن الجمع لا يدل على الجنسية، إنما يدل على أفرادها فحيث قصد الحكم على الأفراد جمع إشارة إلى اختلاف أنواعها، أو غير ذلك وإليه أشار الزمخشرى فى قوله فى العالمين أنه جمع ليشمل كل جنس مما سمى به أى لتكون الأجناس التى تحته مقصودة، ولم يقصد به الجنس بل قصدت الأفراد، ويحتمل أن يريد الزمخشرى أن الألف واللام فى العظم جنسية لم يقصد بها الاستغراق بالكلية، فلا تكون مما نحن فيه، إذا تقرر ذلك فقول ابن عباس رضى الله عنه فى الكتاب أكثر من الكتب لم يثبت عنه، ولو ثبت أمكن تأويله على المعنى الثالث، ويكون معنى كونه أكثر أن دلالته على الاستغراق أقوى كما سبق، ولا يمتنع أن يقال: مال زيد أكثر من مال عمرو إذا كان مال زيد أجل وأبرك وإن استويا فى الكمية، وإن امتنع ذلك حقيقة لم يمتنع مجازا. الحالة الثانية: أن يكون المفرد والجمع منفيين نكرتين مثل: ما جاءنى رجل وما جاءنى رجال، فاستغراق المفرد فى مثله أشمل على كل من المعانى الثلاثة السابقة، أما على أن المراد أنه يدل على ما لم يدل عليه الجمع، فلأن ما جاءنى رجل ينفى الواحد، وما جاءنى رجال لا ينفى مجئ الواحد ولا الاثنين لأن مدلوله سواء كان مجموع الرجال أو رجل ورجل ورجل هو سلب العموم لا عموم السلب كما سيأتى تقريره فى موضعه، وإن أريد بكونه أشمل أن أفراد ما جاء رجل أكثر من أفراد ما جاء ¬

_ (¬1) سورة مريم: 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجال؛ فعلى ما سبق فى حال الإثبات وإن أريد بكونه أشمل قوة دلالة المفرد على الاستغراق، فكذلك لأن المقتضى لذلك فى الإثبات هو الأفراد وكذلك هو فى النفى. الثالثة: أن يكونا منفيين معرفتين بالألف واللام، فالمفرد أيضا أكثر استغراقا باعتبار قوة الدلالة، وباعتبار كثرة أفراده على ما سبق فيه من البحث، وأما دلالته على أكثر مما دل عليه الجمع، فينبنى ذلك على أن أداة العموم أتجعل أفراد الجمع آحادا أو لا؟ فإن قلنا: إن معنى الجمع باق معها فالمفرد ينفى ما لم ينفه الجمع من الواحد الاثنين، وإن قلنا: إنها سلبية وصار الجنس استويا، ويتفرع عليه لو حلف لا يتزوج النساء أو لا يشترى العبيد، فمن قال: ينفى معنى الجمع يقول: لا يحنث إلا بثلاثة وهو مذهبنا كما صرح به الرافعى فى الطلاق محافظة على الجمع، ولم ينظروا إلى كونه جمع كثرة حتى لا يحنث بأحد عشر ولمانع أن يمنع الفرق بين لا أكلم الرجل ولا أكلم الرجال إذا كانت الأداة فيهما استغراقية، ويقول: لا يحنث فى واحد منهما إلا بتكليم الجمع، فإنهما يقتضيان سلب العموم، لا عموم السلب، ويشهد له نص الإمام الشافعى رضى الله عنه على أنه لو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث إلا بجميعه، ولو حلف لا يقرأ قرآنا حنث ببعضه بناء على أن القرآن اسم يقع على كله وبعضه، فقد جعل القرآن بالألف واللام فى النفى للمجموع فلم يحنثه إلا بقراءة الجميع وإن كان مفردا ويشهد لذلك قول أصحابنا: لو حلف لا يشرب ماء البحر لم يحنث إلا بكله، ولا يرد عليه قول أصحابنا: لو حلف لا يتزوج النساء حنث بثلاث ولو حلف لا يشرب الماء حنث ببعضه لأن العرف صرف هذه الألف واللام عن الاستغراق إلى الجنسية، ولم يصرف لا أشرب ماء البحر، فإن الإضافة أدل على العموم من الألف واللام كما صرح به الإمام فخر الدين فى تفسيره فلم يقو العرف لمعارضتها. وبعد أن انتهت هذه القاعدة على التحقيق، فلنرجع لعبارة المصنف، فقوله: (استغراق المفرد أشمل) الظاهر أنه يريد أنه يدل على ما لا يدل عليه الجمع بدليل ما ذكره من الدليل وليس إطلاقه بصحيح كما سبق وقوله: بدليل صحة لا رجال إذا كان فيها رجلان إنما يدل على أن استغراق النكرة المفردة فى النفى أبلغ من استغراق الجمع المنكر فيه، وكلامنا إنما هو فى الألف واللام.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): الألف واللام عند السكاكى على ما تعرفه من تأمل كلامه، إنما هى لتعريف العهد الذهنى خاصة، وأما الجنسية والاستغراقية والعهدية عهدا خارجيا فكلها داخلة تحت العهد الذهنى والذى ألجأه لذلك، أنه أورد سؤالا حاصله أن قولهم: الألف واللام لتعريف الحقيقة لا يجوز أن يراد به نفس الحقيقة؛ إذ لو كان كذلك لكانت أسماء الأجناس من غير دخول الأداة عليه معارف لدلالتها على نفس الحقيقة، ووضعها لذلك بالإجماع لا يقال: ليست دالة على نفس الحقيقة قبل اللام؛ بل دالة على الوحدة لأن ذلك إن صح فى نحو: رجل وفرس لا يصح فى المصادر كأكل وضرب، فإنه ليس موضوعا للواحد من جنسه لكنها ليست معارف إجماعا ولو كانت معارف لكانت اللام تأكيدا، ولا يجوز أن يراد بكونها للتعريف أن المراد بها الفرد المعين وهو العهد الخارجى، أو غير المعين وهو العهد الذهنى إذ لو كان كذلك لم يبق فرق بين الجنسية والعهدية، لأن الجنسية هى التى يحضر معناها فى الذهن، ولا يجوز أن يكون المراد الاستغراق لأن حقيقة الاستغراق غير تعريف الحقيقة، ولأنه يلزم التناقض لدلالة الاستغراق على التعدد والاسم على الوحدة، وذكر السؤال الذى سيأتى وأورد عليه قطب الدين منع الملازمة ومنع دليلها، وهو قوله: إن تعريف العهد ليس شيئا غير القصد إلى الحاضر فى الذهن؛ فإن فرقا ظاهرا بين، القصد إلى شخص من أفراد الحقيقة حاضر فى الذهن، والقصد إلى الحقيقة من حيث هى هى واعترض عليه بأن الحقيقة إذا أخذت حاضرة فى الذهن تكون فردا من أفراد الحقيقة المطلقة، والمراد بتعريف العهد ليس فردا حاصلا فى الذهن؛ بل أعم من ذلك، وفى الاعتراض نظر والخطب يسير لأن ذلك يرجع إلى اصطلاحين لا مشاحة فيهما، قال المصنف فى الإيضاح: فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام إما نفس الحقيقة لا ما يصدق عليه من الأفراد، وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحوه علم الجنس كأسامة، وإما فرد معين وهو العهد الخارجى ونحوه العلم الخاص كزيد، وإما فرد غير معين وهو العهد الذهنى ونحوه النكرة كرجل، وإما كل الأفراد وهو الاستغراق ونحوه لفظ كل مضافا إلى النكرة كقولنا: كل رجل وقد شكك السكاكى على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا اه. قال الكاشى: ولم يخرج الجواب عن شك السكاكى مما ذكره، ولا أدرى كيف خرج منه جواب شكه؟ (قلت): لأنه فرق بين العهد الذهنى والجنسى كما فعل قطب الدين، فكيف يظهر له جواب قطب الدين ولم يظهر له جواب الإيضاح والأول داخل فى الثانى؟

ولا تنافى بين الاستغراق وإفراد الاسم؛ لأنّ الحرف إنما يدخل عليه مجرّدا عن معنى الوحدة،، ولأنه بمعنى كلّ فرد لا مجموع الأفراد؛ ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ولا تنافى بين الاستغراق وإفراد الاسم، لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا عن معنى الوحدة). (ش): هذا جواب عن سؤال مقدر أورده السكاكى، وهو أن إفراد الاسم ينافى أن تكون الأداة الداخلة عليه للاستغراق، لأن الإفراد يدل على الوحدة، والاستغراق على التعدد، فأجاب بأن الحرف إنما يدخل عليه أى عند إرادة الاستغراق مجردا عن الوحدة والتعدد. ص: (ولأنه بمعنى كل فرد، لا كل الأفراد ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع). (ش): هذا جواب ثان وهو أن الإفراد والتعميم ليس بينهما تناف لأن معنى الإفراد باق، وأداة العموم تتبعت أشخاص ذلك المفرد واستوعبتها؛ لأن مدلولها كل رجل، لا كل الأفراد، ولا مجموعها، لأن دلالة العموم كلية لا كل، ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع، فلا يصح أن تقول: الرجل العاقلون، وفيما قاله نظر فقد سمع من كلامهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض، وجوزه ابن مالك وغيره، ولا يشهد له قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ (¬1) ولا دلالة فيه، لأن الطفل يستعمل بأصل الوضع للجمع كما سبق؛ بل لو كانت الألف واللام فيه وقلنا: بأحد الاحتمالين السابقين، وهو أن اسم الجنس إذا كان نكرة وأريد به المطلق لا يدل على الوحدة، فيمكن أن يقال: بجواز رعاية معناه فيجمع باعتبار ما تحت تلك الحقيقة من الأفراد، وهذا المعنى أظهر فى قولهم: أهلك الناس الدينار الحمر مما قاله ابن مالك من كون الأداة فيه للاستغراق، وقد بسطت القول على ذلك فى مسألة الحقائق الشرعية فى شرح المختصر، وعلم أن الجواب الثانى فى كلام المصنف أولى من الأول؛ لأن الأول يقتضى أن الأداة دخلت على الحقيقة فاستغرقتها وهى حقيقة واحدة لا تعدد فيها، والعموم شأنه الأفراد المتعددة، والجواب الأول يقتضى أن مدلول العام الحقيقة، والثانى يقتضى أن مدلوله الأفراد وهو الحق، ويجوز أن يكون قوله: ¬

_ (¬1) سورة النور: 31.

تعريف المسند إليه بالإضافة

تعريف المسند إليه بالإضافة: وبالإضافة: ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنه بمعنى كل فرد جوابا عن سؤال مقدر كأنه يقول: لو كانت الأداة تفيد العموم، لصح الوصف بالجمع، فأجاب بأنها للتفصيل. (تنبيه): تلخص أن الألف واللام على أقسام: أحدها: جنسية فقط، كقولك: الرجل خير من المرأة؛ أى حقيقة الرجولية خير من حقيقة الأنوثة. الثانى: عهدية عهدا خارجيا، كالرجل لمعين. الثالث: عهدية ذهنا ونعنى بالخارجى ما كان السامع يعرفه، وبالذهنى ما انفرد المتكلم بمعرفته، وإلا فالعهد لا يكون إلا فى الذهن. الرابع: عهدية جنسية، كقولك: أكرم الرجل، تريد جنس الحجازى فى جواب من قال حضر حجازى. الخامس: كذلك وهو معهود ذهنى لا خارجى، كالمثال المذكور حيث لم يكن فى جواب. السادس: ستغراقية جنسية، مثل: أن الرجل الجاهل خير من المرأة. السابع: استغراقية جنسية عهدية، كالمثال المذكور مريدا به الحجازى. الثامن: كذلك والمعهود ذهنى. التاسع: جنسية؛ ولكن يريد جملة ذلك الجنس، لا باعتبار العموم بل يكون المدلول الحقيقة كلها وهو بمعنى العموم المجموعى، وينبغى أن يجعل منه قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (¬1) يفيد علم الإفراد والمجموع معا، فإن المجموع فى الإثبات يستلزم الأفراد فلذلك قلنا: إن جزم المصنف بأن الأداة فيه استغراقية فيه بحث. تعريف المسند إليه بالإضافة: ص: (وبالإضافة إلخ). (ش): التعريف بالإضافة يكون لأحد أسباب: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 73.

1 - لأنها أخصر طريق (إلى إحضار المسند إليه)؛ نحو [من الطويل]: هواى مع الرّكب اليمانين مصعد … ................ 2 - أو تضمّنها تعظيما لشأن المضاف إليه، أو المضاف، أو غيرهما؛ كقولك: عبدى حضر، وعبد الخليفة ركب، وعبد السلطان عندى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: أن لا يكون لإحضاره في الذهن طريق أخصر من الإضافة، وينبغى أن يقيد بما إذا كان المقام مقام اختصار، كما صنع فى المفتاح كقول جعفر بن علبة حين حبس بمكة: هواى مع الرّكب اليمانين مصعد … جنيب وجثمانى بمكّة موثق (¬1) فإنه لا طريق أخصر من ذلك، وإنما جعل هذا مقام اختصار؛ لأن حال المحبوس حال ضيق، وبعد هذا البيت: عجبت لمسراها وأنّى تخلّصت … إلىّ وباب السّجن دونى مغلق وأورد عليه أن التعجب منصب على قوله: وأنى تخلصت فيلزم أن يكون معمولا لقوله: عجبت، ولا يصح، فإن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وأجيب بأن الاستفهام صمن معنى التعجب، فلا حاجة لجعله معمولا لعجبت. الثانى: أن يتضمن التعظيم لشأن المضاف إليه، أو المضاف، أو غيرهما، فالمضاف كقولك: عبد الخليفة قادم فأكرمه، ومنه أعنى ما يتضمن تعظيم المضاف، وإن لم يكن مسندا إليه. لا تدعنى إلا بيا عبدها … فإنّه أشرف أسمائى وقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (¬2) والمضاف إليه كقولك: عبدى فعل كذا، تريد تعظيم شأن نفسك بأنك ذو عبد، وتعظيم شأن غيرهما كقولك: عبد السلطان عند فلان، تريد بالإضافة الأولى تعظيم فلان المذكور فى الإضافة ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لجعفر بن علبة الحارثى - شاعر مقل من مخضرمى الدولتين الأموية والعباسية، وكان مسجونا بمكة فى جناية، فزارته محبوبته مع ركب من قومها، فلما رحلت قال فيها ذلك - انظر البيت فى معاهد التنصيص 1/ 120، والتبيان 1/ 163، والمفتاح ص 99، وبلا نسبة فى تاج العروس 12/ 182 (شعر)، والمصعد: اسم فاعل من أصعد بمعنى أبعد فى السير، والجنيب: المستتبع من (جنب البعير) إذا قاده إلى جنبه. (¬2) سورة الحجر: 42.

3 - أو تحقيرا؛ نحو: ولد الحجّام حاضر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانية، وهذا المثال قصد بالإضافة فيه تعظيم المضاف إليه فى الإضافة، والأحسن أن يمثل بعبد السلطان زار فلانا. والثالث: أن يراد بها التحقير، كقولك: عبد الحجام حضر هذا ما ذكره فى الكتاب وفى الإيضاح ذكر بعد الطريق الأول قوله، وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح كقوله: بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم … أسود لها فى غيل خفّان أشبل (¬1) وقوله: قومى هم قتلوا أميم أخى … فإذا رميت يصيبنى سهمى (¬2) فإنه لو عددهم لطال ومنه: أولاد جفنة حول قبر أبيهم … قبر ابن مارية الكريم المفضل (¬3) وهذا تركه المصنف، لأنه داخل فى قوله: أخصر طريق. زاد السكاكى أنه يكون حيث لا يكون للإحضار فى ذهن السامع طريق سواها أصلا، كقولك: غلام زيد لمن ¬

_ (¬1) البيت لأبى السمط مروان بن أبى حفصة فى مدح معن بن زائدة، وبنو مطر قومه بطن من شيبان، والغيل: الشجر المجتمع، وخفان: مأسدة قرب الكوفة، والأشبل: أولاد الأسود، والشاهد فى قوله:" بنو مطر" لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل متعذر، وانظر البيت فى المفتاح ص 99، وشرح المرشدى 1/ 65. (¬2) البيت من الكامل، وهو للحارث بن وعلة الجرمى فى الدرر 5/ 123، وسمط اللآلى ص 584، 305، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 304، وشرح شواهد المغنى 1/ 63، ولسان العرب 11/ 118 (جلل)، والمؤتلف والمختلف ص 197، ودلائل الإعجاز ص 253، وشرح الحماسة للتبريزى 1/ 107، والمفتاح ص 100، وبلا نسبة فى خزانة الأدب 10/ 23، ولسان العرب 13/ 453 (وهن)، ومغنى اللبيب ص 120، وهمع الهوامع. وأميم منادى مرخم أميمة، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه، والشاهد فى قوله: " قومى" لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل تركه أرجح لجهة هى خوف تغيرهم منه وحقدهم عليه إذا صرح بأسمائهم، وبعده: فلئن عفوت لأعفون جللا … ولئن سطوت لأوهنن عظمى (¬3) البيت من الكامل، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص 122، ولسان العرب 13/ 91 (جفن)، 15/ 279 (مرا)، وتاج العروس (فضل)، (جفن)، (مرى)، وبلا نسبة فى كتاب العين 6/ 146.

تنكير المسند إليه

ب - تنكير المسند إليه وأمّا تنكيره ف: 1 - للإفراد؛ نحو: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يعرف غير ذلك؛ لكن الإضافة أخصر ولعله تركه المصنف اكتفاء بذكر الاختصار، وقال أيضا: إنها قد تتضمن لطفا مجازيا كقوله: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة … سهيل أذاعت غزلها فى الغرائب (¬2) الخرقاء الحمقاء وسهيل بدل من كوكب، وهو نجم يطلع فى الشتاء فى السحر فأضاف الكوكب إلى الخرقاء يعنى أنها تنام إلى أن يطلع سهيل وقت الصبح فتفوق غزلها على الغرائب، قال: وأن يكون لغرض من الأغراض، مثل أن يقول: محبك على الباب يرققه للأذن له. (تنبيه): عجب من أهل هذا الشأن كيف لم يذكروا إرادة الاستغراق من أسباب الإضافة وهى من أدوات العموم، كما أن أداة التعريف كذلك، بل عموم الإضافة أبلغ كما سبق، ولم يتعرضوا لما إذا خلا ذلك عن اعتبارات مناسبة وأرجو أن يتسع الوقت للنظر فى ذلك إن شاء الله تعالى. تنكير المسند إليه: ص: (وأما تنكيره فللإفراد مثل: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى (1) (ش): التنكير يكون لأحد أمور: الأول: الإفراد نحو: وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى؛ أى رجل واحد فإن قلت: سبق أن النكرة لا تتعين للوحدة أعنى النكرة النحوية، وهى المتكلم عليها قلت: هذا يعضد ما سبق، لأنه لون التنكير ملازما للوحدة لما كانت الوحدة أحد معانيه؛ إلا أن يقال: قد يلازم الوحدة، وإن لم تكن مقصودة للمستعمل فى بعض الأحوال. ¬

_ (¬1) سورة القصص: 20. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الأشباه والنظائر 3/ 193، وخزانة الأدب 3/ 9، 112/ 128، وشرح المفصل 3/ 8، ولسان العرب 1/ 639 (غرب)، والمحتسب 2/ 228، والمقاصد النحوية 3/ 359، والمقرب 1/ 213، والمصباح ص 21. ورواية عجزه:" فى القرائب".

2 - أو النوعيّة؛ نحو: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (¬1). 3 - أو التعظيم. 4 - أو التحقير؛ كقوله [من الطويل]: له حاجب فى كلّ أمر يشينه … وليس له عن طالب العرف حاجب ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: أن يراد به نوع مخالف للأنواع المعهودة كقوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1»، أى نوع غريب من الغشاوة لا يتعارفه الناس بحيث يغطى ما لا يغطيه شئ من الغشاوات، ولك أن تقول: يحتمل أن يكون إنما نكر للتعظيم، وبذلك جزم السكاكى ومثل فى الإيضاح بالنسبة إلى غير المسند إليه من تنكير الإفراد بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ (¬2) وللنوعية بقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ (¬3) ولا بد أن تكون تلك الحياة مستقبلة، لأن الحرص لا يكون على الماضى ولا الحاضر، ولك أن تقول: جاز أن يكون للتعظيم أو التكثير قال: وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ (¬4) يحتملهما النوعية، بمعنى خلق كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء، أو كل فرد من أفراد الدواب من فرد من أفراد النطف، فإن قلت: إنما دلالة كل على الأفراد فكيف تدل على النوعية، قلت: الأفراد أعم من أفراد الأنواع وأفراد الأشخاص، فإن قلت: كيف تختلف أنواع المياه وهى النطف، قلت: أجيب عنه بأنها تختلف باختلاف أنواع ما انفصلت عنه. الثالث: أن ينكر للتعظيم بمعنى أن المسند إليه أعظم من أن يعين ويعرف، وفى الإيضاح للتعظيم أو التهويل وهو قريب. الرابع: أن يكون التحقير بمعنى انحطاط شأنه إلى حد لا يمكن أن يعرف، ومثل فى الإيضاح للتعظيم والتحقير بقول ابن أبى السمط وهو مروان بن أبى حفصة: له حاجب فى كلّ أمر يشينه … وليس له عن طالب العرف حاجب (¬5) ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 7. (¬2) سورة الزمر: 29. (¬3) سورة البقرة: 96. (¬4) سورة النور: 45. (¬5) البيت من الطويل، وهو لأبى الطمحان القينى فى ديوان المعانى 1/ 127، ولابن أبى السمط فى معاهد التنصيص 1/ 127، ولمروان بن أبى حفصة فى شرح شواهد المغنى ص 909 نقلا عن أمالى القالى، وبلا نسبة فى أمالى القالى 1/ 238، ومغنى اللبيب ص 577، وقبله: فتى لا يبالى المدلجون بثوره … إلى بابه ألا تضئ الكواكب

5 - أو التكثير؛ كقولهم: إنّ له لإبلا، وإنّ له لغنما. 6 - أو التقليل؛ نحو: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ أى له حاجب عظيم، وليس له حاجب حقير ويجوز أن يقال: نفى الحاجب الحقير فهم من عموم النكرة فى سياق النفى، ويجاب بأن جعل النفى للحقير لينفى غيره من باب الأولى أنسب، وقوله: فى كل أمر يحتمل أن يكون المفعول محذوفا معدى بعن التقدير له حاجب عن كل أمر يشينه، ويكون فى كل أمر يشينه المذكور متعلقا بما تعلق به من الاستقرار، ويحتمل أن يكون عداه بفى إشارة إلى أن الأمر الذى يشين له حاجب يحجبه عن فعله، واستعمل فى الثانى عن لأنه لا يقال فى طالب العرف: حاجب، ويقال فى الذى يشين ما يجلب إليه أو يحجب، فليتأمل، ويحسن التمثيل لاجتماع تنكيرى التعظيم والتحقير ببيت على روى هذا البيت وهو قوله: وللهو منّى والخلاعة جانب … ولله منّى جانب لا أضيعه الخامس: أن ينكر للتكثير، بمعنى أن ذلك الشئ كثير حتى إنه لا يحتاج لتعريف، كقولهم: إن له لإبلا وإن له لغنما، وحمل الزمخشرى التنكير فى قوله تعالى: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً (¬2). السادس: التقليل نحو قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (1) أى رضوان قليل أكبر، ليدل على غيره من باب الأولى، وعد الزمخشرى منه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا (¬3)؛ أى قليلا أى بعض ليل، وأورد عليه أن التقليل رد الجنس إلى فرد من أفراده، لا تنقيص فرد إلى جزء من أجزائه، وفيه نظر، لأن التقليل لو عنى به فرد لكان هو تنكير الأفراد الدال على الوحدة، وإنما التقليل أعم من الأفراد، لأن القليل يصدق على الثلاثة بالنسبة إلى المائة، وأما قوله: إن التقليل لا يرد الشئ إلى جزء حقيقته فصحيح؛ لكن لا نسلم أن الليل حقيقة فى جميع الليلة؛ بل كل جزء من أجزائها يسمى ليلا؛ غير أن إطلاق بعض الليل على قولنا: ليلا، ليس بظاهر، فإن كل بعض فيه ليل فلا يتبعض، إلا أن يقال: بعض الليل يسمى ليلا باعتبار نفسه، وبعض ليلة باعتبار الليل كله، فسماه: ليلا قليلا ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 72. (¬2) سورة الأعراف: 113. (¬3) سورة الإسراء: 1.

7 - وقد جاء للتعظيم والتكثير؛ نحو: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ (¬1) أى: ذوو عدد كثير، وآيات عظام. ومن تنكير غيره: 1 - للإفراد أو النوعيّة؛ نحو: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ (¬2). 2 - وللتعظيم؛ نحو: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (¬3). 3 - وللتحقير؛ نحو: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاعتبار الأول، وبعض ليل بالاعتبار الثانى، ثم قال: إن التنكير قد يأتى لمعنيين، فقد جاء للتعظيم والتكثير فى نحو: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ «1» أى عظيمون ذوو عدد كثير، ثم قال المصنف: إن من التنكير للإفراد والنوعية: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «2»، وقد سبق وإنما أخر المصنف ذلك عن محله، لأنه قصد أن يذكر المتردد فيه وحده، وقصد أن يفرد ما ليس مسندا إليه. وقد جعل من تنكير التعظيم: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «3»، والتحقير: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا «4» وجعله السكاكى للتعظيم، وفيه نظر وكان جعله للتقليل أو التحقير أوضح، وعند السكاكى من أسباب التنكير أن لا يعرف من حقيقته إلا ذلك، وعد منه أن يقصد التجاهل وأنك لا تعرف إلا شخصه، كقولك: هل لكم فى حيوان على صورة إنسان يقول كذا، وعليه من تجاهل الكفار ما حكاه الله عنهم من قولهم: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ (¬5) كأنهم لا يعرفونه وقد يقال: إن هذا مبالغة فى كفرهم، وقصدا للتحقير فيكون دخل فى القسم الرابع باعتبار زعمهم الباطل (قلت): وقد بقى تنكيره فى النفى لإرادة العموم، لأن النكرة فى سياق النفى للعموم، فإن قلت: المعرفة كذلك، لأنك إذا قلت: لا تكرم الرجال أفاد هذا؟ قلت: إنما يفيد سلب العموم، لا عموم السلب وسيأتى قال: وأما أنه لا طريق لك إلى تعريف السامع أكثر من ذلك، والسكاكى خلط التعميم بالتنكير؛ والتحقير بالتقليل، والذى فعله المصنف أصوب، لأنه لا تلازم بينهما، قال المصنف: وجعل السكاكى التنكير فى قولهم: شر أهر ذا ناب للتعظيم، وفى قوله تعالى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ (¬6) لخلافه ¬

_ (¬1) سورة فاطر: 4. (¬2) سورة النور: 45. (¬3) سورة البقرة: 279. (¬4) سورة الجاثية: 32. (¬5) سورة سبأ: 7. (¬6) سورة الأنبياء: 46.

(تنبيهان)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى كليهما نظر أما الأول فلما سيأتى، وأما الثانى فلا خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة، لأنها إما من قولهم: نفحت الريح إذا هبت أى هبة، أو من قولهم: نفح الطيب، إذا فاح أى فوحة، كما يقال: شمة، واستعماله بهذا المعنى فى الشر استعارة؛ إذ أصله أن يستعمل فى الخير يقال له: نفحة طيبة أى هبة من الخير، وذهب أيضا إلى أن قوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ (¬1) نكر العذاب فيه للتهويل، أو لخلافه والظاهر أنه لخلافه، وإليه مال الزمخشرى، فإنه ذكر أن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع الله؛ حيث لم يصرح فيه أن العذاب لا حق له لاصق به؛ لكنه قال: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فذكر الخوف والمس، ونكر العذاب. اه كلامه وهو ضعيف، وأما قوله: فلما سيأتى فسنتكلم عليه فى موضعه، وأما قوله أن خلاف التعظيم مستفاد من المرة قد يمنع دلالة المرة على التحقير، فإنه لا ملازمة بين الوحدة والتقليل، بل بين صدقهما عموم وخصوص من وجه، وأما التقليل فيحتمل أن يقال: لا يستفاد من المرة بل المستفاد من المرة الإفراد، وهو غير التقليل، فالشئ العظيم الواقع مرة واحدة لا يقال له: قليل، وقوله: إنه مستفاد من نفس الكلمة ذكره الزمخشرى، وليس له فى كلمة النفح وفعلها ما يدل على ذلك؛ بل هو مستفاد من المس، ولا نسلم أن معنى فاح وهب وشم نفحة وهبة وشمة، بل الأعم من ذلك، وإنما الذى قد يقال: إنه يدل على الوحدة هو النفحة، وقوله: إنه استعارة، لأنه إنما يستعمل فى الخير محتاج لنقل ذلك عن أهل اللغة، وكون التنكير للتهويل أو خلافه ينبنى عليهما استعمال الرحمن، فعلى الأول تكون الحكمة فيه الإشارة إلى أن من هو كثير الرحمة لا يعذب إلا عن ذنب عظيم لا مجال للعفو فيه وعلى الثانى يكون ذكره للتلطف. (تنبيهان): الأول: ما تقدم فى تنكير الوحدة والتقليل والتعظيم والتحقير، ليس معناه أن مع كل نكرة صفة محذوفة، فإذا قلت: أكرم رجلا تريد واحدا، فقد أطلقت الرجل، وأردت تقييده بالوحدة، وليس فى اللفظ صفة واحد وقد حذفت اكتفاء عنها ¬

_ (¬1) سورة مريم: 45.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالموصوف، وإنما نبهت على ذلك، لأن من النحاة من جعل المسوغ للابتداء بالنكرة فى قولهم: شر أهر ذا ناب، أن تقديره شر عظيم، فالمسوغ الصفة المحذوفة وليس كذلك. الثانى: قال ابن الزملكانى وغيره: إن النكرة فى الإثبات قد تكون للعموم لسياق امتنان أو غيره أخذا من قول البيانيين أن النكرة تأتى للتكثير، وظنا أن التكثير هو التعميم أو يلازمه، وليس كما ظنه فليس بين التكثير والتعميم اتحاد ولا ملازمة، إلا أن استعمال النكرة فى سياق الامتنان للتعميم محتمل، وفى كلام الشيخ تقى الدين القشيرى ما يقتضيه. (قاعدة) تتعلق بالتعريف والتنكير كثيرة النفع فى كل علم إذا ذكر الاسم مرتين فإن كانا معرفتين، أو الثانى معرفة والأول نكرة، فالثانى هو الأول، وإن كانا نكرتين فالثانى غير الأول، وإن كان الأول معرفة والثانى نكرة فقولان، فالأول والثانى كالعسر واليسر فى قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (¬1) لذلك ورد:" لن يغلب عسر يسرين" (¬2)، والثالث: كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (¬3). والرابع كقوله: عفونا عن بنى ذهل … وقلنا القوم إخوان عسى الأيّام أن يرجعن قوما كالّذى كانوا (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الشرح: 5، 6. (¬2) " ضعيف" أخرجه الحاكم فى مستدركه، والبيهقى فى شعب الإيمان وعبد الرزاق فى مصنفه، وابن جرير فى تفسيره، عن الحسن مرسلا، وانظر ضعيف الجامع (ح 4787). (¬3) سورة المزمل: 15، 16. (¬4) البيتان من الهزج، وهما للفند الزمانى (شهل بن شيبان) فى أمالى القالى 1/ 32، وحماسة البحترى ص 56، والحيوان 6/ 415، وخزانة الأدب 3/ 431، وسمط اللآلى ص 578، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 32، وشرح شواهد المغنى 2/ 944، والمقاصد النحوية 3/ 122، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب 2/ 656. ويروى بلفظ:" صفحنا عن ... ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن الحاجب فى أماليه فى قوله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ (¬1) الفائدة فى إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التى تأتى مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، ولو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب العدول عن المضمر إلى الظاهر، ألا ترى أنك لو أكرمت رجلا وكسوته كانت العبارة عنه أكرمت رجلا وكسوته، ولو أكرمت رجلا وكسوت غيره كانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا، فتبين أن هذا ليس من جعل الظاهر موضع المضمر، لأنه لو أتى بالمضمر لم يستقم، وشرط الطيبى فى هذه القاعدة أن لا يقصد التكرير وجعل من قصد التكرير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (¬2) فإن فيه نكرتين والثانى هو الأول، وأجاب عنه بأنه باب التكرير لإناطة أمر زائد، ويدل عليه تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (¬3) والذى استدعى هذا التكرير مقام تنزيهه عز وجل عن نسبة الولد إليه، وهذه القاعدة يكثر ذكرها فى كتب الحنفية قال فى الهداية: من قال: سدس مالى لفلان، ثم قال فى ذلك المجلس أو غيره: سدس مالى لفلان، فله سدس واحد، لأن السدس ذكر معرفا بالإضافة، والمعرفة متى أعيدت يراد بالثانى عين الأول، هذا المعهود فى اللغة، وقال فى النهاية: من كتبهم أيضا فيما لو قال: أنت طالق نصف تطليقة، وربع تطليقة المنكر إذا أعيد منكرا، فالثانى غير الأول، وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة وثلثها أو سدسها لم تطلق إلا واحدة للإضافة، وفى شرح المنار لحافد الدين النكرة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية الأولى لدلالة العهد (قلت): وهذه القاعدة الظاهر أنها غير محرورة، والتحقيق أن يقال: إن كان الاسم عاما فى الموضعين فالثانى هو الأول، لأن من ضرورة العموم أن لا يكون الثانى غير الأول ضرورة استيفاء عموم الأول للأفراد، وسواء كانا معرفتين عامتين، أم نكرتين عامتين كوقوعهما فى حيز النفى، أما إذا كانا عامين وهما معرفة ونكرة فسيأتى وإن كان الثانى فقط عاما، فالأول داخل فيه ¬

_ (¬1) سورة سبأ: 12. (¬2) سورة الزخرف: 84. (¬3) سورة الزخرف: 82. وقد حرفت الآية فى الأصل فقال:" سبحان رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ضرورة استغراق العام لذلك الفرد سواء كان معرفا أم منكرا، وسواء كان الأول معرفا بالألف واللام العهدية أم منكرا، ويلتحق بهذا الاسم فى دخول الأول فى الثانى إذا كانا عامين والأول نكرة كقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ (¬1) أى لا يملكون شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله كل رزق وكذا عكسه وإن كانا خاصين بأن يكونا معرفتين بأداة عهدية فذلك بحسب القرينة الصارفة إلى المعهود، فإن صرفتها إليه انصرفت وإن صرفت الأول منهما فالظاهر أن الثانى مثله، وإن كانا مشتملين على الألف واللام الجنسية، فالأول هو الثانى لأن الجنس لا يقبل التعدد، قال التنوخى فى قوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (¬2) إنما كان معنى العسر واحدا، لأن اللام طبيعية والطبيعية لا ثانى لها، يعنى أن الجنس كلى والكلى لا يوصف بوحدة ولا تعدد، وإن كانا نكرتين فالظاهر أن الثانى غير الأول، لأنه لو كان إياه، لكان إعادة النكرة وضعا للظاهر موضع المضمر، وهو خلاف الأصل ويحتمل خلافه، ولأجل الاحتمالين ورد فى حديث الاستسقاء (¬3) ثم جاء رجل من ذلك الباب، فأعاد ذكر الرجل منكرا، كما بدأ به منكرا مع تردده فى أنه الأول أو غيره كما ورد مصرحا به فى الرواية الأخرى؛ حيث قال: ثم جاء رجل، ولا أدرى الأول أو غيره، وإن كان معرفتين بأداة جنسية فالثانى هو الأول، لأن الجنس غير متعدد، وإن كان الثانى خاصا والأول عاما فهو داخل فى الأول ضرورة اشتمال العام على الخاص، كما يشتمل الأخص على الأعم هذا هو التحقيق فيها، ولو مشينا على إطلاق القاعدة لورد عليهم ما يعسر جوابه، فمن ذلك ما يرد على قولهم إذا كانا معرفتين فالثانى هو الأول، وهو قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (¬4) فإنهما معرفتان، والثانى الثواب، والأول العمل والثانى غير الأول، لأنهما عهديتان لمعهودين أو جنسيتان وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها (¬5) سأتكلم عليه فى ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: 17. (¬2) سورة الشرح: 5. (¬3) الحديث أخرجه البخارى فى" الاستسقاء" باب: الاستسقاء فى المسجد الجامع (2/ 582، 581)، (ح 1013)، ومسلم، (ح 897). (¬4) سورة الرحمن: 60. (¬5) سورة الكهف: 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وضع الظاهر موضع المضمر، وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (¬1) معرفتان والثانى عام، والأول خاص فالأول داخل فى الثانى، وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (¬2) أى القاتلة بالمقتولة، وقوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ (¬3) الآية وقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (¬4) ثم قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فهما وإن اختلفا بكون الأول خاصا والثانى عاما متفقان بالجنس، وكذلك: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (¬5) ولذلك استدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا، ومن ذلك من يرد على قولهم: إذا كان الثانى معرفة فالثانى هو الأول: وذلك قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (¬6) فإن الناس مطبقون على الاستدلال بالآية استحباب كل صلح، فالأول داخل فى الثانى وليس عينه، وكذلك: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (¬7)، وكذلك: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ (¬8) الفضل الأول العمل، والثانى الثواب، وكذلك: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ (¬9) وكذلك: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ (¬10)، وكذلك: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ (¬11) بقرينة أن المزيد غير المزيد عليه، وكذلك:" ولا يزال فى الصلاة ما انتظر الصلاة" (¬12)، ومن ذلك ما يرد عليهم فى النكرتين قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (¬13) فإن الثانى هو الأول، إلا أن يقال: أحدهما محكى من كلام السائل، والثانى محكى من كلام النبى صلّى الله عليه وسلّم وإنما الكلام فى وقوعهما من متكلم واحد، وكذلك: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ (¬14)، ومن مجئ الثانى ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 53. (¬2) سورة المائدة: 45. (¬3) سورة البقرة: 178. (¬4) سورة البقرة: 185. (¬5) سورة النجم: 28. (¬6) سورة النساء: 128. (¬7) سورة يونس: 36. (¬8) سورة هود: 3. (¬9) سورة هود: 52. (¬10) سورة الفتح: 4. (¬11) سورة النحل: 88. (¬12) أخرجه بنحوه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. (¬13) سورة البقرة: 217. (¬14) سورة الروم: 54.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نكرة قوله صلّى الله عليه وسلّم:" التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬1) فالمراد التائب من كل ذنب كمن لا ذنب له، ولا يستقيم أن يراد التائب من ذنب ما كمن لا ذنب له، إلا أن يراد بالذنب الثانى الخصوص فحاصله أنه لا بد من تساويهما عموما وخصوصا فى هذا المثال، وقوله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ (¬2) بعد قوله تعالى: قالَتْ إِحْداهُما (¬3) يحتمل أن تكون الأولى هى الثانية وأن لا تكون، وقد تقوم قرينة على أن الثانى غير الأول كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (¬4)، وكذلك قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ (¬5)، وأما قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (¬6)، فليس الجواب عنه ما قاله الطيبى بل إن إله بمعنى معبود، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة فأنت إذا قلت: زيد ضارب عمر، أو ضارب بكر، ألا يتخيل أن الثانى هو الأول، وإن أخبر بهما عن ذات واحدة، فإن المذكور بالحقيقة إنما هو الضربان لا الضاربان، ولا شك أن الضربين مختلفان، ومن أمثلة إعادة المعرفة نكرة وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً (¬7) قال الزمخشرى: المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع وبهدى الإرشاد، وأنشد فى الأساس: دع عنك سلمى قد أتى الدّهر دونها … وليس على دهر لشئ معوّل (¬8) ومنه: (إذا الناس ناس والزمان زمان) ومما نحن فيه قوله صلّى الله عليه وسلّم:" لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" (¬9)، قيل: الثانى غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل؛ أى الله هو الدهر المتصرف، وقال الراغب: معناه الله فاعل ما يضاف إلى الدهر، فإذا سببتم الذى تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد سببتم الله تعالى، والحق أن المراد لا تسبوا الفاعل الحقيقى ¬

_ (¬1) " ضعيف" وراجع الضعيفة (ح 615، 616). (¬2) سورة القصص: 25. (¬3) سورة القصص: 26. (¬4) سورة الروم: 55. (¬5) سورة النساء: 153. (¬6) سورة الزخرف: 84. (¬7) سورة غافر: 53. (¬8) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى كتاب العين 2/ 248، 138، وأساس البلاغة (عول). (¬9) بهذا اللفظ أخرجه مسلم فى:" الألفاظ من الأدب وغيرها"، باب: النهى عن سب الدهر (ح 2246).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى تعتقدون أنه الدهر، فإن الله هو الفاعل الحقيقى، فحينئذ الدهر فى الموضعين واحد، فهو على القاعدة وهذا الذى قاله الراغب حسن، إلا أن الجمع بينه وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم حين بلغه سب المشركين له:" إنهم يسبون مذمما وأنا محمد" (¬1)، يحتاج إلى تأمل، ومما أعيدت فيه المعرفة معرفة والثانى غير الأول بالقرائن قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (¬2) ومن ذلك قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (¬3) فالملك الذى يؤتيه الله العبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه فقد اختلفا وهما معرفان؛ لكن يصدق أنه إياه باعتبار أصل الاشتراك فى الاسم كما صرح بنحوه فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ (¬4) فقد أعاد الضمير فى الفضل المستغرق باعتبار أصل الفضل، ومما ذكرناه يعلم أن قول بعض البيانيين أن تؤتى الملك من يشاء لا يمكن أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر لا تحقيق له، ونظيرها قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (¬5) إلا أن العزة الأولى نظير الملك الثانى، والعزة الثانية نظير الملك الأول وأما قوله تعالى فى سورة البقرة: بِالْمَعْرُوفِ (¬6) وقوله تعالى فيه أيضا: مِنْ مَعْرُوفٍ (¬7) فهى من إعادة النكرة معرفة، لأن من معروف وإن كان فى التلاوة بعد المعرف فهو فى الإنزال متقدم عليه، وهذه القاعدة تعرض لها الأصوليون فى نحو: صل ركعتين، هل يكون أمرين والثانى تأسيس أو لا وفيها خلاف مشهور، ومما ينبنى على هذه القاعدة، إذا قال: إن رأيت رجلا فأنت طالق، وإن رأيت رجلا فعبدى حر، الظاهر أنه لا يجب أن يكون الثانى غير الأول بل إذا رأت رجلا حصل العتق والطلاق، ولو تخللت رؤية رجل بين التعليقين، ثم وجدت رؤية ذلك الرجل بعد التعليق الثانى عتق العبد بلا توقف، ذكر الفرعين الوالد فى بعض تعاليقه، ومما يجب التنبه له، أن المراد بذكر الاسم مرتين كونه مذكورا فى كلام واحد، أو كلامين بينهما ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" المناقب"، باب: ما جاء فى أسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (6/ 641)، (ح 3533). من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. (¬2) سورة العنكبوت: 47. (¬3) سورة آل عمران: 26. (¬4) سورة آل عمران: 73. (¬5) سورة النساء: 139. (¬6) سورة البقرة: 178، 241. (¬7) سورة البقرة: 240.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تواصل بأن يكون أحدهما معطوفا على الآخر أو له به تعلق ظاهر، وتناسب واضح، فإن قلت: لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (¬1) حزنت الصحابة رضى الله عنهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، ففسره النبى صلّى الله عليه وسلّم بالشرك وقرأ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (¬2) فهذان نكرتان فى كلامين متفاصلين، وفسر أحدهما بالآخر فهو ينقض قولكم: إن النكرتين تكون إحداهما هى الأخرى، وينقض قولكم: إن من شرط كون إحداهما الأخرى فى المعرفتين أو فى النكرة مع المعرفة أن يكونا فى كلام متصل بعضه ببعض، قلت: النكرتان فى كلامين متباعدين لا يمنع أحد أن يراد بإحداهما الأخرى بدليل يقوم عليه، وهذا الحديث دليل على أن المراد بأحد الظلمين الآخر، وإنما المدعى هنا أن النكرتين المتواصلتين دون قرينة تصرف إحداهما لغير الأخرى، أما المتباعدتان فلا يحكم عليهما أن إحداهما هى الأخرى أو غيرها إلا بدليل، هذا عند الإطلاق، أما الظلم وَلَمْ يَلْبِسُوا فإنه عام دلت السنة على تخصيصه بالآية الأخرى، وينبغى أن تتنبه إلى أن هذا التفسير النبوى قطع مادة النظر، فليس لسائل أن يسأل عن دليل لفظى فى إحدى الآيتين خصص الأخرى، ولا أن يقيس على ذلك، فيقول فى نحو: لا تضرب رجلا مع أكرم الرجل أو رجلا يريد زيدا أن المراد بالأول زيد فقط، ولا أن يقول فى قوله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ (¬3): إن المراد الشرك، وإن كان وزان وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، ولا أن يقول فى نحو: الإنسان حيوان أنه يقتضى أن كل حيوان إنسان، بل القرآن يفسر بعضه بعضا؛ حيث لا تعارض والسنة دلت على ذلك إما بوحى أو دليل لفظى، فليتأمل وكان خطر لى قديما أن فى الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالظلم فيها الكفر، وقوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا لأن الذى يلبس الإيمان هو الشرك، فإنه كالممازج له فإن عبادة الله إيمان، وعبادة غيره ظلم، بخلاف الظلم بالمعاصى غير الكفر، فإنها لا تمتزج ولا تلتبس بالإيمان، وعرضت هذا المعنى على والدى بدرس الشامية بدمشق فارتضاه وفرح به، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 82. (¬2) أخرجه البخارى فى" التفسير"، باب: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، (8/ 372)، (ح 4776)، ومسلم فى" الإيمان"، (ح 124)، والآية فى سورة لقمان: 13. (¬3) سورة غافر: 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومما يتعلق بما نحن فيه قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (¬1) فإن كانت إحداهما الثانية مفعولا فالاسم الأول هو الثانى على قاعدة المعرفتين، وإن كانت فاعلا فهما واحد باعتبار الجنس كما سبق، وأكثر النحاة على أن الإعراب إذا لم يظهر فى واحد من الاسمين تعين أن يكون الأول فاعلا خلافا لما ذكره الزجاج فى قوله تعالى: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ (¬2) وقد رأيت لابن الحاجب فى أماليه كلاما فى ذلك غالبا حسن، وفى بعضه مشاحة وها أنا أذكره بلفظه فاعتبره، قال: قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (¬3) فيه إشكالان، أحدهما أن قوله: أن تضل ذكر تعليلا لاستشهاد المرأتين موضع رجل، ولا يستقيم فى الظاهر أن يكون الضلال تعليلا للاستشهاد، وإنما العلة التذكير والإشكال الثانى قال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وقياس الكلام فى مثل ذلك أن يقال: فتذكرها الأخرى، لأنه قد تقدم الذكر فلم يحتج إلى إعادة الظاهر، والجواب عن الأول أن التعليل فى التحقيق هو التذكير، ومن شأن لغة العرب إذا ذكروا علة، وكان للعلة علة قدموا ذكر علة العلة، وجعلوا العلة معطوفة بها بالفاء لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة، كقولك: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمها، فالإدعام هو العلة فى إعداد الخشبة، والميل هو سبب الإدعام، فذكر على نحو ما ذكرناه، فقيل: أن يميل الحائط فأدعمها، ولو قيل: إن الميل فى المثال والضلال فى الآية هو السبب، لم يكن ذلك ببعيد، لأن الضلال والمعلوم من إحداهما يكثر وقوعه، فصلح أن يكون علة فى استشهادهما مقام رجل، وإنما يجئ اللبس هاهنا إذا توهم أن وقوع الضلال هو السبب، فيؤدى إلى أن يكون مقصودا وقوعه باستشهادهما، وليس التعليل واجبا فيه أن يكون مقصودا وقوعه، بل العلة هى المقتضية لذلك المعلوم، ألا ترى إلى قولك: قعدت عن الحرب من أجل الخوف فالخوف هاهنا ليس مرادا وقوعه فى قصد المتكلم حتى يكون سببا للقعود، فكذلك هاهنا المقصود أن الضلال المعلوم هو السبب المقتضى فى المعنى استشهادهما فى موضع رجل، وذلك مستقيم على هذا التأويل، وكذلك يمكن أن يقال فى ميل الحائط: إنه أيضا هو السبب على الوجه الذى ذكرناه فى الآية، وهذا الوجه الثانى يصلح أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282. (¬2) سورة الأنبياء: 15. (¬3) سورة البقرة: 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون الأول ليجئ الثانى بعده بعد تقديم التسليم، وأما الجواب عن الإشكال الثانى، فهو أنا نقول: أصل الكلام على الوجه الأول: أن تذكر إحداهما الأخرى عند ضلالها، فقدم على ما ذكرناه، فبقى أن تذكر إحداهما الأخرى على ما كان عليه. الثانى هو أن لا يستقيم فى المعنى إلا كذلك، ألا ترى أنه إذا قال: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة متعينا لها كما إذا قلت: جاءنى رجلا وضربته، يتعين أن يكون الجائى هو المضروب وذلك مخل بالمعنى المقصود، لأنها قد تكون الضالة الآن فى الشهادة وهى الذاكرة فيها فى زمان آخر، فالمذكرة هى الضالة فإذا قيل: فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعين عود الضمير إلى الضالة، وإذا قيل: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى كان مبهما فى كل واحدة منهما، فلو ضلت إحداهما الآن وذكرتها الأخرى، فذكرت كان داخلا ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها فى وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى غير معين، ولو قيل: فتذكرها الأخرى، لم يستقم أن يكون مندرجا تحته إلا التقدير الأول، فعلم أن العلة هى التذكير من إحداهما الأخرى كيفما قدر، وإن اختلف وهذا المعنى لا يفيده إلا ما ذكرناه، فوجب لذلك أن يقال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وهذا الوجه الثانى هو الذى يصلح أن يكون جاريا على الوجهين المذكورين أو لا، وأنه فى التحقيق هو الذى وجب لأجله مجيئهما ظاهرين، وأما الوجه الذى قبله فلا يستقيم إلا على التقدير الأول، لأن التقدير الثانى جعل الضلال هو العلة، فلا يستقيم مع ذلك أن يقال: إن أصل الكلام (أن تذكر إحداهما الأخرى) عند ضلالها مع القول بأن الضلال هو العلة. فثبت مما ذكرناه من المعنى الصحيح وجوب مجئ الآية على ما هى عليه، وأنه لو غير إلى المضمر اختل المعنى المقصود، واختص ببعضه. اه. وفى بعضه نظر، والسؤال الذى ذكره أولا، وما أجاب به عنه من أن المعطوف عليه ذكر للتوطئة، ثم عطف عليه المقصود يأتيان فى قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ (¬1) وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً (¬2) فإن إيتاء الله الكتاب لم يقصد نفيه، وكونهم كانوا أعداء لم يقصد عده من النعمة، وإنما المعنى ما كان لبشر أن يقول للناس ذلك، وقد آتاه الله الكتاب، واذكروا نعمة الله عليكم إذ ألف بينكم بعد العداوة، ومن هذه المادة أيضا قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 79. (¬2) سورة آل عمران: 103.

وصف المسند إليه

ثالثا: إتباع المسند إليه، وعدمه وصف المسند إليه: وأمّا وصفه، فلكونه: 1 - مبيّنا له، كاشفا عن معناه؛ كقولك: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله، ونحوه فى الكشف: قوله [من المنسرح]: الألمعىّ الّذى يظنّ بك الظ … ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنْفُسَكُمْ (¬1) المراد تنسون وأنتم تأمرون؛ إذ الأمر لا يصلح أن ينكر، وبقى مما يتعلق بما سبق قوله تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (¬2)، وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها (¬3)، وسيأتى الكلام عليه فى وضع الظاهر موضع المضمر. [- إتباع المسند إليه وعدمه] وصف المسند إليه: ص: (وأما وصفه إلخ). (ش): يأتى المسند إليه موصوفا، وذلك لأحد أمور: الأول: أن يكون يحتاج إلى كشف معناه، أو زيادة كشفه كشفا تاما، كقولنا: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله، وقوله: يحتاج خبر الجسم، وهذا الوصف يسمى بيانيا، ويسمى كشفيا ونحوه فى الكشف قول أوس بن حجر بفتح الحاء والجيم يرثى فضالة بن كلدة: الألمعىّ الذى يظنّ بك الظ … ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 44. (¬2) سورة العنكبوت: 31. (¬3) سورة الكهف: 77. (¬4) البيت من المنسرح، وهو لأوس بن حجر فى ديوانه ص 53، ولسان العرب 1/ 324 (حظرب)، 8/ 327 (لمع)، وتهذيب اللغة 2/ 424، وديوان الأدب 1/ 273، وكتاب الجيم 3/ 214، والكامل ص 1400، وذيل أمالى القالى ص 34، ومعاهد التنصيص 1/ 128، ولأوس أو لبشر بن أبى خازم فى تاج العروس 22/ 168 (لمع)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة 5/ 212، والمصباح ص 22. والألمعى: الذكى المتوقد، والبيت من قصيدة له فى رثاء فضالة بن كلدة الأسدى، وبعده: أودى فلا تنفع الإشاحة من … أمر لمن قد يحاول البدعا

2 - أو مخصّصا؛ نحو: زيد التاجر عندنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال السكاكى: قال الجوهرى: الألمعى منصوب بفعل متقدم، وجوز أن يكون بدلا لأن قبله: أيّتها النّفس أجملى جزعا … إنّ الذى تحذرين قد وقعا إنّ الّذى جمّع الشّجاعة والن … نجدة والبرّ والتّقى جمعا الألمعىّ الّذى يظنّ بك الظ … ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا المخلف المتلف المرزّأ لم … يمنعه ضعف ولم يمت طبعا (¬1) والمراد بالمخلف المسلف ماله بالعدة، والمرزأ فى ماله بالكرم، والطبع أقوى الطمع وخبر إن قال الأخفش: هو محذوف تقديره مات، والبيت مذكور فى الكامل للمبرد، ورأيت هذه الأبيات فى ديوان أوس بخط على بن أبى الفتح بن جنى وكتبه، فإن ما تحذرين وكتب إن الذى جمع السماحة، وضبط بخطه الألمعى بالرفع، وقال: بظن لك الظن، وضبط المرزئ بكسر الزاى، وكتب لم تمنع بضعف بالتاء المثناة من فوق مفتوحة، وقول المصنف نحوه يحتمل أن يكون، لأنه من غير باب المسند إليه إن كان منصوبا بفعل وقد يكون، لأن هذا الوصف ليس كاشفا عن حقيقة الألمعى، بل يتضمن لازمها، فإن الألمعى هو الذكى المتوقد كما قال فى الصحاح، وذلك يستلزم هذا الوصف وعبارة الإيضاح ونحوه فى الكشف قال فى الإيضاح وكذا قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (¬2). قال الزمخشرى: الهلع شدة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم: ناقة هلوع سريعة السير، وعن أحمد بن يحيى قال لى محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى. اه. وهذا أيضا من غير باب المسند إليه. الثانى: أن يقصد تخصيصه بصفة تميزه. كقولك: زيد التاجر عندنا، فإنك ميزته عن غيره بهذا الوصف، وفى هذا المثال نظر لأن العلم متميز بنفسه لا يحتمل غير معناه، وقد يجاب بأنه قد يعرض له ¬

_ (¬1) انظر تخريج البيت السابق. (¬2) سورة المعارج: 19، 21.

3 - أو مدحا أو ذمّا؛ نحو جاءنى زيد العالم أو الجاهل؛ حيث يتعيّن الموصوف قبل ذكره. 4 - أو تأكيدا؛ نحو: أمس الدابر كان يوما عظيما. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاشتباه لكونه علما على غيره أيضا، أو يفاد أنه إذا قصد بوصفه التخصيص يصير منكرا وينوى تنكيره كتنكير الأعلام؛ لكن لو صح هذا لكانت صفته نكرة، وليفرض ذلك فيما إذ لم يكن ثم زيد آخر هو تاجر، فإن كان حينئذ يحتاج إلى وصف آخر، ومن هذا النوع الفصول المذكورة فى الحدود، والسبب الأول أعم من الثانى، والذى يغلب أن صفة النكرة للتخصيص، وصفة المعرفة للبيان. الثالث: أن يوصف للمدح أو للذم، كقولك: زيد العالم أو الجاهل؛ حيث يكون زيد قد فهم المراد منه قبل ذكر الصفة، والمصنف قال: لكون الوصف مبينا أو مخصصا أو مدحا أو ذما، وكان ينبغى أن يقول: أو مادحا أو ذاما أو يقول: تبيينا أو تخصيصا ونحوه فى غير المسند إليه قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (¬1)، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ (¬2) ونحوه فى الذم: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (¬3). الرابع: أن يفيد التأكيد، كقولك: أمس الدابر كان يوما عظيما، ويمكن أن يكون منه من غير باب المسند إليه: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (¬4) قال السكاكى: ذكر لأن القصد إلى الجنس، قال الزمخشرى: معناه زيادة التعميم والإحاطة، وهو قريب من كلام السكاكى وكأنه يريد بزيادة التعميم قوة العموم، لا تكثير أفراد العام، أما قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ (¬5)، فقال الزمخشرى: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما، والذى سيق له الحديث هو العدد، شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله ولم تؤكد بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية، لا الوحدانية، قلت: قوله: التوكيد لا يعنى الاصطلاحى الذى هو أحد التوابع، بل يعنى المعنوى اللغوى، ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: 1. (¬2) سورة الحشر: 24. (¬3) سورة النحل: 98. (¬4) سورة الأنعام: 38. (¬5) سورة النحل: 51.

توكيد المسند إليه

توكيد المسند إليه: وأمّا توكيده، ف: 1 - للتقرير. 2 - أو لدفع توهّم التجوّز، أو السهو، أو عدم الشمول. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولعله يريد أنه نعت مؤكد مثل: نعجة واحدة، والسكاكى جعل اثنين عطف بيان، وفيه نظر، لأن عطف البيان كالصفة، فإذا امتنع أن يكون أحدهما كاشفا لهذا المعنى امتنع الآخر، ومن جهة أن عطف البيان غالبا لا يكون إلا عن معرفة، وإلهين نكرة، ولأن اثنين ليس أشهر من إلهين، وعطف البيان عند الجمهور يكون غالبا أشهر، إلا أن يقال: هو أشهر فى العدد من التثنية، ولأن عطف البيان لا يكون إلا معرفة على قول مشهور، وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله، وقد بقى من أسباب الوصف أمور ذكرها فى التسهيل: منها الترحم مثل: زيد المسكين وهو قريب من معنى الذم والمدح، وكذلك الإبهام مثل: تصدقت صدقة كبيرة أو صغيرة، وفيه نظر، لأن الإبهام حاصل قبل الوصف، وكذلك التعميم مثل: أكرم الناس الرجال والنساء، وفيه نظر، لأن التعميم حاصل قبل الوصف، ولهذا أهمل المصنف ذلك كله، وإن ذكره الناس قبله. توكيد المسند إليه: ص: (وأما توكيده إلخ). (ش): من تعلقات المسند إليه أن يؤكده وذلك لأحد أسباب: الأول: إرادة التقرير نحو: قمت أنت وأنت قمت، وسيأتى فى باب تقديم الفعل أو تأخيره إن شاء الله تعالى، وبهذين المثالين مثل المصنف، وفيه نظر، لأن كلامه فى التأكيد الذى هو من التوابع وهذان المثالان ليسا كذلك، وقد اعترض هو على السكاكى بنحو ذلك فى كل رجل عارف. الثانى: دفع توهم المجاز نحو: جاء زيد نفسه، فإنه ينفى أن يكون جاء غلامه، كذا قالوه، وفيه نظر، أو السهو، كقولك: جاء زيد زيد؛ لأنه ينفى السهو، أو عدم الشمول، نحو: أخذت المال كله ينفى التجوز بالتخصيص أن يكون المراد به البعض، كذا قالوه (قلت): وفيه نظر، لأن ذلك قد لا يصرفه عن التجوز

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتخصيص وغيره، ألا ترى إلى قوله:" فأحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم" (¬1) كيف دخله التخصيص مع تأكيده؟ وكذلك: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ (¬2) إن كان الاستثناء متصلا، وإن تخيل فى جوابه أن التأكيد مقدر حصوله بعد الإخراج، فالمؤكد إنما هو غير المخرج ورد بنحو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها (¬3) والاستغراق فيه متعذر، لأن آيات الله تعالى لا تتباهى، وبعد أن كتبت ذلك بحثا رأيته منقولا، قال الإمام فى البرهان: ومما زل فيه الناقلون عن الأشعرى ومتبعيه أن صيغة العموم مع القرائن تبقى مترددة، وهذا وإن صح يحمل على توابع العموم كالصيغ المؤكدة. اه، فقد صرح بأن التأكيد لا يرفع احتمال الخصوص؛ لكن وجدت ما قد يدل لما قالوه وهو قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ (¬4) فى قراءة من نصب كله لأنه لو لم يعينه للعموم لما قابل هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وهذا يدخل فى المجاز، لأن التخصيص مجاز قال السكاكى: ومنه كل رجل عارف وكل إنسان حيوان ورد عليه فى الإيضاح بأن كل هذه للتأسيس لا للتأكيد، فإنها مفيدة للشمول بخلافها فى قام الناس كلهم، فإن العموم مستفاد من غيرها، فلذلك أفادت التأكيد وهذا الذى قاله صحيح؛ إلا أن كلام السكاكى لعله يشير إلى ما قلناه من أن لفظ كل وإن أكدت لكنها لا تنفى إرادة التخصيص، بل تبعده لأنها صريحة فى العموم، بخلاف لفظ الناس المؤكد بها، فكأنه يقول: إفادة الناس كلهم العموم كإفادة كل إنسان فى القوة، وإن كانا قابلين للتخصيص فكأنها للعموم المؤكد، كما يقال: إن لتأكيد الإثبات، أو يقال: أراد أنها تؤكد دلالة النكرة على شائع فى جنسه، وإن أفادت الاستغراق فإن إنسانا دال على قيام رجل، فإذا قلت: كل إنسان تأكدت الدلالة على الواحد لأنها موجودة مع كل فرد من أفراده التى دل اللفظ عليها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" جزاء الصيد"، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكى يصطاد الحلال، (4/ 35)، (ح 1824)، وفى غير موضع من صحيحه، ومسلم فى" الحج" (3/ 278) ط. الشعب. ولفظ مسلم:" إلا أبا قتادة ... ". (¬2) سورة ص: 73. (¬3) سورة طه: 56. (¬4) سورة آل عمران: 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أو يريد أن كل هذه أصلها كل الواقعة تأكيدا؛ لكنها قدمت، وفيه نظر، وإن مشى له ذلك فى المضافة لجمع فى نحو: كل الرجال فى الدار لا يمشى له فى المضافة لمفرد نكرة، مثل: كل رجل فى الدار لأنه ليس أصله رجل كله فى الدار، إما لامتناع تأكيد النكرة، وإما لأن التأكيد بكل إنما يكون لذى أجزاء، فإذا أردت بقولك: رجل كله فى الدار أجزاء الرجل الواحد، فهو معنى غير المعنى فى قولك: كل رجل فى الدار، ثم قال المصنف: إن محل كونها للتأسيس إذا أضيف لنكرة، مثل: كل حزب بما لديهم فرحون. (قلت): وهو يقتضى أنها لو أضيفت لمعرفة لا تكون مؤسسة لفائدة التعميم، مثل: كل الرجال قام، وليس كما قال بل هى للعموم مطلقا فى جزئيات ما دخلت عليه إن كان نكرة، أو فى أجزائه إن كان معرفة، هذا فى نحو قولك: كل زيد مثلا، أما نحو كل الرجال فهل تقول: الألف واللام هنا تفيد العموم وكل تأكيد لها، أو لبيان الحقيقة وكل تأسيس فيه احتمالان ذكرهما الوالد فى تصنيف له فى مسألة كل، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الألف واللام تفيد العموم فى مراتب ما دخلت عليه، وكل تفيد العموم فى أجزاء كل من تلك المراتب، فإذا قلت: كل الرجال أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جميع الرجال، وأفادت كل استغراق الآحاد كما قيل فى أجزاء العشرة، فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد، ومن هذا يعلم أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم، وقد نص عليه ابن السراج فى الأصول، ومن هنا كثر دخولها على المضمر، وقد أدخلوها على ما فيه الألف واللام لقلة الفائدة فيه، والتزام التأكيد والمضمر سالم من ذلك لأن مدلوله الجمع؛ فإذا دخلت كل عليه أفادت كل فرد، قلت: ومن دخولها على الاسم المعرفة مفردا قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (¬1) وقوله صلّى الله عليه وسلّم فى سنن الترمذى:" كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 93. (¬2) " ضعيف" أخرجه الترمذى من طريق عطاء بن عجلان، وهو ضعيف جدّا، كما قال الحافظ فى" الفتح"، (9/ 345)، وراجع الإرواء (ح 2042).

بيان المسند إليه

بيان المسند إليه: وأمّا بيانه، ف: - لإيضاحه باسم مختصّ به؛ نحو: قدم صديقك خالد. ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): المجاز فى نحو: قام زيد ثلاثة أقسام: أحدها: فى الحدث بأن تكون أطلقت قام وأردت مقدمات القيام. الثانى: فى الزمان بأن تكون أطلقت قام وأردت يقوم فى المستقبل. الثالث: فيهما بأن تطلقه على أنه سيتعاطى أسباب القيام وفى إسناده إلى فاعله الخاص المفرد احتمال مجاز رابع، وهو أن يكون الإسناد مجازا، وفيه إن كان عاما احتمال مجاز خامس، وهو أن يكون أريد الخصوص، فالمجازات الثلاثة الأول لا يدفعها التأكيد بالنفس والعين لأنهما تأكيدان للفاعل، لا للفعل إنما يدفع الأول المصدر المؤكد كما صرح به ابن عصفور وغيره على بحث فيه، ويدفع الثانى فيما يظهر الظرف وأما النفس والعين فإنما يدفعان الرابع، هو المجاز الإسنادى والخامس إنما يدفعه كل ونحوها، فليحمل كلامه على ذلك. فإذا أردت دفع المجازات الخمسة، فقل: قام الناس كلهم أنفسهم أمس قياما؛ فليتنبه لذلك. بيان المسند إليه: ص: (وأما بيانه إلخ). (ش): يؤتى بعطف البيان على المسند إليه لقصد إيضاحه باسم مختص به، نحو: صديقك خالد جاءنى، وجعل السكاكى من ذلك: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ (¬1) وفيه نظر لما سبق. وأيضا قد فسر هو عطف البيان بذكر اسم مختص بالمسند إليه، واثنين ليس مختصا بالإلهين. وابن الحاجب يرى أن اثنين من: إلهين اثنين، صفة. وقولك: خالد ليس متعينا لعطف البيان؛ لجواز أن يكون بدلا. وقوله: (باسم مختص به) معكوس وصوابه باسم مختص به المسند إليه، إلا أن يجعل الضمير فى مختص للمسند إليه. ¬

_ (¬1) سورة النحل: 51.

الإبدال من المسند إليه

الإبدال من المسند إليه: وأمّا الإبدال منه، ف: - لزيادة التقرير، نحو: جاءنى أخوك زيد، وجاء القوم أكثرهم، وسلب عمرو ثوبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإبدال من المسند إليه: ص: (وأما الإبدال منه إلخ). (ش): الإبدال من المسند إليه يكون لزيادة التقرير، وعبارته فى الإيضاح: زيادة التقرير والإيضاح، والظاهر أنه يريد به، ما صرح به صاحب المفتاح، من تكرر الحكم، وهذا إنما يصح إذا قلنا: إن العامل فى المبدل فعل مقدر، أما إذا قلنا: إن العامل فيه هو العامل، فى المبدل منه، فلا تكرار. ثم قد يورد عليهما، أنه إذا سلمنا أن البدل على نية تكرار العامل، وأن المراد بذلك تقدير عامل، فالتقرير حينئذ للحكم، فلا تجعل من أحوال المسند إليه. ويجاب عنه بأن تكرار الحكم، لم يحصل إلا لتقويته المسند إليه، ولزم منه تأكيد النسبة فإن قلت: قد جعل المصنف كلا من عطف البيان والبدل للتوضيح؛ لأنه قال فى الإيضاح: إن الإبدال يكون لزيادة التقرير والتوضيح، فاتحدا. قلت: إنما جعل عطف البيان لتوضيح خاص، وهو التوضيح باسم مختص به، وجعل البدل لتكرير الحكم المستلزم لمطلق الإيضاح. ثم قسمه المصنف إلى أقسام. بدل كل من كل، ويقال: شئ من شئ، وإليه أشار بقوله: نحو: جاء زيد أخوك. وبدل بعض من كل، أشار إليه بقوله: نحو: جاء القوم أكثرهم. وبدل اشتمال أشار إليه بقوله: سلب عمرو ثوبه، وهو مثال سبقه إليه الجرجانى، وابن الشجرى فى الجزء الأول من أماليه، ثم السكاكى، ثم بدر الدين بن مالك فى روض الأذهان وفيه نظر؛ لأن سلب يتعدى لمفعولين، تقول: سلبت زيدا ثوبه. قال الله تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً (¬1) قال أبو البقاء وغيره سلب يتعدى لمفعولين، وشيئا هو الثانى. وقال الجوهرى: فى كل من الاستلاب والاختلاس أنه الآخر، وصرح فى المحكم بتعديهما لمفعولين، فقال: تقول: استلبته إياه واختلسته إياه. اه. ¬

_ (¬1) سورة الحج: 73.

العطف على المسند إليه

العطف على المسند إليه: وأمّا العطف، ف: 1 - لتفصيل المسند إليه مع اختصار، نحو: جاءنى زيد وعمرو. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا بنيته للمفعول فقلت: سلب زيد، ينبغى أن تقول: ثوبه منصوبا فإن قلت: سلب زيد ثوبه على أن يكون ثوبه مرفوعا على بدل الاشتمال، صار معنى الكلام: سلب ثوب زيد، فتحتاج حينئذ لمفعول ثان، ويصير المعنى: سلب ثوب زيد بياضه مثلا، وهو معنى لا ينطبق على قولنا: سلب زيد، ثم إن المشتمل فى بدل الاشتمال هو الأول لا الثانى، والثوب مشتمل على زيد لا بالعكس، فلا يصح. نعم إن ثبت أن سلب يستعمل متعديا لمفعول واحد بمعنى أخذ، صح ذلك، والأولى التمثيل بقولك: أعجبنى زيد علمه. فان قلت: هلا ذكر بدل الغلط وبدل البداء؟ قلت: لأنهما كالمستقلين بأنفسهما عن المبدل منه، فلا نسبة بينهما يتكلم عليها، على أن فى ثبوت بدل الغلط فى كلام العرب خلافا ثم نقول: ليسا فصيحين، فليسا من موضوع هذا العلم. ومن البدل فى غير المسند إليه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (¬1) وهذه أقسام البدل لا غيرها بالاستقراء، وما يتوهم بعضهم من أن ثم قسما يقال له: بدل كل من بعض، فى نحو: رأيت القمر فلكه، وهم فإن وقع شئ من ذلك فى كلام معتبر، فهو بدل كل من كل، غايته أن البدل اشتمل على زيادة معنى ليس فى المبدل، وذلك لا ينافى البدلية، وهذا التخريج أحسن من حمله على بدل الغلط. وحكم المصنف بأن: جاء زيد أخوك، بدل، وأن جاء صديقك زيد، عطف بيان مع صلاحية كل منهما لهما. فيه نظر، ولا يصح الاعتذار بأن صديقك عام، فكان الخاص بيانا، وإذا عكس لم يتجه البيان؛ لأن العام فى هذا المثال أريد به الخاص، ولا يمتنع أن يقع العام المراد به الخاص بدلا ومبدلا منه. العطف على المسند إليه: ص: (وأما العطف إلخ). (ش): يريد عطف النسق، ويكون لأحد أشياء: الأول: أن يقصد تفصيل المسند إليه مع الاختصار، نحو: جاء: زيد، وعمرو، وبكر. ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: 6، 7.

2 - أو المسند كذلك؛ نحو: جاءنى زيد فعمرو، أو ثمّ عمرو، أو جاءنى القوم حتى خالد. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: أن يقصد تفصيل المسند مع اختصار، نحو: جاء زيد فعمرو؛ لأن عطفه بالفاء يقتضى إسناد فعلين إليهما، هكذا نقل عن سيبويه. وينبغى أن يسمى هذا تعدد المسند إليه والمسند معا، ويلزم من تعدد المسند إليه، تعدد المسند. ففى جاء زيد، وعمرو، ولا شك أنهما مجيئان؛ لاستحالة صدور الفعل الواحد من فاعلين؛ إلا إذا حصل التعاون فيه، مثل: حمل الصخرة زيد وعمرو وبكر على تكلف فيه، فإن كل واحد، إنما حمل بعضها؛ لكن يصدق أن حملها، فعل صدر من جماعة اشتركوا فيه، فأما قول سيبويه فى نحو: مررت بزيد وعمرو، أنه مرور واحد بهما، بخلاف مررت بزيد فعمرو، فسببه أن الفاعل واحد فيمكن فيه ذلك. وقد يقال: إنك إذا قلت: قام زيد وعمرو، فقد جردت من قيامهما حقيقة كلية واحدة، أخبرت بها، ولذلك كان العامل فى المعطوف عليه، هو العامل فى المعطوف، ولا يتضح هذا المعنى فى العطف فى الفاء؛ لأن الترتيب ينفى إرادة الحقيقة الكلية؛ وإن كان يمكن القول به بأن يخبر بالقيام، ويريد به ما يشمل القيامين معا، وكذلك يتعدد المسند إذا كان العطف بثم، أو حتى، غير أنه لا بد فى حتى من تدريج. قال المصنف: كما ينبئ عنه قول الشاعر: وكنت فتى من جند إبليس فارتمى … بى الحال حتى صار إبليس من جندى فلو مات قبلى كنت أحسنت بعده … طرائق فسق ليس يحسنها بعدى (¬1) وأورد على المصنف أن حتى هذه ليست عاطفة. (قلت): لا يخفى على المصنف ذلك؛ لكنه أراد أن يمثل لدلالة حتى على التدريج، وهى تدل عليه عاطفة كانت، أم غير عاطفة، ولهذا قال: كما ينبئ عنه قوله، ولم يقل: ومنه قوله. أو يكون بناء على أن حتى تعطف الجمل؛ لكن فيه بعد؛ لأن ارتمى بى الحال، لا يستقل بمعنى الكلام. ¬

_ (¬1) البيتان لأبى نواس، والأول منهما فى المفتاح ص 102، وحتى فيه ليست عاطفة، وإنما يقصد التمثيل بها لإفادتها التدريج، وإنما لم تكن عاطفة لأن المشهور أنها لا تأتى فى عطف الجمل، ولأن الجملة قبلها لا يستقل بها الكلام حتى يصح العطف عليها عند من يقول بصحة العطف بها فى الجمل.

فصل المسند إليه

3 - أو ردّ السامع إلى الصواب؛ نحو: جاءنى زيد لا عمرو. 4 - أو صرف الحكم إلى آخر؛ نحو: جاءنى زيد بل عمرو، وما جاءنى عمرو بل زيد. 5 - أو الشكّ أو التشكيك للسامع؛ نحو: جاءنى زيد أو عمرو. فصل (¬1) المسند إليه: وأما فصله، ف: - لتخصيصه بالمسند. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: أن يقصد رد السامع من الخطأ إلى الصواب، كقولك: جاءنى زيد لا عمرو، ولمن اعتقد مجئ عمرو فقط، أو مشاركته لزيد، كذا قالوه، وفيه نظر: لأن من اعتقد مجئ عمرو فقط، حصل رده عن الخطأ بقولك: جاء زيد، وقولك: ما جاءنى زيد، لكن عمرو، لمن اعتقد مجئ زيد، دون عمرو، وكذلك العطف ببل. الرابع: أن يقصد الشك، أو التشكيك، نحو: جاء زيد أو عمرو، أو إما زيد أو إما عمرو أو إما زيد وإما عمرو وزاد فى الإيضاح: أو أن يقصد إبهام نحو: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬2) ولك أن تقول: هذا تقريب من التشكيك، أو الإباحة، أو التخيير. والفرق بينهما أن الإباحة لا تمنع كلا منهما، مثل: جالس الحسن، أو ابن سيرين، والتخيير يمنع نحو: خذ من مالى درهما، أو دينارا وانكح هذه الأخت، أو هذه. وفيه نظر سنذكره فى باب الأمر. واعلم أن لحروف العطف السابقة استعمالات أخر، مذكورة فى علم النحو، تركناها لأنا نذكر فى هذا العلم ما يتعلق بمعانى الحروف، لا ما يتعلق بحروف المعانى. فإن أحكام الحروف واستعمالاتها من موضوع علم النحو، وأيضا فالظاهر أن تلك الاستعمالات غير فصيحة. فصل (¬3) المسند إليه: ص: (وأما الفصل فلتخصيصه بالمسند). (ش): المراد: فصل المبتدأ من الخبر بضمير الفصل، ويحتمل أن يريد: وأما إتيان ضمير الفصل، والفصل هو صورة ضمير واقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما كذلك، ¬

_ (¬1) أى: تعقيب المسند إليه بضمير الفصل. (¬2) سورة سبأ: 24. (¬3) أى: تعقيب المسند إليه بضمير الفصل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو الذى يسميه الكوفيون: عمادا، وبعضهم يسميه: دعامة، والبصريون: فصلا، والمنطقيون: رابطة، وله أحكام يطول ذكرها. وفائدته كما ذكره المصنف إفادة اختصاص المسند إليه بالمسند، فإذا قلت: زيد هو القائم، معناه أنه لا قائم غيره، وقد صرح به الزمخشرى، عند قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (¬1) واستدل له السهيلى، بأنه أتى به فى كل موضع ادعى فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله تعالى، ولم يؤت به حيث لم يدع، وذلك فى قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (¬2) إلى آخر الآية، وذكر نحوه التنوخى، غير أنه جعل الضمير للتأكيد، ولم يذكر الحصر. وفيما قالاه نظر؛ لقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (¬3) مع قوله: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (¬4) فالإحياء خلق، وإن كان الخلق لم ينسبه أحد لغير الله تعالى فقد أتى فيه بضمير الفصل فى قوله سبحانه: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا على خلاف ما زعماه، وإن كان الإماتة والإحياء قد نسبا لغير الله تعالى، كما تضمنه قول النمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ (¬5) فقوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ لم يؤكده بالفصل مع أنه منه. ثم ما قالاه ليس بصحيح؛ لأن هذا الضمير، لا يصح إعرابه فصلا؛ لأن الفصل لا يقع قبل خبر هو فعل ماض، وقد توجد دلالة الفصل على الحصر من مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (¬6) لأنه لو لم يكن للحصر، لما حسن؛ لأن الله لم يزل رقيبا عليهم، وإنما الذى حصل بتوفيه أنه لم يبق لهم رقيب غير الله تعالى، وينبغى لهذا أن يتعين إعرابه فصلا. ومنها قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (¬7) فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء، وذلك لا يحسن، إلا بأن يكون الضمير للاختصاص، وبهذا تعين إعراب هم هنا فصلا، لا تأكيدا، ولا مبتدأ ثانيا إلا أن يقال فى هذا كله: إن الحصر يحصل من تعريف الخبر، ومثل فى الإيضاح بقولك: زيد هو يقوم. وليس بصحيح؛ لأنه ليس بفصل؛ لأن بعده فعلا مضارعا. وأما المصنف والبيانيون فاتبعوا فيه الجرجانى، فإنه ذكر ذلك فى شرح ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 5. (¬2) سورة النجم: 43. (¬3) سورة النجم: 44. (¬4) سورة النجم: 45. (¬5) سورة البقرة: 258. (¬6) سورة المائدة: 117. (¬7) سورة الحشر: 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإيضاح، والجمهور على خلافه، ومما يدل على الحصر أيضا، قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (¬1) وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (¬2) لأن الإنكار فى الآيتين لا يحصل إلا بالحصر. (تنبيه): فائدة الحصر غير منحصرة فى التخصيص، بل يفيد أيضا التأكيد، كما صرحوا به، ويفيد أيضا الدلالة على أن ما بعده خبر لا صفة، على خدش فى ذلك محله علم النحو؛ لأن هذه الفائدة من حظ النحوى، لا من حظ البيانى. وهذه الفوائد الثلاث، ذكرها الزمخشرى عند الكلام على قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (¬3). (تنبيه): قال ابن الحاجب فى شرح المفصل: إن الفصل ضمير مؤكد لما قبله، وقال فى أماليه: إن ضمير الفصل ليس تأكيدا؛ لأنه لو كان، فإما أن يكون لفظيا، أو معنويا، لا جائز أن يكون لفظيا؛ لأن اللفظى إعادة اللفظ الأول، مثل: زيد زيد، أو معناه مثل: قمت أنا، والفصل ليس هو المسند إليه، ولا معناه؛ لأنه ليس مكنيا به عن المسند إليه، ولا مفسرا له، ولا جائز أن يكون معنويا؛ لأن المعنوى التأكيد بألفاظ محصورة، كالنفس والعين. (تنبيه): وما قاله من كون الفصل، لا يعود لما قبله حسن دقيق، ولا سيما إذا قلنا: إن الفصل حرف، غير أنه قد يخدش فيه، أنه يشترط مطابقته له فى إفراد، وتثنية، وجمع، إلا أن يقال: حوفظ على المطابقة الصورية. وأما قوله: إنه ليس تأكيدا، ففيه نظر، ولا يسلم أن التأكيد منحصر فيما ذكره؛ لأن التأكيد الذى ذكره هو التوكيد الذى تكلم عليه النحاة فى باب التابع؛ ولكنه تأكيد باصطلاح الأصوليين وأهل المعانى، وهذا كما أن التأكيد يكون بأن واللام. وكأنه توهم أن المراد: أن الفصل تأكيد للمسند إليه، وليس كذلك، بل هو تأكيد للجملة، كما قدمناه فى أوائل هذا الشرح. وبمجموع ما ذكرناه، وما ذكره ابن الحاجب، اتجه إشكال فى قول النحاة: إن الفصل لا يجتمع مع التأكيد، فلا يقال: زيد نفسه هو القائم؛ لأنا نقول: نفسه تأكيد ¬

_ (¬1) سورة الكوثر: 3. (¬2) سورة الشورى: 9. (¬3) سورة البقرة: 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمبتدأ لا للجملة، فلم يجتمع تأكيدان على شئ واحد. ثم ما المانع من اجتماع التأكيد والفصل، وأنت تقول: جاء زيد نفسه عينه، وجاء زيد نفسه، ولا حاجة بعد ثبوت كلمتين فى استعمالين إلى سماعهما من العرب مجتمعين؟ ولهذا تقول: جاء الزيدون كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون، من غير توقف على ورود السماع بها مجتمعة. واعلم أن الفصل اتفق جمهور النحاة على أنه حرف لا اسم، والقائلون بأنه اسم، أكثرهم على أنه لا محل له من الإعراب، والقائلون بأن له محلا، منهم الكسائى قال: إن محله باعتبار ما قبله، والفراء قال: باعتبار ما بعده. فما ذكرناه من أنه تأكيد للحكم على قول الجمهور: إنه حرف، أو اسم، ولا موضع له. وإن قلنا بمذهب الكسائى، أنه اسم محل إعرابه ما قبله، فقد قال ابن مالك فى شرح التسهيل: إنه يجعله تأكيدا لما قبله، وإنه باطل، والذى أفهمه من هذا القول، أنه إنكار لحقيقة الفصل بالكلية، وادعى أن ما يسميه غيره فصلا نوع من أنواع التأكيد اللفظى، وأنه توكيد للظاهر بالمضمر؛ ولذلك كان باطلا؛ لأن غيره لا يجيز تأكيد الظاهر بالمضمر وإذا كان كذلك، فلا يرد علينا حينئذ مذهب الكسائى؛ لأنه إنكار للفصل، ولم يثبت لنا من أثبت الفصل وجعله تأكيدا للمسند إليه فلم يبق إلا قول الفراء: إن له اعتبار ما بعده، وهو مذهب شاذ، لا علينا منه، وليس يلزمه من إعطائه اعتبار ما قبله، أن يكون تأكيدا له فليتأمل. وأما قول الخطيبى فى شرح المفتاح: إن الفصل تأكيد للمسند إليه؛ لأن إعرابه إعراب المسند إليه على المختار، فليس بصحيح، واختياره ذلك لا يرجع إليه فيه. (تنبيه): قول المصنف: تخصيصه، أى: تخصيص المسند إليه، بالمسند، وهذه العبارة هى الصواب. وأما قول السكاكى فى المفتاح: تخصيص المسند بالمسند إليه فهو سهو منه فليتأمل. وقال الطيبى فى التبيان: الفصل لتخصيص المسند بالمسند إليه، أو عكسه، وهو وهم أيضا. والظاهر أنه وجد كلا من العبارتين فى كلام المصنفين، فجمع بينهما توهما أنهما صحيحتان، إلا أن يريد ما ذكرناه من تخصيص الأول بالثانى بكل حال. ويعنى بالمسند إليه: الاسم الجامد، وبالمسند: المشتق، تقدم أو تأخر، فقولك: زيد هو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القائم، تخصيص المسند إليه وهو زيد، بالقائم وهو المسند؛ لأن معناه ما القائم إلا زيد، وقولك: القائم هو زيد، تخصيص المسند وهو القائم، بالمسند إليه وهو زيد؛ لأن المخصص أبدا هو الأول؛ والمخصص به هو الأخير؛ لكن القول بأن الصفة هى المبتدأ تقدمت، أو تأخرت، خلاف قول الجمهور. والراجح أن السابق من المعرفتين مبتدأ، واللاحق خبر. (تنبيه): ترتب على عبارة السكاكى، وهو قوله: إن الفصل لتخصيص المسند بالمسند إليه فساد وهو أن المشايخ: ناصر الدين الترمذى، وشمس الدين الخطيبى، وعماد الدين الكاشى، أوردوا فى شروحهم للمفتاح سؤالا، وهو أن الفصل إذا كان لتخصيص المسند بالمسند إليه، فهو صفة المسند لا المسند إليه؛ لأن تخصيص المسند صفة للمسند ثم اختلفوا فى جوابه، فأجاب الترمذى: بأن الفصل يقترن أولا بالمسند إليه، ثم بواسطة اقترانه به، يحصل تخصيص المسند به، ورد الخطيبى هذا الجواب: بأن لا نسلم أن اقترانه بالمسند إليه بحسب المعنى الذى هو التخصيص؛ بل اقترانه بحسب التخصيص بهما على السواء. وإنما يقترن بالمسند إليه أولا بحسب اللفظ، ولا اعتبار للاقتران اللفظى. وأجاب الكاشى: بأن فائدة الفصل بالذات موصوفية المسند إليه بالمسند دون غيره، ويلزم منه تخصيص المسند بالمسند إليه، ورده الخطيبى، بأن فائدة الفصل بحسب اللفظ: أن يعلم أن ما بعده خبر، وبحسب المعنى: تخصيص المسند، وعلى التقديرين: فائدته ترجع بحسب الذات إلى المسند، وأن قوله: فائدة الفصل موصوفية المسند إليه بالمسند ممنوع، ولم لا تكون فائدته، كون المسند صفة للمسند إليه دون غيره؟ اه. وأجاب الخطيبى المشار إليه بأن الفصل عبارة عن المسند إليه ومؤكد له؛ لأنه فى المعنى تكرار له، وإعرابه إعراب المسند إليه على المختار، ويدل على أن المسند إليه معنى يوجد فيه المسند، ولا يوجد فى غيره؛ فلذلك جعل الفصل من الاعتبار الراجع إلى المسند إليه. (قلت): قد بنوا هذا السؤال على ظنهم صحة قول السكاكى: فائدة الفصل تخصيص المسند بالمسند إليه. وقد ذكرنا أنها فاسدة، فلا محل للسؤال بالكلية، ولزم منه فساد الأجوبة السابقة، فإنها مبنية على فساد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم فى كلامهم السابق نقود كثيرة، منها قول الخطيبى: إن الاقتران اللفظى، لا أثر له فى جعل الفصل من أحوال المسند إليه. وليس كما قال، بل الاقتران اللفظى بأحد الطرفين، إذا كان المعنى بالنسبة إليهما على السواء، يرجح به، وربما رجح به مع التفاوت فى المعنى، ألا ترى أن قولك: القائم زيد، يكون القائم هو المبتدأ والمسند إليه لسبقه لفظا؟ ثم إن الخطيبى ناقض هذا الكلام فى بحثه مع الكاشى، واعتبر قول النحاة: إن فائدة الفصل بيان أن ما بعده خبر، وذلك اعتبار لفظى أيضا. ومنها قول الخطيبى: الفصل عبارة عن المسند إليه، ومؤكد له، وتكرار له، وإعرابه إعرابه، كل ذلك ممنوع. (قوله: ويدل على أن المسند إليه معنى يوجد فى المسند، ولا يوجد فى غيره) معارض بأن يقال: هو معنى يوجد فى المسند إليه، ولا يوجد فى غيره، كما فعل هو فى جواب الكاشى سواء بسواء. وإذا تقرر فساد هذا السؤال وجوابه؛ فلنذكر نحن السؤال على التحقيق، بالعكس مما ذكروه، ونقول: الأولى أن يجعل الفصل من الاعتبارات الراجعة إلى المسند إليه أو إلى المسند أو إلى الاسناد ولا شك أن هذا يلتفت عن أن تأكيد الفصل للجملة أو للمفرد، فمقتضى ما سبق أن يقال: للفصل ثلاث فوائد: التأكيد، والتخصيص، وأن ما بعده خبر. فإن نظر للفائدة الأولى فأولى أن يجعل من اعتبارات الإسناد؛ لأنه توكيد للحكم، كما جعل التأكيد بأن من اعتباراته. ودخوله فى وسط الكلام لا ينافى ذلك، كما أن لام الابتداء تدخل بين المسند إليه والمسند، والتأكيد بها من اعتبارات الإسناد، كما سبق. وإن نظرنا إلى فائدة التخصيص، فالأولى أن يجعل من اعتبارات المسند إليه، لأن الفصل تخصيص المسند إليه بالمسند، فالفصل مخصص بالكسر، والمسند إليه مخصص بالفتح، والمسند مخصص، فأثر الفصل معنى يتعدى منه إلى المسند إليه، ويصير قائما بالمسند إليه فعلم أن نسبته إلى المسند إليه أولى. ولما كان المصنف وغيره من أهل هذا العلم، إنما عولوا على أن فائدة الفصل التخصيص، ولم يعولوا على التأكيد، جعلوه من أحوال المسند إليه. وإن نظرنا إلى الفائدة الثالثة، وهى أن ما بعده ليس تابعا؛ صح أن يجعل من أحوال المسند إليه؛ لأنه يسرع إعطاءه لخبره، وصح أن يجعل من أحوال المسند؛ لأنه يبين خبريته.

تقديم المسند إليه

رابعا: تقديم المسند إليه، وتأخيره: تقديم المسند إليه: وأما تقديمه: فلكون ذكره أهمّ: 1 - إمّا لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه. 2 - وإمّا ليتمكّن الخبر فى ذهن السامع؛ لأنّ فى المبتدأ تشويقا إليه؛ كقوله [من الخفيف]: والّذى حارت البريّة فيه … حيوان مستحدث من جماد ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديم المسند إليه: ص: (وأما تقديمه فلكون ذكره أهم إلخ). (ش): تقديم المسند إليه يكون لأحد أمور: الأول: انه الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه. (قلت): يريد التقديم المعنوى، فإن المسند إليه محكوم عليه، والمحكوم عليه متقدم فى الذهن على المحكوم به. وإن أراد التقديم اللفظى فذلك يختلف، فإن الأصل فى المسند إليه التقديم، إن كانت الجملة اسمية، والتأخير إن كانت فعلية، إلا إذا قلنا: إن الفاعل فرع، والمبتدأ أصل، فإنه حينئذ أصله التقديم. فما ذكره المصنف لا يأتى على القول بأن الفاعل أصل. الثانى: أن يتمكن الخبر من ذهن السامع؛ لأن فى المبتدأ تشويقا إليه، كقول المعرى: والّذى حارت البريّة فيه … حيوان مستحدث من جماد (¬1) قال البطليوسى فى شرح سقط الزند: معناه مقصود به الإنسان، والحيرة الواقعة فيه، من قبيل اتصال النفس بالجسم، إذ النفس جوهرية والجسم عرض؛ فلذلك يعدم الجسم الحياة، إذا فارقته النفس، والحيرة الواقعة فى نياطها به. وقيل: معناه أن الله خلق طائرا فى بلاد الهند، اسمه فقنس، يضرب به المثل فى البياض، وله منقار طويل، وهو حسن الألحان، يعيش ألف سنة، ثم يلهمه الله الموت، فيجمع ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو لأبى العلاء المعرى فى داليته المشهورة بسقط الزند 2/ 1004، والمفتاح ص 98، وشرح المرشدى 1/ 59، ولطائف التبيان ص 51، والإشارات ص 46، ومعاهد التنصيص 1/ 135، وشرح عقود الجمان 1/ 68، والمصباح ص 15، وتاج العروس (فقس) 160/ 342.

3 - وإمّا لتعجيل المسرّة أو المساءة؛ للتفاؤل أو التطيّر؛ نحو: سعد فى دارك، والسّفّاح فى دار صديقك. 4 - وإمّا لإيهام: - أنه لا يزول عن الخاطر. - أو أنه لا يستلذّ إلّا به. وإمّا لنحو ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحطب حواليه، ويضرب بجناحيه الحطب؛ فتخرج نار، فيشتعل، فيحترق، فيخلق الله من رماده بعد مدة مثله. وهذا القول الثانى لغير البطليوسى. وقيل: أراد آدم صلّى الله عليه وسلّم وقيل: أراد ناقة صالح، وقيل: عصا موسى صلّى الله عليه وسلّم ومثل ذلك السكاكى بقولك: صديقك الفاعل، الصانع، صدوق، تريد بالفاعل الصانع: معناه من صفات مدح تذكر، لا تريد هذا اللفظ؛ فإنه يستعمل غالبا فى الذم، كما أشار إليه الزمخشرى، فلا يرد على السكاكى فساد هذا المثال. نعم قد يقال: إن التشويق هنا، إنما حصل للمبتدأ من ذكر الصفات قال السكاكى: إن التشويق إلى الخبر، إنما حصل من كون المبتدأ موصولا، وهو واضح؛ لأن الصلة وهى حيرة البرية فيه، شوقت إليه، فاستدعت موصولا يجرى عليه. والمصنف جعل فى الإيضاح هذا القول خلاف الأولى، وفيه نظر ولم يرد السكاكى حصر التشوق فى كون المبتدأ موصولا؛ بل كونه موصولا، يقتضى ذكر صلة تتشوق النفس بها إلى المسند. الثالث: أن يقصد تعجيل المسرة، إن كان فى ذكر المسند إليه تفاؤل، نحو: سعد فى دارك، أو المساءة إن كان فيه ما قد يتطير به، مثل: السفاح فى دار صديقك. وإن شئت فقل: السفاح فى دار عدوك للتفاؤل، وسعد فى دار عدوك للتطير. والسفاح لقب عبد الله بن محمد أول خلفاء بنى العباس، يقال: سفحت دمه أى: سفكته. وقول المصنف: (تعجيل المسرة) أحسن من قول المفتاح؛ لأنه يتفاءل به، لأن التعجيل هو المناسب للتقديم لا التفاؤل، لأنه يحصل بآخرة أيضا. الرابع: إيهام أن المسند إليه منك على ذكر، فلا يعزب عن خاطرك، كقولك الله ربى. الخامس: إيهام أنك تستلذ بذكره فلا تقدم غيره عليه (قوله: وإما لنحو ذلك) قال المصنف فى الإيضاح: قال السكاكى: وأما لأن كونه متصفا بالخبر هو المطلوب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نفس الخبر، كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ فتقول: الزاهد يشرب ويطرب. وأورد عليه أن قوله: (لا نفس الخبر) يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل؛ لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما يكون تصديقا. وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا، فغير صحيح؛ لأن العبارة عن مثله، لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه، كقولك: وقع القيام. (قلت): وما ذكره ضعيف، لأن السكاكى لم يرد أن نفس الخبر منفكا عن الحكم مقصود، حتى يقول: هو تصور. وإنما قيل فى كلامه: إن المراد أن المسند إليه، يستدعى مسندا، غير معين. فإذا لم يقصد مطلق الإخبار عنه بل الإخبار عنه بأمر مستغرب خلاف ما فى الذهن، قدم المسند إليه؛ ليظن حال النطق أن المسند ليس المسند إليه، فيكون ذكره بعد ذلك، أوقع فى النفس لغرابته؛ ولذلك مثله بقولك: الزاهد يشرب؛ لأنه يستغرب الحكم على الزاهد بذلك، ولو قلت: يشرب الزاهد، لسرى الذهن إلى أن المسند إليه ليس زاهدا. وقيل: مراده أن يقصد الإنصاف الدائم، لا مجرد وقوع الفعل. فإن قوله: الزاهد يشرب يشير إلى الحالة الدائمة بخلاف قوله: يشرب الزاهد لا يعطى إلا مجرد الفعل كذا قيل وفيه نظر؛ لأن يشرب أيضا قد يعطى التكرار لكونه فعلا مضارعا كما سيأتى إلا أن يقال: إن دلالة المضارع على التكرار إنما هى إذا وقع خبرا، كما هو ظاهر كلام الزمخشرى. وينبغى أن تمثل بقولك: يشرب الزاهد؛ لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت، والفعلية على التجدد. ويحتمل كلامه وجها ثالثا: وهو أن يكون المراد، أنه إذا علم صدور المسند فى الجملة؛ ولكن لم يعلم المسند إليه، قدم المسند إليه؛ ولهذا قال: لا نفس الخبر، فإن الخبر معلوم الوقوع، وإنما قصد إيقاعه على شخص خاص. قال السكاكى: أيضا يقدم؛ لأنه يفيد زيادة تخصيص، كقوله: متى تهزز بنى قطن تجدهم … سيوفا فى عواتقهم سيوف جلوس فى مجالسهم رزان … وإن ضيف ألمّ فهم (¬1) خفوف (¬2) ¬

_ (¬1) فى الأصل: فهو، والصواب ما أثبتناه. (¬2) البيتان بلا نسبة فى التبيان 1/ 172، والمفتاح ص 105، والمصباح ص 27، والبيتان فى المدح بالشجاعة والحكمة والكرم، وبنو قطن هم القوم الممدوحون.

رأى عبد القاهر

رأى عبد القاهر: قال عبد القاهر: وقد يقدّم ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلى إن ولى حرف النفى؛ نحو: ما أنا قلت هذا، أى: لم أقله مع أنه مقول غيرى؛ ولهذا لم يصحّ: (ما أنا قلت ولا غيرى)، ولا: (ما أنا رأيت أحدا) ولا: (ما أنا ضربت إلا زيدا)؛ وإلّا فقد يأتى للتخصيص؛ ردّا على من زعم انفراد غيره به، أو مشاركته فيه؛ نحو: (أنا سعيت فى حاجتك). ويؤكّد على الأوّل بنحو: لا غيرى خ خ، وعلى الثانى بنحو: وحدى خ خ. وقد يأتى لتقوية الحكم؛ نحو: (هو يعطى الجزيل)، وكذا إذا كان الفعل منفيّا؛ نحو: (أنت لا تكذب)؛ فإنه أشدّ لنفى الكذب من: (لا تكذب)، وكذا من: (لا تكذب أنت)؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم. وإن بنى الفعل على منكّر، أفاد تخصيص الجنس أو الواحد به؛ نحو: رجل جاءنى، أى: لا امرأة، ولا رجلان ". ـــــــــــــــــــــــــــــ والخفوف: جمع خاف بمعنى خفيف، ورزان جمع رزين، فإن المعنى: هم خفوف. قال المصنف: فى مطابقة الشاهد للتخصيص نظر؛ لما سيأتى من أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليا. فإن قلت: الفعلى أعم من الفعل فسنتكلم عليه إن شاء الله. قال: وقوله: (هم خفوف) تفسير للشئ بإعادة لفظه. (قلت): إنما أريد تفسير معنى، لكن على كل تقدير ما قاله السكاكى فيه نظر؛ لأنه إن أفاد ذلك، ففائدته تخصيص لا زيادة تخصيص. وقد جوز بعضهم فى كلام السكاكى؛ أنه يريد تخصيص المسند بالمسند إليه، لا تخصيص المسند إليه بالمسند. معناه: لن يكونوا إلا خفافا، يقرب به زيادة التخصيص؛ لأن الخفة لا رزانة معها، فلو قيل: خفوا، دل على نفى الرزانة، فلما قدم المسند إليه؛ تأكد ذلك الاختصاص. وذكر السكاكى من أسباب التقديم: أن يكون ضمير شأن، أو قصة، وتركه المصنف؛ لأنه يدخل فى إرادة التشويق. رأى عبد القاهر: ص: (عبد القاهر: وقد يقدم ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلى إلخ). (ش): عبد القاهر الجرجانى قال: قد يقدم المسند إليه؛ ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلى، وذلك قسمان:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن يكون مثبتا، وقدمنا هذه الحالة، وإن أخرها المصنف؛ لأن عليها تنبنى حالة النفى، فيكون تفريعا على قول الجرجانى: إما أن يكون المسند إليه معرفة، أو نكرة. فإن كان معرفة، فإما أن يكون المسند أيضا مثبتا، أو منفيا. إن كان مثبتا فقسمان: الأول: أن يراد به التخصيص نحو: أنا قمت، وأنا سعيت فى حاجتك، معناه: ما قام إلا أنا، وما سعى فى حاجتك غيرى، فهو يدل على نسبة الفعل إليه بالمنطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم، وقد يستدل لهذا بقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (¬1) فإن ما قبلها من قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ولفظ: بل المشعر بالإضراب يقتضى أن المراد: بل أنتم لا غيركم. فإن المقصود من الآية الكريمة إنما هو: نفى فرحه صلّى الله عليه وسلّم بالهدية، لا إثبات الفرح لهم بهديتهم فليتأمل. وهذا قد يأتى ردا على من زعم مشاركة غيره فيه ويؤكد حينئذ بنحو: وحدى، أو فقط، وقد يأتى ردا على من زعم انفراد غيره به، ويؤكد حينئذ بلا غيرى غير أن التقديم فى الأول حصل به الرد، والتقديم فى الثانى حصل الرد بغيره، فكأنه رد عليه، وزاد هذا ظاهر عبارة المصنف. ويحتمل أن يقال: إن كان التخصيص إنما يحصل من الرد، فإنما يكون التخصيص فى الأولى، والصورة الثانية لا تخصيص فيها؛ لحصول الرد بدونه. وعلى الأول قال المصنف: إنما اختص كل بوجه من التأكيد، لأن جدوى التأكيد إماطة الشبهة الواقعة فى قلب السامع، وكانت الشبهة فى الثانية: أن الفعل صدر من غيرك فناسب أن يقال: لا غيرى، وكانت فى الأولى، أنه صدر منك ومن غيرك، ومعناه لم تفعله وحدك، فناسب أن يقال: وحدى؛ لأن التأكيد مما يدل على المقصود بالمطابقة لا بالالتزام، ومنه قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (¬2) أى لا يعلمهم إلا نحن. القسم الثانى: أن يراد به تقوية الحكم نحو: هو يعطى الجزيل، لا يريد أن غيره ليس كذلك؛ بل أن يقوى فى ذهن السامع، أنه يفعل ذلك. وعلل المصنف تقوية الحكم، بأن المبتدأ من حيث كونه مبتدأ، يستدعى أن يسند إليه شئ، فإذا جاء ¬

_ (¬1) سورة النمل: 36. (¬2) سورة التوبة: 101.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بعده ما يصلح أن يستند إليه، صرفه إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم. وربما استمر ذلك، أو يتبين فساده، كقولك: زيد قام أبوه. فإن زيدا يصرف إلى نفسه قبل أن يسمع قوله أبوه. فلا شك أن المبتدأ يصرف ما بعده إلى نفسه، ثم إذا كان فيه ضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا، بمعنى أنه قوى الدلالة على صرفه إليه، وحاصله أن الضمير يعين ما كان ظاهرا، ومما يدل على إفادة التأكيد، أن هذا يأتى فيما سبق فيه إنكار، نحو أن يقول الرجل: ليس لى علم بهذا، فتقول: أنت تعلم أن الأمر كذلك، وعليه قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (¬1) وفيما اعترض فيه شك، نحو أن يقال: كأنك لا تعلم ما صنع فلان، فتقول: أنا أعلم، وفى تكذيب مدع نحو: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ (¬2) وهو من الأول، وكثيرا ما يستعمل ذلك فى الوعد، والوعيد، والمدح، والافتخار. وقد علم من ذلك أن كل واحد من قسمى الاختصاص والتأكيد، غير متميز عن الآخر، إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام. القسم الثانى: من قسمى المسند إليه المثبت المعرفة: أن يكون المسند منفيا نحو: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ لنفى الكذب من قولك: لا تكذب، ومن قولك: لا تكذب أنت؛ لأنه تأكيد المحكوم عليه لا الحكم، وعليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (¬3) فإن فيه من التأكيد ما ليس فى: والذين لا يشركون بربهم، أو: والذين بربهم لا يشركون، وقوله تعالى: فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (¬4) وهذا يفيد التأكيد والتقوية قطعا: وهل يفيد التخصيص عند الشيخ فيه ما سيأتى؟ وقولهم: فى مثل هذا تخصيصه بالخبر الفعلى لا يقال عليه: إنما حصل تخصيصه بنفى الخبر الفعلى؛ لأن المسند منفى، فإنا نقول: القيام المخبر به مثلا، قد يخبر بنفيه، وقد يخبر بإثباته، وكلاهما خبر فعلى. القسم الثانى من قسمى المسند إليه: أن يكون نكرة، نحو: رجل جاءنى، وهو للتخصيص عند الشيخ، وذلك على حالتين: إحداهما: أن يراد به تخصيص الجنس، كما إذا كان المخاطب عرف أنه قد أتاك آت، وهو لا يدرى جنسه، فتقول: رجل جاء أى: لا امرأة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 78. (¬2) سورة المائدة: 61. (¬3) سورة المؤمنون: 59. (¬4) سورة القصص: 66.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانية: أن يراد به تخصيص واحد من الجنس، بأن يكون عرف أنه من جنس الرجال، ولا يدرى وحدته، فتقول: رجل جاءنى، أى: لا رجلان، ثم إذا وقع المسند فى هذا القسم منفيا، كان كوقوعه منفيا فى القسم قبله. القسم الثانى من القسمة الأولى: أن يكون المسند إليه قد ولى حرف النفى، نحو: ما أنا قلت هذا، وهو القسم الأول فى كلام المصنف، أى: لم أقله مع أنه مقول، فأفاد نفى الفعل عنك، وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا فى شئ ثبت أنه مقول، وتريد نفى كونك قائلا له، ومنه فى اسم الفاعل قوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (¬1) وفى الفعل قول النبى صلّى الله عليه وسلّم:" ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" (¬2) وقال المتنبى: وما أنا أسقمت جسمى به … ولا أنا أضرمت فى القلب نارا (¬3) المعنى: أنه ليس الجالب للسقم؛ بل غيره جلبه، ولذلك لا يصح: ما أنا فعلت، ولا أحد غيرى، لمناقضة منطوق الثانى مفهوم الأول. ولا يقال: ما أنا رأيت أحدا من الناس ولا: ما أنا ضربت إلا زيدا، بل يقال: ما رأيت أنا أحدا من الناس، وما ضربت أنا إلا زيدا؛ لأن المنفى فى الأول الرؤية الواقعة على كل واحد، وفى الثانى الضرب الواقع على سوى زيد، وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور، وهو ما نفى عن المذكور، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثانى مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم ضرب غير زيد، وكلاهما محال. (قلت): وفيه نظر؛ لأن ما اقتضاه: ما أنا ضربت أحدا من عدم ضربه العام واضح؛ لأن أحد نكرة فى سياق النفى، لكن اقتضاؤه؛ لأن غيره ضرب أحدا إثبات، فالنكرة ¬

_ (¬1) سورة هود: 91. (¬2) أخرجه البخارى فى" الأيمان والنذور"، باب: لا تحلفوا بآبائكم، (11/ 539)، (ح 6649)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" الإيمان"، (ح 1649)، وهو حديث قدوم الأشعريين وأهل اليمن على النبى صلّى الله عليه وسلّم. (¬3) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 329، ودلائل الإعجاز ص 125، والتبيان للطيبى 1/ 200، من قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمدانى، ومطلعها: أرى ذلك القرب صار ازورارا … وصار طويل السّلام اختصارا

رأى السكاكى

رأى السكاكى: ووافقه السّكّاكىّ على ذلك؛ إلا أنه قال: التقديم يفيد الاختصاص إن: 1 - جاز تقدير كونه (¬1) فى الأصل مؤخّرا على أنه فاعل معنى فقط؛ نحو: (أنا قمت). ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنسبة إليه فى جانب الثبوت، وليست عامة؛ بل تقتضى أن غيره ضرب شخصا ما؛ لأن نقيض السلب الكلى، إثبات جزئى. وسؤال آخر على عبارة الإيضاح، فإنه قال: إن المنفى بالأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس، وفيه نظر؛ لأن نفى رؤية كل الناس جزئى لا كلى، لأنه سلب عموم لما سيأتى، ولما تقرر فى المنطق من أن ليس كل من أسوار السالبة الجزئية. ويمكن الجواب بأن هذا مشاحة فى العبارة وإنما أراد أن المنفى بالأول، الرؤية الواقعة على أحد، وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكى امتناع الثانى، بأن نقض النفى بإلا يقتضى أن يكون القائل قد ضرب زيدا، وإيلاء الضمير حرف النفى، يقتضى أن لا يكون قد ضربه، وهو تناقض. قال المصنف: وفيه نظر؛ لأن إيلاء الضمير، لا يقتضى ذلك. فإن قيل: الاستثناء الذى فيه مفرغ، وذلك يقتضى أن لا يكون ضرب أحدا من الناس؛ قلنا: إن لزم؛ فليس للتقديم، لجريه فى غير صورة التقديم أيضا، كقولك: ما ضربت إلا زيدا. (قلت): المنع الذى قاله المصنف أولا واضح؛ لأن إيلاء الضمير إنما يقتضى نفى ما عدا المستثنى، وقوله بعد ذلك، فإن قيل: كلام ساقط، وقوله بعد ذلك إن لزم، لا أدرى ما أراد به، وكيف يفيد تفريغ الاستثناء عدم ثبوت الحكم للمستثنى؟ رأى السكاكى: ص: (ووافقه السكاكى إلخ). (ش): فصل السكاكى فى المسند إليه المتقدم، فقال: إما أن يكون لا يجوز تقديره فى الأصل فاعلا مؤخرا فى المعنى لا اللفظ، ثم قدم مثل: زيد قام، فإنه لا يجوز أن يقدم فاعلا فى المعنى فقط، إن لو كان مؤخرا، لأنه لو تأخر؛ لكان فاعلا لفظا، فهذا لا يفيد الاختصاص. ¬

_ (¬1) أى المسند إليه.

2 - وقدّر. وإلّا فلا يفيد إلا تقوّى الحكم، سواء جاز كما مر ولم يقدّر، أو لم يجز؛ نحو: زيد قام خ خ. واستثنى المنكّر، بجعله من باب: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬1) أى: على القول بالإبدال من الضمير؛ لئلا ينتفى التخصيص إذ لا سبب له سواه؛ بخلاف المعرّف. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): وقد تقدم عن السكاكى فى الكلام على ذكر المسند خلاف هذا، وكذا صرح الزمخشرى أنه يفيد الاختصاص ذكره فى قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ (¬2) فى سورة الرعد، وفى قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (¬3). الثانى: يجوز أن يكون فاعلا فى المعنى لو تأخر، ولكن لا يقدره كذلك أى: لا يعتقد ذلك، كقولك: أنا قمت، إذا قدرت أنا مثبتا فى موضعه، ولم يكن مؤخرا فهذا لا يفيد الاختصاص. الثالث: أن يجتمع الأمران، بأن يجوز ويعتقد ذلك، كقولك: أنا قمت، معتقدا أن: أنا كان تأكيدا للفاعل وقدمته؛ ثم استثنى السكاكى من القسم الأول ما إذا كان المسند إليه نكرة، نحو: رجل جاءنى فقال: إنه لا يفيد الاختصاص، وإن كان لا يمكن تقديره عند التأخير فاعلا معنويا فقط، بل لو تأخر، لكان فاعلا لفظيا، فقال: يفيد لا على تقدير كونه كان فاعلا على تقدير أنه بدل من الضمير فى: قام، كقوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬4) إنما لم يقدر مثل ذلك فى المعرفة، نحو: زيد قام؛ لعدم الموجب؛ لأنه فى رجل قام، اضطر إلى تقديره متأخرا؛ ليفيد الاختصاص؛ ليكون مسوغا للابتداء بالنكرة وفى زيد قام لا حاجة لذلك، فلو قدره لكان تقديرا لا دليل عليه. قلت: قد جوز أن يقدر فى: أنا قائم التأخير، مع كونه لا دليل عليه، ثم ما ذكروه يؤدى إلى جواز الابتداء بالنكرة فى جميع الأحوال، وما الدليل على جواز: رجل جاءنى من غير قرينة؟ ثم يأتى عن السكاكى فى الكلام على: هل الاستفهامية، يقتضى القول بالتخصيص فى مثله، وإن كان للابتداء بالنكرة مسوغ، وهو الاستفهام. ¬

_ (¬1) الأنبياء: 3. (¬2) سورة الرعد: 26. (¬3) سورة الزمر: 23. (¬4) الأنبياء: 3.

ثم قال: وشرطه ألّا يمنع من التخصيص مانع؛ كقولنا: رجل جاءنى على ما مرّ، دون قولهم:،، شرّ أهرّ ذا ناب،،: أمّا على التقدير الأول (¬1): فلامتناع أن يراد: المهرّ شرّ لا خير. وأمّا على الثانى (¬2): فلنبوّه عن مظانّ استعماله. وإذ قد صرّح الأئمة بتخصيصه، حيث تأوّلوه ب: (ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ) -: فالوجه تفظيع شأن الشرّ بتنكيره ": وفيه نظر: ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ثم قال وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع إلخ). (ش): شرط السكاكى فى إفادته التخصيص، أن لا يمنع مانع مثل: جاءنى رجل، فإن منع مانع، لم يجز مثاله قولهم: شر أهر ذا ناب، لا يمكن أن يكون للتخصيص؛ لأن التخصيص إما لفرد، أو لجنس، لا جائز أن يكون للجنس؛ لأنه يصير تقديره: ما أهر ذا ناب إلا شر، فيكون فيه نفى الإهرار عن الخير، وذلك لا فائدة فيه، فإنه لا يصح أن ينفى الشئ، حتى يصح اتصافه به، ولا جائز أن يكون للواحد؛ لأنه يصير المعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر، وذلك غير مقصود. غير أن الأئمة قالوا: إن التقديم فى: شر أهر ذا ناب للاختصاص، فليجمع بين الكلامين بأن يقال: المراد نوع غريب من أنواع الشر أهر ذا ناب، فيصح حينئذ. ويمثل بعد هذا المثال لما قام معه مانع من الاختصاص لفظى، أو خارجى. ص: (وفيه نظر). (ش): كل ما سبق هو من كلام السكاكى، وقد تضمن كلامه مخالفة عبد القاهر، فإن ظاهر كلام عبد القاهر فيما يلى حرف النفى الاختصاص بكل حال، بخلاف السكاكى، فإنه يقتضى أنه لا يفيد إلا مضمرا مقدر التأخير، أو منكرا. فنحو: ما زيد قام، يفيد التخصيص عند الشيخ، لا عند السكاكى. ونحو: ما أنا قمت، يفيده مطلقا على قول عبد القاهر، وبشرط التقدير، على رأى السكاكى. فظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع بعد النفى، وخبره مثبت أو منفى، قد يفيد الاختصاص، مضمرا كان، أم مظهرا؛ لكنه لم يمثل إلا بالمضمر، وكلام السكاكى مصرح بأنه لا يفيده إلا المضمر، فنحو: زيد قام، قد يفيده عند الشيخ، لا عنده. هذا كلام المصنف. ¬

_ (¬1) يعنى تخصيص الجنس. (¬2) يعنى تخصيص الواحد.

1 - إذ الفاعل اللفظى والمعنوى سواء فى امتناع التقديم، ما بقيا على حالهما؛ فتجويز تقديم المعنوى دون اللفظى تحكّم. 2 - ثم لا نسلّم انتفاء التخصيص لولا تقدير التقديم؛ لحصوله بغيره؛ كما ذكره. 3 - ثم لا نسلّم امتناع أن يراد: المهرّ شرّ لا خير ". ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): وفيه نظر؛ أما قوله: ظاهر كلام الشيخ فيما يلى حرف النفى الاختصاص بكل حال فصحيح، ثم يحتمل أن يصلح للتخصيص بلا قيد، لا أنه موضوع للتخصيص، حتى إذا استعمل فى غيره، كان مجازا، كما يشعر به قوله: قد المستعملة للتقليل غالبا، ويحتمل أن يريد أنه حقيقة فى التخصيص حيث ورد أما ما يشعر به" قد" من عدم اللزوم فهو عائد إلى التقديم لا إلى إفادة الاختصاص، معناه أنه قد يقدم وقد لا يقدم وإذا قدم كان تقديمه مفيد الاختصاص أبدا لا مجازا، وهذا أظهر، ويشهد له ما سيأتى وقوله: إن ظاهر كلام الشيخ أن المعرف المثبت هو وخبره قد يفيد الاختصاص وقد يفيد التقوية صحيح، ثم يحتمل أن يريد أن ذلك يستعمل تارة للاختصاص وأخرى للتقوية مطلقا ويحتمل وهو ظاهر كلامه أنه إن قصد الرد على من زعم انفراد غيره أو مشاركته كان للاختصاص جزما وإلا كان للتقوية جزما وقوله: إن ظاهر كلام عبد القاهر فى المعرفة المثبت إذا كان خبرا منفيا أنه قد يفيد الاختصاص فيه نظر، لأن الشيخ قال فى المثبت هو وخبره: إنه قد يفيد الاختصاص وقد يفيد التقوية ثم قال: وكذا إذا كان الفعل منفيا مثل أنت لا تكذب فإنه أشد لنفى الكذب من قولك: لا تكذب ومن قولك: لا تكذب أنت لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم، وعليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (¬1) اه. فهو كالصريح فى أن قوله وكذا الخبر المنفى يعود إلى أنه يقدم للتقوية لا أنه يكون كالمثبت فتارة للاختصاص وتارة للتقوية، وإن كان الذى يظهر من جهة المعنى أنه لا فرق، وأما ما نقل المصنف عن السكاكى ففيه أيضا نظر، فإن السكاكى لا ينفى الاختصاص عن نحو: زيد قام بل يبعده ويقول: الغالب عليه إرادة التقوية فقط. والطيبى تبع المصنف فنقل عن السكاكى أن هذا لا يحتمل التخصيص أصلا ذكره فى سورة الرعد، وكذلك فى جانب النفى أطلق أنه إذا ولى المسند حرف النفى أفاد التخصيص ولم يفرق بين معرفة ونكرة ولا بين مضمر ومظهر وإن كن إنما مثل بالمضمر كما فعل ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 59.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الجرجانى غير أن الفرق والذى فرق به بين الظاهر والمضمر والمعرفة والنكرة يقتضى هذا الفرق، فلذلك تكلم المصنف معه فأورد عليه أن الفاعل اللفظى والمعنوى سواء فى امتناع التقديم كما يمتنع زيد قام على أن يكون زيد فاعلا يمتنع أنا قمت على أن يكون أنا تأكيدا فكلاهما ما داما فاعلا وتأكيدا ممتنع التقديم فإن خرجا من ذلك جاز تقديم كل منهما، فتجويز تقديم أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح (قلت): للسكاكى أن يفرق بأن الفاعل المعنوى إذا قدم لا يبقى الفعل بلا فاعل ولا يتغير عن حاله بخلاف زيد قام إذا قدم بقى الفعل بلا فاعل فاحتاج إلى ضمير. وأجيب عنه بأن الفاعل المعنوى له جهتان: جهة التبعية وجهة الفاعلية المعنوية، فيقدم باعتبار إحدى الجهتين دون الأخرى، وفيه نظر؛ لأن الفاعل اللفظى له جهتان: فاعلية معنوية، ولفظية. فقدم بإحداهما دون الأخرى، ثم قال المصنف: ثم لا نسلم انتفاء التخصيص لولا تقدير التقديم أى فى رجل قام لجواز أن يكون المسوغ للابتداء بالنكرة التقوية كما ذكره السكاكى فى" شر أهر ذا ناب" على رأيه. (قلت): وجوابه أن إرادة الاهتمام لا تطرد كما أنه ليس فى كل صفة يتأتى القطع للمدح كما نص عليه سيبويه، ثم قال المصنف: ولا نسلم أنه يمتنع أن يقال: المهر شر لا خير، وأجيب عنه بأن نسبة الإهرار إلى الخير إذا استعملت مجاز فنفيه عنه كذلك، وفيه نظر، وقد ظهر بما ذكرناه أن المسند إليه أقسام. أحدها: نكرة وليت حرف النفى فيفيد الاختصاص عند الجميع بكل حال. الثانى: ضمير ولى حرف النفى فيفيد الاختصاص دائما - عن الجرجانى والمصنف - ويشترط تقديره مؤخرا عند السكاكى. الثالث: اسم ظاهر ولى حرف النفى فيفيد الاختصاص دائما عند الجرجانى ولا يفيد أبدا عند السكاكى على ما نقله المصنف. الرابع: مثبت مضمر، والمسند غير منفى فيفيد الاختصاص تارة والتقوية أخرى عند الجميع. الخامس: مثبت نكرة فيفيد الاختصاص دائما عند الجرجانى والسكاكى والمصنف. السادس: معرفة وهو اسم ظاهر مثبت، والمسند غير منفى، فلا يفيد دائما إلا التقوية عند السكاكى، وعند الجرجانى والمصنف يفيد تارة دون أخرى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السابع: أن يكون مثبتا ظاهرا معرفة، والمسند منفى فلا يفيد عندهما إلا التقوية على مقتضى ما فهمنا عنه، وعلى ما فهمه المصنف يكون عنده للتخصيص تارة وللتقوية أخرى. الثامن: مثبت والخبر منفى فلا يفيد إلا التقوية - عند الجرجانى - على ظاهر عبارة التلخيص المنقولة عنه وعلى ظاهر عبارة الإيضاح يفيد عنده التخصيص تارة والتقوية أخرى وعند السكاكى يفيد التخصيص تارة والتقوية أخرى. التاسع: مثبت نكرة والخبر منفى فيفيد التخصيص عند السكاكى وعند عبد القاهر، فلنرجع حينئذ إلى عبارة المصنف فقوله: عبد القاهر أى عبد القاهر قائل: قد يقدم أى المسند إليه، ليفيد تقديمه تخصيصه أى تخصيص المسند إليه بالمسند وقوله: بالخبر الفعلى يدخل فيه الخبر الذى هو فعل مثل: أنا قمت، أو صفة مثل: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (¬1)، وإنما أدخلنا الصفة؛ لأن الخبر إذا كان وصفا صدق عليه أنه فعلى؛ لأنه يعمل عمل الفعل، فإن قلت: قد قال المصنف فيما سبق: إن ذلك مشروط بكون الخبر فعليا ورد به على قول السكاكى أنه للتخصيص فى فهم خفوف، قلت: ذلك وهم بلا إشكال ويكفى فى تغليظه أنه مثل هاهنا بقوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ «1» وسيأتى فى عبارة المصنف، وقوله: إن ولى حرف النفى قيد يخرج ما إذا لم يل فإنه قد يفيد التخصيص وقد لا يفيد - كما سيأتى - ودخل فى إطلاقه المسند إليه نكرة كان أم معرفة ضميرا أم ظاهرا سواء كان المسند منفيا أم مثبتا وإن لم يمثل إلا بالضمير (قوله: نحو: ما أنا قلت هذا، أى: لم أقله مع أنه مقول) الأحسن التمثيل بقوله عليه الصلاة والسّلام:" ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" (¬2)، ولك أن تقول: أنا قلت: يقتضى مجموع أمرين إثبات القول منه ونفيه عن غيره، والنفى إذا ورد على مجموع الشيئين كان أعم من نفيهما معا ونفى كل منهما فقط فمن أين دل ما أنا قلت: على نفى قوله، وإثبات قول غيره ومدلول قوله: ما أنا قلت ليس مختصا بالقول وذلك صادق بقوله وقول غيره وبعدم قول واحد منهما وبقول غيره فقط، فمن أين تعين ¬

_ (¬1) سورة هود: 91. (¬2) أخرجاه فى الصحيحين، وقد سبق تخريجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث؟ (قوله: ولهذا لم يصح ما أنا قلت ولا غيرى) لقائل أن يقول: ما الذى يمنع؟ ذلك وإنما منعه فرع هذه الدعوى ولو سلمنا أنه يدل على قول غيره فما المانع من أن يصرح بخلاف المفهوم فيصح هذا التركيب كما أن قولك: لا تضرب رجلا جاهلا اقتضى بالمفهوم اختصاص ذلك بالجاهل، ويصح أن يصرح بخلافه؟ فيقول: لا تضرب عالما ولا جاهلا فهذا التعليل لا يصح والذى يظهر فى تعليله بعد تسليم أن ما أنا قلت، معناه: أنا مختص بعدم القول أن قولك: وما غيرى تقديره ولا غيرى قال: فيناقض منطوق ما قبله، فإن معنى: ما غيرى، قال: اختصاص غيره بعدم القول وهو يناقض اختصاصه بالقول الذى هو دليل المعطوف عليه، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الإتيان بلا فى مثله يفيد الحكم على كل فرد فإذا أثبت الاختصاص فى كل منهما تناقضا كل ذلك على رأى الجرجانى الذاهب إلى أن نحو: زيد قال يفيد الاختصاص، وبهذا يعلم أنه لا فرق فى الامتناع بين ما أنا قلت ولا غيرى، وما أنا قلت ولا زيد، ويعلم أيضا أنه لا يمتنع أن تقول: ما أنا قلت وزيد، فإن المعنى حينئذ أنا وزيد مختصان بعدم القول وأما ما أنا قلت وغيرى، فلو جعلنا المراد: أنا وغيرى مختصان بعدم القول لزال الاختصاص (قوله: ولا ما أنا رأيت أحدا) قد تقدم الاعتراض عليه فيه (قوله: وإلا) أى وإن لم يكن حرف النفى مع المسند إليه فهو منقسم إلى قسمين، فعلمنا منه أنه متى ولى المسند إليه حرف النفى كان للتخصيص مطلقا (قوله: ردا على من زعم انفراد غيره به أو مشاركته) فيه نظر، فينبغى أن يكون للتخصيص حيث قصد الرد على مدعى المشاركة، وللتقوية حيث قصد الرد على مدعى انفراد غيره إلا أن يقصد المبالغة فى إثباته بالتخصيص الادعائى. (وقوله: وقد يأتى لتقوى الحكم) نحو: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ من: لا تكذب، ومن: لا تكذب أنت، فإن التأكيد فيه للمحكوم عليه لا الحكم والتأكيد فى: أنت لا تكذب، للحكم، هذا يدل على أنه حيث جعله للتقوية لا يقدر فيه تقديما ولا تأخيرا كما صنع السكاكى، وهذا يقتضى أن الفعل المثبت فيما نحن فيه لا يكون إلا للتخصيص، كما إذا كان المسند إليه منفيا مثل: ما أنا قلت؛ لأنه جعل احتمال التقديم للتخصيص والتقوية مشروطا بكون المسند إليه منفيا، وهذا ما قدمت الوعد به عند

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكر الاحتمالين فى ذلك، هذا ظاهر العبارة؛ لكنه قال فى الإيضاح: إن عبارة الشيخ تقتضى أنه لا فرق بين نفى المسند وإثباته وقوله: وإن بنى الفعل على منكر أفاد، أى: أفاد ذلك البناء أو ذلك التقديم ثم يحتمل أن يكون التقدير: وإن لم يل حرف النفى فهو على قسمين: تعريف وتنكير، ويحتمل أن يقدر إن ولى حرف النفى وكان مبنيا على معرفة، فيكون معطوفا، والأول أولى فإنه يقتضى أنه متى ولى المسند إليه حرف النفى كان للتخصيص بكل حال كما نقله عنه فى الإيضاح وإلا فإن كان نكرة فكذلك، وإلا فإن كان المسند منفيا فللتقوية وإلا فيحتمل، وقوله: أفاد تخصيص الجنس أو الواحد، يعنى: أن له حالتين، ويتعين المقصود منهما بسؤال أو غيره (قوله ووافقه السكاكى إلا أنه إلخ) قد تقدم الكلام على أنه ليس كذلك، ثم إذا مشينا على ما نقله عنه، فالسكاكى لا يفرق بين تقدم النفى وتأخره بخلاف عبد القاهر فقد خالفه بغير ما ذكر (قوله: إن جاز تقدير كونه فى الأصل مؤخرا فاعلا معنى فقط) أى لا لفظا، فخرج بذلك ما لو تأخر لكان فاعلا لفظا، مثل: زيد قام أو لا يكون فاعلا لفظا ولا معنى مثل زيد قام أبوه، وخرج بقيد التأخر أنا قمت غير منوى التأخير، نعم خرج من كلامه أن قولك: أنا قام غلامى لا يفيد اختصاصا؛ لأنه لو تأخر لما كان فاعلا معنويا وفيه نظر، والظاهر أنه يفيد، وكذلك أنت قام غلامك وهو قام غلامه (قوله وقدر) أى إن جاز كونه فاعلا وقدر وإلا أى إن فقد شرط منهما فليس للاختصاص عنده جاز كونه - كما مر - فى أنا قمت، أم لم يجز نحو: زيد قام وقوله: من باب وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬1) هذا أحد الأقوال فى الآية الكريمة ويعزى لسيبويه والمبرد. والثانى: للأخفش: أنه فاعل والواو علامة على لغة أكلونى البراغيث. الثالث: أن أسروا خبر والذين مبتدأ ويعزى للسكاكى. الرابع: أنه فاعل فعل محذوف أى يقول الذين ظلموا قاله النحاس. الخامس: لأبى البقاء أن الذين مبتدأ خبره: هل هذا، المعنى: يقولون: هل هذا؟ هذه عبارة الشيخ أبى حيان وفيه نظر؛ لأن هذا عبارة عن حذف الخبر وإبقاء معموله لا عن جعل هل هذا، خبرا. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: 3.

ثم قال: ويقرب من (هو قام): (زيد قائم) فى التقوّى؛ لتضمّنه الضمير، وشبّهه (¬1) بالخالى عنه (¬2): من جهة عدم تغيّره فى التكلّم والخطاب والغيبة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ السادس: أنه فاعل فعل مشتق مما سبق، التقدير: أسرها الذين ظلموا. السابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هم الذين. الثامن: أنه منصوب على الذم قاله الزجاج. التاسع: أنه منصوب على إضمار أعنى. العاشر: أنه مجرور نعتا للناس من قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ (¬3) قاله الفراء وكثير من هذه التخاريج تأتى فى قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ (¬4) (قوله: واستثنى المنكّر) أى: قال: إنه يفيد الاختصاص واستثناه من كون ما ليس بفاعل معنوى مفيد للاختصاص، فنحو: رجل قام ليس بفاعل معنوى فقط إذ لو أخر لكان فاعلا لفظيا لا معنويا ومع ذلك أفاد الاختصاص عنده، وعدم كونه فاعلا معنويا فقط إما لكونه فاعلا لفظيا، مثل: رجل قام، وإما لأنه لا يكون فاعلا لا لفظا ولا معنى مثل: رجل قام أبوه، فلا يرد عليه فيه ما أوردناه عليه فى القسم الأول، نعم يرد عليه أن يقال: هو يقول: إن الاختصاص فى رجل قام؛ لأنه يقدره مؤخرا بدلا فهو فاعل معنوى فقط فلا يصح الاستثناء (قوله: لئلا ينتفى التخصيص إذ لا سبب له سواه) قد تقدم ما يرد عليه (قوله: وشرطه) أى شرط إفادة التقديم الاختصاص (أن لا يمنع مانع) عليه مؤاخذة لفظية؛ لأن عدم المانع ليس شرطا كما هو مقرر فى علم الجدل (قوله: لامتناع أن يراد المهر شر) تقدم ما عليه، وقوله: ثم لا نسلم انتفاء التخصيص لولا تقدير التقديم، أى: فى المنكر والمضمر وغيرهما، وقوله: لحصوله بغيره كما ذكره، أى: من التهويل (قوله: ويقرب من" هو قام"" زيد قائم" فى التقوّى) يعنى: أن اسم الفاعل قريب من الفعل وهذا ما قدمنا الإشارة له، ومعنى كلامه أن السكاكى قال: ويقرب زيد قائم من هو قام فى التقوية؛ لأن المبتدأ بوضعه يستدعى الخبر والضمير يصرفه له، وهذا القدر موجود فى الخبر، وقال: ولم أقل مثله؛ لأنه يشبه الخالى من الضمير من جهة أنه لا يتغير بالتكلم والخطاب والغيبة فصارت التقوية الحاصلة بالضمير ¬

_ (¬1) أى السكاكى. (¬2) أى عن الضمير. (¬3) سورة الأنبياء: 1. (¬4) سورة المائدة: 71.

ولهذا لم يحكم بأنه جملة، ولا عومل معاملتها فى البناء ". ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى يصرفه للمبتدأ ضعيفة؛ لعدم ظهورها تقول: زيد عارف وأنا عارف وأنت عارف (قوله: ولهذا) أى ولعدم ظهور الضمير فيه لم يحكم عليه بأنه جملة، وإن كان له فاعل ولا عومل معاملة الجملة فى البناء، يعنى أن الجمل من شأنها أن تكون مبنية، لا يظهر فيها إعراب وهذا يظهر فيه، فتقول: جاءنى رجل عارف ورأيت رجلا عارفا ومررت برجل عارف، ولأنه لو كان جملة لوقع صلة؛ لكنه لا يقع إلا بتقدير مبتدأ قبله (قلت): ولك أن تقول: لم يظهر الإعراب فى جاء رجل عارف فى مجموع اسم الفاعل وفاعله ومجموعهما هو الذى يشبه الجملة بل فى عارف فقط وعارف هو لم يظهر فيه إعراب فالأولى أن يقال: لو كان جملة لما تغير جزؤه، فإن الجمل لا يتغير جزؤها بدخول العامل عليه، قال ابن الحاجب فى أماليه: لم يختلفوا فى أن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة مع الضمير ليست بجمل لأمرين: أحدهما: أن الجملة هى التى تستقل بالإفادة وهذه ليست كذلك. الثانى: أن وضعها أن تفيد معنى فى ذات تقدم ذكرها فإذا استعملت مبتدأ خرجت عن وضعها، ولذلك لما خرج بعضها عن هذا المعنى وجعل المعنى الفعل بشرط سبق ما يكون كالعوض عما كان يستحقه من الاعتماد أو كالدال على إخراجه عن وضعه الأصلى جاز أن يكون مع مرفوعه جملة، مثل: أقائم زيد، والذين يخالفون فى زيد ضارب غلامه ويجعلون ضارب غلامه جملة فليسوا يخالفون فى الذى ذكرناه، بل الخلاف فى أنه هل ثبت أن ضارب غلاماه مثل ضارب الزيدان أو لا، فمن جوزه أخرج الصفة عن موضوعها الأصلى واستعملها استعمال الفعل. اه. واعلم أن السكاكى يريد أن اسم الفاعل يقرب من الفعل فى إفادة التقوية التى هى أعم من التخصيص، والمصنف يوهم أنه إنما يفيد التقوية فلذلك نقل عن السكاكى ما اعترض عليه فيه، وها أنا أذكر، مبينا ما فيه. قال المصنف حاكيا عن السكاكى: ومما يفيد التخصيص ما يحكيه تعالى عن قوم شعيب عليه الصلاة والسّلام: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (¬1) أى: العزيز علينا رهطك لا ¬

_ (¬1) سورة هود: 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنت، ولذلك قال عليه السّلام: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ (¬1) أى من نبى الله، ولو كان المراد ما عززت علينا لم يكن مطابقا. قال المصنف: (وفيه نظر)؛ لأن قوله: ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ من باب: أنا عارف، لا من باب: أنا عرفت. (قلت) وهذا هو الذى يريده السكاكى وباب أنا عارف وأنا عرفت شئ واحد، وقد صرح السكاكى فى فصل القصر بإفادة أنا عارف للحصر، قال: والتمسك بالجواب ليس بشئ؛ لجواز أن يكون فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ (¬2). قال: وقال الزمخشرى: دل إيلاء ضميره حرف النفى على أن الكلام فى الفاعل لا فى الفعل كأنه قال: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بل رهطك هم الأعزة علينا، وفيه نظر، لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفى إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر. (قلت): والخبر هنا فعلى؛ لأن الفعلى أعم من الفعل واسم الفاعل كما سبق، وإنما يريد الزمخشرى إيلاء الضمير حرف النفى مع كون المسند فعليا، نعم فى النفس وقفة من أن السكاكى اشترط إفادة الاختصاص أن يكون فاعلا معنويا لا لفظيا بتقدير التأخير، وما أنا عارف لو تأخر فيه الضمير لكان فاعلا لفظيا، لأنه يصير وضعه ما عارف أنا وهو فاعل لفظى، إلا أن يقال: يعربه حينئذ مبتدأ مؤخرا والمبتدأ فاعل معنوى، لكن كيف يقال حينئذ: إنه كان مؤخرا ثم قدم والفرض أن تقديمه الآن هو الأصل لأنا أعربناه مبتدأ فهو بتقدير تأخيره فى قولنا: ما عارف أنا متأخر عن محله، فإذا قلنا: ما أنا عارف فليس ذلك تقديما بل وضعا للشئ فى محله، وتقدير تأخيره على خلاف الأصل بخلاف الفاعل المعنوى المؤكد مثل: قمت أنا، فإنه بتقدير تأخيره يكون واقعا فى محله؛ لأن وضع الضمير المؤكد التأخير عن المؤكد. فلينظر فى ذلك. (تنبيه): قال الزمخشرى فى قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (¬3): هم هنا بمنزلتها فى قول الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة هود: 92. (¬2) سورة هود: 91. (¬3) سورة المائدة: 27.

وممّا يرى تقديمه كاللازم: لفظ مثل وغير فى نحو: (مثلك لا يبخل)، و: (غيرك لا يجود) بمعنى: أنت لا تبخل، و (أنت تجود) من غير إرادة تعريض لغير المخاطب (¬1)، لكونه أعون على المراد (¬2) بهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة (¬3) فى دلالته على قوة أمرهم لا على الاختصاص. اه. وهى دسيسة اعتزال لأنه لو جعلها هنا للاختصاص لزمه تخصيص عدم خروج الكفار، فيلزم خروج أصحاب الكبائر من المسلمين كمذهب أهل السنة، والزمخشرى أكثر الناس أخذا بالاختصاص فى مثل هذا وغيره من قواعد البيانيين، فإذا عارضه الاعتزال فزع من قواعدهم إليه. (قوله: ومما يرى تقديمه كاللازم إلخ) يريد أنه إذا استعملت كلمة مثل كناية من غير تعريض كقولك: مثلك لا يبخل ونحوه مما يراد فيه بلفظ مثل غير إفادة الحكم للمضاف إليه، وإنما يريد أن مقتضى القياس أن من كان بهذه الصفة التى هو عليها يكون غير فاعل لهذا الفعل، وعليه قول الشاعر: سواك يا فردا بلا مشبه (¬4) … ولم أقل مثلك أعنى به وكذلك حكم غير إذا سلك بها هذا المسلك؛ فتقول: غيرى يفعل ذلك؛ أى لا أفعله فقط من غير إرادة التعريض بإنسان، وعليه قول المتنبى: ¬

_ (¬1) لغير المخاطب هكذا فى بعض النسخ، وفى البعض الآخر بغير المخاطب بالباء، والمراد أنه لا يراد بالمثل والغير إنسان آخر مماثل للمخاطب أو غير مماثل بل المراد نفى البخل عنه على طريق الكناية. (¬2) أى بهذين التركيبين لأن الغرض منهما إثبات الحكم بطريق الكناية التى هى أبلغ من التصريح والتقديم لإفادته التقوى أعون على ذلك. (¬3) البيت للمعذل بن عبد الله الليثى، وانظر: الإشارات والتنبيهات 50، ودلائل الإعجاز 129. والطمرة: الفرس الكريم، والبيت فى مدح فتيان بنى عتيك، وعجزه: وأجرد سباح يبذ المغاليا وقبله: جزى الله فتيان العتيك وإن نأت … بى الدار عنهم خير ما كان جازيا (¬4) انظر: التبيان للعكبرى 1/ 153، دلائل الإعجاز 139، وهو للمتنبى فى عقود الجمان ص 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرى بأكثر هذا النّاس ينخدع (¬1) لم يرد أن يعرض بواحد يصفه بأنه ينخدع، بل أراد أنه ليس ممن ينخدع واستعمال غير ومثل هكذا، قال المصنف: إنه مركوز فى الطباع، ويقدمان أبدا على الفعل إذا قصد هذا، والسر فيه أن تقديمهما يفيد تقوى الحكم، ومما ذكرناه من اشتراط التقديم يعلم عدم صحة التأويل عليه فى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬2) ويعلم منه فساد قول الطيبى فى قول الشاعر: فمن مثل ما فى الكأس عينى تسكب أنه من هذا الباب. واعلم أنه يقع فى عبارة كثير أن مثلك لا يفعل معناه أنت لا تفعل، وفيه تسامح، والتحقيق أن مثل فى هذا لا يراد بها الذات بل حقيقة المثل ليكون نفيا عن الذات بطريق برهانى كسائر الكنايات، ثم لا يشترط على هذا أن يكون لتلك الذات الممدوحة مثل فى الخارج حصل النفى عنه، بل هو من باب التخييل الذى يأتى فى الاستعارة. وقوله: ولم أقل مثلك - أعنى به سواك - لا ينافى ما قلناه؛ فإن معناه لم أعن إفادة الحكم على سواك، بل عنيت إفادة الحكم عليك مريدا للاستعمال فى سواك. وهذا المعنى إنما ينجلى لك إذا تأملت ما ستراه فى باب الكناية، فإن قلت: إنما يكون مثلك لا يفعل كذا نفيا له عن المخاطب بطريق برهانى أن لو كانت المماثلة تستدعى التساوى فى الصفات الذاتية وغيرها من الأفعال، فإن اتفاق الشخصين بالذاتيات لا يستلزم اتحاد أفعالهما. قلت: ليس المراد بالمثل هنا المصطلح عليه فى العلوم العقلية، بل المراد من هو على مثل حاله فى الصفات المناسبة لما سبق الكلام له، ولا نقول: معناه من هو مثلك فى كل شئ؛ لأن لفظ مثل لا يستدعى المشابهة من كل وجه كما سيأتى تحقيقه فى علم البيان. (تنبيه): بقى من الكلام على تقديم الاختصاص فوائد نذكرها عند الكلام على تقديم المفعول إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى، وانظر: شرح التبيان للعكبرى 1/ 416، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 86، ودلائل الإعجاز 139، ونهاية الإيجاز 312، وهو مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمدانى. (¬2) سورة الشورى: 11.

قيل: وقد يقدّم؛ لأنه دالّ على العموم؛ نحو: (كلّ إنسان لم يقم)؛ بخلاف ما لو أخّر؛ نحو: (لم يقم كلّ إنسان)؛ فإنه يفيد نفى الحكم عن جملة الأفراد، لا عن كلّ فرد؛ وذلك لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس؛ لأن الموجبة المهملة المعدولة المحمول فى قوّة السالبة الجزئيّة المستلزمة نفى الحكم عن الجملة دون كلّ فرد، والسالبة المهملة فى قوة السالبة الكليّة المقتضية للنفى عن كلّ فرد؛ لورود موضوعها فى سياق النفى: وفيه نظر: 1 - لأنّ النفى عن الجملة فى الصورة الأولى (¬1)، وعن كلّ فرد فى الثانية (¬2): إنما أفاده الإسناد إلى ما أضيف إليه كل (¬3)، وقد زال ذلك الإسناد؛ فيكون تأسيسا لا تأكيدا. 2 - ولأنّ الثانية (¬4) إذا أفادت النفى عن كل فرد، فقد أفادت النفى عن الجملة، فإذا حملت على الثانى لا يكون كلّ (¬5) تأسيسا، ولأنّ النكرة المنفيّة إذا عمّت، كان قولنا لم يقم إنسان كلية لا مهملة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (قيل: وقد يقدم ... إلخ). (ش): ذهب كثير من أهل هذا العلم إلى أن تقديم المسند إليه قد يكون لإفادة العموم، فقوله: قد يقدم لأنه يعنى؛ لأن التقديم دليل على العموم نحو: كل إنسان لم يقم فإنه يفيد نفى الحكم عن كل واحد بخلاف لم يقم كل إنسان فإنه يفيد نفى الحكم عن جملة الأفراد، أى عن مجموعها لا عن كل فرد، أى لا ينفيها عن كل فرد إنما ينفى المجموع، وهو يصدق بنفى فرد واحد. أما الدليل على أن كل إنسان لم يقم معناه كل واحد فهو أن قولنا: إنسان لم يقم مهملة، لأنها غير مسورة وهى موجبة معدولة المحمول، والموجبة المعدولة المحمول المهملة فى قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفى الحكم عن الجملة دون كل فرد، أى لا تدل على نفى الحكم عن كل فرد لا لأنها تدل على عدمه، وإذا كانت دالة على النفى عن الجملة كانت فى قوة الجزئية، لأن معناها ليس كل إنسان بقائم، فلو كانت كل إنسان لم يقم لا تفيد غير نفى الحكم عن الجملة لكانت للتأكيد فيلزم ترجيح التأكيد على التأسيس. ¬

_ (¬1) وهى كل إنسان لم يقم. (¬2) وهى لم يقم كل إنسان. (¬3) وهو لفظ إنسان. (¬4) وهى لم يقم كل إنسان. (¬5) فى بعض النسخ؛ حذفت كل خ خ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما الثانى: فلأن قولنا لم يقم إنسان وهى سالبة مهملة فى قوة سالبة كلية، وهى لا شئ من الإنسان بقائم، وهى تقتضى نفى الحكم عن كل فرد، فلو كان دخول" كل" يجعل الحكم على كل فرد لزم أن يكون للتأكيد، فليجعل" كل" لنفى الحكم عن جملة الأفراد ليفيد فائدة تأسيسية. هذا مضمون ما نقله المصنف، وهو من كلام بدر الدين بن مالك، ولم يمنع المصنف شيئا من هذا الحكم، بل نازع فى صحة التعليل فقال: وفيه نظر ... وذكر أمورا، أحدها: أن النفى عن الجملة فى قولنا: إنسان لم يقم إنما أفاده الإسناد إلى إنسان، فإذا أضيف إليه" كل" انقلب الإسناد إليها فزال ذلك، فيكون النفى الوارد على الأفراد مستفادا من كل لا من الإنسان، لأنه حينئذ غير المسند إليه والنفى عن كل فرد المستفاد من لم يقم إنسان إنما كان من الإسناد إلى إنسان، فإذا دخلت كل وجعلت دالة على كل فرد كانت دلالتها حينئذ تأسيسية لزوال الإسناد إلى إنسان حينئذ فيكون تأسيسا فيهما على التقديرين. وأجيب بأن المسند إليه فى إنسان لم يقم وفى لم يقم إنسان هو الإنسان، وكذلك المسند إليه فى (كل إنسان لم يقم) وفى (لم يقم كل إنسان) إنما اختلف التعبير فكل إنسان لم يقم إذا كان معناه جملة الأفراد كان تأكيدا، لأنه عبر بكل عن إنسان، وهذا تأكيد؛ لأن التأكيد أن يعبر بلفظ عن شئ بعبارة تقتضى التقوية. (قلت): وهذا ينبنى على أن المسند إليه فى الكلية هو المضاف أو المضاف إليه، وقد ذكر جماعة من المنطقيين أنه المضاف إليه وهو إنسان لا كل، فإن قلنا بذلك فواضح لأن الإسناد إلى إنسان فى لم يقم كل إنسان باق فى المعنى، فلو استمر العموم لكانت كل تأكيدا، وإن لم نقل به وهو الحق، وقد حققناه فى شرح مختصر ابن الحاجب، والذى قاله المجيب لا شك أنه مراد هذا القائل، فيكون لم يقم كل إنسان إذا جعلنا النفى عن الأفراد تأكيدا باعتبار أنه عبر عنه بلفظ مؤكد كان يمكن أن يعبر عنه بغيره، لكن لا نسلم له حينئذ أن التأسيس باللفظ غير المؤكد خير من التأسيس باللفظ المؤكد، لأن ما ذكره المجيب ينحل إلى أنه صيغة تأسيس تأكيدية فحينئذ يصح اعتراض المصنف الثانى أن لم يقم إنسان إذا اقتضى النفى عن كل فرد فقد اقتضى النفى عن جملة الأفراد فإذا دخلت عليه كل فهى للتأكيد أيضا، وأجيب عنه بأن دلالة لم يقم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنسان على عدم قيام الجملة بالالتزام ودلالة لم يقم كل إنسان على نفيه عن الجملة بالمنطوق. (قلت): لمن ينازع ابن مالك ويدعى أن لم يقم كل رجل للنفى عن كل فرد فرد أن يمنع أن دلالة لم يقم كل إنسان على نفى القيام عن الجملة بالمنطوق، بل دل على نفى القيام عن كل فرد فرد يصير كأنك قلت: لم يقم كل فرد فرد فهو أيضا عموم سلب، ويلزم منه نفيه عن الجملة بالالتزام أيضا فاستويا، ثم إن ابن مالك قدم أن كل إنسان لم يقم لو لم يكن للعموم لكان تأكيدا، لأن إنسانا يفيد نفى الحكم عن الجملة باعتبار استلزامه له، فقد تضمن هذا الكلام أن كل إنسان لم يقم لو لم يكن دالا على الأفراد وكانت دلالته إنما هى على المجموع لكانت دلالته على الجملة مطابقة ودلالة إنسان لم يقم على نفى الحكم عن الجملة التزاما وجعل الأول تأكيدا للثانى، فكذلك هنا يلزم أن يكون لم يقم كل إنسان تأكيدا بالنسبة إلى لم يقم إنسان، وإن كان نفى الحكم عن الجملة فى الأول مطابقة وفى الثانى التزاما. الثالث: أن قوله: إن لم يقم إنسان فى قوة السالبة الكلية لا يصح؛ لأنه إذا عم كل فرد فرد كانت سالبة كلية لا فى قوتها. وأجيب عنه بأن اصطلاح المنطقيين أن السالبة الكلية ما كان مسورا بلا شئ ونحوه لا كل قضية يكون السلب فيها عاما، لكن ذهب كثيرون من الأصوليين إلى أن عموم النكرة فى سياق النفى معناه أن المنفى فيها مطلق الحقيقة فاستلزم نفى الأفراد، فيحسن على هذا أن يقال: لم يقم إنسان ليس سالبة كلية لا لفظا ولا معنى، وليس عاما بالوضع بل استلزم العموم بخلاف كل. وقد تقرر بما ذكرناه أن الاعتراضين الأولين على ابن مالك صحيحان، لكن قد يقال: إن لم يقم كل إنسان وإن كان نفيه عن الجملة تأكيدا لما دل عليه لم يقم إنسان من نفى الجملة، فهو تأسيس باعتبار أنه أزال ما دل عليه لم يقم إنسان من نفى القيام عن الأفراد، لأن لم يقم كل إنسان لم يتعرض للحكم على الأفراد بنفى ولا إثبات، ويرد على هذه القاعدة مع ذلك أمور منها: أن قوله: إن المهملة المعدولة المحمول فى قوة السالبة الجزئية ممنوع، لأن الحكم فى المهملة كان على الطبيعة - كما ذهب إليه بعضهم - فالمهملة ليست فى قوة الجزئية، ولا يلزم التأكيد لأن مدلول إنسان لم يقم

(تنبيه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الطبيعة من حيث هى ومدلول كل إنسان لم يقم الأفراد، وإن كان الحكم فى المهملة على الأفراد - كما ذهب إليه بعضهم - فقد يقال: ليست فى قوة الجزئية، لأنه إن أريد أن معنى المسند إليه فيهما واحد فممنوع، لأن المسند إليه فى السالبة الجزئية مثل: كل إنسان قام يحتمل نفى الحكم عن بعض الأفراد، ومطلق الشمول أعم من العددى والمجموعى أو من المجموعى، والمسند إليه فى المهملة يحتمل كل واحد والبعض دون البعض فحينئذ كل إنسان يحتمل كل فرد والمجموع، وإنسان لم يقم يحتمل البعض ويحتمل الأفراد ولا يحتمل المجموع، فقد أسست كل احتمال النفى عن المجموع فقد صارت للتأسيس وإن لم تكن عامة فى كل فرد فرد. (قلت): وفيه نظر، لأن (إنسان لم يقم) أفاد الحكم على المجموع أيضا، فإن قال: إنه باللازم قلنا: فكل إنسان لم يقم أفاده باللفظ ونقل الدلالة عن اللازم إلى موضوع اللفظ تأكيد كما سبق. ومنها: أن قوله: دلالة كل رجل لم يقم على العموم إنما كان لأن التأسيس خير من التأكيد فلا يكون ذلك موضع كل، وهو بعيد، والذى يظهر أن كلّا دالة على ذلك بالوضع. ومنها: أن ما ذكروه ينتقض بقولك: ما إنسان إلا قائم فإنه لنفى كل فرد، ولو قلت: ما كل إنسان إلا قائم كان كذلك لنفى كل فرد كما سيأتى. ومنها: أن هذا إن مشى لهم فى النكرة إلا يمشى فى المعرفة، مثل كل ذلك لم يكن فإن تقديره المذكور لم يكن وهو عام يفيد كل فرد دون كل فهى للتأكيد أيضا. (تنبيه): إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما قدمناه من الفرق بين سلب العموم فى لم يقم كل رجل وعموم السلب فى كل رجل لم يقم حق لا إشكال فيه، واختلف فى الاستدلال عليه على أقوال: أحدها: قدمناه مما ذكره المصنف، وقد علمت ما فيه، الثانى: أن النفى متوجه إلى الشمول دون أصل الفعل وهو قريب من الأول، الثالث: قول النبى صلّى الله عليه وسلّم:" كل ذلك لم يكن" (¬1) فإن معناه لم يكن واحد منهما، وكذلك قول أبى النجم: ¬

_ (¬1) هو حديث ذى اليدين، واسمه" الخرباق"، أخرجه البخارى فى" الأذان"، باب: هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس، (2/ 240)، (ح 714)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" المساجد"، (ح 573).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى … علىّ ذنبا كلّه لم أصنع (¬1) وسبب ذلك أن الحكم على كل فرد، وقيل: سببه فى الحديث أن السؤال عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما فجوابه بالتعيين أو بنفى كل منهما، وبأن ذا اليدين قال: قد كان بعض ذلك، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، وفى البيت أن الشاعر عدل عن النصب الفصيح إلى الرفع الذى هو ضرورة عند سيبويه وغيره مع عدم الضرورة - وليس هذا إلا لذلك - هذا ما ذكروه، والتحقيق فى ذلك ما ذكره الوالد فى تصنيف له فى أحكام كل، وها أنا أذكره ملخصا، قال: لا بد من تقديم مقدمة، وهو أن قولنا: زيد قائم حكم على زيد بالقيام، وهى موجبة محصلة. وقولنا: زيد ليس بقائم حكم عليه بعدم القيام، وهى موجبة معدولة. ويشترط فى القسمين وجود موضوعهما. وقولنا: ليس زيد بقائم سالبة محصلة، وليس معناها الحكم على زيد بعدم القيام، وإلا لساوت الموجبة المعدولة، ولكن معناها سلب ما حكمت به فى الموجبة المحصلة، ولذلك تصدق مع وجود الموضوع وعدمه، والسالبة المحصلة نقيض الموجبة المحصلة وأعم من الموجبة المعدولة، ومدلول السالبة المحصلة نقيض مدلول الموجبة المحصلة. إذا تقرر ذلك جئنا لغرضنا فقلنا: لم يقم كل إنسان سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهى قام كل إنسان حكم على كل فرد بالقيام فيكون المحكوم به فى السالبة المحصلة نقيض قيام كل فرد، ونقيض الكلى جزئى فيكون مدلوله سلب القيام عن بعضهم، ولذلك يقول المنطقيون: ليس كل إنسان بقائم سالبة جزئية. ¬

_ (¬1) البيت لأبى النجم فى المصباح ص 144، وأسرار البلاغة 2/ 260، والمفتاح ص 393، والإشارات ص 251، ودلائل الإعجاز ص 278، وخزانة الأدب 1/ 359، ونهاية الإيجاز ص 182، وشرح عقود الجمان 1/ 53، والأغانى 23/ 36. ويقول عبد القاهر فى تعليقه على البيت: إنه أراد أنها تدعى عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتة لا قليلا ولا كثيرا ولا بعضا ولا كلا. والنص يمنع من هذا المعنى ويقتضى أن يكون قد أتى المذنب الذنب الذى ادعته بعضه، وذلك أنا وجدنا إعمال الفعل فى" كل" والفعل منفى لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن. الدلائل ص 278.

وقال عبد القاهر: إن كانت كلمة كلّ داخلة فى حيّز النفى بأن أخّرت عن أداته؛ نحو [من البسيط] خ خ: ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه (¬1) ... أو معمولة للفعل المنفى؛ نحو: ما جاءنى القوم كلّهم خ خ، أو: ما جاءنى كلّ القوم خ خ، أو: لم آخذ كلّ الدراهم خ خ، أو: كلّ الدراهم لم آخذ -: توجّه النفى إلى الشمول خاصّة، وأفاد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض، أو تعلّقه به. وإلّا عمّ: كقول النبى صلّى الله عليه وسلّم لمّا قال له ذو اليدين (¬2): أقصرت الصّلاة أم نسيت؟! -: كلّ ذلك لم يكن (¬3)، وعليه قوله [من الرجز]: قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى … علىّ ذنبا كلّه لم أصنع (¬4) ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولنا: كل إنسان لم يقم موجبة معدولة معناها الحكم بعدم القيام على كل فرد، وقد تقرر أن مدلول كل إنسان كل فرد فيكون معناها الحكم بعدم القيام على كل فرد، ولا يعارض هذا قول المنطقيين: كل إنسان ليس بقائم سالبة جزئية، لأنهم إنما قالوا ذلك من اعتقادهم من كل المجموع ونحن قد أثبتنا أن مدلولها عند العرب الأفراد فالحكم بالنفى على كل الأفراد فهذا هو السر فى الفرق بين كل ذلك لم يكن ولم يكن كل ذلك، واستقام به كلام اللغويين والنحويين وكلام المنطقيين، وظهر أن العرب أدركت بعقولها السليمة وطباعها الصحيحة ما تعب فيه اليونان دهرهم بل زادوا عليه فى تحرير دلائل كل، والحمد لله الذى وفقنا لفهم ذلك. اه كلامه. وقد أردف ذلك بفوائد تتعلق بما نحن فيه، وغالب ما سأذكره فى هذه المسألة هو من كلامه ذلك. ص: (وقال عبد القاهر إلخ). (ش): هذا الكلام المنقول عن عبد القاهر موافق فى الحكم لما قاله ابن مالك إلا أنه مخالف له فى الاستدلال، وإنما أخره المصنف ليتبين أنه إنما رد فيما تقدم الدليل ولم يرد ¬

_ (¬1) عجز البيت للمتنبى، وعجزه: تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن (¬2) أحد الصحابة. (¬3) الحديث أخرجاه فى الصحيحين، البخارى فى الصلاة 88، ومسلم فى المساجد 97، 98 وغيرهما. (¬4) البيت لأبى النجم الراجز المشهور وهو فى المصباح ص 144.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المدلول، ثم فى كلام عبد القاهر تحرير، وهو أن كلا إن كانت فى حيز النفى بأن أخرت عن أداة النفى كانت لنفى الشمول لا لنفى كل فرد مثل قوله: ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه … تجرى الرّياح بما لا تشتهى السّفن (¬1) هذا على تقدير رواية الرفع، وقد جوز فيه ابن جنى النصب على إضمار فعل على شريطة التفسير فعلى هذا يكون من القسم الآخر، وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى، وكذلك إذا كانت معمولة للفعل المنفى، ولك أن تقول: إذا كانت معمولة للفعل كانت فى حيز النفى فلا ينبغى أن يجعل قسما برأسه، وكونها معمولة إما على جهة الفاعلية نحو: ما جاء كل القوم، وعبد القاهر مثله بما جاء القوم كلهم، وفيه نظر؛ لأن كلا ليست معمولة للفعل المنفى بالأصالة بل بالتبعية، وهى هنا للتأكيد، والذى أفاد نفى الشمول هو النفى عن القوم. أو كان على جهة المفعولية مثل لم آخذ كل الدراهم وعلى ما مثل به عبد القاهر فى الفاعل ينبغى أن يقول هنا: لم آخذ الدراهم كلها. (قلت): وذكره الفعل ليس للتقييد بل للوصف كذلك، تقول: لست آخذ كل الدراهم ليس القائم كل الرجال، والمراد الفعل الذى عمل فيه سواء كان متقدما أم متأخرا، وقد مثله بقوله كل الدراهم لم آخذ، وفيه نظر لما سنذكره فى آخر الكلام فليراجع. وقوله: (لنفى الشمول) أى لنفى المجموع وقوله: (خاصة) أى لا لكل واحد. قوله: (وأفاد ثبوت الفعل أو الوصف) ليشمل لم آخذ ولست آخذا، وهو إشارة لما قلناه من أن الوصف كالفعل. وقوله: (لبعض) أى أفاد الكلام ثبوت الفعل لبعض المشمولين فى جهة الفاعلية نحو: لم يقم كل الرجال أثبت قيام بعضهم. قوله: (أو تعلقه به) أى فى جهة المفعولية نحو: لم أضرب كل رجل، أفاد تعلق الضرب ببعضهم، وكذلك فى الوصف، مثل: ليس القائم كل رجل، لست الضارب كل أحد. ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى من قصيدة مطلعها: بم التعلل لا أهل ولا وطن … ولا نديم ولا كأس ولا سكن انظر: التبيان 2/ 478، ودلائل الإعجاز ص 284، وشرح المرشدى 1/ 88.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): وإفادة ذلك الثبوت للبعض فيه نظر، وإن ثبت ذلك فهو بمفهوم الصفة لا من نفس موضوع اللفظ. قوله: (وإلا عمّ) أى إن لم يكن كل فى حيز النفى عم الأفراد كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" كل ذلك لم يكن" (¬1) وقد تقدم الكلام عليه، ويستثنى من كلامه صورة يتقدم فيها كل، وهو سلب عموم سنعقد لها فرعا. (تنبيه): إذا قلت: انتفى كل رجل أو كل رجل منتف أو نفيت كل رجل فعموم النفى حاصل، ويكون النفى لكل واحد، لأنه متوجه على معنى كل، وهو كل واحد لا الاستغراق، والاستغراق الذى أفادته كل شمول المحكوم به لما أضيفت إليه كل، فإذا قلت: رجل قائم فالقيام مستغرق لكل فرد، فالمحكوم به مستغرق - أى اسم فاعل - ومدلول كل مستغرق - أى اسم مفعول - وسواء كان المحكوم به إثباتا أم نفيا كالإيجاب المعدول محموله، ومن هنا كان كل ذلك لم يكن للعموم، لأن معناه انتفى كل ذلك فالنفى محكوم به على كل فرد فعم جميع أفرادها. وفى قولك: لم يقم كل رجل دخل النفى على قام كل رجل وقام هو المسند وكل رجل مسند إليه فقبل دخول النفى دل قام على شمول القيام فجاء النفى لسلب الشمول فزال استغراق المحكوم به - وهو القيام - كأنك قلت: استغراق كل فرد لم يوجد. (تنبيه): علم مما سبق التفصيل بين أن تكون كل معمولة للنفى أو لا، فلو قال: كله لم أصنع بالرفع أو كله لم أصنعه بالضمير فهو سواء فى استغراق كل فرد، ولو نصب على الاشتغال فكذلك، قال الوالد: لأنك بنيت الكلام على كل وحكمت بالنفى عليها، لأن لم أصنعه فى معنى تركت كأنك قلت: تركته كله لم أصنعه، فإن قدرت منصوبا بتركت متقدمة على كله أو متأخرة أو بلم أصنع متأخرة محذوفة أو للم أصنع المنطوق فهو عموم سلب، وإن قدرته معمولا للم أصنع متقدمة فهو سلب عموم، ولذلك يقدر تركت كله لم أصنعه، فلو نصبت ولم تأت بضمير، فقد علم مما سبق أنه إذا وقعت معمولة تفيد سلب العموم، فمقتضى ذلك الإطلاق أنها هنا لسلب العموم فقط كقولك: لم أصنع كله، لأنه إن كان معمولا لفعل سابق فعامله تقدم أو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ للمنطوق به، فلم أصنع فى قوة المتقدم لأنه عامل، لكن فى كتاب سيبويه عند ذكر كله لم أصنع أن قال: وهذا ضعيف - أى حذف الضمير - وهو بمنزلته فى غير الشعر، لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك إضمار الهاء، كأنه قال: كله غير مصنوع اه. وهو يقتضى أنه لا فرق بين الرفع والنصب فى التقدير كله غير مصنوع، ويلزم منه أن النصب أيضا يفيد عموم السلب فيبعد كل البعد حمل كلام سيبويه على أنه فيهما لسلب العموم. وقد اختار الوالد صحة ما قاله سيبويه، وحمله على ظاهره، وعلله بأن اللفظ ابتدئ بكل، ومعناها كل فرد، فعاملها المتأخر فى معنى الخبر عنها، لأن السامع إذا سمع المعمول تشوق إلى عامله تشوق سامع المبتدأ إلى الخبر، فكان" كله لم أصنع" (¬1) منصوبا ومرفوعا سواء فى المعنى. (فرع): إذا قلت: صنع كل فرد منتف أو لم يكن لم يدل على نفى كل صنع بل على نفى الصنع المستغرق، لأنه المعمول على كل قبل دخول السلب، فافهم ذلك فإنه قد يخفى، ويظن أنه لأجل تقدم كل على النفى يحصل عموم السلب، وذلك إنما يكون إذا كان مدلولها محكوما عليه بالنفى والحكم بالنفى على محمولها لا على موضوعها غير أن الصيغة محتملة لذلك وغيره. (فرع): النهى كالنفى فلا تضرب كل رجل معناه لا تضرب المجموع، ولذلك قالوا: لو قال: والله لا كلمت كل رجل إنما يحنث بكلامهم كلهم فلو كلم واحدا لم يحنث، وهذا وإن لم يكن نهيا فهو فى حكمه، فإن قلت: قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ (¬2) وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ (¬3) ثبت الحكم فيه لكل فرد، قلت: بقرينة أو بجعل الأداة والإضافة للجنس، فإن قلت: فما تصنع فى قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (¬4) ونحوه من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (¬5) وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (¬6) وقوله ¬

_ (¬1) فى الأصل" صنع" والصواب ما أثبتناه. (¬2) سورة الأنعام: 151. (¬3) سورة الأنعام: 151. (¬4) سورة الحديد: 23. (¬5) سورة الحج: 38. (¬6) سورة النساء: 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (¬1)؟ قلت: السلب عن المجموع أعم من السلب عن كل فرد فقد يدل دليل من خارج على عموم السلب خلافا لعبد القاهر. (فرع): هذه الأحكام السابقة لا تختص بها كل بل غيرها من صيغ العموم كذلك فى الغالب، فنظير كل إنسان لم يقم الرجال لم يقوموا فى النفى وإِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (¬2) فى الإثبات ومن قام فأكرمه، ونظير لم يقم كل إنسان لم يقم الرجال لم يقم من فى الدار أو الرجل مرادا به العموم، وإن كانت كل أدل على التفصيل من غيرها، وقد حققنا هذا الموضع فى شرح مختصر ابن الحاجب، أما لم يقم إنسان فلا يقال: تأخرت فيه صيغة العموم وهى النكرة عن النفى، لأن النفى هو صيغة عموم النكرة فليتأمل. (فرع): ما ذكرناه لا تختص به صيغ العموم، بل كل ما دل على متعدد أو مفرد ذى أجزاء كذلك؛ فإذا قلت: ما رأيت رجالا أو ما رأيت رجلين أو ما أكلت رغيفا أو ما رأيت زيدا وعمرا كل ذلك سلب للمجموع لا لكل واحد بخلاف ما لو تقدم السلب. (فرع): ما قدمناه من أنه إذا تقدم النفى على كل لا يفيد الاستغراق هو فيما إذا لم ينتقض النفى بإلا فإن انتقض قبل المحمول فالاستغراق باق كقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (¬3) فهو لعموم السلب، وسببه أن النفى للمحمول وما بعد إلا لا يسلط النفى عليه لأنه مثبت، وهو فى المفرغ مسند لما قبلها، وهو كل فرد كما كان قبل دخول النفى والاستثناء، وعلى قياس هذا ما كل أحد إلا قائم وما كل ذلك إلا يكون، وكذلك لو كان ما بعد إلا منفيا مثل: ما كل رجل إلا لم يقم، وإن وقعت إلا بعد المحمول كانت لسلب العموم مثل: ما كل إنسان قائم إلا فى الدار. (فرع): قد علم حكم كل مع النفى فما حكمها مع الشرط؟ والذى يظهر أن تقدم كل على الشرط كتقدمها على النفى فيكون الشرط عاما لكل فرد، فإذا قلت: كل رجل إن قام فاضربه وكل عبد لى إن حج فهو حر فمن حج منهم عتق، فلو تقدم ¬

_ (¬1) سورة القلم: 10. (¬2) سورة العصر: 2. (¬3) سورة مريم: 93.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرط فقلت: إن حج كل عبد من عبيدى فهم أحرار لا يعتق أحد منهم حتى يحج جميعهم، ولو قال: إن حج كل عبد فهو حر فمن حج منهم عتق، ومن هذا الباب قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها (¬1). (تنبيه): يتلخص فى هذا الفصل أسئلة: الأول: قوله: لأنه - أى التقديم - دال على العموم يقتضى أنه ليس بالوضع فحينئذ لا عموم فى قولنا: قام كل رجل والأمر بخلافه. والثانى: قوله: لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس يقتضى أيضا أن العموم إنما عدلنا له بهذا المرجح لا بالوضع، وهو خلاف إجماعهم على أن كل عامة. الثالث: قوله: لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس، قلنا: سلمنا أن التأسيس راجح على التأكيد حيث التأكيد ليس فيه معنى زائد، وأما التأسيس بصيغة مؤكدة فهو خير من التأسيس دونها مثل: إن زيدا قائم فهو خير وأبلغ من زيد قائم، والواقع هنا من التأكيد هو هذا النوع لا ذاك. الرابع: أن ما ذكروه ينتقض بكل المضافة لمعرفة مثل: كل ذلك لم يكن، فدخول كل حينئذ يكون كعدمه لأن المعنى بذلك المذكور، وكذلك كل الرجال قائمون، لكن له أن يقول: لا يلزم من تعذر التأسيس فى محل تعذره فى غيره. الخامس: قوله: إن السالبة الجزئية تستلزم نفى الحكم عن الجملة يخدش فيه قولنا: بعض الإنسان لا يحمل الصخرة العظيمة فإنه صادق، ولا يلزم منه نفى الحكم عن كل فرد فرد لأنه يصدق، بل كلهم، لكن مراده بالجملة الجملة باعتبار كل فرد فرد لا الجملة باعتبار تجزى الفعل، وهذه الإشكالات على كلام ابن مالك. السادس: قول المصنف: إن لم يقم إنسان إذا أفاد النفى عن كل فرد فقد أفاد النفى عن الجملة يعنى فيكون لم يقم كل إنسان تأكيدا أيضا نقول عليه: إن سلمنا ذلك فلم يقم كل إنسان أفاد رفع الدلالة على كل فرد، وهذه فائدة تأسيسية، ولا نسلم أن اللفظ إذا أفاد تأسيسا وتأكيدا لا يكون خيرا من المفيد تأسيسا فقط، وهذا كقولك: أكرم الرجال الطوال لا يقال: رفع الدلالة ليس فائدة، لأنا نقول: قد يكون فى رفع الدلالة على الأفراد فائدة، إما لأنه يدل على قيام البعض بالمفهوم أو غير ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 146.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من الفوائد، وهذا على رأى عبد القاهر أوضح، لأنه يرى أن لم يقم كل إنسان يدل على قيام البعض. السابع: قوله: إن السالبة الكلية مقتضية لنفى الحكم عن كل فرد قد يمنع، ويقال: إنها اقتضت نفى الحقيقة من حيث هى هى، واستلزم ذلك نفى الحكم عن كل واحد وعن الجملة، وقد صرح جماعة بذلك فى أصول الفقه كما قدمناه، وحينئذ فلا يكون كل تأكيدا، بل دلت على معنى آخر، وهو نفى الحقيقة المستلزم لنفى الأفراد، وهذا وارد على المصنف وعلى ابن مالك. الثامن: قوله: إن النكرة المنفية سالبة كلية لا يصح، لأنه خارج عن اصطلاح القوم، بل هى فى حكمها. التاسع: قول ابن مالك والمصنف وعبد القاهر: إنه إذا تقدم النفى كانت لسلب العموم يدخل فيه ما إذا انتقض النفى نحو: ما كل رجل إلا قائم، وهو عموم سلب كما سبق. العاشر: تمثيله بما جاء القوم كلهم ليس بجيد، لأن كلهم هنا لا مسند ولا مسند إليه بل تأكيد، ولكن سلب العموم هنا فى الألف واللام فى القوم. الحادى عشر: فى كل الدراهم لم آخذ عموم سلب فيه نظر، لأنه إنما يكون ذلك إذا كان معمولا لفعل محذوف قبله، فإن كان معمولا لفعل محذوف بعده أو لهذا الفعل المذكور فمقتضى كلام سيبويه أنه لعموم السلب كما سبق. الثانى عشر: أنه يستثنى لو قلت: صنع كل ذنب لم يكن كان عموم سلب، وإن كانت كل متقدمة. الثالث عشر: على قول عبد القاهر: إن لم يقم كل رجل يقتضى قيام البعض، وليس كذلك، بل مسكوت عنه، وإلا لزم فى قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (¬1) ونحوه، وكذلك فى نحو: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (¬2). الرابع عشر: أن قولهم نفى الحكم عن كل فرد فرد يفيد النفى عن الجملة وقول الخطيبى: إنه لا يفيد بنفسه وإنما يفيد باللازم قد يمنع ويقال: النفى عن الأفراد فى ¬

_ (¬1) سورة لقمان: 18. (¬2) سورة الأنعام: 151.

تأخير المسند إليه

تأخير المسند إليه: وأمّا تأخيره: فلاقتضاء المقام تقديم المسند. إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: هذا كلّه مقتضى الظاهر؛ وقد يخرج الكلام على خلافه: أ - فيوضع المضمر موضع المظهر؛ كقولهم: (نعم رجلا) مكان: (نعم الرجل زيد) فى أحد القولين (¬1)، وقولهم: (هو أو هى زيد عالم) مكان الشأن أو القصة؛ ليتمكّن ما يعقبه فى ذهن السامع؛ لأنه إذا لم يفهم منه معنى، انتظره. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض الصور لا يلزم منه النفى عن الجملة، لأن قولنا: ليس كل رجل يحمل الصخرة العظيمة صادق باعتبار الأفراد كاذب باعتبار الجملة، فقد صح النفى عن الأفراد ولم يصح عن المجموع، فالنفى عن الأفراد لا يستلزم النفى عن الجملة بخلاف نفى الأفراد فإنه يستلزم نفى الجملة. الخامس عشر: أن قول عبد القاهر: إما أن تكون فى حيز النفى أو معمول الفعل المنفى تقسيم متداخل، لأنها إذا كانت معمولة للفعل المنفى كانت فى حيز النفى، وقد يجاب عنه بأن حيز النفى محله وهو النفى فقط والنكرة المنفية أقوى فى الدلالة على العموم من النكرة فى سياق النفى، ولذلك قال الآمدى فى أبكار الأفكار: إن النكرة فى سياق النفى لا تعم وإنما تعم النكرة المنفية. تأخير المسند إليه: ص: (وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند). (ش): أى تأخير المسند إليه يكون لقيام سبب يقتضى تقديم المسند، وسيأتى ذكر أسبابه إن شاء الله تعالى. إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: ص: (هذا كله مقتضى الظاهر وقد يخرج الكلام على خلافه فيوضع المضمر موضع المظهر إلخ). (ش): أى ما ذكرناه من هذه الأمور هو الجارى على مقتضى الظاهر، أى مقتضى القياس الوضعى، وقد يخرج المسند إليه على خلافه فيوضع المضمر موضع المظهر، ¬

_ (¬1) وهو قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف، لا على رأى من يجعله مبتدأ، ونعم رجلا خبر.

وقد يعكس: أ - فإن كان (¬1) اسم إشارة:، ف: 1 - لكمال العناية بتمييزه (¬2)؛ لاختصاصه بحكم بديع؛ كقوله [من البسيط]: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا! هذا الّذى ترك الأوهام حائرة … وصيّر العالم النّحرير زنديقا! ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد بوضع المظهر أن يتقدم ما يعود عليه كقولهم: نعم رجلا زيد فإن فى نعم ضميرا، وكان أصله نعم الرجل وزيد خبر مبتدأ أى هو زيد أو مبتدأ محذوف وخبره أى زيد هو، أما إذا قلنا: زيد مبتدأ ونعم الرجل خبره فليس من هذا الباب، لأن الضمير يعود على متقدم فى الرتبة وهذا الذى ذكره هو مثال، فإن كل ضمير يعود على متأخر فى اللفظ والرتبة كذلك مثل: ضرب غلامه زيد إذا جوزناه وكالمجرور برب وكالمعمول لأول المتنازعين، وكما إذا أبدل منه المفسر أو جعل خبره. وقوله: (هو أو هى زيد عالم) يريد ضمير الشأن مثل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (¬3) أصله الشأن الله أحد وقوله: أو هى زيد عالم صحيح على رأى البصريين، أما الكوفيون فعندهم أن تذكير هذا الضمير لازم، ووافقهم ابن مالك واستثنى ما إذا وليه مؤنث أو مذكر شبه به مؤنث أو فعل بعلامة تأنيث فيرجح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن، والمقصود من ذلك أن يتمكن من ذهن السامع ما يعقب الضمير لأنه بالضمير يتهيأ له ويتشوق، ويقال فى معنى ذلك: الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب، وسيأتى مثله فى باب التشبيه. ص: (قد يعكس إلخ). (ش): أى قد يوضع الظاهر موضع المضمر، فإن كان ذلك الظاهر اسم إشارة ففائدته كمال العناية فى ترك مقتضى الظاهر إلى غيره، ومنه قول ابن الراوندى (¬4): سبحان من وضع الأشياء موضعها … وفرّق العزّ والإذلال تفريقا كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذى ترك الأوهام حائرة … وصيّر العالم النّحرير زنديقا فإن أصله هو؛ أى ما تقدم ذكره من إعياء مذاهب العاقل ورزق الجاهل. ¬

_ (¬1) أى المظهر الذى وضع موضع المضمر. (¬2) أى تميز المسند إليه. (¬3) سورة الإخلاص: 1. (¬4) الأبيات لابن الراوندى، فى التبيان 1/ 158، الإيضاح ص 155، والمفتاح ص 197، والمصباح ص 29، وشرح عقود الجمان 1/ 91، ومعاهد التنصيص 1/ 147، وشرح السعد ص 450.

2 - أو التهكّم بالسامع، كما إذا كان فاقد البصر. 3 - أو النداء على كمال بلادته. 4 - أو فطانته. 5 - أو ادّعاء كمال ظهوره (¬1)؛ وعليه (¬2) من غير هذا الباب (¬3) [من الطويل]: تعاللت كى أشجى وما بك علّة … تريدين قتلى قد ظفرت بذلك ب - وإن كان غيره، ف: 1 - لزيادة التمكين، نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ (¬4)، ونظيره من غيره (¬5): وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (¬6). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإما لإرادة التهكم بالسامع) أى الاستهزاء به، وأصل التهكم (¬7) فقلب، كما إذا كان السامع أعمى أو ضعيف البصر فتشير إلى شئ موضع الإضمار تهكما به، أو لا يكون ثم مشار إليه، أو الإعلام بكمال بلادته أو فطانته كما سبق، أى لأنه لا يدرى غير المحسوس، أو لأنه من فطنته تكون الأشياء بالنسبة إليه كالمحسوسة فيشار لها أو ادعاء أنه كامل الظهور فلا يخفى. ومنه من غير باب المسند إليه قول عبد الله بن الدمينة: تعاللت كى أشجى وما بك علّة … تريدين قتلى قد ظفرت بذلك وقد قلت للعوّاد كيف ترونه … فقالوا قتيلا قلت أيسرها لك (¬8) فمقتضى الظاهر أن يقول: قد ظفرت به. ص: (وإن كان غيره فلزيادة التمكين إلخ). (ش): أى إن كان الظاهر غير اسم الإشارة فيؤتى به بدلا عن الضمير لزيادة التمكين - أى التقرير والتثبيت - حتى يكون مستحضرا لا يزول عن البال نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ففى إعادة لفظ الجلالة هذا المعنى، ونظيره من غير المسند إليه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ إن كان الحق الثانى هو الحق الأول، وقد يؤتى ¬

_ (¬1) أى ظهور المشار إليه. (¬2) أى على وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادعاء كمال الظهور. (¬3) أى باب المسند إليه. (¬4) سورة الإخلاص: 1 - 2. (¬5) أى نظير قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ من غير باب المسند إليه. (¬6) سورة الإسراء: 105. (¬7) وأصل التهكم: عبارة غير مفهومة، ولعله سقط من الناسخ ما يستقيم به المعنى. (¬8) البيتان لابن الدمينة فى ديوانه ص 16، والمفتاح ص 197، والتبيان للطيبى 1/ 158، والإيضاح ص 76، ونهاية الإيجاز ص 110، وأورده بدر الدين بن مالك فى المصباح ص 29.

2 - أو إدخال الرّوع فى ضمير السامع وتربية المهابة. 3 - أو تقوية داعى المأمور. مثالهما: قول الخلفاء: أمير المؤمنين يأمرك بكذا، وعليه من غيره (¬1): فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (¬2). 4 - أو الاستعطاف؛ كقوله [من الوافر]: إلهى عبدك العاصى أتاكا ـــــــــــــــــــــــــــــ بالظاهر لإدخال الروع فى ضمير السامع وتربية المهابة أو تقوية داعية المأمور، ومثالهما قول الخلفاء أمير المؤمنين يأمرك بكذا، والأصل أنا آمرك. قوله: (ومن غيره) أى غير المسند إليه على وضع الظاهر موضع المضمر لتقوية داعية المأمور لا للروع [مثل] (¬3): فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (¬4) أى علىّ. وقول المصنف: ومثالهما بعد أن عطف تربية المهابة بالواو وتقوية الداعية بأو دليل أنه يوهم أن الروع والمهابة واحد، وليس كذلك، بل الروع والفزع والمهابة الإجلال قال: أهابك إجلالا وما بك قدرة … علىّ ولكن ملء عين حبيبها (¬5) وقد يقصد به الاستعطاف كقوله: إلهى عبدك العاصى أتاكا … مقرا بالذّنوب وقد دعاكا فإن تغفر فأنت لذاك أهل … وإن تطرد فمن يرحم سواكا (¬6) ¬

_ (¬1) أى على وضع المظهر موضع المضمر لتقوية داعى المأمور من غير باب المسند إليه. (¬2) سورة آل عمران: 159. (¬3) كلمة ليست بالأصل يستقيم بها المعنى. (¬4) سورة آل عمران: 159. (¬5) البيت من الطويل، وهو للمجنون فى ديوانه ص 58، ولنصيب بن رباح فى ديوانه ص 68، وتلخيص الشواهد ص 201، وسمط اللآلى ص 401، وشرح التصريح 1/ 176، والمقاصد النحوية 1/ 537، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 1/ 215، وشرح الأشمونى 1/ 101، وشرح ابن عقيل ص 123، وشرح عمدة الحافظ ص 273. (¬6) البيتان لإبراهيم بن أدهم، وانظر: المصباح ص 30، المفتاح ص 198، الإيضاح ص 67، الإشارات ص 55، معاهد التنصيص 1/ 170، شرح عقود الجمان 1/ 92.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصله أنا أتيتك، ولقائل أن يقول فى هذا المثال وكثير مما سبق بل فى هذا الباب كله: هلا جعل ذلك من باب التجريد، فلا يكون الظاهر موضوعا موضع المضمر؛ فإن معنى الضمير هو المجرد منه ومعنى الظاهر المجرد، وهما مختلفان قطعا! بقى على المصنف من أسباب هذا القسم أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف نحو: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (¬1) بعد قوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أو تعظيم الأمر مثل: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (¬2) أو التنبيه على العلية، قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬3)، ومنه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ (¬4) لأن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. (تنبيه): ربما كان وضع الظاهر بغير لفظ الأول مثل: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (¬5) لأن إنزال الخير مناسب للربوبية، وأعاده بلفظ الله لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية. (تنبيه): أنكر بعض البيانيين أن يكون قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ (¬6) من وضع الظاهر موضع المضمر وقد قدمنا الكلام فيه عند الكلام على تعريف المسند إليه فليراجع. (فائدة): تتعلق بوضع الظاهر موضع المضمر سئل عنها والدى رحمه الله، وأجاب فأحببت ذكر السؤال والجواب بنصيهما. أما السؤال وهو نظم الشيخ العلامة صلاح الدين الصفدى فهو: أسيّدنا قاضى القضاة ومن إذا … بدا وجهه استحيا له القمران ومن كفّه يوم النّدى ويراعه … على طرسه بحران يلتقيان ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 158. (¬2) سورة العنكبوت: 19، 20. (¬3) سورة البقرة: 59. (¬4) سورة النساء: 64. (¬5) سورة البقرة: 105. (¬6) سورة آل عمران: 26.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن إن دجّت فى المشكلات مسائل … جلّاها بفكر دائم اللّمعان رأيت كتاب الله أكبر معجز … لأفضل من يهدى به الثّقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره … بإيجاز ألفاظ وبسط معانى ولكنّنى فى الكهف أبصرت آية … بها الفكر فى طول الزمان عنانى وما هى إلا استطعما أهلها فقد … ترى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغرّاء فى وضع ظاهر … مكان ضمير إنّ ذاك لشان فأرشد على عادات فضلك حيرتى … فما لى بها عند البيان يدان وأما الجواب فهو: الحمد لله. قوله: استطعما أهلها متعين واجب، ولا يجوز مكانه استطعماهم لأن استطعما صفة للقرية فى محل خفض جارية على غير من هى له كقولك: أتيت أهل قرية مستطعم أهلها، لو حذفت أهلها هنا وجعلت مكانه ضميرا لم يجز، فكذلك هذا لا يسوغ من جهة العربية شئ غير ذلك إذا جعلت استطعما صفة لقرية وجعله صفة لقرية، سائغ عربى لا ترده الصناعة ولا المعنى، بل أقول: إن المعنى عليه، أما كون الصناعة لا ترده فلأنه ليس فيه إلا وصف نكرة بجملة كما توصف سائر النكرات بسائر الجمل، والتركيب محتمل لثلاثة أعاريب، أحدها هذا، والثانى أن تكون الجملة فى محل نصب صفة لأهل، والثالث أن تكون الجملة جواب إذا، والأعاريب الممكنة منحصرة فى الثلاثة لا رابع لها، وعلى الثانى والثالث يصح أن يقال: استطعماهم، وعلى الأول لا يصح لما قدمناه، فمن لم يتأمل الآية كما تأملناها ظن أن الظاهر وقع موضع المضمر أو نحو ذلك وغاب عنه المقصود، ونحن بحمد الله وفقنا الله للمقصود ولمحنا تعين الإعراب الأول من جهة معنى الآية ومقصودها، وأن الثانى والثالث وإن احتملهما التركيب بعيدان عن مغزاها، أما الثالث وهو كون الجملة جواب إذا فلأنه تصير الجملة الشرطية معناها الإخبار باستطعامهما عند إتيانهما وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويجل مقام موسى والخضر عليهما السّلام عن تجريد قصدهما وأن يكون معظمه أو هو طلب طعمة أو شئ من الأمور الدنيوية، بل كان القصد ما أراد ربك أن يبلغ اليتيمان أشدهما: وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 82.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإظهار تلك العجائب لموسى عليه السّلام، فجوابه إذا قوله: قالَ لَوْ شِئْتَ (¬1) إلى تمام الآية، وأما الثانى وهو كونه صفة لأهل فى محل نصب، فلا تصير العناية إلى شرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر فى ذلك، ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إلى القرية نفسها، ألا ترى إلى قوله: فَوَجَدا فِيها ولم يقل عندهم، وأن الجدار الذى قصد إصلاحه وحفظه وحفظ ما تحته جزء من قرية مذموم أهلها، وقد تقدم منهم سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع طلبه، وللبقاع تأثير فى الطباع، فكانت هذه القرية حقيقة بالإفساد والإضاعة فقوبلت بالإصلاح لمجرد الطاعة فلم يقصد إلا العمل الصالح، ولا مؤاخذة بفعل الأهل الذين منهم غاد ورائح فلذلك قلت: إن الجملة يتعين من جهة المعنى جعلها صفة لقرية ويجب معها الإظهار دون الإضمار، وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثانى يحتمل أن يكونوا هم الأول أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على بعضهم، ثم قد يستقرئهم، فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتياها قدر الله لهما لما يظهر من حسن صنيعه استقراء جميع أهلها على التدريج ليتبين به كمال رحمته وعدم مؤاخذته بسوء صنيع بعض عباده، ولو أعاد الضمير فقال: استطعماهم تعين أن يكون المراد الأولين لا غير، فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه، وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى، ومع ذلك قابلهم بأحسن الجزاء! فانظر هذه المعانى والأسرار كيف غابت عن كثير من المفسرين واحتجبت تحت الأستار حتى ادعى بعضهم أن ذلك تأكيد وادعى بعضهم غير ذلك وترك كثير التعرض لذلك رأسا؟! وبلغنى عن شخص أنه قال: إن اجتماع الضميرين فى كلمة واحدة مستثقل فلذلك لم يقل استطعماهم! وهذا شئ لم يقله أحد من النحاة، ولا له دليل، والقرآن والكلام الفصيح ممتلئ بخلافه، وقد قال تعالى فى بقية الآية: يُضَيِّفُوهُما وقال تعالى: فَخانَتاهُما (¬2) وقال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَنا (¬3) فى قراءة الحرميين وابن عامر، وألف موضع هكذا، وهذا القول ليس بشئ، وليس ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 77. (¬2) سورة التحريم: 10. (¬3) سورة الزخرف: 38. وقراءة أبى جعفر وشيبة وقتادة والزهرى والجحدرى أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هو قولا حتى يحكى! وإنما لما قيل نبهت عن رده، ومن تمام الكلام فى ذلك أن استطعما إذا جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون اتفق قبل الإتيان هذه المرة، وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير، وقوله: فَوَجَدا معطوف على أَتَيا. وكتبته فى ليلة الثلاثاء ثالث ذى القعدة سنة خمسين وسبعمائة بدمشق، ثم بعد ذلك استحضرت آية أخرى، وهى قوله تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (¬1) وإن كانت هذه جملتين، ووضع الظاهر موضع المضمر إنما يحتاج إلى الاعتذار عنه إذا كان فى جملة واحدة، ولكن سئل عن سبب الإظهار هنا والإضمار فى مثل قوله تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (¬2) وخطر لى فى الجواب أنه لما كان المراد من مدائن لوط إهلاك القرى صرح فى الموضعين بذكر القرية التى يحل بها الهلاك كأنها اكتسبت الظلم منهم واستحقت الإهلاك معهم، ولما كان المراد من قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم حيث كانوا ولم يهلك بلدهم أتى بالضمير العائد على ذواتهم من حيث هى لا تختص بمكان ولا يدخل معها مكان، وقد قلت: لأسرار آيات الكتاب معانى … تدقّ فلا تبدو لكلّ معانى وفيها لمرتاض لبيب عجائب … سنى برقها يعنو له القمران إذا بارق منها لقلبى قد بدا … هممت قرير العين بالطّيران سرورا وإبهاجا وصولا على العلا … كأن على هام السّماك مكانى وهاتيك منها قد أبحت كما ترى … فشكرا لمن أولى بديع بيان وإنّ حياتى فى تموّج أبحر … من العلم فى قلبى تمدّ لسانى وكم من كناس فى حماى مخدّر … إلى أن أرى أهلا ذكى جنان فيصطاد منّى ما يطيق اقتناصه … وليس له بالشّاردات يدان مناى سليم الذّهن ريض ارتوى … بكلّ علوم الخلق ذو لمعان ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: 31. (¬2) سورة القصص: 32.

تفسير السكاكى للالتفات

السكاكىّ: هذا غير مختصّ بالمسند إليه، ولا بهذا القدر، بل كلّ من التكلّم والخطاب والغيبة مطلقا (¬1): ينقل إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتا؛ كقوله (¬2) [من المتقارب]: تطاول ليلك بالأثمد ... ـــــــــــــــــــــــــــــ فذاك الذى يرجى لإيضاح مشكل … ويقصد للتّحرير عند عيان وكم لى فى الآيات حسن تدبّر … به الله ذو الفضل العظيم حبانى بجاه رسول الله قد نلت كلّ ما … أتى وسيأتى دائما بأمان فصلّى عليه الله ما ذرّ شارق … وسلّم ما دامت له الملوان اه كلام الوالد، ومن خطه نقلته. تفسير السكاكى للالتفات: ص: (السكاكى: هذا غير مختص بالمسند إليه ولا بهذا القدر إلخ). (ش): الإشارة بقوله: هذا إما إلى نقل الكلام عن ضمير المتكلم إلى اسم ظاهر كما سبق فى قول: الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا أو إلى كل واحد من التكلم والخطاب والغيبة مطلقا، أى سواء كان مسندا إليه أم غيره، وسواء كان من متكلم أم غيره، ويسمى هذا النقل التفاتا قال ابن الأثير فى كنز البلاغة: ويسمى شجاعة العرب اه. ومنهم من يجعل الالتفات نقل الكلام من حالة إلى أخرى مطلقا، وجعل منه ابن النفيس فى طريق الفصاحة التعبير عن المضارع بالماضى وعكسه، وجعل غيره منه الانتقال من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لغيره، وهو أقرب شئ للالتفات المشهور لمشابهته له فى الانتقال من أحد أساليب ثلاثة لآخر، وفى انقسامه إلى ستة أقسام، وسنفرده بالذكر. وفسر السكاكى الالتفات بنقل واحد من التكلم والخطاب والغيبة إلى الآخر، يعنى أنه التعبير بإحدى هذه الطرق عما عبر به أو كان من مقتضى الظاهر أنه يعبر عنه ¬

_ (¬1) أى وسواء كان فى المسند إليه أو غيره وسواء كان كل منها واردة فى الكلام أو كان مقتضى الظاهر إيراده. (¬2) هو لامرئ القيس فى ديوانه 344، والإيضاح ص 195، والمصباح ص 35. والأثمد: موضع، بفتح الهمزة وضم الميم، وعجزه: ونام الخلى ولم ترقد.

والمشهور (¬1): أنّ الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها، وهذا أخصّ: مثال الالتفات من التكلّم إلى الخطاب: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (¬2). وإلى الغيبة: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ بغيره، والمشهور أن الالتفات التعبير عن معنى بإحدى الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق أخرى، وهو أخص من الأول لأن نحو قول الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا التفات عند السكاكى دون غيره. وقول السكاكى: خلاف الظاهر أعم من أن تكون مخالفة الظاهر لفظية لا معنوية كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ (¬4) فإن سقناه على وفق الظاهر معنى لأنه جاء على الأصل، وعلى خلاف الظاهر لفظا لأن لفظ الجلالة للغيبة. أو تكون مخالفته للظاهر معنوية لا لفظية مثل أمير المؤمنين يأمرك بكذا أو معنوية ولفظية مثل: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. والسكاكى لم يصرح بما أراده بقوله: خلاف الظاهر، هل يريد بحسب اللفظ أو المعنى؟ لكن دلنا على أن ذلك مراده جعله فى أبيات امرئ القيس التى ستأتى ثلاث التفاتات، لكن مخالفة الظاهر فى المعنى لا فى اللفظ شرط كونها التفاتا أن لا يوافق لفظا سابقا فإن وافقه فليس التفاتا، فحاصله أن الالتفات عند السكاكى إتيان الكلام على أسلوب مخالف لأسلوب سابق مطابقا أو لم يسبقه غيره والمعنى يقتضى خلافه، وقد قسموا الالتفات إلى ستة أقسام. الأول: الالتفات من التكلم إلى الخطاب، ومثلوه بقوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الأصل وإليه أرجع، فالتفت من التكلم إلى الخطاب، قلت: وفيه نظر لجواز أن يكون أراد بقوله ترجعون المخاطبين ولم يرد نفسه، ويؤيده ضمير الجمع، ولو أراد نفسه لقال يرجع، وعلى قول السكاكى يحتمل أن يكون المراد وما لكم والثانى فى ترجعون لأن وما لى مخالف للظاهر معنى وترجعون مخالف للظاهر لفظا، وقد قدمنا أن مخالفة الظاهر بأيهما كان التفاتا. ¬

_ (¬1) هذا مذهب الجمهور. (¬2) سورة يس: 22. (¬3) سورة الكوثر: 1 - 2. (¬4) سورة فاطر: 9.

ومن الخطاب إلى التكلم [من الطويل]: طحا بك قلب فى الحسان طروب … بعيد الشّباب عصر حان مشيب تكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها … وعادت عواد بيننا وخطوب ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أنه سيأتى على كون الآية المذكورة فيها التفات سؤال وجواب عند الكلام على أدوات الشرط. الثانى: التفات من التكلم إلى الغيبة كقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (¬1) كذا قالوه. قلت: وفيه نظر سأذكره فى آخر الكلام. الثالث: التفات من الخطاب إلى التكلم، ومنه قول علقمة بن عبدة الشاعر صاحب امرئ القيس المعروف بعلقمة الفحل، وليس عبدة بفتح الباء غيره: طحا بك قلب فى الحسان طروب … بعيد الشّباب عصر حان مشيب تكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها (¬2) … وعادت عواد بيننا وخطوب (¬3) فالتفت فى قوله: تكلفنى عن قوله: بك من الخطاب إلى التكلم، وهذا مما خالف فيه الظاهر لفظا لا معنى، وفى هذين عند السكاكى التفاتان، أحدهما: بك لمخالفته الظاهر معنى والثانى: تكلفنى لمخالفته لفظا. قلت: وقد قيل: إن الرواية يكلفنى بالياء، والضمير للقلب، وليلى مفعول، فلا التفات فى تاء المتكلم، لأن الظاهر أن يكلفنى حينئذ صفة لقلب، ويكون من تمام الجملة الأولى، والالتفات لا يكون إلا فى جملتين مستقلتين كما سيأتى، ويجوز أن يكون بالتاء ويخاطب قلبه، ففى تكلفنى حينئذ التفاتان، أحدهما فى تاء الخطاب لانتقاله إليه عن أسلوب الغيبة السابق فى قوله: قلب، والثانى فى ياء المتكلم المنتقل إليها عن بك. ¬

_ (¬1) سورة الكوثر: 1، 2. (¬2) انظر: ديوان علقمة الفحل ص 33، المصباح ص 32، المفتاح ص 107، الإيضاح ص 68، شرح عقود الجمان 1/ 118، معاهد التنصيص 1/ 173، طبقات فحول الشعراء 1/ 139، الشعر والشعراء 1/ 221، العمدة 1/ 57. (¬3) الولى: القرب والدنو، وأنشد أبو عبيد: وشطّ ولى النّوى إنّ النّوى قذف … تيّاحة غربة بالدّار أحيانا انظر: اللسان (ول ى).

وإلى الغيبة: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ (¬1). ومن الغيبة إلى التكلم: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ (¬2) وإلى الخطاب: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابع: من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ فقد التفت عن كنتم إلى جرين بهم، وفيه خروج عن الظاهر لفظا ومعنى. الخامس: من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فقد التفت عن الغيبة وهى مالك إلى الخطاب وهو إياك نعبد، وفى إياك خروج عن الظاهر لفظا ومعنى، وعلى قول السكاكى يكون فيه التفاتان، وسنتكلم عليه. السادس: من الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ وفى التمثيل به نظر لما سيأتى، وفى فسقناه خروج عن الظاهر لفظا لا معنى، وقد وقعت التفاتات فى قول امرئ القيس: تطاول ليلك بالأثمد … ونام الخلىّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة … كليلة ذى العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءنى … وخبّرته عن أبى الأسود (¬4) فقيل: فيه ثلاث التفاتات فى كل بيت واحد، وهذا ظاهر على قول السكاكى فإن قلت: ينبغى أن يكون فيه على قوله أكثر من ذلك لأن فى ولم ترقد التفاتا؛ ففى الأول التفاتان. قلت: قد قدمنا أن مجيئه على خلاف الظاهر معنى إذا كان موافقا للظاهر لفظا لا يعتبر نعم يرد عليه أنه يمكن أن يقال: إن فى الثالث التفاتين، أحدهما فى ذلك، والثانى فى وخبرته، فيكون فى الأبيات الثلاثة أربع التفاتات، ولم أقل: والآخر فى جاءنى لما سيأتى، ولأجل توهم هذا السؤال ذهب بعض الناس إلى أن فى الأبيات سبع التفاتات: ليلك، وترقد، وبات، وله، وذلك، وجاءنى، وخبرته. وقيل: أربع، وهى: ليلك، وذلك، وجاءنى، وخبرته. ¬

_ (¬1) سورة يونس: 22. (¬2) سورة فاطر: 9. (¬3) سورة الفاتحة: 4 - 5. (¬4) الأبيات لامرئ القيس فى ديوانه ص 334، وفى المصباح ص 35. والأثمد: موضع، بفتح الهمزة وضم الميم.

ووجهه (¬1): أنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب: كان أحسن تطرية (¬2) لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه؛ وقد تختصّ مواقعه بلطائف كما فى الفاتحة؛ فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد عن قلب حاضر، يجد من نفسه محرّكا للإقبال عليه، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام، قوى ذلك المحرّك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمتها المفيدة: أنه مالك الأمر كله فى يوم الجزاء، فحينئذ: يوجب الإقبال عليه، والخطاب بتخصيصه بغاية الخضوع، والاستعانة فى المهمّات. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما على رأى المصنف فلا التفات فى البيت الأول، وفى الثانى التفاتة واحدة، فتعين أن يكون فى الثالث التفاتان، فقيل: هما فى قوله: جاءنى، أحدهما باعتبار انتقاله عن الغيبة، والثانى باعتبار انتقاله عن الخطاب، وفيه نظر لأن الالتفات إنما يعتبر بالنسبة إلى الأسلوب الذى يليه. وقيل: أحدهما فى قوله: ذلك، والآخر فى قوله: جاءنى. قال المصنف: وهذا أقرب. قلت: يفسده أن أرباب هذا العلم شرطوا أن يكون الالتفات فى جملتين ولا يكون فى جملة واحدة، وإنما قلنا: إنه يلزم الالتفات فى جملة واحدة لأن جاءنى إن كان خبر ذلك فواضح وإلا فهو معمول لما قبله، وقد يرد هذا بأنه لا مفر من الالتفات فى جملة واحدة، لأن ذلك خطاب وجاءنى تكلم فلزم الالتفات فى جملة واحدة بكل حال، وسنتكلم على جواز الالتفات فى جملة واحدة. فإن قلت: هل يجوز أن يكون الالتفات الثالث فى قوله: عن أبى الأسود فإنه يعنى أباه فالتفت عن التكلم إلى الغيبة؟ قلت: لا، لأن أبا الأسود علم، وأيضا فأبو الأسود لم يقع موقع ياء المتكلم فى قوله: أبى بل موقع الاسم المضاف إليها وهو أب - والأحسن أن يجعل الالتفات الثانى فى ذلك والثالث فى وخبرته. ص: (ووجهه أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب إلخ). (ش): أى ووجه الالتفات أن الكلام إذا نقل من أسلوب لآخر كان أحسن تطرية (¬3) - أى أشهى للقلب - لأن لذات النفوس فى التنقلات لما جبلت عليه من الضجر ويكون ذلك أكثر إصغاء، وقال فى المثل السائر فى قول الزمخشرى: إن ¬

_ (¬1) وجه حسن الالتفات. (¬2)، (¬3) أى: تجديدا وإحداثا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح، لأن الكلام الحسن لا يمل، ورده صاحب الفلك الدائر بأن المستلذ قد يمل لكثرته، وربما اختص مواقعه - أى مواضع وقوعه بلطائف - كما فى الفاتحة فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحمده ثم ذكر صفاته التى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، والخطاب يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه فيخاطب من هذه صفاته مستعينا على قضاء مهماته، وقد ذكر فى الالتفات فى إياك لطائف غير هذه. (تنبيه): اعلم أنى لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظى، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه، ثم فى كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام فى أربعة أمور: الأول: فى كشف الغطاء عن حقيقته: اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره كما سبق، وهو نقل معنوى لا لفظى فقط، وشرطه أن يكون الضمير فى المنتقل إليه عائدا فى نفس الأمر إلى الملتفت عنه، يحترز عن مثل: أكرم زيدا وأحسن إليه، فضمير أنت الذى هو فاعل أكرم غير الضمير فى إليه وليس التفاتا، وإنما قلت: فى نفس الأمر لأنه بطريق الادعاء يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول فى محله باعتبار الواقع فى نفس الأمر فقلت: إنى أخاطبك فأجب المخاطب كنت أعدت الضمير فى المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك وأمرته بأن يجيبه فضمير الغيبة واقع موقعه، وكذلك: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (¬1) جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها. وفى قوله: طحا بك على رأى السكاكى جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع فى محله فهو التفات وتجريد، وعلى رأى غيره هو تجريد فقط. وفى قوله: تكلفنى التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول فيلزم أن يكون الضميران - وهما الكاف والياء - لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثانى، فإن الحقيقة المجردة هى باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها وباعتبار التجريد غيرها، فذلك ¬

_ (¬1) سورة يس: 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الذى جرده فى قوله: بك هو فى نفس الأمر نفسه فالتفت له بهذا الاعتبار، وبهذا علمنا أن الالتفات فى بك على رأى السكاكى أوضح من الالتفات الذى فى تكلفنى على قولهما، لأن فى بك خروجا عن ضمير المتكلم إلى شئ لا وجود له بالكلية وفى تكلفنى خروج عن الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المجرد عنها، فهو عدول إلى الأصل وبك عدول إلى الفرع، والعدول إلى الفرع أبلغ من العدول إلى الأصل. وقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ (¬1) جرد فيه من المخاطبين مثلهم، وعاد الضمير عليهم فهو تجريد والتفات، فالضميران فى نفس الأمر لشئ واحد وبالادعاء لشيئين. وقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (¬2) فى لفظ الجلالة منه على رأى السكاكى التفات وتجريد وعلى رأى غيره تجريد فقط. وقوله تعالى: فَسُقْناهُ التفات على رأيهما، لأنه عائد على الله تعالى حقيقة والكلام فيه كالكلام فى تكلفنى ليلى. وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ التفات على رأى السكاكى، وتجريد وَإِيَّاكَ التفات لا تجريد على بحث فيه، وسيأتى بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى. الثانى: فى الفرق بين التجريد والالتفات، وقد علم مما سبق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه: فيوجد التجريد دون الالتفات كقولك: رأيت منه أسدا ومثل: تطاول ليلك على رأى الجمهور، والالتفات دون التجريد نحو: تكلفنى ليلى ونحو: فَسُقْناهُ، والتفات وتجريد نحو: فَصَلِّ لِرَبِّكَ ولا واحدا منهما كغالب القرآن. الثالث: فى وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه بالنسبة إلى الالتفات فعند السكاكى قد يجتمع وضع الظاهر موضع المضمر مع الالتفات كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (¬3) وأمير المؤمنين يأمرك بكذا وقد ينفرد الالتفات نحو: تطاول ليلك، وليس فيه وضع الظاهر موضع مضمر، بل وضع مضمر موضع مضمر، وقد ينفرد وضع الظاهر عن الالتفات كقوله تعالى: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬4) فإن أصله أنه لتقدمه فى قوله: أَحَبُّ إِلى ¬

_ (¬1) سورة يونس: 22. (¬2) سورة فاطر: 9. (¬3) سورة فاطر: 9. (¬4) سورة يوسف: 8.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَبِينا (¬1) وأما وضع المضمر موضع الظاهر فينفرد عن الالتفات فى نحو: نعم رجلا زيد وربه رجلا لأن الضمير والظاهر كلاهما على أسلوب الغيبة، وينفرد الالتفات عنه كثيرا نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬2) ونحو: (وبات وباتت له ليلة) ويجتمعان فى نحو: قول الخليفة: نعم الرجل أمير المؤمنين. وأما على رأى السكاكى فوضع الظاهر موضع المضمر والالتفات قد يجتمعان مثل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ (¬3) وقد ينفرد الالتفات، وهو الغالب مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقد ينفرد وضع الظاهر مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ (¬4) ونحو: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (¬5) ووضع المضمر موضع الظاهر لا يجتمع مع الالتفات، لأن الالتفات لا بد فيه من ضمير سابق يلتفت عنه ومع ذلك فلا موقع للظاهر، ولكن ينفرد وضع المضمر فى نعم رجلا زيد، وينفرد الالتفات فى غير ذلك. الرابع: فى أن الالتفات حقيقة أو مجاز: إذا تأملت ما سبق علمت أنه حقيقة حيث كان معه تجريد وحيث لم يكن فسنتكلم إن شاء الله على كون التجريد حقيقة أو لا فى موضعه، وإذا تأملت ما حققناه وعرضت لك فيه وقفة فراجع ما ذكره السكاكى من أسباب الالتفات فى أبيات امرئ القيس يتضح لك ما قلناه، وقد صرح فى أثناء كلامه بلفظ التجريد، وصرح الخطيبى فى باب التجريد أن الالتفات تجريد، والتحقيق ما تقدم من التفصيل. (تنبيه): قالوا: لا يكون الالتفات إلا فى جملتين، وقد صرح بذلك الزمخشرى فى أوائل تفسيره، والظاهر أنهم إنما يريدون بالجملتين الكلامين المستقلين حتى يمتنع الالتفات بين الشرط وجوابه مثلا وكلام البيانيين فى إيجاز الحذف وغيره يبين أنهم إنما يريدون بالجملة الكلام المستقل بنفسه، فأما قول الشاعر: أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة … سمعنا به والأرحبىّ المغلّب (¬6) ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 8. (¬2) سورة الفاتحة: 5. (¬3) سورة الكوثر: 2. (¬4) سورة الفاتحة: 2. (¬5) سورة فاطر: 9. (¬6) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الدرر 1/ 283، ورصف المبانى ص 26، والمغرب 1/ 63، وهمع الهوامع 1/ 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فليس منه لأن الضميرين أحدهما على اللفظ والآخر على المعنى، وشيخنا أبو حيان توهم أن ذلك من الالتفات لأنه لم يحقق معنى الالتفات وظن أنه أمر لفظى، وكذلك ظن أن منه قراءة من قرأ (إياك يعبد) بالياء مضمومة فى يعبد، وليس منه، والظاهر أنها مبنية على جواز أنا قام بالقياس على جواز أنا رجل قام، ولا يصح هذا القياس لأن شرط ذلك أن يتقدم ما لفظه لفظ الغيبة من موصول أو موصوف، نعم قد ظفرت فى القرآن الكريم بمواضع قد يقال: إن الالتفات فيها وقع فى كلام واحد وإن لم يكن من جزأى الجملة، منها قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي (¬1)، ومنها قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (¬2)، ومنها قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ (¬3) بعد قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ التقدير: إن وهبت امرأة نفسها للنبى أحللناها لك، وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد، فإن قلت: قد وقع الالتفات أيضا بين الشرط والجواب فى قول كثير: أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة … لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (¬4) قال الجوهرى: خاطبها ثم غايب. قلت: لا نسلم أن هذا التفات، بل روعى فيه لفظ مقلية فجاء على الغيبة كقولك: أنت رجل قام وأنت مقلية تقلت، كما تقدم فى قوله: أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة … سمعنا به ... وقول الجوهرى:" إنه خاطبها ثم غايب" يمكن حمله على ما قلناه، ولئن سلمنا أنه التفات فنقول: ليس قوله: لا ملومة جواب الشرط بل دليله على مذهب البصريين، ولا يمتنع اختلاف الجواب ودليله فى الخطاب والغيبة، ولو امتنع ذلك أو قلنا: إنه جواب ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: 23. (¬2) سورة القصص: 59. (¬3) سورة الأحزاب: 50. (¬4) البيت من الطويل، وهو لكثير عزة فى ديوانه ص 101، ولسان العرب 1/ 96 (سوأ)، 13/ 115 (حسن)، 15/ 198 (قلا)، والتنبيه والإيضاح 1/ 21، وتهذيب اللغة 4/ 318، والأغانى 9/ 38، وأمالى القالى 2/ 109، وتزيين الأسواق 1/ 124، وتاج العروس 1/ 274 (سوأ)، (قلى).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ على مذهب الكوفيين فالجواب أن الالتفات وقع بقوله: لا ملومة، والتقدير لا هى ملومة، ومنها قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (¬1) فيقول: ومنها قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (¬2) بل فيه التفاتان أحدهما بين أرسلنا والجلالة والثانى بين الكاف فى أرسلناك ورسوله، وكل منهما فى كلام واحد، ومنها قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ (¬3) ومنها: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ (¬4) جوز الزمخشرى فيه أن يكون ضمير جزاؤكم يعود على التابعين، قال: على طريق الالتفات، وهو ينافى ما تقدم عنه وعن غيره، ومنها قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ (¬5) على قراءة الياء، قال الزمخشرى: على طريقة الالتفات، وهو أيضا ينافى ما تقدم، ثم كان الزمخشرى مستغنيا عن ادعاء الالتفات بأن يعيد الضمير فى ترجعون إلى نفس الناس فلا يكون التفاتا، ومنها ما قاله التنوخى فى الأقصى القريب: إن الواو فى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً (¬6) واو الحال يلزمه وقوع الالتفات فى كلام واحد، ومنها: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (¬7) لأن فطرنى وترجعون كلام واحد، فإن كان القائل: إن الالتفات لا يكون فى جملة واحدة، يعنى به جملة طرفاها مفردان، ويجوز وقوعه بين جملتين لهما محل واحد معمولتين لشئ واحد أو بين جملة ومتعلق بها لم ينتقض كلامه بشئ مما سبق. (تنبيه): قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ (¬8) وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬9) اتفقوا على أنه التفات واحد، وفيه نظر، لأن الزمخشرى ومن تبعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا يلزمهم أنه إن كان التقدير قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ ففيه التفاتان، أعنى فى الكلام المأمور بقوله أحدهما فى لفظ الجلالة فإن الله تعالى حاضر فأصله الحمد لك، والثانى إياك لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق، وإن لم يقدر قولوا: كان فى الحمد لله التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله سبحانه حمد نفسه، ولا يكون فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 17. (¬2) سورة الفتح: 8، 9. (¬3) سورة آل عمران: 151. (¬4) سورة الإسراء: 63. (¬5) سورة البقرة: 281. (¬6) سورة المائدة: 12. (¬7) سورة يس: 22. (¬8) سورة الفاتحة: 2. (¬9) سورة الفاتحة: 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التفات لأن قولوا مقدرة معها قطعا، وأحد الأمرين لازم للزمخشرى والسكاكى، إما أن يكون فى الآية التفاتان أو لا يكون فيها التفات بالكلية، هذا إن فرعنا على رأى السكاكى وهو مقتضى كلام الزمخشرى لأنه جعل فى أبيات امرئ القيس ثلاثا وإن فرعنا على رأى الجمهور ولم نقدر قولوا: الحمد لله فلا التفات لأنا نقدر قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإن قدرنا قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد فى إياك وبطل قول الزمخشرى: إن فى أبيات امرئ القيس ثلاث التفاتات. (تنبيه): ما تقدم يقتضى أن أسلوب الغيبة لا فرق فيه بين أن يكون فيه ضمير غائب أو لا، بدليل تمثيلهم كما سبق بقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (¬1) فقد جعلوا لفظ الجلالة ملتفتا عنه، وهذا كثير فى كلامهم، وفيه نظر ينبغى أن يفصل بين أن يكون الاسم الظاهر مشتملا على ضمير غائب أو لا فإن كان مشتملا على ضمير مستتر أو كان فى الكلام ضمير غائب فيكون ذلك أسلوب غيبة والنقل عنه أو إليه التفاتا، وإن كان فى الكلام اسم ظاهر لا ضمير فيه فأين أسلوب الغيبة ونسبة الاسم الجامد إلى المتكلم والمخاطب والغائب على السواء؟! وإنما يبتدر الذهن من قول الشخص عن نفسه أو مخاطبه: فعل زيد إلى أنه غير المتكلم والمخاطب لغلبة الاستعمال، ولأن العدول عن الضمير الصريح فى تكلم أو خطاب إلى الاسم الجامد قرينة إرادة الغيبة فإن الأعلام وضعها إنما كان للتمييز والذى يحتاج للتمييز غالبا هو الغائب، فإن ضميره لا يستقل لاحتياجه إلى مفسر، وأما عود ضمير الغيبة على العلم فلاستقباح أن يقول الشخص عن نفسه: زيد فعلت لما فيه من التنافر، ولذلك لم تمتنع رعاية المعنى فى جملة أخرى فيقول الشخص عن نفسه: زيد قام وقعدت رعاية للمعنى لا للالتفات، فليس تعبير المتكلم عن نفسه أو مخاطبه بالعلم إلا وضع الظاهر موضع المضمر، غير أن هذه اصطلاحات لا مشاحة فيها. (تنبيه): ذكر التنوخى فى الأقصى القريب وكذلك ابن الأثير فى كنز البلاغة وابن النفيس فى طريق الفصاحة نوعا غريبا من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه فيكون التفاتا عنه كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (¬2) ¬

_ (¬1) سورة فاطر: 9. (¬2) سورة الفاتحة: 7.

ومن خلاف المقتضى: المخاطب بغير ما يترقّب بحمل كلامه على خلاف مراده، تنبيها على أنه هو الأولى بالقصد؛ كقول القبعثرى للحجّاج - وقد قال له متوعّدا: لأحملنّك على الأدهم! -: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! خ خ (¬1) أى: من كان مثل الأمير فى السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفد لا أن يصفد (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد أَنْعَمْتَ فإن المعنى غير الذى غضب عليهم، وفيه نظر، ونحن إذا كنا توقفنا فى أن الانتقال إلى الاسم الجامد التفات فهذا أولى لأن الفاعل فى المغضوب مثلا لم يذكر بالكلية فكيف يقال: انتقلنا إليه على سبيل الالتفات؟! وإن صح ذلك فعلى رأى السكاكى يلزمه أن تكون جميع الأفعال المبنية للمفعول فيها التفات. (تنبيه): توهم بعضهم أن فى نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا (¬3) التفاتا، وليس كذلك، لأنه إذا أراد التفات اركعوا عن آمنوا لم يصح، لأن الصلة يأتى ضميرها غائبا، وإن كان المراد المخاطب لم يصح لأن لها لفظا ومعنى كما تقول: أنت الذى قام وأنت الذى قمت، وإن أراد التفات اركعوا عن الذين فإن الذين أسلوب غيبة والمنادى أسلوب غيبة لم يصح، لأن المنادى مخاطب فى المعنى فإن الإقبال عليه بالنداء كذكر ضميره، ولهذا يجوز أن تقول: يا تميم كلكم، وهذا قريب مما توهمه شيخنا أبو حيان فى قوله: أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة … سمعنا به ... (تنبيه): مما هو قريب من الالتفات وليس منه إذ ليس فيه انتقال من أحد الأساليب الثلاثة لغيره الانتقال من أحد أساليب ثلاثة، وهى التثنية والجمع والإفراد، إلى الآخر، وأقسامه كالالتفات ستة من أسلوب لأسلوب، وسيأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ص: (ومن خلاف المقتضى تلقى المخاطب إلخ). (ش): هذا هو الذى سماه السكاكى الأسلوب الحكيم، وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة، وهو من خلاف المقتضى بالفتح، أى مقتضى الظاهر، وهو قسمان: ¬

_ (¬1) فحمل الأدهم فى كلام الحجاج على الفرس الأدهم - وهو الذى غلب سواده حتى ذهب البياض الذى فيه - وضم إليه الأشهب أى الذى غلب بياضه حتى ذهب سواده، ومراد الحجاج إنما هو القيد، فنبه القبعثرى على أن الحمل على الفرس الأدهم هو الأولى بأن يقصده الأمير. (¬2) يصفد كيكرم: بمعنى يعطى، ويصفد كيضرب بمعنى يقيد لكنه فى ط الحلبى: فجدير بأن يصعد لا أن يصفد فليراجع!. (¬3) سورة الحج: 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: تلقى المخاطب - بالكسر - بغير ما يترقب، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد إليه، وإنما قلنا: بكسر الطاء ليعود الضمير فى كلامه إليه لأنه لا يصدق عليه قبل تلقيه لما يتوقع أنه مخاطب - بالفتح - حقيقة كقول القبعثرى للحجاج - وقد قال له الحجاج متوعدا له بالقتل: لأحملنك على الأدهم - مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب! فأراد الحجاج أن يقيده فتلقاه القبعثرى بغير ما يترقبه من فهمه التوعد بألطف وجه مشيرا إلى أن من كان مثله من السلطنة إنما يناسبه أن يجود بأن يحمل على الأدهم والأشهب من الخيل ويكون جديرا بأن يصفد بضم الياء أى يعطى لا أن يصفد بفتحها أى يشد ويوثق، وكذا قوله حين قال له فى الثانية: إنه حديد، قال: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا. وهذا القسم قريب أو هو من تجاهل العارف بزيادة إشارة إلى سفه رأى المخاطب، وهو قريب من القول بالموجب، وسيأتيان فى البديع، والقيد يسمى أدهم، سمى بذلك لسواده قال: أوعدنى بالسّجن والأداهم (¬1) وقال جرير: لقطع المساحى أو لجدل الأداهم (¬2) … هو القين وابن القين لا قين مثله قال ابن سيده: كسروه تكسير الأسماء وإن كان فى الأصل صفة لأنه غلب عليه الاسم، ومن هذا قوله: ¬

_ (¬1) الرجز للعديل بن الفرخ فى خزانة الأدب 5/ 310، 189، 188، والدرر 6/ 62، والمقاصد النحوية 4/ 190، وتاج العروس (دهم)، وبلا نسبة فى ديوان الأدب 3/ 266، وإصلاح المنطق ص 294، 226، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 21، وشرح شذور الذهب ص 572، وشرح ابن عقيل ص 510، وشرح المفضل 3/ 70، وتاج العروس 9/ 307 (وعد)، ومقاييس اللغة 6/ 125، ولسان العرب 3/ 463 (وعد)، 12/ 210 (دهم)، ومجالس ثعلب ص 274، وهمع الهوامع 2/ 127، وتهذيب اللغة 3/ 134، ومجمل اللغة 4/ 539، والمخصص 12/ 221. (¬2) البيت من الطويل، وهو لجرير فى ديوانه ص 198، ولسان العرب 2/ 546 (قطع)، 12/ 210 (دهم)، وبلا نسبة فى المقتضب 2/ 229.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أتت تشتكى عندى مزاولة القرى … وقد رأت الضّيفان ينحون منزلى فقلت كأنّى ما سمعت كلامها … هم الضّيف جدّى فى قراهم وعجّلى (¬1) كذا جعله المصنف منه، وفيه نظر. (تنبيه): صفد بمعنى أوثق وأصفد بمعنى أعطى خلاف الغالب، فإن الغالب استعمال الرباعى والخماسى فى الشر والثلاثى فى الخير إما جزما أو على راجح ومرجوح، مثل: وعدنى الخير وأوعدنى الشر، وشفى وأشفى - كذا على قول - وقوى البناء إذا اشتد وأقوى إذا انهدم، وخفرت الرجل أجرته وأخفرته تركته، وكسب واكتسب، قال الله سبحانه وتعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (¬2) وحمل واحتمل، قال: تحت العجاج فما شققت غبارى … أعلمت يوم عكاظ حين لقيتنى فحملت برّة واحتملت فجار (¬3) … أنّا اقتسمنا خطّتينا بيننا وأمطر فى الشر وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً (¬4) ومطر فى الخير، قال ابن سيده: الثلاثى للأعم، وجاء على العكس ترب إذا افتقر وأترب إذا استغنى - على قول - وحبسته عن حاجته واحتبست الفرس فى سبيل الله، وقسط إذا جار وأقسط إذا عدل. ¬

_ (¬1) البيتان لحاتم الطائى فى التبيان 2/ 357، والشاهد فى أنه أجابها بغير ما تتطلب من الشكوى، وقوله: ينحون، بمعنى: يقصدون، قراهم: إضافتهم. (¬2) سورة البقرة: 286. (¬3) البيتان من الكامل، وهما للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 54 - 55، والبيت الأول فى أساس البلاغة (خطط)، وفيه" أرأيت" مكان" أعلمت"، و" خططت" مكان" شققت"، والبيت الثانى له فى إصلاح المنطق ص 336، وخزانة الأدب 6/ 333، 330، 327، والدرر 1/ 97، وشرح أبيات سيبويه 2/ 216، وشرح التصريح 1/ 125، وشرح المفصل 4/ 53، والكتاب 3/ 274، ولسان العرب 4/ 52 (برر)، 5/ 48 (فجر)، 11/ 174 (حمل)، والمقاصد النحوية 1/ 405، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر 1/ 349، وجمهرة اللغة ص 463، وخزانة الأدب 6/ 287، والخصائص 2/ 198، 3/ 265، 261، وشرح الأشمونى 1/ 62، وشرح عمدة الحافظ ص 141، وشرح المفصل 1/ 38، ولسان العرب 13/ 37 (أنن)، ومجالس ثعلب 2/ 464، وهمع الهوامع 1/ 29، وتاج العروس (أنن). (¬4) سورة النمل: 58.

أو السائل بغير ما يتطلّب؛ بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيها على أنه الأولى بحاله، أو المهمّ له؛ كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (¬1)، وكقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (أو السائل إلخ). (ش): القسم الثانى من هذا الباب تلقى السائل بغير ما يتطلب، وذلك بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم، وعندى أن هذا من القسم الأول إلا أن فيه سؤالا فهو أخص من هذا الوجه وأعم باعتبار أنه ليس فيه حمل الكلام على غير ظاهره، فهو بهذا الاعتبار أجدر بأن يمثل له لا الذى قبله بقوله: أتت تشتكى - البيتين - وحاصله يرجع إلى العدول عن الجواب إلى غيره كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ لما قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يتزايد حتى يستوى ثم ينقص حتى يعود كما بدا! وكقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الآية. والسبب فى هذا تنبيه السائل على أنه كان الأحرى به أو الأهم أن يسأل عما وقع الجواب عنه، وقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جاء عمرو بن الجموح - وهو شيخ كبير له مال عظيم - فقال: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت (¬3) فعلى هذا ليست هذه الآية مما نحن فيه، لأن السائل لم يتلق بغير ما يتطلب بل أجيب عن بعض ما سأل عنه، ومن ذلك أجوبة موسى عليه الصلاة والسّلام لفرعون: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (¬4) إلى آخرها، وآية الأهلة مثال لما كان السؤال فيه وقع عما لا حاجة لهم إليه مع ترك ما هم محتاجون له إشارة إلى أنه كان من حقهم أن يسألوا عن مواقيت الحج لا عن كبر الهلال وصغره إذ لا فائدة تحته، وآية الإنفاق مثال لما سألوا عنه وكان مهما إلا أن غيره أهم منه، كذا قالوه وفيه نظر. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 179. (¬2) سورة البقرة: 215. (¬3) أخرج ابن المنذر عن ابن حبان قال:" إن عمرو بن الجموح سأل النبى صلّى الله عليه وسلّم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ ... * الآية فهذا موضع نفقة أموالكم". ورد بهذا اللفظ كما فى" الدر المنثور"، (1/ 437). (¬4) سورة الشعراء: 23، 24.

ومنه: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضى؛ تنبيها على تحقّق وقوعه؛ نحو: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (¬1)، ومثله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (¬2) ونحوه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ومنه التعبير عن المستقبل إلخ). (ش): من خلاف المقتضى التعبير عن المستقبل بلفظ الفعل الماضى كقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ (¬4) الآية. وفى نسخ التلخيص فصعق، وهو من طغيان القلم. وفى آية الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ وكذلك: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ (¬5) وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ (¬6) ودخل عبد الرحمن بن حسان عليه وقد لسعه زنبور وهو طفل فقال وهو يبكى: لسعنى طوير كأنه ملتف فى بردى حبرة؛ فضمه إلى صدره وقال: يا بنى قد قلت الشعر! واعلم أن ما ورد من ذلك على قسمين: تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع فيؤتى بالأمر المستقبل بصيغة الفعل الماضى مرادا به المضى تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضى بل يكون فيه جعل المستقبل ماضيا، ومنه قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (¬7)، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ (¬8) ونحوه، فإما أن يريد بأتى أتت مقدماته فيكون التجوز حصل فى الفعل باعتبار الحدث لا باعتبار الزمان، وإما أن يريد بالادعاء أن الإتيان المستقبل وقع فى الماضى، وهو أبلغ من الأول وتارة يعبر عن المستقبل بالماضى مرادا به المستقبل فهو مجاز لفظى وحصل التجوز فى هيئة الفعل من غير أن تكون أردت وقوعه فى الماضى، وذلك احتمال مرجوح فى نحو: ونادى، وإن كان مشهورا فإن المعنى على الأول أمكن وأنصع، ويتعين للقسم الثانى نحو: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ (¬9) لا يمكن أن يراد به المضى لمنافاة ينفخ الذى هو مستقبل فى الواقع فى الإرادة، ويحتمل أن يراد أنهم لمبادرتهم النفخ بالصعق كأن ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 68. (¬2) سورة الذاريات: 6. (¬3) سورة هود: 103. (¬4) سورة النمل: 87. (¬5) سورة الكهف: 47. (¬6) سورة الأعراف: 48. (¬7) سورة النحل: 1. (¬8) سورة الأعراف: 44. (¬9) سورة النمل: 87.

ومنه: القلب (¬1)؛ نحو: عرضت الناقة على الحوض. ـــــــــــــــــــــــــــــ صعقهم ماض عن زمن النفخ على سبيل المبالغة، ونظير الآية الكريمة قوله تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ (¬2) وفى مثل هذا النوع يكون فائدة التعبير بالماضى الإشارة إلى استحضار التحقق وأنه من شأنه لتحققه أن تعبر عنه بالماضى وإن لم ترد معناه، والقسم الأول مجاز، وهذا القسم ليس فيه مجاز إلا من جهة اللفظ فقط. قوله: (ومثله) أى ومثل التعبير عن المستقبل بغير لفظه اسم الفاعل واسم المفعول باعتبار المستقبل كقوله تعالى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (¬3) وقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (¬4) فإن اسم الفاعل ليس حقيقة للاستقبال فهو من خلاف المقتضى (قلت): وهذا ليس مثل ما سبق فإن فيه التعبير عن المستقبل بما يدل على الحال لا بما هو للمضى، فيحمل كلام المصنف على أنه مثله فى التعبير عن المستقبل بغيره لا بالمضى، فإن اسم الفاعل حقيقة فى الحال اتفاقا مجاز فى المضى على الصحيح، والقسمان السابقان فى الفعل يأتيان فى اسم الفاعل، قد يقصد به الاستقبال وقد يقصد به وقوع الفعل فى الحال أو فى الماضى. ص: (ومنه القلب (¬5) نحو: عرضت الناقة على الحوض إلخ). (ش): اعلم أنه لا بد من تقديم مقدمتين: إحداهما أن القلب تارة نعنى به قلبا لفظيا فقط وتارة معنويا، مثال الأول: قطع الثوب المسمار؛ نعنى به أن الثوب مفعول وترفعه والمسمار فاعل وتنصبه وكل منهما باق على ما هو له من فاعلية ومفعولية، ومثال الثانى: قطع الثوب المسمار، تريد أن الثوب هو لمبادرته بالتقطع كأنه هو الذى قطع المسمار فهذا قلب معنوى، لأنك تخيلت الفعل واقعا من الثوب على المسمار وأسندت له على سبيل المجاز، وكذلك إذا قلت: الأسد كزيد تارة تقصد أن زيدا مشبه والأسد مشبه به، وإنما أدخلت كاف التشبيه على المشبه قلبا لفظيا إن صح هذا التركيب لهذا المعنى، وتارة تريد أن تجعل الأسد مشبها فى المعنى فيكون قلبا معنويا. ¬

_ (¬1) هو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه. (¬2) سورة الشورى: 44. (¬3) سورة الذاريات: 6. (¬4) سورة هود: 103. (¬5) هو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه.

وقبله السكاكىّ مطلقا. وردّه غيره مطلقا. والحق: أنه إن تضمّن اعتبارا لطيفا، قبل؛ كقوله [من الرجز]: ومهمه مغبرّة أرجاؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه ـــــــــــــــــــــــــــــ المقدمة الثانية أن القلب تارة يكون بين الفاعل والمفعول مثل:" قطع الثوب المسمار"، وتارة بين المفعولين مثل:" جعلت الخزف طينا"، وتارة يكون بين المبتدأ والخبر مثل:" الأسد كزيد"، وتارة بين مفعول صريح وغيره مثل:" عرضت الناقة على الحوض" و" أدخلت القلنسوة فى رأسى"، وتارة بين الشرط وجوابه كما سيأتى فى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ (¬1) وغير ذلك. إذا تقرر هذا فنقول: حكى النحاة فيه أقوالا، أحدها أن ذلك يجوز فى الكلام والشعر اتساعا لفهم المعنى كقوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ (¬2) المعنى لتنوء العصبة بها، وكقوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (¬3) وكقولهم: عرضت الناقة على الحوض وأدخلت القلنسوة فى رأسى، وقول الشاعر: كانت فريضة ما تقول كما … كان الزّناء فريضة الرّجم (¬4) وإليه ذهب أبو عبيدة، وأجازه أبو على فى قوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ (¬5) أى فعميت عليها؛ الثانى أنه لا يجوز لمجرد الضرورة؛ الثالث أنه لا يجوز إلا للضرورة، وتضمن الكلام معنى يصح معه القلب؛ الرابع أنه لا يجوز فى غير القرآن، ولا يجوز أن يحمل القرآن عليه. هذا ما ذكره النحاة، وأما البيانيون فقد قال المصنف: إن السكاكى قبله مطلقا ورد غيره مطلقا، والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا قبل كقوله: ومهمه مغبرّة أرجاؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه (¬6) ¬

_ (¬1) سورة النحل: 98. (¬2) سورة القصص: 76. (¬3) سورة القصص: 12. (¬4) البيت من الكامل، وهو للنابغة الجعدى فى ديوانه ص 35، ولسان العرب 14/ 359 (زنى)، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 373. ورواية عجزه: " كأن الزناء ... " (¬5) سورة القصص: 66. (¬6) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغنى 2/ 971، ولسان العرب 15/ 98 (عمى)، ومعاهد التنصيص

أى: لونها. وإلا ردّ؛ كقوله [من الوافر]: كما طيّنت بالفدن السّياعا ـــــــــــــــــــــــــــــ المراد أنه بالغ فى الغبار حتى صار لون الأرض كلون السماء من شدة الغبار، وكان الأصل كأن لون سمائه أرضه، وإن لم يتضمن فلا كقوله وهو القطامى: فلمّا أن جرى سمن عليها … كما طيّنت بالفدن السّياعا (¬1) يصف ناقته بالسمن، والفدن القصر، والسياع الطين بالتبن، أصله كما طينت بالسياع الفدن فليس فى القلب معنى لطيف، ويروى بطنت، كذا رأيته فى الصحاح للجوهرى وحلية المحاضرة للحاتمى والتوسعة لابن السكيت، وجعله قلبا، وفيه نظر لأنه يجوز أن يريد أنه جعل القصر بطانة للطين لأنه داخله فلا قلب، وكل ما كان ظهارة لغيره كان الغير بطانة له، وبعد أن كتبت ذلك رأيت فى حلية المحاضرة أن الأصمعى قال: ليس هذا قلبا إنما يريد أن الحافر رك الخيل ومنعه أن يخرج من اليد أو الرجل. قلت: والذى يظهر أن الخلاف إن كان فى القلب اللفظى فهذا يتعلق بالنحاة لا البيانيين، والظاهر حينئذ أنه ضرورة، بل لا ينبغى حكاية الخلاف فيه، بل لا تكاد تجد ¬

_ - 1/ 178، ومغنى اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس 9/ 89 (كبد)، (عمى)، والمصباح ص 42، والإشارات ص 59، والمفتاح ص 113، وتأويل مشكل القرآن ص 151، وشرح عقود الجمان 1/ 98، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 637، 636، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبى فى فقه اللغة ص 202. وفيه" وبلد" مكان" ومهمه"، والمهمه: الأرض القفر والمفازة. (¬1) البيت من الوافر، وهو للقطامى فى ديوانه ص 40 يصف ناقته، وأساس البلاغة ص 336 (فدن)، وجمهرة اللغة ص 845، وشرح شواهد المغنى 2/ 972، ولسان العرب 5/ 315 (قيذ)، 8/ 170 (سيع)، ومغنى اللبيب 2/ 696، والمفتاح ص 211، والنوادر ص 526، ومعاهد التنصيص 1/ 179. وعجزه فى المصباح ص 41، ويروى" السباعا" وبعده: أمرت بها الرجال ليأخذوها … ونحن نظن أن لن تستطاعا والفدن: القصر، والسياع: الطين المخلوط تبنا تدهن به الأبنية، يعنى أن ناقته صارت ملساء من السمن كالقصر المطين بالسياع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ له دليلا لأنه ما من محل يدعى فيه ذلك إلا جاز أن يكون القلب فيه معنويا، وإن كان الخلاف فى القلب المعنوى فينبغى القطع بجوازه ولا شبهة لمنعه، ومن يمنع المجاز مع العلاقة الواضحة إلا من شذ؟! وظاهر كلام النحاة جريان قولين بالمنع والجواز مطلقين، وأن القول الثالث السابق مفصل بين اللفظى فيمتنع والمعنوى فيجوز، والظاهر أنه لا تحقيق له وأن الخلاف منزل على حالتين، وكذلك الأقوال التى حكاها المصنف فيها نظر، فإنه لا يكاد أحد يمنع ذلك مطلقا، وكيف ينكر قلب التشبيه وقد جزم به المصنف كما سيأتى؟! وقد وقع فى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ (¬1) وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (¬2) وقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (¬3) وقال ابن السكيت فى قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (¬4) معناه خلق العجل من الإنسان. ثم فى صحيح البخارى فى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ (¬5) أن المعنى إذا استعذت فاقرأ. وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (¬6) وسيأتى الكلام على هذه الآية الكريمة فى باب قلب التشبيه من علم البيان. (تنبيه): قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ (¬7) جعله الزمخشرى من القلب مثل: عرضت الناقة على الحوض، وأنكره شيخنا أبو حيان وقال: لا ينبغى حمل القرآن على القلب إذ الصحيح أنه ضرورة، وإذا كان المعنى صحيحا دونه فما الحامل عليه؟! وليس فى قولهم: عرضت الناقة على الحوض ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض والحوض على الناقة صحيحان. قلت: لم ينفرد الزمخشرى بجعل عرضت الناقة على الحوض مقلوبا، بل ذكره الجوهرى وغيره، وحكمته أن المعروض ليس له اختيار، والاختيار إنما هو للمعروض عليه فإنه قد يقبل وقد يرد، فعرض الحوض على الناقة لا قلب فيه، لأنها تقبله وقد ترده، وعرضها عليه مقلوب لفظا، وعرض الكفار على النار كما قال ابن ¬

_ (¬1) سورة النحل: 17. (¬2) سورة البقرة: 275. (¬3) سورة الأحزاب: 32. (¬4) سورة الأنبياء: 37. (¬5) سورة النحل: 98. (¬6) سورة الجاثية: 23. (¬7) سورة الأحقاف: 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس رضى الله عنهما، وهو الذى يظهر ليس بمقلوب لفظا للمعنى الذى أشرنا إليه، وهو أن الكفار مقهورون فكأنهم لا اختيار لهم، والنار متصرفة فيهم، وهم كالمتاع الذى يتصرف فيه من يعرض عليه، كما قالوا: عرضت الجارية على البيع وعرضت القاتل على السيف والجانى على السوط، فالنار لما كانت هى المتصرفة فى العود قيل: عرضت العود على النار، وهذا الذى قلناه غير ما قاله شيخنا وغير ما قاله الزمخشرى وحاصله أن الذى فى الآية قلب معنوى ولا شذوذ فيه، والذى فى عرضت الناقة قلب لفظى، وهو شاذ، والحق ما قلناه إن شاء الله تعالى، على أن ابن السكيت قال فى كتاب التوسعة فى كلام العرب: تقول: عرضت الحوض على الناقة وإنما هو عرضت الناقة على الحوض، وهذا يقتضى أن عرضت الناقة على الحوض غير مقلوب وأن العبارة المشهورة عكس كلام العرب فقد خالف غيره نقلا ومعنى. (تنبيه): قال الخفاجى فى سر الفصاحة: إن قوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ (¬1) ليس من القلب فى شئ، والمراد - والله تعالى أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة أى تميلها، ونقله عن الفراء وغيره، قال: وكذلك: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (¬2) ليس المراد أن حبه للخير لشديد بل إنه لحب المال لشديد والشدة البخل، وأنه لا قلب فى قول أبى الطيب: وعذلت أهل العشق حتّى ذقته … فعجبت كيف يموت من لا يعشق (¬3) ليس معناه عجبت كيف لا يموت من يعشق؟ بل معناه كيف المنية غير العشق؟! أى الأمر الذى تقرر فى النفوس أنه أعلى مراتب الشدة هو الموت ولما ذقت العشق وعرفت شدته عجبت، كيف يكون هذا الصعب المتفق على شدته غير العشق؟! وكيف يجوز أن لا يعم غلبة حتى تكون منايا الناس كلهم به؟! وقال أيضا فى قول أبى الطيب الذى سنتكلم عليه فى علم البيان: نحن قوم ملجنّ فى زىّ ناس ¬

_ (¬1) سورة القصص: 76. (¬2) سورة العاديات: 8. (¬3) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 495.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنه استعارة كما قال غيره، وابن جنى حمله على القلب، وأن المعنى: نحن قوم من الإنس فى زى الجن. (تنبيه): أهمل المصنف أمورا كثيرة من إتيان الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كل منها يصلح أن يكون من أبواب المعانى إذا اعتبرت فيه نكتة لطيفة، منها انتقال الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لخطاب الآخر، ذكره التنوخى وابن الأثير، وهو ستة أقسام: الأول: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين نحو قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (¬1). الثانى: الانتقال من خطاب الواحد إلى الجمع كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (¬2). الثالث: من الاثنين إلى الواحد كقوله تعالى: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (¬3). الرابع: من الاثنين إلى الجمع كقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (¬4). الخامس: من الجمع إلى الواحد نحو: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (¬5). السادس: من الجمع إلى التثنية نحو قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ (¬6) إلى قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ووجهه ما سبق فى الالتفات، وهذا القسم قريب من الالتفات؛ لأن فيه الانتقال من أحد أساليب ثلاثة إلى آخر، وأقسامه كالالتفات ستة، وليس التفاتا لأن الالتفات الانتقال من أحد الأساليب الثلاثة السابقة وهى التكلم والخطاب والغيبة إلى غيره. ومنها التعبير بواحد من المفرد والمثنى والمجموع، والمراد الآخر، والفرق بين هذا والذى قبله أن الأول لم يعبر فيه بمفرد عن جمع أو تثنية ولا عكسه، بل استعمل كل فى معناه، ثم انتقل عنه لغيره، وما نحن فيه عبر فيه بأحد الأساليب الثلاثة وأريد غيره، وهو أقسام: ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 99. (¬2) سورة التحريم: 4. (¬3) سورة طه: 49. (¬4) سورة يونس: 87. (¬5) سورة يونس: 87. (¬6) سورة الرحمن: 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: التعبير بالمفرد وإرادة التثنية، وجعل منه الحاتمى فى حلية المحاضرة قول الأعشى: فرجّى الخير وانتظرى إيابى … إذا ما القارظ العنزىّ آبا (¬1) وإنما هما قارظان من عنزة، وإنما قالوا كذلك لأنهما صارا كالشيئين اللذين لا يغنى أحدهما عن الآخر، فإنهما يعبر عنهما بصيغة المفرد، إما فى المسند كقولهم: عيناه حسنة أو فى المسند إليه كقولهم: عينه حسنتان، وجعلوا من هذا الباب: قد سالم الحيّات منه القدما (¬2) على رفع الحيات، أى القدمين على أحد الأعاريب، ومنه: وميّة أجمل الثّقلين جيدا … وسالفة وأحسنه قذالا (¬3) وقد ورد ذلك بين الشيئين وإن لم يكن بينهما شدة اتصال مثل قوله: ولكن هما ابن الأربعين تتابعت … أنابيبه مردى حروب على بعد ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لبشر بن أبى خازم فى ديوانه ص 26، ولسان العرب 7/ 455 (قرظ)، 14/ 310 (رجا)، وتهذيب اللغة 9/ 67، والمستقصى 1/ 128، وجمهرة الأمثال 1/ 124، ومجمع الأمثال 1/ 75، وتاج العروس 20/ 257 (قرظ)، (رجا)، وبلا نسبة فى كتاب العين 5/ 133، وجمهرة اللغة ص 763، وديوان الأدب 1/ 354، والاشتقاق ص 90، وفصل المقال ص 473. (¬2) الرجز لمساور ابن هند العبسى فى لسان العرب 5/ 366 (ضنمر)، 12/ 356 (ضرزم)، ولمساور ابن هند العبسى أو لأبى حيان الفقعسى فى التنبيه والإيضاح 2/ 244، وللدبيرى أو لعبيد بن علس فى تاج العروس (ضرزم)، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة 1/ 331، 3/ 311، وجمهرة اللغة ص 1139، والمخصص 16/ 106، وتاج العروس (شجعم)، وفيه: عبل المشاش فتراه أهضما … تحسب فى الأذنين منه صمما قد سالم الحيات منه القدما (¬3) البيت من الوافر، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص 1521، والأشباه والنظائر 2/ 106، وخزانة الأدب 9/ 393، والخصائص 2/ 419، والدرر 1/ 183، وشرح المفصل 6/ 96، ولسان العرب 11/ 88 (ثقل)، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب 1/ 349، ورصف المبانى ص 168، وشرح شذور الذهب ص 536، وهمع الهوامع 1/ 59، وفيه" أحسن" مكان" أجمل"، و" وأحسنهم" مكان" وأحسنه".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أنشده الفارسى مع أنه كان يمكن أن يقول ابنا، وذهب ابن مالك إلى أن ذلك ينقاس، ومنعه غيره، ووجهه الإشارة إلى أن الشيئين امتزجا وصارا كالشئ الواحد. الثانى: التعبير بالمفرد وإرادة الجمع، ووجهه ما سبق، أنشد الحاتمى: وذبيان قد زلّت بأقدامها النّعل (¬1) وجعل منه استعمال من الموصولة لجمع، ويوافقه قول ابن مالك: إنها فى اللفظ مفرد مذكر، وفيه نظر، والظاهر أن لفظها ليس فيه إفراد ولا جمع فلا يصح وصفه بواحد منهما، قال: وأنشدوا: فإنّ زمانكم زمن خميص (¬2) … كلوا فى بعض بطنكم تعفّوا ومنه: هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (¬3) … وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم على أحد الأقوال. الثالث: التعبير بالمثنى عن المفرد، ووجهه إرادة التأكيد بتقسيم الشئ إلى شيئين وتسمية كل منهما باسمه، والإشعار بإرداة تكرار الفعل، وأن الفعلين امتزجا، وصار حضور أحدهما حضورا للآخر، وجعلوا منه: ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت من الطويل، وصدره:" تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها" وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 109، ولسان العرب 6/ 314 (عرش)، 9/ 54 (حلف)، 11/ 91 (ثلل)، وجمهرة اللغة ص 84، وكتاب العين 1/ 249، ومقاييس اللغة 1/ 4، 369/ 265، وأساس البلاغة (عرش)، والمخصص 6/ 8، وتاج العروس 17/ 252 (عرش)، 23/ 159 (حلف)، (ثلل)، وديوان الأدب 1/ 114. (¬2) البيت من الوافر، وهو بلا نسبة فى أسرار العربية ص 223، وتلخيص الشواهد ص 157، وخزانة الأدب 7/ 563، 560، 559، 537، والدرر 1/ 152، وشرح أبيات سيبويه 1/ 374، وشرح المفصل 5/ 8، 6/ 21، والكتاب 1/ 210، والمحتسب 2/ 87، والمقتضب 2/ 172، وهمع الهوامع 1/ 50. (¬3) البيت من الطويل، وهو للأشهب بن رميلة فى خزانة الأدب 6/ 7، 25 - 28، وشرح شواهد المغنى 2/ 517، والكتاب 1/ 187، ولسان العرب 2/ 349 (فلج)، 15/ 246 (لذا)، والمؤتلف والمختلف ص 33، والمحتسب 1/ 185، ومعجم ما استعجم ص 1028، والمقاصد النحوية 1/ 482، والمقتضب 4/ 146، والمنصف 1/ 67، وللأشهب أو لحريث بن مخفض فى الدرر 1/ 148، وبلا نسبة فى الأزهية ص 99، وخزانة الأدب 2/ 315، 6/ 133، 8/ 210، والدرر 5/ 131، ورصف المبانى ص 342، وسر صناعة الإعراب 2/ 537، وشرح المفصل 3/ 155، ومغنى اللبيب 1/ 2، 194/ 552.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أأطعمت العراق ورافديه … فزاريّا أحذّ يد القميص (¬1) يريد رافده لأن العراق ليس فيه إلا رافد واحد، وأنشد الحاتمى: عشيّة سال المربدان كلاهما … عجاجة موت بالسيوف الصّوارم (¬2) وهو غريب لتأكيده بكلاهما، ومنه قول الحجاج: يا حرسى اضربا عنقه، ومنه: قفا نبك، ومنه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ (¬3) على أحد الأقوال الثلاثة، ومنه: فإن تزجرانى يا ابن عفّان أنزجر … وإن تتركانى أحم عرضا ممنّعا (¬4) الرابع: التعبير بالمثنى عن الجمع، وجعل النحاة منه حنانيك وأخواته. الخامس: التعبير بالجمع عن المفرد، مثل قولهم: شابت مفارقه، وقول امرئ القيس: يزلّ الغلام الخفّ عن صهواته … ويلوى بأثواب العنيف المثقل (¬5) ومنه: ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو للفرزدق فى ديوانه 1/ 389، والحيوان 5/ 197، والدرر 1/ 153، وسر صناعة الإعراب 1/ 190، وسمط اللآلى ص 862، والشعر والشعراء 1/ 94، ولسان العرب 3/ 183 (رفد)، 483 (حذذ)، وبلا نسبة فى الحيوان 6/ 510، وهمع الهوامع 1/ 50. ورواية صدره:" لأطعمت ... ". (¬2) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه 2/ 311، ولسان العرب 3/ 171 (ربد)، وتاج العروس 8/ 85 (ربد)، وتاج العروس 8/ 85 (ربد)، وبلا نسبة فى تاج العروس 3/ 43 (سحب)، ولسان العرب 1/ 461 (سحب)، وروايته: عشية لاقى ابن الحباب حسابه … بسنجار أنضاء السيوف الصوارم (¬3) سورة ق: 24. (¬4) البيت من الطويل، وهو لسويد بن كراع العكلى فى لسان العرب 5/ 320 (جزز)، والتنبيه والإيضاح 2/ 239، وتاج العروس 15/ 60 (جزز)، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص 839، والمخصص. (¬5) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 20، وجمهرة اللغة ص 106، وتاج العروس 20/ 344 (بعع)، 23/ 234 (خفف)، 24/ 187 (عنف)، وكتاب العين 4/ 144، ولسان العرب 9/ 79 (خفف)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة 2/ 155. ورواية صدره:" يطير ... "

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومثلك معجبة بالشّبا … ب صال البعير بأجيادها (¬1) ومنه على قول: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (¬2). السادس: التعبير بالجمع عن التثنية، ووجهه ما سبق إلا أنه يجوز أن تكون قصدت المبالغة بتقسيم كل من الشيئين إلى أشياء أو تكون قصدت المبالغة فى أحدهما بتقسيمه دون الآخر، لأن الجمع يحصل بثلاثة، ومنه المناكب والمرافق والحواجب، وإنما هما منكبان، وينقاس منه كل شيئين بينهما تواصل مثل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (¬3) وجعل على التعبير بالجمع عن التثنية: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (¬4) وإِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (¬5) وقد ذهبت طائفة من الناس إلى أن الجمع يطلق على الاثنين حقيقة، بل وقيل: على الواحد، ولا تفريع عليهما. وغالب ما سبق من الشواهد يمكن تأويله بما لا يكاد يخفى. ومنها تذكير المؤنث وعكسه، فالأول لتفخيمه كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (¬6) ولذلك يجوز تذكير كل مؤنث مجازى، ومنه: ولا أرض أبقل إبقالها لأنه أراد تفخيم الأرض فعبر عنها بما يعبر به عن المكان، وبذلك ينجلى لك أنه لا شذوذ فى هذا البيت، لأنه إنما يكون شاذا إذا أريد بالضمير المؤنث ويعود عليه ضمير الغائب مذكرا على الصحيح خلافا لابن كيسان فى المؤنث المجازى، أما إذا تجوز بالمؤنث المجازى عن مذكر فإنه يعود عليه ضمير الغائب مذكرا فليتأمل. والثانى لإرادة تسمية كل جزء منه باسمه كما سبق، ومنه جاءته كتابى فاحتقرها إشارة إلى أنه جاءه منه كتاب فى معنى الكتب المتعددة، والنحاة يقولون: أنثه على إرادة الصحيفة، وقد يقال: أحد اللفظين المترادفين كيف يراد بالآخر؟ إنما يراد المعنى ¬

_ (¬1) البيت من المتقارب، وهو للأعشى فى ديوانه ص 119، ولسان العرب 10/ 458 (صيل)، وتاج العروس (صاك) ورواية عجزه:" ... صاك العبير بأجلادها"، وديوان الأدب 3/ 409، ومجمل اللغة 3/ 254، وأساس البلاغة (صوك) بلفظ:" صاك العبير بأجسادها". (¬2) سورة المؤمنون: 99. (¬3) سورة التحريم: 4. (¬4) سورة الشعراء: 15. (¬5) سورة ص: 21. (¬6) سورة البقرة: 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سواء كان المعنى لفظا مثل: لفظ الكلمة أو غير لفظ مثل: زيد، نعم قد يعطى أحد اللفظين حكم اللفظ الآخر، وعلى ذلك تحمل قولهم: أنثه على معنى الصحيفة وإلا فمعنى الصحيفة هو غير معنى الكتاب، وعلى هذا المعنى تحمل هذا الباب الواسع فى العربية، وهو إعطاء إحدى الكلمتين حكم الأخرى، فليتأمل ذلك فإنه حسن دقيق. ومنها نفى الأخص والمراد نفى الأعم وعكسه، ولو فتحنا هذا الباب لطال، ولكن ذكرنا ما أشار إليه أهل هذا العلم. (تنبيه): لعلك تقول: غالب ما سبق أو كله من أنواع المجاز ومحله علم البيان - كما سيأتى - فالجواب أن الأمر كذلك ولكن جرت عادة أكثرهم بذكر هذه الأنواع فى هذا العلم فتبعناهم، وتداخل علم البيان وعلم المعانى كثير، والله تعالى أعلم. (تم الجزء الأول ويليه الجزء الثانى وأوله أحوال المسند)

الجزء الثانى أحوال المسند

أحوال المسند ترك المسند: أما تركه: فلما مرّ (¬1)؛ كقوله [من الطويل]: فإنّى وقيّار بها لغريب ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزء الثانى أحوال المسند [- ترك المسند] ص: (أما تركه فلما مر إلى آخره): (ش): هذا الباب الثالث من الثمانية، وأحواله على ما ذكر خمسة عشر: الترك، والذكر، والإفراد، وكونه فعلا أو اسما، ومقيدا بمعمول أو شرط، أو غير مقيد بهذا أو بذاك، وكونه نكرة، وكونه مخصصا بالإضافة أو الوصف أو غير مخصص، وكونه معرفة وجملة، وتأخره أو تقدمه. والمسند هو المحكوم به، وهو المحمول فعلا كان أو اسما. وأراد المصنف بالترك الحذف، وفى المسند إليه عبر بالحذف، ولا يظهر معنى لاختصاص كل بلفظ إلا أن يقال: الحذف ترك الشئ ملتفتا إليه. والترك المطلق ليس بهذا القيد، ولا شك أن المسند إليه إذا ترك لفظا فهو ملتفت إليه معنى؛ لأنه لا بد من تقديره؛ لأنه لا يوجد فى الكلام خبر لا مبتدأ له لا فى اللفظ ولا فى التقدير، بخلاف المسند فإنه قد يترك غير ملتفت إليه فإنه قد يوجد المبتدأ وليس له خبر لا فى اللفظ ولا فى التقدير، كقولك:" ضربى زيدا قائما" على أحد الأقوال، وقولك:" أقائم الزيدان" وحذف المسند يكون لما مر، والذى مر هو أحد أمور. وظاهر عبارته هنا أن كل واحد منها يأتى هنا، لكنه قال فى الإيضاح: كنحو ما سبق من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين، واختبار تنبه السامع عند قيام القرينة أو مقدار تنبهه، والاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر فمقتضاه أنه لا يترك المسند لغير ذلك مما يترك له المسند إليه، فلينظر فى الجمع بين كلاميه. والذى هنا أصوب، وذلك إما لضيق المقام لأجل الوزن، وذلك أنواع: أحدها: أن يحذف من الثانى لدلالة الأول كقوله: فمن يك أمسى بالمدينة رحله … فإنّى وقيّار بها لغريب (¬2) ¬

_ (¬1) أى فى حذف المسند إليه. (¬2) البيت من الطويل، وهو لضابئ بن الحارث البرجمى فى الإيضاح ص 88، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 102، والإشارات والتنبيهات ص 62، والأصمعيات 184، وخزانة الأدب 9/ 326، -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أى: وقيار كذلك، وظاهر كلامه أن هذا يجوز قياسا - أى: الحذف من الثانى لدلالة الأول - وفيه خلاف. ووقع فى كلام ابن عصفور (¬1) فى أحد قوليه: وقفه على السماع، وصحح صاحب الإفصاح ذلك، وليس هذا البيت من الحذف من الأول لدلالة الثانى لما سيأتى. وقال السكاكى (¬2): إنهما فى معنى واحد؛ فلذلك أفرد كقوله: لمن زحلوقة زل … بها العينان تنهلّ (¬3) قال الخطيبى (¬4):" وقيل: غريب فعيل صالح للتعدد، فلا حاجة لتقدير الحذف. قلنا: لا يقال: رجلان صبور، وإن صح ففى الجمع دون التثنية". قلت: قوله:" لا يقال: رجلان صبور" ينبغى أن يقول: كثير؛ فإن صبورا فعول لا فعيل، إلا أنهما من واد ¬

_ - 10/ 320، 313، 312، والدرر 6/ 182، والشعر والشعراء 358، ولسان العرب (قير)، والكتاب 1/ 75، والكامل 1/ 416 ط. الرسالة، وفى رواية:" ومن يك". وكان عثمان بن عفان - رضى الله عنه - قد حبس ضابئا هذا فى المدينة لهجائه قوما فى شعره، والرحل: المنزل، وقيار: اسم فرسه أو غلامه. (¬1) ابن عصفور: على بن مؤمن بن محمد بن على أبو الحسن بن عصفور، النحوى الحضرمى الإشبيلى حامل لواء العربية فى زمانه بالأندلس، ولم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو، ولا تأهل لغير ذلك، وصنف: الممتع فى التصريف، وكان أبو حيان لا يفارقه، ومات سنة تسع وستين وستمائة، انظر بغية الوعاة (2/ 210). (¬2) السكاكى: أبو سفيان بن العلاء أخو أبى عمرو بن العلاء، قال الزبيدى والقفطى: كان من النحويين وأصحاب القراءات، قائما بعلم النسب، واسمه كنيته، روى عنه شعبة ووثقه يحيى، مات سنة خمس وستين ومائة، انظر بغية الوعاة (1/ 592). (¬3) البيت من الهزج، وهو لامرئ القيس فى ملحق ديوانه 472، وخزانة الأدب 7/ 556، ولسان العرب (ألل)، وبلا نسبة فى شرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 103، ولسان العرب (زلل)، وخزانة الأدب 5/ 197، 7/ 552، وتاج العروس (ألل) و (زلل). والزحلوقة: لعبة للصبيان تسمى أرجوحة الحضر المطوحة. وزلل: أى زلق. ويروى" زحلوفة" بالفاء مكان" زحلوقة". (¬4) الخطيبى: محمد بن مظفر الخطيبى الخلخالى شمس الدين، كان إماما فى العلوم العقلية والنقلية له من التصانيف: شرح المفتاح وشرح التلخيص، مات سنة 745 هـ، انظر بغية الوعاة (2/ 247).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد، وهذا لا يمنع؛ لأن امتناعه لا للمعنى؛ لأنه صالح لهما، ولا للفظ؛ لأنه لو امتنع لكان لتنافر لفظى فيمتنع حينئذ: زيد وعمرو قائم على الحذف، وأيضا يرده قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (¬1) فإنه نص فيما قلناه، وقوله:" وإن صح ففى الجمع" ظاهره يوهم أنه يصح فى الجمع:" رجلان صبور" وهو فاسد، لكن مقصوده إن صح الإخبار بفعيل عن أكثر من مفرد ففى الجمع. وقوله: إن ذلك لا يصح فى التثنية، يرده قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (¬2) فإنه قد نقل الواحدى (¬3) عن المبرد (¬4) وابن عطية (¬5) عن الفراء (¬6) أن قعيد مبتدأ لهما، ولكن مع ذلك أقول: لا يسوغ هنا أن يكون لغريب خبرا عنهما؛ لأن (قيار) إما مبتدأ فلا يصح أن تدخل اللام فى خبره، ولهذا منعنا أن يكون حذف من الأول لدلالة الثانى، ويجوز أن يقال: (غريب) صار له جهتان: جهة خبرية المبتدأ، وجهة خبرية إن، فتدخل اللام بإحدى الجهتين، لكن الظاهر خلافه، فإن تعارض المانع والمقتضى يدفع الحكم، بل نقول: إنما يكون التعارض بين مانع وموجب، وهنا بين مانع وموجز فيرتفع جواز دخول اللام ¬

_ (¬1) سورة التحريم: 4. (¬2) سورة ق: 17. (¬3) الواحدى: هو على بن أحمد بن محمد بن على الإمام أبو الحسن الواحدى، إمام مصنف مفسر، نحوى، لازم مجالس الثعالبى فى تحصيل التفسير، صنف: البسيط والوسيط والوجيز فى التفسير، وأسباب النزول، والإغراب فى علم الإعراب، مات سنة ثمان وستين وأربعمائة، انظر بغية الوعاة (2/ 145). (¬4) المبرد: هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدى البصرى، أبو العباس المبرد. إمام العربية ببغداد فى زمانه، أخذ عن المازنى وأبى حاتم السجستانى، وروى عنه إسماعيل الصفار ونفطويه والصولى، ومات سنة خمس وثمانين ومائتين، انظر بغية الوعاة (1/ 269)، وله ترجمة مطولة فى تحقيقنا لكتابه (الكامل) ط دار الكتب العلمية. (¬5) ابن عطية: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحيم - وقيل عبد الرحمن - ابن غالب بن تمام بن عبد الرءوف بن عبد الله بن تمام بن عطية الغرناطى، صاحب التفسير، الإمام محمد الحافظ القاضى. كان نحويا لغويا أديبا، ألف تفسير القرآن العظيم وقيل: إنه مات سنة ست وأربعين وخمسمائة، انظر بغية الوعاة (2/ 73). (¬6) الفراء: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان الديلمى إمام العربية، قيل له: الفراء لأنه كان يفرى الكلام، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائى، صنف الفراء: معانى القرآن، البهاء فيما تلحن فيه العامة، مات سنة سبع ومائتين، انظر بغية الوعاة (2/ 333).

وقوله [من المنسرح]: نحن بما عندنا وأنت بما … عندك راض والرّأى مختلف ـــــــــــــــــــــــــــــ ويبقى تركها سالما عن المعارض، وإما أن يكون (قيار) معطوفا على اسم إن على الموضع كما قال الجوهرى، إن جوزنا العطف على اسم إن بالرفع قبل خبرها على مذهب الكسائى (¬1) فقد يقال: بجواز دخول اللام، وقد يمتنع أن يكون خبرا عن المعطوف؛ لأنه وإن كان معطوفا على اسمها فرفعه يلحقه بالمبتدأ فى الحكم، ومن حكم المبتدأ المجرد أن لا تدخل اللام على خبره، فكذا هنا، ثم إن كانت (إن) عاملة فى خبرها يلزم عليه أن يعمل فى معمول واحد عاملان؛ لأن غريبا حينئذ يكون مرفوعا بقيار ومرفوعا بإن، فلا يصح على هذا أن يكون (غريب) خبرا عنهما إلا أن يقال: إن المعطوف على اسم إن بالرفع باق على اسميتها وليس بمبتدأ وهذا موجود فيما لو جاء: إنى وقيار غريب، على أن قيار مبتدأ وغريب خبر عنهما. (فائدة): هذا البيت لضابئ بن الحارث وقيار فرسه، وأنشده سيبويه (¬2) فى باب التنازع، والمبرد فى الكامل قيارا بالنصب، والمقصود من الحذف حاصل الثانى، أن يحذف من الأول لدلالة الثانى، كقول قيس بن الخطيم، وقيل: عمرو بن امرئ القيس الأنصارى الخزرجى: نحن بما عندنا وأنت بما … عندك راض والرّأى مختلف (¬3) ¬

_ (¬1) الكسائى: على بن حمزة بن عبد الله بن عثمان الإمام، سمى الكسائى لأنه أحرم فى كساء، إمام الكوفة فى النحو واللغة، قرأ على حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة، تعلم النحو على كبر، وقيل: مات سنة ثنتين - أو ثلاث وقيل: تسع - وثمانين ومائة، انظر بغية الوعاة (2/ 163). (¬2) سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريين سيبويه أبو بشر، سيبويه بمعنى رائحة التفاح، كان إمام أهل البصرة فى القراءات والنحو واللغة، أخذ عن جماعة من التابعين وروى عن أنس بن مالك، مات سنة تسع وخمسين ومائة، انظر بغية الوعاة (2/ 232). (¬3) البيت من المنسرح، وهو لدرهم بن زيد الأنصارى فى الإنصاف 1/ 95 وقال فى الانتصاف: وليس هو لدرهم بن زيد الأنصارى .. ولكنه من كلام قيس بن الخطيم خ خ، وهو لعمرو بن امرئ القيس الخزرجى فى الدرر 1/ 147، وله أو لقيس بن الخطيم فى شرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 102، وبلا نسبة فى الإيضاح 88. والتلخيص للقزوينى ص: 28. البيت لقيس بن الخطيم يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءه فى واقعة الأوس والخزرج، وقبله: يا مال والسيد المعمم قد … يبطره بعض الرأى والسرف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن خبر نحن: راضون محذوف، وقد يقال: جاز أن يكون الشاعر أراد بنحن نفسه على جهة التعظيم، ولا يمتنع حينئذ أن يخبر عنه براض اعتبار بالمعنى، بل ربما وقع الإخبار بلفظ المفرد عن لفظ الجمع، وإن أريد معناه لنكتة ما، ويمكن أن يدعى ذلك فى قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (¬1) فإن سبب النزول وهو قول أبى جهل: نحن ننتصر اليوم (¬2) يقضى بإعراب منتصر خبرا. الثالث: أن يكون اللفظ صالحا لهما من غير قرينة نحو: زيد وعمر قائم، ذهب ابن السراج (¬3) وابن عصفور إلى أن المذكور خبر الثانى وحذف خبر الأول. وذهب سيبويه والمازنى (¬4) والمبرد إلى أن المذكور خبر الأول، ويدخل الثانى فى معناه، ولا حاجة إلى إضماره؛ لأن العطف إذ ذاك من عطف المفردات، وقيل: خبر الأول وخبر الثانى محذوف، وقيل: أنت مخير بين حذف أيهما شئت، ومن ذلك: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (¬5) على المشهور، وقيل: أفرد الضمير؛ لأن رضا الله تعالى ورضا رسوله واحد، قلت: وفيه نظر، إن قلنا يمتنع الجمع بين اسم الله واسم رسوله فى ضمير تثنية؛ لأنه أنكر على القائل ومن عصاهما، وقال:" قل: ومن عصى الله ورسوله" (¬6)، فإذا امتنع الجمع مع التصريح بالتثنية فمع الإفراد أولى، على أنه قيل: إنما نهاه لأنه وقف على ومن يعصهما، وقيل: لغير ذلك. واستدل له بما فى سنن أبى داود من قوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى (¬7)، وقد استوعبنا الكلام ¬

_ (¬1) سورة القمر: 44. (¬2) أخرج ابن أبى شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس - رضى الله عنهما - فى قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال: كان ذلك يوم بدر قالوا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فنزلت هذه الآية. (¬3) ابن السراج: طالب بن محمد بن نشيط أبو أحمد النحوى، أخذ عن ابن الأنبارى، وله مختصر فى النحو، وكتاب عيون الأخبار وفنون الأشعار، انظر بغية الوعاة (2/ 16). (¬4) المازنى: بكر بن محمد بن بقية - وقيل: ابن عدى - بن حبيب الإمام، هو بصرى روى عن أبى عبيدة والأصمعى، وكان إماما فى العربية، وقال المبرد: لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبى عثمان المازنى، مات فى سنة تسع وأربعين ومائتين، انظر بغية الوعاة (1/ 463). (¬5) سورة التوبة: 62. (¬6) أخرجه مسلم فى" الجمعة"، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، (ح 870)، من حديث عدى بن حاتم. (¬7) أخرجه أبو داود فى سننه" كتاب الصلاة"، باب: الرجل يخطب على قوس، (1096)، وانظر صحيح سننه (ح 972).

وقولك: زيد منطلق وعمرو، وقولك: خرجت فإذا زيد. وقوله [من المنسرح]: إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... أى: إنّ لنا فى الدنيا، وإنّ لنا عنها. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ على ذلك فى شرح المختصر. وقوله: زيد منطلق وعمرو، هو مما حذف فيه خبر الثانى، أى: وعمرو كذلك، ومنه قوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ (¬2) أى كذلك هذا هو الصواب فى تقدير خبره خلافا لمن جعله أجلهن ثلاثة أشهر؛ لأنه تقدير جملة من غير حاجة وقوله: وكقولك: خرجت فإذا زيد، أى: موجود، وحذف الخبر بعد إذا الفجائية قال به ابن مالك. وقال شيخنا أبو حيان: إن لم يقم على حذفه دليل وجب ذكره نحو: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (¬3)، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (¬4)، وأما نحو: خرجت فإذا الأسد، فالخبر هو إذا وهى ظرف مكان، ومن حذف المسند بعد (إن) نحو قول الأعشى: إنّ محلا وإنّ مرتحلا … وإن فى السفر إذ مضوا مهلا (¬5) أى: إن لنا فى الدنيا محلا وإن لنا عنها مرتحلا، وقد اختلف فى حذف خبر إن؛ فأجازه سيبويه إذا علم سواء كان الاسم معرفة أم نكرة، (وهو الصحيح) وأجازه الكوفيون إن كان الاسم نكرة. وقال الفراء: لا يجوز معرفة كان أم نكرة إلا إذا كان بالتكرير كهذا البيت، ولم يتعرض المصنف لحذف المسند وهو خبر كان لأنه ضعيف ولذلك كان إن خير فخير ضعيفا؛ لأن تقديره إن كان فى عمله خير، وهذه الأمور الأربعة حذف فيها المسند إلى المبتدأ. ثم ذكر المصنف ما حذف فيه المسند إلى الفاعل كقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، أصله: لو تملكون ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 100. (¬2) سورة الطلاق: 4. (¬3) سورة طه: 20. (¬4) سورة الأعراف: 108. (¬5) البيت للأعشى الأكبر ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش فى ديوانه/ 170، والإشارات والتنبيهات/ 63، ودلائل الإعجاز/ 321، والإيضاح 89، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 103، وخزانة الأدب 10/ 459، 452، والخصائص 2/ 373، والشعر والشعراء/ 75، وأمالى ابن الحاجب 1/ 345.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تملكون، فحذف المسند وهو الفعل فانفصل الضمير فى أنتم، وتملكون المذكورة تفسير، وإنما قلنا ذلك؛ لأن لو إنما يليها الفعل وما ذكره المصنف رأى الزمخشرى وجماعة، وليس مذهب البصريين. قال ابن عصفور: لا يلى (لو) إلا الفعل ظاهرا، فأما المقدر فلا يلى إلا نادرا، ونقل ابن الصائغ تصريح البصريين بامتناعه فصيحا، ويجوز نادرا نحو: لو ذات سوار لطمتنى؛ لكن ابن مالك جوزه، وقيل: فى الآية تقدر كان الناقصة، أصله (كنتم)، فحذفت كان واسمها وأنتم تأكيد. قال الشيخ أبو حيان: وحذف المؤكد وبقاء التأكيد مختلف فى جوازه، قلت: ذلك فى التأكيد المعنوى. أما اللفظى فقد يجوز جزما مثل: قم أنت؛ إذ لا سبيل لإبراز هذا الفاعل، وإن كنا لا نسمى ذلك حذفا فإن الضمير مستتر، وأما ضمير يمكن بروزه فالذى يظهر أن حذفه مع فعله كما فى الآية يمتنع، ودون الفعل يظهر امتناعه كما يقتضيه كلامهم فى تعليل منع حذف المؤكد وإبقاء التأكيد، والذى يؤول الآية على تقدير (لو كنتم) حاصله أنه يفرق بين فعل كان وغيره، ففعل كان يجوز إضماره بعد (لو) وإبقاء معموله لكثرة استعماله بخلاف غيره، وإطلاق البصريين أنها لا يليها إلا الفعل ملفوظا به - عجيب لمصادمته الآية الكريمة. وقيل: حذفت كان وانفصل اسمها. قال الزمخشرى (¬1) بعد ذكره الوجه الأول: هذا ما يقتضيه علم الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو إن أنتم تملكون، فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، وأورد عليه أن الاختصاص يكون لمعنى الجملة الاسمية لا لصورتها خ خ، وأجيب عنه: بأن الحذف لما اتفق وحصل به تكرار ذكر الفاعل وعلم أن الاهتمام بذكر فاعل الجملة أكثر من فعلها - كان تقديما للفاعل على الفعل من حيث المعنى، والثانى بمنزلة المتكرر للتأكيد فأفاد الاختصاص. قلت: تكلف هذا القائل وظن صحة كلام الزمخشرى وهو فاسد؛ لأن الاختصاص هنا معناه: لو اختصصتم بملك خزائن الرحمة لأمسكتم، وليس فى ذلك ما يقتضى أنهم مختصون بالشح؛ لأنه لا ينفى أن غيرهم لو اختص بملك خزائن ¬

_ (¬1) الزمخشرى: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الزمخشرى، كان متفننا فى كل علم، وله من التصانيف: الكشاف فى التفسير، المفصل فى النحو، ومات سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، انظر بغية الوعاة (2/ 279).

وقوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (¬1) يحتمل الأمرين، أى: أجمل، أو فأمرى، ـــــــــــــــــــــــــــــ الرحمة لشح، وإنما يكون ذلك لو قيل: أنتم لو تملكون، فإن المعنى حينئذ أنتم المختصون بأنكم لو ملكتم الخزائن لأمسكتم، ثم أقول: لو كانت الصيغة للاختصاص لكان الاختصاص هنا متعذرا؛ لأن الاختصاص لا يكون إلا فى شئ يقبل عدم الاختصاص، وملك خزائن الرحمة إن كان لهؤلاء استحال أن يكون لغيرهم؛ لأن الشئ الواحد لا يكون مملوكا لشخصين فى وقت واحد، فالاختصاص هنا متعذر، ولو حصل لم تكن له فائدة، فإن قلت: قد يحصل الاختصاص بحسب الأزمنة، تقول: أنا أملك هذا، أى: لا يملكه غيرى بخلاف أملكه قد يكون فى وقت وغيرك فى وقت، قلت: لا نسلم، بل معنى أنا أملك اختصاصك بالملك فى وقت ما والعموم فى ما يملك هذا غيرى إنما جاء فى الأزمان إذا كان مصرحا به، أما إذا كان مفهوما فلا، ولو سلمناه فليس المراد هنا ولا المعنى عليه، ثم نقول: كان للزمخشرى مندوحة عن ذلك، بأن يعرب (أنتم) مبتدأ، و (تملكون) خبره والجملة خبر (كنتم) المحذوفة، فيحصل الاختصاص؛ لأنه كقولك: أنت تقوم، ويجتمع كلام النحاة والبيانيين، وقول الزمخشرى صناعة البيانيين هو على عادته فى إطلاق علم البيان على المعانى. بقى هنا سؤال وهو أن من يملك خزائن رحمة الله تعالى، وهى غير متناهية كيف يمسك خشية الإنفاق مع أن غير المتناهى يستحيل نفاده؟ فكيف يخاف نفاد ما يستحيل نفاده؟ والخوف من وقوع المستحيل مع اعتقاد استحالته مستحيل! ثم ذكر ما هو محتمل لأن يكون حذف فيه المسند أو المسند إليه كقوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * يحتمل حذف المسند، فتقديره: فصبر جميل، أى: أجمل، ويحتمل أن المحذوف هو المسند إليه، تقديره: فأمرى صبر جميل، وقد اختلف النحاة فيما إذا دار الحال بين حذف المبتدأ والخبر أيهما يحكم بأنه المحذوف؟ حكاه ابن إياز (¬2) قيل: الخبر أولى بالذكر لأنه محط الفائدة، قيل: المبتدأ لأنه العامل، وأيضا الحذف من الأواخر ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 18. (¬2) ابن إياز: الحسين بن بدر بن إياز بن عبد الله أبو محمد، كان أوحد عصره فى النحو والتصريف، ومن تصانيفه: قواعد المطارحة، والإسعاف فى الخلاف، انظر بغية الوعاة (1/ 532).

ولا بدّ من قرينة: كوقوع الكلام جوابا لسؤال محقّق؛ نحو: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ أولى، وأما خصوص هذه الآية فالمعنى فيها على نسبة الصبر إليه فالأحسن تقدير: أمرى صبر جميل، وهو الموافق للمدح. قال الخطيبى: ولأن المصادر المنصوبة إذا ارتفعت تكون على معناها فى النصب، وفى النصب إذا قلت: صبرت صبرا جميلا فأنت مخير بحصول الصبر لك، فحذف المبتدأ يوافق معنى النصب، قلت: هذا إن أراد به ما قبله فقد سبق، وإن أراد غيره فهو ضعيف؛ لأن المصدر المنصوب لا يدل على نسبة للمتكلم، فإن المصدر المنصوب قد يكون عن صبرت وعن أصبر، وليس فى أصبر إخبار بحصول الصبر بل وعد به، ومن هذا قوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ (¬2) يحتمل الأمرين، ومن ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (¬3) على قراءة من لم ينون، قيل: إنه صفة والخبر محذوف، التقدير: عزير ابن الله إلهنا أو إلهنا عزيز ابن الله، وأورد عليه أنه يلزم أن يكون التكذيب ليس عائدا إلى البنوة، لأن صدق الخبر وكذبه راجع إلى نسبة الخبر لا إلى صفته، وقد سبق ما يعترض به على هذا، وأجاب عنه الوالد بأن (عزيز ابن الله) جزء الجملة حكى فيه لفظهم، أى: قالوا هذه العبارة القبيحة، وحينئذ فلا يقدر خبر ولا مبتدأ، وقيل: (ابن الله) خبر وحذف التنوين من (عزيز) للعجمة والعلمية، وقيل: حذف تنوينه لالتقاء الساكنين؛ لأن الصفة مع الموصوف كالشئ الواحد كقراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ (¬4) بل هنا أوضح لأنه فى جملة واحدة، ومن هذه المادة ما ذكره المصنف: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ (¬5) إما أن يقدر آلهتنا ثلاثة أو لنا ثلاثة من الآلهة، ورد المصنف الأول بأنه يلزم أن يكون المنفى كون آلهتهم ثلاثة لا كونهم آلهة، فإن النهى إنما يكون للنسبة المستفادة من الخبر. قلت: وفيما قاله نظر؛ لأن نفى كون آلهتهم ثلاثة يصدق بأن لا يكون للآلهة الثلاثة وجود بالكلية؛ لأنه من السالبة المحصلة، فمعناه ليس آلهتكم ثلاثة، وذلك يصدق بأن لا يكون لهم آلهة. ص: (ولا بد من قرينة ... إلخ). (ش): أى: لا بد لحذف المسند من قرينة تميزه، والقرينة إما سؤال محقق أى واقع نحو قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ تقديره: ¬

_ (¬1) سورة لقمان: 25. (¬2) سورة محمد: 21. (¬3) سورة التوبة: 30. (¬4) سورة الإخلاص: 1، 2. (¬5) سورة النساء: 171.

أو مقدّر؛ نحو [من الطويل]: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وفضله على خلافه (¬1): بتكرّر الإسناد إجمالا ثم تفصيلا، وبوقوع نحو يزيد غير فضلة، وبكون معرفة الفاعل كحصول نعمة غير مترقّبة؛ لأنّ أوّل الكلام غير مطمع فى ذكره. ـــــــــــــــــــــــــــــ خلقهن الله، والمعنى: يتحقق السؤال هاهنا تحققه قبل الجواب لا أنه محقق الوقوع عند نزول الآية؛ لأن فعل الشرط مستقبل المعنى، بل الاقتصار على لفظ الجلالة الكريمة يستدعى تقدم سؤال استغنى به عن ذكر خلقهن، وتارة يكون سؤالا مقدرا، أى: غير منطوق به كقول الحارث بن ضرار النهشلى، وقيل: للحارث بن نهيك، وقيل: لمرة بن عمرو النهشلى، وهو من أبيات سيبويه، و (يزيد) هو: يزيد بن نهشل: ليبك يزيد ضارع لخصومة … ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (¬2) فإنه لما قال: ليبك يزيد؛ كأن سائلا سأله من يبكيه؟ فقال: ضارع، أى: يبكيه ضارع، وما ذكره المصنف قد ذكره النحاة أيضا، وقد يقال: تقدير الباكى ضارع أحسن لأنه حيث أمكن تقدير الاسم فلا يقدر الفعل - ذكره سيبويه - وعلى هذا فلا يكون هذا من حذف المسند، بل من حذف المسند إليه، وقد يجاب عنه بأن تقدير الفعل هنا يرجح لتقدم لفظ الفعل؛ ولهذا قدروا الفعل فى قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ (¬3) على قراءة يسبح بالبناء للمفعول، وهو كيبك، على أنه يحتمل أنه لا يكون من الحذف بالكلية ويكون (يزيد) منادى أى: ليبك يا يزيد لفقدك، ويكون (ضارع) هو الفاعل إن كانت الرواية بفتح ياء (يبك) ونائب عنه إن كانت الرواية بضمها، ومنه قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ (¬4) على قراءة فتح الباء وكَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ (¬5) على قراءة فتح الحاء. قال: (وفضله على غيره) أى: فضل تركيب ليبك بالبناء للمفعول على الرواية الشهيرة على ما لو كان مبنيا للفاعل ثلاثة أمور: أحدها - تكرر الإسناد إجمالا ¬

_ (¬1) أى رجحان نحو (ليبك يزيد ضارع مبنيا للمفعول على خلافه يعنى ليبك يزيد ضارع، مبنيّا للفاعل ناصبا ليزيد ورافعا لضارع). (¬2) البيت من الطويل، انظر المصباح 46، وشرح شواهد الإيضاح 94، والشاهد فى حذف فعل ضارع إذ التقدير: يبكيه ضارع وهو للحارث بن نهيك، المعجم المفصل 2/ 75، 76. (¬3) سورة النور: 37. (¬4) سورة النور: 36، 37. (¬5) سورة الشورى: 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتفصيلا، يعنى: أنه أسند إلى شخص ما مجملا؛ لأنه مع البناء للمفعول لا يكون الفاعل مفصلا، ولك أن تقول: ليس مع البناء للمفعول إسناد للفاعل لا إجمالا ولا تفصيلا، غايته أن النائب عن الفاعل يستلزم وجود فاعل، فهو يدل على الفاعل بالالتزام، ولا إسناد فيه للفاعل، ودلالته الالتزامية على الفاعل لا على الإسناد وبينهما فرق؛ ثم نقول: قوله: تكرر الإسناد إجمالا وتفصيلا، قد يقال: إن هذه العبارة تستدعى تكرر الإسناد إجمالا وهو يستلزم إسنادين إجماليين وتكرره تفصيلا كذلك، فيستلزم الإسناد أربع مرات وهو فاسد غير مراد، إلا أن يؤول على أن قوله إجمالا وتفصيلا تفصيل لما أجمله لفظ التكرر من باب اللف والنشر. الثانى - أنه لو وقع الإسناد فيه إلى الفاعل لوقع يزيد فيه مفعولا، وهو فضلة، والعمدة أولى من الفضلة، وقد يقال: إن هذا فى المعنى يرجع إلى الأول. وقال فى المفتاح: وكونه فضلة يستلزم عدم الاعتناء بشأنه، وكونه مقدما يقتضى الاعتناء، وتأخير الفاعل يقتضى عدم الاعتناء به، وكونه عمدة يوجب الاعتناء فيتناقض. قال: وفيه نظر يذكر فى الحواشى خ خ. قيل: وجه النظر أنه إن كان التناقض لازما فليلزم عند بنائه للمفعول، وذكر ضارع بعده؛ لأن تقديره: يبكيه ضارع؛ فقد تقدم المفعول؛ وقيل: وجه النظر أن البناء للمفعول يقتضى أنه مقصود البيان، وذكر الفاعل يقتضى أنه مقصود فيتناقض. وفيه نظر؛ لأنهما قد يقصدان، وقيل: لأن المبنى للمفعول أولى بالتناقض؛ لأن فيه عمدتين، كل منهما يطلب التقديم بخلاف الفضلة فإنها وإن تقدمت فهى فى نية التأخير، قيل: لو صح ما قاله لكان تقديم المفعول على الفاعل قبيحا وليس كذلك. وقيل أيضا: لو كان ذلك قبيحا لكان رأيت شجاعا فى الحمام أفصح من رأيت أسدا فيه، لإيهام الثانى التناقض. الثالث - أن أول الكلام غير مطمع للسامع فى ذكر الفاعل فيحصل السرور بوروده؛ لأنه كنعمة جديدة، قلت: بل ذكر النائب عن الفاعل يحصل اليأس من الفاعل، فذكره بعد ذلك كالفرج بعد الشدة وهذا أخص من قولهم: غير مطمع، والخطيبى قال فى شرح المفتاح: إنه قد يرجح البناء للفاعل بوجوه؛ لأنه مخالف للأصل؛ لأن فيه حذفا كثيرا ويحتاج لإيراد سؤال وجواب، وفيه التباس لاحتمال أن يكون ضارع فاعلا وخبرا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): قال الخطيبى: يجوز أن يسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعنى: له فيها بالغدو فحينئذ يجئ الكلام فيما يتصل بالفعل جزءا، وما ينفصل عنه فضلة، ويتفرع عليه معنى الاهتمام فيما قدم وأخر ومعنى الإسناد المجازى، فالوجوه ثلاثة والاعتبارات تسعة: أحدها: أن يجعل الباء فى (بالغدو) مزيدة، ويسند الفعل إلى أوقات الغدو والآصال على الإسناد المجازى؛ لأن الله تعالى بالحقيقة هو المسبح، ولكن المسبحين لاهتمامهم بالتسبيح فإن أوقاتهم مستغرقة فيه لا يفترون آناء الليل وأطراف النهار كما قال: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ (¬1) كأنها مسبحة، ويؤيده قوله: على زيادة الباء وجعل الأوقات مسبحة والمراد بها، ومنه قولك: زيد نهاره صائم وليله قائم، لكثرة صيامه بالنهار وقيامه بالليل، فالتقديم إذن فى الفضلات؛ لأن الأصل تقديم المسند إليه عليها وتقديم المفعول فيه على المفعول له، لأن الغايات سابقة فى القصد لاحقة فى الوجود، فقدم لإرادة مزيد الاختصاص، كأنه قيل: تسبح أوقاته لأجله وكرامة لوجهه الكريم لا لشئ آخر، ويفيد تقديم ظرف المكان على الزمان أن الفعل أشد اتصالا بالزمان لكونه جزأه شدة العناية بإيثار تلك الأمكنة التى وقعت لذكر الله تعالى وتسبيحه. فهذه اعتبارات أربعة اعتبار الإسناد تقديم المفعول له على المفعول فيه، وعلى ما أقيم مقام الفاعل، وتقديم ظرف المكان على الزمان. وثانيها: أن تجعل اللام فى (له) مزيدة ويسند الفعل إلى الله تعالى بالحقيقة، فالتقديم حينئذ فى الظرفين على ما سبق، ففيه اعتباران: اعتبار الإسناد الحقيقى، وتقديم ظرف المكان على الزمان. وثالثها: أن تجعل (فى) فى (فيها) مزيدة، ويسند الفعل إلى ضمير البيوت على المجاز، وفى ذلك أن المسبحين لشدة عنايتهم بالعكوف فى بيوت الله تعالى وملازمتهم لها للذكر فيها واختصاص الصلاة بها كما قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ¬

_ (¬1) سورة النور: 37.

ذكر المسند

ذكر المسند: وأما ذكره: فلما مرّ، أو أن يتعيّن كونه اسما أو فعلا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (¬1) - كأن البيوت المسبحة، والمراد بها، واللام فى له بمعنى لأجل وتقديمه على ما سبق لمزيد الاختصاص وأن إكرام الديار لساكنيها، فالاعتبارات ثلاثة، والله تبارك وتعالى أعلم. (فائدة) اختار والدى فى جواب الاستفهام نحو: زيد، فى جواب: من عندك؟ أنه مفرد لا مركب ولا يقدر له مبتدأ ولا خبر، بل زيد بمنزلة حيوان ناطق فى جواب: ما الإنسان؟ وهو ذكر حد يفيد التصور فقط، وعلى ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (¬2) وقد جاء فى الآية الأخرى: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (¬3)، وهذا ابتداء كلام ليس جوابا، بل يتضمن الجواب بخلاف الآية الأولى، وإنما رفع لأنه لما لم يكن له ما يعمل فيه أعطى حركة الرفع لتجرده، وأما قول ابن عصفور فى باب الحكاية من شرح الجمل: محال أن ينطق عاقل بالمفرد، فيحمل على مفرد لا يقصد به تصور ولا تصديق. ذكر المسند: ص: (وأما ذكره فلما مر أو أن يتعين كونه اسما أو فعلا). (ش): ذكر المسند يكون لأحد الأسباب السابقة، وهى كونه الأصل، والاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أو التنبيه على غباوة السامع، أو زيادة الإيضاح والتقرير، أو إظهار تعظيمه أو إهانته، أو التبرك بذكره أو استلذاذه، أو بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب؛ وعبارة المصنف فى الإيضاح: أن ذكر المسند يكون لنحو ما مر من زيادة التقرير والتعريض بغباوة السامع والاستلذاذ والتعظيم والإهانة وبسط الكلام، ولم يذكر التبرك وكونه الأصل، وزاد المصنف هنا أن يذكر ليتعين أنه اسم فيستفاد منه الثبوت، أو فعل فيستفاد منه التجدد، أو ظرف فيورث احتمال الثبوت والتجدد، ولك أن تقول: قد يعلم أنه اسم ¬

_ (¬1) سورة النور: 36. (¬2) سورة الزخرف: 87. (¬3) سورة الزخرف: 9.

كون المسند مفردا

وأما إفراده: فلكونه غير سببى مع عدم إفادة تقوّى الحكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ أو فعل مع الحذف إذا كان جواب استفهام فإنه إن كان فى لفظ السائل الفعل أو الاسم فهو المحذوف غالبا، وقد يجاب بأن تقدير مثل ما فى السؤال من فعل أو اسم راجح لا متعين. وقد حذف الظرف من التلخيص - وهو أحسن - فإن الاحتمال حاصل مع الحذف، ثم الظرف لا يكون مسندا على الحقيقة إنما المسند عامله من فعل أو اسم فليس لهذا القسم وجود إلا على القول بأن الظرف نفسه هو المسند وهو ضعيف. وفى الإيضاح: وإما لنحو ذلك، وذكر عن السكاكى أن من أسباب ذكره التعجب من المسند إليه كقولك: زيد يقاوم الأسد، مع دلالة القرائن. قال: وفيه نظر لأن التعجب حاصل بدون الذكر مع القرينة. كون المسند مفردا: ص: (وأما إفراده فلكونه غير سببى مع عدم إفادة تقوى الحكم). (ش): فيدخل فى الإفراد نحو: زيد منطلق أبوه، مما أسند فيه الوصف إلى المبتدأ رفعا لظاهر ذى سبب؛ لأنا فسرنا السببى بالجملة، ويدخل فيه نحو: زيد قائم؛ لأنه لا يفيد التقوى بل هو قريب من إفادته كما تقدم، ويدخل فيه نحو: عرفت عرفت، مما أفاد التقوى بالتكرار، ونحو: إن زيدا قائم، مما أفاده بالحرف؛ لأنا قيدنا التقوى بكونه مفادا بنفس الإسناد فى التركيب نحو: زيد قام، مما كان فيه الفعل مسندا لضمير المبتدأ لأنه كما تقدم مشتمل على الإسناد مرتين وذلك لأن المبتدأ يطلبه بالإسناد إليه لكونه خبرا عنه ولكونه فعلا يطلب ضمير ذلك المبتدأ ليسند إليه لكونه فعليا لا سببيا، فوقع الإسناد فيه مرتين فأفاد التقوى بهذا الوجه وهو الإسناد مرتين ويحتمل أن لا يحتاج إلى القيد السابق، وهو قولنا: بنفس إسناده، وذلك بأن تجعل الألف واللام للعهد السابق، وهو التقوى المفاد بهذا الطريق وهو الإسناد فى تركيب واحد مرتين. ويدخل فيما أفاد التقوى بهذا الوجه فيكون جملة نحو قولنا: أنا عرفت وأنت ما سعيت فى حاجتى، مما كان فيه الفعل مسندا لضمير المبتدأ مع قصد إفادة التخصيص، كما تقدم أن مثل هذا التركيب يقصد به التخصيص؛ لأن التقوى موجود فيه لوجود الإسناد مرتين، ولو لم يقصد ذلك التقوى بالذات؛ لأنا لم نشترط إلا نفى إفادة التقوى، فمتى انتفى نفى الإفادة فإن وجدت الإفادة كان جملة ولو لم نقصد تلك الإفادة، نعم لو شرطنا نفى قصد التقوى دخل فى الإفراد ما قصد به التخصيص، على تقدير تسليم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن هذا التركيب عند قصد التخصيص لا يفيد التقوى، فلا يلزم دخوله فى الإفراد؛ لأن المقصود نفى أن السببية والتقوى يكون علة للإفراد. ولا يلزم اطراد العلة فيصح وجود ذلك النفى مع نفى الإفراد كما فى نحو: أنا سعيت فى حاجتك، وقولنا: لم يقصد إفادة التقوى بالذات - إشارة إلى أن الإفادة لا بد فيها تبعا؛ إذ ما يفاد بلا قصد أصلا لا يعد من خواص تراكيب البلغاء، فلا عبرة به أصلا، وقولنا: لأن السببى فى هذا الاصطلاح نعنى به اصطلاح السكاكى، وإياه تبع المصنف فى إطلاق السببى على ما ذكر، كإطلاقه الفعلى على خلافه كما أشرنا إليه بقولنا: فيما تقدم؛ لكونه فعليا لا سببيا، أما اصطلاحه فى السببى فكأنه مأخوذ من قول النحاة: إن نحو: مررت برجل كريم أبوه - نعت سببى، لكن على اعتباره ينبغى أن يسمى نحو قولك: زيد منطلق أبوه - مسندا سببيا، وهو لا يقول به، والتفريق بينه وبين قولنا: زيد أبوه منطلق بأن الأول المسند فيه مفرد والثانى المسند فيه جملة لا يفيد وجها لتخصيص الثانى بتسميته سببيا دون الأول، وأما اصطلاحه فى الفعلى فلا يعرف له سلف فيه، وقد أطلق السببى فى النعت على ما أطلقه عليه النحويون نحو: مررت برجل كريم أبوه، وأطلق الفعلى فيه على ما أطلقوا عليه الحقيقى نحو: مررت برجل كريم، وحول هذا الاصطلاح إلى المسند لكنه خصصه بالجملة كما أشرنا إليه قبل، فعلم أن مجموع اصطلاحه فى السببى والفعلى مبتكر له، ولما كان تعريفه السببى فيه انغلاق وصعوبة حسبما يظهر عند الوقوف عليه فى المفتاح، ومعلوم أنه يلزم من انغلاقه انغلاق مقابله وهو الفعلى عدل المصنف إلى المثال فى السببى ليعرف منه الفعلى فقال (والمراد بالسببى) خبر هو (نحو) الخبر فى قولك (زيد أبوه منطلق)، ومعلوم أن تعريف الحقائق بمجرد المثال لا يخلو من خفاء؛ لأن أوجه التماثل كثيرة، ومثل هذا قولك مثلا: زيد انطلق أبوه، مما كان فيه الخبر جملة علقت على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا إليه فى تلك الجملة، فيستفاد حد السببى مما ذكر من المثالين لاشتمالهما على أجزائه، فيخرج عنه المسند فى نحو: زيد منطلق أبوه؛ إذ ليس (منطلق أبوه) بجملة كما تقرر، والمسند فى نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (¬1) مما هو جملة أخبر بها عن ضمير الشأن؛ لأن تعليقها بالمبتدأ بنفسها لا بعائد، وفى نحو قولنا: زيد قام؛ لأن العائد فى قام مسند إليه ويدخل فى ذلك الحد المستفاد من المثالين. ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص: 1.

والمراد بالسببى نحو: زيد أبوه منطلق. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (والمراد بالسببى نحو: زيد أبوه منطلق). (ش): المسند على أقسام: الأول - أن يكون سببيا، والمراد بالسببى أن يكون إثبات المسند للمسند إليه لمتعلقه لا لنفسه، وذلك إما بأن يتقدم السببى نحو: زيد أبوه منطلق، أو يراد حدوث المسند وهو سببى مثل: زيد انطلق أبوه، وفى هذين القسمين يكون جملة، أو زيد منطلق أبوه، وهو مفرد سببى. الثانى - أن لا يكون سببيا، ولكن يراد تقوى الحكم بتكرر الإسناد كقولك: زيد قام؛ فإنه وقع الإسناد إلى زيد مرتين أحدهما إلى لفظ زيد، والثانى لضميره وهو فاعل قام. الثالث - أن لا يكون سببيا ولا يراد به التقوية مثل: زيد منطلق، فحاصله أنه إن أريد به التقوية كان جملة، وإن لم يرد فإما أن يكون سببيا أو لا، إن لم يكن فهو مفرد، وإن كان فإما أن يتأخر السببى ولا يراد الحدوث، أو لا، فإن تأخر ولم يرد الحدوث فهو مفرد مثل: زيد قائم أبوه، إذا عرفت ذلك ورد على المصنف أن كلامه يقتضى أنه متى كان سببيا كان جملة، وليس كذلك؛ لأجل زيد منطلق أبوه. (تنبيه): مراد المصنف بغير السببى هو ما أراده السكاكى بالمسند الفعلى، وهو ما يكون مفهومه محكوما فيه بالثبوت أو الانتفاء، وجعل منه: فى الدار خالد، على أن تقديره: استقر فى الدار. وأورد عليه المصنف أمرين: أحدهما - أن ما ذكره فى تفسير المسند الفعلى يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببى؛ إذ فسر المسند السببى بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلى، ومثله بقولنا: زيد أبوه انطلق أو منطلق، والبر الكر منه بستين، فجعل أمثلة السببى مقابلة لأمثلة الفعلى مع الاشتراك فى أصل المعنى؛ وأجيب عنه بأن ما ذكره تفسير للمسند الخبرى المقابل للسببى الشامل للمفرد والجملة التى تكون قصد بها تقوى الحكم؛ ولذلك قيد السكاكى الفعلى بنفى الجملة؛ ليتعين كونه مفردا، أما كونه مقابلا للسببى؛ فلأن الفعلى ما يكون مفهومه محكوما فيه بالثبوت للمسند إليه أو الانتفاء، وهو أعم من المفرد والجملة التى يكون المقصود بها تقوى الحكم.

كون المسند فعلا

ص: وأما كونه فعلا: فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه، مع إفادة التجدّد، ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى - أنه إذا كان تقدير فى الدار خالد استقر، وخالد مبتدأ - كان المسند جملة أيضا. وأجيب عنه بأنه لعله فرعه على رأى الأخفش (¬1) من أن الظرف يعمل بغير اعتماد؛ فيكون أراد أن خالدا فاعل، واستقر فارغ من الضمير، وهو المسند العامل فى خالد. كون المسند فعلا: ص: (وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه ... إلخ). (ش): يكون المسند فعلا لدلالته على أحد الأزمنة الثلاثة مع الاختصار؛ لأن قولك: زيد قام، يدل على وقوع قيامه فى الماضى مع الاختصار؛ فإنه يغنى عن قولك: قائم فى الماضى، والفعل حيث وقع دل على التقييد بأحد الأزمنة الثلاثة إما معينا مثل: قام؛ حيث لم يقع صلة أو صفة لنكرة عامة أو فى شرط، ومثل: سيقوم، وإما مبهما بين أمرين مثل: المضارع إذا قلنا: إنه محتمل للحال والاستقبال والماضى إذا وقع صلة أو صفة لنكرة عامة، فإنه يحتمل المضى والاستقبال والحال خلافا لقول ابن مالك: يحتمل المضى والاستقبال فإنها عبارة قاصرة لعدم ذكر زمن الحال، ودلالة الفعل على الزمان بالتضمن، بخلاف دلالة قائم على الحال، فإنها ليست بالتضمن بل بالالتزام. والتحقيق أن الفعل الواقع صلة سلب الدلالة على تعيين الزمان وصار صالحا للأزمنة الثلاثة مضارعا كان أم ماضيا، وإليه أشار الزمخشرى فى سورة الرحمن، وغيرها. وقوله: (مع إفادة التجدد) أورد عليه أن التقييد بأحد الأزمنة حكم بحصوله فى ذلك الزمان دون غيره، وهذا هو التجدد؛ فيكون ذكر التجدد تكرارا، وجوابه أن التصريح بكونه حاصلا فى زمن لا يقتضى كونه لم يكن حاصلا فى غيره، فلا يلزم التجدد، وفى الجواب نظر لما سيأتى قريبا - إن شاء الله تعالى - ويريد أن الفعل يدل على وقوع الحدث، فهو يدل على تجدد ماض إن كان الفعل ماضيا أو مستقبلا فى نحو: سيقوم، أو حالا فى نحو: زيد الآن يقوم، وقول المصنف مع التجدد يحتمل أن يريد ¬

_ (¬1) الأخفش: عبد الحميد بن عبد المجيد أبو الخطا الأخفش الكبير، كان إماما فى العربية القديمة، أخذ عن أبى عمرو بن العلاء وطبقته وأخذ عن سيبويه والكسائى، انظر بغية الوعاة (2/ 74).

كقوله [من الكامل]: أو كلّما وردت عكاظ قبيلة … بعثوا إلىّ عريفهم يتوسّم (¬1)؟! ـــــــــــــــــــــــــــــ أنهما علتان، وأن يريد أنهما جزءا علة، ومثل المصنف هذا بقول طريف بن تميم العنبرى: أو كلّما وردت عكاظ قبيلة … بعثوا إلىّ عريفهم يتوسّم (¬2) فإن يتوسم يدل على تجدده، وقد يقال: إن التجدد فى هذا البيت فهم من (كلما) الدالة على التكرار الذى هو ملزوم التجدد، فإن كان المراد أن معنى يتوسم أنه فى كل مرة يتكرر التوسم؛ فقد يمنع، إلا أن هذا البيت ذكره المصنف مثالا لا شاهدا، لكن لك أن تقول: (يتوسم) ليس مسندا، بل حال؛ لكنه مسند معنى، فإن قلت: كيف يكون التجدد فى الفعل الماضى؟ قلت: لأن كل فعل حادث تجدد بعد أن لم يكن، ولا نعنى أن قولنا: قام زيد يدل على أنه لم يكن قائما على الدوام؛ لصحة قولنا: أحيا الله زيدا، وإن كان لم يزل حيا منذ صدق عليه اسم زيد، ولكن مدلول الفعل التجدد، وذلك أعم من تجدد شئ يتقدمه مثله أولا فإن الأفعال المستمرة ليست فعلا واحدا، بل الفعل فى كل وقت غير الفعل فى الوقت الذى قبله، وإن اتحدا بالنوع، ولذلك قال أصحابنا: من الأفعال ما دوامه فعل كالابتداء، وهو يخالف ما ذكره البيانيون، ولعلهم بنوا ذلك على العرف، فذكروه فى الأيمان، فإن بناءها على العرف غالبا. (تنبيه): الفعل يدل على التجدد ماضيا كان أم مضارعا أم أمرا، غير أن التجدد الذى يدل عليه الماضى المراد به الحصول، والمضارع يدل على التجدد بمعنى أن من شأنه أن يتكرر ويقع مرة بعد أخرى، وقد صرح به الزمخشرى عند قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬3) وسيأتى فى كلام المصنف فى الكلام على (لو) وأما ما وقع فى كلام ¬

_ (¬1) عريف القوم: رئيسهم أو القيم بأمرهم. يتوسم: يتأمل. (¬2) البيت لطريف بن تميم العنبرى فى الإشارات والتنبيهات/ 65، والأصمعيات/ 67، وشرح المرشدى على عقود الجمان 1/ 106، ودلائل الإعجاز/ 176. وعكاظ أكبر أسواق العرب فى الجاهلية، وعريف القوم: رئيسهم أو القيّم بأمرهم، يريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته وعظمته. انظر الإيضاح 95، والتلخيص 29. (¬3) سورة البقرة: 15.

كون المسند اسما

وأمّا كونه اسما: فلإفادة (¬1) عدمهما؛ كقوله [من البسيط]: لا يألف الدّرهم المضروب صرّتنا … لكن يمرّ عليها وهو منطلق (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ الزمخشرى عند قوله تعالى: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ (¬3) من أن التأكيد مستفاد من السين، وما اقتضاه من عدم استفادته من الفعل المضارع ففيه نظر. واعلم أنه يستثنى من قولنا: المضارع دال على الاستمرار ما إذا أريد به زمن الحال خاصة؛ فإن الاستمرار مع إرادة زمن الحال فقط لا يجتمعان، إلا أن يقال: يدل على وقوع الحدث فى الحال وأنه يستمر فى المستقبل، فإن قلت: لو كان المراد بالمضارع الاستمرار لكان نفى المضارع لا ينفى أصل الفعل، فإذا قلت: لا يقوم زيد يكون نفيا لقيامه المستمر، لا نفيا لأصل القيام - قلت: يقدر أن الفعل صار مضارعا بعد النفى، وورد النفى على أصل الفعل فبقى نفيا موصوفا بالاستمرار، فصار الاستمرار للنفى لا للفعل، ومما ذكرناه يعلم الجواب عما يورد من نحو: علم الله كذا، فإن علم الله تعالى لا يتجدد، وكذا سائر الصفات الدائمة التى يستعمل فيها الفعل، وجوابه: أن معنى علم الله كذا وقع علمه فى الزمن الماضى، ولا يلزم أنه لم يكن قبل ذلك، فإن العلم فى زمن ماض أعم من المستمر على الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره، وحاصله أن المعنى بالتجدد فى مثله الوقوع. كون المسند اسما: ص: (وأما كونه اسما ... إلخ). (ش): من أحوال المسند أن يكون اسما، وذلك إذا قصد به عدم التجدد وعدم الدلالة على الزمن، وينبغى أن يقال: لعدم قصد إفادتهما حتى إذا لم يقصد واحد منهما يكون كافيا فى إثباته اسما، ومثله المصنف بقول النضر بن جؤية: لا يألف الدّرهم الصّبّاح صرّتنا … لكن يمرّ عليها وهو منطلق (¬4) ¬

_ (¬1) أى عدم التقييد المذكور وإفادة التجدد يعنى لإفادة الدوام والثبوت لأغراض تتعلق بذلك. (¬2) البيت للنضر بن جؤية، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 65. (¬3) سورة التوبة: 71. (¬4) البيتان من البسيط، والأول للنضر بن جؤية فى معاهد التنصيص 1/ 207، وشرح الواحدى على ديوان المتنبى - كما قال أ/ محمود شاكر - والإشارات والتنبيهات 65، ولجويرية بن النضر فى شرح -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا … ظلّت إلى طرق المعروف تستبق فإن قوله: (منطلق) دل على أن ذلك دأبه من غير نظر إلى زمن دون آخر، و (الصباح) قيل: بالباء الموحدة، أى: المسكوك (¬1) وقيل: بالياء آخر الحروف، أى: الدرهم المضروب، وقيل: الصباح الذى يأتينا صباحا، ومن ذلك قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ (¬2) المراد: هيئة هذا الكلب من غير نظر لوقت دون آخر، كذا مثلوه، وفيه نظر؛ لأن الاسم إذا عمل صار كالفعل يدل على التجدد، لا على الثبوت كما قررناه فى غير هذا الموضع، فإن قلت: اسم الفاعل حقيقة فى الحال فينبغى أن يكون منطلق للحال - قلت: نعم، لكنه قد يقترن به ما يراد به قطع النظر عن الزمن فيكون للحالة المستمرة، وذلك يظهر بكونه فى معرض مدح أو ذم، ونحو ذلك. وهذا لا ينافى الحال، بل فيه الحال بقيد الاستصحاب، فإن قلت: إذا قلنا: (زيد ضارب الآن أو أمس أو غدا) لا يدل على الثبوت؛ لتقيده بالزمن الدال على التجدد، ولا سيما ضارب غدا، وإن لم يقيد بظرف فهو مصروف إلى الحال - قلت: الدلالة على التجدد عند التقييد بالظرف إنما هو بناء على أن الظرف ينفى الوقوع فى غيره بالمفهوم، ولا نسلمه، كما هو قول مشهور فى مفهوم الصفة، وإن كان مرجوحا فقد سلمناه، فقد يقال: إنما نعنى بالثبوت وعدم التجدد بالنسبة إلى ذلك الظرف فقولنا: (زيد ضارب غدا) معناه أن الضرب الذى سيقع منه غدا يقع ثابتا مستقرا سواء كان موجودا قبل ذلك أم لا بخلاف (زيد يضرب غدا) فإنه يدل على أنه يتجدد له فى غد ضرب، فلا معارضة حينئذ بين مفهوم الظرف ودلالة الاسم على الثبوت سلمنا ذلك كله، فالاسم إنما يدل على الثبوت ما لم يعمل. (تنبيه): قد يستثنى من قولهم: الاسم دال على الثبوت الاسم الواقع حالا وسيأتى فى كلام المصنف وغيره أنه يدل على الحصول لا الثبوت، على بحث فيه سيأتى، فى ¬

_ - المرشدى على عقود الجمان 1/ 106. وبلا نسبة فى دلائل الإعجاز ص: 174، والإيضاح 95، والتلخيص 25. (¬1) السّكّ: تضبيبك الباب أو الخشب بالحديد وهو السّكّى والسّكّ. والسّكّىّ: المسمار وقيل: الدينار. اللسان (سكك). (¬2) سورة الكهف: 18.

تقييد الفعل بمفعول ونحوه

وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه: فلتربية الفائدة. ـــــــــــــــــــــــــــــ موضعه، وسيأتى أنه يستثنى من ذلك أيضا الصفة المشبهة على فاعل؛ فإن النحاة نصوا على أنه إذا أريد بالصفة المشبهة التجدد حولت إلى فاعل، فهو حينئذ لم يكن صفة مشبهة بل اسم مجرد، ومع ذلك يدل على التجدد لا الثبوت. ولك أن تجعل هذا الكلام سؤالا على أصل القاعدة، ويستثنى أيضا الصفات العاملة من أسماء الفاعلين وغيرها، غير الصفة المشبهة، فإنها كلها دالة على التجدد كما سبق حتى المصدر إذا عمل، وإنما يدل الاسم على الثبوت ما لم يعمل، كما صرح به أهل هذا الفن، وهو واضح. (تنبيه): ليت شعرى ماذا يصنع الزمخشرى فى أنه لا يزال يصرح بدلالة الاسم على الثبوت والاستقرار، ولا شك أن المراد بالثبوت ثبوت المصدر الذى يشتق منه الاسم، ثم يقول: إن أسماء الله سبحانه وتعالى مشتقات لا تستلزم صدق أصلها! فأى ثبوت عنده فى نحو: (عليم وسميع) إذا كان ينكر أصل العلم والسمع؟! ولكنه لا يزال يستعمل القواعد البيانية ما لم تغط عليه للبدعة الاعتزالية فيعدل عنها، كما تقدم عنه فى التخصيص بتقديم المسند إليه. (تنبيه): فى كلام السكاكى وغيره أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وأن الفعل دال على التجدد، فقد يقال: هذان الكلامان يتناقضان فى نحو: (زيد قام)؛ لأن هذه الجملة حينئذ تقتضى ثبوت القيام لزيد من حيث كونها اسمية، والتجدد من حيث كون القيام مذكورا بصيغة الفعل، وقد أشكل هذا الموضع على الكاشى فى شرح المفتاح، فقال: إن كون الجملة الاسمية للثبوت إنما هو فى التى خبرها أيضا اسم، وفيما قاله نظر، بل ما قالوه جار على عمومه، ولا تناقض؛ لأن قولك: (زيد قام) يدل على ثبوت نسبة القيام المتجدد، فالقيام متجدد وحصوله لزيد ووصفه به ثابت مستقر، ولا بدع فى ذلك، فربما كان الفعل المتجدد لشدة لزومه ودوامه أو شرفه فى نفسه يجعل لفاعله صفة ثابتة مستقرة. تقييد الفعل بمفعول ونحوه: ص: (وأما تقييد الفعل ... إلخ). (ش): من أحوال المسند إذا كان فعلا أو شبهه أن يقيد، والمصنف لم يجعل هذه حالة للمسند بل حالة للفعل؛ لأنه ليس كل مسند كذلك، وتقدير كلامه: وأما تقييد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الفعل المسند، ولكن يرد على المصنف ما يعمل عمل الفعل، وحكمهما واحد، والتقييد إما أن يكون بمفعول، وأطلق المفعول ليكون صالحا للمفاعيل الخمسة المطلق مثل: (ضربت ضربا كثيرا) فالتقييد وقع بالمصدر؛ لأنه أريد به ضرب خاص بدليل صفته، والمفعول به إما بحرف مثل: (مررت بزيد)، أو بغير حرف مثل: (ضربت زيدا)، ومثل السكاكى المفعول به المجرور بحرف بقولك: (ضربت بالسوط)، وقولك: (ما ضربت إلا زيدا) قلت: وفيه نظر؛ أما ضربت بالسوط فليس مفعولا به؛ لأن الباء فيه للاستعانة، ويمكن الجواب بأن مراده بضربت بالسوط جعلت السوط كذلك، وتكون الباء فيه للتعدية لا للاستعانة، ويكون الفعل تعدى إلى زيد بنفسه، وإلى السوط بالحرف، وهو معنى غير الأول، وأما ما ضربت إلا زيدا فهو مفعول به لفظا؛ لأنه استثناء مفرغ، إلا أن يكون السكاكى جعل المفعول محذوفا، وزيدا منصوبا على الاستثناء، ويكون الفعل حينئذ وصل إليه بواسطة حرف وهو (إلا) وحينئذ فلا يصح؛ لأن ذلك ليس مفعولا به؛ لأن الغرض أن المفعول محذوف، بل منصوب على الاستثناء، والمنصوب على الاستثناء ليس مفعولا به حقيقة. ألا ترى أنك تنصب على الاستثناء فى الأفعال القاصرة مثل: (قام الناس إلا زيدا)! وإن جعلنا المفعول محذوفا وزيدا بدلا منه، وبدل المفعول مفعول، فذلك من جهة الصناعة لا من جهة المعنى، ألا ترى أن الضرب بالنسبة إلى المبدل منه منفى، وبالنسبة إلى البدل مثبت؟ ثم لو سلمناه فالفعل الواصل إلى المبدل منه بنفسه هو الواصل إلى البدل بنفسه، و (إلا) هى سبب فى وصول الفعل إلى البدل بنفسه لا بها. ويتناول المفعول فيه زمانا مثل: (ضربت اليوم)، ومكانا مثل: (ضربت أمامك)، والمفعول معه نحو: (سرت والنيل)، والمفعول له مثل: (ضربت تأديبا)، وإما أن يكون التقييد بغير المفعول كالتمييز مثل: (طاب زيد نفسا)، والحال مثل: (ضربت قائما). وجعل منه المصنف: (ما ضرب إلا زيد)، وكأنه يعنى التقييد بالحصر فى المخبر عنه. وقوله لتربية الفائدة، أى: فائدة الخبر. قالوا: معناه لزيادتها؛ لأنه بالقيود تزداد الفائدة، وينبغى أن تحمل على زيادتها بحسب التعيين، وإلا فلكل فعل مفعول مطلق ومفعول فيه، وبه إن كان متعديا. قلت: ثم قولهم: الفائدة تزيد واضح فى الإثبات، أما النفى إذا قلت: (ما ضربت)، أفاد نفى الضرب عن كل واحد لأن تقديره ما ضربت أحدا، فإذا قلت: زيدا نقص المخبر به فصار خاصا بعد أن

والمقيّد: فى نحو: (كان زيد منطلقا) هو (منطلقا)، لا (كان). وأما تركه (¬1): فلمانع منها (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ كان عاما، فلذلك إذا قلت: ما ضربت قائما لا يكون فيه نفى الضرب عن غير قائم، فالفائدة لم تزد بل نقصت؛ والتحقيق أن الفائدة زادت ولكن المخبر به نقص، فينبغى أن تفسر تربية الفائدة بحصولها على الكمال. بقى أن يقال: التقييد واضح فى المفعول معه والمفعول له، أما المفاعيل الثلاثة فهى ملازمة للأفعال، فليس للفعل حالة إطلاق وحالة تقييد، فإن أراد تقييده لفظا فيقال: تربية الفائدة تحصل مع الحذف؛ لأنه لا يحذف إلا إذا قام عليه الدليل، فالفائدة سواء فى قولك: (ضربت زيدا)، وقولك: (ضربت)، فى جواب: (ما صنعت)؟ إلا أن يقال: التنصيص عليه ينقلها من الظهور إلى النص. ثم ذكر نوعا غريبا من التقييد وهو قولك: (كان زيد قائما) ربما يتوهم أن التقييد حصل بخبر كان؛ لأنه بمنزلة المفعول، واسمها بمنزلة الفاعل قد يكمل الإسناد بها وباسمها فقال: ليس كذلك بل الإسناد دائر بين اسمها وخبرها كما كان قبل (كان)، وإنما دخلت (كان) تقييدا فالقيام مقيد بكان، وليست كان مقيدة بالقيام، وهذا واضح على رأى من ذهب إلى أنها مسلوبة الحدث، أما على قول الجمهور من أن لها حدثا وزمانا فالأمر أيضا كذلك، إلا أنه أغرب فإن (كان) إن كانت مسندة إلى اسمها فيصير اسم كان مسندا إليه أمران فى حالة واحدة، ثم يصير القيد عاملا فى المقيد، ويصير قولك: (كان زيد قائما) جملتين متداخلتين مركبتين من ثلاث كلمات، وإن كانت مسندة إلى الجملة بعدها لزم الإشكال الثانى والثالث، ثم كيف تستند إلى الجملة وقد تقرر من مذهب البصريين خلافه؟! ثم لو أسندت إلى الجملة لكانت تامة لا ناقصة، ولكانت الجملة كلها فاعلا. وعلى الأول فقد يتعلق بذلك متعلق فيجيز نحو: (زيد القائم حضر) على أن يكون القائم خبرا لزيد ومبتدأ لحضر، وكقوله تعالى: قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ (¬3) على أن يكون (من وجد فى رحله) خبرا عما قبله مبتدأ لما بعده، ولا ¬

_ (¬1) أى ترك التقييد. (¬2) أى من تربية الفائدة. (¬3) سورة يوسف: 75.

تقييد المسند بالشرط

وأما تقييده بالشرط: فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل، وقد بيّن ذلك فى علم النحو، ولكن لا بدّ من النظر - ههنا - فى: "إن"، و"إذا"، و"لو": ف إن وإذا ": للشرط فى الاستقبال؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ يكاد أحد يخبر بذلك لما يلزم عليه من كون الاسم متجردا من العوامل وغير متجرد فى حالة واحدة. وقوله: (وأما تركه فلمانع منها) أى ترك التقييد لمانع من هذه الأمور، مثل: إرادة الاختصار أو انتهاز الفرصة، أو غير ذلك. تقييد المسند بالشرط: ص: (وأما تقييده بالشرط ... إلخ). (ش): من أحوال المسند تقييده بالشرط مثل: (يقوم زيد إن قام عمرو) ومثل (إن قام زيد قام عمرو)، فإنه قيد فيه الجواب بالشرط، ولك أن تقول: المفيد هنا ليس المسند بل جملة كاملة من مسند ومسند إليه، ثم ذلك يكون لاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة معانى كلمات الشرط وما بينها من التفاوت. وقد أحال المصنف غالب ذلك على علم النحو، واقتصر على ذكر (إن) و (إذا) و (لو)، وقال: إنه لا بد من النظر فيهن لما فيهن من المعانى اللطيفة والمباحث الشريفة على خلاف فى بعض هذه الأدوات. وأدوات الشرط إن ومن وما ومتى ومهما وأى، وأنى وأيان قليلا ظرفا زمان، وكيف وإذما، وحيثما وأين ظرفا مكان، وكذلك لما ولولا ولوما. و (لو) فى الغالب شرطية يعنى أنها للربط فى الماضى، وأما إطلاق المصنف أن (لو) شرط فقد تبع فيه ابن مالك، وابن مالك تبع الجزولى، قال شيخنا أبو حيان: وأصحابنا لا يعرفون ذلك انتهى. والتحقيق أنها ليست شرطا فإن الشرط يستحيل أن يكون ماضيا كما سيأتى تقريره. ومن أدوات الشرط (إذا) فقط أو موصولة بها (ما). ولنقدم ما تكلم عليه المصنف. أما (إن) و (إذا) فقال: إن كلا منهما للشرط فى الاستقبال، يعنى: أن فعل الشرط فيهما لا بد أن يكون مستقبل المعنى سواء كان ماضى اللفظ أو مضارعه، وهذا متفق عليه، ولا يقدح فيه قول بعضهم: إن (إذا) قد تكون للحال وإن منه قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (¬1) لأن ذلك إن ثبت فهو فى ¬

_ (¬1) سورة النجم: 1.

لكن أصل (إن) عدم الجزم بوقوع الشرط، وأصل (إذا) الجزم بوقوعه، ولذلك كان النادر موقعا ل إن خ خ، وغلب لفظ الماضى مع إذا خ خ؛ نحو: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا المجردة للظرفية لا فى المتضمنة معنى الشرط. نعم قال بعضهم: إن (إذا) لا تدل على الشرط والارتباط، بل حصول الفعلين معها بحسب الاتفاق، إذ لو لوحظ فيها معنى الشرط جئ بالفاء نحو قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ (¬2)، ولا يجوز: (إن يقم زيد ما ضربته) لكن الأصل فى (إن) عدم الجزم بوقوع الشرط، فإذا قلت: (إن قام زيد) دل على أنك غير جازم بأنه سيقوم، وأصل (إذا) الجزم؛ ولذلك كان النادر أى: الذى يندر - وقوعه موقعا؛ لأن أى مكان وقوعها، فإن قلت: كيف تدخل (إن) على فعل الموت كقوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ (¬3) قلت: أجاب عنه الزمخشرى بأنه لما كان مجهول الوقت ساغ ذلك فينبغى حينئذ أن يضاف إلى غير المجزوم به غير المجزوم بوقته، فإن قلت: فليجز التعليق على احمرار البسر بأن قلت: إنما امتنع عند من منعه؛ لأن وقته معلوم بالتقريب، وإنما أتى بلفظ الأصل لأنه قد يأتى عكس هذا كما سنذكره، وكون (إذا) موضوعة للمجزوم به خلاف ما ذكره ابن مالك وغيره من أنها لما تيقن كونه أرجح، والذى يتلخص أن (إن) و (إذا) يشتركان فى عدم الدخول على المستحيل إلا لنكتة نحو: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ (¬4)، وتنفردان بالمشكوك فيه والموهوم، وتنفرد (إذا) بالمجزوم به، وهل تدخل على المظنون؟ خلاف، لكن قول المصنف: أصل (إن) عدم الجزم يدخل فيه الأربع فيرد عليه المستحيل والمظنون وليس الأصل دخولها عليهما. قال المصنف: ولأجل ذلك غلب لفظ الماضى مع (إذا)؛ لأن الفعل بعدها مجزوم به، فاستعمل فيه ما ينبئ عن تحققه؛ لأن المستقبل إذا قصد تحققه يؤتى به بلفظ الماضى كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ (¬5)، ثم ذكر قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أتى فى الحسنة (بإذا)؛ لأن وقوع مطلق الحسنة مجزوم به؛ لأن الحسنة - أعنى نعم الله تعالى المحبوبة للعباد - غالبة ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 131. (¬2) سورة الجاثية: 25. (¬3) سورة آل عمران: 158. (¬4) سورة الزخرف: 81. (¬5) سورة النحل: 1.

لأن المراد الحسنة المطلقة؛ ولهذا عرّفت تعريف الجنس، والسيئة نادرة بالنسبة إليها؛ ولهذا نكّرت. ـــــــــــــــــــــــــــــ على السيئة - أعنى ما يسوء الإنسان - وأتى فى السيئة (بإن) لندورها، هكذا ينبغى أن يقرر. وأما المصنف فإنه قال: أتى فى جانب الحسنة (بإذا) لأن المراد الحسنة المطلقة التى حصولها مقطوع به؛ أو كالمقطوع به، ولذلك عرفت تعريف الجنس، وفى جانب السيئة بلفظ (إن) لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكرت. قلت: قد يقال: إن الإطلاق موجود فى الحسنة المعرفة تعريف الجنس، وفى السيئة النكرة، إلا أن يقال: الألف واللام الجنسية تصرف إلى الحقيقة فيكون مطلقا، بخلاف سيئة المنكر قد يكون نكرة فى المعنى بأن يكون تنكيره للوحدة. والذى يظهر أن ما ذكره المصنف من الحكمة فى استعمال (إن) و (إذا) فى موضعهما واضح من غير اعتبار تعريف ولا تنكير. وجوّز السكاكى أن تكون الألف واللام جنسية وأن تكون عهدية، وقال: إن العهد أقضى لحق البلاغة. قال المصنف: وفيه نظر، ووجه النظر أنه قرر أن الحسنة مطلقة فكيف يجعلها للعهد وهو ينافى الإطلاق؟ وحمل كلامه على أنه يريد عهدا جنسيا، والعهد الجنسى لا ينافى الإطلاق بالنسبة إلى أنواعه، وحمل على أنه يريد بالمعهود النعمة المطلقة الموجودة فى ضمن الجزئيات، فتكون مطلقة وغير مطلقة باعتبارين، وما ذكره فى المفتاح هو معنى عبارة الكشاف. وإذا راجعت ما قدمناه فى الألف واللام من تحقيق مذهب السكاكى، وأنه يرى أن الألف واللام لا تزال عهدية اتضح لك أن ما ذكره هنا ماش على رأيه. قال الطيبى: مراد الزمخشرى بجنس الحسنة العهد الجنسى الشائع، كما قال فى تفسير (الحمد لله): التعريف فيه للجنس، والمراد الإشارة لما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو؟ فالمراد بالحسنة الحسنة التى تحصل فى ضمن فرد من الأفراد، فتارة تكون خصبا، وتارة رفاهية، وتارة صحة، وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: الحسنة من الخصب والرخاء، فإن بعضا منها واقع لا محالة، وهو يصدق على كل فرد حاصلا كان أو سيكون، ومن ثم لم يجز حمل العهد على الخارجى لتشخصه، ولا على الجنس من حيث هو هو؛ فإن الحقيقة إذا أريد بها شئ بعينه مجازا حمل على المبالغة والكمال فيها، والمقام لا يقتضى ذلك، وهو المعنى بقول صاحب المفتاح؛ لكون حصول الحسنة المطلقة مقطوعا به كثرة؛ ولذلك عرف ذهابا إلى كونها معهودة أو تعريف جنس،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والأول أقضى لحق البلاغة أى المعهود الذهنى اه. وقيل: إنما قال: إنه أقرب للبلاغة؛ لأن المعهود أقرب إلى التحقق من الجنس، وجعل المصنف من ذلك: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ (¬1). قلت: وهو يشهد لما قلناه من أن الإتيان (بإذا) و (إن) لمادتى الحسنة والسيئة، لا لتعريف ولا لتنكير، وإلا ورد عليه ما ذكره بهذه الآية الكريمة، فيحتاج إلى تكلف الجواب بأنه إنما نكّر رعاية للفظ الإذاقة المشعر بالقلة. وأورد المصنف قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (¬2) فقد استعمل فيه (إذا) فى الطرفين، وأجاب بأنه قصد التوبيخ والتقريع فأتى (بإذا) و (بالمس) المشعر بالقلة؛ ليكون تخويفا لهم، وإخبارا بأنهم لا بد أن يمسهم شئ من العذاب. وأورد قوله تعالى: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (¬3) بعد قوله تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ فإن الضمير فى مسه يعود على المعرض؛ إشارة إلى أنه لما أعرض وتكبر قطع بأن الشر يمسه؛ قلت: الواو ليست للترتيب، والذى يمسه الشر أعم من أن يكون مسه الخير قبل ذلك أولا. (تنبيه): أورد على الشاعر القائل: إذا هى حثّته على الخير مرّة … عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها (¬4) قلت: ويمكن الجواب بأن المقصود إثبات حثّ نفسه له على الخير ومع ذلك يعصيها، وهو أبلغ فى الذم، وبذلك يعلم الجواب عن قوله: وإن همت، قلت ذلك بحثا ثم رأيته فى بعض الحواشى، وقد سبق غيرى إليه. ¬

_ (¬1) سورة الروم: 36. (¬2) سورة الروم: 33. (¬3) سورة فصلت: 51. (¬4) البيت من الطويل، وهو لسعيد بن عبد الرحمن فى الأغانى 8/ 281، والبيان والتبيين 3/ 187، وشرح عمدة الحافظ ص: 373، ولعبد الرحمن بن حسان فى أمالى القالى 2/ 222، والحماسة البصرية 2/ 266، والعقد الفريد 6/ 292، وعيون الأخبار 3/ 193.

وقد تستعمل (إن) فى الجزم تجاهلا، أو لعدم جزم المخاطب؛ كقولك لمن يكذّبك: إن صدقت، فماذا تفعل؟ خ خ، أو لتنزيله منزلة الجاهل؛ لمخالفته مقتضى العلم، أو التوبيخ وتصوير أنّ المقام - لاشتماله على ما يقلع الشرط عن أصله - لا يصلح إلا لفرضه، كما يفرض المحال؛ نحو: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (¬1) فيمن قرأ (إن) بالكسر، أو تغليب غير المتّصف به على المتصف به، ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وقد تستعمل (إن) فى الجزم ... إلخ). (ش): قد تخرج (إن) عن أصلها وتستعمل فى المجزوم به، وذلك إما على سبيل تجاهل المتكلم كقول العبد لمن يطلب سيده: (إن كان فى الدار أعلمته) ليوهمه أنه غير جازم، وإما لعدم جزم المخاطب كقولك لمن يكذبك: (إن صدقت فماذا تفعل؟) لأن المخاطب يشك فى صدقه. قلت: وينبغى أن قوله: (إن صدقت) يحمل على التعيين، وهو مشكوك فيه، وإن كان الصدق مجزوما به - وإما لتنزيل المخاطب منزلة الجاهل لمخالفته مقتضى العلم، كقولك لمن يؤذى أباه: (إن كان أباك فلا تؤذه) ويصح أن يعبر عن ذلك بتنزيل المتكلم نفسه منزلة الجاهل لإيهام أن الأذى الصادر من الولد لأبيه لا يصدر إلا من الأجنبى؛ فلذلك شكك نفسه فى أنه أبوه، ويصلح للأمرين أيضا قولك لمن يؤذى الناس: (إن كنت مسلما فلا تؤذ المسلمين). وإما للتوبيخ بأن يراد أن فعل الشرط الواقع المجزوم به لقيام البراهين المقتضية لوقوع خلافه كأنه معدوم فيفرض معدوما ويعلق على الشرط كقوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" أَنْ" كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ على قراءة الكسر، ويرد عليه أمران: أحدهما - أن المجزوم به إسرافهم فيما مضى، والإسراف للمستقبل بالنسبة إلى العباد مشكوك فيه، وإن كان المراد: إن تبين إسرافكم الماضى لأجل كان فالتبين أيضا للعباد مشكوك فيه. الثانى - أنه إذا كانت البراهين القاطعة تجعل الإسراف كالمستحيل، فدخول (إن) عليه خلاف الأصل، فإن المستحيل لا تدخل عليه أداة الشرط حقيقة، و (الهمزة) فى الآية الكريمة للإنكار، و (الفاء) عاطفة على جملة محذوفة، و (الضرب) مجاز عن ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 5.

وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا (¬1) يحتملها. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصرف، و (صفحا) مصدر من المعنى أو مفعول من أجله أو حال أى صافحين، إن جوزنا وقوع المصدر حالا فى القياس ويحترز بقراءة الكسر عن قراءة الفتح فمعناه ألأجل إسرافكم نضرب عنكم الذكر فلا تؤمرون ولا تنهون، وإما أن يؤتى (بإن) للتغليب، بأن يسند فعل الشرط إلى جماعة بعضهم مقطوع بوقوع الفعل منه، وبعضهم مشكوك فيه، فيغلب المشكوك فى وقوعه منه على غيره. (تنبيه): حيث ورد فى القرآن الكريم (إن) وليست فى كلام محكى عمن يقع منه الشك استحال أن تكون للشك؛ لأن الله تعالى منزه عنه، وإنما هى على ما يقتضيه المقام من هذه التأويلات. (تنبيه): قال المصنف تبعا للسكاكى فى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ: تحتملها، أى تحتمل أن تكون للتوبيخ - كما سبق - وأن تكون لتغليب غير المرتابين من المخاطبين على المرتابين منهم، فإنه كان منهم من يعرف الحق وينكره عنادا. قلت: لكن التغليب أن تجمع بين ما تقتضيه الكلمة وغيره، وهنا جمع فى فعل الشرط بين مجزوم بأن عنده ريبا، وهم الكفار، ومجزوم بأنه لا ريب عندهم، وهم الذين كانوا يعتقدون الحق بقلوبهم، فلم تستعمل (إن) فى شئ من حقيقتها من الشك ثم غلب عليه غيره، بل استعملت فى شيئين كل منهما غير مدلولها، وليس ذلك من التغليب فى شئ، وما هو إلا كقولك: (إن عاد أمس وطلعت الشمس غدا أكرمتك) فهو تعليق على واجب ومستحيل، وكلاهما خلاف الأصل. وقد مشى شارحو المفتاح والتلخيص على ما ذكره المصنف على ما فيه، ولا يصح كلامه إلا بتأويل، وهو أن يدعى أن بعض المخاطبين كانت حالته حال من يشك الإنسان فى أن عنده ريبا، أو لا كالمنافقين، وبعضهم كان الإنسان يعلم أن عنده ريبا، وهم الكفار الذين يقولون: لا ندرى، كالذين قالوا: وَمَا الرَّحْمنُ (¬2) فحينئذ يمكن أن يقال: بعض المخاطبين من شأنهم الخطاب (بإن)؛ لأن عند الإنسان شكّا فى أن عندهم ريبا أو لا، وبعضهم لا يشك الإنسان فى أن عنده ريبا فغلب المشكوك فى ريبه بالنسبة إلى السامعين على غير المشكوك فى ريبه، وهذا غير ما ذكره المصنف؛ ثم إن فيه من الركاكة ما لا يخفى، ولعل القطع حاصل بأنه غير مراد، وأغلب ظنى أن الوهم سرى ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 23. (¬2) سورة الفرقان: 60.

والتغليب يجرى فى فنون كثيرة؛ كقوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (¬1)، وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (¬2)، ومنه: أبوان، ونحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لهم من أن الريب هو الشك، وأن الذهن زاغ عن الريب الذى يطلبه (إن)، وهو ريب الإنسان المتكلم إلى الريب الذى هو فعل الشرط، ثم لو ثبت للمصنف ما ادعاه فى الآية الكريمة من التغليب وقع النزاع معه ومع السكاكى فى جعله التغليب من النكت التى لأجلها تستعمل (إن) فى المجزوم به؛ وذلك لأن هذا العلم إنما يتكلم فيه فى النكت المعنوية لا اللفظية، والتغليب أمر لفظى لا يؤتى به إلا لنكتة معنوية تحمل عليه، فإن أراد المصنف أن التغليب نكتة لم يصح، وإن أراد أنه لا بد من اشتماله على نكتة معنوية لأجلها تستعمل (إن) فى الجزم فليس فى ذلك بيان لما هو بصدده، من نكتة استعمال (إن) فى الجزم، وربما كانت تلك النكتة الحاملة على التغليب هى إحدى النكت السابقة. ثم اعلم أن السكاكى قال: وأما قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا (¬3)، وإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ (¬4) وذكر ما سبق أراد والله أعلم بقوله: وإن كنتم فى ريب من البعث قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ لأن التلاوة إِنْ كُنْتُمْ بلا واو، والواو من كلام السكاكى عاطفة، ولا ينكر ذلك، فهو كقوله: (فى كتاب هرقل: ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ (¬5) الآية فكأن المصنف توهم أن هذه الواو من القرآن الكريم فقال فى الإيضاح: وكذلك قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ (¬6) وهو غلط سببه ما سبق. ص: (ثم التغليب يجرى فى فنون ... إلخ). (ش): لما توهم المصنف أن ما سبق محتمل للتغليب استطرد لذكر باب التغليب، وليته لم يذكره هنا؛ لعدم ثبوت أن ما سبق من التغليب، فقال: إن التغليب يجرى فى فنون، كقوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ غلب فيه المذكر على المؤنث. وقد يكون بتغليب المخاطب على غيره، كقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أصله يجهلون بالياء فغلب؛ لأن قوما فى معنى المخاطب. ¬

_ (¬1) سورة التحريم: 11. (¬2) سورة النمل: 55. (¬3) سورة البقرة: 23. (¬4) سورة الحج: 5. (¬5) حديث هرقل مع أبى سفيان أخرجه البخارى فى" بدء الوحى"، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (1/ 42)، (ح 6)، وفى غير موضع من صحيحه الآية 64 من سورة آل عمران. (¬6) سورة الحج: 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وفى تسمية هذا تغليبا نظر، إنما فيه مراعاة المعنى. ومن تغليب المخاطب على غيره قوله تعالى: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا (¬1) فأدخل عليه الصلاة والسّلام فى لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا بحكم التغليب ولم يكن فى ملتهم أصلا، ونظيره قوله تعالى: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ (¬2). ومن التغليب قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (¬3) فإن لعلكم متعلق فى المعنى بخلقكم، والمراد بتتقون هو والذين من قبلهم. ومن تغليب العاقل على غيره قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (¬4). (تنبيه): للتغليب بالتثنية مواضع كثيرة فمنها قولهم: أبوان، للأب والأم، وفيه تغليب المذكر على المؤنث، ومنها: الخافقان، ذكره السكاكى وغيره وهما المشرق والمغرب، فإن الخافق حقيقة هو المغرب، على أن تسمية المغرب خافقا مجاز؛ لأن المغرب ليس خافقا بل مخفوق فيه، ومن التغليب العمران لأبى بكر وعمر، قال ابن الشجرى: ومن زعم أنهم أرادوا بالعمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فليس قوله بشئ؛ لأنهم نطقوا بالعمرين من قبل أن يعرفوا عمر بن عبد العزيز، ويروى أنهم قالوا لعثمان رضى الله عنه: نسألك سيرة العمرين، وإليه ذهب أبو عبيدة، ونقل فى إصلاح المنطق عن قتادة أنه سئل عن عتق أمهات الأولاد فقال: أعتق العمران فما بينهما من الخلفاء أمهات الأولاد، فأراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فلا تغليب. ومنها ما نقله الحاتمى عن الأصمعى قوله: ألا من بلّغ الحرّين عنّى … مغلغلة أخصّ بها أبيّا (¬5) وإنما هما الحر وأبى؛ أخوان، ومنها قولهم: البصرتان، للبصرة والكوفة، وقول قيس بن زهير: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 88. (¬2) سورة الأعراف: 89. (¬3) سورة البقرة: 21. (¬4) سورة الشورى: 11. (¬5) البيت من الوافر، وهو للمنخّل اليشكرى فى الأغانى 21/ 10، ويروى شطره الثانى مختلفا فيقول: ألا من مبلغ الحرين عنى … بأن القوم قد قتلوا أبيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جزانى الزهدمان جزاء سوء … وكنت المرء يجزى بالكرامه (¬1) وإنما هما: زهدم وقيس من بنى عبس. ومنه القمران، للشمس والقمر، قال ابن الشجرى: وهو المراد فى قول المتنبى: واستقبلت قمر السّماء بوجهها … فأرتنى القمرين فى وقت معا (¬2) وقال الفرزدق: أخذنا بآفاق السّماء عليكم … لنا قمراها والنّجوم الطّوالع (¬3) وسأل الرشيد من حضر مجلسه عن المراد بالقمرين، فقيل: أراد النبى وإبراهيم - عليهما الصلاة والسّلام - وبالنجوم الصحابة فأعجبه ذلك ورآه مناسبا لحال الفرزدق؛ فإن نسبه يتصل بهذا النسب الكريم، وبهذا التفسير جزم ابن الشجرى، وكان الوالد يستحسنه. ومنها: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ (¬4) المشرق والمغرب، وكذلك المغربان. ومنها: المصعبان، لمصعب بن الزبير وابنه عيسى، وقيل: مصعب بن الزبير وعبد الله أخوه، وقالوا لعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب: الخبيان، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب. ومنها: العمران فى قول قراد بن حبش الصاردى: إذا اجتمع العمران عمرو بن جابر … وزيد بن عمرو خلت ذبيان تبّعا (¬5) ومنها: الأحوصان؛ وهما الأحوص بن جعفر بن كلاب، وعمرو بن الأحوص. ومنها: الحنتفان، وهما الحنتف وسيف ابنا أوس بن حميرى. ومنها: البحتران؛ وهما ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لقيس بن زهير فى إصلاح المنطق ص: 400، والأغانى 11/ 142، ولسان العرب 12/ 279 (زهدم)، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى 2/ 149، والمحتسب 2/ 189، والمقتضب 4/ 326 وكتاب العين 4/ 123، ويروى: أجزى بدلا من يجزى. (¬2) البيت من الكامل وهو للمتنبى فى ديوانه 2/ 4، ومغنى اللبيب 2/ 687. (¬3) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه (1/ 419)، والأشباه والنظائر (5/ 107)، وخزانة الأدب (4/ 391)، ولسان العرب (15/ 107) (عوى). (¬4) سورة الزخرف: 38. (¬5) البيت من الطويل، وهو لقواد بن حبش الصاردى فى لسان العرب 4/ 608 (عمر)، وتهذيب اللغة 2/ 388، وتاج العروس 13/ 135 (عمر).

ولكونهما لتعليق أمر بغيره فى الاستقبال كان كلّ من جملتى كلّ فعلية استقبالية، ـــــــــــــــــــــــــــــ بحتر وفراس ابنا عبد الله بن سلمة. ومنها: الأقرعان، وهما الأقرع بن حابس وأخوه مزيد. ومنها: الطليحتان، طليحة بن خويلد الأسدى وأخوه حيال. ومنها: الخزيمتان، والربيبتان، من باهلة بن عمرو، وهما خزيمة وربيبة. قال ابن الحاجب فى أماليه: شرطه تغليب الأدنى على الأعلى؛ لأن القمر دون الشمس، وأبو بكر أفضل من عمر، وقد يرد عليه: البحران، للملح والعذب، فغلب فيه البحر الملح وهو أعظم من العذب، وعكس ذلك غير ابن الحاجب فقال: شرطه تغليب الأعلى على الأدنى، كما نقله الطيبى فى شرح التبيان، وقال ابن رشيق فى العمدة: إن الكسائى قال: إن التغليب فى العمرين إنما هو لكثرة الاستعمال؛ فإن أيام عمر أطول من أيام أبى بكر - رضى الله عنهما - وكذلك ذكره ابن الشجرى. (تنبيه): كما تستعمل (إن) فى المجزوم به تستعمل فى المستحيل، وكلاهما خلاف الأصل، كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ (¬1) على المشهور، وقيل: (إن) فى الآية المذكورة نافية، معناه ما كان له ولد فأنا أول العابدين له. ص: (ولكونهما لتعليق أمر بغيره فى الاستقبال ... إلخ). (ش): أى لكون (إن) و (إذا) وكان ينبغى أن يقول: لكون كل منهما، كما قال فيما بعد: لتعليق أمر، وهو الجواب بغيره، وهو الشرط فى الاستقبال، وليس قوله فى الاستقبال تقييدا لقوله: لتعليق أمر؛ لأن كل تعليق لا يكون إلا على مستقبل، والتعليق فى (لو) و (لما) لا حقيقة له، بل هو تركيب يتضمن ارتباطا ما، بل مراده أن يذكر الداعى لما سنذكره من كونها فعلية. (قوله: كان كل من جملتى كل فعلية استقبالية) أى: ليظهر بذلك موضوعها الاستقبالى، ولم تكن اسمية لدلالتها على الثبوت، وهو غير الاستقبال، وقوله: استقبالية، يعنى أنها بلفظ المضارع، ولا يعنى مستقبلة المعنى؛ لأن ذلك أمر لا يخالف أبدا لا لنكتة ولا لغيرها، ولو اجتنب ألفاظ الاستقبالية لكان أحسن؛ لأنه إنما يستعمل فى الفعل الدال على المستقبل سواء كان مضارعا أم لا. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 81.

ولا يخالف ذلك لفظا إلا لنكتة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ولا يخالف ذلك لفظا إلا لنكتة). (ش): مخالفة ذلك تكون بأحد أمرين: الأول - أن يقعا ماضيين لفظا، يشير إلى أنه إذا أتى بفعل الشرط ماضيا لفظا كان معناه الاستقبال. وما ذكره من كون فعل الشرط والجواب مستقبلين هو مذهب الجمهور، وذهب المبرد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ (كان) بقى على حاله من المضى؛ لأن (كان) جردت عنده للدلالة على الزمان الماضى، فلم تغيرها أدوات الشرط، وجعل منه قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ (¬1)، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ (¬2) والجمهور على المنع، وتأولوا ذلك كله إما على التبين أو غير ذلك، وكذلك الجواب لا يكون إلا مستقبلا. ومن العجائب أن ابن مالك لا يجوز أن يكون فعل الشرط ماضى المعنى (بكان) ولا غيرها، ثم يجوز أن يكون فعل الجواب ماضى اللفظ والمعنى مقرونا بالفاء مع (قد) ظاهرة أو مقدرة كقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ (¬3) وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ (¬4). وكيف يتصور أن يكون الشرط مستقبلا والجواب ماضيا؟ فيلزم حينئذ تقدم المشروط على الشرط وهو محال عقلا! والصواب تأويل ذلك كله على حذف الجواب أو غيره، إلا أن التأويل على حذف الجواب مشكل فى نحو: إِنْ يَسْرِقْ فإن البصريين لا يجوزون حذف الجواب إذا كان فعل الشرط مضارعا مجزوما. واعلم أنه قد وقع فى عبارة الزمخشرى فى قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ (¬5) على قراءة الرفع الشاذة يجوز أن يحمل أينما تكونوا على أينما كنتم فيكون كقول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسغبة … يقول لا غائب مالى ولا حرم (¬6) ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 116. (¬2) سورة يوسف: 26. (¬3) سورة يوسف: 77. (¬4) سورة يوسف: 27. (¬5) سورة النساء: 78. (¬6) البيت من البسيط، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص: 153، والإنصاف 2/ 625، وجمهرة اللغة ص: 108، وخزانة الأدب 9/ 70، 48، والدرر 5/ 82، ورصف المبانى ص: 104، وشرح أبيات سيبويه 2/ 85، وشرح التصريح 249، وشرح شواهد المغنى 2/ 838، والكتاب 3/ 66، ولسان العرب 11/ 215 (خلل)، 12/ 128 (حرم)، والمحتسب 2/ 65، ومغنى اللبيب 2/ 422.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وفهم الشيخ أبو حيان منه أنه أراد أن الجواب محذوف، فرد عليه بما ذكرناه، وفى رده نظر؛ لأن الزمخشرى قد اعتذر عن ذلك بأن قال: إنه حمل تكونوا على كنتم، فهو لا يسلم أن فعل الشرط المضارع المحمول على الماضى لا يحذف جوابه، وليس فى كلام غيره تصريح بذلك. ثم إنه لم يذكر أن الجواب محذوف، فجاز أن يكون فرعه على جواز (إن يصرع أخوك تصرع) جوابا مع كونه مرفوعا كما هو أحد المذهبين فيه، والسر فى كون جملتى الشرط والجواب فعليتين مستقبلتين أن الماضى محقق وجوده أو عدمه، فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ (¬1) إلى إِنْ وَهَبَتْ (¬2) وقع فيه أحللنا المنطوق به، أو المقدر على القولين جواب الشرط مع كون الإحلال قديما فهو ماض. قلت: المراد إن وهبت فقد حلت فجواب الشرط بالحقيقة الحل المفهوم من الإحلال، لا الإحلال نفسه، وهذا كما أن الظرف من قولك: قم غدا، ليس هو لفعل الأمر بل للقيام المفهوم منه. والأمر الثانى الذى يأتى على خلاف ذلك أن تأتى جملة الجواب اسمية كقوله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (¬3) وإنما كان على خلاف الأصل؛ لأن الاسم دال على الثبوت والتحقق، والتعليق ينافى ذلك. واعلم أن كلا من فعلى الشرط والجواب قد يكون ماضيا لفظا أو مضارعا مثبتا أو منفيا فيحصل من مجموع الفعلين تسعة أقسام كلها جائز، إلا أن فى كون فعل الشرط مضارعا مع كون فعل الجواب ماضيا خلافا، منعه جماعة، وجوزه ابن مالك استدلالا بقول عائشة - رضى الله عنها -:" متى يقم مقامك رق" (¬4) وأحسنها المشاكلة ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 50. (¬2) سورة الأحزاب: 50. (¬3) سورة الأنبياء: 34. (¬4) قالت أم المؤمنين هذا الكلام عند ما قال صلّى الله عليه وسلّم وهو على فراش المرض:" مروا أبا بكر أن يصلى بالناس ... "، أخرجه البخارى فى" الأذان"، باب: الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، (2/ 239)، (ح 713)، وفى غير موضع، ومسلم فى" الصلاة"، (ح 418) وأحمد فى" المسند"، (6/ 159)، واللفظ له.

كإبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل لقوّة الأسباب، أو كون ما هو للوقوع كالواقع، أو التفاؤل، أو إظهار الرغبة فى وقوعه؛ نحو: إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام خ خ؛ فإنّ الطالب إذا عظمت رغبته فى حصول أمر، يكثر تصوّره إياه، فربّما يخيّل إليه حاصلا؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ بينهما، وأحسنها أن يكونا مضارعين لظهور تأثير عمل (إن) فيهما، ثم ماضيين للمشاكلة فى عدم التأثير، ثم أن يكون الأول ماضيا والثانى مضارعا؛ لأن فيه الانتقال من عدم التأثير إلى التأثير. والأقسام التسعة فى الحسن على هذا الترتيب: الأول: إن يقم زيد يقم عمرو. الثانى: إن لم يقم زيد لم يقم عمرو وحسنه على ما بعده للمشاكلة، ولكونه فعلا مضارعا فى اللفظ فهو موافق لمعنى الاستقبال. الثالث: إن قام زيد قام عمرو. الرابع: إن لم يقم زيد يقم عمرو. الخامس: إن لم يقم زيد قام عمرو. السادس: إن قام زيد يقم عمرو. السابع: إن قام زيد لم يقم عمرو. الثامن: إن يقم زيد قام عمرو. التاسع: إن يقم زيد لم يقم عمرو. وأخذ المصنف فى تعداد أسباب مجئ فعل الشرط ماضى اللفظ، فذكر منها أن يجعل غير الحاصل كالحاصل، وهذا الجعل مقتضى ظاهر اللفظ لا فى نفس الأمر، فإن الفرض أن الفعل مستقبل المعنى، ولو قال: لإيهام جعل غير الحاصل كالحاصل لكان أحسن، ومثل ذلك بقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً (¬1). ومنها: أن يقصد تفاؤل المتكلم بوقوعه فيعبر عنه بلفظ الماضى أو لإظهار المتكلم رغبته فى وقوعه نحو: إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام. قوله: فإن الطالب إذا عظمت رغبته فى حصول أمر يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلا، وفيه نظر لأنه يقتضى أن يكون الفعل حينئذ ماضى المعنى، وليس كذلك ولا هو مراد. ¬

_ (¬1) سورة الانسان: 20.

وعليه: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (¬1). السكاكى: أو للتعريض؛ نحو: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (¬2)، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: وعليه إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً مثال لإظهار الرغبة، فالمصنف لف قسمى التفاؤل وإظهار الرغبة، ثم نشر مثالهما، وقد يقوى التخيل حتى إن الإنسان يغلط حسه كقول المعرى: ما سرت إلا وطيف منك يصحبنى … سرى أمامى وتأويبا على أثرى (¬3) الطيف: الخيال، والتأويب: السير نهارا، مشتق من الأوب وهو العود؛ لأن الغالب أنهم يسيرون ليلا ويأتون إلى منازلهم نهارا. قال السكاكى: وقد يؤتى بالماضى لإرادة التعريض؛ وهو أن يخاطب واحد ويراد غيره، نحو: لَئِنْ أَشْرَكْتَ فإن قلت: أى مناسبة فى ذلك للفظ المضى؟ قلت: لأن المخاطب إذا علم من نفسه أنه ليس بذلك الوصف، ووجد الفعل ماضيا علم أنه تعريض لغيره ممن وقع منه فى الماضى، لا يقال: المقصود التعريض بمن يقع منه الشرك ماضيا أم مستقبلا؛ لأنا نقول: تحذير من وقع فى الشرك هو أشد عناية لإزالة المفسدة الحاضرة. فإن قلت: ما الذى صرف هذا الخطاب عن أن يراد به النبى؟ قلت: لأن الأصل فى (إن) دخولها على الممكن، والشرك فى حقه مستحيل شرعا، فجعلناه خارجا عن الأصل تنزيلا للاستحالة الشرعية منزلة الاستحالة العقلية، ولا سيما والفعل بصيغة المضى التى لا تستعمل غالبا إلا فى المتوقع. فإن قلت: قولكم: (المراد غيره) هل تعنون به أن ضمير المخاطب المفرد استعمل فى الغائب مجازا؛ فلا يكون النبى مخاطبا إلا فى الصورة لا فى المعنى؟ قلت: لا بل النبى خوطب لفظا ومعنى ولكن أريد بخطابه إفادة لازمه، وهو أن غيره إذا أشرك حبط عمله، فهو من نوع الكناية، كقولنا: زيد طويل النجاد، فالنبى مراد فى الآية الكريمة استعمالا، وغير مراد إفادة، كما سترى تحقيقه فى الكناية، لا يقال: فيلزم من كونه مرادا بالضمير أن يكون الشرك بالنسبة إليه هو المراد؛ لأنا نقول هو من نوع الكناية التمثيلية، لأنك تقول: زيد كثير الرماد كناية عن كرمه، وإن لم يكن له رماد ولا طبخ، فتسمى هذه كناية تمثيلية. ونظير ما تقدم فى ¬

_ (¬1) سورة النور: 33. (¬2) سورة الزمر: 65. (¬3) البيت لأبى العلاء المعرى فى كتاب عقود الجمان 1/ 112، والإيضاح ص 100 بتحقيقى، والمفتاح ص 385.

ونظيره فى التعريض: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (¬1) أى: وما لكم لا تعبدون الذى فطركم؛ بدليل: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ووجه حسنه: إسماع المخاطبين الحقّ على وجه لا يزيد غضبهم، وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل، ويعين على قبوله؛ لكونه أدخل فى إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التعريض وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ المراد: وما لكم لا تعبدون الذى فطركم بدليل: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فإن قلت: قد تقدم: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التفات، والمعنى وإليه أرجع، فإذا كان تعريضا لا يكون فيه التفات، بل يكون عبر فى الأول بياء المتكلم عن المخاطبين، فهذا مناقض لما سبق؟ قلت: ليس كذلك، ولا منافاة بين الكلامين؛ فإن التعريض ليس من شرطه أن يراد به غير ظاهر اللفظ؛ بل يراد ظاهره لا لقصده، بل يكون المقصود بالكلام غيره، كما يخوف الملك ولده ليحذر غيره من خدمه تأسيا من باب أولى، فقوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ المراد به المتكلم، ولكنه إذا قال لنفسه ذلك كان فيه من التعريض بأن كل أحد ينبغى أن يكون كذلك ما لا يخفى كما سبق. وقوله: والمراد وما لكم، أى: الذى سبق الكلام لأجله، لا أن المتكلم غير مراد، وهذا الباب يسمى الكلام المنصف ومثله: أتهجوه ولست له بكفء … فشرّكما لخيركما الفداء (¬2) لأن من سمعه من معاد وموال يقول: أنصف قائله. ومنه: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ (¬3) وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (¬4) فإنه لو جرى على الظاهر لجاء لا تسألون عما نعمل ولا نسأل عما أجرمتم. ووجه حسنه إسماع المخاطبين الحق على وجه لا يغضبهم، فإنه ليس فيه التصريح بنسبتهم إلى الباطل، وصرفه إلى المتكلم إشارة إلى أنه لا يريد لهم إلا ما أراده لنفسه. قلت: ومن هنا يعلم أن ضمير المتكلم فى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي على وضعه. ووجه الحسن فى قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ (¬5) إشارة إلى النصفة التامة، وأن أعز خلق الله عليه حكمه حكم غيره فى تحريم الإشراك عليه. ¬

_ (¬1) سورة يس: 22. (¬2) البيت من الوافر، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص: 76، وخزانة الأدب 9/ 232، 236، 237، وشرح الأشمونى 3/ 388، ولسان العرب 3/ 420 (ندد)، 6/ 316 (عرش)، ويروى (بند) بدلا من (بكفء). (¬3) سورة البقرة: 209. (¬4) سورة سبأ: 24، 25. (¬5) سورة الزمر: 62.

[عبارات النحاة في «لو» شرطيه]

و (لو): للشرط فى الماضى، ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ولو للشرط فى الماضى ... إلخ). [عبارات النحاة في «لو» شرطيه] (ش): للنحاة فى (لو) الشرطية عبارات: الأولى: عبارة سيبويه أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. ومدلول هذه العبارة عند التحقيق أن (لو) لما لم يقع فى الماضى، ولكنه كان فى الماضى متوقعا لوقوع غيره. وإنما ذكر سيبويه هذه العبارة لأن أدوات الشرط لكل منها مدلول، فمنها (إذا) و (إن) مثلا، للمستقبل و (لو) و (لما) للماضى، وهما متنافيان؛ فلو للامتناع، ولما للوجوب، فإذا قلت: لو قام زيد قام عمرو، دلت على الربط بينهما فى الماضى وهما ممتنعان، وإذا قلت: لما قام زيد قام عمرو، دلت على الربط بينهما فى الماضى، وهما واجبان، فلما حرف لما وقع لوقوع غيره وإن وإذا حرفان لما يقع لوقوع غيره شكا فى الأولى وظنا فى الثانية. و (لو) بخلافهما لما لم يقع فى الماضى، ولكنه كان متوقعا لوقوع غيره، والسين يدل على التوقع، وأتى سيبويه بكان احترازا عن (إن)، وأتى بالفعل المستقبل احترازا من (لما)، وأتى بالسين لأنه لو أتى بالمضارع مجردا عن السين احتمل أن يكون واقعا فى الماضى، وليس مصحوب (لو) كذلك، فأتى بالسين الدالة على كونه لم يكن حينئذ لضرورة استقباله وتوقعه، فهى مصرحة بأنه لم يكن وقع، ولا هو واقع ذلك الوقت؛ لأنه لو وقع، فيما مضى لصدق عليه أنه كان قد وقع لا أنه كان سيقع؛ لأن ظاهر قوله: كان سيقع، أنه لم يزل فى الزمن الماضى كذلك، وإنما هو متوقع لوقوع غيره، فحسن دخولها فى هذا الموضع كما حسن فى قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (¬1) وتأمل ذلك تجده لم يأت إلا فى مواضع نفى المستحيل، أو المنزل منزلة المستحيل. فهذا تحرير عبارة سيبويه؛ وأما تحرير معناها فالذى يبتدر إلى الذهن أن معنى كلامه أن (لو) تدل بالمطابقة على أن وقوع الثانى كان يحصل على تقدير وقوع الأول، وتدل بالالتزام على امتناع وقوع الثانى لامتناع وقوع الأول؛ لأنه إذا كان وقوع الثانى لازما لوقوع الأول فعدم اللازم يدل على عدم الملزوم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 33.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانية: وبها عبر الأكثرون أنها حرف امتناع لامتناع، واختلفوا فى المراد بها على قولين: أحدهما - وهو الذى لم يذكر الجمهور غيره أنه امتنع الثانى لامتناع الأول فلا يكون فيها تعرض للوقوع على تقدير الوقوع إلا بالمفهوم الثانى أنها تدل على امتناع الأول لامتناع الثانى، وسنوضح فساده. واعلم أن الذى يبتدر إلى الذهن من هذه العبارة أمور: أحدها - أنها تدل على امتناعين، وفيه نظر؛ لأن مدلولها أن (لو) تدل على امتناع الثانى، وعلة ذلك امتناع الأول، فامتناع الأول يعلم باللازم؛ لأنه لو لم يمتنع لما امتنع الثانى؛ لأنه يلزم من عدم اللازم عدم اللزوم، لا أن امتناعه جزء من مدلولها، بل علة له، وعلى القول الثانى - مدلولها امتناع الأول لأجل الثانى وفرق واضح بين قولنا: مدلول هذه الكلمة كذا وكذا، وبين قولنا: مدلولها كذا لأجل كذا. الثانى - أن ما دخلت عليه اللام فى قولهم: لامتناع، هو العلة الفاعلية، وكان يحتمل أن يقال: هى العلة الغائية كقولك: أسلمت لأدخل الجنة، ويكون معناه: حرف امتنع فيه الأول ليمتنع الثانى، فامتناع الثانى علة غائية، وهو مترتب على امتناع الأول، وحاصله أنها اقتضت امتناع فعل الشرط، وأن امتناعه يستلزم امتناع الجواب، وهذا وإن كان بعيدا فسيأتى ما يقربه. وهذا المعنى هو الذى فسر به الشيخ أبو حيان فى أول كلامه، وقد تحصلنا من هاتين العبارتين على ثلاثة أقوال. الثالث - أن دلالة (لو) على الامتناعين بالمنطوق، وهذا هو الذى يظهر؛ لكن الذى يقتضيه كلام بدر الدين بن مالك فى تكملة شرح التسهيل أنه بالمفهوم، وفيما قاله نظر. العبارة الثالثة - وبها عبر ابن مالك: حرف يقتضى امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه؛ يريد بهذه العبارة كما صرح به فى شرح الكافية أنه يقتضى امتناع فعل الشرط واستلزامه ثبوته لثبوت الجواب، فالضمير فى قوله: (واستلزامه) يعود على المضاف إليه، وهو قوله: ما يليه، لا على المضاف وهو امتناع، وصرح ابن مالك بأنه ليس فيها عنده تعرض لوقوع الجواب أو عدمه، إلا أن الأكثر عدمه، وهى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عبارة متوسطة بين عبارة سيبويه والأكثرين؛ لأن عبارة سيبويه تقتضى أن موضوعها ثبوت لثبوت، وعبارة غيره امتناع لامتناع. وعبارته تقتضى امتناعا للشرط، وثبوتا للجواب، بتقدير ثبوت الشرط. والثبوتان المذكوران فى عبارة سيبويه فرضيان، والامتناعان المذكوران فى عبارة الجمهور حقيقيان. والثبوت المذكور فى عبارة ابن مالك فرضى، والامتناع المذكور فيها حقيقى. الرابعة - أنها إن كان بعدها موجبان؛ فهى حرف امتناع لامتناع، أو منفيان؛ فحرف وجود لوجود، أو الأول منفى والثانى مثبت، أو بالعكس: فحرف امتناع لوجود، أو بالعكس. وهذا القائل توهم أن قولنا: (لو لم يقم زيد لم يقم عمرو) حرف يقتضى وجود الأمرين؛ فليس امتناعا. وهو وهم؛ لأن المراد امتناع ما يليها من نفى أو إثبات. الخامسة - أنها حرف يقتضى ربط الجواب بالشرط، لا يدل على امتناع ولا غيره، وإليه ذهب الشلوبين، وهذا أخذ بمنطوق عبارة سيبويه وأعرض عن مفهومها. (تنبيه): أورد كثير من العلماء على قولهم: إن (لو) حرف امتناع لامتناع مواضع يسيرة قد يظن أن جواب لو فيها غير ممتنع، وأشكلت هذه المواضع على الشلوبين (¬1) من النحاة وعلى الخسروشاهى (¬2) من الأصوليين؛ حتى ادعيا أن (لو) لمجرد الربط، وعلى ابن عصفور حتى ادعى أنها فيها بمعنى إن، وادعى جماعة أن الجواب الممتنع محذوف، وأجاب القرافى بأن لو كما تأتى للربط تأتى لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه قطع الربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك، كما لو قال القائل: لو لم يكن هذا زوجا لم يرث؛ فتنزل لو لم يكن زوجا لم يحرم الإرث، ¬

_ (¬1) الشلوبين: عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدى، أبو على الشلوبينى أو الشلوبين نسبة إلى حصن الشلوبين بجنوب الأندلس، وهو من كبار علماء النحو واللغة (562 - 645 هـ) الأعلام 5/ 62. (¬2) الخسروشاهى: عبد الحميد بن عيسى بن عمّويه أبو محمد شمس الدين، من علماء الكلام، نسبته إلى خسرو شاه (من قرى تبريز)، تقدم فى علم الفقه والأصول والعقليات، (580 - 652 هـ) الأعلام 3/ 288.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أى لكونه ابن عم، وادعى أن هذا الجواب خير من ادعاء أن (لو) بمعنى (إن) لسلامته من ادعاء النقل، ومن حذف الجواب. وليس كما قال: فإن كون (لو) تستعمل لقطع الربط لم يقله أحد، ولم يدل عليه دليل، وهو ادعاء قاعدة كلية مخالفة للأصل، بخلاف ادعاء أنها بمعنى إن، وأن الجواب محذوف؛ فإن الأول قال به جماعة، والثانى كثير. وها أنا أذكر هذه المواضع وما يظهر من جوابها وأذكر - إن شاء الله تعالى - معها مواضع كثيرة لم يتنبهوا لها. فمنها: صحة قولك لما ليس بإنسان: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا؛ لأنه يقتضى امتناع الحيوانية لامتناع الإنسانية، وليس كذلك؛ لأن عدم الأخص لا يلزم منه عدم الأعم. وهذا أورد على منطوق العبارة الثانية، ولا يرد على عبارة سيبويه إلا من جهة مفهومها. وجوابه: أن الحيوانية توجد بأحد أمور، منها: الإنسانية، وأن الإنسانية سبب، ولا يلزم من عدمه عدم المسبب لوجود سبب آخر، والسبب وإن لزم من عدمه عدم المسبب فإنما ذلك لذاته، فإذا كان للمسبب سبب آخر فإن المسبب حينئذ يوجد بذلك السبب الآخر، وكذلك الحيوانية إذا عدمت الإنسانية قامت بنوع آخر. ومنها: قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ (¬1) إن قلنا بالعبارة الثانية لزم أن يكون النفاد موجودا، وهذا لا يرد على عبارة سيبويه منطوقا؛ وإنما يرد عليها من جهة مفهومها. وأجيب عنه بأن مفهوم الشرط مفهوم مخالفة، ومفهوم المخالفة إذا عارضه مفهوم الموافقة قدم مفهوم الموافقة، وهنا مفهوم الموافقة يقتضى عدم النفاد؛ لأن كلمات الله إذا لم تنفد مع سبعة أبحر، فأولى أن لا تنفد مع عدمها، كما تقول: (إن أساء إلىّ زيد أحسنت إليه)، ذكر هذا الجواب جماعة. وأما الجواب عن عبارة الجمهور فلم أر فيه ما يثلج فى الخاطر، وقد خطر لى عنه جواب أرجو أن يكون هو الصواب، وأن ينحل به غالب ما لعله يورد، وأقدم عليه مقدمات. إحداها: أن النفاد ليس عبارة عن مطلق الفناء، وإن أطلق ذلك كثير، بل عبارة عن فناء آخر جزء من الشئ، فإذا قلت: (نفد مال زيد) فمعناه أنه خرج شيئا فشيئا إلى أن فرغ، هذا هو الذى يبتدر منه إلى الذهن، ¬

_ (¬1) سورة لقمان: 27.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويشهد له النقل، قال القاضى عياض فى المشارق: نفد: أى: فرغ وفنى، قال تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي (¬1)، ومثله الحديث:" حتى نفد ما عنده" (¬2). ونقل ابن الأثير عن أبى حاتم فى حديث القيامة:" ينفدهم البصر" (¬3) أنه بالمهملة، وأن معناه يبلغ أولهم وآخرهم ويستوعبهم. اه. ويقال: استنفد وسعه: أى: استفرغه، وقال الصاغانى: الانتفاد: الاستيفاء. وفى المحكم عن الزجاج: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ (¬4) معناه: ما انقطعت، والمنافد الذى يحاج صاحبه حتى تنقطع حجته فتنفد، وكذلك قال الأزهرى، وقال تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (¬5) أى فراغ. الثانية: إذا كان جواب (لو) قضيتين إحداهما منفية، والأخرى مثبتة؛ فإنها تدل على امتناع مجموع النفى والإثبات، فإذا قلت: (لو جاء زيد لأكرمته وما صحبته)، دل على أنه بتقدير ثبوت المجئ يثبت مجموع الأمرين، ودل على امتناع المجئ وأن امتناعه أوجب امتناع المجموع من ثبوت الإكرام ونفى الصحبة، فلا يدل ذلك على أن الإكرام لم يقع والصحبة قد وقعت، بل صدق امتناع وقوع الإكرام ونفى الصحبة، يحصل بذلك ويحصل بأن لا يقع واحد منهما، ويحصل بأن يقعا معا، وهذه قضية قطعية؛ لأن الإثبات الكلى إنما يناقضه السلب الجزئى، وحاصله أن (لو) تقتضى امتناع مجموع ما دخلت عليه، ومجموع جوابها، لا امتناع كل فرد من أفراد كل منهما. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (¬6)، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (¬7)، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى (¬8) فإن الممتنع فى كل ذلك هو المجموع لا كل فرد. ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 109. (¬2) من كلام أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عند ما أتى أناس من الأنصار فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نفد ما عنده ... أخرجه البخارى فى" الزكاة"، باب: الاستغفار عن المسألة، (3/ 392)، (ح 1469)، ومسلم فى" الزكاة"، (ح 1053). (¬3) الحديث أخرجه البخارى فى" أحاديث الأنبياء" باب: يزفون: النّسلان فى المشى (6/ 455)، (ح 3361)، ومسلم فى" الإيمان" (ح 193)، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال:" أتى النبى صلّى الله عليه وسلّم يوما بلحم، فقال: إن الله يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة فى صعيد واحد، فيسمعهم الداعى وينفذهم البصر ... " الحديث. (¬4) سورة لقمان: 27. (¬5) سورة ص: 54. (¬6) سورة السجدة: 13. (¬7) سورة النحل: 9. (¬8) سورة الأنعام: 35.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالثة: مفهوم الصفة حجة كما هو مقرر فى موضعه، والقول بالمفهوم فى (لو) على الخصوص كالمتفق عليه؛ أعنى مفهوم الشرط ومفهوم الصفة قريب منه، فإذا قلت: (لم يعجبنى قيام زيد) اقتضى أن له قياما غير معجب، وإن كانت هذه سالبة محصلة لا تستدعى حصول موضوعها كما تقرر فى المنطق، لكن ذلك بمعنى أن حصول الموضوع فيها غير محقق، أما الدلالة عليه بالمفهوم فلا إشكال فيه، فإذا قلت: (لو قام زيد لما أعجبنى قيامه) فقولك: لما أعجبنى قيامه يدل لفظا على أن له قياما، وأنه غير معجب بتقدير الشرط، أما إنه غير معجب فلأنه منطوق اللفظ وأما أن له قياما فلأنك جعلت عدم إعجاب قيامه مرتبا على قيامه، فصار ثبوت الموضوع وهو القيام قيدا فيه، فليس كقولك: (ما أعجبنى قيام زيد) حتى لا يكون بالوضع تفيد وقوع القيام، بل هو كقولك: (ما أعجبنى القيام الذى وقع من زيد) فالجواب حينئذ سالبة تستدعى حصول موضوعها فى تحقق صدقها بالفعل، وكذلك: (إن قام زيد لم يعجبنى قيامه) و (لو) تدل على امتناع الجواب وامتناع (ما أعجبنى قيام زيد) مرتب على امتناع القيام الذى هو شرط (لو)، فيصير المعنى لما امتنع قيامه امتنع نفى إعجاب قيامه، ونفى إعجاب قيامه لا يصدق حتى يكون له قيام كما سبق، فصار نفى إعجاب القيام يستدعى القيام لأنه شرطه ودلت (لو) على امتناع القيام، وعلى أن امتناعه شرط لامتناع (ما أعجبنى قيامه)، و (ما أعجبنى قيامه) دال على وقوع القيام، وعدم إعجابه، فامتناعه يصدق بأن لا يقع قيام بالكلية فيمتنع حينئذ أن يقال: (لم يعجبنى القيام) لما يدل عليه مفهومه من وقوع القيام بأن يقع قيام معجب، لكنه قد دل الشرط وهو (لو قام) على أن الواقع من هذين هو امتناع القيام، فتعين أن يكون المراد بما دل عليه الجواب من امتناع (ما أعجبنى قيامه) هو امتناع القيام الذى دل عليه مفهوم قولك: (ما أعجبنى قيامه)، لا أنه وقع قيام معجب؛ إذ لا يمكن وقوع قيام مترتب على امتناع القيام، وحينئذ ينحل الكلام إلى قولنا: امتنع وقوع القيام، وكونه غير معجب، وذلك صادق بأن لا يقع قيام بالكلية. إذا تقرر ذلك: فالنفاد عبارة عن استيفاء العد بعد الشروع فيه، وكلمات الله - سبحانه - وهى علمه وحكمته لم يحصل الشروع فى عدها واستمداد العباد لذلك، وحينئذ فعدم النفاد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المستلزم للعد لم يقع، وذلك صادق بأن تكون كلمات الله - سبحانه وتعالى - ما شرع فى عدها، فامتنع عند امتناع كون (ما فى الأرض من شجرة أقلاما) أن يقال: ما نفدت لا لأنها نفدت بل لأنها ما استمد العباد لاستيفائها ولا وجهوا لذلك قصدا. وحاصله أن جواب (لو) مجموع أمرين إثبات، وهو العد، وعدم، وهو أنها لم تنفد، وامتناع الأول يقتضى امتناع مجموع القضية، ولو لم يكن لفظ النفاد يدل على الفراغ بعد الشروع فالجواب صحيح بأن نقول: المعنى لو كان الأمر كذلك لاستوفى العباد ولم يحصل النفاد، لكنه لم يقع ذلك؛ لأنهم ما استمدوا البحار لعدم وجودها. وهذا جواب لا غبار عليه، ولا مزيد على حسنه، وإذا ثبت ذلك فانقله إلى كل موضع كان فيه جواب الشرط معه قيد، مثل: (لو أساء إلىّ زيد لما قابلته) أو (لما أكرمته إكراما كثيرا) وغير ذلك، فإنه ينحل به كثير من الإشكالات. ومنها: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (¬1) فلو امتنع الجواب لكان التقدير: لكنهم آمنوا وإن لم يشأ الله، وهو محال، وجوابه ما تقدم أى ما كانوا ليؤمنوا بهذه الأمور إلا أن يشاء الله، فامتناع أنهم لا يؤمنون بهذه الأمور إلا أن يشاء الله صادق بعدم وجدان هذه الأمور، والأمر كذلك إذ المراد لامتنع إيمانهم بهذا التقدير. ومنها: قوله سبحانه وتعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ (¬2) فإن انتفاء الإجابة ليس ممتنعا، وهذه الآية الكريمة لا ترد؛ لأن الظاهر أن (لو) فيها بمعنى (إن)؛ لأن التقدير: ولو سمعوا الدعاء المذكور، والدعاء المذكور مستقبل؛ لأنه دخلت عليه (إن) الاستقبالية، ولو سلمنا أنها امتناعية، فامتناع ما استجابوا يكون إما بالاستجابة أو تقدم الدعاء والمقصود الثانى. ومنها: قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (¬3) فإن امتناع الجواب يستلزم أنهم مؤمنون، وجوابه ما سبق إيمانهم بكتاب ينزل على بعض الأعجمين صادق بعدم إنزاله. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 111. (¬2) سورة فاطر: 14. (¬3) سورة الشعراء: 198، 199.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا (¬1) فإن امتناع الجواب بأن يكونوا زادوهم غير الخبال! وجوابه بأن امتناع كونهم ما زادوهم بالخروج إلا الخبال صادق بعدم الخروج، ويخص هذه الآية الكريمة جواب آخر وهو أنه يصدق الامتناع أن لا يزيدوهم شيئا لا خبالا ولا غيره، والأمر كذلك؛ لأن ما زادوكم إلا خبالا يقتضى إثبات زيادة الخبال بتقدير الخروج، وهو ممتنع عند عدم الخروج. ومنها: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ (¬2) وجوابه ما سبق؛ لأن امتناع صدق عدم القبول يحصل بأن لا يكون لهم ذلك، ونظيرها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ (¬3) ويحتمل أن تكون (لو) فيهما بمعنى (إن) وهو واضح فى الثانية؛ لأجل (فلن يقبل). ومنها: قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ (¬4) إن لم تكن فيه (لو) بمعنى إن فالتقدير: لو كانوا آباءهم لم تجدهم يوادونهم موادة الأولاد للوالدين، فامتناع ذلك بأن لا يكونوا آباءهم. غير أن المعنى فى الآية على أنها بمعنى (إن)؛ لقرينة قوله: لا تجد خ خ، ولأن الذين يحادون منهم من هو أب للمؤمنين، كالخطاب وعبد الله بن أبى بن سلول والوليد. ومنها: قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى (¬5) إلا أن الظاهر أن (لو) هنا بمعنى (إن)؛ لأنه فى حيز (وإن تدع)، وهو مستقبل بإن، ولو جعلتها امتناعية كان التقدير: ولو كان ذا قربى ودعت لم يحمل ذو القربى حملا ينشأ عن قدرته إذ ذاك عن الحمل عن غيره. ونظير الآية الكريمة قوله سبحانه: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى (¬6)، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى (¬7). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 47. (¬2) سورة المائدة: 36. (¬3) سورة آل عمران: 91. (¬4) سورة المجادلة: 22. (¬5) سورة فاطر: 18. (¬6) سورة المائدة: 106. (¬7) سورة الأنعام: 152.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ (¬1) وجوابه ما سبق، فإن المعنى لما امتثل الأمر إلا قليل، وامتناع ذلك يصدق بأن لا أمر، وأيضا يصدق ذلك بأن المخاطبين لم يقتل أحد منهم نفسه، فيصدق الامتناع لما دل عليه الاستثناء من قتل القليل نفسه إذا كتب عليه القتل. ومنها: قوله تعالى: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (¬2) وجوابها كما قبلها. ومنها: قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ (¬3) والظاهر أنها بمعنى (إن)؛ لأن التقدير: لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا، وكونهم لم يؤمنوا لم يمتنع، وجوابه كالذى قبله؛ لأن امتناع لا يؤمنون بكل آية يصدق بأن لا تأتى جميع الآيات، إلا أن الظاهر أنا نقدر الجواب لا يؤمنون كالمنطوق به قبله، وحينئذ فالظاهر أنها بمعنى (إن) وقريب مما نحن فيه قوله تعالى: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (¬4) وقوله عز وجل: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً (¬5) وأما نحو: وَلَوْ حَرَصْتَ (¬6)، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (¬7)، وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (¬8)، وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (¬9)، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (¬10)، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (¬11)، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (¬12)، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ (¬13) فقد صرحوا أن (لو) فى ذلك كله بمعنى (إن). ومنها: قوله:" لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى" (¬14) معناه أن انتفاء الحل الواقع لكونها غير ربيبته ممتنع لما يفهمه من أن حلها يحصل بغير ذلك. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 66. (¬2) سورة الأحزاب: 20. (¬3) سورة يونس: 96، 97. (¬4) سورة الزمر: 43. (¬5) سورة المائدة: 104. (¬6) سورة يوسف: 103. (¬7) سورة المائدة: 100. (¬8) سورة البقرة: 221. (¬9) سورة يوسف: 17. (¬10) سورة الأنفال: 8. (¬11) سورة التوبة: 32. (¬12) سورة الصف: 9. (¬13) سورة النساء: 9. (¬14) الحديث أخرجه البخارى فى" النكاح"، باب: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ... (9/ 62)، (ح 5106)، من حديث أم حبيبة رضى الله عنها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: قوله صلّى الله عليه وسلّم:" لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" (¬1) المعنى: لكنت فاعلا فعلا صورته ما فيه جناح ولا جناح. ومنها: حديث أبى برزة الأسلمى:" لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك" (¬2) والواقع أنهم ما سبوه ولا ضربوه، ويقع نظير هذا فى الكلام كثيرا، تقول: (لو أتيت فلانا لما أساء إلىّ) ويجوز الجواب بأن يكون دفعا لما لعله يتوهم، وأن هذا الفعل لما صدر من جماعة كأنه صدر من غيرهم لاستوائهم فى الإنسانية. ومنها قوله فى الحج:" لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" (¬3) وعدم الاستطاعة ثابت، ويمكن الجواب بأنه جعلت استطاعتهم المتوهمة كأنها واقعة، أو بأن التقدير لما استطعتم ذلك بقيد وجوبه، وذلك ينتفى بعدم الوجوب كما سبق فى النفاد. ومنها: قول أبى بكر - رضى الله عنه - " لو طلعت ما وجدتنا غافلين" وجوابه بما سبق أن المراد لو طلعت لوجدتنا غير غافلين، وامتناع ذلك بأنها لما لم تطلع لم تجدهم بالكلية. ومنها: قول عمر - رضى الله عنه - على ما نقله عنه ابن مالك وغيره:" نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" (¬4)، وقد نسب الخطيبى هذا الكلام إلى النبى، ولم أر ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" الديات"، باب: من اطلع فى بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له، (12/ 253)، (ح 6902)، من حديث أبى هريرة - رضى الله عنه -. (¬2) الحديث أخرجه مسلم فى" فضائل الصحابة"، باب: فضائل أهل عمان، (ح 2544)، من حديث أبى برزة قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا إلى حى من أحياء العرب فسبوه وضربوه، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال صلّى الله عليه وسلّم:" لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". (¬3) أخرجه مسلم فى" الحج"، باب:" فرض الحج مرة فى العمر"، (ح 1337)، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. (¬4) أورده العجلونى فى" كشف الخفاء"، (2/ 323)، وقال:" اشتهر فى كلام الأصوليين وأصحاب المعانى وأهل العربية من حديث عمر وبعضهم يرفعه إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وذكر البهاء السبكى أنه لم يظفر به بعد البحث، وكذا كثير من أهل اللغة، لكن نقل فى المقاصد عن الحافظ ابن حجر أنه ظفر به فى" مشكل الحديث" لابن قتيبة من غير إسناد. وقال فى اللآلئ: منهم من يجعله من كلام عمر وقد كثر السؤال عنه، ولم أقف له على أصل، وسئل بعض شيوخنا الحفاظ عنه فلم يعرفه ... وقال الجلال السيوطى فى" شرح نظم التلخيص":" كثر سؤال الناس عن حديث صهيب، ونسبه بعضهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، ونسبه ابن مالك فى شرح الكافية وغيره إلى عمر". اه بتصرف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الكلام فى شئ من كتب الحديث لا مرفوعا، ولا موقوفا، لا عن النبى ولا عن عمر، مع شدة الفحص عنه، ووجه السؤال أن صهيبا لم يعص الله تعالى، فيلزم أن لا يكون جواب (لو) ممتنعا، وجوابه بما تقدم فى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ (¬1): من أن مفهوم الموافقة عارض مفهوم المخالفة، وبأن المنفى يكون معصية لا تنشأ عن خوف المعنى، لو لم يخف الله لما عصاه معصية ناشئة عن عدم الخوف؛ فامتنع ما دل عليه مفهوم هذا الكلام من إثبات المعصية الناشئة لا عن عدم الخوف كما سبق. ومنها: قول على - كرم الله وجهه -: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) وجوابه ما سبق، أى: لرأيت ما لم أره، ولم أزدد يقينا، وامتناع ذلك لعدم رؤية ما خلف الغطاء. ومنها: قوله - صلّى الله عليه وسلّم -:" لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا" (¬2) فيلزم أن يكونوا خرجوا؛ لأنهم ما دخلوا، وجوابه بما سبق؛ لأنه امتنع مجموع الدخول وعدم الخروج لعدم الدخول. وهذه المواضع كلها وقع الجواب فيها منفيا وما بعدها وقع الجواب فيها مثبتا. ومنها: قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (¬3) واردة على العبارات، أما على عبارة سيبويه فلأنها تقتضى أنه لو حصل الإسماع لحصل التولى، فيلزم أن لا يكون التولى حاصلا الآن، والغرض أنه حاصل. وأما على العبارة المشهورة فلأنها تقتضى امتناع التولى وهو حاصل؛ لأن صدرها يقتضى أنه لم يعلم فيهم خيرا وآخرها يقتضى عدم التولى المستلزم؛ لأنه علم فيهم خيرا، ولأنه يصير التقدير: لو علم فيهم خيرا لتولوا، وليس المراد؛ فإن علم الخير فيهم مناسب لإقبالهم لا لتوليهم، ولا يصلح الجواب السابق بأنهم إذ تولوا بتقدير ¬

_ (¬1) سورة لقمان: 27. (¬2) الحديث أخرجه البخارى فى" المغازى"، باب: سرية عبد الله بن حذافة السهمى ... (7/ 655)، (ح 4340) وفى غير موضع، ومسلم فى" الإمارة"، باب: وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى المعصية، (ح 1840). من حديث على. (¬3) سورة الأنفال: 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السماع فدونه أولى؛ لأن المراد الإسماع النافع، بدليل أنه منفى لقوله تعالى: لَأَسْمَعَهُمْ والإسماع النافع لا يقع معه التولى، واختلف فى الجواب عنها فقال الإمام فخر الدين - وهو ظاهر عبارة الزمخشرى -: المعنى لو علم فيهم خيرا لأسمعهم الحجج إسماع تفهيم وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم أن لا خير فيهم لم ينتفعوا، وقيل: لأسمعهم إسماعا يحصل به الهدى، ولو أسمعهم لا على أن يخلق لهم الهدى إسماعا مجردا لتولوا، وهى قريبة من الأولى، وفيهما نظر؛ لأن مطلق التولى قد حصل، وهو خلاف ما دلت عليه (لو) من الامتناع، وحاصله أن تكون (لو) جعلت مجازا لمجرد التلازم من غير دلالة على الامتناع. قلت: وأقرب ما فيه وأشار إليه الزمخشرى أن يجعل التولى هو الارتداد بعد الإسلام، وهو غير حاصل حال الإخبار؛ فإن الحاصل عند الإخبار هو الكفر الأصلى. المعنى: لو علم فيهم خيرا لأسمعهم إسماعا يفيد حصول الإيمان، ولو أسمعهم ذلك لما استمروا عليه؛ فإن قلت: يلزم أن لا يكون فيهم خير، قلت: لا يلزم؛ لأن خيرا نكرة، فهم بتقدير أن يكون فيهم خير ما يحمل على الإسلام لا يستمرون عليه لعدم الخير الكثير الذى يستمر أثره إلى الموت، وقد يقال: إن الاسلام الذى لا يستمر إلى الموت ليس بخير لأن الله يحبطه، والوجه تخريج هذا الجواب على الخلاف بين الشيخ أبى الحسن الأشعرى وغيره فى أن من عاش كافرا ومات مسلما أو بالعكس هل هو لم يزل على الحالة التى ختم له بها أولا؟ والأول مذهب الأشعرى. ومنها قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (¬1) وجوابه واضح لأنهم لم يقولوا عن هذا الكتاب الذى لم ينزل ذلك إنما قالوه عن القرآن. ومنها قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ (¬2) يلزم أن يكون الإمساك ممتنعا؛ وجوابه بما سبق، أى لأمسكتم مع أنكم مالكون ما لا يتطرق إليه النفاد، فالإمساك مع هذه الحالة ليس واقعا، فجواب (لو) كلى، فامتناعه صادق بالجزئى؛ لأن نقيض الإثبات الكلى سلب جزئى. إلا أن هذا الجواب فيما كان ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 7. (¬2) سورة الإسراء: 100.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ جوابه مثبتا أوضح؛ لأن دلالته على الأمرين بالوضع، ودلالة الجواب المنفى على الكلى إنما هو بالمنطوق فى بعض وبالمفهوم فى بعض. ومنها قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (¬1) وقوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (¬2)، والصدق خير، فعلوه، أم لم يفعلوه وجوابه: أن المعنى لو وقع منهم فعل هو خير، وامتناع ذلك بأن لا يقع منهم فعل، ونظيره قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (¬3) ونظيره قوله تعالى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ (¬4) إن لم يكن الجواب محذوفا. ومنها قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (¬5) التقدير: ولو لم تمسسه نار لكان يضئ، ولا يصح الجواب بأنه إذا مسه لا يكاد يضئ بل يضئ كقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (¬6) لأن الواو فى (ولو لم تمسسه) يقتضى أنه كان يضئ مسته نار أم لم تمسه، ولعله مجاز وكناية عن شدة الصفاء. نعم يبقى السؤال عن كونه يكاد يضئ إذا مسته النار، وما يفهمه كاد من أنه لم يضئ مع مس النار له، أما عند من قال: إن إثباتها نفى؛ فواضح، وأما على القول الصحيح؛ فلأنه لا يقال: (كاد زيد يفعل إذا فعل)، ولا يصح الجواب بما أجيب به فى قوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (¬7) من أنهم ذبحوا بعد أن لم يقاربوا؛ لأنهم كانوا بعيدين من ذلك؛ لأنه لا يخبر بأن من فعل الشئ قارب أن يفعله ثم فعله، بخلاف كونه قارب أن لا يفعل ثم فعل؛ فإنه مستغرب. والذى يظهر فى الجواب أن المراد مقاربة الزيت للإضاءة فى الحالين، والإضاءة من الزيت غير واقعة فى شئ من الحالين؛ إنما الواقع مقاربتها، لأن النار هى المضيئة. ومنها قوله:" لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خريفا خيرا له من أن يمر بين يديه" (¬8) فإن ذلك خير، علم أم لم يعلم، وجوابه: ¬

_ (¬1) سورة النساء: 66. (¬2) سورة محمد: 21. (¬3) سورة الحجرات: 5. (¬4) سورة البقرة: 103. (¬5) سورة النور: 35. (¬6)، (¬7) سورة البقرة: 71. (¬8) أخرجه البخارى فى" الصلاة"، باب: إثم المار بين يدى المصلى"، (1/ 696)، (ح 510)، وكذا مسلم فى" الصلاة"، (ح 507)، من حديث أبى جهيم، وليس فى الحديث لفظة" من الإثم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إما بأن المراد لعلم أن الأمر كذلك، وإما لأنه إذا لم يعلم لا إثم عليه، فليس وقوعه حينئذ خيرا له. ومنها قوله:" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" (¬1) فيلزم أن يمتنع القليل من ضحكهم، وجوابه: أن ضحكهم بقيد القلة ممتنع؛ لأن ضحكهم كان كثيرا. ومنها: قوله:" لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى إلى ذراع لقبلت" (¬2) فإنه يلزم أنه لم يجب، ولم يقبل هدية لكنه دعى، وأجاب، وأهدى إليه، وقبل، وليس المراد بالذراع حقيقته، بل هو للتمثيل، وهذا السؤال إنما يحتاج إلى جوابه لو كان قال ذلك بعد ما أهدى إليه ودعى ومن أين لنا ذلك؟ ومنها: قوله:" لو كان الإيمان معلقا عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" (¬3) أى: من فارس. وقد وقع ذلك وجوابه أن المعنى لنالوه من عند الثريا، وقد امتنع ذلك؛ لأن من ناله منهم لم ينله بهذا القيد، ولا يصح الجواب بأن النكرة فى سياق الشرط للعموم، فيكون من سلب العموم؛ لأن هذه نكرة فى سياق الجواب لا الشرط؛ ولأن تحقيق العموم فى النكرة فى الشرط؛ وهل هو عموم الاستغراق أو عموم الصلاحية؟ فيه بحث يطول ذكره. ومنها: قوله:" لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا" (¬4) يلزم أن الإنسان لم يبتغ واديا ثالثا من المال، وجوابه: أن الممتنع ابتغاء واد بعد تحصيل اثنين، والأمر كذلك، فإن هذا لم يقع، فلا يصدق أنه يبتغى الثالث حتى يحصل الواديان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" التفسير"، باب: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، (8/ 130) (ح 4621)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" الفضائل"، (ح 2359)، من حديث أنس. (¬2) أخرجه البخارى فى" النكاح"، باب: من أجاب إلى كراع، (9/ 154)، (ح 5178)، وفى" الهبة" من حديث أبى هريرة. (¬3) أخرجه البخارى فى" التفسير"، باب قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (8/ 510)، (ح 4897)، ومسلم فى" فضائل الصحابة"، باب: فضل فارس، (ح 2546)، من حديث أبى هريرة. (¬4) أخرجه البخارى فى" الرقاق"، باب: ما يتقى من فتنة المال، (11/ 257)، (ح 6436) ومسلم فى" الزكاة"، (ح 1048).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: قوله:" لو كان لى مثل أحد ذهبا لسرنى أن لا يمر على ثلاث ليال وعندى منه شئ إلا شئ أرصده لدين" (¬1) والواقع أنه كان يسره أن لا يمر عليه ثلاث ليال وعنده ذهب، وجوابه: أن معنى أن لا يكون عندى منه أن يفرغ، فمعناه لو كان لى لسرنى أن أصرفه، وامتناع ذلك بأن لا يكون له وجود حتى يصرف. ومنها: قوله:" لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم" (¬2) فيلزم أن يمتنع ذلك، والواقع أن ناسا ادعوا ذلك، وجوابه أن المعنى لفسدت أحوال الناس، وضاعت غالب دمائهم وأموالهم، المدلول عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: (لادعى ناس) ولا يصح الجواب بأن النكرة فى سياق الشرط للعموم، لما سبق. قلت: قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب: إن (لو) تدل على امتناع الأول لامتناع الثانى، بعكس ما ذكره النحاة، قال: وهذا أولى؛ لأن الأول سبب للثانى، وانتفاء السبب، لا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يخلفه سبب آخر، وانتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب، فصح أن يقال: امتنع الأول لامتناع الثانى، ألا ترى إلى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬3) كيف سيق للدلالة على انتفاء العدد بانتفاء الفساد، لا أن امتناع الفساد لامتناع التعدد؟ لأنه خلاف المفهوم؛ ولأن نفى الآلهة غير الله لا يلزم منه نفى فساد هذا العالم! ورد عليه الخطيبى بأنا لا نسلم أن انتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب، إذا لم يكن للمسبب سبب سواه، وما نحن فيه كذلك؛ لأن (لو) فى كلام العرب إنما تستعمل فى الشرط الذى لم يبق للمسبب سواه، فإذا حصل حصل، وإذا انتفى انتفى، وذلك علم بالاستقراء والنقل، فانتفاء السبب بعد (لو) يدل على انتفاء المسبب وأيضا لا نسلم أن انتفاء المسبب يدل على انتفاء السبب، وإنما يلزم ذلك أن لو كان النقص قادحا وليس كذلك مطلقا (قلت): الكلامان ضعيفان؛ أما كلام ابن ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ أخرجه البخارى فى" التمنى"، باب: تمنى الخير، (13/ 231)، (ح 7228)، من حديث أبى هريرة، وقد أخرجاه معا بنحوه من حديث أبى ذر. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ مسلم فى" الأقضية"، باب: اليمين على المدعى عليه، وتمامه:" ولكن اليمين على المدعى عليه"، وهو عند الشيخين بلفظ:" أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى باليمين على المدعى عليه". (¬3) سورة الأنبياء: 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجب فلعله مخالف لإجماع الناس تصريحا وتلويحا، والجواب عما ذكره أن الشروط اللغوية وإن كانت أسبابا، والسبب يقتضى المسبب لذاته، فيلزم من عدم السبب عدم المسبب غير أن ذلك قد يتخلف لفوات شرط، أو وجود مانع، وعدم سبب آخر شرط فى انتفاء المسبب لانتفاء سببه، لكن السبب الآخر موجود - كما سيأتى - ويرد عليه أنه لو دلت على امتناع الأول لامتناع الثانى لا تقلب المسبب سببا وعكسه؛ لأن الثانى جواب الشرط قطعا، وهو المسبب، والشرط السبب، فلو امتنع الأول لامتناع الثانى لكان امتناع المسبب علة فى امتناع السبب، وهو باطل، واللازم وإن لزم من عدمه عدم الملزوم لكنا لا نقول: عدمه علة فى عدم الملزوم؛ بل عدمه معرف أن الملزوم ليس موجودا. وقوله:" لأن الأول سبب للثانى" إن عنى لفظا فمسلم، وإن عنى معنى فإنما يتأتى على عبارة سيبويه أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، أما على عبارة غيره فعدم الأول سبب لعدم الثانى. وقوله: وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب؛ لجواز أن يخلفه سبب آخر ممنوع، بل السبب بوضعه يقتضى ذلك، إلا لمانع من وجود سبب آخر، أو غيره. وقوله: انتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب مسلم، لكن لا يصح أن نقول: انتفاء المسبب سبب لانتفاء كل سبب، بل هو كاشف عن عدم السبب، ثم يقال له: لا نسلم ذلك بعين ما سبق؛ لأن انتفاء المسبب إذا كان سببا فى انتفاء كل سبب لا يلزم من عدم المسبب عدم كل سبب؛ إذ لا يلزم من وجود السبب وجود المسبب بعين ما ذكره، وأما قوله: ولأن نفى الآلهة غير الله لا يلزم منه نفى الفساد. فجوابه: أن لنفى الفساد أسبابا أخر. منها: عدم إراة الله فسادها، وكما وقع التعليق على هذا الشرط وقع على غيره فى قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ (¬1) ثم ما قاله من كون عدم السبب لا يقتضى عدم المسبب إنما يكون لو كان معنى قولهم: حرف امتناع لامتناع، أن امتناع الثانى لامتناع الأول إنما كان لكون الثانى مسببا عنه، وليس فى كلامهم ما يقتضى ذلك، بل هم يفسرون موضوعها لغة، وجاز أن تكون العرب وضعتها لتدل على أن الثانى امتنع وأن ذلك نشأ إما بجعل المتكلم أو غيره عن امتناع الأول من غير نظر إلى ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 71.

مع القطع بانتفاء الشرط؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ المناسبة المعنوية قبل التعليق، والحق أن يقال: موضوع (لو) امتناع الثانى لأجل امتناع الأول، ويلزم من ذلك العلم بامتناع الأول لأجل العلم بامتناع الثانى، فامتناع الأول علة فى امتناع الثانى، والعلم بامتناع الثانى مستلزم للعلم بامتناع الأول، فدلالة امتناع الثانى على امتناع الأول وضعية، ودلالة العلم بامتناع الأول على العلم بامتناع الثانى عقلية، ومن الفرق بين علة الامتناع وعلة العلم به وقع الالتباس. واعلم أن بدر الدين بن مالك وقع فى كلامه فى تكملة شرح تسهيل والده، على سبيل الاستطراد ما يقتضى موافقة ابن الحاجب؛ حيث قال فى الكلام على استعمال (لو) بمعنى (إن):" إنه امتنع الأول لامتناع الثانى، لكنه سبق، فلم يدل عليه أنه قبيل ذلك قرر المسألة صريحا على ما ذكره الجمهور. وبعد أن اتضح الكلام على معنى (لو) فلنرجع لعبارة المصنف، فقوله: (لو) للشرط فى الماضى) أى: فى الزمن الماضى، وقوله: مع القطع بانتفاء الشرط، يعنى: إذا كان المطلوب من استعمال (لو) تحصيل القطع بأن فعل الشرط لم يكن علم أنه لا بد أن يكون ماضيا معنى؛ لأن القطع غالبا لا يكون إلا فى الماضى، وينبغى أن يقول: أو الظن، وما المانع من إخبار الإنسان بانتفاء ما غلب على ظنه انتفاؤه؟ وقوله: (بانتفاء الشرط) لم يتعرض لانتفاء المشروط، فظاهره أنه وافق ابن مالك على أنها تقتضى امتناع الشرط، ولا تقتضى بوضعها انتفاء الجواب، لكنه قال فى الإيضاح: يلزم امتناع المعلق لامتناع المعلق به، وكأنه يريد أن دلالتها على امتناع فعل الشرط بالوضع، وعلى امتناع المشروط باللازم، وظاهر هذا أن (لو) تدل على امتناع فعل الشرط فقط، وأما امتناع المشروط لعدم الشرط فهو عقلى، وهذا هو عين القول: بأنها حرف امتناع لامتناع، على ما يظهر بالتأمل، وعلى ما حررناه فيما سبق من معنى هذه العبارة. ويبقى الجمع بينها وبين عبارته فى التلخيص أن يكون المراد القطع بانتفاء الشرط لا بالوضع، لكن يلزم عليه أن يكون هذا الحد ليس فيه بيان لمدلول (لو) وضعا، بل إنما يكون فيه بيان لما يلزم مدلولها الوضعى؛ لأن معنى قولهم: حرف امتناع لامتناع - امتناع الثانى لامتناع الأول، وامتناع الثانى على عبارة المصنف عقلى، وامتناع الأول هو المدلول.

فيلزم عدم الثبوت ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (فيلزم عدم الثبوت) أى: فى كل من الجملتين؛ لأن الثابت يمتنع أن يكون منفيا حالة الثبوت، والمراد بعدم الثبوت عدم ثبوت ما دخلت عليه نفيا كان أم إثباتا؛ فإن (لو) تقلب الإثبات نفيا، وبالعكس، فإذا قلت: (لم يقم) دل على ثبوت عدم القيام، وذلك بثبوت القيام. هذا مضمون كلامهم. وقوله: (يلزم عدم الثبوت) يعنى بالنسبة إلى الزمن الماضى؛ إذ لا يمتنع أن تقول: (لو قام زيد أمس لقام عمرو)، وإن كانا قائمين الآن. ومراده أن ذلك يلزم أن لا يخرج عنه إلا لنكتة - كما سيأتى - ومقصود المصنف بامتناع الثبوت أنه يمتنع أن تكون واحدة من جملتيها اسمية، بل يجب أن تكون فعلية. فإذا وقع اسم بعد (لو) كان على إضمار فعل يفسره ما بعده، كقوله:" لو ذات سوار لطمتنى"، وقوله: أخلاى لو غير الحمام أصابكم … عتبت ولكن ما على الدّهر معتب (¬1) وهل ذلك كثير أو نادر؟ اختلف فيه؛ فقيل: يجوز كثيرا وجعل منه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي (¬2) وقيل: قليلا، والآية محمولة على تقدير: كان الأصل لو كنتم، فعلى كل تقدير لا يليها إلا فعل، وهذا الذى قلناه هو إذا كان خبر الاسم فعلا، فإن جاء بعدها جملة من اسمين جوزه الكوفيون واختاره ابن مالك وجعلوا منه: لو بغير الماء حلقى شرق خ خ، ومنعه غيرهم. واعلم أنه يستثنى من ذلك أن (لو) تليها (أن) كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا (¬3) فإن مذهب سيبويه أن التقدير: ولو صبرهم، على أنه مبتدأ، فقد وليها الاسم. ومذهب المبرد أن الجملة فى محل رفع بفعل مضمر يفسره ما بعده. وكلاهما خروج عن القاعدة السابقة، وذلك شائع سواء كان خبر أن فعلا أم اسما، فالاسم كقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ (¬4) وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ (¬5). ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للقطمش الضبى فى شرح التصريح 2/ 259، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص: 893، 1036، ولسان العرب 1/ 577 (عتب)، والمقاصد النحوية 4/ 465، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 4/ 229، وتذكرة النحاة ص: 40، والجنى الدانى ص: 279، وشرح الأشمونى 3/ 601. (¬2) سورة الإسراء: 100. (¬3) سورة الحجرات: 5. (¬4) سورة لقمان: 27. (¬5) سورة الأحزاب: 20.

والمضى فى جملتيها؛ فدخولها على المضارع فى نحو: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ (¬1)، لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا؛ كما فى قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمضى فى جملتيها) لا خلاف أن جملتى (لو) ماضيان معنى، ومن قال: إنه يجوز أن يكونا مستقبلين معنى؛ فإنه يجعلها بمعنى إن فليست امتناعية، وأما المضى فى اللفظ فهو الغالب ليطابق اللفظ المعنى، وقد يأتى مضارعا يراد به المضى كقول كعب: لقد أقوم مقاما لو يقوم به … أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل (¬3) وجعل المصنف ذلك إما لإرادة أن ذلك الأمر استمر وقوعه فيما مضى وقتا بعد وقت، هذه عبارته، أى: استمر وقوع عدم الفعل المعلق عليه فيما مضى وقتا بعد وقت؛ ولذلك قال بعضهم: معنى قوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أن عدم طاعة رسول الله لهم مستمر فى الأزمنة الماضية؛ فإن الفعل المضارع يدل على ذلك كما فى قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وقوله تعالى: وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (¬4). قال الخطيبى: والفعل وإن دل على التجدد وقتا بعد وقت أيضا، لكن المضارع يدل على الاستمرار دون الماضى؛ فإنه ينقطع عند الاستقبال بخلاف المستقبل، فإن زمنه لا يتناهى. (قلت): الفعل الماضى يدل على التجدد، بمعنى أنه حصل بعد أن لم يكن وأما إنه يدل على التجدد وقتا بعد وقت ثم ينقطع بخلاف المضارع؛ فإنه يدل على التكرر والاستمرار فلا؛ بل الدال على التكرر هو المضارع فقط، كما سبق، والماضى لا يدل على تكرر منقطع ولا مستمر. بقى هنا سؤال وهو: أن الفعل المضارع إذا كان مدلوله الاستمرار والتكرار لزم أن تكون (لو) تدل على امتناع الاستمرار مع الفعل المضارع، لا على امتناع أصل الفعل. والأمر بخلافه، وقد تقدم عند قول المصنف، وأما كونه اسما ما يمكن أن يجاب به، وقد يجاب بأن الدال على الاستمرار هو المضارع المراد به المستقبل، أما المراد به الماضى فلا، ولا يمتنع مع هذا أن يعبر بالمضارع وإن لم يفد حينئذ الاستمرار؛ رعاية لما تدل عليه صورته من الاستمرار، وينبغى أيضا أن تقيد دلالة المضارع على الاستمرار بما لم يرد به الحال. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 7. (¬2) سورة البقرة: 15. (¬3) البيت من البسيط، وهو لكعب بن زهير فى ديوانه ص: 66، ومغنى اللبيب 1/ 264. (¬4) سورة البقرة: 79.

وفى نحو: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ (¬1)؛ لتنزيله منزلة الماضى؛ لصدوره عمن لا خلاف فى إخباره؛ كما فى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬2)، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله فى نحو: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يعنى: إنما أتى هنا بالمضارع لتنزيله منزلة الماضى لكونه ممن لا خلف فى خبره. مقصود المصنف وإن كانت العبارة قلقة: أن المعنى لو رأيت فى الماضى، وإنما أخبر عنه ماضيا وإن كان مستقبلا؛ لأن من خبره لا يخلف يجعل المخبر به كالذى وقع، فلذلك أتى برأيت، ثم عبر بترى رعاية للأصل، فالعلة المذكورة فى كلام المصنف لا تصلح أن تكون للتعبير بالمضارع، بل هى علة لجعل الرؤية المستقبلة ماضية. (قلت): يجوز أن (لو) فى هذه الآية ونحوها بمعنى الشرط المستقبل إن ثبت أن استعمالها بمعنى (إن)، وإنما لم أقل بمعنى (إن)؛ لأن (إن) للمشكوك فيه، والرؤية المستقبلة فى هذه الآية محققة، وإنما لم أقل بمعنى (إذا) جريا على عبارتهم فى قولهم: تستعمل (لو) بمعنى (إن)، ولأن (إذا) تدل على ظرفية لا تدل عليها (إن)، ولولا ذلك لقلت: بمعنى (إذا) فإن رؤيته لهم محققة. ولا شك أن قولهم: (لو) تأتى بمعنى (إن) لا يعنون به إلا أنها تكون للشرط فى المستقبل، سواء كان مشكوكا فيه أم محققا؛ لا يقال: لو كانت بمعنى (إن) لما حذف الجواب؛ لأن الفعل المضارع بعد الشرط لا يحذف جوابه على مذهب البصريين؛ لأنا نقول ذلك فى الشرط الجازم، مثل: (أكرمك إن تقم) لأنهم عللوا ذلك بأن ظهور تأثير الجزم فى أداة الشرط، وعدم ظهوره فى الجواب فيه جمع بين القوة والضعف، وهما متنافيان، فعلمنا بذلك أنه لا يمتنع حذف جواب شرط فعله مضارع إذا لم يكن جازما، سواء كان الشرط فى الماضى، مثل: (ولو ترى)، أم فى المستقبل مثل (إذا). قوله كما فى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يشير إلى أن رب لا يليها إلا الماضى، سواء كانت (ما) معها كافة أم نكرة موصوفة، فقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ استعمل فيه الفعل المضارع رعاية للأصل، وأريد به المضى؛ لأنه لما كان محققا صار كأنه قد وقع؛ وهذا بناء على أن الفعل يقدر بما لا يكون إلا ماضى المعنى. وفى المسألة خلاف مشهور. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 27. (¬2) سورة الحجر: 2.

أو لاستحضار الصورة؛ كما فى قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً (¬1) استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالّة على القدرة الباهرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (أو لاستحضار) معطوف على قوله: (لتنزيله)، أى: قد يؤتى بالفعل المضارع ماضى المعنى، وإن لم يكن بعد (لو) لقصد استحضار الصورة؛ لأن الاستحضار من شأنه أن يكون للحال، الذى من شأنه أن يعبر عنه بالمضارع؛ فإثارة الريح السحاب الذى قد أرسل، وإن كانت ماضية إنما عبر عنها بالمضارع فى قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ (¬2) لإفادة ذلك، والمقصود استحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة. (قلت): ويمكن أن يجعل ذلك لإفادة الاستمرار، فإن قلت: لو أريد الاستمرار لأتى بالفعل المضارع فى الجميع؛ قلت: وكذلك إذا أريد الاستحضار؛ إلا أن يقال: أتى بالفعل الماضى أولا؛ لأنه لو أتى بالمضارع لم يبق ما يدل على أن المراد الإخبار عن الماضى. وأما قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً (¬3) الآية فلعله قصد بها المستقبل؛ ليحصل من مجموع الآيتين الإخبار عن حالتى المضى والاستقبال. (فائدة): ذكر الوالد - رحمه الله - فى تفسيره فصلا يتعلق بما نحن فيه فقال عند الكلام على قوله تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ (¬4) ما نصه: فإن قلت: هل من فرق بين دخول لو الامتناعية على الماضى ودخولها على المضارع؟ قلت: قد تتبعت مواقعها فوجدتها إذا دخلت على مضارع كان ممكنا متوقعا، أو كالمتوقع، ويكون المقصود إثبات الجواب، مثال المتوقع هذه الآية، فإن مشيئة الله الانتقام منهم متوقعة، إلا إن عنى زمن الخطاب، والمقصود إثبات الانتقام على ذلك التقدير لا نفى المشيئة، وكذلك قوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬5)، وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا (¬6)، أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ (¬7)، لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ (¬8)، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا (¬9)، وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ (¬10)، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الروم: 48. (¬2) سورة فاطر: 9. (¬3) سورة الروم: 48. (¬4) سورة محمد: 4. (¬5) سورة البقرة: 165، وهى بالياء. (¬6) سورة الأنعام: 27. (¬7) سورة الرعد: 31. (¬8) سورة الأعراف: 100. (¬9) سورة يس: 66. (¬10) سورة يس: 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَلائِكَةً (¬1)، لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ (¬2)، لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ (¬3)، لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬4)، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً (¬5)، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً (¬6)، كذلك إذا جاء بعدها أن واسمها، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ (¬7)، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا (¬8)، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا (¬9)، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا (¬10)، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ (¬11) ومثال ما هو كالمتوقع: لو يسمعون كما سمعت كلامها … أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد، فهذا صوره بصورة المتوقع، وإن لم يكن متوقعا. والذى قبله محتمل. والمقصود فى هذه المواضع كلها إثبات الثانى على تقدير الأول، والأول ممكن، وإن لم يكن واقعا. وحيث دخلت على الماضى تارة يكون المقصود امتناعه، كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ (¬12)، وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (¬13) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (¬14)، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ (¬15)، لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (¬16)، لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ (¬17)، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً (¬18)، لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (¬19)، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا (¬20)، لَوِ اسْتَطَعْنا (¬21)، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ (¬22) المقصود فى هذا كله الحكم بانتفاء الأول ممكنا كان أم ممتنعا، وتارة يكون المقصود إثبات الثانى، كقوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا (¬23)، لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ (¬24)، وَلَوْ رُدُّوا ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 60. (¬2) سورة الإسراء: 100. (¬3) سورة محمد: 30. (¬4) سورة الأنبياء: 39. (¬5) سورة الواقعة: 65. (¬6) سورة الواقعة: 70. (¬7) سورة لقمان: 27. (¬8) سورة النساء: 66. (¬9) سورة النساء: 64. (¬10) سورة الزمر: 47. (¬11) سورة الرعد: 31. (¬12) سورة الأنبياء: 22. (¬13) سورة الفرقان: 51. (¬14) سورة السجدة: 13. (¬15) سورة الأنعام: 112. (¬16) سورة الزمر: 4. (¬17) سورة الأحقاف: 11. (¬18) سورة الأنفال: 23. (¬19) سورة آل عمران: 154. (¬20) سورة آل عمران: 159. (¬21) سورة التوبة: 42. (¬22) سورة المؤمنون: 71. (¬23) سورة التوبة: 47. (¬24) سورة آل عمران: 154.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لَعادُوا (¬1) المقصود فى هذه المواضع إثبات الثانى على تقدير الأول، مع العلم بأن الأول غير واقع، ومتى كان الفعل ماضيا يراد به حقيقته من المضى فى الزمان إما حقيقة، كقوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ وإما فرضا كقوله: وَلَوْ رُدُّوا - الأحسن فى هذا أنه لا يراد به الزمان الماضى، بل الملازمة بين الرد متى كان، والعود، مثل قوله: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت … علىّ ودونى جندل وصفائح (¬2) النحاة يعدونه قليلا؛ لكونه مستقبلا، وحسنه ما أشرنا إليه من الغرض الذى يجعله كالواقع. ومتى كان الفعل الذى دخلت عليه مضارعا؛ فظاهر كلام النحاة أنها تقلبه ماضيا، وما ذكرناه من مواقعه يفهم منه أنه باق على حقيقته. فالوجه أن يقال: إنه قصد بصيغة المضارع التنبيه على أن ذلك وإن كان ماضيا فهو دائم غير منقطع، بخلاف ما إذا أتى بلفظ الماضى؛ فإنه يحتمل الانقطاع وعدمه؛ وبذلك يحصل المحافظة على قلبه ماضيا، ولا يعرض عن لفظه بالكلية. اه كلام الوالد - رحمه الله تعالى - (تنبيه): قال فى المفتاح: مثل: ربما فى أحد قولى أصحابنا البصريين، قال بعض المحشين على كلامه: يريد أن (ما) كافة والقول الآخر أن (ما) ليست كافة، بل نكرة موصوفة بيود، والعائد محذوف، أبدل منه: لو كانوا مسلمين. قلت: الظاهر أن من شرط مضى الفعل بعد ربما يقول به، سواء كانت (ما) نكرة موصوفة، أم كافة، والظاهر أنه يشير بالقولين إلى الخلاف فى أن الفعل بعدها يشترط أن يكون ماضيا أو لا. (تنبيه): أتعرض فيه - إن شاء الله تعالى - لأكثر أدوات الشرط اللفظية والمعنوية وما يتعلق بها من علم المعانى. فمنها: (إذ ما) وهى حرف فى مذهب سيبويه، خلافا للمبرد فى أحد قوليه، وابن السراج والفارسى، فى زعمهم أن (إذ ما) اسم ظرف زمان، وهى كإذا فى ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 28. (¬2) البيت من الطويل، وهو لتوبة بن الحمير فى الأغانى (1/ 229)، وأمالى المرتضى 1/ 450، والحماسة البصرية 2/ 108، والدرر اللوامع 5/ 96، وسمط اللآلئ ص: 12 وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص: 1311، وشرح شواهد المغنى ص: 644، والشعر والشعراء 1/ 453، ومغنى اللبيب 1/ 261، والمقاصد النحوية 4/ 453، ولرؤبة فى همع الهوامع 2/ 64، وليس فى ديوانه، وهو بلا نسبة فى الجنى الدانى ص: 286، وشرح الأشمونى 3/ 600، وشرح ابن عقيل ص: 593.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الدلالة على المستقبل. قال السكاكي: سلبت الدلالة على معناها الأصلى، وهو المضى، بإدخال (ما) للدلالة على الاستقبال. قلت: يريد أن (ما) الكافة عن الإضافة أورثتها إبهاما فقوى شبهها (بإن) فى الاستقبال. ومنها: (متى)، وهى لتعميم الأوقات فى الاستقبال، أى: تدل على وقت من الأوقات المبهمة فى الاستقبال، بحسب الوضع، و (متى ما) أعم منها؛ لأنها للدلالة على كل وقت من الأوقات المستقبلة، كذا قال الخطيبى، وما قاله غير موافق لكلام الأصوليين، ولا للفقهاء. أما الأصوليون: فإنهم جعلوا أسماء الشرط كلها عامة، من غير فرق بين (متى) و (متى ما) وغيرهما، وأما الفقهاء: فالصحيح عندنا أن (متى) لا تقتضى التكرار، وكذا الصحيح فى (متى ما) ونقله أبو البقاء عن ابن جنى، ولا يشترط فى (متى) توافق زمن الفعلين، بل يصح (متى زرتنى اليوم زرتك غدا) ولا يصح ذلك فى (إذا) ثم قوله: إن (متى ما) أعم من (متى) مخالف لبقية كلامه؛ فإنه جعل عموم (متى) باعتبار الصلاحية، وعموم (متى ما) باعتبار الاستغراق؛ وحينئذ ليس بينهما اشتراك يصلح للعموم الاستغراقى. ومنها: (أيان) لتعميم الأوقات كمتى. ومنها: (أين) لتعميم الأمكنة والإحياز، والحيز عند المتكلمين أعم من المكان؛ فإنه محل الجوهر الفرد وغيره، والمكان محل الجسم فقط، و (أينما) أعم منها، وكالتفصيل السابق بين (متى) و (متى ما)، و (أين) و (أينما) فصل السكاكى والخطيبى بين (إذا) و (إذا ما) فقالا: إن معنى (أجيئك إذا طلعت الشمس): المجئ فى طلوعها فى غير ذلك اليوم، و (أجيئك إذا ما طلعت الشمس) معناها: المجئ عند طلوعها فى أى يوم كان. ومنها: (حيثما) وهى نظير (أينما). ومنها: (من) لتعميم أولى العلم مطلقا، والصحيح أنها تعم المؤنث، وقد حققنا هذه المسألة فى شرح مختصر ابن الحاجب، وسيأتى بقية الكلام على (من) فى باب الاستفهام. ومنها: (ما) لتعميم الأشياء كقوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ (¬1) وقولنا: لتعميم الأشياء؛ جرى على عبارتهم، والأولى أن يقال: للتعميم، ولا ¬

_ (¬1) سورة سبأ: 39.

تنكير المسند

وأما تنكيره: فلإرادة عدم الحصر والعهد؛ كقولك: زيد كاتب، وعمرو شاعر، أو للتفخيم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ يقيد بالأشياء؛ فإنه يخرج عنه نحو قولنا: ما لم يشأ الله لم يكن؛ فإن المعدوم لا يسمى شيئا. ومنها: (مهما) قال تعالى: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ (¬1). ومنها: (أى) لتعميم ما تضاف إليه، على بحث فى كيفية الاستغراق فيهما، والفرق بين عمومها وعموم الصلاحية ليس هذا موضع تحقيقه، وقد حققناه فى شرح المختصر. ومنها: (كيفما) على قول. وبقيت أدوات يحصل بها التعليق وليست شرطا، منها: (أما) و (لما) و (لولا) فمعنى (أما) مهما يكن من شئ، وهو حرف بسيط، وليست شرطا، وبذلك صرح شيخنا أبو حيان، ونقل عن بعض أصحابه أنها حرف إخبار تتضمن معنى الشرط، ولو كانت أداة شرط لاقتضت فعلا بعدها، لكنها أغنت عن الجملة الشرطية، وعن أداة الشرط، وهى من أغرب الحروف؛ لقيامها مقام أداة شرط، وجملة شرطية، وكونها تدل على الشرط يعلم أن معنى (أما زيد فذاهب) الإخبار بأنه سيذهب فى المستقبل؛ لأن زيد ذاهب جواب الشرط، ولا يكون جوابه إلا مستقبلا، و (لما) التعليقية حرف عند سيبويه يدل على ربط جملة بأخرى ربط السببية، ويسمى حرف وجوب لوجوب، ويقال: حرف وجود لوجود، وقيل: هى ظرف زمان بمعنى حين، وجوابها فعل ماض لفظا ومعنى، أو منفى بما، أو مضارع منفى بلم، أو جملة اسمية مقرونة بإذا الفجائية، وزعم ابن مالك أن جوابها الماضى قد يقرن بالفاء، ويكون جملة اسمية مقرونة بالفاء، وبمضارع مثبت. وأما (لولا) فحرف امتناع لوجود وما بعدها مبتدأ عند البصريين، فاعل عند الكسائى، ومرفوع بها عند الفراء وابن كيسان. وأما (لو) فقد تقدم الكلام عليها، وقد عدها التنوخى هى ولولا من المنتظم فى سلك الشرط. تنكير المسند: ص: (وأما تنكيره ... إلخ). (ش): ذكر الخطيبى الشارح هنا أن هذه الأحوال التى يذكرها أهل هذا العلم لا يقصدون أنها موجبة لهذه الأمور، بل إنها أمور مناسبة؛ ولهذا فسروا مقتضى الحال بالاعتبار المناسب أعم من أن يكون المناسب موجبا أو لا، قال: والمقصود أن الغالب ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 132.

نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (¬1)، أو للتحقير (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ عند انتفاء هذين الأمرين إما تنكير المسند وهو الغالب، أو تعريفه بالإضمار، أو اسم الإشارة؛ لأن غيرهما من المعارف يندرج تحت الأمرين، فنفيهما يستلزم نفيه، والحمل على الغالب أولى، فتنكير المسند عند انتفاء الأمرين أولى. (قلت): قوله: إن غير اسم الإشارة والمضمر يندرج تحت الأمرين فيه نظر؛ لأن المضمر واسم الإشارة كغيرهما فيما ذكره فإن كان التعريف مطلقا يستلزم العهد، أو الحصر، صح عموم ما ذكره المصنف، ووجهه أن التعريف إن كان بأداة عهدية، أو بمضمر، أو اسم إشارة فهو معهود، وإن كان بأداة عهدية، أو جنسية، أو بموصول أفاد الاستغراق المستلزم للحصر، وإن لم يكن التعريف يستلزم ذلك بطل ما ذكره، من غير فرق بين المضمر واسم الإشارة، وبين غيرهما، وحاصل ما ذكره المصنف أن تنكير المسند يكون لإرادة عدم الحصر، وإرادة عدم العهد. (قلت): وفيما قاله نظر؛ لأنه إذا أراد الحكم عليه مع قطع النظر عن غيره فالتنكير حسن، فينبغى أن يقول: لعدم إرادة الحصر والعهد؛ فإن عدم الإرادة أعم من إرادة العدم، ثم عدم إرادتهما أعم من عدم إرادة أحدهما؛ فينبغى أن يقول: لعدم إرادة واحد منهما، وقد ينكر للتفخيم نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إن قلنا: إنه خبر مبتدأ محذوف، أو للتحقير، مثل: (ما زيد شيئا) لا يقال: قولنا: ليس شيئا إن كان معناه حقيرا صلح للمدح والذم؛ لأن هذه الصيغة لا تستعمل إلا للتحقير، وعندى أنه لا حاجة لما ذكره المصنف، ولا ينبغى الاقتصار عليه، بل ينبغى أن يكون تنكيره لأحد أسباب تنكير المسند إليه. هذا ما ذكره المصنف، ويريد أنه قد يكون لتنكير المسند إليه، كقولك: (رجل فى الدار قائم)؛ لأن المعرفة لا يخبر بها عن النكرة، كذا قالوه، لكن المعرفة خبر النكرة عند سيبويه فى نحو: (كم مالك)، و (اقصد رجلا خير منه أبوه) وقال ابن مالك وغيره: إنه يخبر فى بابى كان وإن بمعرفة عن نكرة اختيارا ومن منع ذلك يتأول قوله: كأنّ سبيئة من بيت رأس … يكون مزاجها عسل وماء (¬3) ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 3. (¬2) نحو: ما زيد شيئا. (¬3) البيت من الوافر، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص: 71، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 9/ 224، 231، 283، 285، 287، 289، 293، والدرر 2/ 73، وشرح أبيات سيبويه 1/ 50، وشرح شواهد المغنى ص: 849، وشرح المعضل 7/ 93، والكتاب 1/ 49، ولسان العرب =

تخصيص المسند بالإضافة أو الوصف

وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف: فلكون الفائدة أتمّ؛ كما مر. وأما تركه: فظاهر مما سبق. وأما تعريفه: فلإفادة السامع حكما على أمر معلوم له بإحدى طرق التعريف بآخر مثله، ـــــــــــــــــــــــــــــ أوله السكاكى والزمخشرى على القلب، يعنيان أن الأصل يكون مزاجها عسلا وماء، لكن لا يلزم من عدم جواز الإخبار عن النكرة المحضة بالمعرفة أن لا يجوز الإخبار بالمعرفة عن النكرة الموصوفة. تخصيص المسند بالإضافة أو الوصف: ص: (وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلكون الفائدة أتم). (ش): مثال الإضافة: (زيد غلام رجل) لأن الكلام إنما هو فى الإضافة مع التنكير، ومثال التخصيص بالوصف لكون الفائدة أتم: (زيد كاتب مجيد) وأما تمثيل السكاكى بقولك: (زيد رجل فاضل) فلا يصح؛ لأن الصفة هنا لحصول الفائدة لا لإتمامها؛ لأن الرجولية لزيد لم يقصد الإخبار بها، وربما كانت فائدة الخبر فى صفته لا فى نفسه، وأما ترك تخصيص المسند بالإضافة أو الوصف فلم يتعرض له المصنف؛ لأنه يظهر مما سبق من أسباب التقييد، فإذا زالت لم تخصص. تعريف المسند: ص: (وأما تعريفه فلإفادة السامع ... إلخ). (ش): تعريف المسند يكون لإفادة السامع حكما على شئ معلوم له بإحدى طرق التعريف، بآخر مثله، أى إذا كان السامع يعلم للمحكوم عليه إحدى صفتين وأردت أن تفيده الأخرى فاجعل المعلوم للسامع مبتدأ، والمجهول له خبرا، كما إذا كان السامع يعرف زيدا باسمه ووصفه، ويجهل كونه أخاه، فتقول: (زيد أخوك) سواء عرف أن له أخا أم لم يعرف أن له أخا، وإن عرف أن له أخا، وأردت أن تعينه قلت: (أخوك زيد) أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا فلا يقال ذلك؛ فإن قلت: المصنف قال: ¬

_ = 1/ 93 (سبأ)، 6/ 94 (رأس)، 14/ 155 (جنى)، والمحتسب 1/ 279، والمقتضب 4/ 92، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب ص: 453، 695، وهمع الهوامع 1/ 119.

أو لازم حكم كذلك (¬1)؛ نحو: زيد أخوك، وعمرو المنطلق باعتبار تعريف العهد أو الجنس، ـــــــــــــــــــــــــــــ إنك تقول: (زيد أخوك) سواء عرف أن له أخا، أم لا، ثم قال: إن عرف أن له أخا وأردت أن تعينه قلت: (أخوك زيد)، وهذا القسم حاصل إذا علم أن له أخا الذى قال فيه آنفا: إنك تقول: (زيد أخوك). قلت: يمكن الجواب بأنه إذا علم أن له أخا، فإن كان يعلم زيدا قلت: (زيد أخوك)؛ لأن أخوك وإن كان معلوما من وجه، فزيد أولى أن يكون مبتدأ؛ لأنه معلوم باسمه وشخصه أو صفته فهو آكد علما من أخوك، وإن لم يكن يعلم زيدا فليقل: (أخوك زيد) لأن أخوك حينئذ معلوم من وجه فهو أولى بالإسناد إليه من المجهول من كل وجه، وكذلك الألف واللام سواء كانت عهدية أم جنسية فمن عرف زيدا باسمه ووصفه وعلم أنه قد كان من شخص انطلاق تقول له: (زيد المنطلق) أى: هو ذلك المنطلق المعهود فى ذهنك وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق الذى فى ذهنه هو زيد قلت: (المنطلق زيد). وقد أورد المصنف أنه إذا لم يعرف فى المثال الأول أن له أخا أصلا، لم يكن معلوما عنده بإحدى طرق التعريف فلا يكون من هذا الباب، وكذا عكسه وهو: (أخوك زيد) إذا قلته لمن يعتقد أن له أخا، ثم الألف واللام فى هذين المثالين عهدية، وقد تكون جنسية كما إذا عرف السامع إنسانا بعينه ووصفه، وهو يعلم جنس المنطلق وأردت أن تعرفه انطلاق زيد فتقول: (زيد المنطلق) وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: (المنطلق زيد) هذا مضمون كلام المصنف. وقوله:" بإحدى طرق التعريف". الباء فيه يتعلق بمعلوم، وقوله:" بآخر" يتعلق بقوله" حكما"، أو بقوله:" إفادة". وقوله:" مثله" يريد فى أنه معرفة، لا فى اتحاد جهة تعريفهما؛ فإن جهة التعريف فى المثالين السابقين فى أحد الاسمين العلمية وفى الآخر التعريف بالإضافة إلى المضمر، ويرد عليه فى قوله:" بإحدى طرق التعريف" أن علم إحدى صفتى الشئ لا ملازمة بينه، وبين إحدى طرق التعريف؛ فقد يعرف الشئ بصفة من غير تعريف لفظى، كقولك: (رجل فى الدار عندنا) وقد تكون فيه إحدى طرق التعريف وهو مجهول كقولك: (الرجل خير من المرأة) فينبغى أن يكون المرعى ¬

_ (¬1) أى: على أمر معلوم بآخر مثله.

وعكسهما (¬1). والثانى (¬2): قد يفيد قصر الجنس على شئ تحقيقا؛ نحو: زيد الأمير، أو مبالغة لكماله فيه؛ نحو: عمرو الشجاع. ـــــــــــــــــــــــــــــ هنا التعريف المعنوى المقابل للتجهيل لا التعريف اللفظى المقابل للتنكير وقوله:" أو لازم حكم"، أى: إذا كان السامع غير جاهل بهما، ولكن قصد المتكلم إعلامه بأنه يعرف أحدهما وحكم به على الآخر، كقولك: الذى أثنى على أنت، لمن يعلم أن الثناء نقل إليك، ولا يدرى هل تعلم أنه المثنى أو لا؟ تقديره: علمت أن المثنى أنت، وتقول: أنت المثنى علىّ، فى عكسه. وقوله: (وعكسهما) هو بالخفض معطوف على المثالين، وهما أخوك زيد، والمنطلق عمرو (وقوله: والثانى قد يفيد قصر الجنس) يريد بالثانى ما فيه الألف واللام سواء كانت دخلت على المسند أم المسند إليه، فتارة لا يفيد قصر الجنس على شئ كقول الخنساء: إذا قبح البكاء على قتيل … رأيت بكاءك الحسن الجميلا (¬3) وقد يفيد قصر الجنس كقول المصنف: (على شئ) إنما لم يقل على المسند؛ لأنه تارة يفيد قصر المسند، وتارة قصر المسند إليه، وذلك فى: زيد المنطلق، والمنطلق زيد. وفى كلامه نظر؛ لأن ذلك لا تختص به الألف واللام، بل الإضافة كذلك، فلا حاجة لقوله: (كذلك) فإن قولك: زيد صديقى، قد يقال: بإفادته للحصر على قول من جهة ما دل عليه من استغراق الإضافة، لا بالمعنى الذى حصل به القصر فى قولنا: زيد المنطلق؛ فإن المدرك فيه الإخبار بالجنس، كما تنبئ عنه الألف واللام، أما الإضافة فإنها لا تنبئ عن الجنس؛ ولذلك تقول: إن قولنا: زيد المنطلق لا فرق فى إفادته الاستغراق بين أن تكون الأداة فيه جنسية أو استغراقية إلا أن المدرك فيهما مختلف، وذلك تارة يكون تحقيقا، مثل: زيد الأمير، والأمير زيد، إذا لم يكن أمير سواه، وتارة مبالغة لكماله فى ذلك الوصف، نحو: عمرو الشجاع والشجاع عمرو، وقد يقال: إن بيت الخنساء من ذلك. ¬

_ (¬1) أى: عكس المثالين المذكورين وهما: أخوك زيد والمنطلق عمرو. (¬2) يعنى: اعتبار تعريف الجنس. (¬3) البيت من الوافر وهو للخنساء فى شرح ديوانها ص: 82، ودلائل الإعجاز ص: 181، وشرح عقود الجمان 1/ 121، والإيضاح ص: 105. وفى المطبوع: الجميل وما أثبتناه من مصادر التخريج.

وقيل: الاسم متعيّن للابتداء؛ لدلالته على الذات، والصفة للخبريّة؛ لدلالتها على أمر نسبى: وردّ بأنّ المعنى: الشخص الذى له الصفة صاحب الاسم. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن (زيد المنطلق) ليس موضوعا للحصر، بخلاف (المنطلق زيد) كما تقرر فى الأصول؛ فحينئذ حالة إرادة القصر فى (المنطلق زيد) بوضع اللفظ وحالة إرادته فى (زيد المنطلق) تحتاج لقرينة، والسكاكى قال: زيد المنطلق، والمنطلق زيد فى المقام الخطابى يلزم من كل منهما أن لا يكون غير زيد منطلقا، والمقصور تارة يكون الجنس نفسه من غير اعتبار التقييد بظرف أو غيره كما سبق وقد يكون باعتبار تقييده كقولك: هو الوفى حين لا تظن نفس بنفس خيرا، وحيث أريد القصر لا يعطف عليه، فلا يقال: زيد المنطلق وعمرو؛ لأنه يلزم اجتماع القصر وعدمه، وسيأتى ذلك فى باب القصر. وقوله: (وقيل الاسم متعين) لا يخفى أن الكلام فى هذا الفصل مبنى على أصل، وهو أن المبتدأ والخبر متى كانا معرفتين فالأول هو المبتدأ، والثانى هو الخبر، هذا هو المشهور، وقيل: إن اختلفت رتبتهما فى التعريف فأعرفهما المبتدأ، وإلا فالسابق. وقيل: أنت بالخيار أيهما شئت اجعله مبتدأ، وهو قول أبى على (¬1)، وظاهر قول سيبويه فى باب كان. وقيل: المعلوم عند المخاطب مبتدأ، والمجهول خبر. وقيل: الأعم هو الخبر، وقيل: الاسم متعين للابتداء والوصف متعين للخبر، قاله الإمام فخر الدين (¬2) فى" نهاية الإيجاز"، وقال المصنف: لا يقال: زيد دال على الذات، فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر، والمنطلق دال على أمر نسبى فهو الخبر أبدا؛ لأنا نقول: المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذى له الانطلاق، وهو بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا وزيد لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم زيد، وهو بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ كذا قاله المصنف، وقد يقال: إن الدال على الوصفية إنما هو منطلق، أما المنطلق فالألف واللام فيه موصول بمعنى الذى وهى فى الجمود والدلالة على الذات كزيد؛ ¬

_ (¬1) أبو على: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان الإمام أبو على الفارسى، واحد زمانه فى علم اللغة، أخذ عن الزجاج وابن السراج، وله صنف الإيضاح فى النحو والتكملة فى التصريف، توفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، انظر بغية الوعاة (1/ 496). (¬2) فخر الدين: محمّد بن عمر الرازى المتوفى سنة 606 هـ صاحب كتاب نهاية الإيجاز فى علم البيان، انظر كشف الظنون 2/ 1986.

كون المسند جملة

وأما كونه جملة: فللتقوّى، أو لكونه سببا، كما مر. واسميّتها وفعليّتها وشرطيّتها: لما مرّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك يقع المنطلق وغيره من الموصولات موصوفا مباشرا للعوامل غير محتاج لجريانه على موصوف قبله. بقى النظر فى أنا إذا قلنا: المنطلق زيد، فهل نقول: المبتدأ الألف واللام خاصة، كما أن الذى هو المبتدأ دون صلته، أو نقول: المبتدأ الألف واللام وما اتصل بها؟ فيه نظر، وقد يقال بمثله فى الذى إلا أن اتصال الألف واللام بصلتها أشد. كون المسند جملة: ص: (وأما كونه جملة ... إلخ). (ش): كون المسند جملة إما للتقوى والمراد تقوى الحكم بنفس التركيب، نحو: أنا قمت، وإنما قلنا بنفس التركيب؛ لأن التقوى قد يكون بالتكرير وبالحرف، مثل: إن واللام، وعلمنا أن المفيد للتقوى فى (زيد قام) ليس مجرد تكرار الإسناد فإن ذلك موجود فى المفرد نحو: (زيد قائم) ولا تقوى فيه، وإما أن يؤتى بالجملة لكون المسند سببيا، وقد تقدم مثل: زيد أبوه قائم إذ القيام غير حاصل للمسند إليه أولا. ص: (واسميتها ... إلخ). (ش): ينبغى أن يكون هذا استطرادا، أى: اسمية الجملة أو فعليتها مسندة كانت أم لا؛ لأن أمثلتهم ليس فيها تقييد الكلام بجملة هى مسندة فتكون الجملة اسمية لإفادة الثبوت والاستقرار، لما تقدم من أن الاسم يفيد ذلك وتكون الجملة فعلية لما تقدم من إفادة التجدد الذى يقتضيه الفعل، ومن رعاية ذلك قوله تعالى: قالوا سَلاماً قالَ سَلامٌ (¬2)؛ لأن إبراهيم قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به رعاية لمعنى قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها (¬3) وقد ذكر المصنف فى الإيضاح وجها آخر، وذكر أنه أشبه بأصول الفلاسفة، وقد قصدت تطهير هذا الكتاب منه. ¬

_ (¬1) يعنى: أن كون المسند جملة للسببيّة أو للتقوى، وكون تلك الجملة اسمية للدوام والثبوت. وكونها فعلية للتجدد والحدوث والدلالة على أحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه. وكونها شرطية للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط. (¬2) سورة الذاريات: 25. (¬3) سورة النساء: 86.

تأخير المسند

وظرفيّتها: لاختصار الفعلية؛ إذ هى مقدّرة بالفعل؛ على الأصح. وأما تأخيره: فلأنّ ذكر المسند إليه أهمّ؛ كما مر. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): والوجهان بناء على أن سلاما محكى منصوب بفعل، وفى الآية قول: إنه مفعول بقالوا أو مطلقا، والمعنى قولا سلاما. قلت: والمسند هنا ليس جملة فلذلك قلنا: إن المراد تعليل إتيان الجملة فعلية مطلقا وعلى التفصيل بين الاسمية والفعلية جاء قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (¬1) أى: تجدد دعائكم أم صمتكم المستمر؛ لأن الصمت عندهم هو الذى كان عادة مستمرة، وكذلك: قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (¬2) أى: هل أحدثت لنا ما لم تكن تألفه أم أنت على اللعب الذى كان مستمرا من الصغر على زعمهم. وأما قوله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (¬3) بعد من يقول: آمنا، فالمراد إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة فى تكذيبهم؛ ولهذا أطلق مؤمنين وأكد بالباء، ونحوه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها (¬4). وقد يقال عليه: إن الاسم إذا كان دالا على الثبوت وعلى النسبة كيف يدل نفيه على نفى كل منهما، ونفى الأخص أعم من نفى الأعم؟ وأما شرطية الجملة فلما مر، وقوله: (وظرفيتها) لاختصار الفعلية مثاله: زيد عندك أبوه، أو زيد عندى، أو فى الدار وأن التقدير: استقر فى الدار فهو لاختصار ذلك، وقد بناه المصنف على رأيه من أنها مقدرة بفعل، والجمهور أنها مقدرة باسم. وقول المصنف: (ظرفية الجملة) على هذا الشرح لا يصح؛ لأن الظرف ليس بجملة إلا إذا قلنا فى: زيد عندك أبوه: إن العمل للظرف نفسه، بل الظرف على هذا ليس بجملة، إنما هو جزء الجملة، وكأنه يعنى بظرفية الجملة أن ينطق بظرفيتها. تأخير المسند: ص: (وأما تأخيره فلأن ذكر المسند إليه أهم كما مر). (ش): هذا واضح وقد تقدم ذكره؛ لأن كل ما اقتضى تقدم المسند إليه من كونه الأصل وغيره اقتضى تأخير المسند. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 193. (¬2) سورة الأنبياء: 55. (¬3) سورة البقرة: 8. (¬4) سورة المائدة: 37.

تقديم المسند

وأما تقديمه: فلتخصيصه (¬1) بالمسند إليه؛ نحو: لا فِيها غَوْلٌ (¬2) أى: بخلاف خمور الدنيا؛ ولهذا لم يقدّم الظرف فى نحو: لا رَيْبَ فِيهِ (¬3)؛ لئلا يفيد ثبوت الريب فى سائر كتب الله تعالى. أو التنبيه من أول الأمر - على أنه خبر لا نعت؛ كقوله [من الطويل] (¬4): له همم لا منتهى لكبارها … وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر! ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديم المسند: ص: (وأما تقديمه ... إلخ). (ش): تقديم المسند إما لتخصيص المسند بالمسند إليه، كقولك: تميمى أنا، فى جواب من قال: أنت حجازى وشاعر، وكقوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ (¬5) المعنى اختصاصها بذلك دون خمور الدنيا، ولذلك لم يقدم الظرف فى: لا رَيْبَ فِيهِ لئلا يفيد ثبوت الريب فى سائر كتب الله سبحانه وتعالى، نعم هنا سؤال، وهو أن مدلول فيها غول ما الغول إلا فيها فنفيه ما اختصت بالغول، وهذا غير المراد؛ لأن ما اختصت بالغول أعم من أنها اشتركت هى وغيرها فيه، وليس هو مرادا، وجوابه يطول ذكره وسنتكلم عليه فى الاختصاص بتقديم المعمول، أو إما أن يقدم المسند ليفيد التنبيه من أول الأمر على أن المتقدم خبر، كقول حسان رضى الله عنه يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: له همم لا منتهى لكبارها … وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر له راحة لو أنّ معشار جودها … على البرّ كان البرّ أندى من البحر يعنى لو أخر فقال: همم له، لتوهم أنه صفة، وقد يقال: كان الوهم يزول بأن يقال: همم لا منتهى لكبارها له، فإن له حينئذ يتعين للخبرية، إلا أن يقال: يحتمل أن يكون صفة ثانية والخبر محذوف بقرينة، ولا مانع من الوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وإن كان قليلا مرجوحا، قلت: ويمكن أن يقال: التقديم هنا إما للاختصاص، وإما للتفاؤل ومسرة السامع مثل: ¬

_ (¬1) أى: لقصر المسند إليه على المسند. (¬2) سورة الصافات: 47. (¬3) سورة البقرة: 2. (¬4) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 78. وقيل: إنه لحسان. والصحيح أنه لبكر بن النطاح فى أبى دلف. (¬5) سورة الصافات: 47.

تنبيه

أو التفاؤل؛ أو التشويق إلى ذكر المسند إليه؛ كقوله [من البسيط]: ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها … شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (¬1) تنبيه كثير مما ذكره فى هذا الباب (¬2) - والذى قبله (¬3) - غير مختصّ بهما؛ كالذّكر والحذف وغيرهما، والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما، لا يخفى عليه اعتباره فى غيرهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه من الرّحمن ما يستحقّه أو عكسه كما تقدم فى المسند إليه. وإن كان المصنف أهمل هذا القسم هنا، ولا وجه لإهماله. وإما لإرادة التشويق إذا ذكر المسند إليه كقوله: ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها … شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (¬4) ولك أن تقول: إنما حصل التشويق من صفة المسند لا منه، ومن الناس من قال: إن ثلاثة مبتدأ سوغ الابتداء به الإفادة على رأى الجرجانى، أو التعيين كقولهم فى عمر - رضى الله عنه -: رجل اختار لنفسه، وتشرق: خبره، وفى هذا البيت من البديع الجمع والتفريق. ص: (تنبيه ... إلخ). (ش): التنبيه يذكر فيه ما له تعلق بالكلام السابق، ويدخل فيه دخولا خفيا، ومضمون هذا التنبيه أن ما ذكره فى هذا الباب والذى قبله، وهما بابا المسند إليه من الذكر والحذف وغيرهما، أى: من التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، ونحو ذلك، والتوابع، والإفراد والجملة اسمية أو فعلية أو شرطية أو ظرفية يجرى كثير منه فى غير المسند والمسند إليه، وأن من أتقن اعتبار ذلك فيهما ما لا يخفى عليه اعتباره فى غيرهما من المفاعيل والملحق بها، وغير ذلك والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 79. والبيت لمحمد بن وهيب فى مدح المعتصم. والشاهد تقديم ثلاثة وهو المسند. (¬2) يعنى: باب المسند. (¬3) يعنى: باب المسند إليه. (¬4) البيت من البسيط، وهو لمحمد بن وهيب فى مدح المعتصم، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص: 79، وفى الأغانى: 15/ 79، 81، والتلخيص ص: 33، والإيضاح ص: 107، وشرح عقود الجمان 1/ 124، وبلا نسبة فى تاج العروس (شرق).

باب أحوال متعلقات الفعل

أحوال متعلّقات الفعل الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل، فى أنّ الغرض من ذكره معه (¬1) إفادة تلبّسه به، لا إفادة وقوعه مطلقا؛ فإذا لم يذكر (¬2) معه، فالغرض إن كان إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا (¬3): نزّل منزلة اللازم، ولم يقدّر له مفعول؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ باب أحوال متعلقات الفعل ص: (أحوال متعلقات الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل ... إلخ). (ش): هذا الباب لأحوال متعلقات الفعل، ولم يستوعبها المصنف، بل ذكر منها الفاعل والمفعول، وذكر الفاعل فيه نظر؛ لأنه مسند إليه، فكان ذكر أحواله بباب المسند إليه أليق، ثم الأحوال التى يريدها هى الذكر والترك، والتقديم والتأخير فقط، والترك لا يأتى فى الفاعل؛ لأنه لا يحذف، ثم ينبغى أن يقول: الفعل وما فى معناه مما يعمل عمله، ولا شك أن الفعل مع المفعول، كالفعل مع الفاعل فى أن الغرض من كل منهما إفادة التلبس به لا إفادة وجوده فقط، فعمل الرفع فى الفاعل ليفيد وقوعه منه، والنصب فى المفعول ليفيد وقوعه عليه، فالمتكلم تارة يريد الإخبار عن الفعل. أى: الحدث من غير تلبس فاعل ولا مفعول، فيقول: وقع ضرب، ونحوه ليس فى هذا التركيب شئ من تعلقات الضرب. وظاهر عبارة المصنف أنه مع إرادة غير الحديث لا يؤتى بالفعل؛ فلا تقول: حضر شئ ونحوه، وتارة يراد فاعله فيؤتى بالفعل الصناعى الذى هو مشتق من الحدث الذى يريد الإخبار به، فيذكر فاعله أبدا عند البصريين إلا فى مواضع مستثناة. ويجوز الحذف عند الكسائى، ثم إن كان متعديا فتارة يقصد الإخبار بالحدث والمفعول دون فاعل فيبنى للمفعول، تقول: ضرب زيد، وتارة يقصد الإخبار بالفاعل ولا يذكر مفعوله، فهو على ضربين: أحدهما: أن يقصد إثبات المعنى للفاعل أو نفيه عنه على الإطلاق من غير اعتبار عموم ولا خصوص، ولا تعلق بمن وقع عليه، فالمتعدى حينئذ كاللازم فلا يذكر مفعوله، لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار بتعلقه بالمفعول، ولا يقدر حينئذ؛ ¬

_ (¬1) أى: من ذكر كل من الفاعل والمفعول مع الفعل، أو ذكر الفعل مع كل منهما. (¬2) أى: المفعول به مع الفعل المتعدى. (¬3) أى: من غير اعتبار عموم فى الفعل أو خصوص فيه، ومن غير اعتبار تعلقه من وقع عليه.

لأن المقدّر كالمذكور، وهو ضربان؛ لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية (¬1) عنه متعلقا بمفعول مخصوص، دلّت عليه قرينة أو لا (¬2): الثاني: كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (¬3). السّكاكىّ: ثم إذا كان المقام خطابيّا (¬4) لا استدلاليّا (¬5)، أفاد ذلك (¬6) مع التعميم (¬7)؛ دفعا للتحكّم (¬8): ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن المقدر كالمذكور، وهذا لا يتأتى فى الفاعل، بل متى ذكر الفعل الصناعى وجب الإتيان بالفاعل أو نائبه. قلت: وهذا حقيقة اللازم فلا ينبغى أن يقال: هو كاللازم، وكأنهم يعنون باللازم حقيقة. قال المصنف: وهذا قسمان: أحدهما: أن يجعل إطلاق الفعل كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه القرينة، والثانى: أن لا يكون كذلك كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى: من له صفة العلم، ومن ليست له، ثم نقل عن السكاكى أنه قال: ثم إن كان المقام خطابيا يعنى بالخطابى ما يقع فيه بظاهر اللفظ مثل: المطلق فإنه عام عموما خطابيا كمقام المدح والذم، والتخويف والإنذار، والبشارة ونحوها. بمعنى أن المخاطب إذا لم يره مفيدا حمله على جميع أفراده على البدل بخلاف الاستدلالى؛ فإنه لا بد فيه من برهان، فإن كان المقام خطابيا أفاد ذلك، أى: تنزيله منزلة اللازم مع التعميم فى أفراد الفعل، لا يقال: كيف يكون لازما، ويفيد التعميم؟ لأنا نقول: مراده التعميم؛ فى أفراد الفعل لا فى المفاعيل، فإنك إذا قلت: قام زيد، قد تريد به أنه وقع منه جميع أفراد القيام على سبيل البدل ولا مفعول دفعا؛ لأن حمله على أحد الأفعال دون غيره عين التحكم بغير دليل فيحمل على الجميع، ثم جعل يعنى السكاكى قولهم: فلان يعطى ويمنع محتملا لذلك، ولإفادة تعميم الفعل كما سيأتى يعنى بتعميم المفعول العموم الشمولى فى المفاعيل وبتعميم الفعل ¬

_ (¬1) أى عن ذلك الفعل. (¬2) أى أو لا يجعل ذلك. (¬3) سورة الزمر: 9. (¬4) أى يكتفى فيه بمجرد الظن. (¬5) يطلب فيه اليقين البرهانى. (¬6) أى كون الغرض ثبوته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا. (¬7) أى فى أفراد الفعل. (¬8) اللازم من حمله على فرد دون آخر.

والأول (¬1): كقول البحترىّ فى المعتزّ بالله [من الخفيف]: شجو حسّاده وغيظ عداه … أن يرى مبصر ويسمع واعى أى: أن يكون ذو رؤية، وذو سمع، فيدرك محاسنه وأخباره الظاهرة الدالّة على استحقاقه الإمامة دون غيره؛ فلا يجدوا إلى منازعته سبيلا. وإلا (¬2) وجب التقدير بحسب القرائن. ـــــــــــــــــــــــــــــ العموم البدلى فى الأفعال، وإنما لم يقل فيه عموم المفعول؛ لأن الغرض أن الفعل جاء قاصرا فلا مفعول له، وقد نازعه الخطيبى الشارح فى النقل عن السكاكى بما يعرفه من وقف على كلامه فلا حجة للإطالة بذكره، وقول المصنف: (وإن لم يكن خطابيا فلا يفيد ذلك) قال الخطيبى: الإشارة فى قول المصنف ذلك غير ما ذكره مما لا يخفى ضعفه، وأما القسم الأول وهو أن يكون الفعل المطلق الذى جعل لازما كناية عنه متعلقا بفعل مخصوص دلت عليه قرينة فكقول البحترى يمدح المعتز بالله: شجو حسّاده وغيظ عداه … أن يرى مبصر ويسمع واعى (¬3) أى: ليس فى الوجود ما يرى ويسمع إلا آثاره المحمودة، فإذا أبصر مبصر لا يرى إلا محاسنه، وإذا سمع سامع كذلك، فغيظ عداه أن يقع إبصار أو سمع فإنه كيف وقع لا يقع إلا على محاسنه، بخلاف ما لو قال أن يرى مبصر محاسنه؛ فإنه ليس فيه حينئذ ما يقتضى أنه ليس فى الوجود ما يبصر غير محاسنه، فإن قلت: المصنف قد جعل هذا قسما من جعل المتعدى لازما فكيف يقول بعد ذلك: إنه كناية عن مفعول وإن التقدير أن يرى آثاره. قلت: لا منافاة بين الكلامين بأن يجعله قاصرا، وهو كناية عن رؤية خاصة وسمع خاص، وخصوصيته باعتبار أنه نوع خاص من الإبصار باعتبار مفعوله الخاص فهو قاصر مكنى به عن متعد لا يصلح لا لمفعول واحد نعم لك أن تقول: المتعدى لمفعول واحد كيف يكنى عنه بالقاصر، والقاصر ليس لازما للمتعدى للواحد، بل ولا يجتمع معه. (قوله: وإلا) أى: وإن لم يكن قطع النظر عن المفعول، بل قصد ولم يذكر لفظا فإنه يقدر بحسب القرائن. ¬

_ (¬1) وهو أن يجعل الفعل مطلقا كناية عنه متعلقا بمفعول مخصوص. (¬2) أى وإن لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول المتعدى المسند إلى فاعله إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا بل قصد تعلقه بمفعول غير مذكور. (¬3) البيت من الخفيف أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص: 81، والمعتز بالله بن المتوكل على الله، والمستعين بالله بن المعتصم بالله ابن بنى العباس.

حذف المفعول للبيان بعد الإبهام

ثم الحذف: إمّا للبيان بعد الإبهام كما فى فعل المشيئة - ما لم يكن تعلقه به غريبا؛ نحو: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): مما ذكرنا يعلم أنه لا بد فى الفاعل والمفعول وغيره من متعلقات الفعل من زيادة فائدة، فلا تقول: قام قائم، وضربت مضروبا، وما أوهم ذلك فليؤول كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (¬2)، وقوله تعالى: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ (¬3)، وقوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ (¬4)، وليس منه: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (¬5)، فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (¬6) فإن الألف واللام تفيد زيادة، ولا نحو: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ (¬7)؛ لأن الفاعل مقيد بالصفة؛ ولعل الجواب عما ورد من ذلك أنه يقدر له صفة محذوفة. التقدير رسولا عظيما: سَأَلَ سائِلٌ (¬8) شفيع أو يكون التنكير الواقع فى مثله لمعنى من المعانى السابقة. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ (¬9) المعهودة التى عرف أنك فعلت، ورأيت بخط الوالد - رحمه الله - فى بعض التعاليق ما نصه: يقال: جاء شئ، ولا يقال: جاء جاء، وإن كان الجائى أخص من شئ؛ لأن جاء مسند والمسند إليه الفاعل، ومعرفة المسند إليه سابقة على معرفة المسند، فمتى عرف الجائى عرف المجئ، فلا يبقى فى الإسناد فائدة. والشئ قد يعرف ولا يعرف مجيئه. وما ذكره الوالد صحيح ولا يرد عليه نحو: أتانى آت، ونحو: هريرة ودّعها وإن لام لائم. فإن التنكير فى مثل ذلك لمعنى خاص، وكلامنا إنما هو فى جاء جاء من غير إرادة شئ خاص ثم أخذ فى تفصيلها. حذف المفعول للبيان بعد الإبهام: ص: (ثم الحذف إما للبيان بعد الإبهام ... إلخ). (ش): حذف المفعول مع تقديره لأحد أمور، منها: أن يقصد البيان بعد الإبهام، كما فى فعل المشيئة، ما لم يكن تعلقه بها غريبا؛ فإنه لا يذكر كما ذكرنا نحو: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أى فلو شاء هدايتكم لهداكم فإنه إذا سمع السامع فلو شاء ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 149. (¬2) سورة المزمل: 15. (¬3) سورة الشعراء: 19. (¬4) سورة المعارج: 1. (¬5) سورة الواقعة: 1. (¬6) سورة المطففين: 26. (¬7) سورة يوسف: 10. (¬8) سورة المعارج: 1. (¬9) سورة الشعراء: 19.

بخلاف نحو [من الطويل]: ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... وأما قوله (¬1) [من الطويل]: ولم يبق منّى الشّوق غير تفكّرى … فلو شئت أن أبكى بكيت تفكّرا فليس منه؛ لأنّ المراد بالأول البكاء الحقيقىّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعلقت نفسه بشئ أبهم عليه، لا يدرى ما هو فلما ذكر الجواب استبان بعد إبهامه. وأكثر ما يقع ذلك بعد (لو)؛ لأن مفعول المشيئة مذكور فى جوابها وكذلك غيرها من أدوات الشروط، وقد يكون مع غيرها استدلالا بغير الجواب كقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ (¬2) وقد يذكر إذا كان فيه غرابة لتأنيس السامع به كقوله: ولو شئت أن أبكى دما لبكيته … عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع (¬3) وقال التنوخى: إنه إنما ذكر فى البيت لاحتياجه فى الوزن إلى ضمير بكيته فاحتاج لما يفسره ولتعظيم بكاء الدم أيضا أو يذكر لأن المذكور فى جواب لو خلافه كقول ابن عباد: فلم يبق منى الشّوق غير تفكّرى … فلو شئت أن أبكى بكيت تفكّرا فإنه ليس المراد: فلو شئت أن أبكى تفكرا بكيت تفكرا، ولكن لو شئت أن أبكى البكاء الحقيقى، فالمراد بالبكاء فى الأول البكاء الحقيقى، وفى الثانى المجازى، إشارة إلى أنه من النحول لم يبق فيه محل لدمعة ولا شئ من الفضلات، فلو عصر عينيه لخرج منهما التفكر بدل الدمع، وأورد أنه: هلا يكون المراد فلو شئت أن أبكى تفكرا لبكيت تفكرا، معناه أنه فنى حتى صار قادرا على البكاء التفكرى؛ فيكون كالبيت قبله، وأجيب بأنه ليس التفكر مذكورا فى الشرط، وردّ بأن قوله: غير تفكرى يغنى عنه. قلت: وأيضا يكون محذوفا، ويتنازع فى تفكر المذكور فعلا الشرط وجوابه. (تنبيه): قد يقال: ما الحكمة فى اطراد أو كثرة حذف مفعول المشيئة دون غيره من الأفعال؟ ¬

_ (¬1) هو للجوهرى من شعراء الصاحب بن عباد. (¬2) سورة البقرة: 255. (¬3) البيت من الطويل، وهو للجوهرى من شعراء الصاحب بن عباد.

حذف المفعول لدفع توهم إرادة غير المراد

وإمّا لدفع توهّم إرادة غير المراد ابتداء؛ كقوله [من الطويل]: وكم ذدت عنّى من تحامل حادث … وسورة أيّام حززن إلى العظم! إذ لو ذكر اللحم، لربّما توهّم قبل ذكر ما بعده أن الحزّ لم ينته إلى العظم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالجواب: أن المشيئة يلزم من وجودها وجود المشئ، وإذا كان كذلك فالمشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مشيئة الجواب؛ ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة فى وجوب اطراد حذف مفعولها، صرح به ابن خطيب زملكان فى البرهان، وصاحب الأقصى القريب، وهو واضح، وبعد أن خطر لى هذا الجواب بسنين كثيرة رأيت التنوخى قد وقع عليه فقال فى الأقصى: علة ذلك أن مادة المشيئة والشئ واحد، فالمشيئة جعل ما ليس بشئ شيئا، فمعمولها لا يتأخر عنها وهو بعد لو منفى لانتفائه فى الجواب، فانتفاء المشيئة لازم لانتفائه فانتفاؤه بالوضع، وانتفاء المشيئة باللزوم، فحذف مفعول المشيئة، لينصرف الانتفاء إلى المشيئة فيكون انتفاء مفعولها تابعا لها. اه. (تنبيه): وإذا حذفته بعد لو فهو المذكور فى جوابها أبدا، كذا قالوه، وقد يرد عليهم قوله تعالى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً (¬1) فإن المعنى لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة لأن المعنى يعين ذلك، وبذلك فسره الوالد - رضى الله عنه - فى تفسيره. حذف المفعول لدفع توهم إرادة غير المراد: وإما (¬2) أن يحذف المفعول كى لا يبتدر ذهن السامع ابتداء الإرادة غير المقصود كقول الشاعر: وكم ذدت عنّى من تحامل حادث … وسورة أيّام حززن إلى العظم (¬3) فإنه لم يفهم أن المحزوز اللحم، حتى علم أن الحز وصل إلى العظم، فلو قال: حززن اللحم لربما توهم السامع أولا أن المقصود الإخبار بحز اللحم من غير نظر إلى ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 14. (¬2) معطوف على إما للبيان بعد الإبهام ص: 68. (¬3) البيت من الطويل، وهو للبحترى، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص: 82، والمخاطب فى البيت أبو الصقر ممدوح البحترى.

حذف المفعول لإرادة ذكره ثانيا

وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمّن إيقاع الفعل على صريح لفظه؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه (¬1) عليه (¬2)؛ كقوله [من الخفيف]: قد طلبنا فلم نجد لك فى السّؤ … دد والمجد والمكارم مثلا ويجوز أن يكون السبب ترك مواجهة الممدوح بطلب مثل له. وإمّا للتعميم مع الاختصار؛ كقولك: قد كان منك ما يؤلم، أى: كلّ أحد؛ وعليه: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ انتهائه إلى العظم وقولنا: (ابتداء) هو كقولنا: إنه يتعين التقديم فى نحو فى الدار رجل ويؤتى بالفصل فى نحو: زيد هو الفاضل غير أنهم أوجبوا التقديم فى المثال الأول ولم يوجبوه فى: زيد هو الفاضل. حذف المفعول لإرادة ذكره ثانيا: وإما لإرادة ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه هذه عبارة المصنف، ومراده أن يراد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل الثانى على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية كقوله: قد طلبنا فلم نجد لك فى السّؤ … دد والمجد والمكارم مثلا (¬4) فأراد إيقاع نفى الوجدان على المثل صريحا بخلاف ما لو قال: قد طلبنا لك مثلا فى السؤدد فلم نجد هذا إنما يكون لو تعذر ذكر مفعولى الفعلين فإن هذا المعنى يحصل بذكرهما، والأحسن ما ذكره المصنف ثانيا وهو أن تقول: إنه قصد التأدب مع الممدوح بأن لا يصرح له بأنه طلب له مثلا، وفى البيت نقد وهو أن عدم وجدان مثل فى هذه الصفات الثلاث لا ينفى وجدان واحد منها فهذا موضع أن يقول: ولا فى الفضل ولا المكارم وتركه على وجه يتزن به البيت. حذف الفعل لإرادة التعميم مع الاختصار: وإما أن يكون الحذف للتعميم مع الاختصار، مثل: قد كان منك ما يؤلم، أى: يؤلم كل أحد وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أى: كل أحد، ولو صرح به لأفاد التعميم دون الاختصار، لا يقال: المعنى يدعو من يشاء بقرينة قوله تعالى: ¬

_ (¬1) أى الفعل الثانى. (¬2) أى على المفعول. (¬3) سورة يونس: 25. (¬4) البيت من الخفيف، وهو للبحترى فى يد الخليفة المعتز.

حذف الفعل لمجرد الاختصار

وإمّا لمجرّد الاختصار عند قيام قرينة؛ نحو: أصغيت إليه، أى: أذنى؛ وعليه: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (¬1) أى: ذاتك. وإما للرعاية على الفاصلة؛ نحو: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ (¬3)؛ لأن الواقع أن كل أحد دعاه الله إلى دار السّلام، فإن قلت: إذا قدرت يدعو من يشاء، وقد شاء دعاء كل أحد طابق ما بعده وحصل العموم؛ لأن المعنى من يشاء أن يدعوه. قلت: إنما يحذف فى الأول ما فى الثانى، والذى فى الثانى تقديره: من شاء أن يهديه، فلو قدرنا مثله فى الأول لكان تقديره يدعو من يشاء هدايته، وهو غير المراد، ويمكن النزاع فيه وأن يقال: تقدير من يشاء هدايته يدل على تقدير من يشاء دعوته؛ لأن قرينة كل مفعول محذوف فعله فالجواب حينئذ أنا لو قدرنا: يدعو من يشاء لأوهم انقسام الناس إلى مدعو وغيره كانقسامهم إلى مهدى وغيره، ولك أن تقول: الحذف للاختصار، وأما التعميم فمن أين استفدناه؟! وإفادة التعميم من هذه الآية إنما حصل من خصوص الآية بدليل خارجى. حذف الفعل لمجرد الاختصار: وإما للاختصار عند قيام قرينة دالة على إرادة الاختصار نحو: أصغيت إليه أى: أذنى وهو من الأفعال التى أميت ذكر مفعولها ومنه: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ (¬4) أى: أنفسكم، وبنى على امرأته، أى: قبة، ورجع عن الغواية أى: نفسه. ومنه قوله تعالى: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أى ذاتك. (قلت): وعندى أن ترك المفعول هنا للتعظيم، وعلى ما سبق صحح الزمخشرى قول أبى نواس: وإذا نزعت عن الغواية فليكن … لله ذاك النّزع لا للنّاس (¬5) قال: لأن الفعل متعد فى أصله فلا عليه إذ نظر إلى الأصل. حذف الفعل لرعاية الفاصلة: وإما لرعاية الفاصلة، وعبارة المصنف للرعاية على الفاصلة، وفيها نظر، ولعله ضمنه معنى المحافظة، ومثاله قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أى: ما قلاك فإنه روعى قوله تعالى: سَجى (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 143. (¬2) سورة الضحى: 3. (¬3) سورة يونس: 25. (¬4) سورة البقرة: 198. (¬5) البيت لأبى نواس فى ديوانه ص: 284، والطراز ح 3 ص: 181، وفى المصباح ص: 272. (¬6) سورة الضحى: 2.

حذف المفعول لاستهجان ذكره

وإما لاستهجان ذكره؛ كقول عائشة رضى الله عنها: (ما رأيت منه؛ ولا رأى منّى) (¬1) أى: العورة. وإما لنكتة أخرى. وتقديم مفعوله، ونحوه عليه: لردّ الخطأ فى التعيين؛ كقولك: زيدا عرفت لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا، وإنه غير زيد، وتقول لتأكيده لا غيره؛ ولذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره خ خ، ولا: ما زيدا ضربت، ولكن أكرمته ". ـــــــــــــــــــــــــــــ حذف المفعول لاستهجان ذكره: وإما لاستهجان ذكر المفعول كقول عائشة رضى الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى منى. حذف المفعول لنكتة أخرى: (قوله: وإما لنكتة أخرى) أى: لمعنى آخر يقتضى الحذف، كخوف ذكره وإرادة الإنكار لدى الحاجة وجعل السكاكى من الحذف للاختصار قوله تعالى: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ (¬2) وقال الزمخشرى: ترك المفعول؛ لأن الغرض الفعل لا المفعول، قال المصنف فى الإيضاح: قد يشتبه الحال فى الحذف وعدمه؛ لعدم تحصيل معنى الفعل كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (¬3) قد يتوهم أن معناه نادوا فلا حذف، ولا يصح، لأنه يلزم الاشتراك لو كان المسمى متعددا أو عطف الشئ على نفسه إن كان واحدا، بل هو بمعنى سموا فالحذف واقع والله تعالى أعلم. تقديم المفعول على الفعل: ص: (وتقديم مفعوله ونحوه عليه ... إلخ). (ش): تقديم مفعول الفعل عليه يكون لرد الخطأ فى التعيين، والمراد أن المخاطب يظن وقوع الفعل على مفعول معين، والغرض أنه واقع على غيره: كقولك: زيدا عرفت، لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا غير زيد، وتؤكد هذا بقولك: لا غيره - كذا قاله ¬

_ (¬1) أخرجه الطبرانى فى الصغير (ص 27) ومن طريقه أبو نعيم (8/ 247) والخطيب (1/ 225) وفى سنده بركة بن محمد الحلبى خ خ، ولا بركة فيه، فإنه كذاب وضاع. وقد ذكر الحافظ ابن حجر له هذا الحديث فى اللسان (2/ 13) وقال: تفرد به بركة، وعدّه من أباطيله. وقال ابن عدى فى مختصر الكامل ص 194: وسائر أحاديث بركة مناكير باطلة كلها، لا يرد بها غيره، وله من الأحاديث البواطل عن الثقات غير ما ذكرته، وهو ضعيف كما قال عبدان راجع آداب الزفاف للشيخ الألبانى ص 34. (¬2) سورة القصص: 23. (¬3) سورة الإسراء: 110.

وأما نحو: زيدا عرفته فتأكيد إن قدّر المفسّر قبل المنصوب؛ وإلا فتخصيص. وأمّا نحو: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬1): فلا يفيد إلا التخصيص؛ وكذلك قولك: بزيد مررت خ خ. والتخصيص لازم للتقديم غالبا؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف - وينبغى أن يقيد كونه تأكيدا بما إذا كان مرادا به الاختصاص، فإن لم يرد فيكون قولك: لا غيره تأسيسا لا تأكيدا، إلا أن يريد أنه تأكيد لتعلق الفعل بالمفعول السابق، وإن أفاد نفى غيره، قال المصنف: ولذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره لتناقض دلالة الأول والثانى؛ لأن ما زيدا ضربت، خاطبت به من يعلم أن إنسانا ضربته، ولكنه غلط فى تعيينه وأصاب فى معرفة إنسان فى الجملة، وقولك: ما زيدا ضربت ولا غيره، يخالف ذلك، ولك أن تقول: لم لا يقدم المفعول إذا كان الخطاب مع من يعتقد أنك ضربت زيدا وهو مخطئ فى أصله، وفى تعيينه بأن يكون الواقع أنك لم تضرب أحدا، ويصح حينئذ: ما زيدا ضربت ولا غيره، قال: وكذلك لا يجوز أن تعقب الفعل المنفى بإثبات ضده كقولك: ما زيدا ضربت ولكن أكرمته؛ لأن التقديم إنما يكون لرد الخطأ فى تعيين المفعول فيرد إليه بالتقديم لا لرفع الخطأ فى المسند، بل إنما يحسن الرد هنا بأن يقال: ما زيدا ضربت ولكن عمرا. وأما نحو قولك: زيدا عرفته، فإن قدر العامل قبل قولك: زيدا، فليس مما نحن فيه؛ لأن المفعول حينئذ غير مقدم، فلا يكون فيه إلا تأكيد بإعادة الجملة، وإن قدر بعد المنصوب كان مما نحن فيه، فيكون للتخصيص ما لم ينصرف عنه على أن التأكيد حاصل على التقديرين. وقوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ للتخصيص؛ لأن عامل ثمود على قراءة النصب مؤخر؛ لأن أما بمعنى: مهما يكن من شئ، فهو بمعنى فعل، فلا يليها فعل؛ لأنه يجتمع فعلان - كذا قالوه - وفيه نظر سيأتى قريبا. وكذلك تقديم ما ليس مفعولا صريحا كقولك: بزيد مررت، وهو المراد بقوله: ونحوه، على ما قيل، والمراد به نحو المفعول من الحال والظرف ونحوهما؛ فيكون تقديم المعمول مطلقا مفيدا للاختصاص. قوله: (والتخصيص لازم ... إلخ) أى: التخصيص لازم للتقديم، ويدخل فى قوله سائر المعمولات مع عواملها، فالظاهر أن ذلك لا اختصاص له بالمفعول، وقد صرح ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 17.

ولهذا يقال فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬1) معناه: نخصّك بالعبادة والاستعانة، وفى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (¬2) معناه: إليه لا إلى غيره. ويفيد فى الجميع - وراء التخصيص - اهتماما بالمقدّم؛ ولهذا يقدّر فى (باسم الله) مؤخّرا. وأورد: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (¬3): وأجيب: بأنّ الأهمّ فيه القراءة، وبأنّه متعلّق ب (اقرأ) الثانى، ومعنى الأول: أوجد القراءة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما بأن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص. وقال صاحب الفلك الدائر: إن هذا لم يقل به أحد وزاد ابن الأثير فقال: تقدم الظرف فى الكلام المثبت يفيد الاختصاص، نحو: إن إلىّ مصير هذا الأمر، وقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (¬4)، وكذلك تقديم الحال على صاحبها مثل: جاء راكبا زيد. (قلت): هذا والذى قبله ليس من تقديم المعمول على عامله، بل من تقديم بعض المعمولات على بعض، وسيأتى أنه لا يفيد الاختصاص. وقوله: (لازم للتقديم غالبا) يعنى: أن الغالب أن التقديم يكون للتخصيص، وقد يخرج عن ذلك لغرض غيره كما تقدم فى تقديم المسند إليه، فإن قلت: قوله: غالبا، كيف يجتمع مع قوله: لازم؟ قلت: لا يعنى بقوله: لازم للتقديم أنه لا يفارقه، بل يعنى أنه لازم الإمكان ولكون التقديم مفيدا للاختصاص تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ معناه نخصك بالعبادة والاستعانة، وفى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ معناه: إليه لا إلى غيره، وكذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (¬5) أخرت الصلة فى الشهادة الأولى وقدمت فى الثانية؛ لأن الغرض فى الأول إثبات شهادتهم، والغرض فى الثانى إثبات اختصاصهم بشهادة النبى عليهم، ثم ذكر أنه يفيد وراء التخصيص شيئا آخر، وهو الاهتمام بالمعمول المقدم؛ ولذلك كان الأولى عند الجمهور تقدير العامل فى (باسم الله) متأخرا فيقدم (باسم الله اقرأ) وأورد أنه يتعين أن يكون مقدما ليوافق قوله سبحانه وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأجيب بأن الأهم ثم ذكر القراءة لأنها أول سورة نزلت وبأن بِاسْمِ رَبِّكَ يتعلق باقرأ المذكور ثانيا، ومعنى اقرأ الأولى أوجد ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: 5. (¬2) سورة آل عمران: 158. (¬3) سورة العلق: 1. (¬4) سورة الغاشية: 25. (¬5) سورة البقرة: 143.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القراءة بتنزيل الفعل المتعدى منزلة اللازم، وأورد عليه أنه يلزم الفصل بين المؤكد والمؤكد؛ لأن اقرأ الثانى تأكيد لاقرأ الأول وفصل بينهما بِاسْمِ رَبِّكَ وقد يجاب بأمور، منها: أن هذا ليس بتأكيد، فإن اقرأ الأول نزل منزلة اللازم كما سبق، وإن جعل تأكيدا للأول لم يصح؛ لأن الثانى أخص ولا يكون الأخص تأكيدا للأعم بخلاف العكس، ومنها أن الممتنع الفصل فى التأكيد الاصطلاحى، وهذا تأكيد لغوى بيانى لا يمتنع معه الفصل. ومنها: التزام جواز الفصل فى مثله كقوله سبحانه وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ (¬1) فقد فصل بين يرضين وكلهن بالجار والمجرور، هذا وهو ليس معمولا للمؤكد، فما كان معمولا أولى، وادعى الزمخشرى أن الاختصاص فى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (¬2) أبلغ منه فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ والظاهر أن يريد لما فيه من تكرير المفعول المستدعى لتكرير الجملة، وفيما ذكره نظر، والذى يظهر العكس، فإن وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ لا دلالة فيه على التقديم حتى يفيد الاختصاص؛ لأن عامل إياى جاز أن يكون متأخرا عن إياى، وأن يكون متقدما عليه، فلا يكون المفعول مقدما، فلا اختصاص لا يقال: لا يصح ذلك فإنه لو تقدم العامل لما انفصل الضمير كما ذكره شيخنا أبو حيان فى تفسير هذه الآية رادا على من زعم ذلك؛ لأنا نقول: من أسباب الانفصال حذف العامل كما ذكره ابن مالك، وأما إِيَّاكَ نَعْبُدُ (¬3) فلا ضرورة فيه، ولا دليل على حذف عامل إياك ومفعول نعبد، بل إياك معمول نعبد المذكور، فيتحقق فيه التقديم المفيد للاختصاص. واعلم أن ابن الحاجب قال فى شرح المفصل: إن الاختصاص الذى يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (¬4) ثم قال تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ (¬5) وهو استدلال ضعيف؛ لأن مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أغنى عن إرادة الحصر فى الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذى يمنع من ذكر المحصور فى محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ. قال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ (¬6) وقال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 51. (¬2) سورة البقرة: 40. (¬3) سورة الفاتحة: 5. (¬4) سورة الزمر: 2. (¬5) سورة الزمر: 66. (¬6) سورة الحج: 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (¬1) بل قوله تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ (¬2) من أقوى أدلة الاختصاص فإن قبلها لَئِنْ أَشْرَكْتَ (¬3) فلو لم تكن للاختصاص، وكان معناها أعبد الله لما حصل الإضراب الذى هو معنى (بل). وقد رد الشيخ أبو حيان على مدعى الاختصاص بنحو قوله سبحانه وتعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬4) وجوابه أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة، ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله تعالى: كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ (¬5) وجوابه أنا لا ندعى اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشئ عن الحقيقة، وكذلك الجواب عن قوله تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ (¬6) إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ، وقوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (¬7) وربما يستدل له بقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ (¬8) فإن المقصود منه إنما يحصل بادعاء الاختصاص، ويشهد له: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (¬9)، وكذلك يدل على الاختصاص قوله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا (¬10)، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا (¬11). (تنبيه): يشترط فى كون التقديم مفيدا للاختصاص على القول به أن لا يكون المعمول مقدما وضعا؛ فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة، وذلك كأسماء الاستفهام، وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره وأن لا يكون التقديم لمصلحة التركيب مثل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬12) على قراءة النصب، خلافا لما فى الإيضاح فى الثانى من إفادة الاختصاص. (تنبيه): وقد اجتمع الاختصاص وعدمه فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ (¬13) فإن التقديم فى الأول قطعا ليس للاختصاص، وفى إياه قطعا للاختصاص، كما يظهر بالتأمل. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 40. (¬2) سورة الزمر: 66. (¬3) سورة الزمر: 65. (¬4) سورة الزمر: 64. (¬5) سورة الأنعام: 84. (¬6) سورة إبراهيم: 10. (¬7) سورة التوبة: 9. (¬8) سورة التوبة: 66. (¬9) سورة يونس: 41. (¬10) سورة الملك: 29. (¬11) سورة يونس: 84. (¬12) سورة فصلت: 17. (¬13) سورة الأنعام: 40، 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): سلك الوالد رضى الله عنه فى الاختصاص حيث وقع إما بتقديم الفاعل المعنوى، أو بتقديم المعمول مسلكا غير ما هو ظاهر كلام البيانيين. وها أنا أذكر تصنيفا لطيفا له فى ذلك سماه الاقتناص، وهو:" قد اشتهر كلام الناس فى أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ومن الناس من ينكر ذلك، ويقول: إنما يفيد الاهتمام، وقد قال سيبويه فى كتابه: وهم يقدمون ما هم به أعنى، والبيانيون على إفادته الاختصاص، ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر فإذا قلت: زيدا ضربت، يقول: معناه ما ضربت إلا زيدا، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شئ والحصر شئ آخر، والفضلاء لم يذكروا فى ذلك لفظة الحصر، وإنما قالوا: الاختصاص. قال الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬1): وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬2)، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا (¬3) والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة، وقال فى قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ معناه أفغير الله أعبد بأمركم وقال فى قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا: الهمزة للإنكار، أى: منكرا أن أبغى ربا غيره، وقال فى قوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (¬4): إنه أمر بالإخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، وقال فى قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (¬5): قدم المفعول الذى هو غير دين الله على فعله، لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذى هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، وقال فى قوله تعالى: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (¬6) إنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل فى شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به يعنى أتريدون إفكا ثم فسر الأول بقوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك فى أنفسها، ويجوز أن يكون حالا، فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشرى لفظ الحصر فى شئ منها، ولا يصح إلا فى الآية الأولى فقط، والقدر المشترك فى الآيات الاهتمام، ويأتى الاختصاص، فى أكثرها، ومثل قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: 5. (¬2) سورة الزمر: 64. (¬3) سورة الأنعام: 164. (¬4) سورة الزمر: 14. (¬5) سورة آل عمران: 83. (¬6) سورة الصافات: 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أَإِفْكاً آلِهَةً قوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (¬1) وما أشبهها لا يأتى فيه إلا الاهتمام، لأن ذلك منكر من غير اختصاص، وقد يتكلف لمعنى الاختصاص فى ذلك كما فى بقية الآيات، وأما الحصر فلا، فإن قلت: فما الفرق بين الاختصاص والحصر؟ قلت: الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين أحدهما عام مشترك بين شيئين أو أشياء، والثانى معنى منضم إليه يفصله عن غيره، كضرب زيد فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيدا أخبرت بضرب عام وقع منك على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك ومن زيد، وهذه المعانى الثلاثة، أعنى: مطلق الضرب، وكونه واقعا منك، وكونه واقعا على زيد، قد يكون قصد المتكلم لها ثلاثتها على السواء، وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه؛ فإن الابتداء بالشئ يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح فى غرض المتكلم، فإذا قلت: زيدا ضربت، علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود، ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان؛ فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهه خصوصه، فقصده من جهه خصوصه هو الاختصاص وأنه هو الأعم عند المتكلم وهو الذى قصد إفادته للسامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفى، وأما الحصر فمعناه نفى غير المذكور وإثبات المذكور يعبر عنه بما وإلا أو بإنما، فإذا قلت: ما ضربت إلا زيدا، كنت نفيت الضرب عن غير زيد وأثبته لزيد، وهذا المعنى زائد على الاختصاص، وإنما جاء هذا فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬2) للعلم بأنه لا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره، ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك فإن قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (¬3) لو جعل غير دين الله يبغون فى معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، ولا شك أن مجرد بغيهم غير دين الله منكر، وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها ألا ترى أن: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬4) وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر، وأن أبغى ربا غيره منكر ¬

_ (¬1) سورة سبأ: 40. (¬2) سورة الفاتحة: 5. (¬3) سورة آل عمران: 83. (¬4) سورة الزمر: 64.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من غير حصر، ولكن الخصوص وهو غير الله هو المنكر وحده ومع غيره وكذلك: إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (¬1) وعبادتهم إياهم منكرة من غير حصر، وكذلك قوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (¬2) المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر، فمن هذا كله يعلم أن الحصر فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬3) من خصوص المادة لا من موضوع اللفظ، بل أقول: إن المصلى قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر فى عينه من أن يشتغل به فى ذلك الوقت يبغى عبادته وإنما قصد الإخبار بعبادة الله وأول ما حضر بذهنه عظمة من هو واقف بين يديه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليطابق اللفظ المعنى، ويقدم ما يقدم حضوره فى القلب وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بناء عليه ما أخبر به من عبادته فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم يخبر عنه بشئ، بل هو معرض عنها، وإذا تأملت مواقع ذلك فى الكتاب والسنة وأشعار العرب تجده كذلك ألا ترى قول الشاعر: أكلّ امرئ تحسبين امرأ … ونار توقد بالليل نارا لو قدرت فيه الحصر بما وإلا هل يصح المعنى الذى أراده؟ وقد قال الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (¬4): وفى تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ * وهذا الذى قاله الزمخشرى فى غاية الحسن، وقد اعترض بعض الناس عليه فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها، وهذا الذى قاله هذا القائل بناه على فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك لما بيناه، ثم قال هذا القائل: وتقديم هم أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها حيث قالوا: لَنْ يَدْخُلَ ولَنْ تَمَسَّنَا (¬5) وهذا من هذا القائل استمرار على ما فى ذهنه من الحصر، أى: أن المسلمين لا يوقنون إلا ¬

_ (¬1) سورة سبأ: 40. (¬2) سورة الصافات: 86. (¬3) سورة الفاتحة: 5. (¬4) سورة البقرة: 4. (¬5) سورة البقرة: 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها، وهذا فهم عجيب: ثم قال هذا القائل: ثم إن التعريض فى قوله: (يأهل الكتاب) وبما كانوا، وأن قولهم ظاهر معنى قول الزمخشرى قال هذا القائل: وأما فى قوله: وأن اليقين مشكل؛ لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن، بل تصريح، قلت: مراد الزمخشرى أن التصريح بأن من آمن يوقنون، تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون فكيف يرد عليه هذا؟! ثم قال هذا القائل: فالوجه أن يقال: وأن اليقين عطف على قوله: تعريض لا على معمولاته من يأهل الكتاب إلخ، وكأنه قال: وفى تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض، وأن اليقين، قلت: مراد الزمخشرى أنه تعريض بنفى اليقين عن أهل الكتاب، فكأنه قال: دون غير من آمن، فلا يرد عليه ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل، وهو إما أن يقدر دون غيرهم، أو لا فإن قدر فهو تعريض لا تصريح، وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء يوقنون على هم، فحمل كلام الزمخشرى على ما زعمه هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه، وهذا القائل فاضل، وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر، وهو ممنوع، وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام: أحدها: بما وإلا كقولك: ما قام إلا زيد، صريح فى نفى القيام عن غير زيد، ويقتضى إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، وهذا هو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم، لأن إلا موضوعة للاستثناء وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام، ليس هو عين القيام بل قد يستلزمه؛ فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك فقال: إنه بالمنطوق. والثانى: الحصر بإنما وهو قريب من الأول فيما نحن فيه، وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت: إنما قام زيد، بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم. القسم الثالث: الحصر الذى قد يفيده التقديم، وليس هو على تقدير تسليمه، مثل: الحصرين الأولين، بل هو فى قوة جملتين إحداهما ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا، وهو المنطوق، والأخرى ما فهم من التقديم والحصر يقتضى نفى المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم، لأن المفهوم لا مفهوم له، فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال سبحانه وتعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً (¬1) أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه وتعالى بعده: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ بيانا لما سكت عنه فى الأولى، فلو قال: بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (¬2) أفاد بمنطوقه إيقانهم بها، ومفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصودا بالذات: والمقصود بالذات، قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حصر مجازى، وهو دون قولنا:" يوقنون بالآخرة" لا بغيرها فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة. إذا عرفت هذا فتقديم هم أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير: لا يوقنون إلا بالآخرة، كان المقصود المهم النفى، فيتسلط المفهوم عليه فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم هذا القائل، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة، ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، ولم يدل عليه بجملة واحدة، مثل: ما وإلا، ومثل: إنما، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيدا بالآخر، حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفى الإيقان المحصور، بل أفاد نفى الإيقان مطلقا عن غيرهم، وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر، وقد سبق إلى فهم كثير من الناس، ونحن قد منعنا ذلك أولا، وبينا أنه لا حصر فى ذلك، وإنما هو اختصاص، وفرقنا بين الاختصاص والحصر، وقول هذا القائل: تقديم هم، من أين له أن هذا تقديم؟ فإنك إذا قلت: هو يفعل، احتمل أن يكون مبتدأ خبره يفعل، واحتمل أن يكون أصله: يفعل هو، ثم قدمت وأخرت. والزمخشرى لم يصرح بالتقديم، وإنما قال: بناء يوقنون على هم، ولكنا مشينا مع هذا الفاضل على كلامه، وكل ذلك أوجبه الوهم والتباس الاختصاص بالحصر، والله عز وجل أعلم. ¬

_ (¬1) سورة النور: 3. (¬2) سورة البقرة: 4.

تقديم بعض معمولات الفعل عليه

وتقديم بعض معمولاته على بعض لأنّ أصله التقديم، ولا مقتضى للعدول عنه؛ كالفاعل فى نحو: ضرب زيد عمرا خ خ، والمفعول الأوّل فى نحو: أعطيت زيدا درهما خ خ. أو لأنّ ذكره أهمّ؛ كقولك: قتل الخارجىّ فلان خ خ. أو لأنّ فى التأخير إخلالا ببيان المعنى؛ نحو: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ (¬1) فإنه لو أخّر: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ عن قوله: يَكْتُمُ إِيمانَهُ - لتوهّم أنه من صلة (يكتم)؛ فلا يفهم أنه منهم. أو بالتناسب؛ كرعاية الفاصلة؛ نحو: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديم بعض معمولات الفعل عليه: ص: (وتقديم بعض معمولاته على بعض ... إلخ). (ش): تقديم بعض المعمولات على بعض يكون لأحد أمور: إما لأن ذلك التقديم هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه كالفاعل فإن أصله التقديم على سائر معمولات الفعل؛ لكونه عمدة وكذلك المفعول الأول فى باب أعطيت زيدا درهما؛ لأنه فى الأصل الفاعل المعنوى، وإما أن يعدل عن الأصل فيقدم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض وقوع الفعل بالمفعول، لا صدوره من الفاعل كقولك: قتل الخارجى فلان، فإن الغرض متوجه لقتل الخارجى لا غير وإزاحة شره لا لقاتله من هو، وإما لأن فى تأخيره خيفة أن يلتبس المعنى بغيره كقوله سبحانه وتعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ فإنه لو قيل: يكتم إيمانه من آل فرعون لتوهم أن من آل فرعون من صلة يكتم فيختل المقصود. قلت: فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الوصف بالجملة أصله التأخير عن الوصف بالجار والمجرور، فهذا ماش على الأصل فلا حاجة لتعليله وما كان بالوضع والذات لا يعلل بالغير، ثم لا يسمى ذلك تقديما، فإن التقديم يكون لشئ نقل عن محله إلى ما قبله، كذا صرح به الزمخشرى وهو القياس. الثانى: أن هذا التوهم إنما كان يصح أن لو كان يكتم يتعدى بمن، وليس كذلك فإنه يتعدى بنفسه، فهذا الوهم ليس له مجال، وما يقع فى كلام الناس من تعدية يكتم بمن الظاهر أنه ليس له أصل، وإما أن يقدم وإن كان أصله التأخير رعاية لتناسب فواصل الآى نحو: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. ¬

_ (¬1) سورة غافر: 28. (¬2) سورة طه: 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قال السكاكى: الحالة المقتضية لتقديم ما يتصل بالفعل بعضه على بعض كون العناية بما تقدم أتم، وذلك نوعان: أحدهما: أن يكون أصل الكلام فى ذلك التقديم، ولا يكون مقتض للعدول عنه، وذكر من ذلك أمثلة كالمفعول الأول من باب علمت، وباب أعطيت وكسوت؛ فإنه من الأول فى حكم المبتدأ ومن الأخيرين فى حكم الفاعل ولا يكون، وكتقديم المبتدأ المعرف، والفاعل على المفعول والحال والتمييز، وكتقديم المفعول الذى وصل إليه الفعل بلا واسطة على المتعدى بالحرف. الثانى: أن تكون العناية بتقديمه لالتفات الخاطر إليه، وان كان مؤخرا فى الأصل، وجعل منه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ (¬1) على القول بأن لله مفعول ثان، ومثل قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى (¬2) قدم فيه المجرور لاشتمال ما قبله على سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، فكانت مظنة أن السامع يصير مفكرا أكانت القرية كلها كذلك أم قطر دان أم قاص؟ بخلاف ما فى سورة القصص، ومثل قوله تعالى فى سورة النمل: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا (¬3) لأن ما قبلها: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا (¬4) فالجهة المنظور إليها كون أنفسهم وآبائهم ترابا، وهو الموعود به، فلذلك قدم، وفى سورة المؤمنين: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا (¬5) لأن قبلها: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً (¬6) فالجهة المنظور إليها كونهم ترابا وعظاما، وجعل من ذلك كون التقديم يمنع اختلال المعنى، كقوله تعالى فى سورة المؤمنين وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬7) بتقديم المجرور على الوصف؛ لأنه لو أخر لأخر عن الصلة وما عطف عليها فقيل من قومه بعد: وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يدرى حينئذ أنهم من قومه أو لا، بخلاف قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ (¬8) جاء على الأصل لعدم المانع، وجعل منه أيضا مراعاة الفاصلة كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 100. (¬2) سورة يس: 20. (¬3) سورة النمل: 68. (¬4) سورة النمل: 67. (¬5) سورة المؤمنون: 83. (¬6) سورة المؤمنون: 82. (¬7) سورة المؤمنون: 33. (¬8) سورة المؤمنون: 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (¬1) وفى الآخرى: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (¬2) قال المصنف: وفيه نظر من وجوه: الأول: أنه جعل تقديم لله على شركاء للعناية والاهتمام، وليس كذلك؛ لأن الآية مسوقة للإنكار التوبيخى، فيمتنع أن يكون بعده وجعلوا لله، منكرا من غير اعتبار تعلقه بشركاء؛ إذ لا ينكر أن يكون مجرد الجعل متعلقا به، فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بشركاء وعكسه فلا فرق، وعلم من هذا أن كل متعد لمفعولين لم يكن الاعتبار بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر إذا قدم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه بالعناية قلت: الصواب مع السكاكى، وكون كل واحد من المفعولين متعلقا بالآخر، والخطاب توبيخى لا يمنع أن يكون الاعتناء بأحدهما أشد، ولا شك أن مجرد جعل الشركاء مع قطع النظر عن كونهم لله تعالى، لا يقبل التوبيخ، ومجرد جعل أمر ما لله يبتدر الذهن منه إلى الإحجام عنه لعظم المقام، فلا شك أن العناية قد تشتد بأحدهما فيقدم، وهو لم يعلل بمطلق العناية، بل بعناية خاصة. وليعلم أن هذا الكلام يخالف قوله فى حد المسند: وفائدة التقديم، أى: تقديم لله على شركاء استعظام أن يتخذ له شريك ملكا كان أم جنيا أم غيرهما، وذلك لأن هذه الفائدة لا تحصل إلا بالتقديم فتنشأ من ذلك عناية ذكر اسم الله تعالى أولا، وإن تساويا فى العناية الناشئة من الإنكار التوبيخى، ثم قال: وثانيها: أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى، أى: فى قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬3)، والتقديم لرعاية الفاصلة، أى: فى قوله تعالى: رب هارُونَ وَمُوسى (¬4) من القسم الثانى، وليسا منه، يريد بقوله: وليسا منه أن (من قومه) إذا قدم على الذين كفروا كان حالا من الملأ، والذين كفروا صفة لقومه، لا الملأ حتى يكون حق من قومه التأخر عنه بناء على أن حق الحال التأخير عن التوابع والمصنف فهم من كلام السكاكى أن القسم الثانى هو أن يتقدم ما حقه التأخير فلا جرم أنه لا يكون من قومه من القسم الثانى، وكذا تقديم هارون على موسى؛ لأن أحدهما معطوف على الآخر ¬

_ (¬1) سورة طه: 70. (¬2) سورة الأعراف: 122. (¬3) سورة المؤمنون: 33. (¬4) سورة طه: 70.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالواو، وليس من حق أحدهما التأخير عن الآخر، ولا شك أن ما فهمه المصنف عن السكاكى هو ظاهر عبارته، وأجيب بأن القسم الأول وهو أن يكون المقدم ما عرف له فى اللغة تقدم بالأصالة، كالمبتدأ المعرف إذا لم يعرض ما يقتضى العدول عنه، فيكون التقديم لمجرد الأصالة، والقسم الثانى أن يكون للعناية ببيان ما تقدم إما لكونه نصب عينك أو لغير ذلك، سواء كان حق ما تقدم لغير التأخير أم لا، وإذا تقرر هذا فالتقديمان المذكوران داخلان فى القسم الثانى، لأن رعاية الفاصلة والاحتراز عن الإخلال أورثا كون المتقدم نصب عينك، ولا يمتنع اجتماع الأسباب فى مثل ما نحن فيه على مسبب واحد، وفيما قاله نظر؛ لأن كلا منهما سبب للعناية، ثم قال: إن تعلق (من قومه) بالدنيا على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد، وردّ عليه بمنع ذلك، لأن الدنيا ليست اسما، بل صفة، والألف واللام فيها موصولة، التقدير: التى دنت من قومه، ولا شك أن فيه تعسفا. وبقى من أسباب تقديم بعض المعمولات على بعض إفادة الاختصاص، كما تقدم عن ابن الاثير فى نحو: (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) (¬1)، وجاء راكبا زيد، لكنه مخالف لكلام الجمهور، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الغاشية: 25.

باب القصر

القصر القصر (¬1): حقيقىّ (¬2)، وغير حقيقىّ (¬3) وكل منهما نوعان: قصر الموصوف على الصفة (¬4)، وقصر الصفة على الموصوف (¬5) - والمراد (¬6): المعنويّة (¬7)، لا النعت (¬8) -: ـــــــــــــــــــــــــــــ باب القصر ص: (القصر حقيقى ... إلخ). (ش): هذا هو الباب الخامس، والقصر: هو الحصر، وهو تخصيص أمر بآخر بإحدى الطرق الأربع كذا قالوه، وسيأتى أنها أكثر من أربع، وهو يجرى بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر، وبين الفعل والظرف والحال وغيرها، إلا ما سيأتى، وهو منقسم بالاستقراء إلى قصر حقيقى، وقصر غير حقيقى، أى: مجازى. واعلم أن القصر الحقيقى ينظم حكمين: إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، وكلاهما حقيقة، والقصر المجازى ينظم حكمين: إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عن غيره، وهو مجاز كما سنبينه. وكل واحد من هذين ينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، والمراد بالصفة الصفة المعنوية، لا النعت الذى يتكلم عليه النحوى. قيل: المراد لا النعت فقط، فإن الصفة المعنوية أعم من أن تكون نعتا أو غيره، وليس كذلك، بل المراد إخراج النعت فإن النعت لا يكون مقصورا على معنوية أبدا ولا عكسه، لأن أداة الاستثناء لا تقع بين الموصوف والصفة، لا يقال: بل تقع بينهما على رأى الزمخشرى، وسيأتى فى كلام المصنف عند الكلام على الحال ما يقتضى اختياره؛ لأنا ¬

_ (¬1) هو تخصيص شئ بشئ بطريق مخصوص. (¬2) أى: بحسب الحقيقة وفى نفس الأمر بألا يتجاوزه إلى غيره أصلا. (¬3) أى: بحسب الإضافة إلى شئ آخر بألا يتجاوز إلى ذلك الشئ، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شئ آخر فى الجملة. (¬4) وهو ألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى، لكن يجوز أن تكون تلك الصفة لموصوف آخر. (¬5) وهو ألا تتجاوز تلك الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر، لكن يجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخرى. (¬6) أى: بالصفة هنا. (¬7) وهى المعنى القائم بالغير. (¬8) وهو التابع الذى يدل على معنى فى متبوعه غير الشمول.

والأّول (¬1) من الحقيقى: نحو: ما زيد إلا كاتب إذا أريد أنه لا يتّصف بغيرها؛ وهو لا يكاد يوجد؛ لتعذّر الإحاطة بصفات الشئ. والثانى: كثير؛ نحو: ما فى الدار إلا زيد خ خ، وقد يقصد به (¬2) المبالغة؛ لعدم الاعتداد بغير المذكور. ـــــــــــــــــــــــــــــ نقول: إن سلمنا ذلك على ضعفه ومخالفته لكلام الجمهور، فإلا الواقعة بين الموصوف والصفة لا يتحقق فيها استثناء لا بالتفريغ ولا بخلافه فليتأمل، لا يقال: يقع القصر بين الموصوف والصفة فى نحو: رأيت رجلا إنما هو قائم، فإن جملة إنما نعت؛ لأن القصر هنا إنما وقع بين مبتدأ هذه الجملة وخبرها، فالأول من الحقيقى قصر الموصوف على الصفة، كقولك: ما زيد إلا كاتب، فإنك قصرت فيه الموصوف، وهو زيد على الصفة، وهى الكتابة، وهذا لا يكاد يوجد؛ لأنه كيف يكون للذات صفة واحدة؟ أم كيف يمكن إحاطة العلم بذلك أن لو كان؟ والثانى من الحقيقى: قصر الصفة على الموصوف، وهو يجرى كثيرا بين المبتدأ والخبر، كقولك: ما كاتب إلا زيد، والفعل وفاعله نحو: ما قام إلا أنا، وما ضرب عمرا إلا زيد، والحال كقولك: ما جاء زيد إلا راكبا؛ لأنك قصرت المجئ على صفة الركوب، معناه ما جاء فى حال إلا فى حال الركوب، فهو بمعنى: ما زيد إلا راكب، كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن هذا يتعذر مثل ما قبله، ثم التحقيق فى: ما جاء زيد إلا راكبا أن القصر بين مجئ زيد وحال الركوب لا بين زيد والمجئ، وإنما كثر هذا القسم؛ لأنه لا يتعذر مثلا العلم بأنه ليس فى الدار إلا زيد، وقد يقصد بالقصر الحقيقى المبالغة لعدم الاعتداد بغير الصفة عند قصر الموصوف عليها أو بغير الموصوف عند قصر الصفة عليه، ويكون قصرا حقيقيا على سبيل الادعاء، كقولك: ما حاتم إلا جواد؛ فإن قلت: الخطاب الادعائى ما الذى يتميز به عن المجازى وعن الكذب؟ قلت: إنما يتميز عن المجاز الإفرادى وهو مشتمل على المجاز التركيبى، فقولك: ما زيد إلا قائم دل على سلب جميع الصفات غير القيام على سبيل المجاز الحاصل من مجموع الكلام، وإن كانت مفردات هذا التركيب حقائق. قوله: (والأول) أى إذا كان القصر غير حقيقى فهو قسمان: ¬

_ (¬1) أى: قصر الموصوف على الصفة. (¬2) أى بالثانى.

والأول من غير الحقيقى: تخصيص أمر بصفة دون أخرى، أو مكانها. والثانى: تخصيص صفة بأمر دون آخر، أو مكانه. فكلّ منهما ضربان، والمخاطب بالأول من ضربى كلّ (¬1): من يعتقد الشركة، ويسمى: قصر إفراد؛ لقطع الشركة. وبالثانى (¬2): من يعتقد العكس، ويسمى: قصر قلب؛ لقلب حكم المخاطب، أو تساويا (¬3) عنده، ويسمّى: قصر تعيين. ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: تخصيص أمر بصفة دون صفة، أو مكان صفة، فالأول: كقولك لمن يعتقد أن زيدا شاعر منجم: ما زيد إلا شاعر. والثانى: كقولك لمن يعتقد أن زيدا منجم فقط: ما زيد إلا شاعر. الثانى: تخصيص صفة بأمر دون أمر آخر، كقولك لمن يعتقد أن زيدا وعمرا شاعران: ما شاعر إلا زيد، وتخصيص صفة بأمر مكان آخر، كقولك لمن يعتقد أن الشاعر عمرو لا زيد: ما شاعر إلا زيد، فقد ظهر أن كل واحد من غير الحقيقى والحقيقى ضربان، فالأقسام حينئذ أربعة والمخاطب بالأول من ضربى كل، وهو تخصيص أمر بصفة دون أخرى، وتخصيص صفة بأمر دون آخر من يعتقد الشركة، أى: مشاركة الصفة لغيرها أو مشاركة الأمر لغيره، وهذا يسمى قصر إفراد لقطعه للشركة بين الصفتين فى موصوف واحد، وبين الموصوفين فى صفة واحدة، بخلاف من يعتقد مكان صفة، أو أمر إمكان أمر، فإنه يسمى قصر قلب؛ لأنه قلب لما عند المتكلم، وإن كانت الصفتان أو الأمران متساويين عنده، بمعنى أنه غير حاكم على أحدهما بعينه ولا بإحدى الصفتين بعينها، فإنه يسمى قصر تعيين، قال المصنف: فالمخاطب بقولنا: ما زيد إلا قائم، من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم، أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم، ولا يعلم بأيهما اتصف بعينه. قلت: وثالث أيضا، وهو من يعتقد أنه قائم وقاعد كما سبق، قال: وبقولنا: ما قائم إلا زيد من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا، أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل منهما، لكن لا يعلم من هو بعينه. قلت: وثالث أيضا، وهو من يعتقد أيضا أنهما قائمان كما سبق، فقول المصنف: أو تساويا عنده يحتمل أن يكون التقدير: من يعتقد العكس أو تساويا عنده، وهو ظاهر كلامه فى الإيضاح، ¬

_ (¬1) أى من قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة، ويعنى بالأول التخصيص بشئ دون شئ. (¬2) أى: والمخاطب بالثانى أعنى التخصيص بشئ من ضربى كل من القصرين. (¬3) عطف على قوله: يعتقد العكس.

وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا: عدم تنافى الوصفين، وقلبا: تحقّق تنافيهما، وقصر التّعيين أعمّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون تساويا عنده يعود إلى قصرى الإفراد والقلب، أى: من يعتقد الشركة، أو تساويا عنده، أو يعتقد العكس، أو تساويا عنده، وسيأتى ما يدل عليه. ص: (وشرط قصر الموصوف ... إلخ). (ش): يريد أن شرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا أن تكون الصفتان غير متنافيتين، فالمنفى فى قولنا: ما زيد إلا شاعر، هو كونه كاتبا مثلا، وليس المنفى كونه مفحما عاجزا عن الشعر؛ لأن ذلك ينفيه قولنا: هو شاعر، من غير قصر، والسامع لا يمكنه أن يتخيل اجتماعهما فى ذهنه بخلاف ما لا ينافى الشعر، فإنه قد يعتقد اجتماعه معه فينفيه بالقصر، وقول المصنف: إن ذلك شرط فى قصر الموصوف إفرادا، ظاهره أنه ليس شرطا فى قصر الصفة إفرادا، وفيه نظر؛ لأن قولك: لا جواد إلا حاتم، فى قصر الإفراد إنما يصح إذا كان الجود يمكن أن يتصف به اثنان، فإن لم يمكن كقولك: لا أب لزيد إلا عمرو، فلا يتأتى فيه قصر الإفراد؛ لأن اشتراك اثنين فى أبوة زيد إذا لم يرد به الأب الأعلى لا يمكن. قوله: (وقلبا) أى: وشرط قصر الموصوف قلبا (تحقق تنافيهما) حتى يكون المنفى فى قولنا: ما زيد إلا قائم، كونه قاعدا لا كونه أسود أو أبيض ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها. قوله: (وقصر التعيين أعم) يعنى لأن اعتقاد الاتصاف بأحد الأمرين أعم من جواز اجتماعهما وامتناعه، فكل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد، أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين، أى: من غير عكس. قلت: ومن هنا يعلم أن قوله: أو تساويا عائدا إلى كل من قصرى الإفراد والقلب. قال المصنف: وأهمل السكاكى القصر الحقيقى وأدخل قصر التعيين فى قصر الإفراد، فلم يشترط فى قصر الموصوف إفرادا عدم تنافى الصفتين، ولا فى قصره قلبا تحقق تنافيهما. قيل: لا يحتاج إلى اشتراط عدم التنافى بين الصفتين فى الإفراد؛ لأن العقل مستقل بالحكم بعدم اجتماع المتنافيين، وكذلك التنافى بين الأمرين ظاهر فى القلب فلم يحتج لذكره، وقيل: إنما لم يشترط السكاكى التنافى فى القلب؛ لأنه لا دليل على اشتراطه وما ذكره المصنف لا يدل؛ لجواز أن يكون انتفاء غيرها يحصل من إثباتها بطريق من طريق القصر، مع عدم التنافى؛ إذ لا مانع من أن يعتقد المخاطب صفة مكان صفة، وهما لا يتنافيان.

طرق القصر

[طرق القصر] وللقصر طرق: منها: العطف؛ كقولك فى قصره إفرادا: زيد شاعر لا كاتب خ خ، أو: ما زيد كاتبا بل شاعر خ خ، وقلبا: زيد قائم لا قاعد خ خ، أو: ما زيد قاعدا بل قائم خ خ، وفى قصرها: زيد شاعر لا عمرو خ خ، أو: ما عمرو شاعرا بل زيد ". ـــــــــــــــــــــــــــــ طرق القصر أولا - العطف: ص: (وللقصر طرق منها العطف). (ش): القصر يكون بالعطف وغيره، وقد ذكر المصنف طرقا، ونحن نذكر إن شاء الله ما ذكره، ثم نذكر ما أهمله فى آخر الكلام، فمن طرق العطف كقوله فى قصر الموصوف على الصفة إفرادا: زيد شاعر لا كاتب، وما زيد شاعرا بل كاتب، وقلبا: زيد قائم لا قاعد، وما زيد قاعدا بل قائم. وفى قصر الصفة على الموصوف: زيد شاعر لا عمرو، وما عمرو شاعرا بل زيد. قلت: أما العطف بلا فأى قصر فيه؟ إنما فيه نفى وإثبات فقولك: زيد شاعر لا كاتب، لا تعرض فيه لنفى صفة ثالثة، والقصر إنما يكون بنفى جميع الصفات غير المثبتة، إما حقيقة أو مجازا، وليس هو خاصا بنفى الصفة التى يعتقدها المخاطب. وأما العطف ببل فأبعد؛ فإن قولك: ما زيد قائما بل قاعد، لا قصر فيه، وهو أبعد من القصر عما قبله؛ لأن فى (إلا) جمعا بين نفى وإثبات، وذلك لا يستمر فى بل، إذا جوزنا عطفها على المثبت، مثل: زيد شاعر بل كاتب، ثم إطلاق أن بل العاطفة للقصر لا يصح؛ لأنه يقتضى أن قولك: ليس زيد قائما بل قاعد لا قصر فيه، فإنها ليست عاطفة؛ لأن بل لا تعطف إلا المفرد كم صرح به النحاة. فائدة: تتعلق بالعطف بلا وتحقيقه ملخصا من كلام الوالد - رضى الله عنه - وقع السؤال عن: قام رجل لا زيد، هل يصح هذا التركيب فإن الشيخ أبا حيان منعه وشرط أن يكون ما قبل لا العاطفة غير صادق على ما بعدها، وسبقه لذلك السهيلى فى نتائج الفكر وقال: لأن شرطها أن يكون الكلام الذى قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفى ما بعدها؟ فقال السائل: إن فى ذلك نظرا لأمور: منها: أن قام رجل لا زيد، مثل: قام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ رجل وزيد فى صحة التركيب، فإن امتناع قام رجل وزيد فى غاية البعد؛ لأنك إن أردت بالرجل الأول زيدا كان كعطف الشئ على نفسه تأكيدا فلا مانع منه إذا قصد الإطناب، وإن أردت بالرجل غير زيد كان من عطف الشئ على غيره، ولا مانع منه، ويصير على هذا التقدير مثله: قام رجل لا زيد فى صحة التركيب وإن كان معناهما متعاكسين، بل قد يقال: قام رجل لا زيد أولى بالجواز من قام رجل وزيد؛ لأن قام رجل وزيد إن أردت بالرجل زيدا كان تأكيدا، وإن أردت غيره كان فيه إلباس على السامع وإيهام أنه عينه والتأكيد والإلباس منتفيان فى: قام رجل لا زيد، وأى فرق بين زيد كاتب لا شاعر، وجاء رجل لا زيد، وبين رجل وزيد عموم وخصوص مطلق، وبين كاتب وشاعر عموم وخصوص من وجه كالحيوان والأبيض؟ وإذا امتنع جاء رجل لا زيد كما قالوه فهل يتأتى ذلك فى العام والخاص مثل: قام الناس لا زيد؟ وصرح ابن مالك وغيره بصحة قام الناس وزيد، وإن كان فى استدلاله على ذلك بقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ (¬1) الآية نظر؛ لأن جبريل إما معطوف على الجلالة الكريمة أو على رسله على القولين؛ إذ لا قائل: إن المعطوف الأخير معطوف على متوسط، بل إما على الأول، وإما على ما قبله قولان سمعتهما من الشيخ أبى حيان، والمراد بالرسل الأنبياء؛ لأن الملائكة وإن جعلوا رسلا فقرينة عطفهم على الملائكة يصرف هذا، ولأى شئ يمتنع العطف بلا فى نحو: ما قام إلا زيد لا عمرو، وهو عطف على موجب؛ لأن زيدا موجب، وتعليلهم بأنه يلزم نفيه مرتين ضعيف؟ لأن الإطناب قد يقتضى مثل ذلك، ولا سيما والنفى الأول عام والثانى خاص، فأسوأ درجاته أن يكون مثل: ما قام الناس ولا زيد، وهذا جملة السؤال، فأجاب ما ذكره السهيلى وأبو حيان ذكره أيضا الأبدى فى شرح الجزولية قال: لا يعطف بلا إلا بشرط أن يتضمن ما قبلها بمفهوم الخطاب نفى الفعل، فيكون الأول لا يتناول الثانى نحو: جاءنى رجل لا امرأة، وعالم لا جاهل، فلو قلت: مررت برجل لا عاقل لم يجز؛ إذ ليس فى مفهوم الكلام الأول ما ينفى الفعل عن الثانى، وهو لا يدخل إلا لتأكيد النفى، فإذا أردت ذلك المعنى جئت بغير، فتقول: مررت برجل غير عاقل وغير زيد، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 98.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز: مررت بزيد لا عمرو؛ لأن الأول لا يتناول الثانى. انتهى. وإذا ثبت أنها لا تدخل إلا لتأكيد النفى اتضح الشرط المذكور؛ لأن نفى الخطاب اقتضى فى: قام رجل نفى المرأة، فدخلت لا للتصريح بما اقتضاه المفهوم، وكذلك: قام زيد لا عمرو، وأما: قام رجل لا زيد، فلم يقتض المفهوم نفى زيد فلم يوجد نفى يؤكده لا، وقوله: تأكيد النفى لعله يريد النفى المؤكد، أو لعل مراده أنها لا تدخل فى أثناء الكلام إلا للنفى المؤكد، بخلاف ما إذا جاءت أول الكلام قد يراد بها أصل النفى، مثل: لا أقسم، وقد خطر لى فى ذلك أمران غير ما قاله الأبدى. أحدهما: أن العطف يقتضى المغايرة، والمغايرة فى إطلاق أكثر الناس تقتضى المباينة، وإن كان التحقيق أن بين الأعم والأخص، وبين العام والخاص، وبين الجزء والكل مغايرة، فحينئذ يمتنع العطف فى: جاءنى رجل وزيد لعدم المغايرة أعنى: المباينة، فإذا قال: أردت زيدا غير زيد جاز، وليس مما نحن فيه، ولو قلت: جاء زيد ورجل، فمعناه ورجل آخر؛ لوجوب المغايرة؛ ولذلك لو قلت: جاء زيد لا رجل فتقديره: لا رجل آخر؛ لأنا نحافظ على مدلول اللفظ، فيبقى المعطوف عليه على مدلوله من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد. الثانى: أن مبنى الكلام على الفائدة، وقام رجل لا زيد مع إرادة مدلول رجل المحتمل لزيد وغيره لا فائدة فيه مع إرادة حقيقة العطف، بل نقول: فاسد، لأنك إن أردت الإخبار بنفى قيام زيد والإخبار بقيام رجل المحتمل له ولغيره فمتناقض وإن أردت الإخبار بقيام رجل غير زيد، فطريقك أن تقول: غير زيد وبهذا تبين أنه لا فرق بين قام رجل لا زيد، وقام زيد لا رجل فى الامتناع إلا أن يراد بالرجل غير زيد فيصح فيهما إن صح وضع لا فى هذا الموضع موضع غير، وفيه نظر وتفصيل، والفرق بين العطف بلا ومعنى غير أن العطف يقتضى النفى عن الثانى بالمنطوق، ولا تعرض فيه للأول بتأكيد النفى بالمفهوم إن سلم وغير تفيد الأول ولا تعرض فيها للثانى، إلا بالمفهوم إن كانت صفة، وإن كانت استثناء ففى كونه بالمنطوق أو المفهوم بحث، وهذان الوجهان أحسن مما ذكره السهيلى والأبدى؛ لأنهما بنياه على صحة مفهوم اللقب، وقول السائل: بين كاتب وشاعر عموم وخصوص من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه، كأنه تبع فيه الشيخ شهاب الدين العراقى، وهو غفلة منه أو تسمح أطلقه لتعليم بعض الفقهاء ممن لا إحاطة له بالعلوم العقلية، وكذلك مثل بالزنا والإحصان، وتلك كلها ألفاظ متباينة المعنى، والتباين أعم من التنافى، وقد أشار إليه البيضاوى فى الفصيح، والناطق بقوله: والزنا والإحصان متباينان، وكذلك الحيوانية والبياض، ويظهر أن يقال: يصح قام كاتب لا شاعر؛ لأن كاتبا لا يصدق على شاعر؛ إذ معنى الكتابة ليس فيه شئ من معنى الشعر، فالفقيه والنحوى الصرف يريد أن يتأنس بهذه الحقائق، وأما: قام الناس لا زيد، ونحوه من عطف الخاص على العام، فإن أريد بالناس غير زيد جاز، وإن أريد العموم وإخراج زيد بقولك: لا زيد على جهة الاستثناء، فكان يخطر لى جوازه، لكنى لم أر أحدا من النحاة عدّ (لا) من حروف الاستثناء. وأما لو أريد بالناس غير زيد فجائز بقرينة العطف، ويحتمل أن يمتنع كما امتنع الإطلاق فى: قام رجل لا زيد، فإن احتمال إرادة الخصوص فى الأول، كاحتمال إرادة التقييد فى الثانى، ولا يأتى احتمال الاستثناء للثانى، وأظن كلام بعض النحاة فى: قام الناس ليس زيدا أنه جعلها بمعنى لا، وأما قام الناس وزيد فجوازه واضح. وإنما جوزت العطف هاهنا مع عدم المغايرة ومنعته فيما سبق لعدم المغايرة، لأن العطف يستدعى مغايرة يحصل بها فائدة، وعطف الخاص على العام وإن أريد عمومه يحصل به فائدة التقوية؛ فلذلك سلكته هنا ومنعته فى النفى. وأما استدلال الشيخ جمال الدين بن مالك - رحمه الله تعالى - بعطف جبريل فلعله يريد أنه مذكور بعده؛ لأن هذا القدر هو المحتاج إليه فى أنه يقتضى تخصيصا أولا، وأما قول السائل: لأى شئ يمتنع العطف فى نحو: ما قام إلا زيد لا عمرو، وهو عطف على موجب؟ فلما تقدم من أن لا يعطف بها ما اقتضى مفهوم الخطاب نفيه ليدل عليه صريحا وتأكيدا للمفهوم والمنطوق فى الأول الثبوت والمستثنى عكس ذلك؛ لأن الثبوت فيه بالمفهوم لا بالمنطوق، ولا يمكن عطفها على المنفى. وقوله: أسوأ درجاته أن يكون مثل: ما قام الناس ولا زيد، ممنوع لأن العطف فى: ولا زيد بالواو، وليس فيه أكثر من خاص بعد عام، وللعطف بلا حكم يخصه ليس للواو.

ثانيا- النفى والاستثناء

ومنها: النفى والاستثناء؛ كقولك فى قصره: ما زيد إلا شاعر خ خ، و: ما زيد إلا قائم وفى قصرها: ما شاعر إلا زيد خ خ. ومنها: إنّما؛ كقولك فى قصره: إنما زيد كاتب خ خ، و: إنما زيد قائم خ خ، وفى قصرها: إنّما قائم زيد خ خ؛ لتضمّنه (¬1) معنى: (ما) و (إلّا)؛ لقول المفسّرين إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ ثانيا - النفى والاستثناء: ص: (ومنها النفى والاستثناء). (ش): من أدوات الحصر الاستثناء، كقولك فى قصر الموصوف: ما زيد إلا شاعر، سواء كان قصر قلب أو إفراد، وفى قصر الصفة على الموصوف: ما شاعر إلا زيد. قلت: والاستثناء قصر سواء كان مع النفى أم الإيجاب، كقولك: قام الناس إلا زيدا فإنك قصرت عدم القيام على زيد، لا يقال: لو قصرت عدم القيام على زيد لكان فى قولك: قام الناس إلا زيدا نفى لقيام غير الناس؛ لأنا نقول: هو قصر لعدم القيام بالنسبة إلى الناس على زيد، كما أنك إذا قلت: ما قام الناس إلا زيدا لم تقصر القيام على زيد مطلقا، إنما قصرت عليه القيام بالنسبة إلى الناس، فقولهم: من طرق الحصر النفى والاستثناء لا يظهر فيه مناسبة للتعرض للنفى. ومنها: (إنما) كقولك فى قصر الموصوف على الصفة: إنما زيد كاتب، وفى قصره الصفة على الموصوف: إنما قائم زيد. واعلم أن النحاة يقولون: إن الأخير هو المحصور، فإذا قلت: إنما زيد قائم، فالقائم هو المحصور، ومقتضاه أن تكون هذه الصيغة من قصر الصفة على الموصوف، وعبارة البيانيين هى المحررة فإن الأول هو المحصور، والثانى محصور فيه، وعبارة النحاة فيها تجوز، والصواب أن الأخير محصور فيه، لا محصور غير أنهم تساهلوا فى ذلك كما تساهل الأصوليون فى قولهم: المشترك، وإنما هو مشترك فيه وقد اختلف فى القصر بإنما، فأثبته الجمهور، ونفاه كثير. والمثبتون قيل: بالمنطوق وقيل: بالمفهوم، واستدل الذاهبون إلى أنها للحصر بأمور. منها: إطباق العلماء فى قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ¬

_ (¬1) هذا بيان لسبب إفادة إنما القصر. (¬2) سورة النحل: 115.

بالنصب، معناه: ما حرّم عليكم إلا الميتة. وهو المطابق لقراءة الرفع (¬1)؛ لما مر (¬2)، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنصب على أن معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، لأنه المطابق فى المعنى لقراءة الرفع، فإنها للقصر، فكذلك قراءة النصب، والأصل استواء معنى القراءتين، واعترض على هذا بأنا نمنع حصول القصر فى قراءة الرفع بناء على أن نحو: العالم زيد، لا يفيد الحصر، وقد تقدم فى باب المسند نحو: العالم زيد، وزيد العالم عند السكاكى يفيد أن الحصر فى بعض المواضع، ثم فيه نظر؛ لأن الحصر ليس مستفادا هنا من التقديم بل من عموم الموصول كقولك: كل محرم الميتة، لا يقال: لو كانت للحصر لزم أن لا يكون غير المذكورات محرما؛ لأن المعنى تحريم الأكل، فلا يدخل غيره. ومن أين لنا أن غير هذه المذكورات فى الآية من المأكولات كان محرما ذلك الوقت. ومنها أن (إن) للإثبات و (ما) للنفى، فلا بد أن يكون للقصر ليحصل بالقصر الجمع بين النفى والإثبات، ورد عليه بأن (ما) كافة لا نافية، قال الشيخ أبو حيان: والذى قال ذلك لم يشم رائحة النحو. قلت: نقل القرافى أن الفارسى قال فى الشيرازيات: إن ما فى إنما نافية لكنى رأيت فى الشيرازيات ما لعله أخذه منه، وهو أنه قال - بعد أن ذكر أن (إنما) للحصر - أن الحصر أيضا فى: شر أهرّ ذا ناب، وشئ جاء بك، ثم قال: والأول أسهل من هذا؛ لأن معه حرفا قد دل عندهم على النفى، فصار حذف حرف النفى فيه أسهل من هذا؛ لقيام حرف آخر معه مقامه، وليس فى المثالين الأولين شئ من ذلك. انتهى. وليس صريحا فى أنها باقية فى النفى؛ لأن قوله: لأن معه حرفا قد دل على النفى، يريد حرفا يدل على النفى والإثبات وهو إنما، وإنما لم يدل على النفى والإثبات؛ لأن الإثبات مستفاد من اللفظ مجردا عن إنما، ولو أراد بالحرف الدال على النفى (ما) من (إنما) لما قال: فصار حذف حرف النفى فيه أسهل؛ إذ لو كانت باقية على النفى لما كان حرف النفى معها محذوفا، والحق فى ذلك أن الإمام لم يرد إلا أن ما أصلها إذا لم تكن شيئا من الأقسام المعروفة النفى، وإن وضعها الإثبات، والغالب أن الحرفين إذا ركبا وصارا لمعنى آخر يلاحظ فى المعنى التركيبى معنى كل واحد ¬

_ (¬1) أى: رفع الميتة. (¬2) فى تعريف المسند من أن المنطلق زيد وزيد المنطلق يقيد قصر الانطلاق على زيد.

ولقول النحاة: (إنّما) لإثبات ما يذكر بعده، ونفى ما سواه. ولصحة انفصال الضمير معه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ منفردا، فلما كانت (ما) التى ليست لشئ من الأقسام المعروفة فى الأصل للنفى، و (إن) للإثبات قصد عند التركيب المحافظة عليهما، فلم يمكن تواردهما على شئ واحد ولم يمكن صرف النفى للمذكور فتعين عكسه، وقول النحاة: إن (ما) كافة، لا ينافى هذا؛ لأن الكف حكم لفظى لا ينافى أن يقارنه حكم معنوى، ثم إن المصنف نقل عن النحاة أنها لإثبات المذكور، ونفى ما سواه، وهو قول بعضهم لا كلهم. ومنها: أن (إن) للتأكيد و (ما) كذلك فاجتمع تأكيدان فأفاد الحصر. قاله السكاكى، ويرد عليه أنه لو كان اجتماع تأكيدين للحصر لكان قولك: إن زيدا لقائم، يفيد الحصر، وقد يجاب بأن مراده أنه لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر، ثم هو ممنوع، والتأكيد اللفظى والمعنوى كل منهما يتكرر ولا حصر. ومنها: قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ (¬1)، قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ (¬2)، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (¬3) فإنه إنما يحصل مطابقة الجواب إذا كانت إنما للحصر ليكون معناه لا آتيكم به، إنما يأتى به الله، ولا أعلمها إنما يعلمها الله، وأصرحها إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ لجواز أن يدعى فى غيرها أن الحصر أخذ من تعريف المبتدأ، لكن الظاهر أن من منع الحصر بإنما فهو لحصر المبتدأ فى الخبر أمنع، وكذلك قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ (¬4) وفى الآية نكتة، وهو التنبيه على أن المجازى لا يكون فعله ظلما على الحقيقة، وهذا المعنى أحسن من قول الزمخشرى أن المعنى: إنما السبيل على الذين يبتدئون الناس بالظلم. ومنها: قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي (¬5) لا يستقيم المعنى إلا بالحصر. ومنها: قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ (¬6) إذ لو لم تكن للحصر كانت بمنزلة إن تولوا فعليك البلاغ، وهو عليه البلاغ تولوا أم لا، وإنما ترتب على توليهم نفى غير البلاغ مما قد يتوهم نسبته له صلّى الله عليه وسلّم. ¬

_ (¬1) سورة الملك: 26. (¬2) سورة هود: 33. (¬3) سورة الأعراف: 187. (¬4) سورة الشورى: 41، 42. (¬5) سورة الأعراف: 203. (¬6) سورة آل عمران: 20.

قال الفرزدق [من الطويل]: أنا الذّائد الحامى الذّمار وإنّما … يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: انفصال الضمير بعدها فى قول الفرزدق: أنا الذّائد الحامى الذّمار وإنما … يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى (¬2) قال عبد القاهر: ولا يمكن ادعاء الضرورة فيه، فإنه متمكن أن يقول: أدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى. وأعلم أن انفصال الضمير بعد إنما فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ضرورة، لا يجوز إلا فى الشعر، وهو المنقول عن سيبويه. والثانى: أنه يجوز الفصل والوصل، وإليه ذهب الزجاج. والثالث: أنه يجب الفصل، قاله ابن مالك. وقال الشيخ أبو حيان: إنه غلط فاحش، وجهل بلسان العرب، وقول لم يقله أحد، ثم رده بقوله تعالى: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (¬3) وقوله تعالى: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ (¬4) وقوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ (¬5) وقوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬6) قال: ولو كان على ما زعم لكان التركيب: إنما يشكو بثى وحزنى أنا، وإنما يعظكم بواحدة أنا، وكذلك الجميع. قلت: لسان حال ابن مالك يتلو: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (3) وكلام ابن مالك هو الصواب، وليس منفردا به، وتحقيق ذلك أن ابن مالك بنى كلامه على قاعدتين: إحداهما: أن إنما للحصر، وهو الذى عليه أكثر الناس. والثانى: أن المحصور بها هو الأخير لفظا، وهذا الذى أجمع عليه البيانيون، وعليه غالب الاستعمالات، وإذا ثبتت له هاتان القاعدتان صح ما ادعاه؛ لأنك لو وصلت لما فهم، والتلبس قولك: إنما قمت موضوعة للم يقع إلا القيام، فلو أردت به ما قام إلا أنا، لم يفهم ذلك، ولا سبيل إلى فهمه إلا بأن تقول: إنما قام أنا، كما تقول: ما قام إلا أنا، وبهذا علم أنه لا يرد ما ذكره الشيخ من الآيات؛ ¬

_ (¬1) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 91 الذمار: العهد. (¬2) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه: 2/ 153، ولسان العرب (13/ 31) (أنن)، وتاج العروس (ما). (¬3) سورة يوسف: 86. (¬4) سورة سبأ: 46. (¬5) سورة النمل: 91. (¬6) سورة آل عمران: 185.

ثالثا- التقديم

ومنها: التقديم؛ كقولك فى قصره: تميمى أنا خ خ، وفى قصرها: أنا كفيت مهمّك ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن كلا منها لم يقصد فيه حصر الفاعل، بل حصر الأخير، ولو قصد حصر الفاعل لانفصل كما قاله ابن مالك، وأجمع عليه من سلم هاتين القاعدتين، وهم أكثر الناس، وقول سيبويه: إن الفصل ضرورة لا يرد عليه؛ لأنه بناه على أن إنما ليست للحصر كما هو المنقول عنه، وقول الزجاج: يجوز الأمران لا يرد عليه لأنه بناه على أن إنما وإن كانت للحصر فليس من شرط المحصور أن يكون هو الأخير، بل يجوز أن يفصل ليكون قرينة فى حصر الفاعل، وأن يصل ويريد حصر الفاعل بقرينة معينة، كما صرح الشيخ أبو حيان بنقله عنه فثبت أن من خالف ابن مالك فى المسألة لم يخالفه فى هذا الحكم، إنما خالفه فيما بنى عليه من القاعدتين إما فى الأولى، وإما فى الثانية، فظهر أن الحق مع ابن مالك وانظر إلى قول ابن مالك يتعين انفصال الضمير إن حصر بإنما فإنك إن تأملته لم تستطع أن تقول: خلافا لسيبويه؛ فإنه لم يقل: يتعين انفصاله بعد إنما، بل قال: إن حصر بإنما، وسيبويه لا يقول: إن حصر بإنما لا ينفصل، بل يقول: الحصر بإنما لا وجود له، فهما كلامان لم يتواردا على محل واحد، ولو قيل لسيبويه: ما تقول لو وقع الحصر بإنما فى انفصال الضمير لما علمنا ما يقول، والظاهر أنه يقول بالفصل. (تنبيه): قوله تعالى حكاية عن يعقوب إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (¬1) ينبغى أن يعتقد أن (وأعلم) جملة مستأنفة أو معطوفة على إنما أشكو، وليست معطوفة على أشكو؛ إذ لو كان للزم أن المراد: لا أعلم من الله ما لا تعلمون، وليس كذلك. ثالثا - التقديم: ومنها: التقديم، أى: تقديم ما هو متأخر رتبة، مثل: تميمى أنا وأنا كفيت مهمك، والمثال الثانى يعلم حكمه مما سبق فى: أنا قمت. (تنبيه): بقى للقصر طرق بعضها باتفاق، وبعضها باختلاف، منها: الفصل، وقد تقدم الكلام عليه، ومنها: ذكر المسند إليه كما تقدم نقله عن السكاكى: وتقدم البحث فيه، ومنها: تعريف المبتدأ فى نحو: المنطلق زيد على قول، ومنها: تعريف الخبر فى نحو: زيد المنطلق. قال الإمام فخر الدين فى" نهاية الإيجاز": إذا قلت: زيد المنطلق ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 86.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فاللام تفيد انحصار المخبر به فى المخبر عنه، مع قطع النظر عن كونه مساويا أو أخص منه ثم إنها إما أن تكون لتعريف المعهود السابق، كما إذا عرف وجود انطلاق ما، وبقولك: زيد المنطلق عنيت أن صاحب ذلك الانطلاق المعهود هو زيد، فقد أفاد حصر الانطلاق فى زيد، وإما لتعريف الحقيقة فيكون بوضعه مفيدا للحصر فإذا قلت: زيد المنطلق، وأردت حقيقة المنطلق مع قطع النظر عن تشخصها وعمومها أفاد الحصر، ثم إن أمكن الانحصار فذلك على حقيقته، وإلا فهو على سبيل المبالغة وقد يفيد هذا القسم مع انحصار الخبر فى المبتدأ بلوغ المبتدأ فى استحقاقه لما أخبر به عنه حدا يصير معرفا بحقيقته وأما كون اللام فى الخبر هل تفيد العموم؟ فالأشبه أنه غير جائز إلا على تأويل، وهو أن يكون معنى أنت الشجاع أنت كل الشجعان، وهو تأويل غير حسن، فحاصله أنك إذا قلت: زيد المنطلق أفاد حصر انطلاق معين، أو حصر حقيقة الانطلاق إما تحقيقا وإما مبالغة. انتهى كلامه. ولا يخفى ما فيه. ومما ذكر من أدوات الحصر قولك: جاء زيد نفسه، على ما نقله بعض شراح هذا الكتاب هنا عن بعضهم. ومنها: إن زيدا لقائم على ما نقله المشار إليه أيضا. ومنها: قلب بعض حروف الكلمة فإنه يفيد الحصر على ما نقله الزمخشرى فى" الكشاف" عند الكلام على قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها (¬1) فإن القلب للاختصاص بالنسبة إلى لفظ الطاغوت؛ لأن وزنه على قول: فعلوت من الطغيان، كملكوت ورحموت، قلب بتقديم اللام على العين، فوزنه فلعوت، ففيه مبالغات كتسميته بالمصدر، والتاء تاء مبالغة، والقلب وهو للاختصاص؛ إذ لا يطلق على غير الشيطان، ومنه نحو قولك: قائم، فى جواب: زيد إما قائم أو قاعد، على ما ذكره الطيبى فى" شرح البيان" قبل الكلام على كون المسند مفردا فعليا. وعد بعضهم من تراكيب القصر أيضا: زيد قام ولم يقم غيره، أو لم يقم أحد غير زيد، وفيه نظر، لأن هذين تركيبان حصل القصر من مجموعهما. ومنها: تقديم المعمول فى نحو: زيدا ضربت كما سبق. ومنها: أنما بالفتح، قال الزمخشرى فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (¬2): أنما لقصر الحكم على شئ أو لقصر الشئ على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثالان فى هذه ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 17. (¬2) سورة الأنبياء: 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الآية لأن إنما يوحى إلى مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد، وإنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحى إلى الرسول مقصور على استئثار الله بالوحدانية. قلت: هذا صريح فى أن أنما بالفتح للحصر، وبه صرح التنوخى فى كتاب" الأقصى القريب" ونقله الطيبى أيضا، وأنه يقال: إن كل ما أوجب أن إنما بالكسر للحصر، أوجب أن أنما بالفتح للحصر، وفيه نظر، والشيخ أبو حيان رد على الزمخشرى ما زعمه من أن أن المفتوحة للحصر، وقال: يلزم انحصار الوحى فى الوحدانية، وأجيب عنه بأنه حصر مجازى باعتبار المقام، قلت: وجواب آخر، وهو أن هذا لازم سواء كانت أنما المفتوحة للحصر أم لا؛ لأن هذا الإلزام جاء من إنما، ولو قلت: إنما يوحى وحدانية الله تعالى لزم ذلك، وإنما الذى أوقع الشيخ فى هذا السؤال قول الزمخشرى: وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحى مقصور على الوحدانية، فأفهم أن هذا القصر نشأ عن كونهما معا للحصر، وليس كما قال فليتأمل. ومنها: حذف المسند لادعاء التعيين أو للتعيين نحو: يعطى بدرة ويفعل ما يشاء كما سبق، ومن هنا قال الزمخشرى فى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (¬1): معناه لا يقول إلا الحق ولا يهدى إلا سبيل الحق. قال الطيبى: أما دلالة وهو يهدى السبيل فظاهر؛ لأنه على منوال أنا عرفت، وأما والله يقول الحق فلأنه مثل: اللَّهُ يَبْسُطُ (¬2) وهو عنده يفيد الحصر اه. قلت: هذا عجيب فإن أنا عرفت والله يبسط حصر فيه الفاعل، ومعنى حصر الفاعل فيه لا يقول الحق إلا الله، والزمخشرى لم يتعرض لذلك بالكلية، فإنه وجه المعنى هنا ليس على الحصر، وإنما أراد حصر المفعول ألا تراه صرح بذلك، وقال: لا يقول إلا الحق، ولا يهدى إلا السبيل، فلم يقع الطيبى على مراده مع وضوحه. فإن قلت: من أين أخذ الزمخشرى الحصر من هذه الآية الكريمة؟ قلت: إما أن يكون من مفهوم الصفة عند القائل به، وإما من ترتيب الحكم على الوصف المشعر بالعلية؛ ولذلك قال فى سورة غافر: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ (¬3): معناه من هذه صفاته لا يقضى إلا بالحق، وحيث وجدت العلة وجد المعلول، وحيث انتفى المعلول ثبت ضده، فعلى هذا يستفاد الحصر. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 4. (¬2) سورة الرعد: 26. (¬3) سورة غافر: 20.

اختلاف طرق القصر

وهذه الطرق تختلف من وجوه؛ فدلالة الرابع بالفحوى، والباقية بالوضع. والأصل فى الأول: النّصّ على المثبت والمنفى - كما مرّ - فلا يترك إلا كراهة الإطناب؛ كما إذا قيل: زيد يعلم النحو، والتصريف، والعروض أو: زيد يعلم النحو، وعمرو وبكر فتقول فيهما: زيد يعلم النحو لا غير أو نحوه. وفى الثلاثة الباقية: النّصّ على المثبت فقط. ـــــــــــــــــــــــــــــ اختلاف طرق القصر: ص: (وهذه الطرق تختلف ... إلخ). (ش): يعنى أن هذه الطرق وإن اشتركت فى إفادة القصر، فإنها تختلف من وجوه، منها: أن دلالة الرابع وهو التقديم بالفحوى، ودلالة ما قبله بالوضع، ونعنى بالفحوى المفهوم، وهو مخالف لاصطلاح الأصوليين؛ فإن الفحوى عندهم مفهوم الموافقة، لا مفهوم المخالفة، وما نحن فيه مفهوم مخالفة، وليعلم أن القصر يتضمن قضيتين إثباتا ونفيا، فالتحقيق أن القصر لا يسمى منطوقا ولا مفهوما، بل تارة يكون كله منطوقا، مثل: زيد قائم لا قاعد، وتارة يكون بعضه منطوقا وبعضه مفهوما، فإن كان بإنما فهو إثبات للمذكور بالمنطوق ونفى لغيره بالمفهوم، نحو: إنما زيد قائم، فإثبات القيام لزيد منطوق، ونفيه عن غيره مفهوم، وإن كان بإلا والاستثناء تام فحكم المستثنى منه ثابت بالمنطوق وحكم المستثنى بالمفهوم، سواء كان نفيا، نحو: ما قام أحد إلا زيد، أم إثباتا، نحو: قام الناس إلا زيدا، وإن كان الاستثناء مفرغا، نحو: ما قام إلا زيد، فيظهر أن المستثنى منه ثابت بالمنطوق، وسيأتى فى كلام المصنف أن النص فيه على المثبت فقط ولا نعنى ما نحن فيه، بل نعنى عدم العطف عليه، أى: لا تقول: ما قام إلا زيد لا عمرو، ولكن تقدم فى كلام الوالد أنه بالمفهوم فى المفرغ، وإن كان بالتقديم، نحو: تميمى أنا، فالحكم للمذكور منطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم، وإذا تأملت ما قلنا علمت أن قول المصنف غير ماش على التحقيق. ص: (والأصل فى الأول ... إلخ). (ش): هذا وجه ثان وهو أن الأصل فى الصيغة الأولى، وهى العطف ذكر الطرفين فإنها مصرحة بالمثبت والمنفى كقولك: زيد قائم لا قاعد، وما هو قائم بل قاعد أو لا غير، كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن لفظ" لا غير" لا يستعمل مقطوعا عن الإضافة، ولا يترك ذلك إلا لمعنى يقتضى كراهة الإطناب، وأما بقية الصيغ فالأصل فيها النص على المثبت فقط، هكذا قال المصنف، ولا نعنى أن النفى غير مستفاد نصا، بل بمعنى أنه لا يذكر بعده التصريح بالنفى، وقد يترك

والنفى لا يجامع الثانى؛ لأنّ شرط المنفى ب لا خ خ: ألّا يكون منفيّا قبلها بغيرها. ويجامع الأخيرين، فيقال: إنما أنا تميمى لا قيسىّ خ خ؛ و: هو يأتينى لا عمرو خ خ؛ لأنّ النفى فيهما غير مصرّح به؛ كما يقال: (امتنع زيد عن المجئ لا عمرو). السكاكى: شرط مجامعته للثالث: ألّا يكون الوصف مختصّا بالموصوف؛ نحو: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ (¬1) ". ـــــــــــــــــــــــــــــ النص على المنفى فى الأول رغبة فى الإيجاز. وقوله: (والنفى لا يجامع الثانى) أى: النفى: بل لا يجامع النفى والاستثناء؛ (لأن شرط المنفى بلا أن يكون منفيا قبلها بغيرها) وفيه نظران: أحدهما: أن هذا إذا عطف على المستثنى منه: أما إذا عطف على المستثنى بإلا، فما المانع وهو مثبت؟ ويشهد لذلك بطلان عمل لا إذا وقع خبرها بعد إلا وامتناع دخول الباء، ويكون حكم المنفى بلا مستفادا مرتين إحداهما بالخصوص، والأخرى بالعموم. الثانى: أن قوله بغيرها قيد ليس صحيحا؛ فإن شرط المنفى بلا أن لا يكون منفيا قبلها، سواء أكان نفيه بها أم بغيرها، نحو قولك: لا رجل فى الدار لا زيد، وهو ممتنع وقد يجاب بأن مقصوده لا العاطفة، وهذا المثال المنفى فيه ليس منفيا قبلها بلا العاطفة، بل بلا التى لنفى الجنس، لا يقال: يجوز: لا رجل فى الدار لا زيد ولا عمرو، فهذا منفى بلا، وقد نفى قبله بلا فاحترز عنه؛ لأن لا زيد ولا عمرو بدل مفصل من لا رجل وهو على نية تكرار العامل، فهو جملة أخرى والكلام فى لا التى هى حرف تعطف المفرد، وإذا تقرر أن النص على المنفى أصل فى الوجه الأول، فهو لا يجوز أن يجامع الثانى، فلا تقول: ما أنا إلا قائم لا قاعد، وقد تقدم فى كلام الوالد - رحمه الله - التعرض لهذه المسألة وتجويزها، وأما الأخيران، وهما إنما والتقديم، فيجوز فيهما التصريح وعدمه، فتقول: إنما أنا تميمى لا قيسى؛ لأن النفى فيهما غير مصرح به، بل مستفاد بالمفهوم، فجاز العطف على تميمى، وإن كان معناه: ما أنا إلا تميمى؛ لأن النفى غير المصرح به لا يمتنع أن يعطف عليه بلا، كما تقول: امتنع زيد عن المجئ لا عمرو، وإن كان معناه النفى، ولو صرحت بالنفى لما صح بلا، وشرط السكاكى لجواز مجامعة لا للثالث، أى: القصر بإنما أن لا يكون الموصوف مختصا بالوصف كقوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ فإن كل أحد يعلم أن الذى لا يسمع لا يستجيب، فلا يصح أن يقال: لا غير. قلت: فيه نظران: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 36.

عبد القاهر: لا تحسن فى المختصّ؛ كما تحسن فى غيره خ خ؛ وهذا أقرب. وأصل الثانى: أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره، بخلاف الثالث؛ كقولك لصاحبك - وقد رأيت شبحا من بعيد -: ما هو إلا زيد إذا اعتقده غيره مصرّا. وقد ينزّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب؛ فيستعمل له الثانى إفرادا؛ نحو: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (¬1) أى: مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبرّى من الهلاك، نزّل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه، ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أنه إذا لم يكن الموصوف مختصا بالوصف، لا يجوز الحصر بإنما؛ لأنه خلاف الواقع فإن كان مجازا فلا مانع من تأكيده بالعطف، وكأنه يريد اختصاصه عقلا. الثانى: أنه إذا صح قصره بإنما، فما المانع من صحة العطف؟ والشيخ عبد القاهر جعل ذلك شرطا فى حسن العطف، لا فى جوازه واستقر به المصنف، ولا شك فى قربه بالنسبة إلى عدم اشتراط ذلك. ص: (وأصل الثانى أن يكون ما استعمل ... إلخ). (ش): هذا وجه آخر وهو أن الحصر بالاستثناء أصله أن يكون المخاطب يجهل ما استعمل له، وهو إثبات الحكم المذكور إن كان قصر إفراد، أو نفيه إن كان قصر قلب، كما تقول لصاحبك: إذا رأيت شبحا على بعد: ما هو إلا زيد، ومثاله فى القرآن: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ (¬2) هذا هو الأصل، وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب، فيستعمل له القصر بما وإلا إفرادا نحو: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ فإنه خطاب للصحابة، وهم لم يكونوا يجهلون رسالة النبى إلا أنه نزل استعظامهم له على الموت تنزيل من يجهل رسالته؛ لأن كل رسول لا بد من موته، فمن استبعد موته فكأنه استبعد رسالته، وهذا هو الصواب، وبه يظهر أن هذا قصر قلب، لا قصر إفراد؛ فإن اعتقاد الرسالة وعدم الموت لا يجتمعان، وإنكارهم الموت ينفى أن يجتمع معه الإقرار بالرسالة، حتى يكون قصر إفراد، وبهذا يعلم أن ما قلناه خير من قول غيرنا: إنهم نزلوا لاستعظامهم موته منزلة من ينكر موته، ويثبت له صفتى الرسالة وعدم الموت؛ فيكون قصر إفراد؛ لأن ما ذكرناه لا يؤدى إلى أنهم نزلوا منزلة من يعقد أمرين متنافيين، ومثل المصنف لتنزيل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 144. (¬2) سورة آل عمران: 62.

أو قلبا؛ نحو: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا (¬1) فالمخاطبون - وهم الرسل، عليهم الصلاة والسّلام - لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرا، ولا منكرين لذلك؛ لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين؛ لاعتقاد القائلين أنّ الرسول لا يكون بشرا، مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة. وقولهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (¬2): من باب مجاراة الخصم؛ ليعثر؛ حيث يراد تبكيته لا لتسليم انتفاء الرسالة، وكقولك: إنّما هو أخوك لمن يعلم ذلك، ويقرّ به، وأنت تريد أن ترققه عليه. وقد ينزّل المجهول منزلة المعلوم؛ لادعاء ظهوره؛ فيستعمل له الثالث؛ نحو: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (¬3)؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ المعلوم منزلة المجهول فى قصر القلب بقوله تعالى: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا (¬4) فإنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون بشرا، فنزلوا علم الرسل بأن المرسل إليهم يعلمون أنهم بشر منزلة من لا يعلم؛ فلذلك خاطبوهم بقولهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ثم ذكر المصنف جواب سؤال مقدر وهو أن الرسل قد علموا أن المرسل إليهم يعلمون أنهم بشر فكيف خاطبوهم بالاستثناء فى قولهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو إنما يخاطب به من يجهل ذلك الحكم؟ فأجاب بأنه من مجاراة الخصم؛ إذ شأن من يدعى عليه خصمه الخلاف فى أمر لا يخالف فيه أن يعيد كلام خصمه على صفته ليعثر الخصم حيث يراد تبكيته، أى: إفحامه وإسكاته، وليس ذلك لتسليم انتفاء الرسالة. وقوله: وكقولك معطوف على قوله: كقولك لصاحبك، وقد رأيت شبحا، وهو مثال لقوله قبل ذلك بخلاف الثالث، فالمثال الأول تمثيل للأول، والثانى للثانى لفا ونشرا فالثالث وهو الحصر بإنما عكس الحصر بإلا؛ فإن الحصر بإنما أصله أن يكون لمن يعلم ذلك الحكم، أى: المثبت، كقولك لمن يعلم أن زيدا أخوه: إنما هو أخوك، ترقيقا له. وقد ينزل المجهول منزل المعلوم فيستعمل له الثالث وهو الحصر بإنما نحو: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فإن الصحابة لم يكونوا يعلمون أن الكفار يصلحون فكان من حقهم أن يقولوا: ما نحن إلا مصلحون، ولكنهم ادعوا بلسان الحال أن صلاحهم أمر ظاهر لا يستطيع أحد إنكاره؛ فلذلك أتوا بصيغة (إنما) التى الأصل فيها ذلك؛ ولذلك جاء ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 10. (¬2) سورة إبراهيم: 11. (¬3) سورة البقرة: 11. (¬4) سورة يس: 15.

لذلك جاء: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (¬1)؛ للردّ عليهم مؤكّدا بما ترى. ومزيّة (إنّما) على العطف: أنه يعقل منها الحكمان معا، وأحسن مواقعها التعريض؛ نحو: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (¬2)؛ فإنه تعريض بأن الكفّار - من فرط جهلهم - كالبهائم، فطمع النظر منهم كطمعه منها. ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر - على ما مر - يقع ما بين الفعل والفاعل نحو: ما قام إلا زيد وغيرهما، ففى الاستثناء يؤخّر المقصور عليه مع أداة الاستثناء، ـــــــــــــــــــــــــــــ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ مؤكدا بحرف الاستفتاح وبإن وبجعل الجملة اسمية، وضمير الفصل - إن كان هم فصلا - وتعريف المسند، ثم ذكر المصنف أن لإنما فى القصر مزية على العطف؛ لأنه يعلم منها الحكمان المثبت والمنفى معا، بخلاف العطف؛ فإنهما يعلمان على الترتيب. قال الخطيبى: وبخلاف ما وإلا فى نحو: ما زيد إلا قائم قلت: فيه نظر؛ لأن الاستثناء المفرغ يعلم فيه النفى والإثبات دفعة واحدة، وهذه المزية لإنما لا يشاركها فيها التقديم، وأكثر ما تستعمل إنما فى موضع يكون الغرض بها فيه التعريض بأمر، وهو مقتضى الكلام بعد ما نحو: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ فإنه تعريض بذم الكفار، وأنهم فى حكم البهائم الذين لا يتذكرون. ص: (ثم القصر كما يقع ... إلخ). (ش): القصر أمر يقع بين المسند والمسند إليه، سواء أكانا مبتدأ وخبرا، أم فعلا وفاعلا، ويقع بين غيرهما كالمفعول الثانى مع الأول والحال والظرف وغير ذلك. ويرد عليه أن القصر لا يقع بين الفعل والمصدر المؤكد بالإجماع، فلا. نقول: ما ضربت إلا ضربا، وأما قوله تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (¬3) فتقديره: ظنا ضعيفا، وكذلك لا يقع القصر بين النعت والمنعوت، كما سبق فمن أمثلة القصر: ما ضرب زيد إلا عمرا قصر قلب كان أم قصر إفراد. قال تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ (¬4) قال المصنف: وهذا مثال لقصر القلب، لا قصر الإفراد؛ فإنه ليس المراد لم أزد على ما أمرتنى به، بل المراد أننى قلت ما أمرتنى به. قلت: هذا من المصنف يقتضى أن قصر القلب ليس فيه نفى لغير المذكور، وليس كذلك، والذى قاله من أن المراد أننى قلت ما أمرتنى به صحيح، ولا ينافى ذلك أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 12. (¬2) سورة الرعد: 19. (¬3) سورة الجاثية: 32. (¬4) سورة المائدة: 117.

وقل تقديمهما بحالهما؛ نحو: ما ضرب إلّا عمرا زيد (¬1)، وما ضرب إلا زيد عمرا (¬2)؛ لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون نفى الزيادة عليه فهذه هى حقيقة القصر، نعم هو قصر قلب لغير ما ذكره، وهو أنه واقع فى مقابلة قول النصارى عنه أنه قال: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ (¬3) فإن نسبتهم ذلك إليه لا تجتمع مع نسبتهم إليه الاعتراف بالوحدانية، ثم مما تختلف فيه أدوات القصر أن المقصور عليه يؤخر مع كلمة الاستثناء عن المقصور، والسر فى ذلك أن القصر أثر عن الحرف، الذى هو إلا، ويمتنع ظهور أثر الحرف قبل وجوده، وذلك سواء كان بين مبتدأ وخبر، أم فعل وفاعل، أم غيرهما، فتقول: ما ضرب إلا زيد، فزيد مقصور عليه، والضرب مقصور. وتقول فى قصر الفاعل على المفعول: ما ضربت إلا زيدا، وفى قصر المفعول على الفاعل: ما ضرب عمرا إلا زيد. وتقول فى قصر المفعول الأول على الثانى: ما ظننت قائما إلا زيدا، وما كسوت جبة إلا زيدا، وفى قصر ذى الحال على الحال: ما جاء زيد إلا راكبا، وفى عكسه: ما جاء راكبا إلا زيد. هذا هو الأصل، وقد يقع خلافه، وإليه أشار المصنف بقوله: (وقل تقديمهما بحالهما) احترازا عن تأخير حرف الاستثناء، والمستثنى على المستثنى منه، كقولك: ما ضرب إلا عمرا زيد، وما ضرب عمرا إلا زيد. والمراد: ما ضرب زيد إلا عمرا احترازا من قولنا: ما ضرب عمرا إلا زيد، لغير هذا المعنى؛ فإنه ليس قليلا، وإنما كان هذا النوع قليلا؛ (لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها) كالضرب الصادر من زيد فى: ما ضرب زيد إلا عمرا والواقع على عمرو فى: ما ضرب عمرا إلا زيد، ومن هذا القليل ما أنشد سيبويه: النّاس إلب علينا فيك ليس منّا … إلّا السّيوف وأطراف القنا ورد وأنشد صاحب المغرب: فلم يدر إلا الله ما هيّجت لنا ¬

_ (¬1) أى: فى قصر الفاعل على المفعول، وفى بعض النسخ:" ما ضرب عمرا زيد"، وهو خطأ. (¬2) فى قصر المفعول على الفاعل. وفى بعض النسخ: (وما ضرب زيد عمرا). (¬3) سورة المائدة: 116.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): مقتضى عبارة المصنف والشارحين أن القصر يدور بين الفاعل وبين المفعول الأول والثانى، ونحوه، وفيه نظر فقد يقال: بل هو أبدا فى الجملة الفعلية دائر بين الفعل والمقصور عليه، فيكون بين الفعل والفاعل، وبين الفعل والمفعول، وعلى هذا ويشهد له عبارة المصنف فى الإيضاح حيث قال: لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها، والمعنى يشهد لذلك فإن المقصور المصدر المستفاد من الفعل لا الفاعل. (تنبيه): قال المصنف فى الإيضاح: وقيل إذا أخر المقصور عليه والمقصور عن إلا، وقدم المرفوع كقولنا: ما ضرب إلا عمرو زيدا، فهو كلامان، التقدير ما ضرب أحد إلا عمرو، وزيدا المذكور منصوب بفعل محذوف، كأنك قلت: ما ضرب إلا عمرو، أى: ما وقع ضرب إلا منه، ثم قيل: من ضرب؟ فقلت: زيدا، أى: ضرب زيدا، كما سبق فى قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة قال المصنف: وفيه نظر لاقتضائه الحصر فى الفاعل والمفعول معا قلت: فيه نظر؛ لأنه إنما يقتضى حصر الفاعلية فقط، لا حصر المفعولية، ولو اقتضى حصر المفعولية لحملنا ذلك على أنه بعامل مقدر لا بالأول فلا معية ثم نقول: ما ذكره المصنف ينبنى على أنه هل يجوز أن يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان أو لا؟ وقد تكلم الوالد - رحمه الله - على ذلك فى كتاب الحلم والأناة فى تفسير: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وها أنا أذكر شيئا منه قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (¬1) المختار أن يؤذن لكم حال، والباء مقدرة، وغير ناظرين حال ثان، وجوز الشيخ أبو حيان أن الباء للسببية، ولم يقدر الزمخشرى حرفا، بل قال: (أن يؤذن) فى معنى الظرف، أى: وقت أن يؤذن، وأورد عليه أبو حيان أن المصدر لا يكون فى معنى الظرف، وإنما ذلك فى المصدر الصريح، نحو: أجيئك صياح الديك، ويمتنع من جهة المعنى أن يكون (غير ناظرين) حالا من يؤذن، وإن صح من جهة الصناعة. قال الزمخشرى: وقع الاستثناء على الوقت والحالة معا، كأنه قيل: لا تدخلوا إلا وقت الإذن، ولا تدخلوا إلا غير ناظرين، فورد عليه أنه يكون استثناء ظرف وحال بأداة واحدة، والظاهر أنه قال: ذلك تفسير معنى قوله: وقع الاستثناء على ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 53.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الوقت والحال معا، أى: لأن الاستثناء المفرغ يعمل ما قبله فيما بعده، فالمستثنى فى الحقيقة هو المصدر المتعلق بالظرف والحال، كأنه قيل له: لا تدخلوا إلا دخولا موصوفا بكذا، ولست أريد تقدير مصدر عامل، فإن العمل للفعل المفرغ، وإنما أردت شرح المعنى، ومثل هذا الإعراب مختاره فى مثل قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (¬1) ولو قدرنا اختلفوا بغيا لفات الحصر فيمكن حمل كلامه على هذا، وأورد عليه أبو حيان أنه لا يصح أن يكون حالا من لا تدخلوا؛ إذ لا يقع عند الجمهور بعد إلا إلا المستثنى أو صفته، وهو إيراد عجيب؛ لأن الزمخشرى لم يرد: لا تدخلوا غير ناظرين، حتى يكون الحال قد أخر بعد إلا، وإنما أراد أنه حال من لا تدخلوا؛ لأنه مفرغ، فإن قلت: قولهم: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان، هل هو متفق عليه؟ قلت: قال أبو حيان: من النحويين من أجازه، فأجازوا ما أخذ أحد إلا زيد درهما، قال: وضعفه الأخفش والفارسى، واختلفا فى إصلاحها فتصحيحها عند الأخفش أن يقدم المرفوع، فنقول: ما أخذ أحد زيد إلا درهما. قال: وهو موافق لما ذهب إليه ابن السراج وابن مالك من أن حرف الاستثناء إنما يستثنى به واحد، وتصحيحها عند الفارسى أن تزيد منصوبا قبل إلا، فتقول: ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما. قال أبو حيان: لم يزد تخريجه لهذا البدل فيهما، كما ذهب إليه ابن السراج، أو على أن يجعل أحدهما بدلا والآخر معمول عامل مضمر، كما اختاره ابن مالك والظاهر من قول ابن مالك، خلافا لقوم أنه يعود إلى قوله: لا بدلا فلم ينقل خلافا فى صحة التركيب، والخلاف كما ذكرته موجود فى صحة التركيب، منهم من قال: تركيب صحيح لا يحتاج إلى تخريج. انتهى. وحاصله أن غير الفارسى والأخفش يجوز هذا التركيب، وهم بين قائل: هما بدلان كابن السراج، وقائل: أحدهما بدل كابن مالك، فليس فيهم من يقول: هما مستثنيان بأداة واحدة، ولا نقل ذلك أبو حيان عن أحد، وقوله أولا: إن من النحويين من أجازه محمول على التركيب لا على معنى الاستثناء، ولم يتلخص لنا من كلام أحد النحاة ما يقتضى حصرين، وقال ابن الحاجب فى شرح المنظومة فى تقديم الفاعل: قولك: ما ضرب زيد إلا عمرا، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 213.

ووجه (¬1) الجميع: أن النفى فى الاستثناء المفرّغ يتوجّه إلى مقدّر، وهو مستثنى منه عامّ مناسب للمستثنى فى جنسه وصفته، فإذا أوجب منه المقدّر شيء ب (إلا)، جاء القصر، ـــــــــــــــــــــــــــــ يجب تقديم الفاعل؛ لأن الغرض مضروبية زيد فى عمرو خاصة، أى: مضروب لزيد سوى عمرو، فلو قدر له مضروب آخر لم يستقم، فلو قدم المفعول على الفاعل انعكس المعنى، ولا يستقيم أن يقال: ما ضرب إلا عمرا زيد؛ لأنه لو جوز تعدد المستثنى المفرغ، كقولك: ما ضرب إلا زيدا عمرو، أى: ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا كان الحصر فيهما، والغرض الحصر فى أحدهما، فيرجع الكلام لمعنى آخر غير مقصود، وإن لم يجوز كانت المسألة ممتنعة لبقائها بلا فاعل ولا نائبه؛ لأن التقدير حينئذ ضرب زيد، وفى الثانية يكون عمرو منصوبا بفعل مقدر؛ فيصير جملتين، ولا يكون فيهما تقديم فاعل على مفعول، وقال ابن الحاجب فى أمالى الكافية: إذا قلت: ما ضرب إلا زيد عمرا، فلا يمكن أن يكون قبلهما عاملان؛ لأنه إثبات أمر خارج عن القياس من غير ثبت، ويلزم جوازه فيما فوق الاثنين، وهو ظاهر البطلان، فلذلك حكموا أن الاستثناء المفرغ إنما يكون لواحد، ويجوز: ما ضرب إلا زيد عمرا، على أن يكون عمرا منصوبا بضرب محذوفا. انتهى، قال الوالد - رحمه الله -: وقد تأملت ما وقع فى كلام ابن الحاجب من قوله: ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا، وقوله: إن الحصر فيهما معا، والسابق إلى الفهم أنه لا ضارب إلا زيد، ولا مضروب إلا عمرو، فلم أجده كذلك، وإنما معناه: لا ضارب إلا زيد لأحد إلا عمرا فانتفت ضاربية غير زيد لغير عمرو، وانتفت مضروبية عمرو من غير زيد، وقد يكون زيد ضرب عمرا وغيره، وقد يكون عمرو ضربه زيد وغيره، وإنما المعنى نفى الضاربية مطلقا عن غير زيد، ونفى المضروبية مطلقا عن غير عمرو، وإذا قلنا: وقع ضرب إلا من زيد على عمرو، والفرق بين نفى المصدر ونفى الفعل أن الفعل مسند إلى فاعل، فلا ينتفى عن المفعول إلا ذلك القيد، والمصدر ليس كذلك، بل هو مطلق فينتفى مطلقا إلا الصورة المستثناة منه بقيودها، والذى يظهر أنه لا يجوز استثناء شيئين بأداة، بلا خلاف كما لا يكون للفعل فاعلان. ص: (ووجه الجميع ... إلخ). (ش): هذا الكلام لا يناسب هذا الفصل؛ فإن هذا الفصل يتعلق بما بعد أداة القصر وجاءت هذه القطعة فاصلة، قال: وجه الجميع، أى: الحصر فى جميع صور ¬

_ (¬1) أى السبب فى إفادة النفى والاستثناء فيما بين المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول وغير ذلك.

تأخير المقصور عليه فى (إنما)

وفى إنّما يؤخّر المقصور عليه؛ تقول: إنّما ضرب زيد عمرا خ خ، ولا يجوز تقديمه على غيره للالتباس وغير ك إلّا فى إفادة القصرين، وفى امتناع مجامعة (لا). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحصر بما وإلا، سواء كان بين الفعل والفاعل، أو المبتدأ والخبر، أو غيرهما أن الاستثناء المفرغ لا بد أن يتوجه النفى فيه إلى متعدد، فهو مستثنى منه؛ لأن الاستثناء إخراج، فيحتاج إلى مخرج منه، والمراد التقدير المعنوى لا الصناعى، فإن تقدير المستثنى منه والتفريغ لا يجتمعان، ولا بد أن يكون عاما؛ لأن الإخراج لا يكون إلا من عام وينبغى أن يحمل العموم على الشمول مطلقا مطلقا؛ ليدخل فيه نحو العدد والجموع المنكرة، ولا بد أن يكون مناسبا للمستثنى فى جنسه، مثل: ما قام إلا زيد، التقدير: أحد، وما أكلت إلا تمرا، التقدير: مأكولا، ولا بد أن يوافقه فى صفته، أى: فى إعرابه، وحينئذ وجب القصر إذا أوجب منه شئ بإلا، ومقتضى كلام الشارح أنه فهم أن هذا علة لتأخير المقصور عليه، وأحوجه إلى ذلك أنه رآه فاصلا بين بعض الكلام وبعض، ولكن هذا لا يظهر أنه علة لذلك، بل يظهر أنه علة لحصول القصر. تأخير المقصور عليه فى (إنما): ص: (وفى إنما يؤخر المقصور عليه). (ش): قد عرف مما سبق أن ضابط المقصور عليه أن يكون بعد إلا، سواء كانت متقدمة أو متأخرة، وأما إنما فضابط المقصور عليه أن يكون متأخرا، فتقول فى معنى: ما قام إلا زيد: إنما قام زيد، وفى معنى: ما ضربت إلا زيدا: إنما ضربت زيدا، وفى معنى: ما ظننت زيدا إلا قائما: إنما ظننت زيدا قائما، وهذا هو المشهور، وقد تقدم عن الزجاج أن مذهبه أن المحصور لا يتعين أن يكون هو المتأخر، بل قد يكون غيره ويفهم بالقرينة. (تنبيه): يرد على قولهم: المحصور هو الأخير، أمور، منها: أن قولك: إنما قمت، معناه: لم يقع إلا القيام، فهو حصر الفعل، وليس الأخير فإن الأخير هو الفاعل، وهو الضمير فلو قصدت حصره لفصلت الضمير كما سبق. ومنها: قوله" إنما يأكل آل محمد من هذا المال ليس لهم فيه إلا المأكل" (¬1). فإن المراد ما ذكرناه إلا أن يكون لذلك ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البخارى فى" الفضائل"، باب: مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، (7/ 97)، (ح/ 3711)، وفى مواضع أخرى من صحيحه، ومسلم فى" الجهاد والسير"، (ح 1759)، من حديث عائشة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تأويل. ومنها: قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (¬1)، فإن المراد ما يريد أن يوقع العداوة إلا فيهما. ومنها: قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ (¬2)، فإن المراد لم يقع إلا أن أشرك آباؤنا من قبل، ومقتضى قواعدهم أن المراد ما أشرك آباؤنا إلا من قبل، أى: لم يشركوا من بعدنا، بل من قبلنا. ومنها: قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ (¬3)، مقتضى ما قالوه أن المعنى: ما فتنتم إلا به، وليس المراد؛ فإنه لا يصح فيه قصر القلب، ولا قصر الإفراد؛ لأنهم لم يكونوا يدعون أنهم فتنوا به وبغيره، ولا أنهم فتنوا بغيره فقط؛ فتعين أن المعنى لم يقع إلا أنكم فتنتم به. ومنها: قوله تعالى: فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ (¬4)، ليلزم على ما قالوه أن التقدير: ما يقول له إلا كن، وليس المعنى عليه، إنما المعنى فلا يقع شئ إلا قوله: كن، فيكون فيه نفى ما ليس كن من الأقوال والأفعال. ومنها: قوله تعالى: قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ (¬5)، مقتضى ما قالوه أن المراد ما يأتيكم به الله، بدليل أنه جواب لقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (¬6). انتهى. (قوله: ولا يجوز تقديمه على غيره) أى: بخلاف إلا، وقوله: (للإلباس) لأنك لو قلت: إنما القائم زيد لكان فى المعنى عكس قولك: إنما زيد القائم، وتقول: إنما ضرب زيد عمرا، ولو قلت: إنما ضرب عمرا زيد؛ لأوهم عكس ذلك المعنى، وهذا الذى ذكره المصنف. ص (وغير كإلا فى إفادة القصرين وامتناع مجامعة لا). (ش): أى: حكم غير حكم إلا فى إفادة قصرى الإفراد والقلب، وامتناع مجامعة لا؛ لأنها حرف استثناء، فلا يعطف عليها بلا، وينبغى أن يقيدها بالاستثنائية. أما الصفة فلا، وإنما لم يورد عليه مثل ذلك إلا، وهى أيضا تقع استثناء وصفة؛ لأن وقوع إلا صفة خلاف الغالب، وإنما خص الكلام بإلا وغير، دون غيرهما من أدوات الاستثناء؛ لأنه يتكلم فى المفرغ، وهو لا يكون بغيرها خلافا لابن مالك. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 91. (¬2) سورة الأعراف: 173. (¬3) سورة طه: 90. (¬4) سورة مريم: 35. (¬5) سورة هود: 33. (¬6) سورة هود: 32.

باب الإنشاء

الإنشاء (¬1) إن كان طلبا استدعى مطلوبا غير حاصل وقت الطلب، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الإنشاء ص: (الإنشاء إن كان طلبا استدعى مطلوبا ... إلخ). حقيقة الإنشاء التى يتميز بها الخبر سبقت، وهو ينقسم إلى طلب وغيره، كذا قالوه، والأحسن أن يقال: إلى طلبى وغيره، وقد عدوا من غير الطلبى: نعم الرجل زيد، وربما نصحك عمرو، وكم غلاما شريف، وعسى أن يجئ زيد وفيه نظر؛ لأن الأول قد يقال: إنه خبر، وقول كثير من النحاة: إن نعم وبئس لإنشاء المدح والذم، لا ينافى ذلك لجواز أن يريدوا دلالتها على ذلك الناشئة بالإخبار. قال الطيبى فى شرح التبيان: قال الاستراباذى فى كون فعلى التعجب وفعلى المدح والذم وكم الخبرية إنشاء نظر؛ لاحتمالهما الصدق والكذب باعتبار نفس الخبر، وإن لم يحتملا باعتبار المدح والذم، ومن ثم لما بشر أعرابى ببنت، فقيل: نعمت المولودة قال: والله ما هى بنعمت المولودة. قال الجرجانى: وهم؛ لأن هذه الأفعال لا تحتملها باعتبار النسبة التى يحصل بها الكلام. انتهى. ومما يدل على أنهما خبران وقوع نعم خبر إن فى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ (¬2)، ووقوعها جواب القسم فى قوله تعالى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (¬3)، وكذلك بئس، قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (¬4)، وأما: ربما نصحك عمرو، فلا إشكال فى كونه خبرا، وكذلك كم الخبرية. قال ابن الحاجب فى أماليه: كم رجال عندى، يحتمل الإنشاء والإخبار، أما الإنشاء فمن جهة التكثير؛ لأن المتكلم عبر عما فى باطنه من التكثير بقوله: رجال، والتكثير معنى محقق ثابت فى النفس، لا وجود له من خارج حتى يقال باعتباره: إن طابق فصدق، وإن لم يطابق فكذب، ويحتمل الإخبار باعتبار العندية فإن كونهم عنده له وجود من خارج، فالكلام باعتباره يحتمل الصدق والكذب، فهو كلام يحتمل للأمرين باعتبار الاحتمالين المذكورين المختلفين، قلت: هذا الكلام ضعيف، والذى يظهر القطع به أن هذا ¬

_ (¬1) هو الكلام الذى ليس لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه. (¬2) سورة النساء: 58. (¬3) سورة النحل: 30. (¬4) سورة البقرة: 102.

أنواع الإنشاء

وأنواعه كثيرة: ... منها التمنّى (¬1)، واللفظ الموضوع له (ليت)، ولا يشترط إمكان المتمنّى (¬2)؛ تقول: ليت الشباب يعود! خ خ، وقد يتمنّى ب (هل)؛ نحو: هل لى من شفيع؟! حيث يعلم أن لا شفيع له، وب (لو)؛ نحو: لو تأتينى؛ فتحدّثنى! خ خ؛ بالنصب. ـــــــــــــــــــــــــــــ خبر؛ لأن التكثير ليس المعنى به جعل القليل كثيرا حتى يكون السائل معنيه اعتقاد الكثرة الواقع فى النفس، والتعبير عن ذلك بكم إخبار عن أمر خارجى، وإنما تعنى بقولنا: الخبر له خارج ما كان خارجا عن كلام النفس، فنحو: طلبت القيام، حكم نسبته لها خارج بخلاف: قام، كما صرح به ابن الحاجب وغيره، فقولنا: كم رجال عندى على الأول من الاحتمالين اللذين ذكرهما إخبار عن اعتقاد الكثرة كقولك: اعتقدت هذا كثيرا فليس من الإنشاء فى شئ، وعلى الاحتمال الثانى إخبار عن الكثرة فى الخارج، وقوله: لأن المتكلم عبر عما فى باطنه يستلزم أن يكون نحو: وأبغضت زيدا، وعزمت على كذا إنشاء، ولا قائل به. وقوله: إن التكثير معنى ثابت فى النفس لا وجود له من خارج، صحيح لكن المراد بالخارج ما سبق، وأما عسى أن يجئ زيد، فهو ترج كالتمنى، وسنذكره وهو طلبى نعم من الإنشاء غير الطلبى صيغ العقود، وإن قلنا: إن الوعد إنشاء كما يوهمه كلام ابن قتيبة فهو غير طلبى، إذا تقرر هذا فالذى نتكلم فيه الآن هو الإنشاء الطلبى، وهو يستدعى مطلوبا ضرورة، وكونه غير حاصل وقت الطلب ضرورى؛ لأن الحاصل لا يطلب، والإنشاء لا يتعلق بالمستقبلات. أنواع الإنشاء: 1 - (التمنى): ص: (وأنواعه كثيرة منها التمنى ... إلخ). (ش): أنواع الإنشاء الطلبى كثيرة، منها: التمنى، واللفظ الموضوع له ليت، ولا يشترط إمكان المتمنى، بل قد يكون المتمنى قريبا، مثل: ليت زيدا يقدم، وهو مشرف على القدوم، وقد يكون بعيدا ممكنا، وقد يكون غير ممكن، ومثله المصنف بقوله: ليت ¬

_ (¬1) هو طلب حصول شئ على سبيل المحبة. (¬2) ويشترط ذلك فى الترجى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الشباب يعود. قال الوالد - رحمه الله -: عود الشباب ممكن عقلا ممتنع عادة. قال السكاكى: تقول: ليت زيدا جاءنى، فتطلب غير الواقع فى الماضى واقعا فيه مع حكم العقل بامتناعه، وليت الشباب يعود مع جزمك بأنه لا يعود وليت زيدا يأتينى فيحدثنى فى حال لا تتوقعها ولا طمع لك فيها، فهذه أحسن من عبارة المصنف والقدر المشترك بين الثلاثة عدم التوقع. انتهى. وحاصله أن ما أفهمه كلام المصنف من أن عود الشباب مستحيل عقلا ممنوع، وهو سؤال حسن، لكن يمكن أن يقال: عود الشباب مستحيل عادة، إن فسرنا الشباب بالسن الذى لا يتجاوز الثلاثين، وكونه لم يتجاوز ذلك بعد أن جاوزه جمع بين النقيضين فهو مستحيل عقلا، وإن فسر الشباب بعود تلك القوة والنشاط الحاصل قبل الشيخوخة، جاء ما ذكره الوالد - رحمه الله - وقد يقال باستحالته أيضا؛ فإن نفس تلك القوة يستحيل عودها، إنما الممكن عقلا عود مثلها، لكن القطع حاصل بأن المراد من قولنا: ليت الشباب يعود، عوده بالجنس أو بالنوع، لا بالشخص. بقى على المصنف وعلى السكاكى سؤال آخر، وهو أن ما لا يتوقع، كيف يطلب؟ فالأصوب ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمنى والترجى والقسم والنداء ليس فيها طلب، بل تنبيه ولا بدع فى تسميته إنشاء وإنما تنازع فى جعله طلبا، وسؤال آخر وهو قوله: ولا يشترط إمكانه يقتضى أنه قد يكون قريبا وبعيدا، ويدخل فى ذلك الترجى، وظاهر كلام النحاة أنه إن كان قريبا فله الترجى، وإن كان بعيدا فله التمنى، وقد صرح بذلك المصنف فى آخر الكلام ثم مقتضى كلامه أن المستحيل أحد محال التمنى، والذى يظهر أن استعماله فيه يقع على خلاف الأصل، وقد أعرب التنوخى فقال فى الأقصى القريب: المتمنى يكون معشوقا للنفس، والمرجو قد لا يكون، ويكون المرجو متوقعا، والمتمنى قد لا يكون فالترجى أعم من التمنى من وجه، والتمنى أعم من الترجى من وجه. (تنبيه): قال التنوخى أيضا: المرجو بلعل حصول خبرها لاسمها، وقد يكون حصول اسمها لخبرها، وقد يكون حصول الجملة من اسمها وخبرها. انتهى. ولعله يريد بحصول اسمها لخبرها نحو قولك: لعل القيام موجود وبحصول الجملة قولك: لعل أن يقوم زيد، وهذا بعينه ينقل إلى التمنى، وما قاله لا تحقيق له؛ فإن المعنى فى الجميع حصول الخبر للاسم؛ لأن الموضوع لا يطلب حصوله، ثم قال المصنف: وقد يتمنى بهل مثل: هل

السكاكى: كأنّ حروف التنديم والتحضيض، وهى: (هلّا)، و (ألّا) بقلب الهاء همزة، و (لولا) و (لوما): مأخوذة منهما (¬1) مركبتين مع (لا) و (ما) المزيدتين؛ لتضمّنهما معنى التمنّى؛ ليتولّد منه فى الماضى التنديم؛ نحو: هلّا أكرمت زيدا! خ خ، وفى المضارع التحضيض؛ نحو: هلا تقوم! خ خ. وقد يتمنّى ب (لعل) فيعطى حكم (ليت)؛ نحو: لعلّى أحجّ؛ فأزورك خ خ؛ بالنصب؛ لبعد المرجوّ عن الحصول. ـــــــــــــــــــــــــــــ من شفيع، حيث يعلم أنه لم يكن قال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا لإبراز المتمنى فى صورة الممكن، وقد يتمنى بلو كقولك: لو تأتينى فتحدثنى، وإنما يتعين لذلك إذا كان بالنصب، فإن لم يكن احتمل ومجئ لو بمعنى التمنى مذهب سيبويه، وأنكره كثير من النحاة والاستدلال على جوازه بقوله تعالى: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (¬2) بنصب نكون فيه نظر؛ لجواز أن يكون معطوفا على كرة كقول الشاعر: للبس عباءة وتقرّ عينى أحبّ … إلىّ من لبس الشفوف (¬3) قال السكاكى: وكأن هلا وألا حرفى التحضيض والتنديم مأخوذتان من هل، وكذلك لولا ولو ما زيدت على بعضها لا، وعلى بعضها ما، وألا قلبت فيها الهاء همزة، وركبت هذه الحروف ليتولد منها فى الماضى التنديم نحو: هلا أكرمت زيدا، وفى المستقبل التحضيض نحو: هلا تقوم، وقد يتمنى بلعل، أى: تستعمل لعل فيما بعد، ومن هنا يعلم اختصاص التمنى بالبعيد كما أشرنا إليه، ويعطى حينئذ حكم التمنى فى نصب الجواب، فإن لعل لو كانت على وضعها من التراخى لما انتصب الجواب لا يقال: قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ (¬4)، فيه ¬

_ (¬1) أى: من هل ولو اللتين للتمنى. (¬2) سورة الشعراء: 102. (¬3) البيت من الوافر، وهو لميسون بنت بحدل فى خزانة الأدب 8/ 503، 504، والدرر 4/ 2090، وسر صناعة الإعراب 1/ 273، وشرح التصريح 2/ 244، وشرح شذور الذهب 405، وشرح شواهد الإيضاح 250، وشرح شواهد المغنى 20/ 653 ولسان العرب 13/ 408، والمحتسب 1/ 326، ومغنى اللبيب 1/ 267، والمقاصد النحوية 4/ 397، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر 4/ 677، وأوضح المسالك 4/ 192، والجنى الدانى 157، وخزانة الأدب 8/ 523، والرد على النحاة 128، ورصف المبانى ص 423، وشرح الأشمونى 3/ 571، وشرح ابن عقيل 576، وشرح عمدة الحافظ 344، وشرح قطر الندى 65، وشرح المفصل 7/ 25، والصاحبى فى فقه اللغة 112 - 118، والكتاب 3/ 45. (¬4) سورة غافر: 36 - 37.

2 - الاستفهام

ومنها: الاستفهام؛ وألفاظه الموضوعة له: (الهمزة) و (هل) و (ما) و (من) و (أىّ) و (كم) و (كيف) و (أين) و (أنّى) و (متى) و (أيّان): ـــــــــــــــــــــــــــــ جواب الترجى، لأنا نقول: هذا تمن لا ترج، واستشهاد بعض النحاة على نصب جواب الترجى لا ينافى هذا؛ لأن النحوى ينظر فى الترجى والتمنى إلى اللفظ، والبيانى ينظر إلى المعنى وقول المصنف: (لبعد المرجو عن الحصول) قد يقال: كيف يجتمع ذكر الترجى مع البعد؟ وجوابه أنه لما ذكر الترجى المصطلح عليه أنه للقرب، بل ذكر المرجو المشتق من الرجاء، ولا شك أن الرجاء لغة لأعم من القريب والبعيد، وقول المصنف: ليتولد، وقوله: لتضمينهما معنى التمنى، يشعر بأن معنى التمنى يجتمع مع الاستفهام فى هل وألا وهلا، ومع الامتناع فى لولا وأنهما يسلبان معنى الاستفهام والامتناع، ويخلفه التمنى، وفيه نظر بالنسبة إلى هل ولو، وسيأتى عن التنوخى تحقيقه فى بقاء الترجى مع الاستفهام فى لعل وأما الاستفهام فى هلا وألا، والامتناع فى لولا ولو ما فلا شك فى عدمه إلا أن يريد بقاء التحضيض والتنديم. ثم قول المصنف: ليتولد منه فى الماضى التنديم، وفى المضارع التحضيض، صواب العبارة أن يقول: وفى المستقبل؛ لأن المضارع إذا وقع بعد هذه الحروف احتمل المضى والاستقبال كما ذكره ابن مالك وغيره، والتحضيض لا تعلق له بالمضارعة التى هى صفة لفظ الفعل، بل بالاستقبال الذى هو أحد مدلوليه أو مدلوله. (تنبيه): قد يتضمن التمنى معنى الخبر، قال الزمخشرى فى قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا (¬1): يجوز أن يكون ولا نكذب معطوفا على نرد أو حالا، قال: ولا يدفعه قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (¬2)؛ لأنه تمن قد تضمن معنى العدة فتعلق به التكذيب، وهذا ما قدمنا الوعد به عند الكلام على حد الإنشاء والخبر، وقول الزمخشرى: إن التكذيب تتعلق به العدة، مخالف لما ذكره ابن قتيبة. 2 - الاستفهام: ص: (ومنها الاستفهام ... إلخ). (ش): الاستفهام أحد أنواع الطلب استفعال، فهو طلب الفهم، وقد يخرج عن ذلك لتقرير أو غيره، وله ألفاظ ذكرها المصنف، وهى الهمزة وهل وما ومن وأى وكم ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 26. (¬2) سورة الأنعام: 27.

ف الهمزة خ خ: لطلب التصديق؛ كقولك: أقام زيد؟ خ خ، وأ زيد قائم؟ خ خ، أو التصوّر، كقولك: أدبس فى الإناء أم عسل؟ خ خ، أفى الخابية دبسك أم فى الزّقّ؟ خ خ؛ ولهذا (¬1) لم يقبح: أزيد قام؟ وأعمرا عرفت؟ والمسئول عنه بها: هو ما يليها؛ كالفعل فى: أضربت زيدا؟ والفاعل فى: أأنت ضربت زيدا؟ والمفعول فى: أزيدا ضربت؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ وكيف وأين وأنى ومتى وأيان بفتح الهمزة وبالكسر قليل، وهى لغة سليم، وبفى على المصنف أم فإنها استفهامية متصلة كانت أم منقطعة، وسيأتى بسط الكلام على ذلك عند قول المصنف، والباقية لطلب التصور وكذلك يقع الاستفهام بمهما وكأى، وكذلك يستفهم بلعل عند الكوفيين. وقال التنوخى: إنها يبقى معها حينئذ معنى الترجى قال ابن مالك فى المصباح: إن ألفاظ الاستفهام غير الهمزة نائبة عنها إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاستفهام قد يكون لطلب التصور فقط، وقد يكون لطلب التصديق فقط، وقد يكون لطلب أيهما كان، وقدم المصنف ما يطلب به أيهما كان لمزيد الفائدة فيه لتحصيله الاستفهام عن أيهما شئت، بخلاف ما لو قدم ما يخص أحدهما، فإنه حينئذ لا تحصل الفائدة لمزيد القسم الآخر، وأيضا فالهمزة أم الباب فهى الجديرة بالتقديم، إذا علم ذلك فها أنا أذكر - إن شاء الله تعالى - ضوابط يتميز بها حقيقة الاستفهام عن التصديق، وحقيقة الاستفهام عن التصور ما بين لفظى ومعنوى. فمن ذلك: الاستفهام عن التصديق: حقه أن يؤتى بعده بأم المنقطعة دون المتصلة، والاستفهام عن التصور ما صلح أن يؤتى بعده بأم المتصلة دون المنقطعة، وبعد أن كتبت هذا الضابط بفكرى رأيت ابن مالك صرح به فى المصباح بلفظه ولله الحمد، ومن ذلك الاستفهام عن التصديق، يكون عن نسبة تردد الذهن بين ثبوتها وانتفائها، والاستفهام عن التصور يكون عند التردد فى تعيين أحد شيئين، فبالاستفهام يعلم أنه أحاط بأحدهما، لا بعينه مسندين أم مسندا إليهما أم من تعلقات الإسناد، وهذا الضابط هو أيضا ضابط الفرق بين أم المتصلة والمنفصلة، ومن الفرق بينهما أن المتصلة لا يكون قبلها إلا استفهام إما لفظا ومعنى، نحو: أزيد أم عمرو قائم، أو لفظا لا معنى، نحو: سواء على أقمت أم قعدت، فإن الاستفهام لفظى لا معنوى، والمنقطعة قد لا يأتى قبلها الاستفهام لا لفظا ولا معنى، وإذا تأملته مع ما بعده علمت أن (أم) قد ¬

_ (¬1) أى لمجئ الهمزة لطلب التصور.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يكون معها ما يصرفها لانقطاع ولا اتصال، حتى يعرض ذلك على المعنى ولنوضح ذلك بالأمثلة، فإذا قلت: أقام زيد أم قعد، احتمل أن يكون المعنى أى الأمرين كان منه، ويكون استفهاما واحدا لطلب التصور، وأم فيه متصلة وبذلك صرح الشيخ أبو حيان، ومثله قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالمين (¬1) إلا أن الهمزة فيه للتقرير، وكذلك: أزيد قائم أم هو قاعد، ومنه: ولست أبالى بعد فقدى مالكا … أموتى ناء أم هو الآن واقع (¬2) وكذلك لو كانت الجملتان لشخصين، وبذلك صرح الشيخ أبو حيان، وأنشد بدر الدين بن مالك - رحمه الله -: فقلت أهى سرت أم عادنى حلم واحتمل أن تكون استفهمت فى هذه المثل عن الأول، ثم أردت إضرابا عنه، واستفهاما ثانيا فتكون أم منقطعة، ويكون ذلك استفهاما عن التصديق تاليا للاستفهام بالهمزة، وعن التصديق أيضا، وقد يأتى فى بعض المثل قرينة ترجح أو تعين الاتصال، كقولك: أرضيت أم غضبت، أو الانقطاع كقولك: أقمت أم طلعت الشمس؛ ولذلك اجتمع العقل والنقل على أن أم منقطعة فى قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها (¬3) ولو قلت: ألهم الإكرام أم لهم الإهانة، لكانت متصلة قطعا فقد اتفقا فى التركيب اللفظى، واختلفا فى المعنى قطعا. ومن الأمثلة المحتملة أيضا قولك: أعندك زيد أم عندك عمرو، والظاهر فيه الاتصال، واضبط هذا المثال فسيحتاج إليه فيما بعد، وإذا قلت: أقام أم لم يقم، فكذلك غير أنه يبعد أن تكون أم فيه منقطعة؛ لأنه يلزم أن يكون فيه إضراب عن الأول إلى الاستفهام عن الثانى، وذلك ¬

_ (¬1) سورة ص: 75. (¬2) البيت من الطويل، وهو لمتمم بن نويرة فى ديوانه ص 105، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر 7/ 51، وأوضح المسالك 3/ 368، وجواهر الأدب ص 187، والدرر 6/ 97، وشرح الأشمونى 2/ 421، وشرح التصريح 2/ 142، وشرح شواهد المغنى 1/ 134، ومغنى اللبيب 1/ 41، والمقاصد النحوية 4/ 136، وهمع الهوامع 2/ 132. (¬3) سورة الأعراف: 195.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما يكون فى سنن لا يستلزم الاستفهام عن أحدهما الاستفهام عن الآخر، ولا شك أن قولك: أقام يفهم ما يفهمه قولك: أم لم يقم من التردد فى القيام، ويشهد لما قلناه قول الزمخشرى فى قوله تعالى أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ (¬1) أن أم فيه متصلة، وأن المعنى: أفلا تبصرون أم أبصرتم. وقد نقل ابن عطية وغيره هذا التقدير عن سيبويه، فإن توهم متوهم أنه لا يصح قولنا: أقام أم لم يقم، لعدم فائدة ذكر أم، فهذه الآية الكريمة بتفسير سيبويه والزمخشرى قاطعة لتوهمه، ثم له من الفائدة تعيينه لطلب التصديق، وقد يقال: كيف تكون أم فيه متصلة، وقد قلتم: إن أقام زيد معناه: أم لم يقم، وأنه استفهام تصديق؟ فإذا صرح بهذا المعنى فقيل: أم لم يقم، كيف ينقلب استفهام تصور كما سبق؟ وإذا قلت: زيد أم عمرو قائم فلا يخفى أنها متصلة، وأنه استفهام تصور عن المسند إليه، وإذا قلت: أقائم أم قاعد زيد فاستفهام عن المسند للتصور، وهى متصلة، وإذا قلت: أزيدا أم عمرا ضربت، فمتصلة وهو استفهام عن تصور المفعول، هذا كله إذا ذكرت أم، فإن لم تذكر فقلت: أقام زيد احتمل أن تكون لطلب التصديق، وأن تكون لطلب تصور المسند، وأن تكون لطلب تصور المسند إليه؛ لأن ذلك قد يصدر من متردد فى وقوع قيام زيد، ومن جازم بوقوع قيام، ويشك فى المسند إليه، ومن جازم بوقوع فعل من زيد، ويشك أنه القيام أو لا، فالمعنى على الأول: أقام أو لا، وعلى الثانى: أقام زيد أم عمرو، وعلى الثالث: أقام زيد أم قعد، وكذلك أزيد قائم، غير أن الظاهر أن الاستفهام عن التصديق؛ لأن النسب هى الجديرة بالاستفهام؛ ولذلك كان إيلاء الفعل لهمزة الاستفهام وتأخير الاسم أولى من العكس، إذا تقرر ذلك فلنلحقه بفائدة وهى الاستفهام عن التصديق، هل يكون المطلوب به الثبوت أو الانتفاء؟ قال ابن مالك فى المصباح: الاستفهام طلب ما فى الخارج أن يحصل فى الذهن من تصور أو تصديق موجب، قيل: أو منفى، فحكى قولين فى أن استفهام التصديق يستفهم به عن النفى أو لا، وكأنه أشار بقوله: قيل إلى ما ذكرناه عن المفتاح، ولعله فهم أن الاستفهام عن التصديق تارة يطلب به الثبوت، وتارة يطلب به الانتفاء، والذى يظهر والله أعلم أن هذا ليس مراده، فإن الاستفهام لا يطلب به الثبوت ولا الانتفاء، وإنما يطلب به ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 51، 52.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواقع منهما فى الوجود وهو أحدهما لا بعينه، فقول السكاكى: أو الانتفاء، ليس معناه أو طلب تعيين الانتفاء، بل المراد طلب تعيين أحدهما، وإنما بدر الدين فهمه على غير وجهه، وكيف يتخيل أن يطلب بالاستفهام إحدى النسبتين بعينهما، فحينئذ القولان اللذان ذكرهما بدر الدين فاسدان؟ فإن قلت: لعل صاحب المصباح أراد الإثبات والنفى اللفظيين. قلت: ذلك بعيد من كلامه، وإن أراد ذلك فممنوع، فإنه يصح لك أن تقول: ألم يقم زيد، ولعل الذى أوقعه فيه أن غالب ما ورد من ذلك ليس على بابه، بل التوبيخ أو التقرير مثل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (¬1)، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (¬2)، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ (¬3)، وقول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمى … بما لاقت لبون بنى زياد (¬4) وقوله: ألستم خير من ركب المطايا … وأندى العالمين بطون راح (¬5) ولكن يرد عليه قوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ (¬6) فقد تقدم أن تقديره عند سيبويه، أم أبصرتم وأنها متصلة، وإذا كانت متصلة كان الاستفهام على بابه، ويرد عليه إجماعهم على أقام زيد أم لم يقم، فإن لم يقم مستفهم عنه، سواء كانت متصلة أم منقطعة، وقد صرح الجزولى وغيره بوقوع الاستفهام المحض عن النفى، وإنما خالف فى ذلك أبو على الشلوبين فمنعه، ورد عليه ابن مالك فى باب لا بقوله: ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد … إذا ألاقى الّذى لاقاه أمثالى (¬7) ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 36. (¬2) سورة الكهف: 75. (¬3) سورة الرعد: 44. (¬4) البيت من الوافر، وهو لقيس بن زهير فى الأغانى 17/ 201. (¬5) البيت من الوافر، وهو لجرير فى ديوانه ص 85، 89، والجنى الدانى ص 32، وشرح شواهد المغنى 1/ 42، ولسان العرب 7/ 101 (نقص)، ومغنى اللبيب 1/ 17، وبلا نسبة فى الخصائص 2/ 463، 3/ 269، ورصف المبانى ص 46، وشرح المفصل 8/ 123، والمقتضب 3/ 292. (¬6) سورة الزخرف: 51. (¬7) البيت من البسيط: لقيس بن الملوح فى ديوانه ص: 178، وجواهر الأدب ص 245، وخزان الأدب (4/ 70)، وتاج العروس (ألا).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقى هنا سؤال، وهو أنه قد يقال: الاستفهام لا يكون إلا لطلب التصديق؛ لأنه إذا قصد تعيين المسند إليه، فأنت تطلب العلم بوقوع النسبة الخاصة من المسند إليه الخاص، فإذا قلت: زيد أم عمرو قائم كنت طالبا لتصديقين معا قيام زيد وقيام عمرو، وقد يجاب بأن طلب النسبتين الخاصتين وقع هنا التزاما، وليس هو عين المستفهم عنه، بل لازم له، وقد ظهر بهذا أن طلب التصديق لا بد منه بكل حال إما استقلالا أو تبعا، وقد يعكس هذا فيقال: كل استفهام فهو طلب تصور لأنك إذا قلت: أقام زيد، فالمعنى: أقام أم لم يقم، فمعناه: أى المحتملين وقع قيامه أم عدم قيامه؟ و (أى) إنما يسأل بها عن التصور فأنت تعلم أحد الأمرين لا محالة؛ لأن النقيضين لا يرتفعان وأنت تريد تعيين الواقع منهما فصار كقولك: أقائم أم قاعد زيد فى أنه لتصور المسند، وما من استفهام إلا يمكن أن يقال معه: أى، وقد تقرر أنها إنما يسأل بها عن التصور، وجوابه أنا لا نسلم أن أيا يصلح فى قولك: أقام زيد أم لم يقم إذا قلنا: إنه استفهام تصديق، وكيف يكون ذلك وهما استفهامان وليس كل استفهام يصلح أن يقال فيه: أى من جهة المعنى؟ وإن صلح من جهة اللفظ ألا ترى أنك لو قلت فى قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ (¬1): إنه يصح أن يعبر عنه بأن يقال: أى الأمرين لهم الأرجل أم الأيدى، لكنت مخالفا لضرورة العقل، وإن صح لفظا وبعد أن انكشف الغطاء عن ذلك فلنعد لشرح كلام المصنف، فالهمزة يطلب بها أيهما كان من تصديق أو تصور، ومثل المصنف استفهام التصديق بقولك: أقام زيد، وأزيد قائم وليس على إطلاقه، بل ذلك حيث كان المراد أم لم يقم، وأردت الانقطاع، فإن كان المراد أم عمرو أو أم قعد فلا كما سبق، فإن قيل: عذره فى ذلك أن هذه الصيغة عند الإطلاق ظاهرة فيما ذكره، قلنا: ظاهرة فى أن المعنى: أم لم يقم، لكن ليست ظاهرة فى أن أم منقطعة، وأما تمثيله بزيد قائم، فلا يصح على شئ من التقادير: أما على أن يكون المعنى أم عمرو أو أم قاعد، فواضح، وأما على أن المعنى: أم لم يقم فهو لا يصح على رأى المصنف؛ فإنه يرى أن الذى يلى الهمزة هو المستفهم عنه، فتعين أن يكون هو المسند إليه، لا الجملة، وإن كنا نوافق المصنف على ما قاله، بل نصحح هذا المثال لما سيأتى، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 195.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما الاستفهام عن التصور فإما عن تصور المسند إليه، ومثله المصنف بقولك: أدبس فى الإناء أم عسل، وهو مثال صحيح وإما عن تصور المسند، ومثله المصنف بقولك: أفى الخابية دبسك أم فى الزق، وفيه تساهل؛ فإن فى الخابية ليس مسندا، بل المسند الاستقرار الذى هو عامل فى هذين الجارين والمجرورين، ويمكن تأويل كلامه على أنه لم يرد بالمسند الظرف، بل الاستقرار الذى يتعلق به الظرف، وإما عن تصور شئ من تعلقات المسند، ولم يذكره المصنف، وكلام الخطيبى يوهم نفيه، وليس كما قال وذلك قولك: أزيدا أم عمرا ضربت، ويصح التمثيل له بما مثل به المصنف للاستفهام عن المسند، وهو أفى الخابية دبسك أم فى الزق. قوله: (ولكونها) أى: الهمزة (لا تختص بتصور ولا تصديق) مقلوب صوابه أن يقال: لا يختص بها تصور ولا تصديق، وإن كان الواقع أن الهمزة لا تختص بالتصور ولا بالتصديق؛ لأن كلا منهما يوجد فى استفهام بغيرها، وكل من التصور والتصديق لا يختص بالهمزة؛ لأنها استعملت فى الآخر، ولكن المصنف يريد أن الهمزة تستعمل فيهما، والتعبير عن ذلك أن يقول: لكون الهمزة لا يختص بها تصور ولا تصديق، بل تخرج عن كل منهما للآخر لم يقبح كذا وكذا، ثم على المصنف اعتراض، وهو أن عدم قبح ما سيذكره ليس ناشئا عن استعمال الهمزة فى التصور والتصديق، كما ذكره، بل هو ناشئ عن استعمالها فى التصور فينبغى أن يقول: ولكونها لا يختص بها تصديق لم يقبح: أزيدا ضربت، وأزيد قائم، والذى ذكره الشارح أن لذلك حالتين إن أريد التصور لم يقبح، وإن أريد التصديق قبح لما سيأتى من قبح نظيره فى هل قلت المراد أنك إذا قلت: أزيدا ضربت كان محتملا لأن تريد أضربت أم لم تضرب فيكون طلب تصديق فيقبح، وأن يكون المراد عمرا فيكون طلب تصور فلا يقبح، وهذا الذى ذكره فاسد؛ لأن المصنف والشارح المذكور قالا: إن المستفهم عنه هو ما يلى الهمزة فتعين أن يكون المستفهم عنه هو (زيدا) فيكون تصورا؛ ولذلك جزم المصنف بعدم قبحه؛ لأنه لا يحتمل عنده غير التصور، نعم يمكن أن يقال: (زيدا) هو المستفهم عنه، فتارة يستفهم عنه أهو الذى وقع له التخصيص بالضرب، أو لا وذلك طلب تصور، وتارة يستفهم عن ثبوت تخصيصه بالضرب؛ لأن تقدير: أزيدا ضربت: أما ضربت أحدا إلا زيدا، وأنت لو صرحت بذلك لكنت طالبا للتصديق والمستفهم عنه هو زيد باعتبار تخصيصه فلم يخرج

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ زيدا أن يكون مستفهما عنه، أى: عن اختصاصه كأنك قلت: أشاركه أحد أم لا؟ وإنما قلنا ذلك محافظة على أن يكون المستفهم عنه ما يلى الهمزة على رأى المصنف. بقى النظر فيما هو موضوع اللفظ، والذى يظهر إن قلنا بالاختصاص أن موضوع اللفظ طلب التصديق، وأن التقدير: أما ضربت أحدا غير زيد، لكن المصنف قال: إن ذلك لا يصح، وكأنه لاحظ أن المعنى طلب التصور، وهو واضح عند تقدير عدم الاختصاص، أما على تقدير الاختصاص ففيه عسر؛ لأن مدلول زيدا عرفت ما عرفت إلا زيدا، فإذا دخلت الهمزة صار معناه: ما عرفت إلا زيدا، وذلك استفهام تصديق وما ذكره المصنف يؤدى إلى أن يكون التقدير: أزيدا الذى ما ضربت إلا هو، وفى تنزيل اللفظ عليه عسر، نعم يشكل على أنه إذا كان لطلب التصديق فى الموجب لقبحه. قولكم: لأن التخصيص يستدعى حصول التصديق؛ قلنا: مسلم؛ ولكن التخصيص يستدعى التصديق بإسناد أصل الفعل لا حصول التصديق بالاختصاص، فقولك: أزيدا ضربت، يستدعى حصول التصديق بأن ثم مضروبا، وليس هو المستفهم عنه، بل المستفهم عنه اختصاصه بالمضروبية، ولم يحصل به تصديق، ويمكن أن ينازع فى أصل حصول التصديق؛ لأن قولك: أزيدا ضربت إذا جعلناه للاختصاص وحللناه لنفى وإثبات صار كقولنا: أما ضربت إلا زيدا، وأنت لو قلت: ما ضربت أحدا غير زيد لما دل على ضرب زيد إلا بالمفهوم الذى ينكره كثير من الناس، ولو كانت غير استثنائية، فالاستثناء من النفى ذهب ذاهبون إلى أنه ليس بإثبات ثم قال: (والمسئول عنه بها ما يليها) أى: المسئول عنه بالهمزة هو ما يليها مثال ذلك: أقائم أم قاعد زيد إذا استفهمت عن المسند، وإن استفهمت عن المسند إليه قلت: أزيد أم عمرو قائم، أو عن تعلقات الفعل قلت: أزيدا أم عمرا ضربت، وأقائما أو جالسا ضربت، وقوله: (كالفعل فى أضربت زيدا) عبارة توهم أن المراد الفعل فقط، ويكون لتصوير المسند، وإنما تريد عن وجود الفعل ويكون استفهام تصديق كما بينه فى الإيضاح، وقد تقدم الكلام على ما فى هذا المثال من النظر، وقوله: (والفاعل فى أأنت ضربت) يريد به الفاعل المعنوى لا الصناعى، فإنه لا يتقدم على فعله، وقد يقال: هذا يفضى إلى أن أزيد قام استفهام عن زيد لا عن القيام، وذلك يفضى إلى أنه لا يصح: أزيد قام أم قعد، وأنه لا يصح أزيد فعل كذا، حتى يكون الفعل قد تحقق وقوعه، وفيه بعد، ثم يخدش

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما جزموا به من أن المستفهم عنه ما يليها نص سيبويه فيما نقله شيخنا أبو حيان عنه، قال فى تمثيله: أزيد عندك أم عمرو، وأزيدا لقيت أم بشرا فتقديم الاسم أحسن، ولو قلت: ألقيت زيدا أم عمرا لكان جائزا حسنا، أو قلت: أعندك زيد أم عمرو كان جائزا حسنا، كما جاز: أزيد عندك أم عمرو، وتقديم الاسمين جميعا مثله وإن كان ضعيفا. انتهى كلام سيبويه. واختاره الشيخ أبو حيان، ثم نقول:" إذا كان مع الهمزة أم وجعلنا المستفهم عنه ما يليها يلزم تقديم الاسمين؛ لأن المستفهم عنه أحدهما، فلا يحصل تقديم المستفهم عنه إلا بتقديمهما، وقد قال سيبويه: إنه ضعيف، ثم إن السكاكى والمصنف جعلا من أمثلة الاستفهام عن التصديق قولك: أزيد منطلق، ولو كان المستفهم عنه، هو زيد لكان ذلك طلبا للتصور لا للتصديق ثم نقول: التصديق ليس له لفظ واحد يلى الهمزة بل معناه دائر بين المبتدأ والخبر، فلا يمكن أن يلى لفظة الهمزة إلا أن يقال: المعتبر فيه هو الفعل، ثم نقول: يستحيل أن يلى الهمزة المستفهم عنه، بل بعضه. ألا ترى أن المستفهم عنه فى قولك: أزيدا ضربت أم عمرا المضروب مبهما لا زيد فقط، ثم قوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (¬1) يلزم أن يكون استفهاما عن المسند إليه، وليس كذلك بل عن النسبة بدليل: أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (¬2) وقول المصنف: (والمسئول عنه بها هو ما يليها) ظاهر، وقوله: بها وذكره لذلك فى هذا المحل وقطعه النظير عن النظير دون ذكره لذلك فى أول الكلام أو آخره - يقتضى أن غيرها من أدوات الاستفهام لا يطلب بها ما يليها، وليس كذلك، بل غيرها يشاركها فى ذلك، وقد ذكره الطيبى فى التبيان. (تنبيه): قولنا: لا يستفهم عن المسند إليه حتى يتحقق حصول مطلق النسبة، قد يلزم أن تكون النسبة ماضية فلا يصح: أزيد سيقوم أم عمرو، وليس كذلك، بل يستفهم عن الفعل المستقبل وعن فاعله إذا ترجح وقوعه، وهذا مع كونه واضحا صرح به صاحب الأقصى القريب. (تنبيه): إن قيل: التصديق مسبوق - بالتصور، فإذا حصل التصديق كيف يطلب التصور، وقد قلتم: إنه تارة يسأل عن التصور والتصديق معلوم؟ قلنا: إنما نعنى بالتصديق اعتقاد وجود النسبة فمن قال: أزيد قام أم عمرو مصدق بأن ثم قياما لكنه يجهل فاعله. ¬

_ (¬1) سورة يونس: 59. (¬2) سورة يونس: 59.

اداة الاستفهام

وهل خ خ: لطلب التصديق فحسب؛ نحو: هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ ولهذا امتنع: هل زيد قام أم عمرو؟ وقبح: هل زيدا ضربت؟ لأنّ التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل دون: هل زيدا ضربته؟ خ خ، لجواز تقدير المفسّر قبل (زيدا). ـــــــــــــــــــــــــــــ [اداة الاستفهام] (هل) لطلب التصديق: ص: (وهل لطلب التصديق ... إلخ). (ش): الأداة الثانية (هل) وهى لطلب التصديق، وقول المصنف (فحسب) أى: فقط، وهذه الكلمة ملازمة للإضافة معنى وتقطع عنها لفظا، فتبنى على الضم فى الأكثر، وقد أوضحنا ما يتميز به طلب التصديق فى الهمزة وأمثلته وهى بعينها أمثلة الاستفهام بهل، وعبارة الطيبى فى التبيان: هل مختصة بطلب التصديق، وهى فاسدة. والصواب أن طلب التصديق مختص بها، وذلك كقولك: هل قام زيد؟ ولا يحتاج أن نقول هنا على أحد التقادير؛ لأنه لا يصلح إلا للتصديق فيحمل عليه، وقوله: وهل عمرو قاعد؟ فيه ما سبق من البحث، وذكر المثالين؛ لأن أحدهما جملة اسمية والآخر فعلية، ثم قال: (ولهذا) أى: ولكون هل لا يطلب بها إلا التصديق (امتنع هل زيد قام أم عمرو)؟ لأن أم المتصلة إنما تستعمل عند طلب التصور وإرادة التعيين بعد العلم بالنسبة، والتصديق طلب النسبة فيلزم طلبها وكونها حاصلة، وهما متنافيان. قال السراج تبعا لصاحب المفتاح: بخلاف أم المنقطعة فيجوز أن تعادل هل فنقول: هل قام زيد أم قعد بشر؟ قال سيبويه: تقول هل تأتينى أم تحدثنى؟ قلت: (أم) لا تقع بعد (هل) إلا منقطعة؛ لأنها لا يطلب بها إلا التصديق ولا تكون (أم) معه إلا منقطعة كما سبق، ولأنه يشترط فى اتصالها أن يكون قبلها استفهام بالهمزة. قال ابن الصائغ: ولا يجوز استعمال (أم) بعد (هل) إلا أن تريد المنقطعة، كقوله: ألا ليت شعرى هل تغيّرت الرّحى … رحى الحرب أم أضحت بفلج كما هيا (¬1) قال سيبويه: هو على كلامين، فقول السكاكى حينئذ: امتنع أن يقال: هل عندك عمرو أم بشر؟ بخلاف: أم عندك بشر، يقضى بأن هذا التركيب ممتنع وأن (أم) هذه ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لمالك بن الريب فى ديوانه ص 46، والأزهية ص 127 وخزانة الأدب 11/ 294، وشرح أبيات سيبويه 2/ 113، والكتاب 3/ 178 ولسان العرب 11/ 616 (مثل)، وبلا نسبة فى اللامات ص 155.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ متصلة، وقد اعترض عليه فى ذلك، ولا اعترض؛ لأنه يعنى أنا إذا لم نقدر عندك قبل العاطف تكون (أم) هذه متصلة، وهذا التركيب ممتنع عند البيانيين لما قاله، وعند النحاة لعدم تقدم الهمزة فلو ساغ هذا التركيب لكانت (أم) هذه متصلة. نعم إطلاق امتناع: هل قام زيد أم عمرو، من السكاكى والمصنف فيه نظر؛ لأنه إنما يمتنع حيث لم يقدر فعل قبل العاطف، فإن قدر جاز، وكان على كلامين كما صرح به ابن الصائغ واقتضاه كلام سيبويه، ونص عليه ابن مالك فى شرح الألفية وقال السكاكى: إنه يقبح: أعندك زيد أم عندك عمرو بانقطاع (أم)، قلت: بل ينبغى أن يمتنع؛ لأن الظاهر من (أم) هذه أنها متصلة، فإنه على معنى: أعندك زيد أم عمرو، ولا فرق بينهما إلا أن هذا جملتان ولا أثر لذلك فى الاتصال وعدمه، بل يكون المعنى على كلامين فى الثانى منهما استفهام مع إضراب، وهذا المثال يظهر منه أنه استفهام واحد ولا إضراب، فالظاهر أن (أم) فيه متصلة، وأنه لا يجوز قوله: وقبح هل زيدا ضربت؟ لأن التقديم على ما قرره يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل، والمستفهم عنه لا بد أن يكون غير حاصل وقت الطلب، فقولك: هل زيدا ضربت؟ لا يكون استفهاما عن التصديق؛ لأنه تحصيل الحاصل، ولا عن التصور؛ لأن (هل) لم توضع له، وقد تقدم ما عليه من الاعتراض. قال الشارح: وإنما قال: (قبح)، ولم يقل: (امتنع) وإن كان ما ادعاه جمعا بين متنافيين فهو يقتضى المنع؛ لأنه يحتمل أن يكون مفعولا بمحذوف تقديره: هل ضربت زيدا ضربته، لكن هذا التقدير بعيد؛ لأن فيه حذف عامل المفعول المذكور، وحذف مفعول الثانى؛ فلذلك كان بعيدا فكان الحمل على غيره راجحا، وقيل: إنما حكم بقبحه دون امتناعه؛ لأن الذى أدى إلى الامتناع هو التخصيص، والتخصيص ليس بلازم، بل راجح ولا سيما فى نحو: هل رجل قام، فلو كان التخصيص لازما لامتنع هذا التركيب، فلما كان المفضى إلى الامتناع راجحا كان هذا قبيحا لمخالفته الراجح. قال المصنف: (دون ضربته) أى: لا يقبح: هل زيدا ضربته؛ لأن القبح إنما جاء فى: هل زيدا ضربت لتحقق التقديم المقتضى للاختصاص المقتضى لحصول التصديق بالنسبة، وأما: هل زيدا ضربته، فيجوز أن يكون العامل فى (زيدا) متقدما عليه، التقدير: هل ضربت زيدا ضربته، فلا يكون فيه تقديم فلا اختصاص فليس فى الجملة ما يقتضى التصديق فصح الاستفهام بهل عن التصديق. قلت: وما ذكره المصنف من

وجعل السكاكىّ قبح: هل رجل عرف؟ لذلك، ويلزمه ألا يقبح: هل زيد عرف؟ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ صحة: هل زيدا ضربته، وعدم قبحه، ومن قبح: هل زيدا ضربت المقتضى لجوازه فى الجملة ممنوع؛ فإن أدوات الاستفهام غير الهمزة إذا وقع بعدها الفعل والاسم قدم الفعل على الاسم، ولا يجوز تقديم الاسم على الفعل إلا فى ضرورة شعر. هذا نص ابن عصفور فى المقرب، وقال سيبويه فى باب ما يختار فيه النصب من أبواب الاشتغال: ولو قلت: هل زيد ذهب؟ لم يجز، وكذلك قال غيره، وقال شيخنا أبو حيان: لو قلت: هل زيدا ضربت لم يجز إلا فى الشعر، فإذا جاء فى الكلام. هل زيدا ضربته، كان ذلك على الاشتغال. هذا مذهب سيبويه، وخالفه السكاكى، وجوز أن يليها الاسم، وإن جاء بعده الفعل. انتهى. وإنما المصنف تبع فى ذلك قول الزمخشرى فى المفصل فإنه قال: فصل وقد يجئ الفاعل ورافعه مضمر، إلى أن قال: والمرفوع فى قولهم: هل زيد خرج فاعله فعل مضمر يفسره الظاهر، لا يقال: إذا قدر الفعل قبل الاسم فإنما وليها الفعل؛ لأنا نقول: مرادهم أن يليها الفعل لفظا، وهذا كما أن لم وقد وسوف ولن لما كان الفعل مختصا بها لم يلها إلا صريح الفعل، وكذلك لو على مذهب البصريين، وإن كان الصحيح خلافه لمصادمته لقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ (¬1) ثم نقول: إن جاز ذلك على رأى الكسائى وجب فيه الاشتغال، وتقدير الفعل قبله، وحينئذ فلا تقديم فلا اختصاص فلا قبح، فحينئذ قبح هذا باطل قطعا، بل هو بين امتناع وحسن، فجوازه مع قبحه لم يقل به قائل، ثم يرد على الزمخشرى من جهة المعنى ما سيأتى، ثم اعترض المصنف على السكاكى بأنه جعل قبح: هل رجل عرف، للتقديم المفيد للاختصاص قال: ويلزمه أن لا يقبح: هل زيد عرف؛ لأنه يرى أن نحو: زيد عرف ليس فيه اختصاص. قلت: ومن أين للمصنف أن السكاكى يوافق على قبح: هل زيد عرف، إذا كان المقتضى لقبح: هل رجل عرف، عنده إنما هو التقديم المفيد للاختصاص، بل قد يكون له وقد لا يكون، وإنما يقول به غالبا إذا لم يكن للابتداء بالنكرة مسوغ سواه، وقولنا: هل رجل عرف، للابتداء بالنكرة فيه مسوغ، وهو حرف الاستفهام فليس متعينا للاختصاص، ولا راجحا فيه، فكان من ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 100.

وعلّل غيره قبحهما بأنّ (هل) بمعنى قد فى الأصل. وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها فى الاستفهام. ـــــــــــــــــــــــــــــ حقه أن يفصل فيه بين أن يقصد الاختصاص، فيقبح أو لا فلا يقبح، والزمخشرى لا فرق عنده بين زيد عرف، ورجل عرف فى إفادتهما الاختصاص، وقد جوز هذين التركيبين ولم يقبحهما، وسببه أنه يرى أن العامل سابق فلا تقديم فلا اختصاص، لكن يلزمه القول بقبحهما؛ لأن المستفهم عنه ما يلى الأداة فيلزم أن يكون هو المسند إليه هنا فيكون تصورا، وهو لا يجوز بها ولا عذر عن ذلك، إلا أن يقال: المستفهم عنه ما يليها إما لفظا أو تقديرا، والذى ولى هنا تقديرا الفعل قوله: (وعلل غيره) أى: علل غير السكاكى قبح: هل زيد عرف وهل رجل عرف (بأن هل فى الأصل بمعنى قد) كما جاء فى قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (¬1) فإذا استعملت فى الاستفهام كان أصله أن يؤتى معها بالهمزة إلا أنه لما كثر وقوعها فى الاستفهام تركوا الهمزة، وكما قبح: قد زيد عرف، يقبح هل زيد عرف. هذا معنى كلام المصنف. قلت: قوله: أصل هل أن تكون بمعنى قد، إن عنى به أنها حال كونها استفهامية بمعنى قد فهو بعيد؛ لأن ذلك يخالف إطباق المعربين على تسميتها حرف استفهام، وإن عنى أن معناها الأصلى قد، ثم استعملت فى الاستفهام، فذلك ممنوع ولو صح لا يقضى بمساواتها لقد فى هذا الحكم، وقولهم: إنهم تركوا الهمزة قبلها؛ لكثرة وقوعها فى الاستفهام يعنى أنها لما كانت متعينة للاستفهام استغنى عن ذكر همزته وفيه نظر؛ لأنه ليس كل شئ كان متعينا لشئ يلتزم فيه ترك أداة ذلك الشئ، فترك الهمزة قبلها لئلا يجمع بين حرفى استفهام لا لكثرة وقوعها فى الاستفهام، والذى أوقع المصنف فى ذلك كلام الزمخشرى فى المفصل حيث قال: وعند سيبويه: أن (هل) بمعنى (قد) إلا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لا تقع إلا فى استفهام، وقد جاء دخولها عليها فى قوله: سائل فوارس يربوع بسدتنا … أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الإنسان: 1. (¬2) البيت من البسيط، وهو لزيد الخيل فى ديوانه ص 155، والجنى الدانى ص 344، والدرر 5/ 146 وشرح شواهد المغنى 2/ 772، وشرح المفصل/ 152، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص 358، والأشباه والنظائر 2/ 427، 7/ 55، وتذكرة النحاة ص 78، وجواهر الأدب ص 281.

(هل) تخصص المضارع بالاستقبال

وهى تخصص المضارع بالاستقبال، فلا يصحّ: هل تضرب زيدا وهو أخوك؟ "، ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أخذ على إطلاقه يلزم أن تكون (هل) حيث وقعت بمعناها، فتخرج عن الاستفهام بالكلية، والذى أوقعه فى ذلك قول سيبويه، وكذلك (هل) إنما هى بمنزلة (قد) إلا أنهم تركوا الألف واللام قبلها إذا كانت لا تقع إلا فى الاستفهام، وقد أول السيرافى كلام سيبويه على أن المراد أن (هل) يستقبل بها الاستفهام، كما أن قد يستقبل بها الخبر وقال السيرافى فى هذا البيت: وهذا غير معروف، والرواية أم هل رأونا، وقال ابن مالك: (هل) يتعين مرادفتها لقد إذا دخلت عليها الهمزة، ورد عليه شيخنا أبو حيان وقال: لا تقع مرادفة لها أصلا وخرج البيت على الزيادة وبالجملة فهما وأكثر النحاة متفقون على أنه عند إرادة الاستفهام ليست بمعنى قد، وقد أورد بعض الشارحين أنها لو حملت على قد لامتنع: هل زيد قائم، كما امتنع: قد زيد قائم، وأجيب بأنها حملت على الهمزة فى ذلك، وإنما لم تحمل على الهمزة فى عدم قبح: هل زيدا ضربت؛ لأنها وجدت ما تستحقه، فلم تحمل على ما هو غير أصلها، وبالجملة ما ذكره الزمخشرى من كون (هل) بمعنى (قد) إن أراد المرادفة فهو فى غاية البعد، وأما قول المصنف: إنها فى الأصل بمعنى (قد) وما أوهمه كلامه من أن أصلها ذلك، ثم صارت للاستفهام، فلم يقل به أحد فيما علمت. (هل) تخصص المضارع بالاستقبال: ص: (وهى تخصص المضارع بالاستقبال ... إلخ). (ش): لما كانت (هل) ليست أصلا فى الاستفهام، بل فرعا تقاصرت عن الهمزة فاختص المضارع بعدها بالاستقبال، فلا يجوز أن تقول: هل تضرب زيدا، وهو أخوك لأن هذا استفهام توبيخ، والتوبيخ لا يكون على المستقبل إنما يكون على الحال أو الماضى، واستفهام التوبيخ لا يكون إلا بالهمزة، ويصح أن تقول: أتضرب زيدا وهو أخوك توبيخا على ضرب واقع. هذا مراد المصنف، ومراده بالحال حال الضرب فلا يتوهم ما يوهمه كلام بعضهم من أنه يمتنع لأجل الحال الصناعية فى قوله: وهو أخوك، وكلام السكاكى شاهد لما قلناه، لأنه قال: وهو فى حال الفعل لم يبق إلا أن يقال: لا نسلم أن التوبيخ لا يكون إلا على مستقبل، فربما يوبخ على مستقبل لظهور القرائن من وعيد وغيره على أنه سيقع ثم وقعت بنقل يشهد لما قلت: إنه مراد المصنف، وهو أن سيبويه قدر فى قول الشاعر:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فما أنا والسّير فى متلف … يبرح بالذكر الضابط (¬1) ما كنت وقدر فى قولهم: كيف أنت وقصعة من ثريد؟ كيف تكون بالمضارع، قال ابن ولاد وجماعة: إنما قدر كنت مع ما وقدر تكون مع كيف؛ لأن ما أنت والسير استفهام توبيخ، وهو لا يكون إلا على ماض بخلاف كيف أنت وقطعة من ثريد، ونقل ذلك جماعة من النحاة ولم يردوا على القائل: إن استفهام التوبيخ لا يكون إلا على ماض، بل منهم من وافقه، ومنهم من قال: إن سيبويه لم يقصد ذلك فثبت بهذا أن استفهام التوبيخ لا يكون إلا على ماض، ذكروا ذلك فى باب المفعول معه، ثم رأيت القاضى التنوخى قال فى الأقصى القريب: إن الإنكار قد يكون على مستقبل، وجعل منه قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ (¬2) وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (¬3) قال: أنكر أن حكم الجاهلية مما يبغى لحقارته، وأنكر عليهم سلب العزة عن الله تعالى، وهو منكر فى الماضى والحال والاستقبال، وهو كلام لا ينتهض لدفع ما ذكره الأئمة من أن الآيتين لا دليل فيهما؛ لأن الإنكار فيهما وقع على ماض، وإن كان منكرا، سواء أوقع ماضيا أم مستقبلا، ولا يشهد له قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ (¬4) لأن الاستبدال وهو طلب البدل وقع ماضيا نعم قد يشهد له قوله تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ (¬5) وكذلك قول الشاعر: أأترك إن قلّت دراهم خالد … زيارته إنّى إذا للئيم (¬6) ¬

_ (¬1) البيت من المتقارب: لأسامة بن حبيب الهذلى، فى الدرر (3/ 157)، شرح أشعار الهذليين، ولسان العرب (عبر). (¬2) سورة المائدة: 50. (¬3) سورة الزمر: 37. (¬4) سورة البقرة: 61. (¬5) سورة غافر: 28. (¬6) البيت من الطويل، وهو لعمارة بن عقيل بن جرير الشاعر، وخالد المذكور هو ابن يزيد بن الشيبانى، يمدحه ويذم تميم بن خزيمة النهشلى بقصيدة منها البيت.

(هل) لاختصاص التصديق بها إلى آخره

ولاختصاص التصديق بها، وتخصيصها المضارع بالاستقبال: كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيّا أظهر؛ كالفعل؛ ولهذا كان فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (¬1) أدلّ على طلب الشكر من: فهل تشكرون؟ خ خ، فهل أنتم تشكرون؟ خ خ؛ لأن إبراز ما سيتجدّد فى معرض الثابت أدلّ على كمال العناية بحصوله، ومن: أفأنتم شاكرون؟ خ خ؛ وإن كان للثبوت؛ لأن (هل) أدعى للفعل من" الهمزة"؛ فتركه معها أدلّ على ذلك؛ ولهذا لا يحسن: هل زيد منطلق؟ إلا من البليغ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (هل) لاختصاص التصديق بها إلى آخره: ص: (ولاختصاص التصديق بها إلى آخره). (ش): يريد أن (هل) لها مزيد اختصاص بما هو أظهر فى الزمان عن الهمزة، كالفعل فإن الفعل أظهر فى الزمان من الاسم؛ لأنه يدل عليه تضمنا على الصحيح، والاسم المشتق وإن دل على الزمان فدلالته التزامية، وقوله: كالفعل مقتضى الكاف أن شيئا آخر أظهر فى الدلالة على الزمان من غيره، ويحتاج إلى مثال؛ فإن دلالة الفعل على الزمان أظهر من دلالة الاسم، وليست دلالة الاسم أظهر من غيرها، وغيرهما لا يدل بالكلية على الزمان إلا أن يقال: إن اسم الفعل يدل على الزمان دلالة متوسطة بين دلالتى الفعل وسائر الأسماء، إذا تقرر هذا فهذا الاختصاص بالفعل نشأ عن كل واحد من الأمرين السابقين. أحدهما: تخصيصها بالمضارع، وهذا واضح؛ لأنها إذا كانت تخصص المضارع بالاستقبال صار لها فيه تأثير يوجب اختصاصا، فإذا كان لها تأثير فى المضارع وهو أخص من الفعل صار لها تأثير فى مطلق الفعل ضرورة. الثانى: اختصاص التصديق بها؛ لأن الفعل صفة لكونه عرضا، والمطلوب بالتصديق لا يكون إلا صفة لأنه حكم بالإثبات أو النفى لأنهما لا يتوجهان إلى الذوات من حيث إنها ذوات، بل لما يتعلق بها من وجود وعدم، فثبت لكل واحد من الأمرين أن (هل) لها مزيد اختصاص بالفعل (ولهذا) إذا ثبت هذا الاختصاص (كان قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أدل على طلب الشكر من قولنا: فهل تشكرون، ومن قولنا: فهل أنتم تشكرون؛ لأن إبراز ما سيتجدد) وهو الفعل فى ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالب الثابت المستقر، بحيث تكون الجملة اسمية، والمبتدأ والخبر فيها اسمان (أدل على كمال العناية بحصوله) من إبقائه على أصله من الإتيان بالفعل، وكذا: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أدل على طلب الشكر من: أفأنتم شاكرون؛ لأن ترك الفعل من (هل) أدل على كمال العناية لتحويله عن أصله، بخلاف الهمزة، وقول المصنف: فهل أنتم تشكرون، أخذه من السكاكى، وفيه نظر؛ فإن هذا التركيب لا يصح كما سبق من وجوب تقديم الفعل فيه على الاسم لفظا، إلا إن كان فرعه على القول الضعيف، وقد أورد أن ما ذكره المصنف قد يعكس فيقال: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أقل دلالة من أفأنتم شاكرون؛ لأن الجملة الاسمية الدالة على الثبوت لا معارض لها مع الهمزة، فلا تنقص قوتها الثابتة، إلا إذا غلب فأما إذا لم يغلب فلا أثر له، وعندى أن السؤال أقوى من الجواب، وجوابه عندى أن (هل) لا دلالة لها على التجدد، بل الفعل هو الدال عليه، فإذا لم يوجد فليس فيها شئ يعارض بالجملة الاسمية، وكونها لها اختصاص بالفعل الدال على التجدد لا يقضى لها بدلالة على التجدد؛ حيث لا فعل. قوله: (ولهذا) أى: ولكون هل أدعى من الهمزة للفعل (لا يحسن: هل زيد منطلق، إلا من البليغ) لأن البليغ لا يستعمل ذلك إلا حيث كان يستفهم عن استمرار الانطلاق، ويحوله لذلك عن الإتيان بالفعل بخلاف غيره. قلت: والكلام إذا ذكرت قواعده استعمله من له فهم، وهذا لا يختص بهذا المحل، وإنما يصرف البيانى كل كلام إلى قواعده، بناء على أنه إذا على أصل وضعه فى اللغة، وأما من لا يتكلم على الوضع فليس الكلام معه، فهذا فيه نظر إن كان المراد بأنه لا يحسن أنه لا ينبغى أن يقع فيكون فى معنى النهى، وإن كان المراد الإخبار بأن ذلك لا يحسن إلا إذا صدر من البليغ، فإن صدر من غيره لم يحسن، أى: لم يستحسن لعدم العلم بأن كلامه مطابق بقرينة. (تنبيه): قول المصنف: ولاختصاص التصديق بها هو الصواب، وعبارته فى الإيضاح: ولاختصاصها بالتصديق، والصواب ما فى التلخيص فإن (هل) لا تختص بالتصديق، ولو اختصت به لما استفهم عن التصديق بالهمزة، بل التصديق مختص بهل بمعنى أن (هل) لا تكون بغيره. أما قول المصنف: وهى تخصص المضارع بالاستقبال فهو مقلوب، فإن الاستقبال قد يكون للفعل الماضى، ثم هذه العبارة لا ينبغى أن يقع المضارع بعدها للحال،

هل قسمان: بسيطة ومركبة

وهى قسمان: بسيطة: وهى التى يطلب بها وجود الشئ، كقولنا: هل الحركة موجودة؟ خ خ. ومركبة: وهى التى يطلب بها وجود شئ لشئ؛ كقولنا: هل الحركة دائمة؟ خ خ. والباقية: لطلب التصوّر فقط. قيل: فيطلب ب ما شرح الاسم؛ كقولنا: ما العنقاء؟ أو ماهية المسمّى؛ كقولنا: ما الحركة؟ وتقع (هل) البسيطة فى الترتيب بينهما (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ بل الصواب أن يقال: تخصص الاستقبال بالمضارع بمعنى أنه لا يكون المضارع إلا للاستقبال، وهو المقصود وكذلك قوله فى الهمزة مقلوب كما سبق. هل قسمان: بسيطة ومركبة: ص: (وهى قسمان إلى آخره). (ش): يعنى أن (هل) قسمان: أحدهما: تسمى بسيطة، وهى التى يطلب بها وجود الشئ كقولنا: هل الحركة موجودة؟ والثانى: مركبة وهى التى يطلب بها وجود شئ لشئ كقولنا: هل الحركة دائمة؟ ولك أن تقول: لا يطلب وجود شئ إلا لشئ؛ لأن الوجود لا يقوم بنفسه، ولكن المراد بالأول الصفة، وبالثانى حال يعرض للصفة، ثم لك أن تقول ذلك، ولكن لا يختص بهل بل الهمزة كذلك، ثم البساطة والتركيب ليسا فى (هل) بل فى متعلقها. ثم قوله: يطلب بها وجود يرد عليه أنه قد يطلب بها العدم والتحقيق أنه لا يطلب إلا النسبة الواقعة من وجود وعدم، فليحمل قولهم الوجود على تحقق النسبة من وجودها وعدمها. (تنبيه): ذكر بعضهم أن الهمزة لا يستفهم بها حتى يهجس فى النفس إثبات ما يستفهم عنه بخلاف (هل)، فإنه لا يترجح عنده نفى ولا إثبات، نقله شيخنا أبو حيان، وللهمزة وهل أحوال معنوية سنعقد لها فصلا فى آخر الباب، ولها أحكام لفظية محلها علم النحو. بقية ألفاظ الاستفهام يطلب بها التصور إلى آخره: ص: (والباقية يطلب بها التصور إلى آخره). (ش): هذا هو القسم الثالث وهو ما يطلب به التصور فقط، وهى بقية ألفاظ الاستفهام، وقد استدل عليه بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) أى بين (ما) التى لشرح الاسم والتى لطلب الماهية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صادِقِينَ (¬1) فإن" إن كنتم صادقين" يدل على أن المطلوب التصور وعلى أن من شرط طلبه تقدم التصديق، ألا تراه معلقا على الصدق، وبقية ألفاظ الاستفهام تقاس على متى، وقوله: الباقية إن أراد باقى ما ذكره فصحيح، وإن أراد باقى ألفاظ الاستفهام فيرد عليه أم المنقطعة، كما تقدمت الإشارة إليه فإنها لا تكون إلا للتصديق بخلاف المتصلة، فإنها لا تكون إلا للتصور، ولا شك أنها من أدوات الاستفهام وقد عدها معهن السكاكى فى المفتاح، ووجهه أنها إن كانت متصلة فالاستفهام فيها واضح، أو منقطعة فهى مقدرة ببل، والهمزة لا يقال: إن كانت متصلة فليست مستقلة بالاستفهام؛ لأنها لا تستعمل إلا مع الهمزة، وإن كانت منقطعة ففيها إضراب؛ لأنا نقول: كون المتصلة لا تستعمل إلا مع الهمزة لا يخرجها عن الاستفهام، ولا شك أن كل واحد مما قبلها وما بعدها مستفهم عنه، وكون المنقطعة فيها إضراب لا يخرجها عن أن تكون استفهامية؛ لأن الاستفهام جزء معناها أو أحد معنييها، وإنما نعنى المنقطعة التى فيها الاستفهام دون المتمحضة للإضراب، وقد صرح النحاة بعدّ (أم) من حروف الاستفهام، وذكره الشيخ أبو حيان وغيره، إذا عرف ذلك، فمن ألفاظ استفهام التصور" ما" ويطلب بها أحد أمرين، إما شرح الاسم، أى: شرح مدلول الاسم لغة، وكان الأولى أن يقول: الكلمة لتعم الفعل والحرف، لكنه ذكر الاسم لمشاكلته للمسمى أو يقال: الاستفهام عن الفعل والحرف يرجع إلى الاستفهام عن الاسم؛ لأنك إذا قلت: ما ضرب، وما من تقديره" ما" مدلول ضرب وما مدلول من، وإما أن يطلب بها ماهية المسمى كقولك: ما الإنسان؟ وتريد شرح الحقيقة الإنسانية، وإنما سمى الأول شرح الاسم؛ لأن تقديره" ما" مدلول هذا الاسم وما وضع له وتقدير الثانى: ما هذه الماهية التى هى مسمى هذا الإنسان، فإن الشخص قد يعرف أن الإنسان اسم لرجل من بنى آدم، تقول: ما الإنسان؟ سائلا عن حقيقته، وأول هذين القسمين، وهو السؤال عن الاسم يكون متقدما فى الزمان عن قسمى (هل) أى: عن الاستفهام بهل البسيطة، وبهل المركبة؛ لأن شرح الاسم سابق عليهما، لأن الاستفهام عن ثبوت شئ، أو عن ثبوت شئ لشئ فرع عن معرفة معنى اسم ذلك الشئ، فتقول أولا: ما العنقاء، ثم تقول: هل هى موجودة؟ ثم تقول: هل هى تستمر أبدا؟ وأما القسم الثانى وهى" ما" التى يطلب بها المسمى، فهو متقدم على المركبة؛ فهى متوسطة بين ¬

_ (¬1) سورة الملك: 25.

(من) للاستفهام للعارض المشخص

وب (من): العارض المشخّص لذى العلم؛ كقولنا: من فى الدار؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ " هل" البسيطة" وهل" المركبة، لأن طلب وجود الشئ مسبوق بالعلم بماهية ذلك الشئ تقول: ما الحركة؟ فإذا عرفت مدلولها لغة، تقول: هل هى موجودة؟ فإذا عرفت أنها موجودة تقول: ما هى؟ أى: ما ماهيتها؟ فإذا عرفتها تقول: أهى دائمة؟ لأن الاستفهام عن وجود الشئ لا يشترط أن يكون مسبوقا بالعلم بماهية ذلك الشئ، وأما العلم بدوام ذلك الشئ فإنه يستدعى العلم بحقيقته، كذا قالوه، ولا يخلو عن نظر؛ فإنه إن كان السؤال عن الدوام يستدعى سبق علم الماهية فالسؤال عن الوجود كذلك. (من) للاستفهام للعارض المشخص: ص: (وبمن عن العارض المشخص لذى العلم كقولنا: من فى الدار). (ش) من ألفاظ الاستفهام عن التصور" من" فإن قلت: إذا كانت" من" لا يسأل بها إلا عن التصور فكيف حصل الجواب عن قول عيسى عليه مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ (¬1) وهو طلب تصور كما زعموا بالتصديق، وهو قول الحواريين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ «1» قلت: أجاب الوالد - رحمه الله - فى بعض تعاليقه عن ذلك بأن" من" وإن كانت سؤالا عن التصور فالسائل بها تارة يجزم بحصول المبهم، ولكن يسأل عن تعيينه؟ وتارة لا يجزم، كمن يرجو ناصرا يجوز أن لا يوجد، ويرجو أن يوجد ويطلب تعيينه، فقوله: من أنصارى، محمول على ذلك قاله عيسى - عليه الصلاة والسّلام - راجيا من الله تعالى إقامة ناصر له، سائلا عن عينه، فهو سؤال عن التصديق والتصور، لكنه أخرجه مخرج التصور ثقة بالله سبحانه وتعالى وأدبا معه تعالى ومع السامعين، فكان الأكمل السؤال عن التصور، وجعل السؤال عن التصديق مطلوبا فيه. والحواريون تفطنوا لذلك فأجابوا بالتصديق ليحصلوا المقصودين معا كأنهم قالوا هنا: من ينصرك وهم نحن، وقالوا: أنصار الله؛ لأن نصرته نصرة الله، بمعنى نصرة دينه وليبينوا أن نصرتهم له خالصة لله لا يشوبها غيره من حظوظ البشرية. (تنبيه): قولنا: من عندك؟ يطلب بها التصور لا التصديق كما سبق؛ لأنه يتضمن أمرين: أحدهما: استقرار شخص أو أشخاص عند المخاطب، وأن المتكلم عالم بذلك فلا يسأل عنه. ¬

_ (¬1) سورة الصف: 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى: تعيين ذلك الشخص أو الأشخاص، وهو المطلوب بالسؤال فهو تصور محض، وإن كان يستلزم نسبة الاستقرار عند المخاطب إلى ذلك الشخص، وهو أخص من النسبة التى كانت حاصلة للمتكلم أو لا؛ لأنها نسبة الأعم ذكره الوالد - رحمه الله - قال: ومن هنا غلط بعض الناس فظن أن المطلوب بها التصديق. (فائدة): تترتب على هذا ذكرها الوالد أيضا أن الجواب مفرد لا مركب، ولا يقدر له مبتدأ ولا خبر، فإذا قلت: من عندك؟ فقيل: زيد، كان بمنزلة قولك: ما الإنسان فتقول: حيوان ناطق، فهو ذكر حد يفيد التصور فقط، وعلى ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (¬1) وقد جاء فى الآية الأخرى: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (¬2) وهو ابتداء كلام يتضمن الجواب، وليس اقتصارا على نفس الجواب بخلاف الآية قبلها. (فائدة أخرى): تترتب على ذلك يقال فى الجواب عن ذلك: زيد، إن كان واحدا، أو زيد وعمرو وإن كانا اثنين، أو زيد وعمر وبكر إن كانوا ثلاثة، وعلى هذا إلى أن يستغرق، ولو ذكر بعض من عنده لم يكن جوابا صحيحا، بل الجواب المطابق ما لا يزيد ولا ينقص، كما أن الجواب الصحيح بالحد أن يكون جامعا مانعا، ومن هنا تعلم أن المسئول عنه بمن هو ماهية من عنده، أعم من القليل والكثير، وبه تعلم أن" من" الاستفهامية ليست للعموم فى الإفراد، بل للماهية بخلاف ما قاله الأصوليون؛ حيث استدلوا بذلك على العموم فإن أرادوا العموم بالمعنى الذى ذكرناه فصحيح، وإن أرادوا أنها تدل على الإفراد فممنوع. (فائدة أخرى):" من" صالحة للمذكر والمؤنث، وللمفرد والمثنى والمجموع، هذا حظ النحوى منها، وحظ الأصولى أنها للعموم. قال الوالد - رحمه الله فهل - العموم فى جميع هذه المراتب أو فى الآحاد، وتظهر فائدة ذلك إذا قال من دخل دارى من هؤلاء فأعطه درهما، فإن قلنا بالأول أخذ كل واحد درهما، وإن قلنا بالثانى أخذ كل واحد درهما بدخوله ونصف درهم بدخوله مع آخر، وإن دخل ثلاثة فعلى الأول يعطيهم ثلاثة لكل واحد درهم، وعلى الثانى يعطيهم ثلاثة؛ بدخول الآحاد لكل واحد ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 87. (¬2) سورة الزخرف: 9.

وقال السكاكى: يسأل ب (ما) عن الجنس؛ تقول: ما عندك؟، أى: أى أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه: كتاب ونحوه، أو عن الوصف؛ تقول: ما زيد؟ وجوابه: الكريم ونحوه، وب من عن الجنس من نوى العلم؛ تقول: من جبريل؟ أى: أبشر هو أم ملك أم جنّىّ؟: وفيه نظر (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ درهم، ودرهما بدخول الثلاثة لكل واحد ثلثه وثلاثة، لأن صفة الأعمية فيهم ثلاث مرات فيستحقون بها ثلاثة لكل واحد درهم فمجموع ما يستحقونه سبعة، وعلى هذا القياس قال: ولم أره منقولا ولا مخلص عنه فيما يظهر لى الآن، إلا أن يقال: لا عموم لها إلا فى مراتب الأفراد، ولكن الأسبق إلى الفهم أنها عامة فيما يصلح، وهى تصلح للأفراد ولمجموع الأفراد، ولكل مرتبة من مراتب المثنى والمجموع، وفيه احتمال آخر، وهو أنه لا يعطى المجموع إلا درهما ومأخذه ما حققناه من أن" من" لا تدل على الأفراد، بل على الماهية مجردة عن وحدة وتعدد، ويظهر أثر ذلك فى النفى فإذا قلت: لا تشتم من يشتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة ومعناه غير معنى لا تشتم كل من شتمك، إذا عرف ذلك، فقول المصنف يسأل بها عن العارض، يعنى أن الكلى لا يوجد فى الخارج إلا فى ضمن جزئى وذلك الجزئى مشخص لذلك الكلى فزيد مثلا عارض لماهية الإنسان الكلى ومشخص لها، فتقدير كلامه يسأل بمن عن الشئ العارض للماهية الكلية المشخص لها كقولك: من فى الدار؟ فتقول: زيد، المعنى أى: عارض مشخص لحقيقة الإنسان هو، ومثله المصنف فى الإيضاح بقولك: من فلان؟ فتقول: زيد، وهو فاسد؛ لأن فلانا كناية عن العلم فكيف يجاب بذكر العلم؟ ولعل المراد إذا قال شخص: فلان يعمل كذا فتقول: من فلان؟ فيقال: زيد، لكن فى الاستفهام عن ذلك بمن فيه نظر، فينبغى أن يقال: ما فلان؟ لأنه استفهام عن الاسم، فليكن بما سبق، وأورد عليه المصنف أن ما ذكره لا يطرد؛ لأنك تقول: من زيد؟ كقوله: للجارية السوداء: (¬2) " من أنا"؟ وقوله تعالى: مِنْ فِرْعَوْنَ (¬3) على قراءة الاستفهام، ولست تطلب بها مشخصا لذى العلم؛ لأن زيدا هو المشخص، (وقال السكاكى: يسأل بما عن الجنس تقول ما عندك؟ أى: أى الأجناس عندك؟) وجوابه: إنسان أو حيوان، مثلا ¬

_ (¬1) إذ لا نسلم أنه للسؤال عن الجنس وأنه يصح فى جواب" من جبريل" أن يقال: ملك، بل يقال: ملك من عند الله ونحوه مما يفى تشخصه. (¬2) هو حديث الجارية المشهور الذى أخرجه مسلم فى" المساجد ومواضع الصلاة" باب: تحريم الكلام فى الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة (ح 537)، عن حديث معاوية بن الحكم السلمى. (¬3) سورة الدخان: 31.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن الجنسية شاملة، قال تعالى: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (¬1) أى: أى جنس خطبكم؟ فكان جوابهم بعين جنسهم، وهو قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا (¬2)، ويسأل بما عن الوصف، تقول: ما زيد؟ وجوابه: كريم أو فاضل، وبمن عن الجنس من ذوى العلم، تقول: من جبريل؟ أى إنسىّ أم ملك؟ قال فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (¬3) أى: من أى جنس؟ قال المصنف: وفيه نظر، يريد أنه لا يقال فى جواب: من زيد؟ هو بشر، ونحوه كذا ادعاه، قيل: وهو ممنوع، بل يقال فى جوابه ذلك، قلت: لعل المصنف لاحظ أن" من" إنما تستعمل لما يعقل والجنس الكلى ليس بعاقل؛ لأنه حقيقة كلية، ولا يسأل عنه بمن؛ ولذلك قال النحاة: إنه حيث أريد الجنس يؤتى بما، وقال بعض شراح المفتاح: إنه يسأل" بمن" عن الجنس أى الحقيقة، والحقيقة أعم من المطلقة والمقيدة، فإذا قيل: من فلان؟ فالسؤال عن الحقيقة المقيدة بالشخص، فيجاب بالحقيقة المشخصة، كما يقال: إنه بشر، صفته كيت وكيت، فيصح الجواب بنحو: جنى أو بشر، لا مطلقا بل مقيدا، فالمثال الذى أورده صاحب الإيضاح ليس منافيا لما قاله صاحب المفتاح، والذى قاله فى الإيضاح: إنه يجاب بزيد صحيح، لأن معنى زيد البشر المتصف بصفات معينة. انتهى. ولا يرتاب أن" من" يسأل بها عن المشخص كما قال المصنف، ويدل عليه قراءة بعضهم: مِنْ فِرْعَوْنَ (¬4) على قراءة الرفع وقوله صلّى الله عليه وسلّم:" من أنا" (¬5) وهو سؤال عن الصفات، وقد وقع السؤال بها عن الاسم، كحديث الإسراء:" من أنت؟ قال: أنا جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلّى الله عليه وسلّم" (¬6)، وقيل: إنما نظر فيه من جهة أن قوله: يسأل بما عن الجنس، وعن الوصف يخرج عنه السؤال عن النوع وعن الحد وفيه نظر؛ لأنه إنما أراد بالجنس الكلى، وهو أعم من الجنس والنوع، يدل عليه أنه جعل من جبريل سؤالا عن الجنس، وقال: إن جوابه يصح بأن يقال: بشر، وهو نوع لا جنس، ويحتمل أن يكون نظر فيه من جهة قول السكاكى إنه يسأل بما عن الوصف، فإن المنطقيين قالوا: لا يسأل عن الصفات المميزة بما، بل يسأل عنها بأى، وإنما يسأل بما عن مفهوم اللفظ، وعن حقيقة الشئ؛ ولذلك انفرد ¬

_ (¬1) سورة الذاريات: 31. (¬2) سورة الذاريات: 32. (¬3) سورة طه: 49. (¬4) سورة الدخان: 31. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) هذا حديث الإسراء أخرجه بطوله البخارى فى" الصلاة"، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، (1/ 547)، ومسلم فى" الإيمان"، (ح 163)، عن أبى ذر.

يسأل بأى (عما) يميز أحد المتشاركين فى أمر يعمهما

وب أىّ عما يميّز أحد المتشاركين فى أمر يعمّهما؛ نحو: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً (¬1) أى: أنحن أم أصحاب محمّد (عليه السّلام)؟. ـــــــــــــــــــــــــــــ النوع والجنس بأن كلا منهما مقول فى جواب ما هو، بخلاف الفصل والخاصة والعرض العام، وقد يجاب عنه بأن مراد السكاكى أنها قد تخرج عن حقيقتها، فيستفهم بها عن الصفات، وهذا لا ينافى كلام المنطقيين فإنهم إنما يتكلمون فى موضع اللفظ الحقيقى، وما ذكره السكاكى يوافق كلام ابن الشجرى فإنه قال: يقال: ما معك؟ فتقول: درهم أو ثوب أو فرس، ويقال: من معك؟ فتقول: زيد، فيقال بعد ذلك فى السؤال فى صفته: فما زيد؟ فتقول: رجل فقيه أو طويل أو بزاز انتهى. ولم يذكر المصنف أن" من" يسأل بها عن الوصف، وقال بعض الشارحين: إن" من" يسأل بها عن الوصف، كما يسأل بما، إذ لا فرق بينهما إلا إن ما لما لا يعقل. قلت: وهذا الفرق يلجئ إلى أنها لا يسأل بها عن الوصف؛ لأن الوصف ليس بعاقل، فلا يسأل عنه بمن التى هى للعاقل، فإنه أراد بالوصف نحو: عالم وقائم، فإنه يسمى وصفا باصطلاح النحاة فقد دخل ذلك فى قولنا: إن" من" يسأل بها عن العارض المشخص على ما سبق. (تنبيه): قد يعترض على السكاكى فى قوله: يسأل" بما" عن الجنس، فيقال: ما عندك؟ أى: أى الأجناس، فيقال: أى لما يميز أحد المتشاركين عن الآخر فى أمر يعمهما، وما على رأى السكاكى سؤال عن الجنس، وكيف يفسر أحدهما بالآخر، وجوابه أن يقال: الأجناس مشتركة فى مطلق حقيقة الجنسية، فيسأل بأى عن الجنس، أى تعيين الجنس من بين الأجناس فتأتى بأى لتميز جنسا معينا بين مطلق الجنسية. يسأل بأى (عما) يميز أحد المتشاركين فى أمر يعمهما: ص: (ويسأل بما عما يميز أحد المتشاركين فى أمر يعمهما نحو: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً (¬2) أى: أنحن أم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ (ش): أى من أسماء الاستفهام، فإذا أريد به الاستفهام يسأل بها عن شئ يميز، أى: يعين، ولو قال: يطلب بها التمييز لصح، وقوله: فى أمر يتعلق بالمتشاركين، والمراد أنه يطلب بأى تمييز أحد المتشاركين فى أمر من الأمور شامل لهما، سواء كان ذاتيا أم غيره، مثاله: قولك: أى الرجلين أو الرجال عندك؟ فالرجلان مثلا مشتركان فى الرجولية، وهو أمر يعمهما، والذى يميز أحدهما هو الوصف الذى يذكره المجيب، ¬

_ (¬1) سورة مريم: 73. (¬2) سورة مريم: 73.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتمييزه يقع باعتبار النسبة التى تضمنتها عندك، ومنه قوله تعالى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً الأمران المشتركان هما الفريقان، ولكن لا بأس باعتبار ما يشتركان فيه أيضا من الإقامة المدلول عليها بقوله تعالى: خَيْرٌ مَقاماً والذى يميز أحدهما من الآخر هو الجواب بالتعيين، والأمر الذى يقع التمييز به هو الخيرية، هذا هو الظاهر والمراد بالعموم حينئذ عموم الشمول، ويحتمل أن يقال: معناه: ما يميز أحد المتشاركين بالنسبة إلى أمر يعمهما باعتبار الصلاحية، فقولك: أى الرجلين قام؟ يكون الأمر أن فيه الرجلين والأمر الذى يعمهما باعتبار الصلاحية هو القيام، وهو الذى يقع التمييز فيه، فإن قلت: السكاكى قال: إنه يسأل" بمن" عن الجنس فتقول: من جبريل؟ أملك أم بشر؟ وقد قال هنا فى: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها (¬1): معناه الإنسى أم الجنى؟ فيلزم اتحاد الاستفهام" بمن"" وبأى" قلت: أخذه هناك باعتبار الجنسية، وهنا باعتبار دورانه بين ما يصلح فيه، ولا شك أن بين السؤال" بأى"" وبمن" على رأى السكاكى عموما، وخصوصا من وجه فإن أيا يطلب بها تمييز أحد المتشاركين فى شئ أعم من أن تكون تلك الأفراد أجناسا أم غيرها، إلا أنه خاص بتلك الأفراد، ويسأل بما عن الأجناس أعم من أن تكون محصورة فى أشياء معينة أو لا، إلا أنه خاص بالأجناس واعلم أن إطلاق البيانيين هنا يقتضى أن أيا يسأل بها عن المتشاركين فى أى شئ كان، وهو مخالف لكلام المنطقيين، فإنهم جعلوا السؤال عن الجنس والنوع ما هو، والسؤال عن الفصل أى شئ هو، وهو يقتضى أن لا يقال: أى شئ زيد، ويريد السؤال عن الجنس أو النوع. بقى على المصنف فى قوله:" أحد المتشاركين" فإنه إن كان قاله بالتثنية فيرد عليه الجمع مثل: أى الرجال وهم متشاركون، لا متشاركان وبأن قال: متشاركين بالجمع والواو والنون، فيرد عليه نحو: أى الثياب أو الثوبين فإنه لا يقال فيه: متشاركين، بل متشاركة أو متشاركين، وقد يجاب بأنه إنما قال: متشاركين بالتثنية ومراده بهما المسئول وغيره، سواء كان واحدا أم أكثر، فإذا قلت: أى الرجال قام؟ معناه: زيد أم غيره. ¬

_ (¬1) سورة النمل: 38.

(كم) للاستفهام عن العدد

وب كم خ خ: عن العدد؛ نحو: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (¬1). وب كيف": عن الحال. ـــــــــــــــــــــــــــــ (كم) للاستفهام عن العدد: ص: (وبكم عن العدد نحو: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ). (ش):" كم" تقع فى الغالب للاستفهام عن العدد، فإذا قلت: كم درهما لك؟ كأنك قلت: أعشرون أم ثلاثون، وقد يكون الشئ واحدا فيكون التمييز لأجزائه، وقد يحذف المميز ويقال: كم درهمك؟ وكم مالك؟ أى: كم دانقا؟ وكم ثوبك؟ أى كم شبرا، وكم زيد ماكث؟ أى: كم يوما، وكم رأيتك؟ أى: كم مرة، وكم سرت؟ أى: كم فرسخا، أو كم يوما؟ قال تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ (¬2) أى: كم يوما، أو كم سنة، أو كم ساعة. قال الفرزدق: كم عمّة لك يا جرير وخالة … فدعاء قد حلبت علىّ عشارى قال المصنف: على رواية النصب، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية، فعلى الأول يقدر المميز منصوبا، وعلى الثانى مجرورا. قلت: والذى يظهر من جهة المعنى أن المراد الخبرية، وقول المصنف: إنه على رواية النصب يتعين الاستفهام ليس صحيحا، فإن كم الخبرية قد تنصب المميز، وعلى ذلك أنشد سيبويه هذا البيت، وأنشده ابن عصفور على ذلك، وأما على رواية الجر فتتعين الخبرية أيضا. (كم) للاستفهام عن الحال: ص: (وبكيف عن الحال). (ش): أى: ويستفهم بكيف الاستفهامية عن الحال، تقول: كيف زيد أصحيح أم سقيم؟ أطويل أم قصير؟ وفى كلام بعضهم أنه إنما يسأل بها عن الصفات الغريزية لا الخارجية، وإنه لا يقال: كيف زيد أقائم أم قاعد؟ قلت: ويرد عليه قوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ (¬3) فإنه بمعنى فأتوا حرثكم كيف شئتم على ما ذكره هو، وهى حال غير غريزية، وفى كلام النحاة وغيرهم أن معنى كيف: على أى حال، ولا يتوهم من هذا أن كيف أخص من أى. قال بدر الدين بن مالك: ليست (كيف) موضوعة لهذا المعنى، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 211. (¬2) سورة الكهف: 19. (¬3) سورة البقرة: 223.

(أين) للاستفهام عن المكان

وب أين خ خ: عن المكان. وب متى خ خ: عن الزمان. وب أيّان خ خ: عن الزمان المستقبل، قيل: وتستعمل فى مواضع التفخيم؛ مثل: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ بل تستلزمه، ألا ترى أن جوابها إنما هو بالصفات لا بالمصادر. اه. قال شيخنا أبو حيان: وهو كلام جيد. (أين) للاستفهام عن المكان: ص: (وبأين عن المكان، وبمتى عن الزمان). (ش): يعنى أين إذا كانت استفهاما، وهذا واضح تقول: أين زيد؟ جوابه: فى السوق أو فى البيت، وتقول: متى يحضر؟ فجوابه: اليوم أو غدا. (أيان) للاستفهام عن المستقبل: ص: (وبأيان عن المستقبل، قيل: وتستعمل فى مواضع التفخيم مثل: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ). (ش): أيان يستفهم بها عن الزمان، تقول: أيان تجئ، وقصرها المصنف على المستقبل فى هذا المختصر، ولكنه فى الإيضاح أطلق أنها للزمان، وكذلك أطلقه السكاكى، وقد مثلاه بأيان جئت وهو صريح فى أنها تستعمل للماضى، فهو مخالف لكلامه هنا، لكن ما ذكره هنا هو الصواب، وهو الذى جزم به ابن مالك والشيخ أبو حيان، ولم يذكرا فيه خلافا، وحمل ذلك على ما إذا وليها فعل دون ما إذا وقع بعدها اسم كقوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها (¬1) وفيه نظر؛ لأن مرساها المراد به المستقبل، فكذلك ما أشبهه، وقوله: قيل: وتستعمل فى مواضع التفخيم، ينبغى أن يقول: لا تستعمل إلا فى مواضع التفخيم كما هو مقصوده على ما يظهر، وقد نقله فى الإيضاح عن على بن عيسى الربعى، ومثله المصنف بقوله تعالى: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (¬2)، أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (¬3) قلت: وفى تمثيل المصنف بهذه الآية نظر فإنه كلام محكى عن الإنسان الذى يحسب أن لن نَجْمَعَ عِظامَهُ (¬4)، وذلك لا يقصد تفخيم يوم القيامة الذى لا يقر به، والمشهور عند النحاة أنها" كمتى" تستعمل فى التفخيم وغيره. ¬

_ (¬1) سورة النازعات: 42. (¬2) سورة الذاريات: 12. (¬3) سورة القيامة: 6. (¬4) سورة القيامة: 3.

استعمالات أنى

وإنّى خ خ: تستعمل تارة بمعنى كيف خ خ؛ نحو: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (¬1)، وأخرى بمعنى من أين خ خ؛ نحو: أَنَّى لَكِ هذا (¬2) ... ـــــــــــــــــــــــــــــ استعمالات أنّى: ص: (وأنى إلى آخره). (ش): أنى إذا كانت استفهاما فلها استعمالات أحدها بمعنى كيف، ومن أحسن أمثلته قوله تعالى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها (¬3) وبه مثل الأعلم، والثانى بمعنى من أين، وهى عبارة سيبويه كقوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا أى: من أين، والفرق بين أين ومن أين، أن أين سؤال عن المكان الذى حل فيه الشئ، ومن أين سؤال عن المكان الذى برز منه الشئ، ويقع فى عبارة كثير أنها بمعنى أين والظاهر أن مراده من أين، وأنه تجوز فى العبارة، والثالث بمعنى متى، وقد نقل عن الضحاك فى قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، ويرده سبب النزول، وأما تمثيل المصنف وغيره لأنى الاستفهامية بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ففيه نظر؛ لأنها لو كانت هنا استفهامية لاكتفت بما بعدها؛ لأن من شرط الاستفهامية أن يكتفى بما بعدها من فعل كقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ (¬4) أو اسم مثل: أَنَّى لَكِ هذا، والذى اختاره شيخنا أبو حيان أنها فى هذه الآية شرطية، وأقيمت فيها الأحوال مقام الظروف المكانية، وجوابها محذوف، وقال قطب الدين الشيرازى: إن" أنى شئتم" فى هذه الآية الكريمة بمعنى: من أى جهة شئتم، وجعلها بهذا المعنى قسما غير كونها بمعنى من أين، وهو فاسد؛ لأن قولنا: من أى جهة شئتم مساو لقولنا: من أين شئتم فتكون بمعنى من أين. (تنبيه): لا يخفى أنك يمكن أن تستعمل لفظ أى فى جميع مواضع هذه الألفاظ المستفهم بها عن التصور، فتقول فى: أزيد أم عمرو قائم، أى: الرجلين قام؟ وفى: أقائم أم قاعد زيد، أى الأمرين فعل؟ وكذلك فى الجميع كما تقول فى اسم أبيك: أى شئ اسمه؟ وفى: ما ماهيته: أى شئ ماهيته؟ وفى: من جبريل؟ أى شئ جبريل؟ وفى كم عدد هذا؟ أى شئ هو؟ وفى: كيف زيد؟ أى حال عليه زيد؟ وفى: أين هو؟ أى مكان فيه هو؟ وفى: متى تقوم؟ أى زمان تقوم فيه؟ وفى: أنى تذهب؟ أى مكان تذهب فيه؟ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 223. (¬2) سورة آل عمران: 37. (¬3) سورة البقرة: 259. (¬4) سورة آل عمران: 47.

هذه الكلمات تستعمل كثيرا فى غير الاستفهام

ثم إن هذه الكلمات كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام؛ كالاستبطاء؛ نحو: كم دعوتك؟، ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم بين" متى" و" أيان" عموم وخصوص فإن متى أعم، وأى وما بينهما عموم وخصوص من وجه كما سبق، وأما البقية فالظاهر أنهما متباينان، وإن تلازم بعضها فإن قلت: قد قال المنطقيون: إن مقولة الكم أعم من مقولة الكيف وجودا، ويلزم منه أن يكون المسئول عنه بكم أعم من المسئول عنه بكيف، إما مطلقا أو من وجه. قلت: [لا شك أن الكم كيف لا كون تريد طوله على وجه مخصوص هو كم، وهو كيف] (¬1)، ولكن لفظ كم لا يصلح أن يحل موضعه لفظ كيف، والأخص قد يوجد على وجه يستعمل له لفظ لا يستعمل له اللفظ الموضوع للأعم، ألا ترى أنك لا تقول: كم زيد إلا إذا أردت أجزاءه، وأنها لا تستعمل إلا مع متعدد أو ذى أجزاء يصح إرادة كل منها بخلاف كيف، ولا تكاد العرب تجيز كيف دراهمك تريد كم عددها، وأيضا لو كانت" كيف" بمعنى" كم" لصح أن تقول فى نحو: كم عمة لك يا جرير وخالة كيف عمة لك، وهو ظاهر الامتناع لتغاير المعنى. هذه الكلمات تستعمل كثيرا فى غير الاستفهام: ص: (ثم هذه الكلمات كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام). (ش): يعنى أن هذه الكلمات الموضوعة للاستفهام قد تستعمل فى غيره مجازا، فمن ذلك الاستبطاء كقولك: كم أدعوك، لمن أكثرت من دعائه، ويحتمل أن يكون أريد به النهى عن التأخر، والأحسن أن يجعل الفعل مضارعا، فيقال: كم أدعوك؛ لأنه أدل على بقاء الطلب والاستبطاء، بخلاف دعوتك قد يصدر من موبخ قد انقطع غرضه من إجابة دعائه، أو بعد تعذر الإجابة، وكلام المصنف يقتضى أن ذلك لا يختص به" كم"؛ لأنه قال فى الإيضاح: وعليه قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ (¬2)، وكلام الخطيبى يقتضى أنه فهم أن ذلك فى" كم" فقط، وليس كما قال، ومن ذلك التعجب، ونعنى ما ليس معه توبيخ، وهو ¬

_ (¬1) كذا عبارة الأصل. (¬2) سورة البقرة: 214.

والتعجّب؛ نحو: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (¬1)، والتنبيه على الضلال؛ نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (¬2)، والوعيد؛ كقولك لمن يسئ الأدب: ألم أؤدّب فلانا؟ إذا علم المخاطب ذلك، والتقرير بإيلاء المقرّر به الهمزة؛ كما مر (¬3)، ـــــــــــــــــــــــــــــ يشارك الاستفهام فى أن التعجب مما خفى سببه والاستفهام يكون عما خفى نحو: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وتقول: أى رجل هو، للتعجب، ومن ذلك التنبيه على ضلال المخاطب نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وجعله السكاكى من استفهام التوبيخ والإنكار، ومنه قول أبى عمرو بن العلاء للأصمعى: أين عزب عنك عقلك؟ ومن ذلك الوعيد كقولك لمن يسئ الأدب: ألم أؤدب فلانا؟ إذا كان عالما بذلك، ومن ذلك التقرير، وسيأتى تحرير حقيقته، وقد جعل منه السكاكى على ما يوجد فى بعض نسخ المفتاح قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي (¬4) وهو مشكل؛ لأن ذلك لم يقع منه، وسيأتى حل هذا الإشكال فى آخر الكلام - إن شاء الله تعالى -. ثم يكون المقرر به تاليا للهمزة، كما مر من أن المستفهم عنه ما يلى الهمزة، وقد تقدم ما عليه من الأسئلة، فإن أردت التقرير بالجملة، قلت: أفعلت؟ وإن أردت التقرير بالمفعول قلت: أزيدا ضربت؟ وإن أردت التقرير بالفاعل قلت: أأنت فعلت؟ فإن قلت: لو كان الاستفهام فيه عن الفاعل لاستدعى العلم بالنسبة فى قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ وهو القول والقول مفعوله اتخذونى، فهو قول لا يمكن صدوره من عيسى صلّى الله عليه وسلّم، وهو لم يقله، فلم يقع التصديق بأصل النسبة فلا تكون صورة الاستفهام هنا عن الفاعل، وإنما قلنا: صورة الاستفهام، لأنه لا يخفى أن الاستفهام هنا ليس على حقيقته، قلت: قد قيل: اتخذوا عيسى إلها، وهذا القول لو صدر عنه لكان التعبير عنه باتخذونى، فعبر به فى الاستفهام، فأصل النسبة معلوم بهذا الاعتبار. قال فى الإيضاح: وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكى وجماعة فى قوله تعالى: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (¬5) إنه من هذا الباب لأنهم لم يستفهموا هل وقع كسر الأصنام؟ بل أرادوا أن يقر بكونه قد فعله، فإنما سألوا عن الفاعل؛ ولذلك أشاروا إلى الفعل بقولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا ولذلك: قالَ بَلْ فَعَلَهُ ¬

_ (¬1) سورة النمل: 20. (¬2) سورة التكوير: 26. (¬3) فى حقيقة الاستفهام من إيلاء المسئول عنه الهمزة. (¬4) سورة المائدة: 116. (¬5) سورة الأنبياء: 62.

والإنكار كذلك؛ نحو: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ (¬1)؛ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا (¬2)؛ ومنه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (¬3) أى: الله كاف عبده؛ لأنّ إنكار النفى نفى له، ونفى النفى إثبات؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ كَبِيرُهُمْ هذا (¬4) ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل، وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها؛ إذ ليس فى السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه - عليه السّلام - هو الذى كسر أصنامهم. انتهى. قلت: ما نقله عن عبد القاهر والسكاكى إنما هو تقرير لكون المقرر به هو الفاعل لا الفعل، وهذا لا يناسب قولهما: لو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل، ولا يناسب أيضا ذكر هذا بعد قوله: المقرر به ما يلى الهمزة، وعلى كل تقدير فقول المصنف: إذ ليس فى السياق أنهم كانوا عالمين فيه نظر، أما أولا فلأن الدليل لا ينحصر فيما تضمنه السياق، وهم كانوا كفارا، ولم يكن فيهم من يقدم على كسر أصنامهم، وأما ثانيا فلقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فإن" بل" فى الغالب إذا وقعت الجملة بعدها كانت إضرابا عما قبلها على وجه الإبطال له، ولو كانت استفهاما محضا قصد إبطاله بالنفى كأنهم قالوا له: أأنت فعلت؟ فقال: لم أفعل، بل فعله كبيرهم، وأما ثالثا فبالقرائن السابقة مثل: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (¬5)، قولهم: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (¬6). قال الخطيبى: ولو سلم فلا يلزم من عدم علمهم مدعى المصنف؛ لأنه ما ادعى لزوم عدم العلم، بل ادعى عدم لزوم العلم. وقوله: (والإنكار كذلك) أى: فى إيلاء المنكر الهمزة نحو: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ فالمنكر هنا المفعول، وهو غير الله عز وجل، لا نفس الدعاء، وقد يكون المنكر الفعل كقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، فالمنكر عدم كفاية الله عبده. قوله: (لأن نفى النفى إثبات) يعنى أن الإنكار إذا دخل على النفى كان لنفى النفى، وهو إثبات، ولذلك قيل: إن أمدح بيت قالته العرب: ألستم خير من ركب المطايا … وأندى العالمين بطون راح نقله ابن الشجرى فى أماليه، ولولا صراحته فى تقدير المدح لما قيل ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 40. (¬2) سورة الأنعام: 14. (¬3) سورة الزمر: 36. (¬4) سورة الأنبياء: 63. (¬5) سورة الأنبياء: 57. (¬6) سورة الأنبياء: 60.

وهذا مراد من قال: إنّ الهمزة فيه للتقرير بما دخله النفى لا بالنفى خ خ. ولإنكار الفعل صورة أخرى، وهى نحو: أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يردّد الضرب بينهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير) يعنى أن من قال: إنها للتقرير أراد تقرير ما دخله النفى وهو الله كاف عبده، ومن قال للإنكار أراد إنكار الجملة المنفية، والأول هو معنى قول الزمخشرى: إن الهمزة فى قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1) للتقرير، وما قاله متعين إن كان الخطاب فى ألم تعلم للنبى أو لا أحد من المسلمين، وإن كان الخطاب لجنس الكافر الجاحد لقدرة الله سبحانه وتعالى، فيحتمل أن يقال: الاستفهام للتوبيخ، بمعنى أنهم وبخوا على عدم العلم، وإن كان مع الكافر المعاند بلسانه فقط فيصح أن يكون استفهام إنكار وتكذيب لهم فيما يتضمنه كفرهم من قولهم: إن الله تعالى ليس كذلك، وهذه الاحتمالات الثلاثة فى أن الخطاب للمسلمين أو لأحد من المسلمين أو الجاحدين من مشركى أهل مكة أو المنكرين بألسنتهم وهم اليهود، وهى أقوال ثلاثة حكاها الإمام فيما يعود إليه ضمير: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ (¬2) فالظاهر أن الخطاب فى" ألم تعلم" للواحد من صاحب ذلك الضمير. قوله: (ولإنكار الفعل صورة أخرى) يعنى: أنه قد يلى الاسم الهمزة، ويكون المنكر الفعل، وذلك بأن يكون الفعل دائرا بين اسمين لا يتجاوزهما، فإذا أنكر وقوعه من أحدهما أو على أحدهما لزم منه إنكار الفعل (كقولك: أزيدا ضربت أم عمرا)؛ حيث لا يمكن ضرب ثالث إذا كان للإنكار، فإنه إنكار لضرب كل منهما، ويلزم من ذلك إنكار الفعل؛ لأن نفى المتعلق نفى للمتعلق؛ ولذلك قال: (لمن يردد الضرب بينهما) يعنى إذا علم أن الضرب لا يتجاوزهما لثالث. ومنه قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ (¬3) فإن المقصود إنكار أصل التحريم، وأخرج فى قالب طلب التعيين، وكذلك: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (¬4) لأنه إذا نفى الفعل عمن لا فاعل له غير المنفى عنه انتفى الفعل من أصله، ويكون استفهام الإنكار بكم وكيف مثل: كم تدعونى، وكيف تؤذى أباك، ثم استفهام الإنكار على قسمين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 106. (¬2) سورة البقرة: 108. (¬3) سورة الأنعام: 143. (¬4) سورة يونس: 59.

والإنكار: إمّا للتوبيخ، أى: ما كان ينبغى أن يكون؛ نحو: أعصيت ربّك؟ أو لا ينبغى أن يكون؛ نحو: أتعصى ربّك؟ أو للتكذيب، أى: لم يكن؛ نحو: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (¬1)، أو لا يكون؛ نحو: أَنُلْزِمُكُمُوها (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: يراد به التوبيخ، وهو من أنكر عليه إذا نهاه، أى ما كان ينبغى أن يكون هذا نحو: أعصيت ربك؟ أى: بمعنى لا ينبغى أن يكون، كقولك للرجل يركب الخطر: أتركب فى غير الطريق؟ والغرض منه الندم على ماض والارتداع عن مستقبل، ويقال: أين مغيبك للتوبيخ والتقريع؟ قال تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (¬3) وضابط هذا القسم أن يكون ما يلى الهمزة فيه واقعا، لكنه مستقبح. الثانى: للتكذيب، وضابطه أن يكون ما يلى الهمزة فيه غير واقع وقصد تكذيبهم فيه، وسواء أكان زعمهم له صريحا مثل: أَفَسِحْرٌ هذا (¬4)، أم إلزاما مثل: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ (¬5) فإنهم لما جزموا بذلك جزم من شاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم، وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد، وهو إما بمعنى لم يكن كقوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أو بمعنى لا يكون، نحو: أَنُلْزِمُكُمُوها، وقوله: أأترك إن قلّت دراهم خالد … زيارته إنّى إذا للئيم ويقال: متى قلت للجحد، وحمل الزمخشرى تقديم الاسم فى قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ (¬6) على أن المعنى: أفأنت تقدر على إكراههم على سبيل القصد؟ أى: إنما يقدر على ذلك الله، ولم يقدر السكاكى فيه تقديما، بل جملة على الابتداء دون تقدير التقديم كما هو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما فى: أنا قمت، فلا يفيد غير تقوى الحكم، ونقل فى الإيضاح عن السكاكى أنه قال: إياك أن تغفل عما سبق فى: أنا ضربت من احتمال الابتداء، واحتمال التقديم، وتفاوت المعنى بينهما، فلا تحمل قوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (¬7) على التقديم، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره، ولكن احمله على الابتداء مرادا به تقوية حكم الإنكار. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 4. (¬2) سورة هود: 28. (¬3) سورة القصص: 62. (¬4) سورة الطور: 15. (¬5) سورة الزخرف: 19. (¬6) سورة الزخرف: 40. (¬7) سورة يونس: 59.

والتهكم؛ نحو: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا (¬1)، والتحقير؛ نحو: من هذا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف: وفيه نظر؛ لأنه إن أراد أن الاسم إذا كان مظهرا وولى الهمزة لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا لما بعده، فممنوع، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير وإلا فلا على ما ذهب إليه، فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيها. انتهى. يعنى فيلزم أن لا يحصل الإنكار فى نحو:" أأنت فعلت" على شئ من التقادير عنده، ولا شك أن كلامه مشكل؛ فإن التقديم والتأخير لا تعلق له بكون المنكر أو المستفهم عنه الاسم الذى يلى الهمزة مقدر التقديم والتأخير أم لا، ومن ذلك التهكم نحو قوله: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، وقد تقدم تفسير التهكم فى باب المسند إليه، وقد قيل: إن تقدير الآية: تأمرك أن تأمر أن نترك؛ لأن الشخص لا يطالب بفعل غيره، ومن ذلك التحقير كقولك:" من هذا" و" ما هذا"؟ فإن قلت: المنكر ما يلى الهمزة على ما تقرر، والذى يليها فى قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (¬2) الإصفاء بالبنين وليس هو المنكر، إنما المنكر قولهم: إنه اتخذ من الملائكة إناثا، قلت: إما أن يقال: إن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم، وإما أن يقال: المراد مجموع الجملتين ينحل منهما كلام واحد، التقدير: جمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات، وتكون الواو فيه لمعية؛ لأن زعمهم لمجموع الجملتين أفحش من اقتصارهم على واحدة منهما، وإن كانت فاحشة، فإن قلت: فقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (¬3) لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر كما تقتضيه قاعدة أن ما يلى الهمزة هو المنكر، ولا أن يكون المنكر نسيان النفس فقط؛ لأنه يصير ذكر أمر الناس بالبر لا مدخل له، ولا مجموع الأمرين؛ لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر، ولا نسيان النفس بشرط الأمر؛ لأن النسيان منكر مطلقا، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشد منه حال عدم الأمر؛ لأن المعصية لا تزداد شناعتها بانضمامها إلى الطاعة؛ لأن جمهور العلماء على أن الأمر بالبر واجب، وإن كان الإنسان ناسيا لنفسه، وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف معصية نسيان النفس؟! ولا يأتى الخير بالشر، وقريب منه فى المعنى قوله:" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث" (¬4) فإن الرفث مذموم مطلقا. ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة هود: 87. (¬2) سورة الإسراء: 40. (¬3) سورة البقرة: 44. (¬4) أخرجه البخارى فى" الصوم"، باب: هل يقول: إنى صائم إذا شئتم، (14/ 141)، (ح 1904)، ومسلم فى" الصيام"، (ح 1151). عن أبى هريرة.

والتهويل؛ كقراءة ابن عباس - رضى الله عنه -: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ (¬1) بلفظ الاستفهام، ورفع فرعون خ خ؛ ولهذا قال: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (¬2)، والاستبعاد؛ نحو: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تنه عن خلق وتأتى مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم وليس منه: لا تأكل السمك وتشرب اللبن فى المعنى؛ لأن كلا منهما على انفراده ليس مذموما، بل المذموم مجموعهما، وكل منهما جزء علة. قلت: لا يرتاب فى أن فعل المعصية مع النهى عنها أفحش؛ لأنها تجعل حال الإنسان كالمتناقض، وتجعل القول كالمخالف للفعل؛ ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل، ولكن الجواب عن قوله: إن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها من جنسها فيه دقة، ومن ذلك التهويل كقراءة ابن عباس: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ بلفظ الاستفهام ورفع فرعون؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ فذكر ذلك عقبه يرشد لإرادة التهويل؛ ولذلك قال تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (¬4) وفى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما - فى" مرض رسول الله يوم الخميس" (¬5) إلى آخره. والتعظيم قريب من التهويل، ومن ذلك الاستبعاد مثل قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، أى: يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا عنه. هذا ما ذكره المصنف فى التلخيص، وزاد فى الإيضاح أنه قد يراد به التعجب والتوبيخ معا، كقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ (¬6) وزاد أيضا الأمر نحو قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (¬7)، وقوله تعالى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الدخان: 30 - 31. (¬2) سورة الدخان: 31. (¬3) سورة الدخان: 13 - 14. (¬4) سورة القارعة: 10. (¬5) الحديث أخرجه البخارى فى" الجهاد والسير"، باب: هل يستشفع أهل الذمة؟ ومعاملتهم، (3053)، ومسلم فى" الوصية"، (ح 1637). (¬6) سورة البقرة: 28. (¬7) سورة الأنبياء: 108. (¬8) سورة القمر: 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد تقدم أن" هل" تستعمل فى التمنى فهذا أيضا مما نحن فيه، وزاد غيره التهديد، ومثله: بألم أؤدب فلانا؟ وقد تقدم التمثيل به للوعيد. ولا شك أن معناهما متقارب، وزيد أيضا العرض نحو: ألا تنزل فتصيب خيرا؟ والتحضيض كقولك: لمن بعثته لمهم فلم يذهب: أما ذهبت؟ والزجر، كقولك لمن يؤذى أباه: أتفعل هذا؟ ذكر الثلاثة فى المصباح، وقد تأتى الهمزة للأمر كما قيل فى قوله سبحانه وتعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ (¬1) معناه أسلموا. وتأتى الهمزة للتسوية المصرح بها، كقوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ (¬2) وغيرها، كقوله سبحانه وتعالى حكاية: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ (¬3). وقال أبو سعيد السيرافى فى: علمت أزيد فى الدار أم عمرو؟ هذا ليس باستفهام، والمتكلم به بمنزلة المسئول عنه، والمخاطب بمنزلة السائل. وقد خرجت الهمزة أيضا عن معناها فى أرأيتك موافقة أخبرنى قال فى المصباح: وقد تأتى للمبالغة فى المدح كقوله: بدا فراغ فؤادى حسن صورته … فقلت هل ملك ذا الشّخص أم ملك أو فى الذم كقول زهير: فما أدرى وسوف أخال أدرى … أقوم آل حصن أم نساء (¬4) أو التدله فى الحب كقوله: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا … ليلاى منكن أم ليلى من البشر (¬5) وعليه اعتراض سيأتى فى البديع، والتحقيق فى أكثر هذه الأمور رجوعها إلى الاستفهام الحقيقى. (تنبيه): هذا النوع من خروج الاستفهام عن حقيقة يسمى الإعنات، وسماه ابن المعتز تجاهل العارف، وهل تقول: إن معنى الاستفهام فيه موجود، وانضم إليه معنى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 20. (¬2) سورة البقرة: 6. (¬3) سورة الأنبياء: 111. (¬4) البيت من الوافر: لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص: 73، والاشتقاق ص: 46، ومغنى اللبيب ص: 41، 139. (¬5) البيت من البسيط، للمجنون فى ديوانه ص: 130، للعرجى فى شرح التصريح (2/ 298)، والمقاصد النحوية (1/ 416).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آخر أو تجرد من الاستفهام بالكلية؟ محل نظر، والذى يظهر الأول ويساعده ما قدمناه عن التنوخى من أن" لعل" تكون للاستفهام مع بقاء معنى الترجى. وقال التنوخى أيضا فى نحو: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ (¬1): ليس استفهاما محضا، ومما يرجح الأول أن الاستبطاء فى قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء قد وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أفهم عدده، والعادة تقضى بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثر فلم يعلمه، وفى طلب فهم عدده ما يشعر بالاستبطاء، وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر؛ لأن من تعجب من شئ فهو بلسان الحال سائل عن سببه، وكأنه يقول: أى شئ عرض لى فى حال عدم رؤية الهدهد؟ وأصله أى شئ عرض له؟ لكنه قلبه إلى نفسه مبالغة فى الصفة، وأما التثنية على الضلال فى نحو قول الإنسان: أين تذهب؟ مريدا التنبيه على الضلال، فالاستفهام فيه حقيقى؛ لأنه يقول: أخبرنى إلى أى مكان تذهب فإنى لا أعرف ذلك، وغاية الضلال لا يشعر بها إلى أن تنتهى، فأما قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (¬2)، فيأتى ما حصل به تحقيق المراد منه، وأما التقرير فاعلم أنهم لم يفصحوا عن مرادهم به، فهل نقول: إن المراد به الحكم بثبوته كقولك: قررت هذا الأمر، أى: أثبته، فيكون حينئذ خبرا، فإن المذكور عقب الأداة واقع نفيا كان أم إثباتا. فالتقرير فى أَلَمْ نَشْرَحْ للفعل وهو الشرح، أو المراد أنه طلب إقرار المخاطب به، مع كون السائل يعلم، فهو استفهام يقرر المخاطب، أى: يطلب منه أن يكون مقرّا به. ورأيت فى كلام أهل الفن ما يقتضى كلا من الاحتمالين. وأنت إذا تتبعت الأمثلة فى ذلك قطعت فى بعضها بأن المراد الأول كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (¬3) إن جعلناه تقريرا، وفى البعض بأن المراد الثانى كقوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا (¬4) فإنهم يطلبون إقراره به، كما صرح به المصنف فى الإيضاح، وينتظرون جوابه، فإذا أريد باستفهام التقرير المعنى الأول فذلك خبر صرف، وإن أريد الثانى فهل معنى الاستفهام باق فيه أو لا؟ الذى يقتضيه كلام الجميع أنه لا، والذى يظهر خلافه، وأقدم عليه دقيقة وهى أن الاستفهام ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: 1. (¬2) سورة التكوير: 26. (¬3) سورة الإنسان: 1. (¬4) سورة الأنبياء: 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ طلب الفهم، ولكن طلب فهم المستفهم أو طلب وقوع فهم لمن يفهم كائنا من كان، فإذا قال: من يعلم قيام زيد لعمرو بحضور بكر الذى لا يعلم قيامه: هل قام زيد؟ فقد طلب من المخاطب الفهم أعنى فهم بكر، إذا تقرر هذا، فلا بدع فى صدور الاستفهام ممن يعلم المستفهم عنه، وإذا سلمت ذلك انزاحت عنك شكوك كثيرة، وظهر لك أن الاستفهامات الواردة فى القرآن لا مانع أن يكون طلب الفهم فيها مصروفا إلى غير المستفهم عنه، فلا حاجة إلى تعسفات كثير من المفسرين، وبهذا انجلى لك أن الاستفهام التقريرى بهذا المعنى حقيقة، وأن قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي (¬1) حقيقة، فإنه طلب به أن يقر بذلك فى ذلك المشهد العظيم تكذيبا للنصارى وتحصيلا لفهمهم أنه لم يقل ذلك، وهذا ما قدمنا الوعد به فى قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (¬2). فإن قلت: المقرر به هو ما يلى الهمزة، كما تقرر؛ فيلزم أن يكون طلب منه أن يقر بأنه قال ذلك، وهذا لم يطلب، بل طلب منه أن يقر بالواقع، والواقع أنه لم يقل: قلت: بل المطلوب منه أن يقر بالأمر الواقع، ولا ينافى هذا قولهم: إن المقرر به هو ما يلى الهمزة؛ فإن المراد أن المقرر به هو الفاعل، وتقديره: أَأَنْتَ فَعَلْتَ (¬3) أم غيرك؟ فقد طلب منه أن يقر بالفاعل منه ومن غيره، وهذا معنى قولهم: إن المستفهم عنه ما يلى الهمزة، وإن كان المستفهم عنه فى قولك: أزيد قائم أم عمرو، كلا من زيد وعمرو، ولكن مقصودهم ما يليها من مسند مع معادلة أو مسند إليه، كذلك وقد انجلى لك بهذا قول السكاكى: إن ذلك استفهام تقرير، بعد أن كان فى غاية البشاعة، واتضح لك إمكان حمل الاستفهامات الواردة فى القرآن على حقيقتها مع تنزيه البارئ عز وجل عن أن يطلب الفهم لنفسه تبارك وتعالى، وهذا ما قدمت الوعد. وأما استفهام الإنكار فقد يكون الاستفهام به لطلب فهم السامعين لذلك الشئ المنكر فينكرونه. وأما التهكم فقد يكون فيه الاستفهام أيضا مصروفا إلى المخاطب. وأما التحقير فقد يكون استفهاما بمعنى أن ذلك وصل فى الحقارة إلى أن لا يعلم حقيقته فيستفهم عنه. وأما الاستبعاد فيمكن فيه ما سبق فى التنبيه على الضلال. والأمر يجوز أن يكون مفهوما مع بقاء قصد إفهام الناس حالهم، وطلب نطقهم بذلك. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 116. (¬2) سورة التكوير: 26. (¬3) سورة الأنبياء: 62.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والعرض والتحضيض والزجر والمبالغة لا تعد فى اجتماع الاستفهام مع كل منها، فحاصله تكمل المحافظة على معنى الاستفهام مع معنى آخر بمعاونة القرائن اللفظية أو الحالية. ومما يؤيد ما قلناه أن ابن الحاجب قال فى شرح المفصل: إن الطلب لا يمكن أن يستعمل مرادا به نوع آخر من الطلب، بل قد يستعمل ويراد به الخبر، وأما طلب آخر فلا، وأنت تجد كثيرا من هذه المعانى السابقة طلبا فإذا تكلفت لبقاء معنى الاستفهام فيه، وأن القرينة دلت على إرادة شئ آخر معه، خلصت من هذا. (تنبيه): قوله سبحانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (¬1)، يحتمل أن يكون استفهام تقرير، وكذا صرح به بعضهم، ووجهه أنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم فى ذلك؛ ولهذا قال مجاهد: التقدير لا فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا أن يقولوا لا جعلوا كأنهم قالوها، وهو قول الفارسى والزمخشرى. ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم فيكون ميتة، والمراد بمحبتهم لأكل لحم أخيهم غيبته على سبيل المجاز، وجاء فكرهتموه بمعنى الأمر، أى: أكرهوه، قيل: إن" فكرهتموه" أمر، وقد يأتى الأمر بصيغة الماضى، نحو: اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه. ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب؛ لأنهم لما كانت حالتهم حال من يدعى أنه يحب أكل لحم أخيه نسب إليهم ذلك وكذبوا فيه ويكون فكرهتموه خبرا. (تنبيه): نقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون" بهل" إنما تستعمل فيه الهمزة، ثم نقل الشيخ عن بعضهم أن (هل) تأتى تقريرا وإثباتا فى قوله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (¬2) فأما قول الزمخشرى: إن هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (¬3) للتقرير فتحمل على أنها بمعنى" قد" كما هو مذهبه، فإن الهمزة مقدرة قبله، فالتقرير حينئذ بالهمزة. وقال شيخنا أيضا: إن طلب بالاستفهام تعيين أو توبيخ أو إنكار أو تعجيب كان بالهمزة دون هل، وإن أريد به الجحد كان بهل ولا يكون بالهمزة، ومراده بالجحد القسم الثانى من قسمى الإنكار المتقدمين، ومراده بالإنكار القسم الأول فتعين فى (هل) التى للجحد الاستثناء مثل: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (¬4). وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر، ولا يجوز: أزيد إلا قائم. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 12. (¬2) سورة الفجر: 5. (¬3) سورة الإنسان: 1. (¬4) سورة سبأ: 17.

الأمر من أنواع الطلب

ومنها: الأمر، والأظهر: أنّ صيغته من المقترنة باللام؛ نحو: ليحضر زيد وغيرها؛ نحو: أكرم عمرا، ورويد (¬1) بكرا، موضوعة لطلب الفعل استعلاء؛ لتبادر الفهم عند سماعها إلى ذلك المعنى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر من أنواع الطلب: ص: (ومنها الأمر ... إلخ). (ش): من أنواع الطلب الأمر، وهو يعنى أمر حقيقة فى القول الطالب للفعل إيجابا، وكذا ندبا على المشهور، وصيغته نحو: أكرم زيدا، والمقترن باللام، نحو: ليحضر زيد واسم الفعل نحو: نزال ودراك. قال: (والأظهر أن هذه الصيغ موضوعة لطلب الفعل استعلاء). وينبغى أن يقول: طلبا جازما؛ فإنه يدخل فى عبارته المندوب، والصحيح أن صيغة أفعل موضوعة للإيجاب، وإن كان الأمر الأعم منه ومن المندوب. والمصنف لم يفرق بين الأمر وبين صيغة أفعل. والتحقيق ما قلناه، وقوله: الأظهر يحتمل أن يريد به كونها لطلب الفعل ليكون دفعا لمن ادعى أنها حقيقة فى الإباحة مثلا، ويحتمل أن يكون دفعا لقول من قال: إنها للطلب، ولكن اشترط العلو كالمعتزلة أو لم يشترط الاستعلاء ولا العلو، كالإمام فخر الدين وأتباعه مستدلين بقوله تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ (¬2) ولا حجة فيه إما لكونه مشتقا من الأمر، بمعنى المشورة والفعل، وإما لأن فرعون إذ ذاك كان مستعليا لهم، وكلامه فى الإيضاح يدل على إرادة كونها لطلب الفعل؛ لأنه لا يستدل على ذلك بإطباق أئمة اللغة على إضافة هذه الألفاظ للأمر بقولهم: صيغة الأمر، واستدل المصنف عليه بتبادر الذهن عن سماع هذه الألفاظ على ذلك، وهذا بناء منه على أن التبادر علامة الحقيقة، كما هو المشهور، وإن كان قد منع ذلك المصنف بما يطول ذكره، وقد تكلمنا عليه فى شرح مختصر ابن الحاجب، بقى على المصنف إشكال وهو أن قوله: الأظهر أن صيغته موضوعة لطلب الفعل، وقوله: لتبادر الذهن إليه عند سماع هذه الصيغة يقتضى أن مجرد سماعها يفضى بتبادر الذهن إلى أنها أمر، وذلك ينفى اشتراط الاستعلاء، وإن كان يتبادر إليها بقرينة الاستعلاء فالتبادر بشرط القرينة شأن المجاز لا الحقيقة، ثم لو أراد هذا لكان الاستدلال على الاستعلاء لا على ¬

_ (¬1) فالمراد بصيغته: ما دل على طلب فعل غير كف استعلاء سواء كان اسما أو فعلا. (¬2) سورة الشعراء: 35.

وقد تستعمل لغيره؛ كالإباحة؛ نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، ـــــــــــــــــــــــــــــ كونها للطلب، وهو خلاف ما سبق، ويرد على المصنف النهى فإنه طلب لفعل؛ لأن مطلوبه كف النفس، وخرج بقوله الاستعلاء: الدعاء والالتماس، واعترض على المصنف بأن اسم الفعل لا يسمى أمرا فى اصطلاح النحاة، وأجيب بأنه يسمى أمرا، فى اصطلاح أهل المعانى، وقد عده صاحب المفصل أمرا وقول المصنف: لطلب الفعل استعلاء لا يقتضى أنه للوجوب أو له وللندب كما توهمه بعضهم، وربما استفيد الأمر من غير هذه الصيغ، مثل: أوجبت، وما أشبهه. وقول المصنف: استعلاء، لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، لكن أن يكون منصوبا على إسقاط الخافض، تقديره: على الاستعلاء، أى: على جهة الاستعلاء، والنصب يكون بإسقاط تعلى كما مر فى قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (¬1) على قول، ثم إذا ثبت أنها حقيقة فى طلب استعلائى، فقد تستعمل لغيره، وذلك على أقسام: الأول: الإباحة، نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، أى: ابحث لك مجالسة أيهما شئت. قلت: إن كانت أو فى هذا المثال على بابها، فالمعنى: جالس أحدهما، فإن أرادوا أن ذلك لا يجب فهو ممنوع، وما الذى صرفه عن وجوب مجالسة أحد لا بعينه وهو صريح اللفظ، وكون الأصل الجواز أو الحظر لا يقتضى ذلك، وإن أرادوا مع ذلك أنها للإباحة بمعنى أن مجالسة أيهما شاء مباحة، فذلك لا يدفع الجواز، ثم تصير" أو" حينئذ للتخيير، مثل: خذ من مالى درهما أو دينارا، وإن كان المراد أنها بمعنى الواو فما الذى صرفه عن وجوب مجالستها؛ كقولك: جالس الحسن وابن سيرين، والنحاة يقولون: إن" أو" فى هذا للإباحة، وكلامهم مشكل؛ لأنهم بين قائل: إنها بمعنى الواو، وإنها للإباحة، ولا أدرى ما الذى اقتضى أنها للإباحة إذا كانت بمعنى الواو وهذا رأى ابن مالك، وشيخنا أبو حيان يقول: هى ليست بمعنى الواو، والفرق بينهما أنه لو قال: جالس الحسن أو ابن سيرين، كان له أن يجالس أيهما كان وحده، وأن يجالسهما معا، وإذا قال: جالس الحسن وابن سيرين كان له أن يجالسهما معا، وليس له أن يجالس أحدهما وحده. قلت: ولا أدرى ما الذى أباح له مجالستهما معا إذا كانت" أو" على معناها ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 5.

والتهديد؛ نحو: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (¬1)، والتعجيز؛ نحو: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬2)، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحقيقى؟ ولا أدرى ما الذى منع أن يجالس كلا وحده إذا أتى بالواو، وهى لا تدل على المعية؟ نعم لو كانت مجالسة الحسن وابن سيرين حراما فقال: جالس الحسن أو ابن سيرين، قلنا: إنها للإباحة بمعنى أنه أباح مجالسة أحدهما؛ لأنه أمر بها، والأمر بعد الحظر للإباحة على الصحيح، والعلاقة بين الإباحة والطلب أن كلا منهما مأذون فيه، ولا يقال: الجزئية؛ لأن المباح جنس للواجب على قول فإن كلامنا فى المباح المستوى الطرفين، وليس جنسا للواجب فتأمل ذلك فقد غلط فيه الأكابر، ثم قولهم: الشئ إن كان أصله على التحريم، ثم أمر به فأو للتخيير، مثل: خذ من مالى درهما أو دينارا، وإن لم يكن فهو للإباحة، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين كلام عجيب؛ فإن الإباحة فى جالس الحسن أو ابن سيرين ليست من اللفظ، وكذلك التحريم فى خذ درهما أو دينارا، بل من خارج فحينئذ كل من هذين المثالين كالآخر يقتضى إباحة أحدهما، والتخيير، وأما إباحة الأخذ من أحدهما، وامتناع ذلك فى المثال الآخر فليس من اللفظ، ثم إن الأصوليين قاطبة فسروا الإباحة بالتخيير، وإن كان التحقيق خلافه فإن الإباحة إذن فى الفعل، وإذن فى الترك ينظم إذنين معا، والتخيير إذن فى أحدهما لا بعينه. الثانى: التهديد مثل: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وفيه خروج عن الإنشاء، فإن التهديد خبر دل على إرادته القرينة والعلاقة فيه المضادة؛ ولذلك لا يمكن إرادة الإيجاب، والتهديد بصيغة واحدة، وإن جوزنا استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه أو فى معنييه الحقيقيين، وهذا أحسن ما يمثل به لقولنا: شرط استعمال المشترك أو الحقيقة والمجاز فى معنييهما عدم التضاد، أى: عدم تضاد الاستعمالين، لا عدم تضاد المعنيين. الثالث: التعجيز كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إذ ليس المراد طلب ذلك منهم، قال بعضهم: لأنه محال، قلت: التكليف بالحال جائز على الصحيح، لكن القرائن تفيد القطع بعدم إرادة هذا؛ فإنه غير مناسب لما هو المقصود قطعا من التعجيز، والعلاقة فيه أيضا المضادة، وهو أيضا خبر بعجزهم دلت على إرادته القرينة. ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 40. (¬2) سورة البقرة: 23.

والتسخير؛ نحو: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (¬1)، والإهانة؛ نحو: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (¬2)، والتسوية؛ نحو: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا (¬3)، والتمنّى؛ نحو [من الطويل]: ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلى ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابع: التسخير نحو: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ والتسخير فى اللغة: التذليل والإهانة، والمراد أنه عبر بهذا عن نقلهم من حالة إلى حالة إذلالا لهم، فإما أن يكون المراد أنه لم يصدر قول، ولكن حالهم حال من قيل لهم ذلك، أو يكون المراد أنهم قيل لهم ذلك قولا لم يقصد به طلب، بل قصد به الإخبار عن هوانهم، وعلى التقديرين يكون خبرا، والعلاقة فيه تحتم مقتضاه لتحتم مقتضى الخبر عن الماضى، وتوهم القرافى أن المراد بالتسخير الاستهزاء، فيقال: ينبغى أن يقال: السخرية، وليس كما قال. الخامس: الإهانة مثل: قُلْ كُونُوا حِجارَةً الآية والفرق بين هذا والذى قبله أن المقصود من: كونوا حجارة، الإهانة والذى قبله قصد فيه صيرورة الشئ إلى الحالة التى صدرت بها صيغة الأمر، فهذا أعم مما قبله، ومثله المصنف فى الإيضاح والأصوليون بقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (¬4) وفيه نظر؛ لجواز أن تكون حقيقة الأمر، والإهانة مفهومة من أمرهم بذلك مع كونه فاعلوه فى من قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ بالاستعارة التهكمية. السادس: التسوية مثل فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أى: صبركم وعدمه فى عدم النفع سواء، وعلاقته مضادة التسوية بين الشيئين للوجوب، وهو أيضا خروج من الإنشاء إلى الخبر. السابع: التمنى كقول امرئ القيس: ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلى … بصبح وما الإصباح منك بأمثل (¬5) ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 65. (¬2) سورة الإسراء: 50. (¬3) سورة الطور: 16. (¬4) سورة الدخان: 49. (¬5) البيت من الطويل، لامرئ القيس فى ديوانه ص: 18، وخزانة الأدب (2/ 326) ولسان العرب (شلل).

والدعاء؛ نحو: ربّ اغفر لى، والالتماس؛ كقولك لمن يساويك رتبة: افعل بدون الاستعلاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن الليل لا يقبل أن يطلب منه الانجلاء، وإنما هذه الصيغة كناية عن تمنى أمنية فيكون باقيا على إنشائيته وجعلوه تمنيا لا ترجيا؛ لأن التمنى لما بعد ومن شأن المحب أن يستبعد انجلاء الليل، والياء ثابتة فى قوله: انجلى؛ لإشباع الكسرة لقصد التصريع، لا أنها من أصل الكلمة كقوله: ألم يأتيك والأنباء تنمى الثامن: الدعاء، وهو الطلب من الأعلى على سبيل التضرع، مثل: اللهم اغفر لى. التاسع: الالتماس، وهو الطلب من المساوى كقولك بلا استعلاء لمن يساويك رتبة: اسقنى ماء، قلت: والدعاء والالتماس استعمال افعل لهما حقيقة، فلا ينبغى أن يعدا مما خرجت فيه صيغة الأمر عن حقيقته، هذا ما ذكره المصنف، وزاد غيره شيئا آخر، ويمكن أن تزاد تلك الزيادة فنقول حينئذ. العاشر: الندب، وهذا لم يحتج لعده المصنف؛ لأنه اقتضى كلامه أن صيغة افعل حقيقة فى الندب أيضا، فهو داخل فى حقيقة افعل، وهو إنما يذكر هنا ما خرج عنها غير أن الصحيح أن صيغة افعل للندب مجازا، وعدوا منه قوله: فَكاتِبُوهُمْ والشافعى نص على أن الأمر فيه للإباحة، وأنه من الأمر بعد الحظر، ونقل صاحب التقريب قولا أنها واجبة إذا طلبها العبد، وجعلوا منه التأديب مثل: كل مما يليك، فإن الأدب مندوب إليه، لكنه متعلق بمحاسن الأخلاق، فهو أخص من المندوب، وقد نص الشافعى فى الأم والبويطى والرسالة على أن الأكل من غير ما يليه إذا لم يكن نحو: التمر حرام. الحادى عشر: الإرشاد، كقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (¬1) قال الغزالى والإمام: الإرشاد: الندب لمصالح الدنيا والآخرة، فيحتمل أن يكون قسرا من المندوب تحصل به مصلحتان دنيوية وأخروية، فيكون حكما شرعيا، ويحتمل أن يكون من نوع الإشارة والإخبار أن ذلك مصلحة فى الدنيا، فيكون قسما آخر ليس من الحكم الشرعى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى عشر: الإنذار، نحو قُلْ تَمَتَّعُوا (¬1) فمنهم من عده من التهديد، ومنهم من جعله قسما آخر، وأهل اللغة قالوا: التهديد: التخويف، والإنذار: الإبلاغ، فهما متقابلان. الثالث عشر: الامتنان، نحو: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ (¬2) والظاهر أنه قسم من الإباحة، لكن معه امتنان. الرابع عشر: الإكرام، مثل قوله تعالى ادْخُلُوها بِسَلامٍ (¬3) وهو أيضا من الإباحة. الخامس عشر: الاحتقار، نحو أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (¬4) وفيه نظر أيضا، ولولا أن الإلقاء سحر لكنت أقول: إنه أمر إباحة. السادس عشر: التكوين، كقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ (¬5) وهو قريب من التسخير، إلا أن هذا أعم. السابع عشر: الخبر، نحو" إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (¬6)؛ إذ الواقع أن من لم يستح يفعل ما يشاء، وقيل: المعنى إذا وجدت الشئ مما لا يستحيا منه فافعله، فيكون إباحة، وقد تقدم أن غالب هذه الاستعمالات بنقل صيغة افعل إلى الخبر. الثامن عشر: بمعنى الإنعام، مثل: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (¬7) ذكره الإمام فى البرهان قال: وإن كان فيه معنى الإباحة، فالظاهر منه تذكر النعمة. التاسع عشر: التفويض، كقوله تعالى: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ (¬8) زاده الإمام أيضا. العشرون: التعجب، ذكره الهندى، ومثل له بقوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً (¬9) وقد تقدم التمثيل له بغيره، وذكره أيضا العبادى فى ترجمة الفارسى من أصحابنا ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 30. (¬2) سورة النحل: 114. (¬3) سورة الحجر: 46. (¬4) سورة يونس: 80. (¬5) سورة يس: 82. (¬6) أخرجه البخارى فى" الأدب"، باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، (10/ 539)، (ح 6120) من حديث أبى مسعود. (¬7) سورة البقرة: 57. (¬8) سورة طه: 72. (¬9) سورة الإسراء: 50.

اختلاف صيغة الأمر عند تجردها عن القرائن

ثم الأمر: قال السكاكى: حقّه الفور؛ لأنه الظاهر من الطلب، ولتبادر الفهم عند الأمر بشئ بعد الأمر؛ بخلافه إلى تغيير الأمر الأول، دون الجمع، وإرادة التراخى خ خ؛ وفيه نظر. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومثله بقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ (¬1) والظاهر أنه أمر إيجاب معه تعجب. الحادى والعشرون: الأمر بمعنى التكذيب، ذكره العبادى عن الفارسى أيضا كقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها (¬2) وقوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا (¬3). الثانى والعشرون: بمعنى المشورة، مثل: فَانْظُرْ ماذا تَرى (¬4) ذكره عن الفارسى أيضا. الثالث والعشرون: الأمر بمعنى الاعتبار، ذكره العبادى أيضا فى ترجمة غير الفارسى، ومثله بقوله تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ (¬5). الرابع والعشرون: التحريم، فإن جماعة ذهبوا إلى أن الأمر مشترك بين معان، أحدهما: التحريم، كما نقله الأصوليون، فإذا كنا نذكر الاستعمالات لغير الأمر مجازا فذكر هذا أولى؛ لأنه استعمال حقيقى عند القائل به ولا بدع فى استعماله عند غيره فى التحريم مجازا بعلاقة المضادة، ويمكن أن يمثل له بقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (¬6) لكنه يبعده فإن مصيركم إلى النار، فإنه لا يناسب التحريم، وكذلك: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (¬7). الخامس والعشرون: التعجب، نحو: أحسن بزيد، وقد ذكره السكاكى فى استعمال الإنشاء بمعنى الخبر، وغالب هذه المعانى فيها نظر. اختلاف صيغة الأمر عند تجردها عن القرائن: ص: (ثم الأمر: قال السكاكى: حقه الفور ... إلخ). (ش): اختلف الناس فى صيغة الأمر عند تجردها عن القرائن، هل تقتضى الامتثال على الفور أم على التراخى أم لا تدل على أحدهما بل على الأعم؟ فالجمهور على الأخير، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 48. (¬2) سورة آل عمران: 93. (¬3) سورة الأنعام: 150. (¬4) سورة الصافات: 102. (¬5) سورة الأنعام: 99. (¬6) سورة إبراهيم: 30. (¬7) سورة الزمر: 8.

النهى من أقسام الإنشاء

ومنها: النهى (¬1)، وله حرف واحد، وهو (لا) الجازمة فى نحو قولك: لا تفعل خ خ، وهو كالأمر فى الاستعلاء. وقد يستعمل فى غير طلب الكفّ (¬2) أو الترك (¬3)؛ كالتهديد؛ كقولك لعبد لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمرى! خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ونسب إلى الشافعى - رضى الله عنه - وأكثر أصحابه؛ وقيل: على الفور عن الحنفية، وهم ينكرونه وهو اختيار أبى حامد المروزى والصيرفى من أصحابنا، والمتولى كما ذكره فى كتاب الزكاة؛ وقيل: على التراخى، وهذا القول نقل عن كثيرين، واستدل عليه بما يقتضى أن مرادهم أنه لا يوجب الفور، فهو قول الجمهور، وإطلاق التراخى على ذلك لا بدع فيه، ألا ترى إلى قول الناس أجمعين: الحج على الفور أو التراخى قولان، يعنون بالتراخى جواز التأخير، ولم يقل أحد: إنه يجب تأخيره وأما القول بأن الأمر على التراخى بمعنى أنه يجب تأخيره، فقال إمام الحرمين فى البرهان وفى الملخص: إنه ليس معتقد أحد. قلت: ورأيت فى العدة فى الأصول لابن الصباغ أن طائفة من الواقفية قالوا: لا يجوز على الفور، وهذا يخدش فى قول الإمام: إنه ليس معتقد أحد، لكن قال عنهم: إنهم خرقوا الإجماع، وقيل: بالوقف، بمعنى لا أدرى، وقيل: بالوقف بمعنى أنه مشترك، ومحل الحجاج على هذه المسألة أصول الفقه، واستدل السكاكى بأنه الظاهر من الطلب، وقد ينازع فى ذلك. والمثال الذى ذكره من اسقنى الماء، لا يدل؛ لأن معه قرينة، وهو أن طلب الماء إنما يكون لعطش يوجب الفور، واستدل أيضا بأن من قال لعبده: افعل كذا، ثم قال له: افعل كذا يفهم منه أنه رجع عن الأول، ولو لم يكن للفور لما أفاد ذلك وعبارة المصنف دون الجمع وإرادة التراخى والصواب أن يقول: أو إرادة التراخى وإطلاق المصنف ليس بجيد؛ فإن السكاكى قيده بالأمرين المتضادين، مثل: قم، ثم تقول: اضطجع، فإنه لا يمكن إرادة الجمع لاستحالته، ولا التراخى. قال المصنف: (وفيه نظر) يحتمل أن يريد النظر فى أصل الدعوى، فإن الحق أنه ليس على الفور، ويحتمل أن يعود إلى هذين الدليلين فإنهما ممنوعان، ولم يتعرض المصنف لكون الأمر للتكرار أو المرة، ولا لغيره من مسائل الأمر؛ لأنه أحاله على كتب الأصول. النهى من أقسام الإنشاء: ص: (ومنها النهى ... إلخ). ¬

_ (¬1) وهو طلب الكف عن الفعل استعلاء. (¬2) أى عن الفعل كما هو مذهب البعض. (¬3) أى أو طلب الترك كما هو مذهب البعض، فإنهم قد اختلفوا فى أن مقتضى النهى كف النفس عن الفعل بالاشتغال بأحد أضداده أو ترك الفعل وهو نفس ألا تفعل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ش): من أقسام الإنشاء: النهى، وهو طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء، وفيه من الخلاف فى اشتراط العلو أو الاستعلاء ما فى الأمر، ومذهب أبى هاشم وكثير أن المطلوب به نفى الفعل، وأما حكاية الخطيبى الخلاف أن مطلوبه الكف أو الترك فغلط؛ لأن الكف هو الترك والترك فعل وهو غير نفى الفعل، وقد صرح الأصوليون بما قلنا، نعم فى كلام بعض شراح المختصر أن الترك ليس بفعل، وليس كذلك، والقول به ضعيف، نسبه الشيخ أبو الحسن الأشعرى لبعضهم، ورد عليه. (وصيغته) أى: صيغة النهى (لا تفعل) بلا الجازمة احتراز عن لا غير الجازمة، وحقيقته المذكورة أعم من التحريم والكراهة، ولكن صيغة" لا تفعل" حقيقة فى التحريم، وكلام المصنف يقتضى أنها حقيقة فى الطلب الأعم من التحريم والكراهة، كما فعل فى الأمر وليس كذلك، وقد تخرج صيغة" لا تفعل" عن حقيقتها فتستعمل مجازا فى أحد أمور، منها: الكراهة وهو كثير، ومنها: التهديد، كقولك لمن لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمرى، ومنها: الإباحة، وذلك فى النهى بعد الإيجاب، فإنه إباحة الترك، ومنها: بيان العاقبة كقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا (¬1) أى: عاقبة الظلم العذاب لا الغفلة، كذا قيل، وعلل بأن النبى لا يخاطب بمثل ذلك. قلت: النبى صلّى الله عليه وسلّم منهى عن كل ما نهى عنه غيره، إلا ما خص، وأما خطابه بذلك مع القطع بأنه لا يصدر منه فلعله ليعلم أن غيره منهى عنه من باب أولى، ومثله الإمام بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا (¬2)، ومنها: الدعاء نحو: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا (¬3)، ومنها: الالتماس، كقولك لنظيرك: لا تفعل هذا، والظاهر أن صيغة" لا تفعل" فيهما حقيقة. ومنها: اليأس كقوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ (¬4) ولا يخفى ما فى هذا، ومنها: الإرشاد كقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (¬5) قاله فى البرهان، وفيه نظر، بل هو للتحريم، وينبغى أن يمثل له بقوله عز وجل: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ (¬6)، ويمكن أن يكون منها التسوية مثل: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا (¬7)، ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 42. (¬2) سورة آل عمران: 169. (¬3) سورة آل عمران: 8. (¬4) سورة التوبة: 66. (¬5) سورة المائدة: 101. (¬6) سورة البقرة: 282. (¬7) سورة الطور: 16.

هذه الأربعة تقدير الشرط بعدها

وهذه الأربعة (¬1) يجوز تقدير الشرط بعدها؛ كقولك: ليت لى مالا أنفقه (¬2) وأين بيتك أزرك؟ وأكرمنى أكرمك ولا تشتمنى يكن خيرا لك. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: الإهانة مثل: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (¬3)، ومنها: التمنى نحو قولك: لا ترحل أيها الشباب، ومنها: الامتنان نحو: وَلا تَأْكُلُوا (¬4). ومنها: الاحتقار والتقليل كقوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ (¬5) فهو احتقار للدنيا، قاله الإمام فى البرهان، وفيه نظر، بل هو للتحريم. ومنها: نحو: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (¬6) وفيه نظر؛ لأنه نهى تحريم. وغالب ما تقدم من المعانى التى استعملت فيها صيغة افعل ممكن وروده هاهنا. هذه الأربعة تقدير الشرط بعدها: ص: (وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها ... إلخ). (ش): أى: هذه الأنواع الأربعة من الإنشاء، وهى: التمنى، والاستفهام، والأمر، والنهى يجوز أن يجزم بعدها المضارع، وإنما قال: يجوز؛ لأنه لا يجب، بل يجوز رفعه على الاستئناف. وفى جازمه أقوال: الأول: أن كلا منهما ضمن معنى حرف الشرط وفعله، فمعنى أسلم تسلم، إن تسلم وضمن أسلم معنى أن تسلم، ونسب هذا للخليل وسيبويه، واختاره ابن مالك. الثانى: أن جملة الشرط حذفت، ونابت هذه الأشياء عنها فى العمل، وهذا مذهب الفارسى والسيرافى، وصححه ابن عصفور. الثالث: أن الجزم بلام مقدرة. الرابع: أنها مجزومة بشرط مقدر قبلها، واختاره شيخنا أبو حيان، أى: قبل المجزوم؛ وبعد هذه الأمور. وهذا هو الذى قاله المصنف، فقوله: يجوز تقدير الشرط بعدها، أى: بعد التمنى والاستفهام والأمر والنهى، وإنما حصل الجزم بعد الأربعة، لأن الشرط سبب للجزاء، أعنى: سببا فى الأعيان، وإن كان مسببا فى الأذهان فتناسبا، وبما ذكرناه يعلم الجواب من كونه لم يقع الجزم بعد النداء، وإن كان أيضا طلبا؛ لأنا نراعى فى الطلب الذى يجزم جوابه أن يكون قصد منه فائدة ¬

_ (¬1) وهى التمنى والاستفهام والأمر والنهى. (¬2) فى ط، د خفاجى، وط الحلبى زيادة: (أى إن أرزقه أنفقه). (¬3) سورة المؤمنون: 108. (¬4) سورة البقرة: 188. (¬5) سورة طه: 131. (¬6) سورة البقرة: 195.

العرض مولد عن الاستفهام

وأما العرض (¬1) - كقولك: ألا تنزل تصب خيرا - فمولّد من الاستفهام. ـــــــــــــــــــــــــــــ سبب يترتب عليها، والنداء ليس فيه طلب غير إقبال المخاطب، وقد أورد على تقدير الشرط قوله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا (¬2)، فإنه لو كان التقدير إن تقل لهم يغفروا، للزم من القول الغفران، وأجيب عنه بأن القول لهم سبب، وقد يتخلف الغفران لمانع، وقيل: يغفروا محكى بالقول، وأصله اغفروا، ولكنه جاء على المعنى، كقوله: قال زيد قام، ويكون لفظه قمت، ومنه حلف زيد ليخرجن، وإنما قال: لأخرجن، ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ (¬3) وأما قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي (¬4) على قراءة الرفع، فقال الزمخشرى: إنه على الصفة، وقال السكاكى: إنه على الاستئناف، كأنه قيل له: ما تصنع به؟ قال: يرثنى. فلم يكن داخلا فى المطلوب بالدعاء، ولا يكون صفة لما يلزم عليه من عدمه استجابة الدعاء، فإن يحيى مات فى حياة زكريا - عليهما الصلاة السّلام - قلت: يرد عليه شيئان: أحدهما: أن هذا المحذور الذى فر منه لازم له على قراءة الجزم، فمهما كان عذر عنهما كان عذرا عن كونه صفة، وعن استجابة الدعاء. الثانى: أن هذا الذى ذكره من عدم استجابة الدعاء لا يترتب عليه محذور، بخلاف الاستئناف فإنه يلزم عليه أن يكون أخبر بأنه يرثه فيلزم الخلف وهو ممتنع فى هذا المحل، وأجيب عن هذا بأنه لا يلزم الخلف، بل يلزم عدم ترتب الغرض، فإن التقدير: أطلبه ليرثنى، وفيه نظر، وإنما الصواب أن المراد إرث العلم والنبوة، كما ذكره المفسرون والسلف. وقد وقع ذلك واستجيبت دعوته وحصل له مقصوده بتمامه قبل موت يحيى - عليهما الصلاة والسّلام -. العرض مولد عن الاستفهام: ص: (وأما العرض إلى آخره). (ش): العرض كقولك: ألا تنزل تصب خيرا، تقدم أنه مولد عن الاستفهام؛ فلذلك يجزم الفعل فى جوابه، كما يجزم الاستفهام. وإنما لم يقل: إنه استفهام؛ لأنه لا ¬

_ (¬1) طلب الشئ بلا حث ولا تأكيد. (¬2) سورة الجاثية: 14. (¬3) سورة إبراهيم: 31. (¬4) سورة مريم: 5، 6.

القرينة تجوز فى غير الأمور الأربعة

ويجوز فى غيرها لقرينة؛ نحو: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (¬1) أى: إن أرادوا أولياء بحق. ـــــــــــــــــــــــــــــ يريد نقل ما فى الخارج لما فى الذهن؛ فإنه عارف. قلت: وقد تقدم أنه يمكن رجوعه إلى الاستفهام، وكأن المصنف يريد أنه لما كان صيغة استفهام، ألحق بالاستفهام وكلام غيره يقتضى أنه نوع خامس من الطلب يجزم الجواب بعده، كما يجزم بعد الأربعة. القرينة تجوز فى غير الأمور الأربعة: ص: (ويجوز فى غيرها لقرينة). (ش): أى: يجوز فى غير هذه الأمور تقدير الشرط نحو: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ التقدير: إن أرادوا وليا بحق فالله هو الولى لا غيره، والفاء هى القرينة فى ذلك، وحذف الجملة الشرطية أطلق الجمهور جوازه، فأما حذفها وبقاء إن فالأكثرون على الجواز، وذهب بعضهم إلى أنه يحذف الفعل إلا مع بقاء" لا" التى قبله منفيا بها، وهو الذى ذكره الشيخ أبو حيان فى تفسير قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ (¬2). وإن كان اختار فى شرح التسهيل الجواز مطلقا. ويجب أن يستثنى من عبارة من تكلم على حذف فعل الشرط إن سيفا فسيف: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ (¬3)، فالكلام حينئذ إنما هو فى حذف جملة الشرط بأسرها، وأما حذفها مع إن فالزمخشرى كثير الاستعمال له، ورد عليه الشيخ أبو حيان حيث قدر إن فعلتم فتاب عليكم بأن حذف حرف الشرط وفعله لا يجوز إلا بعد الأمر ونحوه مما يجزم فى جوابه، غير أن الشيخ نقل عند قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ (¬4) عن الفارسى جواز ذلك، وتقديره كما قيل: فَيُقْسِمانِ وفيه تكلف ولم يمنعه، وكذلك نقله عن الزمخشرى فى تقديره فى قوله تعالى: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ولم ينكره، قال السكاكى وغيره: يحذف الجزاء كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (¬5) الآية، وذكر غيره أنه يحذف الشرط والجزاء معا قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 9. (¬2) سورة المزمل: 20. (¬3) سورة التوبة: 6. (¬4) سورة المائدة: 106. (¬5) سورة فصلت: 52.

النداء من أنواع الإنشاء

ومنها: النداء، وقد تستعمل صيغته؛ كالإغراء فى قولك لمن أقبل يتظلّم: يا مظلوم، والاختصاص فى قولهم: أنا أفعل كذا أيها الرجل، أى: متخصّصا من بين الرجال ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت بنات العمّ يا سلمى وإن … كان فقيرا معدما قالت وإن (¬1) ونص ابن مالك وابن عصفور على أن ذلك ضرورة، وغيرهما أطلق الجواز، هذا إذا حذفا مع بقاء" إن" فإن حذفت" إن" أيضا فالظاهر جوازه إذا دل عليه دليل. النداء من أنواع الإنشاء: ص: (ومنها النداء ... إلخ). (ش): أى الخامس من أنواع الإنشاء: النداء، وحقيقته طلب إقبال المدعو على الداعى بأحد حروف مخصوصة، وأحكامه معلومة فى النحو، وقد يستعمل فى غير معناه مجازا، فمن ذلك: الإغراء، وهو فى الاصطلاح إلزام المخاطب العكوف على ما يحمد عليه، والمراد به هنا الابتلاء، وقد تستعمل فيه صيغة النداء كما نقول لمن يتظلم ويتشكى من الظلم: يا مظلوم، فإنه ليس نداء حقيقة؛ لأن الغرض أن المخاطب أقبل يتظلم، ولكنه ترغيب له فى شكوى الظلم، ومن ذلك: الاختصاص، كقوله: أنا أفعل أيها الرجل، وغفر الله لنا أيتها العصابة، أى: مخصصا به دون الرجال، واغفر لنا مخصوصين من بين العصائب، والاختصاص حقيقة اسم ظاهر بعد ضمير متكلم أو مخاطب مسند إليه حكم على معنى التخصيص والتأكيد، وأى هذه مبنية على الضم كحالها فى النداء وليست منادى. وزعم السيرافى أنها فى الاختصاص معربة، ويجوز أن تكون خبر مبتدأ تقديره: هو أيها الرجل، أى المخصوص به، وأن تكون مبتدأ تقديره: أيها الرجل المخصوص أنا المذكو. وذهب الأخفش إلى أنه منادى، قال: ولا يمتنع أن ينادى الإنسان نفسه، كقول عمر - رضى الله عنه - " كل إنسان أفقه منك يا عمر" (¬2). وإذا تأملت ما ذكرناه علمت أن الاختصاص على قول الجمهور ليس طلبا ¬

_ (¬1) الرجز لرؤبة بن العجاج فى ديوانه ص: 186، وخزانة الأدب 9/ 14 والمقاصد النحوية 4/ 436. (¬2) هو حديث عمر - رضى الله عنه - فى نهيه عن المغالاة فى صدقات النساء، فهو صحيح بلفظ:" ولا تغالوا فى صدقات النساء". أما ما شاع على الألسنة من اعتراض المرأة على عمر وقولها:" نهيت الناس آنفا أن يغالوا فى صداق النساء، والله تعالى يقول فى كتابه: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثا ... " الحديث فهو" ضعيف" يرويه مجاهد عن الشعبى عن عمر، أخرجه البيهقى فى" الكبرى"، (7/ 233)، وقال:" هذا منقطع". وكيف تكون المرأة أفقه من عمر، وهو الملهم المحدث، الذى نزل القرآن على لسانه؟ وراجع كلام الشيخ الألبانى على هذا الخبر فى" الإرواء"، (6/ 347، 348).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلى رأى الأخفش طلب؛ لأنه نداء، ولا يكون ذلك فى ضمير الغائب، فلا يجوز: اللهم اغفر لهم أيتها العصابة. قال سيبويه: أراد أن يؤكد؛ لأنه قد اختص حين قال: أنا ولكنه أكد ولم يعرف المختص إلا بلفظ أيها وأيتها، وإنما وقع علما أو مضافا أو معرفا بالألف واللام، وقد خالف النداء فى أنه لا يبدأ به، ولا يستعمل بسائر أحرف النداء، واستعمل معرفا بالألف واللام، وهو أقسام؛ قسم منقول من النداء وهو ما سبق، وقسم تتبع فيه النقل، مثل: نحن العرب أقرى الناس للضيف، وقسم يجوز فيه الأمران، وهو خمسة: أهل، كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" سلمان منا أهل البيت" (¬1) وآل، نحو: نحن آل فلان كرام، ومعشر:" نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬2)، وبنى: إنا بنى نهشل لا ندعى لأب والعلم، نحو: بك الله نرجو الفضل، بنا تميما يكشف الضباب. (تنبيه): اقتصر المصنف من الإنشاء الطلبى على ما ذكره، وبقى عليه الترجى، نحو: لعل الله يأتينا بخير، ونقل القرافى الإجماع على أنه إنشاء وإذا كان الترجى إنشاء فهو ¬

_ (¬1) " ضعيف جدا" أخرجه الحاكم فى" المستدرك"، (3/ 598)، وسكت عنه، ورده الذهبى بقوله:" قلت: سنده ضعيف". لذلك أورده الشيخ الألبانى فى ضعيف الجامع (ح 3272)، وزاد نسبته، إلى الطبرانى من حديث عمرو بن عوف، وقال: ضعيف جدا. وقد صح موقوفا على على - رضى الله عنه. (¬2) الحديث متفق على صحته بلفظ:" لا نورث ما تركنا صدقة"، أما بهذا اللفظ، فقد قال الحافظ ابن حجر فى" الفتح"، (12/ 10):" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ" نحن"، ولكن أخرجه النسائى من طريق ابن عيينة عن أبى الزناد بلفظ:" إنا معاشر الأنبياء لا نورث ... " الحديث. أخرجه عن محمد بن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك فى مسند الحميدى عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب فى مسنده من حديث أبى بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبرانى فى" الأوسط"، بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدارقطنى فى" العلل"، من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السّلام عن أبى بكر الصديق بلفظ:" إن الأنبياء لا يورثون".

الخبر يقع موقع الإنشاء

ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء: إمّا للتفاؤل، أو لإظهار الحرص فى وقوعه، كما مر، والدعاء بصيغة الماضى من البليغ - كقوله: رحمه الله تعالى - يحتملهما، أو للاحتراز عن صورة الأمر، أو لحمل المخاطب على المطلوب بأن يكون ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطالب (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ طلب كالتمنى، وما قيل من أنه قد يكون" لعل" إشفاقا لتوقع محذور كقوله تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (¬2) إن سلم لا يقضى على غيره مما فيه طلب، ولا يقال: استغنى بذكر التمنى عن ذكر الترجى؛ لأنهما بابان مختلفان، ولأنه قال فى التمنى: إنه قد يتمنى: بلعل، فيعطى حكم ليت. وتقع" لعل" للتقليل عند السكاكى والأخفش، وللاستفهام عند الكوفيين كما سبق، وللشك عند الفراء والطوال. قال التنوخى فى الأقصى القريب: وقد تجئ" لعل" للإشفاق والتقليل والاستفهام مع بقاء معنى الترجى، وأما القسم فهو إنشاء إجماعا، كما نقله القرافى أيضا، قيل: وإنما لم يذكره لكونه ليس طلبا؛ لأنه لتأكيد الخبر مثل: والله لأفعلن، أو الطلب على سبيل الاستعطاف مثل: بحياتك أخبرنى. وفيه نظر؛ لأن تأكيد الطلب طلب، ولا ينحصر ذلك فى الاستعطاف، فإنك تقول: بالله اضرب زيدا. وأما التحضيض فهو إنشاء فذكره المصنف فى باب التمنى، وجعله قسما منه. وأما العرض فهو إنشاء، وقد جعله مولدا عن الاستفهام، ويرد عليه أنه كان ينبغى أن يجعل العرض قسما من الاستفهام، كما جعل التحضيض قسما من التمنى، أو يجعلهما قسمين برأسهما؛ لأن حرف الاستفهام فى كل منهما؛ لأن فى كل منهما أداة استفهام اتصل بها" لا" بل أولى لأن" هلا" استعملت فيها" هل" للتمنى، ثم زيد عليها" لا" فاستمر فيها عنده معناها المجازى من التمنى، وأما: ألا تنزل عندنا، فإن الهمزة لم تنتقل عن الاستفهام قبل العرض لغيره. الخبر يقع موقع الإنشاء: ص: (ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء ... إلخ). (ش): يعنى أن الخبر، أى: صيغته وهى ما ليست من صيغ الإنشاء قد تستعمل ويراد بها الإنشاء، وذلك إما للتفاؤل نحو: غفر الله لك، فإنه أبلغ من" رب اغفر له" ¬

_ (¬1) أى ينسب إلى الكذب كقولك لصاحبك الذى لا يحب تكذيبك:" تأتينى غدا؟ " مقام ائتنى. (¬2) سورة الشورى: 17.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن صيغة غفر أصلها للمضى، والماضى لا يتعلق به الطلب، فالتعبير عنه بذلك يحصل به تفاؤل ومسرة، ولقصد التفاؤل سميت الفلاة مفازة، والعطشان ناهلا، واللديغ سليما، إلا أن هذه العلة قاصرة من صور التعبير بالخبر عن الإنشاء على الماضى، وقد يؤتى بصيغة الخبر لإظهار الحرص على وقوع المطلوب، وقد مر هذا فى صيغ الشرط كقولك: أحيا الله السنة، بمعنى الدعاء بإحيائها، والدعاء بصيغة الماضى إذا صدر من البليغ احتمل التفاؤل، واحتمل إظهار الحرص معا؛ لأنه قد يريدهما بخلاف غير البليغ فإنه لا يعلم ذلك، ولا يخلو هذا الكلام عن نظر كما سبق فى نظيره وقد يأتى الإنشاء بصيغة الخبر، كقول العبد للمولى إذا حول وجهه إليه: ينظر المولى إلىّ، فإنه أكثر تأدبا من قوله: انظر إلى، بصيغة الأمر، وإن كان الأمر يشترط فيه الاستعلاء ولا استعلاء هنا إلا أنه لما كان صيغة أمر اجتنب، وعلل السكاكى حسنه بأمر آخر وهو أن فيه كناية؛ لأنه ذكر اللازم وأراد الملزوم؛ لأن وقوع النظر لازم لقوله: ينظر، أى: لازم فى الغالب. قلت: فيه نظر؛ لأنا إن جعلناه كناية كان خبرا لفظا ومعنى، وكان حقيقة وهو قد جعله إنشاء بصيغة الخبر وأفهم كلامه أنه مجاز فليتأمل، وأما بحمل المخاطب على المطلوب منه، أى: ترغيبه فيه بأن يكون المخاطب يرغب فى تصديق الطالب، فإذا قال له: أنت تحسن إلى غدا، وقصد أن لا يكذبه أحسن إليه، فإن قلت: الفرض أنه إنشاء فتكذيبه لا يحصل أبدا، سواء أحسن إليه أم لم يحسن. قلت: وإن كان إنشاء إلا أن صيغته صيغة الخبر، فربما توهم السامع أنه خبر فكذبه، والأحسن أن يقول: يجب أن لا يتوهم كذبه من لم يفهم إرادة الإنشاء ومن مجئ الإنشاء بلفظ الخبر قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ (¬1) وقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (¬2) وقيل: إنه نهى مجزوم، ولكن ضمت السين إتباعا للضمير كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" (¬3). وقال القاضى أبو بكر فى كل ما يقال: إنه خبر بمعنى الإنشاء: إنه باق على خبريته، ولا يلزم الخلف بالنسبة إلى العصاة فإنه خبر عن الحكم الشرعى، وفيما قاله بحث محله أصول الفقه. وأما استعمال صيغة الإنشاء للخبر فقد تقدم كثير منه فى صيغة أفعل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 233. (¬2) سورة الواقعة: 79. (¬3) الحديث أخرجه البخارى فى" جزاء الصيد"، باب إذا أهدى المحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل، (4/ 38)، (ح 825)، وفى غير موضع، ومسلم فى" الحج"، (ح 1193) من حديث الصعب بن جثامة.

الإنشاء كالخبر فى الأبواب الخمسة السابقة

تنبيه الإنشاء كالخبر فى كثير مما ذكر فى الأبواب الخمسة السابقة؛ فليعتبره الناظر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنشاء كالخبر فى الأبواب الخمسة السابقة: ص: (تنبيه: الإنشاء كالخبر فى كثير مما ذكر فى الأبواب الخمسة السابقة فليعتبره الناظر). (ش): لما قدم الأبواب الخمسة السابقة على الإنشاء من أحوال الإسناد الخبرى، والمسند والمسند إليه، وأحوال متعلقات الفعل، والقصر أراد أن يبين أن غالب ما سبق اعتباره فى الخبر يمكن أن يعتبر فى الإنشاء من الحقيقة والمجاز، وكونه عقليا وغيره، وكون الخطاب مؤكدا وغير مؤكد إلى غير ذلك مما لا يخفى على الفطن، والله تعالى أعلم وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. (تم الجزء الثانى ويليه الجزء الثالث وأوله الفصل والوصل)

الفصل والوصل

الفصل والوصل الوصل عطف بعض الجمل على بعض، والفصل تركه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزء الثالث الفصل والوصل ص: (الفصل والوصل). (ش): هذا الباب من أعظم أبواب هذا العلم؛ لعظم خطره وصعوبة مسلكه ودقة مأخذه، ولقد قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل، كذا نقله الخفاجى فى سر الفصاحة والبيانيون. قلت: والذى قال ذلك هو أبو على الفارسى، نقله عن العسكرى فى الصناعتين وقصد بذلك المبالغة وأن من كمل فيه لا بد أن يكون كمل فى غيره، كذا قالوا، وقد يقال: إن علم الفصل والوصل يتوقف على معرفة ما يجب لكل واحد من الجملتين، وذلك يتوقف على جميع الأبواب الماضية من أحوال المسند والمسند إليه وغير ذلك، فإذا توقف إحدى الجملتين على غير هذا الباب توقف العلم بحال الجملتين معا عليه ضرورة أن ما توقف عليه الجزء توقف عليه الكل، حينئذ يصح قصر البلاغة على الفصل والوصل من غير مبالغة لا يقال: حسن الفصل والوصل قد يكون مع كون الجملتين على وجه بليغ ودونه، لأنا نقول: الأمر كذلك، ولكن ما للبليغ والتعب فى اعتبار ما بين جملتين ركيكتين. ص: (الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه). (ش): أراد أن يعرف حقيقتى الفصل والوصل بالاصطلاح وكان ينبغى أن يقدم تعريف الفصل؛ لأنه الموافق لقوله فى الترجمة الفصل والوصل، لكنه أعاد الأول للثانى على أضعف أسلوبى اللف والنشر. فالفصل والوصل أمران دائران بين الجمل على اصطلاحهم. فالوصل عطف بعض الجمل على بعض، والمراد بالجمل جنس الجمل فربما لم يكن فى الكلام غير جملتين والفصل تركه ومدلول هذه العبارة: أن الفصل تركه عطف بعض الجمل على بعض، ولا يخفى أن ذلك يشمل الجملة الاستئنافية إذا عطف عليها بل قد يقال: إنه يشملها وإن لم يعطف عليها؛ لأن من نطق بجملة واحدة يصدق عليه، أنه ترك عطف بعض الجمل على بعض؛ لأنه لم يقل: الجمل المذكورة ولو قال

فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأولى: إما يكون لها محل من الإعراب، أو لا: ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك لورد عليه الجملتان، لكنه لا يريد ذلك وإنما يريد ترك العطف حال إمكانه لفظا مع بقاء الكلام على حاله، ولا يتأتى ذلك إلا فى جملة مذكورة بعد أخرى، وكأنه اكتفى بلفظ الفصل فإنه لا يعقل إلا بين أمرين فخرجت المفردة؛ ولأنه قطع شئ من شئ ولا يتأتى ذلك فى الجملة المستأنفة وإن كان بعدها أخرى. ص: (فإذا أتت جملة بعد أخرى إلخ). (ش): هذا باب عريض لا بد له من التشمير عن ساق الجد ولنقدم مقدمة لا بد منها. اعلم أنى نظرت فى كلام المصنف وغيره فى هذا الباب فوجدت أقساما متداخلة بين كثير منها وكثير عموم وخصوص من وجه، وبعضها يدفع بعضا ووجدتهم قرروا فيه قواعد لا تخلو عن إشكال، وذكروا أمورا على غير الصواب من جعل ما ليس له محل من الإعراب ذا محل وعكسه إلى غير ذلك مما ستراه إن شاء الله، فاقتضى لى ذلك أنى اخترعت لهذا الباب قاعدة وتقسيما يسهل به تعاطيه، ولا عليك إذا وقفت عليه أن لا تعجل بالرد واستنكار مخالفة ظاهر عبارات القوم التى أقطع أن أكثرها لم يقصدوه، بل اللائق أن تتمهل فى إنكار ذلك حتى تأتى على آخره، على أن غالب ما أذكره من هذه القواعد ليس فيه مخالفة لكلام صاحب المفتاح، إذا تأملته حق التأمل، وإنما وقع الخلل فى كلام من بعده؛ لأنهم لم يتأملوا كلامه فأقول وبالله التوفيق، وهو حسبى ونعم الوكيل: الوصل يكون بين جملتين مشتركتين مع جامع اصطلاحى بلا مانع، وذلك يحصل بأن يتقدم معطوف عليه على معطوف وهما مشتركان فى الجهة الجامعة - على ما سيأتى - ولا يكون لإحداهما حكم تختص به على الأخرى - على ما سيأتى - سواء كان للأولى إعراب يمكن إعطاؤه للثانية وهو معنى قولهم: لها محل أو لم يكن، والجملة التى لا محل لها وغيرها سيان فى اقتضاء العطف وعدمه، والواو وغيرها سواء فى اقتضاء الوصل وعدمه، فليس المعتبر غير الجهة الجامعة سواء أكانت الجملة الأولى لها محل أم لا، وسواء أكان العطف بالواو أم بغيرها، غير أن الجملة السابقة إن كان لها محل من الإعراب كانت الجهة الجامعة أو بعضها ظاهرا، ربما تدرك بالبديهة وإن لم يكن؛ كانت الجهة تحتاج إلى فكر ولا سيما فى الجامع الخيالى، وسبب ذلك أن الجملتين إذا كان لهما محل فلهما طالب لفظى يستدعيهما استدعاء واحدا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وينصبّ إليهما انصبابا واحدا، وإذا لم يكن لهما محل فليس بينهما جامع لفظى، والعطف لا بد له من جامع فاحتجنا إلى النظر فى الجامع المعنوى، لا يقال: ليس العامل فى الجملتين هو الجامع؛ بل بعضه - كما سيأتى - من أنه لا بد له من الاتحاد فى المسند والمسند إليه معا - على رأى المصنف - لأنا نقول: إن سلمنا فللجملتين طالب يطلبهما إما لكونه جامعا أو بعض جامع غير أن العطف إذا كان بحرف غير الواو كان الجامع قريب التناول، ولا يكاد يستعمل ذلك إلا مع حصول الجامع الكامل؛ لأن للمعنى الذى يدل عليه غير الواو من تراخ أو غيره معنى يدور بين الجملتين ويشتركان فيه، كاشتراكهما فى المعنى الإعرابى، إذا كان لها محل فى نحو: زيد يكتب ويشعر، فكما أن زيدا يطلب: يكتب ويشعر، ويشتركان فيه، كذلك الترتيب الذى يقتضى تقديم أحد الأمرين عن الآخر فى نحو: أقوم ثم أقعد، علقة تجعل بين الجملتين جامعا إلا أنه أضعف من الأول؛ لأن الجامع فى الأول وهو العامل فى الجملتين لفظى وفى الثانى الترتيب فهو معنوى لا يقال: مطلق الاشتراك الذى تقتضيه الواو أيضا جامع معنوى؛ لأنه علقة بين الشيئين فيلزم أن يكون مقتضيا لقرب الجامع ووضوحه، لأنا نقول: التراخى مثلا لا بد له من دليل فاحتجنا فيه لحرف يدل عليه وكفى بذلك سببا للعطف بخلاف الاشتراك فى نحو: قمت وقعدت فإن الاشتراك مستفاد من ذكر الجملتين دون عاطف لا يقال: فيلزم العطف بغير الواو حينئذ ليستفاد هذا المعنى؛ لأنا نقول: العطف من شرطه الجامع - على ما سيأتى - فحيث لم يوجد شرطه تعذر فلا يمكن سلوكه فليعدل إلى استفادة التراخى ونحوه من التصريح بالظرف وغيره من الطرق الإطنابية، فإن اجتمع العطف بغير الواو وكون الجملة الأولى ذات محل من الإعراب تضاعف قرب الاطلاع على الجامع كقولك: زيد يغضب ثم يرضى. إذا سلمت ذلك فاعلم أنى ذاكر تقسيما لهذا الباب وبعض أمثلة ينشرح لها الصدر لبعض ما سبق مع ما يأتى به - إن شاء الله تعالى - فأقول: الجملتان المذكورتان سواء كان لهما محل من الإعراب أم لا وسواء قصدت عطف الثانية على الأولى بالواو أم غيرها، وسواء كان بينهما جامع أم لا، وسواء كان بينهما اتصال أم انقطاع إما أن يحصل إيهام غير المراد بفصل إحداهما عن الأخرى دون وصلها، أو يحصل إيهام غير المراد بوصلها دون فصلها أو يحصل بكل منهما أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يحصل بواحد منهما، فإن حصل إيهام غير المراد بالفصل وجب الوصل مثل: لا ويرحمك الله، وإن حصل إيهام غير المراد بالوصل فصلت، سواء كان الإيهام؛ لأن لإحدى الجملتين حكما لا تريد أن تعطيه للأخرى على ما سنبينه إن شاء الله تعالى، أو كان لأن عطفها على الأخرى يوهم العطف على غيرها، وإن حصل الإيهام؛ بكل منهما مثل: أن يقول السيد لعبده: أتعصينى إن أمرتك، فيقول: لا وأكرمك الله، فإن العطف يقتضى أن الدعاء معلق بالشرط وهو خلاف المراد، وتركه يوهم أنه دعاء عليه، والذى يظهر فى مثله أنه يختلف باختلاف الأمثلة والمقامات والقرائن والسياق، وعلى البليغ أن ينظر فى ذلك ويدفع أقوى الضررين بأخفهما، وإن لم يحصل إيهام بواحد من الأمرين فإما أن يكون بينهما جامع أو لا، وأعنى بالجامع التناسب المعنوى على ما سأبينه - إن شاء الله تعالى - فإن لم يكن فلا وصل، سواء كان للجملة الأولى محل من الإعراب أم لا، وسواء أردت العطف بالواو أم غيرها وسأذكر أمثلة هذه الأقسام - إن شاء الله عز وجل - وإذا كان بينهما جامع فإن كان بينهما كمال الاتصال أو كمال الانقطاع وجب الفصل وامتنع الوصل سواء كان بالواو أم غيرها بمحل وغيره، وإن لم يكن فإن كان الوسط فإما أن تكون الثانية منزلة منزلة جواب سائل أو لا، فإن كانت وجب الفصل، وهذه حالة شبه كمال الاتصال وإلا وجب الوصل فتلخص أن الوصل يجب بين كل جملتين لا يوهم عطف إحداهما على الأخرى غير المراد، وبينهما جامع وتوسط بين الكمالين وليست كالجواب وإن أردت الأمثلة فها أنا أذكر شيئا مما يدل على ما فيه غير مراع للتقسيم السابق، بل بتقسيم أقرب لاصطلاحهم مع المحافظة على ما قررناه من القواعد، فأقول: إما أن يكون بين الجملتين تناسب أو لا، فإن لم يكن فإما أن يحصل الاتحاد فى المسندين أو فى أحدهما أو فى طرف أحدهما وأقسام ذلك مائتان وأربعون قسما، ستأتى مفصلة حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى، أو لا يحصل الاتحاد فى شئ من ذلك فصارت الأقسام مائتين وواحدا وأربعين على كل منهما فإما أن يكون العطف بالواو أو بغيرها وإما أن يكون للأولى محل أو لا، هذه أربعة أقسام مضروبة فيما سبق تبلغ تسعمائة وأربعة وستين على كل منها، إما أن يكون بينهما كمال الانقطاع، أو كمال الاتصال أو شبه كمال الانقطاع، أو شبه كمال الاتصال أو توسط هذه خمسة تضرب فيما سبق،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تبلغ أربعة آلاف وثمانمائة وعشرين وعلى كل منها إما أن يحصل بالقطع إيهام غير المراد أو لا، قسمان مضروبان فيما سبق تبلغ تسعة آلاف وستمائة وأربعين كلها يمتنع فيها الوصل إلا ما كان فى تركه إيهام غير المراد، كل ذلك إذا لم يكن بينهما جامع، وإذا كان بينهما جامع جاء مثل هذه الأقسام ثم نقول: على كل من أقسام الجامع إما أن يكون الجامع عقليا وهو الاتحاد أو التماثل أو التضايف، أو وهميا وهو شبه التماثل أو التضاد أو شبهه، أو خياليا فهذه سبعة، نص المصنف عليها، تضرب فى أقسام الجامع السابقة وهى: تسعة آلاف وستمائة وأربعون، تبلغ سبعة وستين ألفا وأربعمائة وثمانين، وتضاف إليها أقسام عدم الجامع السابقة وهى: تسعة آلاف وستمائة وأربعون، تبلغ سبعة وسبعين ألفا ومائة وعشرين - وعلى كل - إما أن يكون ما وقع الاتحاد فيه فى الطرفين ضميرين أو ظاهرين أو الأول ضمير والثانى ظاهر أو عكسه، أربعة أقسام تضرب فيما سبق، تبلغ ثلثمائة ألف وثمانية آلاف وأربعمائة وثمانين - على كل منها - إما أن تكون الجملتان متناسبتين بالاسمية أو الفعلية أو غير متناسبتين - على ما سنذكره - فهذان قسمان يضربان فيما سبق، تبلغ ستمائة ألف وستة عشر ألفا وتسعمائة وستين قسما، ويمكن تضعيفها بحسب الأصناف إلى ما لا يعلمه إلا الله، كأصناف التضايف والخيالى وغيره، غير أنى اقتصرت على ما صرح المصنف بذكره أو كان يترتب على ذكره اختلاف معنوى وتفاوت فى موارده، وإنما أمثل الطرف الأبعد والطرف الأقرب، فالأبعد أن لا يكون بينهما جامع ولا اتحاد فى مسند ولا مسند إليه ولا إيهام وهو أربعة أقسام: الأول: أن لا يكون لهما محل من الإعراب. والثانية: معطوفة بالواو نحو: زيد منطلق وكم الخليفة طويل، الثانى كذلك، والعطف بغيرها كقولك: طال كم الخليفة ثم طلعت الشمس. الثالث: كالأول وللأول محل كقولك: بلغنى أن كم الخليفة طويل وأن الشمس طلعت. الرابع: كذلك وهو: بثم والأقرب أن يكون بينهما اتحاد فى المسند والمسند إليه، ولكن لا تناسب بينهما فى المعنى ولا إيهام غير المراد فإما أن يكون للجملتين محل أو لا ويكون بالواو أو غيرها، هذه أربعة وعلى كل منها إما أن يكون بينهما تمام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ انقطاع أو غيره من الأقسام الخمسة، تبلغ عشرين، الأول: أن يكون بينهما كمال الانقطاع، وليس للأول محل والعطف بالواو مثل: قمت أنا وقعدت أنت الثانى كذلك، والعطف بثم، الثالث: كمال الانقطاع، وللأول محل والعطف بالواو زيد يشعر وهل يكتب؟ الرابع: كذلك، والعطف بثم، الخامس: بينهما كمال الاتصال، ولا محل لهما والعطف بالواو مثل: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ (¬1) فلا يجوز الوصل، السادس: كذلك بثم، لو قلت: أمدك زيد بما تعلم ثم أمدك بكذا وأردت بالثانى الأول، السابع: كمال الاتصال ولها محل وعطفت بالواو، كما تقول: إن الله أمدك بما تعلم أمدك بأنعام، الثامن: كذلك وهى بثم، التاسع: بينهما شبه كمال الانقطاع، ولا محل والعطف بالواو، كقولك: وتظنّ سلمى أنّنى أبغى بها … بدلا أراها فى الضّلال تهيم (¬2) قالوا: ولا يجوز العاشر: كذلك، وهو بثم لو قلت: ثم أراها، الحادى عشر: شبه كمال الانقطاع ولها محل والعطف بالواو، كقولك: إن سلمى تظن أننى أبغى بها بدلا وأراها تهيم، الثانى عشر: كذلك، والعطف بثم، ثم أراها، الثالث عشر: شبه الاتصال والعطف بالواو ولا محل لو قلت: زيد عليل وسهره دائم، على إرادة الاستئناف، الرابع عشر: كذلك، والعطف بالواو وبثم، الخامس عشر: شبه الاتصال، وللجملة محل والعطف بالواو، زيد يحمده الناس وكرمه دائم، السادس عشر: زيد يحمده الناس ثم كرمه دائم، وفى هذه الأمثلة - وما تجد عليها من الركاكة حتى إن قائلها ليصير ضحكة، ويعد فى حيز الحيوان مع القطع بجوازها من جهة اللغة مع الاتحاد فى المسند والمسند إليه مع العطف فى كثير منها بغير الواو - ما يوضح لك على ما ستراه - إن شاء الله تعالى - أن الاتحاد فى المسند والمسند إليه غير كاف ولا شرط، وأن كلا من العطف بالواو وغيره يدخله الانقطاع والاتصال، وأن كلا من كون الجملتين لهما محل وكونهما لا محل لهما يدخله الفصل والوصل، وإنما ذكر المتقدمون من أهل هذا العلم ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 132، 133. (¬2) البيت لأبى تمام، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 129، غير منسوب، والمفتاح ص 261، ومعاهد التنصيص 1/ 279، والمصباح ص 58، وعقود الجمان ص 181.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تقسيمها إلى ما له محل وما ليس له محل؛ لأنهم قصدوا به بيان ما كان قريب الجامع وبعيده كما صرح به فى المفتاح، وأن ما ذكره المصنف من خلاف ذلك، ومشى الشارحون عليه ليس بصحيح قال فى المفتاح: وذلك قسمان: قسم يسهل تعاطيه، وقسم يبعد ذلك فيه وسنمرّ - إن شاء الله تعالى - على ما تضمنه هذا التقسيم من القواعد ونتكلم عليه فى كلام المصنف شيئا فشيئا بعد أن أذكر قواعد هى شرح لما سبق وأساس لما سيأتى، الأولى: أصل الجملة، أن لا يكون لها محل من الإعراب، وإنما يكون لها محل إذا صح أن يسد المفرد مسدها هذا هو الضابط وأما التفصيل فالجمل التى لها محل من الإعراب، سبع: الخبرية نحو: زيد أبوه قائم فمحلها رفع، وكان زيد أبوه قائم فمحلها نصب، والحالية مثل: جاء زيد وهو يضحك ولا يكون محلها إلا نصبا، والواقعة مفعولا إما محكيا بالقول نحو: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (¬1) أو فى محل المفعول الثانى من باب ظن، نحو: ظننت زيدا يقوم، أو معلقا عنها نحو: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى (¬2) والمضاف إليها نحو: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (¬3) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ (¬4) ومحلها الجر، والواقعة جواب شرط بالفاء، نحو: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ (¬5) أو بعد إذا الفجائية نحو: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (¬6) ومحلها الجزم، فأما نحو: إن قام زيد قام عمرو فالفعل مجزوم المحل لا الجملة كلها، والتابعة لمفرد كالجملة الموصوف بها وهى على حسب موصوفها والتابعة لجملة لها محل نحو: زيد قام وقعد، وأما الجمل التى لا محل لها من الإعراب فهى الابتدائية المستأنفة، والواقعة صلة لاسم أو حرف، والمعترضة، والتفسيرية: وهى الكاشفة لحقيقة ما تليه وقيل: هى بحسب ما تفسره، والواقعة جواب قسم نحو: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (¬7) والواقعة بعد أدوات التحضيض وهى داخلة فى المستأنفة، والواقعة بعد أدوات التعليق، والواقعة جوابا لها غير ما سبق، والتابعة ما لا موضع له من الإعراب. ¬

_ (¬1) سورة مريم: 30. (¬2) سورة الكهف: 12. (¬3) سورة المائدة: 119. (¬4) سورة غافر: 16. (¬5) سورة الأعراف: 186. (¬6) سورة الروم: 36. (¬7) سورة يس: 3.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): إذا قال: زيد قام وقعد بكر، فهاتان الجملتان لا محل لهما للاستئناف، فإذا حكيتهما فقلت: قال زيد قام زيد وقعد بكر، فهذه الجملة يصدق عليها أن لها محلا فى الحكاية وإن لم يكن لها محل فى الكلام المحكى، والجملتان هنا هما معا فى محل نصب وليست الأولى فى محل نصب والثانية تابعة فإذا وقع الكلام فى عطف الثانية على الأولى كان ذلك من قبيل العطف على ما لا محل له، لأن العاطف عطفها قبل حكايتها، إما تحقيقا كهذا المثال أو تقديرا مثل: سيقول زيد قام عمرو وقعد بكر فلو كان المحكى عنه قال قام عمرو وقعد بكر إما فى وقت أو وقتين فحكيته فقلت: قال زيد قام زيد وقعد بكر، كنت عطفت اعتبارا بالحكاية لا بالمحكى وكان العطف على ما له محل، إذ المعنى: قال هذا وقال هذا. ولهذا البحث تتمات ذكرناها فى شرح المختصر. (الثانية): تقدم فى كلامنا أنه تارة يكون لإحدى الجملتين حكم لا يريد إعطاءه للأخرى، يعنى بذلك: أن تكون مشتملة على قيد لفظى كالشرط ونحوه وخرج بقولنا: قيد أن يكون لها حكم غير قيد كدلالتها على الثبوت بكونها اسمية دون الأخرى، فإن ذلك ليس مما نحن فيه بدليل أنهم سيفردونه بالذكر فى آخر الباب، وكذلك تأكيد إحدى الجملتين بإن واللام، أما القيد اللفظى فإذا قلت: إن جاء زيد أكرمته وهو جدير بذلك احتمل أن تكون الجملة الاسمية معطوفة على الجزاء فيكون معناه: إن جاء زيد فهو جدير بالإكرام، واحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الشرطية فتكون غير مقيدة، وإن لم يحصل مرجح لأحد الاحتمالين فينبغى أن يمتنع - كما سيجئ - فإذا قلت: إن أسلم الناس دخلوا الجنة وهم عبيد الله، تعين أن يكون معطوفا على الجملة الشرطية؛ لأنه لو كان معطوفا على الجواب وله حكم وهو اختصاصه بالشرط؛ لكان الشرط فى المعطوف عليه كذلك، فيلزم أن يكون المعنى إن أسلموا فهم عبيد الله، وليس هو المراد لأنهم عبيد الله أسلموا أم كفروا. واعلم أن عبارة أهل هذا الفن إذا كان للأولى حكم لا يقصد إعطاؤه للثانية، وإنما عدلت عن عبارتهم إلى قولى، إذا كان لإحدى الجملتين، ومقصودى بهذا أنه لو كان القيد فى الجملة الثانية كان الأمر كذلك، فإنك إذا قلت: أكرم المسلمين وأهن الكافرين إن رأيتهم، كان الشرط عائدا إلى الجملتين معا، عند من قال: إن الاستثناء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عائد إلى الكل، وعند أكثر من ذهب إلى أن الاستثناء عائد إلى الأخير حتى نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وإذا كانت اللغة تقضى بعود الشرط إلى الجمل السابقة فلو أردت أن الشرط عائد إلى الأخيرة امتنع العطف، كقولك: الإسلام حق والكفار فى النار إن لم يتوبوا، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول: إن ما قبل الشرط جواب على رأى الكوفيين، أو دليل جواب على رأى البصريين هذا فى الشرط بإن أما الشرط بإذا، وهو الذى نصّ عليه أهل هذا العلم ففيه بحث شريف، سأذكره حيث ذكره المصنف - إن شاء الله تعالى - وأما غير ذلك من القيود فلم يتعرضوا له، والذى يظهر أن يقال: أما الاستثناء فإن كان بعد الجملتين ففيه الخلاف المشهور فى عوده إليهما أو إلى الأخيرة إن قلنا: يعود إلى الأخيرة فلا يمنع أن تعطف الجملة التى فيها الاستثناء على جملة استثناء فيها، وإن قلنا: يعود إلى الجميع فيمتنع أن تعطف الجملة المذكورة على جملة لا تريد أن تستثنى منها شيئا إلا بقرينة؛ لأن ذلك حكم للثانية لا تريد أن تعطيه للأولى، ومثاله: أكرم الناس واقتل المشركين إلا أباك، تريد الاستثناء من الأخير فقط وإن كان الاستثناء بين الجملتين، فهل هو كما لو كان بعدهما وإذا أردت أن لا تستثنى من الثانية امتنع الوصل أو لا؟ لم أر فيه نقلا فيحتمل أن يقال: إن الأمر كذلك؛ لأن علة تعدى الاستثناء الأخير إلى الجميع أن العطف يصيّر المتعدد كالمفرد، وهذا المعنى حاصل تقدم الاستثناء أم توسط وقد يقال: إن (إلا) من شأنها أن تخرج مما قبلها لا مما بعدها، لأن الأصل فى المستثنى منه أن يكون مقدما على المستثنى، ويحتمل أن يقال: إن قلنا العامل فى المستثنى هو إلا كما هو الصحيح عند سيبويه والمبرد فلا يتعدى الاستثناء إلى الجملة بعده؛ لأنه يلزم منه تأخير المستثنى منه عن المستثنى والمنسوب إليه معا، وهو ممتنع عند الجمهور، وقد حملوا على الشذوذ قول الشاعر: خلا الله لا أرجو سواك فإنّما … أعدّ عيالى شعبة من عيالك (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للأعشى فى خزانة الأدب 3/ 314، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص 382، وحاشية يس 1/ 355، والدرر 3/ 164، وشرح الأشمونى 1/ 237 وشرح التصريح 1/ 363، وشرح ابن عقيل ص 317، ولسان العرب 14/ 242، (خلا)، والمقاصد النحوية 3/ 137، وهمع الهوامع 1/ 266، 232، وفيه:" وإنما" مكان" فإنما".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن قلنا: العامل فى المستثنى، هو ما قبلها أو الاستثناء منه، فليعد إلى الجميع؛ لأنا حينئذ لم نؤخر المستثنى منه عن المستثنى بل نقدر استثناء آخر عقب الثانية، كما يقدر استثناء عقب ما قبل الأخيرة إذا تأخر الاستثناء عنها، ويكون حذف من أحدهما؛ لدلالة الآخر عليه، ولا وجه لعود المستثنى المتأخر للكل مع القول: بأن العامل ما قبلها إلا ذلك وقد انحل لنا بهذا الإشكال كثير على الشافعية، وهو أن إعادتهم الاستثناء إلى الكل مع القول: بأن العامل فى المستثنى هو العامل فى المستثنى منه يلزم منه توارد عوامل على معمول واحد فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى وأما غير ذلك من القيود كالظرف نحو: ضربت زيدا وأكرمت عمرا اليوم، وعكسه والصفة مثل: أكرم المسلمين وأهن الكافرين الذين عندك، فالذى يظهر أنه كالشرط وأنه يتقيد سواء أتوسط القيد أم تأخر، فيمتنع الوصل إلا عند إرادة التشريك فى الحكم، وقد قال شيخنا أبو حيان فى أول شرح التسهيل: إنه لا خلاف لعلمه فى أن عطف الفعل على الفعل يقتضى اشتراكهما فى الزمان، وأن يقوم زيد الآن، ويخرج ويقوم زيد، ويخرج الآن، يتخلص الفعل فيهما معا للحال، وابن الحاجب اختار فى مسئلة" لا يقتل مسلم بكافر" (¬1) أن القيد فى أحد المتعاطفين يستلزم القيد فى الآخر وردد القول فى نحو: ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا، هل يقتضى أنهما يوم الجمعة أم لا؟ ولكن تلك المسئلة فرضها فى عطف المفردات ولا يلزم من تعدى قيد أحد المتعاطفين إلى الآخر فى عطف المفردات تعديه فى عطف الجمل، وقد تكلمنا معه فى ذلك فى شرح المختصر بما لا يستغنى عن مراجعته، وأما الصفة فإذا جاءت بعد الجمل، قال أصحابنا فى الوقف: إنها تعود على الجميع، ومما نحن فيه قولك: إنما زيد قائم وعمرو جالس، تريد عطف الجملة الثانية على ما بعد إنما، ومن ذلك الحال وقد تكلموا عليها فى قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً (¬2). (الثالثة): حيث قلنا فى هذا الباب: يجب الوصل أو قلنا: يجب الفصل نريد به الوجوب بحسب البلاغة وتطبيق الكلام على مقتضى الحال ولا نعنى الوجوب بحسب اللغة إلا فى مواضع يسيرة، ننبه عليها فى موضعها، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هذا لفظ حديث أخرجه أحمد والترمذى وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وانظر صحيح الجامع (ح 7752)، وراجع الإرواء (ح 2209). (¬2) سورة الأنبياء: 72.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرابعة): لا يخفى أن الفصل والوصل يكونان بين المفردات كما يكونان بين الجمل، وسنعقد لذلك فصلا فى آخر الكلام، إن شاء الله تعالى. (الخامسة): لا يخفى أن ذكر الفاء ههنا إنما هو إذا كانت لمجرد العطف، أما إذا كانت للسببية فقد تقع حيث يمتنع العطف بغيرها، كقولك: أكرمنى زيد فأكرمه، فإن بينهما كمال الانقطاع، والوصل حسن. (السادسة): قدمنا أن كون الجملة لها محل مما يقرب الجامع بخلاف ما إذا لم يكن لها محل، وليس ذلك على إطلاق فربما كانت الجملة لا محل لها والجامع أقرب منه، حيث لها محل كالجملة الموصول بها إذا عطف عليها، فإنها لا محل لها، كقولك: رأيت الذى يعطى ويمنع، فإن استدعاء الموصول لتمام صلته أتم من استدعاء الإعراب للجملة المعطوفة، وكذلك الموصول الحرفى كقوله: لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم … وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا أى: فى الجمع بين الأمرين، ومن ذلك الجملتان اللتان يطلبهما شرط، مثل: إن جاء زيد وجاء عمرو فأكرمه فإن الفعل مجزوم لا الجملة كلها. وقد آن لنا أن نرجع إلى كلام المصنف فقوله: إذا أتت جملة بعد جملة - يعنى: إذا أردت أن تأتى بها؛ لأنه لا يقال: إذا أتت - فتارة توصل وتارة تفصل؛ لأنها بعد إتيانها لا تتغير عما وقعت عليه من فصل ووصل، وقوله: فالأولى ينبغى أن يقول: السابقة؛ فإن الأول حقيقة فيما لم يسبقه غيره، والكلام فى كل جملة بعدها أخرى، كالثانية مع الثالثة والثالثة مع الرابعة، وعذره فى ذلك أن كل واحدة أولى بالنسبة لما بعدها، ومنه قولهم: ادخلوا الأول فالأول، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: - " أول أشراط السّاعة طلوع الشّمس من مغربها" (¬1) مع قوله صلّى الله عليه وسلّم: - " أول أشراط السّاعة نار تحشر النّاس" (¬2) فقد جمع بينهما بذلك (قوله: فالأولى إما أن يكون لها محل من الإعراب) قد تقدم تفصيله، وأن هذا التفصيل ليس صحيحا إنما المحل موضع يظهر به الجامع والسكاكى لم يقصد هذا التفصيل، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم فى" الفتن وأشراط الساعة" باب: خروج الدجال ... (ح 2941) ورواه مختصرا: الطبرانى عن أبى أمامة، انظر صحيح الجامع (ح 2560). (¬2) أخرجه البخارى فى" أحاديث الأنبياء"، باب: خلق آدم وذريته، (6/ 417، 418)، (ح 3329)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" الجنة".

وعلى الأول: إن قصد تشريك الثانية لها فى حكمه، عطفت عليها كالمفرد؛ فشرط كونه مقبولا بالواو ونحوه: أن يكون بينهما جهة جامعة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وعلى الأول إما أن يقصد التشريك أو لا) بناء على توهم أن ذلك فرع كون الأولى لها محل، وهذا لا يختص به ذلك بل لو لم يكن للأولى محل من الإعراب فإما أن يقصد ربط الثانية بالأولى أو لا يقصد، غير أنه إذا كان للأولى محل يعبر بقصد التشريك فى حكم الإعراب، وإذا لم يكن يعبر بقصد الربط لجهة جامعة إذ لا إعراب إذا لم يكن محل، وسيأتى ذكر هذا فى كلام المصنف فى القسم الثانى، فلو جعله مورد التقسيم فى الأول لكان أحسن وعلى كل تقدير ذكره لا فائدة فيه؛ لأن من المعلوم أن من قصد التشريك عطف وهذا لا يتعلق بعلم المعانى بل هو من بداية قواعد النحو وينبغى أن يقيدها بما لا يوهم فإن كان الوصل يؤدى إلى إيهام غير المراد امتنع كما سيأتى فى العطف على ما له محل، وقوله: إن قصد تشريك الثانية لها فى حكمه، أى: حكم الإعراب؛ وإنما لم يقل الإعراب، لأنها ليس لها إعراب بل حكم إعراب معناه فى الإعراب الحكمى، ويحتمل أن يريد فيما للإعراب من حكم خبرية أو فاعلية أو غيرهما، وحاصله: أنه إذا كان للجملة محل وقصد ثبوت حكم إعرابها للاحقة عطفت عليها، ويجب فيها الوصل ووجوب هذا الوصل لغوى؛ لأن قصد التشريك فى الإعراب لا يتصور إلا بالوصل؛ ولهذا قال المصنف: عطفت ولم يقل: وصلت؛ لأن الوصل إذا أريد به اللغوى يعبر عنه بالعطف. (قوله: كالمفرد) أى: كما يعطف المفرد إشارة إلى أن كون الجملة لها محل؛ إنما هو لأنها فى تقدير المفرد ويحتمل أن يريد: كما أنه إذا قصد تشريك مفرد لمفرد فى الإعراب يعطف (قوله: فشرط كونه) أى: كون العطف مقبولا أى فى فن البلاغة، ولو لم يكن كذلك كان العطف قبيحا وإن كان سائغا لغة. (أن يكون بينهما) أى: بين المتعاطفين (جهة جامعة) أى: تناسب فى المعنى وهذا بشرط أن يكون بينهما التوسط، فإن كان بينهما كمال اتصال أو انفصال أو شبه أحدهما فلا، فإذا وجد التناسب وجب الوصل، وإلا امتنع ووجب الفصل، فوجوب الوصل لغوى فى الصورتين؛ لوجوب التشريك وبحسب ما تقتضيه البلاغة واجب فى الصورة الأولى لا الثانية، وقوله: فى الواو ونحوه - يعنى: من حروف العطف - ولا أدرى ما الذى أحوجه إلى ذكر الواو وحروف العطف كلها كذلك إلا أن يكون ذكرها؟ لأنها أم الباب وإن

نحو: زيد يكتب ويشعر، أو: يعطى ويمنع؛ ولهذا عيب على أبى تمام قوله [من الكامل]: لا والّذى هو عالم أنّ النّوى … صبر وأنّ أبا الحسين كريم ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يريد أن غير الواو يوصل بها من غير جهة جامعة فسيأتى الكلام معه ثم لا معنى حينئذ لقوله: نحوه؛ لأن الواو عنده منفردة بهذا الحكم مثال ذلك: زيد يكتب ويشعر، لأن بين الشعر والكتابة تناسبا والمسند إليه متحد، أو زيد يعطى ويمنع؛ لأن بين الإعطاء والمنع تناسبا وإن كانا متضادين والمسند إليه واحد فإن معناه الإخبار بأنه جامع للوصفين، واستحضار أحدهما يسبب استحضار الآخر، ولهذا كانت المضادة من علاقات المجاز، ومنه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيبسط (¬1) وسيأتى الكلام - إن شاء الله تعالى - على الجامع الخيالى وما نحن فيه منه، وكذلك فى عطف المفرد، يشترط أن يكون بين المفردين تناسب كقوله سبحانه وتعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها (¬2) والتناسب فيه على ما سبق ولعدم التناسب عيب على أبى تمام قوله: لا والّذى هو عالم أنّ النّوى … صبر وأنّ أبا الحسين كريم (¬3) إذ لا تناسب بين مرارة النوى وكرم أبى الحسين، وقد تمحل الناس إلى أجوبة منها: أن مرارة النوى سبب يقتضى انتجاع أبى الحسين لمكارمه التى تزيل شظف النوى، أو نعنى: كرم الأخلاق الذى يزيل عنه النوى، وقد بالغ الطيبى فى استحسانه إشارة إلى أنه جمع بين متضادين هما: مرارة النوى، وحلاوة كرم أبى الحسين، فأبرزهما فى معرض التوخى، كالجمع بين الضب والنون (قوله: وإلا) أى: وإن لم يقصد إعطاء الجملة اللاحقة حكم إعراب السابقة (فصلت): عنها فلم تعطف عليها، وجوب الفصل فى هذه لغوى؛ لأن من قصد عدم إعطاء حكم الإعراب السابق لا يستطيع أن يعطف وينبغى أن يقول: استؤنف، كما قال فى القسم قبله عطفت وينبغى أن يقسم هذا قسمين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 245. (¬2) سورة الحديد: 40. (¬3) ديوان أبى تمام 3/ 290، ودلائل الإعجاز ص 173، ومعاهد التنصيص 1/ 91، وأبو الحسين المذكور فى البيت هو محمد بن الهيثم بن شبابة، وانظر نهاية الإيجاز ص 323، وعقود الجمان ص 173.

وإلا: فصلت عنها؛ نحو: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ؛ لم يعطف اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على إِنَّا مَعَكُمْ؛ لأنه ليس من مقولهم. وعلى الثانى: إن قصد ربطها بها على معنى عاطف سوى الواو - ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: غير مقبول، وهو أن يكون بينهما جهة جامعة فكان من حق المتكلم أن يقصد العطف فالعدول عنه غير بليغ فتعين تقسيم هذا إلى الأحوال الخمسة من كمال الانقطاع أو الاتصال أو شبه أحدهما أو التوسط كما سبق. والثانى: مقبول، وهو إذا لم يكن بينهما جهة جامعة كقوله سبحانه وتعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬1) لم يعطف اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على إِنَّا مَعَكُمْ التى هى فى محل نصب بالقول؛ لأنه لم يقصد إعطاؤها حكم إعراب إِنَّا مَعَكُمْ وإنما لم يقصد ذلك؛ لأن الله يستهزئ بهم ليس من مقولهم فلا يمكن أن يعطى حكم مقولهم من العطف عليه المستلزم أن يكون مقولا، كذا قال المصنف وغيره ولك أن تقول: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ جملة مستأنفة ولا يصح عطفها على إِنَّا مَعَكُمْ وإنما يكون الفصل فى شئ يمكن أن يعطف على غيره، فيفصل عنه وتكون الجملتان من كلام متكلم واحد، وهاتان ليستا كذلك، ويمكنك أن تجعل الكلام هنا بين جملة إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ وبين جملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ والحال كذلك، ثم لك أن تقول: إِنَّا مَعَكُمْ مستأنفة لا محل لها من الإعراب، فليست من هذا القسم فى شئ كما سبق، وكأنه لاحظ أنها فى محل نصب بالقول اعتبارا بالحكاية لا بالمحكى وهو أحد الاعتبارين السابقين. القسم الثانى: أن لا يكون لها محل (قوله: وعلى الثانى) أى: وعلى تقدير أن لا يكون للجملة السابقة محل (فإن قصد ربطها) أى: الجملة اللاحقة (بها) أى: بالسابقة (على معنى) حرف (عاطف سوى الواو) وهذا القسم هو نظير القسم الأول، إلا أن هناك عبر بتشريك حكم الإعراب؛ لأن للجملة الأولى إعرابا، وهنا لما لم يكن للأولى إعراب، عبر بقصد الربط أى ربطها ربطا يفيد فائدة تحصل من حرف العطف غير ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 14، 15.

عطفت به، نحو: دخل زيد فخرج عمرو خ خ، أو: ثمّ خرج عمرو خ خ؛ إذا قصد التعقيب، أو المهلة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الواو، كالتعقيب المستفاد من الفاء والتراخى المستفاد من ثم، (عطفت) أى: وجب وصلها (به) أى بذلك الحرف العاطف (نحو: دخل زيد فخرج، أو ثم خرج عمرو إذا قصد بالأول والتعقيب) وبالثانى (التراخى) وهذا الربط حينئذ واجب لغة وبلاغة، هكذا قال المصنف، وقد قدمنا أنه إذا كان العطف بغير الواو كان كالواو، فيأتى فيه التفصيل: إن كان فيه توسط الانقطاع أو الاتصال بشروطه وجب، وإلا لم يجب، وليت شعرى كيف يصح أن نقول: جالينوس طبيب؟ ثم سورة الإخلاص من القرآن، ثم إن القرد يشبه الآدمى واتسع كمّ الخليفة، وإنما لم أمثل بالفاء؛ لأن الفاء يكثر مجيئها للسببية وذلك لا يحصل إلا مع اعتبار مناسب، ثم ليت شعرى هلا فصل بين الواو وغيرها فيما إذا كان للأولى محل، وأى فرق بين زيد يفعل كذا ويفعل كذا وبين قولك: زيد يفعل كذا ثم عمرو يفعل، وحيث كان مساويا لقولك: ثم يفعل كذا فتفصل فى قولك: زيد يفعل كذا، ثم يفعل كذا التفاصيل السابقة، وقولك: زيد يفعل كذا، ثم عمرو يفعل كذا، لا نفصل فيه بل يجب الوصل ولا يشك عاقل أن قولك: زيد يفعل كذا ثم يفعل كذا، أجدر بالاتصال من قولك: زيد يفعل كذا، ثم عمرو يفعل كذا، وكلام المصنف يقتضى العكس، والصواب أن غير الواو يقرب الجامع من الذهن سواء أكان للأولى محل أم لا، وأعظم برهان على أن غير الواو فى التى لها محل كغير الواو فى التى لا محل لها: أن السكاكى لما ذكر غير الواو وأنها تقرب الجامع ذكر من الحروف العاطفة لا، وإطلاق المصنف شملها، وقد علم أن لا العاطفة لا يعطف بها جملة كما نص عليه النحاة، فان قلت: زيد قائم لا عمرو جالس، لم تكن لا هذه عاطفة، وهذا نصّ من السكاكى على أن الحرف العاطف إذا كان غير الواو والجمل لا محل لها يخالف الواو عنده كما يخالفها فيما إذا كان للجملة محل، ومما وقع للمصنف هنا على خلاف الصواب أنه مثل للعطف بغير الواو، حيث لا محل للجملتين بقوله تعالى: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (¬1) وهو غريب، فإن محلهما النصب، وقد أكثر فى هذا الفصل من أمثال هذا؛ لأنه قسّم قسمين وصار يأخذ من المفتاح أمثلة لا يختص بها أحدهما دون الآخر، فوقع فى أوهام سلم السكاكى منها، ¬

_ (¬1) سورة النمل: 27.

وإلّا: فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية - فالفصل؛ نحو: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ الآية، لم يعطف: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على: قالُوا؛ لئلا يشاركه فى الاختصاص بالظرف؛ لما مرّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وإلا) أى: وإن لم يكن للجملة السابقة محل، ولم يقصد ربطها بالثانية على معنى عطف خاص، فإما أن يكون للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية، أو لا، وقد تقدم بيان الحكم ما هو، وليت شعرى هلا فصّل هذا التفصيل فيما إذا كان للأولى محل، ولا شك أنه يجرى فيه قطعا لو قلت: زيد إن قام فأكرمه وهو ابنك، عاطفا على الجواب لم يجز فإن كان (فالفصل) أى: فالفصل واجب (نحو): قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ (¬1) لم يعطف اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬2) على قالُوا إذ لو عطف عليه لثبت له حكمه وحكم قالُوا أنه يختص به الظرف أى: لا يقولون إلا وقت خلوهم فيلزم أن يكون استهزاء الله سبحانه وتعالى بهم كذلك، والواقع أن الله يستهزئ بهم وقت خلوهم وغيره (قوله: لما مر) أى: من كون تقديم الظرف يفيد الاختصاص. وهنا أسئلة أحدها: أن قوله: لئلا يشاركه فى الاختصاص بالظرف مقلوب صوابه أن يقول: فى اختصاص الظرف به، الثانى: أن قوله: إن جملة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ لو عطفت على قالُوا لاقتضى اختصاص الاستهزاء بالظرف، قد يقال: لا نسلم؛ لأن تقييد المعطوف عليه بالظرف قد لا يلزم أن يتقيد به المعطوف، وقد أشار ابن الحاجب فى المختصر إلى احتمالين فى قولك: ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا، هل يلزم أن يكون ضرب عمرو أيضا يوم الجمعة أو لا؟ وقد تقدم الكلام على شئ من ذلك، فإذا احتمل ذلك فى المفردات فالجمل أولى بأن لا تتقيد الثانية منها بظرف الأولى؛ لكن قد يجاب عن هذا: بأن التقييد بالظرف هنا ما جاء من كونه ظرفا للمعطوف عليه، بل لكونه شرطا، والمعطوف على الجواب لا بد أن يكون معلقا على الشرط قطعا، والثالث: أنا لا نسلم أنه تقديم معمول يقتضى الاختصاص بالنسبة إلى قالُوا فإنه جار أن يكون العامل فى إذا هو الفعل الذى يليها كما هو قول مشهور اختاره شيخنا أبو حيان، فلا يكون قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ تقدم له معمول يؤذن باختصاص. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 14. (¬2) سورة البقرة: 15.

وإلّا: فإن كان بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام، أو الاتصال، أو شبه أحدهما - فكذلك. وإلّا فالوصل متعيّن: أمّا كمال الانقطاع: فلاختلافهما خبرا وإنشاء، لفظا ومعنى؛ نحو [من البسيط]: ـــــــــــــــــــــــــــــ (الرابع): سلمنا أن إِذا خَلَوْا معمول قالُوا كما هو قول الجمهور، ولا نسلم أن ذلك تقديم يؤذن بالاختصاص؛ لأن المعمول إذا اقتضى تقديمه للاختصاص لتحويله عن محله، وإذا إن كانت متقدمة؛ لكونها معمولة ووضع المعمول المتأخر عن عامله فهى شرط وحق الشرط أن يتقدم على مشروطه فلا تقديم فيها، بل هى بخصوص كونها شرطا فى محلها غير متقدمة ويستحيل تأخرها عن مشروطها على المذهب البصرى، وبعموم كونها معمولا متقدمة ومراعاة خصوصها أولى من مراعاة عمومها، ولا نسلم أن المعمول السابق إذا كان وضعه يسبق عامله يؤذن بالاختصاص، وقد تقدم عند الكلام على الاختصاص تنبيه على شئ من ذلك، وإنما يتأتى ما ذكروه فى إذا المتجردة عن الشرط (قوله: وإلا) أى: وإن لم يكن للأولى حكم لا يقصد إعطاؤه للثانية سواء قصد عدم إعطائه أم لم يقصد، وليس للأولى محل من الإعراب، وهذا القيد يضرّ ولا ينفع؛ لأن الأحوال الخمسة جارية، وإن كان لها محل فذلك خمسة أقسام، يجب الفصل فى أربعة منها، وهو أن يكون بينهما كمال الاتصال أو يكون بينهما كمال الانفصال أو شبههما والخامس: أن يكون ما بينهما متوسطا بين كمال الاتصال وكمال الانفصال، فيجب الوصل، وإنما وجب الفصل فى الأولى؛ لأن الواو للتشريك، والتشريك إنما يكون بين المتناسبين والفرض أن كمال الانقطاع موجود بينهما فلا تناسب، وأما فى الثانية: فإنهما إذا كان بينهما كمال الاتصال وصارا كالشئ الواحد فيكون كعطف الشئ على نفسه وهو ممتنع، وأما إن كان بينهما ما يشبه كمال الانقطاع أو ما يشبه كمال الاتصال، فلما تقدم؛ لأن شبيه الشئ له حكمه، وأما وجوب الوصل فى الخامسة فلارتباط بعض الكلام ببعض ولا موجب للعدول. ص: (أما كمال الانقطاع إلخ). (ش): القسم الأول من الخمسة: أن يكون للجملة الأولى حكم يقصد إعطاؤه للثانية وبينهما كمال الانقطاع بلا إيهام خلاف المقصود، وذلك أن الأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه.

ومعنى؛ نحو [من البسيط]: فكلّ حتف امرئ يجرى بمقدار … وقال رائدهم أرسوا نزاولها ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: أن يرجع إلى الإسناد كأن يختلفا خبرا وإنشاء ولفظا ومعنى، والمراد: أن تكون إحداهما خبرية لفظا ومعنى، والأخرى إنشائية لفظا ومعنى، كذا ذكروه وفيه نظر، فإن مدلول هذه العبارة: أن كل واحدة منهما تخالف الأخرى فى اللفظ وفى المعنى معا وذلك بأن تكون الأولى: خبرية اللفظ إنشائية المعنى، والثانية: إنشائية اللفظ خبرية المعنى أو عكسه، وبأن تكون الأولى إنشائية لفظا ومعنى، والأخرى خبرية لفظا ومعنى وعكسه فقد دخل فى كلامه أربع صور فلا معنى لتخصيصه باثنين منها. واعلم: أن الخبر والإنشاء المتمحضين لا يعطف أحدهما على الآخر فيجب الفصل بلاغة وأما لغة فاختلفوا فيه فالجمهور على أنه لا يجوز واختاره ابن عصفور فى شرح الإيضاح وابن مالك فى باب المفعول معه فى شرح التسهيل، وجوزه الصفار وطائفة ونقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه جواز عطف المختلفتين بالاستفهام والخبر مثل: هذا زيد ومن عمرو؟ وقد تكلموا على ذلك فى قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (¬1) وحاصله أن أهل هذا الفن متفقون على منعه، وظاهر كلام النحاة جوازه، ولا خلاف بين الفريقين؛ لأنه عند من جوزه يجوزه لغة ولا يجوزه بلاغة واختلفوا فى: باسم الله وصلّى الله على محمد فى إثبات الواو وإسقاطها، ثم أنشد المصنف على ذلك قول الشاعر وهو الأخطل كذا ذكر سيبويه وإن كان لا يوجد فى ديوانه: (وقال رائدهم أرسوا نزاولها) … فكلّ حتف امرئ يجرى بمقدار (¬2) لأن أرسوا فعل أمر، فهو إنشاء لفظا ومعنى، ونزاولها خبر لفظا ومعنى؛ لأن الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة إما للحرب على قول ابن الحاجب وهو ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 121. (¬2) البيت من البسيط، وهو للأخطل فى خزانة الأدب 9/ 87، والكتاب 3/ 96، ومعاهد التنصيص 1/ 271 وفى المفتاح ص 269، وشرح عقود الجمان 1/ 202، والبيت فى المصباح ص 64، بلفظ: فقال قائلهم أرسوا ... وفى عقود الجمان ص 175، وبلا نسبة فى شرح المفصل 7/ 51.

(تنبيه)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحيح أى: أرسوا السفينة نزاول الحرب، أو للسفينة على قول غيره فلا يحسن جزمه ولا جعله حالا لفوات معنى التعليل حينئذ، بل يتعين الرفع على القطع، قال الخطيبى مثل: قم يدعوك؛ لأن المراد بقوله: يدعوك تعليل الأمر بالقيام، ولا يحسن جعله مجزوما؛ لأنه ينعكس المعنى ويصير القيام سببا للدعاء ولو أردت ذلك لجزمت، قلت: وفى هذا نظر؛ لأن نزاولها لا يمنع جزمه ولا ينعكس المعنى لأن المزاولة قد تترتب على الإرساء، ولا سيما إذا عاد الضمير على الحرب ويكون المراد مزاولتهم وأهل السفينة، وقوله: قم يدعوك، فى التمثيل به نظر؛ لأن يدعوك خبر فى معنى الإنشاء، فليس مما نحن فيه، ولو كان لى تصرف فى هذا البيت لقدمت حتف على كل، وقلت: حتف كل امرئ يجرى بمقدار، لما لا يخفى من أن الحتف ليس متجزئا ولا متعددا بالنسبة إلى كل فرد حتى يؤتى فيه بكل بخلاف امرئ، فإنه يؤتى فيه بكل ليفيد استغراق الأفراد، وجعل المصنف هذا من قسم ما ليس له محل؛ رعاية للكلام المحكى كما سبق، لا للحكاية وقد جعل السكاكى مما نحن فيه قول اليزيدى: ملّكته حبلى، ولكنّه … ألقاه من زهد على غاربى وقال: إنّى فى الهوى كاذب … انتقم الله من الكاذب (¬1) وحمله الجرجانى على الاستئناف بتقدير قلت: المعنى، وقال: أنت فى الهوى كاذب، قلت: انتقم وهو واضح؛ فإنه لا يصح أن يكون مما نحن فيه إلا إذا كان انتقم الله من كلام المحكى عنه وفيه بعد، وينبغى أن يعلم أنا إذا جعلناه استئنافا كان مقطوعا عن وقال، فيمكن أن يقال: إنه من قطع الاحتياط الذى يكون لشبه الانقطاع؛ لأن عطفها على قال يوهم عطفها على إنى. (تنبيه): اعترض الخطيبى على المصنف فقال: التقدير أن الجملة الأولى لا محل لها، والأولى فى البيت لها محل؛ لأنه مقول إما مفعول به أو مفعول مطلق على اختلاف ¬

_ (¬1) البيتان فى دلائل الإعجاز ص 237، وقال الأستاذ محمود شاكر فى تعليقه عليه:" اليزيدى" هو" أبو محمد"،" يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوى"، والبيتان غير منسوبين فى الأغانى. 22/ 168.

أو معنى فقط؛ نحو: مات فلان، رحمه الله! أو لأنه لا جامع بينهما؛ كما سيأتى. وأمّا كمال الاتصال: فلكون الثانية: مؤكدة للأولى؛ لدفع توهّم تجوّز، أو غلط؛ نحو: لا رَيْبَ فِيهِ؛ * فإنه لمّا بولغ فى وصفه ببلوغه الدرجة القصوى فى الكمال؛ بجعل المبتدأ ذلك خ خ، وتعريف الخبر باللام -: جاز أن يتوهّم - السامع قبل التأمّل: أنّه ممّا يرمى به جزافا؛ فأتبعه نفيا لذلك التوهّم؛ فوزانه وزان نفسه فى: جاءنى زيد نفسه خ خ، ونحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ؛ فإنّ معناه: أنه فى الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنّه هداية محضة؛ وهذا معنى: ذلِكَ الْكِتابُ؛ لأنّ معناه - كما مرّ -: الكتاب الكامل، والمراد بكماله: كماله فى الهداية؛ لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت فى درجات الكمال؛ فوزانه وزان زيد الثانى فى: جاءنى زيد زيد خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فى القول هل هو متعد أو لازم؟ قلت: الأولى فى البيت لها محل باعتبار الحكاية؛ لأن قال متسلط عليها على المشهور، وباعتبار المحكى هى مستأنفة لا محل لها؛ لأن أرسوا جملة مستأنفة، والمقصود هنا إنما هو تعليل عدم وصل المحكى عنه. (الثانى): أن يختلفا خبرا وإنشاء ويكون اختلافهما معنى لا لفظا فيجب الفصل، كقولك: مات فلان رحمه الله، فالأولى: خبرية لفظا ومعنى والثانية: إنشائية معنى لا لفظا؛ لأن لفظ الفعل خبر لا أمر ولا تقل: لأنه ماض كما قال الشارح؛ لأن صيغة المضارع أيضا صيغة خبر ما لم يدخل عليه لام الأمر أو النهى، ويدخل فى هذا القسم صور، أن يكونا خبرين، أولهما: معناه إنشاء، وأن يكونا خبرين، أولهما: معناه خبر، وأن يكونا إنشاءين، أولهما: معناه خبر، وأن يكونا إنشاءين، أولهما: معناه إنشاء، وهذا القسم أيضا مما يأتى فيه الأقسام السابقة كما قدمناه، فالصواب أن ذلك يوجب القطع سواء أكان للأولى محل أم لا بالواو أم غيرها. (الثالث): أن لا يكون بين الجملتين جامع، وسيأتى تفصيله. ص: (وأما كمال الاتصال إلى آخره). (ش): هذا القسم أيضا لا يخفى أنه لا يعود إليه أقسام العطف بغير الواو، وأقسام المحل وعدمه، فكان الاتصال لأحد ثلاثة أمور: أن تكون الثانية مؤكدة أو بدلا أو عطف بيان، وقال السكاكى: وكذا النعت أيضا، والمصنف أسقطه، وسنتكلم عليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك لأن التوابع هى هذه الأربعة، والبدل هو المقصود، فإن المبدل منه فى حكم الطرح، وكذلك النعت والمعطوف بيانا والمؤكد كلها هى عين المتبوع، وإذا كان عينه، والعطف يقتضى التشريك كان العطف منافيا لكل من هذه التوابع فعلم أنه لا يجوز حيث أريد أحدهما. واعلم: أن المراد ينزل منزلة المتبوع هو معنى النسبة ففى قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (¬1) الاستهزاء ينزل منزلة التابع للاستقرا فى معكم، ولما قرر السكاكى أن كل واحد من هذه التوابع الأربعة لا مدخل للعطف فيه ذكر ما قد يتخيل أنه صفة، وإن كان فيه الواو فمنه قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (¬2) فأجاب بأن الواو للحال والجملة حالية ووقعت الحال من النكرة؛ لأنها بعد النفى أولى بذلك من النهى فى قوله لا يركنن أحد إلى الإحجام … يوم الوغى متخوّفا لحمام (¬3) وقصد مخالفة الزمخشرى فإنه قال: وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ صفة لقرية، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما نقول: جاءنى زيد عليه ثوب وجاءنى وعليه ثوب، وتبعه أبو البقاء وتبعهما المصنف فى الإيضاح قبيل باب الإيجاز عند الكلام على واو الحال، وليس كما قالوه فإن الواو لا تقع بين الصفة والموصوف وإن وقعت بين الصفتين، ولأن إلا لا تفصل بين الموصوف والصفة، وقال ابن مالك: إن ما زعمه منفرد به، وليس كذلك، فقد تابعه عليه صاحب البديع وابن هشام ومما يدل لما قلناه، وأن النفى يسوغ كون صاحب الحال نكرة قول الفارسى: تقول ما مررت بأحد إلا قائما، حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم؛ لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف، وقال الزمخشرى فى قوله تعالى: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (¬4): كذلك، وليس ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 14. (¬2) سورة الحجر: 4. (¬3) البيت من الكامل، وهو لقطرى بن الفجاءة فى ديوانه ص 171، وخزانة الأدب 10/ 163، والدرر 4/ 25، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 136، وشرح ابن عقيل ص 330، وشرح عمدة الحافظ ص 423، والمقاصد النحوية 3/ 150، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 2/ 314، وشرح الأشمونى 1/ 247، وشرح التصريح 1/ 377، وهمع الهوامع 1/ 240. (¬4) سورة الشعراء: 208.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلام فيه من غرضنا، وقال فى قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (¬1): هى صفة لقوله تعالى: سَبْعَةٌ وهى الداخلة على الجملة الواقعة صفة لنكرة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالا وما ذكره ضعيف؛ لأن الحال يخالف الصفة بتقدمها على صاحبها ومخالفتها له فى الإعراب ولتخالفهما بالتعريف والتنكير غالبا ذكره ابن مالك، وأيضا فإن الواو إنما دخلت بين الحال وصاحبها؛ لأن الحال فى معنى الجملة، فإن معنى: جاء زيد راكبا جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب، نقله الطيبى ثم رده وقال: الصواب العكس، وعندى أن الصواب فى الأول وسنفصل بين الكلامين عند الكلام على الجمل الحالية - إن شاء الله تعالى - وقد صرح ابن الحاجب فى الأمالى بما قلناه: من عدم عطف الصفة على الموصوف، وقد قدمنا الإشارة إلى شئ من ذلك، واختار الطيبى صحة قول الزمخشرى فى دخول الواو بين الصفة والموصوف، وزعم أنها سلبت معنى التغاير وصارت للربط فقط، فتكون بمعنى الباء، فإن صاحب اللباب نقل عن سيبويه: أن الواو بمعنى الباء فى قوله: بعت الشاء شاة ودرهما أن معناه: بدرهم، ووجهه: أن الواو للجمع والاشتراك والباء للإلصاق، والجمع والإلصاق، من واد واحد، ويكون خروج الواو عن التغاير، كما فعل بالهمزة وأم فى قوله عز وجل: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬2) وبالنداء فى: أيتها العصابة انتهى، وقال ابن الحاجب فى أماليه - بعد أن قرر أنه لا تقع الواو بين الصفة والموصوف -: إن وثامنهم كلبهم عطف خبر على خبر؛ لأن الأخبار يعطف بعضها على بعض كقولك: زيد قائم وعالم، وأما جاء رجل ومعه آخر فإما أن يكون من عطف جملة على جملة أو آخر معطوف على رجل، ومن ذلك قوله: عليك ورحمة الله السّلام، لا يتوهم أن الواو وقعت بغير عطف؛ لأنه فى نية التقديم والتأخير وأما وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (¬3) فتقديره: ارهبوا فارهبون، وأما قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا (¬4) فقال الزمخشرى: معناه تكذيب على تكذيب وقولك: أعجبنى زيد وعلمه، فالعطف فيه للدلالة على أن لذات زيد مدخلا فى أن يتعجب منه، وليس كقولك: أعجبنى زيد علمه فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 22. (¬2) سورة البقرة: 6. (¬3) سورة البقرة: 40. (¬4) سورة القمر: 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَرَسُولَهُ (¬1) ولما كان صلّى الله عليه وسلّم من الله سبحانه وتعالى بمكان عظيم كان إيذاؤه إيذاءه وعطف الصفات بعضها على بعض إشارة لاستقلال كل واحد منها - كما هو معروف فى موضعه وسيأتى - وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ (¬2) قالوا: من عطف الخاص على العام وفيه نظر؛ لأن المعطوفات إذا اجتمعت فإما أن تقول: إن كلها معطوف على الأول فقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ معطوف على لفظ الجلالة وإن كان كل واحد على ما قبله فيكون جبريل معطوفا على رسله، والظاهر أن المراد بهم: الرسل من بنى آدم لعطفهم على الملائكة فليس منه والتحقيق أن يقال: هو من عطف الخاص بعد العام أو من ذكر الخاص بعد ذكر العام وقوله تعالى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (¬3) عكسه إلا أن يكون المراد بالسبع المثانى وبالقرآن العظيم واحدا. ولنرجع إلى كلام المصنف. فالقسم الأول: أن تكون الثانية مؤكدة للأولى والموجب للتأكيد دفع توهم الغلط أو التجوز وهو قسمان تارة بتنزل الثانية من الأولى مع الاختلاف فى معنى الجملتين منزلة التأكيد المعنوى من متبوعه فى إفادة التقرير، كقوله سبحانه وتعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (¬4) فإن لا رَيْبَ فِيهِ وزان نفسه فى قولك: جاء الخليفة نفسه، فإنه بولغ فى وصف الكتاب ببلوغه إلى أقصى الكمال، فجعل المبتدأ ذلك وعرف الخبر باللام، ومع ذلك جائز أن يتوهم السامع قبل التأمل فى قوله سبحانه وتعالى ذلك مجازا فأتبع ذلك بلا ريب فيه، دفعا لهذا التوهم، كما أتبع الخليفة فى قولك: جاء الخليفة نفسه كذا قالوه ولا يخلو عن نظر؛ لأنه أقصى ما يمكن أن يقال: إن دلالة ذلِكَ الْكِتابُ (¬5) على نفى الريب باللازم أما إنه بالمطابقة حتى يكون مثل: جاء زيد فبعيد، ولا يخفى أن هذا تفريع على أن لا ريب ليس نهيا، وقد قيل: إنه نهى معناه لا ترتابوا فرارا مما يوهمه الخبر من نفى وقوع الريب من أحد - وللكلام فى ذلك سبح طويل ليس هذا محله - وكذلك قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (¬6) وجعله كأن لم يسمعها من قسم ما لا موضع له من الإعراب فيه نظر، ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 57. (¬2) سورة البقرة: 98. (¬3) سورة الحجر: 87. (¬4) سورة البقرة: 1، 2. (¬5) سورة البقرة: 2. (¬6) سورة لقمان: 7.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذا قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (¬1)؛ لأن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثبوتهم على اليهودية، وإِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد رفع الإسلام ورفع نقيض الشئ إثبات له، كذا قيل وفيه نظر؛ لأن الاستهزاء أخص من الثبات على اليهودية لجواز أن يكونوا على اليهودية ولم يكونوا مستهزئين، بأن يتلفظوا بالإسلام خوفا أو لغير ذلك إلا أن يقال: دلالته على معنى زائد لا ينفى تأكيده لمعنى سابق، وقد يعترض أيضا بأن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثبوتهم على اليهودية ولا ينافى ذلك أن يكون إسلامهم السابق حقا فقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد أنهم لم يكونوا مسلمين حين أظهروا الإسلام وحاصله أن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثباتهم على اليهودية، وإِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد شيئا زائدا، لا يقال: ليست هذه الآية الكريمة من هذا الباب؛ لأن قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ ليست لا محل لها لنصبها بالقول؛ لأنا نقول: هى مستأنفة فى كلام الكفار وقد تقدم مثله وقوله: نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إشارة إلى القسم الثانى، وهو أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظى فى اتحاد المعنى مثل: هدى للمتقين، فإن معناه أنه بالغ فى الهداية درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى ذلِكَ الْكِتابُ فإن مدلوله أنه الكتاب الكامل دون غيره وكماله باعتبار الهداية (فوزانه وزان زيد الثانى من قولك: جاء زيد زيد) ولا يخفى أن فى كون ذلِكَ الْكِتابُ (¬2) لا محل لإعرابه نظرا وإن كان هو المختار عند الزمخشرى قال فى الإيضاح: وكذلك سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬3) فإن معنى لا يؤمنون معنى ما قبله ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا وسَواءٌ عَلَيْهِمْ اعتراض (قلت): وعلى الأول لا يصح أيضا أن يكون من هذا القسم؛ لأن سواء عليهم لها محل من الإعراب؛ لأنها خبر إن، ومن الغريب: أن أهل هذا الفن لم يذكروا من أقسام كمال الاتصال أن تكون الثانية صريحة فى تأكيد الأولى بإعادتها بلفظها مثل: قام زيد قام زيد فهى تأكيد بنفسها، فهى أجدر أن يحكم عليها بكمال الاتصال مما هو فرع عنها وملحق بها، ولعلهم إنما تركوا ذلك؛ لأن المؤكد الصريح هو نفس المؤكد فكأنهما جملة واحدة فلا تعدد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 14. (¬2) سورة البقرة: 2. (¬3) سورة البقرة: 6.

أو بدلا منها؛ لأنها غير وافية بتمام المراد، أو كغير الوافية، بخلاف الثانية، والمقام يقتضى اعتناء بشأنه لنكتة؛ ككونه مطلوبا فى نفسه، أو فظيعا، أو عجيبا، أو لطيفا؛ نحو: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (¬1) فإنّ المراد التنبيه على نعم الله تعالى، والثانى أوفى بتأديته؛ لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين؛ فوزانه وزان وجهه فى: أعجبنى زيد وجهه لدخول الثانى فى الأوّل، ـــــــــــــــــــــــــــــ القسم الثانى: أن تكون بدلا وإليه أشار بقوله (أو بدلا منها) أى تكون الجملة الثانية بدلا من الأولى وقوله: (لأنها) تعليل للإبدال أى: إنما أبدلت منها لكون الأولى غير وافية بتمام المراد، وهى المنزلة منزلة بدل البعض أو الاشتمال أو كغير الوافية وهى المنزلة منزلة بدل الكل، ومع ذلك فلا بد أن يكون المقام يقتضى اعتناء بشأنه لنكتة ما وتلك النكتة مثل: (كونه مطلوبا فى نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا) ثم ذلك ضربان، الأول: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه وإليه أشار بقوله: (نحو أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فإنه سيق للتنبيه على عظم نعم الله سبحانه وتعالى عند المخاطبين فهو مقام يقتضى الاعتناء به، والثانية أوفى من الأولى لدلالتهما على التفصيل من غير إحالة على علمهم فإنهم معاندون، وقول المصنف: لدلالة الثانية عليه بالتفصيل فيه نظر، فإن الثانية إذا كانت بدل بعض تكون دلت على أن المراد بالأولى البعض، فالثانية كالمخرجة لبعض الأفراد ليست مفصلة لمعنى الأولى، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما تعلمون (فوزان الثانية وزان وجهه من قولك: أعجبنى زيد وجهه) قال فى الإيضاح: ويحتمل أن يكون أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ مستأنفة (قلت): فيه نظر؛ لأنه كان يلزم أن يكون التأكيد مستحسنا كما سيجئ وكما سبق، وقول المصنف: والثانية أوفى مخالف لقوله فى الأول أن تكون الأولى غير وافية؛ لأن أوفى يشعر بالمشاركة ثم أشار إلى القسم الآخر وهى أن تكون الأولى غير وافية بالشروط السابقة وهى التى تنزل مما قبلها منزلة بدل الاشتمال من متبوعه بقوله تعالى: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (¬2) فإنه أريد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل وقوله: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أوفى بتأدية المعنى ولك أن تقول: اتباع ¬

_ (¬1) الشعراء: 132 - 134. (¬2) سورة يس: 20، 21.

ونحو قوله [من الطويل]: أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا … وإلّا فكن فى السّرّ والجهر مسلما فإنّ المراد به إظهار كمال الكراهة لإقامته، وقوله: (لا تقيمنّ عندنا) أوفى بتأديته؛ لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد؛ فوزانه وزان حسنها فى: أعجبتنى الدار حسنها خ خ؛ لأنّ عدم الإقامة مغاير للارتحال، وغير داخل فيه، مع ما بينهما من الملابسة. ـــــــــــــــــــــــــــــ المرسلين واتباع من لا يسأل أجرا ليسا كبدل الاشتمال ومبدله لأن الاتباع الأول لم يشتمل على الاتباع الثانى بل هو هو وهذا بخلاف أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (¬1) فإن نفس الإمداد والأنعام والبنين بعض من الإمداد العام بما تعلمون، ومثّله المصنف بقوله: أقول له: ارحل لا تقيمنّ عندنا … وإلّا فكن فى السّرّ والجهر مسلما (¬2) فإن لا تقيمن عندنا أوفى بتأدية المعنى المقصود من كراهتهم المقام عندهم من قولهم؛ لأن لا تقيمن يدل على ذلك بالمطابقة مع التأكيد، بخلاف ارحل فإنه يدل عليه بالتضمن، وينبغى أن يقال: يدل على النهى عن الإقامة بالمطابقة، وارحل يدل عليه لا بالمطابقة فإنا قد نمنع أن يكون لا تقيمن يدل على الكراهة بالمطابقة، ومع ذلك لا يصح أن يكون ارحل يدل على لا تقيمن بالتضمن إلا بعد التفريع، على أن الأمر بالشئ يتضمن النهى عن ضده، قلنا: باللازم أو لا يدل فليس مما نحن فيه، ووزان كل من الجملة الثانية فى الآية الكريمة والبيت وزان حسنها فى قولك: أعجبتنى الجارية حسنها (لأن عدم الإقامة مغاير للارتحال) يعنى: أن حقيقتهما مختلفة، أى: لا يتوهم أنهما شئ واحد فيكون بمنزلة بدل الكل بل أحدهما ملزوم والآخر لازم. وقوله: (وغير داخل فيه) يعنى: ليس عدم الإقامة داخلا فى مدلول الرحيل وهذا صحيح؛ لأن العدم لا يدخل فى الموجود لكن الذى قصده لا يصح؛ لأنه يعنى: أنه بدل اشتمال وأن ارحل يلزم منه مضمون لا تقيمن، فكأنه يريد: أن الأمر بالشئ يستلزم النهى عن ضده؛ لكن لا يصح أن يعبر عن ذلك بالعدم، فإن مدلول لا ترحل ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 132. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الإشارات للجرجانى ص 123، وكذا خزانة الأدب 5/ 207، 8/ 463، ومجالس ثعلب ص 96، ومعاهد التنصيص 1/ 278، ومغنى اللبيب 2/ 426، وعقود الجمان ص 178، والإيضاح ص 154.

أو بيانا لها؛ لخفائها؛ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (¬1)؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس العدم بل الكف، فإنه مطلوب النهى خلافا لأبى هاشم وما تضمنه كلامه من أن الأمر بالشئ يستلزم النهى عن ضده قد خالف فيه السكاكى وهو قول مشهور، وقوله: مع ما بينهما من الملابسة لكى لا يتخيل أن أحدهما لا يدل على الآخر كما هو قول قد قيل، ولم يتعرض المصنف لحالة كون الثانية بمنزلة بدل الكل؛ لأنه استغنى عنه بعطف البيان؛ لأنه قريب منه، وقال فى الإيضاح: لأن بدل الكل تأكيد إلا أن لفظه غير لفظ متبوعه، يعنى: أنه تأكيد معنوى وأنه لا يتوافق لفظهما إلا بزيادة نحو: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (¬2)؛ ولأنه مقصود دون متبوعه بخلاف التأكيد المعنوى واللفظى وما ادعاه المصنف فى هذه الآية الكريمة والبيت من أن الجملة الأولى لا محل لها، جار على ما قررناه من أن المعتبر فى ذلك الكلام المحكى لا الحكاية. القسم الثالث: من صورة كمال الانقطاع: أن تكون الثانية بيانا للأولى فتنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه للإيضاح، وقوله: (لخفائها) يعنى: أن المقتضى لإثباتها بيانا خفاء معنى الجملة السابقة. قال فى الإيضاح: مع اقتضاء المقام إزالته ولا بد من هذا القيد فإن قلت: إذا كان فى الجملة السابقة خفاء فالأولى غير وافية أو كغير الوافية بتمام المراد، وهى حالة البدل فيلزم أن تتحد حالتا البدل والبيان، قلت: المقصود فى الإبدال هو الثانى لا الأول، فلهذا كان الأول غير واف أو كغير الوافى والمقصود فى البيان هو الأول والثانى توضيح له، وإن اشتركا فى أصل خفاء الجملة السابقة، وقوله: خفاء معنى الجملة السابقة يشير إلى أنها هى المقصودة - وذلك هو الفاصل بين البابين - ومثال هذا القسم قوله عز وجل: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (¬3) فإنه فصل، قال عن وسوس؛ لأن فيها تفسيرا وبيانا لها، ويحتمل أن يكون استئنافا، قلت: وفى جعل هذا من هذا القسم نظر، فإن وسوس الظاهر أن له محلا من الجر، فإنه معطوف على قلنا الذى أضيف له إِذْ * ثم إن ¬

_ (¬1) سورة طه: 120. (¬2) سورة العلق: 15، 16. (¬3) سورة طه: 120.

فإنّ وزانه وزان عمر فى قوله [من الرجز]: أقسم بالله أبو حفص عمر (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ الجملة التى هى قال: ليس فيها بيان لوسوس، فإن قال: أخص من وسوس من وجه فكيف يبينه؛ بل العكس أقرب، فإن القول يبين بالوسوسة؛ لكن البيان على هذا وقع فى متعلق الجملة وهو ذكر المقول وذكر فى الإيضاح قوله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (¬2)، وقال: يحتمل التبيين، فإنه إذا خرج من جنس البشر فقد دخل فى جنس آخر فاحتاج إلى بيان يعينه ويحتمل التأكيد؛ لأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا، وقول المصنف: (فإن وزانه وزان أقسم بالله أبو حفص عمر) يشير إلى ما روى أن أعرابيا أتى عمر رضى الله عنه فقال: إن أهلى بعيد وإنى على ناقة دبراء عجفاء نقباء واستحمله، فظنه كاذبا فلم يحمله فأخذ الأعرابى بعيره واستقبل البطحاء وهو يقول: أقسم بالله أبو حفص عمر … ما إن بها من نقب ولا دبر اغفر له اللهمّ إن كان فجر (¬3) وعمر رضى الله عنه مقبل، فجعل كلما قال: اغفر له اللهم إن كان فجر، يقول عمر رضى الله عنه: اللهم صدق حتى التقيا فأخذ بيده فقال: ضع عن راحلتك، فوضع فإذا هى نقباء عجفاء، فحمله على بعير وزوده وكساه، وقيل: إن الذى قاله عمر: اللهم صدق ظنى، وقال ابن يعيش فى باب عطف البيان، وقول المصنف فى غير موضع: وزانه وزان كذا، أى: موازنة الثانية للأولى موازنة البدل للمبدل ونحوه؛ لأن الوزان فى اللغة الموازنة. ¬

_ (¬1) وبعده: ما مسها من نقب ولا دبر. (¬2) سورة يوسف: 31. (¬3) الأبيات لأعرابى، كما فى عقود الجمان ص 179، وفيه: ما مسّها من نقب، مكان: ما إن بها من نقب ...

وأما كونها كالمنقطعة عنها: فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها، ويسمّى الفصل لذلك قطعا؛ مثاله [من الكامل]: وتظنّ سلمى أننى أبغى بها … بدلا أراها فى الضّلال تهيم (¬1) ويحتمل الاستئناف. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وأما كونها كالمنقطعة إلخ). (ش): يعنى لن تكون الجملتان ليس بينهما كمال الانقطاع؛ بل بينهما شبه كمال الانقطاع، بأن تكون الجملة اللاحقة كالمنقطعة عما قبلها والمعنى بذلك أن يكون عطفها على السابقة يوهم عطفها على غيرها. (ويسمى الفصل لهذا المعنى قطعا مثاله: بدلا أراها فى الضّلال تهيم) … وتظن سلمى أنّنى أبغى بها فلو عطف أراها على تظن لتوهم أنه معطوف على أبغى مع أنه ليس بمراد، بل يفسد المعنى. قال المصنف: (ويحتمل الاستئناف) يعنى: أن لا يكون أصل الكلام العطف وترك لهذا المعنى؛ بل يكون كلا ما قصد به إجابة سؤال مقدر، قال المصنف: وقسم السكاكى القطع أى: الفصل فى هذا القسم إلى: قطع الاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما فى البيت، ويحتمل أن يريد بالاحتياط: أن الاحتياط سبب وجوبه من حيث البلاغة وإن لم يكن واجبا لغة بخلاف القسم الثانى فإنه واجب لغة، أى: بالذات وذاك وجوبه بالغير، وهذا كما يقول الفقيه: يجب على الخنثى كيت وكيت وكيت احتياطا، ويحتمل أن يريد بقوله احتياطا: جواز الترك وإلى ما هو واجب وهو ما كان لمانع كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬2) وقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (¬3) وقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ (¬4) قال: لأنه لو عطفت لعطف على جملة قالوا أو جملة إِنَّا مَعَكُمْ وكلاهما لا يصح لما مر قال المصنف: وفيه نظر لجواز أن يكون المقطوع فى المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدرة بالظرف، ¬

_ (¬1) البيت لأبى تمام أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 129، والشاهد فصل،، أراها،، عن،، وتظن،،. (¬2) سورة البقرة: 15. (¬3) سورة البقرة: 12. (¬4) سورة البقرة: 13.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا القسم لم يبين امتناعه، (قلت): قد تقدم من المصنف موافقة السكاكى على أن الله يستهزئ بهم لا يصح عطفه على قالوا ولا يصح على إِنَّا مَعَكُمْ فيبطل أن يكون مراد المصنف بالجملة المصدرة بالظرف الجواب كما توهم بعضهم، ولا يجوز أن يكون أراد عطفه على خَلَوْا لوضوح فساده إذ يصير التقدير قالوا ذلك وقت خلوهم ووقت استهزاء الله بهم فيلزم ما فر منه فيما سبق من تقييد استهزاء الله بهم بالظرف ويصير المعنى: إذا استهزأ الله بهم، قالوا: والمعنى على العكس إذا قالوا: استهزأ الله بهم أى: عذبهم أو يلزم عطف الاسمية على الفعلية وهو إن جاز مستهجن - كما سيأتى - وإن أراد أنه معطوف على الظرف وما أضيف إليه وهو قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا (¬1) وكذلك أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ من قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا (¬2) قال الخطيبى: فهو ظاهر الفساد؛ لأنها معطوفة إما على يَكْذِبُونَ أو على جملة يَقُولُ من قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ (¬3) فيصير التقدير من أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وكذلك أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ قال: وأما فى قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فالنظر صحيح يعنى: لأنه يصح عطف اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على يَكْذِبُونَ وعلى يَقُولُ التقدير: ومن الناس من الله يستهزئ بهم أو بما كانوا الله يستهزئ بهم وهذا الذى قال الخطيبى بعيد أعنى: عطف الله يستهزئ بهم على يكذبون؛ لأن الجملتين مختلفتان فى الاسمية والفعلية؛ ولأن استهزاء الله هو عذابه وهو معلول للتكذيب فكيف يعطف على علته؟ فيلزم انقلاب المعلول علة فهذا فساد من جهة المعنى ويفسد ما ذكره المصنف من جهة التركيب فى الآيات الثلاث أن جملة الظرف معمولة للجواب، فيلزم أن يكون قالوا عاملا فى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كما أنه عامل فى متبوعها وهو إذا خلوا فكيف يكون اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ معمولا ل قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إلا أن يقول: هو معطوف على جملة الشرط وجوابها معا، أحدهما: تقديرا، والآخر: تحقيقا، وحاصله أن عطفها على إِنَّا مَعَكُمْ متعذر؛ لعدم المقتضى وعلى الظرف وما بعده أو على جوابه أو على خَلَوْا ممتنع؛ لوجود المانع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 14. (¬2) سورة البقرة: 11. (¬3) سورة البقرة: 8.

وأما كونها كالمتّصلة بها: فلكونها جوابا لسؤال اقتضته الأولى؛ فتنزّل منزلته فتفصل عنها؛ كما يفصل الجواب عن السؤال. السكاكى: فينزّل ذلك منزلة الواقع لنكتة؛ كإغناء السامع عن أن يسأل، أو مثل ألّا يسمع منه شئ، ويسمّى الفصل لذلك استئنافا، وكذا الثانية، وهو ثلاثة أضرب؛ لأن السؤال: ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): بقى من التوابع الوصف، أى: حال تنزيل الجملة الثانية منزلة الوصف من السابقة، وكأنه تركه اقتداء بالسكاكى، غير أن السكاكى جعل هذا القسم الأخير مما نزلت فيه الثانية منزلة التبيين، ولم يقل: عطف البيان، وكأنه قصد ما هو أعم من عطف البيان والنعت، لا كما قال قطب الدين: أنه أراد عطف البيان إذ ليس فى كلامه ما يدل عليه ولا بد من ذكر هذا القسم والفرق بينهما: أن الثانية إذا كانت فى معنى الوصف تكون مبينة لمعنى الأولى المقصودة كالمؤكدة والمنزلة منزلة عطف البيان، تدل على ما دلت عليه الأولى بلفظ أوضح، والمنزلة منزلة الوصف تدل على صفة لا حقة لمعنى الجملة السابقة. (تنبيه): هذا القسم أيضا يداخل كثيرا من الأقسام الماضية والآتية بحسب الاعتبارات. ص: (وأما كونها كالمتصلة إلخ). (ش): أى: حال شبه كمال الاتصال، وهو أن تكون بمنزلة المتصلة بها؛ لكونها، أى: الثانية، جوابا عن سؤال اقتضته الجملة السابقة، ومراده بالأولى: ما هو أعم من المذكورة والمحذوفة لما سيأتى (فتنزل) أى الأولى (منزلته) أى: منزلة السؤال (فتفصل) أى: الثانية (عنها) أى عن السابقة (كما يفصل الجواب عن السؤال) وهذه ضمائر مختلفة، ويحتمل أن يريد: فتنزل الثانية منزلة الجواب فتفصل، أى: الثانية (قوله: السكاكى) أى السكاكى قائل بتنزيله، أى: السؤال منزلة الواقع، أى: منزلة السؤال الواقع (قوله: لنكتة) أى تنزيل السؤال منزلة الواقع وعبارة المفتاح والإيضاح: لتنزيله منزلة السؤال الواقع بالفحوى، والمراد بالفحوى: مدلول اللفظ لا فحوى الخطاب الذى هو مفهوم الموافقة، كذا قيل والذى يظهر لى أن قول المصنف: تنزل الأولى منزلة السؤال، فالثانية منزلة جوابها، والسكاكى يقدر السؤال واقعا، فالثانية جوابه فعلى هذا المراد بالفحوى المفهوم من لازم اللفظ والذى يظهر أن الجملة الأولى إن ظهر منها

إمّا عن سبب الحكم مطلقا؛ نحو [من الخفيف]: قال لى: كيف أنت قلت: عليل … سهر دائم وحزن طويل ـــــــــــــــــــــــــــــ استدعاء السؤال وطلبه فهى منزلة منزلته كما قال المصنف مثل: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (¬1) فإنه يشوق السائل إلى السؤال عنها وإن لم يكن، ولكنه استفيد التشوق إليه من القرائن فالسؤال مقدر كقوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي (¬2) وتقدير السؤال لأحد أمور: كإغناء السائل أن يسأل، والمراد السائل بلسان الحال وإلا فالفرض أنه لم يسأل أو قصد أن لا يسمع منه إما لاحتقاره أو تعظيمه، زاد فى الإيضاح: أو قصد أن لا ينقطع كلامك بكلامه أو قصد تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف. والباء فى قوله: بتقليل اللفظ للمعية، أى: تكثير المعنى للسؤال مع تقليل اللفظ بطى السؤال والعاطف كما قال قطب الدين فى شرح المفتاح، وقال الكاشى: يجوز أن تكون للسببية وهو أولى؛ لأن ترك العاطف سبب فى تقدير السؤال وهو فاسد؛ لأنه مقلوب فإن تقدير السؤال هو السبب فى ترك العطف لا بالعكس إذ يلزم أن يكون ترك العطف بلا مقتض أو تنبيه السامع على موقعه قال: أو لغير ذلك مما هو منخرط فى هذا السلك، أى: مثل ادعاء أن هذا السؤال لا يحتاج لذكره، أو امتحان السامع هل يعلم أن ذلك جواب سؤال؟ ويسمى الفصل لذلك استئنافا (وكذا الثانية) أى: الجملة تسمى أيضا استئنافا، وهو، أى: الاستئناف ثلاثة أضرب؛ لأن السؤال الذى تضمنته الأولى على رأيه أو المقدر على رأى السكاكى إما عن سبب أو لا والأول إما سبب عام أو لا فالسبب العام كقوله: قال لى كيف أنت قلت عليل … سهر دائم وحزن طويل (¬3) كأن المخاطب لما سمع عليل، قال: ما سبب علتك؟ فقال: سهر دائم وحزن طويل. والخاص: أشار إليه بقوله: وإما عن سبب خاص كقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (¬4) فكأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ وهذا الضرب ¬

_ (¬1) سورة القدر: 2. (¬2) سورة يوسف: 53. (¬3) البيت فى الإشارات والتنبيهات للجرجانى ص 34، ومعاهد التنصيص 1/ 100، ودلائل الإعجاز ص 238، وقال الأستاذ محمود شاكر: مشهور غير منسوب، وفى عقود الجمان ص 182. (¬4) سورة يوسف: 53.

أى: ما بالك عليلا؛ أو: ما سبب علّتك؟ وإمّا عن سبب خاص؛ نحو: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (¬1)؛ كأنه قيل: هل النفس أمّارة بالسوء؟ وهذا الضرب يقتضى تأكيد الحكم؛ كما مر (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ يقتضى تأكيد الحكم كما سبق فى أحوال الإسناد فإن الخطاب طلبى فلذلك أكد بإن فإن قلت: لأى شئ كان السؤال فى البيت لطلب السبب العام، وفى الآية: لطلب السبب الخاص؟ ولأى شئ قدر السؤال فى الأول بما التى هى لطلب التصور، وفى الثانى بهل التى هى لطلب التصديق؟ ولأى شئ لم يكن هذا القسم الاستئنافى كله خطابا طلبيا فيؤكد دائما كما سبق؟ (قلت): أما الأول فلأنا إنما نقدر من السؤال ما دلت عليه الجملة السابقة والذى دل عليه قوله:" عليل" وقوع العلة المستدعية لسبب ما، فلا نزيد فى السؤال المقدر عنه فنقدر ما سبب علتك؟ ليكون طلبا لتعيين السبب ولو قلت: هل سبب علتك موجود؟ لما صح؛ لأن ذلك معلوم الوجود والذى دلت عليه الجملة الأولى فى الآية الكريمة عدم تبرئة النفس، وذلك صريح فى اعتقاد المتكلم أنها أمارة بالسوء؛ لأن عدم تبرئة النفس لا سبب له فى مثل ذلك المقام إلا كونها أمارة بالسوء فلا شك أن الجملة الأولى أشارت إلى اعتقاده أن النفس أمارة بالسوء، ولكنه لما لم يكن بالصريح فربما تشكك السامع فى وقوع هذه النسبة فلذلك راجع المتكلم وقال: هل النفس أمارة بالسوء؟ أى: كما اقتضاه كلامك أولا فهو طلبى فى معنى الإنكارى؛ فلذلك أكد بإن واللام، وبهذا ظهر جواب الثانى، وأما جواب الثالث؛ فلأن ما تقدم من التأكيد فى الخطاب الطلبى والإنكارى شرطه أن يكون الاستفهام فيه عن التصديق لا عن التصور، وكذلك نقول فى هذا الباب كله: حيث دلت الجملة الأولى على سؤال تصديقى تأتى الثانية مؤكدة وإلا فلا وإنما شرطنا التصديق فى الطلبى لأن التأكيد بإن إنما يكون للنسبة لا لأحد الطرفين. بقى فى كلام المصنف اعتراض آخر: وهو أنه قد يقال: أنا عليل يستدعى سؤالا وهو ما ترتب على علتك فأجاب: سهر دائم، وعلى هذا فلا يكون سؤالا عن السبب بل يكون من القسم الثالث، واعتراض آخر: وهو أنه جعل هذا من السؤال عن السبب العام وليس ذلك سؤالا عن العام؛ لأن العام معلوم وإنما هو سؤال عن تعيين ¬

_ (¬1) يوسف: 53. (¬2) أى فى أحوال الإسناد الخبرى.

وإما عن غيرهما؛ نحو: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ (¬1) أى: فماذا قال؟ وقوله [من الكامل]: زعم العواذل أنّنى فى غمرة … صدقوا ولكن غمرتى لا تنجلى ـــــــــــــــــــــــــــــ الخاص، فالسؤال عن السبب العام لا يمكن إلا بطلب التصديق بأن يقال: هل وقع لذلك سبب؟ واعتراض ثالث: وهو أنه جعل السبب مطلقا وخاصا، والمطلق والخاص ليسا متقابلين بل المطلق يقابله المقيد وهما الأعم والأخص، والخاص يقابله العام، لكن هو جار على إطلاق المتكلمين، العام على الأعم والخاص على الأخص. القسم الثالث من هذا القسم: أن يكون السؤال عن غير السبب العام وغير السبب الخاص كقوله عز وجل: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ * كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم؟ فقيل: قال: سلام. قال الشيخ عبد القاهر فى دلائل الإعجاز: كل ما فى القرآن من قال بلا عاطف فقدره على هذا، يعنى على الاستئناف، وكذلك قال ابن الزملكانى فى التبيان، ومنه قول الشاعر: زعم العواذل أنّنى فى غمرة … صدقوا ولكن غمرتى لا تنجلى (¬2) كأنه قيل: هل صدقوا؟ فقال: صدقوا، وهذا البيت أحد ما يدل على أن زعم تستعمل فى القول الصحيح، وللناس فيه قولان، قيل: كل قول قام الدليل على بطلانه، وقيل: لم يقم على صحته ولم يستعمل الزعم فى القرآن العظيم إلا للباطل، واستعمل فى غيره للصحيح كقول هرقل لأبى سفيان: زعمت (¬3)، وهو كثير فى الحديث؛ لكن إذا تأملته تجده حيث يكون المتكلم شاكا، فهو كقول: لم يقم الدليل على صحته، وإن كان صحيحا فى نفس الأمر وسيأتى قريبا بقية لهذا الكلام، وقد يستشكل قول الشاعر: صدقوا، وهو ضمير المذكر والعواذل جمع عاذلة وعاذلة مؤنث، ¬

_ (¬1) هود: 69. (¬2) البيت من الكامل أورده الجرجانى فى الإشارات ص 125، بلا غرور، والطيبى فى التبيان ص 142، وفى عقود الجمان ص 182، وفى شرح شواهد المغنى 2/ 800، ومعاهد التنصيص 1/ 281، ومغنى اللبيب 2/ 383. (¬3) حديث هرقل أخرجه البخارى فى" الجهاد والسير"، باب: دعاء النبى صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الإسلام ... (6/ 128، 129)، (ح 294)، وفى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" الجهاد"، (40/ 391) ط. الشعب.

وأيضا: منه ما يأتى بإعادة اسم ما استؤنف عنه؛ نحو: أحسنت إلى زيد؛ زيد حقيق بالإحسان خ خ، ومنه: ما يبنى على صفته؛ نحو: أحسنت إلى زيد؛ صديقك القديم أهل لذلك خ خ؛ وهذا أبلغ. ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: ولا يصح أن يكون جمع عاذل؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا ما هو معهود، ولا يصح إطلاق أن فاعلا لا يجمع على فواعل إنما يمتنع ذلك ويتوقف على السماع فى صفة العاقل كما نحن فيه، أما فاعل الجامد أو صفة غير العاقل أو صفة المؤنث كطوالق فيجوز جمعه على فواعل، ذكره سيبويه وغيره، ومن هذا نواقض الوضوء جمع ناقض، وغلط النسفى حيث قال: جمع ناقضة لتوهمه أن نواقض لا يكون جمع ناقض، وقد وقع جمع فاعل على فواعل فى ألفاظ غير فوارس وهوالك وهى نواكس وسوابق: (قوله: وأيضا منه) هذا تقسيم آخر للاستئناف أى: من الاستئناف ما يأتى بإعادة اسم ما استؤنف عنه مثل: أحسنت إلى زيد حقيق بالإحسان. (ومنه ما يبنى على صفته) أى: تذكر صفته (كقولك: أحسنت لزيد صديقك القديم أهل لذلك) وهذا القسم بذكر الصفة أبلغ من الذى قبله بذكر الاسم؛ لأن فى هذا ذكر السبب بخلاف الأول وأنت إذا عرضت هذه الأقسام الاستفهامية على ما تقدم وعلى ما سيأتى من الأقسام أمكن استعمال مادة الاستفهام فى غالبها وبأن ذلك التداخل فى تقسيم المصنف كما ذكرناه. (وقوله: وقد يحذف صدر الاستئناف) هذا تقسيم آخر للاستئناف، أى: يحذف صدر الجملة المستأنفة لقيام قرينة مثل قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (¬1) فى قراءة من بناه للمفعول فإنه قرأ رجال التقدير: يسبحه رجال أو المسبح رجال. ومنه: نعم الرجل أو رجلا زيد، وبئس الرجل أو رجلا عمرو على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف، أى: هو زيد - كما تقدم - أما إذا قلنا: نعم الرجل خبر وزيد مبتدأ فلا، والمعنى أنه لما انبهم أمره قيل: من هو وتمثيل المصنف لهذا القسم كان مستغنيا عنه بقوله: قال لى كيف أنت قلت عليل ¬

_ (¬1) سورة النور: 36.

وقد يحذف صدر الاستئناف؛ نحو: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ (¬1) وعليه: نعم الرجل زيد على قول (¬2). وقد يحذف كلّه: إمّا مع قيام شئ مقامه؛ نحو قول الحماسىّ: [من الوافر]: زعمتم أنّ إخوتكم قريش … لهم إلف وليس لكم إلاف ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه مثال له (قوله: وقد يحذف الاستئناف) أى: تحذف الجملة المستأنفة كلها، أما مع قيام شئ مقامه كقول الحماسى: زعمتم أنّ إخوتكم قريش … لهم إلف وليس لكم إلاف (¬3) التقدير: أصدقنا أم كذبنا، فقال تقديرا: كذبتم، ثم استدل عليه بقوله: لهم إلف وليس لكم إلاف، وجملة لهم إلف وليس لكم إلاف تدل على المحذوف، وإذا قلنا: الزعم هو القول الباطل استغنينا عن تقدير كذبتم بزعمتم فلا يكون من هذا القبيل، وقد تقدم فى حقيقة الزعم قولان، قال فى الكشاف: الزعم ادعاء العلم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: " زعموا مطية الكذب" (¬4) وعن شريح: لكل شئ كنية وكنية الكذب زعموا. اه. لكن سيبويه يكثر فى كتابه من قوله: زعم الخليل لا يريد إبطال قوله وقال أبو طالب: ودعوتنى وزعمت أنّك صادق … ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (¬5) فانظر إلى أن التقدير: إن كنتم صادقين فى زعمكم ويجوز أن يقدر لهم إلف إلخ. ¬

_ (¬1) النور: 36 - 37. (¬2) أى: على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف أى هو زيد، ويجعل الجملة استئنافا جوابا للسؤال عن تفسير الفاعل المبهم. (¬3) البيت من الوافر، وهو لمساور ابن هند فى لسان العرب 9/ 10 (ألف)، وقد جاءت (قريش) بالنصب على البدلية. وتاج العروس 23/ 38 (ألف)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1449، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة 15/ 379، وتاج العروس 4/ 422 (ألت). (¬4) " صحيح" بنحوه أخرجه أحمد وأبو داود وابن المبارك فى" الزهد" والبخارى فى" الأدب المفرد"، والطحاوى فى" مشكل الآثار" عن أبى مسعود الأنصارى - رضى الله عنه - وانظر الصحيحة (ح 866). (¬5) سورة الجمعة: 6.

أو بدون ذلك؛ نحو: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (¬1) أى: نحن؛ على قول (¬2). وأما الوصل لدفع الإيهام: فكقولهم: (لا وأيّدك الله). ـــــــــــــــــــــــــــــ جواب الاستئناف كأنه قال: هل كذبوا؟ فقال: لهم إلف فإنه تكذيب بالمعنى، ويجوز أن يقدر لهم إلف جواب سؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأن المتكلم قال: كذبتم، فقالوا: لم كذبنا؟ فقال: لهم إلف. (قوله: أو بدون ذلك)، أى: يحذف الاستئناف بلا إقامة شئ مقامه كقوله تعالى: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أى: نحن على قول، وفى عبارته نظر، إذ ينبغى أن يقول: أى: هم نحن، لكن لما كان هم هذا واجب الإضمار لم ينطق به، وكان الأحسن أن يذكره؛ لأنه إنما يمنع النطق به حيث كان فى تركيب، أما إذا قصد تفسير المعنى فلا تقول ضربا زيدا معناه اضرب ضربا وإن كنت لا تنطق به فى الاستعمال كذلك، وهذا إنما يتأتى على أحد هذين القولين، أما إذا جعلنا فَنِعْمَ الْماهِدُونَ خبرا مقدما ونحن مبتدأ كما يوهمه ظاهر قول المصنف، أى: نحن، فليس مما نحن فيه فى شئ، ولك أن تقول: الفصل لا يعقل إلا بين كلامين منطوق بهما فإذا كانت الجملة المستأنفة عما قبلها محذوفة فكيف يسمى ذلك فصلا إلا أن يقال: المصنف استطرد إلى أنواع الجملة المستأنفة ولم يسمه فصلا فليس من هذا الباب. (تنبيه): قال ابن الزملكانى فى التبيان: إن هذا السؤال مخالف للسؤال المنطوق به فى أنه يحذف الفعل، كقوله: من قام، فتقول: زيد، بخلاف السؤال المقدر فإنه لا يحذف منه شئ، وهذا خلاف ما ذكره المصنف والذى يظهر أن يقال: السؤال المقدر الأولى أن لا يحذف من جوابه شئ بخلاف المنطوق به فالأولى ذكره؛ لأنه مع التصريح بطرفى الإسناد يخرج عن كونه جوابا؛ وإنما قلنا: الأولى ذكره فى جواب المنطوق لضعف السؤال بالتقدير. ص: (وأما الوصل إلخ). (ش): تقدم أنه إذا كان بين الجملتين كمال الانقطاع تفصل إحداهما عن الأخرى بشرط عدم إيهام الفصل خلاف المراد فإن أوهم وصلت وذلك كقولهم: ¬

_ (¬1) الذاريات: 48. (¬2) أى: على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف أى هم نحن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا وأيدك الله فوصلت، وإن كان بينهما كمال الانقطاع؛ لأن الأولى المقدرة خبرية والثانية إنشائية؛ لأنه لو لم يوصل توهم أن" لا" داخلة على جملة" أيدك الله" فتكون دعاء عليه، وحكى صاحب المغرب عن أبى بكر رضى الله عنه، أنه مر برجل يقال له: أبو اللعانة فى يده ثوب فقال له الصّدّيق: أتبيع هذا الثوب؟ فقال: لا رحمك الله، فقال له الصديق: قد قوّمت ألسنتكم لو تستقيمون لا تقل هكذا، قل: عافاك الله لا، وحكاه الزمخشرى فى ربيع الأبرار، فقال: إن الصديق قال له: قل لا، ويرحمك الله، ولك أن تقول: الإيهام كما يدفعه الفصل بين الجملتين اللتين بينهما كمال الانقطاع يدفعه وإن كان بينهما كمال الاتصال، وكذلك غيره من الأقسام السابقة واللاحقة، فليعتبره الناظر، والإيهام مشروط بأن لا يعارضه إيهام آخر - كما سبق - على أن عندى فى ذكر هذا القسم فى باب الوصل إشكالا فإن هذه الواو إذا جاءت لدفع الوهم، فالظاهر أنها زائدة وليست عاطفة؛ بل زيدت لدفع توهم النفى لما بعدها فهى فى الحقيقة دخلت زائدة لتأكيد عودها لما قبلها، وذلك شأن الزائد يؤتى به للتأكيد، والتأكيد أكثر ما يأتى لدفع إيهام غير المراد وقد جوز الكوفيون زيادتها وتبعهم ابن مالك وجوزه الأخفش فى بعض المواضع وجعلوا منه قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (¬1) وقيل: المزيد الواو فى: وقال لهم خزنتها وأنشدوا عليه: فما بال من أسعى لأجبر عظمه … حفاظا وينوى من سفاهته كسرى (¬2) وقوله: ولقد رمقتك فى المجالس كلّها … فإذا وأنت تعين من ينعينى وإذا لم يجز زيادة الواو فالظاهر أن المعطوف محذوف، التقدير: لا، وأقول: أكرمك الله وعلى التقديرين لا يعد ذلك مما نحن فيه إنما نتكلم فى الوصل بحرف عاطف؛ حذرا ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 73. (¬2) البيت من الطويل، وهو لعامر بن مجنون فى حماسة البحترى ص 75، ولابن الذئبة الثقفى فى سمط اللآلى ص 63، وشرح شواهد المغنى 2/ 781، ومجالس ثعلب 1/ 173، ولكنانة بن عبد الثقفى أو للحارث بن وعلة فى الحماسة الشجرية 1/ 264، وللأجرد فى الشعر والشعراء 2/ 738، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب.

وأما التوسّط: فإذا اتّفقتا خبرا وإنشاء، لفظا ومعنى، أو معنى فقط بجامع؛ كقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ (¬1)، وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (¬2) وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ من إيهام عطف شئ على ما لا يصلح أن يعطف عليه، وليس الأمر هنا كذلك إما لعدم العاطف إن لم يجعل حرف عطف أو لتقدير معطوف خبرى يصح عطفه على ما قبله من غير حذر الإيهام والأحسن جعل الواو زائدة وإذا كان الوصل الصورى بالحرف الزائد يدفع الوهم فأى داع إلى أن يؤتى بالوصل المعنوى فى غير محله مع الاستغناء عنه. ص: (وأما التوسط). (ش): هذه الحالة الأخيرة وهى أن يكون بين الجملتين التوسط بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال وإن شئت قلت: بين الاتصال والانقطاع وذلك قسمان: أحدهما أن تتفق الجملتان خبرا لفظا ومعنى، أو إنشاء لفظا ومعنى أو خبرا معنى أو إنشاء معنى، ويحصل من ذلك صور: أن يكونا خبرين لفظا أو معنى أو إنشاءين معنى والأول إنشاء أو خبرين معنى والأول خبر أو إنشاءين معنى خبرين لفظا، أو خبرين لفظا، أو خبرين معنى إنشاءين لفظا، فهذه ثمانية أقسام تدخل فى قوله: فإذا اتفقتا خبرا وإنشاء لفظا ومعنى فإن كل واحد من قوله: لفظا ومعنى يعود لكل واحد من قوله: خبرا وإنشاء وكان ينبغى أن يقال: خبرا أو إنشاء لأنه لا يمكن اجتماع الخبر والإنشاء على كل من الجملتين فى حالة واحدة والثانى: أن يتفقا إنشاء وخبرا معنى لا لفظا وقوله: بجامع أى لا بد أن يكون مع ذلك بينهما جامع على ما سيأتى فى بيان الجامع، مثال اتفاقهما لفظا ومعنى فى الخبرية قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ فإنهما خبران وبينهما جامع وهو الاتحاد فى المسند، وفى المسند إليه، ولك أن تقول: لم يتحدا فى المسند فإن المسند فى الأول المخادعة وهو غير الخدع، ولك أن تقول: جملة يخادعون لها محل، وهو خبران، فكيف ذكرها المصنف فى قسم ما لا محل له، وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ والجامع التضاد ومثاله فى الإنشاء قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فإن كلا من الثانية مع الثالثة ¬

_ (¬1) النساء: 142. (¬2) الانفطار: 13 - 14. (¬3) الأعراف: 31.

مثال لقسم الاتفاق بين المسند والمسند اليه معنا

وكقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (¬1) أى: لا تعبدوا، وتحسنون، بمعنى: أحسنوا، أو: وأحسنوا. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأولى مع الثانية إنشاء فالجامع الاتحاد فى المسند إليه كذا قال الخطيبى وفيه نظر، لأن الاتحاد فى المسند إليه لا يكفى عند المصنف وكان ينبغى أن يقول: الاتحاد فى المسند إليه وفى المسند التضاد بين الأكل والشرب، وملازمة النهى السرف للأكل فكان ذلك جامعا فوجب اتحادهما فى الخيال. [مثال لقسم الاتفاق بين المسند والمسند اليه معنا] ومثال القسم الثانى: وهو اتفاقهما معنى لا لفظا وكل إنشاء قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فإن قوله: وقولوا إنشاء لفظا ومعنى عطف على لا تَعْبُدُونَ وهو خبر لفظا إنشاء معنى فقد اتفقتا إنشاء معنى وإن اختلفتا لفظا فإن لفظ الأولى خبر والثانية إنشاء وبينهما جامع وهو اتحاد المسند إليه كذا قاله الخطيبى وعليه من السؤال ما سبق وأما لا تَعْبُدُونَ مع وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فإن كان التقدير: وأحسنوا فتكون الجملتان إنشاء معنى وخبرا لفظا والأولى خبر والثانية إنشاء وإن كان التقدير: تحسنون، فالجملتان خبر لفظا إنشاء معنى ويرجع أن فيه مبالغة وإشارة إلى أنه سورع إلى امتثاله وفيه مشاكلة فى اللفظ لما قبله ويرجح أحسنوا أن فيه مشاكلة لما بعده وإن فيه إضمارا فقط وفى الأول إضمار وتحسنون مجاز فى التعبير عن أحسنوا ولك أن تقول: المصنف جزم بأن وقولوا معطوف على لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وفيه نظر؛ لأن إحسانا، إن كان معمولا لأحسنوا فعطف قولوا عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى وإن كان التقدير: وتحسنون فهو كالذى قبله، والعطف على القريب أولى، وكأنه رأى أن المعطوفات إذا تعددت، كان كلها معطوفا على الأول، وقد تقدم أن فيه قولين سمعتهما من شيخنا أبى حيان، وأما اتفاقهما معنى لا لفظا وكل خبر فقال السكاكى: مثاله قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصاكَ (¬2)، قال: وألق عصاك جملة إنشائية لفظا خبرية معنى، التقدير: قيل له: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 83. (¬2) سورة النمل: 9.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بورك، وقيل له: ألق. (قلت): هذا كلام عجيب؛ لأنه إن أراد تقدير قول قيل: ألق لفظا كانت ألق إنشائية قطعا لفظا ومعنى، كقولك: قال زيد: قم، هى إنشائية وإن حكيت بالقول لأن العبرة بالمحكى كما قالوا فى: وقال رائدهم أرسوا نزاولها (¬1) إذ جملة قيل معطوفة على نودى، وهما خبريتان قطعا، وإن أراد تقدير قيل من جهة المعنى وكانت الواو فى قوله تعالى محكية بأن يكون قيل له: الجملتان بالوصل، فالأولى خبرية لفظا ومعنى، وذلك لا يمكن لأن بينهما حينئذ كمال الانفصال، وإن كانت الواو غير محكية فلا عطف حينئذ والجملتان متفاصلتان، والثانية إنشاء لفظا ومعنى، والذى يظهر أن الواو ليست محكية والتقدير من جهة المعنى وقيل له: ألق، ويشهد له أن جملة ألق فى الكلام المحكى مستأنفة بدليل قوله تعالى فى الآية الأخرى: وَأَنْ أَلْقِ (¬2) وهذا هو الذى دعا الزمخشرى إلى قوله: أن ألق معطوف على بورك، والمعنى وقيل له: ألق، واعترض عليه بأن تقدير وقيل له يمنع العطف على بورك، وجوابه أن الزمخشرى إنما أراد تقدير المعنى، ألا تراه قال: المعنى ولم يقل: التقدير، وقد جوّز غيره فى ألق أن يكون عطفا على بورك لكنه تجويز لا يتأتى لوجوب الفصل حينئذ، وإلا حسن ما ذكره الزمخشرى ولا محذور فيه؛ لأنه كقولك: قلت: قام زيد، واضرب عمرا، والجملتان فى المحكى منفصلتان، وبالجملة الزمخشرى لم يقل: أن ألق فيها معنى الخبر كما زعم السكاكى، ثم فيما قاله السكاكى أيضا من أن جملة بورك خبر لفظا ومعنى نظر لجواز أن يكون دعاء وهو إنشاء، وقد ذكر هذا التقدير الفارسى وشيخنا أبو حيان وأبو البقاء وغيرهم، فتكون الجملتان متفقتين معنى فى الإنشاء، فيكون مثل: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (¬3)، ولا شك أن كون بورك إنشاء أو خبرا يتوقف على كون أن هذه تفسيرية أو الناصبة فهى خبر وإن كانت المخففة من الثقيلة فقال الفارسى: إنها دعاء، وجوزه شيخنا أبو حيان فى هذه الآية الكرية، وجزم به أبو البقاء لكن ذكر ¬

_ (¬1) صدر بيت من البسيط، وهو للأخطل فى خزانة الأدب 9/ 87، والكتاب 3/ 96، والإيضاح 151، وعجزه (فكلّ حتف امرئ، يجرى بمقدار). (¬2) سورة القصص: 31. (¬3) سورة البقرة: 83.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أبو حيان عند قوله تعالى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها (¬1) أن ذلك عند الفارسى، ورد عليه بأن المشهور أن الجملة الطلبية لا تقع خبر إن، ولذلك أولوا قوله: إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم … لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما (¬2) قلت: وكذا قوله: أكثرت فى العذل ملحّا دائما … لا تكثرن إنّى عسيت صائما (¬3) (قلت): ولعل الزمخشرى لأجل هذا قال: إن أن هذه لا يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة؛ لأنه لا بد من قد إشارة إلى ملازمة الخبرية والتحقيق فى جعل خبر إن إنشاء أنه يجوز إن كان طلبيا ولفظه خبر لتكرره فى أدعية النبى صلّى الله عليه وسلّم:" اللهمّ إنى أسألك رحمة من عندك" (¬4)،" اللهمّ إنى أعوذ بك من المغرم والمأثم" (¬5)،" اللهم إنى أعوذ بك من فجأة نقمتك وتحول عافيتك" (¬6)،" اللهم إنى أعوذ بك من أن أضلّ أو أضلّ" (¬7)، وهو كثير، ولا يجوز أن يكون مثل: أنى بعتك، والفرق أن الطلبى يفيد التأكيد لتأخر متعلقه فيؤكد طلبه كما تؤكد النسبة الخبرية بخلاف الإنشاء الذى وقع متعلقه معه فلا يقبل التأكيد، وهذا تفصيل قلته بحثا، وهو مخالف للقولين فلينظر فيه، ولعل ابن مالك من أجل هذا قال: قد تدخل أن على ما خبره نهى ولم يطلق الإنشاء، ومما ذكروه فى هذا الفصل قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (¬8)، قالوا: جملة (امتازوا) معطوفة على أن ¬

_ (¬1) سورة النور: 9. (¬2) البيت من البسيط، وهو لأبى مكعت أخى بنى سعد بن مالك فى خزانة الأدب (10/ 247)، والدرر (2/ 170). (¬3) الرجز لرؤبة فى ملحقات ديوانه ص: 185، وخزانة الأدب (9/ 316، 322، 317) والخصائص 8311. (¬4) " ضعيف" أخرجه الترمذى والطبرانى والبيهقى وغيرهم فى حديث طويل، وانظر ضعيف الجامع (1293). (¬5) أخرجه البخارى فى الأذان (ح 832)، وفى غير موضع، ومسلم (ح 589). (¬6) أخرجه مسلم فى" الذكر والدعاء"، (ج 2739). (¬7) صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وانظر صحيح ابن ماجه (ج 3134). (¬8) سورة يس: 55.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أصحاب الجنة لأنها فى معنى الإنشاء، لأن مجموع هاتين الجملتين تفصيل لما أجمله قوله تعالى: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (¬1)، وقوله: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (¬2)، فعموم هذه الجمل اقتضى تفصيلها، فقيل: عند سوق أهل الجنة إليها، كما ورد أن ذلك يقال عند سوقهم إلى المحشر تنزيلا لما يكون منزلة الكائن أن أصحاب الجنة أى سيروا إليها، والسكاكى قال معنى هذا الكلام، ثم قال: التقدير أن أصحاب الجنة منهم يا أهل المحشر، وفيه نظر؛ لأنه إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر؛ لأن المخاطب فى الخبرية هنا هو المأمور فيها معنى، ولعله لأجل هذا الإشكال قال بعض شراح المفتاح: إن تضمين أن أصحاب الجنة الطلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية بل معناه: أنه تقدر جملة إنشائية بعدها بخلاف: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (¬3)، وما قاله مشكل؛ لأنه إذا أخرج أن أصحاب الجنة عن الإنشاء فكيف يجعلها متضمنة والتقدير عند هذا القائل: سيروا أيها المؤمنون وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (¬4)، ومن ذلك قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا (¬5)، قال الزمخشرى: ليس الذى اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد جملة وصف ثواب المؤمنين فهى معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقتل وبشر عمر بالعفو، وجوز الزمخشرى أن يكون معطوفا على فاتقوا، واعترض بأنه يلزم أن يكون مقيدا بالشرط، والتقدير: فإن لم تفعلوا وليس كذلك فإن البشارة على كل تقدير وجوابه أن الواقع أنهم لا يفعلون ثم مهما كان جوابا عن تعليق اتقاء النار على الشرط كان جوابا هنا قال المصنف: وفيه نظر ووجه النظر قيل له: إنه ليس بينهما اتحاد فى المسند إليه وفيه نظر؛ لأن بين المسند إليهما تناسبا كما يقول الوزير للملك: ارسم لهؤلاء بما شئت وامتثلوا أيها الرعية، وإنما استبعد هذا لما فيه من اختلاف المخاطب، وقد مثله الزمخشرى بقولك: يا تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم، قلت: بل ما نحن فيه أولى لأنه الآية الكريمة تقدم فيها ¬

_ (¬1) سورة يس: 53. (¬2) سورة يس: 54. (¬3) البقرة: 83. (¬4) سورة يس: 59. (¬5) سورة البقرة: 25.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ خطاب عام بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ (¬1)، ثم فصل فقيل للكفار: فإن لم تفعلوا وقيل لغيرهم: وبشر ونظيره أيها الناس أنا راض عنك وساخط عليك، والخطاب لشخصين، وذلك أوضح مما مثل به نعم يشكل على ما قاله أن الخطاب وقع هنا مع شخصين فى كلامين مستقلين، وأما وبشر إذا كانت معطوفة على الجواب صار كأنك قلت: إن قمت فأنت كذا، ويكون الخطاب فى الشرط مع شخص وفى الجزاء مع غيره، وذلك لا يكاد يجوز لأنه كلام واحد وإن كان جملتين لا يقال: قد وقع ذلك فى قول العرجى: فإن شئت حرّمت النّساء سواكم … وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (¬2) فإن سواكم تعظيم، وربما خوطبت المرأة والواحدة بخطاب الجماعة الذكور، يقول الرجل عن أهله: فعلوا كذا، مبالغة فى سترها حتى لا ينطق بالضمير الموضوع لها، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسّلام: فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا (¬3) ولذلك كان الأكثرون على أن الضمير فى قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (¬4) للأزواج ليتحد فاعل الشرط مع فاعل الجزاء، وأما قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (¬5) فليس شرطا وجزاء فلا مانع من اختلاف المخاطب فى النداء مع ما بعده أو (ارجعون) خطاب لله تعالى للتعظيم، فهو كقوله: (حرمت النساء سواكم) فإنه خطاب للواحدة تعظيما، أو قال رب استغاثة وارجعون خطاب للملائكة أو جمع لتكرر القول كما قيل فى قفا نبك، وأما يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ (¬6)، فذكر النبى للتشريف ثم خوطب الجميع نعم يمكن أن يمنع ذلك من أصله ويقال: وبشر ليس مختصا بخطاب واحد دون غيره بل لكل واحد وأفرد إشارة إلى أن ذلك لا يؤمر به شخص دون غيره قال الزمخشرى فى قوله تعالى فى سورة الصف: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (¬7) ¬

_ (¬1) سورة النساء: 170. (¬2) البيت من الطويل، وهو للعرجى فى ديوانه ص: 109؛ ولسان العرب 3/ 65 (نقخ)، (برد)، والتنبيه والإيضاح (1/ 292). (¬3) سورة طه: 10. (¬4) سورة البقرة: 232. (¬5) سورة المؤمنون: 99. (¬6) سورة الطلاق: 1. (¬7) سورة الطلاق: 1.

والجامع بينهما: يجب أن يكون باعتبار المسند إليهما والمسندين جميعا؛ نحو: يشعر زيد ويكتب، ويعطى ويمنع، وزيد شاعر، وعمرو كاتب، وزيد طويل، وعمرو قصير؛ لمناسبة بينهما؛ بخلاف: زيد شاعر، وعمرو كاتب؛ بدونهما، وزيد شاعر وعمرو طويل؛ مطلقا. ـــــــــــــــــــــــــــــ إنه معطوف على تُؤْمِنُونَ (¬1) لأنه بمعنى آمنوا، قال المصنف: وفيه نظر لأن المخاطبين فى تُؤْمِنُونَ هم المؤمنون وفى وَبَشِّرِ هو النبى صلّى الله عليه وسلّم ثم قوله: تُؤْمِنُونَ (¬2) بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه؟ قلت: أما اختلاف المخاطبين فى الجملتين فلا يمتنع كما سبق ثم جائز أن يكون وَبَشِّرِ خطابا لكل واحد وكون جملة تُؤْمِنُونَ بيانا أو استئنافا، فأما الذى يمنع منه صحة العطف عليها مع كون مضمون بَشِّرِ مما يصح أن يستأنف به عما قبل تُؤْمِنُونَ، وذهب السكاكى إلى أنهما معطوفان على قل مرادا قبل يأيها الناس ويأيها الذين آمنوا، لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة فى القرآن الكريم ومن ذلك: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا (¬3) وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا (¬4) وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا (¬5)، قال المصنف: والأقرب فى الآيتين الكريمتين أن يكون الأمر معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله، أى: فأنذر ونحوه كما قدره الزمخشرى فى قوله عز وجل وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (¬6) معطوفا على محذوف يدل عليه قوله: لأرجمنك ومن هذا الباب قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (¬7) وقال السكاكى: إنه معطوف على قل مثل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (¬8) ص: (والجامع بينهما إلخ). (ش): تقدم أن الجامع بين الجملتين هو المعتمد فى اعتبار الوصل. اعلم أن الذى يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم من كلام السكاكى وغيره من أهل هذا الفن أن الجامع المعتبر فى الوصل هو التناسب بين الجملتين لا غير على ما ¬

_ (¬1) سورة الصف: 11. (¬2) سورة الصف: 11. (¬3) سورة البقرة: 57. (¬4) سورة البقرة: 63. (¬5) سورة البقرة: 125. (¬6) سورة مريم: 46. (¬7) سورة البقرة: 155. (¬8) سورة البقرة: 153.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ سيأتيك دليله - إن شاء الله تعالى - غير أن هذه المناسبة المذكورة لها سبب ومظنة، أما سببها فاجتماعهما فى القوة المفكرة بطريق العقل أو الوهم أو الخيال وأما مظنتها فحصول الاتحاد إما حقيقة أو بتأويل قريب أو بعيد، وأنت تعلم أن المظنة غير ملازمة للمظنون فربما تخلف عنها وتخلفت عنه فقد يحصل التناسب والاتحاد فى الطرفين، كقولك: يعطى زيد ويمنع وقد يحصل التناسب المفضى إلى الاجتماع فى المفكرة وإن لم يتحدا فى الطرفين بل فى المسند إليه كمن ذكر فى مجلسه الحركة والبياض فتقول له: الحركة عرض نقلة والبياض لون صفته كيت وكيت، فالتناسب هنا موجود والوصل حسن ولم يقع الاتحاد فى المسند؛ إنما حصل الاتحاد فى المسند إليه بالجامع الخيالى، وهو اجتماعهما فى أن كلا منهما مسئول مذكور فى المجلس، وكذلك قد يحصل التناسب مع الاتحاد فى المسند فقط ومثاله أن يأخذ الشخص فى ذكر ما وقع فى هذا اليوم من الأفعال، فيقول: انطلق زيد واستوى الطعام، فهذا وقع فيه التناسب فى المسندين لأنهما مسئول عنهما ولا تناسب فيه بين المسند إليهما؛ لأن السؤال واقع عن الأفعال لا عن الفاعلين، ومن وقع الاتحاد فى أحد الطرفين ولا تناسب قولك: السكوت يعجبنى والحركة عرض نقلة. وقولك: جالينوس ماهر فى الطب وأخوه رأيته أمس وغزر الماء فى البئر وغزر علم زيد. وهو كثير بخلاف الأول، وقد يقع الاتحاد فى الطرفين ولا تناسب كقولك: انظر إلى علم زيد وانظر إلى هذا القطع الذى فى ثوبك. على ما اقتضاه كلام المصنف صريحا فى آخر الكلام على الجامع الخيالى، وكقولك: زيد أخوك وعمر وصاحبك. فإنه لا يجوز كما اقتضاه كلام ابن الزملكانى فى التبيان، وفيهما اتحاد المسند والمسند إليه كما سأبينه فى قولنا: زيد يعطى وعمر يمنع. حيث لا مناسبة بينهما فإنهما متحدان فى الطرفين كما سأقرره على خلاف ما زعم المصنف، وهو غير سائغ كما ذكره المصنف إذا تقرر ذلك فحيث لا اتحاد فى شئ فلا سبيل إلى التناسب، فيجب الفصل مثل: جالينوس طبيب والماء فى البئر. وحيث حصل الاتحاد فى أحدهما فتارة تقع المناسبة وتارة لا تقع، وقد يقع فى المثال الواحد الاتحاد فى الطرفين وعدمه فيوصل ويفصل فإذا جرى فى مجلس ذكر ما عند زيد من الأشياء الضيقة، فتقول: الخاتم ضيق والخف ضيق. وقع الاتحاد فى الطرفين وذلك حسن، وإن جرى ذكر الخاتم فقلت: الخف ضيق والخاتم ضيق لم يحسن لعدم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المناسبة والاتحاد حينئذ فى المسند بل قد يحصل الاتحاد فى المسند وفى قيد المسند إليه كقولك: خفى ضيق وخاتمى ضيق. حيث لم يتقدم للخف ذكر وهذا هو الذى أشار السكاكى إلى امتناعه إذا تقرر ذلك، فاعلم أن المصنف اختار أنه لا بد فى الجامع من الاتحاد فى المسند إليه والمسند إما حقيقة أو مجازا بأن يكونا مجتمعين فى الفكرة على ما سيأتى، ونقل السكاكى أنه قال فى موضع من المفتاح: أنه يكفى اتحادهما فى المسند أو المسند إليه أو فى قيد من قيودهما، ثم أنكر عليه وقال: إنه منقوض بنحو: هزم الأمير الجيش يوم الجمعة وخاط عمرو ثوبى فيه. قال: ولعله سهو، فإنه صرح فى موضع آخر منه بامتناع خفى ضيق وخاتمى ضيق مع اتحادهما فى المسند، وأجاب الطيبى والخطيبى عن السكاكى بأنه موافق على أنه لا بد من الاتحاد فى المسند والمسند إليه، وأن قوله: يكفى الاتحاد فى أحدهما يريد أن الاتحاد فى أحدهما جامع لكنه ليس بمعتبر، قلت: هذا الجواب لا يصح لأنه إنما تكلم فى الجامع المرعى المعتبر، ومن وقف على كلامه تحقق ما قلناه، ولكن السؤال لا يرد وجوابه ما استثناه من القاعدة، فإن السكاكى حيث قال: يكفى الاتحاد فى إحداهما، أراد حيث وجد التناسب الخيالى أو العقلى أو الوهمى فيهما، وحيث قال: إن خفى ضيق وخاتمى ضيق ممتنع أراد حيث لا يجتمع الخف والخاتم فينبغى المناسبة حينئذ كما يعلم بالبديهة من وقف على كلامه فإنه فرض الأمر فيما إذا جرى ذكر خواتيم ولم يتقدم للخف ذكر فالامتناع هنا ليس لعدم الاتحاد فى المسند والمسند إليه بل لعدم الجامع فإن الجامع هو المرعى كما قررناه، وليت شعرى أين اتحاد المسند والمسند إليه فى مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ (¬1) فالمسندان المس والمجئ والمسند إليهما الضر والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، والمناسبة فيه كالشمس، فإن قلت: مس الضر والمجئ ببضاعة مزجاة متحدان، قلت: إنما ذلك من قيود المسندين، وإن سلمناه فأين اتحاد المسند إليه؟ فالحق ما قلناه، وكذلك: كان زيد يعطى وعمرو يمنع، متحدين فى الطرفين كما سأبينه، وهو لا يجوز عند المصنف، وقوله منتقض بنحو: هزم الأمير الجيش اليوم وخاط عمرو ثوبى فيه، قلنا: إن هذا المثال قد يحسن وصله بأن وقع ذكر ما اتفق فى هذا اليوم، ولذلك كان ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 88.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المصنف هنا مقتصرا على قوله بشرط الاتحاد للطرفين، ولكنه سيذكر اشتراط الجامع موافقا عليه، فمعناه بشرطه، وحيث اتضح ذلك فاعلم أن الاتحاد هنا ليس على حقيقته فإن اتحاد الشيئين بمعنى أنهما يصيران شيئا واحدا مستحيل، لأن الشيئين لا يتداخلان، ولكن المراد أن الشيئين فى الصورة أو فى اللفظ يكونان متحدين فى المعنى، ولا شكّ أن هذه الأقسام الأربعة من الاتحاد فيهما أو فى المسند أو المسند إليه أولا فى واحد منهما كل من طرفى الإسناد فيهما متعددة، فتارة يكونان ظاهرين، مثل: رضى زيد وغضب زيد، يريد زيدا آخر فإنهما وإن اتفق لفظهما فهما مختلفان بالشخص أو اختلفا بالحروف مثل: غضب عمرو ورضى سيبويه، وتارة يكونان ضميرين مثل: زيد يعطى ويمنع، وتارة يكون الأول ظاهرا والثانى ضميرا مثل: أعطى زيد ومنع، وتارة عكسه مثل: زيد أعطى ومنع أبوه إذا عرف هذا، فقول المصنف: الجامع بينهما، أى: بين الجملتين وقوله: يجب أن يكون باعتبار المسند إليهما والمسندين أى يجب أن يكون مستقرا باعتبارهما أى باعتبار اتحادهما ولا يلزم من ذلك أن يكون يريد أن اتحادهما هو نفس الجامع بل الجامع يحصل بالاتحاد والباء للمصاحبة، أى: مع الاتحاد ويصح جعلها للسببية، فإن العلم بالجامع يحصل بسبب الاتحاد، فإن قلت: التناسب بين الشيئين كيف يكون باتحادهما، والاتحاد ينافى التعدد الذى هو لازم المناسبة؟ قلت: المراد التناسب فى المعنى بين المسند إليهما مثلا ولا مناسبة بين المسند إليهما أعظم من كونهما سببا واحدا هذا بالنسبة إلى الاتحاد الحقيقى أما بالنسبة إلى الاتحاد الاعتبارى - على ما سيأتى - فالجواب واضح فإن قلت: كلامهم هنا يقتضى أن الاتحاد شرط وسيأتى أن الجامع قد يكون الاتحاد وقد يكون غيره، قلت: المراد هناك الاتحاد الحقيقى وهنا الاتحاد أعم من الحقيقى والاعتبارى. (تنبيه): خص المصنف الاتحاد فى المسند إليه والمسند وبقى قسم وراء ذلك وهو أن يتحد المسند إليه فى إحداهما مع المسند فى الأخرى مثل: الإيمان حسن والقبيح الكفر فالجامع هنا إنما هو بين المسند إليه والمسند فى الأولى والمسند إليه والمسند فى الثانية وهذا وارد عليهم أجمعين. ثم إن المصنف أهمل الاتحاد فى قيد المسند أو قيد المسند إليه فلا بد من تقسيم محيط بجميع أقسام الاتحاد الحقيقى وقس عليه غيره فنقول: الاتحاد الحقيقى سواء أكان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بجامع مناسب يسوغ الوصل أم لا إما فى المسند إليه فقط أو فى المسند فقط أو فى قيد المسند إليه فقط أو فى قيد المسند فقط أو فى الأول والثانى أو فى الأول والثالث أو فى الأول والرابع أو فى الثانى والثالث أو فى الثانى والرابع أو فى الثالث والرابع أو فى الأول والثانى والثالث أو فى الأول والثانى والرابع أو فى الأول والثالث والرابع أو فى الثانى والثالث والرابع أو فى الأربعة فهذه خمسة عشر قسما وعلى كل تقدير منها إما أن يكون الاتحاد الواقع فى طرف واقعا بين ذلك الطرف ومثله من الطرف الآخر أو غيره وأقسام ذلك بعد طرح المتكرر ستة عشر تضرب فى الخمسة عشر تبلغ مائتين وأربعين. وها أنا ذاكر أمثلة الاتحاد فى طرف واحد فقط، تستدل بها على غيرها، سواء كان التناسب المسوغ للعطف موجودا فيجوز الوصل أو مفقودا فيمتنع. الأول: اتحاد المسند إليه فى الأولى والمسند إليه فى الثانية مثل: زيد يعطى ويمنع، جائز، وزيد يعطى وينام، قبيح. الثانى: اتحاد مسند إليه فى الأولى ومسند فى الثانية زيد يعطى والمانع زيد وبلا مناسبة نحو: زيد يعطى والأبيض زيد. الثالث: عكسه بأن تؤخر. الرابع: مسند إليه فى الأولى وقيد مسند إليه فى الثانية بمناسب: الفرس حرون والضارب فرسا مصيب، وغير مناسب: الفرس حرون والذى اشترى الفرس أبيض. الخامس: عكسه، بأن تقدم الجملة المتأخرة. السادس: مسند إليه فى الأولى مع قيد المسند فى الثانية بمناسب: الفرس ماشية والضرب ينفع الفرس، وغير مناسب: الفرس ماشية والشعير غذاء الفرس. السابع: عكسه. الثامن: مسند فى الأولى ومسند فى الثانية وهذا لا يتصور إلا مع اتحاد المسند إليه لاستحالة صدور الفعل الواحد من اثنين - كما سبق -. التاسع: مسند فى الأولى وقيد مسند إليه فى الثانية بمناسب: العالم زيد والضارب زيدا جهول، وغير مناسب العالم زيد والذى باع زيدا ثوبا اسمه كذا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العاشر: عكسه. الحادى عشر: مسند فى الأولى وقيد مسند فى الثانية: العالم زيد والناس تحب زيدا، وبغير مناسب: العالم زيد والخف الضيق كان لزيد. الثانى عشر: عكسه. الثالث عشر: قيد مسند إليه فى الأولى وقيد مسند إليه فى الثانية: الضارب زيدا جهول والمكرم زيدا رشيد، وبغير مناسب: الضارب زيدا جهول والناظر لزيد شعره أسود. الرابع عشر: قيد مسند فى الأولى وقيد مسند فى الثانية: زيد يقاتل الآن والخوخ كثير الآن، وبغير مناسب: زيد قائم الآن والشمس طلعت الآن. الخامس عشر: قيد مسند إليه فى الأولى، وقيد مسند فى الثانية: المحسن إلى الناس مرحوم والله راحم لمن أحسن إلى الناس. السادس عشر: عكسه، ولنرجع لعبارة المصنف. فقوله: والجامع بينهما، أى: بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسند إليهما والمسندين قد علمت ما يرد عليه ولعله إنما أهمل ذكر القيد لأنه لا يرى اشتراط الاتحاد فيه ولأنه قد تخلو الجملتان عنه وعلمت ما يرد عليه من اتحاد المسند مع المسند إليه وقد يقال: إن قوله باعتبار المسند إليهما والمسندين يشمل ذلك وجعله الاتحاد شرطا مطلقا لا ينافى قوله بعد ذلك: إن الجامع قد يكون الاتحاد وقد لا يكون لما يبين من أن الاتحاد الحاصل فى كل جامع، إما حقيقة وإما مجازا. وقوله: كزيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير لمناسبة بينهما واضح وقوله نحو يشعر زيد ويكتب فبين المسند إليهما جامع وهو الاتحاد، وبين المسندين جامع وهو ما بين الكتابة والشعر من التناسب، وقوله: يعطى ويمنع، كذلك والمناسبة فى المعنيين باعتبار التضاد - كذا قالوه - ويحتمل أن يقال: إن يعطى ويمنع فى معنى خبر واحد كقولهم: حلو حامض أى: مز أى صفته الجمع بين الأمرين، غير أنه لما كان العطاء والمنع فعلين عطف أحدهما على الآخر، وأيضا فإن الإعطاء والمنع لا يجتمعان فى محل واحد يصدق عليه الأمران، بخلاف الحلاوة والحموضة فقد يتخيل اجتماعهما فى المز، إن لم يكونا ضدين وقوله: وزيد شاعر وعمرو كاتب فبينهما علقة

السكاكسي: "الجامع بين الشيئين": ـــــــــــــــــــــــــــــ كأن يكونا أخوين أو صاحبين أو متلازمين بوجه ما، أو ذكرا فى مجلس الخطاب، وزيد طويل وعمرو قصير، كذلك وقوله: لمناسبة بينهما قيد فى المثالين الأخيرين. والمناسبة فى المثال الأول والثانى فى المسند إليه الاتحاد والمناسبة فى الثالث والرابع هو تعلق أحدهما بالآخر وقوله: يجب أن لا يجوز غيره يحترز به من أن تكون المناسبة فى المسندين فقط فلا يصح الوصل وإليه أشار بقوله: بخلاف زيد شاعر وعمرو كاتب بدونها أى: بدون المناسبة فى المسند إليهما. (قلت): وهذا الذى ذكره ليس بجيد؛ لأن بين زيد وعمرو تماثلا سواء كان بينهما علقة، أو كما سيذكره المصنف، فالصواب: أن المناسبة شرط لاعتبار الاتحاد فى الطرفين كما سبق ويحترز عن عدم المناسبة لا بين المسندين ولا بين المسند إليهما، وإليه أشار بقوله: (وزيد شاعر وعمرو طويل مطلقا)، يعنى: سواء أكان المسند إليهما لا تعلق بينهما؛ فيكون مثالا لعدم الجامع لا بين المسندين ولا بين المسند إليهما، أم كان زيد وعمرو أخوين فتكون المناسبة بين المسند إليهما لا بين المسندين فلا يجوز أيضا. (قلت): ليس كذلك؛ بل بينهما مناسبة التماثل بكل حال فهذا مثال لاتحاد المسند إليه بكل حال سواء أكان بينهما تعلق أم لا. ص: (السكاكى: الجامع بين الشيئين إلخ). (ش): هذا الفصل ذكره المصنف كالموافق للسكاكى عليه وهو لا ينافى ما سبق من اشتراط الاتحاد فى الطرفين، لأنك قد عرفت أن الاتحاد أعم من الحقيقى والاعتبارى، وذلك الاتحاد المعتبر يكون بجامع - وهو ما سنذكره - فذكر أن الجامع ثلاثة أقسام عقلى ووهمى وخيالى، العقلى هو علاقة تجمع الشيئين فى القوة المفكرة جمعا يكون مسندا إلى العقل بأن يكون أمرا حقيقيا، أى: واقعا فى نفس الأمر من حيث هو هو، والمراد بالوهمى أن تجمعهما تلك العلاقة فى القوة المفكرة جمعا يكون من جهة الوهم بأن لا يكون أمرا حقيقيا بل اعتباريا، ويكون أمرا غير محسوس بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، فإن الوهم باصطلاح القوم ما يحكم بالمعانى الجزئية غير المحسوسة، والخيال أن يكون بينهما علاقة تجمعهما فى القوة المفكرة جمعا اعتباريا مسندا لإحدى الحواس الخمس، ووجه الانحصار فى الثلاثة أن العلاقة الجامعة للشيئين فى القوة المفكرة إن كان أمرا حقيقيا فهو العقلى، وإن لم يكن بأن كان اعتباريا فإما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون غير محسوس وهو الوهمى فإنه يحكم بالمعانى غير المحسوسة حكما كاذبا، وإن كان محسوسا فهو الخيالى فإن القوة الخيالية هى الحافظة لصور المحسوسات بالحواس الظاهرة بعد مفارقتها، وبدأ المصنف بالعقلى لأنه الذى يدرك الأشياء على حقيقتها، وها أنا أذكر أمثلة الجامع العقلى الحقيقى، قسم المصنف الجامع إلى عقلى وغيره، وقسم العقلى إلى ما هو سبب الاتحاد فى التصور وغيره، والمراد بالاتحاد فى التصور أن يكونا شيئا واحدا حقيقة بالشخص والنوع، وها أنا أذكر لك أمثلة لتستدل بها على غيرها. الاتحاد المذكور إما فى الطرفين أو فى المسند أو فى المسند إليه أو لا فى واحد منهما بأن يكون الجامع غير الاتحاد الأول فى الطرفين، مثاله: قام زيد أمس وقام زيد أمس مريدا بذلك قياما واحدا، وقام زيد أمس ثم قام زيد أمس وصم غدا وصم غدا أو ثم صم غدا. وهذا يستعمل لقصد التأكيد حتى يفهم السامع أن ذلك من شأنه أن يتكرر الإخبار به أو يتكرر طلبه؛ لأن الإخبار بالشئ مرتين أو طلبه مرتين كان مؤسسة لنسبته إخبارا أو إنشاء لقصد تقرير فائدة الخبر وتأكيد الطلب بطلب آخر أبلغ، فإن قلت: إذا كان للتأكيد فلا تعطف كما سبق؟ قلت: لم أرد أن الجملة الثانية مؤكدة بل هى تأسيس والتأكيد وقع فى تكرار التأسيس وهذا أبلغ من التأكيد فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز والعطف يحصل بتكرار الإسناد وفائدته زيادة تقرير لثبوت النسبة أو طلبها، وفائدة التأكيد تقرير الإخبار بالنسبة ولا أقول بذلك مطلقا بل حيث لا إلباس بأن يكون المخبر به أو المطلوب لا يقبل التكرار مثل: صمت أمس وصمت أمس، أو صم غدا وصم غدا، فإن توقفت فى صحة هذا التركيب فعليك بقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (¬1)، وفى كلام الزمخشرى ما يومئ إلى أن الثانية تأسيس لا تأكيد؛ لأنه جعل الثانية أبلغ فى الإنذار وبقوله عز وجل: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (¬2)، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم:" إن بنى هشام بن المغيرة استأذنونى أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن" (¬3)، وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة التكاثر: 3. (¬2) سورة الانفطار: 17 - 18. (¬3) أخرجه البخارى فى" النكاح" (ح 5230)، ومسلم (ح 2449).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (¬1) يحتمل أن يكون منه وأن يكون من المتماثلين على ما سيأتى، ومنه قول الشاعر: ألا يا اسلمى ثمّ اسلمى ثمّت اسلمى (¬2) وانظر لقول ابن مالك فى التسهيل الأجود فى مثل ذلك الوصل ليت شعرى لو كان تأكيدا لفظيا كيف يقول الأجود الوصل؟ وما الذى يسلب قول الإنسان: اسلمى اسلمى الجودة وهو تأكيد لفظى لو كان غير جيد لكان كل تأكيد لفظى كذلك، إنما يريد - والله تعالى أعلم - ما قلناه، فإذا قلت: سوف تعلم ثم سوف تعلم كان أجود منه بغير عطف؛ لأنه بالعطف لا يكون خبرا مؤكدا بل خبرين، وبدون العطف يكون تأكيدا وخبرا واحدا وهو أجود لجريه على غالب استعمال التأكيد ولعدم احتماله لتعدد المخبر به، ولتعلم أن التأكيد بينه وبين التابع خصوص وعموم من وجه، فإن قلت: هذا ثبت فى العطف بثم فلا أسلمه فى غيرها، قلت: إذا ثبت مع ثم مع دلالتها على التراخى فإن الواقع بعدها فى زمن غير الواقع قبلها المستلزم للتغاير المفقود المخبر به فيما نحن فيه فلأن يعطف بالواو، وهى لا تقتضى ترتيبا أولى، فإن قلت: هذا قياس فى اللغة وهو ممتنع أو لعل ما ورد من ذلك عطف فيه الإخبار أى ثم أخبركم، قلت: أطلق بدر الدين بن مالك فى شرح الألفية أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف ولم تختص به، وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص ثم يكفيك فى جواز ذلك بالواو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ (¬3) فإن الزمخشرى وابن النحاس والإمام فخر الدين والشيخ عز الدين بن عبد السّلام ذكروا أن المأمور به فيهما واحد ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون التقوى الأولى مصروفة لشئ غير التقوى الثانية مع إمكان إرادته. فإن قلت: قد قالوا: إنه تأكيد، قلت: يريدون ما ذكرناه من تأكيد المأمورية بتكرير الإنشاء لا أنه تأكيد ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 19. (¬2) صدر البيت من الطويل وهو لحميد بن ثور فى ديوانه ص: 133. وبلا نسبة فى رصف المبانى ص: 453، وشرح المفصل 3/ 39. وعجزه (ثلاث تحيات وإن لم تكلم). (¬3) سورة الحشر: 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظى على ما يعرفه من نظر كلامهم، ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعاطف، وتسمية النحاة لمثل ذلك تأكيدا مجاز أو على ما أردناه، وفى خصوص الآية الكريمة لو كان توكيدا لما فصل بينه وبين متبوعه بقوله تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ فإن قلت: اتقوا الثانية معطوفة على ولتنظر، قلت: قد اتفقوا على أن وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (¬1) معطوف على لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ لا على قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وهو نظير ما نحن فيه، وقوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (¬2) وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ (¬3) يحتمل أن يكون اصطفاءين وذكرين، وهو الأولى فى الذكر؛ لأنه محل طلب فيه تكرار الذكر، والظاهر أنه ليس مما نحن فيه، وكفاك دليلا على ما ذكرناه قول الآمدى وغيره ممن لا أحصيهم عددا أن نحو: صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة، صحيح، ويكون أمرا مرتين، ونحو صل ركعتين وصل ركعتين، هل هو تأسيس أو تأكيد؟ قولان: لا يقال: تكرير ذلك تحصيل الحاصل؛ لأنا نقول: طلب الشئ مرتين ليس تحصيلا للحاصل بل طلب بعد طلب كما يدعو الإنسان ربه بالمغفرة مرارا كثيرة، نعم إنما يمتنع ذلك فيما يلزم فيه تحصيل الحاصل، وهو الإنشاء غير الطلبى مثل: أنت طالق وأنت طالق، فإنه ثبت عليه أثره بالأول فلا يمكن إنشاء إيقاع تلك الطلقة بعد وقوعها وكذلك الخبر قد يقصد الإخبار به مرتين وقد أمر الله تعالى فى كتابه العزيز بالصلاة غير مرة، (فإن قلت): فيحصل بذلك الالتباس؛ فإن العطف يقتضى المغايرة فيظن أن المأمور به ثانيا والمخبر به ثانيا غير الأول. (قلت): إنما أقول به حيث لا إبهام لقرينة أو لأن ذلك الشئ لا يقبل التكرار كما سبق فليتأمل ما ذكرناه فإنه تحقيق شريف. القسم الثانى: الاتحاد بالشخص فى المسند فقط نحو: زيد يكتب وأخوه يكتب، هذا القسم مستحيل؛ لأنه متى اتحد المسند بالشخص لزم اتحاد المسند إليه لاستحالة أن يصدر الفعل الواحد بالشخص من اثنين، هذا القسم لا يأتى فى الاتحاد بالشخص؛ بل بالنوع - فتأمله - فقد غلطوا فيه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 83. (¬2) سورة آل عمران: 42. (¬3) سورة البقرة: 198.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: فى المسند إليه فقط وهو إما أن يكون محلّا للوصل، مثل: زيد يكتب ويشعر، فيحسن أولا أن يكون لعدم المناسبة، مثل: جالينوس طبيب ماهر ولبس ثوبه. الرابع: لا فى واحد منهما؛ لمناسبة زيد يكتب وأخوه يشعر فيحسن أو لغير مناسبة فلا يوصل، نحو: سورة الإخلاص من القرآن والزيت فى الزق، وهذه الأقسام الأربعة تتعدد وتتضاعف باعتبار اختلاف لفظ المسند إليه أو اتحاده، مثل: سيبويه صنف الكتاب وعمرو صنف الكتاب، أو سيبويه صنف الكتاب وعمرو ألف الكتاب، ومثل الإتيان بضميرين أو ضمير وظاهر، ويأتى فيها العطف بالواو وغيرها. وكون الجملة الأولى لها محل أو لا محل لها إلى غير ذلك مما لا يخفى وإذا تقرر هذا فلنعد إلى عبارة المصنف، فقوله: أن يكون بينهما اتحاد فى التصور، أى: بين المسندين أحدهما مع الآخر وبين المسند إليهما أحدهما مع الآخر ونحن نمشى مع المصنف على ما رآه من اشتراط اتحاد فيها، ونعنى بالاتحاد فى التصور: أن تصورهما واحد، أى: وإن كانا مسندا إليهما، وهما شيئان فى الصورة واللفظ، فهما فى المعنى واحد، وقد مثل قطب الدين الشيرازى وغيره من شراح المفتاح والتلخيص الاتحاد فى المسند إليه بقولك: زيد يضع ويرفع وهو صحيح ومثلوا الاتحاد فى المسند بقولك: زيد كاتب وعمرو كاتب، وهو فاسد؛ لأن كتابة زيد وكتابة عمرو ليستا متحدتين بالشخص حقيقة فى التصور؛ بل اتحادهما بمعنى التماثل فهو من القسم الذى سيأتى، ومثلوا الاتحاد فى قيد المخبر عنه، بقولك: القائم عندنا شجاع والجالس عندنا عالم، وهو مثال الاتحاد فى القيد مع وجدان جامع فى المسند إليه وهى المضادة ومع عدم الجامع فى المسند، إذ لا جامع بين شجاع وعالم، ثم هو فاسد أيضا؛ لأن الظرف بالنسبة إلى القائم والجالس ليس متحدا حقيقة؛ بل هما ظرفان متماثلان؛ لأن المكان الواحد بالشخص لا يكون فيه اثنان إلا أن فرض ذلك بحسب وقتين مختلفين، ومثلوا الاتحاد فى قيد المخبر به، بقولك: زيد كاتب فى الدار وعمرو جالس فيها، وهو أيضا فاسد؛ لأن مكان الجالس والكاتب مختلفان بالشخص، ثم هو مثال للاتحاد فى القيد مع عدم الجامع فى المسند، ومثله الخطيبى بقولك: هزم الأمير الجيش يوم الجمعة وذهب السلطان فيه، وهو مثال صحيح بشرط أن يقصد أن الفعلين وقعا فى زمن واحد بالشخص، فإن الزمن الواحد يكون ظرفا لأشياء كثيرة، أما لو قصد أن أحدهما فى

إمّا عقلىّ: بأن يكون بينهما اتحاد فى التصوّر أو تماثل؛ فإنّ العقل بتجريده المثلين عن التشخّص فى الخارج يرفع التعدّد بينهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ بكرة النهار، والآخر فى آخره مثلا، فليس مما نحن فيه ثم هو مثال لاتحاد القيد مع عدم الجامع فى المسند، وهذه الأمثلة كلها مما تعرفك أن قول السكاكى يكفى الاتحاد فى المسند أو المسند إليه، أو القيد على حقيقته كما تقدم. ص: (أو تماثل إلى آخره). (ش): هذا النوع الثانى من الجامع العقلى وهو أن يكون الجامع فى المسند أو المسند إليه التماثل والمثلان هما المتساويان فى الذاتيات؛ ولذلك حدهما أصحابنا بأنهما موجودان مشتركان فى الصفات النفسية، ومن لازم ذلك أنه يجب لكل منهما ويمتنع، ويجوز ما يجب للآخر ويمتنع ويجوز. (قوله: فإن العقل إلى آخره) تعليل لكون التماثل جامعا، أى الجامع بالحقيقة إنما هو الاتحاد؛ لأن المثلين متحدان بالذات؛ لأن العقد يجرد المثلين عن التشخص فى الخارج برفع العوارض المقتضية للتعدد، فيرجع الاتحاد، ثم هذا التماثل إما فى المسند إليه فقط أو فى المسند فقط أو فى قيد من قيودهما على الأقسام السابقة فى الاتحاد فى التصور، وإذا تأملت ما سبق من الأمثلة أمكنك سلوك ما يناسب هذا المقام، مثال التماثل فى المسندين: زيد يعطى وزيد يعطى، أو هو يعطى، فإن المسند إليه متحد لا متماثل والمسند متماثل إذا أردت بالإعطاء الثانى غير الإعطاء الأول، فالاتحاد هنا فى المسند إليه بالشخص وفى المسند بالنوع، ولا شك فى سلوك هذا الوصل إذ لو ترك لتوهم أن الثانى هو الأول وأنه تأكيد، وقد قال الزمخشرى فى قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا (¬1) معناه: كذبوا تكذيبا فى أثر تكذيب وهو عين ما قلناه، ومثال التماثل فى المسند إليه زيد يعطى وأخوه يمنع أو زيد يعطى وعمرو يمنع وإن لم يكن بينهما علقة؛ لأن ما علل به من رفع التماثل يقتضى أن أفراد الإنسان كلها يلازم الجامع كل اثنين منها، وهذا ما قدمناه أن كلام المصنف السابق مناف له؛ لأنه شرط فى الاتحاد أن يكون بين زيد وعمرو مناسبة لا يقال: تحمل المماثلة على المشابهة فى العوارض؛ لأمرين أحدهما: أنه خلاف ما صرحوا به كلهم، والثانى: أن تلك المشابهة إذا وقعت لا تتحد الحقيقة؛ بل يرجعان إلى التماثل بالذات، ومثال التماثل فيهما: زيد يعطى ¬

_ (¬1) سورة القمر: 9.

أو تضايف كما بين العلّة والمعلول، أو الأقلّ والأكثر. أو وهمىّ: بأن يكون بين تصوّريهما شبه تماثل؛ كلونى بياض وصفرة؛ فإنّ الوهم يبرزهما فى معرض المثلين؛ ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التى فى قوله [من البسيط]: ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها … شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر ـــــــــــــــــــــــــــــ وأخوه يعطى، ومثال عدم التماثل فيهما: زيد يعطى ويمنع. ولنقتصر على هذه المثل الأربعة؛ لأن من تأمل ما سبق فى أمثلة الاتحاد، أمكنه سلوك كل فى محله. ص: (أو يكون بينهما تضايف). (ش): هذا النوع الثالث من الجامع العقلى، فإن التضايف هيئة بين ماهيتين، تقتضى توقف تعقل كل منهما على تعقل الأخرى، وقولهم: التضايف هيئة تكون ماهيتها معقولة بالنسبة إلى تعقل هيئة أخرى، وبالعكس حد لأحد المتضايفين لا للتضايف، ويكون التضايف بين المعقولات أو المحسوسات وغيرهما بالكم والكيف أو الزمان أو المكان أو الوضع؛ كالعلة والمعلول، والأب والابن، والصغير والكبير، والأعلى والأسفل، والأبرد والأحر، والأصغر والأكبر، والأقدم والأحدث، والأشد انتصابا وانحناء، والأقل والأكثر، وسواء أكانت الإضافة فى الطرفين متفقة على صفة واحدة، كالأخوة فإنها فى كل من الطرفين أو مختلفة كالأخوة، فانها ليست من الطرفين؛ بل يقابلها البنوة ومثاله فى المعقولات: العلة مع المعلول، كقولك: العالم معلول للصانع والصانع علة للعالم، وهذا أصغر من ذلك وذاك أكبر من هذا فى الكم، وهذا أبرد من ذلك وذاك أحمى من هذا فى الكيف، وهذا أعلى من ذاك وذاك أسفل من هذا فى المكان الذى يسمونه الأين، وهذا أقدم من ذاك وذاك أحدث من هذا فى الزمان الذى يسمونه المتى، وهذا أشد انتصابا وذاك أشد انحناء فى الوضع، وأما الوهمى فبأن يكون بين تصورهما شبه تماثل كلون بياض ولون صفرة إنما كان ذلك جامعا؛ لأن الوهم يبرزهما فى معرض المثلين والوهم قوة مدركة لمعان جزئية فتقطع الشخص عنهما وتجردهما فيحصل الجامع؛ وإنما أبرزهما فى معرض المثلين لتقاربهما؛ فيتوهم أنهما مثلان؛ ولذلك أنكرت الفلاسفة التضاد بينهما - كما سبق - كما تقول: صفرة الذهب تسر وبياض الفضة ينفع، ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة فى قوله: ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها … شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لمحمد بن وهيب فى الأغانى 19/ 79، 80، وفيه:" ببهجتهم" بدل" ببهجتها"، وهو لأبى تمام فى شرح عقود الجمان ص 187، وبلا نسبة فى تاج العروس 25/ 500 (شرق).

أو تضادّ؛ كالسواد والبياض، والكفر والإيمان، وما يتصف بها؛ كالأبيض والأسود، والمؤمن والكافر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا ليس مثالا لما نحن فيه، فإنه من عطف المفردات، والصفرة والحمرة مثال ضدين بينهما شبه تماثل، وشمس الضحى وأبو إسحاق والقمر مثال لمختلفين بينهما شبه تماثل. (قوله: أو تضاد) معطوف على شبه، أى: أو يكون بين تصورهما تضاد واعلم أن الضدين على مذهب أهل السنة هما كل عرضين يستحيل اجتماعهما فى محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة، فقولنا: عرضان يعلم منه أن التضاد لا يكون بين المعدومين، ولا بين موجود ومعدوم، ولا بين جوهرين، ولا بين عرض وجوهر، ولا بين القديم والحادث، وقولنا: يستحيل اجتماعهما خرج به نحو السواد مع الحلاوة، وقولنا: فى محل واحد احتراز عن مذهب المعتزلة؛ فإنهم لم يشترطوا المحل، وقالوا: الإرادة الربانية مضادة الكراهة الربانية، وكلاهما لا فى محل، ويقولون: إن الضدين يقومان بمحلين من القلب، وقولنا: لذاتيهما، احتراز عن العلم الإنسانى بسكونه حال تحركه، فإنه يمتنع الجمع بينهما لا لذاتيهما؛ بل لأن العلم بالسكون يلزمه السكون المضاد للحركة، وقولنا: من جهة واحدة احتراز عن نحو القرب والبعد بالنسبة إلى شيئين فلا يتضادان وإن كانا فى محل واحد إلا بالنسبة لشئ واحد، كذا قال الآمدى فى الإنكار ولا يخفى ما فيه وقد دخل فى حد المتضادين، هذا نحو الحمرة مع البياض، والحمرة مع الصفرة وغيرهما من الألوان الوسائط بين السواد والبياض. وأما ما وقع فى كلام أهل هذا العلم من أن الضدين كل ذاتين يتعاقبان على موضع واحد، ويستحيل اجتماعهما وبينهما غاية الخلاف والبعد فهو فاسد؛ لأنه على رأى الفلاسفة الذاهبين إلى أن الوسائط لا تضاد بينها وبين السواد والبياض مثلا، وقد مثل المصنف الضدين بالسواد والبياض فى الألوان، والكفر والإيمان فى المعانى فهما ضدان إذ يرتفعان فى حق غير المكلف، وقوله: (وما يتصف بها)، مثاله: المؤمن والكافر والأسود والأبيض، وفيه نظر؛ لأن الأسود والأبيض ليسا ضدين فإنهما ليسا عرضين، وقول المصنف: أو تضاد قد يقال: السواد والبياض بينهما تضاد، أما تصورهما فكيف يقال بينهما تضاد؟ ولا شك أن تصور الأبيض وتصور الأسود فى وقت واحد ممكن لا يقال: الجمع بين الضدين لا يتصور فى الذهن على ما اختاره

أو شبه تضادّ؛ كالسماء والأرض، والأول والثانى؛ فإنه ينزّلهما منزلة التضايف؛ ولذلك تجد الضّدّ أقرب خطورا بالبال مع الضدّ. أو خيالىّ: بأن يكون بين تصوّريهما تقارن فى الخيال سابق، وأسبابه مختلفة؛ ولذلك اختلفت الصور الثابتة فى الخيالات ترتّبا ووضوحا؛ ولصاحب علم المعانى فضل احتياج إلى معرفة الجامع، لا سيّما الخيالىّ؛ فإنّ جمعه على مجرى الإلف والعادة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن سينا فى الشفاء؛ لأنا نقول: الممتنع على هذا القول تصورهما مجتمعين، وأما تصورهما فى وقت واحد منفردين فلا يمتنع إلا إذا قلنا: إن العلم يستحيل أن يتعلق بأمرين فى وقت واحد؛ لكن المصنف لا يريد ذلك؛ لأن القول به لا اختصاص له بالضدين، بل فى كل أمرين مطلقا ولو قال: أو يكون المسند إليهما أو المسندان متضادين، سلم من هذا؛ وإنما كان التضاد جامعا؛ لأن الوهم ينزلهما منزلة المتضادين اللذين يلزم من تصور أحدهما تصور الآخر. (قوله: أو شبه تضاد)، أى: يكون بين تصورهما شبه تضاد وعليه من السؤال ما سبق فينبغى أن يقول: أو يكون بين الشيئين شبه تضاد (كالسماء والأرض) وإنما لم يحكم عليهما بالتضاد، لأنهما لا يتعاقبان على محل، وليسا بعرضين؛ ولكنهما يشبهان المتضادين لما بينهما من الاختلاف (و) من شبه التضاد (الأول والثانى) وينبغى أن يعد منه الأبيض والأسود - كما سبق - وإنما عد الأول والثانى من شبه التضاد ولم يعدا متضادين؛ لأن فى كل منهما قيد العدم؛ لأن الأول ما لم يسبقه غيره والثانى ما سبقه واحد فقط، والضدان لا يكونان عدميين، (قوله: فإنه)، أى: لأن الوهم (ينزلهما) أى الضدين (منزلة التضايف) ينبغى أن يقول: منزلة المتضايفين أو يقول: ينزل المضادة منزلة التضايف (ولذلك تجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد) كالسواد والبياض. وأما الخيالى فهو أن يكون بين تصوريهما تقارن فى الخيال سابق أى سابق فى الخيال، والخيال قوة حافظة لما يدركه الحس المشترك. وينفرد الخيالى عن العقلى والوهمى؛ بأن فى العقلى علاقة حقيقية - كما سبق - وفى الوهمى علاقة اعتبارية حاصلة فى ذات تلك المقارنات، وأما الخيالى فإنها صور تثبت فى قوة الخيال وتصل إليها من الحواس وإن كانت تلك الأشياء بحسب ذلك الشخص؛ لكونه كثير الاستعمال لها فى خياله؛ لكثرة مشاهدتها واشتمال حواسه الظاهرة عليها؛ ولذلك كثر الاختلاف فى ثبوت الصور فى الخيالات، وربّ شيئين يجتمعان فى خيال زيد دون خيال عمرو، لملابسته

ومن محسّنات الوصل: تناسب الجملتين فى الاسمية أو الفعلية، والفعليتين فى المضى والمضارعة، إلا لمانع. ـــــــــــــــــــــــــــــ لها دون غيره أو جريان ذكرهما فى مجلسه دون غيرهما، وربما كان بين الأمرين جامع خيالى بالنسبة إلى قوم دون قوم كقوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (¬1) فإن هذه الأمور مجتمعة فى خيال أهل البوادى، فإن أكثر انتفاعهم بالإبل وانتفاعهم بها بالرعى الناشئ عن المطر النازل من السماء، المقتضى لتقلب وجوههم إليها ولا بد لهم من مأوى وحصن فكثر نظرهم إلى الجبال ولا بد لهم من التنقل من أرض لأرض، فذكرت الأرض فصور هذه الأمور حاضرة فى ذهنهم على الترتيب المذكور بخلاف الحاضر فإنه إذا تلا الآية قبل تأمل هذه الأمور ربما وسوس إليه الشيطان ظن أن هذا الوصل معيب. (قلت): وأنت تعلم كما سبق أن الاتحاد فى المسند والمسند إليه موجود فى هذه المتعاطفات بالنسبة لكل أحد، ومع ذلك قال المصنف: لولا اجتماع هذه الأمور فى خيال البدوى لما ساغ هذا العطف ففسد بذلك قوله - فيما سبق -: إن الاتحاد فى المسند والمسند إليه يكون كافيا وعلم صحة ما قلناه من أن المعتبر المناسبة وهذه الآية الكريمة ليست مما نحن فيه؛ لأنها من عطف المفردات لكن يعلم به حكم الجمل على هذا الأسلوب، بل أولى؛ لأن الاتصال بين المفردات أوضح منه بين الجمل واعلم أنك لو قلت: انظر إلى السماء كيف رفعت وانظر إلى البرغوث الذى يأكلك لكان ممتنعا، ولصاحب علم المعانى احتياج كثير إلى معرفة الجامع لا سيما الخيالى فإن مبناه على الإلف والعادة. ص: (ومن محسنات الوصل إلخ). (ش): لما ذكر مواطن الوصل والفصل، شرع فى فرع غير ذلك وهو أنه إذا ساغ الوصل فربما يستحسن وربما لا يستحسن فإن قلت: ذلك يستدعى جواز الوصل والفصل حتى يستحسن أحدهما فى حالة والآخر فى حالة ولم يتقدم لنا صورة يجوز فيها بلاغة الأمرين بكل اعتبار بل صور يجوز فيها القطع والوصل باعتبارين؛ فأى ¬

_ (¬1) سورة الغاشية: 17، 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ اعتبار سلكته وجب ما يقتضيه وقطع الاحتياط المتقدم إن حملناه على جواز الأمرين فلا شك أن الفصل فيه أرجح ومتى ترجح الفصل من حيث المعنى لا ينظر إلى التناسب اللفظى. (قلت): لا مانع من انقسام الوصل الواجب إلى مستحسن وغيره؛ لأن المعنى بوجوبه امتناع الفصل، فإن كان مع تناسب بحسب الوصل، كان التركيب حسنا وإلا كان التركيب قبيحا، أو يكون المراد إذا أردت أن تصل فعليك بالتناسب ويحتمل أن يريد بالمحسن الموجب؛ لأن واجبات البلاغة يستند أكثرها إلى التحسين فإنه كل ما وجب لغة وجب بلاغة من غير عكس، ويشهد لذلك أن السكاكى قال: إن محسنات الوصل أن يكون الجملتان متناسبتين فى الاسمية أو الفعلية، فإذا كان المراد من الإخبار مجرد نسبة الخبر إلى المخبر عنه، من غير تعرض لقيد زائد لزم أن يراعى ذلك، انظر كيف جعله من المحسنات ثم جعله لازما، وقد ذكر من محسنات الوصل أمرين، أحدهما: تناسب الجملتين بالاسمية والفعلية، أى: بأن يكونا اسميتين أو فعليتين كذا ذكروه والأحسن أن يقال: أو ذواتا وجهين؛ لأن الجملة التى طرفاها اسمان اسمية، والتى أحد طرفيها فعل إن كانت مصدرة بالفعل سميت فعلية أو باسم سميت ذات وجهين ويطلق عليها أيضا الاسمية كثيرا. واعلم أولا: أن النحاة اختلفوا فى جواز عطف الجملة الاسمية على الفعلية وعكسه، وعطف الاسم على الفعل وعكسه، على أربعة أقوال، قيل: يمتنع حكاه عبد اللطيف البغدادى فى شرح مقدمة ابن بابشاذ، ويلزم امتناع الرفع على الابتداء فى قام زيد وعمرو ضربته إذا لم تكن الثانية حالا وهو خلاف ما أطلق النحاة عليه، وقيل: إن كان العطف بالواو جاز، أو غيرها فلا يجوز، قاله ابن جنى فى سر الصناعة ونقله عن الفارسى، وقال: إنه الصواب، وقيل: يجوز مطلقا وهو المشهور الصحيح، ولهذه المسألة فرع سنذكره فى آخر الكلام إن شاء الله تعالى، والرابع: وهو تجويزه فى عطف الاسم على الفعل، وعكسه قاله ابن الشجرى فى أماليه وهو أن الفعل المضارع يعطف على اسم الفاعل وعكسه، لما بينهما من المضارعة التى استحق بها يفعل الإعراب واسم الفاعل الإعمال فتقول: زيد يتحدث وضاحك وضاحك ويتحدث ولا يجوز زيد سيتحدث وضاحك؛ لأن ضاحكا لا يقع موقع يتحدث هنا؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لا يصلح لمباشرة السين وكذلك لا يجوز مررت بجالس ويتحدث، فإن عطف اسم الفاعل على فعل ماض لم يجز إذ لا ملازمة بينهما إلا إذا قربت الماضى من الحال بأن تقربه بقد، كقوله: أم صبىّ قد حبا أو دارج أو يكون اسم الفاعل مرادا به الماضى فيجوز عطفه عليه مثل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ (¬1) وعليه بنى المصنف وغيره ما ذكره كأنه يقول: إن قلنا: يجوز عطف الاسمية على الفعلية وعكسه، فهو غير مستحسن لما فيه من عدم التناسب، وذلك نحو: قام زيد وعمرو قعد؛ ولذلك كان المعطوف على الجملة الاسمية نحو: زيد قام وعمرو ضربته يختار فى ضربه النصب، ولو كانت الجملة الاسمية ذات وجهين نحو: زيد قام وقعد عمرو فقد جعله السكاكى من عطف الفعلية على الاسمية، والظاهر أنه فى الرتبة الوسطى لا يصل فى القبح إلى عطف فعلية على اسمية محضة ولا فى الحسن إلى عطف اسمية محضة على اسمية، وعكسه فإنه يشارك الفعليتين والاسميتين فى اشتمال كل من الجملتين على فعل واسم، بل يزيد عليهما بتوالى الفعلين المحمولين؛ ولكنه ينقص عنهما بالاختلاف بجعل محمول إحداهما مقدما ومحمول الأخرى مؤخرا، وقول المصنف: (فى الفعلية والاسمية) فيه نظر، وينبغى أن يقول: أو الاسمية؛ لأن التناسب لا يكون فى كل منهما، بل فى إحداهما. الأمر الثانى من التناسب: أنهما إذا كانا فعليتين يتناسبان فى المضى والمضارعة وينبغى أن يقول: أو المضارعة فإن التناسب لا يكون إلا فى إحداهما - كما سبق - كقولك: قام زيد وقعد أو يقوم ويقعد فلو قلت: قام زيد ويقعد أو عكسه، لم يحسن وهذا بشرط أن يكون المضارع والماضى مرادا بهما المضى أو الاستقبال، أما لو أريد بأحدهما المضى وبالآخر الاستقبال أو الحال لم يجز بالكلية، كما تقدم عن الشيخ أبى حيان نقل الإجماع فيه. ومن التناسب أيضا ولم يتعرض له المصنف: أن تكون الجملتان سواء فى الشرطية والظرفية، أى: إذا كان المعطوف عليها شرطية فليكن المعطوف كذلك أو كانت المعطوف عليها ذات ظرف؛ فلتكن الثانية كذلك. ¬

_ (¬1) سورة الحديد: 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): فيه نظر؛ لأنه إذا كانت الأولى ظرفية فإن قصدت إعطاء الظرف للأخرى وصلت وإلا وجب الفصل - كما سبق - وينبغى أن يدخل فى هذا القسم إذا كان فى إحداهما أداة حصر، مثل: إنما زيد قائم وعمرو جالس تريد عطف عمرو وجالس على إنما وما بعده، وكذلك إذا كانت إحداهما مؤكدة بإن أو اللام دون الأخرى. وقوله: (إلا لمانع) هو استثناء عائد إلى القسمين السابقين فالتناسب فى الاسمية والفعلية يعتبر إلا لمانع مثل: أن تريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الاستمرار، كقولك: قام زيد وعمرو قاعد إذا أردت أن قيام زيد تجدد وقعود عمرو لم يزل؛ لأن رعاية المعنى تقدم على رعاية التناسب اللفظى، قال السكاكى فى المفتاح: وعليه قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (¬1) أى سواء أجددتم الدعوة أم استمر عليكم صمتكم عن دعائهم؛ لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله عز وجل دون أصنامهم لقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ (¬2) وكانت حالهم المستمرة أن يكونوا عن دعوتهم صامتين واعترض عليه بأنه إنما يتجه لو كان المدعو الله تعالى، وإنما المدعو الأصنام فلا يصح المثال؛ لأن دعاءهم الأصنام أمر ثابت لهم (قلت): والجواب أن السكاكى أراد أن الثابت لهم الصمت عن دعائهم؛ لأن الدعاء فى الغالب إنما يكون عند مسّ الضر وهم عند مس الضر إنما يدعون الله عز وجل ودعاء الله صمت عن دعائهم، ولذلك قال السكاكى: إن حالتهم المستمرة الصمت عن دعائهم، واستدل عليه بأنهم كانوا يدعون الله تعالى بدليل الآية الكريمة والمعنى سواء تجدد دعاؤكم الأصنام عند نزول الضر وتركتم ما أنتم عليه من دعاء الله تعالى عند الضر أم أنتم صامتون عن دعاء الأصنام مستمرون على دعاء الله ومن أمثلة هذا أيضا قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (¬3)؛ لأنهم كانوا يزعمون أن اللعب حالة مستمرة له صلّى الله عليه وسلّم فاستفهموا عن تجدد مجيئه لهم بالحق ولا فرق فى التمثيل بهذه الآية الكريمة بين أن نقول: أم منقطعة أو نقول: متصلة قيل: ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬4) على قراءة النصب فإنه معطوف على فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا (¬5) فإن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 193. (¬2) سورة الروم: 33. (¬3) سورة الأنبياء: 55. (¬4) سورة فصلت: 18. (¬5) سورة فصلت: 15.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الجملة لا تخلو عن أن تكون اسمية فتكون للثبوت أو فعلية فتكون للتجدد، فإن أريد التجدد فيهما وجب كونهما فعليتين لذلك لا للتناسب، أو أريد الثبوت فيهما وجب كونهما اسميتين لذلك أو أريد الثبوت فى إحداهما والتجدد فى الأخرى وجب اختلافهما لذلك، فليس لرعاية الاسمية والفعلية محل تكون فيه للتناسب اللفظى. (قلت): الجملة فى نفسها لا تخلو عن دلالة على الثبوت إن كانت اسمية أو التجدد إن كانت فعلية؛ لكن وراء إرادة الثبوت وإرادة التجدد قسم ثالث وهو: إرادة مطلق النسبة من غير نظر لثبوت أو تجدد وإن كانت لا يقع الإخبار بها إلا على إحدى الكيفيتين، وبهذا ظهر الجواب عن قول السكاكى: إن كان المراد مجرد النسبة روعى التناسب فى الفعلية والاسمية وأما المانع من رعاية التناسب فى عطف أحد الفعلين على الآخر فهو أن يكون الفعلان المستقبلان مثلا يقصد إتيان أحدهما بصيغة الماضى لنكتة كالدلالة على أن هذا الأمر صورته صورة الواقع وقد تقدم الكلام على هذا ومثله وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ (¬1) إشارة إلى أن الفزع المترتب على النفخ كأنه قد وقع حتى عبر عنه بلفظ الماضى. (تنبيه): إذا تأملت ما ذكرناه فى هذه الأمثلة وتأملت كلام السكاكى علمت أن المراد فى هذا المكان بقولهم: الفعل المتجدد أنه للإخبار بتجدد الشئ ووقوعه بعد أن لم يكن ويشهد لذلك قول السكاكى: سواء عليكم أجددتم دعاءهم بخلاف قولنا: الفعل المضارع للتجدد فمعناه: أن الشئ يتجدد وقتا بعد وقت ويتكرر كما سبق تقريره. (تنبيه): ينبغى أن يستثنى من الفعل المضارع المجزوم بلم أو لما فيعطف على الماضى تقول: زيد قام ولم يقعد ولا يعطف على المضارع المراد به الاستقبال فتقول: سيقوم ولم يقم؛ وكأنهم استغنوا عن هذا بقولهم: إلا لمانع فإن إرادة المضى بالمضارع المجزوم لا يؤثر معها رعاية التناسب فى عطفه على مضارع للاستقبال كما أن إرادة الاستقبال بفزع منعت رعاية التناسب. (تنبيه): جميع ما سبق فى الجملتين سواء أكانا كلامين مستقبلين أم لم يكونا مثل: جملتى الشرط أو جملتى الجواب فيراعى فيهما ما سبق أما جملتا شرط وجواب مثل ¬

_ (¬1) سورة النمل: 87.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قولك: إن قام زيد قعد عمرو وإن خرج بكر دخل خالد، فهل يشترط فى عطف الثانية على الأولى الاتحاد فى المسندين والمسند إليهما فى الجمل الأربع إذا مشينا على رأى المصنف أو يكفى الاتحاد بين مسندى الشرط والمسند إليهما أو يعتبر الجواب لم يتعرضوا لذلك فلينظر فيه. (تنبيه): قد علم حكم الجملتين فى الوصل والفصل أما المفردات فلم يتعرضوا لها فى ذلك والظاهر أنهم إنما تركوا ذلك؛ لأنه فى الغالب واضح؛ أو لأنه يعلم حكمه من الجملتين ولذلك تجد فى أمثلة المفتاح وغيره، حين يمثل بوصل إحدى الجملتين بالأخرى كثيرا من المفردات والذى ينبغى التعرض لذلك، فنقول: الأصل فى المفرد فصله مما قبله، لأن ما قبله إما عامل فيه مثل: زيد قائم فلا يعطف المعمول على عامله أو معمول فلا يعطف العامل على معموله أو كلاهما معمول، والفعل يطلبهما طلبا واحدا، فلا يمكن عطفه؛ لأنه يلزم قطع العامل عن الثانى مثل: علمت زيدا قائما، ونحو ذلك إلا ما سنذكره فى عطف أحد الخبرين على الآخر؛ لكن قد يأتى ذلك فى بعض المفردات فلا بد له من ضابط، فنقول: إذا اجتمع مفردان وأمكن من جهة الصناعة عطف أحدهما على الآخر، فإن كان بينهما جامع وصلت وإلا فصلت ولنمش على اصطلاحهم فى الجمل، فنقول: ذلك أقسام أحدها: أن يكون بين المفردين كمال انقطاع بلا إيهام غير المراد، مثل: زيد عالم قائم، فإنه لا جامع بين هذين الخبرين معتبر، وكذلك جاء زيد لابسا ثوبا ضاربا عمرا، وكذلك الأسماء قبل التركيب، نحو: واحد اثنان ثلاثة وحروف الهجاء، نحو: ألف باء، الثانى: أن يكون بينهما كمال الانقطاع، وفى الفصل إيهام غير المراد نحو: ظننت زيدا ضاربا وعالما، فيجب العطف إذ لو لم يعطف لتوهم أن عالما معمول لقولك ضاربا، الثالث: كمال الاتصال، بأن يكون تأكيدا معنويا أو لفظيا أو عطف بيان أو نعتا أو بدلا، نحو: جاء زيد نفسه، وجاء زيد أبو عبد الله، وجاء زيد القائم فلا يعطف شئ من ذلك أو يكون فى معنى واحد من هذه الأمور - كما سبق فى الجمل - أو يكونا بمنزلة خبر واحد كقوله: هذا حلو حامض إذا جعلناهما خبرين، فإن قلت: قد وقع عطف بعض الصفات على بعض، قلت: على خلاف الأصل، وأكثر ما يقع ذلك للجمع بين صفتين أو للتنبيه على تغايرهما، كقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَالْباطِنُ (¬1) إن جعلناها صفات لرفع وهم من يستبعد أن تكون هذه الصفات لذات واحدة؛ لأنه إذا قصد فى العرف تضاد أحوال الشخص الواحد، يقال: هو قائم قاعد، وجاء العطف فى قوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (¬2)؛ دون ما قبله؛ لأن الثيوبة والبكارة قسمان متضادان للموصوف، لا يجتمعان فى محل واحد بخلاف الصفات قبله. وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ (¬3) فإنه لما كان الأمر بالمعروف ملازما للنهى عن المنكر، وعكسه عطف عليه، ليكونا صفتين مستقلتين بالفضل، بخلاف ما قبله فإنه لا يتوهم أن أمرين منهما صفة واحدة وأما قولهم واو الثمانية فهو كلام ضعيف ليس له أصل طائل، وإن كان وقع فى كلام كثير من الأئمة واستندوا فيه إلى أن السبعة نهاية العدد عند العرب. وأما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ (¬4) فلأن غافر الذنب وقابل التوب من صفات الأفعال، وعطف أحدهما على الآخر أيضا يتوقف على تحرير المقتضى لاختلاف هذه الصفات تعريفا وتنكيرا، وللكلام فيه سبح طويل ليس هذا محله، فإن غافر وقابل قد يظن أنهما وصف واحد لتناسبهما، فبين بعطف أحدهما أنهما متغايران وشَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ كالمتضادين بالنسبة إلى غير الله - عز وجل -. وقال الزمخشرى فى قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ (¬5) إلى آخرها: العطف الأول: نحو قوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (¬6) فى أنهما جنسان مختلفان إذا اشتركا فى حكم، لم يكن بد من توسط العاطف بينهما. وأما العطف الثانى: فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع فكان معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة. اهـ. قال الوالد - رحمه الله تعالى -: الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد إما من كل وجه كقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فإن الموصوف الله تعالى، وإما بالنوع كقوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (¬7) فإن الموصوف الأزواج، وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الحديد: 3. (¬2) سورة التحريم: 5. (¬3) سورة التوبة: 112. (¬4) سورة غافر: 3. (¬5) سورة الأحزاب: 35. (¬6) سورة التحريم: 5. (¬7) سورة التحريم: 5.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ (¬1) فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة، وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ، فإن دل دليل على أنه من عطف الصفات، أتبع كهذه الآية الكريمة، فإن هذه الأعداد لمن جمع هذه الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحد منها؛ إذ الإسلام والإيمان كل منهما شرط فى الأجر، وكلاهما شرط فى حصول الأجر على البواقى، ومن كان مسلما مؤمنا له أجر، لكن ليس هذا الأجر العظيم الذى أعده الله فى هذه الآية الكريمة، وقرن به إعداد المغفرة، وإعداد المغفرة زائد على المغفرة، فلخصوص هذه الآية جعل الزمخشرى ذلك من عطف الصفات والموصوف واحد، فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير، فإن ظاهر العطف يقضى بالتغاير، ولا يقال: الأصل عدم التقدير؛ لأن هذا الظاهر مقدم على رعاية ذلك الأصل، ومثاله قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ (¬2) ولو كانت من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جمع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف على الفقراء والفقهاء والنحاة استحقه من به إحدى هذه الصفات، والله تعالى أعلم. الرابع: شبه كمال الانقطاع بأن يكون للمفرد الأول حكم لا يقصد إعطاؤه للثانى نحو: زيد مجيب إن قصد صالح، إذا أردت الإخبار بأنه صالح مطلقا فإن عطف صالح على مجيب يوهم أنه صالح إن قصد؛ لأن الشرط فى أحد المتعاطفين شرط فى الآخر بخلاف الشرط فى واحد من خبرى المبتدأ، وتارة يكون عطفه على المفرد قبله يوهم عطفه على غيره، نحو: كان زيد ضاربا عمرا قائما، فلو قلت: وقائما؛ لأوهم أنه معطوف على عمرا المفعول. الخامس: شبه كمال الاتصال كقولك: زيد غضبان ناقص الحظ، كأن سائلا سأل لم غضب وهذا تقدير معنوى لا صناعى، ولو كان صناعيا لدخل فى عطف الجمل. السادس: أن يكون بينهما التوسط من كمال الانقطاع وكمال الاتصال كقولك: زيد معط مانع على أن يكونا خبرين فإنك إذا أردت جعل الثانى صفة تعين الوصل - كما سبق - إلا بتأويل ثم ذلك فى المفردات يكون أيضا بالاتحاد، فتارة يتحد فيه باعتبار المسند، ونعنى به مدلول المفرد والمسند إليه، وهو العامل فى المفردين، مثل: زيد ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 112. (¬2) سورة التوبة: 60.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كاذب ومائن أو قاعد وجالس، فإنه يجوز عطف أحدهما على الآخر مع اتحاد اللفظ كقوله: فقدّدت الأديم لراهشيه … وألفى قولها كذبا ومينا (¬1) وكذلك: جاء زيد راضيا وضاحكا؛ يتحدان باعتبار المناسبة بين الضحك والرضا، وليسا هنا مسندين، بل هما متعلقان بصاحب الحال، أو الاتحاد بمعنى عمل الفعل السابق فيهما، ولا حرج عليك فى تسمية ذلك إسنادا إن شئت، فقد سبق عند أسباب العلمية نظيره عن سيبويه والسكاكى. وتارة يقع الاتحاد فى المسند فقط وإن لم يوافق على تسمية ذلك إسنادا، فقل فى النسبة: جاء زيد وعمرو ضاحكا وباكيا فقد اشتركا فى جاء. وتارة يقع الاتحاد فى المسند إليه فقط مثل: زيد عالم آكل. (تنبيه): إذا علمت حكم الوصل والفصل بالنسبة إلى الجملتين وبالنسبة إلى المفردين، فلا يخفى عليك حالهما بالنسبة إلى جملة ومفرد، وقد جوز أكثر النحاة عطف الفعل على الاسم، وعطف الاسم على الفعل إذا كان كل منهما فى تقدير الآخر، وقال السهيلى: يحسن عطف الفعل على الاسم إذا كان اسم فاعل - ويقبح عطف الاسم على الفعل، قال: فمثل: مررت برجل يقوم وقاعد، ممتنع إلا على قبح، وجوزه الزجاج كعطف الفعل على الاسم، والأكثرون على الجواز، قال تعالى: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ وقال تعالى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (¬2) وقال الزمخشرى: إن قوله - عز وجل -: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً (¬3) معطوف على معنى الفعل فى المصدقين كأنه قال: الذين اصدقوا وأقرضوا. قال شيخنا أبو حيان: تبع الزمخشرى فى ذلك الفارسى، ولا يصح العطف على المصدقين؛ لأن المعطوف على الصلة ¬

_ (¬1) البيت من الوافر: وهو لعدى بن زيد فى ذيل ديوانه ص 183، والأشباه والنظائر 3/ 213، وجمهرة اللغة ص 993، والدرر 6/ 73، وشرح شواهد المغنى 2/ 766، والشعر والشعراء 1/ 233، ولسان العرب 13/ 425، (مين)، ومعاهد التنصيص 1/ 370، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب 1/ 357، وهمع الهوامع 2/ 192. (¬2) سورة العاديات: 3، 4. (¬3) سورة الحديد: 18.

(تذنيب).

تذنيب أصل الحال المنتقلة: أن تكون بغير واو؛ لأنها فى المعنى حكم على صاحبها كالخبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ صلة، وقد فصل بينهما بمعطوف وهو والمصدقات، ولا يصح عطفه على صلة أل فى المصدقات لاختلاف الضمائر؛ لأن ضمير المصدقات مؤنث فليخرج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه، كأنه قيل: والذين أقرضوا. (قلت): وأجاب الوالد عن هذا السؤال، بأن هذا إنما يلزم فى العطف على اللفظ، وهذا عطف على المعنى وهو أن ينتزع من اسم الفاعل فعل يقدر ملفوظا به ويعطف عليه، وهنا اسم الفاعل وهو مصدق شئ واحد، وإنما تعدد بحسب جمعى المذكر والمؤنث وعلامتا الجمع زائدتان على حقيقة اسم الفاعل المنتزع منه الفعل، فتنتزع منهما فعلا واحدا تنسبه إلى ضمير المذكرين والمؤنثين معا وإنما يقوى الإشكال إذا تعدد معنى اسم الفاعل ولفظه مثل: إن الضاربين والقاتلين، وأيضا فقد ذكر النحاة أنه قد ترد الصلة بعد موصولين وأكثر مشتركا فيها كقول الشاعر: صل الّذى والّتى منّا بآصرة … وإن نأت عن مدى مرماهما الرّحم وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ (¬1) قال الزمخشرى: إن مخرج معطوف على فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مبينة لمعنى فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، وقال الإمام فخر الدين: إن الاعتناء بشأن إخراج الحى من الميت لما كان أشد أتى بالفعل المضارع ليدل على استمرار التجدد، كما فى قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (¬2) فإنه أقوى فى إفادة الاستمرار والتجدد من إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (¬3). ص: (تذنيب). ص: (أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو إلى آخره). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 95. (¬2) سورة البقرة: 15. (¬3) سورة البقرة: 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (ش): لما كانت الحال الواقعة جملة تارة تدخلها الواو، وتارة لا تدخل، صار لها فى الصورة حالتا فصل ووصل، فناسب ذكره ذلك تبعا لباب الفصل والوصل، وجعل كالذنب لما قبله، فلذلك سمى ذكره تذنيبا وهذا الباب كله تفريع على أن هذه الواو أصلها العطف، قال شيخنا أبو حيان: ليست واو الحال عاطفة، ولا أصلها العطف، خلافا لمن زعم من المتأخرين بأنها عاطفة مستدلا بأن" أو" لا يصح دخولها عليها فى نحو قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ (¬1) فلو كانت خلاف العاطفة لم يمتنع ذلك. (قلت): أما كونها ليست عاطفة فلا شك فيه، وأما كونها ليس أصلها العطف ففيه نظر، ولعل الشيخ يريد بالذى زعم أنها عاطفة الزمخشرى فإنه ذكر فى قوله تعالى: بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ إن الواو حذفت من أَوْ هُمْ قائِلُونَ استثقالا لاجتماع حرفى عطف؛ لأن واو الحال هى واو العطف، استعيرت للتوكيد، ورد الشيخ أبو حيان عليه بأنها لو كانت واو العطف للزم أن لا تقع إلا بعد ما يصلح حالا، وليس كذلك، بل تقع حيث لا يكون ما قبلها حالا، نحو: جاء زيد والشمس طالعة، فجاء لا يمكن أن يكون حالا، وفى هذا الرد نظر؛ لأمرين: أحدهما: أن الزمخشرى لم يقل: إنها عاطفة؛ بل مراده أن أصلها العطف، واستعيرت للربط كما أن أصل الفاء العطف واستعيرت لربط الشرط بالجواب، وبرهان إرادته ذلك أنه قال فى تفسير قوله تعالى: وَأَصابَهُ الْكِبَرُ (¬2) هذه الواو واو الحال وليست واو العطف، وقوله: استثقالا لاجتماع حرفى عطف، أى: فى الصورة. وسيأتى عن عبد القاهر استثقال اجتماع واو الحال مع حرف غير عاطف وهو كأنما، فما صورته وأصله العطف أولى. الثانى: أن قوله: إنها تجئ فيما لا يمكن فيه أن يكون ما قبلها حالا مثل: جاء زيد والشمس طالعة، إن أراد أن الجملة السابقة غير حالية فصحيح؛ ولكن هى ملازمة لذلك فلا يصح قوله: إنها تجئ فيما لا يمكن فإنها لا تقع الا كذلك، وإن أراد أنه لو عكست وقلت: طلعت الشمس وجاء زيد لم يصح، فليس كذلك، وإن أراد أنها تقع حيث لا يكون قبلها حال فيقول القائل: إنها عاطفة نقول: لا؛ لأنها عاطفة على الحال ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 4. (¬2) سورة البقرة: 266.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قبلها؛ بل على الجملة العاملة فى الحال فمعنى" جاء زيد والشمس طالعة": جاء زيد ووقع طلوع الشمس معه، فإذا قلت: جاء زيد قائما والشمس طالعة، وجعلت الواو للحال كان العطف على الفعل، لا على الحال، لا يقال: كيف يعطف المعمول على عامله، لأنا نقول: إنما أردنا العطف المعنوى لا الصناعى. هذا كله لو قال الزمخشرى: إنها عاطفة، والفرض أنه لا يريد ذلك، إنما يريد أن أصلها العطف كما صرح به السكاكى فى المفتاح، وللكلام على هذه الآية الكريمة بقية تأتى حيث نتكلم على الجملة الاسمية - إن شاء الله تعالى - فإن قلت: لو كانت هذه الواو العاطفة لما عطفت الاسمية على الفعلية فى الكلام الفصيح. (قلت): إنما يمتنع فى الفصيح عطف الاسمية على الفعلية إذا كانت عاطفة حقيقة، أما إذا كان أصلها العطف فلا. وقد قدم المصنف على ما ذكره مقدمة، وهى أن الحال تنقسم إلى: منتقلة ومؤكدة، فالمؤكدة: لا تدخلها الواو أبدا، وسببه أنها فى معنى ما قبلها، والواو تؤذن بالمغايرة، والمنتقلة سواء كانت مفردا أو جملة أصلها أن تكون بغير واو؛ واستدل عليه بأمرين: أحدهما: أنها فى المعنى حكم على صاحبها كما أن الخبر حكم عليه، والمحكوم به لا يعطف على المحكوم عليه، كما لا يعطف الخبر على المبتدأ، وقد يخدش فى قولنا: إن الخبر لا تدخله الواو أن الأخفش فى طائفة جوز دخول الواو فى خبر كان وأخواتها إذا كان جملة، وقال ابن مالك: إن ذلك جائز فى خبر ليس إذا كان جملة موجبة بإلا، وكذلك فى خبر كان بعد نفى، وأنشدوا: ليس شئ إلّا وفيه إذا ما … قابلته عين البصير اعتبار (¬1) وقوله: ما كان من بشر إلّا وميتته … محتومة لكن الآجال تختلف (¬2) وقوله: فظلّوا ومنهم سابق دمعه له … وآخر يبقى دمعة العين بالمهل (¬3) ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف وهو بلا نسبة فى الدرر 2/ 67 وهمع الهوامع 1/ 116. (¬2) البيت من البسيط وهو بلا نسبة فى الدرر 2/ 68، وهمع الهوامع 1/ 116. (¬3) البيت من الطويل، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص 141، وبلا نسبة فى الدرر 2/ 66، وهمع الهوامع 1/ 116.

ووصف له كالنعت، لكن خولف هذا إذا كانت جملة، فإنها من حيث هى جملة مستقلّة بالإفادة؛ فتحتاج إلى ما يربطها بصاحبها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: دخلت على معاوية بن حرب … وكنت وقد يئست من الدّخول وقد يجاب عن ذلك كله إما بمنعه وحمل ما ورد منه على الضرورة، أو حذف الخبر. وإما بأن دخولها فى هذه المواطن حملا لها على الحالية، كما صرح به الأخفش، وإنما قال فى المعنى؛ لأن الحال ليست حكما فى اللفظ؛ لأن الحكم فى اللفظ إنما يكون بالمسند كالخبر من قولك: زيد قائم، والفعل من نحو: جاء زيد، غير أن الحال حكم فى المعنى؛ لأن قولك: جاء زيد راكبا، فيه حكم بالركوب على زيد، لكن لا بالأصالة، بل استفادة هذا الحكم؛ لكونه جعل قيدا للفعل العامل فإنك إذا قلت: جاء زيد راكبا، حكمت بالركوب تبعا، وإذا قلت: زيد راكب، حكمت بالركوب استقلالا، وتحقيق ذلك أنك: إذا قلت: جاء زيد راكبا، تضمن هذا الكلام ثلاثة أشياء: مجئ زيد، وركوبه، واقتران ركوبه بمجيئه. فالأول: مستفاد بالنص من قولك: جاء زيد، والحال قيدت ذلك المجئ بقيد، وأثبتت أن المجئ الذى أخبرت به مجئ مقيد لا مطلق؛ لأن المفهوم من قولك: ضربت زيدا، حكم بوقوع ضرب، وبأنه على زيد فكأنك قلت: المجئ المقارن للركوب حصل من زيد، والإخبار بالمقيد يدل على وقوع القيد التزاما لا يتوهم كونه تضمنا؛ لأن القيد جزء المخبر به، فإن القيد ليس جزء المخبر به، بل المخبر به شئ مقيد لا شيئان، أحدهما: مطلق، والآخر: مقيد، فليس مدلولا عليه بالتضمن ولا بالمطابقة، بل من حيث إنه يلزم من وقوع المقيد وقوع القيد فكان الحكم بالمجئ من الراكب حكما بالركوب التزاما، فليتأمل. والدليل الثانى: أشار إليه بقوله: (ووصف له كالنعت)، أى: الحال فى الحقيقة وصف لصاحبها فكما أن النعت لا يدخله الواو، كذلك الحال لا يدخلها الواو لأن قولك: جاء زيد راكبا، معناه: جاء زيد الراكب، فلو عطفت الراكب على زيد، لم يصح، فكذلك عطف الحال على صاحبها، الأصل أنه لا يجوز، قيل: إنما يأتى ذلك على رأى الجمهور، وأما الزمخشرى والمصنف - كما سيأتى - فيقولان: يجوز دخول الواو بين الصفة والموصوف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): ولا شك أنه عنده على خلاف الأصل. (فإن قلت): فما الفرق بين هذا الدليل والذى قبله وما الفرق فى المعنى بين الوصف والحال؟ (قلت): الحال والوصف مشتركان فى أن المسند فيهما مقيد، فإنك إذا قلت: جاء زيد العالم، كنت مخبرا بمجئ مقيد بكونه صادرا من عالم، كما أن جاء زيد عالما إخبار بمجئ مقيد بكونه من عالم، ويشتركان فى اقتران الصفة بالموصوف والحال تصاحبها، فإن قولك: جاء زيد العالم، معناه: العالم وقت المجئ، وهذا معنى قولهم: اسم الفاعل حقيقة فى الحال، ليس المراد منه حال النطق، بل حال تعلق النسبة فتأمله؛ فقد غلط فيه بعض الأكابر، غير أن دلالة الحال على المقارنة أقوى من دلالة الصفة، ألا ترى أن الحال لا تقع ماضية فلا تقول: جاء زيد اليوم راكبا أمس، واسم الفاعل يطلق على الماضى مجازا مشهورا أو حقيقة، على الخلاف المشهور، ووقوع الحال مقدرة مرادا بها الاستقبال مجازا، ثم يفترقان أيضا بأن الحال محكوم بها بمعنى أن المتكلم قصد الإخبار بالمجئ وبالركوب، بخلاف" جاء زيد الراكب"، فإن المتكلم إنما قصد الإخبار بالمجئ. وبعد أن كتبت هذا رأيت بخط والدى - رحمه الله - ما نصه: إذا قلت: جاء زيد راكبا، فقد أخبرت بمجيئه وبأنه كان راكبا فهما خبران يحتمل أن يصدقا أو يكذبا أو يصدق أحدهما ويكذب الآخر، والخبر عن الحال تابع للخبر عن الذات، وهو مقيد للخبر لا للمخبر عنه وبيان لصفة الخبر لا لصفة المخبر عنه، وأما الصفة فهى مقيدة للمخبر عنه لا للخبر، وذلك أن زيدا إذا قلت:" الراكب" قيدته قبل أن تخبر عنه، فإذا أخبرت عنه بالمجئ فالإخبار حصل عن ذلك المقيد فهو خبر واحد لا خبران فليس فيه إلا صدق أو كذب، فالحال تابع للخبر والحكم تابع للصفة فافهم ذلك، انتهى. وهو موافق لما قلته غير أن فيه فرقا بين الحال وصفة المسند إليه، لا بين الحال وصفة المسند فى قولك: جاء زيد الضارب الراكب، وقولك: زيد الضارب راكبا، والفرق أن صفة المسند ليس حكما بالركوب؛ بل ذكره عرفنا أن الضارب المذكور إنما أريد به المتصف بالركوب، وسبيله سبيل قولك: زيد الضارب مقتصرا عليه مريدا به الراكب من الضاربين، وأن الأداة عهدية واستفادة هذا القيد من كون المقيد يستحيل وجوده دون قيده، ويستحيل وجود الموصوف دون الصفة بخلاف الحال فإنك قصدت فيها إفادة وقوعها. (فإن قلت): يلزمكم عدم صحة تكذيب النصارى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فى قولهم: كنا نعبد المسيح ابن الله وإنهم ليقال لهم: كذبتم. (قلت): إما أن يراد كذبتم فى عبادتكم لمسيح موصوف بهذه الصفة أو يكون فهم عنهم أن قولهم: ابن الله بدل أو هو مجاز فلا يلزم أن يكون فى قول الكافرين: المعبود ابن الله، حكمان: (فإن قلت): قد قدمتم أن الخبر الموصوف يدل على وقوع الصفة بالالتزام، وقد جعلتم الحال يدل على وقوع القيد بالالتزام فاستويا، فكيف فرقتم بينهما؟ (قلت): المخبر به إذا وصف هو النسبة غير مقيدة بنسبة أخرى ولم يقصد المتكلم الإخبار بالقيد غير أنه ساقه التقييد إليه والمخبر به مع الحال ليس مطلق النسبة، بل هى متصفة بقيدها، وفرق واضح بين أن يقصد المتكلم الإخبار بشئ ويتفق أن ذلك الشئ مقيد فلا يكون ذلك القيد مخبرا به لا التزاما ولا غيره، وبين أن يقصد الإخبار به متصفا بالقيد، ففى الحال وقع الإخبار بالقيد التزاما، وفى الصفة حصل القيد التزاما، ولم يحصل الإخبار به التزاما ولا غيره. (فإن قلت): إذا كان الحال حكما يلزمه أن يكون أحد ركنى الإسناد والفرض أنها ليست كذلك. (قلت): هى حكم تبعى لا استقلالى؛ فلذلك لم لكن ركنا فى الإسناد لفظا، وإن كانت ركنا معنى، وإذا تأملت ما ذكرناه انبسط لك عذر من قال: الحال فيها نسبة تقييدية، وعذر من قال: إن فيها نسبة إسنادية، فكلاهما صحيح، فصحة الأول: باعتبار أنها قيدت نسبة العامل فى صاحبها ولم تنشئ نسبة جديدة، بل زادت قيدا فى النسبة الحاصلة. وصحة الثانى: باعتبار أنها أسندت القيد، ومن لاحظ الثانى منع أن يكون قوله تعالى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (¬1) جملة حالية لأنه يلزم أن تكون العداوة مأمورا بها، ومن لاحظ الأول قال: هذه نسبة تقييدية فلا يلزم ذلك، والقولان مذكوران فى الآية الكريمة وها أنا أذكر قاعدة تلخص ما سبق وتقيده وأرجو أن تكون على التحقيق، الأمر بشئ مقيد بشئ فيه أمران: أحدهما: أصل الفعل الذى توجه الأمر به وهو مأمور به مطابقة بلا إشكال. والثانى: القيد الذى دلت عليه الحال وهو ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون بعض أنواع الفعل المأمور به مثل: حج مفردا أو حج متمتعا أو حج قارنا، فالإفراد والتمتع والقرآن أنواع للحج فالحال مأمور بها والمأمور به ماهية مركبة ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 36.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مأمور بكل من جزأيها، وقد صرح بالحج فدل عليه مطابقة والظاهر أن صفة الإفراد مثلا مدلول عليها أيضا بالمطابقة لتصريحه بها، ويحتمل أن يقال: الدلالة عليها تضمن، وهو بعيد. القسم الثانى: أن لا يكون بعض أنواع الفعل المأمور به، ولكنه من فعل الشخص المأمور، مثل: ادخل مكة محرما، فهو أيضا أمر بثلاثة أشياء: الدخول، والإحرام، والجمع بينهما، ويشهد لذلك قول الفقهاء: لو نذر أن يعتكف صائما أو يصوم معتكفا لزمه الصوم والاعتكاف والجمع بينهما، ولا يعكر عليه قولهم: لو نذر الاعتكاف مصليا أو عكسه لم يلزمه الجمع لأن الجمع وإن نذره الشخص واقتضاه اللفظ لغة فإن الشارع ألغاه؛ لأن أحدهما ليس قربة فى الآخر، بخلاف الصوم والاعتكاف، وهل نقول: الحال فى هذا القسم مقصودة أو هى من ضرورة تحصيل المأمور به على تلك الصفة؟ فيه احتمالان، ويشهد للأول قول الفقهاء: لو نذر أن يعتكف صائما فاعتكف فى رمضان لا يجزيه. القسم الثالث: أن لا يكون من نوع الفعل ولا من فعل الشخص المأمور، مثل: اضرب الزيدين جالسين فى الدار، فالمأمور به الضرب فقط، ولكنه لا يجزئ إلا إذا كان على تلك الحال، فإذا لم يكن للمأمور قدرة على تحصيل تلك الحال لا يكون مأمورا حتى توجد، وكذلك إذا قلت: اضربهما مجردين، ولم يكن لك قدرة على تجريدهما، فإن كان لك قدرة على تجريدهما وجب، لا لكون التجريد مأمورا به لفظا؛ بل لأنه لا يتم الواجب إلا به، فقد انقسمت الحال كما ترى إلى ما هو مأمور به مطابقة أو تضمنا أو التزاما أو ليس مأمورا به بالكلية، فقوله عز وجل: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ * علمنا من خصوص المادة أن الله تعالى لا يأمر بالعداوة فإنها تستلزم وقوع الكفر من الكافر ليأمر المسلم بعداوته أو أمر الكافر بعداوة المسلم على إسلامه وهما ممتنعان، والحمل على أن المراد أن المسلمين فقط أعداء الكفار فقط فى غاية البعد، فإن هذا التركيب إنما يستعمل غالبا فيما استوت أبعاضه فيه، مثل: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ * ولا يستعمل ذكر بعضين متقابلين فى كلام على هذا الوجه، وهما مختلفان إلا بقرينة مثل: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ (¬1) فلهذا نقول: إن ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 55.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الجملة غير مأمور بمعناها، بل هى إما خبر مستأنف أو حال مقدرة، والحال المقدرة لا يجب فيها ذلك، بل معناها إذا كانت حالا من فعل مأمور به أنه مأمور بذلك الفعل صائرا عاقبته إلى تلك الحال فترجع إلى معنى الخبر، لكن بينهما فرق فإن الخبر يقتضى الإخبار بأنهم الآن وقت الخطاب على صفة العداوة والحال لا يقتضى ذلك، بل يقتضى أن مصيرهم أن يكونوا متعادين إما وقت الهبوط إن كانت مقارنة أو بعده إن كانت مقدرة، ثم العداوة لا يمكن أن تكون مأمورا بها؛ لأنها ليست من فعل الشخص ولا يمكنه تحصيلها إلا بتعاطى أسبابها على بعد، فالمراد أن الله تعالى خلق أو يخلق فيهم عداوة بعضهم لبعض، إما ذلك الوقت وهو وقت خطابهم أو وقت هبوطهم أو بعده، فعلى الأول: خبر محض، وعلى الثانى: حال مقارنة، وعلى الثالث: حال مقدرة. (فإن قلت): إذا اختلف معنى الحال ومعنى الصفة فكيف قال المصنف: إنها بمعنى الصفة، وإذا كانت الحال محكوما بها والصفة غير محكوم بها فالوجه الأول ينافى الثانى؟ (قلت): يريد أنها كالصفة فى المعنى الذى اشتركت الصفة والحال فيه، وهو أنهما حكم بأمر مقيد، وذكر فى الإيضاح وجها ثالثا وهو أن إعراب الحال ليس إعرابا تبعيا، وما ليس إعرابه تبعيا لا تدخله الواو، وهذه الواو وإن كانت تسمى واو الحال فأصلها العطف، وقد أورد على قوله: إن كل ما ليس إعرابه تبعيا لا تدخله الواو: أن الجملتين اللتين بينهما توسط الانقطاع والاتصال ليس إعرابهما تبعيا، ومع ذلك تعطف إحداهما على الأخرى، وأن التوابع غير العطف إعرابها تبعى ولا تدخلها الواو. (قلت): الجملتان إن فرض أن لا محل لهما من الإعراب فلا يقال: إعرابهما غير تبعى؛ لأنهما لا إعراب لهما وإن فرض أن لهما محلا، مثل: زيد يقوم ويقعد، فإعراب الثانية تبعى؛ لأن الأولى هى الخبر والسؤال الثانى إنما أورده على العكس لا على الطرد ثم لا يرد، فإنه إنما يريد تبعية عطف النسق. (قوله: لكن خولف) أى: خولف هذا الأصل فدخلت الواو إذا كانت الحال جملة، فإنها إذا نظر إليها من حيث كونها جملة تكون مستقلة بنفسها متجردة لإفادة معناها فاحتيج إلى الواو؛ لتربطها بصاحبها، ولقائل أن يقول: إنما يعدل عن الأصل لضرورة ولا ضرورة؛ لأنه يمكن ارتباطها بصاحبها بالضمير.

وكلّ من الضمير والواو صالح للربط، والأصل هو الضمير؛ بدليل المفردة، والخبر، والنعت. فالجملة: إن خلت عن ضمير صاحبها، وجب الواو، وكلّ جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال: يصحّ أن تقع حالا عنه بالواو، ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وكل من الضمير والواو صالح للربط)، أى: لربطها بصاحبها، ولقائل أن يقول: ليس فى الواو والضمير معا فضلا عن أحدهما ما يعين الجملة للحالية؛ فإنك إذا قلت: جاء زيد وقد ضرب عمرا احتمل أن تكون حالا وأن تكون معطوفة. (قوله: والأصل) أى: الأصل الربط بالضمير بدليل أنه موجود دون الواو فى الحال المفردة، وفى الخبر والنعت، نحو: جاء زيد قائما، جاء زيد القائم، وزيد قائم. ص: (فالجملة إن خلت إلخ). (ش): أخذ فى تقسيم حال الجملة الحالية، فقال: هى على قسمين إما خالية من ضمير صاحبها أو لا. القسم الأول: الخالية، فيجب الواو؛ لأنه تقرر أنه لا بد من رابط وأن الربط منحصر فى الضمير والواو، فإذا فقد الضمير تعينت الواو ويرد على المصنف أن الجملة الحالية قد تخلو من الواو والضمير، كقولهم: مررت بالبر قفيز بدرهم، وقد يجاب بأن الضمير لا بد منه إما منطوقا به أو محذوفا، وهو هنا محذوف التقدير: قفيز منه بدرهم، ثم قال: (وكل جملة خالية عن ضمير) يعود على شئ، وكان ذلك الشئ (يجوز أن ينتصب الحال عنه يصح أن تقع حالا عنه) إذا كانت مع الواو فقوله: بالواو، أى: بشرط الواو، فإن لم توجد الواو لم يصح أن تقع حالا، ومثال ذلك: قام زيد والشمس طالعة، أو وما يقوم عمرو أو وقد خرج عمرو أو وما خرج عمرو، هذا رأى الجمهور خلافا لابن جنى، فإنه يقدر فى ذلك ضميرا، التقدير: والشمس طالعة وقت مجيئه، ومعنى: جاء زيد والشمس طالعة، جاء موافقا طلوع الشمس، ويرد على المصنف الجمل التى لا يصح أن تقع حالا كالإنشائية والمفتتحة بدليل استقبال فإنها لا تقع حالا ويصدق عليها أنها خالية من ضمير شئ يصح أن يقع عنه حال، بل ولو اشتملت على ضميره أيضا.

إلا المصدّرة بالمضارع المثبت؛ نحو: جاء زيد خ خ، ويتكلّم عمرو خ خ؛ لما سيأتى (¬1). وإلّا (¬2) فإن كانت فعلية، والفعل مضارع مثبت: امتنع دخولها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: إلا المصدرة بالمضارع المثبت، نحو: جاء زيد ويتكلم عمرو) فإنه لا يجوز الإتيان بالواو (لما سيأتى) من أنه يجب فى مثلها الاقتصار على الضمير، ولا يجوز الإتيان بالواو، وسنتكلم فيه إن شاء الله تعالى. ويرد على المصنف المضارع المنفى بلا أو ما، نحو: جاء زيد ولا يضحك عمرو، أو وما يضحك عمرو، أو الماضى اللفظ التالى إلا نحو: ما جاء زيد إلا وضحك عمرو، أو مع أو ولا ضمير، مثل: اضرب زيدا وذهبت هند أو مكثت؛ فكل هذه الصور لا تغنى فيها الواو عن الضمير. (قوله: وإلا) أى: وإن لم تكن خالية عن ضمير صاحبها بأن كانت مشتملة عليه، فذلك على أقسام: تارة تمتنع، وتارة يجب الإتيان بالواو، وتارة يترجح الإتيان بها، وتارة يترجح تركها وتارة يستوى الأمران. ونخلص مما ذكره المصنف: أن الحال إما أن تدل على الحصول والمقارنة أو لا إن دلت عليهما وجب ترك الواو، وذلك هو المضارع المثبت، وإن لم تدل على واحد منهما جاز الأمران على السواء، وذلك المنفى، سواء أكان بلم أو لما أو كان ماضى اللفظ، وإن دل على أحدهما فإن دلت على الحصول فقد جاز الأمران على السواء، وذلك الماضى المثبت، وإن دلت على المقارنة فقط فإن كان مضارعا منفيا بلا فالأمران على السواء، وإن كان جملة اسمية، فإن كان المبتدأ ضمير ذى الحال وجبت، وإلا فإن كان خبر المبتدأ ظرفا مقدما ترجح الترك، وإلا ترجح الذكر، هذا ملخص ما ذكره المصنف عن نفسه، وعن عبد القاهر كالمرتضى له كما تشير إليه عبارة الإيضاح. وأما السكاكى فملخص ما ذكره فى المفتاح أنه إن كانت الجملة جملة اسمية فإن كان خبرها ظرفا فالأمران على السواء، وإن كان خبرها اسما فالوجه الواو، وإن كانت فعلية فإن كان مضارعا مثبتا امتنعت الواو، وإن كان ماضيا وهو لفظ ليس رجح الذكر، وإن كان مضارعا منفيا أو ماضيا مثبتا أو منفيا فالأرجح الترك. ¬

_ (¬1) من أن ربط مثلها يجب أن يكون بالواو فقط. (¬2) عطف على قوله إن خلت أى وإن لم تخل الجملة الحالية عن ضمير صاحبها.

نحو: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (¬1)؛ لأنّ الأصل المفردة، وهى تدل على حصول صفة غير ثابتة مقارنة لما جعلت قيدا له، وهو كذلك؛ أما الحصول: فلكونه فعلا مثبتا، وأما المقارنة: فلكونه مضارعا. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما النحاة فلهم تفصيل يوافق بعض ما سبق دون بعض، وهم مختلفون فى كثير من الصور، كما ستراه. القسم الأول: أن يمتنع الإتيان بالواو، وها أنا أذكر كلام المصنف ثم أذكر ما يرد عليه. قال: وهى إذا كانت فعلية بمضارع مثبت امتنعت الواو نحو قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬2)، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (¬3) وعلله المصنف: بأن أصل المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة، مقارن ذلك الحصول لما جعلت قيدا له وهو العامل فيها، أما دلالتها على الحصول فلأنها إثبات والإثبات حصول بخلاف النفى، وأما دلالتها على أنها غير ثابتة، فلكونها هيئة للفعل الذى هو عامل فيها، وهيئة الشئ كالصفة له، وإذا كان ناصب الحال فعلا أو فى معناه، والفعل يدل على التجدد لزم أن تكون صفة ذلك الفعل دالة على التجدد لاستحالة تجدد الموصوف دون الصفة، وما فى معنى الفعل مما ينصب الحال كالفعل فى الدلالة على التجدد، وأيضا فهى منتقلة والانتقال تجدد، وأما أنها تدل على المقارنة فواضح ونعنى به: الحال الحقيقية، أما المقدرة فلا تلزم فيها المقارنة، مثل: رأيت زيدا فى يده صقر صائدا به غدا إلا أن يقال: لا بد من المقارنة إلا أنها فى المقدرة حاصلة مجازا، وإذا ثبت هذا فى الحال المفردة فالفعل المضارع المثبت كذلك؛ لأن المضارع المثبت يدل على حصول صفة غير ثابتة، لأن الفعل يدل على التجدد، بل هنا أقرب؛ لأن دلالة الحال هنا على التجدد بنفسها، ودلالة الحال المفردة باعتبار اتصالها بالفعل العامل الدال على التجدد، ويدل أيضا على المقارنة؛ لكونه مضارعا وهو يصلح للحال، فإذا ثبت أن المضارع المثبت كالحال المفردة - وجب خلوه من الواو، كما وجب خلو الحال - المفردة من الواو، قال فى الإيضاح: ولذلك أى: ولكون الواو لا تدخل على المضارع المثبت إذا كان حالا امتنع، نحو: جاء زيد ويتكلم عمرو، يعنى: لأن الواو لا يصح دخولها فى مثله. ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 6. (¬2) سورة الأنعام: 110. (¬3) سورة الليل: 16 - 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): أما قوله لأن الواو لا يصح دخولها فى مثله ففيه نظر؛ لأن الموجب لامتناعه خلوه من الضمير مع عدم صلاحية الواو للربط فى مثله، فعدم صلاحية الواو للربط فى مثله جزء علة الامتناع لا علة كاملة، وقد ذكره هو على الصواب قبل ذلك بأسطر، وجوابه أن الواقع فى هذا المثال عدم الضمير فاستغنى عن ذكره، وأما قوله: إن الواو لا تدخل على المضارع المثبت إذا كان للحال فهو كذلك عندهم؛ وأما قوله: إن العلة فى امتناع الواو أنه شابه الحال المفردة فى التجدد والمقارنة فقد يقال عليه: إن التجدد والمقارنة إذا كانا لازمين للحال المفردة؛ لكونها حالا فهما لازمان لكل جملة هى حال؛ لأن الحال المفردة لا يلزمها ذلك؛ لكونها مفردة، بل إفرادها من حيث الوضع يقتضى خلاف ذلك؛ لأن المفرد اسم والاسم يدل على الثبوت وإنما لزمها ذلك لكونها حالا، وهذا وصف لا يفارق الجملة الحالية أبدا، أما المقارنة فلأن كل حال يستحيل أن لا تكون مقارنة، ففى قولك: جاء زيد وضرب عمرا، إن لم تقدر قد كان معناه جاء ضاربا فهى للمقارنة، وإن قدرت قد، أو قلت: جاء وقد ضرب عمرا، فإن جعلت معناه أنه وقع ضرب عمرو فى زمن سابق على زمن المجئ فالتحقيق أن معنى الكلام: جاء موصوفا بأنه قد ضرب عمرا وهذه الصفة ثبتت له حال مجيئه وإن انقضى الضرب وإذا كنا نقدر فى: جاء والشمس طالعة، جاء موافقا طلوع الشمس، فلنقدر هنا موصوفا، لأنه أقرب إلى اللفظ من قولنا: موافقا طلوع الشمس، ثم يمكن أن تجعل هذه الحال على هذا تحقيقية باعتبار وقوع الفعل فى زمن سابق، ويمكن أن تجعل تقديرية، كقولك: صائدا به غدا، بجامع ما بينهما من وقوع الحدث فى غير وقت حدث العامل. وأما الجملة الاسمية فالمقارنة فيها قد اعترفوا بها، والحصول إذا كان موجودا فى الحال المفردة كيف لا يكون موجودا فى الجملة الاسمية، وكون المضارع للحال إن أريد لوقوعه حالا فكل حال كذلك، وإن أريد لكونه مضارعا فقط، فذلك إن سلم بالوضع لا لكونه ألحق بالحال المفردة، كما سأبينه فى موضعه - إن شاء الله تعالى - ثم كون المضارع للحال فقط محل منع، فإن قلت: إنه للحال إذا وقع حالا، قلنا: فالماضى أيضا للحال إذا وقع حالا، فمعنى: جاء زيد وقد ضرب عمرا، جاء موصوفا بأنه ضرب عمرا، فإن قلت: هلا جاز: جاء زيد سيضرب، أى: موصوفا بأنه سيضرب

وأما ما جاء من نحو: قمت وأصكّ وجهه خ خ، وقوله [من المتقارب]: فلمّا خشيت أظافيرهم … نجوت وأرهنهم مالكا ـــــــــــــــــــــــــــــ كما جاز جاء، موصوفا بكونه ضرب، قلنا: لأن الموصوف بالماضى وصف بأمر قد ثبت واستقر فهو قوى؛ ولذلك ذهب قوم إلى أن إطلاق اسم الفاعل باعتبار الماضى حقيقة وباعتبار المستقبل ضعيف؛ ولذلك اتفقوا على أنه مجاز، وأورد عليه الشارح الخطيبى: الجملة الاسمية مثل: جاء زيد والشمس طالعة، فإنها إذا وقعت حالا خرجت عن الثبوت وصارت للتجدد، والذى قاله صحيح إلا أنه قاصر، والصواب أن يورد عليه كل حال وتمثيله بقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (¬1) برفع الراء صحيح وما ذكره هو الظاهر، وجوز الزمخشرى فيه. أن يكون أصله أن، فحذفت، فيظل عملها كما روى قوله: ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى (¬2) ورد عليه بأن ذلك لا يجوز إلا ضرورة، وقد يمنع فقد قيل: به فى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ (¬3) وقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬4) وفى قولهم: تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه ثم شرع المصنف فى تأويل ما لعله يتوهم أنه من ذلك، فقال: وأما ما جاء من نحو: قمت وأصك وجهه، ويروى عينه، وقول الشاعر وهو عبد الله بن همام السلولى: فلمّا خشيت أظافيرهم … نجوت وأرهنهم مالكا (¬5) ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 6. (¬2) شطر بيت لطرفة بن العبد وتمامه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى. والبيت فى المقاصد النحوية 4/ 402، والمقتضب 2/ 85، وشرح شذور الذهب 98. (¬3) سورة الروم: 24. (¬4) سورة الزمر: 64. (¬5) البيت من المتقارب، وهو لعبد الله بن همام السلولى فى إصلاح المنطق ص 231، وص 249، وخزانة الأدب 9/ 36، والدرر 4/ 15، والشعر والشعراء 2/ 655، ولسان العرب 13/ 188، (رهن)، ومعاهد التنصيص 1/ 285، والمقاصد النحوية 3/ 190، ولهمام بن مرة فى تاج العروس (رهن)، وبلا نسبة فى الجنى الدانى ص 164، ورصف المبانى ص 420، وشرح الأشمونى 1/ 256، وشرح ابن عقيل ص 340، والمقرب 1/ 155، وهمع الهوامع 1/ 246.

فقيل: على حذف المبتدأ، أى: وأنا أصكّ، وأنا أرهنهم. وقيل: الأوّل شاذّ والثانى ضرورة. وقال عبد القاهر: هى فيهما للعطف، والأصل: وصككت خ خ، ورهنت خ خ؛ عدل عن لفظ الماضى إلى المضارع؛ حكاية للحال. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن هذه الرواية خلاف المشهور، والذى أنشده الجوهرى: وأرهنتهم مالكا، ونقل عن ثعلب أنه قال: الرواة كلهم على أرهنهم، على أنه يجوز رهنته وأرهنته إلا الأصمعى فإنه رواه: وأرهنهم واستحسنه ثعلب ذاهبا إلى أنه لا يقال: أرهنته، وإنما يقال: رهنته، وأنشده ابن سيده أيضا وأرهنهم فعلى الأول، قيل: على حذف المبتدأ التقدير: وأنا أصك وأنا أرهنهم فتكون الجملة اسمية. وقيل: الأول: وهو أصك شاذ، والثانى: وهو أرهنهم ضرورة؛ لأن الضرورة تكون فى النظم لا فى النثر، وقال عبد القاهر الجرجانى: ليست الجملة فى واحد منهما حالا؛ بل الواو للعطف أصله: قمت وصككت ونجوت ورهنت، وعدل إلى صيغة المضارع لحكاية الحال، وهذا جواب عن كونه وقع عطف المضارع على الماضى، وجعل ذلك كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبنى … فمضيت ثمت قلت لا يعنينى (¬1) فإنه أتى فيه بالفعل الماضى بصيغة المضارع لقصد حكاية الحال الماضية إلا أن المضارع هنا معطوف عليه وهناك معطوف ويدل لذلك استعمال الفاء التى لا ترتبط بها الحال مكان الواو فى مثله، كقول عبد الله بن عتيك:" فأهويت نحو الصوت ¬

_ (¬1) البيت لعميرة بن جابر الحنفى فى الدرر 1/ 87، وشرح التصريح 2/ 11، وهو منسوب لشمر بن عمرو الحنفى فى الأصمعيات ص 126، ولعميرة بن جابر فى حماسة البحترى ص 171، وخزانة الأدب 1/ 357، 358، 3/ 201، 4/ 207، 208، 5/ 23، 503، 7/ 197، 9/ 119، 383، والخصائص 2/ 338، 3/ 330، وشرح شواهد الإيضاح ص 221، ولسان العرب 12/ 81 (ثم)، 15/ 296، (منى)، ودلائل الإعجاز ص 206، والإشارات والتنبيهات ص 40، والمفتاح ص 991، وشرح المرشدى 1/ 62، والتبيان 1/ 161 و" ثمت" حرف عطف لحقها" تاء" التأنيث، وقوله:" أمر" مضارع بمعنى الماضى لاستحضار الصورة، ورواية الكامل" فأجوز ثم أقول لا يعنينى"، والشاهد فى لام" اللئيم"؛ لأن المراد منه واحد غير معين.

وإن كان منفيّا: فالأمران؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فأضربه (¬1) " وقد منع الخطيبى الشارح شذوذ قمت وأصك عينه مستدلا بقوله تعالى: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (¬2) وهو فاسد؛ لأن قَدْ تَعْلَمُونَ المراد به المضى وعبر بالمضارع لاستصحاب الحال كما ذكره المفسرون وأيضا فالمضارع هنا مقرون بقد وقد نصوا على وجوب الواو حينئذ؛ لأن المضارع حينئذ ليس حالا محلّ اسم الفاعل؛ لأن قد تنافى ذلك، واستدل غيره على جواز ذلك بقوله تعالى: قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ (¬3) وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (¬4) وقول الشاعر: علّقتها عرضا وأقتل قومها … زعما وربّ البيت ليس بمزعم (¬5) وأجيب عن الجميع بتقدير مبتدأ محذوف أو أريد بالمضارع الماضى كما سبق. ص: (وإن كان منفيا). (ش): القسم الثانى: ما يجوز فيه إثبات الواو وتركها على السواء من غير ترجيح، وهى الجملة الحالية المصدرة بمضارع منفى؛ لأن المانع من دخول الواو كما سبق مجموع كون الفعل المضارع دالا على الحصول والمقارنة، فأحد هذين الأمرين وهو المقارنة؛ لكونه مضارعا للحال المفردة موجودة فى المضارع المنفى، والأمر الآخر وهو الحصول ليس بموجود لكونه منفيا والنفى إعدام فلا حصول فلما زال جزء العلة وهو الحصول زال الامتناع فصار الإتيان بالواو جائزا لعدم علة المنع وتركها جائزا اكتفاء بربط الضمير. ¬

_ (¬1) هذا من كلام عبد الله بن عتيك - رضى الله عنه - فى حديث قتله عبد الله بن أبى الحقيق اليهودى، أخرجه البخارى فى" المغازى"، باب: قتل أبى رافع عبد الله بن أبى الحقيق ... (7/ 396، 395)، (ح 4039)، وفيه يقول عبد الله:" فقلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا ... " الحديث. (¬2) سورة الصف: 5. (¬3) سورة البقرة: 91. (¬4) سورة الحج: 25. (¬5) البيت من الكامل، وهو لعنترة فى ديوانه ص 191، وجمهرة اللغة ص 816، وخزانة الأدب 6/ 131، وشرح التصريح 1/ 392، ولسان العرب 12/ 267 (زعم)، والمقاصد النحوية 3/ 188، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 2/ 356 وشرح الأشمونى 1/ 256، ومجالس ثعلب 1/ 241.

كقراءة ابن ذكوان: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ (¬1) بالتخفيف، ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): إذا تأملت ما تقدم من الأمثلة اتجه لك المنع هنا ثم لو سلمنا ما تقدم تنزلا فنقول: قولك: إن الفعل المنفى ليس فيه دلالة على الحصول؛ لكونه منفيا مسلم ولكن المضارع المنفى ليس فيه حكم بانتفاء الحدث عن الحال، فإذا قلت: زيد لا يقوم فقد حكمت بانتفاء قيامه فى الحال فإذا قلت: جاء زيد لا يضرب عمرا فمعناه جاء زيد غير ضارب لعمرو وهو قد قرر أن الحال المفردة على الإطلاق تدل على الحصول والمقارنة، فقولك: جاء زيد غير ضارب، إن لم يكن دالا على الحصول فسدت قاعدته ووجب تخصيص قوله: إن الحال المفردة دالة على الحصول، وإن كان" جاء زيد غير ضارب" دالا على الحصول فليكن جاء زيد لا يضرب عمرا كذلك، ثم إن الحصول إذا لم يكن فى الفعل المنفى يلزم منه أن لا يكون الحصول فى الحال المفردة إذا كان عاملها منفيا، نحو: ما جاء زيد ضاربا؛ لأن صفة غير الحاصل غير حاصلة والتحقيق ما ذكرناه، ووجهه أن معناه: يرجع إلى الكف عن الفعل كما تقول: المطلوب بالنهى فعل وهو الكف، فقولك: جاء زيد غير قائم، معناه: كافا عن القيام، وكذلك: جاء زيد لا يقوم، ولو مشينا على إطلاقه لامتنع: جاء زيد فاقدا لكذا أو عادما له، ولا يمنع ذلك أحد. وقولهم: العدم لا يتجدد، عنه أجوبة: الأول: أن يجعل الحال مصروفا إلى الكف، كما سبق. الثانى: أنه قد يقال: إن العدم فى كل وقت غير العدم فى الذى قبله. الثالث: أن عدم الموجود يتجدد قطعا، كقولك: صار زيد لا يتكلم بعد أن كان متكلما، فقد أخبرت هنا بتجدد العدم حقيقة، والذى ذكره جمهور النحاة أن المضارع المنفى بلا هو كالمضارع المثبت، فلا تدخله الواو وإنما المصنف تبع المفصل، وقد استشهد المصنف لثبوت الواو بقوله تعالى: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ بالتخفيف فإنها قراءة ابن ذكوان، وهى إحدى قراءتيه. وقيل: هو خبر فى معنى النهى، ولذلك استدل غيره بقوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (¬2) وقد تأولوا ذلك كله على ما تأولوا عليه الأبيات من تقدير مبتدأ فلا دلالة فيه حينئذ، وأنشد المصنف فى الإيضاح: ¬

_ (¬1) سورة يونس: 89. (¬2) سورة البقرة: 119.

ونحو: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ (¬1)؛ لدلالته على المقارنة؛ لكونه مضارعا، دون الحصول؛ لكونه منفيّا. وكذا إن كان ماضيا لفظا أو معنى؛ كقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ (¬2) وقوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (¬3)، ـــــــــــــــــــــــــــــ بغانى مصعب وبنو أبيه … فأين أحيد عنهم لا أحيد أقادوا من دمى وتوعّدونى … وكنت وما ينهنهنى الوعيد (¬4) ومحل الشاهد البيت الثانى لا الأول، فإن" لا أحيد" ليس جملة حالية، وكذلك أنشد: أكسبته الورق والبيض أبا … ولقد كان ولا يدعى لأب (¬5) وأنشده ابن الزملكانى وغيره: أكسبته الزرق، والبيض أبا. أراد: الرماح، والسيوف، ويحتمل أن يكون حذف المبتدأ، واستدل المصنف على تركها بقوله تعالى: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وهو غنى عن الاستدلال؛ لكثرته، وللإجماع عليه، وألحق السكاكى المضارع المنفى بما بالمنفى بلا وهو أولى لدلالتها على الحال. (سؤال) كيف يجتمع قول سيبويه إن الفعل المضارع إذا نفى بلا يختص به المستقبل وقوله: إن المضارع المنفى بلا يقع حالا، وقوله وقول غيره: إن الجملة المفتتحة بدليل استقبال لا تقع حالا. ص: (وكذا إن كان ماضيا إلى آخره). (ش): يعنى إذا كان الماضى لفظا أو معنى جاز الأمران من غير ترجيح فإثبات الواو كقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ. وتركها كقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وهما مثالان للماضى لفظا ومعنى: أما حصرت فواضح، وأما بلغنى فلأنها حال من اسم يكون، وهو مستقبل المعنى فهو ماض بالنسبة ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 84. (¬2) سورة آل عمران: 40. (¬3) سورة النساء: 90. (¬4) البيتان من الوافر، وهما لمالك بن رقية فى شرح التصريح 1/ 392، والمقاصد النحوية 3/ 192، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى 1/ 257. (¬5) البيت من الرمل، وهو لمسكين الدارمى فى ديوانه ص 22، وسمط اللآلى ص 352، وشرح التصريح 1/ 392، والمقاصد النحوية 3/ 193، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى 1/ 257.

وقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ (¬1)، وقوله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ (¬2)، وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ (¬3): أما المثبت: فلدلالته على الحصول؛ لكونه فعلا مثبتا، دون المقارنة؛ لكونه ماضيا؛ ولهذا شرط أن يكون مع (قد) ظاهرة أو مقدّرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى وقت كون الولد على أحد الاحتمالين الآتيين، والأول معه قد دون الثانى، ثم استشهد للماضى معنى لا لفظا بالمضارع المجزوم بلم كقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ فقد ثبتت الواو، وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فقد استعمل بغير واو وفيه نظر؛ لاحتمال أن تكون الجملة خبرية وقطعت لقصد الاستئناف أو بدلا والمجزوم بلما كقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وقد تضمن كلامه أن المضارع المنفى بلا أو لم أو لما، والماضى كل منهما يجوز فيه دخول الواو وتركها على السواء، فأما المنفى بلا فقد تقدم، وأما الماضى فقد أطلقه المصنف، ولكنه لا يريد الإطلاق بل يريد الماضى المثبت كما سيأتى فى تعليله، وقد ادعى المصنف أنه يجوز فيه ترك الواو وذكرها، وعلل ذلك بأنه دال على الحصول دون المقارنة، فهو كالمضارع المنفى فى أنه اشتمل على أحد الأمرين الموجودين فى المضارع المثبت، وهو الحصول دون المقارنة، كما أن المضارع المنفى اشتمل على أحد الأمرين، وهو المقارنة دون الحصول فقد تساوى الماضى والمضارع المنفى فى أن كلا منهما وجد فيه جزء المقتضى لامتناع الواو، فلم يترتب حكم امتناع الواو، أما دلالة الماضى على الحصول فلأنه فعل مثبت، وأما عدم دلالته على المقارنة فلأنه ماض. (قلت): قد تقدم ما يرد عليه والفعل الماضى الواقع حالا دال على مقارنته أو مقارنة الوصف به لزمن عامله، فإذا قلت: جاء زيد أمس وقد ضرب عمرا كان معناه أن الضرب أو الوصف مقترن بزمن المجئ، وكذلك سيجئ زيد وقد ضرب عمرا (قوله: ولهذا شرط أن يكون مع قد ظاهرة أو مقدرة) قال فى الإيضاح: حتى تقربه إلى الحال فيصح وقوعه حالا. ¬

_ (¬1) سورة مريم: 20. (¬2) سورة آل عمران: 174. (¬3) سورة البقرة: 214.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): ليت شعرى كيف يكون تقريب الفعل من الحال يصحح وقوعه حالا والفرض أن المصنف لا يجعل مضمون الفعل الماضى واقعا مع الحال؟ فإذا لم يكن واقعا فماذا يجدى قربه؟ وكأنه لاحظ أنه لما قرب من وقت العامل فى الحال صار كأنه واقع وهذا لا يجدى شيئا؛ لأن العقل قاض بأن الحال لا بد من مقارنتها فالصواب ما قدمناه من أن قولنا: جاء زيد وقد ضرب عمرا، أن معناه اقتران الضرب بالمجئ أو اقتران الوصف السابق بالضرب، ثم يلزم أن تكون هذه حالا مقدرة وليس كذلك، وما ذكرناه من احتمال جاء زيد وقد ضرب لأن يكون الضرب موجودا مع المجئ أو سابقا عليه، والمقارن هو الوصف قريب من احتمالين ذكرهما الوالد - رحمه الله - فى قولك: كان زيد قد قام، هل معناه كان أمس قد قام أمس، أو كان أمس قد قام قبله، واختار الأول، والله أعلم. وما ذكره المصنف من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة هو أحد قولين. ونقل شيخنا أبو حيان عن الجمهور، وعن الكوفيين، والأخفش أن قد لا تقدر بل قد يخلو اللفظ منها لفظا وتقديرا كقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (¬1) وقوله تعالى: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا (¬2) وقال: إنه الصحيح ثم يستثنى مما ذكره قولهم: لأضربن زيدا ذهب أو مكث فلا تدخل عليه الواو ولا قد، ويستثنى من قوله: إن قد تدخل ما إذا كان الماضى أداة نفى وهو" ليس" فلا تدخل عليه قد، ولا يستوى فيه الأمران بل يترجح ذكر الواو، وهى كما سبق واردة على قوله: إن الفعل دال على الحصول لأنها لا تدل على حدث إلا أن يقال: هى دالة على حصول خبرها، هذا حكم المثبت الماضى لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا، وأما الماضى لفظا لا معنى فقد دخل فى كلامه، ولا تكاد تجد له مثالا، والظاهر أنه فاسد؛ لأنه إذا كان ماضيا لفظا فقط كان للاستقبال فلا يصح؛ لأن الحال لا يصح أن يراد بها الاستقبال إلا فى المقدرة أو للحال فى الإنشاء، والإنشاء لا يقع حالا، وإن سلمنا صحة ذلك امتنعت الواو فيه كقولهم: لأضربنه ذهب أو مكث. فإنهم قالوا: معناه ذاهبا أو ماكثا، فكأنهم أرادوا وهو ذاهب أو ماكث. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 90. (¬2) سورة يوسف: 65.

وأما المنفىّ: فلدلالته على المقارنة دون الحصول: أما الأول: فلأنّ (لمّا): للاستغراق، وغيرها (¬1): لانتفاء متقدّم مع أن الأصل استمراره، فيحصل به (¬2) الدلالة عليها (¬3) عند الإطلاق؛ بخلاف المثبت: فإنّ وضع الفعل على إفادة التجدد، وتحقيقه: أنّ استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب، بخلاف استمرار الوجود. وأما الثانى (¬4): فلكونه منفيّا. ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنا لا نسلم أنهم أرادوا ذلك، بل أرادوا موصوفا بذهاب سابق أو بمكث سابق، ولا يصح حمله على الماضى فى الجملة الشرطية نحو: جاء زيد إن أكرمته أكرمنى؛ لأنا إن جوزناه وجبت الواو، وأيضا فالذى يجعل حالا فى المعنى هو الارتباط لا مضمون الماضى لفظا. (قوله وأما المنفى) دخل فيه الماضى لفظا ومعنى وهو منفى، مثل: جاء زيد ما ضرب عمرا، ودخل فيه الماضى معنى فقط، وهو الذى مثل له بنحو وَلَمْ يَمْسَسْنِي * ويرد عليه أيضا الماضى لفظا فقط وحاصل ما ذكره أن ما قرره من كون المنفى ليس فيه حصول، والماضى ليس فيه حال يقتضى وجوب الواو فى الماضى المنفى لانتفاء المعنيين؛ لأنه لم يشابه الحال المفردة فى واحد من معنييها بخلاف المثبت فإنه يشابهها فى الحصول فاستحق عدم الواو، ولم يشابهها فى الدلالة على المقارنة فاستحق الواو بخلاف المضارع المنفى فإنه شابهها فى المقارنة، ولم يشابهها فى الدلالة على الحصول؛ فجاز الأمران فيه أما الماضى المنفى فقد بعد كل البعد عن الحال المفردة، فينبغى أن تجب الواو لكنه لم يجب فيه ذلك، بل كان مثله، أما المنفى بلما فلأنها لاستغراق الأزمنة؛ لأنها تدل على اتصال نفيها بالحال، وأما المنفى بغيرها كقولك: جاء زيد ولم يضرب عمرا، وقولك: وما ضرب عمرا؛ فلأنه وإن دل على الانتفاء فى زمن متقدم فالأصل استمرار ذلك الانتفاء فصار كالدال على الانتفاء المتصل مثل" لما" فحصلت فى كل من الثلاثة الدلالة على المقارنة فصار كالمضارع المنفى. قال: (وأما الثانى) أى: وأما أنه لا يدل على الحصول (فلكونه منفيا) كما تقدم تقريره فى المضارع المنفى. ¬

_ (¬1) أى: غير (لما) مثل (لم وما). (¬2) أى: بالنفى المستمر. (¬3) أى: على المقارنة. (¬4) أى: عدم دلالته على الحصول.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت) ما ذكره فى الماضى معنى نحو: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ (¬1) هو الصحيح خلافا لابن خروف فإنه أوجب الواو على حذف المبتدأ والمنفى بلما كذلك كما قاله يجوز بالواو وغيرها، ومجيئه بالواو هو الكثير، وأما بغير واو فقال ابن مالك فى باب الحال: إنه لم نجد له مثالا. وقد أنشد هو فى أول شرحه للتسهيل: فقالت له العينان سمعا وطاعة … وحدّرتا كالدّرّ لما يثقب (¬2) وأما كون" لما" تدل على الاستمرار فإنما كان لأن النكرة فى سياق النفى للعموم، وذلك موجود فى جميع أدوات النفى، غير أن" لما" تدل على اتصال النفى بالحال فنفيها بالنسبة إلى الحال أظهر من نفيها بالنسبة إلى ما قبله بخلاف" لم" فإن دلالتها على جميع الأزمنة على السواء، فقولهم: إن" لم" تدل على نفى الفعل فى زمن ما، والأصل عدم استمراره ليس بجيد، بل تدل على النفى فى جميع الأزمنة، ثم لو سلمناه فقولهم: إن" لما" يشترط اتصال نفيها لا يقتضى الاستغراق، بل يقتضى تقييد مطلق النفى بما قبل الحال وذلك لا يقتضى الاستغراق، والحق أن أدوات الشرط كلها موضوعة للاستغراق غير أن" لما" دلالتها على نفى ما اتصل بالحال أقوى من دلالتها على غيره، وقد قال ابن الحاجب فى مقدمته للنحو: إن" لم يقم" لا يدل على الاستمرار بخلاف" لما" وما ذكره ممنوع ومخالف لما ذكره هو فى أصول الفقه، فإن قلت نحو قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (¬3) لم يعم الأزمنة. قلت: عام مراد به الخصوص، ثم بعد تسليم ذلك مقصوده غير حاصل فإن الماضى المنفى يدل على اتصال النفى بالحال، ولا تلزم المقارنة فإن الاتصال يستدعى استمرار ذلك إلى وقت العامل، وأما المقارنة فتستدعى أن يكون معه وليس فى الفعل ما يدل عليه إلا بضميمة أن الأصل الاستمرار فحينئذ استوت" لما" و" لم". (قوله: والتحقيق) أى: تحقيق الفرق بين الماضى المثبت، والماضى المنفى - أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب؛ لأن استمرار العدم عدم، والعدم لا يفتقر إلى سبب ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 174. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (قول)، وتاج العروس (قول). (¬3) سورة العلق: 5.

وإن كانت اسمية: فالمشهور جواز تركها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا حصل فالأصل استمراره بخلاف استمرار الوجود، فإنه يفتقر إلى سبب لأن أصله وهو الوجود يحتاج إلى سبب، وأورد عليه أنه إن أراد أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب أصلا فذلك باطل؛ لأن عدم الممكن يفتقر إلى انتفاء علة الوجود؛ إذ لو تحققت لتحقق الوجود فاستمرار العدم يفتقر إلى استمرار انتفاء علة الوجود. (قلت): عدم المانع لا يكون مقتضيا، فعلة الوجود مانع من العدم فكيف يقال: انتفاء علة الوجود سبب للعدم؟! قال: وإن أراد أنه لا يفتقر إلى سبب جديد غير سبب العدم فذلك باطل فيما يكون عدمه على سبيل التجدد. (قلت): هذا صحيح وقد تقدم ويمكن أن يجاب عنه بأن عدم الشئ بعد وجوده لا يتوقف على سبب بل الوجود يزول بزوال المقتضى له، وهو الإيجاد، فيحصل العدم لا لحصول سببه، بل لزوال مقتضى الوجود. قال: وأما الثانى: وهو عدم دلالته على الحصول فلكونه منفيا كما تقدم فى المضارع المنفى. ص: (وإن كانت اسمية إلى آخره). (ش): إذا كانت الحال جملة اسمية، قال: فالمشهور جواز تركها، يشير إلى أنه يجوز الأمران وهو المشهور وهما فصيحان، وذهب الفراء إلى أن ترك الواو نادر وتبعه ابن الحاجب، والزمخشرى، وقال: إن تركها خبيث. وقال الشيخ أبو حيان: إنه رجع عنه، ومستند الشيخ فى ذلك أنه جوز فى قوله تعالى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ (¬1) أن تكون جملة حالية وأيضا قال فى سورة الأعراف: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (¬2) فى موضع الحال أى متعادين إلا أن هذه الآية قد لا تنقض قاعدته؛ لأنها كقولهم كلمته فوه إلى فىّ. وقد قال ابن الحاجب: معناه مشافها، والوجه أنه لما كثر استعمالها حتى علم منه معنى المشافهة من غير نظر إلى التفصيل، حتى يفهم ذلك من لا يحضر بباله مفرداتها صارت كالمفرد. قال الطيبى: قلت: وهو يؤدى إلى أنه إن صح أن تنتزع من طرفى الجملة هيئة تدل على مفرد جاز، وإلا فلا مثل: جاءنى زيد هو فارس، ثم نقول: كل جملة حالية لا بد أن ينحل منها مفرد، لكنه قد يقرب وقد يبعد. وأما قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ (¬3) فسيأتى - إن شاء الله تعالى، وذهب الأخفش إلى أنه إن كان خبر ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 60. (¬2) سورة البقرة: 36. (¬3) سورة الأعراف: 4.

لعكس ما مرّ فى الماضى المثبت؛ نحو: كلّمته فوه إلى فىّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ المبتدأ اسما مشتقا وقد تقدم وجب تركها كقولك: جاء زيد حسن وجهه، فلا يجوز، وحسن وجهه، وإن تأخر اكتفى بالضمير نحو: جاء زيد وجهه حسن، وتجوز الواو، وقد تمتنع الواو فى الاسمية إذا عطفت على حال نحو: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (¬1). (قلت): قال الزمخشرى هنا: إن ترك الواو خبيث، وإنما حسن هنا حتى لا يجتمع حرفا عطف يعنى أن واو الحال أصلها العطف كما سبق تقريره، وإنما تركت هنا حتى لا يجتمع حرفا عطف، وما ذكره إنما أحوجه إليه إنكاره ترك الواو، وليس بصحيح. قال بعضهم: وفى العلة التى قالها نظر؛ فإنه لا يقبح الجمع بين حرفى عطف مختلفى المعنى، ولا يقبح أن تقول: سبح الله وأنت راكع أو وأنت ساجد، ثم علل المصنف جواز دخول الواو وتركها بقوله: (لعكس ما مر فى الماضى المثبت) يعنى أنها عكس كعكس الماضى المنفى فإن الجملة الاسمية تدل على المقارنة لأنها ليست ماضية، ولا تدل على الحصول لأن الدال على الحصول أى التجدد إنما هو الفعل المثبت، وهذه منفية، وليست فعلا وهذا يلجئ إلى أن المقارنه المستفادة من المضارع إذا كان حالا من كونه لا لكونه مضارعا وهو خلاف ما مر، ثم هو منتقض بالاسمية إذا كان خبرها فعلا نحو: جاء زيد وأبوه يقوم، فإنها دالة على الحصول والمقارنة فيلزم أن تمتنع الواو، والمصنف قد مثل بجملة اسمية خبرها فعل وهى قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (¬2) ويرد عليه أيضا نحو: بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (¬3) فإنه يجب فيه ترك الواو مع العلة المذكورة، وسيأتى وينتقض بنحو: جاء زيد وهو ما ضرب عمرا؛ فإنه لا يدل على حصول ولا مقارنة على ما زعم المصنف. (تنبيه): لك فى نحو قوله تعالى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ (¬4) أن تجعل الواو فى" ولكم" عاطفة، ويكونان حالا واحدة، وأن تجعلها واو الحال ويكونان حالين مستقلين، كقولك: جاء زيد راكبا لابسا. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 4. (¬2) سورة البقرة: 42. (¬3) سورة الأعراف: 4. (¬4) سورة البقرة: 36.

وأنّ دخولها أولى؛ لعدم دلالتها على عدم الثبوت، مع ظهور الاستئناف فيها، فحسن زيادة رابط؛ نحو: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (¬1). وقال عبد القاهر: إن كان المبتدأ ضمير ذى الحال، وجبت، نحو: جاءنى زيد، وهو يسرع أو وهو مسرع خ خ، وإن جعل نحو: على كتفه سيف حالا كثر فيها تركها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وأن دخولها أولى) أى: والمشهور أن دخولها أولى من تركها (قوله: لعدم دلالتها على عدم الثبوت) تعليل لجواز الواو، أى لكونها ليست فعلا؛ لأن الدال على عدم الثبوت هو الفعل، وقوله: مع ظهور الاستئناف فيها تعليل لكون دخولها أولى، فإنه لما قرر أنها دالة على المقارنة دون الحصول، وقدم أن الفعل المضارع المنفى كذلك لزمه أن يكون الأمران على السواء، كما هما فى الفعل المضارع، ففرق بينهما بأن هذه الجملة الاسمية الاستئناف فيها ظاهر لاستقلالها بالفائدة، وعلل هذا بأن الجملة الأولى فعلية أو فى حكمها، وهذه اسمية فلا تناسبها؛ فلذلك كان ذكر الواو فيها أولى؛ لأنها لما استقلت حسن زيادة ربطها بالواو والضمير معا. (قلت): قد يعارض هذا بأن نوع دلالة المضارع على المقارنة باللفظ إذا قلنا بما فرع عليه من كونه موضوعا للحال فهو يدل على المقارنة تضمنا بخلاف دلالة الجملة الاسمية على الحال، ومثال ذكرها قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومثال تركها قوله: كلمته فوه إلى فىّ، ومنه قول بلال - رضى الله عنه: ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة … بمكة حولى إذخر وجليل (¬2) كذا أنشده الجوهرى ولكن فى البخارى بواد وحولى، ثم ذكر عن الجرجانى تفصيلا فقال: وقال عبد القاهر: إن كان المبتدأ ضمير ذى الحال أى: صاحب الحال وجبت الواو، سواء أكان الخبر اسما أو فعلا نحو: جاء زيد وهو يسرع أو وهو مسرع؛ لأن الفائدة كانت حاصلة بقوله: يسرع من غير ذكر الضمير فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافى ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 22. (¬2) البيت من الطويل، وهو لبلال مؤذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فى لسان العرب، (فخخ)، (جلل)، (شيم)، (حنن)، وجمهرة اللغة ص 102، وتاج العروس (فخخ)، (جلل)، (شيم)، وبلا نسبة فى لسان العرب (جنن)، وكتاب العين 6/ 18، ومقاييس اللغة 1/ 419، ومجمل اللغة 1/ 395، وديوان الأدب 1/ 274، وتاج العروس (حنن).

نحو [من الطويل]: خرجت مع البازى علىّ سواد ـــــــــــــــــــــــــــــ للاتصال فلا يصلح الضمير حينئذ أن يستقل بإفادة الربط فتجب الواو، ثم نقل عنه أيضا تفصيلا آخر وهو أنك إذا قلت: جاء زيد على كتفه سيف، على أن يكون: على كتفه سيف حالا، كثر فيه ترك الواو. يعنى إذا كان الخبر ظرفا مقدما، كقول بشار: خرجت مع البازى على سواد (¬1) … إذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها يعنى إذا أنكرنى أهل بلدة، خرجت مع الصبح على بقية من الليل، والبازى الصبح كذا قالوه، وقد يقال: كيف يجتمع أن يكون خرج مع الصبح عليه بقية من الليل؟ والليل ينقضى بطلوع الصبح، إلا عند من يقول: الليل إلى الشمس، وكذا قوله: فى رأس غمدان دارا منك محلالا (¬2) … واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا وغمدان: قصر باليمن على وزن غفران، هو مبنى على أربعة أوجه: أحمر، وأخضر، وأبيض، وأصفر. وداخله قصر على سبعة سقوف، بين كل سقفين أربعون ذراعا، ويرى ظله، إذا طلعت عليه الشمس من ثلاثة أميال. والمحلال: بمعنى المنزل صيغة مبالغة. واعلم أن الزمخشرى وعبد القاهر لما رأيا حذف الواو كثيرا، فى نحو: جاء زيد على كتفه سيف، أخرجاه عن كونه جملة اسمية حالية. أما الزمخشرى؛ فلأنه يرى وجوب الواو فى مثله، وأن تركه قبيح. وأما الجرجانى؛ فلأنه يرى أنهما سيان، أو الذكر أكثر. فلو كانت اسمية، لاستوى فى نحوه ترك الواو واستعمالها؛ فلذلك جعلا التقدير: مستقرا على كتفه سيف. وسيف: فاعلا به، وعمل لاعتماده على ما قبله. واختار أن يكون الظرف هنا فى تقدير اسم الفاعل، وإن كان فى غيره، يقدره بالفعل كما أفهمه من قوله فى الإيضاح ¬

_ (¬1) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 136، والبيت من قصيدة قالها خالد بن جبلة الباهلى، مطلعها: أخالد لم أخبط إليك بنعمة … سوى أننى عاف وأنت جواد ديوانه 3/ 49، والدلائل ص 157، والتبيان ص 120. (¬2) البيت من البسيط، وهو لأمية بن أبى الصلت الثقفى، وقيل: بل هو للنابغة الجعدى وهذا خطأ، انظر الأغانى (17/ 301، 302)، ويروى:" مرتفقا" بدلا من" مرتفعا".

ويحسن الترك: تارة لدخول حرف على المبتدأ؛ كقوله [من الطويل]: فقلت: عسى أن تبصرينى كأنما … بنىّ حوالىّ الأسود الحوارد ـــــــــــــــــــــــــــــ هنا خاصة. وإنما اختار تقديره هنا باسم الفاعل؛ لأن فيه رجوع الحال إلى أصلها من الإفراد؛ فلذلك كثر مجيئها بغير واو. (قلت): وإذا علمت ذلك، علمت أن ما أوهمه كلام المصنف من أن الجرجانى يفصل فى الجملة الاسمية غير صحيح؛ لأن هذا القسم عنده ليس بجملة، فليس قسمان من الجملة الاسمية. وجوز الجرجانى أن يكون فى تقدير فعل ماض مع قد أى: استقر على كتفه سيف لأنه جاء بالواو قليلا، كذا قال المصنف (قلت): الفعل الماضى بقد لا يقل فيه وجود الواو فكيف يجعل قلة مجئ الواو ملحقة بالفعل الماضى المثبت فكأن المصنف قصد التعليل بورودها بالواو وغفل عن قيد القلة، ثم يرد عليه أيضا أن هذا ليس تقسيما للجملة الاسمية بل يجعلها فعلية لا اسمية ومنع عبد القاهر تقديرها بفعل مضارع لأنه لا يستعمل الواو فى المضارع المثبت أن لو صرح به فالمقدر كذلك. (قلت): ونحن إذا قلنا: زيد فى الدار، إنما نقدره ماضيا لا مضارعا: ما لم يدل على المضارع دليل من ضرب مستقبل، أو غيره. فلا حاجة إلى تعليل منع هذا. وقد ذهب كثيرون إلى أن الجملة فى نحو ما نحن فيه اسمية حالية. ص: (ويحسن الترك تارة إلى آخره). (ش): هذا من جملة المنقول عن عبد القاهر، يريد أن الجملة الاسمية وإن حسن فيها إتيان الواو، فقد يحسن تركها لعارض يعرض. فمن ذلك: أن يدخل حرف غير الواو على المبتدأ، كقوله: فقلت: عسى أن تبصرينى كأنما … بنى حوالىّ الأسود الحوارد (¬1) فدخول" كأنما" على" بنى" وهو مبتدأ، أوجب لها استحسان ترك الواو؛ لكيلا يتوارد على الجملة حرفان. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه 1/ 346، وفيه:" اللوابد" مكان" الحوارد"، ومجمل اللغة 2/ 56، وأساس البلاغة (حرد)، والحيوان 3/ 97، ومعاهد التنصيص 1/ 304، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص 501، ومقاييس اللغة 2/ 52، ورواية صدره: لعلك يوما أن ترينى كأنما ...

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد جعل منه قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (¬1) ولعله ترك الاستشهاد به، لأنها قد لا تكون حالية بل مستأنفة، وبنى هو المبتدأ أصله: بنوى، مثل: أو مخرجى هم، والأسود الخبر، وحوالى: ظرف مكان فى موضع نصب على الحال، والعامل فيها ما دل عليه معنى كأن كما فى قوله: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى (¬2) وجوز فيه أن يكون صفة لأسود، ويقدر العامل فيه اسم فاعل، أى الأسود المستقرين حوالى، أو حالا من الأسود، أى: الأسود مستقرين فى جوانبى، أو حالا فقط إن قدرت العامل فعلا أى: الأسود يستقرون حوالى. والحوارد: من حرد أى غضب حردا وحردا بتسكين الراء وتحريكها فهو حارد وحردان، ولعله جمع لجماعة حاردة، كما تقدم فى عواذل، كذا قيل، ولا حاجة إلى التأويل، فإنه جمع جائز مثل: صواهل ونجوم طوالع، كما سبق. وقد وردت الواو فى المصدرة بكأن، كقولهم: جاء وكأنه أسد. قال بعضهم: هذا بناء على أن كأن مركبة من كاف التشبيه وأن؛ لأنه حينئذ كالجار والمجرور، وقد عرف أن الترك فيه أكثر، وإن لم يقل به فلعل السبب ما تقدم من اجتماع حرفين. واعلم أن إطلاقه أن الجملة الاسمية يحسن فيها ترك الواو، يدخل فيها غير كأن من الحروف مثل: أن، كقوله: ما أعطيانى، ولا سألتهما … إلّا وأنّى لحاجزى كرمى (¬3) فقد استعملت بالواو وبغير واو، كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ (¬4) ولا التبرئة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 101. (¬2) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص 38، وفى الإشارات ص 182، وفى دلائل الإعجاز ص 95. (¬3) البيت من المنسرح، وهو لكثير عزة فى ديوانه ص 273، وتخليص الشواهد ص 244، والكتاب 3/ 145، والمقاصد النحوية 2/ 308، وبلا نسبة فى الدرر 4/ 13، وشرح الأشمونى 1/ 138، وشرح ابن عقيل ص 180، وشرح عمدة الحافظ ص 277، والمقتضب 2/ 346، وهمع الهوامع 1/ 246. (¬4) سورة الفرقان: 20. (¬5) سورة الرعد: 41.

وأخرى (¬1) لوقوع الجملة الاسمية بعقب مفرد؛ كقوله (¬2) [من السريع]: والله يبقيك لنا سالما … برداك تبجيل وتعظيم ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وأخرى لوقوع الجملة إلى آخره). (ش): يستحسن ترك الواو إذا وقعت عقب مفرد، يريد عقب حال مفردة، فيلطف موقعها بخلاف ما إذا أفردت، وذلك كقول ابن الرومى: فالله يبقيك لنا سالما … برداك تبجيل وتعظيم (¬3) وقد جوز فى برداك أن يكون حالا متداخلة لا مترادفة، فلا يأتى ما ذكره عبد القاهر. وقوله: وقعت عقب مفرد، يدخل فيه ما لو عطفت على حال مفرد، نحو فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (¬4) فإنها عقب مفرد ولا اعتداد بالعاطف، وليس ترك الواو حينئذ حسنا. وقد قال الشيخ أبو حيان: إن الواو فيه واجبة إلا أن يقال: الواو فاصلة فليس عقبه. وفيه نظر فإن المعتبر إنما هو اعتمادها على المفرد، فتستغنى به عن الواو؛ لعدم الاستقلال. وهذا المعنى موجود وإن فصل العاطف بينهما. (تنبيه): قال المصنف فى الإيضاح: هذا كله إذا لم يكن صاحب الحال نكرة مقدمة عليها، بأن يكون معرفة، أو نكرة وأخر فإن كان نكرة مقدمة نحو: جاءنى رجل وعلى كتفه سيف، وجبت الواو، لئلا يشتبه الحال بالنعت. (قلت): هذا لا يصح بناء على رأى الزمخشرى الذى تبعه المصنف فيه من أن الصفة تعطف على الموصوف، وقد تقدم الكلام عليه، وأنه غير صحيح. (تنبيه): بقى من الأقسام: الجملة الشرطية نحو: جاء زيد، وإن يسأل يعط. والواو فيها لازمة خلافا لابن جنى؛ وهى ماشية على قاعدة المصنف، فإنه ليس فيها حصول ولا مقارنة؛ فلذلك لزمت الواو؛ لبعدها عن المفردة بزوال كل من خاصيتها. وقد جزم الشيخ أبو حيان فى الارتشاف: بأن الجملة الشرطية تقع حالا. وقال الزمخشرى فى قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ (¬5) الجملة الشرطية حال. وقال المرزوقى: قد يكون فى الحال معنى الشرط كما يكون فى الشرط معنى الحال، نحو: لأقتلنه كائنا من كان انتهى. ¬

_ (¬1) أى ويحسن الترك تارة أخرى. (¬2) البيت لابن الرومى. (¬3) البيت لابن الرومى على بن العباس بن جريح الشاعر العباسى. (¬4) سورة الأعراف: 4. (¬5) سورة الأعراف: 176.

الإيجاز والإطناب والمساواة

الإيجاز والإطناب والمساواة السكاكى: أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين (¬1) لا يتيسّر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق والتعيين، وبالبناء على أمر عرفى، وهو متعارف الأوساط، أى كلامهم فى مجرى عرفهم فى تأدية المعنى، وهو لا يحمد فى باب البلاغة ولا يذم فالإيجاز: أداء المقصود بأقلّ من عبارة المتعارف، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحسن منه فى التمثيل: لأضربنه ذهب أو مكث. وينبغى تقييد الجملة الشرطية الواقعة حالا بما إذا كان جوابها خبرا، فإنها تكون حينئذ خبرية. أما إذا كان جوابها إنشاء فإن الجملة الشرطية تكون إنشائية، والإنشاء لا يقع حالا. وأما إطلاق السكاكى فى الحالة المقتضية لكون المسند إليه جملة، أن الجملة الشرطية ليست إلا خبرية فممنوع، بل هى بحسب جوابها إن كان إنشاء فهى إنشائية، أو خبرا فهى خبرية، والله أعلم. ص: (الإيجاز والإطناب والمساواة). (السكاكى: أما الإيجاز إلى آخره). (ش): هذا هو الباب الثامن. والإيجاز والإطناب باب عظيم، حتى نقل صاحب سر الفصاحة أن منهم من قال: البلاغة هى الإيجاز والإطناب، كما قيل مثل ذلك فى الفصل والوصل. اعلم أن إخراج الكلام على مقتضى الحال، يكون تارة بالإيجاز والإطناب، وتارة بالمساواة على خلاف فى المساواة، فلا بد من بيان حقائقها. أما فى اللغة فالإيجاز التقصير. تقول: أوجزت الكلام، أى: قصرته. وكلام موجز من أوجز زيد الكلام متعديا، وموجز من أوجز الكلام قاصرا، ووجيز من وجز ووجز ووجز منطقه، بالضم وجازة ووجز وجزا ووجوزا. والإطناب: المبالغة. أطنب فى الكلام، أى: بالغ فيه. والمساواة: واضحة. وأما فى الاصطلاح، فقال السكاكى: (أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين) أى إضافيين (لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق، والبناء على أمر عرفى، وهو متعارف الأوساط) يريد: أوساط الناس، ومتعارفهم: ما يتعارفونه (فى مجرى عرفهم فى تأدية المعانى وهو) أى: ذلك العرفى الذى هو متعارف أوساط الناس (لا يحمد ولا يذم. فالإيجاز: أداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف) وفى هذه العبارة نظر؛ ¬

_ (¬1) أى من الأمور النسبية التى يتوقف تعقلها فى القياس على تعقل شئ آخر.

والإطناب: أداؤه بأكثر منها خ خ. ثم قال: الاختصار - لكونه نسبيّا: يرجع فيه تارة إلى ما سبق، وأخرى إلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر خ خ؛ وفيه نظر؛ لأن كون الشئ نسبيّا لا يقتضى تعسّر تحقيق معناه. ثم البناء على المتعارف والبسط الموصوف: ردّ إلى الجهالة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن المتعارف هو الكلام، فكأنه قال: عبارة الكلام. ولا يصح أن يكون من قولهم: مسجد الجامع؛ لأن المتعارف مذكر لا يصح أن يوصف به العبارة المؤنثة. (والإطناب أداؤه بأكثر منها) قال ابن رشيق: والإيجاز عند الرمانى التعبير عن المعنى بأقل ما يمكن من الحروف. مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وهو الذى يسميه غيره المساواة. ثم نقل المصنف عن السكاكى، أنه قال: (الاختصار لكونه نسبيا يرجع تارة إلى ما سبق) أى إلى اعتباره بكلام الأوساط (وتارة إلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر) ثم اعترض عليه بأن كون الشئ نسبيا لا يقتضى تعسر تحقيق معناه، وبأن البناء على المتعارف، والبسط الموصوف رد إلى جهالة أى: البناء على المتعارف رد إلى تعريف بشئ مجهول والبسط الموصوف فى الاختصار، رد إلى جهالة، فحذف المصنف خبر أحدهما؛ لدلالة الآخر، أو أخبر بالرد عنهما؛ لأنه مصدر، أو عطف البسط على المتعارف، وأراد بالبناء الأعم منهما. وقد أجيب عن السكاكى فى السؤال الأول بأن السكاكى أراد أن النسبى يتعسر حده، لأن الحد غير حقيقى بالنسبة إلى الأمور الإضافية، فإن حقيقتها تتوقف على حقيقة أخرى خارجة عنها. وأجيب عنه أيضا، بأن صاحب المفتاح لم يجعل كل شئ نسبى لا يتيسر حده لأنه مع كونه نسبيا منسوب إلى ما تحقق له، ولا انضباط وهو كلام جمهور الناس، وما جرى به عرفهم. وقد اعترف المصنف بذلك فى الاعتراض الذى سيأتى. قال بعضهم: وتقريره شرط معرفة الإيجاز. والإطناب: كلام لا إيجاز فيه ولا إطناب ولا شئ من كلام كذلك بموجود ينتج من الأول شرط معرفة الإيجاز، والإطناب ليس بموجود. وإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. (قلت): فيه نظر؛ لأن الصغرى ممنوعة ولا يلزم من قولنا: شرط معرفة الإيجاز والإطناب: معرفة كلام الأوساط، أن نقول: شرط معرفته معرفة ما لا إيجاز فيه، ولا إطناب، فيكون دورا؛ لأن النسبيين وإن توقف معرفة أحدهما على معرفة الآخر فذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ من حيث كونه إضافيا، لا من حيث ذاته. كما أن الأقل إضافى للأكثر يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر. وقد تعلم حقيقة الشئ الذى هو أكثر من حيث جنسه وفصله، وإن لم تعلم أكثريته. ثم إن الكبرى ممنوعة لأن كلام الأوساط قد يخلو من الإيجاز والإطناب. وأجيب عن الثانى: بأن كلام الأوساط معروف؛ لأنه الذى يؤدى به أصل المراد بالمطابقة من غير اعتبار مقتضى الحال، بل يكون صحيح الإعراب. وأجيب عن الثالث: بأن السكاكى يشير بما ذكره فى الاختصار إلى تفاوت مراتب الإيجاز فى المواد الجزئية؛ لكونه أبسط، أو لا. فإنه قد يكون أبسط باعتبار أصل جزئى، وغير أبسط باعتبار أصل آخر، فلا يلزم من كونه أبسط باعتبار أصل دونه، أن لا يكون إيجازا باعتبار متعارف الأوساط. فالإيجاز: يطلق على ما هو أقل من عبارة الأوساط مطلقا، ويطلق على ما هو أخص منه وهو الأول، وعبارة الأوساط بالنسبة إلى كلام دون كلام، فإنه قد يوصف الكلام بالإطناب والإيجاز، معا باعتبار أصلين كما يأتى فى كلام المصنف، كقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (¬1) فيه إيجاز بالنسبة إلى يا رب، إنى وهنت عظام بدنى، وإطناب بالنسبة إلى رب إنى ضعفت. وجعلوا منه: نعم الرجل زيد، فإن فيه إطنابا بالنسبة إلى نعم زيد، وإيجازا بالنسبة إلى نعم الرجل هو زيد. (قلت): ومن هذا المثال يعلم أن الإيجاز قد يكون بأصل وضع اللغة، وبالحذف الواجب؛ فإن نعم الرجل هو زيد، لا يجوز إذا جعلنا هو مبتدأ؛ لأنه حينئذ واجب الحذف؛ فعلم أن الإيجاز أعم من الجائز والواجب. بقى على السكاكى والمصنف اعتراض، وهو أن كلام أهل العرف إذا كان رتبة وسطى بين الإيجاز والإطناب، فإما أن يكون هو المساواة، أو لا. فإن كان هو المساواة، فهى محمودة إذا طابقت مقتضى الحال، ومذمومة إذا لم تطابقه؛ لأن كل ما خرج عن البلاغة التحق بأصوات البهائم كما سبق، فكيف يقول المصنف: إن كلام الأوساط لا يحمد ولا يذم؟ والعجب أن الخطيبى جعل قوله: إن ما خرج عن ذلك التحق بأصوات البهائم مصححا لكلامه، لا مفسدا. ¬

_ (¬1) سورة مريم: 4.

(تنبيهان)

والأقرب أن يقال: المقبول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله بلفظ مساو له أو ناقص عنه، واف أو زائد عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيهان): الأول: اعلم أن كلام الأوساط ليس مدفوعا عن إيجاز ولا إطناب، فإن ما فى الإيجاز من الحذف وغيره، يكثر فى كلام الأوساط، ولعل المراد: غالب كلامهم الذى لا يطابق غالبا مقتضى الحال. الثانى: الإيجاز المصطلح عليه هنا هو الاختصار، وإن كان الإيجاز لغة هو تقليل اللفظ مطلقا. ولا فرق عند السكاكى بين الإيجاز والاختصار، كما صرح به الخطيبى فى شرح المفتاح، وهو صريح لفظ المفتاح. وأما قول بعضهم: إن مراده أن الاختصار فى حذف الجمل فقط بخلاف الإيجاز، فليس بشئ. ص: (والأقرب إلى آخره). (ش): يريد الأقرب إلى الصواب، ويقال: هذا أقرب إلى الصواب، يريد أنه يحتمل الصواب والخطأ، واحتمال الصواب فيه أظهر. وتقول: هذا أقرب إلى الصواب، تريد أنه صواب جزما. قال تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (¬1). وقال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ (¬2). إن لم يكن من باب التنزل. ويريد المصنف أنه أقرب من كلام السكاكى، وفيه بعد؛ لأنه حينئذ يكون مقربا لما تضمن اعتراضه الثانى فساده لأن أفعل التفضيل للمشاركة أو يريد أنه أقرب من غيره مطلقا، يشير إلى أنه أقرب من قول ابن الأثير الذى سيأتى، وهو أن يقال: المقبول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله، أى: معناه بلفظ مساو للمراد، أى: نطبق على المراد. بمعنى أنه دال عليه بالمطابقة أى: ليس فيه حذف عن أصله، ولا زيادة بتكرير، أو تتميم، أو اعتراض، أو غيرها، أو ناقص عنه إما واف بأداء المراد وهو الإيجاز، أو لا وهو الإخلال، أو زائد. ما لفائدة وهو الإطناب، أو لا لفائدة وهو الحشو والتطويل. (قلت): فيه نظر، فإنه يقتضى أن المساواة مقبولة مطلقا، وإن كان المقام يقتضى ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 8. (¬2) سورة آل عمران: 167.

لفائدة: واحترز ب واف عن الإخلال؛ كقوله [من مجزوء الكامل]: والعيش خير فى ظلال … النّوك ممّن عاش كدّا أى: الناعم، وفى ظلال العقل. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإطناب أو الإيجاز، والذى يظهر لى من كلامه، وهو الصواب أن قوله: (لفائدة) يتعلق بالثلاثة من جهة المعنى، وإن كانت عبارته تقتضى أن: (لفائدة) يتعلق بزائد، فليس كذلك، بل يقال: المساواة: تأدية أصل المعنى بلفظ مساو له لفائدة. والإيجاز: تأديته بلفظ ناقص واف لفائدة. والإطناب: تأديته بلفظ زائد لفائدة. فخرجت المساواة حيث المقام يقتضى إيجازا، أو إطنابا، وهى التى جعلها السكاكى معيارا للإيجاز والإطناب. وقد خرج الحشو والتطويل عن الإطناب، وخرج الإخلال عن الإيجاز. والإطناب أخص من الإسهاب، فإن الإسهاب: التطويل لفائدة، أو لا لفائدة كما ذكره التنوخى وغيره. واعلم أن ما ذكره المصنف، وما ذكره السكاكى، متفقان على ثبوت الواسطة بين الإيجاز والإطناب. إلا أن المصنف يجعل المساواة تنقسم إلى: مقبول وغيره، والسكاكى يجعل المساواة أبدا غير مقبولة، بل بها يعتبر الإيجاز والإطناب المقبولان على ما يظهر من عبارته. فإن أراد ذلك فكلام المصنف أقرب إلى الصحة (¬1)، وإن أراد أن المساواة هى المعتبرة، فإن اقتضاها المقام، فلا عدول عنها، وتكون حينئذ محمودة، وإلا فلا. وعلى ما ذكره ابن الأثير لا واسطة بينهما قطع فإن الإيجاز عنده التعبير عن المراد بلفظ غير زائد عنه، فإنه يدخل فى غير الزائد المساوى. قال المصنف: (واحترز بواف عن الإخلال) وهو أن يقصر اللفظ عن أداء المعنى على وجه يطابق مقتضى الحال وإن كان لغويا، كقول الحارث بن حلزة: والعيش خير فى ظلا … ل النّوك ممن عاش كدا (¬2) فإن مراده العيش الناعم فى ظلال الجهل، خير من العيش الشاق فى ظلال العقل. وفيه نظر؛ لأن المحذوف من هذا الكلام، دلت عليه القرينة التى عرفتنا أن المراد الناعم، ¬

_ (¬1) قوله: وإن أراد إلخ هكذا فى الأصل الذى بيدنا وانظر الجواب. كتبه مصححه. (¬2) البيت من مجزوء الكامل، وهو للحارث بن حلزة فى ديوانه ص 47، وجمهرة اللغة ص 1000، والأغانى (11/ 44)، وبهجة المجالس (1/ 187)، والشعر والشعراء (ص 204)، وشعراء النصرانية ص 417، وكتاب الصناعتين (ص 36، 188).

وب فائدة عن التطويل؛ نحو [من الوافر]: وألفى قولها كذبا ومينا (¬1) وعن الحشو المفسد ك الندى فى قوله [من الطويل]: وصبر الفتى لولا لقاء شعوب … ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن المراد فى ظلال العقل. فإن لم تكن قرينة، فالحذف يفسد الكلام لغة، ولا كلام فيه، إنما الكلام فى كلام عربى وإذا كانت قرينة تسوغ الحذف فلا إخلال. قال: (وبفائدة) أى احترز بقوله: لفائدة (عن التطويل) أى عن الزائد لا لفائدة، وهو شيئان: أحدهما: تطويل، وذلك بأن لا يتعين الزائد فى الكلام، كقول عدى بن زيد العبادى: فقددت الأديم لراهشيه … وألفى قولها كذبا ومينا (¬2) فإن الزائد هو كذبا، أو مينا، ولا يتعين أحدهما للزيادة، ولا يترجح. والراهشان: عرقان فى باطن الذراع، وقيل: الرواهش عروق ظاهر الكف، وقيل: عروق ظاهر الكف وباطنها، وقيل: الراهش: عصب فى باطن الذراع. يذكر الزباء وغدرها لجذيمة، ولها قصة طويلة. (قلت:) وفيه نظر؛ لأن ذكر الشئ مرتين فيه فائدة التأكيد، وقد قال النحاة: إن الشئ يعطف على نفسه تأكيدا، وعدم تعين الزائد لا يدفعها. والفائدة التأكيدية معتبرة فى الإطناب كما ستراه فى غير ما موضع. ثم قولهم: إن الزائد لم يتعين ولم يترجح كما صرح به بعضهم، فيه نظر: فإن الأول مترجح أو متعين؛ لأنه السابق لتكملة الكلام، ولأن الثانى مؤكد، والمؤكد متأخر عن المؤكد أبدا. قيل: إن الرواية: كذبا مبينا، وهو الأوفق لبقية القصيدة؛ لأن أبياتها كلها مكسور فيها ما قبل الياء. لكنه بخلاف ما رواه الجمهور، والظاهر: أنه وهم. والثانى يسمى الحشو، وهو ما تعين أنه زائد. وهو ضربان: أحدهما يفسد المعنى، كقول أبى الطيب: ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى … وصبر الفتى لولا لقاء شعوب (¬3) ¬

_ (¬1) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 143 لعدى بن الأبرش. وصدره: وقددت الأديم لراهشيه. قددت: قطعت. الراهشان عرقان فى باطن الذراعين. والضمير فى (راهشيه) وفى (ألفى) لجذيمة بن الأبرش وفى (قددت) وفى (قولها) للزباء. (¬2) البيت من الوافر، وهو لعدى بن زيد فى ذيل ديوانه ص 183، والأشباه والنظائر 3/ 213، وجمهرة اللغة ص 393، والدرر 6/ 73، وشرح شواهد المغنى 2/ 776، والشعر والشعراء 1/ 233، ولسان العرب، (مين)، ومعاهد التنصيص 1/ 310، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب 1/ 357، وهمع الهوامع 2/ 192. (¬3) البيت من الطويل، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (2/ 73 - دار الكتب العلمية) وأورده محمد ابن على الجرجانى فى الإشارات (ص 143).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ شعوب المنية لا تنصرف يقول: لا خير فى الدنيا للشجاعة والصبر، لولا الموت، وهو صحيح؛ لأنه إنما تفضل الشجاعة والصبر، لما فيهما من الإقدام على الموت والمكروه للنفس، ولو كان الإنسان يعلم أنه مخلد، لما كان له فى الشجاعة فضل. وأما الندى: فبالعكس، لأن الموت سبب يسهل الندى، ولا يجعل له فضلا؛ لأن من علم أنه يموت جدير بأن يجود بماله، كما قال طرفة: فإن كنت لا تسطيع (¬1) دفع منيّتى … فذرنى أبادرها بما ملكت يدى (¬2) وقول مهيار: فكل إن أكلت، وأطعم أخاك … فلا الزّاد يبقى ولا الآكل وأجيب عنه: بأنه أراد بالندى بذل النفس، كقول مسلم بن الوليد: يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها … والجود بالنفس أقصى غاية الجود (¬3) وهذا الجواب نقله الخفاجى فى سر الفصاحة عن الشريف المرتضى. ورد بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل فى بذل النفس، وإن استعمل فمضافا، أما مطلقا فلا يفيد إلا بذل المال ورد أيضا بأنه يلزم التكرار، فإن بذل النفس هو الشجاعة. قال ابن جنى: معنى البيت: أن فى الخلود وتنقل الأحوال من عسر إلى يسر ما يسكن النفوس، ويسهل البوس، فعلى هذا يكون عدم الموت يقتضى الجود، كما قال المتنبى. وقيل: معناه: لولا تباين الناس فى التوطين على الموت لما فضل الكريم البخيل بقلة رغبته فى المال الذى هو متاع الدنيا. ونقل هذا أيضا عن الواحدى. ثم أقول: فى جعل هذا القسم من أصله من قسم الحشو نظر؛ لأن لفظ الندى أفاد معنى زائدا أراده المتكلم قطعا، وكونه لم يكن ينبغى له أن يزيد هذا المعنى أمر آخر يلحق نقصا بالكلام؛ فلا يكون زائدا؛ لأن الحشو تأدية المعنى بلفظ زائد عن المراد، وهذا إنما يكون، لو كان لفظ الندى أفاده لفظ الشجاعة. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد فى معلقته، انظر شرح المعلقات السبع (ص 48)، وشرح المعلقات العشر (ص 74) ورواية العجز فيهما (فدعنى) بدلا من (فذرنى). (¬2) فى الأصل: تستطيع، والصواب ما أثبتناه. (¬3) البيت من البسيط، وهو لمسلم بن الوليد فى الأغانى (19/ 40) وروايته فيه: (إذ ضن) بدلا من: (إن ضن).

وغير المفسد؛ كقوله [من الطويل]: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: أن يكون حشوا غير مفسد، وهو ما كان فيه زائد متعين، ولكن ذكره لا يفسد المعنى، كقول زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله … ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى (¬1) فإن قوله: (قبله) لا فائدة فيه. (قلت): وفيه نظر من أوجه: الأول: أنه يجوز أن يقال فى قبله: إن له فائدة، كأنه يقول: أعلم ما كان قبل هذا اليوم أى: لا يشغلنى اليوم عن علم منى سابق، فإن قبلية الشئ وصف يؤذن بالاشتغال بالحاضر عنه. الثانى: أنه يجوز أن يكون الضمير فى قبله، يعود إلى العلم، أى أعلم ما كان أمس، قبل علمى بما كان اليوم، مبالغة فى قوته الحافظة، وأنه يستحضر الماضى، قبل استحضاره الحاضر. الثالث: أن قبله تأكيد معنوى، والوصف التأكيدى جائز، وليس حشوا، بل هو كقولهم: أمس الدابر، ومثله فى الإيضاح بقوله: ذكرت أخى فعاودنى … صداع الرّأس والوصب (¬2) فإن الرأس حشو؛ لأن الصداع لا يستعمل إلا فى الرأس، وقد قيد ابن مالك فى المصباح هذا الحشو بما ليس فيه بديع، فإن كان فيه بديع حسن، كقول المتنبى: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه … يا جنتى، لرأيت فيه جهنما (¬3) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 29، وشرح المعلقات السبع ص 69، وشرح المعلقات العشر ص 86، ولسان العرب، وتهذيب اللغة 3/ 245، وروايته: وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... (¬2) البيت من مجزوء الوافر، وهو لأبى العيال الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص 424، وتهذيب اللغة 2/ 204، ولسان العرب (ردع)، وتاج العروس (ردع)، ويروى عجزه: رادع السقم والوصب. (¬3) البيت من الكامل، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه 1/ 75، وروايته فيه: (يا جنتى لظننت) بدلا من (يا جنتى ورضت فذلت صعبة أى إذلال) -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): مما يكثر حشو الكلام به لفظ أصبح وأمسى، وعدا وأخواتها، ولفظ إلا، وقد، واليوم. قال حازم: الواجب اعتبار حالها، فإن كان الأمر الذى ذكر أنه أصبح فيه لم يكن أمسى فيه فليست حشوا، وإلا فهو حشو، كقولك: أصبح العسل حلوا. والرمانى أجاب عن قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (¬1) بأن العادة أن من به علة تزاد عليه بالليل، فيرجو الفرج عند الصباح، فاستعمل: أصبح لأن الخسران حصل لهم فى الوقت الذى يرجون فيه الفرج، فليست حشوا. وقد أشار لما قلناه الخفاجى وحازم وغيرهما. (تنبيه): قال الخفاجى فى سر الفصاحة: أصل الحشو ما يقصد به فى الشعر إصلاح الوزن، أو تناسب القوافى وحرف الروى. وفى النثر: قصد السجع، وتأليف الفصول من غير معنى يفيده. ثم نقل عن أبى هاشم أنه زل فألحق الحشو الجيد بالردئ فقال فى البغداديات فى مسألة ذكرها فى إيجاز القرآن: إن الشاعر إذا احتاج إلى الوزن، ذكر ما لا يحتاج إليه فى النثر. ألا ترى إلى قول امرئ القيس: ورضت فذلت صعبة أى إذلال فلو كان فى النثر لأسقط صعبة، أو أسقط أى إذلال. ثم أفسد الخفاجى كلام أبى هاشم وأبان فائدة ذكرهما، وأنهما من الحشو المحمود، ثم قال: وأبو هاشم وإن كان العالم المقدم فى صناعة الكلام، فليس معرفته بالجواهر والأعراض، وكلامه فى القدر والألطاف، مما يفيده العلم بصناعة نقد الكلام المؤلف، وفهم النظم والنثر كما أن فى أهل هذا العلم من يجهل أول ما يجب على العاقل، فضلا عما يجاوزه، ونعوذ بالله من تعاطى ما لا نحسنه. قال: ومن العجب أن الرمانى نقض على أبى هاشم مسائله هذه بكتاب معروف، قصره على بعضها، واعتمد فيه المناقشة لأبى هاشم فى لفظة لفظة فلما وصل هذا الموضع، لم يتعرض له بنفى ولا إثبات، بل ظهر منه أنه موافق مسلم قال: وما يعلم السبب فى خفاء مثله على الرمانى مع مكانه المشهور من الأدب، ثم جعل الحشو أقساما: ¬

_ - هذا عجز بيت من الطويل وصدره: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا. وهو لامرئ القيس فى ديوانه (125 / دار الكتب العلمية)، وخزانة الأدب 9/ 187، وشرح شواهد المغنى 1/ 341، واللسان (روض)، والمقتضب 1/ 174، وبلا نسبة فى المحتسب 2/ 260. (¬1) سورة المائدة: 53.

(المساواة

(المساواة) المساواة: نحو قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ حسنا يفيد معنى حسنا، مثل: إنّ الثّمانين وبلّغتها … قد أحوجت سمعى إلى ترجمان (¬2) وما يؤثر نقصا فى المعنى ويفسد، كقول المتنبى: ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا … قبل اكتهال أديبا قبل تأديب (¬3) والأستاذ بعد الملك مفسد، وينقص المدح، ثم اعتذر بأن الأستاذ صار لكافور، كاللقب الذى لا يريد تغييره؛ لأنه كان إذ ذاك مدبرا لأمر ولد أخشيد يفتخر بخدمته. المساواة: ص: (والمساواة إلى آخره). (ش): شرع فى الكلام على الأقسام الثلاثة، مقتصرا فى الغالب على الأمثلة؛ فإن محال الإيجاز علمت مما سبق من مقتضيات ترك المسند، أو المسند إليه، أو متعلق أحدهما. ومحال الإطناب علمت مما سبق من أسباب ذكر المسند من قصد البسط، أو لرعاية الفاصلة، أو تكرير الإسناد وغير ذلك، لا لكونه الأصل، فإن رعاية ذلك مساواة لا إطناب. إذا عرف هذا فالمساواة مثلها بقوله سبحانه وتعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وأورد على المصنف أن فيه إطنابا؛ لأن السيئ زيادة فإن كل مكر لا يكون إلا سيئا، ونسبة المكر إلى الله تعالى فى قوله سبحانه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (¬4) مجاز للمقابلة، ولو وقع استعماله وحده، فهو مجاز على الصحيح، وسيأتى ما عليه فى باب المجاز. وقول النابغة الذبيانى: ¬

_ (¬1) سورة فاطر: 43. (¬2) البيت لعوف بن محلم الشيبانى أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 163. (¬3) البيت من البسيط وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (2/ 212). (¬4) سورة آل عمران: 54.

وقوله [من الطويل]: فإنّك كالّليل الذى هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنّك كالليل الّذى هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (¬1) (قلت): فى المثالين نظر؛ لأن الآية الكريمة إن كان الاستثناء فيها مفرغا، ففيه إيجاز القصر. وإن كان غير مفرغ، ففيه إيجاز قصر بالاستثناء، وإيجاز حذف بحذف المستثنى منه، فإن تقديره بأحد. وقال الخطيبى: هنا الاستثناء فيه مفرغ، فالمستثنى منه محذوف. وهو غلط؛ فإن الحذف لا يكون مع التفريغ. وأورد أيضا أن فيها إيجازا فإنها حاثة على كف الأذى عن جميع الناس يحذره عن جميع ما يؤدى إلى الأذى، وبأن فيها إيجاز تقدير؛ لأن الأصل يضر بصاحبه مضرة بليغة، فأخرج الكلام مخرج الاستعارة التبعية الواقعة على سبيل التمثيلية؛ لأن" يحيق" بمعنى يحيط، فلا يستعمل إلا فى الأجسام بالنظر إلى الكلام السابق فيه إطناب؛ لأنه تذييل، لقوله تعالى: وَمَكْرَ السَّيِّئِ وأما البيت ففيه إيجاز، لحذف جواب الشرط، وإن كانت الكاف حرفا، ففيه إيجاز آخر بحذف خبر إن على القول الصحيح، خلافا لمن ذهب إلى أن الجار والمجرور نفسه هو الخبر، وخلافا لمن ذهب إلى أن القول بذلك فيما إذا كان الجار الكاف دون غيره. وفيه الإطناب بذكر دليل الجواب، فإنه زائد على مدلول الكلام فإن الأصل الإتيان بالشرط وجوابه، إلا أن يقال: النظر للملفوظ به ولا زيادة فيه، والأول أظهر كما سيأتى. كل ذلك تفريع على أن الجواب لا يتقدم على الشرط، كما هو مذهب البصريين. ومن المساواة على ما يقتضيه كلام المصنف: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (¬2) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للنابغة فى ديوانه (ص 56 / الكتب العلمية)، ولسان العرب (طور)، (نأى)، وكتاب العين (8/ 393) وتاج العروس (نأى)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة 5/ 378، ومجمل اللغة 4/ 368. (¬2) البيت من الطويل، وهو لكثير عزة فى ملحق ديوانه ص 525، وزهر الآداب ص 349، وبلا نسبة فى لسان العرب (طرف)، وأساس البلاغة (سيل)، وتاج العروس (طرف)، ومعجم البلدان (منى) وأسرار البلاغة (ص 15 / رشيد رضا)، ودلائل الإعجاز (74، 75، 294، 296 / شاكر).

الإيجاز

(الإيجاز) والإيجاز ضربان: إيجاز القصر، وهو: ما ليس بحذف؛ نحو: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (¬1)؛ فإنّ معناه كثير، ولفظه يسير، ولا حذف فيه، وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام فى هذا المعنى، وهو: القتل أنفى للقتل خ خ: ـــــــــــــــــــــــــــــ على كلام ذكره فى الإيضاح مطول، ومثل فى الإيضاح بقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا (¬2). وفيه نظر؛ لأن فيه حذف موصوف الذين. الإيجاز: ص: (والإيجاز ضربان إلى آخره). (ش): الإيجاز ضربان: إيجاز القصر، وإيجاز الحذف. والفرق بينهما أن الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه، فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاما يعطى معنى أطول منه فهو إيجاز قصر. وقد يجتمعان فى نحو قولك: ما رأيت إلا زيدا، إذا جعلت المفعول محذوفا، فالأول إيجاز القصر، وهو ما ليس بحذف. ومنهم من قال: هو تكثير المعنى، وتقليل اللفظ. ويرد عليه فلان يعطى ويمنع. فإن فيه ذلك، كما صرح به السكاكى، وليس إيجاز قصر بل إيجاز حذف. وكذلك كل إيجاز حذف فيه هذا المعنى. والتحقيق أن فلانا يعطى ويمنع، إن أردت جعل الفعل فيه قاصرا، فهو إيجاز قصر، وإن أردت جعله متعديا، وحذفت مفعوله؛ لإرادة العموم فهو إيجاز حذف. ومن أبلغ الإيجاز، قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ فإن لفظه يسير، ومعناه كثير؛ لأنه قام مقام قولنا: الإنسان إذا علم أنه إذا قتل يقتص منه، كان ذلك داعيا له قويا مانعا من القتل فارتفع بالقتل، الذى هو قصاص، كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم. (وقوله: ولا حذف فيه) فيه نظر؛ لأن متعلقى الطرفين محذوفان على رأى الجمهور، وكذلك مضاف فإن التقدير فى مشروعية القصاص إلا أن يقال: أريد بالقصاص شرعه فيكون مجازا. قال: (وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام فى هذا المعنى وهو) قولهم: (القتل أنفى للقتل) من وجوه، بل قال ابن الأثير: إنه لا نسبة بين كلام الخالق عز وجل، وكلام المخلوق. وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 179. (¬2) سورة الأنعام: 68.

بقلة حروف ما يناظره منه، والنصّ على المطلوب (¬1)، وما يفيده تنكير (حياة) من التعظيم؛ لمنعه عمّا كانوا عليه من قتل جماعة بواحد، أو النوعيّة الحاصلة للمقتول والقاتل بالارتداع، ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أقل حروفا من كلامهم، فإن حروفه عشرة. وقول الخطيبى: إن التنوين حرف، فيكون أحد عشر، ليس بجيد؛ لأن التنوين إنما يأتى إذا وصلت بما بعدها، والكلام فيها وحدها موقوفا عليها. ولو قرئت موصولة، فالمقصود من نقصان حروفها حاصل، فإن: القتل أنفى للقتل حروفه أربعة عشر، ووقع فى كلام الإمام فخر الدين فى نهاية الإيجاز، وكلام العسكرى فى الصناعتين أن الذى يؤدى معنى كلامهم فى الآية الكريمة، قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ وفيه نظر؛ لأن القصاص حياة مخالف معنى لما تضمنه الآية الكريمة، من جعل القصاص ظرفا للحياة. فالصواب أن يقال: فى القصاص حياة. (ثم أقول): فى ذلك من أصله نظر؛ لأن الإيجاز بتقليل الحروف بالنسبة إلى كلام آخر، ليس مما نحن فيه، بل هو نوع أفرده المصنف فى الذكر آخر الباب. ونحن إنما نتكلم فى هذا الباب على كلامين متساويى المعنى، أحدهما أقل حروفا من الآخر. وإنما الآية وهذا الكلام بينهما تفاوت فى المعنى، كما ستراه وقولهم: إنه يمكن فى قولهم ما هو أوجز منه، وهو أن يقال: القتل أنفى له ليس بصحيح؛ لأنه يصير معناه القتل قصاصا أنفى للقتل قصاصا، وهو فاسد. الثانى: النص على المطلوب الذى هو الحياة، فيكون أزجر عن القتل العدوان. الثالث: أن تنكير حياة، يفيد تعظيما لمنعهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد. أو النوعية أى الحاصلة للمقتول، أى: بالكف عنه والقاتل بانكفافه. وقولنا: يفيد تعظيما أو نوعية، ليس معناه تقدير موصول محذوف، كما قاله الطيبى وقد تقدم الكلام عليه فى التنكير. الرابع: اطراده، فإنه ليس كل قتل ينفى القتل بخلاف القصاص، فإنه فيه حياة أبدا. (قلت): هذا إن كانت الأداة فى القصاص جنسية، فإن كانت للشمول، فليس صحيحا؛ لأن عدم اطراده يكذبه. ¬

_ (¬1) وهو الحياة.

واطّراده، وخلوّه عن التكرار، واستغنائه عن تقدير محذوف والمطابقة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الخامس: خلوه من تكرار لفظ القتل، فإن التكرار من عيوب الكلام. (قلت): وليس التكرار من عيوب الكلام مطلقا، بل ربما استحسن، كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (¬1) وغير ذلك؛ لأسباب يطول ذكرها. وقد تقدم الكلام عليه أول الكتاب. والتأكيد اللفظى فيه تكرار، وهو بليغ؛ ولذلك قال الرمانى: فيه تكرير غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك، فهو مقصر عن أقصى طبقة البلاغة السادس: استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم: فإن فيه حذف من التى بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصا مع القتل الأول، وظلما مع القتل الثانى. وقد يمنع أنهما محذوفان؛ بل مرادان بالقتل من غير حذف. وقد تقدم منع عدم الحذف فى الآية الكريمة. والصواب أن يقال: لاستغنائه عما ذكره أكثر من حذفه، وهو من بعد أفعل التفضيل الواقع خبرا، بخلاف المحذوفين فى الآية الكريمة، فإن حذفهما أكثر أو مطرد حتى قيل: إنه لا حذف. وكذلك حذف المضاف فى غاية الكثرة. السابع: أن فى الآية الكريمة طباقا، فإن القصاص ضد الحياة. (قلت): القصاص سبب للموت الذى هو ضد الحياة فهو ملحق بالطباق كما سيأتى. وزاد المصنف فى الإيضاح وجها آخر وهو هذا. الثامن: جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال (فى) عليه. وزاد غيره، فقال: التاسع: أن فى كلامهم توالى أسباب كثيرة خفيفة، وقد تقدم أن ذلك مستكره. العاشر: أنه كالتناقض من حيث الظاهر؛ لأن الشئ لا ينفى نفسه. الحادى عشر: أنه لا يستقيم لو أجرى على ظاهره؛ لأن ظاهره أن كل واحد من أفراد القتل، أو جنس القتل، ينفى القتل. وليس كذلك، بل المراد أن القتل قصاصا، ينفى القتل ظلما. (قلت): وهذان متقاربان، وهما يرجعان إلى الرابع، فالأحسن أن يعبر عنهما بأن يقال: الاسم قد تقرر أنه إذا تكرر مرتين، وهو فيهما معرفة فالثانى هو الأول. وهنا يلزم خلاف القاعدة فإن الثانى غير الأول. ¬

_ (¬1) سورة الشرح: 5، 6.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى عشر: أن القتل ليس نافيا للقتل، بل النافى له كراهة القتل. وهو ضعيف؛ فإن الحياة ليست فى القصاص، بل فى ترك القتل المرتب على مشروعية القصاص. الثالث عشر: تقدم الخبر المفيد للاختصاص فى قوله سبحانه وتعالى: وَلَكُمْ. الرابع عشر: سلامة الآية الكريمة من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون. الخامس عشر: اشتمالها على تكرير الصاد المستجلب باستعلائها وإطباقها مع الصفير للفصاحة. السادس عشر: أنها رادعة عن القتل والجرح، قاله الإمام فخر الدين وغيره، والضرب قاله الطيبى. (قلت): يعنى الجروح التى يمكن القصاص فيها المرادة بقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ (¬1) وفيه نظر، لأن لفظ حياة تصرف القصاص المذكور فى الآية الكريمة إلى القصاص فى النفس. فإن مشروعية القصاص فى الطرف، ليس سببا للحياة بل لبقاء ذلك الطرف، إلا أن يقال: بقاء العضو حياته أو يقال: قطع الطرف ربما سرى إلى النفس، فأزال الحياة؛ فشرع القصاص فى الطرف فيه حياة للنفس. وأما الضرب فلا قصاص فيه أصلا على مذهبنا. السابع عشر: سلامة الآية الكريمة من لفظ القتل المشعر بالوحشة، وعكسه الحياة. الثامن عشر: إبانة العدل بلفظ القصاص. التاسع عشر: الاستدعاء بالرغبة والرهبة بحكم الله به. العشرون: ملاءمة الحروف فيها؛ لأن الخروج من القاف إلى الصاد، أعذب من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبعد اللام من الهمزة، والخروج من الصاد إلى الحاء، أعذب من الخروج من اللام إلى الألف. ذكر الأوجه الثلاثة الرمانى. (تنبيه): أذكر فيه - إن شاء الله - أنواعا من إيجاز القصر، ربما يخفى أكثرها فمنها باب القصر بإلا سواء أكان الاستثناء مفرغا نحو: ما قام إلا زيد، أم تاما نحو: ما قام أحد إلا زيدا؛ لأن الأول موجز فقط، والثانى موجز من وجه، مطنب من وجه. أو ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 45.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ القصر بإنما نحو: إنما زيد قائم؛ أو بالتقديم نحو: أنا قمت؛ لأن فى كل منها نابت الجملة مناب جملتين؛ حكم فى إحداهما على المستثنى، وفى الأخرى على المستثنى منه. وكذلك جميع أنواع القصر، وليس شئ من ذلك بإيجاز حذف؛ لأن الكلام مستوفى الأجزاء، لم ينقص منه شئ. ومنها: نحو: قام زيد وعمرو، فإنه فى معنى: وقام عمرو، وحصل بالواو الإيجاز والإغناء عن تقدير الفعل على مذهب البصريين. ومنها: الاقتصار على المبتدأ، وطرح الخبر لفظا، ومنه نحو: أقائم الزيدان، لأن قائم مبتدأ لا خبر له، وكذلك زيد وعمرو قائم على القول بأن: قائم خبر عن أحدهما، واستغنى عن خبر الآخر. ومثل: ضربى زيدا قائما، على القول بأن: قائما ليس خبرا، وليس ثم خبر محذوف. لا يقال: لا إيجاز فى نحو: أقائم الزيدان، ونحو: ضربى زيدا قائما؛ لأن الخبر المستغنى عنه فيهما، أقيم شئ مقامه، فزاد بدل ما نقص؛ لأنا نقول: الإيجاز تقصير الكلام عما يستحقه، سواء أقيم شئ عوض ما لم يذكر، أم لا. وبرهان ذلك أن المصنف وغيره قسموا إيجاز الحذف إلى: ما يقام شئ فيه مقام المحذوف، وما لا يقام. فنحن ننقل ذلك التقسيم بعينه إلى إيجاز القصر. ومنها: باب علمت أنك قائم. فإذا جعلنا الجملة سادة مسد المفعولين، فإن الجملة تنحل لاسم واحد، سد مسد اسمين مفعولين من غير حذف. ومنها: باب النائب عن الفاعل فى ضرب زيد. فزيد يدل على الفاعل بإعطائه حكمه، وعلى المفعول بوضعه. ومنها: باب التنازع عند الفراء؛ لأنه ذهب إلى أن الاسم فى: قام وقعد زيد، معمول للفعلين معا. ومنها: طرح المفعول، بمعنى استعمال المتعدى لازما. وهذا القسم هو الذى يسميه النحوى: الحذف اقتصارا، ويعبر عنه بالحذف لا لدليل. والعبارتان مختلفتان، والتحرير: أنه لا حذف فيه بالكلية. ومنها: جميع باب أسماء الاستفهام، وأسماء الشروط. فإن: كم مالك، يغنى عن عشرين، أو ثلاثين. ومن يقم أكرمه، يغنى عن زيد وعمرو، قاله ابن الأثير فى الجامع. ومنها: الألفاظ الملازمة للعموم، مثل أحد وديار. قاله ابن الأثير أيضا. ومنها: لفظ الجمع، فإن: الزيدين، يغنى عن زيد وزيد وزيد.

إيجاز الحذف

وإيجاز الحذف، والمحذوف إمّا جزء جملة مضاف؛ نحو قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1)، أو موصوف؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ إيجاز الحذف: ص: (وإيجاز الحذف إلى آخره). (ش): الضرب الثانى من ضربى الإيجاز إيجاز الحذف، وهو ما يكون بحذف شئ من أصل الكلام. لا يقال: إيجاز القصر فيه أيضا حذف لكلام كثير؛ لأن إيجاز القصر يؤتى فيه بلفظ قليل، يؤدى معنى لفظ كثير غيره. وإيجاز الحذف يترك فيه شئ من ألفاظ التركيب الواحد، مع إبقاء غيره بحاله. والمحذوف: إما جزء من جملة، أو جملة، أو أكثر. وجزء الجملة إما مضاف، أو لا. الأول: جزء الجملة المضاف، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أى: أهل القرية، فحذف المضاف. كذا قاله المصنف، وفيه نظران: الأول: أن هذا ليس بجزء جملة؛ لأنه مفعول، فهو متعلق الجملة لا جزؤها، وكذا غالب ما ذكر فى هذا الباب. فيجب حمل قولهم: جزء الجملة، على ما له بها تعلق. الثانى: أنه قيل: إن القرية عبر بها عن أهلها، والتأنيث فيها على اللفظ لا على المعنى، فيكون مجازا ولا حذف فيه. وقيل: أريد الحقيقة على سبيل المعجزة. وقيل: القرية: اسم مشترك بين المكان وأهله، نقله داود الظاهرى عن بعض أهل اللغة. ومثله المصنف بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬2) أى: أكلها؛ لأن التحريم لا يتعلق بالأجرام، وقد سلم هذا المثال من السؤال الأول، ولم يسلم من الثانى، لجواز أن يكون عبر بالميتة عن أكلها. وينقل عن الحنفية أن التحريم يتعلق بالذوات. والأحسن التمثيل بقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى (¬3) فإنه لا بد من تقدير: ذا البر أو بر من اتقى، إلا أن يكون من قوله: فإنما هى إقبال وإدبار. الثانى: جزء جملة موصوف، فقول المصنف: (أو موصوف) معطوف على قوله: مضاف، كما اقتضاه كلام الإيضاح، ومثله بقوله: ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 82. (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) سورة البقرة: 189.

نحو [من الوافر]: أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا أى أنا ابن رجل جلا، أو صفة؛ نحو: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (¬1) أى: صحيحة، أو نحوها؛ بدليل ما قبله، أو شرط؛ كما مر، أو جواب شرط: ـــــــــــــــــــــــــــــ أنا ابن جلا وطلاع الثّنايا … متى أضع العمامة تعرفونى (¬2) (¬3) التقدير: أنا ابن رجل جلا. وعليه ما على الأول، فإن رجل ليس جزء جملة، بل فضلة، على أنه قيل: أى: جلا اسم علم فلا حذف. حينئذ، وهو مستند عيسى ابن عمر فى أن فعل عنده وزن يمنع من الصرف، فلذلك لم ينون جلا. وقال سيبويه: كأنه قال: أنا ابن الذى جلا، فعلى هذا الوجه، يكون حذف الموصول. الثالث: جزء جملة هو صفة، كقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أى كل سفينة صحيحة، أو صالحة بدليل فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وقيل: إن ابن عباس قرأ كل سفينة صالحة. الرابع: جزء جملة هو شرط كما مر فى آخر الإنشاء، نحو: ليت لى مالا أنفقه أى: أن أرزقه. الخامس: جزء جملة هو جواب شرط، ويسمى الشرط فى الأول، والجواب فى الثانية جزء جملة، وإن كان جملة كاملة، باعتبار أنه غير مستقل، وكان الأحسن أن يقول: جزء كلام فإن الشرط جزء كلام، وإن كان جملة كاملة، وحذفه ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 79. ـــــــــــــــــــــــــــــ (¬2) أى فى آخر باب الإنشاء. (¬3) البيت من الوافر، وهو لسحيم بن وثيل فى الاشتقاق (424)، والأصمعيات (ص 17)، وجمهرة اللغة ص 495، 1044، وخزانة الأدب (1/ 255، 257، 266) والدرر (1/ 99)، وشرح شواهد المغنى (1/ 459)، وشرح المفصل (3/ 62)، والشعر والشعراء (2/ 647)، والكتاب (3/ 207)، والمقاصد النحوية (4/ 356) وبلا نسبة فى الاشتقاق/ ص 314)، وأمالى ابن الحاجب ص 456، وأوضح المسالك 4/ 127، وخزانة الأدب 9/ 402، وشرح الأشمونى 2/ 531، وشرح شواهد المغنى 2/ 749، وشرح قطر الندى ص 86، وشرح المفصل 1/ 61، 4/ 105، ولسان العرب (ثنى)، (جلا) وما ينصرف وما لا ينصرف ص 20، ومجالس ثعلب 1/ 212، ومغنى اللبيب 1/ 160، والمقرب 1/ 283، وهمع الهوامع 1/ 30.

إما لمجرد الاختصار؛ نحو: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (¬1)، أى: أعرضوا؛ بدليل ما بعده، أو للدّلالة على أنه شئ لا يحيط به الوصف، أو لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن، مثالهما: قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ (¬2)، أو غير (¬3) ذلك؛ نحو قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ (¬4) أى: ومن أنفق بعده وقاتل؛ بدليل ما بعده. ـــــــــــــــــــــــــــــ إما لمجرد الاختصار، نحو قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أى: أعرضوا، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: مُعْرِضِينَ (¬5). ولك أن تقول: يمكن أن يكون من القسم الثانى بأن يكون حذف إشارة إلى أنهم إذا قيل ذلك فعلوا شيئا لا يحيط به الوصف، وإما لقصد أن يذهب السامع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوبا، ولا مكروها، إلا ويجوز أن يكون الأمر أعظم منه، بخلاف ما لو اقتصر على ذكر شئ، فربما خف أمره عنده، ومثله المصنف بقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ. وقول المصنف: (مثالهما) يحتمل أن يريد هذا المثال صالح لهما على البدل، وإنما هو لأحدهما، ويحتمل أن يكون ذكر هذين المعنيين، لأنهما عنده واحد أو يتلازمان. ولك أن تقول: الفصاحة هاهنا حصلت من حذف متعلق الجواب، لا من حذف الجواب نفسه؛ لأنك لو قلت: لرأيت وحذفت المفعول لحصل هذا المعنى. قال السكاكى: ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم: جاء بعد اللتيا والتى أى: بعد الشدائد التى بلغت فظاعتها مبلغا يبهت السامع، فلا يدرى ما يقول. السادس: أن يكون حذف جزء الجملة لغير ذلك، كقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أى: ومن أنفق من بعده وقاتل، بدليل ما بعده، وإنما كان هذا جزء جملة؛ لأن الموصول وصلته فى حكم المفرد. ومن هذا الباب أيضا حذف الموصول، كما قيل فى قوله تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (¬6) وقول حسان رضى الله عنه: ¬

_ (¬1) سورة يس: 45. (¬2) سورة الأنعام: 37. (¬3) أى المذكور كالمسند والمسند إليه والمفعول كما فى الأبواب السابقة وكالمعطوف مع حرف العطف. (¬4) سورة الفتح: 10. (¬5) سورة يس: 46. (¬6) سورة الرعد: 10.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أمن يهجو رسول الله منكم … ويمدحه وينصره سواء (¬1) على ما ذكره النحاة، وفيه نظر. ومنه حذف المضاف والمضاف إليه، كقوله: وقد جعلتنى من جذيمة أصبعا (¬2) أى ذا مسافة إصبع، وكذلك مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ (¬3) أى حافر فرس الرسول، وحذف المضاف إليه فقط، نحو قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (¬4) وكذلك كل ما قطع عن الإضافة مما وجبت إضافته معنى لا لفظا. وحذف الصلة، مثل: جاء من بعد اللتيا والتى، وهو كثير، وحذف المفعول تقدم، والجار والمجرور نحو قوله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً (¬5) أى بسيئ وَآخَرَ سَيِّئاً أى: بصالح، ومن بعد أفعل التفضيل، كقولك: الله أكبر أى: من كل شئ قال الزمخشرى فى المفصل: أفعل التفضيل له معنيان: أحدهما: أن يراد أنه زائد على المضاف إليه فى الخصلة التى هو وهم فيها شركاء. والثانى: أن توجد مطلقا له الزيادة فيها إطلاقا، ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليه، لكن لمجرد التخصيص، كما يضاف ما لا تفضيل فيه نحو قولك: الناقص والأشج أعدلا بنى مروان، كأنك قلت: عادلا بنى مروان. انتهى. ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه (ص 9 / ابن خلدون)، وتذكرة النحاة (ص 70)، والدرر (1/ 296)، ومغنى اللبيب ص 625، والمقتضب 2/ 137، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ص 82، وهمع الهوامع 1/ 88، وروايته فى الديوان: فمن يهجو ... (¬2) هذا عجز بيت من الطويل، وصدره: فأدرك إبقاء العرادة ظلعها. وهو للكلحبة اليربوعى فى خزانة الأدب (4/ 401)، وشرح اختيارات المفضل ص 146، ولسان العرب (حرم)، (بقى)، وتاج العروس (حرم)، (بقى)، وللأسود بن يعطر فى ملحق ديوانه ص 68، وشرح المفصل 1/ 31 وللأسود أو للكلحبة فى المقاصد النحوية 3/ 442، ولرؤبة فى مغنى اللبيب 2/ 264 وليس فى ديوانه وبلا نسبة فى شرح الأشمونى (2/ 325)، لكن يروى: (من خزيمة) بدلا من: (من جذيمة). (¬3) سورة طه: 96. (¬4) سورة يس: 40. (¬5) سورة التوبة: 102.

وإما جملة مسبّبة عن مذكور؛ نحو: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ (¬1) أى: فعل ما فعل، أو سبب لمذكور؛ نحو: فَانْفَجَرَتْ (¬2) إن قدّر: فضربه بها خ خ، ويجوز أن يقدّر: فإن ضربت بها فقد انفجرت خ خ، ـــــــــــــــــــــــــــــ فهذا يقتضى أنك إذا قلت: زيد أفضل، فقد قطع عن متعلقه قصدا لنفس الزيادة، كقولك: فلان يعطى ويمنع، فيكون كالفعل المتعدى إذا جعل قاصرا للمبالغة، فعلى هذا لا يكون ذلك إيجاز حذف، بل يكون إيجاز قصر. ويحتمل أن يريد أن تقديره: زيد أفضل من كل أحد. فالمبالغة فى تعميم المفضل عليه، فيكون حينئذ إيجاز حذف، كأحد تقديرى فلان يعطى ويمنع. ص: (وإما جملة إلى آخره). (ش): أى قد يكون الإيجاز بحذف جملة مسببة عن مذكور، كقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أى فعل ما فعل، ويصح أن يقال فى مثله أيضا: إنها جملة سبب لمذكور، لأن الفعل سبب لحقية الحق وبطلان الباطل، وكل علة غائية يصح أن يقال عليها اسم السبب واسم المسبب؛ لأنها علة فى الأذهان معلول فى الأعيان، أو تكون الجملة سببا لمذكور، نحو: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ قال المصنف: إن قدر فضربه بها فانفجرت، وطوى ذكر فضرب، هذا إشارة لسرعة الامتثال حتى إن أثره وهو الانفجار لم يتأخر عن الأمر، ثم قيل: فضرب كله محذوف. وقال ابن عصفور: حذف ضرب، وفاء فانفجرت، والفاء الباقية: فاء فضرب؛ ليكون على المحذوف دليل ببقاء بعضه. قال الشيخ أبو حيان: وفيه تكلف. (قلت): لكنه أقرب إلى اللطيفة التى ذكرناها فى الحذف. (قوله: ويجوز أن يقدر: فإن ضربت بها فقد انفجرت) هو تقدير جوزه الزمخشرى هنا، وفى قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ (¬3) وأمثاله، وفيه نظر من وجوه: الأول - أن حذف أداة الشرط وفعله معا فى جوازه نظر، وقد تقدم الكلام عليه، حيث ذكره المصنف فى باب الإنشاء. الثانى - أنه يلزم أن يكون جواب الشرط ماضيا لفظا ومعنى؛ لأن فقد انفجرت ماض لفظا ومعنى لأجل الفاء وقد، ولأجل قوله تعالى قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 8. (¬2) سورة البقرة: 60. (¬3) سورة المزمل: 20.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مَشْرَبَهُمْ (¬1) وجواب الشرط لا يجوز أن يكون ماضى المعنى. ومن ذهب إلى جواز كون الجواب ماضى المعنى إنما هو حيث كان المعنى يلجئ إليه، والمعنى هنا على الاستقبال، لأن الانفجار يترتب على الضرب المستقبل بأداة الشرط. وأما قول ابن مالك: إن فعل الجزاء قد يكون ماضى المعنى، مع كون فعل الشرط مستقبل المعنى، فقد تقدم أن ذلك مما لا يتعقل، إلا أن يريد أن الجواب محذوف، ويكون سمى المذكور جوابا مجازا لسده مسد الجواب. ثم إن الزمخشرى أورد هذا السؤال بعينه فى قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ (¬2) وقال: من حق الجزاء أن يتعقب الشرط، وهذا سابق. وأجاب بأن التقدير: وإن يكذبوك فتأس، فوضع: فقد كذبت، موضع: فتأس، استغناء بالسبب عن المسبب - أعنى بالتكذيب عن التأسى - وهذه العبارة منه يحتمل أن يريد بها أن الجواب محذوف، وفيه نظر؛ لأن الجواب لا يحذف إذا كان فعل الشرط مضارعا. ويحتمل أن يريد أن: فقد كذبت ضمن معنى تأس. وفيه نظر؛ لأن الفعل الماضى لا يستعمل فى الإنشاء إذا كان معه" قد" على ما يظهر لنا. وعلى كل من التقديرين؛ لا يصح ذلك فى: فانفجرت؛ لأنه إن أراد أن الجواب محذوف، صار التقدير: إن ضربت فقد انفجرت. وهذا يمجه الطبع السليم؛ لأنه تقدير ما لا داعى إليه، ولا دليل عليه، وفيه حذف جملتى الشرط والجواب، وتكلف ما لا حاجة إليه. وإن أراد أنه حذف الشرط والفاء وقد، وبقى: فانفجرت. وهذا الجواب لزم أن يكون الجواب ماضى المعنى، فإن قال: إن فقد انفجرت قام مقام: انفجرت، وضمن معناه، فليت شعرى كيف يجعل: انفجرت فى تقدير: فقد انفجرت، ثم يضمن: قد انفجرت معنى: انفجرت الماضى لفظا، والمستقبل معنى؟! ونحن إذا وجدنا قد الصارفة للمضى، نحتاج أن نتكلف لها، وكيف نقدرها ثم نحتاج إلى الاعتذار عنها؟ فهذا كلام عجيب، إلا أن يكون الزمخشرى أراد تفسير معنى، لا تفسير صناعة، ويكون غير مريد لتقدير قد فيصح كلامه حينئذ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 60. (¬2) سورة فاطر: 4.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: أن المصنف بعد أسطر يسيرة فى الإيضاح أنكر أن يكون الجواب المصاحب لقد جوابا كما ستراه. (تنبيه): قال الزمخشرى بعد تجويزه أن يكون التقدير: فانفجرت، أو فإن ضربت فقد انفجرت. وهى على هذا فاء فصيحة، لا تقع إلا فى كلام بليغ. (قلت): والفاء الفصيحة هى الدالة على محذوف قبلها، هو سبب لما بعدها. سميت فصيحة؛ لإفصاحها عما قبلها. وقيل: لأنها تدل على فصاحة المتكلم بها، فوصفت بالفصاحة على الإسناد المجازى، ونسب الطيبى هذا إلى الحواشى المنسوبة إلى الزمخشرى. واختلفوا: هل شرط ذلك المحذوف ألا يكون شرطا، حتى تكون هى عاطفة لا جزائية أو لا؟ فاشترط الطيبى فيها ذلك، وقال: إن كلام صاحب المفتاح يشعر به، وأنه يعضده قول الزمخشرى: إنها لا تقع إلا فى كلام بليغ، وفاء الجزاء يكثر وقوعها فى الكلام العامى. (قلت): ليس فى المفتاح ما يشعر بما ذكره، نهايته أنه ذكر أن التقدير: فضرب، وقال: إن الفاء فصيحة، ولم يذكر تقدير الشرط بالكلية، فضلا عن أن يقول: إنها تكون حينئذ فصيحة أو لا. وقوله: أنه يعضده قوله: لا تقع إلا فى كلام بليغ فيه نظر؛ لأنها على التقديرين لا تقع إلا فى كلام بليغ، فالبلاغة فيه من جهة حذف جملة سابقة شرطية كانت، أو غيرها؛ والإشعار بأن المأمور لم يتوقف عن امتثال الأمر، فكان المطلوب الانفجار لا الضرب. ثم قول الزمخشرى على هذا ظاهره العود إلى تقدير الشرط ولا حاجة إلى تأويله وإعادته إلى الأول. والأحسن أن يجعله عائدا إلى ما سبق من مطلق التقدير، ليصلح للتقديرين معا، فقد تبين أن الفاء هذه فصيحة على التقديرين، على ما تراه عاطفة فيها معنى السببية على القول الأول، جزائية على الثانى. وعلى ما قاله الطيبى فصيحة على الأول لا الثانى. ومما يدل لما قلناه من أن الزمخشرى، لم يشترط فى الفاء الفصيحة أن لا يكون المقدر قبلها شرطا، أنه قال فى قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (¬1): وفيه معنى الشرط، أى: إن صح هذا فقد ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 12.

أو غيرهما (¬1)؛ نحو: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ على ما مر (¬2). وإما أكثر من جملة؛ نحو: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ (¬3) أى: إلى يوسف؛ لأستعبره الرؤيا، ففعلوا وأتاه، فقال له: يا يوسف. والحذف على وجهين: ألّا يقام شئ مقام المحذوف؛ كما مر، وأن يقام؛ نحو: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ (¬4) أى: فلا تحزن واصبر. ـــــــــــــــــــــــــــــ كرهتموه، وهى الفاء الفصيحة. فهذا كالصريح فى أن الفاء الفصيحة، يجوز أن يقدر الشرط قبلها؛ لأن قوله: أى إن صح الظاهر، أنه يريد تقديرا لفظيا. (قوله: أو غيرهما) أى أن يكون جملة غير سببية ولا مسببة، تحذف لمعنى من المعانى، كقوله سبحانه: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (¬5) أى: هم نحن على أحد القولين السابقين. ص: (وإما أكثر إلى آخره). (ش): وقد يكون المحذوف أكثر من جملة نحو: فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ التقدير: إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه فقال له .. وأمثلته كثيرة، فلا نطيل بذكرها. (تنبيه): أذكر فيه - إن شاء الله تعالى - تقسيما لإيجاز الحذف، فنقول: المحذوف أقسام: الأول: جزء كلمة، مثل: حذف النون فى:" لم يك" فإنها حذفت للتخفيف؛ وكالحذف فى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (¬6) حذفت الياء للتخفيف، ورعاية الفاصلة. وحكى عن الأخفش: أن المؤرخ السدوسى سأله، فقال: لا أجيبك حتى تنام على بابى ليلة، ففعل، فقال له: إن عادة العرب أنها إذا عدلت بالشئ عن معناه، نقصت حروفه. والليل لما كان لا يسرى، وإنما كان يسرى فيه، نقص منه حرف، كما فى قوله تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (¬7) الأصل: بغية، فلما حول ونقل عن فاعل، نقص منه حرف. انتهى. ¬

_ (¬1) أى غير المسبب والسبب. (¬2) أى فى بحث الاستئناف من أنه على حذف المبتدأ والخبر على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف. (¬3) سورة يوسف: 45 - 46. (¬4) سورة فاطر: 4. (¬5) سورة الذاريات: 48. (¬6) سورة الفجر: 4. (¬7) سورة مريم: 28.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ورأيت الطيبى ذكر هذا الجواب من غير أن يذكر هذه الحكاية. ولك أن تجعل: فعولا وفعيلا حيث كانا لمؤنث مطلقا، من باب الإيجاز. الثانى: حذف كلمة أو أكثر، فهى إما اسم، أو فعل، أو حرف. الأول: الاسم، فمنه حذف المبتدأ فقط، وحذف الخبر فقط، ومنه حذف المضاف، والمضافين والثلاثة، وحذف الصفة، وحذف الموصوف، وحذف المعطوف مع حرف العطف مثل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ (¬1) وحذف الحال، مثل: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ (¬2) أى قائلين: سلام. وحذف التمييز مثل: كم مررت؟ أى: كم ميلا؟ وحذف المستثنى، مثل: ليس إلا. واختلفوا فى حذف المبدل منه، وخرج عليه: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ (¬3) وأما حذف الفعل فكثير، حيث دلت عليه قرينة. وحذف الحرف كثير أيضا، جوز جماعة حذف الواو العاطفة، وخرج عليه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (¬4) وهمزة الاستفهام تحذف كثيرا. وحذف الفاء فى جواب الشرط لا يجوز إلا ضرورة. وحذف لام الأمر جوزه بعضهم. الثالث: الجمل، فيحذف جواب لولا نحو: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ (¬5) وجواب لما نحو: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (¬6) ويحذف الشرط بلو، نحو: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وجواب أما، نحو: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ (¬7) وجواب إذا نحو: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا (¬8). ومنها حذف القسم منها حذف جوابه، قال القاضى التنوخى: وكل ذى جواب جوز حذف جوابه. ومنها: باب الإغراء، وباب التحذير، وباب نعم وبئس، وباب التنازع والاختصاص، والنصب على المدح. ¬

_ (¬1) سورة الحديد: 10. (¬2) سورة الرعد: 23، 24. (¬3) سورة النحل: 116. (¬4) سورة الغاشية: 8. (¬5) سورة البقرة: 64. (¬6) سورة الصافات: 103. (¬7) سورة آل عمران: 106. (¬8) سورة يس: 45.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): من تأمل ما سبق علم أن الإيجاز ليس من شرطه إمكان المساواة، فيكون جائزا، بل قد يكون واجبا بحيث لا يجوز خلافه. فهو حينئذ قسمان: قسم مفوض إلى المستعمل، وقسم هو من أصل الوضع، وهو أن يوضع الكلام على اقتصار وحذف مثل المبتدآت التى يجب حذفها، وغير ذلك مما هو واجب الحذف، كالعامل فى الإغراء والتحذير، وفى مصدر بدل من اللفظ بفعله، والخبر فى باب نعم وبئس على أحد الأقوال، وفى خبر المبتدأ بعد لولا غالبا وغير ذلك. (تنبيه): واعلم أن الذى ذكر المصنف من تقسيم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف، وتقسيم تقليل اللفظ إلى إخلال وغيره، وتقسيم زيادته إلى تطويل وغيره، تبع فيه جميعه الرمانى. قال الرمانى: والإيجاز على ثلاثة أوجه: الإيجاز بسلوك الطريق الأقرب دون الأبعد، والإيجاز باعتماد الغرض دون سعة، ومن الإيجاز بإظهار الفائدة ما يستحسن دون ما يستقبح. ثم قال: الإيجاز: تهذيب الكلام بما يحسن به البيان، والإيجاز: تصفية الألفاظ من الكدر، والإيجاز: إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير. قال عبد اللطيف البغدادى فى قوانين البلاغة: إنه يوافقه فى المعنى لا فى اللفظ وقال: هى ستة أزواج متقابلة، البسط وهو يعبر بقول عما يمكن أن يعبر عنه باسم، أو بقول كثير الأجزاء عما يمكن أن يعبر عنه بقول قليلها، ويقابله القبض وهو عكس ذلك والاختصار وهو أن يقتصر من أشياء يقصد التعبير عنها، على ما إذا صرح بلفظ فهم به الباقى. ويقابله: التطويل، وهو أن يصرح بجميع الألفاظ التى يلزم بعضها بعضا، أو يذكر بعضها ببعض، والإجمال: وهو أن يعبر عن الأشياء الكثيرة باسم جنسها، ويقابله التفصيل، وهو أن يذكر تلك الأشياء واحدا واحدا. والتكرير: إما بإعادة اللفظ بعينه، أو بلفظ مرادف للأول، أو يذكر مبسوطا مرة، ومقبوضا أخرى. أو يذكر مجملا مرة، ومفصلا أخرى. ويقابله الإفراد والإضمار أن يسكت عن أشياء اتكالا على أن السامع يأتى بها من قبل نفسه، ويضيفها إلى التى نطق بها القائل؛ لوضوحها أو لقرينة حالية. والفرق بينه وبين الاختصار: أن الذى ينبه على الشئ فى الاختصار، هو شئ من نفس القول، والمنبه فى الإضمار شئ من خارج، والتصريح عكسه. والإيجاز: الاقتصار على المعانى الضرورية فى بلوغ الغرض، وعلى أقل ألفاظها الدالة عليها عددا. والتذييل: أن يضيف إلى المعانى الضرورية سائر الأشياء التابعة للتزيين والتفخيم.

وأدلته كثيرة: منها: أن يدل العقل عليه، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف؛ نحو: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وأدلته كثيرة إلى آخره). (ش): لما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل، احتاج إلى ذكر أدلته؛ ليعلم أنه لا بد للحذف من أحدها. فإن قلت: قد قسم النحاة الحذف إلى حذف اقتصار، وحذف اختصار، وفسروا الحذف اقتصارا: بأن يحذف لا لدليل. فقد أثبتوا حذفا لا لدليل. (قلت): هى عبارة مختلة أو اصطلاح لا مشاحة فيه، والحق أنه لا حذف فيه إذا ثبت ذلك، فالدليل تارة يدل على محذوف مطلق، وتارة على محذوف معين. فمنها العقل إذا دل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه، بل يستفاد التعيين من دليل آخر، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة؛ لأن التحريم لا يضاف إلى الأجرام، فتعين حذف شئ. (قلت): وقد تقدم أنه ينقل عن الحنفية أنهم يرون أن التحريم والتحليل يضافان إلى الذوات، وأما تعيين ذلك المحذوف وأنه التناول، فاستفيد من دليل آخر، وهو أن التناول هو المقصود الأظهر، أى: الأغلب فى الميتة إرادة أكلها، وكذلك: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (¬2) فى إرادة النكاح، وهذا الذى قاله بناء على مذهب الجمهور. أما من جعله مجملا، فلا ظهور، ولا تعيين، إلا بدليل خارجى. وأما من قال: الميتة عبر بها عن أكلها، فلا حذف. (قلت): وفيما قاله المصنف نظر من وجهين: أحدهما: أن الدليل المسوغ للحذف لا بد أن يكون دليلا على تعيين المحذوف، إما لفظيا كالمعين، أو خارجيا كما فى المجمل، لا على أصل الحذف. فإن أراد أن العقل دل على أصل الحذف، فليس ذلك دليلا مسوغا للحذف، إلا لغرض الإبهام. وإن أراد أن العقل دل على أصل الحذف، والظهور دل على تعيينه. فالدال حينئذ على المحذوف المعين، وهو الظهور فالأولى أن يقال: ظهور إرادة المحذوف دليل عليه. وتارة يجوز العقل مع ذلك إرادة المنطوق به، وتارة لا يجوز بأن يدل العقل على استحالة إرادته. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) سورة النساء: 23.

ومنها: أن يدل العقل عليهما؛ نحو: وَجاءَ رَبُّكَ (¬1) أى: أمره أو عذابه (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: أن قوله: أدلته كثيرة منها أن يدل العقل لا يصح؛ لأن يدل العقل ينحل إلى دلالة العقل، فكأنه قال: أدلته الدلالة، وهو فاسد. وتأويله: إما بأن يؤول الأدلة على الدلالات وهو الأولى، أو يؤول: أن يدل بالدلالة التى بمعنى الفاعل، كما هو قول فى: عسى زيد أن يقوم. كما يؤول الموصول الحرفى وصلته بالمصدر، بمعنى المفعول فى قول ضعيف، ذكره جماعة فى قوله سبحانه: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (¬3) وقوله سبحانه: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ (¬4) ويقرب مما نحن فيه، قولك: زيد أكرم على من أن أضربه. نقل الشيخ أبو حيان فى تذكرته، عن صاحب البديع، أن" أن" فيه بمعنى الذى، وفيه نظر؛ لأن" أن" لا تكون بمعنى الذى، ولأنه كان يلزم أن يقول: أنا أكرم على زيد من أن أضربه. ونقل الشيخ أبو حيان عن بهرمان أن هذا وقع جوابا لمن قال: أنت تريد أن تضربنى، فمعناه: أنت أكرم على ممن يقدر فى نفسه ذلك. انتهى. وصحة قولك: أنا أكرم على زيد من أن أضربه، يشهد لها مع كثرة الاستعمال. وذكر سيبويه لها فى كتابه، قوله صلّى الله عليه وسلّم:" أنا أكرم على الله من أن يعذبنى بذات الجنب" ثم قال: ومنها - أى من أدلة الحذف - أن يدل العقل عليهما أى: على الحذف والتعيين، نحو: قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ أى: أمره، أو عذابه؛ لأن العقل دل على أصل الحذف لاستحالة مجئ البارى - سبحانه وتعالى - عقلا، فإن ذلك يستلزم الجسمية، ودل العقل أيضا على التعيين، وهو الأمر أو العذاب. (قلت:) فإذا كان محتملا لهما، فأين التعيين؟ إلا أن يكون أراد بقوله: الأمر الذى بمعنى العذاب، أو العذاب، وذلك اختلاف فى العبارة فقط، لا فى المعنى. ¬

_ (¬1) سورة الفجر: 22. (¬2) قوله: أى: أمره أو عذابه فيه نظر، فإن السلف لا يرون هذا التأويل، بل يثبتون لله صفة المجئ بمقتضى ظاهر هذه الآيات، ولا يوجب العقل الصريح هذا التأويل الذى ذكروه، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم - رحمه الله - فقد أجاب عن تأويل الفرق الكلامية لصفة المجئ وغيرها، فى حديثه عن كسر طاغوت المجاز خ خ. (¬3) سورة البقرة: 3. (¬4) سورة يونس: 37.

ومنها: أن يدل العقل عليته، والعادة على التعيين؛ نحو: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (¬1)، فإنه يحتمل فى حبه خ خ؛ لقوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا (¬2). وفى مراودته خ خ؛ لقوله تعالى: تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ (¬3)، وفى شأنه حتى يشملهما، والعادة دلت على الثانى؛ لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه فى العادة؛ لقهره إياه. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن الزمخشرى قال: إن هذه الآية الكريمة تمثيل. مثلت حاله - سبحانه - فى القهر، بحال الملك إذا حضر بنفسه. فعلى هذا لا حذف فى الآية الكريمة وإن أراد التعيين فيهما، بمعنى عدم الثالث، فذلك ليس بتعيين، ثم هو ممنوع؛ لأن العقل لا ينفى تقدير عباد ربك أو جنود ربك، وغير ذلك فهذا كالقسم الأول. ومنها أن يدل العقل على أصل الحذف، وتدل العادة على تعيين المحذوف، كقوله سبحانه: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ العقل دل على أنه لا بد من محذوف؛ لأن الشخص لا يلام إلا على الفعل. واحتمل أن يكون التقدير فى حبه لأجل: شَغَفَها حُبًّا أو فى مراودته لأجل تُراوِدُ فَتاها وأن يكون فى شأنه وأمره، والعادة دلت على إرادة المراودة لأن الإنسان لا يلام على الحب المفرط، لأنه يقهر صاحبه، إنما يلام على المراودة التى يقدر على دفعها. (قلت): كلامه متهافت؛ لأنه قال: العقل دل على الحذف، لأن الإنسان لا يلام إلا على ما هو من كسبه، ثم جعله محتملا لثلاثة أمور - أى يجوزها العقل - منها: إرادة الحب، ثم قال: إن الحب ليس من الكسب، فيلزم أن يكون احتمال الحب منفيا عقلا. ثم إنه جوز أن يكون المراد الحب والمراودة، أو الأمر المطلق، وأقام الدليل على عدم إرادة الحب، فأثبت المراودة، وقد نفى الاحتمال الآخر، وهو إرادة الأمر الذى يشملها، فلم يذكر ما يدفعه. وهذا الاحتمال يرجحه القول الذاهب إلى أن المقتضى عام، وهو أحد قولى الشافعى، ومنصوصه فى الأم وإن كان مرجوحا عند الأصوليين. ومنها العادة بأن تدل على أصل المحذوف، وعلى التعيين، وذلك بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف، كقوله سبحانه: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ (¬4) أى: مكان قتال، والمراد مكانا صالحا للقتال. وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، والعادة تمنع أن يريدوا: لو نعلم حقيقة القتال؛ فلذلك قدره ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 32. (¬2) سورة يوسف: 30. (¬3) سورة يوسف: 30. (¬4) سورة آل عمران: 167.

ومنها: الشروع فى الفعل؛ نحو: (باسم الله)؛ فيقدّر ما جعلت التسمية مبدأ له. ومنها: الاقتران؛ كقولهم للمعرّس: بالرّفاء والبنين أى: أعرست. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجاهد مكان قتال. ويدل على ذلك أنهم أشاروا على النبى صلّى الله عليه وسلّم، بأن لا يخرج من المدينة. (قلت): وتعيين المحذوف هنا دل عليه السياق والقرينة. وأما تسمية ذلك عادة ففيه نظر. وأيضا قيل: إن المراد لو نعلم أنه يعرض لكم قتال ما، أو لو نعلم أن ما أنتم متوجهون إليه قتال؛ لكنه ليس بقتال، بل هو إلقاء النفس إلى التهلكة، فعلى هذين لا حذف. ومنها الشروع فى الفعل نحو: باسم الله فيقدر ما جعلت البسملة مبدأ له، فإن كانت عند الشروع فى القراءة قدرت أقرأ، أو إلا كل قلت: آكل كذا قال المصنف. وقد اختلف الناس هل يقدر فى مثله الفعل، أو الاسم المصدر؟ واختلفوا: هل يقدر عام كالابتداء، أو خاص كما ذكره؟ ومنها أن يدل الاقتران على المحذوف المعين، كقولهم لمن أعرس: بالرفاء والبنين أى: بالرفاء والبنين أعرست. قلت: وهذا الدليل يغنى عن ذكر الدليل السابق، فإن السابق داخل فى هذا، فلم يكن به حاجة لذكر الشروع. قال الخطيبى: ومنها أن يدل عرف اللغة على الحذف، والقرينة الحالية على التمثيل. ثم ذكر المثل المشهور: إن لا حظية فلا ألية، أى: إن لم توجد حظية، فلا تترك ألية. والحظية ذات الحظوة عند زوجها. والألية: بمعنى الآلية اسم فاعل من ألا إذا قصر. وأصله أن رجلا تزوج امرأة، فلم تحظ عنده، ولم تكن بالمقصرة فيما يحظى النساء عند أزواجهن، فقالت له: إن لا حظية، فلا ألية أى: إن لم يكن لك حظية، لأن طبعك لا يلائم النساء، فإنى غير مقصرة فيما يلزمنى للزوج. فحظية مرفوع؛ لأنه فاعل المضمر الذى هو يكن من كان التامة، وألية خبر مبتدأ تقديره: فأنا لا ألية أى: غير ألية. ويجوز نصب حظية وألية على تأويل: إن لا أكن حظية، فلا أكون ألية. وهو مثل يضرب فى مداراة الناس والتودد لهم، قال ذلك الزمخشرى فى الأمثال. وفيما قاله الخطيبى نظر؛ لأن اطراد عرف اللغة بالحذف ليس دليلا على الحذف، بل هو حذف مطرد يحتاج لدليل، وهو القرينة. ثم ذكر من مواضع الحذف ما لا حاجة لذكره، لدخوله فى كلام المصنف وغيره، ممن أطلق القرينة اللفظية أو الحالية. نعم من أعظم الأدلة على الحذف اللغة، وذلك مثل قولك: ضربت، فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدى لا بد له من مفعول، فاللغة دلت على أصل الحذف لا تعيينه، وكذلك المبتدأ المحذوف، والخبر، والفاعل عند من أجاز حذفه.

الإطناب

(الإطناب) والإطناب: إما بالإيضاح بعد الإبهام؛ ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين، أو ليتمكّن فى النفس فضل تمكّن، أو لتكمل لذّة العلم به؛ نحو: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (¬1)؛ فإنّ اشْرَحْ لِي: يفيد طلب شرح لشئ ما له، وصَدْرِي: يفيد تفسيره، ومنه باب نعم على أحد القولين؛ إذ لو أريد الاختصار، لكفى: نعم زيد خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإطناب: ص: (والإطناب إما بالإيضاح بعد الإبهام إلى آخره). (ش): الإطناب يكون بأحد أمور: إما بالإيضاح بعد الإبهام أى: أسبابه قصد الإيضاح، والباء فى قوله: بالإيضاح للسببية أى: إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى فى صورتين مختلفتين بالإبهام والإيضاح، أو ليتمكن المعنى فى النفس فضل تمكن أى: تمكنا زائدا، أو لتكمل لذة العلم به، لأن الشئ إذا علم من وجه ما، تشوقت النفس للعلم به من باقى الوجوه دفعة واحدة. ومثال الإيضاح بعد الإبهام. رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فإن قوله: اشرح لى يفيد طلب شرح شئ ما له، وقوله:" صدرى" يفيد تفسيره وبيانه، وكذلك: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (¬2) والمقام يقتضى التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد، وكذلك قوله سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (¬3) فإن المقام يقتضى التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم، وكذلك: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (¬4). (قلت): وفيه نظر من وجهين: الأول - أن هذا يستلزم أن يكون كل مفعول بيانا بعد إبهام، ويكون الإطناب موجودا حيث وجد المفعول، وهذا لا يتخيله أحد. الثانى - أن الإطناب ما لو زال، لرجع الكلام إلى المساواة، والمفعول هنا لو لم يذكر رجع الكلام إلى الإيجاز، فدل ذلك على أن اشرح لى صدرى مساواة. وإنما ذكر المفسرون ذلك فى قوله سبحانه: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فقال كثير ¬

_ (¬1) سورة طه: 25. (¬2) سورة طه: 26. (¬3) سورة الشرح: 1. (¬4) سورة الحجر: 66.

ووجه حسنه - سوى ما ذكر -: إبراز الكلام فى معرض الاعتدال، وإيهام الجمع بين المتنافيين. ومنه التوشيع (¬1)، وهو: أن يؤتى فى عجز الكلام بمثنّى مفسّر باثنين، ثانيهما معطوف على الأول؛ نحو: (يشيب ابن آدم ويشبّ معه خصلتان: الحرص، وطول الأمل) (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم إنه منصوب على التمييز؛ لإشعار الكلام (¬3) الذم على ما يقع به من شرح من الكفر كيف كان الذم بالقول وغيره فحسن إبهام الشرح، ثم تبيينه بالمصدر. ثم مثل للإيضاح بعد الإبهام بباب نعم وبئس على القول: بأن المخصوص خبر مبتدأ. (قلت): أو مبتدأ خبره محذوف، والألف واللام فى الفاعل للجنس، فإنه حصل التبيين بقوله: زيد بعد الإبهام بقوله: نعم الرجل. أما إذا قلنا: نعم الرجل خبر مقدم، فإنه لم يحصل إبهام ثم تبيين؛ لأنه كلام واحد مبين، غايته أن فيه تقديم المسند على المسند إليه. قال: إذ لو أريد الاختصار لكفى نعم زيد. (قلت): نعم زيد مساواة لا اختصار ثم قال: (ووجه حسنه) أى حسن الإيضاح بعد الإبهام فى باب نعم. (سوى ما ذكر) من الفوائد أمران: أحدهما: إبراز الكلام فى معرض الاعتدال أى: التوسط، فإن نعم الرجل زيد متوسط بين الإطناب الزائد بأن تقول: هو زيد. والإيجاز بأن تقول: نعم زيد الثانى إيهام الجمع بين متنافيين وهما الإطناب والإيجاز. فربما أوهم أنه جمع بين متنافيين، وليس كذلك. فإن قلت: الإيجاز والإطناب متنافيان قطعا. قلت: نعم، ولكنه جمع بينهما فى محلين؛ فلهذا، ينبغى أن يقول: إيهام الجمع بينهما فى محل باعتبار واحد، أما جمعهما فى محل واحد باعتبار واحد فمحال. وقد يرد على المصنف أن إيهام الجمع بين متنافيين دخل فى قوله ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين قال: (ومنه) أى: من الإيضاح بعد الإبهام: (التوشيع) وهو فى اللغة: لف القطن بعد الندف. وفى اصطلاحهم: أن يؤتى فى عجز الكلام، أى: ¬

_ (¬1) التوشيع فى اللغة: لفّ القطن المندوف، وهو فى الاصطلاح على ما ذكر:،، أن يؤتى فى عجز الكلام بمثنى ... إلخ،،. (¬2) الحديث رواه مسلم والترمذى وابن ماجه عن أنس بلفظ: (ابن آدم ... الحديث). (¬3) قوله لإشعار الكلام إلخ كذا فى أصله وهو سقيم ولتحرر العبارة اه كتبه مصححه.

وإما بذكر الخاصّ بعد العامّ؛ للتنبيه على فضله؛ حتى كأنه من جنسه؛ تنزيلا للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الذات؛ نحو: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ آخره، بمثنى مفسر باسمين ثانيهما معطوف على الأول، نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم:" يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل" (¬2)، ولك أن تقول: كل مثنى أو جمع ذكر ثم فصل، سواء أكان فى أول الكلام أو آخره، يحصل به الإيضاح بعد الإبهام فما الذى خص آخر الكلام دون أوله وأوسطه؟ وما الذى خص المثنى دون المجموع؟ وهل هذا غير اللف والنشر الذى سيأتى فى البديع؟ ص: (وإما بذكر الخاص إلى آخره). (ش): من أسباب الإطناب إيراد الخاص بعد العام، ويؤتى به للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتغاير فى الوصف فيما حصل به للخاص التمييز عن غيره؛ بمنزلة التغاير فى الذات على الأسلوب الذى سلكه المتنبى فى قوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال (¬3) وهذا بناء على الراجح عند الأصوليين من أن عطف الخاص على العام ليس بتخصيص. وقيل: هو تخصيص؛ فإن العطف عليه يبين أن هذا الخاص لم يرد بالأول، ومثله المصنف بذكر جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسّلام، بعد ذكر الملائكة - صلى الله عليهم وسلم - فى قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ (¬4) تنبيها على زيادة فضلهما. وعبارة المصنف أحسن من قول غيره فى الآية، أنه عطف فيها الخاص على العام؛ لأن جبريل ليس معطوفا على الملائكة، بل إما على لفظ الجلالة؛ أو على الرسل، والمراد بهم رسل بنى آدم. والمثال الثانى قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ومثله فى الإيضاح أيضا بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 238. (¬2) أخرجه بنحوه البخارى فى" الرقاق"، باب: من بلغ ستين فقد أعذر الله إليه فى العمر، (11/ 243)، (ح 6420)، (6421)، ومسلم فى" الزكاة"، (ح 1047). (¬3) البيت من الوافر: وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه 2/ 16، وأسرار البلاغة ص 95، رشيد رضا، والإشارات ص 187. (¬4) سورة البقرة: 98.

وإما بالتكرير لنكتة؛ كتأكيد الإنذار فى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (¬1)، وفى ثمّ دلالة على أن الإنذار الثانى أبلغ. ـــــــــــــــــــــــــــــ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ (¬2) فإن الأمر بالمعروف خاص بالنسبة إلى الدعاء إلى الخير. وفيه نظر؛ لأنه من ذكر الأخص الذى هو الجزء الإضافى بعد الأعم، الذى هو الكلى، لا من ذكر الخاص الذى هو فرد بعد العام الذى هو متعدد، وقد قدمنا ذلك فى شرح خطبة الكتاب. ص: (وإما بالتكرير إلى آخره). (ش): من أسباب الإطناب إرادة التكرير لنكتة أى: فائدة، وتلك الفائدة إما تأكيد الإنذار، كقوله سبحانه وتعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وفى ثم تنبيه على أن الإنذار الثانى أبلغ من الأول، كذا قاله الزمخشرى. وسره أن فيها تنبيها على أن ذلك تكرر مرة بعد أخرى، وإن تراخى الزمان بينهما، ومن شأن ذلك أنه لا يكون إلا فى شئ لا يقبل أن يتطرق عليه تغيير، بل هو مستمر على تراخى الزمان. وذكر الإنذار هنا بحسب المثال وإلا فتأكيد كل شئ كذلك، كقوله سبحانه وتعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (¬3) وقد قدمنا فى باب الفصل والوصل تحقيقا فى هذا المكان، وهل هذا إنذار مؤكد أو إنذاران، لا بأس بمراجعته. زاد فى الإيضاح أن التكرير قد يكون لزيادة التنبيه على ما ينفى التهمة؛ ليكمل تلقى الكلام بالقبول، ومنه قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ (¬4) فإنه تكرر فيه النداء قال: وقد يكون لطول فى الكلام، كقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (¬5)، ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا (¬6) الآية. وقد يكون لتعدد المتعلق كما فى قوله سبحانه وتعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (¬7) فإنها وإن تعددت فكل واحد منها يتعلق بما قبله، وإن كان قيل: إن بعضها ليس بنعمة فليس من الآلاء. وجوابه: أن الزجر ¬

_ (¬1) سورة التكاثر: 3 - 4. (¬2) سورة آل عمران: 104. (¬3) سورة الانفطار: 17، 18. (¬4) سورة غافر: 38، 39. (¬5) سورة النحل: 119. (¬6) سورة النحل: 110. (¬7) سورة الرحمن: 13.

وإما بالإيغال؛ فقيل: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها؛ كزيادة المبالغة فى قولها [من البسيط]: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به … كأنّه علم فى رأسه نار ـــــــــــــــــــــــــــــ والتحذير نعمة. وبما ذكرناه تعلم الحكمة فى كونها زادت عن ثلاثة، ولو كان عائدا لشئ واحد، لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يبلغ أكثر من ثلاثة، كذا قال ابن عبد السّلام وغيره. فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب، بل هى ألفاظ كل أريد به غير ما أريد بالآخر. (قلت): إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر، ولكن كرر ليكون نصا فيما يليه، وظاهرا فى غيره. فإن قلت: يلزم التأكيد. قلت: والأمر كذلك، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به على ثلاثة؛ لأن ذلك فى التأكيد الذى هو تابع، أما ذكر الشئ فى مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. ص: (وإما الإيغال). (ش): أى: يقع الإطناب بالإيغال من أوغل إذا أمعن. واختلف فيه، فقيل: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، كزيادة المبالغة فى قول الخنساء: وإنّ صخرا لتأتم الهداة به … كأنّه علم فى رأسه نار (¬1) فإنها لم ترض أن تشبهه بالعلم الذى هو الجبل الذى يأتم الهداة به، حتى جعلت فى رأسه نارا. (قلت): وفيه نظر؛ لأن الإطناب: تأدية المراد بزيادة لفظ، والمراد من التشبيه بعلم فوقه نار، غير المراد من التشبيه بالعلم فقط، فلم يحصل بقولها: فوقه نار إطناب. ولو كان هذا إطنابا لكان ذكر الصفة المخرجة فى قولك: أكرم رجلا عالما إطنابا، إلا أن يقال: لم يرد إلا مطلق الهداية، وفيه بعد. وهذا قريب مما سبق فى قول المتنبى: ولا خير فيها للشجاعة والندى (¬2) ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو للخنساء فى ديوانها ص 386، وجمهرة اللغة ص 948، وتاج العروس 10/ 292 (صخر)، ومقاييس اللغة 4/ 109. (¬2) البيت من الطويل وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (2/ 73) الكتب العلمية، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 43.

وتحقيق التشبيه فى قوله (¬1) [من الطويل]: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا … وأرحلنا الجزع الّذى لم يثقّب وقيل: لا يختصّ بالشعر؛ ومثّل بقوله تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك تكون النكتة تحقيق التشبيه فى قول امرئ القيس: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا … وأرحلنا الجزع الّذى لم يثقّب (¬3) (قلت): وفيه النظر السابق، فإن المعنى لا يتم بدونه، لأن الذى لم يثقب، لم يتم المعنى بدونها لأنها مقصودة فى التشبيه. أو يقال: أريد بقوله: الجزع غير المثقب، فيكون قسما من الإيضاح بعد الإبهام لا قسيما. ثم نقول: ليس إيضاحا بعد إبهام؛ لأن الإيضاح بعد الإبهام أن يقصد الإبهام أولا، ثم يقصد الإيضاح لغرض الإبراز فى صورتين. وهذا أريد بالجزع فيه غير المثقب، ثم اقتصر عليه، فكان إيجازا. فلما قال: لم يثقب، صار مساواة. وقيل: إن الإيغال لا يختص بالشعر، كذا عبارة المصنف. والصواب: لا يختص به الشعر، فعلى هذا يرسم بأنه ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، كقوله سبحانه: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (¬4) لأن المقصود حث السامعين على الاتباع، ففى وصفهم بالثانى زيادة مبالغة على اتباع الناس لهم، من ذكر كونهم مرسلين. (قلت): وإذا كان الإيغال، إما زيادة المبالغة، أو تحقيق التشبيه، فما الموجب للقول بأنه لا يكون إلا فى الشعر؟ وهلا قطع بكونه فى الشعر والنثر؛ لأن فى القرآن من ذلك ما لا يكاد ينحصر؟ إلا أن هذا اصطلاح لا مشاحة فيه. ¬

_ (¬1) الجزع: الخرز اليمانى الذى فيه سواد وبياض. (¬2) سورة يس: 21. (¬3) البيت من الطويل وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 53، ولسان العرب 8/ 48 (جزع)، وأساس البلاغة ص 58، (جزع)، وكتاب العين 1/ 216، وتاج العروس 20/ 434 (جزع). (¬4) سورة يس: 20، 21.

وإما بالتذييل؛ وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها للتأكيد، وهو ضربان: ضرب لم يخرّج مخرج المثل؛ نحو: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (¬1) على وجه. وضرب أخرج مخرج المثل؛ نحو: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وإما بالتذييل إلى آخره). (ش): يكون الإطناب بالتذييل، وهو أن يأتى بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، وهو ضربان: ضرب منه لا يستقل بنفسه بإفادة المراد، بل يتوقف فى إعادته على ما قبله، كقوله تعالى: جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ يجازى إِلَّا الْكَفُورَ (قوله: على وجه) أى: إنما تكون هذه الآية مثالا على وجه، وهو أن المعنى: وهل يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور؟ وقال فى الإيضاح: وذكر الزمخشرى فيه وجها آخر أن الجزاء فيه عام لكل مكافأة يستعمل تارة فى معنى المعاقبة، وأخرى فى معنى الإثابة. فلما استعمل فى معنى المعاقبة فى قوله سبحانه: جَزَيْناهُمْ بمعنى: عاقبناهم قيل: وهل يجازى إلا الكفور، بمعنى: وهل يعاقب؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثانى. (قلت): فيما قاله المصنف نظر؛ لأن:" وهل يجازى إلا الكفور" على التقديرين من الضرب الأول؛ لأنها لا تستقل بنفسها. إما لأن المراد وهل يجازى ذلك الجزاء أى: العقاب الأشد على الأول، وإما وهل يجازى ذلك الجزاء الذى هو العقوبة. فالذى قاله المصنف لا وجه له؛ ولهذا قال الزمخشرى بعد ذكر الوجه الثانى: إنما أراد الجزاء الخاص، وهو العقاب. والضرب الثانى ما خرج مخرج المثل لاستقلاله بنفسه كقوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. (قلت): وقد يقال: ليس هذا إطنابا؛ لأن فى الثانية شيئا مرادا لم تتضمنه الأولى، وهو كون الباطل زهوقا، وهو يعطى المبالغة؛ لكونه اسما يدل على الثبوت، ولصيغته ¬

_ (¬1) سورة سبأ: 17. (¬2) سورة الإسراء: 81.

وهو - أيضا - إمّا لتأكيد منطوق؛ كهذه الآية. وإما لتأكيد مفهوم؛ كقوله [من الطويل]: ولست بمستبق أخا لاتلمّه … على شعث أىّ الرّجال المهذّب (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو فعول الدالة على المبالغة، فقد اشتملت على معنى زائد، لا على معنى الأولى فقط. قال المصنف فى الإيضاح: وقد اجتمع الضربان فى قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (¬2) فإن: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ من الأول وكُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ من الثانى. ثم قال: (وهو أيضا) أى والتذييل أو الضرب الثانى، وفيه بعد؛ لأن الضرب الأول تطرقه هذا التقسيم أيضا، إما لتأكيد مفهوم كقول النابغة الذبيانى: ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أىّ الرّجال المهذّب (¬3) لأن صدر البيت دل بمفهومه على نفى الكامل، فحقق ذلك بقوله: أى الرجال المهذب؟ لأنه استفهام بمعنى النفى. (قلت): وفى دعوى أن صدره دل على نفى الكامل بالمفهوم نظر؛ لأن معنى النصف الأول: لا يدوم لك ود من لا تلم شعثه، سواء أكان له شعث، أو لم يكن، بل كان كاملا. فكأنه قال: من لم ترض بعيوبه، لا يحصل لك وده. وذلك لا يلزم منه، أنه لا وجود للكامل. ¬

_ (¬1) البيت للنابغة ديوانه ص 66، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 160 وهو من قصيدة يعتذر فيها للنعمان بن المنذر ويمدحه مطلعها: أتانى - أبيت اللعن - أنك لمتنى * … وتلك التى أهتم منها وأنصب الشعث: التفرق وذميم الخصال. (¬2) سورة الأنبياء: 34، 35. (¬3) البيت من الطويل وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 28، ولسان العرب 2/ 161 (شعث)، 14/ 81 (بقى)، وتهذيب اللغة 1/ 406، 6/ 266، 9/ 348، وكتاب العين 5/ 230، وجمهرة اللغة ص 308، وجمهرة الأمثال 1/ 188، وفصل المقال ص 44، والمستقصى 1/ 450، ومجمع الأمثال 1/ 23، ومقاييس اللغة 1/ 277، وأساس البلاغة ص 27 (بقى) وتاج العروس (بقى).

وإما بالتكميل، ويسمى الاحتراس - أيضا - وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه؛ كقوله من [الكامل]: فسقى ديارك غير مفسدها … صوب الرّبيع وديمة تهمى ونحو: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وإما بالتكميل إلى آخره). (ش): التكميل ويسمى الاحتراس أيضا، وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك التوهم. وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام أى: يقع بين المسند والمسند إليه، نحو قول طرفة يمدح قتادة: فسقى ديارك غير مفسدها … صوب الرّبيع وديمة تهمى (¬2) لأن قوله: فسقى ديارك صوب الربيع، يفهم منه أن المراد: سقاها ما لا يفسد؛ ولكن الإطلاق قد يوهم ما هو أعم، أو أنه دعاء عليه، فصرف هذا الوهم بقوله: غير مفسدها، ولهذا عيب على القائل: ألا يا اسلمى يا دارمىّ على البلى … ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (¬3) حيث لم يأت بهذا القيد، والعيب عليه عيب؛ لأن البيت موافق لقوله سبحانه وتعالى: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (¬4) وضرب يقع فى آخره، كقوله سبحانه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ لنفى ذلك، لا يقال: أعزة على ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 54. (¬2) البيت من الكامل وهو لطرفة بن العبد فى ديوانه ص 88، وتخليص الشواهد ص 231، والدرر 4/ 9، ومعاهد التنصيص 1/ 362، وبلا نسبة فى لسان العرب 15/ 365 (همى)، وهمع الهوامع 1/ 241. (¬3) البيت من الطويل هو لذى الرمة فى ديوانه ص 559، والإنصاف 1/ 100 وتخليص الشواهد ص 231، 232، والخصائص 2/ 287، والدرر 2/ 44، 4/ 61، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغنى 2/ 617، والصاحبى فى فقه اللغة ص 232، واللامات ص 37، ولسان العرب (يا) ومجالس ثعلب 1/ 42، والمقاصد النحوية 2/ 6، 4/ 285، وبلا نسبة فى أوضح المسالك 1/ 235، وجواهر الأدب ص 290، والدرر 5/ 117، وشرح الأشمونى 1/ 178، وشرح ابن عقيل ص 136، وشرح عمدة الحافظ ص 199، وشرح قطر الندى ص 128، ولسان العرب 15/ 434 (ألا)، ومغنى اللبيب 1/ 243، 1/ 111، 2/ 4، 70. (¬4) سورة هود: 52.

وإما بالتتميم، وهو أن يؤتى فى كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة، لنكتة؛ كالمبالغة؛ نحو: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ (¬1) فى وجه، أى: مع حبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكافرين، أفاد معنى جديدا؛ لأن القول هو إطناب لما قبله من حيث رفع توهم غيره، وإن كان له معنى فى نفسه. ص: (وإما بالتتميم إلى آخره). (ش): التتميم: أن يؤتى فى كلام لا يوهم غير المراد بفضلة تفيد نكتة، كالمبالغة فى نحو قوله سبحانه وتعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ فى وجه أى: مع حبه، والضمير للطعام أى: مع اشتهائه، وكذلك: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ (¬2) وقيل: المراد على حب الله، فلا يكون مما نحن فيه؛ لأن الإطعام على حب الله، ليس أبلغ من الإطعام لا بهذا القيد. (قلت): فيه نظران: أحدهما - أنه قد يقال: إن على حبه يفيد فائدة زائدة، وهى الإطعام مع الحب. فإما أن يقال: ليس هذا مبالغة، بل تضمن فائدة جديدة؛ لأن مطلق الإطعام لم يفده بهذا القيد، إلا أن يجاب بأن إفادته إفادة جديدة، لا ينافى أنه إطناب لما قبله، وإما أن يقال: مطلق الإطعام يحتمل أن يكون مع حبه أولا، فهو يوهم أن لا يكون مع الحب، وهذا احتمال مساو، والوهم يحصل بالمساوى، بل بالمرجوح، وحينئذ فيكون من قسم التكميل. وليت شعرى: أى فرق فى اللغة بين التكميل والتتميم وهما شئ واحد؟ والثانى - أن هذا قريب من الإيغال، أو هو هو، على أنه يمكن أن يقال: فرق بين التكميل والتتميم لغة، فالتكميل استيعاب الأجزاء التى لا توجد الماهية المركبة إلا بها. والتتميم قد يكون بما وراء الأجزاء من زيادات يتأكد بها ذلك الشئ الكامل، ويستأنس لذلك بقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (¬3) أى لم تنقص أجزاؤها وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (¬4) روى إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك، وهو وصف فيه زيادة على الأجزاء فإن ماهيتى الحج والعمرة توجدان دونه، وقد جمع بينهما فى قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الإنسان: 8. (¬2) سورة البقرة: 177. (¬3) سورة البقرة: 196. (¬4) سورة البقرة: 196.

وإما بالاعتراض، وهو أن يؤتى فى أثناء كلام أو بين كلامين متصلين [ب] معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب، ـــــــــــــــــــــــــــــ عْمَتِي (¬1) لما كانت أركان الدين وجد منها الجزء الأخير إذ ذاك، استعمل فيه لفظ الكمال. ولما كانت نعم الله حاصلة للمؤمنين قبل ذلك اليوم غير ناقصة، استعمل فيها الإتمام لأنه زيادة على نعم الله التى كانت قبل ذلك كاملة. فإن تم هذا، ظهر وجه تسمية الأول بالتكميل؛ لأنه يدفع إيهام غير المراد، وذلك كالجزء من المراد، لأن الكلام إذا أوهم خلاف المراد، كان كالذى دلالته ناقصة بخلاف التتميم. ص: (وإما بالاعتراض إلى آخره). (ش): الإطناب يكون أيضا بالاعتراض فى أثناء كلام، أو بين كلامين متصلين معنى أى: يكون اتصالهما معنويا، سواء أكان لفظيا، أو لا بجملة، أو أكثر، لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام أى: الذى ذكر فى التكميل. وقول المصنف: (لا محل لها من الإعراب) اعتراض، وتقرير كلامه بجملة لا محل لها من الإعراب، أو أكثر كذلك وكون الواقع بين الكلامين المتصلين معنى لا لفظا جملة اعتراضية هو اصطلاح أهل المعانى، لنظرهم إلى المعنى. أما النحاة فلا يسمونها اعتراضية، حتى يكون ما قبلها وما بعدها، بينهما اتصال لفظى. والزمخشرى يكثر منه ذكر الاعتراض فى شئ بين كلامين، بينهما اتصال معنوى، فيعترض عليه النحاة، بأنه ليس ذلك باعتراض. ولا اعتراض عليه، لأنه يمشى على اصطلاح أهل هذا العلم ما أمكنه. وقول المصنف: (أو أكثر) هو صحيح فيما وقع بين كلامين بينهما اتصال معنوى فقط. فإن كان بينهما اتصال لفظى، فكذلك عند الجمهور، خلافا لأبى على، ودليل الجواز قول زهير: لعمرك والخطوب مغيرات … وفى طول المعاشرة التغالى لقد باليت مظعن أمّ أوفى … ولكنّ أمّ أوفى لا تبالى (¬2) ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) البيتان من الوافر: وهما لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 342، وكتاب العين 1/ 248، وشرح شواهد المغنى 2/ 821، واللامات ص 84، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب 2/ 395.

لنكتة سوى دفع الإيهام؛ كالتنزيه فى قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (¬1)، والدعاء فى قوله [من السريع]: إنّ الثّمانين وبلّغتها … قد أحوجت سمعى إلى ترجمان (¬2) والتنبيه فى قوله (¬3) [من الكامل أو السريع]: واعلم فعلم المرء ينفعه … أن سوف يأتى كلّ ما قدرا ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا عند النحاة، وسنتكلم عليه آخر الكلام - إن شاء الله تعالى - وأما البيانيون فاعتراض أكثر من جملتين عندهم إذا لم يكن بين الكلام اتصال لفظى، فإنه الاعتراض عنده. ثم أخذ المصنف فى تفصيل نكت الاعتراض، فقال: كالتنزيه أى: إرادة تنزيه الله سبحانه وتعالى فى قوله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ فسبحانه هنا تضمنت تنزيها لله تعالى عن البنات. وكالدعاء فى قول عوف بن محلم الشيبانى: إنّ الثّمانين وبلّغتها … قد أحوجت سمعى إلى ترجمان وينبغى أن يذكر نكتة اقتضت الإطناب فإرادة التنزيه فى سبحانه تقضى بشناعة جعل البنات لله تعالى، ففيه تأكيد وتسديد. والدعاء بالثمانين فيه تأكيد لتحقيق مقالته؛ لأنه إذا بلغ الثمانين صدقه فى احتياج سمعه إلى ترجمان. وإن كان قيل: إن هذه الجملة، ليس فيها تسديد للكلام، إلا بهذه الطريق الموهمة للدعاء عليه بالصيرورة إلى ضعف سمعه، واحتياجه لترجمان. وهذا سؤال ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السّلام، ورأيت التنوخى سبقه إليه. وبالجملة ما اقتصر المصنف عليه من إرادة التنزيه والدعاء، لا يقضى بالاعتراض إلا بهذه الضميمة. وكالتنبيه فى قول الشاعر: واعلم فعلم المرء ينفعه … أن سوف يأتى كلّ ما قدرا (¬4) ¬

_ (¬1) سورة النحل: 57. (¬2) البيت لعوف بن محلم الشيبانى أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 163. (¬3) أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 163. (¬4) البيت من الكامل، وهو بلا نسبة فى الدرر 4/ 30، وشرح شواهد المغنى 2/ 828، وشرح ابن عقيل ص 195، ومعاهد التنصيص 1/ 377، ومغنى اللبيب 2/ 398، والمقاصد النحوية 2/ 313، وهمع الهوامع 1/ 348.

ومما جاء بين كلامين وهو أكثر من جملة: قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (¬1)؛ فإن قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ بيان لقوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ وينبغى أن يقال: النكتة أن الإخبار بأن علم المرء ينفعه فيه تأكيد لامتثال الأمر فى قوله: اعلم. زاد المصنف فى الإيضاح: أنه قد يكون لتخصيص أحد مذكورين بزيادة التأكيد فى أمر علق بهما، نحو: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ (¬2) أو للاستعطاف، كقول المتنبى: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه … يا جنتى، لرأيت فيه جهنما (¬3) أو التنبيه على سبب أمر غريب، كقول الشاعر: فلا هجره يبدو وفى اليأس راحة … ولا وصله يبدو لنا فنكارمه فإن قوله: فلا هجره يبدو يشعر بطلب هجر الحبيب، وهو مستغرب حتى ذكر سببه، وهو أن اليأس راحة فهى المطلوبة، لا أن الهجر نفسه مقصود، وفيه نظر. قد يقال: إن هذا من قسم التكميل؛ لأن فيه دفع إيهام أن يكون الهجر لنفسه مقصودا، ثم قال المصنف: ومما جاء بين كلامين، وهو أكثر من جملة أيضا، قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فإن قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ متصل بقوله: فَأْتُوهُنَّ لأنه بيان له. (قلت): وفى قول المصنف: أن فيه اعتراض أكثر من جملة نظر؛ لأن المراد بقولنا أكثر من جملة: أن لا تكون إحداهما معمولة للأخرى، وإلا فهما فى حكم جملة واحدة. وقوله تعالى: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ خبر إن (¬4)، فلا يكون مع ما قبله جملتين معترضتين، وكذلك قوله تعالى: يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ معطوف على الخبر، وفيما ذكره المصنف شبه من قول الزمخشرى فى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (¬5) إن فى هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 222 - 223. (¬2) سورة لقمان: 14. (¬3) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان 2/ 328. (¬4) لعله مقدم عن محله والظاهر أنه بعد على الخبر اه. كتبه مصححه. (¬5) سورة الأعراف: 96.

وقال قوم: قد تكون النكتة فيه غير ما ذكر. ـــــــــــــــــــــــــــــ جملة الشرط، واتقوا، وفتحنا، وكذبوا، وأخذناهم، وكانوا يتقون. هكذا نقل عنه أبو حيان، وابن مالك، ولم أره فى كلام الزمخشرى، وفيه نظر، أما على قواعد هذا العلم، فينبغى أن يعد هذا كله جملة واحدة لارتباط بعضه ببعض. وأما على رأى النحاة فينبغى أن يكون: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا جملة واحدة؛ لأن جملة" واتقوا" معطوف على خبر أن، و" لفتحنا" جملة ثانية. أو يقال: هما جملة واحدة، لارتباط الشرط بالجزاء لفظا، ولكن كذبوا ثانية، أو ثالثة، و" أخذناهم" ثالثة، أو رابعة. و" بما كانوا يكسبون" متعلق بأخذناهم، ولا يعد اعتراضا. نعم جوزوا فى قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ (¬1) أن تكون حالا من قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (¬2) فيلزم أن يكون اعترض فيه بسبع جمل مستقلات إن كان" ذواتا أفنان" خبر مبتدأ محذوف، وإلا فيكون ست جمل وهذا مثال حسن لا غبار عليه، ومن أحسن ما يمثل به اعتراض أكثر من جملة على قاعدة هذا العلم قوله تعالى: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (¬3) فإنها ثلاث جمل معترضة، بين: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقوله سبحانه وتعالى: وَقِيلَ بُعْداً وفيه اعتراض فى اعتراض، فإن:" وقضى الأمر" معترض بين:" غيض الماء" وبين" استوت". ولا مانع من وقوع الاعتراض فى الاعتراض عند البيانيين، بل على قواعد النحاة أيضا، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (¬4) فهذا اعتراض فى اعتراض نحوى، والذى قبله اعتراض فى اعتراض بيانى. ثم قال المصنف: وقال قوم قد تكون النكتة فيه أى الاعتراض غير ما ذكر، بأن يراد به دفع توهم ما يخالف المقصود، ثم هؤلاء فرقتان: جوز بعضهم وقوعه آخر الكلام، أى فى آخر جملة لا يليها جملة أخرى متصلة بها معنى. أما لأنها ليس بعدها شئ، أو لأن بعدها ما لا يتصل بما قبلها. قال المصنف: وبهذا يشعر كلام الزمخشرى فى مواضع من كشافه، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل. (قلت): قوله: يشمل التذييل فيه نظر؛ فإنه إنما يشمل من التذييل على هذا ما لا محل له من الإعراب، والتذييل قد يكون له محل، فإن المصنف مثل له فى الإيضاح بقول أبى الطيب: وما حاجة الأظعان حولك فى الدّجى … إلى قمر ما واجد لك عادمه ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 54. (¬2) سورة الرحمن: 46. (¬3) سورة هود: 44. (¬4) سورة الواقعة: 76.

ثم جوّز بعضهم وقوعه آخر جملة لا تليها جملة متصلة بها؛ فيشمل التذييل، وبعض صور التكميل. وبعضهم كونه غير جملة؛ فيشمل بعض صور التتميم والتكميل. وإما (¬1) بغير ذلك؛ كقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ (¬2)؛ فإنه لو اختصر، لم يذكر: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ لأن إيمانهم لا ينكره من يثبتهم، وحسّن ذكره إظهار شرف الإيمان؛ ترغيبا فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ما واجد لك عادمه، جملة لها محل الجر على النعت لقمر، وأما قوله تعالى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (¬3) فلا محل لها باعتبار الكلام المحكى، وإن كان لها محل النصب بالقول، فلا اعتبار بذلك فيما نحن فيه. ثم قال المصنف: وبعض صور التكميل، أى: يشمل من التكميل ما لا محل له من الإعراب، ولا يشمل ما له محل؛ لأن الاعتراض لا محل له. قال فى الإيضاح: ويباين التتميم؛ لأن التتميم كما سبق فضلة، والفضلة لا بد أن يكون لها محل من الإعراب، وأن شرطنا فى التتميم أن لا يكون جملة ما وضح لكن ليس فى كلامه تصريح باشتراط أن يكون مفردا. (قوله: وبعضه) أى وبعضهم جوز أن يكون الاعتراض غير جملة. كذا أطلقه هنا، وقيده فى الإيضاح بأن يكون فى أثناء الكلام. وعلى هذا القول يشمل الاعتراض بعض صور التتميم، وهو ما كان واقعا فى أثناء كلام، أو بين كلامين متصلين. ويشمل بعض التكميل، وهو الضرب الأول منه إذا لم يكن له محل، جملة كان، أم أقل أم أكثر. قال فى الإيضاح: ويباين التذييل (¬4). وفيه نظر؛ لأن التذييل ليس من شرطه أن لا يكون بعده كلام آخر، له اتصال معنوى بما قبله. ص: (وإما بغير ذلك). (ش): أى: يكون الإطناب بغير المذكور كقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن إيمانهم ليس مما ينكره أحد. وحسن ذكره إظهار شرف الإيمان؛ ترغيبا فيه. ¬

_ (¬1) وقوله: وإما بغير ذلك عطف على قوله: إما بالإيضاح بعد الإبهام فى أول حديث المصنف عن الاطناب. (¬2) سورة غافر: 7. (¬3) سورة الإسراء: 81. (¬4) قوله: قال فى الإيضاح: ويباين إلخ ليس فيما بيدنا من ننسخه.

واعلم: أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلّتها، بالنسبة إلى كلام آخر مساو له فى أصل المعنى؛ كقوله [من الطويل]: يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سؤدد … ولو برزت فى زىّ عذراء ناهد (¬1) وقوله [من الطويل]: ولست بنظّار إلى جانب الغنى … إذا كانت العلياء فى جانب الفقر (¬2) ويقرب منه قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (واعلم أنه قد يوصف الكلام إلى آخره). (ش): قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب معا باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر، يحتمل أن يريد بالنسبة إلى كلامين آخرين مساويين له فى المعنى، حتى يكون موجزا بالنسبة إلى أحدهما، مطنبا بالنسبة إلى الآخر، كقول أبى تمام: يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سؤدد … ولو برزت فى زىّ عذراء ناهد فإن البيت فيه إطناب بنصفه الثانى، وفيه إيجاز بنصفه الأول، لأنه يعطى معنى ما جعله أبو على الحسن الكاتب فى بيت، وهو: ولست بنظّار إلى جانب الغنى … إذا كانت العلياء فى جانب الفقر ويحتمل أن يريد أن الكلامين يعتبر أحدهما بالآخر من غير اعتبار كلام الأوساط، بل الأقل. وكان المصنف مستغنيا عن ذكر هذا بقوله فيما تقدم عن السكاكى، أن الاختصار قد يكون باعتبار أن الكلام خليق بأبسط منه، ثم قال المصنف: ويقرب منه قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ بالنسبة إلى قول الحماسى، وهو الجلاح عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثى: ¬

_ (¬1) البيت لأبى تمام. (¬2) البيت لأبى سعيد المخزومى. (¬3) سورة الأنبياء: 23.

وقول الحماسى [من الطويل]. وننكر إن شئنا على النّاس قولهم … ولا ينكرون القول حين نقول (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ وننكر إن شئنا على النّاس قولهم … ولا ينكرون القول حين نقول وقد عزى هذا البيت للسموأل بن عاديا، قيل: ولا يصح، لأنه ورد فى هذه القصيدة: وما مات منا سيد حتف أنفه وقد أجمعوا على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يسبق إلى قوله: حتف أنفه، والسموأل جاهلى. فإن الآية الكريمة وجيزة. وإنما قال: يقرب منه، لأن الآية الكريمة فى السؤال، والبيت فى الإنكار، فلما لم يتواردا على شئ واحد، ولكن كان عدم السؤال يستلزم عدم الإنكار، كانت الآية الكريمة أبلغ فى الثناء، لاستلزامها ترك الإنكار من باب أولى والله أعلم. (تم الفن الأول ويليه الفن الثانى) ¬

_ (¬1) البيت للسموأل اليهودى.

الفن الثانى علم البيان

الفنّ الثانى علم البيان وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، بطرق مختلفة، فى وضوح الدّلالة عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (الفن الثانى فى علم البيان) ص: (وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه). (ش): قال جماعة: إن هذا العلم أخص من علم المعانى، وإن علم المعانى كالمفرد، والبيان كالمركب فإن صح على ما فيه من البحث، فهو متأخر عنه طبعا؛ فلذلك أخر عنه وضعا. وقوله: علم جنس، قال الشارح أى: بالقواعد، وفيه نظر، بل الأولى أن يجعل بمعنى المعلوم، وهى القواعد لدلالة كلامه وكلام غيره عليه. وقوله: (يعرف به) مميز له من غيره، والمراد بالطرق التراكيب، والمراد الدلالة العقلية لما سيأتى. وقوله: المعنى، الجمهور على أن المراد المطابق لمقتضى الحال، وقيل المراد: جنس المعنى، وقوله: فى وضوح الدلالة يتعلق بقوله: مختلفة الانقسام الوضوح إلى: قوى وأقوى وغيره، كما ستراه فى قولك: زيد كالبحر فى السخاء، وقولك: زيد كالبحر، وقولك: زيد بحر، وقولك: البحر زيد. (وهنا تنبيهات): الأول: ينبغى أن يقيده بالكلام العربى، كما قيده فى حد علم المعانى، وهو جزء بتعلقه بالكلام العربى، فالبيان الذى هو مركب كذلك، ولعله سكت عنه إحالة على ذلك. الثانى: أورد على هذا لحد أداء المعنى الركيك باللفظ الركيك، فالحد غير مانع. وأجيب بأن المراد بالمعنى: هو الذى تقتضيه الحال، أو نقول: ليس لنا علم يعرف به ضوابط الركاكة، بل ذلك يعلم من هذا العلم؛ لأن الشئ يعرف بضابط مقابله. ثم نقول: قوله: (فى وضوح الدلالة) يخرجه؛ لأن المراد مراتب الوضوح. ويشهد له قوله بعد ذلك: لم يكن بعضها أوضح من بعض. وبهذا يعلم أن قوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (فى وضوح الدلالة) ليس المراد وخفائها، بل الخفاء ليس بمراد، إنما الكلام فى طرق واضحة، بعضها أوضح من بعض، غير أنه يصدق على ما ليس أوضح، أنه خفى بالنسبة إلى الأوضح؛ فلذلك قال السكاكى: الوضوح والخفاء، وإنما يريد ما ذكرناه، بدليل قوله قبل ذلك: فى وضوح الدلالة عليه والنقصان، ويدل له أن ما ليس بواضح أصلا، ليس طريقا بليغا، فلا يكون مقاما بيانيا ولا فصيحا. الثالث: أورد أيضا علم الإعراب، فإنه كذلك فالحد غير مانع. وجوابه أنه خرج بقوله: (المعنى) إنما علم الإعراب يعرف به إيراد اللفظ، والمعنى تبع له، ثم بقوله: (بطرق مختلفة) فإن ذلك لا يطرد فى الإعراب. ولما ذكر السكاكى هذا الحد، ذكر عقبه: ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ فى مطابقة الكلام لتمام المراد منه. وقال الترمذى: إنه يخرج به علم الإعراب. وقال الكاشى: إنه لا يحترز به عن شئ وعلم الإعراب لا يرد؛ لأنه أحال هذا الحد على حد المعانى الذى ذكر فيه لفظ التتبع، وهو غير حاصل للعرب؛ فإنهم يتكلمون بطباعهم. (قلت): وهذا الجواب لا يصح؛ لأن النحاة يتتبعون تلك التراكيب. ثم لو صح لما كان جوابا عن المصنف؛ لأنه لم يرتض ذلك الحد، فحينئذ لعل الجواب ما ذكرناه. الرابع: قال جماعة كثيرة منهم السكاكى: هذا العلم أخص من علم المعانى، وأن هذا بمنزلة المركب، وذلك بمنزلة المفرد. وفيه نظر من وجوه، منها: أن الأعم موجود فى ضمن الأخص، فيلزم أن يذكر علم المعانى فى علم البيان، وليس الأمر كذلك. فإن قالوا: إن معرفته متوقفة على معرفة علم المعانى، فبينهما حينئذ تلازم لا أن أحدهما جزء الآخر. ثم لا نسلم أن علم البيان يتوقف على معرفة علم المعانى؛ لجواز أن يعلم الإنسان حقيقة التشبيه والكناية والاستعارة، وغير ذلك من علم البيان، ولا يعلم تطبيق الكلام على مقتضى الحال. فليس علم المعانى جزءا من البيان، ولا لازما له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن تطبيق الكلام على مقتضى الحال كالمادة، وهذه الطرق كالصورة، والمادة ليست جزءا للصورة. ومنها: أن ما سنذكر من الصور فيه تأكيد للتطبيق على مقتضى الحال، فليكن هذا العلم منزلا من ذلك منزلة التأكيد من التأسيس، لا منزلة الكل من الجزء. ومنها: أن المعنى الواحد إن أريد به أصل المعنى فهو حاصل فى قولك: جاء زيد، سواء أكان إنكاريا، أو ابتدائيا، أو طلبيا. وإن أريد المعنى الذى يقتضيه المقام، فقد يقال: إن علم البيان يعرف به تطبيق الكلام على مقتضى الحال، وإن علم المعانى يقصد به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة. أما الأول: فلأن ما بين قولك: زيد قائم، وإن زيدا قائم، وإن زيدا لقائم من التفاوت يضاهى ما بين قولك: زيد كالأسد، وزيد أسد، والأسد زيد من التفاوت. والمعنى فى كل منها متفاوت؛ بسبب التأكيد. فكما اختلف حال المنكر وغيره فى التأكيد بإن واللام، اختلف حاله مع غيره فى هذه الطرق المذكورة فى البيان. وأما الثانى: فلأن غالب علم المعانى، يعلم به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة فإن المجاز الإسنادى أوضح فى الدلالة من الحقيقة الإسنادية، فإن: عيشة راضية، أدل على رضا صاحبها من قولك: راض صاحبها، كما أن: زيد أسد، أدل من قولك: زيد كالأسد. وكذلك كل واحد من مقتضيات ما يتعلق بالمسند، أو المسند إليه من حذف، وذكر، وتقديم، وتأخير، وإتباع وغيره مما يطول ذكره. وكذلك الإيجاز، والإطناب، والمساواة إنما هى طرق مختلفة فى وضوح الدلالة. ولا شك أن الطرق البيانية مختلفة بالمبالغة وعدمها. فربما حصلت المبالغة بالإيجاز دون الإطناب، الذى هو أوضح. الخامس: قال السكاكى: فلما كان علم البيان شعبة من علم المعانى لا ينفصل عنه إلا بزيادة اعتبار كان كالمركب، وعلم المعانى كالمفرد. ثم إن بعضهم قال: معناه أن علم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ البيان باب من أبواب علم المعانى، وفصل من فصوله، وإنما أفرد كما يفرد علم الفرائض عن الفقه. وهذا الكلام فيه نظر؛ لأنه صرح بأن علم البيان مركب وعلم المعانى مفرد. والباب أو الفصل من العلم، كالفرائض ليس مركبا بالنسبة إلى العلم؛ لأن الفقه، مثلا إن كان اسما لجميع أبوابه على سبيل الكل المجموعى، فالفرائض جزء للفقه، فالفقه مركب لا باعتبار الأعم والأخص، بل باعتبار الجمع والمفرد. بخلاف علم المعانى؛ فإنه عندهم مفرد كالجنس، وعلم البيان مركب كالنوع. وإن كان الفقه مثلا كليا، يصدق على كل باب منه، وينفصل بعضها عن بعض بخاصية، فلا يصح أن يقال: إن حد المعانى يخرج حد البيان، كما فعلوه؛ لأن حد الجنس لا يجوز أن يكون مخرجا للنوع، كما أن حد الحيوان لا يجوز أن يخرج الإنسان. ولعل هذا القائل اغتر بقول السكاكى: شعبة منه، والشعبة كالباب. وغفل عن قوله: إنه منفصل عنه بزيادة اعتبار، فإنه إشارة إلى أنه ليس كالباب، بل كالنوع فإن الإنسان شعبة من الحيوان، ينفصل عنه بزيادة النطق. السادس: أورد بعض شراح المفتاح أن قولهم: فى وضوح الدلالة، لا ينبغى؛ فإن الوضوح ليس بمقصود، بل المقصود: الخفاء، فإنه كلما كان الكلام خفيا فى الدلالة، كان أبلغ. فلو قيل: فى خفاء الدلالة كان أقرب إلى الإشارة إلى اعتبارات الأبلغ. واعترض على هذا بالمنع، وبأن ذكر الوضوح، يستلزم ذكر الخفاء؛ لأن كل واضح، خفى بالنسبة إلى غيره وبالعكس، وبغير ذلك مما لا طائل تحته. والسؤال قوى فلذلك عبر الطيبى بالخفاء. السابع: لا شك أن الإيراد الواحد للمعنى الواحد بالطرق المختلفة لا يمكن. فلو قال المصنف: بإحدى طرق، لشمل الإيراد الواحد، وكان أحسن؛ لأن قوله: بطرق لا يتأتى إلا عند تعدد الإيراد. وليس القصد منحصرا فى ذلك. الثامن: أورد الترمذى على هذا الحد أنه يلزم عليه أن من عرف لمعنى واحد طرقا مختلفة يكون يعرف علم البيان. وليس كذلك؛ لأن هذا لآحاد العوام.

ودلالة اللفظ: إما على تمام ما وضع له، أو على جزئه، أو على خارج عنه. وتسمى الأولى وضعية، وكل من الأخيرتين عقليّة. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: ولا ينجى من ذلك، أن تكون الألف واللام للجنس؛ لأن الجنس يصدق فى فرد واحد، ولا للاستغراق، فإنه مستحيل؛ لأن المعانى لا تتناهى، فكيف تعلم كلها؟ وأجيب عنه بأن الأداة للاستغراق، ولا يلزم الإحاطة بتفاصيل المعانى غير المتناهية، فإنها تعلم بوجه كلى. التاسع: كان ينبغى أن يقول: فى إيضاح الدلالة؛ إذ هو فى الطرق والوضوح عند السامع. ص: (ودلالة اللفظ إلى آخره). (ش): وهى كون اللفظ، بحيث إذا أطلق، فهم منه المعنى من كان عالما بالوضع. وقيل: هى صفة للسامع. وهى إما على ما وضع له، أو على جزئه، أو على خارج. هذا تقسيم صحيح وذكروا للحصر أدلة، أصحها الاستقراء، ومراده على جميع ما وضع له، وبقوله: (على جزئه) أى: من حيث هو كذلك، وكذا قوله: (على خارج) فإن اللفظ قد يوضع للشئ ولبعضه، كالإمكان فإنه مشترك بين العام والخاص، والعام جزء الخاص. ونوزع فى هذا المثال، وقيل: إنه كل. ومثل بلفظ الحرف، فإنه اسم للشئ وبعضه، كليت فإن الحرف اسم لها ولبعضها، وللشئ ولازمه كالشمس للكوكب ولضوئه، والفعل فإنه اسم للمصدر، ولازميه المكان والزمان، ولا يحتاج أن نقول: فى المطابقة من حيث هو كذلك، كما صنع الخطيبى وجماعة؛ لما ذكرناه فى شرح المختصر. وهذا التقسيم يعم المفرد والمركب، إذا قلنا: إن المركبات موضوعة. وقد ذكرنا فى هذه المواضع مباحث شريفة فى شرح المختصر، فلتطلب منه. ص: (وتسمى الأولى وضعية وكل من الأخيرتين عقلية). (ش): يريد أن الذى يدل عليه بالوضع هو دلالة المطابقة، والأخريان بالعقل، بمعنى أن الواضع إنما وضعه؛ ليفيد جميع معناه، غير أن العقل اقتضى أن الشئ لا يوجد بدون جزئه ولازمه، وهذه طريقة بعضهم. وبعضهم يجعل الثلاثة وضعية، وبعضهم يجعل الأولى والثانية دون الثالثة، وهى طريقة الآمدى، وابن الحاجب، وصاحب البديع.

وتختصّ (¬1) الأولى بالمطابقة، والثانية بالتضمّن، والثالثة بالالتزام. وشرطه اللزوم الذهنى ولو لاعتقاد المخاطب بعرف عام أو غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا خلاف أن الدلالات الثلاث لفظيات، بمعنى أن للفظ فيها مدخلا، وهو شرط فى استفادتها منه. وإنما الخلاف فى أن اللفظ موضوع لها أو لا. (قلت): وعندى أن هذا الخلاف لا تحقيق له؛ لأنه إن عنى بالوضع، أنه بقيد الاقتصار، فلا خلاف أنه ليس كذلك. وإن عنى بقيد الانضمام، فلا خلاف أن الأمر كذلك. لم يبق إلا أن يقال: موضوع للهيئة الاجتماعية من الأجزاء أو لا. فعلى الأول، يكون الجزء كالشرط للموضوع، لا يلاقيه الوضع. وعلى الثانى بخلافه. ص: (وتقيد الأولى بالمطابقة، والثانية بالتضمن، والثالثة بالالتزام). (ش): سميت الأولى مطابقة؛ لتطابق اللفظ والمعنى، والثانية دلالة تضمن؛ لتضمن الكل لجزئه، والثالثة الالتزام؛ لما فيها من الاستلزام. ص: (وشرطه اللزوم الذهنى ولو لاعتقاد المخاطب لعرف أو غيره). (ش): الضمير عائد على الالتزام، والمراد دلالته، واللزوم الذهنى لا إشكال فى دلالة اللفظ عليه. وأما الخارجى فاختلف فى دلالة اللفظ عليه، فالمنطقيون يشترطون الذهنى؛ لأن الدلالة إما من وضع اللفظ، أو من انتقال الذهن إلى اللازم، وهما منتفيان فى الخارجى. ولا يشترطون الخارجى؛ لحصول الفهم دونه، كالعدم، والملكة مثل: دلالة العمى على البصر. وذهبت جماعة إلى اعتبار اللزوم مطلقا. قال فى الإيضاح: الخلاف فى ذلك بعيد، ولعل المانع إنما منع اشتراط اللزوم العقلى لا الذهنى. وقد أطلنا الكلام فى ذلك فى شرح المختصر. (قوله: ولو لاعتقاد المخاطب بعرف أو غيره) أى: لا يشترط اللزوم العقلى، الذى لا يتصور انفكاكه، بل لو اقتضى العرف العام أو الخاص ملازمة أمر لآخر، واطرد ذلك بحيث صار استحضار أحدهما مستلزما للآخر، كنفى ذلك فى اللزوم الذهنى. قال الشارح كان ينبغى أن يقول: لاعتقاد المتكلم لأن الملازمة من جهته. (قلت): ليس كذلك؛ بل الدلالة كون اللفظ، بحيث يفهم منه المخاطب ذلك. ثم من أين لنا أنه لم يقل: المخاطب بكسر الطاء؟ إلا أن كلامه فى الإيضاح يوضح إرادة السامع. ¬

_ (¬1) وفى بعض النسخ (وتقيد).

والإيراد المذكور لا يتأتّى بالوضعية؛ لأن السامع إذا كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح؛ وإلا لم يكن كل واحد منها دالّا عليه. ويتأتى بالعقلية؛ لجواز أن تختلف مراتب اللزوم فى الوضوح. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن اللزوم العرفى هو اصطلاح البيانيين، لاحتياجهم إلى ذلك فى الاستعارة، والكناية، والتشبيه. أما المنطقيون، فإنما يعتبرون اللزوم العقلى. (تنبيه): اعلم أن جعل اللازم إما عقليا، أو عرفيا، لا يتعدى إلى الجزء، بل الجزء لا بد أن يكون عقليا. فلو ظن أهل العرف أن شيئا جزء لشئ وليس جزأه، فهذا ظن كاذب لا عبرة به، بخلاف قولنا: لازم عرفى، فإن معناه: أن العرف قضى له بأن استحضار هذا يلزم منه استحضار ذلك، وإن لم يكن مجرد العقل يقتضى لزومه. نعم يمكن أن يقال: ما توهمه أهل العرف جزءا هو لازم ذهنى، أما جزء عرفى فلا. وإنما نبهت على هذا؛ لأن فى المفتاح، أن التعلق إما أن يكون باعتبار الجزء، أو اللزوم. ثم قال: لا يجب فى ذلك التعلق، أن يكون مما يثبته العقل فهذه العبارة ربما توهم أن التعلق بنوعيه، يمكن أن يكون عرفيا، كما توهم ذلك الخطيبى، وجعل كلام المصنف مخالفا له. وليس هذا مراده؛ لأنه قال فى آخر كلامه: وقد سبق أن اللزوم لا يجب أن يكون عقليا. فقد علمنا أن مراده بالتعلق الذى لا يجب أن يكون عقليا: تعلق اللازم، لا تعلق الجزء من حيث هو جزء، فليتأمل. (تنبيه): فسر اللزوم فى الإيضاح بأن يكون حصول ما وضع اللفظ له فى الذهن ملزوما لحصول الخارج عنه، لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر، لكون نسبة ذلك الخارج إليه وغيره على السواء. (قلت): قد يكون الترجيح بأكثرية الحضور، لا باللزوم. ص: (والإيراد المذكور، لا يتأتى بالوضعية؛ لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ، لم يكن بعضها أوضح، وإلا لم يكن كل واحد دالا عليه، ويتأتى بالعقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم فى الوضوح). (ش): أى: إيراد المعنى بالطرق المختلفة لا يتأتى بالوضعية أى: بدلالة المطابقة؛ لأن السامع إن كان عالما بوضع اللفظ، لم يكن بعضها أوضح من بعض، وإلا لم يكن كل واحد دالا، لأنك إذا قلت: خده يشبه الورد فى الحمرة، لم يمكن أن يكون ثم تركيب آخر، يدل بالوضع على هذا المعنى إلا بأن توجد ألفاظ مرادفة لهذه الألفاظ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن وجدت لم تكن أوضح منها، وإن لم يفهمها السامع، فلا وضوح فلا تفاوت، ونحو: العقار الخمر، إنما يقال لمن يعرف مدلول الخمر، ولا يعرف مدلول العقار. (قلت): ربما كان أحد التركيبين الوضعيين أوضح؛ لشهرته وكثرة استعماله، أو لكونه مفسرا بغيره، أو لكون أحد اللفظين المترادفين مشتركا بين المعنى المستعمل وغيره، فيكون مرادفه أوضح منه فيتأتى حينئذ ذلك بالوضعية. وقد يجاب بأن المفسر والمفسر مختلف؛ لأن المفسر بالكسر يدل على المفردات، والمفسر مدلوله الهيئة الاجتماعية. وقد يجاب عن الوضوح بكثرة الاستعمال بأن ذلك اختلاف لأمر عارض. وفى شرح الشيرازى أنه لا يقال: ربما يزداد الوضوح وينقص بزيادة الألفاظ ونقصها؛ لأن اللفظ إذا زيد عليه، فقد زاد المعنى. وفيما قاله نظر؛ بل التحقيق أن المدلول مختلف بالتفصيل والإجمال، كما سبق، ثم يرد عليهم ما سيأتى إن شاء الله. ثم الدلالة الوضعية قد تكون نصا، وقد تكون ظاهرا. ورتب الظهور متفاوتة، فإن مراتب الوضوح متفاوتة فى قولك: جئت لأجل إكرامك، وإكراما لك، ولإكرامك وبإكرامك فالأول نص فى العلية، والثانى ظاهر قوى، والثالث ظاهر ضعيف، والرابع أضعف، ودلالة كل منها على النسبة بالمطابقة. ولهذا السؤال زاد الطيبى فى الحد فى وضوح الدلالة التركيبية قال: لأن الدلالات الوضعية، وإن اختلفت فى الوضوح فبحسب لفظة مع أخرى، أما المعنى التركيبى بعد علم المفردات فلا يتفاوت. (قوله: ويتأتى) أى: اختلاف طرق الإيراد. (بالعقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم فى الوضوح) أى: وإنما يتأتى بالدلالات العقلية؛ لجواز أن يكون للشئ لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض، وإنما قال الدلالات، وإنما هى دلالتا الالتزام والتضمن، باعتبار جزئياتها، فإن قلت: ذكر حكم الدلالتين واستدل لدلالة اللزوم فقط. (قلت): لأن الجزء لازم للكل، ولك أن تجعل هذا سؤالا فى أصل التقسيم، ونقول: إن دلالة الالتزام تشمل دلالة التضمن. ولما وجد الشارحون المصنف قال: إنما يتأتى ذلك بالعقلية، وذكر أنها تتأتى فى دلالة الالتزام، توهموا أن دلالة التضمن، ليست كدلالة الالتزام. وليس كذلك، بل الذى يظهر أنها تتأتى بدلالة العقلية، تضمنا كانت، أم التزاما. فإن دلالة الإنسان على الحيوان، أظهر من دلالته على الجسم، وإن

ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له: إن دلّت (¬1) قرينة على عدم إرادته، فمجاز؛ وإلّا فكناية. ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت دلالته على كل منهما تضمنا، وقد يقصد المتكلم التشبيه بجامع جزء الحقيقة الواضح، أو جزئها الخفى، أو غير ذلك من الاعتبارات. ثم اعلم أن معنى كلام المصنف وغيره أن هذه الطرق لا تتأتى بالوضعية فقط، بل تتأتى بالعقلية إما فقط، أو مع الوضعية؛ لأن المدلول الوضعى فيه إحدى الدلالات المتفاوتة. ص: (ثم اللفظ إلى آخره). (ش): لما كانت الطرق تتعلق بالدلالات العقلية، وهى لا بد فيها من انتقال من لازم إلى ملزوم أو عكسه، احتاج إلى ذكر تقسيم، يعلم به ما حصل فيه الانتقال، وهو المجاز والكناية. اعلم أن تحقيق الفرق بين الكناية والمجاز، من أهم ما نحن بصدده فى هذا الفن. وقد رأيت غالب المصنفين فى هذا الفن خبط فيه، ولم يحققه أحد، وها أنا أذكر تحقيقه، على ما يقتضيه النظر الصحيح، ما بين كلام للوالد فى تصنيف لطيف، وما استخرجته بالفكر: اعلم أن مراد المتكلم يطلق على أمرين: الأول: المعنى الذى استعمل له اللفظ الذى نطق به، حقيقة كان، أم مجازا، فإن استعمله فيما وضعته العرب له فهو الحقيقة، وإن استعمله فى غير ما وضعته له فهو مجاز. الثانى: معنى وراء ذلك، فإن من تكلم بكلام وأراد به معنى، تارة يكون ذلك المعنى مقصودا لذاته، وتارة يكون مقصودا لغيره، كالوسيلة بأن يكون وراء ما هو له كالعلة الغائية، ويكون ذكر ما ذكره توطئة لذلك المقصود. فكل من الحقيقة والمجاز المذكورين أولا، قد يكون مرادا لنفسه، وقد يكون مرادا لغيره. فالأقسام أربعة: ¬

_ (¬1) وفى بعض النسخ (قامت).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حقيقة مرادة لنفسها، مثل: جاء زيد. ومجاز مراد لنفسه، مثل: جاء أسد يرمى بالنشاب. فمدلول اللفظ الحقيقى غير الكناية والمجازى مراد لذاته، ويتحد فى هذين القسمين إرادة الاستعمال، مع إرادة الإفادة وحقيقة مرادة لغيرها مثل: زيد كثير الرماد، تريد حقيقة كثرة الرماد، فهو حقيقة مرادة لا لنفسها، بل لما هو ملزوم، لكثرة الرماد من كثرة الطبخ اللازم للكرم فى الغالب. فالكناية حقيقة؛ لأنك استعملت لفظها فيما وضع له، والحقيقة كذلك سواء أكان ذلك الموضوع مقصودا لذاته، أم لغيره. ولا عبرة بما وقع فى كلام المصنف من أن الكناية غير حقيقة ولا مجاز، لما سترى تحقيقه نقلا وبحثا عند الكلام على حد الحقيقة والمجاز. ولك أن تقول: بحسب الاستعمال، هو لفظ أريد به ما وضع له، وأن تقول: بحسب المراد بالذات أريد به غير ما وضع له. ففى الكناية إرادة استعمال، وهى فيما وضع له، وإرادة إفادة، وهى غير ما وضع له. والمعتبر فى الحقيقة اللفظية هو إرادة الاستعمال. بقى قسم رابع وهو مجاز مقصود لغيره، مثل أن تستعمل كلمة فى غير موضوعها، ولا يكون ذلك المعنى المجازى مقصودا لذاته؛ لما يلزمه. فهذا القسم قد يقال بامتناعه؛ لأن فيه الخروج عن موضوع اللفظ إلى التجوز بحسب الاستعمال، ثم الخروج عن ذلك المعنى المجازى بحسب القصد بالذات، ويدل عليه قول الجمهور: الكناية حقيقة خلافا للمصنف. ولو ثبت هذا القسم لانقسمت الكناية إلى: حقيقة ومجاز، وقد يقال بجوازه، ويحمل قولهم: الكناية حقيقة على لفظ استعمل فى موضوعه، مرادا به غيره. فعلم أن الكناية: لفظ أريد به موضوعه، ليستفاد منه غير موضوعه. وغير الكناية من الحقيقة: لفظ أريد به موضوعه؛ ليستفاد منه ذلك الموضوع. والمجاز: لفظ أريد به غير موضوعه. فإذا قلت: زيد كثير الرماد، مستعملا كثرة الرماد فى الكرم، فهو مجاز وليس كناية. وإن استعملته فى معناه مريدا ذلك قصدا وإفادة من غير إرادة إفادة الكرم، كما إذا أردت الإخبار بأنه فحام فهو حقيقة مجردة. وإن أردت معناه، ليستفاد منه الكرم، فهو كناية. فظهر بهذا أنه يصح أن يقال: الكناية لفظ أريد به غير معناه، باعتبار إرادة الإفادة، وأن يقال: لفظ أريد به معناه باعتبار الاستعمال، وأما اجتماع أمرين من هذه الثلاثة، فالمجاز لا يجتمع مع الكناية، ولا مع الحقيقة المجردة، إلا عند من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يجوز استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه، فحينئذ يجوز أن تقول: زيد كثير الرماد، مريدا كرمه، وكثرة رماده المقصود لذاته، وأن تريد كرمه وكثرة رماده؛ ليستفاد من كثرة رماده كرمه، فيكون الكرم مدلولا عليه بالمجاز والكناية. وأما الحقيقة المجردة والكناية، فلا مانع من اجتماعهما بأن تقول: زيد كثير الرماد، وغرضك الإخبار بكثرة رماده؛ ليستفاد منه كرمه، ويستفاد حصول الرماد بنفسه لغرض ما، ولا تتخيل أن ذلك جمع بين حقيقتين، فإن إرادة الاستعمال فيه واحدة، والمتعدد إرادة الإفادة. وقد تستعمل الكلمة فى معنى واحد؛ لتحصل أغراض لا تتناهى فظهر بهذا أن الكناية لفظ أريد به ما وضع له استعمالا، وغير ما وضع له إفادة. والمجاز أريد به غير ما وضع له استعمالا وإفادة. وعلم أن بين الكناية والمجاز عموما وخصوصا من وجه، يجتمعان فى القسم الرابع، ويرتفعان فى الحقيقة المجردة، ويوجد المجاز فقط، حيث استعمل اللفظ فى غير موضوعه، مرادا به إفادة مدلوله، وتنفرد الكناية فى استعمال اللفظ فى موضوعه، مرادا إفادة غيره. إذا تحرر ذلك فاعلم أن فى كل من المجاز والكناية انتقالا. والانتقال تارة نعنى به انتقال المتكلم عن لفظ؛ إلى لفظ لانتقال ذهنه إليه، وتارة نعنى به انتقال ذهن السامع من اللفظ المستعمل إلى غيره. فإن أردت الأول فالمتكلم إذا أراد الإخبار بمعنى، فقد ينتقل ذهنه إلى ملزومه، فيستعمل لفظ الملزوم فى اللازم، كقولك: رأيت بحرا ماشيا تريد كريما، وقد ينتقل ذهنه إلى استعمال اللازم مريدا به الملزوم كقولك: كثير الرماد مريدا الكرم. وإن أردت انتقال ذهن السامع، فالحال بالعكس فالانتقال فى المثال الأول من الملزوم إلى اللازم، وفى المثال الثانى من اللازم إلى الملزوم، فظهر أن المجاز يحصل فيه تارة الانتقال من اللازم إلى الملزوم، وتارة بالعكس، كقول العرب: رعينا غيثا، فيطلق الملزوم على اللازم. وأمطرت السماء نباتا، يطلق اللازم على الملزوم. ويدل على ذلك أن من علاقات المجاز إطلاق المسبب على السبب وعكسه، والمتعلق على المتعلق وعكسه، والجزء على الكل وعكسه، وكل من الجزء والمسبب والمتعلق لازم للكل والسبب والمتعلق. والسكاكى جعل الانتقال فى المجاز أبدا من الملزوم إلى اللازم، نظرا إلى أنك إذا قلت: أمطرت السماء نباتا، فالنبات وإن كان ملازما للمطر إلا أنه باعتبار مساواته صار ملزوما، وفى هذا الكلام مناقشات، نذكرها فى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المجاز - إن شاء الله تعالى - ويلزم السكاكى أن يجعل الكناية أيضا انتقالا من الملزوم، لكنه تارة يتساهل فى إطلاق الملزوم على اللازم المساوى، وتارة يحقق، وأما الكناية فكذلك، إلا أنها تفارق المجاز فى أنه ليس فيها انتقال الاستعمال، بل انتقال الذهن فقط. وإن أردت انتقال ذهن المتكلم، فالمتكلم إذا أراد إفادة الكرم، انتقل ذهنه إلى لازمه، وهو كثرة الرماد، فأخبر به ليستفاد منه ملزومه، والسامع إذا سمع اللازم، انتقل ذهنه إلى الملزوم فالانتقال فيها بحسب المتكلم من الإخبار بالملزوم إلى الإخبار باللازم، وبحسب السامع من فهم اللازم إلى فهم الملزوم. وهذا أحد قسميها، وهو الذى ذكره الناس. وقد يقال: هى كالمجاز تنقسم إلى القسمين، فربما أخبر فيها بالملزوم، وأريد الاستعمال فيه، ليستفاد لازمه كقولك: نزل الغيث، تريد إفادة أن السنة مخصبة، ومنه قوله تعالى: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا (¬1) لأنه لم يقصد إفادة ذلك؛ لأنه معلوم، بل إفادة لازمه، وهو أنهم ينبغى أن يحذروها ويجاهدوا. وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم:" المرء مع من أحب" (¬2) والمقصود بالفائدة، إنما هو كون المخاطب مع النبى صلّى الله عليه وسلّم. واعلم أن قولنا: إطلاق اللازم على الملزوم وعكسه، جرى على عبارة القوم، وهى غير منقحة؛ لأنك إذا قلت: رأيت أسدا يتكلم، لم تطلق اللازم على الملزوم؛ لأن الملزوم ذات الأسد ولازمها معنى وهو شجاعة، والذى أطلقت عليه الأسد زيد، فإنما أطلقت ملزوما لشئ على ملزوم لشئ بين اللازمين تشابه. نعم قد يطلق الملزوم على اللازم فى نحو قولك: جاءنى عدل ويعجبنى الإنسان، وتريد ضحكه، أو كتابته، وكذلك عكسه، ومن أمثلتهما: أمطرت السماء نباتا، ورعينا غيثا. وكذا الكناية يعتبر فيها ما ذكرناه، فليتأمل. وسيأتى تحقيق ذلك وتكميله عند ذكر الكناية، وإنما عجلت ذكر هذا هنا؛ للتقسيم الذى ذكره المصنف، ولأن بين هذا المكان وذلك مفاوز، ولا يقطعها إلا ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 81. (¬2) أخرجه البخارى فى" الأدب"، باب: علامة الحب فى الله، (10/ 573)، (ح 6168)، ومسلم فى" البر والصلة"، باب: المرء مع من أحب (ح 2639)، من حديث أنس بن مالك، وقد جاء من طريق عبد الله بن مسعود، وصفوان بن عسال، وأبى موسى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ تحقيق معناهما. إذا تحرر هذا فلنرجع إلى تتبع كلامهم، فقول المصنف: اللفظ المراد به لازم ما وضع له مجاز إن قامت قرينة على عدم إرادة موضوعه، كقولك: رأيت أسدا يرمى بالنشاب، فإن الرمى قرينة قامت على عدم إرادة الحقيقة، والمراد بإرادة اللازم التى هى مورد القسمة إرادة الإفادة سواء أكانت متحدة مع إرادة الاستعمال، أم لا. فإن أحد قسميها وهو الكناية، أريد به استعمال اللفظ فيما وضع له، ليفيد غير ما وضع له. فقد وجد هنا إرادة اللازم الذى هو غير موضوع اللفظ إفادة لا استعمالا. وقسمها الآخر وهو المجاز، أريد به غير موضوعه استعمالا وإفادة. واعلم أن المراد باللازم هنا ليس ما ذكره المنطقيون، بل المراد اللازم العرفى، سواء أكان عقليا خاصة، أم عرضا عاما، أم غير ذلك لما تقدم من أن المراد: اللازم للفهم ولو عرفا، والمراد باللازم العارض، والملزوم المعروض وإن شئت قلت: اللازم التابع والملزوم المتبوع، غير أن المعتبر هنا اللازم المساوى، فإن الأعم لا ينتقل الذهن منه إلى الأخص، إنما ينتقل من اللازم المساوى. قال فى المفتاح: أو الأخص وفيه نظر؛ فإن اللازم لو كان أخص من الملزوم، لوجد الملزوم دون اللازم وهو محال. وأجاب عنه الكاشى بأن ذلك إنما يمتنع فى اللازم العقلى، أما اللازم الأعم من ذلك، فلا يمتنع أن يوجد فيه الملزوم دون اللازم. ونحن هاهنا إنما نريد اللازم الاعتقادى مطلقا. (قلت): يستحيل أن يكون اللازم أخص، سواء أكان عقليا أم اعتقاديا؛ لأن الذهن كيف يربط أمرا بأمر أعم منه والفرض أنه يعتقد لزومه لعرف، أو غيره. فإذا كان فى الذهن أخص من غيره استحال أن يربطه الذهن بالأعم. إذا تقرر ذلك، فالسكاكى قال: الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم، أى: ينتقل ذهن السامع، كما تقول: فلان طويل النجاد، والمراد طول القامة، يعنى المراد بالإفادة لا بالاستعمال. ثم قال: إن المجاز ينتقل فيه من الملزوم، يعنى أن السامع ينتقل ذهنه من الملزوم، وهو الحقيقة إلى اللازم، وهو معنى المجاز. وأما المصنف فإنه جعل كلا من المجاز والكناية، أريد به اللازم ولا يريد به إرادة الاستعمال، وإلا كان مجازا فقط، بل يريد إرادة الإفادة، وحينئذ فكلامه لا يصح، لأنه ليس كل مجاز قصد منه لازم موضوع اللفظ، بل المجاز الذى حصل فيه إطلاق اللازم

وقدّم عليها؛ لأنّ معناه كجزء معناها، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ على الملزوم، أريد به الملزوم، والذى قصد به عكسه أريد به اللازم، وغيرهما من المجاز لم يرد واحد منهما، وإنما المصنف تبع السكاكى. وأما الكناية فكذلك منها ما أريد به إفادة الملزوم لا اللازم، ومنها العكس. وقوله أى: إرادة الحقيقة (إن قامت قرينة على عدم إرادته فمجاز) واضح ونعنى قيام القرينة على عدم إرادة موضوعه استعمالا، لا على عدم إرادته إفادة، فإن ذلك علم من قوله: المراد به لازم موضوعه، ولو جعلنا مراده ذلك، لخرج عنه غالب الكنايات، فإن معها قرينة تصرفها عن إرادة إفادة موضوعها، أى: مع ما هو شرط المجاز من العلاقة وغيرها. والمراد باللازم العرفى، وإن لم تقم قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو الكناية. فالكناية حينئذ: لفظ أريد به لازم موضوعه، ولم تقم قرينة على عدم إرادة موضوعه. ونعنى بقولنا: أولا أريد إرادة الإفادة، وبقولنا: إرادة موضوعه إرادة الاستعمال، فدخل فى ذلك ما إذا لم تقم قرينة على شئ، بل قامت قرينة على إرادة اللازم، فإن الحقيقة لا تحتاج إلى قرينة وما إذا قامت قرينة على إرادة الموضوع، فكلاهما كناية، والكناية فى هذين القسمين حقيقة، ولا يدخل فيه المجاز، إذا قصد إفادة ملزومه، إن جوزنا ذلك، وجعلناه مجازا وكناية كما سبق. ص: (وقدم عليها؛ لأن معناه كجزء معناها). (ش): أى: قدم المجاز على الكناية؛ لأن معناه كجزء معنى الكناية. قال الخطيبى: لأن فى المجاز إرادة اللازم فقط أى: مثل الشجاعة ولفظ الأسد، وفى الكناية تجوز مع إرادة اللازم أى: الكرم من كثرة الرماد إرادة غيره أى: مدلول اللفظ، فيكون معنى المجاز كجزء معنى الكناية. (قلت): قوله: تجوز مع إرادة اللازم إرادة غيره، إن قصد إرادة الملزوم بدلا عنه على جهة استعماله فيه فلا يصح؛ لأنه إذا أريد بالكناية غير اللازم استعمالا، كانت حقيقة لا كناية، وإن أراد أنه تجوز إرادة الملزوم واللازم معا استعمالا فيهما، فليس الأمر كذلك، إذ يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز، ثم يلزم أن يكون المجاز جزء معنى الكناية لا كالجزء. وإن أراد أنه تجوز فى الكناية إرادة اللازم والملزوم إفادة والمجاز لا يجوز فيه إرادة إفادة غير مدلوله وهو اللازم، فذلك يقضى بأن معنى المجاز إنما يكون كجزء معنى الكناية فى بعض الأحوال، وهو إذا قصد بها إرادة اللازم والملزوم معا لا مطلقا،

ثم منه ما يبنى على التشبيه، فتعيّن التعرّض له، فانحصر المقصود فى الثلاثة: التشبيه، والمجاز، والكناية. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا أريد به اللازم والملزوم معا، فليس الإرادتان معا هما الكناية، حتى يكون المجاز كجزئها؛ بل الكناية من هاتين الإرادتين هى إحداهما، والأخرى ليست كناية، واللفظ حينئذ كناية وغير كناية باعتبارين. وقيل: إنما كان كالجزء، لأن المجاز فيه انتقال من الملزوم إلى اللازم، وهو واضح، والكناية فيها انتقال من اللازم إلى الملزوم، وهو لا يتضح بنفسه حتى ينضم إليه العلم بمساواة هذا اللازم لملزومه، فصار فى المجاز انتقال من شئ لشئ، وفى الكناية انتقال من شئ لشئ بقيد، ومطلق الانتقال جزء من الانتقال بقيد المساواة وفيه نظر؛ لأن مطلق الانتقال، جزء من الانتقال بقيد، فهو جزء لا كالجزء، ولأن المجاز ليس فيه انتقال مطلق؛ بل انتقال بقيد يقابل القيد الذى فى انتقال الكناية. ثم المصنف يرى أن الانتقال فى كل منهما من الملزوم إلى اللازم، والذى هو أقرب إلى الصحة أن يقال: فى الكناية إرادة شيئين، أحدهما: مدلول اللفظ، وتلك إرادة استعمال، والثانى: ملزومه، وتلك إرادة إفادة. والمجاز فيه إرادة شئ واحد، وهو مدلول اللفظ، فكان كالجزء. وإنما لم يقل: إنه جزء، لأن المجاز لفظ مستعمل فى غير موضوعه، والكناية لفظ مستعمل فى موضوعه، فكيف يكون جزأه، وأحدهما مجاز والآخر حقيقة؟ نعم قد يرد على قوله: إنه كالجزء أن المجاز أيضا، فيه إرادتان: إرادة الإفادة وإرادة الاستعمال. غير أنهما تواردا على محل واحد، بخلاف الكناية، فإن إرادة الاستعمال فيها فى الموضوع، وإرادة الإفادة فى متعلقه، فلا تفاوت بينهما، إلا فى أن محل الإرادتين فى أحدهما واحد، وفى الآخر متعدد، وذلك لا يقضى بأنه كجزئها، إلا أن إرادة الإفادة متى كانت متحدة بإرادة الاستعمال؛ لا ينظر إليها، فإن إرادة الاستعمال فى الأصل إنما تقصد للإفادة. ص: (ثم منه ما يبنى على التشبيه، فتعين التعرض له فانحصر فى الثلاثة). (ش): أى من المجاز ما يبنى على التشبيه، وهو الاستعارة؛ لأن مبناها عليه. وأطلق الاستعارة والمراد: التحقيقية، لا التخييلية، لما سيأتى. وقدم التشبيه على المجاز؛ لأن المجاز مبنى عليه، فهو مقدم على المبنى، ولذلك قدم التشبيه على الجميع. ونعنى بالمجاز الاستعارة، فإن غيرها ليس مبنيا على التشبيه؛ لكنه لما انبنى أعظم أنواع المجاز على التشبيه؛ صح أن يقال: المجاز مبنى عليه، مثل:" الحج عرفة" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقى فى الكبرى، عن عبد الرحمن بن يعمر، وانظر صحيح الجامع (ح 3172)، وراجع الإرواء (ح 1064).

التشبيه

التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى، ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): بهذا التقسيم يعلم أن التشبيه حقيقة، وليس مجازا، وهذا مما لا يشك فيه ذو تحقيق، إذا كان مصرحا فيه بالأداة، نحو: زيد كالأسد. نعم إذا حذفت أداته، مثل: زيد أسد، ففيه مجاز الحذف. ونقل ابن الأثير فى كنز البلاغة أن الجمهور على أن التشبيه الصريح، نحو: زيد كالأسد، مجاز، ونحن لا نسلم له صحة هذا النقل، ولا نتخيل لذلك شبهة إلا أن ندعى أن معنى زيد كالأسد مشابهته فى جميع الأمور، وأن ذلك متعذر، وهذه شبهة ساقطة مبنية على باطل، كما سيأتى. ثم رأيت فى العمدة لابن رشيق أن التشبيه مجاز قال: وإنما كان مجازا؛ لأن المتشابهين إنما يتشابهان بالمقاربة، وعلى المسامحة انتهى. وهى الشبهة الساقطة التى تخيلت أنها التى لوحظت، ونقل الوالد أيضا فى تفسيره: أن التشبيه مجاز. والكلام على أن التشبيه خبر أو إنشاء سيأتى فى آخر الأقسام. وقوله: (فانحصر فى الثلاثة) أى: انحصر هذا العلم أو الكلام فى الثلاثة، وهذه الفاء مشعرة بالتعليل، وليس فيما يليها ما يشعر بالتعليل، إنما ذكر سبب تقديم كل واحد على أخويه. التشبيه: ص: (التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى). (ش): التشبيه فى اللغة: جعل الشئ شبيها بآخر، والتشبيه الاصطلاحى ليس فيه ذلك، بل فيه ادعاء التشبيه، أو اعتقاده مجازا عند وصفه بذلك، وهو قولك مثلا: زيد كعمرو، وتسميته تشبيها مجاز؛ لأنه نقل إليه من اعتقاد التشبيه، فلفظ التشبيه الاصطلاحى مجاز عن لفظ التشبيه اللغوى، وقد حده المصنف فقال: الدلالة، ولا يصح ذلك بالتفسير المتقدم من أن الدلالة صفة اللفظ، فإن التشبيه فعل المتكلم، ولا يصح جواب الخطيبى، بأنه عرف التشبيه بحسب الاصطلاح، لا بحسب اللغة؛ لأن التشبيه بحسب الاصطلاح، ليس هو الدلالة؛ لأن الدلالة إن كانت صفة اللفظ، فواضح أن التعريف فاسد، وإن كانت صفة السامع، فكذلك؛ لأن التشبيه فعل المتكلم. وإن كانت صفة المتكلم، فكذلك؛ لأن التشبيه فى الاصطلاح لفظ؛ ولذلك جعل أركانه

والمراد - ههنا - (¬1) ما لم تكن على وجه الاستعارة التحقيقية، والاستعارة بالكناية، والتجريد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ المشبه، والمشبه به، والأداة، والوجه، وكل هذه ليست شيئا من كون المتكلم دل على المشاركة، فلا يبقى إلا أن التشبيه: الدلالة الحاصلة من اللفظ، وفيه تعسف. ويكون اللفظ سمى تشبيها مجازا فإن التشبيه بالحقيقة فعل المتكلم، وقوله: (فى معنى) يريد: فى مدلول؛ لأنه فى محل العناية، لا ما يقابل الجوهر ثم يقال عليه: إن التشبيه الذى هو أصل الجميع التشبيه المعنوى الشامل للاستعارة، وغيرها، وقد قدم التشبيه الأخص وهو ذو الأداة لفظا، أو معنى، وجوابه أن التشبيه المعنوى، كالفرع عن التشبيه بالأداة؛ فإنها مرادة فيه فى المعنى، لا اللفظ. (وقوله: والمراد هاهنا ما لم تكن على وجه الاستعارة، والاستعارة بالكناية؛ والتجريد). هذا كالفصل المخرج لما دل على المشاركة، وليس هو المراد هنا، فالاستعارة وإن دلت على المشاركة، وفيها التشبيه المعنوى، فليست تشبيها لفظيا، فليس مرادا هنا. والاستعارة بالكناية ليست تشبيها، أما عند السكاكى، فلأنها عنده استعارة فتشبيهها معنوى، وأما عند المصنف؛ فلأنها وإن كانت تشبيها إلا أنه لما غلب عليها اسم الاستعارة، قصد تأخير الكلام فيها، وذكرها مع الاستعارة. وأما التجريد؛ فلأنه ليس تشبيها على ما سيأتى؛ فلذلك أخره إلى علم البديع. وقوله: (على وجه الاستعارة) أطلقه هنا، وقيده فى الإيضاح بالتحقيقية، واحترز عن التخييلية؛ فإنها لا تدخل التشبيه على رأيه؛ لأن التشبيه الدال على المشاركة، إنما هو الاستعارة بالكناية التى هى قرينة التخييلية، وأما التخييلية فليس فيها إلا ذكر لازم المشبه به، فالمشاركة بين المشبه والمشبه به، لا بين لازم المشبه به وشئ. غير أنه ذكر فى التخييلية لازم المشبه به، تقوية للتشبيه الحاصل فى المكنية، وبهذا التقرير يعلم أنه لا حاجة لتقييدها بالتحقيقية؛ لأنها خرجت بقوله: مشاركة، وأما تقييده فى الإيضاح فلعله لاحتمال أن يتوهم دخولها باعتبار أنها تدل على إثبات مثل لازم المشبه به للمشبه، وحاصله أن الاستعارة التخييلية، لا تدخل فى كلامه. أما فى الإيضاح فقوله: التحقيقية، وأما فى التخلص فلعدم المشاركة، أو لدخولها فى إطلاق الاستعارة، أو ¬

_ (¬1) أى بالتشبيه المصطلح عليه فى علم البيان.

فدخل نحو: زيد أسد وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ لاستغنائه عن ذكرها بذكر قرينتها وهى المكنية؛ لأن التخييلية عنده لا توجد دون المكنية. وأورد الخطيبى عليه أن كلامه يقتضى أن الثلاثة ليست تشبيها وهى تشبيه. والذى قاله لا يرد، لأن المراد التشبيه الاصطلاحى، وليست التحقيقية والتجريد تشبيها عنده، كما سيأتى. وأما المكنية، فهى وإن كانت تشبيها، فكلامه لا يقتضى أنها غير تشبيه، بل أنها تشبيه لم يرد الآن الكلام فيه، وقد حصل بمجموع ما ذكره رسم يحصل به تعريف التشبيه المراد هنا، وأورد على هذا الحد، قولك: قام زيد وعمرو، واشترك زيد وعمرو، وكذلك ترافقا، وتصاحبا، واجتمعا، وأكلا، وكذلك جميع أفعال المفاعلة فكل ذلك دال على المشاركة. وكذلك: زيد أفضل من عمرو، وكذلك: تشابه زيد وعمرو فإنه تشابه (¬2) لا تشبيه وأورد المجاز، فإنك إذا قلت: رأيت أسدا، فقد دللت على مشاركته للأسد المفترس فى الشجاعة؛ إذ لا فرق بين قولك: رأيت شخصا مثل الأسد، ورأيت أسدا فى الدلالة على المشاركة على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - وهذا لا يرد، فإن المصنف قد قال: المراد ما لم يكن على وجه الاستعارة، والاستعارة مجاز، فقد صرح بإخراجه. ص: (فدخل فيه نحو قولنا: زيد أسد، وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). (ش): أى دخل فى الحد قولنا: زيد كالأسد، فإنه تشبيه بلا خلاف، ودخل نحو قولنا: كالأسد، بحذف زيد؛ لدلالة قرينة عليه، ودخل فيه ما يسمى تشبيها على المختار، على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه، وكان المشبه به خبرا، أو فى حكم الخبر، كقولنا: زيد أسد، وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وقول عمران بن حطان يخاطب الحجاج: أسد علىّ، وفى الحروب نعامة … فتخاء تنفر من صفير الصّافر ولنا فى ذلك نزاع سنذكره - إن شاء الله تعالى - وأطلق المصنف: المشاركة، وشرط بعضهم أن يكون الاشتراك فى صفة ظاهرة. وقيل: فى أخص صفات النفس، وفيه نظر؛ إذ لا مانع من التشبيه فى صفة خفية، لكن إذا كانت خفية، يشترط فى ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 18. (¬2) قوله فإنه تشابه إلخ كذا فى الأصل ويظهر أن فى هذا سقطا فتأمل كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التشبيه بها بيان وجه الشبه، كقولك: رأيت رجلا كالأسد فى البحر، وإنما يمتنع الخفاء فى العلاقة. (تنبيه): إذا كان طرفا التشبيه مذكورين، والمشبه به خبر مبتدأ، أو فى حكمه مثل خبر كان، وإن، وثانى مفعولى علمت، والحال، فهل يكون ذلك تشبيها، أو استعارة؟ اختلفوا فيه، وأنا أذكر ما يتضح لى أنه الصواب، ثم أتحفه بكلام الناس فى ذلك. أما الذى يتضح لى - وبالله التوفيق - فهو أن ذلك على قسمين: تارة يقصد به التشبيه، فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة، فلا تكون مقدرة. ويكون الأسد مستعملا فى غير حقيقته، ويكون ذكر زيد والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة، قرينة صارفة إلى الاستعارة، دالة عليها. فإن قامت قرينة على حذف الأداة، صرنا إليه، وإن لم تقم، فنحن بين إضمار واستعارة. والاستعارة أولى، فليصر إليها. والأصوليون مختلفون فيما إذا دار الأمر بين المجاز والإضمار، أيهما أولى، وذلك فى مطلق المجاز، وفى علم أصول الفقه. أما الاستعارة التى هى أشرف أنواع المجاز، فإنها مقدمة على الإضمار، ولا سيما ونحن فى علم البيان الذى الاستعارة فيه هى الأصل. وهم مجمعون على أن الاستعارة خير من الإضمار، وهذا الذى ذكرته من تجويز الاستعارة، لا يحتاج فيه لدليل؛ لأنه مجاز سائغ، وكما يجوز أن تقول: جاءنى أسد تريد الاستعارة، يجوز أن تقول: زيد أسد، وهذا قياس جلى، وما يظن من الفرق بينهما، سأجيب عنه - إن شاء الله - هذا هو الذى ظهر لى. وأما الذى قالوه فها أنا أقوله، مبينا ما فيه: قال الزمخشرى فى قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (¬1): فإن قلت: هل يسمى ما فى الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه، والمحققون على تسميته تشبيها بليغا، لا استعارة. (قلت): إن أراد أنهم يسمونه تشبيها، وإن كان استعارة، ويكون صم فى الآية مجازا؛ ولكنه يسمى تشبيها، لتقدير اسم المشبه، وذكر اسم المشبه به، مرادا بهما معا المشبه، فقريب. وإن أراد أن أداة التشبيه فيه محذوفة، وصم حقيقة، فلا نسلم. وما الدليل على ذلك؟ قال: لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): يعنى بكونه مذكورا: كونه مذكورا فى التقدير، فإن تقدير الآية: المنافقون صم، قالوا: وإنما تطلق الاستعارة حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لأن يراد به المنقول عنه، والمنقول إليه لولا دلالة الحال، أو فحوى الكلام؛ ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كانوا يتناسون التشبيه، ويضربون عن توهمه صفحا. (قلت): هذا هو الذى عولوا عليه فى أن نحو: زيد أسد تشبيه وليس استعارة. وزاده السكاكى وضوحا أن قال: وإنما عد زيد أسد، وقرينه المحذوف المبتدأ تشبيها؛ لأنك حين أوقعت أسدا - وهو مفرد غير جملة - خبرا لزيد، استدعى أن يكون هو إياه، مثله فى: زيد منطلق فى أن الذى هو زيد هو بعينه منطلق، وإلا كان زيد أسد مجرد تعديد، نحو: خيل فرس لا إسناد لكن العقل يأبى أن يكون الذى هو إنسان، هو بعينه أسد، فيلزم لامتناع جعل اسم الجنس وصفا للإنسان، حتى يصلح إسناده إلى المبتدأ المصير إلى التشبيه بحذف كلمته، قصدا للمبالغة، انتهى. وقد زاده المصنف وضوحا بأن قال: الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه، أو نفيه عنه. فإذا قلت: زيد أسد فقد وضعت كلامك فى الظاهر؛ لإثبات معنى الأسدية لزيد، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه، فكان خليقا بأن يسمى تشبيها إذا كان إنما جاء ليفيده، بخلاف الحالة الأولى، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه لشئ، كما إذا قلت: جاءنى أسد، فإن الكلام فيه موضوع لإثبات المجئ واقعا من الأسد، لا لإثبات معنى الأسد لشئ، فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه، وصار قصده التشبيه مكنونا فى الضمير، لا يعلم إلا بعد الرجوع لشئ من النظر. ووجه آخر فى كون قصد التشبيه مكنونا فى الضمير، وهو أنه لما لم يكن التشبيه مذكورا جاز أن يتوهم السامع فى ظاهر الحال، أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع، فلا يعلم قصد التشبيه إلا بعد شئ من التأمل، بخلاف الحال الثانية فإنه يمتنع فيه مع كون المشبه مذكورا، أو مقدرا انتهى. وحاصل كلام الزمخشرى، والسكاكى، والمصنف، ومن تبعهم أن نحو: زيد أسد، إنما لم يكن استعارة؛ لامتناع إمكان حمل الكلام على الحقيقة، وأن من شرط

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة فى الظاهر، وتناسى التشبيه. ولا حاصل لما قالوه؛ لأنا نقول: ليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة فى الظاهر؛ بل لو عكس ذلك، وقيل: لا بد من عدم صلاحيته، لكان أقرب؛ لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، وإن لم تكن قرينة؛ امتنع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة، غير أن تلك القرينة تارة تكون معنوية حالية، مثل: رأيت أسدا، وتارة تكون لفظية، مثل: زيد مخبرا عنه بالأسد، فإنه قرينة تصرف الأسد عن إرادة حقيقته. ثم إن المصنف وكل من تكلم فى قوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (¬1)، وقوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ (¬2) جعل حصيدا وهشيما استعارة، وهو يناقض قولهم: إنه إذا وقع المشبه به خبرا، أو حالا، يكون تشبيها، وقد جعل الرمانى وغيره من الاستعارة: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً (¬3) مع أن مبصرة حال، وجعل الرمانى، والإمام فخر الدين، والزنجانى، منه قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً (¬4) وإن كان حالا. ثم ليت شعرى! كيف يصنعون فى الإخبار بالمصدر، نحو: زيد ضرب، هل يقدرون على أن يقدروا مثل: ضرب؟ وذلك لا سبيل إليه؛ لوضوح فساده، وبعده عن المقصود من الإخبار بالمصدر، وبرهان ذلك أيضا أنا لم نر أحدا ذهب فى قوله: فإنّما هى إقبال وإدبار أنه تشبيه، بل قيل: هو استعارة، ورده عبد القاهر فى دلائل الإعجاز، وقال: هو مجاز حكمى، وكأنه يريد مجاز الإسناد، فكان ذلك اتفاقا منهم على أنه ليس تشبيها، وقال عبد القاهر أيضا، فى قول المتنبى: بدت قمرا ومالت خوط بان إنه ليس على تقدير: مثل قمر، بل هو من قبيل المجاز الحكمى، وهذا وارد عليهم إن كان قمرا حالا ومما يرد عليهم ما ذكره النحاة عن آخرهم فى نحو: زيد زهير شعرا؛ فإنه لا يوافق ما ذكروه، بل يشهد لما قلناه من أنه استعارة. ومما يدل لما قلناه، ¬

_ (¬1) سورة يونس: 24. (¬2) سورة الكهف: 45. (¬3) سورة الإسراء: 59. (¬4) سورة الأحزاب: 46.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قول الزمخشرى فى قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (¬1) ما نصه: وهذا مجاز، شبههن بالمحارث. فقوله: (مجاز) صريح فى أنه استعارة، ولا يعكر عليه قوله: شبههن بالمحارث، فإن فى كل استعارة تشبيها معنويا. وكذلك قال جماعة فى قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ (¬2) ثم إن الزمخشرى قال فى قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً (¬3) ما نصه: والحصور من لا يدخل فى الميسر، قال الأخطل: وشارب مربح بالكاس نادمنى … لا بالحصور ولا فيها بسآر استعير الحصور لمن لا يدخل فى اللعب، فإما أن يريد أن الحصور فى الآية استعارة، فقد جعل الحال استعارة، أو يريد أن الحصور فى البيت استعارة، فقد جعل خبر المبتدأ استعارة، وهو يرى أن: زيد أسد، تشبيه وممن جزم بأن قولنا: زيد أسد، استعارة - التنوخى فى الأقصى القريب، وقال ابن رشيق فى العمدة: إن حية فى قول ذى الرمة (¬4): فلمّا رأيت الليل والشّمس حيّة … حياة الّذى يقضى حشاشة نازع استعارة، وظاهر كلامه نسبة ذلك إلى ابن المعتز، إلا أنه قد يقال: لا دليل فيه لما يقول لما سيأتى. وهذه أمور نقلية من كلامهم تنقض أصلهم. ومما ينقض قولهم قول السكاكى، والمصنف، وغيرهما بعد ورقتين: إن من الاستعارة قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع وقولهم: عتابك السيف، وبما اخترناه من أن: زيد أسد، يصح أن يقع استعارة. صرح عبد اللطيف البغدادى، فقال فى قوانين البلاغة: التشبيه مصرح بحرفه، والاستعارة أن يطلق على المشبه اسم المشبه به من غير تصريح بأداة التشبيه، يقال: زيد أسد، وبحر، وغيث، أو زيد أسد فى شجاعته ومما ينقض أصلهم هذا من جهة المعنى أنا نجد اللفظ فى كثير من التراكيب لا يصلح للحقيقة، ويسمونه استعارة، لا يكادون ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 223. (¬2) سورة البقرة: 187. (¬3) سورة آل عمران: 39. (¬4) البيت فى ديوانه ص 167 ورواية الديوان" رأين" وهى الصواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يترددون فيه، كقولك: تكلم الأسد، ورمى الأسد بالنشاب إلى غير ذلك من القرائن اللفظية الصارفة عن إرادة الحقيقة، وهو استعارة عندهم. وكيف يمكن تناسى التشبيه فى مثله، مع أن الرمى والكلام لا يصلحان من الأسد الحقيقى؟ وليت شعرى! أى فرق بين زيد وأسد، وبين: تكلم أسد، فى عدم إمكان حمل اللفظ فى الظاهر على الحقيقة، وفى كون الأول تشبيها محذوف الأداة، والأسد فيه حقيقة، والثانى استعارة، ثم نقول: ليس كل ما وقع خبر مبتدأ يمتنع فيه حمله على الحقيقة، فإنك إذا قلت: هذا أسد، والذى فى دارى أسد ونحو ذلك، مريدا زيدا، فقد وقع الأسد خبر مبتدأ. ومع ذلك لا يمتنع حمله على حقيقته، فكان ينبغى أن يسمى استعارة. فالمعنى الذى قالوه، لا يستمر لهم فى كل خبر مبتدأ، إلا إن كان مقيدا بذلك، وتركوه؛ لوضوحه. ثم إن العلة التى ذكروها بعينها، موجودة فى الصفة التى لا تصلح أن تجرى بالحقيقة على موصوفها، نحو: رأيت رجلا بحرا، ومررت بزيد البحر، ومع ذلك هو عندهم استعارة، لا تشبيه؛ لأنه ليس فى حكم الخبر. وحاصله أن ما ذكروه لا يطرد، ولا ينعكس، ثم يرد عليهم نحو: صار زيد أسدا، فإنه استعارة، كما صرح به المصنف فى الكلام على أن الاستعارة مجاز لغوى، مع ذكر طرفى التشبيه، ووجود ما ذكروه. ثم إن المصنف قال فى قوله صلّى الله عليه وسلّم:" وهم يد على من سواهم" (¬1): إنه استعارة، وهو عكس ما ذكره هنا. وجعل صاحب مواد البيان من المجاز قوله تعالى: أُمَّهاتُهُمْ من قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ (¬2) وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وقول النبى صلّى الله عليه وسلّم:" النساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والمسلم مرآة أخيه (¬3) ". وقول على - رضى الله عنه -:" السفر ¬

_ (¬1) " حسن" أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو، وانظر صحيح الجامع (ح 6712)، والإرواء (ح 2208) وطرفه:" المسلمون تتكافأ دماؤهم ... ". (¬2) سورة الأحزاب: 6. (¬3) أخرجه الخرائطى فى" اعتلال القلوب" عن زيد بن خالد الجهنى، بلفظ:" الشباب شعبة من الجنون، والنساء حبالة الشيطان"، وهو ضعيف، وانظر ضعيف الجامع (ح 3427)، وأما لفظة:" والمسلم مرآة أخيه" فقد أخرجه ابن منيع فى مسنده عن أبى هريرة، ولفظه:" والمسلم مرآة المسلم، فإذا رأى به شيئا فليأخذه"، وهو ضعيف جدّا انظر ضعيف الجامع (ح 5945).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ميزان القوم" إن القوم ومما يشهد لك من الأمور النقلية أن ابن مالك قال فى شرح الكافية: إذا قلت مشيرا إلى شخص: هذا أسد، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تنزيله منزلة الأسد مبالغة، دون أداة تشبيه، وأنشد: لسان الفتى سبع عليه سداده … فإن لم يزع عن غربه فهو آكله الثانى: أن ينوى أداة التشبيه، أى زيد مثل الأسد، وفى هذين الوجهين، لا ضمير فى أسد. الثالث: أن يتأول أسد بصفة وافية بمعنى الأسدية، ويجرى مجرى ما أولته، فيحتمل الضمير، أما إذا أشرت لحيوان مفترس، فلا يتحمل ضميرا، انتهى. وهذا الذى قال هو الحق الذى لا محيص عنه، فظهر بذلك صحة ما قلناه من أن: زيد أسد يصح أن يكون تشبيها، وأن يكون استعارة، بحسب المقام. لا يقال: إنما جوز ابن مالك الاستعارة فى: هذا أسد؛ لأن اسم الإشارة لا يصرف عن الحقيقة، كما أن زيدا يصرف؛ لأنا نقول: قد مثل بقوله: لسان الفتى سبع، واللسان كزيد فى صرفه عن إرادة الحقيقة. ثم إن المصنف صرح فيما سيأتى فى التلخيص والإيضاح، بأن قولنا: الحال ناطقة بكذا استعارة، وهو مخالف لهذا الكلام. وذكره فى الاستعارة التبعية. وأما الوجهان اللذان ذكرهما المصنف مستدلا بهما على أن: زيد أسد تشبيه، فالذى يظهر: أن الأول هو الثانى، وأما قولهم: إنه تشبيه بليغ، فهو على العكس. فإن البلاغة لا تكون عند تقدير أداة التشبيه، والذى يظهر من كلامهم، أنا إذا جعلناه تشبيها، كانت الأداة مقدرة مع اللفظ، وحينئذ: فكيف يكون بليغا، والكلام حقيقة، والاستعارة أبلغ من الحقيقة بلا نزاع؟ وإنما البليغ إرادة الاستعارة، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به. نعم التشبيه المحذوف الأداة أبلغ من المذكور الأداة؛ لما فيه من الإيجاز. وأما أنه أبلغ من الاستعارة، فلا. وأما قول ابن مالك: إنه يجوز فى: زيد أسد؛ أن يكون تشبيها محذوف الأداة، وأن يكون مرادا به الرجل الشجاع، وأن يكون تنزيلا له منزلة الأسد مبالغة، فقد يستشكل الفرق بين الثانى والثالث، فيقال: إذا أردت به الرجل الشجاع، فقد نزلته منزلة الأسد، وجوابه بأحد أمرين:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: أن يقول: فرق بين قولك: جاءنى أسد، تريد رجلا شجاعا، وقولك: جاءنى أسد تنزيلا له منزلة الأسد، والأول مجاز صرف لا مبالغة فيه، ولا نسميه استعارة؛ بل هو أليق باسم المجاز المرسل. والثانى استعارة؛ لأن معناه ادعاء أن المشبه داخل فى جنس المشبه به، وفرد من أفراده، أى: بلغ فى الشجاعة حدا يتوهم ناظره أنه نفس الأسد. وسيأتى أن الادعاء لا يلزم منه إرادة الحقيقة كما هو رأى المصنف، وهذا معنى أبلغ من الأول، وهو الجدير باسم الاستعارة. وإلى هذا الفرق يشير قول البصريين: إن الأسد على هذا المعنى لا يتحمل ضميرا؛ لأنه لم يؤول بمشتق، وعلى المعنى الآخر يتحمل، لأنه مؤول ولا شك أنه مؤول على التقديرين، غير أنه على تقدير الاستعارة، يكون التأويل فى ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، وعلى تقدير المجاز المرسل، يكون التأويل فى إطلاقه على المشتق، فكان كالمؤول عليه. وفى الاستعارة أولناه على أسد وهو رجل، فكان المؤول عليه جامدا، فلم يتحمل الضمير. لكن هذا الذى قلناه يقتضى تخصيص قول المصنف: إن المجاز إذا كانت علاقته مشابهة معناه بغيره، يكون استعارة وأن يقال: إذا كانت العلاقة المشابهة، فإن قوى الشبه بحيث يمكن ادعاء أن هذا هو ذاك، كان استعارة، وإلا كان مجازا مرسلا. ويشهد لصحة ما قلناه قول السكاكى فى تفسير المجاز المرسل: إنه الخالى عن المبالغة فى التشبيه، ولم يقل: الخالى عن التشبيه، فعلم أن العلاقة إذا كانت المشابهة، ولم تقصد المبالغة لا يسمى ذلك استعارة. وهذا هو الذى يقتضيه كلام الأكثرين كما ستراه - إن شاء الله تعالى - وإن شئت أن تسمى القسمين استعارة؛ أحدهما أبلغ من الآخر، فلا بدع. الثانى: أن يقال: إن: زيد أسد، عند قصد تنزيله منزلته من باب مجاز الإسناد، فيكون الأسد فيه حقيقة على الحيوان المفترس؛ لكنك أسندته لما لا يصلح له حقيقة، فكان مجازا عقليا. ويشهد لهذا ما قدمناه من عبد القاهر من أن قول الشاعر: فإنّما هى إقبال وإدبار من المجاز العقلى، وإن كان الطيبى قد رد ذلك عند الكلام على قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ (¬1) بما لا نطيل بذكره. وقد يستأنس له بقول ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 177.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السكاكى: يلزم المصير إلى التشبيه؛ لامتناع جعل اسم الجنس وصفا، حتى يصح إسناده إلى المبتدأ. فكأن السكاكى إنما نفى المجاز اللفظى بأن يراد زيد، ولم ينف صحة إرادة المجاز الإسنادى. ثم إن المصنف بعد ذكره لما سبق، ذكر أن الخلاف فى هذه المسألة لفظى، راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة. وفيه نظر؛ لأن الخلاف معنوى فعلى القول بالاستعارة، يكون الأسد مجازا، وعلى القول بالتشبيه، يكون حقيقة قطعا. وقوله: (إنه راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة) صحيح، لكن ليس الكشف عن معنى الاستعارة لفظيا، بل معنويا. نعم يمكن أن يقال: إن هذين اصطلاحان، لا يدافع أحدهما الآخر. ثم قال المصنف: إن كونه تشبيها اختيار المحققين، كالقاضى أبى الحسن الجرجانى، والشيخ عبد القاهر، والزمخشرى، والسكاكى. (قلت): كلام أكثر هؤلاء ليس صريحا فيما ادعاه؛ لأنه يجوز أن يريدوا، أنه استعارة تسمى تشبيها، فيكون مجازا إلا أنه تشبيه حقيقة، ويشهد له تصريح أكثر هؤلاء فى مواضع - كما سبق - بعكس هذا. وقد صرح الإمام فخر الدين أيضا باختيار أنه تشبيه. ثم نقل المصنف، عن عبد القاهر أنه وافق على أنه تشبيه، ثم قال: فإن أبيت إلا أن تطلق عليه لفظ الاستعارة؛ فإن حسن دخول أدوات التشبيه لم يحسن إطلاقه؛ وذلك بأن يكون اسم المشبه به معرفة، مثل: زيد الأسد، فإنه يحسن أن تقول: زيد كالأسد. وإن حسن دخول بعض أدوات التشبيه دون بعض؛ هان الخطب فيه، وذلك بأن يكون المشبه به نكرة غير موصوفة، قولك: زيد أسد، فإنه لا يحسن أن يقال: كأسد، ويحسن أن يقال: كأن زيدا أسد، وتبعه الإمام فخر الدين. (قلت): لا يظهر السبب فى امتناع حسن: زيد كأسد، وبهذا المثال مثل المصنف للمسألة التى نقل فيها عبد القاهر أنه تشبيه ليس استعارة. وكيف ينقل عنه أن الخطب فيه هين، وأنه إنما لا يحسن إطلاق الاستعارة، إذا كان الخبر معرفة. وكأنه لاحظ فى امتناع حسن: زيد كأسد، أنه تشبيه بفرد من أفراد الأسد، وذلك غير مقصود، إنما المقصود تشبيهه بحقيقة الأسد وجنسه، فحسن أن يعرف فيقال: كالأسد أى كهذا الجنس، ولذلك قال الإمام فخر الدين: زيد كأسد بالتنكير، كلام بارد بخلاف: زيد كالأسد بالتعريف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يحسن دخول شئ منها، إلا بتغيير لصورة الكلام كان إطلاقه أقرب، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به، كقولك: زيد بدر يسكن الأرض، وشمس لا تغيب، وقوله: شمس تألّق، والفراق غروبها … عنّا، وبدر والكسوف صدود فإنه لا يحسن أن يدخل الكاف فى شئ من ذلك إلا بتغيير صورة اللفظ، كقولك: هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا يغيب. (قلت): انظر كيف جعل إطلاق الاستعارة على هذا القسم قريبا، مع أن السامع لا يمكنه صرفه إلى حقيقته، وهو موافق لما اخترناه، غير أن فيما قاله من أن دخول أداة التشبيه فى شئ من ذلك، لا يمكن إلا بتغيير صورة اللفظ، نظرا لجواز أن يقال: هو كبدر يسكن الأرض، ويكون المشبه به خياليا لا حقيقيا، كما تقدم فى تشبيه فحم فيه جمر، ببحر من مسك موجه الذهب. ثم قال: وقد يكون فى الصفات والصلات التى تجئ فى هذا النوع ما يحيل تقدير أداة التشبيه معه، فعرف إطلاقه أكثر، كقول أبى الطيب: أسد دم الأسد الهزبر خضابه … موت فريص الموت منه يرعد فإنه لا يحسن أن يقال: هو كالأسد والموت؛ لأن تشبيهه بجنس الأسد دليل أنه دونه، أو مثله، وجعل دم الأسد الذى هو أقوى الجنس خضاب يده، دليل أنه فوقه. (قلت): إحالة دخول الأداة هنا كيف تجتمع مع القول بقرب إطلاق الاستعارة، وينبغى أن يكون موجبا لإطلاق الاستعارة، ومحيلا لكونه تشبيها؟ ثم ما المانع أن يقال: هو كأسد دم الهزبر خضابه فيكون المشبه به أسدا بهذه الصفة؟ ولا بدع فى جعل فرد من مادة الأسد، بلغ إلى أن صار دم غيره من الأسود خضابه، كما سبق فى قوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإنه قصد به أن بعض أفراد النوع، يميز عنه بشئ غايته أن هذا بعيد، أما محال فلا نسلم، ثم قال: وكذا قول البحترى: وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا … وموضع رحلى منه أسود مظلم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يرجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى: هو كالبدر لزم أن يكون البدر المعروف موصوفا بما ليس له، فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة، التى لم تعرف للبدر، فهو مبنى على تخيل أنه أراد فى جنس البدر، وأخذ له هذه الصفة. فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما؛ ولكن لإثبات تلك الصفة، فهو كقولك: زيد رجل كيت وكيت، لم تقصد إثبات كونه رجلا؛ بل إثبات كونه متصفا بما ذكرت، فإذا لم يكن اسم المشبه فى البيت مجتلبا لإثبات التشبيه تبين أنه خارج عن الأصل المتقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات التشبيه. فالكلام فيه مبنى على أن كون الممدوح بدرا، شئ قد استقر وثبت، وإنما العمل فى إثبات الصفة الغريبة. (قلت): ما ذكره واضح؛ ولكنه لا يصل إلى درجة استحالة تقدير الأداة. وما المانع أن يكون المشبه به بدرا بهذه الصفة، ويكون المشبه به خياليا لا حقيقيا؟ ثم قال: وكما يمتنع فى ذلك دخول الكاف، يمتنع دخول: كأن ونحو تحسب، ثم قال: وأيضا هذا الفن إذا فليت عن سره، وجدت محصوله أنك تدعى حدوث شئ هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة، لم يتوهم جوازها على ذلك الجنس، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى. (قلت): كون تقدير التشبيه ليس له معنى صحيح؛ ولكن لا نقول: إنه مستحيل أن يراد. (تنبيه): يستثنى من كلامهم، ما إذا كان المشبه به المذكور خبرا عن المشبه، وهو تمثيل، كقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬1) فإنه يصدق أن طرفى التشبيه مذكوران، والمشبه به خبر، وهو استعارة، كما سيأتى. وهذا مما يدل لما اخترناه من أن ذلك، ليس لازما أن يكون تشبيها. ويستثنى أيضا نحو: زيد أسد يرمى بالنشاب إلا أن يجعل تشبيها خياليا، وفيه بعد. ومثال هذا قول ذى الرمة: فلمّا رأيت الليل والشمس حيّة … حياة الّذى يقضى حشاشة نازع ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 67.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولعل ابن رشيق إنما جعله استعارة لهذا المعنى. (تنبيه): أطلق المصنف أن طرفى التشبيه إذا كانا مذكورين، فهو تشبيه لا استعارة، إذا كان المشبه به خبرا. فدخل فى ذلك ما إذا وقعا خبرا عن مفرد، كقولك: زيد هو أسد، وما إذا لم يكن، كقولك: زيد أسد، والذى يظهر أنه لا فرق، لكن فى المفتاح وإنما عد نحو: زيد أسد تشبيها؛ لأنك حين أوقعت أسدا وهو مفرد غير جملة خبرا لزيد، استدعى أن لا يكون إياه إلى آخره. فظاهر هذه العبارة توهم أن المشبه به قد يكون جملة، وأنه متى كان جملة لا يكون تشبيها؛ لكن الظاهر أنه لا يريد ذلك، وكيف يتصور أن يريده ولفظ أسد يستحيل أن يقع جملة؟ لأنك إذا أخبرت به وبمبتدئه عن زيد، فالجملة مجموع الكلمتين لا الأسد، فلم يقع المشبه به خبرا للمبتدأ الذى هو زيد، وتقدير أداة التشبيه قيل: هو أسد، لا يحسن؛ لأن هو من هو أسد، ليس مشبها به، بل مشبه إلا بقصد قلب التشبيه. ولو كانت الاستعارة التمثيلية لا تكون إلا بجملة؛ لكنت أقول: احترز عن: زيد يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فإن المشبه به وقع خبرا، وليس تشبيها كما تقدم، وسيأتى ولكنه ليس بهذا القيد؛ لأن من التمثيل وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كما ذكرناه، وإنما يريد أن الخبر إذا كان جملة لم يستدع إيقاع الجملة خبرا أن لا يكون هو إياها، بل المطلوب تعلق أحدهما بالآخر فقوله: حين أوقعت أسدا وهو مفرد غير جملة، قيد لكون الأسد هو زيد، لا أنه قيد يخرج زيد هو أسد عن أن يكون أسد تشبيها. ثم قيل: فى كلام السكاكى نظر، فإن الحمل بين المبتدأ والخبر، يستدعى أن يكون أحدهما هو الآخر، مفردا كان الكلام، أم جملة. (قلت): الخبر إذا كان مفردا، كقولك: زيد قائم، فالقائم هو زيد بلا شك، وإذا كان جملة كقولك: زيد هو القائم، فالمحكوم به ليس القيام، بل مضمون الجملة، وهو ثبوت القيام لزيد، أو الحكم به على الخلاف فى ذلك. وكل من ثبوت القيام لزيد والحكم به غير قيامه، فيصدق أن يقال فى: زيد قائم، الخبر هو المبتدأ؛ لأن: زيد قائم، بخلاف زيد هو قائم، فإن مدلوله: زيد ثبت له القيام، أو حكم له به، فلا يكون هو عين المبتدأ، إلا بتأويل: زيد موصوف بالقيام، أن تعلق أحدهما بالآخر، ينحل منه وصف يجرى على زيد هو الخبر فى المعنى.

أركان التشبيه

والنظر - ههنا - فى أركانه - وهى: طرفاه، ووجهه، وأداته - وفى الغرض منه، وفى أقسامه: أركان التشبيه طرفاه: إما حسّيان؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (والنظر فى أركانه: وهى طرفاه، ووجهه، وأداته، وفى الغرض منه وأقسامه). (ش): طرفاه المشبه والمشبه به ووجهه المعنى الجامع، وهو بهذه الأركان شبيه بالقياس وأداته ما سيأتى، فهذه أربعة أركان. (قلت): ويرد عليه ما لا أداة له، كقولنا: زيد أسد، وهو تشبيه على المختار عنده فهذا الكلام لا يلائم ما سبق؛ لأن الركن لا توجد الحقيقة دونه. فإن أجيب عن ذلك بأن أداة التشبيه مقدرة مع اللفظ، فالوجه كيف يدعى أنه ركن، وهو غير مذكور ولا مقدر مع اللفظ؟! ص: (طرفاه إما حسيان إلى آخره). (ش): اعلم أن التشبيه لا يمكن أن يكون حسيا؛ لأنه تصديق على الصحيح خلافا لمن قال: هو إنشاء، والتصديقات ليس شئ منها بحسى، فإن الحس إنما يدرك المفردات، فليتنبه لذلك. إنما طرفاه على أقسام، جملتها مائتان وتسعة وثمانون سأذكرها إن شاء الله. الأول: الحسيان ولا بد لك من تحقيق قواعد هاهنا فنقول: الحواس الخمس لا تدرك إلا الصور الجزئية الحقيقية فالحسى بالحقيقة ما أدرك بإحدى الحواس الخمس، وذلك لا يكون إلا جزئيا، وقد يطلق الحسى على المادة التى تدرك الحاسة أفرادها، وذلك على قسمين: تارة تكون تلك الأفراد خارجية، وتارة تكون ذهنية فقط، فلا يكون شئ من أفرادها موجودا فى الخارج. فالقسم الأول المدرك بالحس كقولك فى المبصرات: خد زيد كهذا الورد، وفى المسموعات: سمعت كلاما مثل هذا الكلام، وفى المشمومات: هذا الفم كهذا العنبر، وفى المذوقات: شربت ماء كهذا العسل، وفى الملموسات: جلد زيد كثوب الحرير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والقسم الثانى نوعان: الأول أن تكون تلك المادة كلية وجدت أفراد لها، كقولك: يعجبنى خد كالورد؛ فإن الطرفين كليان وليسا محسوسين؛ لأن الكلى لا يحس إنما المحسوس كثير من أفرادهما. وقد يكون هذا القسم لم يوجد منه إلا فرد واحد كقولك: زيد قمر، فإن الثانى أن تكون المادة كلية لم يوجد شئ من أفرادها، كالمشبه به فى قولك: شقيق كأعلام الياقوت فإن أعلام الياقوت كلية غير موجودة، لكنها تسمى حسية باعتبارين: أحدهما: أنه لو أدرك جزئى من جزئياتها لأدرك بالحاسة. والثانى: أن أجزاء كل فرد من مفرديها وهما العلم والياقوت إذا أريد به معين، كان حسيا. وتسمية هذا حسيا أبعد مما قبله؛ لأنه لم يوجد منه فى الخارج فرد. وبهذا تعلم أن كل حكم علقته بمشبه ومشبه به باعتبار المستقبل، وكانا غير موجودين، فإن تسميته حسيا على نحو ما سبق كقولك: اللهم ارزقنى ولدا كالبدر، وأعطنى فى الجنة حورا كالياقوت والمرجان، فكل ذلك يسمى حسيا. إذا تقرر ذلك، فاعلم أن المصنف أطلق الحسى على أمرين: أحدهما ما أدرك بالحس، والثانى ما أدركت مادته لا هو، وأراد به القسم الأخير، واقتضى كلامه أن القسم الأول من أول نوعى الثانى حسى حقيقى، وليس كما قال فليتأمل. وإذا تأملت ما ذكرته، علمت أنه لا تكاد تجد تشبيها فيه الطرفان حسيان حقيقيان إلا قليلا. الثانى: اعلم أن الذى تدركه الحواس هى الأعراض، فالبصر يدرك اللون، والسمع يدرك الصوت، والشم يدرك الرائحة، والذوق يدرك الطعم، واللمس يدرك الحرارة واللين مثلا. فإن أطلقت المحسوس على ذات لا تريد لونها مثلا، بل تريد معناها العقلى، كان ذلك حينئذ عقليا لا حسيا، وإن أطلقته على ذات تريد عرضها المدرك بالحاسة كان فيه توسع. فإذا قلت: لون زيد كلون عمرو، كانا محسوسين قطعا، وإذا قلت: زيد كعمرو، كان معناه تشبيه حقيقة بحقيقة فيكونان عقليين، وإذا قلت: زيد كعمرو مريدا تشبيه لونه بلونه، ساغ ذلك بقرينة تصرف إليه كقولك: زيد كعمرو بياضا، والإطلاق حينئذ مجاز كما صرح به الإمام فخر الدين فى المحصول. والظاهر أنه صار حقيقة عرفية لاشتهاره. وهذا التفصيل الذى ذكرناه هو التحقيق، وإن كان

كالخدّ والورد، والصوت الضعيف والهمس، والنّكهة والعنبر، والرّيق والخمر، والجلد الناعم والحرير، أو عقليّان؛ كالعلم والحياة، أو مختلفان؛ كالمنية والسّبع، والعطر وخلق كريم ... ـــــــــــــــــــــــــــــ مخالفا لكلامهم؛ لأنهم جعلوا الطرفين حسيين، وإن كان وجه الشبه بينهما عقليا كما ستراه، وهذا اصطلاح لهم لا مشاحة فيه. فنحن نتبعهم فيه على اصطلاحهم، والتحقيق ما سبق. وهذا البحث لم يزل يدور فى خلدى إلى أن جزمت به، وكتبته ثم بعد مدة، رأيت ابن الأثير قد وقع عليه، فقال فى كنز البلاغة: قولنا: زيد أسد، تشبيه معنى بمعنى؛ لأن المقصود الشجاعة. ثم رأيت ابن رشيق فى العمدة أشار إليه فقال: إن التشبيه إنما هو أبدا على الأعراض لا على الجواهر. (الثالث): حيث قلنا فى هذا الباب: حسى، أو خيالى، أو عقلى، أو وهمى، أو وجدانى، فالمراد أن يكون إدراك السامع له بإحدى هذه الطرق، أو نقول: المراد أن يكون الإنسان يدرك ذلك بأحدها. وإنما قلت ذلك احترازا من التشبيهات الواردة فى كلام الله تعالى، فإن علمه عز وجل ليس بشئ من هذه الطرق. إذا تقرر ذلك فلنرجع لكلام المصنف. فقوله: (كالخد والورد) مثال للمبصرات، فالخد مشبه والورد مشبه به، والواجب أن يقال: كلون الخد ولون الورد وأن يذكر معه ما يصرفه لخد معين وورد معين، وإلا فيكون غير مدرك بالحاسة كما سبق. وقوله: (والنكهة والعنبر) مثال للمشمومات، وينبغى أيضا أن يقال: وريح العنبر، والإيراد عليه هنا أشد؛ لأنه جعل المشبه به فى اللفظ العنبر، والمشبه فى اللفظ النكهة، وهى رائحة الفم فإما أن يقول: كالنكهة ورائحة العنبر، أو يقول: كالفم والعنبر كما قال فى الخد والورد، ثم عليه السؤال السابق. وقوله: (والريق والخمر) مثال للمذوقات. وفيه نظر؛ لأن الريق لا يشبه بالخمر فى الطعم، وإنما يشبه بها إذا أريد تشبيه الطرب الحاصل بالريق بنشوة الخمر، وهو فيهما حينئذ يكون عقليا وجدانيا لا حسيا، فكان الأحسن أن يمثل بالريق والشهد، ثم عليه السؤالان السابقان. وقوله: (والجلد الناعم والحرير) مثال للملموسات، وعليه السؤالان السابقان. وقوله: (والصوت الضعيف والهمس) مثال للمسموعات. قال الخطيبى: والصوت الضعيف ما كان ضعيفا فى نفسه، والهمس ما أسر من ذلك الكلام وأخفى،

والمراد بالحسى: المدرك هو أو مادّته - بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة؛ فدخل فيه الخيالىّ؛ كما فى قوله (¬1) [من مجزوء الكامل]: وكأنّ محمرّ الشّقي … ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا أدرى من أين له هذا، وأكثر أهل اللغة قالوا: الهمس الصوت الضعيف. لكن قال الثعالبى فى فقه اللغة: الهمس صوت حركة الإنسان، وقال ابن سيده فى المحكم: الهمس الخفى من الأكل، والضرب، والوطء، وهو قريب من كلام الثعالبى. والآية ترشد إليه فى قوله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (¬2) معناه أن الأصوات سكنت فلا تسمع إلا حركة الأعضاء. وبذلك يعلم أن قول المصنف: الصوت الخفى - أى من الكلام ونحوه - يشبه بصوت الحركة، فقوله: (المراد بالحسى ما أدرك هو أو مادته فدخل فيه الخيالى) يرد عليه ما سبق فينبغى أن يقيد الخيالى بأعم مما ذكره، ومثل له بقوله: كأنّ محمر الشّقي … ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد يعنى بما لا يدرك هو ولكن أدركت مادته ما أدركت أفراده بالحس - أى أجزاء كل جزئى منه، ولم يدرك هو أى هيئته الاجتماعية فيكون ملحقا بالحسى؛ لاشتراك الحس والخيال فى أن المدرك بهما صورة لا معنى، ويتميز عن الوهمى بأن أجزاء كل فرد منه موجودة فى الخارج بخلاف الوهمى، وهنا قد شبه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد. فأفراد المشبه به من العلم والياقوت والرماح والزبرجد حسية، والهيئة الاجتماعية الحاصلة منها خيالية، فالمشبه مفرد حسى، والمشبه به مركب خيالى كذا قاله الخطيبى. (قلت): قوله: إن أفراد المشبه به العلم والياقوت والرماح والزبرجد مدركة بالحس ليس بجيد؛ لأن الأفراد إنما هى أعلام من ياقوت ورماح من زبرجد، وهما خياليان. ¬

_ (¬1) البيت للصنوبرى، المصباح ص 116، أسرار البلاغة ص 158، والطراز 1/ 275. (¬2) سورة طه: 108.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فليس له إلا مفردان. ثم أقول: كأن الشارح فهم أن المشبه الأعلام والرماح هو المتبادر إلى الذهن، وفيه نظر؛ لأنه يلزم تشبيه محمر الشقيق بالرماح الأخضر، وهو فاسد، بل إنما شبه محمر الشقيق بأعلام من ياقوت، وهى تمام المشبه به. ولصحة هذا التشبيه شرط وهو كون الأعلام من الياقوت معها رماح الزبرجد، ولا يصح فهم البيتين إلا بهذا الوجه، وإلا فسد. وعلى هذا فسد قول الخطيبى والمصنف فيما سيأتى: إنه تشبيه مفرد بمركب. بل هو تشبيه مفرد بمفرد على ما سيأتى تحقيقه فى تشبيه المفرد والمركب إن شاء الله تعالى. وإن جعل المشبه به مجموع ما ذكر فليجعل المشبه أيضا مجموع الشقيق وساعده، ويكون التقدير: وكأن محمر الشقيق وساعده، إلا أن يقال: اسم الشقيق يشمل الورق والسواعد. وقول الشاعر: (تصوب) أى مال إلى جهة الهبوط (وتصعد) أى مال إلى الصعود بجهة العلو (وإذا) متعلق بما فى (كأن) من معنى التشبيه. وقوله: (أعلام) كأنه يوهم أن العلم هو المنشور فوق الرماح، وظاهر كلام المحكم خلافه فإنه قال: العلم الراية. وقيل: هو الذى يعقد على الرمح، وهذا يقتضى ترجيح أنه الرمح نفسه، ويشهد له قولهم: نار على علم فليحرر موضوع العلم. وقالوا: إن قوله: (محمر الشقيق) من إضافة الصفة إلى موصوفها، وأنه أبلغ من قولنا: الشقيق المحمر. (قلت): لا حاجة لذلك بل فيه نظر؛ لأن فى الشقيق المحمر والمسود والمبيض، فيكون شبه أحمره بأعلام الياقوت مقيدة بتلك القيود. واعلم أن الخيالى هنا إنما هو المشبه به والمشبه حسى، فليس التشبيه هنا خياليا فقط، بل يصدق عليه الخيالى باعتبار المشبه به، والحسى باعتبار المشبه، فينشأ من الحسى والخيالى أربعة أقسام، وأنشد فى الإيضاح للخيالى أيضا قول الشاعر: كلّنا باسط اليد … نحو نيلوفر ندى كدبابيس عسجد … قضبها من زبرجد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا هو فى الإيضاح، ويروى نصبها بالنون والصاد، وهذا المقطوع أحسن من الأول، إلا أن النيلوفر فى بلادنا لا يشبه العسجد. أخو العلم حىّ خالد بعد موته … وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت، وهو ماش على الثّرى … يظنّ من الأحياء وهو عديم وقوله: (أو عقليان) أخرته، وإن كان المصنف قدمه؛ ليستوفى ما يتعلق بالحسى، وقد مثل العقليين بالعلم والحياة، فإن أراد نفس المصدرين فصحيح، كقولك: علم زيد كالحياة، وإن أراد المشتق منهما وهو الظاهر؛ لأن جماعة مثلوا للعقليين بقول العفيف البصرى. وكذلك الإمام فخر الدين مثل لهما بالموجود والمعدوم، فصحيح أيضا لا يقال: إن العالم والحى ذاتان مبصرتان؛ لأن المقصود حقيقة العالم والحى العقليين، لا لونهما كما سبق تقريره، ويوضحه قولهم: الأسود ونحوه من المشتق يدل على شئ له السواد، لا على جسم فإذا لم يدل على جسم، لم يكن حسيا غير أنه سيأتى فى كلام المصنف ما يرد عليه هذا قريبا، وسيأتى فى المفتاح فى باب الاستعارة عند الكلام على الريح العقيم ما يقتضى خلاف هذا. وقد يقال عليه أيضا: إن الحى ليس مشبها به، بل صفة لموصوف محذوف تقديره: رجل حى ورجل حسى، ولذلك صرح عبد اللطيف البغدادى بأن هذا كله من مجاز الحذف. وقوله: (أو مختلفان) أى أحدهما حسى، والآخر عقلى (كالمنية والسبع) مثال لمشبه عقلى، وهو المنية، وهذا صحيح، ومشبه محسوس وهو السبع، وهذا حسى على اصطلاحهم، وفيه البحث السابق؛ لأن تشبيه المنية بالسبع من جهة الافتراس، والسبع لم يقصد لونه، بل قصد حقيقته العقلية، لا يقال: فهو حينئذ على ما ذكرناه فى الحى والعالم فإن السبع ليس مشتقا، والجامد لا شك أنه دال على الجسم فيكون حسيا كالعلم، ونظيره تشبيه العدل بالميزان، وتشبيه القرينة الدالة بالشخص الناطق، كما مثل بالثلاثة السكاكى. والجميع قالوا: إن القسطاس إنما قصد حقيقته العقلية، وهو عدم الجور، والناطق إنما قصد به ذات لها النطق، والأحسن تمثيله بقولنا سنة: كالنجم. وقد يعترض على جعل الناطق حسيا؛ بأنه لا يجامع جعل الحى عقليا. ويجاب عنه بأن مراد السكاكى: أن يكون المشبه جامدا ناطقا، لا لفظ الناطق. كقولك: قرينة

وبالعقلىّ: ما عدا ذلك؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ كلسان ناطق، وقد يمثل أيضا بقوله تعالى: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ (¬1) وتشبيه الحجة بالنور، وبه مثل الإمام قال: ولا يقال: الحجة مسموعة، بل المعتبر هو المعانى العقلية، وهو شبيه بما قلناه فى الحى، والعالم أنهما عقليان. وقوله: (والعطر وخلق كريم) مثال لعكسه، فإن العطر المشبه حسى والخلق عقلى، وقد يعترض عليه بأمرين: أحدهما: أن العطر لا يشبه بالخلق إنما تشبه رائحته بالخلق، وأن العطر نفس الطيب لا رائحته. الثانى: أن هذا من قلب التشبيه؛ فإنه إنما يشبه خلق الكريم بالعطر. (تنبيه): لا يجوز عند بعضهم تشبيه المحسوس بالمعقول، وبه جزم الزنجانى فى معيار النظر، والإمام فخر الدين؛ إذ المشبه به يجب أن يكون أظهر من المشبه ولكون المعقول فرع المحسوس، لأنه مستفاد منه، وحيث جاء فى الأشعار يؤول على أنه جعل المعقول محسوسا على سبيل المبالغة، وهذا يستدرجك إلى أن تجعل جميع هذا النوع من باب قلب التشبيه، ولا يجوز عند بعضهم تشبيه واحد منهما بالآخر. قال التنوخى فى الأقصى القريب: تشبيه المعنى بالصورة والصورة بالمعنى لا بد فيه من تجوز، ومن عد تشبيه المعنى بالصورة، ولم يعد تشبيه الصورة بالمعنى لا معنى لترجيحه أحد الأمرين على الآخر، بل إما أن يعدا معا أو لا يعدا معا. انتهى. وهذا قول ثالث يقتضى نفى تشبيه المعقول بالمحسوس أيضا على سبيل الحقيقة. (تنبيه): إدراك الحواس علم عند الأشعرى وطائفة، والعلم عقلى فيلزم أن يكون الحسى عقليا، وجوابه: أن المراد بالحسى المدرك لا الإدراك، ألا ترى إلى قولهم: الحسى ما أدرك. ص: (والعقلى ما عدا ذلك). (ش): أى ما عدا الحسى والخيالى، فدخل فيه الوهمى وهو ما ليس بمدرك بها، ولو أدرك لما أدرك إلا بالحواس، وينبغى أن يقال: ما لا يدرك؛ لأن قولنا: ما ليس بمدرك يدخل فيه كل ما يتعلق بالمستقبل، كقولك: إن يأتنى ولد كالبدر أحببته، وعليه قوله ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 18.

فدخل فيه الوهمى، أى: ما هو غير مدرك بها (¬1)، ولو أدرك لكان مدركا بها؛ كما فى قوله (¬2) [من الطويل]: ومسنونة زرق كأنياب أغوال ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (¬3) قاله المصنف وغيره: وقد يقال: إنه خيالى؛ لأن الرءوس والشياطين مدركة بالحس؛ لأن الجن يرون، أما الممتنع فالمركب بالإضافة. على أنه قيل فى الآية: إن رءوس الشياطين ثمرة قبيحة لشجر منكر الصورة، وقيل: الشياطين الحيات حكاهما ابن رشيق وغيره. وأورد على المصنف أنه حكم بأن الوهمى ما ليس مدركا بالحواس الظاهرة، ولو أدرك لكان مدركا بها، وعبارته فى الإيضاح: لما كان مدركا إلا بها فيلزم أن لا يكون الوهمى مدركا أصلا، والفرض أنه مدرك قطعا. وأجيب عنه بأن مراده لو أدرك فى الخارج، لكان مدركا بالحواس لا أنه لا يدرك ابتداء إلا بها، وأورد عليه أنه ممنوع لأنا إذا قدرنا مثلا للمنية شيئا كالأظفار، فهذا لو وجد فى الخارج لما كان مدركا بالحواس الظاهرة؛ لأنه صفة المنية، وصفة العقلى لا يكون محسوسا إذا وجد، ومن الوهمى قول امرئ القيس: أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى … ومسنونة زرق كأنياب أغوال والمشرفى: صفة السيف نسبة إلى مشرف مفرد مشارف، وهى قرى من أراضى العرب، وإنما جعل ذلك من الوهميات؛ لأن الغول لا وجود له، كما ثبت فى الصحيح قوله صلّى الله عليه وسلّم: " ولا غول" (¬4) وما فى الصحيح من قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبى هريرة - رضى الله عنه -:" إنك تكلم الغول منذ ثلاث" (¬5) فهو الشيطان، وجعل رءوس الشياطين من الوهمى إشارة إلى أن الشيطان لا رأس له، وأصحابنا ذكروا فى الطلاق لو قال لزوجته: إن لم تكونى أطول شعرا من إبليس، فأنت طالق، قالوا: لا يقع الطلاق للشك. ¬

_ (¬1) أى بإحدى الحواس الخمس الظاهرة المذكورة. (¬2) شطر بيت لامرئ القيس ديوانه ص 150، والإيضاح ص 336 صدره: أيقتلنى والمشرفى مضاجعى (¬3) سورة الصافات: 65. (¬4) أخرجه مسلم فى" السّلام"، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة .... (ح 2222)، عن جابر رضى الله عنه ولفظه:" لا عدوى ولا طيرة ولا غول". (¬5) أخرجه البخارى فى" الوكالة"، باب: إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا .... (4/ 568)، (ح 2311)، وفى" التفسير"، وهو حديث أبى هريرة عند ما وكله النبى صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة.

وما يدرك بالوجدان؛ كاللذة والألم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويتميز الوهمى عن الخيالى بأن المادة فى الخيالى مدركة أى أجزاء كل فرد منه، والوهمى ليس مدركا لا هو ولا مادته. (قلت): التحرير أن يقال: أجزاء الخيالى (قوله: وما يدرك بالوجدان) أى دخل فى العقلى؛ لأنه يدرك بالقوة الباطنة (كاللذة) وهى إدراك الملائم (والألم) وهو إدراك المنافر، وفى إطلاق ذلك نظر. قال فى شرح التجريد: كل من اللذة والألم حسى وعقلى فإنا نلتذ بالمعارف، وهى عقلية لا تعلق لها بالحس، ونلتذ بمطعوم ومشروب ونتألم بفقدهما فعلى هذا لا يصح تعميم أن كل لذة وألم عقلى، ثم سيأتى فى كلام المصنف فى الوجه ما يخالف هذا. وإنما أدخل الوهمى فى العقلى، والخيالى فى الحسى؛ تقليلا لوجوه التشبيه ما أمكن. واعلم أن الوجه الخيالى عبارة عن كون الجامع لا يكون موجودا فى المشبه به إلا بتأويل، كما صرح به فى الإيضاح وغيره، والكلام فى ذلك يحتاج إلى تحقيق، فنقول: قدمنا الخلاف فى جواز تشبيه المحسوس بالمعقول، وأن الجمهور على جوازه، فالوجه إن كان خياليا فى المشبه حقيقيا فى المشبه به فلا وجه لمنعه، فإنه يضاهى تشبيه الخيالى بالحسى، أو العقلى، وإن كان خياليا فيهما، فالظاهر أنه كذلك؛ لأنه تشبيه حسى بحسى أو عقلى بعقلى، وإن كان حسيا فى المشبه خياليا فى المشبه به، فقد قدمنا الخلاف فى تشبيه الحسى بالعقلى، وأن المصنف والأكثرين على جوازه. فإن قلنا به فلا بدع فى أن يكون الوجه خياليا فى المشبه به حسيا فى المشبه وإن منعناه وجعلنا ما ورد منه من قلب التشبيه امتنع فإن عليه أن المشبه به لا بد أن يكون أوضح من المشبه والمعنى فيه أتم؛ لأنه كالأصل المستلحق والمشبه كالفرع الملحق. إذا تقرر هذا، فاعلم أن المصنف يرى جواز تشبيه الحسى بالخيالى، وأنه ليس من القلب فيلزمه أن يجوز كون الوجه خياليا فى المشبه فقط، أو فى المشبه به فقط، أو فيهما فتفسيره الخيالى بأن يكون الوجه بالتأويل فى المشبه به فيه نظر؛ لأنه ينفى بالمفهوم أن يكون خياليا فيهما أو خياليا فى المشبه فقط، ولعله خلاف الإجماع إلا أن يؤول على أنه نص على هذا، ليفهم منه جواز الآخرين من باب الأولى، والذى يظهر - والله أعلم - أن المصنف أراد المشبه به فى اللفظ فيما ذكره من الأمثلة، فإنه يرى أنها من باب قلب التشبيه كما صرح به فى الإيضاح، وكذلك السكاكى، ويكون مراده

ووجهه: ما يشتركان فيه تحقيقا أو تخييلا؛ والمراد بالتخييل: نحو ما فى قوله [من الخفيف] (¬1): وكأنّ النّجوم بين دجاها … سنن لاح بينهنّ ابتداع ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحقيقة أن يكون الوجه بالتأويل فى المشبه، ثم يقلب التشبيه غير أنه يقع النزاع معه فى أن ذلك من قلب التشبيه على ما سيأتى. وقول المصنف: (تحقيقيا أو تخييليا) يبعد أن يكونا منصوبين على المفعول من أجله؛ لأنهما لم يشتركا من أجل ذلك، ولا حالا؛ لأن مجئ الحال مصدرا لا ينقاس على الصحيح، ولا تمييزا؛ لأن الاشتراك ليس من تحقيق ولا تخييل، والأظهر أنهما مصدران مؤكدان. بقى النظر فى أن قولنا: اشتراكا تخييلا هل حقيقته أن يحصل التخييل فى الطرفين، أو يكفى أن يكون التخييل فى أحدهما، وفيه بحث شريف ذكرناه فى شرح المختصر. ص: (ووجهه ما يشتركان فيه تحقيقا أو تخييلا إلى قوله الشديد الخضرة). (ش): وجه الاستعارة هو العلاقة، وهو المعنى الجامع بين المستعار له والمستعار منه واشتراكهما فيه تارة يكون تحقيقا كمشاركة زيد الشجاع للأسد فى معنى الشجاعة كذا قالوه، وهو غير صحيح فإن الشجاعة وصف مركب من العقل والجراءة. قال الإمام فخر الدين فى المباحث المشرقية فى آخر الفصل السابع من الباب السابع: الشجاعة مركبة من الإقدام والعقل. انتهى. وعلى هذا ليس فى الأسد شجاعة كما اشتهر على الألسنة فإذا شبه الإنسان بالأسد فالوجه إنما هو الإقدام لا الشجاعة، ونحن وإن أطلقنا ذلك فهو تبع للجمهور، وتارة يكون تخييلا، ولو سمى تخيليا لكان أحسن؛ لأن المستعير متخيل لا مخيل لكنه سمى تخييلا باعتبار تخييله لغيره، وما حيث وقعت فى الحدود نكرة موصوفة بمعنى شئ؛ لكنها فى هذا المحل لا تكون بمعنى شئ لأن الشئ الموجود على مذهب أهل السنة فيلزم أن يكون وجه الشبه وجوديا. لكنه قد يكون عدميا كما سيأتى فى تشبيه الموجود الذى لا ينفع بالمعدوم، والوجه عدم الفائدة. ثم اعلم أن المراد بالوجه ههنا ما هو أعم من الواحد والمتعدد فإنه سيقسمه إليهما، وقد مثل المصنف للخيالى بقول القاضى التنوخى: وكأنّ النّجوم بين دجاها … سنن لاح بينهنّ ابتداع ¬

_ (¬1) البيت للقاضى التنوخى، المصباح ص 110، والإيضاح ص 343، ونهاية الإيجاز ص 190.

فإنّ وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض فى جوانب شئ مظلم أسود، فهى غير موجودة فى المشبّه به إلا على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة - وكل ما هو جهل - تجعل صاحبها كمن يمشى فى الظلمة، فلا يهتدى للطريق، ولا يأمن أن ينال مكروها شبّهت بها، ولزم بطريق العكس: أن تشبه السنة - وكل ما هو علم - بالنور، وشاع ذلك حتى تخيّل أن الثانى مما له بياض وإشراق؛ نحو: (أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء) (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن الجامع بينهما الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض فى جوانب شئ مظلم، وليس ذلك فى السنن والابتداع إلا على وجه التخييل، هذا معنى عبارة الإيضاح. (قلت): وتحرير العبارة أنه شبه النجوم بالسنن، والجامع حصول النور، وهو خيالى فى السنن، وشبه الدجى بالابتداع وهو خيالى فى الابتداع، وحصل فى ضمن ذلك تشبيه الهيئة بالهيئة، والتشبيه الصريح إنما هو الأول، والثانى قيد فيه، ثم ذكر المصنف أن كون البدعة تجعل صاحبها فى حكم من يمشى فى الظلمة جعلها مشبهة بالظلمة، ولزم من ذلك تشبيه الهدى بالنور، وأصل ذلك قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (¬2) وشاع ذلك حتى وصف الأول بالسواد فى قولهم: شاهدت من جبينه سواد الكفر، والثانى بالبياض كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" أتيتكم بالحنيفية البيضاء" (¬3) وليس منه: " الظلم ظلمات يوم القيامة" (¬4) لجواز أن يترتب على الظلم نفس الظلمة حقيقة قال: فصار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، كتشبيه النجوم فى الظلام ببياض ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بنحوه فى المسند 5/ 266 / ولفظه إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكننى بعثت بالحنيفية السمحة وأورد الشيخ الألبانى نحوه فى الصحيحة ح (1782). (¬2) سورة البقرة: 257. (¬3) أخرجه البخارى فى صحيحه معلقا، بلفظ: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"،" كتاب الإيمان"، (1/ 116) وورد بلفظ آخر عند ابن سعد فى" الطبقات"، وقال الشيخ الألبانى:" وهذا إسناد مرسل لا بأس به فى الشواهد ورجاله ثقات .... " انظر الصحيحة (4/ 386)، تحت حديث (1782). ولم أجده بهذا اللفظ الذى أورده المصنف. (¬4) أخرجه البخارى فى" المظالم"، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة، (5/ 120)، (ح 2447)، ومسلم فى" البر والصلة"، (ح 2579)، من حديث ابن عمر.

والأول على خلاف ذلك؛ كقولك: شاهدت سواد الكفر من جبين فلان؛ فصار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، كتشبيهها ببياض الشّيب فى سواد الشباب، أو بالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيب فى سواد الشباب، أو بالأنوار جمع نور بالفتح (بين النبات الشديد الخضرة) ووجهه أنه تخيل ما ليس بمتلون متلونا. (قلت): يريد أنه صار متخيلا، كما أن اللون تحقق فى بياض الشيب، وكونه جعل التشبيه أولا بين الابتداع والظلمة، وأنه لزم عنه تشبيه الهدى بالنور فيه نظر، والأولى العكس، كما هو نص البيت، فإن الذى دخلت عليه أداة التشبيه هو الأجدر بأن يجعل المقصود وغيره لازم عنه، إلا أن يكون لاحظ فى ذلك تقدم الظلمة فى الخلق على النور، أو لقوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (¬1) ثم يقال: كيف لزم عن تشبيه البدعة بالظلمة تشبيه الهدى بالنور، ومن شبه أحد الضدين بأمر لا يلزمه تشبيه ضده بضده، وليس كل ما ثبت لأحد الضدين ثبت ضده لضده، ولعله يريد انحدار الذهن من تشبيه البدعة بالظلمة إلى تشبيه السنة بالنور. وقوله: (فصار تشبيه النجوم إلى آخره) هو الموافق لنظم البيت، ولكنه ليس موافقا لما سبق من قوله: شبهت البدعة بالظلم والهدى بالنور فإن مقتضى ذلك أن يقول: فصار تشبيه الهدى بين الابتداع بالنجوم بين الظلام، ولعل الجمع بين كلاميه وأنه أراد أولا التشبيه الأصلى، ثم أراد هنا التشبيه المقلوب. بقى هنا أمور منها: أن هذا المثال وغيره من أمثلة التخييل، وما تقدم فى حد التخييل يقتضى أن التخييل كله من باب قلب التشبيه، وكلام السكاكى يصرح به البيت السابق ونظائره، والمصنف صرح به فى الإيضاح فى بعض الأمثلة، وعليه شيئان: أحدهما: أن هذا يخالف قول المصنف شبه أولا كان كذلك ثم قلب. الثانى: أنا لا نسلم القلب، فإن قال: لأن الخيالى أضعف من الحسى، فلا يجعل أصلا لزمه منع تشبيه الحسى بالخيالى والعقلى، نعم يحتاج إلى دعوى قلب التشبيه إذا علمنا من سياق كلام الشاعر أنه إنما قصد تشبيه السنن والابتداع بالنجوم والظلام ولا نسلم ذلك، بل سيأتى ما يدل على خلافه - إن شاء الله تعالى - ومنها: أن فى البيت تقديرين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 257.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن النجوم هى التى تلوح بين الدجى، وهو قد جعل الابتداع يلوح بين السنن، فالتشبيه غير تام. الثانى: أن لاح لا يستعمل إلا فيما له إشراق وظهور، وذلك مناسب لأن تجعل فاعله السنن لا الابتداع. الثالث: وأورده الزنجانى أن الأشياء البيض فى المشبه به ظرف، والسواد مظروف، وفى المشبه بالعكس فكيف يصح أن يكون المشبه الهيئة الاجتماعية؟ وهو قريب من الأول، ولا يصح الجواب بأن لاح مسند إلى ضمير السنن؛ لأن قوله: بينهن ابتداع صريح فى الظرفية؛ ولأن لاح فيه ضمير المؤنث الغائب فلا يصح تذكيره، وإن كان مجازيا على المشهور. وقوله: (ولا أرض أبقل إبقالها) شاذ ولو جوزناه فنهاية ما يحصل به الجواب عن السؤال الثانى ولا يصح الجواب عن هذا والذى قبله بأنه من باب القلب مثل: عرضت الناقة على الحوض، ويكون التقدير: لاحت بين الابتداع؛ لأن القلب لا ينقاس لغة، وهذا الشاعر ليس ممن يحتج بقوله، وأجيب عنه بأن المراد تشبيه النجوم بالسنن، والدجى بالبدع سواء أكان الدجى ظرفا، أم مظروفا ولا يصح؛ لأن رعاية الظرفية هنا مقصودة. نعم قد خطر فى هذا البيت شئ حسن، لا يخلو عن تكلف لكنه ينحل به الإشكال، ويعلم به أنه ليس من قلب التشبيه وأقدم عليه أن قبل هذا البيت: ربّ ليل قطعته كصدود … وفراق ما كان فيه وداع موحش كالثقيل يقذى به العي … ن وتأبى حديثه الأسماع وكأنّ النجوم بين دجاها … سنن لاح بينهنّ ابتداع (¬1) فهذا الرجل يذكر ليلا مضى له مدلهما شديد السواد، استولت ظلمته على نجومه فسترتها، وتخللت وسطها، فلم يبق فيه شئ من النور. ألا ترى قوله: (كصدود وفراق ما كان فيه وداع) أى ليس فيه شئ من النور، فلو أن نجومه باقية لكان فيه مثل الوداع الذى يتعلل به، فلما وصفه بأنه ظلمة فقط ليس فيه شئ من النور، قال: ¬

_ (¬1) البيت للقاضى التنوخى، فى المصباح ص 110، ونهاية الإيجاز ص 190.

فعلم فساد جعله فى قول القائل: النّحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل مصلحا والكثير مفسدا؛ لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة؛ بخلاف الملح .... ـــــــــــــــــــــــــــــ وكأن النجوم بين دجاه سنن - أى كأن نجومه الكائنة بين الدجى أى التى استولى الدجى عليها وسترها - لاح الابتداع بينها أى بين أجزاء كل نجم من نجومها فصارت السنن ظرفا، والبدعة مظروفا لها ساترا لها كما أن الظلمة سترت النجوم واستولت عليها استيلاء المظروف، وبهذا ظهر أنه ليس من قلب التشبيه؛ لأن المقصود تشبيه ليلته لا تشبيه بدعته، ولا يقدح فى هذا قوله بعد: مشرقات كأنهنّ حجاج … تقطع الخصم والظّلام انقطاع لأنه يريد أنهن مع كونهن مشرقات غلبت عليها الظلمة فسترتها، وقد ذكر المصنف فى الإيضاح أمثلة كثيرة للوجه الخيالى لم أر الإطالة بذكرها. ص: (فعلم فساد جعله فى قول القائل: النحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا؛ لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة بخلاف الملح). (ش): أى لكون وجه الشبه ما يشتركان فيه علم فساد جعل الوجه كون القليل مصلحا والكثير مفسدا فى قولهم: النحو فى الكلام كالملح فى الطعام إذ القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما فى الملح؛ لأن قليله ينفع وكثيره يضر بالطعام دون النحو، فإنه إن وجد انتفع به كرفع الفاعل ونصب المفعول، وإن لم يوجد لم يوجد النحو فهذا حينئذ ليس بوجه؛ لعدم الاشتراك، وتقريره على هذا الوجه، يقتضى أن المانع فى المشابهة كون النحو لا يتفاوت بالقلة والكثرة، ولكن يمنع ذلك لأن النحو متفاوت قطعا، وقد يعرف النحوى تراكيب كثيرة لا يعرفها نحوى آخر. ويحتمل أن يراد أن التشبيه فاسد؛ لأن النحو كثيره وقليله يصلح بخلاف الملح ولفساد القلة والكثرة وجها، قيل: الوجه فى هذا التشبيه كون الاستعمال مصلحا والترك مفسدا، ليكون مشتركا بينهما وإليه ذهب عبد القاهر، وقد تكلف للأول بأن كثرة النحو توجب الإقدام على ما لا يتوهم قليل النحو جوازه من تقديم وتأخير وإضمار، فيبقى كبيت الفرزدق السابق، ولعل هذا المراد من قول السكاكى: وربما أمكن تصحيح هذا، ولكن ليس ما يهمنا الآن. وقيل المراد: أن البيت قد يكون له أعاريب، فحمله على المعنى المراد تقليل للنحو وإصلاح، وحمله على تلك الأعاريب، الكثيرة كثرة مضرة، وقيل: لأن النحو مقصود

وهو إما غير خارج عن حقيقتهما؛ كما فى تشبيه ثوب بآخر فى نوعهما، أو جنسهما أو فصلهما. أو خارج صفة؛ إما حقيقية، وهى إما حسية كالكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر: من الألوان، والأشكال، والمقادير، والحركات، وما يتصل بها، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة، والقوية، والتى بين بين، أو بالذّوق من الطعوم، أو بالشمّ من الروائح، أو باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللّين والصلابة، والخفة والثقل، وما يتصل بها، أو عقلية، كالكيفيات النفسانية: من الذكاء والعلم، والغضب والحلم، وسائر الغرائز. وإما إضافية؛ كإزالة الحجاب فى تشبيه الحجة بالشمس. ـــــــــــــــــــــــــــــ لغيره من العلوم، فكثرة النحو المستغرقة للعمر مفسدة لمنعها من العلوم المقصودة بالذات، وقيل: ليس المراد العلم بل استعمال أحكامه فى الكلام وفى الإيضاح، ومما يتصل بهذا قول القيروانى: غيرى جنى وأنا المعاقب فيكم … فكأنّنى سبّابة المتدّم فإنه أخذه من النابغة فى قوله: لكلفتنى ذنب امرئ وتركته … كذى العر يكوى غيره وهو راتع وأفسده؛ لأن سبابة المتندم أول ما يتألم منه فلا يكون المعاقب غير الجانى. (قلت): وقوله: (أول ما يتألم منه) يريد أن سبابة المتندم تتألم وهى جانية، وفيه نظر؛ لأن سبابة المتندم قد لا تكون جانية بأن يكون الندم وقع على فعل قلبى، أو فعل عضو آخر، وإنما اتصال الأعضاء وجعلها كالشئ الواحد سهل ذلك، ثم يقع النزاع مع المصنف فى جعله هذا مما يتصل بما قبله، وليس منه؛ لأن المصنف يدعى فساد التشبيه هنا لعدم الجامع، والذى قبله التشبيه فيه صحيح وإنما بين له وجها لغير ما يتوهم. ص: (وهو إما غير خارج ... إلخ). (ش): هذا تقسيم ثان لوجه الشبه، وهو أن وجه الشبه إما أن يكون غير خارج عن حقيقتهما أو لا، والأولى أن يقال: حقيقتيهما؛ فإنه ليس لهما حقيقة واحدة، فلا يصح أن يقال: حقيقتهما إلا بتأويل أنه اسم جنس يعمهما بالإضافة، وغير الخارج إما تمام حقيقتهما النوعية كما فى تشبيه ثوب بثوب فى الثوبية وإنسان بإنسان فى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنسانية، ولهذا القسم قال المصنف: غير خارج عن حقيقتيهما، ولم يقل: داخل؛ لأن الكل لا يقال: إنه داخل فى الكل، وإليه أشار بقوله: (فى نوعهما) وأما جزء الحقيقة الذى هو المشترك كتشبيه الفرس بالإنسان، وهو المراد بقوله: أو جنسهما أو جزؤها المميز، كتشبيه زيد بعمرو فى كونه ناطقا، وهذا لم يتعرض له المصنف، وكأنه تركه؛ لأن الاشتراك فى النوع يلزمه الاشتراك فى الفصل، لكنه قد يكون المرعى فى وجه الشبه هو المميز فقط، وإن كان المتشابهان متحدين بالنوع تقول: زيد كعمرو نطقا، وتقول: إنسانية، وتقول: حيوانية. فإن قلت: كيف يشبه زيد بعمرو فى الإنسانية، والتشبيه إنما هو الدلالة على مشاركة أمر لآخر، والإخبار عن إنسان بأنه مشارك لآخر فى الإنسانية لا فائدة فيه، وأيضا فوجه الشبه من شأنه أن يكون فى المشبه به أتم منه فى المشبه، والإنسانية ونحوها يستحيل فيها التفاوت؛ لأن أشخاص النوع الواحد لا تفاوت فيها، لا يقال: يصح أن يقال: إنسانية زيد أكثر من إنسانية عمرو؛ لأن المعنى بذلك ما يتفاوت فيه من الصفات الخارجية، وليس الكلام إلا فى وجه غير خارج عن الحقيقة. قلت: لعل المراد أن يكون المشبه مجهول الإنسانية للسامع فيقول: هذا كزيد فى الإنسانية - أى هو إنسان، وإذا اتضح لك الجواب فى هذا فهو بالنسبة إلى المشابهة فى الجنس، أو الفصل أوضح. على أن السكاكى لم يصرح بذلك، إنما قال ما نصه: لما انحصر التشبيه بين أن يكون الاشتراك بالحقيقة، والافتراق بالصفة مثل جسمين أبيض وأسود، وبين أن يكون الاشتراك بالصفة والافتراق بالحقيقة، مثل طولين جسم وخط، والوصف بين أن يكون حسيا وغيره ظهر أن وجه التشبيه يحتمل التفاوت. اهـ ملخصا. وهذه العبارة وإن كان ظاهرها أن ما به الاتفاق بالحقيقة يكون وجه التشبيه، فهى غير صريحة؛ لاحتمال أن يريد أن من شأن طرفى التشبيه أن يتفقا بالحقيقة ويختلفا بالصفة، لا أن الاتفاق بالحقيقة يكون هو وجه الشبه. ومن تأمل كلامه، وتقسيمه الوصف بعد ذلك جوز هذا الاحتمال فليراجع. ومما يوضح أنه لا يصح تشبيه شخص بشخص فى النوعية أن عبد اللطيف البغدادى قال فى قوانين البلاغة: تشبيه نوع بنوع ونوع بجنس وجنس بنوع، ولا يشبه شخص بشخص من جهة ما هما تحت نوع واحد قريب يعمهما، بل من جهة حالة يشتركان فيها هى فى أحدهما أبين اه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو صريح فيما قلناه غير أنه قد يرد عليه أنه إذا امتنع تشبيه الشخص بالشخص فى النوعية. امتنع تشبيه النوع بالنوع فى الجنسية فكيف يقول: تشبيه نوع بنوع؟ وقد يجاب: بأن مراده أنه يشبه به بجامع غير النوعية، وأما تشبيه النوع بالجنس فقد يستشكل؛ لأن النوع مشتمل على الجنس، فكيف يشبه الكل بجزئه؟ وقد يجاب بأنه قد يشبه الكل بالجزء؛ لعدم الاعتداد بالجزء الزائد، فتقول: الحيوان الناهق كالحيوان - أى قيد النهيق فيه كالعدم. لا يقال: فقد شبهته بحيوان غير ناهق، وهو تشبيه نوع بنوع؛ لأنا نقول: بل هو مشبه بالحيوان لا بقيد النهيق، ولا عدمه، وكذلك تشبيه الجنس بالنوع فتشبيه الحيوان المطلق بالإنسان باعتبار أن الحيوانية لشرفها كأنها مقيدة بالنطق. وإما أن يكون خارجا عن حقيقتهما وهو صفة فهى إما حقيقية، أو إضافية. فالحقيقية إما حسية وهى الكيفيات الجسمية المدركة بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات ونحوها، ومما يتصل بها من حسن وقبح، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية، والتى بين بين أى بين القوة والضعف، أو بالذوق من الطعوم، أو بالشم من الروائح، أو باللمس من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والخشونة، والملاسة، واللين، والصلابة، والخفة، والثقل، وما يتصل بالمذكور من حسن وقبح وتوسط فيهما، وصفات تشبهها. والضمير فى قوله: بها فى الأول والثانى للأمثلة لا للكيفيات، وإلا لزم التكرار أو يريد غير ذلك من الكيفيات الجسمية؛ لأنها لا تنحصر فيما ذكره، أو تكون عقلية كالكيفيات النفسية من الذكاء والعلم والغضب والحلم وسائر الغرائز، والإضافية كإزالة الحجاب فى تشبيه الحجة بالشمس فإنها إضافية لا تتعقل إلا بالإضافة إلى ما يزال بها، ومن الإضافى اعتبار الشئ فى محل دون محل ككون الكلام مقبولا عند شخص متروكا عند آخر. (تنبيه): نشير فيه إلى شئ من معانى هذه الألفاظ السابقة على اصطلاح القوم. الجنس: كلى مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة فى جواب ما هو، والنوع: كلى مقول على واحد أو كثيرين متفقين بالحقيقة فى جواب ما هو، والصفة الحقيقية: ما لها تقرر فى ذات الموصوف، والصفة الإضافية: ما ليس لها تقرر فى ذات الموصوف، واعتبرها العقل فى شئ بالنسبة لغيره، والحسية: ما كانت مدركة بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، والأشكال: جمع شكل وهى هيئة تعرض للشئ بواسطة إحاطة حد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد كالكرة، أو حدود كالمثلث والمربع، والمقادير: جمع مقدار، وهو الكم المتصل كالخط والسطح والجسم التعليمى. والحركة: هى عند المتكلمين حصول الجوهر فى حيز بعد أن كان فى حيز آخر. وعند الحكماء: الخروج من القوة إلى الفعل على التدريج. والرطوبة: كيفية يكون الجسم بسببها سهل الاتصال والانفصال؛ واليبوسة: كيفية يكون الجسم بسببها غير متساوى الأجزاء فى الوضع والملاسة استواء الأجزاء فى الوضع. واللين: كيفية يكون الجسم بسببها ضعيف المعاوقة لملاقيه. والصلابة: كيفية يكون الجسم بها قوى المعاوقة لملاقيه. والخفة: هى المعاونة التى تحس فى الجسم عند قصد حركته إلى فوق. والثقل: المعاونة التى تحس فى الجسم عند قصد حركته إلى أسفل. والذكاء: كيفية نفسانية يتنبه الإنسان بها على الإدراك بسرعة. والعلم: حصول صورة الشئ فى الذهن وإن أردت التصديق فهو اعتقاد جازم مطابق لموجب. والحلم: كيفية نفسانية تقتضى العفو عن الذنب مع القدرة. والغضب: كيفية نفسانية تقتضى إرادة الانتقام. وقيل: تغير يحصل عند غليان دم القلب لقصد الانتقام. والغرائز: جمع غريزة وهى صفة طبيعية خلقت النفس عليها بخلاف الأخلاق، فإنها: ملكة نفسانية حصلت بحسب العادة، والشيرازى قال: الذكاء حدة القلب، والغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وقيل: الخفة: قوة يحصل من محلها بواسطتها مدافعة صاعدة، والثقل: قوة يحصل من محلها بواسطة مدافعة هابطة، وفى هذه الحدود مناقشات ومباحث ليس هذا العلم محلها. واعلم أن اللين والصلابة قال فى شرح التجريد: إنهما من الكيفيات الاستعدادية فاللين يكون الجسم به مستعدا للانغماز، ويكون له به قوام غير سيال فينتقل من موضعه، ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة، وإنما قبول الغمز من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة، والصلابة كيفية تقتضى مقابل ذلك، ولما كان استعداد الجسم للانغماز من الرطوبة، وتماسكه إلى حد الصلابة من اليبوسة، والرطوبة واليبوسة من الملموسات عد اللين والصلابة منها.

وأيضا (¬1): إما واحد، أو بمنزلة الواحد؛ لكونه مركّبا من متعدد، وكلّ منهما حسى، أو عقلى، وإما متعدد كذلك، أو مختلف: والحسى طرفاه حسيان لا غير؛ لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسى شئ. والعقلى أعم؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحسى شئ؛ ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلى أعم. فإن قيل: هو مشترك فيه؛ فهو كلىّ، والحسى ليس بكلىّ خ خ: قلنا: المراد أنّ أفراده مدركة بالحسّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وأيضا إما واحد إلى قوله مدركة بالحس). (ش): هذا تقسيم ثالث لوجه الشبه فهو إما أن يكون واحدا، أو بمنزلة الواحد لكونه مركبا من متعدد، وكل منهما أى من الواحد ومن المركب الذى هو بمنزلة الواحد حسى، أو عقلى، وإما متعدد كذلك، أى حسى، أو عقلى، أو مختلف بأن يكون مركبا من حسى وعقلى، واقتضى كلامه أن الاختلاف لا يأتى فى القسمين السابقين، وأورد عليه الخطيبى أنه قد يأتى فى الثانى باعتبار الأجزاء لا بطرفها. فالنظر إلى المركب إنما هو للهيئة الاجتماعية، وهى إما حسية فقط، أو عقلية فقط، والحسى لا يكون طرفاه إلا حسيين لاستحالة أن يدرك بالحس شئ من غير الحسى، والعقلى طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان. فالعقلى أعم. فمتى كان واحد من الطرفين عقليا، كان الوجه عقليا، لجواز أن يدرك بالعقل شئ من الحسى. ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلى أعم منه بالوجه الحسى، وإنما قلنا لجواز ولم نقل لوجوب؛ لأن الحسى قد يدرك حيث لا عقل كإدراك الحيوان. معنى ذلك أن من شبه بوجه حسى، فقد شبه بوجه عقلى، لا لأن كل وجه حسى عقلى، بل لأن من ضرورة التشبيه أن يكون ذلك الحسى قد علم وتعقل، وإن كان الجامع فى نفسه قد يكون حسيا لا عقليا كإدراك الحيوانات غير الإنسان فقول المصنف: (العقلى أعم) فيه نظر إلا باعتبار الصدق فى الواقع على ما ذكرناه (قوله: فإن قيل) إشارة إلى سؤال ذكره فى المفتاح، فقال: وهاهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، وهو أن التحقيق فى وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلى، وذكر ما أشرنا إليه فيما سبق، من أن المحسوس ¬

_ (¬1) أى وجه التشبيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ متشخص فلا بد أن يكون جزئيا، ووجه الشبه لا بد أن يكون أمرا يشترك الطرفان فيه، فلو كان حسيا والحسى موجود متعين، فى محل لزم أن يكون لكل من الطرفين صفة يختص بها فلا اشتراك حينئذ؛ لاستحالة وجود شئ واحد فى محلين فلا يوجد فى الطرف الآخر إلا مثله، والمثلان ليسا شيئا واحدا، ووجه الشبه لا بد أن يكون واحدا، يحصل الاشتراك فيه كليا مأخوذا من المثلين بتجردهما عن التعيين. ثم قال: يمتنع أن يقال: وجه الشبه حصول المثلين فى الطرفين؛ لأن المثلين متشابهان، ولا بد للتشابه من وجه فإن كان عقليا صح ما قلناه، وإن كان حسيا لزم أن يكون منقسما فيهما، فيستدعى أن يكون من المثلين مثلان آخران، ويتسلسل وهو محال، وفيه نظر؛ لأن الكلى وإن وجد فى الخارج فليس حسيا. وقال المصنف فى الإيضاح: المراد بكونه حسيا أن تكون أفراده مدركة بالحس، وهذا فى الحقيقة تسليم لكلام السكاكى، واعتراف بأن وجه الشبه عقلى، غير أنه يسمى حسيا، ثم يرد عليه أن هذا فى الاصطلاح لا يسمى حسيا، ألا ترى ما تقدم من المصنف فى الخيالى، وأنه ملحق بالحسى لا حسى، وإن كانت أفراده مدركة بالحس فالسكاكى يقول: كما سلبتم اسم الحسى عن الخيالى، وإنما ألحقتموه به، فعليكم أن تسلبوا اسم الحسى عن الوجه أبدا وتصرحوا بإرادة ذلك منه، وقد أورد على قولهم أن وجه الشبه لا بد أن يكون واحدا كليا موجودا فيهما أنه يستلزم حصول العرض الواحد فى وقت واحد بمحلين، وأجيب بأنا لا نعتبر مع وجه الشبه تعينا وتشخصا، بل نأخذه مجردا، واعترض بأنه إذا أخذ مجردا امتنع أن يكون موجودا فيهما؛ إذ الوجود فيهما، يلزمه تعينه فى كل منهما، فالموجود فيهما غير كلى، فليس وجه الشبه، ووجه الشبه غير موجود فيهما فليس وجها. وأجيب بأن التعيين غير مانع من فرض العقل إياه مشتركا بين كثيرين، بمعنى أنه يتمكن من مطابقته لما يشتمل عليه كل واحد منهما، وأورد على السكاكى أن هذا تسلسل اعتبارى فلا إحالة فيه، وأنا أقول: أصل الاعتراض الذى أورده السكاكى على نفسه وأجاب عنه فاسد الوضع؛ لأن القول بأن وجه الشبه حصول المثلين؛ يقضى بأنه عقلى؛ لأن حصول المثلين أيضا عقلى لا حسى فإن عنى به أن الوجه لا يشترط أن يكون واحدا مشتركا بينهما، فلا حاجة إلى العدول عن الحسى.

فالواحد الحسىّ: كالحمرة، والخفاء، وطيب الرائحة، ولذّة الطّعم، ولين الملمس فيما مرّ. والعقلىّ: كالعراء عن الفائدة، والجرأة، والهداية، واستطابة النفس فى تشبيه وجود الشئ العديم النفع بعدمه، والرجل الشجاع بالأسد، والعلم بالنور، والعطر بخلق كريم. ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن أقسام وجه الشبه على ما ذكره المصنف سبعة: واحد حسى، وواحد عقلى، ومركب حسى، ومركب عقلى، ومتعدد حسى، ومتعدد عقلى، ومتعدد مختلف - أى بعضه حسى وبعضه عقلى، ولك أن تقول: المتعدد وجهان لا وجه واحد مختلف، فهذا التقسيم ليس بصحيح، ولا يخفى أن الخيالى أهمل فى هذا الباب؛ لدخوله فى الحسى؛ والوهمى والوجدانى أهملا؛ لدخولهما فى العقلى على ما سبق، والسكاكى قسم المركب إلى ما هو حقيقة ملتئمة، وإلى ما هو أوصاف قصد من مجموعها هيئة واحدة وسيأتى مثالهما. واعلم أن المراد بالتركيب تركيب الأجزاء غير المحمولة، وليس المراد به ما يحصل فى الأنواع من تركيب الفصول على الأجناس. فإن الحسى كالحمرة ونحوها مركبة ثم أخذ المصنف فى أمثلة ذلك فقال: ص: (الواحد الحسى إلى قوله: والمركب). (ش): مثال القسم الأول، وهو الوجه الواحد الحسى: الحمرة فى تشبيه الخد بالورد، والخفاء فى تشبيه الصوت الضعيف بالهمس، وطيب الرائحة فى تشبيه النكهة بالعنبر، وقد تقدم ما يرد عليه، ولذة الطعم فى تشبيه الريق بالخمر، كذا قال المصنف تبعا للسكاكى، وهو مخالف لما قاله المصنف فيما سبق من أن اللذة وجدانى عقلى لا حسى، وموافق لاعتراضنا عليه، وقد تقدم ما يرد عليه أيضا، ولين الملمس فى تشبيه الخد الناعم بالحرير، وهذه أمثلة للواحد الحسى الذى طرفاه معقولان. وأما الواحد العقلى الذى طرفاه معقولان، فالعراء عن الفائدة فى تشبيه وجود الشئ العديم النفع بعدمه، وجهة الإدراك فى تشبيه العلم بالحياة. فإن قلت: الإدراك هو العلم، فكيف يكون جهة مشتركة بين العلم والحياة؟ قلت: المقصود هنا بالعلم هو الصفة الموجبة للتمييز الذى لا يحتمل النقيض، وأما العقلى الذى طرفاه محسوسان فكالجراءة فى تشبيه الرجل الشجاع بالأسد، ومطلق الاهتداء فى تشبيه أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم

والمركّب الحسى فيما طرفاه مفردان: ـــــــــــــــــــــــــــــ بالنجوم (¬1). هذه عبارة الإيضاح، والأحسن أن يقال فى الهداية، لأن الهداية وصف دائر بينهما يشتركان فيه، والاهتداء وصف قائم بالمهتدى بهما، والعقلى الذى المشبه فيه معقول، والمشبه به محسوس كمطلق الهداية فى تشبيه العقل بالنور، وإنما قلنا مطلق الهداية فى الأول؛ لأن هداية النجوم وهداية الصحابة - رضوان الله عليهم - مختلفا النوع، لدلالة الأول على الحسيات، والثانى على العقليات، والعقلى الذى المشبه فيه معقول، والمشبه به محسوس ما يحصل من الزيادة والنقصان فى تشبيه العدل بالقسطاس، والعقلى الذى المشبه فيه محسوس والمشبه به معقول كاستطابة النفس فى تشبيه العطر بخلق كريم، كذا قالوه. وهو مخالف لما سبق من المصنف من أن اللذة أمر وجدانى لا حسى، ومخالف للتفصيل الذى قدمناه فيها، فإنه يقضى بأن اللذة بالخلق عقلى؛ فإن الاستطابة استلذاذ فهذا كلام مخالف لما تقدم قريبا، ولما سبق قبله، وكل من الثلاثة لا يجتمع مع الآخر، وعدم الخفاء فى تشبيه النجوم بالسنن، قال فى المفتاح: وفى أكثر هذه الأمثلة فى معنى وحدتها تسامح، يريد أن فى أكثرها نوع تركيب إضافى، كخفاء الصوت، ولذة الطعم، واستطابة النفس، واعترض عليه فى قوله: (فى معنى وحدتها) بأن التسامح فى معنى وحدة وجه الشبه، لا فى الأمثلة. قلت: وجوابه أن هذه الأمثلة المذكورة هى وجوه الشبه، فوحدتها وحدته. ص: (والمركب الحسى). (ش): لما فرغ من وجه الشبه إذا كان واحدا شرع فى القسم الثالث، وهو ما إذا كان مركبا فى حكم الواحد، وقد قسمه إلى أقسام، وكان ينبغى أن يقسم ما قبله أيضا إليها: أحدها: أن يكون طرفاه مفردين، وعند التحقيق الإدراك واحد ليس مركبا، وإنما هذه الأجزاء التى يظن أنه تركب منها أطرافه التى نشأت عنها الهيئة المدركة، وهى شئ واحد، ومثله المصنف بالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير فى المرأى على كيفية مخصوصة إلى أى مع، أو بمعنى المنتهية إلى مقدار مخصوص فى قوله: ¬

_ (¬1) يشير إلى الحديث الضعيف، الذى رواه عبد بن حميد فى مسنده من طريق حمزة النصيبى عن نافع عن ابن عمر، وحمزة ضعيف جدّا، ولفظه:" أصحابى كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" انظر كلام الحافظ ابن حجر فى" التلخيص"، (4/ 190).

كما فى قوله (¬1) [من الطويل]: وقد لاح فى الصّبح الثّريّا كما ترى … كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا من الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير فى المرأى، على الكيفية المخصوصة، إلى المقدار المخصوص. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد لاح فى الصّبح الثّريّا كما ترى … كعنقود ملاحية حين نوّرا وطرفا التشبيه هما الهيئة الحاصلة لكل منهما ووجهه هيئة ثالثة فهنا ثلاث هيئات، والتركيب هنا من سبعة أشياء، صور متقارنة بيض مستديرة صغار بكيفية مخصوصة بمقدار مخصوص. وقول المصنف: كما فى خبر قوله: والمركب الحسى، وقوله: من الهيئة الحاصلة، يتعلق بقوله كما على وجه التبيين، وقوله: من تقارن الصور من فيه ابتدائية، وقوله: فى المرأى على الكيفية المخصوصة، يتعلق بالتقارن. وكذلك قوله: إلى المقدار المخصوص إلا أن يتعلق بمحذوف تقديره المنتهية، والصور البيض المستديرة الصغار المقادير هى الثريا، والحبات والكيفية المخصوصة تقارن أجزاء كل منها، والمقدار المخصوص هو قدر العنقود، وقدر الثريا، وهذا البيت أنشده الدينورى. ولاح الثّريّا عند آخر ليلة. ونسبه إلى أحيحة بن الجلاح، وأنشده المرزبانى لقيس بن الأسلت ويروى: وقد لاح فى الغور الثّريّا لمن يرى وقوله: ملاحية الملاحية بالتخفيف عنب طويل أبيض، وشدده وهو ضعيف، ومثل فى الإيضاح للهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكرى والمقدار المخصوص بقول ذى الرمة: وسقط كعين الدّيك عاورت صاحبى … أباها وهيّأنا لموقعها وكرا فالوجه هو الهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكرى والمقدار المخصوص، وهذا مثال لأحد قسمى المركب، وهو ما كان حقيقة ملتئمة فى الخارج، كما صرحوا به. ¬

_ (¬1) البيت لأبى قيس بن الأسلت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 180. والملاحية: عنب أبيض. ونور: تفتح.

وفيما طرفاه مركّبان؛ كما فى قول بشّار [من الطويل]: كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه من الهيئة الحاصلة من هوىّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرّقة، فى جوانب شئ مظلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قلت): ولقائل أن يقول: ليس الوجه هنا هيئة حاصلة كما ذكر، بل هذه أوجه متعددة كل مستقل، والسقط ما سقط من النار عند القدح، وعاورت - أى جاذبت، وأبوها زندها - أى عالجنا الزند حتى ورى، واستدل الفراء بهذا البيت على أن سقط النار يذكر ويؤنث. ص: (وفيما طرفاه مركبان كما فى قول بشار). (ش): أى: والوجه المركب فيما طرفاه مركبان، والظاهر أنه يريد القسم الثانى من المركب، وهو ما كان أوصافا، يجتمع منها هيئة فى الذهن، كما فى قول بشار بن برد: كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (¬1) قال عبد اللطيف البغدادى: قال بشار: مذ سمعت. كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا لم يقر لى قرار، حتى قلت هذا البيت، وذكر ابن جنى فى مجموعه عنه نحوه. وأنشد ابن جنى فى مجموعه فوق رءوسهم وأسيافنا، وكذلك أنشده الخفاجى فى سر الفصاحة، وابن رشيق فى العمدة، وهو أحسن من جهة المعنى، بل متعين؛ لأن السيوف ساقطة على رءوسهم فلا بد أن يكون النقع على رءوسهم، ليحصل التشبيه. وقوله: (من الهيئة) بيان لما - أى كالذى فى قوله: من الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة فى جوانب شئ مظلم، مركب من سبعة: هوى، وأجرام، ومشرقة، ومستطيلة، ومتناسبة، ومتفرقة، وفى ظلمة، والنقع التراب فجعل هيئة التراب الأسود، والسيوف البيض فيه كالكواكب فى الظلمة. ¬

_ (¬1) البيت لبشار بن برد، فى ديوانه 1/ 318، والمصباح ص 106، ويروى (رءوسهم) بدل (رءوسنا)، تهاوى: تتساقط، خفف بحذف إحدى التاءين.

وفيما طرفاه مختلفان؛ كما مرّ فى تشبيه الشقيق (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (تهاوى) أى تتهاوى فإن قلت: هلا قال: تهاوت، أو جعلت تهاوى ماضيا، ويصح إسقاط التاء حينئذ لا سيما والكواكب مضافة لمذكر؟ (قلت): لأنه لا يؤذن بانقضاء هويها فيفسد مقصوده؛ بل المعنى ليل كواكبه متهاوية، والليل الذى تهاوت كواكبه مظلم فقط ليس فيه شبه السيوف، وسيأتى الكلام على هذا البيت، وعلى تحقيق تشبيه المركب بالمركب فى موضعه إن شاء الله. ص: (وفيما طرفاه مختلفان كما مر فى تشبيه الشقيق). (ش): هذا القسم الثالث من أقسام الجامع المركب الحسى أن يكون طرفاه مختلفين، وهو قسمان: أحدهما: أن يكون المشبه مفردا والمشبه به مركبا، قال: كما مر فى تشبيه الشقيق، يشير إلى قوله: وكأن محمر الشّقي … ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد فإن الشقيق مفرد، والمشبه به الهيئة الحاصلة المذكورة، ووجه الشبه مركب، وهو الهيئة الحاصلة من أجسام خضر مستطيلة، وعلى رءوسها أجرام مبسوطة. (قلت): وفيه نظر: فإن المشبه الشقيق، والمشبه به أعلام ياقوت فقط، والجامع هو الحمرة المستعلية على الخضرة المستطيلة، ويكون قوله: (نشرن إلخ) مقيدا للمشبه به ومبينا؛ لأن مع المشبه قيدا لم ينطق به، وقد تقدم هذا، ولا أمنع أن يسمى الأعلام هنا مركبا بالمعنى السابق، وهو تركيبها مع الصفة بعدها. ثم إنى أقول: أى فرق بين تشبيه محمر الشقيق بأعلام الياقوت، وبين تشبيه أجرام النجوم بالدرر المنثورة، وقد جعلت الأول تشبيه مفرد بمركب، والثانى مركب بمركب كما سبق، ولوامع ليس قيدا حصل به تركيب فى التشبيه؛ بل هو إطناب مع أن زرقة السماء ليس لها ذكر فى أجرام النجوم، وخضرة أغصان الشقيق ليس لها ذكر. ويمكن الجواب بأن الشقيق اسم للورق والسواعد معا، فهو مفرد بخلاف أجرام النجوم، فإنها لا تصدق على الليل، فاحتجنا إلى تقدير، وكأن أجرام النجوم مع الليل. ¬

_ (¬1) وكتشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل القمر.

ومن بديع المركّب الحسىّ: ما يجئ من الهيئات التى تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين: أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم؛ كالشّكل واللون؛ كما فى قوله (¬1) [من الرجز]: والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشل. من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتّصلة مع تمّوج الإشراق، حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له، فيرجع إلى الانقباض. ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): الاختلاف أعم من أن يكون المشبه هو المفرد كما سبق، أو يكون المشبه هو المركب، وسيأتى تمثيله بقول المتنبى: يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما … تريا وجوه الأرض كيف تصوّر تريا نهارا مشمسا قد شابه … زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر ص: (ومن بديع إلخ). (ش): من بديع المركب الحسى ما يجئ فى الهيئات التى تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين: أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها - أى يكون الجامع هى وغيرها من أوصاف الجسم؛ لتكون محسوسة كالشكل واللون، كما فى قول أبى النجم، أو ابن المعتز: والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل فإن الجامع هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة فى المرآة، والشمس، وإشراقهما، وحركتهما السريعة المتصلة مع تموج إشراقهما، حتى يرى الشعاع كأنه يهم أن ينبسط، حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم بعد أن يهم بذلك، يبدو له فيرجع إلى الانقباض، وقد أطبق الناس على استحسان هذا التشبيه، إلا أن بعضهم اعترض عليه بأن الشلل فساد اليد فتمتنع عن الحركة، أو تتحرك بحركة غير متناسبة، وكلاهما لا يحصل به التشبيه، إنما كان يحصل بالارتعاش بأن يقول: ¬

_ (¬1) من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ؛ وبعده: لمّا رأيتها بدت فوق الجبل أورده وهو فى الإشارات للجرجانى ص 180 والأسرار ص 207.

والثانى: أن تجرّد الحركة عن غيرها؛ فهناك - أيضا - لا بد من اختلاط حركات إلى جهات مختلفة الحركة له؛ فحركة الرحى والسهم لا تركيب فيها، بخلاف حركة المصحف فى قوله [من المديد]: وكأنّ البرق مصحف قار … فانطباقا مرّة وانفتاحا (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ والشمس مرآة بكفّ المرتعش ثم قد يعترض بأن يقال: هذا تشبيه بأوجه متعددة، لا بوجه مركب، فإن كل واحد من هذه الأمور مستقل بنفسه، يمكن أن يجعل وجها، وقد يرد على هذا ما ورد على الذى قبله من أن يقال: هذه أوجه متعددة، لا وجه مركب، ومن هذا قول الوزير المهلبى: والشمس من مشرقها قد بدت … مشرقة، ليس لها حاجب كأنّها بوتقة أحميت … يجول فيها ذهب ذائب فإن البوتقة إذا أحميت وذاب فيها الذهب استدارت، وتحركت بتلك الحركة السريعة العجيبة، والوجه الثانى: أن تجرد الحركة عن غيرها فتكون هى الوجه، فلا بد من اختلاط حركات إلى جهات؛ لأن الكلام فى الوجه المركب فعلم أن حركة الرحى والسهم، لا تركيب فيهما فلا بد من شئ يمكن تحرك بعضه إلى جهة اليمين، وبعضه إلى جهة اليسار، مثلا كحركة المصحف، فى قول ابن المعتز: وكأنّ البرق مصحف قار … فانطباقا مرّة، وانفتاحا لأنّه يتحرك فى الحالتين إلى جهتين، فى كل حالة إلى جهة، كذا قال المصنف. والأحسن أن يقال: فى كل حالة إلى جهتين، ففى حالة الانفتاح يتحرك اليمين إلى اليمين، واليسار إلى اليسار، وفى حالة الانطباق يتحرك اليمين إلى اليسار وعكسه فشبه اختلاف (¬2) تعدد حركاته، باختلاف حركة البرق فتارة يظهر، وتارة يخفى بخلاف حركة الرحى مثلا فإنها لا تتغير عن جهة واحدة. ¬

_ (¬1) البيت لابن المعتز. (¬2) قوله: فشبه اختلاف إلخ كذا فى الأصل ولعل فى العبارة قلبا إذ المشبه فى البيت البرق والمشبه به المصحف. كتبه مصححه.

وقد يقع التركيب فى هيئة السكون؛ كما فى قوله (¬1) فى صفة كلب [من الرجز]: يقعى جلوس البدوىّ المصطلى من الهيئة الحاصلة من موقع كلّ عضو منه فى إقعائه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: قار أصله: قارئ بالهمزة، وإنما خففه ولم يصحح الياء؛ لأنه جعل الأصل نسيا منسيا بجعله كقاض. وقوله: (انطباقا) منصوب بفعل - أى فينطبق انطباقا وكذا انفتاحا - أى وانفتاحا مرة، وقيل: المراد: انفتاح السحاب عن البرق، وانطباقه عليه، وهو حسن، إلا أنه يلزم أن يكون المشبه بالمصحف هو السحاب، لا البرق. (قلت): ولك أن تقول: الوجه هنا واحد، وهو اختلاف الحركة لا مجموع الحركات المتعددات، ومن ذلك أيضا قوله: فكأنّها والريح جاء يميلها … تبغى التّعانق ثم يمنعها الخجل قال المصنف: ومن السهل الممتنع قول امرئ القيس: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطّه السّيل من عل يريد أن هذا الفرس لسرعة انحرافه يرى كفله فى الحال التى يرى فيها رأسه، فهو كصخر دفعه السيل من مكان عال، فهو يطلب جهة السفل، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل؟ فهو بسرعة تقلبه، يرى أحد وجهيه حيث يرى الآخر. وقولنا: دفعه السيل، هى عبارة المصنف، والأحسن حطه كما فى البيت؛ لأن الدفع قد ينقطع، فلا يحصل معه الحط. ص: (وقد يقع التركيب فى هيئة السكون إلخ). (ش): يعنى أن الوجه قد يكون حسيا مركبا فى هيئة السكون، لا من الحركة ومنه قول أبى الطيب فى صفة الكلب: يقعى جلوس البدوىّ المصطلى ولطف ذلك؛ لأن لكل عضو من الكلب فى إقعائه موقعا خاصا، ولمجموع ذلك صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع، وقوله: (جلوس) منصوب على المصدر من يقعى، وإن كان بغير فعله، أو لفعل محذوف تقديره: يجلس، وخص البدوى بالذكر؛ لغلبة ذلك منه. ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى، وبعده: بأربع مجدولة لم تجدل.

والعقلىّ: كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب فى استصحابه، فى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (¬1) ... ـــــــــــــــــــــــــــــ بقى أن يقال: كون الإقعاء هيئة سكون فيه نظر؛ لأن الجلوس حركة، لأن الحركة السكون فى حيز بعد السكون فى غيره، والجلوس كذلك نعم دوامه سكون، ومنه قوله فى صفة مصلوب: كأنّه عاشق قد مد صفحته … يوم الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته … مواصل لتمطّيه من الكسل ص: (والعقلى كالمنظر المطمع إلخ). (ش): هذا هو القسم الثانى من القسم الثانى، وهو الوجه المركب الذى بمنزلة الواحد، وهو عقلى. ومثله المصنف بقوله: كالمنظر المطمع مع المخبر المؤيس على خلاف المقدر فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ (¬2) فإنه شبه عمل الكافر الذى يحسبه ينفعه فى الآخرة، ثم يخيب أمله، بشراب يراه الكافر، وقد غلبه العطش يوم القيامة، فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده، ويجد زبانية ربه يذهبون به إلى النار. فالوجه هنا منتزع من أمور مجموع بعضها لبعض؛ لأنه روعى من الكافر توهمه نفع العمل، وأن يكون للعمل صورة مخصوصة، وهى صورة الصلاح وأنه لا يفيد فى العاقبة شيئا، ويلقون فيها عكس ما أملوه. وكذا فى المشبه فالجامع كون الشئ على صفة يتوهم نفعه، وهو فى الباطن غير نافع بل ضار، وهو وجه عقلى أحد طرفيه وهو السراب عقلى وهمى، والآخر وهو الأعمال منقسمة إلى حسى كالصلاة والصدقة، وعقلى كالاعتقاد، وكل ما كان فى أطرافه حسى وعقلى كان وجهه عقليا، كما سبق. وقوله: (الجامع المنظر المطمع مع المخبر المؤيس) يريد الهيئة الحاصلة من المنظر والمخبر، لا نفس المخبر والمنظر، فإن المنظر إن أريد به المفعول، فهو حسى أو المصدر فقد ينازع فى كونه عقليا؛ لأنه توجيه الحدقة نحو المنظور، وهو يشاهد بالحاسة وقد مثل هذا النوع بقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إياكم وخضراء الدمن" يريد: المرأة الحسناء فى المنبت ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 5. (¬2) سورة النور: 39.

واعلم أنه قد ينتزع من متعدّد، فيقع الخطأ؛ لوجوب انتزاعه من أكثر؛ إذا انتزع من الشطر الأول من قوله [من الطويل]: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة … فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ السوء" (¬2) ومن يقول: إن هذا ليس تشبيها، بل استعارة يمثل به لما فيه من التشبيه المعنوى، لا اللفظى. وقوله: (كالمنظر إلخ) لا يوجد فى كثير من نسخ التلخيص، ثم مثل المصنف أيضا بحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب فى استصحابه، كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (¬3) فإنه روعى به مجموع أمور: وهو الحمل للأسفار التى هى أوعية العلوم، مع جهل الحامل بما فيها. واعلم أن ظاهر كلام المصنف أن الطرفين هنا حسيان، وهما الكفار والحمار، وفى كتاب البلاغة لعبد اللطيف البغدادى أنه من تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق، إنما هو القيام بما فيها، ومثله بقوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (¬4). ص: (واعلم أنه ينتزع من متعدد، فيقع الخطأ؛ لوجوب انتزاعه من أكثر). (ش): المقصود أنه قد يقع التشبيه بوجه مركب من أمور كثيرة فيظن أنه من بعضها، فيقع فى الغلط، ومثله المصنف بقوله: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة … فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت فإنه قد يتوهم أن النصف الأول تشبيه تام، وليس كذلك، بل وجه الشبه وقوع ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس. (قلت): وهذا يتوقف على الوقوف على ما قبل هذا البيت؛ ليعلم هذا المشبه به، أيلتقى فى المعنى بهذا النصف أو لا؟ والآية السابقة أحسن فى التمثيل بها، وهو قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ لا أن عبارة المصنف؛ قد ينتزع من متعدد فيقع الخطأ، ¬

_ (¬1) أورده القزوينى فى الإيضاح ص 354، والطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى 1/ 107. (¬2) " ضعيف جدّا" أخرجه القضاعى فى" مسند الشهاب"، من طريق الواقدى، وقد تفرد به وهو ضعيف كما قال الدارقطنى فى" الأفراد" وراجع الضعيفة (ح 14). (¬3) سورة الجمعة: 5. (¬4) سورة العنكبوت: 41.

لوجوب انتزاعه من الجميع؛ فإنّ المراد التشبيه باتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس. ـــــــــــــــــــــــــــــ لوجوب انتزاعه من أكثر، وهذه العبارة لا يصلح تمثيلها بالآية الكريمة؛ لأنا إذا قصرنا المشبه به على الحمار، لم ننتزع من متعدد. وعبارة الإيضاح: قد تقع بعد أداة التشبيه أمور، يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها، فيقع الخطأ؛ لكونه منتزعا من جميعها، وهو أحسن من عبارة التلخيص؛ لأن البعض أعم من المتعدد، ويحسن تمثيله بالآية الكريمة. (تنبيه): قال فى الإيضاح: فإن قيل: هذا يقتضى أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة، كقولنا: زيد يصفو ويكدر، تشبيها واحدا؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين، يبطل الغرض من الكلام؛ لأن الغرض منه وصف بأنه يجمع بين الصفتين، ولا يدوم على إحداهما. قلنا: الفرق أن الغرض فى البيت إثبات ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس، وكون الشئ ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما، وليس فى قولنا: يصفو ويكدر أكثر من الجمع بين الصفتين. ونظير البيت قولنا: يكدر ثم يصفو؛ لإفادة ثم الترتيب المقتضى للربط، وقد ظهر أن التشبيهات المجتمعة تقارن التشبيه المركب فى مثل ما ذكرنا بأمرين: أحدهما: أنه لا يجب فيها الترتيب، والثانى: أنه إذا حذف بعضها، لا يتغير حال الباقى إفادة ما كان يفيده قبل الحذف. قلت: فيما قاله نظر، أما قوله: أن يصفو ويكدر تشبيه، فلا نسلم، وقد تكلمنا عليه، وقلنا: إن" زيد أسد" ليس ملازما للتشبيه، ولو سلمناه، فلا نسلم أن" زيد يصفو ويكدر"، مثل:" زيد أسد". سلمنا أنه تشبيه، فمن أين لنا تشبيهات مجتمعة؟ بل هو تشبيه مركب، ونحن نلتزم أن الاختصار على أحد الخبرين يبطل الغرض، ونقول: لا ينبغى الاقتصار عليه، وهل ذلك إلا كقولك: عن المز هو حلو؟ وتطوى قولك: حامض. وأما قوله: الغرض فى البيت إثبات ابتداء وانتهاء، وقولنا: يصفو ويكدر، ليس فيه غير الجمع بين الصفتين فمسلم، وغايته أن تركيب التشبيه فى البيت بزيادة ليست فى هذا المثال. وقوله: (إن التشبيهات إذا حذف أحدها لا يتغير المعنى) صحيح، ولكن قولنا: يصفو ويكدر، يتغير معناه بحذف أحدهما؛ لأن المراد الإخبار بأن صفاءه ينتهى إلى كدر، وبالعكس فليس من التشبيهات المجتمعة.

والمتعدّد الحسىّ: كاللون، والطّعم، والرائحة، فى تشبيه فاكهة بأخرى. والعقلىّ: كحدّة النظر، وكمال الحذر، وإخفاء السّفاد، فى تشبيه طائر بالغراب. والمختلف: كحسن الطلعة، ونباهة الشأن، فى تشبيه إنسان بالشمس. واعلم: أنه قد ينتزع الشبه من نفس التضادّ؛ لاشتراك الضدّين فيه (¬1)، ثم ينزّل منزلة التناسب بواسطة تمليح، أو تهكّم؛ فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد، وللبخيل: هو حاتم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (والمتعدد الحسى إلى آخره). (ش): هذا القسم الثالث، وهو ما كان وجه الشبه فيه متعددا حسيا، كتشبيه فاكهة بأخرى فى اللون والطعم والرائحة، وقد تقدم الاعتراض بأن المتعدد ليس وجها مختلفا، بل كل مستقل. ص: (والعقلى). (ش): أى: والمتعدد العقلى، كتشبيه طائر بالغراب فى حدة النظر، وكمال الحذر وإخفاء السفاد، وفيه نظر؛ لأن حدة النظر قد يقال: إنه حسى لا عقلى؛ لأن النظر، وهو تصويب الحدقة إلى المنظور يدرك بالنظر، وحدته متصل به، وكذلك إخفاء السفاد. قد يقال: إنه حسى، وأما الحذر فعقلى؛ لأن محله القلب، ويستدل عليه بأثره الظاهر. ص: (والمختلف). (ش): أى والوجه المتعدد الذى بعضه حسى وبعضه عقلى، كتشبيه إنسان بالشمس فى حسن الطلعة، وهو حسى، ونباهة الشأن، وهو عقلى. ص: (واعلم أنه قد ينتزع الشبه من نفس التضاد؛ لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب). (ش): لأن الضدين متناسبان مشتركان فى الضدية، لأن كلا منهما مساو للآخر فى مضادته له. ص: (بواسطة تمليح، أو تهكم فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد، وللبخيل: هو حاتم). (ش): وهذان يحتمل أن يكونا مثالين لكل من التمليح والتهكم، ويحتمل أن يكونا لفا ونشرا، والأول للأول، والثانى للثانى، لأنه أكثر أسلوبى اللف والنشر، وعلى ¬

_ (¬1) أى فى التضاد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذين فالتمليح بمعنى الإتيان بشئ مليح لا المصطلح عليه، وأن يكون لفا ونشرا، والأول للثانى والثانى للأول وهو التمليح، المصطلح عليه، وهو الإشارة فى الكلام إلى قصة أو مثل، ونحو ذلك، وهذا هو المتعين، وبه يظهر أن كل مثال لواحد. فإنا إذا أخذنا قوله: وللبخيل هو حاتم إلى التمليح فالقصة المشار إليها ما اشتهر من كرم حاتم وأخباره، ونعيد التهكم إلى قولنا للجبان: هو كالأسد؛ لأن التهكم موجود فيه - أى: الاستهزاء، وقد اعتبر عبد اللطيف البغدادى - فى كتابه فى البلاغة - التضاد على وجه آخر، فقال: قد يشبه أحد الضدين بالآخر، إذا كان أحدهما أظهر، كما يقال: العسل فى حلاوته، كالصبر فى مرارته، وكقول الحكيم: الموت فى قلة الأمل مثل ساعة الإنزال فى شدة اللذة؛ إذ هذا بدء خلق، وهذا بدء هدم، وأنشد لابن المهدى يخاطب المأمون ويعتذر: لئن جحدتك معروفا مننت به … إنّى لفى اللؤم أحصى منك فى الكرم (قلت): إن وجه الشبه ليس هو التضاد، بل هو مطلق القوة، أو الشدة الموجودة فى كل من الضدين، كما نقول: السواد كالبياض فى أن كلا منهما لون، أو اللون كالشم فى أن كلا محسوس. (تنبيه): ما تقدم من الأمثلة لوجه الشبه كله من الوجه الحقيقى، وقد تقدم أن وجه الشبه قد يكون خياليا فى الطرفين، أو فى الأول، أو فى الثانى. فإذا كان وجه الشبه واحدا حسيا مثلا، فتارة يكون تحقيقيا فى الطرفين، كتشبيه خد بورد، وتارة يكون تخييليا فى أحدهما، كتشبيه الإيمان بالشمس، والسنن بالنجوم، والجامع النور الذى هو خيالى فى أحدهما كما سبق، ويصدق حينئذ على هذا الوجه أنه مختلف؛ لأنه خيالى بحسب أحد الطرفين، حقيقى بالنسبة إلى الآخر. وهذا ما تقدم الوعد به من أن وجه الشبه سواء أكان واحدا، أم مركبا، أم متعددا، قد يكون حسيا، أو عقليا، أو مختلفا، إلا أن اختلافه فى غير الأول على معنى أنه مجموع أمرين، أو أمور، وفى الأول على معنى أنه كلى صادق على أمرين بحسب نوعين. وإذا أردت تعداد وجوه الشبه على التفصيل، فقد علمت أن وجه الشبه، قد يكون واحدا، أو غيره، وأن أقسامه سبعة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بإدخال الوهمى والوجدانى فى العقلى، والخيالى فى الحسى، فإن لم يدخلها (¬1)، فالأقسام خمسة وثلاثون: 1 - واحد حسى. 2 - واحد خيالى. 3 - واحد عقلى. 4 - واحد وهمى. 5 - واحد وجدانى. 6 - مركب حسى. 7 - مركب خيالى. 8 - مركب عقلى. 9 - مركب وهمى. 10 - مركب وجدانى. 11 - متعدد حسى. 12 - متعدد خيالى. 13 - متعدد عقلى. 14 - متعدد وهمى. 15 - متعدد وجدانى. 16 - متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى. 17 - متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى. 18 - متعدد بعضه حسى، وبعضه وجدانى. 19 - متعدد بعضه حسى، وبعضه وهمى. 20 - متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى. 21 - متعدد بعضه خيالى، وبعضه وهمى. 22 - متعدد بعضه خيالى، وبعضه وجدانى. 23 - متعدد بعضه عقلى، وبعضه وهمى. 24 - متعدد بعضه عقلى، وبعضه وجدانى. 25 - متعدد بعضه وهمى، وبعضه وجدانى. 26 - متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه عقلى. 27 - متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه وهمى. 28 - متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه وجدانى. 29 - متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى، وبعضه وهمى. 30 - متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى، وبعضه وجدانى. 31 - متعدد بعضه حسى، وبعضه وهمى، وبعضه وجدانى. 32 - متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى، وبعضه وهمى. 33 - متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى، وبعضه وجدانى. 34 - متعدد بعضه عقلى، وبعضه وهمى، وبعضه خيالى. وهذه الأقسام كل منها قد يكون وجه الشبه فيه تحقيقيا فى الطرفين، أو تخييليا فيهما، أو تخييليا فى المشبه فقط، أو فى المشبه به فقط. أربعة أقسام تضرب فيما سبق، تبلغ مائة وأربعين. وتضرب بحسب أقسام الطرفين مع ما سبق، وما سيأتى إلى شئ كثير، يعلم مما بعد عند استيفاء أقسام الطرفين إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) قوله: فالأقسام خمسة وثلاثون إلخ أسقط من التفصيل صورة ولعلها عقلى ووهمى ووجدانى وكرر صورة فلتراجع النسخ الصحيحة. كتبه مصححه.

وأداته: (الكاف)، و (كأنّ)، و (مثل) وما فى معناها. والأصل فى نحو (الكاف): أن يليه المشبّه به؛ وقد يليه غيره؛ نحو: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ (¬1)، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ أداة التشبيه: ص: (وأداته الكاف، وكأن، ومثل، وما فى معناها إلى آخره). (ش): هذا الركن الثالث، وهو أداة التشبيه، وعبر بالأداة لأنها تعم الاسم والفعل والحرف. فالكاف أداة تشبيه، كقولك: زيد كعمرو، وكأن كذلك، كقولك: كأن زيدا أسد، سواء أقلنا: إنها بسيطة أم مركبة، كما سيأتى تحقيقه إن شاء الله تعالى. ومن أدوات التشبيه لفظ: مثل كقولك: زيد مثل عمرو على تفصيل سنذكره - إن شاء الله تعالى - وما فى معناه - أى: معنى" مثل" من شبه ونحو وغيرهما، وما اشتق من لفظة مثل وشبه ونحوهما، كما تقدم فى قولهم فى الجبان: ما أشبهه بالأسد، وكقولك: زيد يشبه أو يماثل عمرا، أو مشبه أو مماثل، ويرد عليهم التشابه، فإنه مشتق من هذه الأدوات، وليس تشبيها اصطلاحيا. وقول المصنف: (وأداته الكاف وكأن إلى آخره) هو كقولهم: الكلمة: اسم، وفعل، وحرف. وقوله: (يشتق) لعله يريد الاشتقاق اللغوى لا النحوى، فإنه إنما يكون من المصادر. وهذا الكلام من المصنف يقتضى أن قولك: زيد يشبه الأسد تشبيه، وفيه نظر. قال فى شرح ضوء المصباح: إنه ليس تشبيها؛ فإنه كلام يتضمن الوصف بالمماثلة بين زيد والأسد، لا بواسطة أداة تفيد ذلك الوصف، بل بوضع الجملة الخبرية دالة عليه. انتهى، وهو حسن، ويلزمه إجراؤه فى مثل ونحو وغيرهما. (قوله: والأصل فى نحو الكاف أن يليها المشبه به) قيل: لأن ما دخلت عليه الكاف مثلا، كالمضاف إليه، أى: الملحق به والمشبه كالمضاف. أى الملحق، فلو وليها غيره لالتبس، وفيه نظر. والأولى أن يقال: المشبه مخبر عنه بلحوق غيره، محكوم عليه، فلو دخلت الكاف عليه لامتنع الإخبار عنه. (قوله: وقد يليه غير المشبه به) وذلك فيما إذا كان المشبه به مركبا، كقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فإن الماء ليس مشبها ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 45.

وقد يذكر فعل ينبئ عنه؛ كما فى: علمت زيدا أسدا إن قرب، و: حسبت ... إن بعد. ـــــــــــــــــــــــــــــ به، بل المشبه به الهيئة الحاصلة. قال بعضهم: فالكاف هنا دخلت على بعض المشبه به، لا على كله. وفيه نظر، فإن الماء ليس بعض المشبه به، بل المشبه به الهيئة الحاصلة، أو النبات الناشئ عن الماء، ولو كان الماء بعض المشبه به لما صدق أنه فى هذه الآية الكريمة ولى الكاف غير المشبه به، فإن مجموع المشبه به وليها شيئا فشيئا، وهذا كما نقول: همزة الاستفهام يليها المستفهم عنه، وقد تليها الجملة، ومن المعلوم أنه يستحيل أن يليها الجملة، إنما يليها أحد طرفيها. نعم لك أن تقول: المصنف قال فى الإيضاح: شبهت حال الدنيا بحال ماء إلى آخره، فيمكن أن يكون مضاف محذوف، التقدير: كحال ماء، فلم يل الكاف إلا المشبه به، وهو الحال. قال فى الإيضاح: وليس منه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ (¬1) لأن المعنى: كونوا أنصارا، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصارى إلى الله؟ (قوله: وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه) كعلمت من قولك: علمت زيدا أسدا، ونحو هذا من صيغ القطع، وفيما قاله نظر، أما أولا: فلأنه يرى أن:" زيدا أسدا" تشبيه دون علمت، فالتشبيه إنما هو بالكاف إلا أنها لم تذكر، فلفظ علمت لم يفد تشبيها. وأما ثانيا: فلأن لفظ علمت لا إشعار له بالتشبيه أصلا، وإنما الذى يحصل بعلمت قرب التشبيه وتقويته، لا لكونه تشبيها، بل لكونه مضمون الجملة المذكورة بعد علمت. وقوله: (إن قرب) أى إن قرب التشبيه، وقوله: (وحسبت إن بعد) أى: إذا كان التشبيه بعيدا نقول: حسبت زيدا أسدا، وكذلك خلته ونحوهما. هذا فى حسبت إذا استعملت فى الظن الصحيح، والغالب استعمالها فى الظن المخطئ. (تنبيهات): الأول: اعلم أن المصنف قال: الأصل فى الكاف ونحوها أن يليها المشبه به، واحترز بقوله: الأصل عن أن يليها بعض المشبه به على ما قالوه، أو متعلق به على ما حققناه كما سبق. ¬

_ (¬1) سورة الصف: 14.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: وأراد بقوله: ونحوها مثل وشبه ونحو فإن كلا منها يليه المشبه به، كقولك: زيد مثل عمرو، أو شبهه، أو نحوه قالوا: واحترز أيضا عن المشتقات من شبه ومثل من فعل، وغيره. (قلت): وفيما قالوه نظر؛ لأنك تقول: زيد مشابه الأسد فقد وليه المشبه به، والتحقيق أن يقال: أداة التشبيه إن كان لها معمولات، قدم ما تقتضى العربية تقديمه مشبها كان أو مشبها به فتقول: كأن زيدا أسد. فيليها المشبه لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه هو اسم كأن لا خبرها، فليس تقديمه لكونه مشبها، بل لكونه اسما لها ومخبرا عنه، وإن قلت: كأن فى الدار زيدا. كان على خلاف الأصل وجعلناه تشبيها لا تحقيقا، وتقول: شابه زيد الأسد وماثله. فوليها المشبه لأنه فاعل ووضعه التقدم على المفعول، وتقول: زيد يشبه الأسد. فوليها المشبه لأنه ضمير متصل وإن كان لها معمول واحد وليها فى اللفظ المشبه به تقول: زيد كعمرو أو مثل عمرو أو شبه عمرو. الثانى: جعل المصنف كأن أداة غير الكاف فاحتمل أن تكون عنده بسيطة وليست الكاف أصلها وهو مذهب بعض البصريين واحتمل أن تكون عنده مركبة من كاف التشبيه وأن، وهو اختيار شيخنا أبى حيان ومذهب الخليل وسيبويه والجمهور، ولا بدع أن يقال: أداة التشبيه الكاف أى فقط، أو الكاف مع غيرها وهى كأن. الثالث: ما قدمناه من أن المشبه يلى كأن هو جرى على كلامهم وفيه نظر يتوقف على تحقيق معناها ولفظها بعد القول بالتركيب، والذى يتلخص من كلامهم فى ذلك أن فيها قولين: (أحدهما): أن الأصل إن زيدا كالأسد، فلما قدمت الكاف فتحت الهمزة لفظا، والمعنى على الكسر والفصل بينه وبين الأصل أنك هاهنا بأن كلامك على التشبيه من أول الأمر وثم بعده مضى صدره على الإثبات، هذه عبارة الزمخشرى فى المفصل، قيل: وتحريره أن قولك: إن زيدا كالأسد تحقيق لإثبات إلحاق الناقص بالكامل، وقولك: كأن زيدا أسد. إعلام بأن تحقيق الأسدية على زيد إنما هو بطريق التشبيه لا غيرها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن جنى فى سر الصناعة: أصل كأن زيدا عمرو: إن زيدا كعمرو فالكاف تشبيه صريح كأنك قلت: إن زيدا كائن كعمرو. ثم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذى عليه عقدوا الجملة فأزالوا الكاف من وسطها وقدموها إلى أولها لفرط عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوها على إن وجب فتح إن، لأن المكسورة لا يتقدمها حرف الجر ولا تقع إلا أولا، وبقى معنى التشبيه الذى كان فيها وهى متوسطة بحالة فيها وهى متقدمة وذلك قولهم: كأن زيدا عمرو. إلا أن الكاف الآن لما تقدمت بطل أن تكون متعلقة بفعل ولا معنى الفعل؛ لأنها فارقت الموضع الذى يمكن أن تتعلق فيه بمحذوف وتقدمت إلى أول الجملة وزالت عن الموضع الذى كانت فيه متعلقة بخبر إن المحذوف، وزال ما كان لها من التعلق بمعانى الأفعال وليست زائدة، لأن معنى التشبيه موجود فيها، بقى النظر فى أن التى دخلت عليها هل هى مجرورة أو لا؟ وأقوى الأمرين عندى أن تكون أن فى كأنك زيد مجرورة بالكاف، فإن قلت: الكاف الآن ليست متعلقة بفعل فليس ذلك مانعا من الجر ألا ترى أن الكاف فى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬1) غير متعلقة بشئ وهى مع ذلك جارة ويؤكد أنها جارة فتحهم الهمزة بعدها كما يفتحونها بعد العوامل الجارة نحو: عجبت من أنك قائم. فكذا فتحت أيضا فى كأنك قائم لأن قبلها عاملا قد جرها، فاعرف ذلك، انتهى. (قلت): إذا تأملت كلام الزمخشرى وتدبرت عبارة ابن جنى علمت أن مقصودهما أن كأن مركبة من إن المكسورة والكاف، وأنها فتحت وصارت بعد الفتح على حالها من الدلالة على تأكيد الجملة غير منحلة مع ما بعدها إلى مصدر وأن هذه المفتوحة المتصلة بالكاف غير أن المفتوحة فى قولك: عجبت من أنك قائم، وقدمت ووضعت فى غير محلها مسارعة إلى تبادر ذهن السامع للتشبيه، ولعلها إنما فتحت لمشابهتها فى الصورة لعجبت من أنك قائم بجامع ما بينهما من اتصال كل منهما بحرف كراهية أن يقع فى الصورة اتصال إن المكسورة بحرف جر أو اتباعا لحركة الكاف، ألا ترى إلى قول الزمخشرى: فتحت لها الهمزة لفظا ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 11.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى على الكسر؟! وقول ابن جنى: إن الكاف ليست الآن متعلقة بشئ ولو كانت مصدرية لتعلقت بشئ سواء أكانت اسما أم فعلا، فإنها تكون مع ما بعدها فى تأويل المفرد، وهذا المفرد لا بد له أن يتعلق بشئ، ثم يلزم أن يكون فى الكلام محذوف كما به الجملة، وابن جنى لا يقول: إن فى الكلام محذوفا كما سيأتى نقله عنه، وقول ابن جنى: إن المكسورة لا يتقدمها حرف الجر ثم قوله: إن الكاف هذه جارة لعل الجمع بينهما أن المكسورة لفظا ومعنى لا يتقدمها حرف الجر، أما المكسورة معنى فيتقدمها إذا كانت مفتوحة فى اللفظ، فإن قلت: الفتح اللفظى لا أثر له فى منع حرف الجر إذا كان المعنى على الكسر بل المانع معنى الكسر لما فيه من عدم الانحلال بمفرد. قلت: معنى الكسر يمنع من أن يتصل بإن حرف حال فى موضعه، أما حرف على نية التأخير موضوع فى غير موضعه فلا مانع منه غير أنه باب سماع فلا يقاس عليه مثله. وقول بعض البصريين: القول بالتركيب خطأ لأنه يلزم قائله أن يأتى بخبر الكاف ليس بصحيح، لأنه يوهم أن" أن" عنده مصدرية. (القول الثانى): وإليه ذهب الزجاج، أن الكاف جارة فى موضع رفع فإذا قلت: كأنى أخوك ففيه حذف التقدير: كأخوتى إياك موجود لأن أن وما علمت فيه بتقدير مصدر ولا تكون الكاف على هذا مقدمة من تأخير. قال ابن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر لأن العرب لم تذكر" موجود" مع هذا الكلام قط. وهذا الكلام من ابن عصفور يقتضى أنه فهم عن ابن جنى ما فهمناه عنه من كون أن فى كأن غير منحلة لمفرد فإنه لو قال بذلك لاتحد مذهبه ومذهب الزجاج. (قلت): فإذا علمت ذلك اتجه أمران: أحدهما: النزاع فى أن كأن يليها المشبه به. الثانى: لك أن تقول: أى تركيب فى كأن حينئذ غايته أن الكاف إن كانت مقدمة من تأخير فهى حرف وضع فى غير موضعه جاور حرفا آخر، وكذلك إن كانت غير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مقدمة وما بعدها مصدر فلا يصدق فى قولك: عجبت من أن زيدا قائم، أن يقال: من أن مركبة، وشأن التركيب أن يجعل للكلمتين عند التركيب معنى ثالثا لم يكن قبل التركيب أو يحدث لهما أمرا لفظيا. الرابع: ما تقدم من أن كأن للتشبيه على الإطلاق هو المشهور، وذهب الكوفيون والزجاج وابن الطراوة وابن السيد إلى أنها إن كان خبرها اسما جامدا فهى للتشبيه، وإن كان مشتقا فهى للشك بمنزلة ظننت وتوهمت، قال ابن السيد: إذا كان خبرها فعلا أو جملة أو صفة فهى فيهن للظن والحسبان، ولا تكون للتشبيه إلا إذا كان الخبر مما يمثل به فإن قلت: كأن زيدا قائم، لا يكون تشبيها لأن الشئ لا يشبه نفسه، وأكثر الناس على الأول، فقيل: إن معنى: كأن زيدا قائم تشبيه حالته غير قائم بحالته قائما، وقال ابن ولاد: معناه تشبيه هيئة حال عدم القيام بهيئة حال القيام. الخامس: إذا ثبت أنها للتشبيه فقد تخرج عنه فتستعمل فى غيره. قال ابن الأنبارى: فى قولهم: كأنك بالشتاء مقبل. معناه: أظن، وجعل الكوفيون هذا، وقولهم: كأنك بالفرج آت. للتقريب، وكذا قول الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. والجمهور يؤولون ذلك على تأويل يرجع إلى التشبيه لا نطيل بذكره، وزعم الكوفيون والزجاجى أن كأن للتحقيق فى قوله: فأصبح بطن مكّة مقشعرّا … كأنّ الأرض ليس بها هشام (¬1) وقال ابن أبى ربيعة: كأنّنى حين أمسى لا تكلّمنى … متيّم يشتهى ما ليس موجودا (¬2) والجمهور يؤولون ذلك. ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو للحارث بن خالد فى ديوانه ص: 93، والاشتقاق ص: 101، ولسان العرب 12/ 461 (قثم). (¬2) البيت من البسيط، وهو لعمر بن أبى ربيعة فى ديوانه ص: 320، والجنى الدانى ص: 571، والخصائص 3/ 170.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السادس: فى تعداد صيغ التشبيه على ما ذكره المصنف من أن كل ما كان بمعنى مثل وشبه أداة تشبيه، فمن أدوات التشبيه: الكاف، وكأن، وياء النسب، ومثل، ومثيل، وشبه، وشبيه، ونحو، - ذكره جماعة منهم ابن النحاس النحوى الحلبى، وقل من صرح به من أهل اللغة وإن كان مشهورا فى الاستعمال - ومثيل، وضريب، وشكل، ومضاه، ومساو، ومحاك، وأخ، ونظير، وعدل، وعديل، وكفء، ومشاكل، وموازن، ومواز، ومضارع، وند، وصنو، وما كان بمعناها أو كان مشتقا منها من فعل أو اسم. وأشار الطيبى إلى أن من أدوات التشبيه أفعل التفضيل، مثل: زيد أفضل من عمرو، وفيه بعد وإن كان يشهد له ما سيأتى من كلام ابن الشجرى، ومن أدوات التشبيه: لعل، ففى البخارى فى قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (¬1) عن ابن عباس: معناه كأنكم. وفى الكشاف معناه: ترجون الخلود فى الدنيا، أو تشبه حالكم حال من يخلد، وفى مصحف أبى (كأنكم تخلدون) وقال الطيبى: لعل هذا وارد على الاستعارة التمثيلية، وجعل عبد اللطيف البغدادى من أدوات التشبيه كلمة سواء، كقولهم: رأيت رجلا سواء هو والعدم، ولا يخفى أن هذه الألفاظ بعضها يصلح للتشبيه وبعضها يصلح للمشابهة، لكن اسم التشبيه قد يطلق على الجميع. السابع: لم يحرر البيانيون معنى هذه الأدوات فظاهر كلامهم أن معناها واحد وليس كذلك، فإن الكاف وكأن وكذلك مثل للتشبيه فى أى شئ كان لا تختص بنوع دون آخر كما صرح به الراغب فى مادة الند، وحيث وقع فى كلامه أو كلام غيره أنها عامة فى كل شئ فهو على إرادة العموم البدلى لا الاستغراقى، قال: والند المشارك فى الجوهرية فقط، وقال فى موضع آخر: فى الجنسية والشكل لما يشاركه فى القدر والمساحة، كذا ذكره فى مادة المثل، وقبل فى مادة شكل فى الهيئة والصورة وهو قريب من الأول، والضريب هو الشكل، والشبه المشارك فى الكيفية، كاللون والطعم وكالعدالة والظلم، كذا ذكره الراغب وفيه نظر لما سيأتى. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 129.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والمساواة: المشاركة فى الكمية بالذرع والوزن والكيل وقد تعتبر بالكيفية، نحو: هذا السواد، مساو لهذا السواد وإن كان تحقيقه راجعا إلى اعتبار مكانه دون ذاته، والمضارعة المشابهة، والنظير المثل مطلقا، والأخ حقيقته المشارك لغيره فى أب أو أم، ثم أطلق على المشارك فى القبيلة، أو فى الدين، ثم استعمل فى كل مساو، ومنه قول ابن الزبير: كان عمر - رضى الله عنه - إذا حدث النبى صلّى الله عليه وسلّم بحديث حدثه كأخى السرار. قال الزمخشرى فى الفائق: أى كلاما كمثل المساررة، والمحاكى المشابه مطلقا، وأما الصنو فتصاريفه تدل على أنه المشارك لغيره فى الأصل الذى خرجا منه فالإنسان صنو أخيه لاشتراكهما فى أب أو أم، وصنو عمه أو أبيه لاشتراكهما فى الجد، والغصنان الخارجان من شجرة صنوان، والكفؤ والنظير. وقال عبد اللطيف البغدادى فى قوانين البلاغة: إن قولك: زيد كعمرو أو مثله أو شبهه أو نظيره موضعه الأمور العلمية والمعارف النظرية، وقد تستعمله الخطباء والبلغاء لاشتراكهم فى معناه، كما يقال: هذا المربع مثل ذلك المربع، وهذا نظير هذا، والأرز كالحنطة فى تحريم التفاضل، وأما ياء النسب فقاله عبد اللطيف أيضا، وعد من الشبيه بها قولهم: لون أحمرى ووردى. الثامن: فى ذكر ما بين هذه الصيغ من التفاوت لم يتعرض المصنف ولا غيره للفرق بين ما ذكره من هذه الصيغ، بل يقتضى كلامهم أن معناها واحد وأن رتبتها متساوية، والتحقيق فى ذلك أن يقال: إن كان شئ من هذه الصيغ يدل على المشابهة من كل وجه فهو أبلغ الصيغ، والذى قد يتخيل فيه ذلك كلمات، إحداها كلمة المساواة، فإن الأصوليين اختلفوا فى أن فعل المساواة فى حال الإثبات للعموم أو الخصوص، والشافعية وأكثر الأصوليين على أنها للخصوص، ويشهد له كلام الراغب المنقول عن الحنفية أنها للعموم بالمادة بمعنى أنه لا تصدق حقيقة المساواة إلا من كل وجه غير ما يقع به الامتياز وعليه اصطلح المنطقيون وعلى ذلك تنبئ حالة النفى، فنحو: لا يستوى تقتضى العموم عندنا، ولا تقتضيه عندهم، والثانية كلمة مثل، فإن هذا الخلاف فى عموم المساواة لا شك أنه يجرى فى المماثلة، بل هو أدل على ذلك من لفظ المساواة. وقال الشيخ تقى الدين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن دقيق العيد فى شرح العمدة عند الكلام على قوله:" رأيت النبى صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئى هذا"، وفى شرح الإلمام أيضا لفظ النحو والمثل ليسا مترادفين، فلفظ المثل دال على المساواة بين الشيئين، إلا فيما لا يقع التعدد إلا به هذا حقيقته، ويستعمل مجازا فيما دون ذلك، ولفظ النحو يدل على المقاربة فى الفعل لا على المماثلة، وإن استعمل فى المثل فبملاحظة معنى آخر، هذه عبارته فى شرح الإلمام، فإن كان - رحمه الله - أخذ ذلك نقلا عن اللغة فلا كلام، وإن كان أخذ كون المثل كذلك من كلام المنطقيين ففيه نظر؛ لأن الظاهر أن ذلك اصطلاح لهم ويؤيده كثرة ما ورد من التشبيه بمثل ذلك فى شئ واحد لا من كل وجه، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (¬1)، وقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (¬2) وفَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (¬3) ونَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها (¬4) وفَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (¬5) ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ (¬6) وإِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (¬7) ففى كل من هذه الآيات الكريمة قصد نوع من المماثلة لا كل نوع، قال ابن رشيق فى العمدة: التشبيه سواء كان بالكاف أو كأن أو غيرهما لا يكون من جميع الجهات، بل من جهة أو جهات، ومما يدل على أن كلمة مثل لمطلق المشابهة قول النحاة: إنها لا تتعرف بالإضافة لتوغلها فى الإبهام، لأنك إذا قلت: زيد مثل عمرو. احتمل أن يكون مثله فى جنسه أو صفته الظاهرة أو الباطنة فهى صادقة على كل مماثلة فى شئ ما فلا تكون معرفة. نعم إذا أريد بكلمة مثل المشابهة من كل وجه ينبغى أن يقال: تتعرف بالإضافة الثالثة كلمة المشابهة، فإذا قلت: زيد شبيه عمرو. كان معناه أنه شابهه من كل وجه مبالغة؛ ولذلك تعرفت بالإضافة بخلاف مثل ذكره فى شرح التسهيل. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 140. (¬2) سورة البقرة: 23. (¬3) سورة هود: 13. (¬4) سورة البقرة: 106. (¬5) سورة البقرة: 194. (¬6) سورة البقرة: 228. (¬7) سورة البقرة: 275.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وينبغى أن يلحق بها مثيل إذا تقرر ذلك، فنقول: إما أن يثبت فى شئ من هذه الأدوات أنه يعم جميع أنواع الشبه أو لا - فإن ثبت فيه ذلك فلا إشكال أنه أبلغ فى التشبيه مما لم يثبت، وما لم يثبت فيه ذلك إن اختص شئ منه بنوع من أنواع الشبه - كما زعم الراغب - فلا فضل لصيغة على أخرى إلا أن ما دل على التشابه فى الجوهرية من جنس أو نوع أو فصل أقوى فى التشبيه مما دل على المشابهة فى صفة، والشبه فى الصفة الذاتية أقوى من الشبه فى الخارجية وإن لم يثبت ذلك فالذى يظهر أن الأدوات الاسمية كلها سواء، وإن اختلفت فاختلافها بشهرة استعمال البعض، وأنها مساوية للكاف الحرفية، وكأن لا يقال: دلالة مثل ونحوها على المشابهة أصرح فتكون أقوى؛ لأن قوة هذه الأسماء باعتبار الدلالة على التشبيه، لا أن التشبيه المستفاد بها أبلغ من التشبيه المستفاد من الحرف. وأما الكاف وكأن فالمتبادر إلى الذهن أن كأن أبلغ. وكذلك صرح به الإمام فخر الدين فى نهاية الإيجاز، وكذلك حازم فى منهاج البلغاء، وقال: وهى إنما تستعمل حيث يقوى الشبه حتى يكاد الرائى يشك فى أن المشبه هو المشبه به أو غيره، ولذلك قالت بلقيس: كَأَنَّهُ هُوَ (¬1) وعندى فى ذلك تحقيق، وهو بناء هذا على أن كأن بسيطة أو مركبة، فإن قلنا: إنها بسيطة استقام هذا فإن كثرة الحروف غالبا دليل على المبالغة فى المعنى، كما سبق فى أول هذا الشرح، وإن قلنا: إنها مركبة فلا؛ لأنك إن فرعت على رأى ابن جنى فأداة التشبيه بالحقيقة إنما هى الكاف، وأن تأكيد للجملة، وتأكيد الجملة المخبر فيها بالتشبيه لا يدل على المبالغة فى التشبيه، والاعتناء بالتشبيه فى تقديم الكاف المشعرة بالتشبيه من أول وهلة ليس فيه ما يدل على أن المشابهة أبلغ، بل فيه تأكيد الدلالة على مطلق التشبيه والاعتناء به سواء أكان هو أبلغ أو لم يكن، فيكون مساويا فهو كقولك: إن زيدا كأسد وزيادة، كأن زيدا أسد، على زيد كالأسد لا باعتبار مقدار الشبه بل باعتبار تأكيد مضمون الجملة، وهو الإخبار أو الحكم على ما سبق، وفرق بين تأكيد الحكم بالتشبيه وبين الإخبار بتشبيه مؤكد، وإن فرعت على رأى ¬

_ (¬1) سورة النمل: 42.

(الغرض من التشبيه)

(الغرض من التشبيه) والغرض من التشبيه - فى الأغلب - أن يعود إلى المشبّه، وهو: بيان إمكانه؛ كما فى قوله (¬1) [من الوافر]: فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال ـــــــــــــــــــــــــــــ الزجاج فأوضح لأنه منحل فى المعنى إلى قولك: كأخوتى لك موجود فلا مبالغة. التاسع: قيل يستثنى من كون مثل أداة تشبيه، نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، فليست تشبيها، وفيه نظر؛ لأن المراد من هو على مثل صفتك لا يفعله، فليست مثل هنا زائدة مقحمة كما قيل، بل هو نفى للفعل عن المخاطب بطريق برهانى وفيه بحث سبق فى موضعه. العاشر: ما ذكرناه من أن كأن للتشبيه لا فرق فيه بين أن تخفف نونها أو لا، ولا فرق فيه بين أن تتصل بما الكافة أو لا، فإن ما الداخلة عليها لا تغير معناها كما صرح به شيخنا أبو حيان وصاحب البسيط، فإذا قلت: كأنما زيد أسد. فزيد مشبه وأسد مشبه به، وإذا قلت: كأنما قام زيد. كان كقولك: كأن زيدا قام. وستجد التشبيه بكأنما فى مواضع من كلام المصنف، الحقيقة على ذلك المعنى فالعدول عن ذلك إلى دعوى أن شيئا آخر يشبه ذلك الشئ فى هذا المعنى، أو أن هذا الشئ له شئ آخر يشبهه أمر على خلاف المعهود؛ فلذلك تكلموا عليه، وهو قسمان: أحدهما: أن يكون غرضا يعود إلى المشبه، وذلك لأحد أمور: منها: أن يقصد بيان إمكان وجود المشبه، وذلك فى أمر غريب، يمكن أن يدعى استحالته، كما فى قول أبى الطيب: فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال فإنه إذا ادعى أن الممدوح تناهى فى الصفات الفاضلة إلى حد يضير به كأنه ليس من الأنام، وتناهى بعض النوع الواحد فى الفضيلة إلى حد يصير به كأنه نوع آخر، يفتقر من يدعيه إلى إثبات إمكانه؛ فلذلك قال: إن المسك بعض دم الغزال، ومع ذلك قد تناهى فى الصفات الشريفة إلى حد يتوهم لأجله، أنه نوع غير الدم. ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى من قصيدة يرثى فيها والد سيف الدولة، ديوانه 3/ 151، والإشارات ص 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واعترض على المصنف بأن البيت لا تشبيه فيه، وأجيب بأن التقدير: فأنت كالمسك، ثم ذكر حال المسك فقال: إن المسك بعض دم الغزال. والمشبه فى قولنا: أنت كالمسك، لا يقصد إثبات إمكانه، فالصواب فى العبارة أن تقدر: فحالك حال المسك؛ لأن حاله من كونه بهذه الصفة، هو المستغرب، والظاهر أن جواب الشرط فلا بدع؛ فليس هذا من التشبيه اللفظى فى شئ. نعم هو تشبيه معنوى، ثم أقول: بيان إمكان المشبه لم يحصل من التشبيه؛ لأن الغرض من التشبيه بيان إمكان المشبه، كما زعم المصنف، ومثله السكاكى بقول ابن الرومى: قالوا أبو الصّقر من شيبان. قلت لهم: … كلّا لعمرى! ولكن منه شيبان كم من أب قد علا بابن ذرى شرف … كما علا برسول الله عدنان وكذا قول بعض المغاربة: فإن كنت قد أنسيت بعض قضائهم … فإنّ اللّيالى بعضها ليلة القدر وقد ذكر جماعة أن هذا المعنى لم يسبق أحد المتنبى إليه، قال ابن وكيع: لا أعرفه منظوما، لكن وجدته فى منثور، وهو أنه قيل: الناس يتفاضلون تفاضل الدماء، منها مسك يباع، ومنها علق يضاع. وقد اعترض بعض الفضلاء على المتنبى بأن التشبيه ليس صحيحا، فإن نوع الإنسان ليس بمثابة الدم الذى فيه زفرة ورداءة، وهو وهم. فإنه إنما أراد أن يعيب غير ممدوحه من أهل زمانه فإن قيل هذا البيت: رأيتك فى الذين أرى ملوكا … كأنّك مستقيم فى محال وقد اعترض بعض من حضر مجلس سيف الدولة على المتنبى قوله: مستقيم فى محال، بأن المستقيم لا يضاد المحال، وإنما يضاد المعوج. فقال له سيف الدولة: هب أن القصيدة جيمية، فما تصنع بالبيت الثانى؟ فقال: يقول: فإن البيض بعض دم الدجاج. فقال سيف الدولة: ارتجاله حسن، إلا أنه يصلح أن يباع فى سوق الطير، لا أن يمدح به الملوك.

أو حاله؛ كما فى تشبيه ثوب بآخر فى السواد، أو مقدارها؛ كما فى تشبيهه بالغراب فى شدّته، أو تقريرها؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن يقصد بيان حال المشبه، كما فى تشبيه ثوب بآخر فى السواد، كما إذا جهل الإنسان لون ثوب، فيقال: هو كهذا، ويدخل فى الحال قصد بيان الجنس، أو النوع، أو الفصل، كما إذا قيل: ما عندك؟ فتقول: شئ كزيد حيوانية، أو إنسانية، أو نطقا. ومنها: قصد بيان مقدارها، أى مقدار حاله كما فى تشبيهه - أى: تشبيه الثوب - بالغراب فى شدته، أى شدة السواد، كقولك: هذا الأسود كالغراب، ولك أن تقول: تبيين مقدار الحال، ينافى كون وجه الشبه فى المشبه به أتم، كما سيأتى لأنه إذا كان أبدا أتم فالتشبيه لا يفيد غير نقصان وجه الشبه فى المشبه عنه فى المشبه به، وأنشد المصنف فى الإيضاح قوله: مداد مثل خافية الغراب وجعل منه أيضا قوله: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض … على الماء، خانته فروج الأصابع وفيه نظر، وينبغى أن يكون من القسم بعده. ومنها: أن يقصد تقرير حال المشبه فى ذهن السامع، وظاهر عبارة الإيضاح أن قوله: أو تقريره، مرفوع عطفا على بيان، لا مجرور عطفا على إمكانه، وهو الصواب كما فى تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل، بمن يرقم على الماء، ومنه قول الأخفش: الكسرة على الياء، والضمة على الواو، كالكتابة على السواد. ومنه قول الشاعر: إذا أنا عاتبت الملول كأنّما … أخطّ بأقلامى على الماء أرقما قال المصنف: وعليه قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (¬1) فإنه بين ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة، وفيه نظر. وينبغى أن يكون هذا من الوجه الأول؛ لأن المشبه حال الجبل فى ارتفاعه عليهم، والمشبه به حال الظلة فى ارتفاعها. فالغرض من التشبيه بيان إمكان المشبه، فهو كقوله: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 171.

كما فى تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل بمن يرقم على الماء. وهذه الأربعة تقتضى أن يكون وجه الشّبه فى المشبّه به أتمّ، وهو به أشهر. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما علا برسول الله عدنان وهو الموافق لقول المصنف: بين ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة، وقول المصنف: (كتشبيه من لا يحصل على طائل) فيه نظر فينبغى أن يقول: لا يحصل على شئ، فإن لا يحصل على طائل قد يحصل على شئ ما، وذلك لا يشبه الراقم على الماء، فإن ذلك لا يحصل على شئ البتة. ثم قال المصنف: إن (هذه الأمور الأربعة تقتضى أن يكون وجه الشبه فى المشبه به أتم وهو) أى المشبه (به) أى بوجه الشبه (أشهر)؛ لأن المشبه به كالمبين المعرف للمشبه فليكن أوضح، لأن التعريف إنما يكون بالأوضح، وهذه العلة واضحة بالنسبة إلى اشتراط كونه أشهر، أما كونه فيه أتم، فهذه العلة لا تقتضيه، ثم كون وجه الشبه أتم ينافى ما إذا قصد بيان مقدار حاله، وهو أحد الأمور الأربعة، ثم كون وجه الشبه فى المشبه به أتم، لا اختصاص له بهذه الأربعة، بل كل تشبيه كان الغرض به عائدا للمشبه كذلك، كما صرح به السكاكى. والنظر يقتضيه أيضا، ولهذه القاعدة قال المعرى: ظلمناك فى تشبيه صدغيك بالمسك … وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى (¬1) ثم سيأتى من كلام المصنف ما يقتضى ذلك، ويخالف ما ذكره هنا. وقد اعترض على هذه القاعدة بأن صلاة الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم شبهت بالصلاة على إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم فى قوله - عليه الصلاة والسّلام -:" قولوا اللهم صلى على محمد" (¬2) وأجيب عنه بأجوبة مشهورة، تقتضى تسليم هذه القاعدة، ولذلك عيب على البحترى قوله: على باب قنّسرين، واللّيل لاطخ … جوانبه من ظلمة بمداد (¬3) فإن المداد قد يكون فاقد السواد الشديد، بخلاف الليل فإن سواده أبلغ، وهذا ليس تشبيها لفظيا بل هو استعارة. ¬

_ (¬1) البيت لأبى العلاء المعرى فى عقود الجمان 2/ 21. (¬2) أخرجه البخارى فى" الدعوات"، (11/ 145)، وفى غير موضع من صحيحه، وسلم (ح 407). (¬3) البيت للبحترى فى عقود الجمان 2/ 20.

أو تزيينه؛ كما فى تشبيه وجه أسود بمقلة الظبى، أو تشويهه؛ كما فى تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الدّيكة. أو استظرافه؛ كما فى تشبيه فحم فيه جمر موقد، ببحر من المسك موجه الذهب، لإبرازه فى صورة الممتنع عادة. وللاستظراف وجه آخر، وهو: أن يكون المشبّه به نادر الحضور فى الذهن: إما مطلقا؛ كما مر. وإما عند حضور المشبه؛ كما فى قوله [من البسيط] (¬1): ولازورديّة تزهو بزرقتها … بين الرّياض على حمر اليواقيت كأنّها فوق قامات ضعفن بها … أوائل النّار فى أطراف كبريت ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن يقصد تزيين المشبه فى نفس السامع؛ ترغيبا فيه، كتشبيه وجه أسود بمقلة الظبى. ومنها: أن يقصد تشويهه، كتشبيه وجه المجدور - أى الذى عليه آثار الجدرى - بسلحة جامدة، قد نقرتها الديكة، وإلى الوجهين أشار ابن الرومى بقوله: تقول هذا مجاج النّحل تمدحه … وإن تعب، قلت: ذاقئ الزّنابير (¬2) ومنها: أن يقصد استطراف المشبه، كما فى تشبيه فحم فيه جمر موقد، ببحر من المسك موجه الذهب لإبرازه - أى: إبراز المشبه - فى صورة الممتنع عادة، وهذا من المصنف يقتضى أن كل تشبيه كان المشبه به فيه خياليا، أو وهميا من هذا القسم. ثم قال المصنف: (وللاستطراف وجه آخر، وهو أن يكون المشبه به نادر الحضور فى الذهن، إما مطلقا كما مر) فى التشبيه ببحر من مسك فإنه نادر مطلقا لكونه لا وجود له فى الخارج، لا يقال: هذا هو القسم الأول؛ لأنا نقول: هو سبب آخر بجامع السبب السابق فى مثاله، فحينئذ يكون القسم السابق مستطرفا باعتبارين لإبراز المشبه فى صورة الممتنع عادة ولندرة حضور المشبه به فى الذهن (وإما) لندرة حضور المشبه به فى الذهن (عند حضور المشبه) أى لندرة استحضار المشبه به حال استحضار المشبه كقوله فى تشبيه بنفسجة: ولا زوردية تزهو بزرقتها … بين الرّياض على حمر اليواقيت كأنّها فوق قامات ضعفن بها … أوائل النّار فى أطراف كبريت ¬

_ (¬1) البيتان لابن المعتز، أوردهما الطيبى فى التبيان 1/ 273 بتحقيقى، والعلوى فى الطراز 1/ 267. واللازوردية: البنفسجية، نسبة إلى اللازورد، وهو حجر نفيس. (¬2) البيت لابن الرومى فى عقود الجمان 2/ 21.

وقد يعود إلى المشبه به، وهو ضربان

وقد يعود إلى المشبّه به، وهو ضربان: أحدهما: إيهام أنه أتم من المشبه؛ وذلك فى التشبيه المقلوب؛ كقوله [من الكامل]: وبدا الصّباح كأنّ غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن اتصال النار بالكبريت لا يندر فى الذهن إنما يندر حضوره عند حضور صورة البنفسج، فإذا أحضر مع صحة التشبيه استطرف، ومنه قول ابن الرقاع: تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه … قلم أصاب من الدّواة مدادا (¬1) وكذلك كل تشبيه غريب. ص: (وقد يعود إلى المشبه به إلى آخره). (ش): أى: قد يكون الغرض من التشبيه عائدا إلى المشبه به، و (ذلك قسمان): (أحدهما): وهو الغالب (أن يقصد إيهام أنه)، أى أن المشبه به لفظا وهو الذى كان فى الأصل مشبها (أتم) فى وجه الشبه (من المشبه وذلك فى التشبيه المقلوب) والمعنى بكونه مقلوبا أن يجعل ما الوجه فيه أتم مشبها ليتوهم السامع أن المشبه به أتم فى الوجه من المشبه، اعتمادا على القاعدة من كون الوجه فى المشبه به أتم، ويكون الأمر بالعكس والتشبيه المقلوب سماه ابن الأثير فى كنز البلاغة غلبة الفروع على الأصول، كقول محمد بن وهيب: وبدا الصباح كأنّ غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح (¬2) فإنه قصد أن الخليفة أتم نورا من الصباح، وإنما كان هذا التشبيه مقلوبا؛ لأنه علم أن مقصود الشاعر منه تشبيه الخليفة بالصباح لا العكس، فلا ينافى هذا ما قلناه من أن تشبيه الليل بالبدعة ليس مقلوبا إذا كان المتكلم قاصدا لوصف الليل، دون ما إذا كان قاصدا وصف البدعة فإنه يكون مقلوبا، فليس من التشبيه المقلوب قوله: وأرض كأخلاق الكرام قطعتها … وقد كحل اللّيل السماك فأبصرا ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو لابن الرقاع فى ديوانه ص: 35. ولسان العرب 9613 (بلد)، وأساس البلاغة (أبر). (¬2) البيت لمحمد بن وهيب الحميرى فى مدح الخليفة المأمون، الإشارات ص: 191، والطيبى فى شرح المشكاة 1/ 108 بتحقيقى، والإيضاح ص: 223.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وليس منه قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ (¬1) وإن كان نوره أتم من المشكاة، لأن المقصود تشبيه ما لم يعلمه البشر بما علموه لكون المشكاة فى الذهن أوضح، وقد تكون القوة فى المشبه به باعتبار الوضوح، ويؤيده أنه ليس بين نوره تعالى وبين نور المشكاة اشتراك فى القوة والضعف يقتضى أن أحدهما أتم فى نفس الحقيقة، فإنما هو باعتبار الوضوح، ومن التشبيه المقلوب فى قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (¬2) فإن المقصود فى الأصل أنهم جعلوا الربا كالبيع، فقلب مبالغة فيه زعما أن الربا أولى بالحل من البيع. وقال الإمام فخر الدين فى تفسيره أنه لما تساوى عندهم البيع والربا كان البيع مثل الربا وعكسه سواء، ومعنى هذا أنه مما أصله التشابه واستعمل فيه صيغة التشبيه كما سيأتى فلا يكون مما نحن فيه، واختاره ابن المنير فى الانتصاف، وكذلك قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ (¬3) المقصود الزجر عن تشبيه غير الخالق بالخالق وأتى بمن فى قوله تعالى: كَمَنْ لا يَخْلُقُ إما للمشاكلة وإن كان المراد الأصنام أو لإرادة ذوى العلم ممن عبد ليعلم غيره من باب الأولى، أو لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، قال المصنف: إنما قلب لأنهم غلوا فى عبادتها إلى أن صارت عبادتهم أصلا وعبادة الله عندهم فرعا، وفيه نظر لقوله تعالى حكاية عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (¬4) والأحسن أن يقال: إنهم لما عبدوا غير الله كانت حالتهم فى القبح حالة من يشبه غير الله بالله، وعبارة الزمخشرى أنهم حين جعلوا غير الله مثل الله فى تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه فقد جعلوا أنه من جنس المخلوق وشبيها به فأنكر عليهم ذلك بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ (¬5)، انتهى. وجوز الطيبى فيه فى شرح الكشاف أنه يريد أنهما لما تساويا صح تشبيه كل بالآخر، وأن يكون من قلب التشبيه. قال المصنف: ومنه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (¬6) مكان قوله هواه إلهه، فإن أراد أنه مثل فى قلب التشبيه كما صرح به الشيرازى وجعل ظاهر كلام ¬

_ (¬1) سورة النور: 35. (¬2) سورة البقرة: 275. (¬3) سورة النحل: 17. (¬4) سورة الزمر: 3. (¬5) سورة النحل: 17. (¬6) سورة الجاثية: 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحب المفتاح لقوله: إن هذه الآية مصبوبة فى هذا القالب ففيه نظر، فإن هذا ليس بتشبيه، لأن قولك: اتخذ هواه إلهه، ليس معناه مثل إلهه، بل معناه اتخذ هواه معبوده فهو كقولك: اتخذت زيدا مكرما. فليس تشبيها ولا استعارة، سواء أقلنا: إن قولك: اتخذت زيدا أسدا تشبيه، أم قلنا: استعارة، وجعل ذلك ظاهر كلام السكاكى فيه نظر، لأن الظاهر أن السكاكى أراد أنها مصبوبة فى قالب مطلق القلب الصادق على جعل المفعول الأول ثانيا والثانى أولا، فإن أراد الشيرازى هذا وأنه مثله فى كونه مقلوبا فليس هذا موضع الكلام على القلب، وذاك باب قد سبق فى علم المعانى، وذكر الوالد فى تفسيره أنه إنما قيل إلهه هواه إشارة إلى أنه جعل الإله المعلوم الثابت كهواه، وهذا غير معنى اتخذ هواه إلهه. انتهى. فعلى هذا ليس ذاك مقلوبا، لكن يكون هواه استعارة أو تشبيها على الخلاف، هذا ما ذكره الوالد فى تفسيره، ورأيت بخطه فى بعض التعاليق أنه تأمل ما قيل بهذه الآية، وهى قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ (¬1) إلى قولهم: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا (¬2) فعلم أن المراد الإله المعهود الباطل الذى عكفوا عليه وصبروا وأشفقوا من الخروج عنه، فجعلوه هواهم، ومن التشبيه المقلوب فيما زعم ابن الزملكانى فى البرهان قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى (¬3) وليس كما قال، فإن المعنى ليس الذكر الذى طلبت كالأنثى التى وضعت، لأن الأنثى أفضل منه، وسواء أكان ذلك من كلام الله غير محكى، والتقدير: وليس الذكر الذى طلبت، أو من كلامها، والتقدير: ليس الذكر الذى طلبت وتكون علمت ذلك لما رأت من حسن أوصافها فتفرست فيها أنها خير من الذكر الذى طلبته. ومن التشبيه المقلوب قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (¬4) ويمكن أن يجعل من قلب التشبيه قوله صلّى الله عليه وسلّم:" ذكاة الجنين ذكاة أمه" (¬5) على رأى من قدره مثل ذكاة، واكتفى بذكاة الأم عن ذكاة الجنين، وكذلك قوله - عليه ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 41. (¬2) سورة الفرقان: 42. (¬3) سورة آل عمران: 36. (¬4) سورة الأحزاب: 32. (¬5) " صحيح" انظر صحيح الجامع (ج 3431)، وراجع الإرواء (ح 2539).

والثانى: بيان الاهتمام به؛ كتشبيه الجائع وجها كالبدر فى الإشراق، والاستدارة بالرغيف؛ ويسمّى هذا إظهار المطلوب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة والسّلام -:" والبكر تستأمر وإذنها صماتها" (¬1) إن قدرت فيه أداة التشبيه، ويمكن أن يجعل منه قوله: لعاب الأفاعى القاتلات لعابه بقى هنا سؤال وهو أن قلب التشبيه كيف يكون محصلا للمبالغة فى النفى والاستفهام فى نحو: أَفَمَنْ يَخْلُقُ وفى نحو: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ ونفى الأبلغ لا يستلزم نفى ما دونه، وقد يجاب بأنا نقدر النفى داخلا قبل القلب، فأصله ليس زيد كالأسد ثم بولغ فى نفى التشبيه. (تنبيه): قال حازم فى المنهاج: شرط فى جواز عكس التشبيه أن يجتمع فى المتشابهين أوصاف ثلاثة أو اثنان، منها وهو المقدار واللون والهيئة، وهو غريب، ويرد عليه بعض المثل السابقة. وقال أيضا: أنه إذا استويا فى وجه الشبه، وأحدهما فى نفسه عظيم، والآخر حقير شبه الحقير بالعظيم عند إرادة التعظيم، وشبه العظيم بالحقير عند إرادة التحقير. الثانى: بيان الاهتمام بالمشبه به لفظا، ومعنى كالجائع إذا شبه وجها كالبدر فى الإشراق، والاستدارة بالرغيف، ويسمى هذا الوجه إظهار المطلوب، قال السكاكى: ولا يحسن المصير إليه إلا فى مقام الطمع فى شئ وفى حصر الاهتمام فى الطمع وإظهار المطلوب نظر، وإنما جاز ذلك فيما نحن فيه لخصوص المادة. قال السكاكى والمصنف: وهذا كما يحكى فى قول شخص حين سمع: وعالم يعرف بالسجزى … أشهى إلى النّفس من الخبز وذكر الحكاية، وقد يعترض عليه بأن هذا أفعل تفضيل، لا تشبيه، وقد يجاب بأمرين: أحدهما: أنه ليس المراد أنه تشبيه بل تمثيل؛ لأن الإنسان يسرى ذهنه لما فيه. والثانى: أنه قد يجعل أفعل التفضيل كله تشبيها كما تقدم عن الطيبى. ¬

_ (¬1) صحيح بنحوه فى صحيح الجامع (ح 3083)، والصحيحة (ح 1807).

هذا إذا أريد إلحاق الناقص - حقيقة أو ادعاء - بالزائد، فإن أريد الجمع بين شيئين فى أمر: فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه؛ احترازا من ترجيح أحد المتساويين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (هذا إذا أريد إلى آخره). (ش): يريد أن ما تقدم كله مفروض فيما إذا أريد إلحاق الناقص حقيقة فى التشبيه المستقيم، أو ادعاء فى التشبيه المقلوب بالزائد، وينبغى أن نقول فيه أيضا حقيقة أو ادعاء، ولو أخر المصنف حقيقة أو ادعاء عن قوله بالزائد؛ ليكون عائدا لأحدهما، ويقدر فى الآخر لكان أحسن. وفى هذا الكلام مخالفة لما سبق؛ لأنه يقتضى أن من شرط التشبيه أن يقصد إلحاق الناقص بالزائد، وقد تقدم أن المصنف إنما شرط ذلك فى بعض ما سبق، لا فى كله، ويرد عليه أيضا أنه قدم أن وجه الشبه لا بد أن يكون فى المشبه به أشهر، فينبغى أن يشرط فى التشابه شرطا آخر، وهو عدم شهرة أحدهما عن الآخر. (قوله: فإن أريد الجمع بين شيئين فى أمر إلخ) عبارة قاصرة، فإن إرادة الجمع بينهما لا تنافى إرادة إلحاق الناقص بالزائد، والأحسن عبارته فى الإيضاح حيث قال: فإن أريد مجرد الجمع فإنها تعطى ما يقصده من أنه لا يقصد إلحاق الناقص بالزائد، ومع ذلك هى قاصرة؛ لأن التشابه على ما يقتضيه كلامه لا يقصد فيه مجرد الجمع، بل يقصد به الجمع بقيد التساوى، وينبغى أن يقال: التساوى حقيقة، أو ادعاء. والتحقيق أن ما سيأتى ينقسم إلى قسمين: تشابه يقصد به التساوى، وتشابه يقصد به مجرد الجمع. قال: (فالأحسن ترك التشبيه) لأن الفرض أنه لم يقصد إلحاق الناقص بالزائد، فلا يؤتى بصيغة التشبيه المقتضية لذلك احترازا عن ترجيح أحد المتساويين على الآخر، فإن التشبيه ترجيح المشبه به على المشبه، وإنما قلنا: إن التشابه يقتضى التساوى؛ لأن تشابه زيد وعمرو قضية تنحل فى المعنى إلى قولنا: زيد يشبه عمرا، وعمرو يشبه زيدا. وأنت لو صرحت بهاتين القضيتين لكانتا متنافيتين، إلا بأن تجعل التشبيه فى أحدهما مقلوبا، والحكم على أحدهما بالقلب دون الآخر تحكم، وترجيح لأحد المتساويين على الآخر، فصارا كالدليلين المتعارضين فى شئ فيتساقطان فى محل التعارض، وهو ترجيح أحدهما على الآخر، ويعمل بهما فى مجرد المشابهة فيكونان متساويين، فيصير مضمون التشابه التساوى، هذا تحقيق هذا الموضع.

كقوله [من الطويل]: تشابه دمعى إذ جرى ومدامتى … فمن مثل ما فى الكأس عينى تسكب فو الله، ما أدرى أبالخمر أسبلت … جفونى أم من عبرتى كنت أشرب ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يقال: لا نسلم دلالة التشابه على التساوى، بل إذا تعارضا فى الدلالة على التفاوت ارتفع دليل التفاوت، وصار الكلام لمجرد الجمع الذى هو أعم من التفاوت والتساوى؛ لأنا نقول: إذا حصل التعارض فى التفاوت، عدل لما وراءه وهو المساواة. فإن قلت: إذا كان التشابه يقتضى التساوى؛ لدلالة الفعل على وقوعه من الجانبين، فيلزم ذلك فى نحو: شابه زيد عمرا؛ لدلالة فاعل على المشاركة. (قلت): فاعل وتفاعل، وإن اتفقا فى الدلالة على المشاركة فهما مختلفان بوجه آخر، وهو أن تفاعل فيه إسناد الفعل لاثنين، وفاعل إخبار بوقوع الفعل من أحدهما على الآخر المستلزم لوقوعه من الآخر. ومثل المصنف التشابه بقول أبى إسحاق الصابى: تشابه دمعى إذ جرى ومدامتى … فمن مثل ما فى الكأس عينى تسكب فو الله ما أدرى أبالخمر أسبلت … جفونى أم من عبرتى كنت أشرب؟ (¬1) ويروى: عيناى تسكب من قوله: بها العينان تنهل، فكأنه أراد أن المدامة والدمع متساويان فى الخمرة، أو الجريان. فإن قلت: إذا كان التشابه يقتضى التساوى، والتشبيه يقتضى التفاوت، فكيف جمع بينهما فى قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ (¬2) قال الزمخشرى: معناه مثل الذى رزقنا، ثم قال تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً فقد جمع بين صيغتى التشبيه والتشابه. (قلت): ليس عن ذلك جواب إلا أن يقال: التشابه هنا المراد به التساوى فى مقدار وجه الشبه والتشبيه، باعتبار أن وجه الشبه فى المشبه به معروف، وكذلك قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ (¬3) فإن تشابه القلوب يلزم منه تشابه الأقوال النابعة لما فى القلب، فقد جمع بين التشبيه والتشابه، وجوابه كالأول. ¬

_ (¬1) البيتان لأبى الصابى، فى الإشارات ص 190، والأسرار ص 156. (¬2) سورة البقرة: 25. (¬3) سورة البقرة: 118.

ويجوز التشبيه - أيضا - كتشبيه غرّة الفرس بالصبح، وعكسه، متى أريد ظهور منير فى مظلم أكثر منه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد يشكل على هذا قول الشاعر: (تشابه دمعى) مع قوله: (فمن مثل) فكيف جمع بينهما ولا سيما والفاء تشير إلى تسبب ذلك عن التشابه؟ ولولا قوله فى البيت الثانى: فو الله ما أدرى، لكنت أقول: التشابه لمجرد الجمع، والتشبيه بعده لإيضاح المشبه الناقص والمشبه به الزائد، ولو صح ما ادعاه بعضهم من أن (مثل) هنا من قولهم: مثلك لا يفعل كذا، لأمكن الجواب به، لكن الظاهر أن مثلك لا يفعل كذا، لا يستعمل فى حشو الكلام؛ ولذلك قال الإمام فخر الدين فى نهاية الإيجاز، وغيره: إن ذلك مما صار تقديمه كاللازم. ومن التشابه قول الصاحب بن عباد: رقّ الزّجاج وراقت الخمر … وتشابها فتشاكل الأمر فكأنّما خمر ولا قدح … وكأنّما قدح، ولا خمر (¬1) وعلى هذا الشاهد من السؤال ما على الذى قبله من اجتماع التشبيه والتشابه، إلا أن يقال: إن (كأن) فيه للشك، لا للتشبيه، ويشهد له قوله: (ولا قدح ولا خمر) أو يقال: التشبيهان المصرح بهما تعارضا لفظا كما تعارضا معنى فى لفظ التشابه، فتساقطا وبقى أصل التشبيه، وقد يسلك هذا بأن يقدر من مثل ما جرى من دمعى فى الكأس، وقد يسلك فى الآيتين الكريمتين، بأن يقدر تشبيه محذوف يدل عليه مقابله. واعلم أن هذا هو القسم الذى قصد به التساوى بين أمرين. (قوله: ويجوز التشبيه أيضا) أى يجوز استعمال صيغة التشبيه عند إرادة التشابه، وذلك إذا أريد مجرد الجمع بين أمرين، وهذا هو القسم الذى قدمت أن المقصود فيه مجرد الجمع لا التساوى، وهذا القسم يستعمل كل من المشبه والمشبه به فيه موضع الآخر، كتشبيه غرة الفرس بالصبح، وتشبيه الصبح بغرة الفرس، إذا كان المراد وقوع منير فى مظلم أكثر من المنير، بخلاف التشبيه الذى ليس بتشابه، فإنه لا يجوز أن يوضع المشبه موضع المشبه به من غير ادعاء؛ لأن وجه الشبه فيه أتم، وهذا المثال يبين ما قلناه، من أن المقصود فى هذا القسم مطلق الجمع؛ لأن غرة الفرس والصبح متفاوتان، ¬

_ (¬1) البيتان للصاحب إسماعيل بن عباد، وهما بلا نسبة فى الإشارات والتنبيهات ص 191.

وهو باعتبار طرفيه

وهو باعتبار طرفيه: إمّا تشبيه مفرد بمفرد، وهما غير مقيّدين؛ كتشبيه الخد بالورد. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا أن تفاوتهما لم يقصد، وكذلك تساويهما، بخلاف القسم قبله، فإنه يراد تساويهما. وقد تلخص أن وجه الشبه إن كان مستويا فى المحلين، فالأحسن التشابه، وإن استعمل التشبيه فيه فخلاف الأصل، وإن لم يكن، بل كان متفاوتا، فإن لم يقصد التفاوت جاز التشابه والتشبيه، أما التشابه فلإرادة مجرد الجمع، وأما التشبيه فرعاية لكون الوجه فى المشبه به باعتبار الخارج أتم، وإن قصد التفاوت تعين التشبيه. هذا هو التحقيق، وإن كان فيه مخالفة لظاهر كلام المصنف وغيره. وقد علم أن كل تشبيه يسوغ فيه التشابه من غير عكس؛ لأنه إذا حصل التفاوت بين الشيئين، قد يقصد المتكلم الإخبار بأصل الاشتراك، فيسوغ له حينئذ التشبيه بخلاف العكس. (قلت): ينبغى أن يلحق بلفظ التشابه ما وازنه من التماثل، والتشاكل، والتساوى، والتضارع، وكذلك هما سواء لا ما كان له فاعل ومفعول، مثل: شابه، وساوى، وضارع فإن فيه إلحاق الناقص بالزائد. ص: (وهو باعتبار طرفيه إلى آخره). (ش): لما انقضى الكلام فى الطرفين، والوجه، والأداة، والغرض، شرع فى الأقسام، فأولها: الكلام على أقسام التشبيه باعتبار الطرفين، ولك أن تقول: من أقسام التشبيه باعتبار الطرفين، كونهما حسيين، أو لا، وقد تكلم على ذلك. فإن قلت: إنما تكلم عليه استطرادا حين ذكر الطرفين فى أركان التشبيه. قلت: فهلا استطرد لهذا أيضا؟ وأى فرق بين التقسيم إلى حسى وغيره، حتى يجعل فى الكلام على الطرفين، وبين التقسيم إلى مركب وغيره، حتى يجعل من أقسام التشبيه؟ وقد قسم التشبيه، باعتبار الطرفين إلى: تشبيه مفرد بمفرد، أو مركب بمركب، أو مفرد بمركب، أو عكسه. الأول: تشبيه مفرد بمفرد، وهو أربعة أقسام: أن يكونا غير مقيدين، كتشبيه الخد بالورد، والمراد بالقيد هنا ما كان قيدا له مدخل فى التشبيه. يحترز بذلك عن قولنا: خد زيد كهذا الورد، وكذلك كل تشبيه كان طرفاه حسيين، فإن المفرد فيه غير مقيد بقيد تشخصه الخاص، وكذلك قولنا: هذا الخد كهذا الورد، تشبيه

أو مقيّدان؛ كقولهم: هو كالراقم على الماء. أو مختلفان؛ كقولهم [من الرجز]: والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشلّ ـــــــــــــــــــــــــــــ مفرد غير مقيد، بمفرد غير مقيد، وأن قول المصنف: تشبيه الخد بالورد، لا يعنى به ما إذا كانا كليين، بل أعم من ذلك، ومثله المصنف فى الإيضاح بقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (¬1) لا يقال: المشبه به مقيد، بقوله تعالى: (لكم) و (لهن)؛ لأنا نقول: هو قيد لفظى، لا أثر له فى وجه الشبه كما سبق. نعم قد يقال: المشبه هنا مقيد، والمعنى: هن فى وقت المضاجعة لا مطلقا، وإليه يشير ما نقله المصنف عن الزمخشرى، أن ذلك تشبيه محسوس بمحسوس، وأن المراد: أن كلا يكون لصاحبه كاللباس. الثانى: أن يكونا مفردين مقيدين، والفرق بين المفرد المقيد والمركب: أن المركب كل واحد من أجزائه جزء الطرف، والمفرد المقيد يكون الطرف فيه ذلك المقيد، والقيد شرط لا جزء، ومثله المصنف بقولهم: هو كالراقم على الماء وعبارته فى الإيضاح: كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على شئ: هو كالقابض أو الراقم على الماء، فإن المشبه هو الساعى (¬2) بهذا الوجه. والثانى: الساعى كالراقم على الماء، ويكون قيد كون سعيه كذلك فلا يكون السعى قيدا، بل صفته هى القيد، ووجه الشبه بينهما هو عدم النفع به، والتسوية بين الفعل والترك، وكلام التلخيص قريب من الصورة الثانية، وعبارته فى الإيضاح تقتضى الأولى، لا سيما وقد قال: إن القيد فيهما هو الجار والمجرور، ولو أراد المثال الثانى لكان القيد فى المشبه هو الصفة بقيدها. وقد أورد على المصنف أن عدم الحصول على شئ هو وجه الشبه، فكيف يجعل قيدا فى الطرفين؟ ولو صح لكان كل طرفين مقيدين، لأن وجه الشبه قيد فيهما. الثالث: أن يكونا مختلفين، والمقيد هو المشبه به، كقول ابن المعتز أو أبى النجم: والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) قوله فإن المشبه إلخ كذا فى الأصل ولا يخفى ما فيه فارجع إلى النسخ الصحيحة انتهى كتبه مصححه.

وعكسه (¬1). وإمّا تشبيه مركّب بمركب؛ كما فى بيت بشّار (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن المشبه الشمس مطلقا، والمشبه به المرآة بقيد كونها فى كف الأشل، وفيه نظر لما سيأتى فى القسم بعده. الرابع: مختلفان، والمقيد هو المشبه مثل أن تقول: والمرآة فى كف الأشل كالشمس، وإليه أشار بقوله: وعكسه القسم الثانى تشبيه مركب بمركب، وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعتان، ومثاله بيت بشار السابق، وقد تقدم فى تقسيمات وجه الشبه، فلو أخر المصنف ذلك إلى هنا، لكان أولى، وهو قوله: كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا … وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه (¬3) فإنه لم يرد تشبيه مثار النقع بالليل، فإنه غير طائل، ولا تشبيه السيوف بالكواكب، فإنه غير طائل، بل قصد تشبيه الهيئة الحاصلة من اجتماعهما على هذه الصورة، بالهيئة الحاصلة من الليل والكواكب المتهاوية، ألا ترى أن: تهاوى كواكبه، جملة هى صفة لليل، بخلاف قول امرئ القيس: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى (¬4) فإن ذلك مشبه ومشبه به متعددان، كما سيأتى. ¬

_ (¬1) كتشبيه المرآة فى كف الأشلّ بالشمس. (¬2) يعنى قوله: كأن مثار النقع فوق رءوسنا * … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (¬3) البيت لبشار بن برد فى ديوانه 1/ 318، والشعر والشعراء ص 759، وأسرار البلاغة 2/ 23، ودلائل الإعجاز 96، ونهاية الإيجاز ص 155، والمفتاح ص 337، والإيضاح ص 346، والتبيان ص 198، والإشارات ص 180، ومعاهد التنصيص 2/ 28، والطراز 1/ 291، وخزانة الأدب لابن حجة ص 189، ونهاية الأرب 1/ 62، والوساطة ص 313، وسر الفصاحة ص 239، ويتيمة الدهر 1/ 133، والعمدة 1/ 291، والمصباح ص 106، وأخبار أبى تمام ص 180، ويروى بلفظ:" ... فوق رءوسهم. (¬4) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 38، وشرح التصريح 1/ 382، وشرح شواهد المغنى 1/ 342، 2/ 595، 819، والصاحبى فى فقه اللغة ص 244، ولسان العرب 1/ 206 (أدب)، والمقاصد النحوية 3/ 216، والمنصف 2/ 117، وتاج العروس (بال)، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر 7/ 64، وأوضح المسالك 2/ 329، ومغنى اللبيب 1/ 218، 2/ 392، 439.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن المصنف قال فى الإيضاح: إن المقصود فى بيت بشار الهيئة الحاصلة؛ ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا فى حكم الصلة للمصدر، ونصب الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال؛ لأن الواو فيها بمعنى مع، فهو كقولهم: تركت الناقة وفصيلها: قال المصنف فى الإيضاح: وهذا القسم ضربان: الأول: ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر، كقوله: غدا والصبح تحت الليل باد … كطرف أشهب ملقى الجلال (¬1) فإن الجلال فيه فى مقابلة الليل، فلو شبه به لم يكن شيئا، وقد أورد أن تشبيه الليل بالجلال صحيح بجامع مطلق الستر، فلم يصح ما قاله. وأجيب بأن المصنف لم يمنع صحته، بل منع حسنه، وقول القاضى التنوخى: كأنما المريخ والمشترى … قدامه فى شامخ الرّفعه منصرف بالليل عن دعوة … قد أسرجت قدامه شمعه (¬2) فإن المريخ فى مقابلة المنصرف، ولو قيل: كأنما المريخ منصرف عن الدعوة كان خلفا من القول، وعلى سياق ما سبق يتعين أن يكون المريخ والمشترى قدامه، جملة حالية؛ ليكون التشبيه مركبا، والثانى: ما يصح تشبيه كل جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من الآخر، غير أن الحال تتغير، كقول أبى طالب الرقى: وكأنّ أجرام النّجوم لوامعا … درر نثرن على بساط أزرق فلو قيل: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، لصح؛ لكن أين يقع من التشبيه، الذى يريك الهيئة التى تملأ القلوب سرورا وعجبا، من طلوع النجوم، مؤتلقة متفرقة فى أديم السماء، وهى زرقاء زرقتها صافية؟ (قلت): تشبيه المركب بالمركب، والمفرد المقيد بالمفرد المقيد لا يكاد ينفصل أحدهما عن الآخر فى اللفظ، بل فى المعنى فحيث كان المقصود الهيئة الحاصلة من مجموع أمرين، أو أمور، فهو تشبيه مركب بمركب؛ لأن كل واحد من أجزاء الطرف ¬

_ (¬1) البيت لأبى المعتز. (¬2) قائلهما هو القاضى التنوخى على بن أبى فهم، الشاعر الكاتب الناقد، صديق الوزير المهلبى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الواحد ليس مقصودا، وإن صح تشبيهه بجزء الطرف الآخر، وحيث كان المقصود أحد أجزاء الطرف الآخر؛ ولكن بقيد فيه، وليس ذلك القيد مقصودا لنفسه، بل للطرف، فهو مقيد بمقيد، وإذا وجدت فى أحد الطرفين قيدا لفظيا، فانظر إلى المعنى، فإن وجدت المقيد هو المقصود، والقيد تبع؛ لم يؤثر فيه شيئا، فهو مفرد مقيد. وإن وجدت تشبيههما إلى الهيئة الحاصلة فى الذهن على السواء، فهو تشبيه مركب، وإن أردت تشبيه أشياء متفاصلة بأشياء متفاصلة فهو تشبيه متعدد بمتعدد، وإذا أتيت بالعطف، وقلت: زيد وثوبه، كبكر وثوبه، احتمل ذلك تشبيه زيد ببكر، وثوب زيد بثوب بكر، فيكون لفا ونشرا، فهذان حينئذ تشبيهان متفاصلان متعددان، وليس الكلام فيه. واحتمل أن يريد: زيد كعمرو، فى حال كون كل منهما مع ثوبه، والثوبان شرطان فى تشبيه أحدهما بالآخر، فيكون تشبيه مفرد مقيد بمفرد مقيد، وتكون الواو للمعية. وليس من شرط الواو التى لا تنصب أن لا يكون معنى المعية مرادا معها، واحتمل أن يريد تشبيه الهيئة الحاصلة من مجموع ذلك بالهيئة الحاصلة من مجموع هذا، فيكون تشبيه مركب بمركب، والواو للمعية كما سبق. وكذلك إذا قلت: النجوم والدجا، كالسنة والابتداع، والتركيب فى هذا الباب، هو جعل المشبه به أمرا حاصلا من مجموع أمرين، أو أمور، والتقييد أن تشبه شيئا بشرط انضمام شئ إليه، والتركيب فى هذا أعم من التركيب النحوى، فإن التركيب عند النحوى، كتركيب الإسناد، كزيد قائم، أو المزج مثل: بعلبك، أو الإضافة، مثل: غلام زيد، والتركيب المقصود هنا أمر يرجع إلى المعنى، أعم من أن يكون القيد إضافة، أو صفة، أو حالا، أو ظرفا، أو غير ذلك، وأعم من أن يكون ملفوظا به، أو مقدرا، وهذا تحقيق لم يتعرضوا له فليتأمل. إذا تقرر ذلك فبيت بشار مركب بمركب؛ لأن المقصود تشبيه الهيئة الحاصلة من أحدهما بالهيئة الحاصلة من الآخر، وإن كان قوله: تهاوى كواكبه قيدا فى اللفظ، ولم يدخل عليه حرف التشبيه، ولكنه مقصود على أنه جزء، لا شرط؛ فلذلك جعلناه مركبا، وأما جعل أسيافنا مفعولا معه، فليس شرطا، كما سبق. وأما قوله: غدا والصبح تحت الليل باد

وإما تشبيه مفرد بمركّب؛ كما مرّ فى تشبيه الشقيق. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيظهر أنه تشبيه مقيد بمقيد، فإن المقصود تشبيه الصبح بقيد كونه بهذه الصفة، لا الهيئة الحاصلة، وكذلك قوله: كأنما المريخ والمشترى وأما قوله: وكأن أجرام النجوم، فيظهر فيه أنه مركب بمركب؛ لأن المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة، كما قال المصنف، وإن كان يحتمل أن يكون تشبيه مقيد بمقيد، وإنما يصح ذلك بناء على أن قوله: وكأن أجرام النجوم، فيه تركيب من قيد مقدر المعنى أجرام النجوم فى السماء الزرقاء. ولقائل أن يقول: جعلت فى الكلام قيدا مطويا، وهو كون النجوم فى سماء زرقاء، وهى حالة دائمة كدوام الارتعاش لحركة الشمس، وجعلت قوله: والشمس كالمرآة فى كف الأشل، تشبيه مفرد غير مقيد بمفرد مقيد، ولم تعتبر الارتعاش الدائم للشمس؛ لكونها لا يختلف حالها فاجعل زرقة السماء قيدا دائما للنجوم، ويكون تشبيه مفرد غير مقيد، بمفرد مقيد. لا يقال: كيف تعتبر حركة الشمس قيدا، وهى وجه الشبه؟ لأنا نقول: هو وارد على المصنف، حيث جعل وجه الشبه فى قولنا: درر نثرن على بساط أزرق، من جملته وقوع أشياء بيض فى جوانب شئ أزرق. القسم الثالث: تشبيه مفرد بمركب، قال المصنف: كما مر فى بيت الشقيق، يشير إلى قوله: وكأنّ محمر الشقيق … إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر … ن على رماح من زبرجد فإن قلت: قد سبق الاعتراض على هذا بأن وضع هذين البيتين كوضع قوله: وكأن أجرام النّجوم لوامعا. فإنه ليس مع واحد منهما من الشقيق، وأجرام النجوم قيد لفظى، ولوامعا لا تقييد فيه معنى، فإما أن يقدر لهما قيد، ويجعلا تشبيه مركب بمركب، أو يجعلا تشبيه مفرد بمفرد، وكيف يمكن أن يشبه مفرد مشتمل على صفة واحدة بمركب مشتمل على صفتين ملحوظتين فى الشبه؟ فإن قيل: المراد الشقيق وساعده، قلنا: فهو تشبيه مركب بمركب.

وإما تشبيه مركّب بمفرد؛ كقوله [من الكامل]: يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما … تريا وجوه الأرض كيف تصوّر تريا نهارا مشمسا قد شابه … زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: المراد بالمركب ما كان هيئة حاصلة من حقيقتين متفاصلتين يجتمعان، والشقيق مراد به هو وسواعده، فالمجموع منهما حقيقة واحدة، لا حقيقتان، ركبت إحداهما مع الأخرى، بخلاف أجرام النجوم فإنها لا يطلق على مجموع النجوم، والسماء أنهما نجوم لأنهما حقيقتان مختلفتان. نعم قد يقال: هلا جعلت الأعلام برماحها حقيقة واحدة؛ لأن الجميع يسمى علما؟ وينبغى أن يعلم أنه إن صح تشبيه المفرد بالمركب، لا يكاد يتم إلا بأن يكون المفرد مقيدا فى المعنى. القسم الرابع: تشبيه مركب بمفرده، كقوله: يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما … تريا وجوه الأرض كيف تصوّر تريا نهارا مشمسا قد شابه … زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر (¬1) يريد أن النبات لشدة خضرته وكثرته، صار لونه إلى السواد، فنقص من ضوء الشمس حتى صار كأنه ليل مقمر، وفيه نظر؛ فقد يقال: المشبه النهار بقيد كونه مشمسا، أى لم يستر الغيم شمسه، وكونه كثر فيه الزهر، لا مجموع النهار والزهر، وكون المشبه به مفردا واضح، إلا أنه مفرد مقيد، ولا يكاد التشبيه يقع بين مركب ومفرد إلا والمفرد مقيد، كما سبق. (تنبيه): القيد قد يكون الجار والمجرور، مثل: هو كالراقم على الماء، أو مفعولا صريحا، كقولهم: هو كمن يجمع سيفين فى غمد، وقد يكون حالا، كقول الطرماح: يا ظبى السّهل والأجبال موعدكم … كمبتغى الصيد فى عرينة الأسد (¬2) ¬

_ (¬1) البيتان لأبى تمام فى شرح ديوانه ص 148، من قصيدة يمدح فيها المعتصم، والإشارات ص 183، مطلعها: رقت حواشى الدهر فهى تمرمر … وغدا الثرى فى حليه يتكسر (¬2) البيت من البسيط، وهو للطرماح فى ديوانه ص 158، ولسان العرب 14/ 353، (زبى)، وديوان الأدب 1/ 341، والمستقصى 2/ 232، وهو بلا نسبة فى لسان العرب 6/ 136، (عرس)، ومقاييس اللغة 4/ 263، وجمهرة اللغة ص 716، وجمهرة الأمثال 2/ 151، وتاج العروس (عرس). ويروى بلفظ:" يا ظبئ ... ".

وأيضا: إن تعدّد طرفاه: فإما ملفوف؛ كقوله (¬1) [من الطويل]: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (وأيضا إن تعدد طرفاه إلى آخره). (ش): هذا تقسيم آخر للتشبيه باعتبار الطرفين، فإما أن يكونا متعددين، أو المشبه فقط متعدد، أو المشبه به فقط متعدد، أو لا يكون واحد منهما متعددا. واعلم أن كلا من هذه الأقسام، أعم من كل من الأقسام السابقة؛ لأن كل واحد من المفرد المقيد، وغير المقيد، والمركب، قد يتعدد، وقد يتحد، وهذا غالب أقسام التشبيه، فالقسم الأول: أن يتحد كل واحد منهما، تركه المصنف لوضوحه؛ ولأن ما سبق يكفى فى مثاله، والثانى: أن يتعدد طرفاه - أى المشبه، والمشبه به معا - فهو قسمان: الأول: يسمى الملفوف، وهو ما ذكر فيه المشبهان، ثم ذكر المشبه بهما، كقول امرئ القيس، يصف عقابا يصطاد الطير: كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى والضمير فى قوله: وكرها يعود إلى العقاب؛ لأن المشبهين القلوب الرطبة والقلوب اليابسة، والمشبه بهما هما العناب والحشف البالى، فشبه القلب غير أن المشبه ملفوف باعتبار ذكر المشبهين أولا والمشبه به ملفوف؛ لأنه لف مع مشبه به آخر، وإن كان لم يفصل بين أجزاء المشبه به فيه مشبه. واعلم أن ما ذكره المصنف، وغيره فى بيت امرئ القيس فيه نظر؛ لأنا نقول: لا نسلم أن المشبه متعدد، وهو القلب الرطب، والقلب اليابس، ويكون بعض القلوب شبه بالعناب، وبعضها شبه بالحشف، بل كل واحد من القلوب، شبه بالعناب فى حالة رطوبته، والحشف فى حالة يبسه، كما اقتضاه كلام كثير. فالمشبه القلوب بقيد الرطوبة أو اليبوسة، فهو كتشبيه مفرد تعدد قيده باعتبار حالتين، وهو نظير قولنا: فى الجمود والشجاعة كالأسد والبحر، وقوله: (رطبا ويابسا) يمكن ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص 38، والإشارات ص 182.

أو مفروق؛ كقوله [من السريع:] النّشر مسك والوجوه دنا … نير وأطراف الأكفّ عنم وإن تعدّد طرفه الأول: فتشبيه التسوية؛ كقوله [من المجتث]: صدغ الحبيب وحالى … كلاهما كالليالى ـــــــــــــــــــــــــــــ عوده إلى كل واحد من القلوب، فلا حاجة إلى توزيع الحالين على القلوب، ومما يرجح ذلك إفراد الحالتين فى قوله: (رطبا ويابسا) أى كأن كل قلب رطبا ويابسا، لا يقال: هو متعدد باعتبار أنه جمع؛ لأن ذلك يقضى بأن يكون قولنا: أياد كالبحار تشبيه متعدد بمتعدد، فيلزم أن يكون: وكأن أجرام النجوم ... البيت، تشبيه متعدد بمتعدد، وليس كذلك، وسيأتى قريبا ما يدل على ما قلناه صريحا. والثانى: يسمى المفروق، وهو ما ذكر فيه المشبه والمشبه به، ثم ذكر مشبه ثان ومشبه به، كقول المرقش الأكبر: النشر مسك، والوجوه دنا … نير، وأطراف الأكفّ عنم (¬1) شبه النشر وهو عرف الرائحة بالمسك، وكذلك ما بعده، والعنم شجر لين يشبه به أكف الجوارى، وقيل: هو ورق، وضبطه بالغين المعجمة تصحيف، وهو تشبيه محذوف الأداة. واعلم أن فى تسمية هذا القسم تشبيها تعدد طرفاه نظرا لأن هذه تشبيهات متعددة، لا تشبيه واحد متعدد الأطراف. القسم الثالث: أن يتعدد طرف التشبيه الأول - أى المشبه دون المشبه به - فيسمى تشبيه التسوية؛ لأنك سويت بين أشياء متعددة فى التشبيه بشئ واحد، وهو قوله: صدغ الحبيب وحالى … كلاهما كالليالى وثغره فى صفاء … وأدمعى كاللآلى (¬2) ¬

_ (¬1) البيت من السريع، وهو للمرقش الأكبر فى ديوانه 586، وتاج العروس 14/ 214 (نشر)، وأساس البلاغة (نشر)، ولسان العرب 5/ 206 (نشر). (¬2) البيتان من المجتث، وهو بلا نسبة فى تاج العروس 22/ 524 (صدغ).

وإن تعدّد طرفه الثانى: فتشبيه الجمع؛ كقوله (¬1) [من السريع]: كأنّما يبسم عن لؤلؤ … منضّد أو برد أو أقاح ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمشبه متعدد، وهو الصدغ والحال، والمشبه به واحد وهو الليالى، وكذلك المشبه الثغر والأدمع، والمشبه به اللآلى، ويعلم من هذا والذى قبله فى بيت المرقش ما يشهد لأن الجمع ليس مقصودا فى تسمية أحد الطرفين متعددا، كما سبق، ألا ترى أنه جعل الليالى واللآلى مفردا، وكذلك ما قبله. (قوله: وإن تعدد طرفه الثانى) أى المشبه به، إشارة إلى القسم الرابع (فتشبيه الجمع) أى يسمى تشبيه جمع؛ لأنك شبهت واحدا بجمع، ولو عكست وسميت الأول تشبيه جمع؛ لأنك شبهت جمعا بواحد، وسميت هذا التشبيه تسوية؛ لأنك سويت بين المشبه بها، لكان صحيحا إلا أن التشبيه لما كان حكما على المشبه، وإلحاقا له اعتبر حاله فى الجمع والتسوية، فكانت التسمية بحسبه، ومثله بقول البحترى: كأنّما يبسم عن لؤلؤ … منضّد، أو برد أو أقاح وقد أورد على الاستشهاد بهذا البيت أن هذا ليس فيه تشبيه، بل استعارة. وأجيب عنه، بأنه مثل قولك: لقيت منه أسدا، وهو تشبيه، فكذلك هذا، والتقدير: كأنما يبسم عن أسنان كائنة كلؤلؤ، وفيه نظر؛ لأن هذا تجريد؛ والمصنف يرى أنه لا يسمى تشبيها، بل الجواب أن كأن صيغة تشبيه، سواء أدخلت عليها ما، أم لا، كما سبق عند الكلام على أداة التشبيه، فحقيقة كأنما يبسم هذه متبسمة عن اللؤلؤ، فهو كقولك: هذه مثل المتبسم عن اللؤلؤ، ويلزم من ذلك أن تكون الأسنان كاللؤلؤ. بقى على المصنف اعتراض، وهو أن المشبه به هنا ليس جمعا، بل هو واحد؛ لأنه شبهها بأحد هذه الأمور، لا بكلها؛ لأن" أو" تشرك فى اللفظ لا فى المعنى، إلا أن يقال: إن" أو" فيه بمعنى الواو، أو يقال: إن" أو" للتنويع. ومثل المصنف أيضا بقوله - أى امرئ القيس: كأنّ المدام، وصوب الغمام … وريح الخزامى، ونشر القطر ¬

_ (¬1) البيت للبحترى، وفى ديوانه: (كأنما يضحك) بدلا من (كأنما يبسم)، والبيت من قصيدة يمدح فيها عيسى بن إبراهيم، ديوانه 1/ 435، والإشارات ص 183.

وباعتبار وجهه

وباعتبار وجهه: إمّا تمثيل (¬1)، وهو ما وجهه منتزع من متعدّد؛ كما مر (¬2)، وقيده السكاكى بكونه غير حقيقى؛ كما فى تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار ... ـــــــــــــــــــــــــــــ يعلّ به برد أنيابها … إذا طرب الطّائر المستحر (¬3) وفيه نظر؛ لأن المدام وما عطف عليه مشبه به فى المعنى، لا فى اللفظ، وهو إنما يتكلم فى التشبيه اللفظى، وإنما قلنا: ليس مشبها به لفظا؛ لأن المدام وما عطف عليه هو اسم كأن، وهو المشبه لا المشبه به، والمعنى المدام، وما عطف عليه يشبه حال ما يعل به برد أنيابها، فهو كقولك: كأن زيدا يقوم فى أن حال زيد يشبه حال من يقوم، وإن كانت كأن هنا للشك، فليس من التشبيه اللفظى فى شئ. ص: (وباعتبار وجهه إلى آخره). (ش): شرع فى تقسيمات التشبيه باعتبار وجهه، فذكر ثلاث تقسيمات: الأول: أنه ينقسم إلى تمثيل وغيره، فالتمثيل ما كان وجه الشبه فيه وصفا منتزعا من متعدد أمرين، أو أمور، وقيده السكاكى بكونه غير حقيقى، وكأن المصنف لا يرى هذا القيد، بل يكون تمثيلا، سواء أكان حقيقيا، أم لا. قال: كما فى تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار، يشير إلى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (¬4) كما تقدم فى الوجه المركب العقلى أن وجه الشبه حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع التعب فى استصحابه، وهو أمر غير حقيقى؛ لأنه ليس له تقرر فى ذات الموصوف، لأنه ليس فيه بالحقيقة إلا عدم العمل، بل هو أمر تصورى منتزع من أمور متعددة. ¬

_ (¬1) السيد يعتبر التركيب فى طرفيه أيضا، والسعد لا يعتبر ذلك، والزمخشرىّ يجعل التمثيل مرادفا للتشبيه، وعبد القاهر يقيد التشبيه بالعقلى. (¬2) من تشبيه الثريا، وتشبيه مثار النقع مع الأسياف، وتشبيه الشمس بالمرآة فى كف الأشل. (¬3) البيت الأول لامرئ القيس فى ديوانه 157، ولسان العرب 4/ 351، (سحرا) 5/ 107 (قطر)، 206 (نشر)، 12/ 176 (خزم)، والتنبيه والإيضاح 2/ 191، 2/ 213، وجمهرة اللغة 511، 758، وتاج العروس 11/ 519 (سحر)، 13/ 445 (قطر)، 14/ 215 (نشر)، وللأعشى فى تاج العروس (خزم)، وليس فى ديوانه، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة 11/ 339، 16/ 215. (¬4) سورة الجمعة: 5.

وإمّا غير تمثيل، وهو بخلافه. وأيضا: إمّا مجمل، وهو ما لم يذكر وجهه: فمنه: ما هو ظاهر يفهمه كلّ أحد؛ نحو: زيد كالأسد خ خ، ومنه: خفى لا يدركه إلا الخاصّة؛ كقول بعضهم: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؟! أى: هم متناسبون فى الشرف كما أنها متناسبة الأجزاء فى الصورة. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وإما غير تمثيل، وهو ما لم يكن كذلك) وهو ما لم يكن وجهه منتزعا من متعدد على رأى المصنف، وعلى رأى السكاكى، ما لم يكن منتزعا أو كان وصفا حقيقيا. التقسيم الثانى: باعتبار وجهه إلى: تشبيه مجمل، وتشبيه مفصل، فالمجمل ما لم يذكر وجهه بشئ، ويسمى مجملا لإجمال وجهه؛ وفيه نظر؛ لأن التشبيه حينئذ ليس مجملا، إنما المجمل وجهه؛ لكنه لا مانع من تسمية التشبيه أيضا مجملا؛ لأنه لخفاء وجهه، لا تتضح دلالته على المقصود منه، وهو إما أن يكون وجها ظاهرا يفهمه كل أحد، كقولك: زيد أسد - أى كالأسد؛ لأن كل أحد يعلم أن المراد فى الشجاعة، لكونه أشهر أوصاف الأسد، أو يكون خفيا لا يدركه إلا الخاصة، أى الذين لهم أذهان صحيحة، يرتفعون بها عن درجة العوام (كقول بعضهم: هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها) أى لتناسب أصولهم وفروعهم فى الشرف الذى يمتنع معه معرفة الطرف والوسط، كما أن الحلقة متناسبة الأجزاء فى الصورة، فوجه الشبه التناسب الذى يمتنع معه التفاوت؛ لكنه فى المشبه فى المعنى، وفى المشبه به فى الصورة، وإنما قيد الحلقة بالمفرغة؛ لأن المضروبة يعلم طرفاها بالابتداء والانتهاء، فكان ذكر الوصف حيث كان وجه الشبه مذكورا، وهو قوله: لا يدرى طرفاها، لأن وجه الشبه هو تناسب الأجزاء، وعدم دراية الطرفين لزم عن التناسب، ولأن عدم دراية طرفى الحلقة، ليس وجها؛ لأن الوجه أمر صادق على الطرفين، وطرفا الحلقة أمر لا يصدق على المشبه إذ لا يصدق على المشبه أن يقال: لا يدرى طرفاها، ولولا ضمير الحلقة المؤنث، الذى لا يمكن عوده على قوله: (هم) لكنت أقول: هو عائد إليهما، فيمكن حينئذ أن يجعل وجه الشبه؛ لأنه لو قال: هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى الطرفان، لصدق ذلك فى المشبه والمشبه به معا. نعم قد يقال: هب أن وجه الشبه لم يذكر كيف يسمى هذا مجملا، وقد أشير فيه إلى وجه الشبه بذكر هذا الوصف الذى يصير به وجه الشبه ظاهرا، يفهمه أكثر الناس؟

وأيضا: منه: ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (لا يدرى طرفاها) قد يرد عليه أن الحلقة المفرغة ليس لها طرفان، وجوابه أنها سالبة محصلة، لا تستلزم وجود موضوعها، كقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً (¬1) وقول الشاعر: على لا حب لا يهتدى بمناره (¬2) فيصدق أن يقال: كل من هذين الطرفين لا يعلم طرفاه، أما فى المشبه؛ فلأن له طرفين غير معلومين، وأما فى المشبه به، فلأنه لا طرف له، ولينظر بعد ذلك فى أن لفظ طرفاه فى هذا المثال جمع فيه بين الحقيقة والمجاز أو لا. وهذه العبارة ذكر الشيخ عبد القاهر أنها قيلت للحجاج، حين سأل عن بنى المهلب، أيهم أنجد؟ ونسبه الزمخشرى فى سورة الزخرف إلى الأنمارية، قيل: هى فاطمة بنت الحرشب، تصف أبناءها حين سئلت، أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان، لا بل فلان، ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. وذكر المبرد فى الكامل نحوه وأولادها ربيع، وعمارة، وقيس، وأنس. وبقى فى هذا المثال اعتراض، سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى. (قوله: وأيضا منه) أى من التشبيه المجمل (ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين) أى لم يذكر معه وصف المشبه، ولا وصف المشبه به، كقولنا: زيد كالأسد. واعلم أن قول المصنف: ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين، قد ينازع فى دلالته على ما يقصده من أنه لم يذكر فيه وصف المشبه، ولا المشبه به، فيقال: هذا يصدق بأن يذكر فيه وصف أحدهما، فإنك إذا قلت: لم أضرب أحد هذين، قد يصدق بضرب أحدهما، وتقريره أن أحد الرجلين ليس نكرة، فيعم كل واحد منهما عموم النكرة فى ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 273. (¬2) عجزه * إذا ساقه العود الديافى جرجرا. والبيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه 66، ولسان العرب 9/ 108 (ديف)، 9/ 165 (سوق)، 9/ 315 (لحف)، وتهذيب اللغة 5/ 70، 13/ 92، 14/ 198، وأساس البلاغة (سوق)، وتاج العروس 23/ 311 (ديف)، 24/ 358 (لحف)، 23/ 472 (سوف)، بلا نسبة فى لسان العرب 15/ 321 (نسا)، ومقاييس اللغة 2/ 318، ومجمل اللغة 2/ 304.

ومنه: ما ذكر فيه وصف المشبّه به وحده، ومنه: ما ذكر فيه وصفهما؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ النفى، كقوله: لم يقم واحد من الرجلين، فلم يبق له عموم، لكونه معرفة، ولا يمكن أن يدعى عمومه، لأنه اسم جنس، أضيف إلى الرجلين؛ لأن اسم الجنس إنما يعم بالإضافة إذا لم يدل بالمادة على الخصوص، أما إذا دل فلا، كقولك: أكلت بعض الرغيف أو ثلثه، لا يعم الأثلاث والأبعاض، وكذا أحد الشيئين لا يعمهما، ولو سلمنا أن أحدهما يعمهما، فوقوعه بعد النفى كوقوع سائر صيغ العموم، وهى بعد النفى للخصوص؛ لأنها سلب عموم، لا عموم سلب كما سبق، إلا أن يدعى أن أحدا لا يتعرف بالإضافة لمعرفة، ويؤيد ما قلناه، قوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما (¬1) المراد منه ما ذكرناه، بدليل قوله: أَوْ كِلاهُما، والشرط كالنفى. وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم:" إنى لست كأحدكم" (¬2) فالقرينة قامت على إرادة العموم، وبعد أن كتبت هذه السطور، وقفت على كلام الزمخشرى، قال فى قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (¬3): إن معناه لا تطع أحدا ثم قال: فإن قلت: ما معنى أو لا تطع أحدهما فهلا جئ بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما؟! قلت: لو قيل: ولا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أن الناهى عن طاعة أحدهما عن طاعتهما أنهى كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهى عن ضربهما انتهى. وهذا يدل على أن لم أضرب أحدهما، معناه لم أضرب واحدا منهما، وفيه نظر؛ لما سبق. (قوله: ومنه ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده) أى: ولم يذكر وصف المشبه، وسكت عن مثاله؛ لأن مثاله سبق عن قريب، وهو قولهم: هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها. ومثله فى الإيضاح بقول النابغة: فإنّك شمس، والملوك كواكب … إذا طلعت، لم يبد منهنّ كوكب (¬4) ¬

_ (¬1) الإسراء: 23. (¬2) أخرجه مسلم فى الأشربة"، باب: إباحة أكل الثوم، (ح 2053)، بلفظ:" كلوا فإنى لست كأحد منكم .... "، ومتفق عليه بلفظ: وإنى لست مثلكم .. ". (¬3) سورة الإنسان: 24. (¬4) البيت من الطويل للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 28، والإشارات والتنبيهات ص 194.

كقوله [من البسيط]: صدفت عنه ولم تصدف مواهبه … عنّى وعاوده ظنّى فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريّقه … وإن ترحّلت عنه لجّ فى الطّلب وإما مفصّل، وهو ما ذكر فيه وجهه؛ كقوله [من المجتث]: وثغره فى صفاء … وأدمعى كاللآلى ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنه ما ذكر فيه وصفهما معا، ومثله المصنف بقول أبى تمام: صدفت عنه، ولم تصدف مواهبه … عنّى؛ وعاوده ظنّى فلم يخب كالغيث إن جئته، وافاك ريقه … وإن ترحلت عنه، لج فى الطلب (¬1) التقدير: وهو كالغيث، فإن البيت الأول مشتمل على وصف المشبه، والثانى مشتمل على وصف المشبه به، وهو الغيث، كذا قال المصنف، وهو الظاهر. ويحتمل أن تكون الضمائر فى البيت الثانى عائدة إلى المشبه، ويكون استعمال الريق، وما بعده استعارة، ويروى: يصدف بالياء، ومواهبه مفعول من صدفه صدفا، فهو متعد، ويروى بالتاء من فوق، ومواهبه فاعل من صدف صدوفا وصدفا أيضا - أى: انصرف. واعلم أن المصنف سكت عن القسم الرابع، وهو ما ذكر فيه وصف المشبه فقط، وكان ينبغى ذكره، والقول بأن ذلك لا يمكن؛ لأن وصف المشبه يقتضى أن يكون وجه الشبه فيه أتم منه فى المشبه به، والحال بالعكس ممنوع؛ لأنا نقول: ذكره فى المشبه لا يستدعى أن يكون فيه أتم، فقد يكون طوى ذكره فى المشبه به؛ لأنه فيه أشهر وأتم. (قوله: والمفصل) هو قسيم قوله فيما سبق: المجمل (وهو ما ذكر وجهه كقوله: وثغره فى صفاء … وأدمعى كاللآلى) فوجه التشبيه وهو الصفاء مذكور، وفيه نظر؛ لجواز أن يكون المراد ثغره فى صفائه كأدمعى، ويكون فيه ذكر صفاء الثغر، وصفاء الثغر ليس هو وجه الشبه؛ إنما الصفاء الذى هو أعم من صفاء الثغر، وصفاء اللآلى هو وجه الشبه. ويحتمل أن يكون ثغره مبتدأ، وفى صفاء خبره، ولا تشبيه فيه، لكنه بعيد. ¬

_ (¬1) البيت لأبى تمام فى قصيدة مطلعها: أبدت أسى أن رأتنى ..... ديوانه 1/ 113، والإشارات والتنبيهات ص 194.

وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه؛ كقولهم للكلام الفصيح: هو كالعسل فى الحلاوة خ خ؛ فإنّ الجامع فيه لازمها، وهو ميل الطبع. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وقد يتسامح) أى يتسامح المتكلم (بذكر ما يستتبعه) أى ما يستتبع وجه الشبه، ويستلزمه، ومثله المصنف بقولهم للكلام الفصيح: هو كالعسل فى الحلاوة، فإن الجامع فيه لازمها - أى لازم الحلاوة. (وهو ميل الطبع) إليها وليس الجامع الحلاوة؛ لأن الكلام ليس فيه حلاوة حقيقية، بل فيه ما يوجب ميل الطبع إليه، وكأن المصنف يشير إلى أن هذا معدود من قسم ما ذكر فيه الوجه، وإن لم يذكر؛ لأنه ذكر ملزومه فهذا وجه التسامح، لأن المتكلم اكتفى بالملزوم عن اللازم. قال الخطيبى: المراد قد يتسامح علماء البيان، وبه صرح فى المفتاح، ولعل المراد: قد يتسامحون فى جعل هذا التشبيه مفصلا مذكور الوجه، وإن كان وجهه ليس مذكورا. بقى هنا أسئلة: الأول: أن قولهم: إن الحلاوة ليست وجه الشبه، فيه نظر؛ فإن الحلاوة إن لم تكن موجودة بالحقيقة فى الكلام، فهى موجودة بالتخيل، فهو من الجامع الخيالى، كما تقدم فى السنن والابتداع. الثانى: أنه أى فرق بين هذا، وبين قولهم: لا يدرى أين طرفاها؟ فإنه ذكر فيه ما يستلزم وصف المشبه، إذ يلزم منه الاستواء الذى هو وجه الشبه فيهما، فلأى شئ جعل ذلك مجملا، وهذا مفصلا؟ الثالث: أن الحلاوة تستلزم الميل إليها، والميل إليها وصف خاص بها، فهو يستلزم وصف المشبه به لا الوجه نفسه، وهو مطلق الميل كما أن طرفى الحلقة إنما يستلزم استواءها، لا استواء المشبه. (قلت): الظاهر أن المراد بالوصف هو الوصف المعنوى، لا الصناعى، وأن المراد ذكر وصف مع التشبيه، سواء أكان فى جملته أو له به تعلق لفظى، أم لم يكن. ألا ترى أن: لا يدرى أين طرفاها، لا يصلح صفة نحوية؛ لأن الحلقة معرفة، ولا يدرى نكرة، وأن البيت الأول فى قوله: صدفت عنه، ليس له تعلق لفظى بالمشبه، بل هو وصف معنوى له، وأن: إن جئته فى البيت الثانى، لا يصلح صفة للغيث؛ لتنكيره، وبهذا ظهر الجواب عما أورده على ذلك.

وأيضا: إما قريب مبتذل، وهو ما ينتقل من المشبّه إلى المشبّه به من غير تدقيق نظر؛ لظهور وجهه فى بادئ الرأى؛ لكونه أمرا جمليّا؛ فإنّ الجملة أسبق إلى النفس. أو قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبّه به فى الذهن: ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يخفى أيضا من فحوى كلامهم أن المراد بالوصف وصف وقع التشبيه به، أو بلازمه، لا وصف للمشبه، أو المشبه به لا تعلق له بالتشبيه؛ فلذلك ظهر الموجب لذكر هذا القسم فى قسم المجمل الذى لم يذكر وجهه، ولم يذكر فى قسم ما ذكر وجهه، وهو المفصل؛ لأنه مع ذكر الوجه لا حاجة إلى ذكر الوصف المنبئ عنه، والذى يظهر أن الوصف لأحد الطرفين هو حصته من وجه الشبه، وأن الوجه المذكور ذكر المعنى الكلى الثابت للطرفين. ص: (وأيضا إما قريب إلى آخره). (ش): هذا تقسيم ثالث للتشبيه، وهو باعتبار وجه الشبه إما تشبيه قريب أى وهو الممتهن المستعمل للعامة، أو بعيد - أى غريب - مستعمل للخاصة. (فالقريب ما ينتقل فيه) أى: الذهن (من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر؛ لظهور وجهه فى بادى الرأى) وهو علة لقوله: ينتقل، وذلك الظهور إما أن يكون، لكون وجه الشبه أمرا جمليا، فإن الجملة أسبق إلى النفس والحس، وأظهر عندهما من التفصيل، فإن الشئ يدرك أولا، ثم إذا أمعن النظر، أدرك تفصيله، كما أن إدراك الإنسان من حيث هو شئ ما أو جسم، أو حيوان أسبق إلى الفهم، وأظهر من إدراكه من حيث كل واحد من أجزائه؛ لأن الثانى يشتمل على الأول وزيادة، وكأن مراده بالجملى: إدراك الشئ مجملا، لا مفصلا بمعنى إدراك جنسه، أو صفة صادقة عليه، وعلى غيره، وإما أن يكون ذلك لكون الوجه مفصلا؛ لكونه قليل التفصيل. (قوله: مع غلبة حضور المشبه به فى الذهن) قال الخطيبى: هو قيد فى نوعى قرب الوجه، أى: إنما يكون قربه، لكونه جمليا مع حضور المشبه به، أو لكونه قليل التفصيل مع حضور المشبه به، ثم قسم حضور المشبه به إلى قسمين: تارة يكون حضوره عند حضور المشبه، لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه الجرة الصغيرة بالكوز فى المقدار، والشكل فى قليل التفصيل، وتارة يكون حضور المشبه به فى الذهن غالبا مطلقا أى سواء أكان مع حضور المشبه، أم لا، وحضور الشئ مطلقا يكون لتكرره على الحس.

إما عند حضور المشبّه؛ لقرب المناسبة؛ كتشبيه الجرّة الصغيرة بالكوز، فى المقدار والشكل. أو مطلقا؛ لتكرّره على الحس؛ كالشمس بالمرآة المجلوّة فى الاستدارة والاستنارة؛ لمعارضة كلّ من القرب والتفصيل. وإما بعيد غريب، وهو بخلافه؛ لعدم الظهور: إما لكثرة التفصيل؛ كقوله: والشمس كالمرآة، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وينبغى أن يقال: أو على الفكر، والتكرر سبب الإلف. وقال السكاكى: التوفيق بين حكم الإلف، وحكم التكرر أحوج شئ إلى التأمل، يعنى فإن التكرار مكروه؛ لأنه يمل، وجبلت القلوب على معاداة المعادات، والإلف يحتاج إلى التكرار، فلو كان التكرار يورث الكراهة، لكان المألوف أكره شئ عند النفس. وقد أجيب عنه بأن التكرار المكروه، ما لم يترتب على إعادته فائدة، أما إذا ترتب فإنه غير مكروه، وهو مألوف كالطعام اللذيذ ورؤية المحبوب. والذى لا فائدة فيه، كتكرار الإخبار بشئ واحد من شخص واحد. وقال الشيرازى: التكرار الموجب للإلف ما لم يكن للإنسان منه بد، كالأشياء الستة الضرورية المذكورة فى الطب، والذى يوجب الكراهة التكرار فيما للإنسان منه بد. وأورد عليه أن من الضروريات ما ليس مألوفا، ولكن يفعل للضرورة، كالاستفراغات. ومثل المصنف لما نحن فيه بتشبيه الشمس بالمرآة المجلوة للاستدارة والاستنارة، فإن كل واحد من قرب المناسبة المقتضى لحضور المشبه به فى الذهن عند حضور المشبه ومن التكرار المقتضى لحضوره فى الذهن مطلقا، يعارض التفصيل المقتضى لبعده. يعنى أن التفصيل كان مقتضيا للبعد، فعارضه كل من هذين الأمرين، فيبقى الآخر مرجحا فصار التشبيه قريبا، وقوله: يعارض التفصيل يعنى التفصيل القليل، أما الكثير فلا يعارضه هذان كما سيأتى، ويلوح لك من هذه العلة أن هذا القيد ليس فى الوجه الجملى أيضا، كما زعم الخطيبى، بل فى الوجه القليل التفصيل فقط. (قوله: وإما بعيد) معطوف على قوله: إما قريب، أى: التشبيه قد يكون بعيدا غريبا، وهو بخلاف ما سبق فيكون القريب، ما يحصل من غير تدقيق نظر، والبعيد ما كان كثير التفصيل، أو قليله، إلا أن المشبه فيه غير غالب الحضور. وقوله: (غريب) مقابل لقوله: فى القريب مبتذل، والمراد بالغرابة: قلة الاستعمال، وقوله: (لعدم الظهور) علة للبعد، والمراد عدم ظهور الوجه، وقوله: (لكثرة التفصيل) تعليل لعدم الظهور، وهو إشارة إلى النوع الأول. (كقوله: والشمس كالمرآة) يشير إلى قول الشاعر:

أو ندور حضور المشبّه به: إمّا عند حضور المشبّه؛ لبعد المناسبة؛ كما مر. وإمّا مطلقا؛ لكونه وهميّا، أو مركبا خياليّا، أو عقليّا؛ كما مر. أو لقلّة تكرّره (¬1) على الحس؛ كقوله: والشمس كالمرآة؛ فالغرابة فيه من وجهين (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل (¬3) فإن الوجه فيه كثير التفصيل؛ لما فيه من الإشراق، والاستدارة، والتموج وغير ذلك، بخلاف قولنا: الشمس كالمرآة، من غير أن تقول: فى كف الأشل، فإن التفصيل فيه قليل، فهو مثال للقسم السابق كما تقدم. (قوله: أو ندور حضور المشبه به) هذا هو النوع الثانى، أى: بأن يكون الوجه قليل التفصيل؛ إلا أن حضور المشبه به نادر، وفيه نظر؛ ينبغى أن يقول: غير غالب؛ لأن القريب ما كان غالبا، والبعيد بخلافه، وخلاف الغالب أعم من النادر، والكثير الذى لا يغلب والمتوسط. وقوله: (إما عند حضور المشبه) أى إما أن تكون ندرة حضوره عند حضور المشبه (لبعد المناسبة) بين الطرفين (كما مر) فى تشبيه البنفسج بأطراف الكبريت، وإما أن يكون ندور المشبه به مطلقا؛ لكون الوجه وهميا، أو مركبا خياليا، أو مركبا عقليا، وكان ينبغى أن يكتفى بذكر العقلى عن الوهمى، كما صنع حين قسم الوجه إلى عقلى وحسى، ولم يذكر الوهمى إدخالا له فى العقلى. (قوله: كما مر) أى من الأمثلة، فالوهمى كتشبيه السهام بأنياب أغوال، والخيالى تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت، والعقلى كالتشبيه فى قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (¬4) أو تكون الندرة لقلة تكرره على الحس كقوله: والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشل فربما يقضى الرجل دهره، ولا يرى مرآة فى كف الأشل؛ فالغرابة فى قولنا: كالمرآة فى كف الأشل من جهة ندرة المشبه به، لقلة تكرره على الحس، ومن جهة كثرة التفصيل. ¬

_ (¬1) أى المشبه به. (¬2) أحدهما كثرة التفصيل فى وجه الشبه، والثانى قلة التكرر على الحس. (¬3) وعجز البيت: لما رأيتها بدت فوق الجبل * البيت من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ، والبيت فى الإشارات والتنبيهات ص 180. (¬4) سورة الجمعة: 5.

والمراد بالتفصيل: أن تنظر فى أكثر من وصف، ويقع على وجوه، أعرفها: أن تأخذ بعضا، وتدع بعضا؛ كما فى قوله (¬1) [من الطويل]: حملت ردينيّا كأنّ سنانه … سنا لهب لم يختلط بدخان وأن تعتبر الجميع؛ كما مرّ من تشبيه الثريا. وكلّما كان التركيب من أمور أكثر، كان التشبيه أبعد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (والمراد بالتفصيل، أن ينظر فى أكثر من وجه واحد إلى آخره). (ش): المراد بالتفصيل أن يكون المنظور فيه للتشبيه أكثر من وصف، سواء أكان وصفين، أم ثلاثة، أم أكثر، وسواء أكان ذلك الأكثر لشيء واحد، أم أكثر. قوله: (ويقع، أى: التفصيل على وجوه) ينبغى أن يقول: على أحد وجوه، أعرفها وجهان: أحدهما: أن يأخذ بعض الأوصاف، ويدع بعضها. كقول امرئ القيس: حملت ردينيا كأنّ سنانه … سنا لهب لم يتّصل بدخان (¬2) المراد رمح منسوب إلى امرأة تسمى ردينة، فحصل التفصيل باعتبار أنه لم يأخذ سنا اللهب، بل اعتبره بقيد كونه لم يتصل بدخان على خلاف المعهود، فإن اللهب لا ينفك فى المعهود عن الدخان، فالشاعر فصل وأخذ اللهب منفصلا عن الدخان، واستحضاره اللهب المنفصل عن الدخان، لا يقع فى الخاطر إلا بتدقيق الفكر، وبهذا ظهر أن مراده بأخذ بعض الأوصاف وترك بعض: أن يأخذ الحقيقة، مريدا بعض أوصافها، مشترطا تعريها عن بعض الأوصاف، وهذا أخص من قولنا: ويدع بعضا. (قوله: وأن يعتبر الجميع) هو الوجه الثانى، أى: يعتبر جميع أوصاف ذلك الشئ كما سبق. وفيه نظر؛ لأن اعتبار جميع الأوصاف لا يمكن، فينبغى أن يقال: جملة منها، أو يقال: وجميع الأوصاف التى يجتمع منها تركيب فى المعنى. مثاله: تشبيه الثريا بعنقود ملاحية، فإنه اعتبر فيها سبعة أشياء كما تقدم، وأورد على المصنف أنه ذكر أولا وجوها، ولم يذكر إلا اثنين، وهو غير وارد، كأنه لم ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس وليس فى ديوانه، الإشارات ص 196، ويروى (يتصل) بدلا من (يختلط). الردينى: الرمح منسوب لامرأة تسمى ردينة اشتهرت بصناعة الرماح. (¬2) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص 170. وله رواية: جمعت ردينيا كأن سنانه ...

والبليغ: ما كان من هذا الضّرب لغرابته، ولأنّ نيل الشيء بعد طلبه ألذّ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ يتصور قسم ثالث؛ لأنه إما أن يراد ترك بعض الأوصاف، أو لا يراد، فهو اعتبار الجميع. وجوابه: أن بين إرادة طرح البعض وإرادة الجميع واسطة وهو إرادة البعض، مع قطع النظر عن البعض فلا يكون بقيد تركه، ولا بقيد إثباته، وهو أقل تفصيلا من القسمين، فلذلك كانا أعرف منه. نعم ما ذكره المصنف مخالف لكلام الشيخ عبد القاهر، فإنه عد الأعرف أكثر من ذلك، وكلما كان التركيب، أى: تركيب وجه الشبه من أمور أكثر من غيرها، كان التشبيه أبعد، أى: أبعد عن الذهن، كما فى قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا (¬1) إلى قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ فإنها عشر جمل، وقع التركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شئ اختل المقصود من التشبيه، وكأن المصنف أراد بالعشر: (1) أنزلناه. (2) فاختلط. (3) مما يأكل. (4) حتى إذا أخذت. (5) وازينت. (6) وظن. (7) أنهم قادرون. (8) أتاها. (9) فجعلناها. (10) كأن لم تغن. وفيه نظر؛ لأنه إذا اعتبر صورة الجملة، وجعل: أنهم قادرون عليها جملة، مع كونها فى حكم المفرد، فليعد كأن لم تغن جملة، ولم تغن وحده جملة حادية عشرة، إلا أن يفرق بأن: ظن أهلها جملة وحدها، بخلاف: كأن لم تغن بالأمس فإن الجملة الصغرى فيه جزء من الكبرى، وإذا قلنا: إن الوقف على: فاختلط - كما جوزه الزمخشرى - كانت اثنتى عشرة. (قوله: والبليغ) أى التشبيه البليغ، هو ما كان من هذا الضرب، أى: كثير التفصيل لا غيره. (قوله: لغرابته) تعليل لكون الغريب بليغا، فإنه لا تدركه إلا الخاصة، ويعلل حسنه وبلاغته أيضا، بأن نيل الشئ بعد طلبه ألذ، وكلما كثرت الأوصاف التى يقع بها التركيب كثر الطلب، ولذلك يقال: الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب. لا يقال: إذا كثر التركيب حصل التعقيد المنافى للبلاغة، كما سبق فى مقدمة الكتاب، لأن المراد بعدم ظهور التشبيه دقته ولطفه وترتيب بعض المعانى على بعض، التعقيد المذموم ما حصل بسبب تركيب الألفاظ، أو اختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثانى المراد. ¬

_ (¬1) سورة يونس: 24.

وقد يتصرف فى القريب بما يجعله غريبا؛ كقوله [من الكامل]: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا … إلّا بوجه ليس فيه حياء وقوله [من الكامل]: عزماته مثل النّجوم ثواقبا … لو لم يكن للثّاقبات أفول ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: المراد بالبليغ هنا: ما بلغ القبول من القلوب، وإلا فالبليغ بالاصطلاح هو الكلام، أو المتكلم، والتشبيه: دلالة المتكلم، وليس منهما وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الدلالة صفة اللفظ، كما سبق، فيكون التشبيه صفة للكلام البليغ. وصح تسميته: بليغا ببلاغة موصوفه، وهو الكلام. ثم أشار المصنف إلى أنه قد يحصل الخروج عن الأصل، فيتصرف فى التشبيه القريب، بما يجعله غريبا فيصير بليغا، كقول المتنبى: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا … إلّا بوجه ليس فيه حياء (¬1) يريد أن هذا الوجه الحسن الذى أشار إليه لم تبرز الشمس لمقابلته، إلا ولها وجه ليس فيه حياء؛ لأنها لو استحيت لما برزت فى مقابلته، فتشبيه الوجه بالشمس مشهور مبتذل، وإنما قوله: ليس فيه حياء، جعل هذا التشبيه القريب المشهور غريبا، فصار بليغا. ولك أن تقول: أين التشبيه هنا، ولا أداة تشبيه ظاهرة، ولا مقدرة؟ وإن أراد التشبيه المعنوى فليس الكلام فيه، وحاصل ما قاله: أن الشمس لا تصل أن تشبه هذا الوجه، فهو تشبيه منفى المشبه فيه هو الشمس، والمشبه به هو الوجه، وتشبيه الشمس بالوجه الحسن ليس مبتذلا، إنما المبتذل عكسه، وهذا ينحل إلى أن يكون كقولنا: هذا الوجه أحسن من الشمس، وقد تقدم الكلام فى كونه تشبيها أولا. ثم ذكر المصنف قسما آخر مما يصير التشبيه القريب به، بعيدا بليغا وهو أن يشبه شئ بشئ بشرط شئ، إما لفظا، أو معنى، وأشار إليه بقوله: وكقوله: عزماته مثل النّجوم ثواقبا … لو لم يكن للثّاقبات أفول (¬2) ¬

_ (¬1) البيت من الكامل لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه 1/ 174. (¬2) البيت لرشيد الدين الوطواط فى الإشارات والتنبيهات ص 198، والثواقب: السواطع، والأفول: الغروب.

ويسمّى هذا: التشبيه المشروط ... ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تشبيه العزمات بالثواقب مبتذل، إلا أن تشبيهها بشرط أن لا يكون لها أفول غريب. وحاصل هذا البيت نفى التشبيه بالنسبة إلى مجموع الأوجه، فإن نصفه الأول فى المعنى جواب لو كأنه قال: لو لم يكن للثاقبات أفول لكانت عزماته كالثاقبات، وجواب لو ممتنع فكأنه قال: ليست عزماته كالثاقبات. وفيه نظر؛ لأن المبتذل إثبات تشبيه الآراء بالشهب، أما نفى شبهها للشهب مبالغة فيها فليس مبتذلا، ثم المعنى على أن المراد ليست الثاقبات كالآراء فهو عكس المبتذل، ولا يخفى أن مثل هنا للمماثلة من كل وجه؛ لأنه لو لم تقصد المناسبة من كل وجه يناسب المدح، لكانت عزماته كالنجوم، وإن كان للنجوم أفول لاشتراكهما فى غير ذلك من الأوجه، وتقدمت الإشارة لهذا عند الكلام على الأداة. (قوله: ويسمى هذا: التشبيه المشروط)؛ لأنه شبه شئ بشئ بشرط شئ آخر فيه، والظاهر أن الغرابة فى هذا من أن المقصود فيه التشبيه بالنجوم من كل وجه ممكن، وقوله: هذا الوجه أنه إشارة للمثال الثانى لا الأول، وجعله بعض الشارحين إليهما نكلفا لا حاجة له، فإن كلام الإيضاح كالصريح فى عدم عوده إلى الأول؛ ولأن بيت المتنبى ليس فيه شرط، لا لفظا ولا معنى، ومن التشبيه المشروط فيه قوله: مها الوحش إلّا أنهنّ أوانس … قنا الخطّ إلّا أن تلك ذوابل (¬1) وقوله: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا … لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا (¬2) قال فى الإيضاح: وقد يخرج من الابتذال بالجمع بين عدة تشبيهات، كقوله: كأنّما يبسم عن لؤلؤ … منضّد، أو برد، أو أقاح (¬3) وقد تقدم الكلام على ما يرد عليه، ونزيد هنا أن هذه ليست تشبيهات، بل تشبيه بأشياء إن ثبت ذلك كما قالوه، وإلا فالحق أنه تشبيه بأحد أشياء، كما هو مدلول" أو" ¬

_ (¬1) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد الله الزيات مطلعها: متى أنت عن ذهيلة الحى ذاهل … وقلبك منها مدة الدهر آهل فى ديوانه 3/ 116، والإشارات والتنبيهات ص 198. (¬2) البيت لبديع الزمان الهمذانى صاحب المقامات. (¬3) سبق تخريجه.

وباعتبار الغرض

وباعتبار أداته: إما مؤكّد، وهو ما حذفت أداته؛ مثل قوله تعالى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ (¬1)، ومنه نحو [الكامل]: والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى … ذهب الأصيل على لجين الماء أو مرسل، وهو بخلافه؛ كما مر. وباعتبار الغرض: إما مقبول، وهو الوافى بإفادته؛ كأن يكون المشبّه به أعرف شئ بوجه الشبه فى بيان الحال ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا البيت مشهور على هذا الوجه، لكن قال ابن رشيق فى العمدة: إن رواية أكثر أهل الأندلس والمغرب: كأنّما يبسم عن لؤلؤ … أو فضّة، أو برد، أو أقاح فيكون المشبه به أربعة. ص: (وباعتبار أداته إلى آخره). (ش): التشبيه باعتبار أداته، وهو التقسيم الثالث قسمان: مؤكد، ومرسل. فالمؤكد ما حذفت أداته، كقوله تعالى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أى تمر كمر السحاب، ومنه قوله: والريح تعبث بالغصون، وقد جرى … ذهب الأصيل على لجين الماء (¬2) وفى جعل هذا منه نظر؛ لأن هذا استعارة، لا تشبيه، ولا ينجى من ذلك قوله: (ومنه)؛ لأن الضمير عائد إلى التشبيه، وإنما هذا تشبيه معنوى ليس الكلام فيه، والمراد بالأصيل قريب الغروب، فإن الشمس فيه يكون شعاعها أصفر كالذهب، واللجين بضم اللام: الفضة، وقول الخطيبى: إن اللجين فى البيت بفتح اللام، وهو الورق المتناثر عند الخبط ليس صحيحا، ويسمى هذا القسم مؤكدا لتأكده بحذف الأداة كما سيأتى، والمرسل بخلافه، أى: ما ذكرت أداته كما مر. ص: (وباعتبار الغرض إلى آخره). (ش): هذا التقسيم الرابع، فالتشبيه باعتبار الغرض إما أن يكون مقبولا، أو مردودا. ¬

_ (¬1) سورة النمل: 88. (¬2) البيت من الكامل، وهو لابن خفاجة فى ديوانه 18، وبلا نسبة فى تاج العروس 1/ 59.

خاتمة

أو أتمّ شئ فيه فى إلحاق الناقص بالكامل، أو مسلّم الحكم فيه معروفة عند المخاطب فى بيان الإمكان. أو مردود؛ وهو بخلافه. خاتمة أعلى مراتب التشبيه فى قوّة المبالغة باعتبار ذكر أركانه أو بعضها: حذف وجهه وأداته فقط، أو مع حذف المشبّه، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمقبول الوافى بإفادة الغرض، إما لكون المشبه به أعرف الأشياء بوجه الشبه فى بيان الحال، أى: إذا كان المقصود بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه، أو بيان مقداره. فلو شبهت شيئا بالمسك فى الرائحة كان مقبولا؛ لأن المسك أعرف الأشياء فى الرائحة، ولو شبهته به فى السواد، كان مردودا. قال عم الفارسى: ويجب فى إرادة المقدار أن لا يكون المشبه به فى وجه الشبه أزيد، ولا أنقص من المشبه بحسب الإمكان؛ لأنه كلما كان أدخل فى السلامة من الزيادة والنقصان كان أبلغ. (قوله: أو أتم شئ) معناه: أو يكون المشبه به أتم شئ فى إلحاق الناقص بالكامل، أى: يقصد ذلك عند إرادة إلحاق الناقص بالزائد، ومقتضاه أنه إذا قصد إلحاق الناقص بالزائد كان المشبه به أتم مطلقا، وهو خلاف ما فى أول كلامه، من أنه إنما يكون أتم فى أربع من تلك الأحوال، أو يكون المشبه به مسلم الحكم معروفه عند المخاطب، وذلك يستعمل عند إرادة إمكان المشبه كما سبق فى قوله: فإنّ المسك بعض دم الغزال والتشبيه المردود بخلافه، أى: ما نقص عن إفادة الأغراض المذكورة، وقد جعل جماعة السلامة من الابتذال من أسباب القبول، ولا شك أن قسمى القبول والرد مع قسمى القرب والبعد متفاوتان. خاتمة ص: (فصل أعلى مراتب التشبيه). (ش): هذا الفصل يتضمن ما بين صيغ التشبيه من التفاوت فى المبالغة، بحسب ذكر جميع الأركان، أو ذكر البعض. وقد علم أن للتشبيه أربعة أركان، المشبه والمشبه به، والأداة، ووجه الشبه؛ فالصيغ الممكنة فى التعبير عن ذلك ثمان عشرة:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إحداها: أن تذكر الأربعة، كقولك: زيد كالأسد فى الشجاعة. الثانية: أن يحذف المشبه فقط، كقولك: كالأسد فى الشجاعة، أى: زيد إذا حذفت المبتدأ فى جواب استفهام أو غيره، وليس لواحدة من هاتين الصورتين شئ من القوة؛ لعدم الموجب لها. الثالثة: أن تحذف الأداة فقط، كقولك: زيد أسد فى الشجاعة، وفيه نوع قوة؛ لجعل المشبه فى ظاهر اللفظ هو المشبه به. الرابعة: أن يحذف وجه الشبه فقط، كقولك: زيد كالأسد، وفيها نوع قوة ليس فى التى قبلها؛ لأن وجه الشبه عند حذفه، عام فى الظاهر، يعنى به عموم بدل وصلاحية، لا عموم استغراق، كما سبق تقريره عند الكلام على الأداة. لا يقال: هو مجمل، والمجمل ليس أبلغ من المفصل، بل المفصل فيه زيادة؛ لأنا نقول: قد يكون الإجمال أبلغ، لتذهب نفس السامع كل مذهب، كما سبق فى باب الإيجاز فى نحو: (ولو ترى) وقد عرف بهذا أن لكل من هذا النوع والذى قبله قوة ليست للآخر. الخامسة: أن يحذف المشبه به، وهذا القسم لم يتعرضوا له توهما منهم أنه متعذر، وليس كذلك، بل مثاله كقولك: زيد مثل فى الشجاعة، أى: مثل الأسد، بقرينة تدل على إرادة الأسد، والظاهر أنه لا قوة لهذا. السادسة: أن يحذف اثنان، وهما المشبه، وكلمة التشبيه، كقولك: أسد فى الشجاعة، أى: زيد، فهى كقولك: زيد أسد فى الشجاعة، ولها نوع قوة هى كالنوع الثالث؛ إذ لا فرق بين التصريح بذكر المشبه، وتركه. السابعة: أن يحذف المشبه والمشبه به، كقولك: مثل فى الشجاعة، أى: زيد، وهى كالخامسة. الثامنة: أن يحذف المشبه ووجه الشبه، كقولك: كالأسد، وهى كقولك: زيد كالأسد، كما سبق. التاسعة: أن تحذف الأداة والمشبه به، كقولك: زيد فى الشجاعة، أى: زيد كالأسد فى الشجاعة، فى جواب من سأل عن مثل الأسد، ولا قوة لهذا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ العاشرة: أن تحذف الأداة والوجه، كقولك: زيد أسد، وهو أقوى الجميع لإثبات المشبه به فى الظاهر للمشبه، وحذف الوجه، فقد اجتمع فيه القوتان. الحادية عشرة: أن يحذف المشبه به والوجه، كقولك: زيد مثل، وذلك يكون فى الجواب عن الاستفهام عن مماثل الأسد، أو عن حكم زيد مع الأسد، فتقول: مثل. الثانية عشرة: أن يحذف ثلاثة، وهى المشبه، والأداة، والمشبه به، كقولك: فى الشجاعة مريدا زيد كالأسد فى الشجاعة، فى جواب من قال: فى أى شئ يشبه زيد الأسد؟ الثالثة عشرة: أن يحذف ثلاثة، وهى المشبه، والأداة، والوجه، كقولك: الأسد، فى جواب ما الذى يشبهه زيد؟ الرابعة عشرة: أن يحذف المشبه، والمشبه به، والوجه، كقولك: مثل، فى جواب من قال: ما حكم زيد مع الأسد؟ الخامسة عشرة: أن تحذف الأداة، والمشبه به، والوجه، كقولك: زيد، فى جواب من يشبه الأسد؟ السادسة عشرة (¬1): أن يحذف المشبه، والمشبه به، والوجه، ويقتصر على الأداة، كقولك: مثل، فى جواب: ما شأن زيد مع عمرو؟ وكذلك: كأن فى نحو قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (¬2) قال عبد اللطيف البغدادى فى قوانين البلاغة: حذف المشبه، وليس فى الكلام مشبه به أصلا، وحقيقته أن الفعل المنفى المشبه به مسكوت عنه. السابعة عشرة: أن يحذف الجميع، كالتشبيه المعلق على شرط، فإنه يحذف اكتفاء بدليله فى نحو قوله: عزماته مثل النّجوم ثواقبا … لو لم يكن (¬3) للثّاقبات أفول (¬4) ¬

_ (¬1) قوله: أن يحذف المشبه والمشبه به والوجه ويقتصر على الأداة كذا فى الأصل وهو مكرر مع الصورة الرابعة عشرة فحرر المقام كتبه مصححه. (¬2) سورة يونس: 24. (¬3) في الأصل" يكون" والصواب ما أثبتناه. (¬4) البيت لرشيد الدين الوطواط المتوفى سنة 573 هـ، وهو بلا نسبة فى الإشارات ص 198، والثواقب: المضيئات اللوامع أو المرتفعات. أفول: غروب وزوال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن تقديره على مذهب البصريين: لو لم يكن للثاقبات أفول لكانت عزماته كالثاقبات، وكذلك قوله: بلد لها شرف سواها مثلها … لو كان مثلك فى سواها يوجد (¬1) وكذلك بحذف التشبيه فى نحو قولك: زيد أبوه كالأسد، وعمرو، أى: وعمرو أبوه كالأسد. الثامنة عشرة: أن يذكر المشبه ولازم المشبه به، كالاستعارة بالكناية والتخييل، فى قوله: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها (¬2) على رأى المصنف، ولكن هذا لا يرد عليه، فإنه التزم أنه لا يذكره فى هذا الباب، بل يفرده بالذكر عند ذكر الاستعارة، ثم إذا تقرر ذلك فاعلم أن المصنف وغيره لم يذكروا من رتب التشبيه إلا ثمانية، وحصروه فيها؛ لعدم اعتبارهم حذف المشبه به، والصواب ما ذكرناه. ثم اعلم أن قوة التشبيه فى هذه الصورة منحصرة فى أمرين: أحدهما - أن تكون أداة التشبيه محذوفة، والثانى - أن يكون وجهه محذوفا، فحيث حصل حذفهما، فهو أقوى الأقسام، وحيث حصل حذف أحدهما حصل نوع قوة، وحيث انتفيا فلا قوة. وظاهر كلامهم استواء بقية الصور فى الضعف فلنرجع لعبارة المصنف، فقوله: أعلى مراتب التشبيه فى قوة المبالغة باعتبار ذكر أركانه تحرز به عن مراتبه بالنسبة إلى الأقسام السابقة، فإنه متفاوت بحسبها من كون الوجه مركبا، أو مفردا، حسيا، أو عقليا بالنسبة إلى اختلاف أداته، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو للمتنبى فى ديوانه 2/ 57، والأشباه والنظائر 5/ 172، وخزانة الأدب 3/ 436، والتبيان للعكبرى 1/ 231، وروايته:" أرض لها ... ". (¬2) هذا صدره وعجزه: ألفيت كل تميمة لا تنفع والبيت من الكامل، وهو لأبى ذؤيب فى شرح أشعار الهذليين ص 8، وتهذيب اللغة 11/ 380، 14/ 260، وسمط اللآلى ص 888، وأمالى القالى 2/ 255، وكتاب الصناعتين ص 284، وللهذلى فى لسان العرب 12/ 70 (تمم)، وبلا نسبة فى لسان العرب 1/ 757، (نشب)، وتاج العروس 4/ 268 (نشب)، (تمم)، والعقد الفريد 5/ 24.

ثم حذف أحدهما كذلك (¬1)، ولا قوّة لغيرهما (¬2) ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: حذف وجهه وأداته فقط، أو مع حذف المشبه خبر المبتدأ، يعنى أو حذفهما مع حذف المشبه، يشير إلى استواء ذكر المشبه به، وحذفه فى مبالغة التشبيه، وإن كانا مختلفين باعتبار الإيجاز وغيره، لكن ذلك لا يرجع لقوة التشبيه وضعفه، فهاتان صورتان. (قوله: ثم حذف أحدهما) أى ثم يليه فى القوة حذف أحدهما، أى: حذف الوجه دون الأداة، سواء أكان المشبه مذكورا نحو: زيد كالأسد، أم غير مذكور، نحو: كالأسد، أو حذف الأداة دون الوجه، سواء أكان المشبه مذكورا، نحو: زيد أسد؛ أم غير مذكور، نحو: أسد؛ فدخل فيه أربع صور. وقوله: (ولا قوة لغيره) دخل فيه بقية الأقسام، وظاهر عبارته استواء: زيد أسد فى الشجاعة، وزيد كالأسد؛ لأن نوعى القوة فيه على السواء، وعلى المصنف مناقشة؛ فإنه جعل حذف كلمة التشبيه ووجهه أبلغ الصور الثمان، ثم جعل الثامنة وهى إفراد المشبه به بالذكر مساوية للسابعة، وهى حذف كلمة التشبيه والوجه، لا يقال: هما صورة واحدة؛ إذ لا فرق بين قولك: زيد أسد، وقولك: أسد؛ لأنا نقول: المصنف جعل الصور ثمانيا، وحكم على اثنتين منهما بأنهما أقوى، فلا يكون غيرهما كذلك. ولا يخفى أن هذه الأقسام بعد التفريع على أن زيدا أسد تشبيه لا استعارة، وقد تقدم الكلام عليه. واعلم أن (قوله: أعلى مراتب التشبيه، حذف كذا وكذا، ثم حذف كذا) عبارة ظاهرها أن أعلى المراتب أن يقع فيه حذف أمرين، ثم حذف أمر، وهو غير المراد، ووجهه أن" ثم" قد تأتى لمجرد بيان الترتيب فى الدرجة، سواء أكان بين الصورتين ترتيب، أم لا، بل ربما كان الثانى فى الزمان قبل الأول، كقوله: ¬

_ (¬1) أى فقط أو مع حذف المشبه به. (¬2) وهما الاثنان الباقيان، أعنى ذكر الأداة والوجه جميعا، إما مع ذكر المشبه أو بدونه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إنّ من ساد، ثمّ ساد أبوه … ثمّ قد ساد بعد ذلك جدّه (¬1) ومع هذا لا يحصل بهذا الاعتذار عما تقتضيه ثم فليكن الجواب أن التقدير ثم أعلى المراتب، أى الباقية حيث لم يحذفا هو حذف أحدهما، والله أعلم. (تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله الحقيقة والمجاز) ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو لأبى نواس فى ديوانه 1/ 355، وخزانة الأدب 11/ 37، 40، 41، والدرر 6/ 93، وبلا نسبة فى الجنى الدانى ص 428، وجواهر الأدب ص 364، ورصف المبانى ص 174، ومغنى اللبيب 1/ 117، ونتائج الفكر ص 250، والتبيان ص 130، وهمع الهوامع 5/ 236، والمصباح ص 163، ويروى بلفظ: " .. ثم قد ساد قبل ذلك جده" بلفظ: قل لمن ساد ثم ساد أبوه … قبله ثم قبل ذلك جده والبيت فى مدح إبراهيم بن عبد الله الحجى.

الحقيقة والمجاز

الحقيقة والمجاز وقد يقيدان باللغويّين: ... ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزء الرابع الحقيقة والمجاز ص: (الحقيقة والمجاز وقد يقيدان باللغويين). (ش): هذا هو القسم الثانى من علم البيان، والمقصود فيه (¬1) بالذكر، إنما هو المجاز لكنه احتاج إلى ذكر الحقيقة؛ لأن المجاز فرع عن الوضع للحقيقة على قول، وعن الوضع والاستعمال المستلزمين لوجود الحقيقة على قول، ولأنه لا بد من انتقال الذهن فى المجاز؛ فاحتاج إلى الحقيقة، وحاصله أن ذكر الحقيقة فى هذا العلم تبع للمجاز، بخلاف غيره من العلوم، ولذلك يقال: المجاز فى علم البيان أصل، وأيضا فالمجاز يشير تعريفه إلى تعريف الحقيقة؛ لاشتمال تعريفه على العدم، وهو قولنا:" غير ما وضع له"، واشتمال تعريف الحقيقة على الملكة، وهو قولنا: ما وضعت له، وتصور العدم يلزم منه تصور الملكة، وإنما قدم تعريفها على تعريفه؛ لأنها الأصل لغة، أو لتقدم تصور الملكة على تصور العدم. (قوله: الحقيقة والمجاز)؛ أى: هذا باب الحقيقة، والمجاز (قوله: وقد يقيدان باللغويين) يشير إلى أن منهم من تكلم فى هذا الباب على الحقيقة والمجاز مطلقا، فدخل اللغويان والعقليان، ومنهم من تكلم على الحقيقة والمجاز اللغويين، ولم يتكلم على العقليين بل جعلهما فى علم المعانى، كما فعل المصنف، فالمقيد باللغويين يخرج العقليين؛ قال الخطيبى: لا حاجة إلى التقييد باللغوى؛ لأن العقلى وقع الكلام عليه فيما سبق، بل التقييد باللغوى يخرج الشرعى والعرفى، ولا يصح؛ لأن هذا الباب معقود للكلام عليهما أيضا، كما سيأتى، ولا يحسن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: الشرعية والعرفية يدخلان فى اللغوى، باعتبار أن لهما نسبة إلى اللغة، فيسميان حقيقتين لغويتين أيضا لأنا نقول: قولنا: الشرعية حقيقة لغوية من المغالطة المسماة فى المنطق: اشتراك القسمة وتركيب المفصل، وهو ما يصدق من القول مفردا ولا يصدق مركبا، كقولك:" طبيب ماهر"، تريد: ماهرا فى الشعر، وكذلك: حقيقة لغوية، معناه إذا أريد الشرعية لغوى أصلها. ¬

_ (¬1) أى فى علم البيان.

الحقيقة

الحقيقة: الكلمة المستعملة فيما وضعت له، فى اصطلاح التخاطب"؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ الحقيقة: ص: (الحقيقة إلخ). (ش): شرع فى حد كل منهما، فالحقيقة هى الكلمة المستعملة فيما وضعت له فى اصطلاح التخاطب فقوله:" الكلمة: جنس"، وأورد أنه يخرج عنه المركب، فإنه ليس بكلمة، فينبغى أن يقول:" اللفظ"، ليشمل المركب، فإنه ينقسم أيضا إلى الحقيقة والمجاز، إلا أن يريد بالكلمة ما يقابل الكلام أو أعم، فإنها حينئذ تتناول المركب أيضا، أو يقال: المركب ليس بموضوع،" قلت": فيه نظر، فإن المركبات الإسنادية ولو قلنا: إنها موضوعة، فقد يقال: إنما تسمى حقائق ومجازات، باعتبار العقل، فهى عقلية لا لغوية؛ لأن للعقل فيها تصرفا فإذا قلنا: إن العرب وضعت زيد قائم، لإفادة نسبة القيام لزيد، فكون ذلك حقيقة أو مجازا لا يعرف إلا بتصرف العقل فى تحقيق الإسناد وعدمه، ثم قول الخطيبى:" إلا أن يريد بالكلمة ما يقابل الكلام" فيه نظر؛ لأنه إذا أراد ما يقابل الكلام دخلت المركبات الإضافية، وخرجت المركبات الإسنادية والقائل: بأن المركبات موضوعة قائل به فى المركبات الإسنادية قطعا. وقوله: " المستعملة" فصل أخرج الكلمة قبل الاستعمال فإنها لفظ موضوع، وليس بحقيقة ولا مجاز، ومقتضى هذا الاحتراز أن يكون اللفظ قبل الاستعمال وبعد الوضع يسمى كلمة ويشهد له قولهم: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد وفيه احتمال وفى كلام كثير ما يقتضى تقييدها بالمستعمل. وقوله: " فيما وضعت له" قال المصنف:" هو احتراز عن شيئين: أحدهما: ما استعمل فى غير ما وضع له غلطا، كما إذا أردت أن تقول لصاحبك: خذ هذا الكتاب. مشيرا إلى كتاب بين يديك، فغلطت فقلت:" خذ هذا الفرس" (قلت): فيه نظر، لأن الغلط ليس بكلام لغوى، فلا يسمى كلمة، كما أن كلام النائم لا يسمى كلاما. قال: والثانى أحد قسمى المجاز، وهو ما استعمله فيما لم يكن موضوعا له، لا فى اصطلاح التخاطب ولا فى غيره. كلفظ:" أسد" فى الرجل الشجاع. نعم قد خرج بقوله فيما وضعت له الأعلام، فإنها مستعملة فى غير ما وضعت له، فليست حقيقة ولا مجازا، وقد صرح بهذا الاحتراز، القشيرى وغيره. وقال الشيرازى فى شرح المختصر:" وخرج به ما استعمل فيما لم يوضع له، كالوضع الجديد، كما إذا قلت لمخاطبك: هات السكين، مشيرا إلى الكتاب، فإن السكين فى الكتاب وضع جديد غير مندرج تحتها؛ لأن اللفظ فى ابتداء الوضع ليس حقيقة ولا مجازا"، وفيه نظر؛ لأن هذا القائل إن أراد وضعا جديدا وهو ممن له أن يضع فقوله ذلك وضع واستعمال، فيكون حقيقة، وإن

والوضع: تعيين اللفظ للدّلالة على معنى بنفسه؛ فخرج المجاز؛ لأنّ دلالته بقرينة، دون المشترك (¬1)، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ كان هذا القول غلطا، فقد تقدم الكلام عليه. وقولنا:" فى اصطلاح التخاطب"، أخرج به القسم الثانى من المجاز: وهو ما استعمل فيما وضع له لكن لا فى ذلك الاصطلاح الذى وقع به التخاطب عند الاستعمال، كاستعمال" الصلاة" بعرف الشرع فى الدعاء، فإنه كلمة مستعملة فيما وضعت له، ولكن لا فى هذا الاصطلاح الذى وقع به التخاطب، فهو مجاز شرعى وإن كان حقيقة لغوية. وقد يقال: إذا استعملت الصلاة بعرف الشرع فى الدعاء لم تستعمل فيما وضع له، لأنها وإن وضعت للدعاء فلم تستعمل فيه بالوضع الشرعى، فلا توصف حال استعمالها بعرف الشرع أنها استعملت فيما وضعت له بوجه ما، وإلا لزم أن يكون المجاز موضوعا، وسيأتى أنه غير موضوع، وقد دخل فى هذا الحدّ الحقائق الأربع: اللغوية، والشرعية، والعرفية العامة، والعرفية الخاصة، ويمكن أن يقال:" فيما وضعت له فى اصطلاح التخاطب" فصل يخرج المجازات كلها والكلام فى اشتقاق الحقيقة والمجاز معروف فى كتب اللغة والأصول؛ وقوله: " فى اصطلاح التخاطب" يتعلق بقوله:" وضعت له"؛ أى: الكلمة المستعملة فى شئ، وهى موضوعة فى اصطلاح التخاطب لذلك الشئ الذى وقع به التخاطب؛ أى: الاستعمال. فإذا كان الخطاب بعرف الشرع، وأطلقت على الدعاء، فهى كلمة مستعملة فى شئ، وهى موضوعة فى هذا الاصطلاح لغيره، وقال بعض الشارحين: إنّ قوله:" فى اصطلاح التخاطب" يتعلق بقوله: " المستعملة"، ثم قال:" ولو قال: على اصطلاح لسلم من أن يردّ عليه أن جارين متحدين لفظا ومعنى لا يتعلقان بشئ واحد، وليس ما قاله مراد المصنف لما ذكره" ومن جهة المعنى أيضا، فإنه يلزم أن يكون إطلاق الصلاة على الدعاء باصطلاح" الشرعي" حقيقة لأنها كلمة مستعملة فى اصطلاح وقع به التخاطب، ومستعملة فيما وضعت له لغة، وهو عكس مقصوده. الوضع ص: (والوضع:" تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه، فخرج المجاز؛ لأن دلالته بقرينة دون الكناية). (ش): لما جعل الوضع قيدا فى الحقيقة احتاج لتعريفه؛ فقال:" إنه تعيين اللفظ للدلالة على معنى، وهذا حسن، وقوله:" بنفسه" يخرج تعيين اللفظ للدلالة على معنى ¬

_ (¬1) فإنه لم يخرج لأنه قد عين للدلالة على كل من المعنيين بنفسه، وعدم فهم أحدهما بالتعيين لعارض الاشتراك لا ينافى ذلك به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بقرينة فهو المجاز، فذلك التعيين لا يسمى وضعا وأورد أن المراد بالتعيين: تعيين الواضع، والمجاز ليس فيه تعيين واضع، بل فيه استعمال، فلم يدخل فى قوله:" تعيين" فلا حاجة لإخراجه؛ فلذلك أتى بفاء السببية؛ فقال:" فخرج المجاز لأن دلالته بقرينة"، ولا يرد عليه ما يوهمه كلامه فى حد الحقيقة من أن المجاز موضوع؛ لأن المعنى هناك أنه موضوع فى اصطلاح آخر. والخطيبى ادعى: أن هذا الحد تدخل فيه الاستعارة، وأنها موضوعة، وأن تعيين اللفظ للدلالة بنفسه ينقسم إلى: وضع حقيقى، ومجازى؛ وفيما قاله نظر، وإنما ألجأه إلى ذلك، أنه قصد أن يجعل هذا مقدمة للجواب عن اعتراض المصنف على السكاكى الذى سيأتى فى أواخر الباب، وللأصوليين خلاف فى أن المجاز موضوع أولا، ذكرناه فى شرح المختصر (قوله: دون الكناية)، يريد أن الكناية لا تخرج عن الوضع، فإنها وضعت لأنها تدل على معنى بنفسها، لا بقرينة، وتقريره يظهر لمن راجع ما حققناه فى الكناية من أنها أريد بها موضوعها استعمالا، وأريد لازمه إفادة، فالكناية موضوعه؛ لأن اللفظ عين فيها للدلالة على معناه الذى هو موضوع اللفظ بنفسه، فكانت موضوعة، وكونها دالة على لازم ذلك المعنى بقرينة حالية، كدلالة طويل النجاد على طول القامة يحتاج إلى قرينة، لكن ذلك ليس المعنى الذى استعملت الكلمة فيه، وقد علم من كلامه أن الكناية قسم من أقسام الحقيقة؛ لكونها قسما من أقسام الموضوع، وهذا هو الحق، وسيأتى فى كلامه ما يخالف هذا، وتعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه تارة يكون مع إفادة شئ آخر بقرينة، فيكون حقيقة كناية، وتارة لا يكون، فيكون حقيقة فقط. وبهذا التحقيق ظهر أن ما ذكره الخطيبى من الاعتراض على المصنف والجواب وقوله: إن الكناية لا حقيقة ولا مجاز بعيد عن الصواب لا حاصل له، وقد أورد على المصنف أن قوله" بنفسه" لا يصح أن يتعلق بالدلالة لخروج الحرف، فإنه عين ليدل بغيره على معنى، لا بنفسه، وأوّل على أنه تعلق باللفظ على أنه حال، التقدير:" تعيين اللفظ كائنا بنفسه" أى: مع نفسه أى لا يصاحب ذلك اللفظ غيره، وفيه تعسف، وقد يلتزم الأول، ويقال: الحرف وضع لمعنى بعينه؛ ليدل بنفسه على معنى فى غيره، فإن الحرف دل بنفسه على معنى لا يعقل إلا متعلقا بغيره بخلاف المجاز، فإنه يدل بنفسه على معناه، إنما يدل على معناه بالقرينة، وإلى ما ذكره يشير كلام ابن الحاجب فى أماليه. (تنبيه): قد يورد على ما ذكرناه من حد الوضع أنه يخرج عنه المشترك، فإنه عين فيه اللفظ للدلالة على المعنى، لا بنفسه، بل بقرينة. وهذا السؤال استشعره السكاكى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ حين حدّ الوضع بأنه: تعيين اللفظ بإزاء معان بنفسها؛ فقال:" إن المشترك كالقرء معناه الحقيقى ما لا يتجاوز معنييه كالطهر، والحيض، غير مجموع بينهما، قال: فهذا ما يدل عليه بنفسه، ما دام منتسبا إلى الوضعين، أما إذا خصصته بواحد إما صريحا كقولك:" القرء بمعنى الطهر" وإما استلزاما، كقولك:" القرء لا بمعنى الحيض" فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين، كما كان الواضع عينيه بإزائه بنفسه، ثم قال: وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة فى دلالته على ما هو معناه، فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين. واعترض المصنف عليه بأنا لا نسلم أن معناه الحقيقى ذلك، وبأن قوله إذا قلنا: القرء بمعنى الطهر، أو لا بمعنى الحيض، فهو دال بنفسه على الطهر بالتعيين سهو ظاهر، فإن القرينة كما تكون معنوية تكون لفظية، وكل من قوله:" بمعنى الطهر"، وقوله:" لا بمعنى الحيض" قرينة. (قلت): أصل السؤال إنما يتوجه إذا وقع الاشتراك من واضع واحد، أما من واضعين لا يشعر أحدهما بالآخر فلا. وقول السكاكى:" معنى المشترك ما لا يتجاوز معنييه" معناه أنه عند الإطلاق صالح لكل منهما، فهو عند الإطلاق يدل بنفسه على معناه الذى هو أحدهما، وذلك ربما كان مقصودا لقصد الإبهام. وقد صرح بذلك ابن الحاجب فى الأمالى، وإن كان كلامه فى المختصر يوهم خلافه، حيث قال: أورد المشترك فإن أجيب بأنه يتبادر غير معين لزم أن يكون المعين مجازا. وقوله: أما إذا خصصته بواحد صريحا، كقولك: القرء بمعنى الطهر. فإنه دال بنفسه بالتعيين، كما كان الواضع عينه. فيه نظر؛ فإن القرء فى هذا التركيب ليس مشتركا، فإنك ذكرت كلمة القرء، وشرحت معناها بقولك:" الطهر" إن أردت بالقرء الذى ذكرته الطهر، فليس فيه استعمال القرء بمعنى الطهر، بل هو إخبار عن المجهول بالمعلوم، كما إذا قلت:" الإنسان ناطق" ليس مدلوله الناطق ناطق وإلا لاتحدا بل إن مدلول الإنسان هو الناطق. وأما اعتراض المصنف عليه بأنا لا نسلم أن معناه الحقيقى ذلك، فإن أراد أنا لا نسلم أنه وضع ليفيد الإبهام بين المعنيين عند الإطلاق، فهو موافق لكلام ابن الحاجب فى المختصر. والحق خلافه؛ لأن المشترك يتبادر الذهن منه إلى أحد المعنيين، ولا يلزم ما ذكره من كونه للمعين مجازا؛ لأنه دائر بين معنييه بقيد التعيين للمبهم كما حققناه فى شرح المختصر، فالقرينة إنما يحتاج إليها لتعيين أحد المعنيين

والقول بدلالة اللفظ لذاته (¬1) ظاهره فاسد، وقد تأوّله السكاكى (¬2) ... ـــــــــــــــــــــــــــــ عند السامع، وهو ليس معنى المشترك من حيث هو مشترك. واعتراض المصنف الثانى كان مستغنيا عنه لما ذكرناه من الاعتراض. نعم يصح أن يعترض به المصنف فى نحو قولك:" اعتدّت فلانة بقرء طهر" فله أن يقول: كلام السكاكى يقتضى أن هذا دل على الطهر بنفسه، وليس كذلك بل بقرينة وصفه بالطهر. وأجيب عنه بأن الطهر هنا ليس قرينة لدلالة اللفظ على المعنى، بل لتعيين دلالته على أحد معنييه، بخلاف قرينة المجاز فإنه يعينه للدلالة على معناه. ص: (والقول بدلالة اللفظ لذاته ظاهره فاسد، وقد تأوله السكاكى). (ش): لا شك أن دلالة كل لفظ على معناه مع استواء المعانى بالنسبة إليه لا يمكن؛ لأنه ترجيح من غير مرجح، فاختصاص بعضها ببعض لا بد له من مرجح، وذلك إما ذات اللفظ أو غيره، وذلك الغير إما أن يكون وضع الله - تعالى - أو وضع العباد، على أقوال حققناها بأدلتها فى شرح المختصر، ولما كانت متقاربة، وكان الواضح فى الفساد هو القول بأن دلالتها لذاتها ذكره، فقال: والقول بدلالة اللفظ، أى: على معناه لذاته أى لذات اللفظ ظاهره فاسد، إنما قال: ظاهره، لأن له عنده تأويلا. وهذا المذهب منسوب إلى عباد بن سليمان المعتزلى. وتأوله السكاكى على أن المراد أن للحروف خواص تناسب معناها من شدة وضعف وغيره، فإن الحروف تنقسم إلى مجهورة، ومهموسة، وغير ذلك، ووجه فساد هذا القول أنه يفضى ¬

_ (¬1) وهو قول عباد بن سليمان الصيمرى، وأتباعه. (¬2) ذكر الخطيب فى إيضاحه تأويل السكاكى لهذا القول، حيث ذكر هناك تفسيرا له، قال الخطيب - بعد ردّه لهذا القول من وجوه -: وتأوّله السكاكى - رحمه الله - على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمى الاشتقاق والتصريف، من أن للحروف فى أنفسها خواصّ بها تختلف، كالجهر والهمس، والشدة والرخاوة والتوسّط بينها، وغير ذلك؛ مستدعية أنّ العالم بها إذا أخذ فى تعيين شئ منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما، قضاء لحق الحكمة، ك الفصم - بالفاء الذى هو حرف رخو -: لكسر الشئ من غير أن يبين، والقصم بالقاف الذى هو حرف شديد -: لكسر الشئ حتى يبين وأنّ للتركيبات - ك" الفعلان" و" الفعلى" بالتحريك؛ كالنّزوان والحيدى، و" فعل" مثل: شرف، وغير ذلك -: خواصّ أيضا، فيلزم فيها ما يلزم فى الحروف. وفى ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم فى اختصاصها بالمعانى" اه. انظر الإيضاح: (ص 244 بتحقيقنا).

والمجاز: مفرد، ومركب

والمجاز: مفرد، ومركّب: أما المفرد: فهو الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له فى اصطلاح التخاطب، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى عدم نقله إلى المجاز، وإلى عدم وضع اللفظ للشئ وضده. وأما النقيضان فادعى الإمام فخر الدين أنه لا يجوز أن يكون اللفظ موضوعا لهما معا؛ لأن ذلك لا يفيد غير تردد الذهن، وهو حاصل قبل استعمال اللفظ. وفيما قاله نزاع ذكرناه فى شرح المختصر. المجاز مفرد ومركب: ص: (والمجاز مفرد ومركب إلخ). (ش): المراد بالمجاز هنا ما ليس عقليا، فإنه سبق فى المعانى فدخل فيه المجاز اللغوى والشرعى والعرفى، ولم يذكر المصنف حدا للمجاز الذى هو أعم من مفرد ومركب إما لأنهما مختلفان بالحقيقة، فلا يمكن حدهما بحد واحد، وكان يمكنه أن يحد الأعم منها ثم يذكر لكل واحد حدا. وبدأ المصنف بحد المجاز المفرد، فقال: أما المفرد فهو الكلمة وهى جنس، فلم يدخل المجاز المركب، لا كما قال الخطيبى: إنه أخرج بها المركب فإن الجنس لا يخرج به. نعم يرد عليه الاستعارة بالتمثيل، نحو:" فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى" فإن المجاز فيه مجموع الكلام لا الكلمة، وإطلاق الكلمة على أعم من الكلام مجاز لا دليل يجوز دخوله فى هذا الحد، ولا يقال: هذا مركب، وكلامنا فى المجاز المفرد، لأنا إنما نريد بالمجاز المفرد ما يقابل مجاز الإسناد، وليس فى التمثيل مجاز إسنادى، وقوله:" المستعملة" مخرج للكملة قبل الاستعمال وبعد الوضع، وهو مراد المصنف بقوله:" يخرج غير المستعمل" وقوله: فى غير ما وضعت له يخرج الحقيقة، فإنها مستعملة فيما وضعت له، وقوله:" فى اصطلاح التخاطب" يخرج استعمال الصلاة للأركان بعرف الشرع؛ فإنه لفظ مستعمل فى غير ما وضع له لغة، لكنه ليس غير ما وضع له فى عرف الشرع الذى وقع به التخاطب، ويحتمل أن يكون قوله:" فى غير ما وضعت له" فصلا، وقوله:" فى اصطلاح التخاطب" قيدا فى الفصل للإدخال لا للإخراج، كأنه يقول: ليس كل مستعمل فى غير موضوعه مجازا إنما يكون مجازا بشرط أن يكون استعماله فى غير موضوعه بالاعتبار الذى وقع به التخاطب، وتقريره على هذا الوجه مقتضى عبارة الإيضاح، لكن هلا صنع ذلك فى حد الحقيقة فجعل قوله: فى" اصطلاح التخاطب" يدخل ما أخرجه قوله:" فيما وضع له"

على وجه يصحّ، مع قرينة عدم إرادته، ولا بدّ من العلاقة؛ ليخرج الغلط والكناية .... ـــــــــــــــــــــــــــــ من إطلاق الصلاة لغة على الدعاء فإنه لفظ مستعمل فى غير ما وضع له بحسب الشرع، ولكنه حقيقة بحسب ذلك الاصطلاح. وقولنا:" على وجه يصح" يخرج الغلط كما تقدم، وعليه ما سبق، ومنه يعلم اعتبار العلاقة، فيخرج - أيضا - إطلاق الكلمة على غير معناها لا لعلاقة عمدا، فإن ذلك إن كان وضعا جديدا فهو حقيقة، ولا يقال: إنه فى غير موضوعه، وإن لم يكن وضعا، والفرض أنه عمد، فهو من المخبر به عنه كذب، ويمكن أن يخرج بقوله:" على وجه يصح" الأعلام فإنها ليست لعلاقة، والمراد بقوله: على وجه يصح اعتبار العلاقة، ويمكن أن يخرج - أيضا - ما منعت العرب من استعماله له مع وجود العلاقة كنخلة لطويل غير إنسان ونحوه إن ثبت ذلك، وقد تكلمنا عليه فى شرح المختصر. بقى أن يقال: اعتبار العلاقة شرط للمجاز لا جزء من ذاتياته، وشرط الشئ لا يذكر فى حده، وقوله:" مع قرينة عدم إرادته" أى: إرادة ما وضع له. قال فى الإيضاح (¬1): يخرج به الكناية، وقد تبع فى ذلك السكاكى، وقد قدمنا ما يتضح به فساد قولهم، وقد صرح جماعة كثيرة بأن الكناية حقيقة، وأشار إليه السكاكى - أيضا - حيث قال بعد هذا الكلام:" ومن حق الكلمة فى الحقيقة التى ليست بكناية" فأفهم ذلك أن الكناية حقيقة، وعليه جرى قول السكاكى وكثير من شارحيه، وقد أشار إليه المصنف فيما سبق، فإنه صرح فى حد الحقيقة بأن الكناية موضوعة، فكيف يقول هنا: إنها غير موضوعة؟ وهذا تهافت ظاهر، فإخراجها من القسمين لا تحقيق له، وسيأتى فى حد المجاز تحرير الأقوال فى هذه المسألة اه. فإن قلت: هب أن الكناية مستعملة فى غير موضوعها، فكيف يقال: إنها خرجت باشتراط القرينة، ولا شك أن الكناية تحتاج إلى القرينة، وإنك لو قلت:" زيد كثير الرماد" ولم يكن معه قرينة تصرف إلى الكرم لما فهمت الكناية، ولكان الذهن يبتدر إلى أنه فحام أو طباخ أو فران. قلت: لا شك فى احتياج الكناية للقرينة، إلا أن تشتهر الكلمة فى الكناية فتستغنى عن القرينة، كالحقائق العرفية، ولكنها ليست قرينة تصرف الاستعمال إلى غير الموضوع، كما تصرف المجاز بل تصرف قصد الإفادة. ¬

_ (¬1) الإيضاح ص 243.

وكلّ منهما (¬1): لغوىّ، وشرعىّ، وعرفى خاصّ أو عامّ؛ ك أسد للسّبع والرجل الشجاع؛ وصلاة خ خ: للعبادة المخصوصة والدّعاء، وفعل للفظ والحدث، ودابّة لذى الأربع والإنسان. ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وكل منهما)؛ أى: من الحقيقة والمجاز منقسم. فالحقيقة تنقسم إلى لغوية؛ وشرعية، وعرفية خاصة. ومنهم من يسمى العرفية الخاصة اصطلاحية والمجاز: لغوى، وشرعى، وعرفى عام، وعرفى خاص (قوله: كأسد للسبع) مثال للحقيقة اللغوية، وقوله:" والرجل"، أى: وكأسد للرجل الشجاع مثال للمجاز اللغوى، وقوله: وصلاة للعبادة؛ أى: المعروفة مثال للحقيقة الشرعية، وقوله: والدعاء مثال للمجاز الشرعى، والأحسن أن يمثل بمجاز ليس حقيقة لغوية، وهو إطلاق الصلاة على الطواف فى قوله صلّى الله عليه وسلّم:" الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه الكلام" (¬2) يشهد لكونه مجازا شرعيا صحة الاستثناء، وهو مثال حسن عزيز الوجود؛ لأن الاستثناء عينه لذلك (قوله: وفعل للفظ) هو مثال للحقيقة العرفية الخاصة، وقوله: والحدث مثال للمجاز بحسب العرفية الخاصة؛ لأن الحدث أحد مدلولى الفعل عند النحوى، ومنه قولهم:" اسم الفاعل ما اشتق من فعل لمن قام به". قال فى شرح الحاجبية:" أى: من مصدر" لأن سيبويه يسمى المصدر فعلا وحدثا وحدثانا، ومثال العرفية العامة: لفظ دابة لذى الأربع، فهو حقيقة عرفية عامة والأحسن أن يقال: لذات الأربع ثم إن القول بأن الدابة ذات الأربع فيه نظر. فقد قال أصحابنا فى الوصية: إن الدابة الخيل، والبغال، والحمير، وقد أورد على جعل الدابة حقيقة منقولة أن الحقيقة المنقولة مخالفة للمنقول عنه، فالحقيقة العرفية إن كانت إطلاق الدابة على ذات الأربع فذلك الإطلاق حقيقة لغوية وإن كان عدم تسمية غيرها والاقتصار عليها فذلك معنى لا لفظ، والحقيقة العرفية لفظ. والجواب أن موضوع الحقيقة العرفية ما دب بقيد كونه ذا أربع، فهى مستعملة فيما وضع له بقيد كونه ذا أربع، فهى من إطلاق الكل على الجزء، وقد بسطت القول عليه فى شرح المختصر. والإنسان مثال لمجاز عرفى عام، والمراد باللغوية ما كان واضعها واضع اللغة، والشرعية ما كان واضعها الشارع والعرفية الخاصة ما اصطلح عليها قوم دون قوم، والعامة ما اصطلح عليها العرف العام، وللأصوليين فى إثبات الحقائق ¬

_ (¬1) أى من الحقيقة والمجاز. (¬2) " صحيح" أخرجه الطبرانى وأبو نعيم فى الحلية والحاكم والبيهقى، وانظر صحيح الجامع (ح 3954).

والمجاز: مرسل إن كانت العلاقة غير المشابهة؛ وإلّا فاستعارة. وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به فى المشبّه؛ فهما (¬1): مستعار منه، ومستعار له، واللفظ مستعار. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرعية خلاف يطول ذكره، والمجاز اللغوى ما تجوز فيه عن معنى لغوى والشرعى عن معنى شرعى، والعرفى عن معنى عرفى. فظهر بذلك أن اللفظ قد يكون حقيقة ومجازا باعتبار وضعين. ص: (والمجاز المرسل إلخ). (ش): شرع فى تقسيم المجاز إلى مرسل وغيره. واعلم أن (السكاكى) قسم المجاز خمسة أقسام: خال عن الفائدة، وقد ذكره المصنف فى الإيضاح قسما من المرسل وسنتكلم عليه، ومجاز فى حكم الكلمة بالزيادة أو النقص. وقد ذكره المصنف فى آخر الكلام على المجاز، وعقلى، وقد ذكره فى علم المعانى، وإلى مرسل مفيد، واستعارة، وهما المذكوران هنا والألف واللام فى قوله:" المجاز" يحتمل أن تعود إلى المجاز بنوعيه المفرد والمركب، ويحتمل أن تعود إلى المفرد فقط، وهو ظاهر عبارته؛ لأنه قدم هذا التقسيم على الكلام فى المجاز المركب، وسيأتى الكلام فى تقسيم المجاز المركب لهذين القسمين فى موضعه إن شاء الله - تعالى -، وعلى تقدير أنه يريد بالمجاز المجاز المفرد قال: إنه ينقسم إلى: مرسل، وغيره، فالمرسل ما كانت علاقته غير المشابهة، وغير المرسل ما كانت علاقته المشابهة، وغير المرسل يسمى استعارة، وقيل: المجاز والاستعارة مترادفان على معنى واحد (حكاه عبد اللطيف البغدادى) والمشهور الأول، فالاستعارة مجاز مفرد علاقته مشابهة معناه بما هو موضوع له والمرسل مجاز مفرد علاقته غير مشابهة معناه بما هو موضوع له (هكذا قال المصنف) وهو مخالف لكلام السكاكى، وللتحقيق، فقد قدمنا أن التحقيق وهو مقتضى كلام السكاكى أن العلاقة إذا كانت المشابهة ولم تقصد المبالغة فلا يكون ذلك استعارة، وإن قصدت المبالغة كان استعارة، وكثيرا ما نطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به فى المشبه، فيقال: الاستعارة استعمال اللفظ، وهو توسع، فإنّ المجاز هو اللفظ المستعمل لا الاستعمال، وهذا ليس خاصا بالاستعارة، بل كثيرا ما يطلق المجاز على استعمال اللفظ فى غير موضوعه، فلو ذكر المصنف هذا التوسع فى المجاز بجملته لكان أصوب. (قوله: فهما)؛ أى: إذا أردنا ¬

_ (¬1) أى المشبه، والمشبه به.

المجاز والمرسل

المجاز والمرسل والمرسل ك اليد خ خ: فى النّعمة والقدرة، والراوية خ خ: فى المزادة ... ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاستعارة الاستعمال، فلا بد لها من مستعار، ومستعار منه، ومستعار له، فالمستعار منه المشبه به، والمستعار له المشبه، والمستعار هو اللفظ ويشتق المستعار له منه. أى من الاستعارة؛ لأنها معنى يصح الاشتقاق منه، أما إذا أطلقنا الاستعارة على اللفظ فلا يشتق منه مستعار له، ولا مستعار منه، ولا مستعار؛ لكونه اسما للفظ لا للحدث، كذا قال المصنف، وأيضا فإن المجاز لا يشتق منه، كما صرح به جماعة، وإن كان لنا فيه نظر، وأيضا فإن اللفظ سميناه استعارة، فكيف نسميه مستعارا؟ المجاز المرسل: ص: (والمرسل كاليد إلخ). (ش): شرع فى تقسيم المرسل، وهو: ما بينه وبين موضوعه علاقة غير المشابهة، وينبغى أن يقال: غير المبالغة فى المشابهة كما سبق، ومثله المصنف بإطلاق اليد على النعمة والقدرة؛ أى: على النعمة تارة، وعلى القدرة أخرى، ولم يبين المصنف العلاقة فى هذا الإطلاق، ويظهر أنها إذا أطلقت على القدرة من إطلاق السبب على المسبب، وإذا أطلقت على النعمة كذلك، لأن اليد سبب النعمة أو من إطلاق المحل على الحال؛ لأن اليد محل النعمة، ومنها تحصل، وهى سبب القدرة على البطش، ونحوه. قال فى الإيضاح: ويشترط أن يكون فى الكلام إشارة إلى المولى لها فلا يقال: اتسعت البلد فى البلد، أو اقتنيت يدا، كما يقال: اتسعت النعمة واقتنيت نعمة، وإنما يقال: جلت يده عندى، وكثرت أياديه لدى، وفيما ذكره نظر؛ لأن كل مجاز فلا بد له من قرينة كما سبق، فلا حاجة إلى تقييد هذا النوع، ثم الإشارة إلى المولى لها لا يتعين بل بذكر قرينة ما، فقد تحصل القرينة من غير إشارة إلى المولى، كقولك: رأيت يدا عمت الوجود، وقد تحصل الإشارة إلى المولى، ولا قرينة تصرف إلى المجاز، كقولك: يعجبنى يد زيد، وتمثيل المصنف بقوله: جلت يده عندى، فيه نظر، لأن ذلك ليس فيه ما يعين المجاز إذ لا مانع أن تقول: جلت يده عندى، مريدا الجارحة، وأما" كثرت أياديه عندى" ففيه قرينة تصرفه إلى المجاز، ولكن ليست الإشارة إلى المولى، بل لفظ" كثرت" بالثاء المثلثة، لأن الجارحة لا تكثر، وكذلك لفظ الأيادى، إذا قلنا: إن اليد بمعنى النعمة يجمع على أياد وبمعنى الجارحة على أيد، قال المصنف: وأما قوله:" المؤمنون تتكافأ دماؤهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" (¬1) فهو استعارة، أى: هم مثل اليد؛ وما قاله هو الصواب على ما نختاره، إلا أنه لا يحسن منه؛ لأنه يرى أن مثل ذلك تشبيه لا استعارة إلا أن يريد بقوله استعارة، أنه ليس بمجاز مرسل، ونظير إطلاق اليد على القدرة إطلاق اليمين، وقد ادعى ذلك فى قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬2) وليس كذلك، بل هو استعارة بالتخييل وإليه أشار الزمخشرى بجعله ذلك خارجا عن الحقيقة وعن المجاز، أى المجاز المرسل، والغرض من قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ إذا أخذ بجملته، ومجموعه تصوير عظمته - تعالى - والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقية أو جهة مجازية، فإن السامع لذلك إذا كان له فهم يقع على الزبدة والخلاصة (¬3) التى هى الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظيمة التى تتحير فيها الأذهان هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا بما تؤديه هذه العبارة من التخييل، ولا ترى بابا فى علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات، وما أتى من زل إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقيب، حتى يعلموا أن فى عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفى عنهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه، لا يحل عقدة من عقدها المؤرّبة (¬4)، ولا يفك قيودها المكرّبة ¬

_ (¬1) " حسن" أخرجه أبو داود وابن ماجه، وانظر صحيح الجامع (ح 6712). (¬2) سورة الزمر: 67. (¬3) ومن هنا استنبط الطيبى فى التبيان (1/ 339 بتحقيقى) نوعا من الكناية فهمه من الكلام السابق لصاحب الكشاف (3/ 408 - 409) سماه بالكناية الزّبدية، ولنا أن نقول: إن إثبات ما ذهبتم إليه من دلالة الآية التى اختلف فيها: هل هى من باب الاستعارة أو الكناية أو الحقيقة؟ - لا نمانع فيما ذهبتم إليه هنا من دلالة هذه الآية على القدرة الباهرة، ولكننا نقول: إن إثبات هذه الدلالة وهى القدرة لا ينافى إثبات ما وصف الله تعالى به نفسه من صفة (اليمين) بل إن إثبات هذه الدلالة بإثبات تلك الصفة يكون أكمل وأتم، وليس ثمة مانع من إثبات تلك الصفة إلا إثباتها على جهة المشابهة بينه وبين الحوادث، أما إثباته على جهة التنزيه لا على جهة التمثيل وأن له يمينا ويدا لا كسائر الأيدى فليس ثمة مانع منه؛ بل إن هذا هو الأصل؛ لأن الأصل هو الحمل على الحقيقة. (¬4) المؤرّبة: المحكمة وفى اللسان: الأربة بالفم العقدة التى لا تنحل حتى تحلّ حلّا يقال: أرّب عقدتك ... وتأريبها إحكامها اللسان: أرب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا هو، وكم من آية أو حديث قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات البعيدة؛ لأن من تأول ليس من هذا العلم فى عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير، هذه نبذة من كلام الزمخشرى ذكرتها لحسنها غير أنه وقع فى أثنائها وهم، فإنه ذكر أن سبب نزولها: " أن جبريل جاء إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد إذا كان يوم القيامة جعل الله السموات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والشجر على إصبع وجميع الخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك فضحك صلّى الله عليه وسلّم تصديقا له ثم قال: قرأ هذه الآية وهذا وهم من الزمخشرى وتصحيف، وإنما القائل ذلك حبر من أحبار اليهود قصد بذلك التجسيم (¬1) ولهذا رد عليه بقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (¬2) وأما قوله فى الحديث: " تصديقا له"، فهو مؤول، إما على معنى التصديق بحسب اللفظ الذى له محمل صحيح، وإن لم يرد حقيقته التى أرادوها هم، أو غير ذلك. ومن إطلاق اليد بمعنى النعمة إخبار النبى صلّى الله عليه وسلّم أن أسرع أزواجه لحوقا به أطولهن يدا فأخذوا قصبة يذرعونها، وفى البخارى:" كانت سودة أطولهن (¬3) يدا"، وفى مسلم:" فكانت أطولنا يدا زينب" (¬4)، وجمع بينهما بأنهما مجلسان، فالمجلس الذى حضرته زينب غير المجلس الذى حضرته سودة وكانت سودة، على الإطلاق أسرعهن لحوقا به، على أن فى جعله مجازا نظرا لجواز أن يكون كناية، كذا قاله بعضهم، وفيه نظر؛ لأن طول اليد الجارحة لا مناسبة فيه؛ لكثرة الصدقة كالمناسبة فى طول النجاد لطول القامة، وتطلق أيضا اليد على الانقياد كما يقال: " نزع يده من الطاعة" وقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (¬5) يحتمل النعمة والقدرة والانقياد أى يعطوها صادرة عن نعمة حاصلة منكم عليهم وهى إبقاء أرواحهم أو صادرة عن قوة واستعلاء لكم، أو عن قوة لهم؛ لأنهم إذا أعطوا الجزية فقد تجاوزوا قوتهم إلى الضعف، وهو حسن، أو عن انقياد وطاعة منهم، ثم مثّل - المصنف - أيضا للمجاز المرسل بإطلاق الراوية على المزادة، فإنها حقيقة فى الحامل لها، فأطلق عليها وهو من مجاز المجاورة، وظاهر كلام السكاكى، أنها من إطلاق السبب على المسبب لأن الراوية سبب لحمل المزادة. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البخارى 8/ 412. (¬2) سورة الزمر: 67. (¬3) الحديث أخرجه البخارى فى" الزكاة"، (ح 1420). (¬4) الحديث أخرجه مسلم فى" الفضائل"، (ح 2452). (¬5) سورة التوبة 29.

ومنه: تسمية الشئ باسم جزئه؛ كالعين فى الربيئة (¬1)، وعكسه؛ كالأصابع فى الأنامل .... ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أخذ المصنف فى تعداد العلاقات، وكان ينبغى أن يذكر هذه الأمثلة فى مواضعها. فأشار إلى النوع الأول بقوله:" ومنه" أى: ومن المرسل تسمية الشئ باسم جزئه؛ أى: إطلاق اسم جزء الحقيقة على الحقيقة كلها. وقوله:" تسمية" فيه نظر، فإن المجاز الاسم، لا التسمية ومثاله إطلاق العين على الربيئة، فإن الربيئة اسم للشخص الجاسوس سمى عينا وهو اسم جزئه فأطلق الجزء على الكل. وفيه" نظران". أحدهما: أن العين اسم لجزء الإنسان مطلقا لا بقيد كونه ربيئة، فلم يطلق اسم جزء الربيئة عليه بل أطلق اسم جزء الإنسان المطلق على الربيئة، إذ ليس فى قولنا للربيئة: عين ما يميزها عن عين غيره. الثانى: أن العين لم تطلق على ما هو كل لها وهو الإنسان مطلقا، بل على إنسان خاص، فهو من إطلاق جزء الشئ على أخص من كله (ثم أقول): إن أراد المصنف أن العلاقة هى الجزئية ففيه نظر؛ لأنه لم يطلق العين على الربيئة؛ لأنها جزء مطلقا؛ بل لأنها جزء مخصوص هو المقصود فى كون الرجل ربيئة، وما عداها لا يغنى شيئا مع فقدها، كما صرح به فى الإيضاح، وإن أراد أن هذا فيه إطلاق الجزء على الكل، والعلاقة ليست مطلق الجزئية استقام، لكنه بعيد من عبارته وعبارة غيره. ونظير إطلاق العين على الربيئة إطلاق الرقبة على الإنسان فى نحو قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (¬2) ثم قد يقال: ما الذى صرف ذلك عن أن تكون علاقته المشابهة فيكون شبه الجزء بالكل، ألا ترى إلى قول المصنف فى الإيضاح: صارت العين كأنها الشخص كله، ولفظ كأن للتشبيه، ولك أن تنقل هذا السؤال إلى غالب المجاز المرسل وترده إلى الاستعارة فاعتبره فيها، ثم الذى يظهر أن الربيئة لم يطلق عليه عين؛ لأنها جزؤه، بل سمى عينا باسم مرسله لأنه يشبه عين مرسله فى الإطلاع على الحال، كما يقال: أرسلوا عينهم، وبذلك تتضح الاستعارة فيه، وأن يقال: سمى الربيئة عينا؛ لأنه يشبه العين؛ أى: عين من أرسله وإن أبيت إلا أن تقول: إنه من إطلاق الجزء على الكل، فقل: سمى عينا من ¬

_ (¬1) وهى الشخص الرقيب. (¬2) سورة النساء: 90.

وتسميته (¬1) باسم سببه؛ نحو: رعينا الغيث، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ إطلاق اسم جزء المرسل على كله، ويكون جعله عين من أرسله بمعنى: هو الذى أرسله، ومثل فى الإيضاح بقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ (¬2) فأطلق القيام، وهو جزء الصلاة عليها لكونه أظهر أركانها، وكذلك قوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً (¬3) وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم:" من قام رمضان"، (¬4) " من قام ليلة القدر" (¬5) ومنه تسمية النافلة سبحة. وقوله:" وعكسه" إشارة إلى القسم الثانى: وهو إطلاق الكل على الجزء، كاستعمال الأصابع فى الأنامل فى قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ (¬6) أى: أناملهم، دل عليه أن العادة أن الإنسان لا يضع جميع أصابعه فى أذنه، ومنه: " قطعت السارق"، وإنما قطعت يده ومثله الأصوليون بقوله عز وجل:" قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين" (¬7) أى: الفاتحة (قوله: وتسميته باسم سببه) إشارة إلى القسم الثالث وهو تسمية الشئ باسم سببه، نحو:" رعينا الغيث"؛ أى: النبات فسمى النبات غيثا، لأن الغيث سبب النبات، ومنه تسمية اليد قدرة، فإن اليد سبب القدرة، وجعل منه فى الإيضاح قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ (¬8) سمى جزاء الاعتداء اعتداء، من إطلاق اسم السبب على المسبب ومنه قوله تعالى: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (¬9) البلاء مجاز عن العرفان ومنه قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا (¬10) ¬

_ (¬1) أى: تسمية الشئ. (¬2) سورة المزمل: 2. (¬3) سورة التوبة: 108. (¬4) أخرجه البخارى فى" الإيمان"، (ح 37)، ومسلم (ح 759). (¬5) أخرجه البخارى فى" التراويح"، (ح 2014)، ومسلم (ح 760). (¬6) سورة البقرة: 19. (¬7) أخرجه مسلم (ح 395). (¬8) سورة البقرة: 94، يمكن أن تعد الآية كذلك من قبيل المشاكلة، نحو قوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها خ خ، انظر التبيان للطيبى بتحقيقى 2/ 399. (¬9) سورة محمد: 31. (¬10) عمرو بن كلثوم من أصحاب المعلقات، وإن كان مقلا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فالجهل الأول حقيقة، والثانى مجاز. وفى الآية لطيفة ليست فى البيت، وهى ذكر لفظ التشبيه، ولفظ الاعتداء فإنهما منفران عن القصاص، ومرغبان فى العفو الذى هو مقصود الشارع، بخلاف فنجهل فى البيت، فإنه يخالف مقصوده من طلب الجهل والانتقام. ومما يوضح التجوز فى هذا كله قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ (¬1) فإنه يشير إلى أن المجازى ليس ظالما، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ فحصل من مجموع الجملة أن المجازى غير ظالم وجعل من ذلك قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (¬2) فإنه أطلق السيئة التى هى سبب القصاص عليه، وقيل: ليس مجازا، فإن السيئة كل ما يسوء الشخص من حق وباطل، فتكون حقيقة (كذا قال المصنف) وهذا الذى قاله هنا من كونه حقيقة، جاز بعينه فى فاعتدوا عليه، وفى فنجهل، فلا وجه لتخصيصه بالسيئة، ثم نقول: فنجهل فوق جهل الجاهلين حقيقة قطعا؛ لأن الجهل فوق جهل الجاهلين ليس مكافأة؛ لأنه ليس مثله بل زائد عليه، والزيادة على مقدار القصاص جهل، بخلاف مثل: ما اعتدى عليكم، وبعد أن خطر لى هذا السؤال رأيت فى الانتصار فى إعجاز القرآن للقاضى أبى بكر الباقلانى ما يشير إليه، وقد يجاب عنه بأن مقابلة التأديب بأكثر منه عند الجاهلية كان محمودا يمتدحون به؛ فليس جهلا حقيقة، فصح أن تسميته جهلا مجاز ثم اعلم أن ما ذكره المصنف هنا مخالف لما سيأتى فى البديع، لأنه عد قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها من المشاكلة وفسرها بما يقتضى أنها سميت سيئة من مجاز المقابلة لذكرها مع السيئة قبلها، لا للتشبيه، ولو كانت للتشبيه لجاز تسمية الجزاء سيئة، وإن لم يذكر قبلها لفظ السيئة. ثم بعد تسليم أن ذلك كله مجاز، قيل: إن علاقته المضادة؛ لأن الأول محرم، والثانى مشروع، وقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (¬3) قيل: مجاز كذلك من إطلاق المسبب على السبب، وقيل: من مجاز المقابلة، ويفسده قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ (¬4) فإنه لم يذكر قبله ولا بعده مكر الآدمى، فلا مقابلة. قال فى الإيضاح: وقيل: يحتمل أن يكون مكر الله حقيقة، فان المكر هو ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 40. (¬2) سورة الشورى: 40. (¬3) سورة آل عمران: 54. (¬4) سورة الأعراف: 99.

أو مسبّبه؛ نحو: أمطرت السماء نباتا، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمه. (قلت): لا يصح ذلك؛ لأن التدبير أيضا يستحيل نسبة حقيقته إلى الله - تعالى - قال الجوهرى: التدبير فى الأمر أن ينظر إلى ما تؤول إليه عاقبته. وقال الراغب: هو التفكر فى دبر الأمور. وقال الغزالى: جودة الروية فى استنباط الأصلح، وهو على الله تعالى محال؛ ولذلك فسر قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ (¬1) بأنه أقام بذلك من يدبره. وقيل: معناه: يقضى. وقيل: يريد ولو أن المصنف ترك التعبير بالتدبير وقال: المكر حقيقة فى فعل ما يسوء الشخص فى عقباه لما ورد عليه هذا، لكنه لا يوافق اللغة. قال الجوهرى: المكر الاحتيال والخديعة، وذكر الراغب نحوه، فثبت أنه فى الآية مجاز. ومن لطيف مجاز التشبيه أو المقابلة قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (¬2) فإن الجزاء سمى عدوانا لمقابلته للعدوان، أو لتسببه عنه ولذلك أخرج من عمومه بالاستثناء، فوجه لطفه أن المقابلة لم تقع بين كلمتين بل بين مدلولات كلمة واحدة، ويمكن أن يقال فى مثل ذلك: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا كله - أيضا - يحتمل أن يكون استعارة كما سبق (قوله: أو مسببه) إشارة إلى القسم الرابع وهو تسمية السبب باسم المسبب، نحو:" أمطرت السماء نباتا" فذكر النبات، وأريد الغيث؛ لأن الغيث سبب النبات، وهو عكس ما قبله، وعليه قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (¬3) وجعل المصنف منه ((كما تدين تدان)) (¬4)؛ أى: كما تفعل تجازى، وكذا قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً (¬5)؛ أى: مطرا هو سبب الرزق، وقد يقال: إن المطر نفسه رزق؛ لأن الرزق بمعنى المرزوق، وكذلك قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً (¬6) وقال الشاعر: أكلت دما إن لم أرعك بضرّة … بعيدة مهوى القرط طيّبة النشر (¬7) ¬

_ (¬1) سورة السجدة: 5. (¬2) سورة البقرة: 193. (¬3) سورة الزمر: 6. (¬4) الحديث ضعيف أخرجه ابن عدى عن ابن عمر، انظر ضعيف الجامع ص 159. (¬5) سورة غافر: 13. (¬6) سورة النساء: 10. (¬7) البيت من مختارات أبى تمام فى ديوان الحماسة لبعض الأعراب من غير تعيين، والإيضاح بتحقيقى 250.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا فى الإيضاح والمراد: أكلت الدية؛ والذى يظهر أنه معكوس وأنه من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى دية موروثه المقتول وكأن المصنف أراد دية القاتل. كأن من أكل الدية أكل دم القاتل، لكن نقول: الدية ليست سببا للدم بل سببا لعصمته، ومنه فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ (¬1) أى: أردت هذا المشهور، وعليه سؤال وهو أنّ الإرادة إن أخذت مطلقا لزم استحباب الاستعاذة لمجرد إرادة القراءة حتى لو أراد ثم عنّ له أن لا يقرأ يستحب له الاستعاذة وليس كذلك وإن أخذت الإرادة بشرط اتصالها بالقراءة استحال تحقق استحباب الاستعاذة قبل القراءة، وفى البخارى أن معنى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ؛ أى: إذا استعذت فاقرأ، وجعل المصنف منه: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ (¬2) أى: أراد بقرينة، فقال: رب، وكذلك: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها (¬3)، أى: أردنا بقرينة، فَجاءَها بَأْسُنا. وفيه نظر؛ لأن الأخص من الفعلين قد يعطف بالفاء على الأعم. تقول: أكرمنى زيد فجاد على. (تنبيه): اعلم أنه دخل فى قولنا: إطلاق السبب على المسبب أو عكسه الأسباب الأربعة: المادى ويسمى القابلى كإطلاق الخشب على السرير، ومثّله الإمام بقولهم: سال الوادى. وفيه نظر؛ لأن الوادى ليس مادة للسيل ولا للسائل، وهذا القسم أعنى السبب المادى، يدخل فى علاقة السببية ويدخل فى علاقة إطلاق الشئ على ما يؤول إليه فإن المادة تؤول إلى مسببها ودخل السبب الصورى وهو أيضا يدخل فى إطلاق الشئ على ما يؤول إليه؛ لأن المادة تؤول إلى الصورة، ومثل الإمام فخر الدين هذا بتسمية اليد بالقدرة. واعترض عليه الأصبهانى بأن القدرة ليست صورة اليد؛ بل لازمة لصورة اليد. وجوابه أنها صورة معنوية قال القرافى: انعكس الأمر على الإمام، وصوابه كتسمية القدرة باليد؛ فإن اليد سبب القدرة. وفيما قاله نظر؛ لأن القدرة هى سبب اليد؛ إذ لا يوضع إلا بها؛ لأن من الواضح أن المعنى باليد هنا إنما هو المعنى المسوغ للتصرف، لا الجارحة، ودخل السبب الفاعلى، سواء أكان فاعلا حقيقة أم لا، كتسمية المطر سماء، وقد ذكرنا أمثلته فى شرح كلام المصنف ودخل السبب الغائى مثل: تسمية العصير خمرا وهى من تسمية الشئ بما يؤول إليه (قوله: أو ما كان عليه) ¬

_ (¬1) سورة النحل: 98. (¬2) سورة هود: 45. (¬3) سورة الأعراف: 4.

أو ما كان عليه؛ نحو: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ (¬1)، أو ما يؤول إليه؛ نحو: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً (¬2)، أو محلّه؛ نحو: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (¬3)، أو حاله؛ نحو: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ (¬4) أى: فى الجنة .... ـــــــــــــــــــــــــــــ إشارة إلى القسم الخامس وهى تسمية الشئ باسم ما كان عليه، كقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، أى: الذين كانوا يتامى؛ لأن الرشيد لا يسمى يتيما حقيقة. ومنه إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً (¬5) واعلم أن قولنا: تسمية الشئ باسم ما كان عليه، عبارة قالها من لا أحصيه عددا وهى عند التحقيق فاسدة؛ فإن اسم ما كان عليه اليتيم والمجرم اليتيم والإجرام لا اليتيم والمجرم، وإصلاح العبارة أن نقول:" باسم" بالتنوين وما صفة له. واعلم أن فى جعل هذا مجازا فى المشتقات التفاتا على أن إطلاق اسم الفاعل باعتبار الماضى مجازا أولا وفيه خلاف، محله كتب الأصول (قوله: أو ما يؤول إليه) إشارة إلى السبب السادس وهو تسمية الشئ باسم ما يؤول إليه كتسمية العنب خمرا فى قوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أى عنبا، ومنه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (¬6) ومنه:" من قتل قتيلا" (¬7) كذا قالوه، وفى ذلك نظر؛ لأن القتيل اسم مفعول، واسم المفعول لا يصدق حقيقة إلا حال تلبس الفعل به، كالمقتول قتل، وهو قتيل لا وهو صحيح، كما أن القنديل ينكسر مكسورا لا صحيحا لأن الكسر والقتل سبب كونه قتيلا ومكسورا والسبب مع المسبب فى الزمان لا يتقدم عليه فليتأمل، فإنه حق وإن كان مخالفا لكلام كثيرين، وأشار إلى السابع بقوله: أو محله أى أقسام المجاز تسمية الشئ باسم محله نحو قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ وفيه نظر، فقد قيل: إنه من مجاز الحذف كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬8) وقد ذكره المصنف فى باب الإيجاز فيلزمه أن يقول بمثله فى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ وإلا فما الفرق؟ (قوله أو حاله) هو القسم الثامن وهو إطلاق اسم الحال على المحل نحو: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة النساء: 4. (¬2) سورة يوسف: 36. (¬3) سورة العلق: 17. (¬4) سورة آل عمران: 107. (¬5) سورة طه: 74. (¬6) سورة البقرة: 2. (¬7) أخرجه البخارى فى" المغازى"، (8/ 29)، وفى غير موضع. (¬8) سورة يوسف: 82.

أو آلته؛ نحو: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (¬1) أى: ذكرا حسنا ... ـــــــــــــــــــــــــــــ أطلقت الرحمة وهى حالة على محلها وهى الجنة. وأشار إلى التاسع بقوله: أو آلته أى تسمية الشئ باسم آلته نحو قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أى ذكرا حسنا فأطلق اسم الآلة وهو اللسان على الذكر ولك أن تقول: هذا من باب إطلاق المحل على الحال؛ لأن الذكر حال فى اللسان فهو كقوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. (تنبيه): قد ذكر المصنف تسع علاقات، وذكر قبلها الراوية للمزادة وهو من مجاز المجاورة، وكأنه استغنى بمثاله عن ذكره فحاصل ما ذكره عشرة إلا أن الأخرى منها هى السابعة كما سبق، وقد زاد غيره علاقات كثيرة تقارب هى وما ذكرناه أكثر من ثلاثين وبعضهم يعددها علاقات، وبعضهم يعدد أقسام المجاز بحسبها، وربما جمعوا بين العبارتين فأخطأوا؛ بأن يقولوا: من العلاقات إطلاق الجزء على الكل وهذه ليست علاقه بل العلاقة الجزئية، منها العشر المذكورة، ومنها مجاز إطلاق اسم الملزوم على اللازم كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (¬2) أطلق الكلام على الدلالة؛ لأنها لازمة له. وفيه نظر؛ لأنه دخل فى إطلاق السبب على المسبب ومنها مجاز إطلاق اللازم على الملزوم، كقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم … دون النّساء ولو باتت بأطهار (¬3) أطلق شد المئزر على الاعتزال؛ لأن الاعتزال يلزمه شد الإزار وفيه نظر؛ لأنه من إطلاق المسبب على السبب ومنها مجاز إطلاق المطلق على المقيد، كقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (¬4) والمراد مؤمنة وهو يرجع إلى التعبير بالجزء عن الكل؛ لأن المطلق جزء المقيد إلا أنه أخص منه؛ لأن الجزء أعم من أن يكون جمليا كالمطلق، أو غير جملى كسقف الدار، ومنها عكسه، وهو أيضا يرجع إلى التعبير بالكل عن الجزء، ومنها الخالى عن الفائدة، وسنفرده بالذكر ومنها مجاز إطلاق العام وإرادة الخاص، ومثلوه بقوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (¬5) ولا يتعين لأن لفظ:" رفيق" يستعمل للواحد والجمع، ثم هذا القسم هو من التعبير بالجزء عن الكل، ومنها عكسه وهو أيضا من ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 84. (¬2) سورة الروم: 35. (¬3) البيت من قصيدة فى ديوان الأخطل: ص 144 وعدد أبياتها 49 بيتا والكامل 1/ 208. (¬4) سورة النساء: 92. (¬5) سورة النساء: 69.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مجاز إطلاق الكل على الجزء، ومنها مجاز تسمية المتعلق باسم المتعلق، كتسمية المعلوم علما ومنها عكسه، وهما يدخلان فيما سبق، ومنها مجاز إطلاق أحد الضدين على الآخر، وإن شئت قلت: تسمية أحد المتقابلين باسم الآخر وهو أعم من الأول، كتسمية اللديغ سليما، والبرية المهلكة: مفازة، ومثله الأصوليون وكذلك المصنف فيما سيأتى من البديع بقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (¬1) ونحوه، وقد تقدم التمثيل بذلك لعلاقة السببية، وتقدم أنه لا يصح تمثيله بقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (¬2). واعلم أنه لا يشترط فى مجاز المقابلة أن تتقدم الكلمة الحقيقة بل قد تتقدم مثل وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (¬3) وقد تتأخر كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (¬4) وقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إن الصدقة تقع فى يد الله تعالى قبل وقوعها فى يد المسكين". وليس منه: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ (¬5)؛ لأن يد الله مغلولة محكى عنهم لم يؤت به للمقابلة. بل قد أغرب الخفاجى فقال فى سر الفصاحة: إن قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (¬6) من مجاز المقابلة؛ لأنه لما ذكرت البشارة فى المؤمنين فى آية أخرى ذكرت فى الكافرين وهذا يقتضى: أن مجاز مقابله لا يشترط فيه ذكر الطرف الحقيقى لفظا؛ بل يسمى كل اسم ثبت لأحد المتقابلين حقيقة أطلق على مقابلة مجازا وفى هذه التسمية نظر؛ لأنها مخالفة لاصطلاح الناس، ومنها مجاز تسمية المستعد لأمر باسمه كتسمية الخمر فى الدن مسكرا، كذا قالوه، وليس بشئ لأن هذا من تسمية الشئ باسم ما يؤول إليه وقد سبق، ومنها مجاز تسمية الشئ باسم مبدله ومثلوه بقولهم:" أكل الدم" أى الدية وقد تقدم التمثيل بذلك للسببية ومثلوه أيضا بقولهم: إنّ لنا أحمرة عجافا … يأكلن كلّ ليلة إكافا (¬7) ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 40. (¬2) سورة آل عمران: 54. (¬3) سورة آل عمران: 54. (¬4) سورة الفتح: 10. (¬5) سورة المائدة: 64. (¬6) سورة التوبة: 34. (¬7) فى الإيضاح بتحقيقى: والإكاف. البرذعة، والضمير للأحمرة التى يصفها أبو حزابة الوليد بن حنيفة فى قوله قبله: إن لنا أحمرة عجافا ص 248.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يصح إلا بأن نقول: أطلق الإكاف على بدل بدله لأن ثمن الإكاف: بدله، والعلف المأكول بدل للثمن وإلا فبدل الإكاف، وهو الثمن ليس مأكولا؛ لأن بيع الإكاف بالعلف يندر، ويحتمل أن يقال: تجوز بالإكاف عن الثمن لعلاقة البدلية، وتجوز تقديرا بالثمن عن العلف من علاقة السببية، وبه يحسن أن يقال: إن هذا مثال لعلاقة البدلية، وأن يقال: هو مثال لعلاقة السببية. ومنها مجاز إطلاق المعرف وإرادة المنكر، كقوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً (¬1)؛ لأن المراد" بابا من الأبواب" كذا قيل، وهو كلام سخيف لأن الألف واللام تأتى للعهد الذهنى، ويؤيده أنّ مصحوب هذه نكرة معنى، وإن كان معرفة لفظا، ومنها مجاز إطلاق النكرة وإرادة العموم كقوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (¬2) وقولهم:" امرأ وما اختار" أى: كل نفس، ودع كل امرئ. وفيه نظر؛ لجواز أن تكون كل هنا مضافا محذوفا، ويحتمل أن يقال: أريد حقيقة النفس التى هى أعم منها بقيد الوحدة والتعدد، ومنها مجاز إطلاق المعرف بالألف واللام وإرادة الجنس. نحو: الرجل خير من المرأة، وهو كلام ضعيف أيضا؛ لأن الألف واللام للجنس حقيقة، إلا أن يخرج ذلك على أنها حقيقة فى العموم، فاستعمالها فى غيره مجاز، ويلزم على هذا أن تكون الأداة العهدية مطلقا مجازا، ويفسده قول صاحب المحصول وغيره: الألف واللام للعموم عند عدم المعهود، ومنها مجاز النقص والزيادة، وسيأتيان فى كلام المصنف، ويتبين أنهما ليسا مجازين فى الحقيقة ومنها مجاز المشابهة، وهو الاستعارة، وسيأتى مفردا بالذكر. (تنبيه): قسم السكاكى المجاز المرسل إلى: مفيد، وخال عن الفائدة، وجعل الخالى عن الفائدة ما استعمل فى أعم من موضوعه، كالمرسن فإنه مستعمل فى الأنف لا بقيد كونه لمرسون وهو فى الأصل موضوع له بقيد كونه مرسونا، وكالمشفر فى قولنا:" غليظ المشافر" إذا قامت قرينة على أن المراد الشفة لا غير. قال المصنف: والشيخ عبد القاهر جعل الخالى عن الفائدة ما استعمل فى شئ بقيد مع كونه موضوعا لذلك الشئ بقيد آخر من غير قصد التشبيه، ومثله ببعض ما مثل به السكاكى، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 58. (¬2) سورة الانفطار: 5.

الاستعارة

الاستعارة والاستعارة قد تقيد بالتحقيقيّة؛ لتحقق معناها (¬1) حسّا أو عقلا؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ونحوه مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضو من الإنسان، وإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة كقولهم فى موضع الذم: غليظ المشفر، فإنه بمنزلة أن يقال: كأن شفتيه فى الغلظ مشفر البعير. (تنبيه): إذا كان للمجاز علاقتان أو أكثر واحتمل التجوز عن كل، فمقتضى كلام الأصوليين أن أقوى العلاقات اعتبار الجزئية بأن يطلق الكل ويراد البعض. ألا ترى أنهم جعلوا التخصيص خيرا من المجاز، والتخصيص من إطلاق الكل وإرادة البعض، على ما ذكره الإمام فخر الدين وإن كان فيه خدش فإن دلالة العموم كلية لا كل، ومرادنا بالتخصيص إطلاق العام وإرادة الخاص، ولا إشكال فى أن إطلاق الكل على الجزء أولى من عكسه لاشتمال الكل على الجزء، فإن إطلاق السبب على المسبب أولى من عكسه؛ لاقتضاء السبب مسببا معينا بخلاف العكس، وأن أقوى الأسباب السبب الغائى لاجتماع السببية والمسببية فيه، وأن إطلاق الملزوم على اللازم أولى من العكس؛ لعدم اقتضاء الثانى الأول، إلا أن يكون لازما مساويا، وأن إطلاق الحال على المحل أولى من عكسه؛ لاستحالة وجود الحال دون محل. واعلم أن للحقيقة والمجاز مباحث شريفة وتحقيقات لطيفة، ذكرتها فى شرح المختصر فعليك بمراجعتها. الاستعارة: ص: (والاستعارة قد تقيد بالتحقيقية إلخ). (ش): هذا هو القسم الثانى من قسمى المجاز وهو ما كانت علاقته تشبيه معناه بموضوعه كما قال المصنف، وعلى ما حققناه ما كانت علاقته التشبيه بشرط قصد المبالغة، ومن الناس من يطلق الكلام على الاستعارة ومنهم من يقيدها بالتحقيقية وإنما كان كذلك لأن الاستعارة تنقسم إلى: استعارة بالكناية وغيرها، والاستعارة بالكناية تنقسم إلى: مصرح بها وغيره، فالمصرح بها تنقسم إلى تحقيقية وتخييلية، فالاستعارة ثلاثة أقسام: مصرح بها تحقيقية وهى أن يذكر المشبه به مرادا به المشبه ويكون المشبه ¬

_ (¬1) أى المشبه.

كقوله [من الطويل]: لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف أى: رجل شجاع، ـــــــــــــــــــــــــــــ أمرا تحقيقيا إما حسا أو عقلا، ومصرح بها خيالية وهى أن يكون المشبه المتروك أمرا وهميا لا تحقق له فى الخارج، واستعارة غير مصرح بها وهى الاستعارة بالكناية وهو ذكر المشبه مرادا به المشبه به مثل: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها (¬1) هذه طريق السكاكى، فالاستعارة عنده حينئذ ثلاثة أقسام كلها مجاز، والمصنف يرى أن الاستعارة على التحقيق مع التحقيقية. أما الاستعارة بالكناية: فليست عنده استعارة فى الحقيقة؛ لأن المنية عنده مستعملة فى موضوعها كما سيأتى. وأما التخييلية: وهو ما إذا كان المشبه وهميا؛ فلأنها عنده لا تستعمل إلا تبعا للاستعارة بالكناية وسيأتى إفرادها بالذكر فلذلك أطلق هذا الفصل، ثم قال:" وقد تقيد بالتحقيقية" أى بناء على انقسامها إلى النوعين فيفيد حينئذ التخصيص؛ لإفراد تلك بفصل، أو بقيد للإيضاح، إن مشينا على رأيه وعلى القولين فنجعل هذا الباب مقصورا على الاستعارة التحقيقية، وإنما تقيد بالتحقيقية لتحقق معنى الاستعارة فيها؛ لأن المشبه فى غيرها ليس محققا، وما ليس محققا ليس جديرا بأن يستعار له لفظ موضوع لغيره، ويحتمل أن يكون التقدير سميت تحقيقية لتحقق معناها، أى معنى الاستعارة وهو المشبه، وتحقق ذلك المعنى تارة يكون حسا وتارة يكون عقلا، فالحسى كإطلاق الأسد على الرجل الشجاع فى نحو قول زهير: لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف … له لبد أظفاره لم تقلّم (¬2) ¬

_ (¬1) فى الإيضاح بتحقيقى ص: 277: والبيت من الكامل، وهو لأبى ذؤيب فى شرح أشعار الهذليين/ 8، وتهذيب اللغة 11/ 380، 14/ 260 وفى سمط اللآلئ ص 888، وأمانى القالى 2/ 255، وكتاب الصناعتين ص 284، وللهذلى فى لسان العرب 12/ 70 (تمم)، وبلا نسبة فى لسان العرب 1/ 757 (منشب)، وتاج العروس 4/ 268 (نشب)، (تمم). (¬2) البيت لزهير فى ديوانه ص 23، من معلقته المشهورة التى يمتدح فيها الحارث بن عوف، وهرم بن سنان. انظر الإيضاح بتحقيقى ص 254، والطراز ج 1 ص 232.

وقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (¬1) أى: الدّين الحقّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أسدا هنا استعارة تحقيقية؛ لأن معناه وهو الرجل الشجاع أمر محقق حسى، وتارة يكون عقليا كقولك:" أبديت نورا" تريد حجة فإن الحجة عقلية لا حسية، فإنها تدرك بالعقل، وليست الألفاظ هى الحجة، فتكون حسية، بل الألفاظ دالة على الحجة، وكذلك قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أى الدين الحق، فإن الصراط حقيقة فى الطريق الجادة. واختلفوا فى قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬2) فظاهر كلام الزمخشرى أنها عقلية؛ لأنه قال: شبه ما غشى الإنسان من بعض الحوادث باللباس؛ لاشتماله على اللابس. وظاهر كلام السكاكى أنها حسية؛ لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبس الإنسان عند جوعه وخوفه من انتقاع اللون ورثاثة الهيئة. قلت: وليس كلام الزمخشرى واضحا فى أن المشبه عقلى؛ لأنه جعل المشبه ما غشى الإنسان من بعض الحوادث، فقد يريد به ما يحصل من الجوع والخوف من انتقاع اللون كما قال السكاكى. واعلم أن قولنا: إن المشبه هنا عقلى أو حسى إنما نريد بالحسى فيه الحس الحقيقى لا الخيالى، فإن الخيالى داخل هنا فى حكم الوهمى فيكون من قسم الاستعارة التخييلية، ونريد بالعقلى أعم من الوجدانى، ألا ترى أن الجوع والخوف وجدانيان وقد سموهما عقليين، ونريد بالوهمى أعم من الخيالى، وهذا كله على خلاف الاصطلاح السابق فى أركان التشبيه، فإنا ألحقنا الخيالى بالحسى، والوهمى بالعقلى، ثم اعلم أن هذه الآية سيأتى ذكرها عند الكلام على تحقيق معنى الاستعارة التخييلية، وسيأتى على كون المشبه هنا عقليا إشكال، وعلى جعل هذا استعارة إشكال، وكلاهما يناقض هذا فليطلب من موضعه. واعلم أن ما جزم به المصنف من كون الاستعارة فى اللباس تحقيقية إما عقلية أو حسية، مخالف لما قاله السكاكى من أنها تخييلية، والحق أنها عقلية، لأن الضرر الحاصل بالجوع والخوف محقق. قال فى الإيضاح: ومن لطيف هذا الضرب ما يقع التشبيه فيه فى الحركات كقول أبى دلامة يصف بغلته أرى الشّهباء تعجن إن غدونا … برجليها وتخبز باليدين (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: 5. (¬2) سورة النحل: 112. (¬3) أبو دلامة هو زيد بن الجوات، شاعر من رجال السفاح، والمنصور، والمهدى. الإيضاح بتحقيقى ص 254. ب (إذ عذونا) بدلا من (إن غدونا).

ودليل أنها مجاز لغوىّ: كونها موضوعة للمشبّه به، لا للمشبّه، ولا للأعمّ منهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ ص: (ودليل أنها مجاز لغوى إلخ). (ش): قد علمت أن هذا الباب معقود للاستعارة التحقيقية، والاستعارة لفظ تضمن تشبيه معناه بما وضع له، والمراد بمعناه ما عنى به، أى ما استعمل فيه، وبهذا علم أن الاستعارة لا بد لها من الاستعمال فى غير موضوع اللفظ، فخرج بهذا نحو:" زيد أسد" فإنه تشبيه على رأى المصنف، ونحوه:" رأيته أسدا" فكل منهما تشبيه كما سبق، وخرج به نحو:" رأيت به أسدا" فليس استعارة ولا تشبيها، بل هو تجريد، وسيأتى الكلام عليه إن شاء الله - تعالى - وحاصله أن الكلام إذا اشتمل على المشبه به، فالمشبه إما أن يكون - أيضا - مذكورا لفظا أو تقديرا أو لا، فإن لم يكن الكلام استعارة - وليس تشبيها بلا خلاف - مثل:" لقيت أسدا" تريد شجاعا، كذا قال المصنف، وليس كما قال، فالخلاف فيه موجود. قال أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم فى كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء: التشبيه بغير حرف شبيه بالاستعارة فى بعض المواضع، والفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يسوغ فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه ألا ترى إلى قول الوأواء الدمشقى: فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت … وردا وعضّت على العنّاب بالبرد (¬1) يسوغ لك أن تقدره:" وعضت على مثل العناب بمثل البرد"، وكذلك سائر ما فى البيت، ولا يسوغ ذلك فى الاستعارة نحو قول ابن نباتة حتى إذا بهر الأباطح والربا … نظرت إليك بأعين النوار لأنه لا يصح أن تقدر:" نظرت إليك بمثل أعين النوار" اه والتحقيق أنه إن لم يصح تقدير أداة التشبيه فهو استعارة، وإن صح فيحتمل أن يكون استعارة وأن يكون تشبيها، فإذا قلت:" رأيت أسدا" جاز أن يكون تشبيها، والمشبه به باق على حقيقته على تقدير الحذف، وأن يكون استعارة ولا تقدير، وعليه أنشد الأدباء بيت الوأواء لأنه مقصود الشاعر، وذلك يفهم من كل مكان على حسبه، والغالب عند قصد ¬

_ (¬1) ديوان الوأواء الدمشقى ص 74، دلائل الإعجاز، وصدر البيت فيه:" فأسبلت" ص 449، والمصباح ص 120.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ المبالغة إرادة الاستعارة، كقوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً (¬1) وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬2) وإن كان المشبه مذكورا، فالمشبه به إن كان خبر مبتدأ أو نحوه مثل:" كان"،" وإن" أو المفعول الثانى من باب علمت، فقد تقدم الكلام عليه، وإن رأى المصنف أنه تشبيه، والمختار جواز الأمرين فيه، فنحن ننازعه فى تعين" زيد أسد" للتشبيه، كما ذكرناه فيما سبق، وننازعه فى تعين" رأيت أسدا" للاستعارة، كما ذكرناه الآن، وإن لم يكن المشبه به كذلك فهو تجريد، وسيأتى الكلام عليه إذا تقرر هذا، فالاستعارة اختلف فيها، هل هى مجاز لغوى أو عقلى؟ والشيخ عبد القاهر يردد القول بينهما، فالجمهور على أنها مجاز لغوى، وإليه ذهب المصنف، والحاتمى شيخ السكاكى، بمعنى أن" أسدا" من قولك:" رأيت أسدا" مستعمل فى غير موضوعه، واستدلّ عليه بأن القرينة منصوبة معه، ولو كان حقيقة لما احتاج إلى القرينة، وهو ضعيف، فإن القرينة قد تكون لإرادة الأسد الذى هو إنسان بالدعاء، واستدل المصنف عليه بأنها، أى: بأن لفظها أى اللفظ المستعمل فيها موضوع للمشبه به فإن لفظ" الأسد" موضوع للحيوان المفترس لا للمشبه، وهو الرجل الشجاع، ولا لشئ له الشجاعة أعم من أن يكون الرجل الشجاع، أو الحيوان المفترس، وإذا لم يكن موضوعا للرجل الشجاع ولا لأعم منه ومن غيره كان مستعملا فى غير ما وضع له وهو شأن المجاز، وإنما قال: ولا لأعم منه؛ لأن اللفظ لو كان موضوعا لأعم منهما لكان متواطئا، أو مشككا، فيكون حقيقة بالنسبة إليهما. وقد يعترض على هذا بأن يقال: إطلاق المتواطئ على أحد نوعيه مجاز على قول مشهور، لكن ليس هذا موضع تحقيق هذا البحث، وقد حققناه فى شرح مختصر ابن الحاجب، وأيضا فالمصنف قال فى الإيضاح: لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله فى الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه، وهذا المعنى، وهو لزوم عدم التشبيه لازم للتواطؤ سواء أكان استعماله فى أحدهما حقيقة أم مجازا؛ لأن التجوز فى إطلاق الأعم على الأخص باعتبار زيادة قيد الشخص لا باعتبار تشبيه معناه بأصله، فهو للتحقيق، أى ليس للتشبيه سواء أكان حقيقة أم مجازا، وبهذا ظهر الجواب عن قول الخطيبى: لا نسلم أنه ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 13. (¬2) سورة النحل: 112.

وقيل: إنها مجاز عقلى بمعنى: أن التصرّف فى أمر عقلىّ لا لغوى؛ لأنها لما لم تطلق على المشبّه، إلا بعد ادّعاء دخوله فى جنس المشبّه به. كان استعمالها فيما وضعت له؛ ولهذا صحّ التعجّب فى قوله [من الكامل]: قامت تظلّلنى من الشّمس … نفس أعزّ علىّ من نفسى قامت تظلّلنى ومن عجب … شمس تظلّلنى من الشّمس ـــــــــــــــــــــــــــــ للتحقيق إذ الوضع لأعم منهما. واستدل المصنف فى الإيضاح بأنه لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس وفيه نظر؛ لأن الخصم يقول: اسم الجنس موضوعه حيوان شجاع، ولعمرى لقد كان المصنف مستغنيا عن الاستدلال على هذا فإنه لا ينازع أحد أن الاستعارة موضوعة فى الأصل لمعناها الأصلى، وأنها ليست موضوعة للأعم، إنما النزاع فى شئ وراء ذلك، كما سنبينه، وإن كان المصنف قصد أن يستوعب الأقسام الممكنة فبقى عليه أن يكون اللفظ موضوعا لكل منهما بالاشتراك وقيل: الاستعارة مجاز عقلى، بمعنى أن التصرف فيها فى أمر عقلى لا لغوى، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، فلما لم تطلق الاستعارة على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، كان استعمالها فيما وضعت له فيكون حقيقة لغوية ليس فيها غير نقل الاسم وحده، وليس نقل الاسم المجرد استعارة؛ لأنه لا بلاغة فى مجرد نقل الاسم؛ لأن الأعلام المنقولة نحو:" يزيد، ويشكر" ليست استعارة، فلم يبق إلا أن يكون مجازا عقليا، بمعنى أن العقل جعل حقيقة الأسد أعم من الرجل الشجاع، وأطلقه عليه، فنقل الاسم تبع لنقل المعنى، قالوا: ولذلك صح التعجب فى قول ابن العميد: (¬1) قامت تظلّلنى من الشمس … نفس أعزّ علىّ من نفسى قامت تظلّلنى ومن عجب … شمس تظللنى من الشمس وصح النهى عنه أى عن التعجب فى قوله: ¬

_ (¬1) الإيضاح بتحقيقى ص 259، المفتاح ص 371، أسرار البلاغة ج 2/ 165، نهاية الإيجاز ص 253.

والنهى عنه قوله [من المنسرح]: لا تعجبوا من بلى غلالته … قد زرّ أزراره على القمر وردّ: بأن الادعاء لا يقتضى كونها مستعملة فيما وضعت له، وأمّا التعجّب، والنهى عنه: فللبناء على تناسى التشبيه؛ قضاء لحقّ المبالغة. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تعجبوا من بلى غلالته … قد زرّ أزراره على القمر (¬1) ومنه قوله: ترى الثياب من الكتّان يلمحها … نور من البدر أحيانا فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها … والبدر فى كلّ وقت طالع فيها (¬2) وتسميتهم هذا تعجبا نظرا إلى اللغة، فإن قوله:" من عجب" ليس تعجبا اصطلاحيا، وهذان البيتان أحسن مما قبلهما، فإن الذى يقال: إنه يبلى بنور القمر: هو الكتان، لا مطلق الغلالة. ووجه التعجب أن الشمس الحقيقية لا تظلل من الشمس؛ لأنها تحتاج إلى ما يظلل منها لنورها، والبدر الحقيقى يتعجب من عدم تأثيره فى بلى الكتان، فلو لم يكن حقيقة لما تعجب، ورد على هذا القائل فيما احتج به. أما قوله: إنها لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، فذلك لا يخرج اللفظ عن كونه مستعملا فى غير ما وضع له، فإن قلت: كيف لا يخرجه (¬3) وادعاء أنه أسد حقيقى كقوله: هذا أسد حقيقى وذلك يصيره حقيقة. قلت: لأن ادعاء ذلك ليس حقيقيا، بل ادعاء مجازيا. وفيه نظر، فإن الادعاء المجازى مضمون الجملة لا مضمون الاستعارة فقط، وأما التعجب والنهى فللبناء على تناسى التشبيه قضاء لحق المبالغة، وفيهما أيضا نوع تجوز، ويحتمل أن يقال: الاستعارة هنا أصلها التشبيه من كل وجه مبالغة، فهو كالتشبيه المشروط فى نحو قوله: ¬

_ (¬1) البيت لابن طباطبا العلوى، وهو الحسن محمد بن أحمد المتوفى سنة 322 هـ، الطراز 2/ 203، نهاية الإيجاز ص 253 والمصباح ص 129، انظر الإيضاح بتحقيقى ص 259. (¬2) البيتان لأبى المطاع ناصر الدولة بن حمدان، أسرار البلاغة ج 2 ص 168، المفتاح ص 371، الإشارات ص 210، الطراز ج 1 ص 213، والمصباح ص 130، والإيضاح بتحقيقى ص 259. (¬3) قوله: وادعاء أنه أسد إلخ هكذا فى الأصل وفى الكلام سقم ظاهر فحرره كتبه مصححه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ آراؤه مثل النّجوم ثواقبا … لو لم يكن للثاقبات أفول (¬1) فإن المراد أنها مثل النجوم من كل وجه، فلذلك شرط عدم الأفول فتقدير الكلام هنا فى التعجب: كيف لا تبلى غلالته، وهو كالبدر من كل وجه، وحينئذ فالتعجب لا ينافى المجاز، وإذا كان قولنا:" كالبدر من كل وجه" لا ينكر التعجب بما ذكر، فالاستعارة التى هى أبلغ منه أولى، إلا أن يقال: بلى الغلالة ليس من الأوجه التى يقصد أن يشبه بها المستعار له، لأنه ليس وصفا مقصودا، ومعنى قولنا:" هو كالبدر من كل وجه" أى كل وجه حسن مقصود. ثم أورد السكاكى أن الإصرار على ادعاء الأسدية للرجل الشجاع ينافى نصب القرينة المانعة من إرادة السبع المخصوص، كقولك: جاء أسد يرمى بالنشاب، وأجاب بمنع المنافاة، لأن مبنى دعوى الأسدية لزيد على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان: قسم متعارف، وهو الحيوان المعروف، وغير متعارف، وهو الذى له تلك القوة والجراءة، لا مع تلك الصورة، بل مع صورة أخرى على نحو ما ارتكب المتنبى فى عد نفسه وجماعته من جنس الجن، وعد جماله من جنس الطير حيث قال: نحن قوم ملجنّ فى زىّ ناس … فوق طير لها شخوص الجمال (¬2) ومنه قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع وقوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (¬3)، وقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس … إلا اليعافير وإلا العيس (¬4) ¬

_ (¬1) البيت لرشيد الدين الوطواط محمد بن محمد بن عبد الجليل بن عبد الملك المتوفى سنة 573 هـ الإشارات ص 198، والإيضاح ص 239، لكن صدر البيت بلفظ" عزماته". (¬2) الإيضاح بتحقيقى ص 260. (¬3) سورة الشعراء: الآيتان (88، 89). (¬4) لجران العود النميرى، ديوانه ص 97 ويروى: بساسا ليس بها أنيس * … إلا اليعافير وإلا العيس المصباح ص 127، المفتاح ص 372، الإشارات ص 211 والإيضاح بتحقيقى ص 260.

والاستعارة: تفارق الكذب: بالبناء على التأويل، ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر. ولا تكون علما؛ لمنافاته الجنسيّة؛ إلا إذا تضمّن نوع وصفيّة؛ كحاتم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا قال السكاكى، وفيه نظر؛ لأن البيت والآية على أحد القولين الاستثناء فيهما منقطع، وإذا كان منقطعا فلا نقدر أن المستثنى فرد من أفراد المستثنى منه، إذ لو قدرناه وأطلقنا المستثنى منه على أعم من المستثنى لكان الاستثناء متصلا؛ ولذلك كان الاستثناء المنقطع بتقدير لكن، وما بعده جملة، كما صرح به الأكثرون فلو قدرنا المستثنى داخلا فى المستثنى منه مجازا لكان متصلا. وقول النحاة: إن الاستثناء المنقطع لا بد فيه من المناسبة، لا يعنون به أنا نطلق المستثنى منه على أعم منه مجازا قبل الاستثناء، بل يعنون أن المناسبة شرط لصحة استعمال" إلا" بمعنى" لكن"، فالتجوز فى المنقطع إنما هو فى استعمال إلا بمعنى لكن لا فى المستثنى منه، وإن كان قد وقع فى كلام بعض النحاة ما يوافق كلام السكاكى، والتحقيق ما قلناه، ويدل لصحة ما قلناه أن الزمخشرى ذكر هذا الوجه ثم قال:" ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، فدل على تغايرهما. الاستعارة تفارق الكذب: ص: (والاستعارة تفارق الكذب إلخ). (ش): شرع فى أحكام الاستعارة فالأول منها أنها ليست بكذب لأمرين: أحدهما خفى معنوى، وهو البناء على التأويل؛ لأن الكاذب غير متأوّل، والمستعير متأول ناظر إلى العلاقة الجامعة وقد التبس ذلك على الظاهرية، فادعوا أن المجاز كذب، ونفوا وقوعه فى كلام المعصوم، وهو وهم منهم، الثانى: أمر ظاهر لفظى، أو غير لفظى، وهو كالفرع عن الأول أن المجاز ينصب قائله قرينة تصرف اللفظ عن حقيقته، وتبين أنه أراد ظاهره الموضوع له. ص: (ولا تكون علما إلخ). (ش): لما قرر المصنف أن الاستعارة لا بد لها من ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، علم أن المشبه به لا بد أن يكون جنسا، فاستحال أن يكون اللفظ المستعار علما، لأنه ليس موضوعا لجنس يمكن أن يدعى دخول المشبه فيه ويرد على المصنف أمران:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن هذه علة تستلزم أحد نوعى المدعى، وهو علم الشخص أما علم الجنس، فما ذكره لا يقتضى أن يمتنع التجوز به إلى غيره فيقال:" رأيت أسامة" يعنى" زيدا الشجاع" والظاهر أن ذلك جائز، وقد قررت فى شرح المختصر أن علم الجنس كلى، وأن ما أطلقوه من أن الأعلام جزئية محمول على أعلام الأشخاص. الثانى: أنه لو كانت العلة فى امتناع أن تكون الاستعارة علما ما ذكره لجاز التجوز فى الأعلام بالمجاز المرسل؛ لأنه ليس فيه مشبه ولا مشبه به، ولا ادعاء، والظاهر أن ذلك لا يجوز فلا نقول:" جاء زيد" تعنى" رأسه"، وقد صرح بذلك الإمام فخر الدين فى المحصول، حيث قال: إن نحو: رأيت زيدا، وضربت زيدا مجاز عقلى، لأن الأعلام لا يتجوز عنها، ويشهد لذلك أيضا أن المجاز فرع الحقيقة، والعلم ليس حقيقة ولا مجازا، فكيف يتجوز عنه. واستدل المصنف فى الإيضاح على أن الاستعارة لا تدخل فى الأعلام بأن العلم لا يدل إلا على تعيين شئ من غير إشعار بأنه إنسان أو غيره فلا اشتراك بين معناه وغيره إلا فى مجرد التعيين. ونحوه من العوارض العامة التى لا يكفى شئ منها جامعا فى الاستعارة (قوله: إلا إذا تضمن نوع وصفية كحاتم) يشير إلى أن العلم إذا تضمن وصفا كما أن اسم حاتم تضمن وصف الجود لشهرته به ومادر تضمن وصف البخل وما أشبههما، فيجوز أن يقال:" جاء حاتم" تعنى" زيد" (قلت): ولا حاجة لهذا الاستثناء بل هو منقطع؛ لأن ذلك إنما يفعل بعد تنكير العلم وتنكير العلم قد يكون تقديرا، وهذا منه، ومنه قول أبى سفيان: لا قريش بعد اليوم. فالاستعارة حينئذ لم تلاق العلم، بل لاقت النكرة، ويسمى هذا حينئذ استعارة تبعية، كما سيأتى. وقد قيل: إنها تتحمل الضمير وأما قوله: إن نحو:" حاتم" تضمن وصفا، فليس كذلك، فإن لفظ" حاتم" لم يتضمن الجود، ولم يدل عليه لا قبل العلمية، ولا معها، ولا بعدها، وإنما مسمى العلم موصوف يوصف اشتهر عنه وعبارته توهم أن المراد الأعلام المنقولة من الصفات، كالفضل مثلا، فإنه لو اشتهر شخص سمى بالفضل بفضل، جاز أن تقول: مررت بالفضل، مريدا شخصا يشبهه فى الفضل، فذلك واضح، ويمكن ادعاء دخول الاستعارة فيه، كما قيل: إنه يتحمل ضميرا، لكن ليس هذا المراد بدليل التمثيل بحاتم ومادر، وقوله: تضمن الوصفية يوهم هذا. وحاتم الطائى

وقرينتها: إما أمر واحد؛ كما فى قولك: رأيت أسدا يرمى خ خ، أو أكثر؛ كقوله (¬1) [من الرجز]: فإن تعافوا العدل والإيمانا … فإنّ فى أيماننا نيرانا ـــــــــــــــــــــــــــــ خبره فى الجود مشهور، ومادر رجل من هلال بن عامر بن صعصعة، يضرب به المثل فى البخل، تقول العرب:" أبخل من مادر" لأنه سقى إبله فبقى فى أسفل الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر به حوضه بخلا أن يشرب من فضله. القرينة قد تكون أمرا واحدا: ص: (وقرينتها إما أمر واحد إلخ). (ش): لما قدم أن الاستعارة تفارق الكذب بنصب القرينة علم أنها لازمة لها، فتلك القرينة قد تكون أمرا واحدا، وقد تكون أكثر، والمراد بالقرينة ما يمتنع معه صرف الكلام إلى حقيقته. فالأمر الواحد مثل:" رأيت أسدا يرمى" فإن وصفه بالرمى بالنشاب قرينة أنه ليس الحيوان المفترس، والأكثر مثله المصنف يقول بعض العرب: فإن تعافوا العدل والإيمانا … فإنّ فى أيماننا نيرانا (¬2) أى سيوفا تلمع كأنها نيران، فقوله: تعافوا باعتبار كل واحد من تعلقه بالعدل وتعلقه بالإيمان قرينة لذلك، لدلالته على أن جوابه تحاربون وتقهرون بالسيف، كذا قال المصنف. وفيه نظر؛ لأن تعافوا العدل والإيمان إذا كان قرينة فى حصول القهر، فالقهر لا يستلزم السيف، بل يستلزم مطلق العقوبة، فقد تكون بالنيران؛ لأن النار أحد أنواع القتال، فإن قيل: الغالب القتال بالسلاح قلنا: فالقرينة حينئذ ليست ما ذكر فقط، بل هى منضمة إلى هذا. وقول الطيبى: لأن العذاب بالنار لا يكون إلا للواحد القهار، كلام صحيح، إلا أنه استدلال عجيب؛ لأن قائل هذا البيت إن لزم كونه مؤمنا لذكره الإيمان فمن أين لنا أنه لم يتوعد بالنار، وقد يقع من المؤمن عصيانا أو تخويفا سلمناه أليس التوصل إلى الكفار بالتحريق جائزا عند الحاجة إليه بلا إشكال؟ ولو لم يكن جاز أن يراد نار الآخرة ولفظ الإيمان لا ينفى ذلك، على معنى أن أيدى المؤمنين كان فيها نار الآخرة مرسلة على الكفار - سلمنا أنه قرينة تصرفه إلى ¬

_ (¬1) تعافوا: تكرهوا. نيرانا: أى سيوفنا تلمع كأنها النيران. (¬2) الإيضاح بتحقيقى ص 260، والتلخيص فى علوم البلاغة ص 75.

أو معان ملتئمة، كقوله [من الطويل]: وصاعقة من نصله تنكفى بها … على أرؤس الأقران خمس سحائب ـــــــــــــــــــــــــــــ السلاح، فمن أين له أن المراد السيوف جاز أن يراد أسنة الرماح؟ بل أسنة الرماح هى المشبهة فى الغالب بالنار، لأنها أشبه بالشعلة من النار لارتفاعها وسرعة حركتها ولمعانها، وليس مجموع ذلك فى السيف. ثم قد يقال: القرينة هنا أمر واحد له متعلقان لا أمور متعددة، ولو كانت القرينة أمورا متعددة لكانت قرائن لا قرينة هى أكثر من واحد فإن ذلك إنما يتأتى فى الشئ الملتئم من عدة أمور، وذلك قسم سيأتى، والذى يظهر فى البيت أن القرينة مجموع:" فإن تعافوا" مع قوله:" أيماننا" جمع يمين لأن الأول دل على العقوبة، والثانى دل على عدم إرادة النار الحقيقية، فإن الذى هو فى الإيمان السلاح لا النار، فإن الغالب أنه تأجج ولا يطول مكثها فى الأيدى. وقول المصنف: أو أكثر ينبغى أن يكون معطوفا على أمر؛ ليكون تقديره:" إما أكثر من أمر واحد"، فيكون أمور متعددة، ولا يكون معطوفا على قوله:" واحد" فإنه يلزم أن يكون التقدير: أو أمر أكثر من واحد؛ فإن ذلك لا يصح إلا بأن يكون الأكثر من أمر واحد يصدق عليه أمر. وفيه بعد، فإن الأمر ظاهره الوحدة، وإنما يقال:" أمر واحد"؛ لزيادة إيضاح، أو للاحتراز عن الهيئة الاجتماعية (قوله: أو معان ملتئمة) أى معان مرتبط بعضها ببعض، يريد أن تكون القرينة أمرا مركبا، ومثله بقول البحترى: وصاعقة من نصله تنكفى بها … على أرؤس الأقران خمس سحائب (¬1) أراد أنامل الممدوح فذكر أن هناك صاعقة، ثم قال: من نصله فبين أنها من نصل سيفه ثم قال: على أرؤس الأقران، ثم قال:" خمس" فذكر عدد أصابع اليد فبان من مجموع ذلك غرضه كذا قال المصنف، وفيه نظر، أما قوله: أراد أنامل الممدوح، فالأحسن أن يقال: الأصابع كما ذكره هو آخرا والسكاكى ذكر الأنامل أولا، وآخرا، وكان مقصودهما أن تشبيه الأنامل بالسحائب أبلغ من تشبيه الأصابع، لكن قد يعكس؛ لأن الأنامل على الإطلاق أكثر من خمس، وإرادة الأنملة العليا من كل ¬

_ (¬1) البيت للبحترى ديوانه 1/ 179، الطراز 13/ 1 / 231، والإيضاح بتحقيقى ص: 261، ورواية الديوان: وصاعقة من كفه ينكفى بها … على أرؤس الأعداء خمس كتائب والتلخيص فى علوم البلاغة بتحقيق ص: 75.

وهى (¬1) باعتبار الطرفين قسمان؛ لأنّ اجتماعهما فى شئ: إمّا ممكن؛ نحو: (أحييناه) فى قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ (¬2) أى: ضالّا فهديناه، ولتسمّ وفاقيّة ... ـــــــــــــــــــــــــــــ أصبع تكلف لا حاجة له، وأما القرائن، فإن كان المراد استعارة الصاعقة للسيف، فالقرينة لذلك هى قوله:" من نصله" وذكر" السحائب" فإن السحائب ليس من شأنها أن تأتى بالصاعقة، ويكونان قرينتين متفاصلتين لا حقيقة ملتئمة منهما، وأما على أرؤس الأقران فليس قرينة لأن الصاعقة الحقيقية تنكفى على الرؤوس إلا أن يقال: معناه على رؤوسهم دون غيرهم، والصاعقة من شأنها أنها تقصم من واجهته، فإن سلمنا هذا فهى قرينة ثالثة منفصلة، وأما قوله:" ثم قال خمس" فظاهره أن ذكر هذا العدد قرينة، وليس كذلك؛ لأن هذا العدد ليس مصروفا أن ينسب إلى السحائب والخمس، وإن لم يكن لها خصوصية بالسحائب، وليس لها خصوصية فالمصروف معناها، بل القرينة ذكر السحائب، فينبغى أن يقال: ثم قال:" خمس سحائب" وحاصله أن القرينة هنا ليست حقيقة ملتئمة، وإن كان المراد استعارة السحائب للأصابع كما ذكره الطيبى، فالقرينة له ذكر الصاعقة، لأن السحائب الحقيقية لا تنكفى بها الصاعقة، وكذلك قوله:" من سيفه" فإن السحائب لا تنكفى بها السيوف، فهما قرينتان متفاصلتان. الاستعارة باعتبار طرفيها قسمان: ص: (وهى باعتبار الطرفين قسمان إلخ). (ش): الاستعارة تنقسم إلى أقسام، وانقسامها تارة يكون: بحسب اعتبار الطرفين أى طرفى التشبيه المضمر فى النفس، وهما المشبه والمشبه به وتارة باعتبار الجامع، وتارة باعتبار الثلاثة جميعا أى الطرفين، والجامع، وتارة باعتبار اللفظ، وتارة باعتبار أمر خارج عن جميع ذلك. التقسيم الأول باعتبار الطرفين، فهى تنقسم باعتبارهما قسمين: أحدهما أن يكون اجتماعهما أى الطرفين فى شئ ممكنا كقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أى ضالا فهديناه فالإحياء والهداية يمكن أن يجتمعا فى شئ (ولتسم وفاقية) أى تسمى الاستعارة إذا كان طرفاها يمكن اجتماعهما وفاقية؛ لتوافق طرفيها. ¬

_ (¬1) أى الاستعارة. (¬2) سورة الأنعام: 122.

وإما ممتنع؛ كاستعارة اسم المعدوم للموجود؛ لعدم غنائه، ولتسمّ عناديّة، ومنها (¬1) التهكمية والتمليحيّة، وهما ما استعمل فى ضدّه أو نقيضه؛ لما مر؛ نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى أن يكون اجتماعهما فى شئ ممتنعا، والمراد به ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة، وان كانت موجودة؛ لخلوها مما هو ثمرتها، كاستعارة اسم المعدوم للموجود بواسطة عدم غنائه، أى نفعه فإن الموجود والمعدوم لا يجتمعان، وتسمى هذه الاستعارة عنادية، لتعاند طرفيها فى الاجتماع، وكان المصنف مستغنيا عن هذا المثال بأن يجعل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ مثالا للوفاقية والعنادية، فإن" ميتا" الاستعارة فيه عنادية؛ لأنه شبه فيه الموجود الضال بالميت، والضلال والموت لا يجتمعان، لأن الضلال هو الكفر الذى شرطه الحياة؛ ولهذا مثل فى الإيضاح للعنادية بإطلاق الميت على الحى الجاهل (قوله:" ومنها") أى من العنادية التهكمية والتمليحية، وهما لفظ مستعمل فى ضده، أى ضد موضوعه، أو نقيضه كما مر فى التشبيه أن التشبيه قد ينتزع من نفس التضاد لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكم، فيقال للجبان:" ما أشبهه بالأسد" وللبخيل:" هو كحاتم" ونحو قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فالبشارة والإنذار لا يجتمعان فالاستعارة عنادية، ولك أن تقول: استعارة أحد النقيضين للآخر، لم يمثل له المصنف، وقد عطفه على استعارة اسم المعدوم للموجود، واستعارة المعدوم للموجود هو استعارة الوجود والعدم؛ لأن الاستعارة فيهما تبعية وهما نقيضان، إلا أن يقال: النقيضان هما الوجود وأن لا وجود، لا الوجود والعدم، فنقول حينئذ: إن ثبت ذلك، فليكن الوجود والعدم ضدين، وحاصله أن التهكمية والتمليحية إذا فسرنا بما ذكره لزم أن يكون كل استعارة عنادية كذلك، فينبغى أن يفسر التهكمية والتمليحية بما لا يجتمع طرفاه، ولم يقصد فيه تهكم ولا تمليح، وليعم أن إطلاق البشارة لا يكون إلا فى الخير عند الإطلاق، وإن كانت فى أصل اللغة لكل خبر تتغير له البشرة من خير وشر، فتكون حقيقة لغوية، ثم غلب استعمالها فى الخبر السار الصادق بالأول حتى صار استعمالها فى غيره مجازا، وما ذكره المصنف هو المشهور. وقد أغرب الخفاجى، فقال فى سر الفصاحة: إن فبشرهم بعذاب أليم من مجاز المقابلة، لأنه لما ذكرت بالبشارة فى أهل الجنة ذكرت فى أهل النار، وقد تقدم النزاع معه فى ذلك عند الكلام فى مجاز المقابلة. ¬

_ (¬1) أى من العنادية. (¬2) سورة التوبة: 34.

وباعتبار الجامع قسمان؛ لأنه: إما داخل فى مفهوم الطرفين؛ نحو: (كلّما سمع هيعة، طار إليها) (¬1)؛ فإن الجامع بين العدو والطيران: هو قطع المسافة بسرعة، وهو داخل فيهما؛ وإما غير داخل، كما مر (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة باعتبار الجامع قسمان: ص: (وباعتبار الجامع إلخ). (ش): هذا هو التقسيم الثانى، وهو باعتبار الجامع بين المشبه، والمشبه به فقط، وذكر له بذلك الاعتبار تقسيمين وإليهما أشار بقوله: وهما قسمان وأشار إلى الأول بقوله: لأنه أى لأن الجامع بين الشيئين لما داخل فى مفهوم الطرفين، يريد أن يكون الجامع أمرا أعم مما فى كل من الطرفين، فهو داخل فى مفهومهما، كتشبيه ثوب بآخر فى نوعهما، أو فى جنسهما، كما سبق قال: نحو:" كلما سمع هيعة طار إليها"، والذى فى صحيح مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم فى الغازى:" كلما سمع هيعة أو قرعة طار عليه" (¬3) هذا لفظه، وعليه أى على الفرس فإن الجامع بين طار وعدا هو قطع المسافة بسرعة، وهو أمر موجود فى الطرفين اللذين هما العدو والطيران، لأنه أعم منهما. قال الجوهرى: " والهيعة كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع" قال الشاعر: إن يسمعوا هيعة طاروا بها فرحا … منّى وما سمعوا من صالح دفنوا (¬4) كذا فى الصحاح، والبيت لمعتب ورأيته فى شعره: إن يسمعوا ريبة. (قوله:" أو غير داخل") عطفه على قوله:" داخل" يعنى أو لا يكون الجامع داخلا فى مفهوم الطرفين، بأن يكون وجه الشبه صفة على ما سبق، كتشبيه" زيد بالأسد" فى الشجاعة، والوجه المنير والوجه المتهلل بالشمس، فى قولك:" رأيت أسدا وشمسا" وقوله:" وأيضا" إشارة إلى التقسيم الثانى من نوعى تقسيم الاستعارة بحسب الجامع، وإنما لم يجعله من الأصل أربعة أقسام، لأن كلا من القسمين السابقين ينقسم ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب الإمارة باب: فضل الجهاد والرباط (4/ 553)، ط. الشعب، وأوله: من خير معاش الناس لهم رجل .... خ خ. (¬2) من استعارة الأسد للرجل الشجاع. (¬3) أخرجه مسلم فى الإمارة (4/ 553) ط. الشعب. (¬4) اللسان مادة هيع ص: 4737.

وأيضا: إمّا عاميّة، وهى المبتذلة؛ لظهور الجامع فيها؛ نحو: رأيت أسدا يرمى. أو خاصّيّة، وهى الغريبة، والغرابة قد تكون فى نفس المشبّه؛ كقوله [من الكامل]: وإذا احتبى قربوسه بعنانه … علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر وقد تحصل بتصرف فى العامّيّة؛ كما فى قوله [من الطويل]: وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (¬1) إذ أسند الفعل إلى الأباطح دون المطى أو أعناقها، وأدخل الأعناق فى السير. ـــــــــــــــــــــــــــــ لكل من القسمين اللاحقين وعكسه (قوله:" إما عامية") أى الاستعارة تارة تكون عامية، أى منسوبة إلى العوام وهى المبتذلة، لكون الجامع فيها ظاهرا، نحو:" رأيت أسدا يرمى وبحرا يتكلم" وقد تقدم ذكر هذا فى التشبيه، ولعمرى لقد كان المصنف مستغنيا بذكر كثير مما هنالك عن كثير مما ههنا، وعكسه، فإن الاستعارة تشبيه فى المعنى وتارة تكون خاصة، أى لا تستعملها إلا جماعة خواص الناس، وهم أصحاب الأذهان السليمة، وهى الغريبة، لأنها لا يدركها إلا من ارتفع عن درجة العوام. ثم الغرابة قد تكون من نفس الشبه، أى يكون التشبيه غريبا كما فى تشبيه هيئة العنان فى موقعة من قربوس بهيئة الثوب فى موقعة من ركبة المحتبى، كقول زيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا بأنه مؤدب: وإذا احتبى قربوسه بعنانه … علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر (¬2) والقربوس: بفتح القاف والراء، ولا يجوز تسكين الراء إلا ضرورة؛ لأن فعلولا ليس موجودا (وقد تحصل) أى الغرابة (بتصرف فى العامية) بأن يكون التشبيه مشهورا، ولكنه يذكر على وجه غير مشهور، كما فى قوله: ولما قضينا من منى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطىّ الأباطح فإنه استعمل:" سالت" بمعنى سارت بسرعة وسلاسة ولين، حتى كأنها سيل، وأصل تشبيه السير السريع بالسيل معروف، وإنما حسن التصرف فيه أفاد الغرابة، فإنه ¬

_ (¬1) البيت لكثير عزة الإشارات ص 217، وصدره: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، الإيضاح ص: 175، 176. (¬2) الإيضاح بتحقيقى، والبيت لمحمد بن يزيد بن مسلمة. فى الإشارات ص: 216. القربوس: مقدم السرج. علك: مضغ. الشكيم: الحديدة المعترضة فى فم الفرس.

وباعتبار الثلاثة (¬1) ستة أقسام؛ لأن الطرفين إن كانا حسيّين، فالجامع إمّا حسىّ؛ نحو: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا (¬2)؛ فإنّ المستعار منه ولد البقرة؛ والمستعار له الحيوان الذى خلقه الله تعالى من حلى القبط، والجامع لها الشكل؛ والجميع حسىّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسند الفعل إلى الأباطح دون المطى وأعناقها والأنصار، أو وجوههم، حتى أفاد أن الأباطح امتلأت من الإبل. كذا قاله المصنف، وقد يقال: الكلام فى استعارة" سالت"" لسارت" وأما إسناد السيل إلى الأباطح فذلك مجاز آخر إسنادى، لا يتصل بتلك الاستعارة السابقة، وقول المصنف:" وأدخل الأعناق فى السير" يشير إلى أن الباء فى قوله:" بأعناق المطى" للتعدية، نعم قد تحصل الغرابة لإدخال الأعناق فى السير، لأن سرعة سير الإبل أكثر ما تظهر فى أعناقها. وقال فى الإيضاح: قد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات؛ لإلحاق الشكل، بالشكل كقول امرئ القيس: فقلت له لمّا تمطّى بصلبه … وأردف أعجازا وناء بكلكل (¬3) أراد وصف الليل بالطول، فاستعار له صلبا يتمطى به، إذ كان كل صلب يطول عند التمطى، وبالغ بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا، ثم أراد أن يصفه بالثقل على كل قلب ساهر لمكابدته، فاستعار له كلكلا ينوء به أى يثقل. قال عبد اللطيف البغدادى: ينبغى أن لا تبعد الاستعارة جدا، فتعزب عن الفهم، ولا تقرب جدا فتستبرد، وخير الأمور أوسطها. ص: (وباعتبار الثلاثة إلخ) (ش): أى الاستعارة باعتبار الثلاثة، وهى الطرفان والجامع ستة أقسام، وإنما كان باعتبارها، وإن كان التقسيم بالحقيقة للجامع، لأن اختلاف الجامع كان باعتبار ما للطرفين من حسى وغيره، والستة تشبيه محس شئ بمحس شئ بوجه حسى، أو عقلى، أو مختلف، أو عقلى بعقلى، أو مختلفان، والحسى المستعار منه أو عكسه، والثلاثة لا تكون إلا بوجه عقلى، لما سبق فى التشبيه، وعلل كونها ستة بما يتضمن ذكر التشبيه، فقال: لأن الطرفين إن كانا حسيين، فالجامع على أقسام. الأول يكون حسيا مثاله قوله تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فإن المستعار منه حقيقة العجل، وهو ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذى خلقه الله - تعالى - من حلى القبط، والجامع الشكل، والجميع حسى. كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن ¬

_ (¬1) أى المستعار منه والمستعار والجامع. (¬2) سورة طه: 88. (¬3) الإيضاح، ص 265.

وإما عقلىّ؛ نحو: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (¬1)؛ فإنّ المستعار منه كشط الجلد عن نحو الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسّيّان، والجامع ما يعقل من ترتّب أمر على آخر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجامع ليس مجرد الشكل بل الشكل والخوار إما كل منهما على انفراده أو مجموع الأمرين، ومثله قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (¬2) فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المسمى موجا، والمستعار له حركة الإنس والجن أو يأجوج ومأجوج وهما حسيان والجامع ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب قال السكاكى: ومنه قوله عز اسمه: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بينهما هو الانبساط، والثلاثة حسية (قلت): مراد السكاكى: أن الشيب هنا استعارة بالكناية، استعير لفظ الشيب، والمراد النار، بعد ادعاء أن الشيب فرد من أفراد النار، ثم ذكر اشتعل استعارة تخييلية؛ لأن الاستعارة التخييلية، تقترن بالاستعارة بالكناية، وقد اعترض عليه المصنف بأن قال:" ليس ذلك مما نحن فيه؛ لأن فيه تشبيهين: تشبيه الشيب بشواظ النار فى بياضه وإنارته، وتشبيه انتشاره فى الشعر باشتعاله فى سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه، والأول استعارة بالكناية، والجامع فى الثانى عقلى، وكلامنا فى غيرهما. قلت: فيما قاله نظر، أما قوله:" ليس كلامنا فى الاستعارة بالكناية" فصحيح بالنسبة إلى المصنف، فإنه لم يتكلم فى الاستعارة بالكناية فى هذا الباب. أما السكاكى، فإنه ذكر جميع أقسام الاستعارة، ثم عقبها بتقسيم الاستعارة على الإطلاق إلى هذا التقسيم، فكلامه أعم من ذلك، نعم المصنف لا يصح منه هذا المثال؛ لأن الاستعارة بالكناية عنده مستعملة فى موضوعها حقيقة، فلا مدخل له فى هذا القسم، إذ الحقيقة ليس فيها مستعار ومستعار منه، وجامع، وأما قوله:" الجامع فى الثانى عقلى" فليس كذلك لأن الجامع فى الثانى مركب من عقلى وحسى، لأن الانبساط حسى، وتعذر التلافى عقلى، لا يقال: هذا لا ينجى السكاكى من الاعتراض، لأنه جعل الجامع حسيا، لأنا نقول: السكاكى لم يجعل تعذر التلافى جزءا من الجامع، بل قال: الجامع هو الانبساط. ورأى الطيبى (¬3) فى الجواب عن هذا السؤال أن التشبيه ¬

_ (¬1) سورة يس: 37. (¬2) سورة الكهف: 99. (¬3) انظر كلام الطيبى فى التبيان بتحقيقى 1/ 311 - 312 ط المكتبة التجارية - مكة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هنا على سبيل التمثيل، وليس من شرط التمثيل رعاية جميع الألفاظ، بل أن يكون التشبيه منتزعا من عدة أمور متوهمة، سواء حصل ذلك من كلمة واحدة أم من كلمات، وقال: إنه على رأى الزمخشرى لا يكون فيه تشبيهان كما فى الإيضاح، بل ثلاثة: تشبيه الشيب بالكناية، واشتعل بالتخييل والرأس - أيضا - فإنها كالحطب بالنسبة إلى النار وأشار إلى القسم الثانى بقوله: (وإما عقلى) أى تشبيه محسوس بوجه عقلى نحو قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (¬1) فالمستعار منه كشط الجلد عن لحم الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان اللّيل، وهما حسيان، والجامع بينهما ما يعقل من ترتيب أمر على آخر، أى على آخر يضاده ويعقبه، وقد يقال: الجامع خروج شئ من شئ. قال المصنف: وقيل: المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل، وليس بسديد، لأنه لو كان كذلك لقال: فإذا هم مبصرون، ولما قال: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (¬2) أى داخلون فى الظلام. قلت: عبارة السكاكى هى عبارة الإمام فخر الدين والزنجانى، وليس ما ذكره مراد السكاكى، بل مراده بظهور النهار من ظلمة الليل زوال النهار وبقاء الظلمة، غير أنه تجوز فى إطلاق ظهور النهار على زواله، وهذا يستعمل كثيرا، كما تقول: ظهر فلان من هذا المكان أى خرج منه وكتب عمر إلى أبى عبيدة رضى الله عنهما: أظهر من معك من المسلمين إلى الأرض أى اخرج بهم إلى ظاهرها والتحقيق أن ما أراده المصنف وما أراده السكاكى متعاكسان إلا أنهما راجعان لمعنى واحد فإن المصنف بنى على أن النهار والجلد ظرفان للظلمة ولحم الشاة فتقول: سلخت النهار عن الليل كما تقول: سلخت الجلد عن الشاة والسكاكى نبه على أن الظلمة ظرف للنور ألا ترى أنه قال: المستعار له ظهور النهار وظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته فلا بد أن تعتقد أنه أراد الظلمة ظرف للنور ليكون المسلوخ منه مشبها بالمسلوخ منه والمسلوخ مشبها بالمسلوخ ولكل من القولين مرجح أما كلام المصنف فيشهد له أمر أن أحدهما لفظى وهو أن كلام اللغويين يشهد أن المسلوخ هو الجلد والمسلوخ عنه الشاة ونحوها والشاة وإن سميت مسلوخة فلاعتبار أنها مسلوخ عنها الجلد كذا ¬

_ (¬1) سورة يس: 37. (¬2) سورة يس: 37.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يقتضيه كلام جماعة من اللغويين فلا يشك أن النهار هو المسلوخ لأنه مفعول نسلخ فليكن هو الظرف والثانى معنوى وهو أن الظلمة سابقة على النور لسبق الليل على النهار والطارئ على الشئ المستولى عليه هو الجدير بالظرف وأيضا فإن النور هو المنكشف قال الفراء: الأصل الظلمة والنهار طار عليها وهو الذى يشهد له أصول علم الهيئة من أن مخروط النور الحاصل من وقوع شعاع الشمس على وجه الأرض وانعكاسه محيط بمخروط ظل الأرض إحاطة الجلد الأسود بالمسلوخ، فإذا زال ضوء الشمس عن وجه الأفق بواسطة (¬1) مخروط الظل إليه فهو زمان الليل، وأما كلام السكاكى فيرجحه قوله تعالى: " منه" فإن الجلد وإن كان مسلوخا، والشاة مسلوخ عنها إلا أن الشاة مسلوخة من الجلد فحينئذ إن حملناه على الأول لزم تأويل" من" فيه بمعنى عن وتكون للمجاوزة كما قيل فى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (¬2) أى" عن" تأويل" نسلخ"" ينخرج" ويشهد له قول الواحدى فى الآية:" نسلخ" نخرج منه النهار إخراجا، وكذلك قال الرمانى، وبالجملة ما ذكره المصنف أقرب، والقولان مجتمعان على أن المراد زوال النور ووجود الظلمة بغروب الشمس. قال السكاكى: إنما أراد بظهور النور خروجه وزواله بالكلية بالغروب، فلا يبقى سوى الظلمة قال الشيرازى:" السلخ" يستعمل بمعنى النزع، تقول: سلخت الإهاب عن الشاة، أى نزعته عنها، ويستعمل بمعنى الإخراج تقول: سلخت الشاة من الإهاب، فهما صحيحان، وتقدير الآية على الأول نزعنا النهار، وكان كاللباس فصار ليلا، فإذا هم داخلون فى الظلام على الفور، كما هو موضوع الفاء، وتقديرها على الثانى أخرجنا النهار من الليل فلم يبق شئ من الليل، وذلك بطلوع الشمس، ثم أورد على نفسه أنه لو كان كذلك لما قال - تعالى -: فإذا هم مظلمون، والفاء للتعقيب، وأجاب بأن الفاء قد تستعمل لمجرد الترتيب، فالمراد فإذا هم مظلمون بعد انقضاء النهار، ولما كان النهار المتوسط بينهما يزول قطعا جعل كالزائل واستعملت" الفاء" و" إذا" الفجائية. قال: ولا تستقيم إذا الفجائية إلا إذا كان السلخ بمعنى الإخراج، إذ لا ¬

_ (¬1) قوله: بواسطة مخروط كذا فى الأصل ولعل فى الكلام سقطا والأصل بواسطة ميل مخروط إلخ كتبه مصححه. (¬2) سورة الزمر: 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يستقيم أن تقول:" نزعت ضوء الشمس ففاجأ الظلام" كما لا يقال:" كسرت الكوز ففاجأ الانكسار" بخلاف قولك:" أخرجت النهار من الليل ففاجأ الليل" قلت: ما ذكره من أنه لا يقال:" غابت الشمس فإذا الظلام ممنوع" وقد قال - تعالى -: حَتَّى إِذا جاؤُها (¬1) بعد قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً (¬2) وإن كان مجيئهم عقب سوقها إليها، والذى ألجأ الشيرازى إلى هذا التكلف أنه ظن أن ظهور النور من الظلمة لا يكون إلا ببقاء النور ظاهرا وطلوع الشمس. وليس كذلك فإنما يريد السكاكى بخروج النور وظهوره خروجه عن الأفق، فلا يبقى منه شئ عند غروب الشمس وزوال الشعاع والله أعلم. بقى على الجميع اعتراض، وهو أن قولهم: إن الطرفين حسيان والجامع عقلى ممنوع، يحتمل أن يقال: إن ترتيب أمر من هذين على الآخر حسى، فإن خروج الجلد وانصراف النهار وظهور الظلمة والشاة كله محسوس مشاهد فهو حسى، ويمكن أن يقال: كشف الضوء وهو إزالته غير محسوس بل متعقل وإنما المحسوس الضوء نفسه. وقد يجاب عنه بأن إزالة النور هو إغابة الشمس وهو مشاهد وبروز الظلمة مشاهد، وذلك ترتيب لا ترتب، والجامع ليس ذلك بل هو الترتب، فالترتيب حسى والترتب الذى هو أثره عقلى، وكذلك كشف النور عن الظلمة حسى، وانكشافه المرتب على الكشف عقلى، لكن هذا التحقيق يجر إلى فساد أن يكون الترتيب وهو الجامع، ويقتضى أن يكون الجامع هو ترتب شئ على آخر فحينئذ يصح الاعتراض، ويرجع حاصله إلى أن الجامع ليس الترتيب بل الترتب والترتب حسى، ومثل السكاكى استعارة ما طرفاه حسيان ووجه عقلى بقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (¬3) فالمستعار له الريح، والمستعار منه المرأة، والجامع المنع عن ظهور النتيجة والأثر، فالطرفان حسيان والجامع عقلى. قال المصنف: فيه نظر، لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها، ولذلك جعله صفة للريح لا اسما، كأنه يريد أن العقيم هو المستعار منه، وهو صفة فهو عقلى، وقد تقدم لنا فى باب التشبيه الكلام على المستعار من اسم الفاعل ونحوه وأنهم عدوها عقلية، وإن كانت واقعة على ذات كقوله: ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 71. (¬2) سورة الزمر: 71. (¬3) سورة الذاريات: 41.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أخو العلم حىّ خالد بعد موته (¬1) وكلام المصنف واعتراضه ماش على هذا لأن العقيم صفة لا ذات وقد تقدم منا الاعتراض على ذلك بأن قولنا:" أخو العلم حى" معناه رجل حى فى صفة جارية على ذات محسوسة وتلك الذات هى المشبه به، فيكون المشبه به محسوسا، وهذا السؤال جار بعينه هنا، وفيه تأييد لما يقوله السكاكى، بل عقيم أقرب إلى أن يكون محسوسا من نحو الحى والعالم، لأن الحى مدلوله شئ له الحياة لا يدل على خصوص جسم أو غيره، وعقيم ليس مدلوله على ما ذكروه شيئا له العقم بل هو خاص بالعقيم عن الولادة، فمدلوله إنسان له العقم، فقد يقال: إنه من هذه الحيثية أقرب للدلالة على الذات، فيصح ما زعمه السكاكى ويصح بذلك قوله: المستعار له المرء، إما لأن العقيم يفيد ذلك، وإما لأنه ليس المشبه به على التحقيق، بل المشبه به المرء العقيم، والمعنى: إذ أرسلنا عليهم الريح المشبه للمرء العقيم. واعلم أن هذا المكان أشكل على الشيرازى فمن بعده حتى قالوا: إن هذا عند السكاكى استعارة له بالكناية، فإنه ذكر المشبه وهو الريح، ولم يذكر المشبه به وهو المرء، بل ذكرت صفته وهو العقيم، وهو غلط، فإن الاستعارة بالكناية أن يراد بالمشبه المشبه به لادعاء أنه فرد من أفراد المشبه به كما تريد بالمنية السبع لادعاء أن المنية فرد من أفراد السباع، تثبت بذلك اغتيالها الذى هو صفة جنس السباع، وهذا المعنى لا يتأتى هنا لأنه ليس الغرض إثبات أن الريح فرد من جنس النساء فإن ثبوت ذلك للريح لا يفيد أنها عقيم لأن العقيم ليست صفة ثابتة للنساء مطلقا، ولا غالبا والذى أوقعهم فى ذلك قول السكاكى: إن المشبه به المرء، وهو لا يريد أن المشبه غير مذكور، بل يريد أن المشبه به المرء المستعار من لفظ العقيم على ما سبق فليتأمل، ثم قال المصنف: الحق أن المستعار منه ما فى المرأة من الصفة التى تمنع الحمل، المستعار له ما فى الريح من الصفة المانعة من إنشاء المطر وإلقاح الشجر والجامع لهما ما ذكر وهو المنع من ظهور الشجر اه. وفيه نظر؛ لأن المستعار منه وهو اللفظ المجازى المسمى بالاستعارة وهو هنا لفظ عقيم فكيف يجعل المستعار له الصفة وهى لم تذكر، والاستعارة عبارة ¬

_ (¬1) شطر البيت بلا نسبة فى عقود الجمان 2/ 8 وتمام البيت: أخو العلم حى خالد بعد موته … وأوصاله تحت التراب رميم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عن ذكر أحد طرفى التشبيه، وقال بعضهم: المشبه والمشبه به ههنا الريح، والمرأة وهما حسيان، والاستعارة هنا مكنية لكون المذكور هو المشبه، وهو الريح دون المشبه به، وهو المرأة، والعقيم استعارة تخييلية. واعلم أن جميع ما تقدم هو مبنى على أن استعمال عقيم فى الريح مجاز، وقد قال الجوهرى: يقال:" رجل عقيم وريح عقيم لا تلقح سحابا ولا شجرا فيحتمل أن يكون العقم للريح حقيقة وقال الراغب: أصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر، يقال:" ريح عقيم" يصح أن يكون بمعنى فاعل، وهى التى لا تلقح سحابا ولا شجرا، ويصح أن تكون بمعنى المفعول، كالعجوز العقيم وهى التى لا تقبل أثر الخير، وإذا لم تقبل ولم تتأثر لم تعط ولم تؤثر، ومثل السكاكى أيضا لما نحن فيه بقوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (¬1) قال: فالمستعار له الأرض المزخرفة والمستعار منه النبات وهما حسيان، والجامع الهلاك وهو أمر عقلى قال الشيرازى: وغيره يريد أن الاستعارة هنا بالكناية لكون المشبه مذكورا دون المشبه به بقرينة، وهو الحصد. وفيه نظر، لجواز أن يكون استعارة تحقيقية مصرحا بها بأن يراد بالأرض حقيقتها، وقوله: " حصيدا" أى نباتا حصيدا فالمشبه به فى الحكم المذكور لأن حصيدا صفته التقدير: فجعلناها نباتا وقوله: حصيدا ولا شك أنك إذا قلت: زيد كالراقم على الماء وطرفا التشبيه مذكوران لأن تقديره: كالشخص الراقم، لا يرتاب فى ذلك، ثم إن الزمخشرى قال: التقدير: فجعلنا زرعها حصيدا، مشبه بما يحصد من الزرع، وكأن لم يغن زرعها، على حذف المضاف فى هذه المواضع لا بد منه، وإلا لم يستقم المعنى اه. وهذا يقتضى أنه لا يرى أن هذا استعارة بالكلية، ثم قول السكاكى: إن الهلاك عقلى. فيه نظر، لأن المراد به فى جانب النبات الحصد هو حسى وفى جانب الأرض زوالها وهو حسى، وإلا فأى فرق بين ذاك وبين كشف الضوء عن الظلمة، وكشف الجلد عن الشاة، وكل منهما زوال شئ، وقد جعلهما حسيين، وإن قال: إن الحسى إنما هو الإهلاك لا الهلاك، كما أن الكشف والانكشاف عقلى. قلنا: مسلم، ولكن لا تسلم أن الجامع الهلاك بل هو الإهلاك، لأنه مدلول فجعلناها حصيدا. ¬

_ (¬1) سورة يونس: 24.

وإما مختلف؛ كقولك: رأيت شمسا وأنت تريد إنسانا كالشمس فى حسن الطلعة، ونباهة الشأن. وإلا (¬1) فهما إمّا عقليان؛ نحو: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا (¬2)؛ فإنّ المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل؛ والجميع عقلىّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (مجئ الجامع مختلفا): ص: (وإما مختلف إلخ). (ش): هذا هو القسم الثالث، وهو أن يكون الطرفان حسيين والجامع مختلف فبعضه حسى وبعضه عقلى، كقولك:" رأيت شمسا" نريد إنسانا كالشمس فى حسن الطلعة ونباهة الشأن، والإنسان والشمس وحسن الطلعة حسيات، ونباهة الشأن عقلى. قال المصنف: وأهمل السكاكى هذا القسم، وأجاب عنه بعض الشارحين: بأنه لم يهمله لأن التقسيم إلى حسى وعقلى منفصلة مانعة الخلو فهى تصدق بكل منهما وبمجموعهما فإنها ليست مانعة الجمع. (قلت): والتحقيق أنه إن أريد بالجامع المختلف، أنهما جامعان مستقلان، فهذا القسم داخل فى كلام السكاكى، وأدل دليل على المصنف أنه صنع ما صنع السكاكى فيما سيأتى، فإنه قسم الاستعارة إلى ثلاثة أقسام: مطلقة، ومرشحة، ومجردة، ولم يجعل منها رابعا، وهو مجردة مرشحة، لكن قال: بعد الثلاثة قد يجتمع الترشيح والتجريد فهذا نظير ما صنعه السكاكى فى كونه لم يجعل القسمة رباعية، فإما أن يفسد المصنف الآتى، أو يكون السكاكى لا حاجة به إلى ذكر هذا القسم وإن أريد أنه جامع واحد مركب من أمرين حسى وعقلى فلم يدخل، إذ لا يصدق عليه أنه حسى، ولا أنه عقلى، والظاهر أن المراد الأول؛ لأن حسن الطلعة، ونباهة الشأن جامعان لم يقصد منهما التئام حقيقة واحدة (قوله: و" إلا") إشارة إلى القسم الرابع، أى وإن لم يكن الطرفان حسيين فهما عقليان نحو قوله تعالى: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فإن المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والثلاثة عقلية، وقد يقال: المرقد اسم مكان الرقاد كالمضجع فيكون مستعارا للممات موضع الموت إن كان يطلق عليه، أو للمصدر، فعلى الأول يكون استعارة محسوس لمحسوس بجامع عقلى، ومثل السكاكى لهذا القسم بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) أى: وإن لم يكن الطرفان حسيين. (¬2) سورة يس: 52.

وإمّا مختلفان، والحسى هو المستعار منه، نحو: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (¬1)؛ فإنّ المستعار منه كسر الزجاجة، وهو حسىّ، والمستعار له التبليغ، والجامع التأثير؛ وهما عقليان، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (¬2) فالمستعار منه القدوم، والمستعار له الأخذ فى الجزاء بعد الإمهال، والجامع وقوع المدة فى البين. وفيه نظر، لأن قدوم المسافر حسى، وكون قدومه بعد مدة لا ينفى أن يكون حسيا بقيد عقلى، وكذلك مثل بقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (¬3) استعير نفرغ لنجازى، وهما عقليان، وقد يقال: الفراغ من شغل البدن حسى (قوله: وإما مختلفان) إشارة إلى القسم الخامس، وهو استعارة محسوس لمعقول، كقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فإن المستعار منه كسر الزجاجة وهو حسى. كذا قال المصنف، وفى قوله: إن الصدع كسر الزجاجة نظر، فإن الصدع فى اللغة هو الشق، سواء أكان للزجاجة أم غيرها، والمستعار له التبليغ، والجامع التأثير وهما عقليان، كأنه قال: أبن الأمر إبانة لا تنمحى، كما لا يلتئم صدع الزجاجة، كذا قالوه، وفيه نظر، لأن التبليغ حسى يدرك بحاسة السمع فهما على هذه حسيان، ولو أن المصنف قال: المستعار له إظهار الدين لكان أقرب، فإن الإظهار قد يكون بطريق حسى، أو بطريق عقلى. قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر أى أظهر دينك، ثم إن الآية لم يرد بها مطلق التبليغ، بل التبليغ جهارا، ومطلق التبليغ كان واقعا قبل نزول الآية، والتأثير فى الزجاجة حسى، وفى التبليغ عقلى، فالجامع بعضه حسى، وبعضه عقلى. والسكاكى أخذ فى التبليغ قيد بذل الإمكان وهو قيد عقلى، فهو أقرب من كلام المصنف. ومنه قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ (¬4) أى جعلت كالقبة المضروبة عليهم، أو ملصقة بهم، حتى أنها صارت منهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فالمستعار منه: إما ضرب القبة على الشخص، أو ضرب الطين على الحائط، والمستعار له حالهم مع الذلة، والجامع الإحاطة أو اللزوم، وهما عقليان، وقد يعترض على هذا بأن بعض أهل اللغة وهو صاحب إيراد المقاييس ذكر أن الصدع الإظهار فعلى هذا يكون" اصدع" فى الآية الكريمة حقيقة. ¬

_ (¬1) سورة الحجر: 94. (¬2) سورة الفرقان: 23. (¬3) سورة الرحمن: 31. (¬4) سورة البقرة: 61.

وإمّا عكس ذلك؛ نحو: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (¬1)؛ فإن المستعار له كثرة الماء؛ وهو حسىّ، والمستعار منه التكبّر، والجامع الاستعلاء المفرط؛ وهما عقليان. وباعتبار اللفظ قسمان؛ لأنه إن كان اسم جنس فأصليّة؛ كأسد وقتل، وإلا فتبعيّة (¬2)؛ كالفعل، وما اشتقّ منه، والحرف: ... ـــــــــــــــــــــــــــــ (قوله: وإما عكس ذلك) إشارة إلى القسم السادس، وهو أن يكونا مختلفين، والحسى مستعار له، والعقلى مستعار منه، كقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ فالمستعار له كثرة الماء، وهو حسى، والمستعار منه التكبر، فإن الطغيان حقيقة فى التكبر، والجامع الاستعلاء المفرط، وهما عقليان، وفى إطلاق أن الجامع عقلى نظر، لأن استعلاء الماء حسى، واستعلاء التكبر عقلى، وقد مثل السكاكى وابن مالك فى المصباح لهذا القسم بقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ (¬3) وهو وهم، لأنه استعارة محسوس لمعقول على العكس مما ذكروه، فإن النبذ حسى والتعرض للغفلة عقلى. الاستعارة باعتبار اللفظ قسمان: ص: (وباعتبار اللفظ قسمان إلخ). (ش): الاستعارة تنقسم باعتبار اللفظ قسمين: أصلية، وتبعية. فالأصلية ما كان التجوز به بطريق الأصالة، والتبعية ما كان التجوز به تبعا. وضابطه أن لفظ الاستعارة إن كان اسم جنس فهى أصلية وإلا فتبعية، والمراد باسم الجنس ما وضع للذات إما للأعيان" كأسد، ورجل" أو للمعانى" كالقيام والقعود" وإنما كانت الاستعارة أصلية لأسماء الأجناس لأنها تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا بمشاركته للمشبه به فى وجه، فلا بد أن يكون المشبه به أيضا موصوفا، لأن المشاركة تستدعى شيئا من الطرفين. قال المصنف: وإنما يصلح للموصوفية الحقائق، كقولك:" جسم أبيض" و" بياض صاف" دون معانى الأفعال والصفات المشتقة منها والحروف. فإن قلت: فقد قيل فى نحو:" شجاع باسل"، و" جواد فياض"، و" عالم نحرير" أن باسلا وصف لشجاع، وفياضا وصف لجواد، ونحريرا وصف لعالم. قلت: ذلك متأول بأن ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: 11. (¬2) أى: وإن لم يكن اللفظ المستعار اسم جنس فالاستعارة تبعية. (¬3) سورة آل عمران: 187.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثوانى لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول انتهى كلام المصنف وهو معنى كلام المفتاح، إلا أنه لم يقل: إنما يصلح للموصوفية الحقائق، بل قال: الأصل فى الموصوفية هى الحقائق، وإنما قلنا: الأصل ولم نقل: لا يعقل الوصف إلا للحقيقة قصرا للمسافة حيث يقولون فى نحو: شجاع باسل، وذكر السؤال والجواب، ووافقهما الخطيبى وزاد أن قال: لأن معنى الموصوفية كون الشئ قائما به غيره، ومعنى الوصفية كون الشئ قائما بغيره، فالأصل فى الموصوف أن يكون جوهرا، وفى الصفة أن تكون عرضا (قلت): قولهم: إن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا، مسلم، لكن ليس من شرط التشبيه أن يكون المشبه موصوفا بوصف قائم به، بل أن يصح وصفه بأمر داخل فيه أو خارج عنه حقيقى أو إضافى. وقوله: إنما يصلح للوصفية الحقائق إن أراد قيام الصفة بالموصوف، فمسلم، بل لا يكون ذلك إلا للجواهر، فيلزم أن لا يتجوز بأسماء الأجناس الموضوعة للمعانى، كالعلم والجهل، لأنها لا تقوم بها الصفات، فإن العرض لا يقوم بالعرض عند الجمهور، وإن أراد الصفة المحتاج لها فى التشبيه فتلك لا يشترط فيها ما ذكره. ثم قوله:" إن الوصف إنما يكون للحقائق" يقال عليه: مسلم ذلك، ولكن ما الذى صرف الصفات المشتقة عن أن تكون حقائق، ومدلولها ليس هو الصفة، بل الذات باعتبار الصفة؟ قال ابن الحاجب فى النحو: الصفة ما دل على ذات باعتبار معنى هو المقصود، وقال فى مختصره فى الأصول: الأسود ونحوه من المشتق يدل على ذات متصفة بسواد. وقال الإمام فى المحصول فى باب الاشتقاق: مدلول المشتق مركب، والمشتق منه مفرد. وقال البيضاوى: المشتق ما دل على صفة، فلا شك أن مدلول الضارب ذات متصفة بضرب، واعتبار الوصف فى مدلوله أو اعتبار الزمان لا ينفى كون مدلوله الذات، كما أن اعتبار الناطق فى مدلول الإنسان قيدا فى كونه حيوانا لا ينفى كونه اسما لذات، لا يقال: المراد بالحقائق الذوات المتقررة فيها غير ثابتة، لأنا نقول: الذات بقيد الضرب المسماة بالضارب حقيقة متقررة فى الذهن لا يقال فيها: غير ثابتة، إنما الضرب إذا أخذ صفة للإنسان هو الذى يقال فيه: صفة غير ثابتة فلقائل أن يقول: كل كلى يدخله المجاز، وأطبق الأصوليون على قولهم: اسم الجنس إذا دخلته الألف واللام هل يعم؟ واسم الجنس كلى وغير ذلك لا يريدون به اسم الجنس المصطلح عليه فى العربية بل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلى مشتقا كان أم غيره، وليت شعرى إذا كان الرجل اسم جنس يصح أن يوصف، والضرب القائم به اسم جنس يصح أن يوصف، فالمتركب منهما وهو ضارب ما منعه من أن يوصف، فيستعار منه بحسب المعنى المتركب منهما، أو بحسب أحدهما. واعلم أن الصفة فى المعنى غير الصفة فى اللفظ فأنت إذا قلت: مررت بزيد القائم، فصفة زيد التى تضمنها كلامك فى المعنى هى القيام، وصفته فى اللفظ هى لفظ قائم، وإنما أتينا باسم الفاعل؛ لعدم إمكان وصف الذات بالمصدر، إذ لا يصح أن تقول: مررت بزيد القيام، فاحتجنا إلى الإتيان بالاسم الدال على الذات باعتبار الصفة، وكما أن الصفة لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بموصوفها، كذلك الصفة فى اللفظ لا يمكن إجراؤها على موصوفها إلا بذكر ما يدل على ذاتها، وإذا تقرر هذا فالحقيقة والمجاز قد علمت أنهما لفظان، فالمحكوم بكونه مجازا إنما هو اللفظ، وكون المقصود إنما هو الصفة لا يقضى بأن اللفظ لم يستعمل مدلوله أصالة لغيره، فقد وضح بذلك استشكال ما ذكروه من أن المشتق ليس مجازا بالأصالة، ولم يبق إلا أن يقال:" الناطق" مثلا إذا كان مشتقا من النطق فلا بد أن يكون فرعا له؛ لأن المشتق فرع المشتق منه. ولا بد أن يكون مشتقا من النطق الحقيقى، لأن المشتق شرطه أن يوافق أصله بالمعنى والحروف، فتعين أن يكون مشتقا من نطق مجازى؛ لتكون استعارته تبعية بهذا الاعتبار، وقد يعترض على هذا بمنع اشتمال المشتق على جميع معنى المشتق منه، بل يكون فيه شئ من معناه، وقد يكون بين الضارب المجازى والضارب الحقيقى اشتقاق فى جزء المعنى بقى أن يقال: إذا كان مدلول المشتق مركبا فالتجوز فيه يكون باعتبار الصفة فقط، كما إذا أردت أن تكون الصفة التى اشتق الاسم منها هى الجامع وهذا هو الذى يبتدر إليه الذهن، لأنك إذا شبهت" زيدا" بالقائم" فالظاهر أن تشبهه به فى القيام، لأن ترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فإن كان المصنف يعنى بكون الاستعارة فيه تبعية أن المقصود إنما هو الصفة فى الغالب، فنحن نسلم ذلك، وقد يكون التشبيه باعتبار الذات والصفة معا فيكونان مقصودين بأن يجعل الجامع تلك الصفة، وأمرا آخر يشتركان فيه من جنس، أو نوع، أو غير ذلك على ما سبق فى التشبيه، ويحتمل أن يكون الجامع هو أمر ذاتى فقط، ولا ينظر إلى الصفة وجواز هذا بعيد، ولا يكاد يقع وقد يكون التشبيه فى المشتقات، والاستعارة فيها بحسب الزمان،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ كإطلاق الضارب على من وقع منه ضرب ماض، لا باعتبار إطلاقه عليه لأنه كان عليه، فإن ذلك مجاز مرسل، بل باعتبار تشبيه حالته بعد الضرب بحالته ضاربا، فهو استعارة باعتبار الصفة. وأما قولهم فى:" جواد فياض" أن فياضا صفة لجواد، فالجواب عنه صحيح. إنما القول بأن فياضا صفة جواد، هو أحد القولين. وقيل: إنهما صفتان للجامد قبلهما. وعلى القولين فليس مما نحن فيه، لأن ذلك فى الصفة النحوية، وكلامنا فى الصفة المعنوية. وأما تقرير الخطيبى لما قاله المصنف وأتباعه بقوله: لأن الموصوفية للجوهر لا للعرض فكلام عجيب، لأنه يقتضى أن لا يتجوز بأسماء الأجناس الموضوعة للمعانى، وقد مثل هو بها قبل ذلك فى هذا الكلام، والمصنف والسكاكى لم يقولا: إنما تكون للجوهر، وإنما قالا: إنما تكون للحقائق، والحقائق أعم من الجواهر والأعراض. وقول المصنف:" نحرير" و" باسل" لا يصح أن يكون مثالا للمشتق من الاستعارة؛ لأن باسلا معناه شجاع ليس حقيقة فى" الأسد" حتى يستعار لغيره، والظاهر أن نحريرا حقيقة قال الجوهرى: النحرير، العالم، ثم يرد على الجميع علم الجنس، فإنه يتجوز به قطعا، وكذلك يرد عليهم الأسماء التى أصلها صفات، واستعملت استعمال الأسماء، فإنها لا إشكال أن الاستعارة فيها أصلية حتى إن منها ما لا يحتاج إلى تقدير موصوف قبله، بل يباشر العوامل بنفسه، كقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (¬1) فإن الجوارى هنا لا تحتاج لموصوف قبلها، كما صرحوا به، فإذا سلمت ما ذكرناه فانقل منه إلى الأفعال والحروف ما يمكن نقله، وبالجملة نحن ماشون على ما ذكره الأئمة (قوله: وإلا) أى وإن لم يكن اسم جنس، يعنى والفرض أنها استعارة حتى لا يرد عليه الأعلام، فإنها ليست مجازات. الاستعارات الواقعة ضمائر أو أسماء إشارات: واعلم أن الاستعارات الواقعة ضمائر، أو أسماء إشارات لها حكم ما يطابقه من مفسر إن كانت ضمائر ومشار إليه إن كانت أسماء إشارة، والظاهر أنها كلها داخلة فى التبعية، فإن الاستعارة فيها باعتبار الاستعارة فيما ترجع إليه، أو يقال: إنها لا يتجوز بها، فإن وضعها أن تعود على ما يراد بها من حقيقة ومجاز، فإذا قلت:" رأيت ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 24.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أسدا يرمى فأكرمته" فضمير المفعول حقيقة لعوده على مفسره، وذلك وضعه. وإذا قلت: " يأيها الأسد الرامى بالنبل" مشيرا إلى الإنسان، فالضمير فى قولك: الرامى حقيقة (قوله: كالفعل) يشير إلى أن الأفعال استعارتها تبعية، فإنها إنما تستعار باعتبار استعارة المصدر، فإذا قلت:" نطق الحال" فقد استعرت أولا النطق للدلالة، ثم أطلقت نطقت، فالمشبه الدلالة، والمشبه به النطق، والجامع حصول الفائدة. ويرد عليه ما سبق من أن المجاز لفظ المصدر الذى هو النطق، ولم يلفظ به حتى يكون هو المستعار أولا، ثم اشتق منه النطق، وجوابه أنه المستعار أولا تقديرا لا تحقيقا، ثم يلزم أن يكون نطق الفعل الملفوظ به مستعارا من النطق المجازى. والغزالى فى طائفة من الأصوليين يقولون: إن المجاز لا يشتق منه، ومراد المصنف استعارة الفعل بحسب مصدره، ولا شك أن الفعل يدل على حدث وزمان، ودلالته على كل منهما بالتضمن، وعلى مجموعهما بالمطابقة وقيل: يدل على الحدث بالمطابقة، وعلى الزمان بالالتزام وقيل: يدل على كل منهما بالمطابقة كالمشترك. وفيه مباحث ذكرناها فى شرح المختصر. فالفعل إذا تجوز به تارة يتغير حدثه فقط مثل:" نطقت الحال" بمعنى دلت، وهو الذى ذكره المصنف، وليس اللفظ فيه مستعملا فى غير موضوع بالكلية (؟) فى بعض مدلوله وهو الزمان، وغير مدلوله وهو الحدث، وتارة يتغير زمانه فقط، كقولك:" أتى زيد" بمعنى أنه يأتى، فالمصدر لم يتجوز به، بل تجوز بالتعبير بالماضى عن المستقبل، وهذا أشبه بالمجاز المرسل، وقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ (¬1) يحتمل أن يكون المراد قارب الإتيان، أو أتت مقدماته، فيكون من تحويل المصدر. ويحتمل أن يكون المراد يأتى، فيكون من تحويل الزمان، وتارة يقصد تحويل مدلولى الفعل، فتقول:" نطقت الحال" بمعنى أنها ستدل، فهو دائر بين الاستعارة والمرسل بحسب مدلوليه. (قوله: ما يشتق منه) يشير إلى الصفات" كالناطق" فهو مستعار للدالّ، وكقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (¬2)، وقوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (¬3) فالمستعار فى الأصل هو المصدر. وما قاله ضعيف، فإن الصحيح أن الصفات مشتقة من المصدر لا من الفعل وقد تقدم الكلام على كون استعارة المشتقات تبعية وقوله: و" الحروف" يشير إلى أن ¬

_ (¬1) سورة النحل: 1. (¬2) سورة الدخان: 49. (¬3) سورة هود: 87.

فالتشبيه فى الأولين (¬1) لمعنى المصدر، وفى الثالث (¬2) لمتعلّق معناه (¬3)؛ كالمجرور فى: (زيد فى نعمة)؛ فيقدّر فى: (نطقت الحال) و: (الحال ناطقة بكذا): للدّلالة بالنّطق، وفى لام التعليل؛ نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً (¬4): للعداوة والحزن بعد الالتقاط، بعلّته الغائية. ـــــــــــــــــــــــــــــ استعارة الحروف تبعية. قال السكاكى: الاستعارة تقع فى متعلقات معانيها ثم يسرى فيها، وأعنى بمتعلقات معانيها ما يعبر عنها عند تفسيرها، كقولنا:" من" لابتداء الغاية، فليس الابتداء معناها، إذ لو كان معناها لكانت اسما، وإنما هى متعلقات معانيها، فإذا أفادت هذه الحروف معانى رجعت إلى هذه بنوع استلزام، فإذا أردت استعمال" لعل" لغير معناها قدرت الاستعارة فى معنى الترجى، ثم استعملت هناك" لعل" وهذا معنى قول المصنف: (فالتشبيه فى الأولين) يعنى الفعل والصفات (لمعنى المصدر وفى الثالث) أى الحرف (لمتعلق معناه)، (قوله: كالمجرور فى: زيد فى نعمة) مثال للاستعارة فى الحرف. قال الخطيبى: وفيه نظر، لأن المجرور هو قولنا: نعمة، وليست متعلق معناه، وهو مطلق الظرفية، ومعناه هو ظرفية النعمة للاستقرار فيها. وقرره غير الخطيبى بأن المعنى أن" فى" معناها الظرفية، وللظرفية متعلق" بالفتح" قام ذلك المعنى به، وهو" الدار" مثلا فى الظرف الحقيقى، فهنا وقع تشبيه النعمة المشتملة على زيد بالدار المشتملة عليه، واستعمل فى النعمة كلمة" فى" التى من حقها أن تستعمل فى" الدار" فالاستعارة فى الحرف استعماله فيما لا يكون متعلق معناه، بل هو شبيه بمتعلق معناه. (قوله: فيقدر) أى التشبيه فى قولنا:" نطقت الحال بكذا" وهو مثال للفعل وفى قولنا:" الحال ناطقة بكذا" وهو مثال للصفة للدلالة بالنطق بجامع ما بينهما من الإيضاح، ثم يعبر عن ذلك بالفعل، أو الوصف، فتقول: نطقت الحال وهى ناطقة بكذا. قلت: وقولنا: الحال ناطقة بكذا. كيف يصح عده من الاستعارة وهو عند المصنف تشبيه؟ فهذا مخالف لكلامه الماضى، وموافق لما حققناه: (قوله: وفى لام التعليل) أى ويقدر التشبيه فى لام التعليل فى نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط على إرادة العلة الغائية للالتقاط لترتب وجودهما على وجود الالتقاط، وليست اللام هنا للغرض؛ لأن حقيقة الغرض ترتب أمر على أمر، ¬

_ (¬1) أى: الفعل وما يشتق منه. (¬2) أى: الحرف. (¬3) وهو مثلا الابتداء فى من خ خ. (¬4) سورة القصص: 8.

ومدار قرينتها فى الأولين على الفاعل؛ نحو: نطقت الحال بكذا خ خ، أو المفعول؛ نحو: [من الرمل]: قتل البخل وأحيا السّماحا ـــــــــــــــــــــــــــــ وهما مطلوبان، ولا شك أن العداوة والحزن لم يكونا مطلوبين بالالتقاط. وقول المصنف: للدلالة: أى التشبيه للدلالة يعنى أن الدلالة هى المشبه، وكذلك قوله:" للعداوة" أى العداوة هى المجعولة كالعلة الغائية، فالتجوز وقع فى اللام هنا باعتبار أن ما استقرت عليه عاقبة الالتقاط من العداوة صير الالتقاط كأنه علته الغائية بجامع ما بين العلة الغائية والعداوة التى صار إليها الالتقاط من شئ مترتب على فعل كان غايته فى الواقع، وإن لم يكن غايته فى الذهن عند وجدان الالتقاط، والعداوة والحزن مشبهان، والعلة الغائية وهى الانتفاع مشبه به. وقال بعضهم: إن الاستعارة فى الآية ليست فى اللام، وأسند ذلك بأن ما تعلقت به هو الكون المستفاد من أن، ويكون، لا العداوة والحزن. قال: بل الاستعارة فى" عدوا وحزنا" وهى تهكمية أى ليكون لهم حبيبا وفرحا، وكذلك حالهم قرينة لهذا المعنى ولو أريد حقيقة العداوة لقيل عليهم. ولما كانت التبعية لا بد لها من القرينة كسائر الاستعارات أخذ فى بيان قرينتها فقال: (ومدار قرينتها فى الأولين) أى فى الفعل والصفة المشتقة منه (على الفاعل) أى بأن لا يكون صالحا لأن ينسب الفعل، أو الوصف إليه على سبيل الحقيقة نحو: " نطقت الحال بكذا" فإن الحال ليست مما ينطق حقيقة وهذا مثال للفعل، ومثال الوصف:" رأيت رجلا ناطقا حاله بكذا" وكذلك قولك:" الحال ناطق بكذا" فإن الفاعل وهو الضمير، وهو قرينة على الاستعارة (أو) على (المفعول) بأن لا يكون الفعل، أو الوصف قابلا لأن ينسب إليه حقيقة كقول ابن المعتز: جمع الحقّ لنا فى إمام … قتل البخل وأحيا السّماحا (¬1) أى أزال البخل، وأظهر السماح، فالقرينة فى هاتين الاستعارتين جعل البخل والسماح مفعولين، وقد تكون القرينة كلا من الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ (¬2) كذا قيل. وفيه نظر؛ لأن وقوع الخطف على الإبصار ليس ¬

_ (¬1) ديوان ابن المعتز 1/ 468، والمصباح ص: 135، والإيضاح بتحقيقى ص: 269. (¬2) سورة البقرة: 20.

ونحو [من البسيط]: نقريهم لهذميّات نقدّ بها أو المجرور؛ نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ هو متعذرا على سبيل الحقيقة، هذا فى المفعول الأول وتارة تكون القرينة المفعول الثانى نحو قوله: نقريهم لهذميات نقدّ بها … ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد (¬2) قال فى الإيضاح: أو إلى المفعولين الأول والثانى كقول الحريرى (¬3): وأقرى المسامع إما نطقت … بيانا يقود الحرون الشموسا (قوله" أو المجرور") أى قد يكون المجرور قرينة فى صرف الفعل للاستعارة، نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (¬4) فذكر العذاب قرينة فى صرف" فبشرهم بعذاب أليم" إلى الاستعارة التهكمية (¬5)، وكان المصنف مستغنيا عن ذكر هذا، فإن المجرور هنا مفعول فى المعنى. قال السكاكى: أو تكون القرينة الجميع. قال الشيرازى: يعنى الفاعل، والمفعول الأول والثانى، والمجرور كقوله: تقرى الرّياح رياض الحزن مزهرة … إذا سرى النّوم فى الأجفان إيقاظا (¬6) قال المصنف: وفيه نظر، قيل: وجه النظر أن مجموع ذلك ليس قرينة، بل كل واحد منهن قرينة مستقلة. ورد عليه بأن السكاكى: ما قصد إلا ذلك، ويحتمل أن يكون مراد المصنف بالنظر أنا لا نسلم أن" فى الأجفان" هو قرينة؛ لأنه ليس مجرورا معلوما للاستعارة التى هى تقرى، بل هو معمول لقوله:" تقرى" واعترض على المصنف ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 34. (¬2) البيت للقطامى. اللهذم: السنان القاطع. القد: القطع. سرد الدروع وزردها: نسجها. انظر الإيضاح بتحقيقى ص: 269 (¬3) الحريرى: صاحب المقامات أبو محمد القاسم بن على بن محمد بن عثمان الكاتب الشاعر المتوفى سنة 516، الإيضاح بتحقيقى ص: 269. (¬4) سورة الانشقاق: 24. (¬5) فى ط: التكهمية. (¬6) الإيضاح بتحقيقى ص: 269، والمصباح ص: 136.

وباعتبار آخر ثلاثة أقسام

وباعتبار آخر ثلاثة أقسام: مطلقة: وهى ما لم تقرن بصفة ولا تفريع، والمراد (¬1): المعنوية، لا النعت النحوىّ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ فى قوله:" مدار قرينتها على الفاعل إلخ" بأن ما دار على الشئ غيره فيقتضى أن مدار القرينة غير الفاعل، والغرض أنه هو، وأجيب عنه بأنه تجريد، كأنه جرد من الفاعل حقيقة جعلت مدارا، وإن كان الفاعل نفسه هو المدار والأحسن فى الجواب أن" مدار" القرينة نفسها غير الفاعل، إنما الفاعل شئ تكون القرينة حوله والقرينة مسبب عن الفاعل ونحوه، وقد استحسن الطيبى ذلك. الاستعارة ثلاثة أقسام باعتبار آخر: ص: (وباعتبار آخر ثلاثة أقسام إلخ). (ش): هذا هو التقسيم الخامس، والمراد ما كان باعتبار غير الطرفين، والجامع، واللفظ، أى باعتبار أمر خارج عن ذلك، وفيه نظر؛ لأن انقسام الاستعارة للثلاثة هو باعتبار الطرفين، لأن المرشحة اعتبر فيها المستعار منه، والمجردة اعتبر فيها المستعار، والمطلقة لم يعتبر واحد منهما، وحاصله أن الاستعارة ثلاثة أقسام، لأن الاستعارة إما أن تقترن بشئ أولا وإذا اقترنت فإما بما يلائم المستعار، أو المستعار منه، وسيأتى نظر فى أن هذا التقسيم حاصر. الأول: تسمى مطلقة، وهى ما لم تقترن بصفة، ولا تفريع كلام، والمراد بالصفة هنا المعنوية لا النعت، كقولك:" رأيت أسدا" ومثل له الطيبى بقولك:" رأيت أسدا يرمى بالنشاب" قال: وإن كان يرمى صفة ملائمة للمستعار له، فلا يخرجها ذلك عن كونها مطلقة، لأن يرمى قرينة صارفة عن الحقيقة لولاها لما حصلت الاستعارة، والتفريع والتعقيب إنما يكونان بعد تمام الاستعارة. (قلت): وفيما قاله نظر، فإن القرينة لا مانع أن يحصل بها التجريد. وقوله: إنما يحصل التفريع بعد تمام الاستعارة صحيح، ولكن تمام الاستعارة ليس بالقرينة، فإن القرينة كاشفة عن الاستعارة لا جزء منها، لا يقال: فيلزم أن تكون كل استعارة مجردة، فإن كل استعارة لا بد لها من قرينة لأنا نقول: ليس من شرط القرينة أن تكون لفظية، فقد تكون حالية فتكون الاستعارة مطلقة، فمتى كانت القرينة ليست من أوصاف المستعار، ولا المستعار منه؟ ¬

_ (¬1) أى: المراد بالصفة.

ومجرّدة: وهى ما قرن بما يلائم المستعار له؛ كقوله [من الكامل]: غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا … غلقت لضحكته رقاب المال ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: تسمى مجردة وذلك ما قرن بما يلائم المستعار له كقول كثير: غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا … غلقت لضحكته رقاب المال (¬1) المستعار هنا هو الرداء استعير للمعروف بجامع الصون والستر، فإن المعروف يستر عرض صاحبه ستر الرداء لما يلقى عليه، والصفة هى قوله:" غمر" لأنها صفة تلائم المعروف لا الرداء، ثم فرع على ذلك قوله:" إذا تبسم ضاحكا" فإنه صفة صاحب الرداء، وليس صفة للرداء. قال المصنف: وعليه قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬2) حيث قال: أذاقها، ولم يقل: كساها، فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس، كأنه قال: فأصابها الله بلباس الجوع والخوف. قال الزمخشرى: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا وما يمس منها، يقولون: ذاق فلان البؤس، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر، فإن قيل: الترشيح أبلغ من التجريد. فهلا قيل: كساها الله لباس الجوع. قلنا: لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس، فكان فى الإذاقة إشعار بشدة الإصابة، فإن قيل: ما الحكمة فى أن لم يقل: فأذاقها الله طعم الجوع. قلنا: لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوت، لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس اه. وحاصله أن تجريد الاستعارة ههنا احتاج إلى إيضاح؛ لأن الإذاقة لا تلائم المستعار له، وهو إنزال العذاب إذ الذوق حقيقة فى الطعوم، فلذلك احتاج إلى أن يجعل الذوق استعارة عن إصابة العذاب، ثم أوقع على اللباس، فصار اللباس استعارة تجريدية؛ لأنها وإن كان ما قرنت به لا يلائم المستعار له على سبيل الحقيقة، فإنه يلائمه على سبيل الاستعارة، فعلم بذلك أن قولنا فى الاستعارة التجريدية والترشيحية: الاقتران بما يناسب المستعار أو المستعار منه، إنما نريد ما يلائمه، سواء أكانت ملاءمته ¬

_ (¬1) فى الإيضاح بتحقيقى ص: 269، ديوان كثير ص 288، لسان العرب مادة: غمر، وضحك، وردى وتاج العروس قاعدة غمر، وضحك. (¬2) النحل بعض آية: 112.

ومرشّحة: وهى ما قرن بما يلائم المستعار منه؛ نحو: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (¬1). وقد يجتمعان فى قوله [من الطويل]: لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف … له لبد أظفاره لم تقلّم ـــــــــــــــــــــــــــــ له حقيقية أم مجازا ونظير الآية الكريمة فى أن تجريد الاستعارة وقع بما يلائمها مجازا بيت كثير السابق، فإن الغمر حقيقة فى الماء الكثير، فإطلاقه على الكثير من المعروف، وتجريده لاستعارة الرداء للمعروف تجريد بما يلائم المستعار له مجازا لا حقيقة. والقسم الثالث: المرشحة، وهى المقرونة بما يلائم المستعار منه كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فإنه استعير الشراء للاختيار، فرشح بالربح، والتجارة اللذين هما من متعلقات الشراء. وقال الطيبى: إنه اجتمع فى هذه الآية الكريمة الترشيح، والتجريد، فالترشيح فى قوله تعالى: اشْتَرَوُا والتجريد فى قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (¬2) وفيه نظر، ومن هقوله الشاعر (¬3): ينازعنى ردائى عبد عمرو … رويدك يا أخا عمرو بن بكر لى الشّطر الذى ملكت يمينى … ودونك فاعتجر منه بشطر فقد استعار الرداء للسيف، ووصفه بالاعتجار الذى هو وصف الرداء رعاية للمستعار. وقوله: و" قد يجتمعان" أى يجتمع التجريد، والترشيح كما فى قول زهير: لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف … له لبد أظفاره لم تقلّم (¬4) (تنبيهات): أحدها: اعلم أن المراد بقولنا:" الوصف الملائم" فى هذا الباب ما كان مناسبا سواء أكان بالحقيقة أم المجاز، ممكنا أم مستحيلا، فإن المستحيل قد يوصف به باعتبار التخييل وغير الملائم ما لم يكن مناسبا سواء أكان ممكنا أو مستحيلا، وأعنى بالمناسب ما يذكر معه غالبا ويختص به، إذا تقرر ذلك، فاعلم أن الوصف المذكور مع الاستعارة على أقسام: الأول: ما لا يلائم واحدا من الطرفين لا حقيقة ولا مجازا، مثل:" رأيت أسدا بحرا" فإن بحرا استعارة ثانية لا يحصل بها ترشيح، لقولك:" أسدا" لأن البحر ليس مناسبا للشجاع، ولا مناسبا للحيوان المفترس. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 16. (¬2) سورة البقرة: 16. (¬3) الإيضاح بتحقيقى ص: 270. (¬4) سبق تخريجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الثانى: ما لا يلائم واحدا منهما باعتبار الحقيقة ويلائمهما باعتبار المجاز، كقوله: " غمر الرداء" فإن لفظ" غمر" لا يلائم باعتبار الحقيقة:" الرداء" الحقيقى، ولا المعروف، وباعتبار المجاز يناسب كلا منهما، فتقول:" ثوب غمر" و" معروف غمر" على سبيل المجاز، وبهذا يتبين لك أن ما ادعاه المصنف، وغيره من أن قول كثير: " غمر الرداء" متعين لأن يكون مقرونا بما يلائم المستعار له. فيه نظر، نعم قد تكون ملاءمة ذلك الوصف المجازى للمستعار له، أو للمستعار منه أوضح من ملاءمته للآخر، فحينئذ يترجح ذلك، مثل قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬1) فإن استعارة الإذاقة للحوادث والدواهى أوضح من استعارتها للباس. الثالث: أن يكون الوصف يلائم كل واحد منهما حقيقة، كقولك:" رأيت أسدا قويّا" أو" باسلا" فهذا وصف يلائم كلا منهما فيصدق عليه أنها استعارة مجردة مرشحة، ولفظ" القوى" و" الباسل" حقيقة، والمراد بهما الرجل الشجاع. الرابع: أن يكون الوصف ملائما للمستعار له حقيقة، ولا يلائم المستعار منه كقولك: " رأيت أسدا يرمى بالنشاب" تريد حقيقة الرمى، فهذه استعارة مجردة لا مرشحة، خلافا للطيبى، فإنه زعم أنها مطلقة، وقد رددنا عليه فيما سبق. الخامس: أن يكون الوصف ملائما للمستعار له حقيقة، ولكنه تجوز فيه، فذكر على وجه يلائمهما معا، كقولك:" رأيت أسدا ترمى هيبته القلب بالنبل" فهذا وصف يلائمهما - أيضا، لكن على سبيل المجاز فيهما، فقد يقال: إن هذه تسمى مرشحة ومجردة - أيضا -. السادس: أن يكون الوصف ملائما للمستعار منه، بأن يكون وصفا حقيقيّا له، ولا يلائم المستعار له، لا حقيقة ولا مجازا، فهذا القسم متعذر؛ لأن ذلك الوصف ما لم يلائم المستعار له لا مدخل له فى الكلام، لأن المراد بالاستعارة إنما هو المستعار له، فالأوصاف لا بد أن تكون له معنى إذ لا يصح أن تقول:" رأيت أسدا يمشى على أربع" مريدا حقيقة المشى على أربع، ومريدا بالأسد الرجل الشجاع. ¬

_ (¬1) سورة النحل: 112.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السابع: أن يكون الوصف ملائما للمستعار منه حقيقة، ويلائم المستعار له مجازا، وهذه هى المرشحة، فلا يمكن أن يراد بقوله تعالى: رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (¬1) حقيقة الربح والتجارة الموجودين فى حقيقة الشراء، بل المراد بهما الربح والتجارة الواقعان فى الاختيار على سبيل المجاز فليتنبه لذلك، ولا يمكن أن يراد فى قوله: ودونك فاعتجر منه بشطر حقيقة الاعتجار، وقد اتضح بهذا أن الأوصاف فى قوله: لدى أسد، البيت، كلها يلائم المستعار له، فبعضها يلائم المستعار له حقيقة، ويلائم المستعار منه مجازا، كقوله: شاكى السلاح، غير أنا نقول: استعماله حقيقة، لأن شاكى السلاح لا يمكن أن يراد به الحيوان المفترس، حتى يكون مجازا، بل هو صفة واقعة على المستعار له فكان حقيقة، وإنما أردنا بملاءمتها للمستعار منه جواز استعمالها فى الحيوان المفترس مجازا، وبعضها يلائم المستعار منه حقيقة، ويلائم المستعار له مجازا، كقوله:" أظفاره لم تقلم" فإن المراد به المستعار له، ولم يقصد حقيقة أظفاره ولا حقيقة القلم، وإنما قصد شجاعته، فهو وصف يلائم الشجاع مجازا، لا يقال: وهو وصف يلائمه أيضا باعتبار الحقيقة؛ لأن للشجاع أظفارا، لأنا نقول: حقيقة تقليم الأظفار لا تقصد فى الشجاعة أصلا، وبهذا صح قولهم: إن" لدى أسد" مرشحة ومجردة؛ لأنها قرنت بما يلائم المستعار منه حقيقة، ويلائم المستعار له مجازا، وبما يلائم المستعار له حقيقة. وإذا تأملت ما ذكرناه، ظهر لك أن كلام المصنف، وغيره - فى هذا الباب - غير محرر، وأن غالب ما أطلقوه يحتاج إلى تقييد، وفى كثير منه منع، وأما قول الخطيبى: إن" لدى أسد" يلائم المستعار منه فغريب؛ لأن أسدا نفس الاستعارة لا ملائم لها. التنبيه الثانى: وهو كالفرع عما قبل، قد علم بما ذكرناه: أن التحقيق خلاف ما ذكره المصنف وغيره، من وجوه منها: قوله: إن الاستعارة بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام وإنما هى أربعة: مطلقة، ومجردة، ومرشحة، ومرشحة مجردة معا فإن قيل: إذا ثبت أنها تكون مرشحة، وتكون مجردة، ثبت جواز كونها مرشحة مجردة؛ لأن مانعة الخلو لا منع الجمع مطلقا، قلت: الأمر كذلك، ولكن هلا فعل ذلك فى أقسام الاستعارة بحسب ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 16.

والترشيح أبلغ؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة، ومبناه على تناسى التشبيه، حتّى إنه يبنى على علوّ القدر ما يبنى على علوّ المكان؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ الطرفين، ولم يفعل، بل ذكر أن الجامع حسى، وعقلى، وبعضه حسى، وبعضه عقلى، مريدا بما بعضه حسى، وبعضه عقلى، ما كان له جامعان: أحدهما حسى، والآخر عقلى، أورد على السكاكى كونه أسقط هذا القسم، فما أورده على السكاكى وارد على نفسه، والحق أنه لا يرد عليهما إلا على الطريق السابقة، ثم ومنها قوله: إن المطلقة ما لم تقترن بوصف، وليس كذلك مطلقا، بل لم تقترن بوصف ملائم للمعنى الذى به الاستعارة بالنسبة إلى أحد الطرفين، احترازا من قولك:" رأيت أسدا بحرا" فإن الاستعارة الأولى اقترنت بوصف، ولم تخرج بذلك عن كونها مطلقة مقرونة باستعارة أخرى، ومنها أن قوله فى بيت كثير وهو:" غمر الرداء" البيت، أنها مجردة قد يمنع على ما سبق، ومنها أن اجتماع الترشيح والتجريد ليس من شرطه أن تذكر أوصاف بعضها يلائم المستعار له، وبعضها يلائم المستعار منه، بل قد يكون بوصف واحد يلائمهما. التنبيه الثالث: قول المصنف فى هذا الباب: الاقتران بما يلائم المستعار له، أو المستعار منه، أحسن من قول السكاكى، فإنه جعل المرشحة والمجردة ما عقبت بما يلائم، وهو يقتضى أن الوصف الملائم لا بد أن يكون متأخرا، وهو فاسد، فإنه لا فرق بين أن يتأخر أو يتقدم، كقوله: غمر الرداء خ خ، ولما رأى الشيرازى هذا الكلام ظاهر الفساد أوله على أن المراد بالتعقيب الزيادة، على معنى الاستعارة، سواء أكان المعقب قبل المستعار أم بعده، أم كان بعضه بعده وبعضه قبله، قال: كالأمثلة التى ذكرها المصنف، فإنها كلها من هذا القبيل. قلت: وجميع الأمثلة التى ذكرها السكاكى كلها ليس فيها ترشيح إلا بعد الاستعارة. بخلاف ما قاله الشيرازى. الترشيح أبلغ من التجريد: ص: (والترشيح إلخ). (ش): الترشيح أبلغ من التجريد فتكون الاستعارة المقرونة بما يلائم المستعار منه أبلغ من المقرونة بما يلائم المستعار له، وإنما كان الترشيح أبلغ من التجريد؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة، ولهذا كان مبناه على تناسى التشبيه. قال المصنف: حتى إنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان، كقوله وهو أبو تمام:

كقوله [من المتقارب]: ويصعد حتّى يظنّ الجهول … بأنّ له حاجة فى السّماء ونحوه: ما مرّ من التعجّب والنهى عنه؛ وإذا جاز البناء على الفرع مع الاعتراف بالأصل - ... ـــــــــــــــــــــــــــــ ويصعد حتّى يظنّ الجهول … بأنّ له حاجة فى السّماء (¬1) فإنه قصد تناسى التشبيه والتصميم على إنكاره فجعله صاعدا فى السماء من حيث المسافة المكانية ومنه قول ابن الرومى: شافهتم البدر بالسّؤال عن ال … أمر إلى أن بلغتم زحلا (¬2) وكقول بشار: أتتنى الشّمس زائرة … ولم تك تبرح الفلكا (¬3) وقول غيره: ولم أر قبلى من مشى البدر نحوه … ولا رجلا قامت تعانقه الأسد (¬4) (وقوله:" ونحوه") أى فى البناء على تناسى التشبيه (ما مر من التعجب والنهى عنه) فى قوله: قامت تظلّلنى ومن عجب … شمس تظلّلنى من الشّمس وقوله: لا تعجبوا من بلى غلالته … قد زرّ أزراره على القمر (قوله: وإذا جاز) يريد أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهى عنه، فإن مذهبه إثبات وصف يمتنع ثبوته للمستعار منه، ومذهب النهى عنه إثبات خاصة من خواص المستعار منه، (وإذا جاز البناء على الفرع) أى بناء الكلام على الفرع، وهو المشبه به سماه فرعا؛ لأنه مجاز فى الاستعارة، والمجاز فرع الحقيقة، ولأن الغرض من التشبيه فى الاستعارة فى الغالب عائد إلى المشبه لا المشبه به (مع الاعتراف بالأصل) ¬

_ (¬1) ديوان أبى تمام ص: 320، الإشارات والتنبيهات ص: 225، أسرار البلاغة ج 2 ص: 164. (¬2) الإيضاح ص 271. (¬3) السابق ص: 271. (¬4) الإيضاح بتحقيقى ص: 271، وقائله المتنبى.

المجاز المركب

كما فى قوله [من المتقارب]: هى الشّمس مسكنها فى السّماء … فعزّ الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصّعودا … ولن تستطيع إليك النّزولا فمع جحده (¬1) أولى. المجاز المركّب وأما المركّب: فهو اللفظ المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلىّ تشبيه التمثيل؛ للمبالغة؛ كما يقال للمتردّد فى أمر: إنّى أراك تقدّم رجلا، وتؤخّر أخرى خ خ، وهذا التمثيل على سبيل الاستعارة، وقد يسمّى التمثيل مطلقا، ومتى فشا استعماله كذلك، سمّى مثلا؛ ولهذا لا تغيّر الأمثال. ـــــــــــــــــــــــــــــ أى مع ذكر المشبه ليكون الكلام تشبيها لا استعارة كقوله وهو العباس بن الأحنف: هى الشّمس مسكنها فى السّماء … فعزّ الفؤاد عزاء جميلا (¬2) فلن تستطيع إليها الصّعودا … ولن تستطيع إليك النّزولا (فمن جحده أولى) أى إذا جاز البناء على تناسى التشبيه بذكر التفريع على المشبه به فى التشبيه، ففى الاستعارة التى فيها جحده جوازه أولى، وقد يعترض على هذا بأن يقال: البناء على المشبه به فى الاستعارة أولى من البناء على المشبه به فى التشبيه، أما البناء على المشبه فى التشبيه، فلا يدل على جواز البناء عليه فى الاستعارة، وما ذكره من الدليل هو شامل لصورتى البناء على كل منهما، فلا يصح ذلك، بل إنما يدل على جواز البناء على المشبه به فى الاستعارة بما يلائم المستعار منه. المجاز المركب: ص: (وأما المركب إلخ). (ش): لما فرغ من المجاز المفرد شرع فى المجاز المركب، وهو المسمى بالتمثيل، وحقيقة التمثيل، أن تريد العبارة عن معنى فتعدل عن المعنى والعبارة الدالة عليه إلى ¬

_ (¬1) أى المشبه. (¬2) ديوان العباس بن الأحنف ص: 221، المفتاح ص: 387، الإشارات ص: 224، المصباح ص: 139 والإيضاح بتحقيقى ص: 271، وأسرار البلاغة 2/ 168.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ معنى آخر يكون مثالا للمعدول عنه، ورسمه المصنف بأنه: اللفظ المركب المستعمل، فأخرج المهمل، واللفظ قبل الاستعمال، وقبل الوضع وخرج المجاز المفرد، بقوله: " المركب" وقوله:" فيما شبه بمعناه الأصلى" يحترز عن الحقيقة، فإنها مستعملة، لا فيما شبه بمعناها، وقوله:" تشبيه التمثيل" للمبالغة، أى تشبيها على أسلوب التمثيل بالشئ لغيره، أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين، أو أمور بالأخرى، ثم تدخل المشبهة فى جنس المشبه بها مبالغة من غير تغيير بوجه من الوجوه، كما كتب به الوليد بن يزيد لما بويع إلى مروان بن محمد، وقد بلغه أنه متوقف فى البيعة له: أما بعد، فإنى أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابى هذا، فاعتمد على أيهما شئت والسّلام. شبه صورة تردده بصورة تردد من قام ليذهب، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى، ومنه قولهم لمن يعمل فى غير معمل: أراك تنفخ فى غير فحم، وتخط على الماء، ومنه قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬1) وذكر فى الإيضاح كثيرا من أمثلته وتحقيق ذلك أن الكلام فى نفسه حقيقة باعتبار مفرداته، ولكنه مثل لغيره، فالاستعارة تقع فى مجموعه، فهو يخالف مجاز الإفراد، لأن التجوز فيه يقع فى الكلمة المفردة؛ ويخالف المجاز العقلى، المسمى بالمجاز المركب - أيضا - فإن التجوز يقع فيه فى الإسناد، وأما التمثيل فالمفردات فيه حقائق، وكذلك ما فيها من إسناد بعضها لبعض، والتجوز يقع فى مجموعها، فإن قلت: إذا كان التمثيل حقيقة فقد قصدت مفرداته، فكيف يكون مجموعه مجازا؟ قلت: قد عرفت فى الكلام على الكناية فيما سبق، وستعرف فيما سيأتى أن الإرادة على قسمين: إرادة استعمال، وإرادة إفادة، والتمثيل قريب منه، فإن قولك:" زيد يقدم رجلا ويؤخر أخرى" حقيقة، لأنه قصد مدلوله استعمالا، ولم يقصد إفادة، بل المقصود بالإفادة ما يماثل معناه التركيبى من التردد، إلا أن الفرق بينهما أن الكناية يكون مدلول لفظها واقعا، فإذا قلت:" زيد كثير الرماد" فأنت تقصد الإخبار بكثرة رماده ليفهم لازمه، وكثرة رماده واقع، والتمثيل لا يشترط فيه وقوع ذلك المخبر به، وفى كلام الطيبى فى شرح التبيان ما يقتضى أنك إذا قلت:" زيد كثير الرماد" لا يلزم أن يكون ذلك بنفسه واقعا، وفيه ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 67.

فصل [إخماد التشبيه في النفس]

[فصل [إخماد التشبيه في النفس] (¬1)] قد يضمر التشبيه فى النفس؛ فلا يصرّح بشئ من أركانه سوى المشبّه، ويدلّ عليه: بأن يثبت للمشبّه أمر يختصّ بالمشبّه به، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ نظر ويحتاج إلى شاهد (قوله: ولهذا) (¬2) أى ولكون المقصود بالإفادة ليس من معنى التمثيل، بل صورة تشابهه (يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وقد يسمى التمثيل مطلقا) أى ولا يسمى استعارة وكأن ذلك اجتناب للفظ الاستعارة، فإنه يوهم التجوز فى المفردات، (وإذا فشا) أى كثر (استعماله كذلك) أى على سبيل الاستعارة (فإنه يسمى مثلا) فعلم أن المثل تشبيه تمثيلى، ولكون الأمثال واردة على سبيل الاستعارة لا تغير، لأنها مستعملة فى معناها الأصلى، وإنما يستعملها الإنسان استعارة على سبيل المثال، فتستعمل فى المفرد والجمع، وإن كانت جمعا أو تثنية، وفى المذكر وإن كانت مؤنثة، وعكسهما. إخماد التشبيه فى النفس: ص: (فصل قد يضمر التشبيه فى النفس إلخ). (ش): لما أن فرغ من الاستعارة التحقيقية شرع فى الاستعارة بالكناية، وتحقيق معنى الاستعارة بالكناية يأتى فى الفصل الثانى إن شاء الله - تعالى -، وحاصله أن المصنف يرى أن الاستعارة بالكناية حقيقة لغوية، وأعنى بكونها حقيقة لغوية أنها لم تستعمل فى المشبه به، لا أنها يلزم أن تكون حقيقة، بل يجوز أن يتجوز بها عن معنى بينه وبين معناها علاقة، كما سيأتى ذكره فى بيت زهير، وقد قدمنا الاعتراض على المصنف عند ذكر صور التشبيه الثمانى، لهذا الكلام فليراجع. قال: وإنما تسمى الاستعارة بالكناية استعارة، مجازا اصطلاحيا، فلذلك قال:" قد يضمر التشبيه فى النفس" فسماه تشبيها باعتبار حقيقته الاصطلاحية، فلا يصرح بشئ من أركانه سوى المشبه، أى ويطوى بقية الأركان، وهى المشبه به، والأداة، والوجه، وقد قدمنا الاعتراض على المصنف عند ذكر صور التشبيه الثمانى بهذا الكلام، فليراجع. قال: ويدل عليه بأن يثبت للمشبه المذكور أمر يختص بالمشبه به، أى يثبت له لازما مساويا ¬

_ (¬1) فى بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية. (¬2) قوله: ولهذا كذا فى الأصل وهو مخالف لعبارة التلخيص كما ترى كتبه مصححه، قلت: وفى المتن التلخيص بتحقيقى ط دار الكتب العلمية: وهذا التمثيل على سبيل الاستعارة، وقد يسمى التمثيل مطلقا خ خ.

فيسمّى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيّا عنها، وإثبات ذلك الأمر للمشبّه استعارة تخييلية؛ ... ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما شرطنا أن يكون مساويا - وإن أطلق الجمهور اللازم - لأن اللازم غير المساوى لا يدل به على المشبه به، إذ لا يفهم منه. وقولهم: أمر يختص بالمشبه به معكوس، وصوابه أن يقال: أمر يختص به المشبه به يظهر بالتأمل. (قوله: فيسمى التشبيه استعارة بالكناية أو مكنيا عنها) وإنما سميت استعارة بالكناية إن فسرنا الاستعارة بالكناية بما فسر به المصنف؛ لأن فيها حقيقة الكناية المصطلح عليها، لأنه أطلق فيها اللفظ على شئ لإفادة لازمه، فأطلقت المنية على حقيقتها اللغوية لإفادة لازمها، وهو أن لها اغتيال السبع المدلول عليه بقوله:" أنشبت أظفارها" وكان الواجب على هذا عدها من قسم الكنايات وتسميتها كناية، لكنه لما كان هذا اللازم الذى دل عليه لفظ المنية من السبعية لازما بطريق الادعاء لا بطريق الحقيقة، فإن حقيقة اغتيال السبع لا يوجد فى المنية، فسميت استعارة، فأشير إلى المعنيين، بقولنا: استعارة بالكناية، وأما على رأى السكاكى، فيحتمل أن يقال: إنما سميت بذلك مراعاة - أيضا - للكناية، والاستعارة المصطلح عليها على العكس مما سبق، فإن المنية استعملت فى السبع فكان تسميتها استعارة حقيقة اصطلاحية، ولما كان كونها استعارة غير مقصودة بالإفادة، بل المقصود إفادة أن لها اغتيال السبع ذكر فيها لفظ الكناية؛ لأن اللفظ استعمل فى شئ، والمراد إفادة لازمه، وفيه نظر؛ لأن ذلك يستلزم أن الاستعارة التحقيقية - أيضا - تسمى استعارة بالكناية؛ لأنك إذا قلت:" رأيت أسدا" لا تريد الإخبار بكون زيد من جنس الأسد، بل تريد استعماله فى ذلك لإفادة لازمه، وهو الشجاعة، ويحتمل أن يريد بالكناية الكناية اللغوية، وأما تسميتها مكنيا عنها، فعلى رأى المصنف واضح؛ لأن اللفظ ليس استعارة حقيقية، بل هو حقيقة، ولكن كنى بها عن الاستعارة، أى لم يصرح بها؛ لأن جملة الكلام معناه استعارة فالاستعارة غير مصرح بها، وعلى رأى السكاكى، فلأن الأصل إنما هو استعارة السبع للمنية لا استعارة المنية للسبع، فلما عكس فى الصورة كانت استعارة مكنيا عنها، فإن الاستعارة بالحقيقة الاصطلاحية هى استعارة السبع للمنية وهى غير مصرح بها، بل كنى عنها، وما ذكرناه أحسن من قول من قال: سميت استعارة بالكناية ومكنيا عنها؛ لأن المشبه به غير مذكور، بل كنى عنه بذكر لازمه. (قوله: وإثبات ذلك الأمر للمشبه) أى يسمى إثبات ذلك الأمر الذى هو اللازم المساوى للمشبه: (استعارة تخييلية)؛ لأنها ليست ثابتة للمشبه بالتحقيق بل بالتخييل، وعلم منه أن الاستعارة

كما فى قول الهذلىّ [من الكامل]: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها … ألفيت كلّ تميمة لا تنفع ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكناية لا توجد دون الاستعارة التخييلية، وأما عكسه فظاهر كلام المصنف أنه كذلك، فلا توجد التخييلية دون المكنية، وكلام السكاكى على خلافه، وأشار إلى أن الاستعارة التخييلية معنى، لا لفظ بقوله:" ويسمى إثبات ذلك تخييلية" ولم يقل ويسمى ذلك؛ اللازم استعارة وسيأتى تحقيق ذلك وتحقيق المراد بالاستعارة التخييلية فى الفصل بعده - إن شاء الله تعالى - وقد مثل المصنف فى الإيضاح للاستعارة المكنية والتخييلية بقول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرّة … إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (¬1) فإنه شبه الشمال بالإنسان فى تصريفها به، فجعل لها يدا بالتخييل، وكذلك الزمام مع القرة التى هى مرادة بالضمير فى قوله:" زمامها" فالقرة استعارة بالكناية، والزمام للتخييل، وسيأتى على التمثيل بهذا البيت بالنسبة إلى يد الشمال سؤالان، ومثل المصنف هنا، وهو مثال لأحد قسميها على ما سيأتى بقول الهذلى وهو أبو ذؤيب الهذلى يرثى بنين له خمسة ماتوا فى عام واحد مطعونين، وكانوا ممن هاجر إلى مصر، ومات أبو ذؤيب فى زمن عثمان - رضى الله عنه - ومستهل القصيدة: أمن المنون وريبها تتوجّع … والدّهر ليس بمعتب من يجزع أودى بنىّ وأعقبونى حسرة … عند الرّقاد وعبرة ما تقلع فالعين بعدهم كأنّ حداقها … سمّت بشوك فهى عور تدمع سبقوا هوىّ وأعنقوا لهواهم … فتخرموا ولكلّ جنب مصرع ولقد حرصت بأن أدافع عنهم … وإذا المنيّة أقبلت لا تدفع وإذا المنيّة أنشبت أظفارها … ألفيت كلّ تميمة لا تنفع ¬

_ (¬1) ديوان لبيد ص: 230، وفى رواية الديوان: وغداة ريح قد وزعت وقرّة … قد أصبحت بيد الشمال زمامها والمصباح ص: 133، 134، والإيضاح بتحقيقى ص: 277، ودلائل الإعجاز ص: 67 بتحقيق محمود محمد شاكر. والقرة والقر: البرد.

شبّه المنيّة بالسبع فى اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار، فأثبت لها الأظفار التى لا يحمل ذلك فيه بدونها، وكما فى قول الآخر: ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا … فلسان حالى بالشّكاية أنطق شبّه الحال بإنسان متكلّم فى الدّلالة على المقصود؛ فأثبت لها اللسان الذى به قوامها فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتجلّدى للشّامتين أريهم … أنّى لريب الدّهر لا أتضعضع حتّى كأنّى للحوادث مروة … بصفا المشرّق كل يوم تقرع والنّفس راغبة إذا رغّبتها … وإذا تردّ إلى قليل تقنع (¬1) فشبه المنية بالسبع فى اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفاع وضرار، فإن المنية لا توقر أحدا، ويستوى فيها مستحق النفع والضر، كما أن السبع لا يعرف حقيرا ولا عظيما، بل يغتال من وجده، فأثبت للمنية الأظفار التى لا يكمل ذلك أى، الاغتيال فى السبع بدونها تحقيقا للمبالغة فى التشبيه، وليس للمنية شئ موجود حسا أو عقلا، يكون مشبها بالأظفار، بل هو أمر موجود فى المنية على سبيل التوهم؛ فلذلك سميت تخييلية، وقد قسم المصنف فى الإيضاح الاستعارة بالكناية إلى قسمين: أحدهما: ما كان الأمر المذكور معها المختص به" المشبه به" أمرا لا يكمل وجه الشبه فى المشبه به بدونه، وهذا البيت مثال لهذا القسم على ما قال المصنف هنا، وسيأتى منه ما يقتضى خلافه، والقسم الثانى: ما يكون اللازم المذكور معه به قوام وجه الشبه فى المشبه به، ولما كان الوجهان متقاربين، لم يصرح بهذا القسم فى التلخيص، بل اقتصر على المثالين، وأشار إلى الثانى بقوله: وكما فى قول الآخر: ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا … فلسان حالى بالشّكاية أنطق (¬2) فإنه شبه الحالة الدالة على المقصود بإنسان متكلم فى الدلالة على المقصود، فأثبت لها اللسان الذى به قوام الدلالة فى الإنسان، وقد أورد على المصنف أنه وقع فيما رمى به السكاكى فى أول الكتاب، حيث قال: هناك أنه لو صح ما ذكره السكاكى من أن ¬

_ (¬1) القصيدة من الكامل، فى شرح أشعار الهذليين/ 8. (¬2) التلخيص بتحقيقى ص: 79، والبيت لمحمد بن عبد الله العتبى، وقيل: لأبى النضر بن عبد الجبار، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص: 228، والتبيان بتحقيقى ص: 303.

وكذا قول زهير [من الطويل]: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله … وعرّى أفراس الصّبا ورواحله أراد أن يبيّن أنه ترك ما كان يرتكبه زمن المحبّة من الجهل، وأعرض عن معاودته فبطلت آلاته، فشبّه الصّبا بجهة من جهات المسير؛ كالحجّ والتجارة، قضى منها الوطر؛ فأهملت آلاتها، فأثبت لها الأفراس والرواحل، فالصّبا من الصّبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة؛ ويحتمل أنه أراد بالأفراس والرواحل: دواعى النفوس، وشهواتها، والقوى الحاصلة لها فى استيفاء اللذات، أو الأسباب التى قلّما تتآخذ فى اتباع الغى، إلا أوان الصّبا؛ فتكون الاستعارة تحقيقية. ـــــــــــــــــــــــــــــ نحو:" أنبت الربيع البقل" استعارة بالكناية لما صحت الإضافة فى قولنا:" نهاره صائم"؛ لبطلان إضافة الشئ إلى نفسه، لأنه يصير المراد بالنهار" الصائم" فهذا لازم له هنا، لأنه جعل الحال استعارة بالكناية، والإنسان استعارة تخييلية، لأنه شبه الحال بإنسان متكلم، وذكر اللسان لأنه لازم الإنسان المتكلم، وقد أضاف الإنسان إلى الحال الذى هو مضاف الإنسان، فقد أضاف الشئ إلى نفسه (قوله: وكذا قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله … وعرّى أفراس الصّبا ورواحله) (¬1) قد جعله فى المفتاح قسما ثالثا، وهو ما احتمل أن تكون تحقيقية أو تخييلية، فلذلك جوز فيه فى الإيضاح وجهين: أحدهما: وهو الذى بدأ به فى كلامه فى التلخيص أن تكون استعارة تخييلية، أى تكون لفظ" الصبا" بأن يريد أن يبين أنه ترك ما كان يرتكبه من المحبة والجهل والغى، وأعرض عن معاودته فبطلت آلاته، فشبه الصبا بجهة من جهات المسير، كالحج والتجارة، وقد قضى منها الوطر فأهملت آلاتها فأثبت لها الأفراس والرواحل على سبيل الاستعارة بالكناية، فالصبا على هذا من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل، فالاستعارة بالكناية، هو لفظ الصبا وهو المشبه، والمشبه به جهة الأسفار كالحج، والتجارة، بجامع ما بينهما من الجهد والمشقة والاهتمام، ولازم المشبه به وهو السفر" الأفراس" و" الرواحل" فذكرها استعارة تخييلية، وأشار إلى الاحتمال الثانى بقوله: ويحتمل أنه أراد دواعى النفوس وشهواتها والقوى الحاصلة لها ¬

_ (¬1) ديوان زهير ص: 55، والصناعتين ص: 311، والإيضاح بتحقيقى ص: 278 والمصباح ص: 132، والطراز 1/ 233، ولسان العرب مادة صحا، وتاج العروس مادة صحا، والبيت من الطويل.

فصل [تعريف السكاكي للحقيقة اللغوية]

فصل [تعريف السكاكي للحقيقة اللغوية] عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع؛ واحترز بالقيد الأخير عن الاستعارة، على أصح القولين؛ فإنها مستعملة فيما وضعت له بتأويل ... ـــــــــــــــــــــــــــــ فى استيفاء اللذات أو الأسباب التى قلما تتآخذ فى اتباع الغى إلا أوان الصبا، كالمال والإخوان، فتكون استعارة الأفراس حينئذ تحقيقية على التقديرين، لكون المشبه المتروك محققا عقليا على الأول، وحسيا على الثانى، ويكون لفظ الصبا حقيقة وعلى التقديرين فى البيت استعارة تبعية، ونظير البيت فى تجويز الوجهين قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (¬1) وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬2) على ما ذكره السكاكى، وإن كان المصنف قد جزم بأنها تحقيقية، فإن قلت: المصنف يرى أن الاستعارة بالكناية حقيقة لغوية، وقد جعل هنا لفظ" الصبا" على الاحتمال الأول استعارة بالكناية، وجعله مجازا على الميل والجهل، فقد جعل الاستعارة بالكناية مجازا. قلت: عنه جوابان: أحدهما: أن الصبا ليس مجازا عن الصبوة، بل حقيقة فيها - أيضا - كما يقتضيه كلام الجوهرى. الثانى: أنه إنما أراد بكون الاستعارة بالكناية حقيقة أنها غير مستعملة فى ملزوم واللازم المذكور، الذى هو من خواص المشبه به، والأمر هنا كذلك، فإن الصبا لم يستعمل فى السفر الذى يلزمه الأفراس أما كون لفظ الاستعارة بالكناية تجوز به عن معنى من المعانى، فالمصنف لا يمنع ذلك. تعريف السكاكى للحقيقة اللغوية: ص: (فصل: عرف السكاكى الحقيقة اللغوية إلخ). (ش): هذا فصل يتضمن اعتراضات على السكاكى فى تعريف الحقيقة والمجاز والاستعارة، وفى أقسام الاستعارة، فنقل عن السكاكى أنه حد الحقيقة اللغوية بأنها الكلمة المستعملة فيما وضعت له من غير تأويل فى الوضع، واحترز بالقيد الأخير، وهو قوله:" من غير تأويل فى الوضع" عن الاستعارة فإنها على أصح القولين الذاهب إلى أنها مجاز لغوى مستعملة فيما وضعت له وضعا بالتأويل، وهو ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان: متعارف، وغيره. والمستعار له داخل فى جنس المستعار منه بهذا التأويل، ثم ذكر عنه أنه عرف المجاز اللغوى بالكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 24. (¬2) سورة النحل: 112.

وعرّف المجاز اللّغوى بالكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق، فى اصطلاح به التخاطب، مع قرينة مانعة عن إرادته، وأتى بقيد التحقيق خ خ؛ لتدخل الاستعارة؛ على ما مرّ. وردّ: بأن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل، وبأنّ التقييد باصطلاح التخاطب لا بدّ منه فى تعريف الحقيقة. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتحقيق فى اصطلاح التخاطب، مع قرينة مانعة من إرادته وأتى بقيد التحقيق المتعلق بالوضع، لتدخل الاستعارة فى قسم المجاز، على ما مر تقريره من أنها مجاز لغوى فإنها مستعملة فيما وضعت له لكن بالتأويل، لا بالتحقيق ثم أورد المصنف عليه أمرين: أحدهما: أن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل، فلا حاجة إلى قوله: فى حد الحقيقة فيما وضعت له بتأويل. ولا حاجة إلى قوله: فى حد المجاز بالتحقيق؛ لأن لفظ الوضع والفعل المشتق منه إنما ينصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة، وحقيقة الوضع بالتحقيق من غير تأويل، وأورد على السكاكى فى هذا القيد أنه إذا صدق أنها مستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق، صدق أنها مستعملة فى غير ما وضعت له مطلقا؛ لأن صدق الأخص يستلزم الأعم. قاله: بعض شراح المفتاح. قلت: ليس من الأخص والأعم، بل من العام والخاص؛ لأن قوله:" فى غير وضع فى معنى النفى" فهو صيغة عموم. وقوله:" بالتحقيق" تخصيص أدخل ما استعمل فى وضع بتأويل. الثانى: أن التقييد باصطلاح التخاطب المذكور فى حد المجاز لا بد من ذكره فى حد الحقيقة أيضا لتدخل الحقائق الثلاث، كما أن ذكره فى حد المجاز أدخل الحقائق الثلاث: الشرعية، والعرفية، واللغوية. قال المصنف: لا يقال: قوله:" من غير تأويل فى الوضع" يغنى عن التقييد باصطلاح التخاطب، فإن الحقيقة الشرعية إذا استعملت فى معناها اللغوى، كإطلاق الصلاة بعرف الشرع على الدعاء، لا يصدق عليه أنه مستعمل فيما وضع له من غير تأويل، بل هو مستعمل فيما وضع له بالتأويل؛ لأن وقوع هذا الاستعمال الشرعى يؤذن بأن إطلاقها على الصلاة بتأويل، لأنا نقول: التأويل بالوضع لا يعم المجازات كلها بل إنما يكون فى الاستعارة على أحد القولين، ولذلك قال: إنما ذكرت هذا لإخراج الاستعارة، يعنى فهب أنه أخرج الاستعارة، فما الذى يخرج بقية أنواع المجازات. وأورد عليه فى الإيضاح - أيضا - أن حد المجاز يدخل فيه الغلط. قلت: أما اعتراضه بأن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل فصحيح، وقد سبق حد الوضع بما يخرج المجاز بجميع أنواعه، فتسمية المجاز موضوعا إن أطلق فهو مجاز، فلا حاجة إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاحتراز عنه. وقول الخطيبى:" إن ذلك موضوع عند من يقول: الاستعارة موضوعة". فيه نظر؛ لأن القائل: إنها موضوعة، إنما يريد وضعا تأويليا. وقوله:" إذ لو كان كذلك لما صح استفسار" يقال عليه: لا نسلم صحة الاستفسار، بل إذا أطلق الوضع تبادر الذهن إلى الحقيقى، وهذا الكلام منه، هو الذى ألجأه إلى أن يقول فيما سبق: أن المجاز موضوع، ثم قال: وأيضا ذكر قوله:" بتأويل" لدفع من يتوهم أن الاستعارة موضوعة بالتحقيق، وهذا الجواب قد أشار إليه المصنف فى الإيضاح، ولا يصح؛ لأنه لو كان قوله:" بغير تأويل" للإيضاح، لا للاحتراز. والسكاكى قد صرح بأنه احترز بها عن الاستعارة على أصح القولين، فهذا التأويل مصادم لصريح كلام السكاكى، ثم إنى أقول على كلام السكاكى والمعترضين عليه معا: إن هذا القيد لا يحتاج له سواء أكان الوضع أعم من الحقيقى، أم لا، فإن المجاز ليس فيه وضع، لا بالتحقيق ولا بالتأويل، أما بالتحقيق فظاهر، وأما بالتأويل، فلأن الاستعارة لفظ مستعمل بالتأويل فى غير ما وضع له مطلقا، فالاستعمال فى غير الموضوع وقع مصاحبا للتأويل، أو بسبب التأويل، وليس الاستعمال فى" وضع" لا بالتحقيق ولا بالتأويل، وغاية ما فى الاستعارة ادعاء أن المستعار له داخل فى جنس المستعار منه، وهذا هو التأويل والاستعمال ينشأ عنه فإن سميت هذا التأويل وضعا فلا مشاحة (¬1) فى الاصطلاح، وأما السؤال الثانى من أن التقييد باصطلاح التخاطب لا بد منه فى حد الحقيقة فأجاب الخطيبى عنه: بأنه اكتفى عن ذكره فيها بذكره فى المجاز، لكون البحث عن الحقيقة فى هذا العلم غير مقصود بالذات، وليس بطائل، والذى يظهر فى جوابه ما ذكره المصنف، ولم يرضه، وهو أن قوله:" من غير تأويل فى الوضع" يغنى عن قوله:" فى اصطلاح التخاطب"؛ لأن إطلاق الصلاة بعرف الشرع على الدعاء، وإن كان استعمالا فى الموضوع، لكنه بتأويل فى الوضع، وهو استعمال الصلاة فى الدعاء، لعلاقة بينه وبين ذات الأركان لا يقال: فكان يستغنى عن ذكرها فى حد المجاز، أيضا؛ لأنا نقول: لعله ذكرها لإخراج المستعمل فى غير موضوعها بالتحقيق، لا لعلاقة، فإنه صدق عليه أنه مستعمل فى غير موضوع بالتحقيق، لأن ما استعمل لا فى وضع بالتحقيق ولا بالتأويل، يصدق عليه أنه استعمل فى غير وضع بالتحقيق؛ فأما اعتراض المصنف على هذا الجواب: ¬

_ (¬1) أى: فلا اختلاط، راجع مادة" شحح" القاموس المحيط.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن التأويل فى الاستعارة دون سائر أنواع المجاز، ففيه نظر، فإن الذى ليس فى سائر أنواع المجاز، هو هذا التأويل الخاص، وهو كون المشبه فردا من جنس المشبه به أما مطلق التأويل وهو باعتبار المناسبة بين الموضوع وغيره بالعلاقة، فلا بد منه، ولذلك ذهب جماعة من الأصوليين إلى أن المجاز بجميع أنواعه موضوع، وقوله: إنه ذكر هذا القيد لإخراج الاستعارة يجوز أن يريد لإخراجها وغيرها من المجازات، وذكره الاستعارة لأنها المقصود بالكلام، وأجيب عن السكاكى بأنه ترك ذكر هذا القيد فى حد الحقيقة اكتفاء بتعداد أفرادها، وتقسيمها، إلى الحقائق اللغوية والشرعية، والعرفية، وأما المجاز فلما لم يقسمه احتاج إلى زيادة تدخل أقسامه، وأما الاعتراض بأنه يرد عليه الغلط، فأجاب الخطيبى عنه بأن الغلط خرج بقوله:" مع قرينة عدم إرادته" فإن الغالط لا ينصب قرينة على عدم إرادة الوضع، وفيه نظر؛ لجواز أن يكون نصب القرينة أيضا غلطا بأن تكون قرينة تصرف عن الحقيقة، ولا تصرف إلى ذلك المجاز، كقولك مشيرا إلى كتاب: يأيها الأسد الرامى بالنبل. نعم قد يجاب بأمرين: أحدهما: أن السكاكى صرح فى أثناء هذا البحث بأنا لا نقول فى عرفنا: استعملت الكلمة فيما تدل عليه، أو فى غيره، حتى يقول: الغرض الأصلى طلب دلالتها على المستعمل فيه فيخر (¬1) الغلط. الثانى: أنه خرج بقوله:" كلمة" فإنه ليس من كلمات العرب كما سبق، بقى على المصنف، والسكاكى معا اعتراض هو أقوى من جميع ما سبق، وهو أن قوليهما: إن قول السكاكى:" فى حد الحقيقة من غير تأويل" احتراز عن الاستعارة، فإنها مستعملة فى موضوعها على أصح القولين يقتضى أنا إذا قلنا: إن الاستعارة حقيقة، لا يكون محترزا عنها بهذا القيد، بل تكون داخلة فى حد الحقيقة، وفيه نظر؛ لأنها حينئذ تكون خارجة عن حد الحقيقة فيكون الحد غير جامع، فإن القائل: إنها حقيقة لا يقطع النظر عن التأويل، وأيضا، فإن مفهوم قوله:" إنها مستعملة فى موضوعها" على أحد القولين يقتضى أنها على الآخر مستعملة فى موضوعها، وليس كذلك بل هى على القولين مستعملة فى موضوعها، وإنما استعمالها فى موضوعها على القول بأنها حقيقة أوضح. ¬

_ (¬1) خرّ الماء يخرّ، بالكسر خرّا إذا اشتد جريه. انظر اللسان مادة: خرر والمعنى هنا أى، فيعظم الغلط.

وقسّم المجاز اللغوى إلى الاستعارة وغيرها. وعرّف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفى التشبيه، وتريد به الآخر، مدّعيا دخول المشبّه فى جنس المشبّه به. وقسّمها إلى المصرّح بها، والمكنى عنها. وعنى بالمصرّح بها: أن يكون المذكور هو المشبّه به، وجعل منها تحقيقيّة، وتخييليّة: وفسّر التحقيقيّة بما مرّ، وعدّ التمثيل منها: وردّ: بأنه (¬1) مستلزم للتركيب المنافى للإفراد ... ـــــــــــــــــــــــــــــ تقسيم السكاكى المجاز إلى الاستعارة وغيرها: ص: (وقسم المجاز إلى الاستعارة وغيرها إلخ). (ش): هذا اعتراض آخر على السكاكى، وهو أنه قسم المجاز إلى الاستعارة، وغيرها، فلزم أن يكون كل استعارة مجازا، وعرف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفى التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه فى جنس المشبه به. (وقسمها) أى الاستعارة إلى: المصرح بها، والمكنى عنها، وعنى بالمصرح بها أن يكون المذكور هو المشبه به وفى العبارة توسع؛ لأن كون المذكور هو المشبه به ليس الاستعارة، بل ذلك ليكون متعلق الاستعارة، وكذلك قوله:" أن تذكر" ليست الاستعارة الاصطلاحية أن تذكر، بل المذكور، وجعل منها أن من المصرح بها تحقيقية وتخييلية، وفيه توسع؛ لأن المصرح بها كلها تحقيقية وتخييلية، وتحرير العبارة أن يقال: قسم المجاز إلى: الاستعارة، وغيرها، وعرف الاستعارة بذكر أحد طرفى التشبيه مرادا به الآخر، وقسمها إلى مصرح بها، ومكنى عنها، وعنى بالمصرح بها أن يذكر المشبه به مرادا به المشبه، وقسمها إلى: تحقيقية، وتخييلية، وفسر التحقيقية بما مر، أى ما كان المشبه فيه حسيا أو عقليا، وعد التمثيل منها أى من الاستعارة التحقيقية، فلزم أن يكون التمثيل قسما من التحقيقية، التى هى قسم من المصرح بها، التى هى قسم من الاستعارة، التى هى قسم من المجاز، الذى هو كلمة، والكلمة مفرد، فيلزم أن يكون التمثيل مفردا، ورد ذلك بأن التمثيل مستلزم للتركيب؛ لأنه مركب والتركيب مناف للإفراد، فيلزم أن يكون التمثيل مفردا ومركبا، وذلك جمع بين الضدين وهو محال. وأجاب الخطيبى: بأن المركب قد يطلق عليه كلمة، فيكون مراده بالكلمة فى حد المجاز ما هو أعم من المفرد والمركب، وفيه نظر؛ لأن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز، وأيضا فإنه يستلزم أن يكون ¬

_ (¬1) أى التمثيل.

وفسّر التخييلية بما لا تحقّق لمعناه حسّا ولا عقلا، بل هو صورة وهميّة محضة؛ كلفظ الأظفار فى قول الهذلىّ؛ فإنه لمّا شبّه المنيّة بالسّبع فى الاغتيال، أخذ الوهم فى تصويرها بصورته واختراع لوازمه لها، فاخترع لها صورة مثل الأظفار، ثم أطلق عليها لفظ الأظفار: ـــــــــــــــــــــــــــــ المركب موضوعا؛ لأنه وصف المجاز بأن له موضوعا استعمل فى غيره، والأكثرون على خلافه، وأجاب أيضا: بأنا لا نسلم أنه عد التمثيل من المصرح بها التحقيقية، فجاز أن يكون ذكره فى فصلها لمشابهته لها من جهة تحقيق معنى التشبيه المتروك عقلا، وذكر المشبه به فقط. وأجيب أيضا بأن السكاكى لم يلتزم فى التمثيل، أن يكون مركبا، بدليل أنه جعل منه قوله:" وصاعقة من نصله" وعد منه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ (¬1) وأجيب أيضا بأنه عد التمثيل من الاستعارة التحقيقية، لا فى كونه مركبا بل فى جهات أخر تظهر بالتأمل، بقى هنا بحث، وهو أن الاستعارة المصرح بها قسمت إلى تحقيقية وتخييلية، ولم تقسم المكنية إلى ذلك فما المانع من تقسيم المكنية - أيضا - إلى تحقيقية، وهو ما كان المشبه به فيها ثابتا فى الحس أو العقل، وتخييلية، وهو ما لم يكن ثابتا فى الحس ولا العقل، بل فى الوهم، كما ذكره بعض شراح المفتاح، وقد يجاب بأن المكنية لا يكون المشبه به فيها إلا تخييليا؛ لأن المشبه به هو الفرد المدعى دخوله فى حقيقة المشبه به، كما أن المنية مشبهة بالسبع الذى هو مجازى، فالمشبه" المنية"، والمشبه به الذى هو مجازى" السبع" الذى هو موت، هذا على رأى السكاكى فى معنى الاستعارة بالكناية، وأما على رأى المصنف فلا يأتى ذلك. تفسير السكاكى للاستعارة التخييلية: ص: (وفسر التخييلية إلخ). (ش): هذا اعتراض ثالث، وهو أن السكاكى فسر الاستعارة التخييلية بما لا تحقق لمعناه، أى للمراد منه، وهو للمشبه إذ لا يكون للمشبه تحقق فى الحس ولا فى العقل، وعبارة المصنف حسا وعقلا، وينبغى أن يقول حسا ولا عقلا؛ ليكون نعتا لكل منهما، لا لمجموعهما، بل هو أى المشبه به صورة وهمية محضة كلفظ" الأظفار" فى قول الهذلى: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 67. (¬2) شطر البيت، وهو من الكامل، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى شرح أشعار الهذليين/ 8، وتهذيب اللغة 11/ 38، 14 / -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه لما شبه المنية بالسبع فى الاغتيال أخذ الوهم فى تصويرها بصورته، واختراع لوازمه للمنية من الهيئات والجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به، فاخترع لها مثل صورة الأظفار ثم أطلق عليها لفظ" الأظفار". قلت: وهذه العبارة تقتضى أن" الأظفار" يكون بها قيام وجه الشبه، لا أنها من القسم الآخر، وهو ما يكمل به وجه الشبه، وقد تقدم عند الكلام فى الاستعارة بالكناية عكسه، فهذا مخالف لما سبق من كلامه فى التلخيص تلويحا، وفى الإيضاح تصريحا والمذكور هنا أقرب إلى الصحة، فإن بالأظفار يكمل وجه الشبه، لا يكون به قوامه، فإن الاغتيال يكون بالأنياب أيضا، وبقى هنا سؤال آخر على المصنف، وهو أن يقال: لا نسلم أن المنية ليس لها أمر عقلى من المقدمات، ولا شك أن له تحققا فى العقل يكون مشبها بالأظفار كما جعلتم للخوف والجوع لباسا متحققا فى العقل، فكانت استعارته تحقيقية فى قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (¬1) فإنكم قلتم: إن الاستعارة فيه تحقيقية، إما لأن المشبه فيه حسى ولا تفريع عليه، أو عقلى بأن يكون أريد باللباس الشدائد والدواهى، فكما جعلتم اللباس أريد به الشدائد الحاصلة من الجوع، وقلتم تحقيقية؛ لأن المشبه فيه متحقق فى العقل، فاجعلوا مقدمات الموت المتحققة فى العقل أظفارا، ولا يرد هذا على السكاكى؛ لأنه جعل الاستعارة فى الآية خيالية، فاعترض المصنف عليه بأمور: أحدها: أن فيما ذكره تعسفا لكثرة الأعمال المذكورة. الثانى: أنه مخالف لتفسير غيره، فإن غيره فسرها بأنها جعل الشئ للشئ، أى على سبيل المبالغة، ومثلوه بقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (¬2) فإن تفسيره يقتضى أن يجعل للشمال صورة متوهمة كصورة اليد، لا أن يجعل لها يدا، فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة، وعلى تفسير غيره حقيقة، وإنما الاستعارة فى إثباتها للشمال، كما قلنا فى المجاز العقلى الذى المشبه فيه حقيقة. قلت: هذا من المصنف يقتضى أن المجاز العقلى استعارة بالكناية، وهو لا يرى ذلك، بل رد على السكاكى القول به، فهو مناقض لما قاله أوائل الكتاب، فليتأمل. ¬

_ - 260، وسمط اللآلى ص: 888، وأمالى القالى 2/ 255، والصناعتين ص: 314، والإيضاح ص: 277. (¬1) سورة النحل: 112. (¬2) سبق البيت ص: 84.

وفيه تعسّف، ويخالف تفسير غيره لها بجعل الشئ للشئ، ويقتضى أن يكون الترشيح تخييليّة؛ للزوم مثل ما ذكره فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: أنه يلزم أن يكون ترشيح الاستعارة استعارة تخييلية للزوم ما ذكر فيه؛ لأن الترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه، إلا أن التعبير عن المشبه فى" التخييلية" بلفظه الموضوع له، وفى" الترشيح" بغير لفظه، وهذا لا يفيد فرقا، والقول بذلك يقتضى أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية، وليس كذلك. الرابع: ذكره المصنف فى الإيضاح أن إطلاقه أن التخييلية ما استعمل فى صورة متوهمة مشابهة لمحققة (¬1)، يقتضى أنه لا يشترط فى" التخييلية" اقترانها بالاستعارة بالكناية لأنه أطلق. ويدل أيضا على إرادته ذلك، أنه قال: حسن التخييلية بحسب حسن المكنى عنها متى كانت تابعة لها كما فى قولك:" فلان بين أنياب المنية ومخالبها" وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها، ولذلك استهجنت فى قول الطائى: لا تسقنى ماء الملام فإنّنى … صبّ قد استعذبت ماء بكائى (¬2) وهذا منه يقتضى أن التخييلية قد تكون غير تابعة للمكنية، فإن قيل: لم لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكنية التابعة لغير المكنية قلنا: غير المكنية هى المصرح بها، فتكون التابعة لها ترشيحا للاستعارة، وهى من أحسن البلاغة، فكيف يصح استهجانه؟ ورأى المصنف أن" التخييلية" لا بد أن تكون تابعة للمكنية، وأجاب عن بيت أبى تمام بجواز أن يكون شبه الملام بظرف الشراب، لاشتماله على ما يكرهه الملوم، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب لبشاعته أو مرارته، فتكون التخييلية تابعة للمكنى عنها، أو بالماء نفسه؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأوام، فيكون تشبيها على حد قوله: والرّيح تلعب بالغصون وقد جرى … ذهب الأصيل على لجين الماء (¬3) ¬

_ (¬1) الإيضاح بتحقيقى ص: 280. (¬2) الطائى هو أبو تمام، وشطر الشعر فى ديوانه ص 14، والمصباح ص: 142، والإيضاح بتحقيقى ص: 281. (¬3) البيت لأبى خفاجة الأندلسى فى ديوانه ص 18، التلخيص ص 71 وفيه (والريح تعبث بالغصون)، والإيضاح ص 263.

وعنى بالمكنىّ عنها: أن يكون المذكور هو المشبّه، على أن المراد بالمنيّة السبع؛ بادّعاء السّبعية لها؛ بقرينة إضافة الأظفار إليها. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكون تشبيها، كما صرح به المصنف فى التشبيه كما سبق، ولا يكون استعارة، والاستهجان حاصل على التقديرين؛ لأنه كان ينبغى أن يشبهه بظرف شراب مكروه، أو بشراب مكروه؛ ولهذا لم يستهجن" أغلظت لفلان القول" و" جرعته منه كأسا مرة" أو" سقيته أمر من العلقم"، هذا ما أورده المصنف على السكاكى، واعلم أن جعله" لجين الماء" و" ماء الملام" تشبيها، يقتضى جعل لباس الجوع والخوف تشبيها، وقد عده فى أول الكلام على الاستعارة" استعارة" وإنما ردد القول فى أنها تحقيقية أو تخييلية، فهذا الكلام مخالف لما سبق، وأجاب الخطيبى عن الأول، والثانى بأن ما ذكره السكاكى هو الموافق لإجماع الناس على أن الاستعارة التخييلية مجاز لا حقيقة، وما ذكره المصنف يقتضى أنها ليست مجازا، فلا تكون استعارة، وعن الثالث بأنه لا يلزم أن يكون الترشيح تخييلية؛ لأن الترشيح للمبالغة فى الاستعارة، والتخييل لحصول الاستعارة، وبينهما فرق، وهذا هو الفرق الذى ذكره المصنف، وقال: لا يحصل به فرق، والظاهر مع الخطيبى، لأن ما يقوى الشئ الحاصل هو الجدير باسم الترشيح، وما لا تعلم الاستعارة إلا به هو الجدير باسم الاستعارة، وعن الرابع بأن عدم وجدان استعارة تخييلية دون استعارة بالكناية لا يقتضى أن يكون اقترانها بالكناية شرطا، ويشهد لما قاله أن السكاكى قال: الاستعارة بالكناية لا تنفك عن الاستعارة التخييلية، وستقف فى آخر الفصل على تفصيل هنا، ثم ذكر فى آخر الفصل أن المكنية توجد دون التخييلية فقد حصل انفكاك إحداهما عن الأخرى، وإذا صح انفكاك المكنية فكذلك يصح انفكاك التخييلية، ومن جهة المعنى أن الأصل عدم توقف إحدى الاستعارتين على الأخرى، فمدعى الاشتراط هو المحتاج إلى دليل. الاستعارة المكنية: ص: (وعنى بالمكنى عنها إلخ). (ش): هذا اعتراض آخر على صاحب المفتاح، حاصله أن المصنف يرى أن الاستعارة بالكناية أن يذكر لفظ المشبه مرادا به حقيقته، ويدل على أن القصد تشبيهه بغيره بذكر شئ من لوازم ذلك الغير والسكاكى يرى أن المكنية عبارة عن ذكر المشبه مرادا به المشبه به، بعد ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، فإن قلت: يلزم أن

وردّ: بأن لفظ المشبّه فيها مستعمل فيما وضع له تحقيقا، والاستعارة ليست كذلك، وإضافة نحو (الأظفار) قرينة التشبيه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تكون المنية مثلا فى بيت الهذلى أريد بها" السبع"؛ لأنه المشبه به، فيكون استعارة تحقيقية، ولا يكون معنى المنية مقصودا، والقطع حاصل بخلافه، قلت: بل المنية يعبر بها عن" السبع" الذى هو الموت بعد ادعاء أن الموت فرد من أفراد السباع، فالمراد بالمنية السبع لكن ليس السبع الحقيقى، بل السبع المجازى، فالاستعارة فى الأصل للسبع كأنا عبرنا بالسبع عن المنية، ثم عبرنا بالمنية عن ذلك السبع، فيصح أن يقال حينئذ: المراد بالمنية" السبع"، وأن يقال: المراد بها" الموت" وعلى التقديرين المراد المشبه به، ووضح بذلك أن المنية فى البيت مشبه أريد به المشبه به، فالمشبه المنية التى هى موت مطلق، والمشبه به المنية التى هى موت مقيد بكونه له صورة السبع، ولما كان المصنف مخالفا للسكاكى فى ذلك، ويرى أن المراد بالمشبه" الحقيقة المشبهة" اعترض عليه، فقال: وعنى بالمكنى عنها أن يكون المذكور هو المشبه على أن المراد بالمنية" السبع" أى السبع المجازى الذى ادعى دخوله فى أفراد السبع الحقيقى بادعاء السبعية، أى صفة السبع لها بقرينة إضافة الأظفار إليها، أى إضافتها لضميرها، أى بمعنى نسبتها لها، ورد المصنف هذا بأن لفظ المشبه فيها، أى فى" المنية" مثلا مستعمل فيما وضع له تحقيقا، وعبر المصنف هنا بلفظ المشبه؛ لأنه يرى أن ذلك تشبيه لا استعارة، وهذا استدلال بنفس الدعوى، قال فى الإيضاح: للقطع بأن المراد" بالمنية" فى البيت" الموت" لا الحيوان المفترس. قلت: وهذا لا يدل؛ لأن السكاكى لا ينكر أن يكون المراد" بالمنية"" الموت"، ولك أن تقول: المراد بها الموت بقيد كونه على صورة السبع، كما حققناه آنفا، وهذا القدر هو الذى أوقع المصنف فى هذا الاعتراض، ولم يتأمل أن قول السكاكى: إن المراد" بالمنية"" السبع" لا ينفى ما هو مقطوع به من إرادة الموت، وقول المصنف: إن إدخال المنية فى جنس السبع للمبالغة، لا يقتضى كون اسم المنية يستعمل فيما لم يوضع له على التحقيق ليس صحيحا؛ لأن المنية التى وضع اللفظ لها" موت" هو معنى، والمنية المرادة فى المكنية موت له صورة السبع، وما ذكره السكاكى من كون الاستعارة بالكناية مجازا، عليه الأكثرون، وصرح به الزمخشرى عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 27.

واختار ردّ التبعيّة إلى المكنىّ عنها، بجعل قرينتها مكنيّا عنها، والتبعيّة قرينتها، على نحو قوله فى المنية وأظفارها. وردّ: بأنه إن قدّر التبعية حقيقة، لم تكن تخييلية؛ لأنها مجاز عنده، فلم تكن المكنىّ عنها مستلزمة للتخييلية؛ وذلك باطل بالاتفاق؛ وإلّا فتكون استعارة، فلم يكن ما ذهب إليه مغنيا عما ذكره غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــ رد الاستعارة التبعية إلى الاستعارة المكنية: ص: (واختار رد التبعية إلخ). (ش): هذا اعتراض على السكاكى، وهو أنه اختار رد الاستعارة التبعية، أى الواقعة فى الحروف والمشتقات من المصادر إلى المكنى عنها، أى أن التبعية قسم من المكنية، أى بأن تجعل قرينتها، أى ما أسند إليه مثلا تلك التبعية مكنيا عنها، وتجعل التبعية قرينتها أى تخييلية على نحو ما قال فى" المنية" و" أظفارها" فى بيت الهذلى، فيكون معنى قولنا:" نطقت الحال" أن الحال عبر بها عن المتكلم بادعاء دخوله فى جنس المتكلمين، وقولنا:" نطقت" تخييلية، وقد رد المصنف عليه بأنه إن قدر التبعية حقيقة يلزم أن لا تكون تخييلية، لأن التخييلية عند السكاكى مجاز، وإذا كانت حقيقة لا تكون تخييلية، فيلزم أن لا تكون المكنى عنها مستلزمة للتخييلية، وذلك باطل بالاتفاق، يعنى أن وجود المكنية دون التخييلية باطل بالاتفاق، بخلاف وجود التخييلية دون المكنية فإنه جائز عند السكاكى ممتنع عند المصنف، كما سبق، وقد رد عليه الخطيبى: بأنا لا نسلم الاتفاق على أن المكنية تستلزم الخيالية؛ لأن المصنف يرى أن المجاز العقلى استعارة بالكناية، وليس مستلزما للخيالية. قلت: والجواب صحيح، وبرهانه أن السكاكى ذكره فى آخر الكلام على المجاز العقلى أنه عنده استعارة بالكناية، وأن المكنى عنها تنقسم إلى: ما قرينتها أمر وهمى" كالأنياب" فى قولنا: " أنياب المنية" أو أمر محقق" كالإنبات" فى قولنا:" أنبت الربيع البقل" لا يقال: فقد قال السكاكى: إن الاستعارة بالكناية لا تنفك عن التخييلية؛ لأنه قال على تفصيل سنذكره فى آخر الفصل، وهذا هو التفصيل الموعود به، وقال الخطيبى فى شرح المفتاح: إنه يمكن أن تكون" التخييلية" موجودة فى" أنبت الربيع" فيكون تشبيه الإنبات على سبيل التخييل، وهو فاسد، فإن ذلك مجاز إسنادى، ونحن إنما نتكلم فى الاستعارة التخييلية التى هى قسم من مجاز الإفراد. قوله: (وإلا) أى وإن لم يقدر التبعية

فصل [حسن كل من التحقيقية والتمثيل]

فصل [حسن كل من التحقيقية والتمثيل] حسن كل من التحقيقيّة والتمثيل: برعاية جهات حسن التشبيه، وألّا يشمّ رائحته لفظا؛ ولذلك يوصّى أن يكون الشبه بين الطرفين جليّا؛ لئلا يصير إلغازا؛ كما لو قيل: رأيت أسدا وأريد إنسان أبخر، ورأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة (¬1)، وأريد الناس. ـــــــــــــــــــــــــــــ حقيقة، بل جعلها" تخييلية" مجازا، فلم يكن ما ذهب إليه مغنيا عما ذكره غيره، أى لم يكن تقسيم الاستعارة إلى: مصرح بها، ومكنى عنها مغنيا عن تقسيمها إلى: تبعية، وغيرها لأن نحو:" نطقت" استعارة تخييلية مقرونة بالمكنية فهى مجاز، وإذا كان كذلك فهى تخييلية تبعية، بخلاف" الأظفار" فى قوله:" أنشبت أظفارها" فإنها تخييلية أصلية؛ فثبت أن تقسيم الاستعارة إلى: أصلية، وتبعية لا بد منه، سواء أكانت التبعية داخلة فى المكنية أم لا. قال بعضهم: لا يلزم ذلك؛ لأن التبعية والأصلية قسمان للتحقيقية، وإذا كانت هذه خيالية لا تسمى تبعية، واعلم أن فى عبارة السكاكى، وقوله:" التبعية من جنس المكنية" نظرا، ينبغى أن يقول:" من جنس الخيالية" كما هو مقصود غايته أن التبعية إذا كانت خيالية، والفرض أنها لا تحسن إلا مع المكنية أطلق عليها مكنية، لاقترانها بها، وفى نقل المصنف أنه اختار رد التبعية إلى المكنية نظر، لأنه لم يصرح باختيار ذلك، بل قال: لو جعل التبعية من المكنية لكان أقرب إلى الضابط، وليس ذلك صريحا فى اختيار هذا، قال فى الإيضاح: لكن يستفاد مما ذكره رد التركيب فى التبعية إلى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها، وتصير التبعية حقيقة واستعارة تخييلية لما سبق؛ لأن التخييلية على ما فسرناها حقيقة لا مجاز. حسن كل من التحقيقية والتمثيل: ص: (فصل حسن كل من التحقيقية إلخ). (ش): لما استوفى أقسام الاستعارة والمجاز المركب شرع فى ضابط حسن كل منهما فقال: حسن كل من التحقيقية والتمثيل، وهو المجاز المركب وعطفه على الاستعارة وإن كان منها؛ لأنه لا يريد الاستعارة التى هى قسم من المجاز المفرد بأمور إن وجد فيها حسنت، وإلا عريت عن الحسن؛ بل ربما اكتسبت قبحا برعاية جهات ¬

_ (¬1) قال صلّى الله عليه وسلّم: إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة خ خ. أخرجه البخارى عن ابن عمر، كتاب الرقاق باب رفع الأمانة، ومسلم ك فضائل الصحابة وابن ماجه وأحمد.

وبهذا ظهر: أن التشبيه أعمّ محلّا، ... ـــــــــــــــــــــــــــــ حسن التشبيه، أى الجهات المقتضية لحسن التشبيه المذكور فى بابه، فإن الاستعارة تشبيه معنوى مثل كون وجه الشبه كثير التفصيل، وكون حصول المشبه نادرا ونحوه، وجعل منه الخطيبى كون وجه الشبه فى المشبه به أتم وفيه نظر؛ لأنه إذا كان كذلك، يأتى بالتشبيه لا بالاستعارة، بل ينبغى أن يعكس فيقول: ويأتى بتساوى الطرفين حتى يأتى بالتشبيه، وأن لا، أى وحسنها أيضا بأن لا يشم رائحته، أى التشبيه لفظا، ولذلك أى ولأجل أن من شرط حسنها أن لا يشم رائحة التشبيه - يوصى، أى يوصى العلماء أن يكون التشبيه بين الطرفين جليا، وذلك إما بنفسه، أو بكونه مشهورا نسبته إلى المشبه به، كالشجاعة للأسد، حتى إذا كان مشهورا لا يحتاج إلى ذكر شئ يدل على التشبيه، فحينئذ يضعف التشبيه ويبطل حسنه، لئلا أى إن لم يكن وجه الشبه جليا، فإن الاستعارة تصير ألغازا، كذا قالوه. ولقائل أن يقول: وماذا يصير إذ صار ألغازا؟ ولا شك أن الألغاز من أنواع البديع المستحسنة، وله مواقع لا يصلح فيها غيره، إنما هو له مواضع لا يستعمل فيها، والمجاز كيف (¬1) وقع لا بد له من قرينة فربما كان الألغاز بالمجاز مع قرينة ضعيفة، أما دون القرينة فلا يقع استعارة ولا مجازا، وقولهم ذلك - وإن كان من مقاصد الأدباء - فالمقصود من الاستعارة خلافه ممنوع؛ بل كل من الألغاز وغيره يكون تارة بالحقيقة وتارة بالاستعارة، فليحمل ذلك على ما إذا لم يقصد التعميم، ومثال غير الجلى أن نقول:" رأيت أسدا" تريد إنسانا أبخر أو تقول:" رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة" تريد" الناس"، بل حق مثل ذلك أن تأتى بالتشبيه كما قال صلّى الله عليه وسلّم" الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة" (¬2) وكذلك تشبيهه صلّى الله عليه وسلّم" المؤمن بالنخلة" (¬3) والخامة، فإن قلت:" رأيت نخلة" أو" خامة" كنت كما قال سيبويه ملغزا تاركا لكلام الناس، نقله الإمام فخر الدين والزنجانى وزاد الزنجانى" وكان تكليفا بعلم الغيب" بل حق مثل ذلك أن يؤتى بالتشبيه كما قال صلّى الله عليه وسلّم:" الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة" (وبهذا) أى بكون التشبيه قد يكون بالجلى وغيره والاستعارة لا تكون إلا بالجلى (ظهر أن التشبيه أعم محلا من الاستعارة والتمثيل) فمتى وجد محل الاستعارة وجد محل التشبيه من غير عكس، كذا قالوه، وفيه نظر، فإن الذى ظهر مما سبق ¬

_ (¬1) قوله: والمجاز كيف وقع، المعنى أى أين وقع. (¬2) أخرجه البخارى فى" الرقاق"، (11/ 341)، (ح 6498)، ومسلم (ح 2547). (¬3) أخرجه البخارى فى" العلم"، و" الأدب" (10/ 540)، (ح 6122)، ومسلم (ح 2811).

ويتصل به أنه إذا قوى الشبه بين الطرفين حتى اتحدا - كالعلم والنور، والشبهة والظلمة - لم يحسن التشبيه، وتعيّنت الاستعارة. والمكنى عنها - كالحقيقية، والتخييلية - حسنها بحسب حسن المكنى عنها ... ـــــــــــــــــــــــــــــ أن محل حسن التشبيه أعم من محل الاستعارة؛ لأن محل التشبيه على الإطلاق أعم، ومن أسباب حسن الاستعارة أن لا تكون مطلقة بل تكون مرشحة، وإلا فمجردة. ص: (ويتصل به إلى آخره). (ش): أى، ويتصل بهذا البحث، أنه إذا قوى الشبه، أى وجه الشبه بين الطرفين حتى اتحدا، يريد" حتى صارا كأنهما شئ واحد"، هذا صواب العبارة، وإن كانت عبارة الإيضاح" حتى صار الفرع كأنه الأصل" وليست بجيدة لأنه يفر من شئ، وهو التشبيه، فيقع فى التعبير به؛ لأنه لا يحسن التشبيه وتتعين الاستعارة، وذلك كتشبيه" العلم"" بالنور" و" الشبهة" بالظلمة؛ فيحسن أن تقول:" فى قلبى نور، وليس فيه ظلمة" ولا يحسن أن تأتى بالتشبيه فتقول:" كأن نورا فى قلبى، وكأنك أوقعتنى فى ظلمة" قيل: إن هذين المثالين غير مطابقين لمقصوده؛ لأن لفظ النور والظلمة فيها استعارة، والمعنى: كأن مثل النور مستقر فى قلبى، وقد يجاب عنه بالمنع، فإن قولك:" كأن نورا فى قلبى"" تشبيه" قطعا لذكر الطرفين، وإنما جاء الالتباس فيه من جهة أنه تشبيه مقلوب، فإن أصله" كأن المستقر فى قلبى نور" فقلب، وقيل: كأن نورا فى قلبى؛ لأن الذى يلى كأن هو المشبه فهذا اعتراض، والقول: بأنه استعارة لا يصح، نعم كان ينبغى أن يمثل بتشبيه لا قلب فيه، لأنا لا نوافقه على أن التشبيه المقلوب دون الاستعارة فى المبالغة، وأما دعوى الاستعارة فى" كأنك أوقعتنى فى ظلمة" ففاسد - أيضا - بل هو تشبيه المعنى" أنت مثل موقع فى ظلمة" والظلمة حقيقة بلا شك، فتمثيل المصنف بها لا غبار عليه قوله: (لا يحسن التشبيه) قريب وقوله: (تتعين الاستعارة) قد يرد عليه أنه تقدم أنه إذا وصل الأمر إلى ذلك يأتى بلفظ التشابه لا التشبيه، وهو مخالف لقوله هنا:" تعينت الاستعارة" وقد يجاب بأن قوله:" تعينت الاستعارة" إنما قصد به نفى التشبيه لا انحصار التعبير فى الاستعارة، ولذلك قد تحصل المبالغة التى فى الاستعارة، وأكثر منها بقلب التشبيه، كقولك:" الأسد كزيد" ثم لما بين شروط حسن التحقيقية، والتمثيل قال: (والمكنى عنها) أى حسن الاستعارة المكنى عنها بحسب حسن التحقيقية والتمثيل، وحسن الاستعارة التخييلية بحسب حسن المكنى عنها، أما عند المصنف فلأنها لا تكون إلا تبعا لها وأما عند السكاكى فلأنها إن لم تتابعها لم يحسن حسنها تابعة بالاستقراء.

فصل [قد يطلق المجاز على كلمة تغير حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ]

فصل [قد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ] وقد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ؛ كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ (¬1)، وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬2)، وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬3) أى: أمر ربّك، وأهل القرية، وليس مثله شئ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فصل: قد يطلق المجاز على كلمة تغير حكم إعرابها: ص: (فصل قد يطلق المجاز إلخ). (ش): هذا النوع الآخر من أنواع المجاز وقوله: قد يطلق إشارة إلى أن تسمية هذا النوع مجازا ليس على التحقيق، لأن المجاز لفظ مستعمل فى غير موضوعه، وليس فى النقص لفظ استعمل فى غير موضوعه، والزيادة - أيضا - لم يستعمل الزائد فى غير موضوعه، وفى الثانى نظر؛ لأن استعماله للتأكيد استعمال فى غير موضوعه لا يقال: شرط المجاز العلاقة بين الموضوع وما استعمل فيه، ولا علاقة، لأنا نقول: العلاقة بين تأكيد المعنى وتأسيسه جلية. وقد بالغ الجرجانى عبد القاهر فى الرد على من سمى هذا مجازا، وقال السكاكى: رأيى أن يقال: هو مشبه للمجاز وملحق به؛ لاشتراكهما فى التعدى عن الأصل: قوله (على كلمة) دخل فيه الاسم، والفعل، والحرف. (تغير حكم إعرابها) أى نقل عن الإعراب الذى كان لها قبل الحذف، والزيادة. (بحذف لفظ) حرفا كان، أم فعلا، أم اسما. (أو زيادة لفظ) كذلك؛ لأن الفعل قد يزاد كما تزاد" كان"، واعلم أن عبارة المصنف تقتضى أن المجاز فى مجاز الزيادة، وهو الكلمة التى تغير بزيادة غيرها إعرابها، وليس كما قال؛ بل التجوز هو فى نفس الكلمة الزائدة، فالحذف (كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ) والأصل وجاء أمر ربك، فكان إعراب" رب" الجر فتغير بالحذف وصار إلى الرفع؛ لأنه أعطى إعراب المضاف المحذوف (وكقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أى أهلها على أحد الأقوال المتقدمة فى باب الإيجاز، ويرد على المصنف أنه ليس من شرط مجاز الحذف أن يتغير الإعراب، فقد يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره، كما هو إحدى اللغتين ومنه قراءة بعضهم: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (¬4) الجر، ويكون من مجاز الحذف، والزيادة كقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ (¬5) فإن الإمام فخر الدين اختار أن" مثل" زائدة، وهو أحد القولين، والمشهور تمثيله بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ¬

_ (¬1) سورة الفجر: 22. (¬2) سورة يوسف: 82. (¬3) سورة الشورى: 11. (¬4) سورة الأنفال: 67. (¬5) سورة البقرة: 137.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أى ليس مثله شئ،" فالكاف" زائدة وكان" مثله" منصوبا فتغير حكم إعرابه وصار جرا. قلت: وقد ذكر الوالد فى تفسيره كلاما حسنا فى هذه الآية ها أنا أذكره بنصه لما فيه من الفوائد:" كثر كلام الناس فى الجمع بين" الكاف" و" مثل" وواحد منهما يكفى فى هذا المعنى، وتحصل من ذلك على خمسة أجوبة، أذكرها بعد تقرير الإشكال، وهو أن الجمع بينهما يوهم بظاهره أن المنفى مثل المثل؛ لأن النفى إنما يتسلط على الخبر، و" الكاف" بمعنى" مثل" وهى خبر ليس، وقد دخلت على" مثله" فيكون المنفى مثل مثله، وهو باطل من وجهين: أحدهما، أن مقصود الآية نفى مثله نفسه لا نفى مثل مثله، والآخر أن نفى مثل المثل يقتضى إثبات المثل - تعالى الله عن ذلك - فأقول: أحد الأجوبة أن الكاف زائدة كقول رؤبة: لواحق الأقراب فيها كالمقق (¬1) المقق الطول، ولا يقال فيها كالطول، إنما يقال:" فيها طول" الثانى: أنها للتأكيد، وهو قريب من الأول إلا أنهم شرحوه بمعنى زائد، وهو أن الكاف للتشبيه، ومثل للتشبيه فإذا أردت المبالغة جمعت بينهما فقلت: زيد كمثل عمرو، ومنه قول أوس بن حجر: وقتلى كمثل جذوع النّخيل (¬2) وقول الآخر: ما إن كمثلهم فى النّاس من أحد (¬3) وإذا كانت الكاف مؤكدة للتشبيه فى الإثبات انسحب عليها هذا الحكم فى النفى، وقصد بها تأكيد نفى الشبه لا نفى الشبه المؤكد، وأنشد سيبويه: ¬

_ (¬1) البيت من الرجز وهو لرؤبة بن العجاج التميمى فى ديوانه (مجموع أشعار العرب) ص 106، وتاج العروس (مثل). (¬2) شطر البيت لأوس بن حجر فى ديوانه ص 30 والجنى الدانى ص 88. (¬3) البيت من البسيط، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه برواية: عيّت جوابا وما بالربع من أحد ص: 14، واللسان (أصل).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاليات ككما يؤثفين (¬1) فأدخل الكاف على الكاف الثالث زيادة مثل، وأنشدوا عليه: مثلى لا يقبل من مثلكا (¬2) الرابع، وهو قريب من الثالث، وينبغى تنزيل الثالث عليه أن لفظة" مثل" يكنى بها عن الشخص نفسه إذا قصدوا المبالغة قالوا:" مثلك لا يبخل"؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده، وعمن هو على أخص صفاته فقد نفوه عنه، ونظيره قولك للعربى:" العرب لا تخفر الذمم" فيكون أبلغ من قولك:" أنت لا تخفر" ولك أن ترد الأربعة إلى وجهين: التأكيد، والكناية. الخامس لبعض المتكلمين، أن نفى المثل له طريقان: نفيه، ونفى مثله، لأن من لازم المثل أن له مثلا ونفى اللازم يدل على نفى الملزوم، فتحمل الآية على نفى المثل بهذا الطريق من غير زيادة ولا مجاز، وهذا معنى صحيح غير أن العربى الطبع يمجه من غير تأمل، ويصان القرآن والكلام الفصيح عنه، فإن قلت: كيف تحكم بصحته، وقد أورد بعض المتكلمين عليه أنه يلزم منه نفى الذات؟ قلت: بناء على ظاهر الكلام أن المنفى" مثل المثل" ولم يتأمل تمام المعنى، وهو أن المنفى مثل المثل عن شئ فإن شيئا فى الآية اسم" ليس"، والكاف خبرها، والمدلول نفى الخبر عن الاسم، والذات يصح أن ينفى عنها أنها مثل لمثلها؛ لأنه لا مثل لها، ولا يمكن هنا غير هذه الطريق، أعنى إذا نفينا عنها أنها مثل مثلها انتفى مثلها ولا يمكن ثبوت المثل ونفى مماثلها، لأن ضرورة العقل تشهد بمماثلة كل من المثلين للآخر اه. (تنبيه): قال المصنف فى الإيضاح: فإن كان الحذف والزيادة لا توجب تغيير الإعراب كقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ (¬3) إذ أصله كمثل ذوى صيب لدلالة ما قبله عليه وكذلك قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (¬4) وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) الرجز لحطام المجاشعى فى لسان العرب (ثفا)، وتاج العروس (ثفا)، وتمام البيت: غير خطام ورماد كنفين … وصاليات ككما يؤثفين (¬2) البيت من السريع، وهو بلا نسبة فى الإنصاف 1/ 31، وتمام البيت: يا عاذلى دعنى من عذلكا … مثلى لا يقبل من مثلكا (¬3) سورة البقرة: 19. (¬4) سورة آل عمران: 159.

(الكناية)

(الكناية) الكناية: لفظ أريد به لازم معناه، مع جواز إرادته معه؛ فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقى للّفظ مع إرادة لازمه. وفرّق: بأن الانتقال فيها من اللازم، وفيه من الملزوم: وردّ: بأنّ اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه؛ وحينئذ: يكون الانتقال من الملزوم [إلى اللازم] (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬2) فلا توصف الكلمة بالمجاز قلت: إذا كان المعنى بالمجاز تغيير الكلام عما كان عليه إلى نقص أو زيادة، فأى فرق بين تغيير حكم الإعراب وبقائه، ثم لا نسلم أن حكم الإعراب لم يتغير فى" كصيب" فإن صيبا لولا الحذف لكان مجرورا بالمحذوف فصار مجرورا فى اللفظ بالكاف، ومن الناس من جعل مجاز الزيادة والنقص من مجاز التركيب، لا من مجاز الإفراد، والجمهور على خلافه، والحق معهم ومحل التجوز هو الكلمة التى قامت مقام المحذوف فى الإعراب، والكلمة التى باشرتها الزيادة، لا ما اقتضاه كلام المصنف من أن المجاز هو الكلمة المزيد عليها، وشرط السكاكى فى مجاز الزيادة أن يكون الكلام مستغنيا عن تلك الكلمة استغناء واضحا، كالباء فى بحسبك ونحو:" كفى بالله" دون" ليس زيد بمنطلق" أو" ما زيد بقائم". وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ص: (الكناية). (ش): تقدم أن مقاصد هذا العلم التشبيه والاستعارة والكناية وقد تقدم الأول والثانى وهذا القسم الثالث قال: (الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه) اعلم أن تحقيق معنى الكناية قدمناه فى أول هذا العلم بما يغنى عن إعادته، وحاصله أن الكناية لفظ استعمل فى لازم معناه مرادا باستعماله فيه إفادة ملزومه، وبذلك تعلم أن قول المصنف: الكناية لفظ أريد به لازم معناه، أى أريد إفادة لازم اللفظ، وقد تقدم الاعتراض عليه فى ذلك، وأن الكناية فى الغالب أريد بها إفادة ملزوم معناها لا لازمه، وقد يكون الأمر بالعكس، وقوله:" مع جواز إرادته معه" أى مع جواز أن يريد معناه مع إرادة اللازم، فإذا قلت:" زيد كثير الرماد" فالمراد كرمه، ولا يمنع مع ذلك أن تريد إفادة كثرة الرماد حقيقة؛ لتكون أردت بالإفادة اللازم والملزوم معا، وقد تقدم أنه ¬

_ (¬1) من شروح التلخيص. (¬2) سورة الحديد: 29.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يتخيل أن ذلك جمع بين حقيقة ومجاز ولا بين حقيقتين؛ لأن التعدد هنا ليس فى إرادة الاستعمال بل فى إرادة الإفادة، واللفظ لم يستعمل إلا فى موضوعه، وقد يستعمل اللفظ فى معنى ويقصد به إفادة، معان كثيرة قال: (فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى) أى من جهة جواز إرادة إفادة المعنى الذى هو موضوع اللفظ مع إرادة لازمه. قلت: هذا يقتضى أن الكناية أريد بها اللازم والملزوم معا، وهو مخالف لقوله قبيله:" إن الكناية أريد فيها اللازم مع جواز إرادة الموضوع"، وما ذكره فيما سبق هو الصواب، والذى ذكره هنا ليس بشئ، وسيأتى ما يوافقه فى آخر الباب، قال: (بخلاف إرادة المجاز) فإن إرادته تنافى إرادة الحقيقة لأن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة وملزوم معاند الشئ معاند لذلك الشئ، كذا قال المصنف. قلت: لا يمتنع استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه. وإلى ذلك ذهب كثير منهم الشافعى، والقاضيان: أبو بكر وعبد الجبار، وأبو على الجبائى، والغزالى، وأبو الحسين، وسائر المعتزلة فمنهم من قال:" يصح مجازا" ومنهم من قال:" يصح حقيقة" وما ذكره من أن القرينة معاندة لإرادة الحقيقة إن أراد من إرادتها فقط فمسلم، ولا ينتج مقصوده، وإن أراد أن القرينة مانعة من أن تراد الحقيقة مطلقا، فممنوع بل القرينة تدل على إرادة المجاز ولا تمنع إرادة الحقيقة معه، وليس من شرط القرينة أن تكون ذكر وصف لا يصلح معه إرادة الحقيقة، فقد تكون قرينة حالية لإرادة المجاز لا لنفى الحقيقة. ثم إذا جوزنا الجمع بين الحقيقة والمجاز فقلنا: إنه مجاز فلا بد له من قرينة تصرف إلى الجمع بينهما، وبذلك يتضح عدم المنافاة، ثم نقول: الكناية - أيضا - وإن كانت حقيقة - لا بد لها من قرينة تصرف إليها كما أن المجاز لا بد له من قرينة، فلم جعلت القرينة الصارفة إلى المجاز مانعة من إرادة الحقيقة، ولم تجعل القرينة الصارفة إلى الكناية مانعة من إرادة معنى الكلمة؟ ومما يدل على أن الكناية لا بد لها من قرينة كلام المصنف فى آخر هذا الفصل، يدل عليه أيضا قول الجرجانى فى دلائل الإعجاز: " المكنى عنه لا يعلم من اللفظ بل من غيره ألا ترى أن كثير الرماد لم يعلم منه الكرم من اللفظ؛ بل لأنه كلام جاء عندهم فى المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد، وكذلك و" لا أبتاع إلا قريبة للأجل (¬1) " لا معنى كثير رماده فهذا الكلام صريح فى أن ¬

_ (¬1) فى دلائل الإعجاز ص: 431: ولا أبتاع إلا قريبة الأجل وهو الصواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصارف إلى الكناية القرينة، وكيف لا والكناية على خلاف الأصل؛ لأن الأصل فى الكلام أن يراد به ما استعمل فيه وكل خلاف الأصل محتاج إلى القرينة، وقال الزمخشرى فى قوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ (¬1) فى سورة آل عمران وهو مجاز عن الاستهانة بهم، تقول:" فلان لا ينظر إلى فلان" تريد نفى الاعتداد به، فإن قلت: أى فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، فإن من اعتد بإنسان أعاره نظره ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد، والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر انتهى. فجعله الزمخشرى فى حق من لا يجوز عليه النظر مجازا وفى غيره أصله كناية، ثم كثر فصار مجازا، فدل على أنه حيث تمكن الحقيقة تصح الكناية، والمجاز جميعا بحسب الإرادة، فإن أردت نفى النظر ليدل على نفى الاعتداد فكناية، وإن استعملته فى نفى الإحسان كان مجازا، وأشار الزمخشرى فى كلامه السابق إلى أن الكناية، والمجاز قد يجتمعان؛ لأنه جعله فى حق من يجوز عليه النظر أصله الكناية، ثم صار مجازا، واعلم أن هذا الكلام من الزمخشرى يوهم أن الكناية قد تكون مجازا، وقد صرح بذلك، قال فى قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ (¬2) الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شئ لم تذكره، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام غيره، وقد يقال: إن الكناية قسمان تارة يراد بها المعنى الحقيقى ليدل بها على المعنى المجازى فيكون حقيقة، وتارة يراد بها المعنى المجازى لدلالة المعنى الحقيقى الذى هو موضوع اللفظ عليه فيكون من أقسام المجاز، وقول من قال:" الكناية لا تنافى المجاز" يريد أنها قد تأتى كذلك لمجئ بعض أقسامها عليه فهى إما مجاز خاص، أو حقيقة خاصة، وتريد بقولنا:" خاص" أن الحقيقة والمجاز يراد بهما معناهما من حيث هما هما، والكناية يراد بها المعنى الحقيقى من حيث كونه دالا، والمعنى المجازى من حيث كونه مدلولا، ولعله المراد من إطلاق الفقهاء الكناية على المعنى المجازى، وسنتكلم عليه - إن شاء الله تعالى - ومما يشهد أن الكناية قد تكون نوعا من المجاز قول عبد اللطيف فى قوانين البلاغة:" وقيل: المجاز اسم جنس تحته أنواع: الاستعارة، والتمثيل، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 77. (¬2) سورة البقرة: 235.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والكناية" وتقرير مذهب الشافعى رحمه الله فى هذه المسألة قررناه فى شرح مختصر ابن الحاجب، وكان المصنف مستغنيا عن التكلف لهذا الفرق بأن يفرق بأن المجاز مستعمل فى غير موضوعه، بخلاف الحقيقة فقد قررنا فيما سبق أن الكناية حقيقة خلافا للمصنف فى زعمه أنها خارجة عن الحقيقة والمجاز. قوله: (وفرق) إشارة إلى فرق بينهما ذكره السكاكى، وغيره، وهو أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم. قال: وفيه نظر؛ لأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع أن ينتقل منه إلى الملزوم، لأن اللازم إذا لم يكن ملزوما لملزوم كان أعم منه ولا بد أن يكون أخص فى اللزوم الكلى، وإلا للزم وجود الملزوم من حيث هو ملزوم بدون اللازم، وإذا كان أعم منه فالأعم لا يستلزم الأخص، وإذا لم يستلزمه امتنع فهمه منه فيمتنع انتقال الذهن إليه. قال فى الإيضاح:" ولو قيل: اللزوم من الطرفين من خواص الكناية دون المجاز، أو شرط لها دونه اندفع هذا الاعتراض، لكن اتجه منع الاختصاص والاشتراط" (¬1) وأجاب الخطيبى بأن الأعم وإن لم يستلزم الأخص، لكن لا يمتنع انتقال الذهن إليه بقرينة. قلت: لا شك أن المصنف يريد بقوله:" اللازم ما لم يكن ملزوما ما لم يكن لازما مساويا"، وحينئذ لا يتجه السؤال من أصله، لأنا نقول: إنما كلامنا فى اللازم والمساوى، وقد أوضحت هذا فيما سبق، ولا يلزم من كونه لازما مساويا أن يكون ملزوما؛ لأنا نريد باللازم فى هذا الباب ما كان معروضا لغيره، فقد ثبت أن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم، والمجاز ينتقل فيه من الملزوم إلى اللازم، وقد قدمنا فى أول هذا العلم تفصيلا فى هذا الانتقال، أنه يصح فى كل من الكناية والمجاز أن يقال: حصل الانتقال من اللازم إلى الملزوم وعكسه باعتبارين مختلفين. فليراجع ذلك منه، وحاصله أن المصنف والسكاكى لا خلاف بينهما إلا فى التسمية، فإنهما متفقان على أن ذهن السامع لقولنا:" كثير الرماد" ينتقل ذهنه من كثرة الرماد إلى الكرم، غير أن السكاكى يسمى كثرة الرماد لازما، وهو الحق؛ لأن اللازم إن كان مشاركا فهو الغرض القائم، والملزوم عكسه، ويكفى إطباق أهل العلم على قولهم:" لازم مساو"، ولا يقولون:" ملزوم الكناية" والمصنف لما تقرر عنده أن اللازم لا ينتقل الذهن فيه إلى الملزوم سماه ملزوما، وجعل الذهن ينتقل منه. ¬

_ (¬1) الإيضاح بتحقيقى ص: 286.

وهى ثلاثة أقسام

وهى ثلاثة أقسام: الأولى: المطلوب بها غير صفة ولا نسبة: فمنها: ما هى معنى واحد؛ كقوله [من الكامل]: والطّاعنين مجامع الأضغان ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): قيل فى الفرق بين المجاز والكناية: إن المجاز لا بد له من تناسب بين المحلين، وفى الكناية لا حاجة لذلك فإن العرب تكنى عن الحبس بأبى البيضاء، وعن الضرب بأبى العيناء، ولا اتصال بينهما، بل تضاد، وفيه نظر، فإن التناسب قد يكون بالتضاد كما تقدم أن التضاد علاقة معتبرة. الكناية ثلاثة أقسام: ص: (وهى ثلاثة أقسام إلخ). (ش): الكناية إما أن يكون المقصود بها أى المكنى عنه" صفة" أو" نسبة" أو غيرهما، وقد يقال:" إما أن يكون المكنى عنه الصفة أو الموصوف أو اختصاص الصفة بالموصوف الأول المطلوب بها أمر غير صفة" وليس المراد النعت بل الوصف المعنوى. قال الشيرازى:" والمراد بالوصف هنا ما هو أعم من الوصف النحوى كالجود والكرم" وفيه نظر، فإن المراد بالوصف هنا المعنى، والمراد بالوصف النحوى اللفظ التابع بشروط، فليس بينهما عموم وخصوص، وذلك نوعان: الأول أن يكون معنى واحدا، كقولك: " المضياف"، كناية عن زيد كذا أطلقه المصنف، والصواب تقييده كما فعل فى المفتاح بأن يكون ذلك لعارض اقتضى الاختصاص به، ثم عبارة المفتاح لعارض اقتضى اختصاص" المضياف" بزيد أى لشهرته بذلك حتى صار كاللازم وهو مقلوب، والصواب أن يقال: لعارض اختصاص زيد" بالمضياف" فإن المراد اختصاص زيد بالمضياف ليفهم زيد من لفظ" المضياف" لا اختصاص" المضياف" بزيد وإلا لكانت الكناية ذكر الملزوم، والفرض أنها عنده ذكر اللازم والملزوم يختص باللازم، ولا يقال: يختص اللازم بالملزوم سواء أكان مساويا أم لا، وكذلك قوله كناية عن القلب: الضّاربين بكلّ أبيض مخذم … والطّاعنين مجامع الأضغان (¬1) ¬

_ (¬1) البيت فى معاهد التنصيص (260 بولاق)، الموازنة ص 279، وفيها ينسب لعمرو بن معد يكرب الزبيدى، وروى: الضاربين بكل أبيض مرهف … والطاعنين مجامع الأضغان

ومنها: ما هو مجموع معان؛ كقولنا - كناية عن الإنسان -: حى مستوى القامة، عريض الأظفار خ خ. وشرطهما الاختصاص بالمكنىّ عنه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كنى بمجامع الأضغان عن القلوب، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد، ونحوه قوله يذكر قتله للذئب: فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها … بحيث يكون اللّبّ والرّعب والحقد (¬1) فهذه ثلاث كنايات كل منها مستقل، والنوع الثانى أشار إليه بقوله: (ومنها ما هو) أى من الكناية ما فيه (مجموع معان) مطلوب بها غير صفة ولا نسبة (كقولنا فى الكناية عن الإنسان:" حى مستوى القامة عريض الأظفار") فإن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة ليس كناية عن الإنسان، ومجموعها كناية عنه؛ لأنه لا يوجد فى غيره، فهى خاصة مركبة كقولنا فى رسم الخفاش:" طائر مركب" وبه يعلم أن قوله:" عدة معان" لا يريد أن تكون ثلاثة بل أكثر من واحد. قال الخطيبى:" ويظهر من هذا أن الرسوم إذا ذكرت مجردة عن الرسومات كانت كناية". وقال الخطيبى - أيضا - فى شرح المفتاح:" إن الحدود والرسوم كناية" قال:" وقد بينا أن دلالة المعرفات كلها على المعرفات دلالة التزام لا غير" وفيما قاله نظر لا نطيل بذكره، ثم قال: (وشرطها) أى شرط الكناية سواء أكانت معنى واحدا أم أكثر (الاختصاص بالمكنى عنه) أى لا يكون موجودا لغير المكنى عنه، وإلا لما انتقل الذهن فى الكناية إلى المكنى عنه لأن الأعم لا يشعر بالأخص، ولك أن تقول: كل كناية لا بد فيها من هذا الاختصاص، فكيف يشترطون ذلك فى هذا النوع فقط؟ وحينئذ فهذه العبارة مقلوبة، والصواب أن يقال:" شرطها اختصاص المكنى عنه بالمعنى أو بالمعانى". قال المصنف: وجعل السكاكى الأولى قريبة، والثانية بعيدة، وفيه نظر، كأنه يريد أن دلالة الوصف الواحد على الشئ ليست أبعد من دلالة الأوصاف بل ربما كان الحال بالعكس؛ فإن الرسم التام يفصح عن الحقيقة بما لا يفصح به الرسم الناقص، والتفصيل أوضح من الإجمال، وقد يجاب بأن مراد السكاكى أن الأولى قريبة من حيث التناول والاستعمال؛ لأن الأعم لا يشعر بالأخص. قلت: هذا القسم بجملته فى عدّه من الكناية نظر؛ لأن ¬

_ (¬1) البيت للبحترى فى ديوانه (1/ 186)، الموازنة ص 279.

والثانية: المطلوب بها صفة

والثانية: المطلوب بها صفة: فإن لم يكن الانتقال بواسطة: فقريبة واضحة؛ كقولهم - كناية عن طول القامة: طويل نجاده، وطويل النجاد خ خ، والأولى ساذجة، وفى الثانية تصريح ما، لتضمّن الصفة الضمير، أو خفية؛ كقولهم - كناية عن الأبله -: عريض القفا خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكناية ما تقابل الصريح، والحد والرسم صريحان فى المعنى، وكذلك الكنى التى هى أحد أنواع الأعلام صرحوا بأنها كناية، وفيه نظر؛ لأن الكنية علم، والعلم صريح فى مسماه، فلا فرق بين دلالة أبى عبد الله ودلالة زيد العلمين عليه. الكناية (الثانية المطلوب بها) أى المكنى عنه (صفة) وهى قسمان: قريبة، وبعيدة، لأنها إن لم يكن انتقال الذهن من الكناية إلى المكنى عنه بواسطة فهى قريبة، وإلا فبعيدة، والقريبة إما واضحة، أو خفية فالواضحة كقولهم فى الكناية عن طويل القامة: " طويل نجاده" وذلك كناية ساذجة، وكقولهم:" طويل النجاد" وذلك كناية مشتملة على تصريح ما لتضمن الصفة فيه وهى" طويل" ضمير الموصوف بخلاف المثال قبله، فإن قولك:" طويل نجاده" ليس فى لفظ الطويل منه ضمير؛ لأنه مسند إلى الظاهر، ومنها قول الحماسى: أبت الروادف والثّدىّ لقمصها … مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا (¬1) والحصة التى لا ينتقل الذهن فيها بواسطة، كقولهم فى الكناية عن الأبله: عريض القفا، قال الشاعر: عريض القفا ميزانه فى شماله (¬2) فإن عرض القفا، وعظم الرأس إذا أفرطا دليل الغباوة، ولذلك قال طرفة: أنا الرّجل الضّرب الّذى تعرفونه … خشاش كرأس الحيّة المتوقّد (¬3) ¬

_ (¬1) البيت بديوان الحماسة غير منصوب ج 3 ص 139، وفى الطراز ج 1 ص 424، شرح شواهد الكشاف ص 411، المصباح ص 149، والإيضاح ص: 287. (¬2) لم أعثر عليه، إلا أن صاحب الإيضاح ذكره مكتفيّا بقوله:" عريض القفا" انظر الإيضاح بتحقيقى ص: 287. (¬3) البيت لطرفة بن العبد فى ديوانه ص 37، والإيضاح ص 287، وبغية الإيضاح ص 160.

وإن كان بواسطة: فبعيدة؛ كقولهم: كثير الرماد كناية عن المضياف؛ فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور، ومنها إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الضّيفان، ومنها إلى المقصود. ـــــــــــــــــــــــــــــ أما عظم الرأس ما لم يفرط، فإنه دليل على علو الهمة، وقد جاء فى وصف هند بن أبى هالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" أنه كان عظيم الهامة" (¬1) وأما البعيدة فهى ما كان انتقال الذهن منها إلى المكنى عنه بواسطة، كقولهم:" كثير الرماد" كناية عن المضياف، فإنه ينتقل الذهن من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور، ثم ينتقل منها إلى كثرة الطبائخ، ثم ينتقل منها إلى كثرة الأكلة، ثم من كثرة الأكلة إلى كثرة الضيفان، ثم من كثرة الضيفان إلى المقصود، كذا قال المصنف. والسكاكى قال: ينتقل من كثرة الرماد لكثرة الجمر، ومن كثرة الجمر لكثرة إحراق الحطب، وينبغى أن يجعل المكنى عنه هنا كونه كريما لا كونه مضيافا، وإلا فقوله:" من كثرة الضيفان إلى المقصود" إذا جعلنا المقصود فيه كونه مضيافا، فذلك يحصل بكثرة الضيفان، فهو صريح فيه لا مكنى به عنه، ومثل - أيضا - البعيدة بقوله عن الأبله:" عريض الوسادة" فإنه ينتقل من عرض الوسادة إلى عرض القفا، ومنه إلى المقصود من البله، وجعله السكاكى من القريبة على أنه كناية عن عرض القفا، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم لعدى بن أبى حاتم" إن كان وسادك لعريضا" (¬2) وذلك حين نزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (¬3) فعمد إلى خيطين: أبيض، وأسود فصار ينظر إليهما. قال المصنف: وفيه نظر، ووجه النظر أنه لو كان كناية عن عرض القفا لكان هو المقصود فلا يكون كناية عن البله، والغرض خلافه، والحق أنه يصح أن يكون مثالا لهما، فإن قصد الكناية عن البله فهو مثال للبعيدة، أو الكناية عن عرض القفا فهو كناية قريبة، ومن البعيدة قوله: وما يك فىّ من عيب فإنّى … جبان الكلب مهزول الفصيل (¬4) ¬

_ (¬1) " صحيح" أخرجه أحمد فى" المسند"، (1/ 116)، ولكن من حديث على بن أبى طالب، وقال العلامة أحمد شاكر (ح 944):" إسناده صحيح". (¬2) أخرجه البخارى فى" التفسير" (8/ 31)، (ح 9 - 45)، ومسلم (1090). (¬3) سورة البقرة: 187. (¬4) لم يرد البيت منسوبا، الصناعتين ص 361، مفتاح العلوم ص 405، الطراز ج 1 ص 422، الإيضاح ص 288، الحماسة شرح التبريزى ج 4 ص 93، الحيوان ج 1 ص 384، نهاية الإيجاز ص 271، دلائل الإعجاز 307، الإشارات ص 241، المصباح ص 150.

الثالثة: المطلوب بها نسبة؛ كقولهم [من الكامل]

الثالثة: المطلوب بها نسبة؛ كقولهم [من الكامل]: إنّ السّماحة والمروءة والنّدى … فى قبّة ضربت على ابن الحشرج ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن الذهن ينتقل فيه فى الأول من جبن الكلب عن الهرير فى وجه من يدنو، وخروج الكلب عن طبعه المخالف لذلك، ثم إلى استمرار موجب نباحه، وهو اتصال مشاهدته وجوه القادمين، ثم إلى كونه مقصدا للدانى والقاصى، ثم إلى كونه مشهورا بحسن القرى، وفى الثانى ينتقل الذهن من هزال الفصيل إلى فقد الأم، ومنه إلى قوة الداعى لنحرها مع بقاء ولدها مع عناية العرب بالنوق، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ، ومنها إلى أنه مضياف، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ (¬1)، (الثالثة: الكناية المطلوب بها نسبة) أى أن ينسب شئ لشئ والمقصود نسبة غيره، وجعله الجرجانى من قبيل المجاز الإسنادى، وأنشد عليه قول يزيد بن الحكم يمدح يزيد بن المهلب فى سجن الحجاج: أصبح فى قيدك السّماحة وال … مجد وفضل الصّلاح والحسب (¬2) وجعل منه إلا أنه فى النفى: يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها (¬3) وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى وأنشد المصنف على كناية الإسناد قول زياد الأعجم: إن السّماحة والمروءة والنّدى … فى قبّة ضربت على ابن الحشرج (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 149. (¬2) الشطر الأول من بيت للشنفرى ينظر المفضليات ص 109، دلائل الإعجاز ص 310، الإيضاح ص 288، الإشارات ص 46، نهاية الإيجاز ص 271. (¬3) المفضليات 109، دلائل الإعجاز 310، الإيضاح بتحقيقى ص: 292، المصباح ص: 152، وتمام البيت: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها … إذا ما بيوت بالملامة حلت (¬4) المصباح ص 152، الطراز ج 1 ص 422، الإيضاح ص 324، الدلائل ص 306، الإشارات ص 245، التبيان ص 38، شواهد الكشاف ص 397/ 451.

فإنه أراد أن يثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات؛ فترك التصريح بأن يقول: إنه مختصّ بها، أو نحوه خ خ، إلى الكناية، بأن جعلها فى قبة مضروبة عليه. ونحو قولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه أراد أن يثبت اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات فترك التصريح بذلك، والتصريح به أن يقول:" هو مختص بها" أى ثابتة له دون غيره إلى أن جعلها فى قبة مضروبة عليه، فأخبر باختصاص القبة المضروبة عليه بالسماحة ليفهم منه اختصاصه بالسماحة، لأنه إذا اختص بالسماحة لزم أن تختص قبته، وهو قريب من المجاز الإسنادى، ولك أن تقول: كل كناية عن وصف كناية عن نسبة، لأنك إذا قلت:" طويل النجاد" فمعناه: طال نجاده فأثبت الطول لنجاده، وإنما تريد إثباته لنفسه، واعلم أن قول المصنّف:" اختصاص ابن الحشرج بهذه الصفات" هو الصواب وهو عكس عبارة السكاكى، حيث سماه اختصاص الصفة بالموصوف وتبعه الطيبى والصواب الأول، فإن المقصود أن السماحة ليست لغير ابن الحشرج، لا أنه ليس لغيرها. قال الطيبى: وبقى قسم عكس هذا لم يذكره السكاكى، وهو اختصاص الموصوف بالصفة أى لم يتجاوز الموصوف حقيقة هذا النوع إلى وصف آخر كقوله: أضحت يمينك من جود مصوّرة … لا بل يمينك عنها صورة الجود (¬1) كذا قال، وهو على العكس، وإنما انعكس عليه فى الأول فانعكس فى الثانى، والصواب أن يسمى كلا من القسمين باسم الآخر، ونحو قول الشاعر المذكور قولهم: " المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه" أى لا يتجاوزهما. قيل: وفى المثال نظر؛ لأنه لا يقال:" كرم برده" كما يقال:" طال نجاده"، ليفهم منه كرم نفسه كما يفهم طول قامته، إذ لا تحقق لكرم البرد ولا مناسبة بينه وبين كرم النفس، كما أن لطول النجاد تحققا وله مناسبة، ولزوم لطول القامة، والمصنف أطلق هذا القسم، والسكاكى قسمه إلى قسمين. كما فعل فيما سبق، إلا أنه سماهما فيما سبق قريبا، وبعيدا، وهنا سماهما لطيفا وألطف. قيل:" وبقيت كناية استنبطها الزمخشرى، وهى أن يعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر، فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز (¬2)، وهذا فى الحقيقة من نوع الإيماء. قلت: وينبغى أن يكون من الاستعارة بالتمثيل، كما ¬

_ (¬1) عقود الجمان ج 2 ص 62. (¬2) قلت: هذه الكناية قد سمّاها الطيبى بالكناية الزّبدية. انظر التبيان بتحقيقى 1/ 339.

والموصوف فى هذين القسمين قد يكون غير مذكور؛ كما يقال فى عرض من يؤذى المسلمين: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (¬1). أما القسم الأول - وهو ما يكون المطلوب بالكناية نفس الصفة، وتكون النسبة مصرحا بها -: فلا يخفى أن الموصوف بها (¬2) يكون مذكورا لا محالة، لفظا أو تقديرا. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقدم فى قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬3) قيل: وقد يظن أن من الكناية قسما رابعا، وهو أن يكون المقصود بالكناية الوصف والنسبة معا، كما قال:" يكثر الرماد فى ساحة عمرو" قيل: وليس ذاك كناية واحدة بل كنايتان: إحداهما: عن المضيافة، والثانية: عن إثباتها لعمرو، ثم قال المصنف: الموصوف فى هذين أى الكناية الثانية والثالثة قد يكون مذكورا كما سبق، وقد يكون غير مذكور كما تقول فى عرض من يؤذى المسلمين:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬4) فإنه كناية عن كون المؤذى ليس مسلما، وليس المراد إثبات وصف للموصوف المذكور، وهو المؤمن، بل المراد نفى وصف عن مقابله وهو المؤذى، وقد يقال: هذا ذكر الملزوم لإفادة اللازم، لا ذكر اللازم لإفادة الملزوم، وقد قدمنا أن الكناية تنقسم إلى النوعين، فإن قيل: بل هو ذكر اللازم لأنه يلزم من المقصود، وهو أن المؤذى ليس مسلما أن يكون المسلم من سلم الناس منه. قلنا: إنما يلزم من كون المؤذى ليس مسلما أن من سلم الناس منه مسلم، وفرق بين قولنا: من سلم الناس منه مسلم، وقولنا: كل المسلم من سلم الناس منه، واعلم أن المصنف لم يصرح بأن هذه الكناية من القسم الثانى، أو من الثالث لكن ظاهر كلام السكاكى أنها من الثالث، والمطلوب بها نسبة سلبية كما ذكرناه. ¬

_ (¬1) حديث صحيح أخرجه الشيخان فى الإيمان وغيرهما. (¬2) من (شروح التلخيص) وفى (متنه): (فيها). (¬3) سورة الزمر: 67. (¬4) لفظ الحديث أخرجه البخارى فى" الإيمان"، وفى" الرقاق"، (11/ 323) (ح 6484)، مسلم (ح 40).

قال السكاكىّ: الكناية تتفاوت إلى تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء وإشارة، والمناسب للعرضية: التعريض، ولغيرها - إن كثرت الوسائط -: التلويح، وإن قلّت - ـــــــــــــــــــــــــــــ تفاوت الكناية عند السكاكى: ص: (السكاكى الكناية تتفاوت إلخ). (ش): قسم السكاكى الكناية إلى خمسة أقسام: تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء، وإشارة. قال الشيرازى: إنما قال: تتفاوت ولم يقل: تنقسم؛ لأن التعريض وأمثاله مما ذكر ليس من أقسام الكناية فقط، بل هو أعم، وفيه نظر؛ لأن أقسام الشئ إلى أقسام بعضها أعم من المقسم لا يمتنع بتقدير أن يكون المراد تقسيم ذلك الشئ بقيد كونه أخص من حقيقته إلى أخص من تلك الأقسام، كما تقسم الحيوان إلى أبيض، وأسود أى أبيض، وأسود بقيد الحيوانية، ولعله إنما عدل عن تنقسم إلى تتفاوت إشارة إلى أن رتب هذه الأقسام فى الكناية متفاوتة فى القوة والضعف وقد أشار الزمخشرى فى قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ (¬1) إلى الفرق بين الكناية، والتعريض بأن الكناية أن يذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له، والتعريض بأن يذكر شيئا يدل على شئ لم يذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه حينئذ لا نسلم عليك، ولذلك قالوا: وحسبك بالتّسليم منّى تقاضيا (¬2) قال الوالد: التعريض قسمان: قسم يراد به معناه الحقيقى، ويشار به إلى المعنى الآخر المقصود وقسم لا يراد معناه الحقيقى، بل ضرب مثلا للمعنى الذى هو مقصود التعريض، فيكون من مجاز التمثيل، ومنه قول إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا (¬3) ولا يحتاج مع هذا إلى تكلف جواب، ثم قال: (والمناسب للعرضية) أى الكناية المسوقة لموصوف غير مذكور (التعريض ولغيرها) أى والمناسب للكناية غير العرضية (إن كثرت الوسائط) بينها وبين المكنى عنه إطلاق اسم (التلويح)، لأن التلويح الإشارة للشئ عن بعد (وإن قلت) أى الوسائط بين الكناية والمكنى عنه ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 235. (¬2) البيت فى عقود الجمان 2/ 64، وتمام البيت: أروح لتسليم عليك وأغتدى … فحسبك بالتسليم منى تقاضيا (¬3) سورة الأنبياء: 63

مع خفاء -: الرمز، وبلا خفاء: الإيماء والإشارة خ خ. ثم قال: والتعريض قد يكون مجازا؛ كقولك: آذيتنى فستعرف وأنت تريد إنسانا مع المخاطب دونه، وإن أردتهما جميعا كان كناية، ولا بدّ فيهما من قرينة خ خ. ـــــــــــــــــــــــــــــ (مع خفاء) أى نوع من الخفاء فالمناسب لها اسم (الرمز)، وذلك نحو:" عريض القفا" كناية عن الأبله ووجه مناسبته أن الرمز الإشارة إلى قريب منك خفية بالشفتين، أو الحاجب، أو العين. (قوله: وإلا) أى وإن قلت: الوسائط ولم يكن نوع من الخفاء (فالمناسب أن يسمى بالإيماء أو الإشارة، ثم قال) أى السكاكى: (والتعريض) كما يكون كناية قد يكون مجازا، كقولك:" آذيتنى فستعرف" وأنت لا تريد المخاطب بل (تريد إنسانا) يسمع دونه، (وإن أردتهما جميعا كان كناية) قوله: (ولا بد فيهما من قرينة) ظاهر عبارته أنه لا بد فى هذا المجاز وهذه الكناية من قرينة، وبه شرح الخطيبى كلامه، وفيه نظر؛ لأن كلا من المجاز والكناية بجميع أنواعهما لا بد له من قرينة كما قدمناه. قال الشيرازى وتبعه الخطيبى: التعريض على سبيل الكناية أن تكون العبارة مشابهة للكناية مشتركة فى بعض صفاتها كما فى المثال المذكور، فإنه ليس فيه تصور لازم، ولا ملزوم، ولا انتقال من لازم لملزوم إلا أن فيه سمة من الكناية، وهى أن تاء الخطاب مستعملة فيها هى موضوعة له، مرادا منه ما ليس بموضوع، وهو الإنسان الآخر. قلت: فيه نظر، بل هو حقيقة الكناية وفيه الانتقال، ولو لم يحصل الانتقال لما حصل التعريض، بل الانتقال موجود، لأن اللازم قد يكون لزومه بالقرائن الحالية، وأيضا، فإن قوله:" آذيتنى فستعرف" ناطق بالوعيد المترتب على الأذى مخاطبا به المخاطب، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وذلك يقتضى بأن الأذى ملزوم للمعرفة، فكان وعيد المخاطب لازما لوعيد المؤذى لاشتراكهما فى الأذى، ثم قال الشيرازى: أما إذا أردت غير المخاطب وحده فيكون المثال مثل المجاز، لاستعمال التاء فيما هو غير موضوعة له، لا أنه مجاز حقيقة لتوقفه على الانتقال من الملزوم إلى اللازم ولا انتقال هنا من ملزوم إلى لازم، قلت: وفيه نظر لما سبق من أن اللازم والملزوم موجود ولولاه لما حصل انتقال، ولكان ذلك استعمالا للفظ فى غير موضوعه لا لعلاقة، وهو خارج عن لغة العرب، لكن قول المصنف:" إن أرادها جميعا" كان كناية يقتضى أمرين: أحدهما: أن الكناية والمجاز فى القسمين لأشبههما، كما شرح به الشيرازى كلام السكاكى، والثانى: أن الكناية أريد فيها المعنيان معا، وقد تقدم فى كلامه

فصل [المجاز والكناية افضل من الحقيقة والتصريح]

فصل [المجاز والكناية افضل من الحقيقة والتصريح] أطبق البلغاء على أنّ المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح؛ لأن الانتقال فيهما من الملزوم إلى اللازم، فهو كدعوى الشئ ببيّنة، وأنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه؛ لأنها نوع من المجاز. ـــــــــــــــــــــــــــــ نظيره، وليس بصحيح - وأيضا - مخالف لكلامه فى أول الباب، حيث جعل الكناية أريد بها اللازم مع جواز إرادة الموضوع. فدل على أنهما ليسا مرادين معا، ولا يصح الجمع بينهما إلا بأن تحمل إرادتهما معا على إرادة أحدهما بالاستعمال، وهو المخاطب، وإرادة الآخر بالإفادة، وهو جليسة المؤذى (تنبيه): قال الإمام فخر الدين: " قد تكون الكناية فى الإثبات وقد تكون فى النفى" ومثل الثانى بقوله يصف امرأة بالعفة، والبيت للشنفرى كما أنشده الجرجانى: يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها … إذا ما بيوت بالملامة حلّت (¬1) فتوصل إلى نفى اللوم عنها بنفيه عن بيتها، وقد قدمنا الكناية فى جانب النفى فى قوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ (¬2). (تنبيه): ما ذكرناه من الكناية، وهو باصطلاح البيانيين، أما الفقهاء فقد ذكروا الكنايات، والظاهر أنها عندهم مجاز، فإذا قال الزوج:" أنت خلية" مريدا الطلاق فهو مجاز، ويسميه الفقيه كناية، فلو أراد حقيقة اللفظ لكونه لازما للطلاق، ففى وقوع الطلاق نظر، ولا أعلم فيه نقلا، ولم يتعرضوا للفرق بين الكناية والتعريض إلا فى باب اللعان، فإنهم ذكروا التصريح، والكناية، والتعريض، أقساما، وذكروا فى الخطبة على الخطبة التصريح والتعريض، ولم يذكروا الكناية، وذكر الوالد فى شرح المنهاج الثلاثة، واختار أن الكناية فى الخطبة على الخطبة حرام؛ لأنها أبلغ من التصريح. المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح: ص: (فصل أطبق البلغاء إلخ). (ش): لما فرغ من مقاصد هذا العلم شرع فى ذكر ما بين أقسامه من الرتب فى البلاغة، فقال:" أطبق البلغاء على أن المجاز والكناية" أى كلا منهما أبلغ من الحقيقة والتصريح، وهو لف ونشر، أى المجاز أبلغ من الحقيقة، والكناية أبلغ من التصريح، والسبب فى ذلك أن الانتقال فى الكناية والمجاز من الملزوم إلى اللازم، أى انتقال ذهن السامع، وهذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 80. (¬2) سورة آل عمران: 77.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بناء على رأى المصنف، أما السكاكى فإنه جعل الكناية انتقالا من اللازم إلى الملزوم، وعلى التقديرين يصح الدليل؛ لأن اللازم المساوى له حكم الملزوم، فكان أبلغ لأنه كدعوى الشئ ببينة، وفيه نظر سيأتى، وأن الاستعارة أبلغ من التشبيه، وذلك لأن الاستعارة نوع من المجاز، والمجاز أبلغ من الحقيقة لما سبق، والتشبيه حقيقة سواء أكان مذكور الأداة أم محذوفها، فإذا حذف منه شئ لا يمكن فيه إلا مجاز الحذف، وفى إطلاق أن المجاز أبلغ من الحقيقة نظر، لأن الكناية حقيقة، وهى أبلغ من كل مجاز مرسل، ويحتمل أن يقال: إنها أبلغ من الاستعارة - أيضا - وهو تفريع على أن الكناية ليست حقيقة ولا مجازا، وينبغى أن يراد بالتشبيه ما ليس بتشابه. أما التشابه فسيأتى، واختار الوالد فى تفسيره أن الاستعارة إنما تحسن حيث يكون المستعار أعلى من المستعار له، وأن شرط التشبيه بكأن، أن تقوى الشبه حتى يتخيل، أو يكاد يتخيل أن المشبه عين المشبه به؛ فعلى هذا يكون التشبيه بكأن أبلغ. وزاد المصنف فى الإيضاح أن التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيل الاستعارة. (تنبيه): نقل المصنف عن الشيخ عبد القاهر أن التفاوت بين هذه الرتب ليس لأن الواحد منهما يفيد زيادة فى المعنى نفسه لا يفيدها خلافه، فليست فضيلة:" رأيت أسدا" على قولنا:" هو والأسد سواء فى الشجاعة" أن الأول أفاد زيادة فى مساواته للأسد فى الشجاعة لم يفدها الثانى، بل الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة لم يفدها الثانى، وليس فضيلة:" كثير الرماد" على قولنا:" كثير القرى" أن الأول أفاد زيادة لم يفدها الثانى، بل لأن الأول أفاد تأكيدا لإثبات كثرة القرى لم يفده الثانى، والسبب فى ذلك أن الانتقال فى الجميع من الملزوم إلى اللازم، فيكون إثبات المعنى به كدعوى الشئ ببينة، ولا شك أن دعوى الشئ ببينة أبلغ فى إثباته من دعواه بلا بينة، قال المصنف:" لقائل أن يقول: الاستعارة أصلها التشبيه، والأصل فى وجه الشبه أن يكون فى المشبه به أتم فقولنا:" رأيت أسدا" يفيد للمرئى شجاعة أتم مما يفيدها:" رأيت رجلا كالأسد"، لأن الأول يثبت له شجاعة الأسد، والثانى شجاعة دون شجاعة الأسد، ويمكن الجواب عنه بحمل كلام الشيخ على أن السبب فى كل صورة ليس هو ذلك، لا أن ذلك ليس بسبب فى كل شئ من الصور أصلا. قلت: ما ذكره الشيخ مخالف لاتفاقهم على أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة ولو كان كما قال لما كانت الكناية والمجاز أبلغ، بل كان الأبلغ هو إثبات التشبيه، وأما قوله فى التأكيد: إنما هو لتأكيد التشبيه، ففيه نظر؛ لأن تأكيده التشبيه إنما يكون بما يرد على الجملة من إن واللام مثلا، والتأكيد فى الاستعارة إنما وقع فى لفظ مفرد، والتأكيد يكون لمعناه، كما أن المبالغة فى قولك:" رحيم" لتحويل صيغته من فاعل إنما كان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لزيادة الرحمة لا لتأكيد إثباتها، وأما قوله:" إن الكناية ليست أبلغ من التصريح فى المعنى" فيمكن الذهاب إليه وأن يقال: ليس" كثير الرماد" يدل على كرم لا يدل عليه" كثير القرى" ثم كثرة القرى ليست المكنى عنه، بل المكنى عنه" الكرم"، وكثرة القرى من جملة الوسائط بين المكنى عنه والمكنى به، وأما قوله:" إن التأكيد فيه للتشبيه" فممنوع على نحو منع ما قبله، وأما قوله:" تأكيد الإثبات فى رأيت الأسد" فكأن مراده إثبات وقوع الرؤية على الأسد، وإلا فتأكيد الإثبات يكون فى إثبات المسند للمسند إليه، فكان حقه أن يمثل: " بجاءنى أسد" وأما تمثيله بقولك:" زيد والأسد سواء" فقد يقال: هذا المثال أخص من المدعى، فإن زيدا والأسد سواء من قبيل التشابه المستدعى لاستواء الطرفين، لا من قبيل التشبيه المستدعى لرجحان المشبه به، فلا يلزم من ثبوت التساوى بين التشابه والاستعارة إن سلمناه ثبوت التساوى بين التشبيه والاستعارة مطلقا كما ادعاه، بل الذى يظهر أن التشابه به أبلغ من الاستعارة؛ لأن فى الاستعارة أصلا وفرعا، وليس ذلك فى التشابه، وأما قوله: إنه إثبات الشئ ببينة" فقد يقال: إن هذا لا تحقيق له، وينبغى أن يقال: ادعاء الشئ ببينة، وحينئذ يتضح، أما قولنا:" إثبات الشئ ببينة مع جعلنا التأكيد إنما هو للإثبات، فليس فى إخباره بكثرة الرماد إثبات كثرة الرماد المستلزم للكرم، وبعد أن كتبت هذا الإشكال رأيت الإمام فخر الدين وقع عليه، فحمدت الله - تعالى - ثم عقبه الإمام فخر الدين باعتراض ثان وهو أن الاستدلال بوجود اللازم على الملزوم باطل؛ لأن الحياة لازمة للعلم، ولا يمكن الاستدلال بوجود الحياة على وجود العلم وفيما قاله نظر، وجوابه أن المراد اللازم المساوى، ولا مانع من الاستدلال به بمعنى المعرف، ولهذه الشبهة قال المصنف: إن الانتقال فى الكناية من الملزوم إلى اللازم، وأما موافقة المصنف له على هذه العلة، ومخالفته له فى أن التأكيد للإثبات، بل للمستعار له، ففيه نظر؛ لأن البينة لا تفيد زيادة فى الحق، إنما تؤكد المدعى به، وإنما تختلف حاله بالبينة وعدمها فى إثباته، كما قال عبد القاهر، لا فى كثرته وقلته، فكان من حق المصنف كما منع كلام عبد القاهر أن يمنع دليله وينتقل لدليل منعه، وأما قول المصنف فى الرد على عبد القاهر، فقد رد عليه بنفس دعوى مخالفته، فكان من حقه أن يرد عليه بدليل صحيح، وأما قوله:" الأصل فى التشبيه أن يكون المشبه به أتم فهذا التعميم مخالف لقوله فيما سبق أنه يكون أتم فى بعض الصور دون بعض، ثم هذا القدر لا يحصل به مقصوده؛ لأن لعبد القاهر أن يقول:" والتشبيه المعنوى موجود فى الاستعارة" وبالجملة الذى قاله المصنف هو الحق، ولكنه لم يتوصل إليه بطريقه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): قولنا فى هذا الفصل كله:" الكناية والمجاز أبلغ" هو بالمعنى اللغوى كقولنا: " فعيل أبلغ من فاعل" وليس من البلاغة المصطلح عليها فى هذا العلم لأمرين: أحدهما: أن تلك لا تكون فى المفرد، ولا شك أن المجاز، والكناية يكونان مفردين غالبا، نعم ما ذهب إليه عبد القاهر من أن الأبلغية فى الإثبات يمشى معه فى تسمية ذلك بلاغة بالاصطلاح. الثانى: أن أبلغ" أفعل تفضيل" فإذا حملت على المعنى اللغوى كان على بابه من التفضيل، لأن الحقيقة بالغة للمقصود بكل حال، فالمجاز أبلغ منها، فإذا حملناه على الاصطلاحى كان من بلغ بالضم وهو دليل على حصول البلاغة فى الحقيقية، وليس كذلك؛ لأن الحقيقة المجردة لا بلاغة فيها، فلا يكون من بلغ بالضم بل من بلغ بالفتح. (تنبيه): لم يتعرض المصنف للتفاوت بين أنواع الاستعارة، والذى يظهر أن الاستعارة بالكناية أبلغ من التصريحية، وبه صرح الطيبى، ولا إشكال فيه على رأى السكاكى، فإنها كالجامعة بين الاستعارة والكناية، وأما على رأى المصنف، فإن وافق على ذلك كان هذا واردا عليه فى قوله:" إن المجاز أبلغ من الحقيقة، وإن الاستعارة أبلغ من التشبيه" لأن الاستعارة بالكناية عند المصنف تشبيه، وحقيقة لا مجاز، إلا أن يقول: الاستعارة بالكناية إنما كانت أبلغ لاشتمالها على المجاز العقلى، كما اقتضاه كلام المصنف فى هذا الباب، لا كما اقتضاه كلامه فى علم المعانى حين تكلم على المجاز العقلى، وأما الاستعارة بالتمثيل فالظاهر أنها أبلغ منهما كما يقتضيه كلام الزمخشرى عند قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (¬1) ثم تتفاوت كل واحدة من هذه الاستعارات الثلاث إلى درجات تظهر مما سبق بالتأمل، وأما الكناية والاستعارة، فالظاهر أن الاستعارة أبلغ، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة، والظاهر أن أبلغ أنواعها ما كان المكنى عنه فيه تشبيه، ثم ما كان صفة، ثم ما لم يكن واحدا منهما. (تنبيه): الكناية والاستعارة قد يكون كل منهما إنشاء وقد يكون خبرا، وهذا واضح، وأما التشبيه فالذى يظهر أنه خبر، لأن قولك:" زيد كعمر" له خارجى وهو المشابهة لكن فيه خلاف حكاه الوالد فى تفسيره المسمى بالدر النظيم، واختار أنه خبر عما فى نفس المتكلم من التشبيه كما أن حسبت خبر عن حسبانه، قال: و" لا يختلف الحال فى ذلك بين كأن والكاف، غير أن كأن صريحة فى ذلك من جهة أن موقعها أن تقوى الشبه حتى يتخيل أو يكاد يتخيل أن المشبه هو المشبه به، والكاف محتملة له، وللإخبار عن المماثلة الخارجية كقولك:" مثل". هذا آخر علم البيان بحمد الله ومنه، فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 67.

الفنّ الثالث علم البديع

الفن الثالث علم البديع

الفنّ الثالث علم البديع وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدّلالة: ـــــــــــــــــــــــــــــ الفن الثالث: علم البديع ص: (يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة). (ش): البديع فى اللغة" الغريب" والبديع فى أسماء الله - تعالى - الخالق لا عن مثال سبق، فهو" فعيل" بمعنى" مفعل" وقد تقدم الاعتراض عليهم فى تسميته بهذا الاسم، وأن الإبداع لا ينسب لغيره - تعالى - لا حقيقة، ولا مجازا، على ما قيل: هذا العلم منزل من العلمين السابقين منزلة الجزء من الكل، أو النتيجة من المقدمتين. فقوله: (علم) جنس. قال الخطيبى: أى علم بالقواعد، وفيه نظر، فقد يكون المراد بالعلم المعلوم، وهو مجاز سائغ مشهور فى الحدود، وقد تقدم مثله فى حد علم البيان، ويشهد له قوله: (يعرف به إلخ) وقوله: (بعد رعاية المطابقة) إشارة إلى رعاية ما يجب اعتباره من علم المعانى من مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فاللام فيه للعهد. وقوله: (ووضوح الدلالة) إشارة لما يجب اعتباره من علم البيان؛ والمراد وضوح الدلالة المتقدم ذكره، وقوله: (بعد رعاية تطبيقه) يحتمل أن يراد بعد معرفة رعاية تطبيقه ووضوح الدلالة، ويكون المراد" هو قواعد يعرف بها وجوه التحسين، ووجوه التطبيق، والوضوح، ومعرفة التطبيق، والوضوح سابقان على معرفة التحسين، فيكون المعانى والبيان جزأين للبديع"، ويحتمل أن يراد" قواعد يعرف بها بعد معرفة التطبيق والوضوح، وجوه التحسين" فلا يكون المعانى والبيان جزأين للبديع، بل مقدمتين له، وقد صرحوا بأن المراد هو الأول، وفى استخراجه من منطوق عبارة المصنف عسر، لأنك إذا قلت: " عرفت زيدا بعد معرفتى لعمرو" فالمخبر به معرفة زيد مقيدة بسبق معرفة عمرو، لا معرفة زيد وعمرو، وقوله:" بعد" يحتمل أن يكون منصوبا ب" يعرف" وأن يكون منصوبا" بالتحسين" والحق الذى لا ينازع فيه منصف أن البديع لا يشترط فيه التطبيق، ولا وضوح الدلالة، وأن كل واحد من تطبيق الكلام على مقتضى

وهى ضربان: معنوى، ولفظى

وهى ضربان: معنوىّ، ولفظى: المحسّنات المعنويّة أما المعنوىّ: فمنه: المطابقة: وتسمّى الطباق، والتضادّ أيضا، وهى الجمع بين متضادّين، أى: معنيين متقابلين فى الجملة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحال، ومن الإيراد بطرق مختلفة، ومن وجوه التحسين قد يوجد دون الآخرين، وأدل برهان على ذلك أنك لا تجدهم فى شئ من أمثلة البيان يتعرضون إلى بيان اشتمال شئ منها على التطبيق، ولا تجدهم فى شئ من أمثلة البديع يتعرضون لاشتماله على التطبيق والإيراد، بل تجد كثيرا منها خاليا عن التشبيه والاستعارة والكناية التى هى طرق علم البيان، هذا هو الإنصاف، وإن كان مخالفا لكلام الأكثرين، ولا يخفى أن هذا التعريف من الرسوم غير الحقيقية لما فيه من التعدية التى هى أمر إضافى. وجوه تحسين الكلام البليغ: ص: (وهى ضربان إلخ). (ش): وجوه تحسين الكلام البليغ ضربان: ضرب يرجع إلى المعنى، أشار إليه بقوله:" معنوى" وضرب يرجع إلى اللفظ، أشار إليه بقوله:" لفظى"، وقدم ما يرجع إلى المعنى لأنه أهم، وأورد أن الأقسام ثلاثة فإن منها: ما يرجع إليهما، وقد يجاب عنه بأن ما يرجع إليهما يدخل فى القسمين لانقسامه إلى كل منهما، أما المعنوى، فهو عبارة عما يزيد المعنى حسنا، وقسموه قسمين: أحدهما: ما يزيد المعنى حسنا لزيادة تنبيه، والثانى: ما يزيده تناسبا، والمصنف أطلق المعنوى ليدخل فيه النوعان منه من غير تمييز بعضها عن بعض، فذكر أقساما فقال: فمنه المطابقة، وتسمى الطباق، لأنه من طابق الفرس إذا وقع رجله مكان يده، ومصدر فاعل المفاعلة، والفعال، وهو تحسين ما لم يكثر فيسمج، قاله التنوخى، وتسمى التضاد وفيه تجوز كما سيأتى. قال الشيرازى:" وتسمى أيضا التطبيق والتكافؤ" قوله: (وهى) أى المطابقة (الجمع) أى فى الذكر (بين متضادين) أى معنيين متضادين، والمراد بالمتضادين: المتقابلان فى الجملة، أى سواء أكان التقابل من وجه ما أم من

ويكون بلفظين: ـــــــــــــــــــــــــــــ كل وجه، وسواء أكان التقابل حقيقيا أم اعتباريا، وسواء أكان بين وجوديين كما هى حقيقة التضاد أم بين وجودى وعدمى، أو عدميين، فإن قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا (¬1) ليس فيه تقابل حقيقة بين العلم المنفى، والعلم المثبت فى الآية ولكن بينهما تقابل فى الجملة إذا أخذا على الإطلاق، كذا قالوه، وفيه نظر لأنهما إذا أخذا على الإطلاق كان بينهما تناقض لا تضاد، ويمكن الجواب بأنه إذا كان المراد بالتضاد التقابل فهو بين النقيضين أوضح، وقد جمع بين الحقيقى وغيره فى قوله: يجزون من ظلم أهل الظّلم مغفرة … ومن إساءة أهل الشّرّ إحسانا (¬2) فمقابلة الإحسان بالإساءة حقيقية ومقابلة الظلم بالمغفرة غير حقيقية، واعلم أن إطلاق المطابقة والطباق على الجمع بين المتقابلين واضح، بمعنى أن الجامع فى الذكر بين المتقابلين طابق بينهما، أى قابل كأنه جعل أحدهما منطبقا على الآخر بمقابلته له، أو لأنهما تطابقا، أى توافقا فى التضاد، فإن التناسب فيه موافق، كما أن التضاد يجعل علاقة كما سبق، أو من باب تسمية الشئ باسم ضده، وهو الشبه بمطابقة الفرس إذا وضعت رجلها مكان يدها، وإطلاق التضاد على الجمع فيه بعد، لأن التضاد فى نفس الأمرين المجموع أحدهما مع الآخر لا نفس الجمع، وهذا اصطلاح لا مشاحّة فيه، والمجاز فيه سائغ، ثم أخذ المصنف فى تقسيم الطباق فهو إنما يكون بلفظين كما اقتضاه كلام المصنف، ولا يرد عليه الاسم المشترك بين ضدين، كالجون إذا ذكر مرتين بمعنييه فإنه لفظان بالشخص، نعم يرد عليه إذا قلنا: إنه يجوز استعمال المشترك فى معنييه، فأطلقنا الجون - مثلا - مريدين معنييه فإنه يصدق عليه حد الطباق، وليس فيه لفظان، لكن الجمهور لا يجيزون استعمال المشترك فى ¬

_ (¬1) سورة الروم: 6، 7. (¬2) البيت لقريط بن أنيف أحد بنى العنبر، ديوان الحماسة 1/ 4. وهو بلا نسبة فى" الصناعتين" ص: 347، والمثل السائر 3/ 152.

من نوع: اسمين؛ نحو: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (¬1)، أو فعلين؛ نحو: يُحْيِي وَيُمِيتُ (¬2)، أو حرفين؛ نحو: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (¬3) أو من نوعين؛ نحو: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ (¬4) ... ـــــــــــــــــــــــــــــ معنييه، فهما إما من نوع واحد باعتبار الاسمية، أو الفعلية، أو الحرفية، أو من نوعين. هذا رأى الجمهور، ونقل المطرزى وصاحب المعيار أنه لا بد فى الطباق من مراعاة التقابل، فلا يجئ باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم، وشرط قدامة فى الطباق اتحاد اللفظ، أى اشتراك المعنيين المتقابلين فى لفظ واحد، قال: وأما ذكر الشئ وضده من غير اتحاد اللفظ فيسمى التكافؤ، كذا نقله عنه جماعة منهم حازم وابن الأثير وعبد اللطيف وغيرهم، وإليه مال ابن الحاجب فى المختصر فى مسألة المشترك، وشرط غير قدامة فى التكافؤ أن يكون الضدين حقيقة والآخر مجازا، فهو أخص من الطباق، وشرط فيه بعضهم اتحاد المسند إليه، وشرط فيه صاحب بديع القرآن أن يكونا ضدين لا أكثر، وشرط فيه أن يكون الضدان حقيقيين، وإلا فهو تكافؤ كما سبق، فإن كان اللفظان من نوع واحد فإما أن يكون النوع الواحد هو الاسم بأن يكون اللفظان اسمين كقوله تعالى: تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أو فعلين كقوله تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ وحرفين كقوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لأن" لها" يدل على الثواب و" عليها" يدل على العقاب وفى هذا الكلام توسع فإن التقابل بين معنيى متعلقى الحرفين لا بين الحرفين ومنه قوله: على أنّنى راض بأن أحمل الهوى … وأخلص منه لا علىّ ولا ليا (¬5) وإن كانا من نوعين فهو كقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فإن أحدهما اسم والآخر فعل، وكذلك قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 18. (¬2) سورة آل عمران: 156. (¬3) سورة البقرة: 286. (¬4) سورة الأنعام: 122. (¬5) البيت لمجنون ليلى، الإيضاح 335، عقود الجمان ص 70.

الطباق ضربان

وهو ضربان: طباق الإيجاب؛ كما مر. وطباق السلب: نحو: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ (¬1)، ونحو: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ فَأَغْنى (¬3) وهذا مثال للنوعين أحدهما اسم، والآخر فعل، وهو أحد الأقسام الممكنة. الثانى: أن يكون أحدهما اسما، والآخر حرفا كقولك:" ثواب زيد حاصل وعليه وزره." الثالث: أن يكون أحدهما حرفا، والآخر فعلا، مثل:" أثيب زيد وعليه ما اكتسب". الطباق ضربان: ص: (وهو ضربان إلخ). (ش): الطباق ينقسم باعتبار آخر، وهو أنه طباق الإيجاب، وطباق السلب. طباق الإيجاب مثل الأمثلة السابقة، وطباق السلب هو الجمع بين فعلى مصدر واحد أحدهما مثبت، والآخر منفى، أو فى حكمهما، كالأمر والنهى، وقسمه صاحب بديع القرآن ثلاثة أقسام: طباق إيجاب، وطباق سلب، وفرق بينهما بما لا حاصل له، ومثل المصنف لطباق السلب بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وقول الشاعر: وننكر إن شئنا على النّاس قولهم … ولا ينكرون القول حين نقول (¬4) وفى جعل الآية من باب الطباق نظر؛ لأن الطباق إن أخذ بين الفعلين فهما فى الآية غير متضادين لأن مفعول لا يعلمون غير مفعول يعلمون، وإن أخذ بين مطلق النفى والإثبات فيلزم أن يكون" ما جاء زيد وتكلم" طباقا، وليس كذلك وسيأتى ما يوضح هذا، ومثال الأمر والنهى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ قالوا: ومنه: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (¬5) أى لا يعصون الله فى الحال: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فى المستقبل قال المصنف: وفيه نظر؛ لأن العصيان يضاد فعل المأمور به، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضاد؟ قلت: لا يعنون ¬

_ (¬1) سورة الروم: 6 - 7، وتمام الآية السابعة يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ وبين لا يعلمون ويعلمون طباق سلب بالنفى وعدمه. (¬2) سورة المائدة: 44. (¬3) سورة الضحى: الآيتان 7، 8. (¬4) الإيضاح ص 211، وبلا نسبة ص 337. (¬5) سورة التحريم: 6.

ومن الطباق نحو قوله [من الطويل]: تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى … لها اللّيل إلّا وهى من سندس خضر ـــــــــــــــــــــــــــــ بالطباق أن يكون مضمون الكلامين متضادا بل يعنون أن يكون المذكوران لو جرّدا من النفى والإثبات كانا فى أنفسهما متضادين، فالتضاد هنا بين العصيان، وفعل المأمور به، ألا ترى أن المصنف وغيره جعلوا من الطباق: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (¬1) وإن كان تحسبهم أيقاظا يفهم أنهم رقود، فيوافق وهم رقود ولا تضاد وكذلك قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وأخذنا الموت والحياة باعتبار الإسناد لما كان بينهما تضاد، فإن كان ميتا يفهم أنه حى، لدلالة كان - غالبا - على الانقطاع، فهو يوافق أحييناه، وكذلك: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ليس الطباق بين عدم خشية الناس، وخشية الله، فإن الذى بينهما تلازم لا تقابل، بل الطباق بين مطلق خشية الناس، وخشية الله، ولا يرد على هذا إلا جعلهم: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ (¬2) طباقا، وقيل: الطباق فى الآية بين الحال والاستقبال فى لا يَعْصُونَ، وَيَفْعَلُونَ قوله: (ومن الطباق إلخ) يشير إلى نوع من الطباق يسمى" التدبيج" وهو أن يذكر فى معنى من المدح أو غيره ألوان لقصد الكناية أو التورية، فالأول كقول أبى تمام: تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى … لها الليل إلا وهى من سندس خضر (¬3) فإنه كنى بقوله" سندس خضر" عن دخول الجنة، وقد توهم بعض الشارحين أن قوله:" خضر" مجرور، واعتذر عن وصف السندس المفرد بالجمع، وليس كذلك، فإن القافية مرفوعة و" خضر" خبر وهى، ولو كانت مجرورة كان الأحسن الاعتذار بأن" سندسا" جمع سندسة، كما قيل. وأما التورية فلقول الحريرى: " فمذ ازورّ المحبوب الأصفر … واغبر العيش الأخضر اسودّ يومى الأبيض … وابيضّ فودى الأسود حتى رثى (¬4) لى العدوّ الأزرق … فيا حبّذا الموت الأحمر" (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 18. (¬2) سورة الروم: 6، 7. (¬3) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص 329، الطراز ج 2 ص 78، شرح عقود الجمان ج 2 ص 72، التلخيص ص 86، المصباح ص 195. (¬4) هكذا فى الأصل، وفى الإيضاح حتى رنا ص: 303. (¬5) عقود الجمان 2/ 72، والإيضاح بتحقيقى ص: 303.

ويلحق به نحو: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (¬1)؛ فإن الرحمة مسبّبة عن اللين، ـــــــــــــــــــــــــــــ فقول: المحبوب الأصفر تورية عن الذهب، وإنما كان تورية لأن المحبوب الأصفر معناه القريب" الإنسان" والبعيد" الذهب" ولا شك فى كون الأصفر هنا مرادا به الذهب، ومن عادة الحريرى استعمال ذلك فيه كقوله: أكرم به أصفر راقت صفرته وقوله: أصفر ذى وجهين كالمنافق ولمنازع أن ينازع فى أن ذلك تورية، ويمنع تبادر الذهن من المحبوب الأصفر إلى الإنسان، وقد يعترض على المصنف فى قوله:" ألوان"، وليس فى البيت السابق إلا لونان، وليست التورية فى كلام الحريرى إلا فى واحد منها، وجوابه عن الثانى أن المراد أن يذكر ألوان تقع التورية فى بعضها وعنه وعن الأول أنه أراد جنس الألوان لا حقيقة الجمع قوله:" ويلحق به إلخ" يشير إلى أمرين يلحقان بالطباق: أحدهما: نحو قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فإن الرحمة مسببة عن اللين الذى هو ضد الشدة فلما ذكر المسبب عن أحد الضدين كان مع ذكر الآخر كالطباق كذا قاله المصنف، وفيه نظر؛ لأن الرحمة من الإنسان ليست مسببة عن اللين، بل هى نفس اللين، لأنها رقة القلب وانعطافه وكذلك قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (¬2) لأن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون. قال المصنف: ومن فاسد هذا الضرب قول المتنبى: لمن تطلب الدّنيا إذا لم ترد بها … سرور محبّ أو إساءة مجرم (¬3) فإن ضد المحب المبغض والمجرم قد لا يكون مبغضا، وله وجه بعيد. يريد المصنف أن بين الإجرام والبغض تلازما بالادعاء، كأنه يشير إلى أن المجرم لا يكون إلا مبغضا له لمنافاة حاله حال المجرم، وكذلك السرور والإساءة لا تقابل بينهما إلا بهذا الاعتبار. والقسم الثانى الملحق بالطباق، ويسمى إيهام التضاد، كقول دعبل: ¬

_ (¬1) سورة الفتح: 29. (¬2) سورة القصص: 73. (¬3) الإيضاح ص 339.

المقابلة

ونحو قوله [من الكامل]: لا تعجبى يا سلم من رجل … ضحك المشيب برأسه فبكى ويسمى الثانى إيهام التضادّ. المقابلة ودخل فيه ما يختصّ باسم المقابلة؛ وهى أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر، بما يقابل ذلك على الترتيب، ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تعجبى يا سلم من رجل … ضحك المشيب برأسه فبكى (¬1) فإنه لا تضاد بين الشيب الذى هو ضحك المشيب وبين البكاء، بل هما متناسبان، إلا أنه لما كان الضحك الحقيقى معناه السرور، أوهم باستعارته للمشيب أنه ضحك حقيقة فقابله بضد الضحك الحقيقى وهو البكاء، ومن الناس من زعم أن الضمير فى فبكى يعود إلى المشيب بتأويل ودعاه إلى ذلك توهم أن المقابلة تستدعى اتحاد المسند إليه، وليس كذلك، وسيأتى مع عدم الاتحاد فى قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (¬2) الآية وقد جعل من هذا قوله: لو ذقت برد رضاب تحت مبسمها … يا حار ما لمت أعضائى الّتى ثملت فإن من سمع يا حار توهم أنه ضد، برد، وكذلك لو قال: يا صاح لطابقه قوله:" ثملت" وقد يعترض عليهما بأن حار لا يوهم المطابقة إلا لو شدّدت راؤه، وكذلك" صاح" إنما أن لو كان صاحبى، لأن الموهم إنما هو صاحبى بالياء. المقابلة: ص: (ودخل فيه ما يختص باسم المقابلة إلخ). (ش): أى: دخل فى الطباق ما يسمى مقابلة، وهى - أى: المقابلة - أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر، بأن يكون معان متوافقة، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب بأن يكون الأول للأول؛ والثانى للثانى، وقال المطرزى فى شرح المقامات: المقابلة أعم من الطباق، فإن المقابلة يدخل فيها نحو:" أنت ابن الدنيا وغيث الجود" فلم ¬

_ (¬1) البيت لدعبل، الإيضاح ص 340، عقود الجمان ج 2 ص 70. (¬2) سورة الليل: 5.

والمراد بالتوافق خلاف التقابل؛ نحو: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً (¬1)، ونحو قوله [من البسيط]: ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا … وأقبح الكفر والإفلاس بالرّجل ونحو: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (¬2)، المراد باستغنى: أنه زهد فيما عند الله تعالى كأنه مستغن عنه؛ فلم يتّق، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة؛ فلم يتّق. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعتبر التنافى، وصاحب بديع القرآن شرط فى المقابلة أن تكون بأكثر من اثنين من الأربعة إلى العشرة، وعلى هذا المراد" بالتوافق" ليس" التناسب"، بل خلاف التقابل مطلقا سواء كانا متناسبين أم لا، ولا شك أن الطباق كله تقابل كما سبق فى حده، فاسم التقابل صادق عليه إلا أنهم اصطلحوا على تسمية هذا النوع فقط تقابلا، وهو ما كان الطباق فيه مكررا، فإن قلت: إذا كان التقابل المراد أخص من الطباق فكيف يدخل فى الطباق، والأخص لا يدخل فى الأعم بل الأعم يدخل فى الأخص؟ قلت: كثيرا ما يقال عن الفرد: إنه داخل فى الجنس، والمراد إعلام أنه فرد من أفراد الجنس غير خارج عنه، لم يريدوا دخول النوع بجميع أجزائه بل دخول ما فيه من حصة الجنس، وذلك إما أن يكون تقابل اثنين باثنين كقوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وتوافق الضحك، والقلة لكونهما لا يتقابلان، وكذلك البكاء مع الكثرة، وإما تقابل ثلاثة بثلاثة كقوله: ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا … وأقبح الكفر والإفلاس بالرّجل (¬3) فقد قابل أحسن بأقبح والدين بالكفر والدنيا بالإفلاس، والمراد بالدنيا اليسار والواو فى قوله:" والإفلاس" إما أن تجعل بمعنى المعية، وإما أن يكون الإفلاس مفعولا معه، ويدل على إرادة المعية قوله فيما قبله: إذا اجتمعا، وإما تقابل أربعة كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فقد قابل أربعة بأربعة، فإن" أعطى" يقابل" بخل" و" اتقى" يقابل" استغنى" و" صدق" يقابل كذب واليسرى يقابل العسرى والمراد ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 82. (¬2) سورة الليل: 5 - 10. (¬3) البيت لأبى دلامة، الإيضاح ص 341، العمدة ج 2 ص 17، معاهد التنصيص ج 2 ص 207، الإشارات ص 63، شرح عقود الجمان ج 2 ص 73، نهاية الأرب ج 7 ص 102، شرح السعد ج 4 ص 84، المصباح ص 194.

وزاد السكاكى: وإذا شرط هنا أمر، شرط ثمّة ضدّه؛ كهاتين الآيتين؛ فإنه لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق، جعل ضدّه مشتركا بين أضدادها. ـــــــــــــــــــــــــــــ باستغنى لم يتق، أى: زهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتق أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة واعلم أن هذا ليس من الطباق كما زعم المصنف بل من الملحق به فإن استغنى ليس بمضاد لاتقى بل الغنى سبب لعدم الاتقاء المضاد لاتقى كما تقدم فى قوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (¬1) هذا ما ذكر المصنف هنا، وزاد فى الإيضاح أنه قد يكون مقابلة خمسة بخمسة، كقول المتنبى: أزورهم وسواد اللّيل يشفع لى … وأنثنى وبياض الصّبح يغرى بى (¬2) قال المصنف: وفيه نظر؛ لأن الباء واللام فيهما صلتا الفعلين فهما من تمامهما، وهذا بخلاف اللام وعلى فى قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (¬3) وزاد السكاكى فى التقابل شرطا، وهو أنه إذا شرط هنا أمر شرط، ثم ضده، كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى (¬4) الآيتين (¬5) فإنه تعالى لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء، والاتقاء، والتصديق جعل ضده مشتركا بين أضدادها، وفى هذا الكلام نظر؛ لأن التيسير ليس شرطا جعل فى أحدهما، فجعل فى الآخر ضده، بل هو مشروط للأمور الأولية فجعل مشروطا للأمور الثانية، ثم قوله:" لما جعل التيسير مشتركا بين هذه الأمور جعل ضده مشتركا بين أضدادها" يقتضى أنه جعل ضد التيسير فى الآية الثانية، وليس كذلك بل التيسير فيهما مذكور مطلوب جعل كليا صادقا على الطرفين، ليس فى أحدهما هذا الأخير غير أن متعلق التيسير الأول وهو الميسر له ضد متعلق الثانى. ¬

_ (¬1) سورة القصص: 73. (¬2) البيت للمتنبى فى ديوانه، الإيضاح ص 342، سر الفصاحة ص 193، الإشارات ص 263، تحرير التحبير ص 181، شرح عقود الجمان ج 2 ص 74، تجريد البنانى ص 218، الإبانة ص 91، البديع لابن منقذ 13، نهاية الأرب ج 7 ص 103، الوساطة ص 163، المصباح ص 194. (¬3) سورة البقرة 286. (¬4) سورة الليل: 5. (¬5) 5، 6 نفس السورة.

مراعاة النظير

مراعاة النظير ومنه: مراعاة النظير، ويسمّى التناسب والتوفيق، وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد؛ نحو: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (¬1)، وقوله [من الخفيف]: كالقسىّ المعطّفات بل الأس … هم مبريّة بل الأوتار ومنها (¬2): ما يسمّيه بعضهم: تشابه الأطراف؛ وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه فى المعنى؛ نحو: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (¬3)، ويلحق بها نحو: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (¬4)، ويسمّى إيهام التناسب. ـــــــــــــــــــــــــــــ مراعاة النظير: ص: (ومنه مراعاة النظير). (ش): أى هو من التحسين المعنوى قال: (ويسمى التناسب والتوفيق أيضا) ويسمى الائتلاف، وكان الأحسن تسميته" التأليف" لموافقة التوفيق، وهو جمع المتكلم أمرا مع ما يناسبه لا بالتضاد، أى تكون المناسبة بغير المضادة كقوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ فإنهما متناسبان، غير متضادين ومنه قوله - وهو البحترى - يصف الإبل الأنضاء المهازيل، وقيل: الرماح: كالقسىّ المعطفات بل الأس … هم مبرية بل الأوتار (¬5) وكقول ابن رشيق: أصحّ وأقوى ما سمعناه فى النّدى … من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السّيول عن الحيا … عن البحر عن كفّ الأمير تميم (¬6) قوله: (ومنها) أى: من مراعاة النظير (ما يسميه بعضهم تشابه الأطراف، وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه، كقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: 5. (¬2) أى من مراعاة النظير. (¬3) سورة الأنعام: 103. (¬4) سورة الرحمن: 5 - 6. (¬5) البيت للبحترى، الإيضاح ص 344، عقود الجمان ج 2 ص 75، التلخيص ص 88، المصباح ص 250. (¬6) المصباح ص 252، الإيضاح (ص 344)، شرح عقود الجمان ج 2 ص 76.

الإرصاد

الإرصاد ومنه: الإرصاد، ويسمّيه بعضهم: التّسهيم؛ وهو أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو من البيت ما يدل عليه إذا عرف الروىّ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *) فإن اللطيف يناسب لا تدركه الأبصار، والخبير يناسب وهو يدرك الأبصار، هكذا قالوه، وقد يقال: اللطيف المناسب لعدم الإدراك، هو من اللطافة بمعنى صغر الحجم، وليس المراد هنا، إنما المراد اللطيف من اللطف الذى هو الرحمة، فينبغى أن يسمى هذا من باب إيهام التناسب الذى سيأتى، لا من التناسب، ومنه قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (¬1) فنبه بالغنى على أن ما له ليس لحاجة، وبالحميد على أنه يجود فيحمد، وقد يقال: الختم فى الآيتين وقع بما يناسب وسط الكلام، لا ابتداءه، إلا أن المصنف جعل الختم بمجموع الجملة، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (¬2)؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب، إلا من ليس فوقه أحد يرد حكمه، فهو الغالب، والعزيز هو الغالب الحكيم من يضع الشئ فى محله (ويلحق بها) أى: بمراعاة النظير قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وسمى إيهام التناسب؛ لأنه لما ذكر لفظ الشمس والقمر ذكر النجم، والمراد به على أحد القولين" النبات"، فذكر النجم بعد ذكر الشمس والقمر يوهم التناسب؛ لأن النجم أكثر ما يطلق على نجم السماء المناسب للشمس والقمر، بكونه فى السماء، فهو كما تقدم فى إيهام التضاد؛ لكونه مراعاة النظير فى اللفظ لا المعنى. الإرصاد: ص: (ومنه الإرصاد إلخ). (ش): من أنواع البديع ما يسمى: الإرصاد لأن السامع يرصد ذهنه للقافية، بما يدل عليها فيما قبلها، ويسمى التسهيم، من البرد المسهم، أى: المخطط الذى لا يختلف ولا يتفاوت، فإن الكلام يكون به كالبرد المسهم المستوى الخطوط كذا قال الخطيبى، والذى فى الصحاح أن المسهم المخطط، ولم يشترط استواء خطوطه، وقيل: يسمى تسهيما؛ لأن المتكلم يصوب ما قبل عجز الكلام إلى عجزه، والتسهيم تصويب السهم إلى الغرض. (وهو أن يؤتى قبل العجز من الفقرة أو البيت بما يدل عليه إذا عرف الروى) قال صاحب ¬

_ (¬1) سورة الحج: 64. (¬2) سورة المائدة: 118.

نحو: وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (¬1)، وقوله [الوافر]: إذا لم تستطع شيئا فدعه … وجاوزه إلى ما تستطيع ـــــــــــــــــــــــــــــ بديع القرآن:" هو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما تأخر أو بالعكس" ومثل المصنف للتسهيم بقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فإنه لو وقف القارئ على أنفسهم؛ لفهم أن بعده يظلمون، وكذلك قول الشاعر: إذا لم تستطع شيئا فدعه … وجاوزه إلى ما تستطيع (¬2) وفى اشتراط العلم بحرف الروى نظر، فإن ذلك قد يعلم من حشو البيت الواحد، أو صدره، وإن لم يعلم الروى، ألا ترى أنك لو وقفت فى هذا البيت على قوله: و" جاوزه إلى ما" لعلم أن تكميله (تستطيع) وكذلك ذكره ابن منقذ، وغيره، ولم يشترطوا فيه ذلك، ولذلك جعل منه الطيبى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ (¬3) وقال: إنه يدل على العنكبوت، ومن شرف الإرصاد، قول ابن نباتة الخطيب: خذها إذا نشدت فى القوم من طرب … صدورها عرفت فيها قوافيها (¬4) وروى أنه لما بلغت قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (¬5) قال عبد الله بن أبى سرح: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (¬6) فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم" كذلك أنزلت" (¬7) فكان ذلك سبب ردّة المذكور. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: 40. (¬2) البيت لعمرو بن معد يكرب الزبيدى، انظر الإيضاح ص 347، شرح عقود الجمان ج 2 ص 78، التلخيص ص 88. (¬3) سورة العنكبوت: 41. (¬4) عقود الجمان ج 2 ص: 77، قاله يصف قصيدته. (¬5) سورة المؤمنون: 14. (¬6) سورة المؤمنون: 14. (¬7) ورد هذا عن عمر - رضى الله عنه - وأصله فى الصحيحين، وعن معاذ، وقال الحافظ ابن كثير فى التفسير (3/ 243): وفى إسناده جابر بن زيد الجعفى ضعيف جدا وفى خبره هذا نكارة شديدة ... خ خ.

المشاكلة

المشاكلة ومنه: المشاكلة؛ وهى ذكر الشئ بلفظ غيره؛ لوقوعه فى صحبته، تحقيقا أو تقديرا: فالأول: نحو قوله [من الكامل]: قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه … قلت: اطبخوا لى جبّة وقميصا ونحو: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ المشاكلة: ص: (ومنه المشاكلة إلخ). (ش): المشاكلة ذكر الشئ بلفظ غيره لوقوعه فى صحبة ذلك الغير تحقيقا، أو تقديرا، فالتحقيق، كقوله: قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه … قلت اطبخوا لى جبّة وقميصا (¬2) كأنه قال: خيطوا لى، فذكر الخياطة بلفظ ليس لها، بل بلفظ الطبخ، لوقوعه فى قوله: (نجد لك طبخه) واستعمال اطبخوا هنا للمقابلة، وقوله:" نجد" الظاهر أنها بضم النون من أجاد، لكن قال بعض شراح هذا الكتاب: إنها بالفتح من الوجدان، والذى يظهر فى قوله:" اطبخوا" أنه ليس من مجاز المقابلة، بل من الاستعارة؛ لمشابهة الطبخ للخياطة، والإطعام للكسوة فى النفع، وأن هذا القسم من الضرب الثانى من أحد قسمى القول بالموجب، كما سيجئ - إن شاء الله تعالى - وهو بعينه الأسلوب الحكيم المذكور فى علم المعانى، ثم نقول: مجاز المقابلة بالاستقراء يكون اللفظ المقابل والمقابل كلاهما فى متكلم، وهنا" اطبخوا" فى كلام شخص و" طبخه" فى كلام آخر، قلت: وهذا يقتضى أن هذا من مجاز المقابلة، وقد قدم المصنف فى المجاز المرسل أن هذه الآية من مجاز إطلاق السبب على المسبب، وكذلك أن مجاز المقابلة، ربما يقدم على مقابله مثل" فإن الله لا يملّ حتى تملّوا" (¬3) ومنه قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ فذكر" نفسك"، والمراد" الذات" ولكنها ذكرت ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 116. (¬2) البيت لأبى الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكى، انظر الإيضاح ص 348، المصباح ص 196، شرح عقود الجمان ج 2 ص 77. (¬3) أخرجه البخارى فى" الصوم" (4/ 251)، (ح 197)، وفى غير موضع، ومسلم (ح 782).

والثانى: نحو: صِبْغَةَ اللَّهِ (¬1)، وهو مصدر مؤكّد ل آمَنَّا بِاللَّهِ (¬2) أى: تطهير الله؛ لأنّ الإيمان يطهّر النفوس، والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمّونه: (المعموديّة)، ويقولون: إنّه تطهير لهم؛ فعبّر عن الإيمان بالله ب صبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة. ـــــــــــــــــــــــــــــ بلفظ النفس؛ لتقدم" تعلم ما فى نفسى" واعترض بجواز أن يكون المراد بنفسك" الذات" فتكون حقيقة من غير ملاحظة المشاكلة. قلت: وعبارة الزمخشرى:" المعنى تعلم معلومى، ولا أعلم معلومك" ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة، والذى فهمته من هذا الكلام، أنه لا يريد أن النفس هنا غير الذات، بل ذكر الجملة التى لأجلها عبر عن المعلوم بما فى النفس، فلا يكون إرادة الذات والحقيقة منافيا للمشاكلة، ويمكن أن يقال: النفس وإن أطلقت على الذات فى حق غير الله - تعالى - فلا تطلق فى حقه، لما فيه من إيهام معناها الذى لا يليق بغير المخلوق، فلذلك احتيج إلى المشاكلة. وقيل: لا بد من الإقرار بالمشاكلة؛ لأن ما فى النفس إن أريد به المضمرات، فلا مطابقة من جهة الله - تعالى - فوجب المشاكلة، وإن أريد ما فى الحقيقة والذات فالمشاكلة من حيث إدخاله فى الظرفية، ومنه قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (¬3) على أحد القولين السابقين، وجعل منه فى الإيضاح قول أبى تمام: من مبلغ أفناء يعرب كلّها … أنّى بنيت الجار قبل المنزل (¬4) وفيه نظر؛ لأن البناء المذكور لم يذكر نظيره فى المنزل تحقيقا، بل تقديرا، فإن تقديره قبل بناء المنزل، فهو من القسم الثانى، لا الأول، بل هو أجدر باسم البعدية من الثانى؛ لأن هذا التقدير لفظى، والتقدير فى القسم الثانى معنوى، قوله: (والثانى) أشار إلى ما إذا كان وقوع ذلك الاسم فى صحبة غيره تقديرا (نحو قوله تعالى صِبْغَةَ اللَّهِ) فإنه مصدر مؤكد انتصب بقوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ ومقابل الصبغة مقدر تقديره صبغة الله لا صبغتكم، والمعنى تطهير الله (لأن الإيمان يطهر النفوس، وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر، يسمونه المعمودية) قال المطرزى: وهى لغة غريبة لم تسمع إلا فى التفسير (ويقولون: هو تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بالله ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 138. (¬2) سورة البقرة: 136. (¬3) سورة الشورى: 40. (¬4) الإيضاح ص 348، شرح عقود الجمان 2/ 80.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ بصبغة الله للمشاكلة) وإن لم يتقدم لفظ الصبغ لدلالة القرينة، وغمس النصارى أولادهم عليه، كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرام، وهذا الكلام كله من الكشاف، ونقل عن الزّجّاج أن (صبغة الله) يجوز أن يراد به خلقة الله الخلق، أى ابتداء الله الخلق على الإسلام كقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها (¬1) وقول الناس: صبغ الثواب إنما هو تغيير لونه وخلقته، وقال القاضى: صبغنا الله صبغة، وهى فطرته كأنها حلية صبغ الثوب إنما هو تغيير لونه وخلقته وقال القاضى: صبغنا الله صبغة وهى فطرته كأنها حلية الإنسان إذ هدانا بهدايته، وطهر قلوبنا بطهره، وسماه صبغة؛ لأنه ظهر أثره عليه ظهور الصبغ. قال الطيبى: فعلى هذا القول، لا تكون مشاكلة بل استعارة مصرحة تحقيقية (قلت): وفيما قاله نظر؛ لأن كل مشاكلة فهى استعارة، فكونها استعارة لا ينافى المشاكلة، وقولهم: إن (صبغة الله) مصدر مؤكد، هو أحد الأقوال، وقيل: منصوب على الإغراء أى الزموا ويبعده نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ إلا أن يقدر هناك قول، وفيه تكلف، والزمخشرى ذكر هذا، إلا أنه قدر الإغراء بالمجرور، أى عليكم، ورد عليه: بأن الإغراء إذا كان بظرف، أو مجرور لم يجز حذفه، ويحتمل أن يكون تقديره عليكم تفسير معنى، وقيل: بدل من قوله: مِلَّةِ إِبْراهِيمَ، * ونقل عن الأخفش، وهو بعيد، لطول الفصل. وقال أبو البقاء: انتصابه بفعل محذوف، أى اتبعوا، ولعله يريد الإغراء قال فى الإيضاح بعد هذا النوع: ومنه الاستطراد، وهو الانتقال من معنى لمعنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل لذكر الثانى، وقال بدر الدين بن مالك: إن الاستطراد قليل فى القرآن الكريم، وأكثر ما يكون فى الشعر، وأكثره فى الهجاء، ولم أظفر به إلا فى قوله تعالى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (¬2) وقول الحماسى: وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة … إذا ما رأته عامر وسلول (¬3) أراد مدح نفسه، فاستطرد لذم قبيلتين، وعليه قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة الروم: 30. (¬2) سورة هود: 95. (¬3) البيت للسموأل، انظر الإيضاح ص 349، المصباح ص 234.

المزاوجة

المزاوجة ومنه: المزاوجة؛ وهى أن يزاوج بين معنيين فى الشرط والجزاء؛ كقوله [من الطويل]: إذا ما نهى النّاهى فلجّ بى الهوى … أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر العكس ومنه: العكس؛ وهو أن يقدّم جزء فى الكلام على جزء، ثم يؤخّر، ويقع على وجوه: منها: أن يقع بين أحد طرفى جملة وما أضيف إليه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (¬1) قال الزمخشرى: وأورده على سبيل الاستطراد، عقيب ذكر خصف الأوراق، وما معه إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس، وقد يكون الثانى هو المقصود، فيذكر الأول قبله ليتوصل به إليه، كقول أبى إسحق الصابى: إن كنت خنتك فى المودّة ساعة … فذممت سيف الدولة المحمودا وزعمت أنّ له شريكا فى العلى … وجحدته فى فضله التّوحيدا قسما لو انّى حالف بغموسها … لغريم دين ما أراد مزيدا (¬2) المزاوجة: ص: (ومنه المزاوجة إلخ). (ش): وهو أن يزاوج بين معنيين فى الشرط والجزاء، كقول البحترى: إذا ما نهى النّاهى فلجّ بى الهوى … أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر (¬3) ويروى" أصاخ" إلى الواشى فلج به الهجر، فقد زاوج بين معنيين هما لجاج الهوى، ولجاج الهجر فى الشرط والجزاء، فإن أحدهما معطوف على الشرط، والآخر على الجزاء، وقد جعل الخطيبى جميع ما تقدم إلى اللفظ معا قوله. (ومنه) أى من المعنوى (العكس) وسماه فى الإيضاح العكس والتبديل (وهو أن يقدم أول الكلام جزء ثم يؤخر) أى يؤخر الجزء المقدم ويقدم الجزء المؤخر لنكتة، أى يكون مقصودا لمعنى بديع، لا غلطا، (ويقع على وجوه منها أن يقع بين أحد طرفى جملة، وما أضيف إليه) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 26. (¬2) الإيضاح ص 350. (¬3) الإيضاح ص 350، التلخيص ص 89، المصباح ص 164، والبحترى فى ديوانه 844، والتبيان 2/ 400 بتحقيقى.

نحو: عادات السادات سادات العادات. ومنها: أن يقع بين متعلقى فعلين فى جملتين؛ نحو: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (¬1). ومنها: أن يقع بين لفظين فى طرفى جملة نحو: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه عبارة المصنف، ولا يخفى أن قوله:" يقع" على وجوه منها: أن يقع فاسد الوضع، فإنه جعل الوقوع وجها يقع عليه الشئ، (ووقوع الشئ لا يكون وجها يقع عليه الشيء، كقول بعضهم: عادات السادات سادات العادات) وإنما قال:" بين أحد طرفى الجملة" لأنه وقع بين المبتدأ، وما أضيف إليه، ويصح أن يقال: بين طرفى جملة وما أضيف إليهما، ومثله قولهم: كلام الإمام إمام الكلام. (ومنها أن يقع بين متعلقى فعلين فى جملتين كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. قوله: " متعلقى فعلين"، فيه نظر؛ لأنه يخرج مخرج الحى من الميت، ومخرج الميت من الحى، ولا معنى لإخراجه، فالصواب أن يقال: متعلقى عاملين، ومنه قول الحماسى وهو عبد الله بن الزبير الأسدى: فردّ شعورهنّ السّود بيضا … وردّ وجوههنّ البيض سودا (¬3) (ومنها أن يقع بين لفظين فى طرفى جملتين، كقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) لا يقال: فيه نظر؛ لأنه ليس عكسا تامّا لأن فى إحداهما حل بالاسم وفى الأخرى يحلون بالفعل، لأنا نقول: المراد العكس بين هن وهم فقط، فاللفظان هما" هن وهم" وطرفا الجملتين هما المبتدأ ومنه قوله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (¬4) ولقائل أن يقول: هذا القسم كله من رد العجز على الصدر وسيأتى. ¬

_ (¬1) سورة يونس: 31. (¬2) سورة الممتحنة: 10. (¬3) البيت من الوافر، وهو لعبد الله بن الزبير فى ملحق ديوانه ص 143 - 144، وتخليص الشواهد ص 443، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 941، والمقاصد النحوية 2/ 417، ولأيمن بن خزيمة فى ديوانه ص 126، ولفضالة بن شريك فى عيون الأخبار 3/ 76، ومعجم الشعراء ص 309، وللكميت ابن معروف فى ديوانه ص 191، وذيل الأمالى ص 215، وشرح بلا نسبة فى شرح الأشمونى 1/ 159، البيت الثانى فقط، وشرح ابن عقيل ص 217، ولسان العرب 3/ 219 (سمد). (¬4) سورة الأنعام: 52.

الرجوع

الرجوع ومنه: الرجوع؛ وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة؛ كقوله [من البسيط]: قف بالدّيار الّتى لم يعفها القدم … بلى وغيّرها الأرواح والدّيم (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ (ومنه) أى من المعنوى (الرجوع وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة كقول زهير: قف بالدّيار التى لم يعفها القدم … بلى وغيّرها الأرواح والدّيم) (¬2) قيل: لما وقف بالديار حصلت له كآبة أذهلته، فأخبر بما لم يتحقق، فقال: لم يعفها، ثم رجع إليه عقله فتدارك كلامه، فقال: بلى وغيرها الأرواح والديم، كذا قالوه، وليس مرادهم ما هو ظاهر العبارة من أنه غلط، ثم استدرك؛ لأن ذلك يكون غلطا لا بديع فيه؛ بل المراد أنه توهم الغلط، وإن كان قاله عن عمد، إشارة إلى تأكيد الإخبار بالثانى، لأن الشئ المرجوع إليه يكون تحققه أشد، ونحوه: فأفّ لهذا الدّهر لا بل لأهله (¬3) وقول الحماسى: أليس قليلا نظرة إن نظرتها … إليك؟! وكلا ليس منك قليل (¬4) كذا ذكره فى الإيضاح، وفيه نظر؛ لأن القليل الأول المثبت، هو باعتبار القلة الحقيقية، والقليل الثانى المنفى باعتبار الغنى والسرف، فلم يتواردا على معنى واحد، فلا رجوع. ¬

_ (¬1) البيت لزهير ديوانه ص 145، الجرجانى فى الإشارات ص 271. (¬2) البيت من البسيط، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 145، ولسان العرب 5/ 488 " وا"، وتهذيب اللغة 15/ 672، وتاج العروس" وا"، والإيضاح بتحقيقى ص: 311. (¬3) الإيضاح بتحقيقى ص: 312. (¬4) البيت من الطويل وهو ليزيد بن الطثرية فى ديوانه ص 97، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1341، وبلا نسبة فى الإنصاف 1/ 402، والإيضاح بتحقيقى ص: 311.

التورية

التورية ومنه: التورية، وتسمّى الإيهام أيضا؛ وهى أن يطلق لفظ له معنيان، قريب وبعيد، ويراد البعيد؛ وهى ضربان: مجرّدة: وهى التى لا تجامع شيئا مما يلائم القريب؛ نحو: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (¬1). ومرشّحة؛ نحو: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ التورية: ص: (ومنه التورية إلخ). (ش): أى من المعنوى التورية، وهى مصدر وريت الخبر، إذا سترته وأظهرت غيره، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان كأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر، ويسمى أيضا الإيهام، وهو أن يطلق لفظ له معنيان: قريب، وبعيد، ويراد البعيد، والمراد بقولنا: قريب، وبعيد، قريب الفهم وبعيده، فإن المعنى نفسه لا يوصف ببعد ولا قرب والمراد بالمعنيين أكثر من معنى، واعلم أن قولهم: لفظ له معنيان يراد البعيد، يتأتى بأن يكون اللفظ له حقيقة ومجاز، فيراد مجازه، وإن كان غير راجح، أو حقيقته المرجوحة إن كان مجازه راجحا، أو يكون مشتركا، ويغلب استعماله فى أحدهما، بحيث يصير الذهن يتبادر إليه دون الآخر، ثم قسم المصنف التورية إلى قسمين: مجردة، ومرشحة، فالمجردة هى التى لا تجامع شيئا مما يلائم القريب المورى به، ومثله بقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فإن معناه القريب المورى به ما يقتضيه ظاهر لفظ" استوى" ومعناه البعيد المراد المورى عنه القدرة والملك. كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن لفظ" على" يلائم المعنى القريب المورى به عن المراد، فإن على حقيقتها الاستعلاء الحسى الذى ليس بمراد، والمرشحة هى التى قرنت بما يلائم المورى به، إما قبله أو بعده، ومثله بقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أى بقوة. كذا قال المصنف، وشرحوه على أن المراد أن بأيد تورية مرشحة بما يلائمها، وهو البناء، والظاهر أن المراد أن بأيد جمع يد بمعنى القوة، فيكون أريد بالأيدى" القوى"، وهو معناها المراد البعيد، ومعناها القريب غير المراد" الجارحة" قلت: وفيه نظر، لأن قوله تعالى: بِأَيْدٍ له معنيان:" القوة" فيكون مفردا وجمع" يد" وهما معنيان مستويان، ليس أحدهما قريبا والآخر بعيدا، وكل ¬

_ (¬1) سورة طه: 5. (¬2) سورة الذاريات: 47.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ منهما صالح لأن يراد، فإن البناء يكون بالأيد الذى هو" القوة" وبالأيدى التى هى جمع" يد" ثم لو كان أحدهما قريبا، فهذه ليست كلمة واحدة لها معنيان، بل كلمتان، فإن الأيد كلمة غير الأيدى، فتقرر أن التورية ليست باعتبار الأيد والأيدى بل باعتبار إطلاق الأيدى وإرادة القوى، فإن أراد المصنف بذكره" القوة" أن" الأيد" فى الآية مفردة فلا مجاز فيه، لأن القوة مرادة الحقيقة فى الآية، ولا تورية لعدم قرب أحد المعنيين من جهة وضع اللفظ، وإن أراد جمع" يد" بمعنى القوة، كما فهموه عنه، صح أنها تورية مرشحة واستعارة مرشحة، لكن لا نسلم أن المراد بقوله تعالى: بِأَيْدٍ ذلك، بل المراد" القوة" وإذا كان الأيد القوة، فما الضرورة إلى تأويل بأيد على الأيدى المتجوز بها عن القوة، وقد جزم الزمخشرى، وغيره: بأن المراد فى الآية" الأيد المفرد" وهو" القوة"؟ واعلم أن التورية المرشحة، هى نوع من الاستعارة المرشحة فى الأصل، والتورية المجردة يدخل فيها الاستعارتان: المجردة والمطلقة، والفرق بين الاستعارة المرشحة والتورية المرشحة، هو أن مع الاستعارة قرينة تصرف اللفظ لها وتجعل المعنى البعيد قريبا، والتورية ليست كذلك، والغالب عليها الترشيح بما يبعد إرادة المجاز، ولذلك سميت تورية وإيهاما. قال المصنف: وقد يكون الترشيح بعد التورية، كقول القاضى عياض: كأنّ كانون أهدى من ملابسه … لشهر تموز أنواعا من الحلل أو الغزالة من طول المدى خرفت … فما تفرق بين الجدى والحمل (¬1) وكأنه نظر إلى لفظ الغزالة، وجعل ترشيحه الجدى، وهو بعده. وابن مالك نظر إلى لفظ الجدى والحمل، وجعله تورية مرشحة بما قبلها وهو الغزالة، وقال: إن لفظ الغزالة تورية مجردة وإنه ليس قبله ولا بعده شئ من لوازم المورى به، وقال ابن النحوية: هما توريتان مجردتان ليست إحداهما ترشيحا للأخرى؛ لأن شرط المرشح به بأن يكون صريحا، وكل من الغزالة والجدى والحمل مشتركان، ثم قال المصنف: التوهم ضربان ضرب يستحكم حتى يصير اعتقادا كقوله: حملناهما طرّا على الدهم بعد ما … جعلنا عليهم بالطّعان ملابسا (¬2) ¬

_ (¬1) الأبيات لأبى الفضل عياض فى صيفية باردة فى كتاب المصباح ص 260، وكتاب الإيضاح ص 312. (¬2) البيت بلا نسبة فى المصباح ص 261.

الاستخدام

الاستخدام ومنه: الاستخدام؛ وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما، ثمّ بالآخر الآخر، أو يراد بأحد ضميرين أحدهما، ثم بالآخر الآخر: فالأوّل: كقوله [من الوافر]: إذا نزل السّماء بأرض قوم … رعيناه وإن كانوا غضابا والثانى: كقوله [من الكامل]: فسقى الغضى والسّاكنيه وإن هم … شبّوه بين جوانحى وضلوعى ـــــــــــــــــــــــــــــ وضرب لا يبلغ ذلك، كقول ابن الربيع: لولا التّطيّر بالخلاف وأنّهم … قالوا مريض لا يعود مريضا لقضيت نحبى فى فنائك خدمة … لأكون مندوبا قضى مفروضا (¬1) وقال السكاكى: أكثر متشابهات القرآن تورية. قوله: (منه) أى ومن المعنوى (الاستخدام) قال: سمى استخداما؛ لأن الكلمة خدمت لمعنيين، وقال الخطيبى: يسمى الاستحدام بالحاء المهملة، وهو قسمان: الأول أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما سواء أكانا متساويين أم لا، ثم يؤتى بعده بضمير يعود فى اللفظ عليه، وفى المعنى على معناه الآخر، مثاله قول معاوية بن مالك: إذا نزل السّماء بأرض قوم … رعيناه وإن كانوا غضابا (¬2) فإنه أراد بالسماء المطر، وأراد بالضمير فى رعيناه النبات والنبات أحد معنيى السماء؛ لأنه مجاز عنه باعتبار أن المطر سببه، وسوغ عود الضمير على النبات - وإن لم يتقدم له ذكر - ذكر سببه، وهو السماء التى أريد بها المطر. الثانى: أن يراد بأحد ضميرى اللفظ معنى، وبضميره الآخر آخر كقول البحترى: فسقى الغضا والساكنيه وإن هم … شبوه بين جوانحى وضلوعى (¬3) ¬

_ (¬1) البيتان لابن الربيع عبد الله بن العباس فى الإيضاح ص 501، الإشارات ص 272، المصباح ص 261. (¬2) البيت من الوافر، وهو لمعود الحكماء (معاوية بن مالك) فى لسان العرب 14/ 399، (سما)، وللفرزدق فى تاج العروس (سما)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة 3/ 298، والمخصص 7/ 195، 16/ 30، وديوان الأدب 4/ 47، ورواية صدره: إذا سقط. (¬3) البيت من الكامل، وهو بلا نسبة فى تاج العروس (غفر).

اللف والنشر

اللف والنشر ومنه: اللف والنشر؛ وهو ذكر متعدّد على التفصيل أو الإجمال، ثم ما لكلّ واحد من غير تعيين؛ ثقة بأن السامع يردّه إليه. فالأول: ضربان؛ لأن النشر إمّا على ترتيب اللف؛ نحو: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه أراد بضمير الغضا فى قوله:" والساكنيه" المكان، وفى قوله:" شبوه" الشجر، والشجر هو أحد معنيى الغضا؛ لأنه معناه الأصلى، أى: أوقدوه، ولك أن تقول: الاستخدام هنا إنما كان بعود ضمير" شبوه" على غير المراد بالغضا، وتوسط ذكر الساكنيه لا أثر له، فالضربان بالحقيقة ضرب واحد لا يختلفان فيما يتعلق بالاستخدام، ولك أن تقول - أيضا -: الضمير الثانى لا يعود على الشجر الذى ادعيتم أنه أحد معنيى الغضا، مرادا به الحقيقة، بل يعود على الغضا مرادا به معناه المجازى، وهو نار الشوق، لأنه لا يقال: إن الشوق أحد معنيى الغضا، فليتأمل. وقيل: الاستخدام أن تقع الكلمة المحتملة لمعنيين متوسطة بين لفظين: أحدهما، لمعناها الواحد، والآخر لمعناها الآخر كقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ (¬2) فإن كتاب يحتمل الأمد المحتوم ويحتمل المكتوب، و" أجل" استخدام للمعنى الأول، ويمحو استخدام للثانى. اللف والنشر: ص: (ومنه اللف والنشر إلخ). (ش): اللف والنشر، عبارة عن ذكر متعدد، سواء كان اثنين أو أكثر، إما مفصلا أو مجملا بأن يشمل ذلك التعدد لفظ عام بالاستغراق، أو الصلاحية، وهذا هو اللف، ثم يذكر ما لكل، أى: ما يختص به كل واحد من ذلك المتعدد، من غير تعيين واحد منها لآخر، وثوقا بأن السامع يرده إليه بقرينة حالية، واشتراط عدم التعيين يشكل عليه ما سيأتى، واشتراط تأخر النشر عن اللف يشكل عليه ما سيأتى - أيضا - فالأول، أى ما كان المتعدد فيه مفصلا قسمان: لأن النشر إما أن يذكر على ترتيب اللف، بأن يجعل الأول للأول، والثانى للثانى على هذا الترتيب، أو لا، مثال الأول، ويسمى اللف والنشر على السنن، وهو أحسن القسمين، كما صرح به التنوخى وغيره قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فإن ¬

_ (¬1) سورة القصص: 73. (¬2) سورة الرعد: 38، 39.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعود على الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعود على النهار، وقد يقال: إن كلا منهما يعود إلى الليل والنهار، كما ذكره الزمخشرى احتمالا فى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ (¬1) سنذكره فى آخر الكلام، واعلم أن المصنف مثل لهذا القسم بقول ابن الرومى: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم … فى الحادثات إذا دجون نجوم فيها معالم للهدى ومصابح … تجلو الدّجى والأخريات رجوم (¬2) وفيه نظر من وجوه، منها أنه اشترط - فيما سبق - أن لا يكون فى النشر تعيين فرد منها الفرد من أفراد اللف، وهذا فيه تعيين الأخير للأخير بقوله: والأخريات رجوم فيكون من التقسيم الذى سيأتى، لا من اللف والنشر فإن الظاهر أن قوله: والأخريات جمع أخرى تأنيث آخر بالكسر لا تأنيث آخر بالفتح، ومنها: أنا لا نسلم أن هذا من اللف والنشر، لأن المظروف إذا كان فى أحد أشياء فيها مناسبة ما يصدق أن يقال: هو فيها، كما جعل الحج واقعا فى أشهر معلومات، وإنما يقع فى بعضها، وإذا ثبت هذا، فلا يتعين أن لكل واحد من المعالم والمصابيح، والرجوم ظرفا من الآراء، والوجوه، والسيوف، لأنه إذا كانت المعالم - مثلا - فى الآراء صدق أن المعالم فى الآراء والوجوه والسيوف؛ لأنه بين الثلاثة تناسبا يصوغ جعل الواقع فى أحدها واقعا فى الجميع، وهو أنها موصلة إلى المقصود، ألا ترى إلى الشاعر، كيف جعلها كلها نجوما فى البيت الأول؟ ومنها أنا وإن قلنا: إنه لا يصح ذلك، فما المانع من أن يراد تحقيق المعنى ويدعى أن فى الآراء وحدها معالم للهدى ومصابيح للدجى ورجوما للعدى؟ وكذلك فى الوجوه والسيوف، فلا يكون من اللف والنشر فى شئ، ومنها سلمنا أن هذا لف ونشر، فليس هذا من القسم الأول، الذى ذكر فيه اللف مفصلا، كما زعم المصنف، بل من القسم الثانى الذى وقع اللف فيه مجملا؛ لأن الضمير فيها هو اللف، فهو كقولك: الزيدان قائم وقاعد، وكقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ ¬

_ (¬1) سورة الروم: 23. (¬2) البيتان لابن الرومى فى المصباح ص 209، والتبيان ص 187، والطراز ج 3 ص 88، والإيضاح ص 503، 327.

وإما على غير ترتيبه؛ كقوله (¬1) [من الخفيف]: كيف أسلو وأنت حقف وغصن … وغزال لحظا وقدّا وردفا ـــــــــــــــــــــــــــــ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى (¬2) وإنما التبس ذلك عليه، لأنه نظر إلى التفصيل فى البيت الأول، وليس كذلك، فإن النشر إنما وقع للضمير فى قوله: فيها لا يقال: قوله: نجوم يعود إلى الآراء، وقوله: فيها معالم صفة نجوم، وقوله: ومصابح معطوف عليه؛ لأن قوله: والأخريات رجوم لا يمكن أن يكون بقية الخبر؛ لأنه يصير تقديره: وسيوفكم الأخريات رجوم؛ لأن الأخريات رجوم، لا يصح أن يكون خبر وسيوفكم ومثال الثانى، وهو النشر الملفوف بالتفصيل على غير ترتيب، بأن يكون أول النشر لآخر اللف، وعلى هذا الترتيب قوله، أى ابن حيوس: كيف أسلو وأنت حقف وغصن … وغزال لحظا وقدّا وردفا؟! لحظا يعود إلى غزال، وقدا يعود إلى غصن، وردفا يعود إلى حقف، وقول المصنف: على غير ترتيبه، يقتضى بظاهره أن من اللف عود بعض إلى بعض مطلقا، فيدخل فيه أن يكون أول النشر لأوسط اللف، أو للأول، ثم الثانى للثالث، ونحو ذلك، وتقدم الكلام على ذلك فى شرح خطبة هذا الكتاب، وظاهر كلام غير المصنف تقييد غير الترتيب بأن يكون على عكس اللف وبه صرح فى المصباح، وعدّ فى البرهان من اللف والنشر: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (¬3) قال: معناه: يقول الذين آمنوا: متى نصر الله؟ فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب. (تنبيه): ربما يحذف أحد أجزاء اللّف لدلالة النشر عليه، كقولك فى جواب من قال: من الإنسان والفرس ناطق وصاهل، وقد يحذف أحدهما دون الآخر ومثل بقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً (¬4) على أحد التخاريج فيه. ¬

_ (¬1) البيت لابن حيوس ديوانه 2/ 47، والإيضاح ص 504، والمصباح ص 247، والحقف: الجملة من الرمل. (¬2) سورة البقرة: 111. (¬3) سورة البقرة: 214. (¬4) سورة الأنعام: 158.

والثانى: كقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى (¬1) أى: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى؛ فلفّ لعدم الالتباس؛ للعلم بتضليل كل فريق صاحبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والثانى) يشير إلى ما كان اللف فيه بذكر متعدد على جهة الإجمال، ويسمى المشوش كقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى فالضمير فى قالوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتقديره: وقالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة، إلا من كان هودا أو نصارى، أى قالت اليهود: لن يدخل إلا من كان هودا، والنصارى: لن يدخل إلا من كان نصارى. قال الزمخشرى: فلف بين القولين لعدم الالتباس. قوله: (للعلم) بدل من قوله: لعدم الالتباس فإن العلم حاصل بتضليل كل فريق لصاحبه، ونحوه قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى (¬2) واعلم أن ما ذكروه فى هذه الآية الكريمة، لا يخلو عن إشكال فإن أو فى قوله تعالى: أَوْ نَصارى إما أن يقدر بعدها قول أو لا، فإن قدر بأن يكون تقديره أو قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، لم يصح، لأن ذلك حينئذ موضع الواو خ خ، لا أو خ خ، ثم إنا ولو جعلنا أو بمعنى الواو، وقدرنا قولا محذوفا، يخرج عن اللف، فإنه يصير الضمير الأول لليهود فقط، وهذا ليس مرادهم قطعا، ألا ترى لقول الزمخشرى: فلف بين القولين، وإن لم نقدر قولا بعد، أو فكيف ينسب إلى أهل الكتاب على الإطلاق هذا القول، وهو بجملته غير صادر من أحد منهم، بل مخالف لقول كل من الفريقين؟ والذى يظهر لى فى الآية الكريمة أنها ليست من اللف والنشر فى شئ، وإنما المراد نسبة هذا القول بجملته إلى كل من اليهود والنصارى، غير أنه إجمال وتفصيل، بأن يكون جرد من قول الفريقين قول كلى تضمنه مقالتهما، فإن قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، يتضمن أن غير اليهود لا يدخل الجنة، وكذلك قول النصارى، فنسب إلى كل من الفريقين قوله: لا يدخل الجنة أحد ليس يهوديا ولا نصرانيا، ثم إن قلنا: الاستثناء من النفى ليس إثباتا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ذلك، وإن قلنا: إنه إثبات، فوجهه أنهم لما كان مقصودهم الأعظم نفى دخول المسلمين الجنة، وكان كل من فريقى النصارى، واليهود أحقر عند الآخر من الانتصاب لمعارضته، كان قول اليهود مثلا لن يدخل الجنة إلا يهودى يتضمن نفيه عن غير اليهودى والنصرانى، كما أشير إليه بالنفى ويتضمن إثبات دخولها لأحد فريقى اليهود والنصارى لأن إثبات دخولها لأحد الفريقين ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 111. (¬2) سورة البقرة: 135.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ عينا وهم اليهود إثبات لدخول أحد الفريقين مطلقا، لأن الأخص يستلزم الأعم، فقولهم: لن يدخل الجنة إلا يهودى، يصدق أنه ينسب به إليهم أنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود أو النصارى؛ لأن من أثبت قيام زيد دون عمرو، يصدق عليه أنه أثبت قيام أحد الرجلين، لا يقال: فيلزم أن يحكى عنهم أنهم قالوا: لن يدخل إلا يهودى أو نصرانى أو مسلم، لأنا نقول: لما كان مقصودهم الأصلى هو نفى دخول المسلمين صرح بنفيه ولم يذكر الأعم الشامل له، ولما لم يكن قول كل منهم: لن يدخل الجنة إلا يهودى أكثر قبحا من قوله: لن يدخل الجنة إلا يهودى، أو نصرانى حكى من كلامهم الثانى الذى هو موجود فى ضمن قولهم الأول، بل هو أبلغ فى الشناعة عليهم؛ لأنه بين به انصباب غرضهم فى اختصاص المسلمين بالإبعاد عن الجنة، فليتأمل ما ذكرناه فإنه حسن دقيق. قيل: ويجوز أن يكون فى الآية حذف، والتقدير: وقالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فيكون لفا ونشرا بالتفصيل لا الإجمال، وفيه نظر؛ لأن المذكور هو الضمير الشامل للفريقين، فكيف يكون الحذف؟ (تنبيه): بقى من اللف والنشر قسم ثالث لم يذكره، أشار إليه الزمخشرى فى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ (¬1) قال: وهذا من باب اللف، وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشئ واحد مع إعانة اللف على الاتحاد. ويجوز أن يراد: منامكم فى الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والظاهر الأول؛ لتكرره فى القرآن. قلت: نعم بقى الكلام فى صحة ما قاله الزمخشرى من جهة الصناعة، وهو فى غاية الإشكال؛ لأنه إذا كان المعنى ما ذكره، يكون النهار معمول ابتغاؤكم خ خ، وقد تقدم عليه وهو مصدر، وذلك لا يجوز، ثم يلزم إما عطف على معمولى عاملين، أو تركيب لا يسوغ، ثم هذه الواو فى" وابتغاؤكم" كيف موقعها؟ فليتأمل. وهذا يعكر على ما تقدم من حد اللف والنشر، فإنه يشعر أنه لا بد من تقدم اللف بجملته، ثم يأتى النشر بعده، وهذا الموضع وقع فيه بعض النشر، قبل تكميل اللف، والعجب أن الطيبى عثر بهذا الموضع، ومع ذلك حد اللف والنشر كما ذكره غيره، ولم يتنبه لإصلاحه بما يدخل هذا النوع، وكان يمكن أن يجعل من اللف والنشر قسم رابع، وهو عكس الثانى، بأن تقول: قالت اليهود والنصارى: لا يدخلون الجنة، كما فى أحد نوعى الجمع، والتقسيم الذى سيأتى. ¬

_ (¬1) سورة الروم: 23.

الجمع

الجمع ومنه: الجمع؛ وهو أن يجمع بين متعدّد فى حكم واحد؛ كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا (¬1)، ونحو [من الرجز]: إنّ الشّباب والفراغ والجده … مفسدة للمرء أى مفسده التفريق ومنه: التفريق؛ وهو إيقاع تباين بين أمرين من نوع، فى المدح أو غيره، كقوله [من الخفيف]: ما نوال الغمام وقت ربيع … كنوال الأمير وقت سخاء فنوال الأمير بدرة عين … ونوال الغمام قطرة ماء ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع: ص: (ومنه الجمع إلخ). (ش): الجمع اصطلاحا: عبارة عن جمع متعدد فى حكم، إما اثنين كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، أو أكثر كقول الشاعر: إنّ الشّباب والفراغ والجده … مفسدة للمرء أىّ مفسده (¬2) ولو أن المصنف أنشد عليه فى الإيضاح قول محمد بن وهيب: ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها … شمس الضّحى وأبو إسحق والقمر (¬3) لكنت أقول: إن بداعة هذا يشترط فيها الإخبار عن المتعدد بمفرد يصدق على الجميع لكونه مصدرا، أو نحوه؛ فإن زينة ومفسدة، كذلك، وإلا فمجرد الجمع بين متعدد بعطف، أو تثنية، أو جمع من غير أن يكونا من نوعين متباعدين، غير متناسبين، أى بديع فيه؟ قوله فى البيت: (أى مفسده) على تأويل المفسدة بالمفسد، ولولا ذلك لأنث، وقال: أية مفسدة (ومنه التفريق، وهو إيقاع تباين بين أمرين من نوع واحد، إما فى المدح أو غيره) والمراد بالنوع الواحد، ما اتحد فيه، إما بالحقيقة، أو الادعاء، كقوله، وينسب للوطواط الشاعر: ما نوال الغمام وقت ربيع … كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين … ونوال الغمام قطرة ماء (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 46. (¬2) الرجز لأبى العتاهية، ديوانه ص 448 والطراز 3/ 142 والمصباح ص 249 والإيضاح ص 314. (¬3) البيت لمحمد بن وهيب فى مدح المعتصم، فى الإشارات ص 79 والإيضاح ص 107. (¬4) البيتان للوطواط فى الإشارات ص 274، وفى الطراز 3/ 141، والمصباح 247، بلا نسبة، وعقود الجمان 2/ 92.

التقسيم

التقسيم ومنه: التقسيم؛ وهو ذكر متعدّد، ثم إضافة ما لكلّ إليه على التّعيين؛ كقوله [من البسيط]: ولا يقيم على ضيم يراد به … إلّا الأذلّان عير الحى والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته … وذا يشجّ فلا يرثى له أحد ـــــــــــــــــــــــــــــ كان ينبغى أن يفسرها هذا بإيقاع عدم التشابه بين المتشابهين، لا بإيقاع التباين، وعليه قوله: من قاس جدواك بالغمام فما … أنصف فى الحكم بين شكلين أنت إذا جدت ضاحك أبدا … وهو إذا جاد دامع العين (¬1) ويمكن أن يكون منه قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ (¬2) الآية (ومنه التقسيم وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل) من أفراده (إليه على التعيين) والمراد بالإضافة: نسبته إليه، ويحترز بقوله على التعيين من اللف والنشر، ومثاله: ولا يقيم على ضيم يراد به … إلّا الأذلان عير الحى والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته … وذا يشج فلا يرثى له أحد (¬3) وقال السكاكى وهو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر، ثم تضيف لكل من أجزائه ما هو له عندك كقوله: أديبان فى بلخ لا يأكلان … إذا صحبا المرء غير الكبد فهذا طويل كظلّ القناة … وهذا قصير كظلّ الوتد (¬4) ¬

_ (¬1) عقود الجمان ج 2/ 92 والبيتان لأبى القرحى، والإيضاح بتحقيقى 314، ونسبا للوطواط، وللوأواء الدمشقى محمد بن أحمد. (¬2) سورة فاطر: 12. (¬3) البيتان من الطويل، وهما للمتلمس فى ديوانه ص 208، والبيت الأول بلا نسبة فى تاج العروس 9/ 249 (وتد)، وجمهرة الأمثال 1/ 90، والدرة الفاخرة 1/ 203، ومجمع الأمثال 1/ 283، والمستقصى 1/ 133، ويروى بلفظ: ولا يقيم بدار الذل يعرفها … إلا الأذلان: عير الأهل والوتد (¬4) البيتان فى نهاية الإيجاز بلا نسبة ص 295، وعقود الجمان، ونسبا لبعض العجم 2/ 93.

الجمع مع التفريق

الجمع مع التفريق ومنه: الجمع مع التفريق؛ وهو أن يدخل شيئان فى معنى، ويفرق بين جهتى الإدخال؛ كقوله [من المتقارب]: فوجهك كالنّار فى ضوئها … وقلبى كالنّار فى حرّها الجمع مع التقسيم ومنه: الجمع مع التقسيم؛ وهو جمع بين متعدّد تحت حكم، ثم تقسيمه، أو العكس: فالأول: كقوله [من البسيط]: حتّى أقام على أرباض خرشنة … تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع للسّبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا … والنّهب ما جمعوا، والنّار ما زرعوا ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا يقتضى أن يكون التقسيم أعم من اللف والنشر، كذا قال المصنف. قلت: لم يظهر فرق بين ما أنشده السكاكى، وما أنشده المصنف، ولم يظهر لى فى شئ من المثالين إضافة ما لكل إليه على التعيين، لأنه إن كان المراد التعيين من خارج فكل لف ونشر كذلك، وإن كان من اللفظ، فليس فى اللفظ غير اسم الإشارة فى كل منهما، وهو صالح لكل منهما، وهذا وذا سواء فى قرب المشار إليه (ومنه الجمع مع التفريق، وهو أن يدخل شيئان فى معنى واحد، ويفرّق بين جهتى الإدخال كقوله: فوجهك كالنّار فى ضوئها … وقلبى كالنّار فى حرّها) (¬1) شبه وجه الحبيب وقلبه بالنار، وفرق بين وجهى التشبيه، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (¬2) وهذا فى الحقيقة ليس نوعا زائد، بل نوعا جمع وتفريق، إلا أن يخص اسم الجمع بأن يذكر المتعدد أولا، ثم يحكم عليه (ومنه الجمع مع التقسيم، وهو جمع متعدد تحت حكم، ثم تقسيمه، أو تقسيمه ثم جمعه) فالأول، كقوله أى المتنبى: حتّى أقام على أرباض خرشنة … تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع للسّبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا … والنّهب ما جمعوا والنّار ما زرعوا (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لرشيد الدين الوطواط ديوانه 179، وأورده الجرجانى فى الإشارات 374، ونهاية الإيجاز 295، ومعاهد التنصيص (1/ 249)، وعقود الجمان 2/ 93. (¬2) سورة الإسراء: 120. (¬3) البيتان للمتنبى فى ديوانه 1/ 377، وحدائق السحر 180، ونهاية الإيجاز ص 296، ويروى البيت الأول بلفظ: الدهر معتذر والسيف منتظر … وأرضهم لك مصطاف ومرتبع

الجمع مع التفريق والتقسيم

والثانى: كقوله [من البسيط]: قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم … أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا سجيّة تلك منهم غير محدثة … إنّ الخلائق - فاعلم - شرّها البدع الجمع مع التفريق والتقسيم ومنه: الجمع مع التفريق والتقسيم؛ كقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأتى بالجمع فى الأول فى قوله: تشقى به الروم، ثم قسم ذلك بالبيت الثانى، والثانى كقوله، أى حسان: قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم … أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا (¬2) سجيّة تلك منهم غير محدثة … إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع قسم أولا صفة الممدوحين، ثم جمعها فى الثانى، وقد يقال - أيضا -: ليس هذا نوعا زائدا، بل نوعان مجتمعان، لا يقال: هلا جعل هذا النوع من اللف والنشر؟ بأن يبدأ بالنشر، ثم يأتى باللف كما بدأ بالتقسيم، ثم أتى بالجمع، إذ لا مانع أن تقول: اسكنوا وابتغوا من فضل الله بالليل والنهار، لأنا نقول: لم يتقدم هنا أيضا إلا اللف نعم يمكن أن يقال: هلا جعل القسم الثانى من اللف كذلك؟ كقولنا: دخول اليهود الجنة، ودخول النصارى الجنة قاله الكفار، وقد يقال هذا. (ومنه الجمع مع التقسيم والتفريق كقوله تعالى: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فالجمع فى قوله تعالى: لا تكلم نفس، لأن النفس عامة، لأنها نكرة فى سياق النفى ¬

_ (¬1) سورة هود: 105 - 108. (¬2) البيتان لحسان بن ثابت فى ديوانه ص 112 - 113، والطراز 3/ 144، والمصباح 249، ودلائل الإعجاز ص 94، ومعاهد التنصيص 1/ 250، ونهاية الإيجاز ص 296، ويروى:" تلك فيهم ... ".

وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين: أحدهما: أن تذكر أحوال الشئ مضافا إلى كلّ ما يليق به؛ كقوله [من الطويل]: سأطلب حقّى بالقنا ومشايخ … كأنّهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا … كثير إذا شدّوا قليل إذا عدّوا والثانى: استيفاء أقسام الشئ؛ كقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ والتفريق فى قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ والتقسيم فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا الآية ثم قال المصنف: (وقد يطلق التقسيم على أمرين آخرين أن تذكر أحوال الشئ مضافا إلى كل ما يليق به، كقوله) أى أبى الطيب: سأطلب حقّى بالقنا ومشايخ … كأنّهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا … كثير إذا شدّوا قليل إذا عدّوا (¬2) والثانى استيفاء أقسام الشئ كقوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً وقد احتج بهذه الآية على انتفاء الخنثى المشكل، والحق وجوده، وقد اختلف فيه أصحابنا أهو قسم ثالث غير الذكر، والأنثى أو لا؟ والصحيح أنه لا يخرج عنهما، وهذه الآية لا تدل عليه، إذا كان المراد استيعاب الأقسام، إلا أن يقال: ترك الخنثى، لأنه نادر، والآية سيقت فى معرض الامتنان، فاقتصر فيها على الغالب، وقد جعل الطيبى من التقسيم الحاصر قوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (¬3) وأنكره شارح البزدوى نظرا إلى أنه ليس معه حصر، وادعى الطيبى التقسيم الحاصر فى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ (¬4) الآية وفيه نظر، لما سبق بخلاف: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (¬5) الآية فإنها اقتضت وقوع أحد هذه الأمور، فلو كان (¬6)، ثم قسم آخر لوقع فثبت الحصر، وأنشد البغدادى للتقسيم الحاصر قول الثقفى: ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 49 - 50. (¬2) البيتان لأبى الطيب المتنبى فى التبيان 1/ 257، والإيضاح بتحقيقى 317، وعقود الجمان 2/ 96. (¬3) سورة آل عمران: 7. (¬4) سورة فاطر: 32. (¬5) سورة الشورى: 49. (¬6) أى لوقوع أحد هذه الأمور.

التجريد

التجريد ومنه: التجريد؛ وهو أن ينتزع من أمر ذى صفة آخر مثله فيها؛ مبالغة لكمالها فيه، وهو أقسام: منها: نحو قولهم: لى من فلان صديق حميم، أى: بلغ فلان من الصداقة حدّا صحّ معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها. ومنها: نحو قولهم: لئن سألت فلانا، لتسألنّ به البحر. ومنها: نحو قوله [من الطويل]: وشوهاء تعدو بى إلى صارخ الوغى … بمستلئم مثل الفنيق المرحّل ـــــــــــــــــــــــــــــ إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا … شرّا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا (¬1) التجريد: ص: (ومنه التجريد إلخ). (ش): من أنواع البديع التجريد، وهو عبارة عن أن ينتزع من أمر ذى صفة أمر آخر مثله فى تلك الصفة على سبيل المبالغة فى كمال الصفة فيه، حتى إنه ليتجرد منه مثله فيها، وهو أقسام منها: أن لا يقصد تشبيه الشئ بغيره، ويكون التجريد" بمن" نحو قولهم:" لى من فلان صديق حميم" أى: بلغ فى الصداقة حدا يصح معه أن يستخلص منه آخر مثله فى الصداقة، وتسمى من هذه تجريدية، ومنها: أن يقصد تشبيه الشئ بغيره، ويكون بالباء كقولهم: لئن سألت فلانا لتسألن به البحر وسنذكر كيفية التجريد، ومنها: أن لا يقصد تشبيه الشئ بغيره، ويكون بالباء نحو قوله: وشوهاء تعدو بى إلى صارخ الوغى … بمستلئم مثل الفنيق المرحّل (¬2) الشوهاء: صفة محمودة فى الفرس، ويقال: يراد بها سعة أشداقها. والفنيق: الفحل الذى لا يؤذى ولا يركب لكرامته على أهله. والمرحل: المرسل السائر، فقوله: تعدو ¬

_ (¬1) البيت لطريح بن إسماعيل الثقفى، وهو البيت السادس له من قصيدة فى الأغانى 4/ 306، ولفظه: إن يسمعوا ... " وهذا البيت معناه قريب من البيت الذى قاله قعنب ابن أم صاحب، وهو: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا … منى وما سمعوا من صالح دفنوا (¬2) البيت من الطويل، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص 1499، وشرح عمدة الحافظ ص 589، ولسان العرب 11/ 236 (رحل)، وبلا نسبة فى المقاصد النحوية 4/ 195 أو يروى بلفظ:" المدجّل".

ومنها: نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ (¬1) أى: فى جهنم، وهى دار الخلد. ومنها: نحو قوله [من الكامل]: ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة … تحوى الغنائم أو يموت كريم وقيل: تقديره: أو يموت منى كريم. وفيه نظر. ـــــــــــــــــــــــــــــ بى، أى تسير بى بمستلئم، أى لابس لأمة فجرد من نفسه لابس لأمة مثله. وفيه نظر، لجواز أن يكون بمستلئم بدلا من قوله: بى فلا يكون فيه تجريد، فإن ذلك جائز عند الكوفيين والأخفش قياسا، وعند غيرهم لا يجوز إلا قليلا، فيجوز أن يكون هذا من ذلك القليل، ومنها أن يكون بفى ولا يقصد تشبيه الشئ بغيره نحو قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً (¬2) فإن جهنم أعاذنا الله منها هى دار الخلد لكنه انتزع منها مثلها وجعل دار الخلد معدة للكفار تهويلا. ومنها أن يكون بغير حرف، ولا يقصد تشبيه شئ بغيره، نحو قول الحماسى: فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة … تحوى الغنائم أو يموت كريم (¬3) وكذلك قوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (¬4) على قراءة الرفع، أى فحصلت وردة، وقيل: تقديره، أى البيت: أو يموت منى كريم أى يموت من قبيلى رجل غيرى كريم، وقيل: أو يموت منى كريم يريد نفسه، والفرق بينه وبين الأول، أن الأول تجريد بغير حرف وهذا تجريد بحرف محذوف. قال المصنف: وفيه نظر، يريد فى كون هذا البيت من التجريد نظر. قال الخطيبى: إن مراده بالنظر أنه من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، لأن مراد الشاعر من قوله: كريم نفسه، ورد بأن الالتفات لا ينافى التجريد، بل هو واقع بأن يجرد المتكلم نفسه من ذاته، فيجعلها شخصا آخر ثم يخاطبه، أو يفرضه غائبا إما لتوبيخ (¬5)، أو نصح، أو غير ذلك. قلت: قد سبق لنا عند الكلام على الالتفات من المعانى، كيفية اجتماع التجريد والالتفات بما يغنى عن إعادته، فيطلب من موضعه، غير أن قول المصنف: وقيل: ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 21. (¬2) سورة فصلت: 28. (¬3) البيت لقتادة بن مسلمة الحنفى، أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 278. (¬4) سورة الرحمن: 37. (¬5) في الأصل التوبيخ والصواب ما أثبتناه.

ومنها: نحو قوله [من المنسرح]: يا خير من يركب المطىّ ولا … يشرب كأسا بكفّ من بخلا ومنها: مخاطبة الإنسان نفسه؛ كقوله [من البسيط]: لا خيل عندك تهديها ولا مال … فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال ـــــــــــــــــــــــــــــ تقديره: أو يموت منى كريم يقتضى أن التقدير الذى ذكره إنما يكون على القول الثانى، وليس كذلك، لأنه سواء كان تجريدا أو لا، فتقدير منى لا بد منه، وبهذا تعلم أن قوله: فيه نظر، لا يعود على القول الثانى، وقيل: إن وجه النظر هو أن الأصل عدم التقدير اللفظى، لأنا إذا قدرنا: يموت منى كريم وجعلناه تجريدا بحرف، كان فيه حذف لفظى، الأصل عدمه ومنها نحو قوله: يا خير من يركب المطىّ ولا … يشرب كأسا بكفّ من بخلا (¬1) فإنه جرد من كفه كف غير بخيل، والإشارة بهذا النوع إلى تجريد ما لم يقصد به التشبيه، وهو بغير حرف، وهو كالذى قبله، إلا أن أو يموت كريم تجريد بمنطوق، وهذا تجريد بمفهوم، لأن قوله: بكف من بخلا ليس فيه تجريد، بل مفهومه أنه يشربها بكف من لم يبخل، فكأنه جرد من نفسه غير بخيل، وأثبت بالمفهوم أنه يشربها بكفه. وقد أنكر الطيبى أن يكون هذا تجريدا؛ لأن التجريد يكون من منطوق، لا من مفهوم. وقيل: إن قوله: بكف من بخلا كناية، وفيه نظر، لأن الكناية لا تنافى التجريد، ومنها أن يكون بغير حرف، ولا يقصد التشبيه، وهذا هو الذى قبله، إلا أن هذا اختص بنوع، وهو مخاطبة الإنسان نفسه، كقوله أى المتنبى: لا خيل عندك تهديها ولا مال … فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال (¬2) قلت: وقد يكون ذلك بغير المخاطبة، فإن قيل: أين المبالغة فى التجريد بخطاب الإنسان لنفسه؟ قلت: كأنه يجعل نفسه لكمال الإدراك، كأن فيها نفسا أخرى، ومن ¬

_ (¬1) انظر الإيضاح الفقرة 243، ص 316. البيت للأعمش الأكبر أعشى قيس. (¬2) البيت من البسيط، وهو لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه 2/ 220، وهو ضمن قصيدة قالها يمدح بها أبا شجاع فاتك المعروف بالمجنون عند ما قدم من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار فقال يمدحه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ أحسنه قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها (¬1) صيرها لشدة جدالها كأنها تجادل عن غيرها. وبقى من أنواع التجريد أن يقصد التشبيه ويكون بمن أو فى نحو: رأيت من فلان أو فيه البحر أو لا يقصد التشبيه ويكون بالباء أو فى نحو: لى به أو فيه صديق حميم فكون المصنف جعل القسم الأول يكون بالباء فقط، والثانى بمن لا يظهر لى وجهه، واعلم أن فى انطباق بعض هذه الأقسام (على حد التجريد السابق) نظرا لأنك فى نحو: لا خيل عندك لم تجرد شيئا مثل نفسك فى صفة، بل جردت ذاتا من ذات لا باعتبار صفة إلا بأن نؤول على الصفة، واعلم أيضا أن حد التجريد يقتضى أن يكون المذكور هو المجرد، والذى يظهر فى نحو: رأيت منك صديقا ذلك، فيكون الصديق مجردا، والمخاطب مجردا منه، وفى نحو: رأيت بفلان البحر، أنك جردت من البحر حقيقة أخرى، وجعلتها الإنسان، إن كانت الباء للسببية، أى بسبب رؤية فلان، وإن كانت ظرفية فتكون جردت من البحر بحرا آخر جعلته فى الإنسان، ويحتمل أنك جردت الأوصاف الجسمية عن الإنسان، فإذا قلت:" سألت بفلان البحر" كأنك جردت عنه أوصافا جسمية وغيرها، فيكون البحر مجردا عنه لا مجردا، كأن البحر كان فى ضمنه، فلما أزيلت أوصاف الإنسان غير كونه بحرا لم يبق إلا البحر، فكان هو المسئول. (تنبيه): يؤخذ من كلامهم أن فى" الباء" التجريدية قولين: أحدهما، أنها سببية، وأشار إليه فى الكشاف حيث قال فى قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (¬2) أى: فاسأله بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أى: برؤيته انتهى، ونقل مثله عن أبى البقاء. والثانى: أنها ظرفية، واقتضى كلام الطيبى على الكشاف نقله، وأن قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ لا حاجة فيه إلى تقدير سؤاله، بل هى تجريدية من غير هذا التقدير، وأما من التجريدية، فكلام الزمخشرى يقتضى أنها بيانية حيث قال فى قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. (¬3) يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين ثم بين القرة بقوله: مِنْ أَزْواجِنا وهو من قولهم: رأيت منك أسدا أى أنت أسدا انتهى، وفيه نظر، لأن من البيانية عند المثبت لها شرطها، أن يتقدم عليها المبين، والظاهر أن من التجريدية ابتدائية، أو ظرفية. ¬

_ (¬1) سورة النحل: 111. (¬2) سورة الفرقان: 59. (¬3) سورة الفرقان: 74.

المبالغة

المبالغة ومنه: المبالغة المقبولة، والمبالغة: أن يدّعى لوصف بلوغه فى الشدّة أو الضعف حدّا مستحيلا أو مستبعدا؛ لئلا يظنّ أنه غير متناه فيه (¬1). وتنحصر فى: التبليغ، والإغراق، والغلوّ؛ لأن المدّعى: إن كان ممكنا عقلا وعادة: فتبليغ؛ كقوله [من الطويل]: فعادى عداء بين ثور ونعجة … دراكا فلم ينضح بماء فيغسل ـــــــــــــــــــــــــــــ المبالغة: ص: (ومنه المبالغة المقبولة إلخ). (ش): اختلفوا فى المبالغة، فمنهم من لا يرى لها فضلا محتجان (¬2) بأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق، وكان على نهج الصدق، ولأنها لا تكون إلا من ضعيف عجز عن الاختراع، والتوكيد يعمد إليها لسد خلله، ومنهم من يقصر الفضل عليها وينسب المحاسن كلها إليها، محتجا بأن أحسن الشعر أكذبه. حكاهما فى المصباح، ومقتضى تعليله أن المبالغة كذب. وليس كذلك، ولو كانت كذبا لما وردت فى القرآن، ولا السنة، وقسم فى المصباح المبالغة إلى ما كان باستعمال فى غير موضوع كالاستعارة، وما كان بتكرار مثل: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ (¬3) أو تقسيم مثل: ونكرم جارنا البيت الآتى، وأما المصنف فقد جعل من البديع المعنوى المبالغة المقبولة وقدم المصنف عليها المبالغة مطلقا، وهو أن يدعى لوصف بلوغه فى الشدة أو الضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا، لئلا يظن أنه غير متناه فى ذلك الوصف، والضمير فى قوله: فيه مفرد، لأنه عائد لأحد المتعاطفين بأو وتنحصر المبالغة فى التبليغ والإغراق والغلو، ووجه الحصر أن المدعى للوصف من الشدة أو الضعف، إما أن يكون ممكنا عقلا وعادة، أو لا، فإن كان فيسمى تبليغا كقوله أى: امرئ القيس: فعادى عداء بين ثور ونعجة … دراكا ولم ينضح بماء فيغسل (¬4) ¬

_ (¬1) أى فى الشدة أو الضعف. (¬2) هكذا فى الأصل:" محتجان" والسياق يقتضى" محتجين" أو محتجا. (¬3) سورة النور: 40. (¬4) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 22، والإشارات ص 278، والمصباح ص 224، ولسان العرب 11/ 496 (غسل). 15/ 40 (عدا)، وتاج العروس (غسل)، (عدا).

وإن كان ممكنا عقلا لا عادة: فإغراق؛ كقوله [من الوافر]: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث مالا وهما مقبولان؛ وإلا (¬1) فغلوّ؛ كقوله [من الكامل]: وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّه … لتخافك النّطف الّتى لم تخلق والمقبول منه أصناف؛ منها: ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة؛ نحو: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ وصف الفرس بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيين فى مضمار واحد ولم يعرق والعداء (بالكسر) الموالاة بين الصيدين بصرع أحدهما فى أثر الآخر وفيه نظر، لأن هذا إخبار بالواقع بغير مبالغة، وإن كان ممكنا عقلا لا عادة سمى إغراقا كقوله: ونكرم جارنا ما دام فينا … ونتبعه الكرامة حيث مالا (¬3) فإن كون جاره لا يميل إلى جهة إلا تبعته كرامته مستحيل عادة ممكن عقلا، كذا قيل. وفيه نظر لإمكان حمل ذلك على تزويده بما يصاحبه فى كل جهة يميل إليها، كما هى عادة الكرام، وهذا البيت أنشده عبد اللطيف البغدادى: ونكرم ضيفنا، وعزاه إلى عمرو بن الأيهم، وهما أى التبليغ والإغراق، مقبولان قوله (وإلا) أى وإن لم يكن القدر المدعى من شدة الوصف أو ضعفه ممكنا عقلا، فالمبالغة تسمى غلوا كقول أبى نواس: وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّه … لتخافك النّطف الّتى لم تخلق (¬4) ثم أخذ المصنف فى بيان المقبول من هذه الأقسام، فالقسمان الأولان وهما: التبليغ، والإغراق، مقبولان لأنهما من البديع (و) الثالث وهو الغلو المقبول منه أصناف، منها ما أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة نحو لفظ: يكاد فى قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ولك أن تقول المستحيل كيف يقرب من الصحة بكاد أو غيرها، وكقول الشاعر، وقيل: هو ابن حميد الصقلى: ويكاد يخرج سرعة عن ظلّه … لو كان يرغب فى فراق رفيق (¬5) ¬

_ (¬1) بأن كان غير ممكن عقلا ولا عادة. (¬2) سورة النور: 35. (¬3) البيت لعمرو بن الأيهم التغلبى، فى الإشارات ص 279، والمصباح ص 224. (¬4) البيت لأبى نواس فى ديوانه ص 452، والطراز 2/ 314، والمصباح ص 229. (¬5) البيت لابن حمديس الصقلى، وأبى محمد عبد الجبار بن أبى بكر.

ومنها: ما تضمّن نوعا حسنا من التخييل؛ كقوله [من الكامل]: عقدت سنابكها عليها عثيرا … لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا وقد اجتمعا فى قوله [من الطويل]: يخيّل لى أن سمّر الشّهب فى الدّجى … وشدّت بأهدابى إليهنّ أجفانى ومنها: ما خرّج مخرج الهزل والخلاعة؛ كقوله [من المنسرح]: أسكر بالأمس إن عزمت على الش … شرب غدا إنّ ذا من العجب ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها ما تضمن نوعا حسنا من التخييل، كقوله يعنى: أبا الطيب: عقدت سنابكها عليها عثيرا … لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا (¬1) وفى جميع هذه الأمثلة وكونها من المستحيل عقلا، نظر، إذ العقل لا يمنع أن يضئ الزيت، وأن يخرج الفرس عن ظله، وأن تعقد حوافر الخيل غبارا ويتكاثف حتى يمكن السير عليه، ولا استحالة فى انعقاد الغبار، وقد اجتمعا فى قوله، أى قول الأرّجانى يصف الليل بالطول: يخيّل لى أن سمر الشهب فى الدّجى … وشدّت بأهدابى إليهنّ أجفانى (¬2) فإن لفظة يخيل لى تقربه إلى الصحة؛ وفيه نظر، لأنها تجعله صحيحا لأن قوله: يخيل لى ممكن بأن يكون خيالا فاسدا، وفيه تخييل بليغ، وهو تسمير الشهب فى الدجى، ومنها ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة، كقوله: أسكر بالأمس إن عزمت على الش … شرب غدا إن ذا من العجب (¬3) عنه إنه كثير الرحمة لم تبالغ، وكما أنك إذا قلت: عندى ألف ليس فيه مبالغة بالنسبة إلى من قال: عندى واحد، ولا بد فى المبالغة من تجوز، نعم تحسن المبالغة إذا قلت: زيد رحيم خ خ، ولم يكن كثير الرحمة، بل أردت أن تبالغ فى الرحمة اليسيرة الواقعة منه لغرض من الأغراض، فهذه حينئذ مبالغة، وكذلك إذا قلت: عندى ألف رجل وأردت مائة تعظيما لهم فقد تبين بذلك أن هذه الألفاظ ليست موضوعة للمبالغة البديعية، وأن من يطلق عليه المبالغة، فذلك بحسب اصطلاح النحاة واللغويين، ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 2/ 456، والإشارات ص 279. (¬2) البيت للقاضى الأرجانى كما فى الإشارات ص 280، والإيضاح ص 320 بتحقيقى. (¬3) البيت أورده بلا عزو محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 279.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ نظرا إلى ما دل عليه بالنسبة إلى ما دل عليه مطلق اسم الفاعل، فليتأمل. ثم قال الرمانى: من المبالغة التعبير بالصفة العامة فى موضع الخاصة، كقوله عز وجل: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (¬1) قال: وكقول القائل: أتانى الناس ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة، فاستكثرهم وبالغ فى العبارة عنهم. قلت: هذا صحيح، إلا أن التقييد بالخمسة لا أدرى مستنده فيه، وقد أطلق الناس على واحد، كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ (¬2) وأريد نعيم بن مسعود على ما ذكره جماعة على أن الشافعى رضى الله عنه نص على أن اسم الناس يقع على ثلاثة فما فوقها، وأن المراد بالناس فى قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «2» أربعة ثم جعل الرمانى من المبالغة إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم للمبالغة كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ (¬3)، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ (¬4) وإن كان المراد جاء أمره، وجعل من المبالغة إخراج الممكن إلى الممتنع مثل قوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (¬5) وجعل من المبالغة إخراج الكلام مخرج الشك، ومثله بقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬6) ونحو قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ (¬7) وجعل منه حذف الأجوبة للمبالغة نحو: وَلَوْ تَرى (¬8) وهذا كله عرف مما سبق من علم المعانى والبيان. قال عبد اللطيف البغدادى: ومتى وقعت المبالغة فى قافية سميت إيغالا وهو أن يأتى البيت تاما من دون القافية، ثم تأتى القافية لحاجة البيت إلى الوزن فيزداد المعنى جودة وأنشد: كأن عيون الوحش حول خبائنا … وأرحلنا الجزع الّذى لم يثقّب (¬9) وقد تقدم هذا فى باب الإيجاز والإطناب. (تنبيه): سمعت بعض المشايخ يقول: إن صفات الله - تعالى - التى هى على صيغة المبالغة كغفار، ورحيم وغفور، ومنان، كلها مجازات، وهى موضوعة للمبالغة ولا مبالغة ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 62. (¬2) سورة آل عمران: 173. (¬3) سورة الفجر: 22. (¬4) سورة النحل: 26. (¬5) سورة الأعراف: 40. (¬6) سورة سبأ: 24. (¬7) سورة الزخرف: 81. (¬8) سورة السجدة: 12. (¬9) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 53، ولسان العرب 8/ 48 (جزع)، وأساس البلاغة ص 58 (جزع)، وكتاب العين 1/ 216، وتاج العروس 20/ 434 (جزع).

المذهب الكلامى

المذهب الكلامى ومنه: المذهب الكلامى؛ وهو إيراد حجة للمطلوب على طريق أهل الكلام؛ نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشئ أكثر مما له، وصفات الله - تعالى - متناهية فى الكمال لا تمكن المبالغة فيها، والمبالغة - أيضا - تكون فى صفات تقبل الزيادة والنقص، وصفات الله - تعالى - منزهة عن ذلك، وعرضب (¬2) هذا الكلام على الوالد فاستحسنه، ولا شك أن هذا إنما يأتى تفريعا على أن هذه الأسماء صفات، فإن قلنا: علام؟ فلا يراد السؤال لأن العلم لا يقصد مدلوله الأصلى من مبالغة ولا غيرها، وسمعت بعض أهل العلم يقول: إنما لم يوجد لكثير من الشعراء المسلمين كثير من الشعر يمدحون به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الشعر إنما يحسن بالمبالغة، وهى متعذرة فى حقه صلّى الله عليه وسلّم لأن المادحين - وإن بذلوا جهدهم - لا يصلون إلى قطرة من بحره، عليه أفضل الصلاة والسّلام. المذهب الكلامى: ص: (ومنه المذهب الكلامى إلخ). (ش): من البديع ما يسمى المذهب الكلامى، والجاحظ أول من ذكره، وأنكر وجوده فى القرآن (وهو أن يورد المتكلم حجة للمطلوب لما يدعيه على طريقة أهل الكلام) وينقسم إلى: قياس اقترانى، واستثنائى، واستقراء، وتمثيل وهو القياس المذكور فى الأصول وإنما لم يسموه المنطقى؛ لأن هذا المذهب أصله، كما ذكره ابن مالك عبارة عن نصب حجة صحيحة ما قطعية الاستلزام، فهو منطقى. أو ظنية فهى جدلية، غير أنه قد يقال - أيضا - أهل الكلام مطالبهم قطعية فكيف تسمى الحجة الظنية كلامية؟ وجوابه أنهم ربما يذكرون الحجة الظنية ليحصل من مجموعها القطع كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فإن هذه مقدمة استثنائية ذكر فيها المقدمة الشرطية، وتقديره: لكنهما لم يفسدا، فلم يكن فيهما آلهة فالمقدمة الثانية استثناء نقيض التالى، فلازمه نقيض المقدم، (ومنه قوله) أى قول النابغة يعتذر إلى النعمان: ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: 22. (¬2) هكذا فى الأصل. ولعلها وعرّض بهذا.

وقوله [من الطويل]: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مطلب لئن كنت قد بلّغت عنّى جناية … لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولكنّنى كنت امرأ لى جانب … من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم … أحكّم فى أموالهم وأقرّب كفعلك فى قوم أراك اصطفيتهم … فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا ـــــــــــــــــــــــــــــ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مطلب لئن كنت قد بلّغت عنّى خيانة … لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولكننى كنت امرأ لى جانب … من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم … أحكّم فى أموالهم وأقرّب كفعلك فى قوم أراك اصطنعتهم … فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا (¬1) يقول: أنت أحسنت لقوم فمدحوك، وأنا أحسن إلى قوم فمدحتهم، فقوله: كفعلك، هو الإلزام وهذه الحجة تسمى تمثيلا، وهو القياس المذكور فى الأصول، وهو غاية إلزام فى القياس بوصف جامع وهو ظنى، وهو يرجع إلى الاقترانى، أو الاستثنائى إلا أن بعض مقدماته ظنية، وإن كان الاستلزام قطعيا، وفى هذه الأبيات إشكال على النابغة الناظم من وجهين: الأول، أنه ادعى أنه مدح أقواما فأحسنوا إليه، كما أن أقواما أحسن إليهم فمدحوه، وهذا عكس ما فعله هو وإنما يحصل الإلزام أن لو قال: ملوك حكمونى فى أموالهم فمدحتهم، وإلا فهو قد جعل مدحه لهؤلاء الملوك سابقا على إحسانهم، فلا يحصل الإلزام إذ لم يكن له داع إلى الابتداء بمدحهم. الثانى، فى قوله: ¬

_ (¬1) الأبيات من الطويل، وهى للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 72 - 73، والمصباح ص 207، والبيت الأول فى تهذيب اللغة 15/ 304، ورواية عجزه:" للمرء مذهب"، والبيت الثالث فى أساس البلاغة ص 184 (رويد). ملوك: يقصد بهم غساسنة الشام. يشير به إلى حسن معاملتهم له، وعدم ترفعهم عليه، ويرد شطر البيت الأخير:" ... أراك اصطفيتهم.".

حسن التعليل

حسن التعليل ومنه: حسن التعليل؛ وهو أن يدّعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقى، وهو أربعة أضرب؛ لأنّ الصفة إمّا ثابتة قصد بيان علّتها، أو غيّر ثابتة أريد إثباتها: ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم ترهم فى مدحهم لك أذنبوا وهل أحد يرى أن مادحه مذنب، وإنما كان ينبغى أن يقول: فلم يرهم غيرك مذنبين بمدحهم لك فلأى شئ ترانى أنت مذنبا بمدحى لغيرك؟ وقد يكون المذهب الكلامى بقياس اقترانى، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (¬1) أى الإعادة أهون من الابتداء، والأهون أدخل فى الإمكان وهو المطلوب: قوله: أغش وأكذب معناه: غاش وكاذب، إذ ليس فيه تفضيل، ولك أن تقول: هذا النوع كله ليس من البديع، لأنه ليس فى هذا تحسين لمعنى الكلام والمقصود، بل المعنى المقصود هو منطوق اللفظ، فالإتيان بهذا الدليل هو المقصود، فهو تطبيق على مقتضى الحال، فيكون من المعانى لا من البديع، وأنشد ابن رشيق فى المذهب الكلامى: فيك خلاف لخلاف الذى … فيه خلاف لخلاف الجميل وقال عبد اللطيف البغدادى: إن المذهب الكلامى كل ما فيه محيى العلوم العقلية كقوله: محاسنه هيولى كل حسن … ومغناطيس أفئدة الرجال حسن التعليل: ص: (ومنه حسن التعليل، وهو أن يدعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقى). (ش): إنما قال: مناسبة له - وإن كان كل علة مناسبة - ليبين أنها ليست علة بل فيها مناسبة ما باعتبار لطيف معناه بأمر لطيف عند البلغاء، وغير حقيقى أى خيالى، وليس حقيقيا؛ بل بالادعاء، ولذلك بدأ بقوله: أن يدعى وهو أربعة أضرب؛ لأن الصفة التى تريد أن تثبت لها علة، إما ثابتة أى لها تحقق وقصد بيان علتها، أو غير ثابتة أريد إثباتها بإثبات علتها، والأولى أى الصفة الثابتة، إما أن لا يظهر لها فى العادة ¬

_ (¬1) سورة الروم: 27.

والأولى: إما ألّا يظهر لها فى العادة علة؛ كقوله [من الكامل]: لم يحك نائلك السّحاب وإنّما … حمّت به فصبيبها الرّحضاء أو يظهر لها علة غير المذكورة؛ كقوله [من الرمل]: ما به قتل أعاديه ولكن … يتّقى إخلاف ما ترجو الذّئاب فإنّ قتل الأعداء فى العادة لدفع مضرّتهم، لا لما ذكره. والثانية: إما ممكنة؛ كقوله [من البسيط]: يا واشيا حسنت فينا إساءته … نجّى حذارك إنسانى من الغرق ـــــــــــــــــــــــــــــ علة أو يظهر الأول أن تكون صفة ثابتة لا يظهر لها فى العادة علة كقوله يعنى: أبا الطيب: لم يحك نائلك السّحاب وإنّما … حمّت به فصبيبها الرّحضاء (¬1) فالوصف الثابت المعلل هو نزول المطر ولا يظهر له فى العادة علة فأثبت له علة، وهى أن السحاب حمت بنائله حسدا له، وغيرة منه فصبيبها أى مطرها الرحضاء وهو العرق عقيب الحمى، وفيه نظر، لأن المطر فى العادة يكون لمصالح العباد ومنافعهم. والثانى، وهو أن تكون الصفة ثابتة ويظهر أن لها علة غير المذكورة، كقول أبى الطيب: ما به قتل أعاديه ولكن … يتّقى إخلاف ما ترجو الذّئاب (¬2) فإن قتل الملوك أعداءهم فى العادة للانتقام منهم ودفع مضرتهم، لا لما ذكره، وفيه مبالغة فى الشجاعة والجود وتحقيق الرجاء وإنجاز الوعد وأنه ليس ممن يسرف فى القتل طاعة للغيظ والحنق على الأعداء، واعلم أن هذه القصيدة للمتنبى جميعها خارجة عن قواعد العروض؛ لأنها من بحر الرمل وهو استعمل عروضه كاملا على" فاعلاتن" وهو لا يجوز إلا شاذا، بل يجب فى مثلها الحذف، قوله: (والثانية) إشارة إلى الصفة المعللة غير الثابتة، إما ممكنة، وهى الضرب الثالث كقوله أى: قول مسلم بن الوليد: يا واشيا حسنت فينا إساءته … نجّى حذارك إنسانى من الغرق (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 330، والإيضاح بتحقيقى ص: 322. (¬2) البيت لأبى الطيب المتنبى شرح ديوانه 1/ 144، والأسرار ص 337، والإشارات ص 281، وشرح التبيان للعكبرى 1/ 98، والإيضاح بتحقيقى ص: 322. (¬3) البيت لمسلم بن الوليد فى ديوانه ص 328، والطراز 3/ 140، والمصباح ص 241، وفى الشعر والشعراء 2/ 815، وطبقات الشعراء ص 111. والإيضاح ص 324 بتحقيقى.

فإنّ استحسان إساءة الواشى ممكن؛ لكن لمّا خالف الناس فيه، عقّبه بأنّ حذاره منه نجّى إنسانه من الغرق فى الدموع. أو غير ممكنة؛ كقوله [من البسيط]: لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته … لما رأيت عليها عقد منتطق وألحق به ما يبنى على الشك؛ كقوله [من الطويل]: كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها … حبيبا فما ترقأ لهنّ مدامع التفريع ومنه: التفريع؛ وهو أن يثبت لمتعلّق أمر حكم بعد إثباته لمتعلّق له آخر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن استحسان إساءة الواشى ممكن، لكنه لما خالف الناس، أى ادعى وقوع هذا الاستحسان عقبه بعلته ليكون مقربا لتصديقه، فعلله بأن حذاره منه نجى إنسانه من الغرق فى الدموع قوله: (أو غير ممكنة) إشارة إلى الضرب الرابع، وهو ما كانت الصفة المعللة فيه غير ممكنة، كقوله: أى كمعنى بيت فارسى ترجمته: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته … لما رأيت عليها عقد منتطق (¬1) فإن نية الجوزاء خدمته صفة غير ثابتة، وهى ممتنعة فلذلك علله بقوله: لما رأيت عليها عقد منتطق قوله: (وألحق به) أى ألحق بحسن التعليل ما بنى على الشك، وليس منه لبنائه على الشك، كقوله أى قول أبى تمام: كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها … حبيبا فما ترقأ لهنّ مدامع (¬2) أى تحت الربى، والسحاب هنا جمع، لأنه يستعمل مفردا أو جمعا، وفى بعض النسخ حييا بالياء وفى بعضها حنينا بالنون، واعلم أن قول المصنف: وليس به لبناء الأمر فيه على الشك فيه نظر، أما أولا، فلأنه ليس فى الكلام شك، وأما ثانيا فلأن كأن ليست للشك على الصحيح، بل ترد حيث وقعت إلى التشبيه. التفريع: ص: (ومنه التفريع إلخ). (ش): التفريع أن يثبت لمتعلق أمر، أى لمتعلق لأمر حكم بعد إثباته لمتعلق له آخر، كقوله أى الكميت: ¬

_ (¬1) البيت من البسيط وهو مترجم عن بيت فارسى فى الإيضاح ص 324، وفى عقود الجمان ص 107، 382. (¬2) البيت لأبى تمام فى ديوانه ص 425، والإيضاح ص 324 بتحقيقى.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

كقوله [من البسيط]: أحلامكم لسقام الجهل شافية … كما دماؤكم تشفى من الكلب تأكيد المدح بما يشبه الذم ومنه: تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ، وهو ضربان: ـــــــــــــــــــــــــــــ أحلامكم لسقام الجهل شافية … كما دماؤكم تشفى من الكلب (¬1) فإنه أثبت لدمائهم أنها تشفى من الكلب بعد أن أثبت لأحلامهم أنها تشفى من سقام الجهل، وقد يقال: ليس هذا بمثال مطابق؛ لأن الحكم المثبت ثانيا ليس هو المثبت أولا فإن الشفاء من الكلب غير الشفاء من الجهل، وإنما المصنف نظر إلى أن مطلق الشفاء شئ واحد، وإنما قال: تشفى من الكلب، لأنه يقال: من عضه كلب كلب فلا دواء له أنجع من دم شريف، يشرط الإصبع اليسرى من رجله اليسرى، ويؤخذ من دمه قطرة على تمرة وتطعم المعضوض منه فيبرأ، وسمى هذا تفريعا لتفريع المتكلم الثانى فيه على الأول، هذا ما ذكره المصنف، وقال فى المصباح: التفريع ضربان: الأول أن يأتى بالاسم منفيا بما ويتبعه بتعظيم أوصافه ثم يخبر بأفعل التفضيل، كقول أبى تمام: ما ربع ميّة معمورا يطيف به … غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب (¬2) الثانى أن يأتى بصفة يقرن بها أبلغ منها فى معناها، كقوله: أحلامكم لسقام الجهل (¬3) البيت انتهى، ولم ينظر ابن مالك فى البيت، لاتحاد الوصف بالشفاء، بل أسند مع البيت السابق قول ابن المعتز: كلامه أخدع من لحظه … ووعده أكذب من طبعه (¬4) تأكيد المدح بما يشبه الذم: ص: (ومنه تأكيد المدح إلخ). (ش): من البديع المعنوى تأكيد المدح بما يشبه الذم، بأن يبالغ فى المدح إلى أن يأتى بعبارة يتوهم السامع فى بادئ الأمر أنه ذم وهو ضربان: أفضلهما، أى أبلغهما ¬

_ (¬1) البيت للكميت الإيضاح بتحقيقى 325، العمدة ج 2 ص: 42، شرح عقود الجمان 2/ 119، والمصباح ص: 239. (¬2) البيت من البسيط وهو للكميت بن زيد فى الدرر 1/ 252. ومعاهد التنصيص 3/ 88، ولم أقع عليه فى ديوانه، وبلا نسبة فى تذكرة النحاة ص 51، وهمع الهوامع 1/ 81. (¬3) البيت السابق" للكميت". (¬4) البيت لابن المعتز فى المصباح ص 239، بطبعة المطبعة النموذجية.

أفضلهما: أن يستثنى من صفة ذمّ منفية عن الشئ صفة مدح بتقدير دخولها فيها؛ كقوله [من الطويل]: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب (¬1) أى: إن كان فلول السيف عيبا، فأثبت شيئا منه على تقدير كونه منه، وهو محال، فهو فى المعنى تعليق بالمحال، فالتأكيد فيه من جهة أنه كدعوى الشئ ببيّنة، وأنّ الأصل فى الاستثناء هو الاتصال؛ فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شئ مما قبلها، فإذا وليها صفة مدح، جاء التأكيد. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن ينفى عن الممدوح صفة ذم، ويستثنى من صفة الذم المنفية صفة مدح مقدر دخول تلك الصفة الحميدة فى صفة الذم، ولا بد فى تلك الصفة الحميدة أن يكون بينها وبين الصفة الذميمة علاقة مصححة بدخولها فى الصفة المذمومة المنفية، ومنه قول النابغة الذبيانى: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب ونظيره: ولا عيب فيهم غير أنّ ضيوفهم … تعاب بنسيان الأحبّة والوطن (¬2) فتخيل فى البيت السابق أولا أن فلول السيوف عيب، فدخل فى عموم العيب المنفى، ثم أخرجه بالاستثناء، فثبت بالإخراج شئ من العيب على تقدير كون فلول السيوف من العيب، وهو محال فهو فى المعنى تعليق وجدان شئ من العيب فيهم على المحال، والمعلق على المحال محال، فالتأكيد فى المدح فيه من وجهين: الأول، أنه كدعوى الشئ ببينة، كأنه استدل على أنه لا عيب فيهم بأن ثبوت عيب فيهم معلق بكون فلول السيوف عيبا، وهو محال والثانى: أن الأصل فى الاستثناء الاتصال، فذكر أداة الاستثناء، قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شئ مما قبلها، وأنه إثبات عيب، فإذا جاء المدح بعدها تأكد المدح، لإثبات مدح بعد مدح، وقول المصنف: يوهم إخراج شئ مما قبلها فيه نظر؛ لأنه قرر أن الاستثناء متصل، وإذا كان متصلا فذكره لا يوجب للسامع أن يعتقد ويجزم بإخراج شئ مما قبلها، لا أنه يتوهم ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الذبيانى، ديوانه ص 44، والإشارات ص 111، والتبيان للطيبى، والمصباح ص 239. (¬2) البيت من الطويل وهو بلا نسبة فى عقود الجمان ص 108.

والثانى: أن يثبت لشئ صفة مدح، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له؛ نحو: أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش وأصل الاستثناء فيه - أيضا - أن يكون متصلا كالضّرب الأوّل؛ لكنّه لم يقدّر متصلا؛ فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثانى؛ ولهذا كان الأول أفضل. ومنه ضرب آخر؛ وهو نحو: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا (¬1) والاستدراك فى هذا الباب كالاستثناء؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ (الثانى، أن يثبت لشئ صفة مدح وتعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنى من قريش) (¬2) وأصل الاستثناء فيه) أى فى هذا الضرب (أن يكون منقطعا) لكنه لا يقدر متصلا كما قررناه فى الضرب قبله، فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثانى، وهو أن سامعه يتوهم أولا ثبوت صفة ذم ثم يزول ذلك، ويتأكد المدح بتكرره بخلاف الأول فإنه يفيده بالوجهين السابقين؛ فلذلك قلنا: الأول أفضل قال فى الإيضاح: وأما قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (¬3) فيحتمل الوجهين وأما قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً (¬4) فيحتملهما، ويحتمل وجها ثالثا، وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا؛ لأن معنى السّلام هو الدعاء بالسلامة، وأهل الجنة عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من قبيل اللغو، لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ثم قال المصنف: (ومنه) أى من تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) أى ثالث وهو نحو قوله تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا أى ما تعيب منا إلا أصل المفاخر وهو الإيمان، وإنما جعل هذا ضربا ثالثا؛ لأن الاستثناء فيه مفرغ وفى الأولين تام، والاستثناء فيه متصل حقيقة، وفى الأولين منقطع، واتصاله فى أحدهما بالفرض لا حقيقة. قلت: لم يظهر لى أن هذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأنهم لم يستثنوا الإيمان من العيب، وإنما استثنوه مما لا يعيب، ولا يلزم من كونه يعيب الإيمان بكفره وأن يكون عيبا معناه ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 126. (¬2) " لا أصل له، ومعناه صحيح"، أورده العلامة الشوكانى فى" الفوائد المجموعة" (2/ 413)، والعجلونى فى" كشف الخفاء"، (1/ 201)، وقال:" قال فى اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب، ولا يعرف له إسناد ... " (¬3) سورة الواقعة: 25، 26. (¬4) سورة مريم: 62.

كما فى قوله [من الطويل]: هو البدر إلّا أنّه البحر زاخرا … سوى أنّه الضّرغام لكنّه الوبل تأكيد الذم بما يشبه المدح ومنه: تأكيد الذم بما يشبه المدح، وهو ضربان: أحدهما: أن يستثنى من صفة مدح منفيّة عن الشئ صفة ذمّ له، بتقدير دخولها فيها؛ كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يسئ إلى من أحسن إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس فينا ما تجعله أنت عيبا إلا الإيمان، ثم قال المصنف: إن الاستدراك فى هذا الباب كالاستثناء، كما فى قوله أى قول البديع الهمذانى: هو البدر إلّا أنّه البحر زاخرا … سوى أنّه الضرغام لكنّه الوبل (¬1) وسبب ذلك أن الاستثناء فى اللغة أعم منه فى الاصطلاح، وقد وقع الاستثناء فى القرآن، والمراد به الشرط فى قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ (¬2) أى لا يقولون: إن شاء الله، وكيف لا يكون الاستدراك فى هذا الباب كالاستثناء، والاستثناء فى ضربيه فى الأصل منقطع والمنقطع مقدر بلكن؟ بل قد يعترض على المصنف، فيقال: ليس هنا غير استدراك. ويجاب بأن القسم الأول فرضناه متصلا، والثالث متصل حقيقة، والثانى صورته استثناء. تأكيد الذم بما يشبه المدح: ص: (ومنه تأكيد الذم إلخ). (ش): هذا القسم على العكس مما قبله، وهو تأكيد الذم بما يشبه المدح (وهو ضربان: أحدهما، أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشئ صفة ذم بتقدير دخولها فيها) ومثله المصنف بقوله: فلان لا خير فيه إلا أنه يسئ إلى من أحسن إليه، وفى المثال نظر؛ لأن هذا الاستثناء يقدر فيه الاتصال ولا بد أن يكون فيه مناسبة بين الخصلة المستثناة، والخصال المحمودة، كما تقدم فى عكسه والإساءة لمن أحسن إليه ليس فيها شئ يشبه الخير، وعلاقة المضادة هنا بعيدة الاعتبار، فينبغى أن يمثل بما صورته صورة الإحسان، كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يتصدق بما يسرقه خ خ، وهذا كالأول فى ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة فى مفتاح العلوم ص 226، وعقود الجمان ص 109. (¬2) سورة القلم: 17، 18.

وثانيهما: أن يثبت لشئ صفة ذمّ، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذمّ أخرى له؛ كقوله: فلان فاسق إلا أنه جاهل. وتحقيقهما على قياس ما مرّ. الاستتباع ومنه: الاستتباع؛ وهو المدح بشئ على وجه يستتبع المدح بشئ آخر؛ كقوله [من الطويل]: نهبت من الأعمار ما لو حويته … لهنّئت الدّنيا بأنّك خالد (¬1) مدحه بالنهاية فى الشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها، وفيه أنه نهب الأعمار دون الأموال، وأنه لم يكن ظالما فى قتلهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ إفادة تأكيد الذم بوجهين، وفى تقدير اتصاله وغير ذلك (وثانيهما: أن يثبت للشئ صفة ذم، وتعقب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى، كقولك: فلان فاسق إلا أنه جاهل) قوله: (وتحقيقهما على قياس ما مر) أى فى جميع الأحكام من أن حكم الاستدراك حكم الاستثناء وغيره. الاستتباع: ص: (ومنه الاستتباع إلخ). (ش): من البديع المعنوى الاستتباع، وهو المدح بشئ على وجه يستتبع المدح لذلك الشئ بشئ آخر أى بصفة أخرى، وقيل: الاستتباع الوصف بشئ على وجه يستتبع وصفا آخر؛ ليعم المدح والذم، وفيه نظر، لأنه يتحد حينئذ بالقسم بعده، ومثله المصنف بقول أبى الطيب: نهبت من الأعمار ما لو حويته … لهنئت الدّنيا بأنّك خالد فإنه مدحه بالنهاية فى الشجاعة على وجه وهو نهب أعمار هذا الجم الغفير، فاستتبع ذلك مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها، فإن ذلك مفهوم من تهنئة الدنيا بخلوده. قوله: (وفيه) إشارة إلى وجهين من المدح فى البيت ذكرهما على بن عيسى الربعى: أحدهما، (أنه نهب الأعمار دون الأموال) والثانى، (أنه لم يكن ظالما فى قتل أحد من المقتولين). قلت: لا أدرى من أين له دلالة هذا البيت على أنه لم ينهب الأموال، وعلى أنه ¬

_ (¬1) البيت للمتنبى من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة، ديوانه 1/ 277، والإشارات ص 284.

الإدماج

الإدماج ومنه: الإدماج؛ وهو أن يضمّن كلام سيق لمعنى معنى آخر؛ فهو أعمّ من الاستتباع؛ كقوله [من الوافر]: أقلّب فيه أجفانى كأنّى … أعدّ بها على الدّهر الذّنوبا فإنه ضمّن وصف الليل بالطّول الشكاية من الدهر. التوجيه ومنه: التوجيه؛ وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين؛ كقول من قال لأعور [من مجزوء الرمل]: ليت عينيه سواء ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يكن ظالما، ولا يخفى أن قوله: لهنئت الدنيا بأنك خالد فيه مبالغة، فإن أعمار المقتولين - وإن تكاثرت - متناهية. والتناهى لا يجامع الخلود الذى لا نهاية له، إلا أن يريد بالخلود المكث الطويل، على حد قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها (¬1) وكان المصنف فى غنية عن ذكر هذا القسم بذكر الذى يليه. الإدماج: وهو فى الأصل لف الشئ فى ثوب، والمراد هنا أن يضمن كلام سيق لمعنى معنى آخر، فهو أعم من الاستتباع؛ لأن ذلك فى المدح، وهذا مطلق، وعلى التفسير الآخر يكونان واحدا ومثاله قول أبى الطيب يصف طول الليل عليه: أقلّب فيه أجفانى كأنّى … أعدّ بها على الدّهر الذّنوبا (¬2) فإنه ضمن وصف الليل بالطول الشكاية من الدهر، وكثرة ذنوبه. التوجيه: وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين، كقول من قال لأعور: خاط لى عمرو قباء … ليت عينيه سواء (¬3) ¬

_ (¬1) سورة النساء: 93. (¬2) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان 1/ 102. (¬3) البيت من الرمل وهو لبشار بن برد فى خياط أعور وهو فى الإيضاح ص 328 بتحقيقى.

الهزل يراد به الجد

السكاكى: ومنه متشابهات القرآن باعتبار. الهزل يراد به الجد ومنه: الهزل الذى يراد به الجدّ؛ كقوله [من الطويل]: إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا فقل … عدّ عن ذا، كيف أكلك للضّبّ؟! تجاهل العارف ومنه: تجاهل العارف؛ وهو - كما سماه السكاكى -: سوق المعلوم مساق غيره لنكتة: كالتوبيخ فى قول الخارجيّة [من الطويل]: أيا شجر الخابور ما لك مورقا … كأنّك لم تجزع على ابن طريف ـــــــــــــــــــــــــــــ كذا أطلقه المصنف، ويجب تقييده بالاحتمالين المتساويين، فإنه إن كان أحدهما ظاهرا، والثانى خفيا، والمراد هو الخفى، كان تورية قال السكاكى: ومنه متشابهات القرآن باعتبار. ونقله المصنف عنه ولم يعترض، وفيه نظر؛ لأن متشابهات القرآن تقدم أنها من التورية؛ لأن أحد احتماليها - وهو ظاهر اللفظ - غير مراد وقوله: باعتبار يريد باعتبار مطلق الاحتمالين، لا باعتبار استواء الاحتمالين، فإنه لا استواء فى احتمال المتشابهات. قلنا: فهذا القدر ينفى أن يكون مما نحن فيه. ومنه الهزل الذى يراد به الجد كقوله: إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا … فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ؟ (¬1) فإنه أورده على سبيل الهزل، والمراد به الجد. قيل: لأن تميما تكثر أكل الضب، وفى هذا نظر لا يخفى، والذى يظهر أن قوله: كيف أكلك للضب؟ هزل لأن ظاهره السؤال عن أكل الضب، وهو أمر لا معنى لإرادة معناه عند طلب المفاخرة إلا الهزل، لكن المراد به الجد، وهو الإشارة إلى أن التميمى حقير عن أن يفاخر، وإنما شأنه الاشتغال بأكل الضب ونحوه من الهمم النازلة. تجاهل العارف: ومنه تجاهل العارف، وسماه السكاكى سوق المعلوم مساق غيره، وسماه ابن المعتز الإعنات لنكتة أى لا يفعل ذلك إلا لاعتبار مقصود، كالتوبيخ فى قول: الخارجية. قيل: هى ليلى بنت طريف ترثى أخاها حين قتله يزيد بن مزيد الشيبانى: أيا شجر الخابور ما لك مورقا؟ … كأنّك لم تجزع على ابن طريف (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لأبى نواس فى الإيضاح ص 503. (¬2) البيت من الطويل، وهو لليلى بنت طريف فى الأغانى 12/ 85 - 86، والحماسة الشجرية 1/ 232، والدرر 2/ 163، وشرح شواهد المغنى ص 148، ولليلى أو لمحمد بن بجرة فى سمط اللآلى ص 913، -

والمبالغة فى المدح؛ كقوله [من البسيط]: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح … أم ابتسامتها بالمنظر الضّاحى أو فى الذم؛ كقوله [من الوافر]: وما أدرى ولست إخال أدرى … أقوم آل حصن أم نساء؟! ـــــــــــــــــــــــــــــ فالاستفهام فى قولها: ما لك للتوبيخ، وهو تجاهل مع معرفتها أن الشجر لا يتأثر بموت من مات، ولقائل أن يقول: ليست النكتة هنا إرادة توبيخ الشجر؛ بل النكتة إرادة إيهام أن الحزن على المذكور من الأمور العامة، حتى لا يختص بها إنسان عن شجر فهو تجاهل، فأتى فى ظاهر اللفظ بالتوبيخ لنكتة المبالغة فى المدح على جهة الغلو بالوجه المستحيل، كقوله: وأخفت أهل الشّرك حتّى إنّه … لتخافك النّطف الّتى لم تخلق (¬1) وإنما أفردت ضمير الشجر رعاية للفظه، لا لمعناه، وإلا لأنثت، وإما أن يكون ذلك لإرادة المبالغة فى المدح فى قول البحترى: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح … أم ابتسامتها بالمنظر الضّاحى (¬2) فإنه تجاهل ادعى أنه لشدة مشابهة ابتسامتها لهذه الأمور، صار يشك فى أنها الواقع، وإن كان غير شاك، وهو - أيضا - من تناسى التشبيه، أو لقصد المبالغة فى الذم، كقول زهير: وما أدرى وسوف إخال أدرى … أقوم آل حصن أم نساء؟ (¬3) ¬

_ - وللخارجية فى الأشباه والنظائر 5/ 310، وبلا نسبة فى لسان العرب 4/ 229 (خبر)، ومغنى اللبيب 1/ 47، وهمع الهوامع 1/ 133. (¬1) البيت لأبى نواس فى ديوانه 258، من قصيدة يمدح بها الرشيد مطلعها: خلق الشباب وشرتى لم تخلق … رميت فى غرض الزمان بأقوق وانظر الإشارات لمحمد بن على الجرجانى ص 279، والطراز 2/ 314، والمصباح ص 229. (¬2) البيت للبحترى فى ديوانه 1/ 442، وهو مطلق قصيدة يمدح فيها الفتح بن خاقان وهو فى الإشارات للجرجانى ص 286. (¬3) البيت من الوافر، وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 73، والاشتقاق ص 46، وجمهرة اللغة ص 978، والدرر 2/ 261، 4/ 28، 5/ 126، وشرح شواهد الإيضاح ص 509، وشرح شواهد المغنى ص 130 - 412، والصاحبى فى فقه اللغة ص 189.

والتدلّه فى الحبّ فى قوله [من البسيط]: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا … ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه ادعى أنهم لشدة شبههم بالنساء فى الأوصاف الرذيلة، يشك الناظر فيهم أهم قوم، أى رجال، أم نساء، وفيه أن القوم يختص به الرجال على حد قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ (¬1) وقال الزمخشرى: واختصاص القوم بالرجال صريح فى الآية وفى البيت المذكور وفى قوله: اختصاص القوم بالرجال نظر، وصواب العبارة أن يقال: اختصاص الرجال بالقوم؛ لما يظهر بأدنى تأمل، وأما قوم عاد وثمود ونحو ذلك فقيل: يشمل الإناث - أيضا - تغليبا، وقال الزمخشرى: ليس بمتناول للفريقين، بل قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث؛ لأنهن توابع لرجالهن. قال: وهو فى الأصل جمع" قائم" كصوم وزور، ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر، قال بعض العرب:" إذا أكلت أحببت قوما وأبغضت قوما" أى قياما. انتهى. ومراده أنه نقل بعد المصدرية إلى اسم الجمع، لكن قوله: إنه فى الأصل جمع فيه نظر، لأن فعل ليس من أبنية الجموع، إلا على مذهب أبى الحسن (أو التدله فى الحب) أى يتجاهل العارف للتدله فى الحب (فى قوله) وهو الحسين بن عبد الله الغريبى، ونسبه ابن منقذ إلى ذى الرمة: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا … ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر (¬2) كذا قال المصنف والذى يظهر أن هذا من المبالغة فى مدح ليلى وأنه من القسم السابق وزاد فى الإيضاح قسما لا أستحسن ذكر مثاله (¬3)، وقد عدوا من تجاهل العارف ما ينبغى أن يسمى: تجهيل العارف، كقول الكفار لإخوانهم الكفار: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ (¬4) فقد جهلوهم مع كونهم عارفين بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لغرض فاسد لهم لعنهم الله. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 11. (¬2) البيت من البسيط، وهو للمجنون فى ديوانه ص 130، وللعرجى فى شرح التصريح 2/ 298، والمقاصد النحوية 1/ 416، 4/ 518، والكامل الثقفى أو للعرجى فى شرح شواهد المغنى 2/ 962، وذكر مؤلف خزانة الأدب 1/ 97، ومؤلف معاهد التنصيص 3/ 167، أن البيت اختلف فى نسبته، فنسب للمجنون، ولذى الرمة وللعرجى، وللحسين بن عبد الله، ولبدوى اسمه كامل الثقفى. وهو بلا نسبة فى الإنصاف 2/ 482، وأوضح المسالك 4/ 303، وتذكرة النحاة ص 318، وشرح الأشمونى 1/ 87. (¬3) لعله أراد ما ذكر فى الإيضاح قوله:" والتحقير فى قوله - تعالى - فى حق النبى صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الكفار: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد) انظر الإيضاح بتحقيقى ص: 330. (¬4) سورة سبأ: 7.

القول بالموجب

القول بالموجب ومنه: القول بالموجب؛ وهو ضربان: أحدهما: أن تقع صفة فى كلام الغير كناية عن شئ أثبت له حكم، فتثبتها لغيره من غير تعرّض لثبوته له أو انتفائه عنه؛ نحو: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ القول بالموجب: ص: (ومنه القول بالموجب إلخ). (ش): من البديع المعنوى ما يسمى القول بالموجب وهو قريب من القول بالموجب المذكور فى الأصول والجدل، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع، ومن أحسنه قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (¬2) ويمكن أن يجعل منه قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا (¬3) وقد جعل المصنف القول بالموجب ضربين: أحدهما، أن تقع صفة فى كلام الغير، ولا يحسن دخول الألف واللام على غير، وتكون تلك الصفة كناية عن شئ أثبت له حكم، فتثبت فى كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشئ، من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له، أو انتفائه عنه، نحو قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم ذكروا صفة، وهى العزة والذلة، باعتبار أن ذكر الأعز والأذل ذكر للعزة والذلة؛ لأنهما يتضمنانهما وكنوا بالصفة عن شئ؛ لأنهم عنوا بالأعز، فريقهم، وبالأذل فريق المؤمنين، وأثبتوا لذلك الشئ حكما، فإنهم أثبتوا لفريقهم أن يخرجوا، ولفريق المؤمنين أن يخرجوا، فأثبت الله - تعالى - تلك الصفة، وهى العزة للمؤمنين، وينبغى أن يقال: وأثبت الصفة الأخرى، وهى الذلة للكفار، المدلول عليها بتقديم الخبر فى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ فإنه يدل على أن لا عزة لغيره، ومن لا عزة له ذليل من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم، وهو صفة الإخراج أو انتفائه عنه، أى عن الفريق الموصوف بتلك الصفة، ولا شك أن عدم ذكر الحكم أبلغ؛ لأنه إذا ثبت للمؤمنين أنهم الأعز كان الإخبار بإخراجهم للكفار مستغنى عنه باعتراف الكفار به، واعترافهم أن من هذه صفته يخرج وهو معنى بديع، وبه يتضح أن هذا نوع من ¬

_ (¬1) سورة المنافقون: 8. (¬2) سورة التوبة: 61. (¬3) سورة البقرة: 93.

والثانى: حمل لفظ وقع فى كلام الغير على خلاف مراده، ممّا يحتمله بذكر متعلّقه؛ كقوله [من الخفيف]: قلت: ثقّلت إذ أتيت مرارا … قال: ثقّلت كاهلى بالأيادى ـــــــــــــــــــــــــــــ المذهب الكلامى السابق، لأنه إلزام بالحجة، فإنهم قالوا: الأعز يخرج الأذل، وفريق المؤمنين هو الأعز، فيلزم من ذلك أن المؤمنين يخرجون الكفار بقياس اقترانى. والثانى من القول بالموجب حمل لفظ وقع فى كلام غير الشخص على خلاف مراده، مما يحتمله بذكر متعلقه، وينبغى أن يشترط فى الاحتمال الذى حمل عليه الكلام أن يكون موجودا، كقوله: قلت ثقّلت إذ أتيت مرارا … قال: ثقّلت كاهلى بالأيادى قلت: طوّلت قال لا بل تطوّل … ت، وأبرمت قال: حبل ودادى (¬1) فإنه قال: بموجب قوله: فى" ثقلت" وفى" أبرمت" ولكنه صرفه إلى غير مقصود المتكلم، وحمله على غير مراده، ولا شك أنه - أيضا - نوع من تجاهل العارف، وفيه لطف باعتبار الرد على المتكلم على وجه بلغ الغاية فى التأدب وعدم المواجهة بالرد وليس فى قوله: قلت: طولت، قال:" لا بل تطولت" قول بالموجب، فإنه رد عليه بقوله: لا، وأثبت شيئا آخر، فإن التطويل غير التطول واعلم أن هذا الضرب الثانى من القول بالموجب، هو الأسلوب الحكيم المذكور فى علم المعانى، والذى يظهر أن من القول بالموجب، قوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه … قلت: اطبخوا لى جبّة وقميصا (¬2) لأنه قال بموجب قولهم، فأجاب بتعيين المطبوخ، كما سألوه وحمل اللفظ الواقع منهم على غير مرادهم، فإنهم أرادوا حقيقة الطبخ، فحمله على مطلق الصنع الذى هو أعم من الطبخ والخياطة، فطلب فردا من أفراد ذلك النوع، وهو الخياطة وسماها طبخا مجازا، كما سبق. قال فى الإيضاح: وقريب من هذا قول الآخر: ¬

_ (¬1) البيتان فى الإشارات لمحمد بن على الجرجانى ص 287، وعزاهما المحقق للحسن بن أحمد المعروف بابن حجاج الشاعر الهازل. وينسبان لمحمد بن إبراهيم الأسدى، وذكر المؤلف أن صواب البيت الثانى: قال: طولت، قلت: أو ليت طولا … قال: أبرمت، قلت: حبل ودادى (¬2) البيت لأحمد بن محمد الأنطاكى المعروف بأبى الرقعمق، وهو بلا نسبة فى الإشارات للجرجانى ص 267.

الاطراد

الاطراد ومنه: الاطّراد؛ وهو أن تأتى بأسماء الممدوح أو غيره وأسماء آبائه، على ترتيب الولادة، من غير تكلّف؛ كقوله [من الكامل]: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب ـــــــــــــــــــــــــــــ وإخوان حسبتهم دروعا … فكانوها ولكن للأعادى وخلتهم سهاما صائبات … فكانوها ولكن فى فؤادى وقالوا: قد صفت منّا قلوب … لقد صدقوا ولكن من ودادى (¬1) قال: والمراد البيتان الأولان ولك أن تجعل نحوهما ضربا ثالثا. قلت: لم يظهر لى ما يتميز به هذا عن الضرب السابق، حتى يجعل ثالثا ولم يظهر الفرق بين البيت الثالث والأولين. الاطراد: ومنه الاطراد، وهو أن تأتى بأسماء المذكور وآبائه ممدوحا كان أو غيره على ترتيب الولادة الابن، ثم الأب، ثم الجد، كقول الشاعر: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب (¬2) وبهذا المثال تعلم أن إطلاق الآباء فيه تجوز، لأنه ليس فى البيت إلا أبوان، وكقول دريد بن الصمة: قتلنا بعبد الله خير لداته … ذئاب بن أسماء بن زيد بن قارب (¬3) ¬

_ (¬1) الأبيات منسوبة لأكثر من شاعر، فقد نسب لابن الرومى، وأبى العلاء، ولعلى بن فضالة القيروانى، وهى بلا نسبة فى الإشارات ص 288. (¬2) البيت من الكامل، وهو لربيعة الأسدى فى لسان العرب 13/ 464، (يمن)، وتاج العروس 2/ 416، (ذأب)، وهو للعباس بن مرداس فى ديوانه ص 36، ورواية صدره فيه:" كثر الضجاج وما سمعت بفاق"، والدرة الفاخرة 1/ 325، والمستقصى 1/ 259، ومجمع الأمثال 2/ 66، وتاج العروس 3/ 313، (عتب)، ورواية صدره: إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم (¬3) البيت من الطويل، وهو لخفاف بن ندبة فى ملحق ديوانه ص 130، ولدريد بن الصمة فى ديوانه ص 36، ولخفاف أو لدريد فى لسان العرب 13/ 92 (جنن). وراجع المزيد من مصادر البيت فى ديوان خفاف بن ندبة، وديوان دريد بن الصمة. ويروى البيت بلفظ: فتكنا بعبد الله خير لداته … ذئاب بن أسماء بن بدر بن قارب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (¬1) صلّى الله عليهم أجمعين ولك أن تقول: قد عد المصنف مثل هذا فى أول الكتاب مستهجنا، ومثله بقوله: يا علىّ بن حمزة بن عماره … أنت والله ثلجة فى خياره (¬2) وما ذكره المصنف من حد الاطراد هو المشهور، ومنهم من يسمى الاطراد ذكر الأسماء مطلقا وكذلك صنع ابن رشيق فى العمدة، فإنه جعل الاطراد فى قول المتنبى: وحمدان حمدون وحمدون حارث … وحارث لقمان ولقمان راشد (¬3) واعلم أن ابن رشيق قال عن المتنبى: إنه جاء بالتعسف كله فى قوله لسيف الدولة: فأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا بنه … تشابه مولود كريم ووالد وحمدان حمدون وحمدون حارث … وحارث لقمان ولقمان راشد (¬4) قال: وجعله أنياب الخلافة بقوله: أولئك أنياب الخلافة كلّها … وسائر أملاك البلاد الزّوائد (¬5) قالوا: هم سبعة بالممدوح والأنياب فى المتعارف أربعة، إلا أن تكون الخلافة تسامحا، أو كلب بحر، فإن أنياب كل واحد منهما ثمانية، اللهم إلا أن يريد أن كل واحد ناب للخلافة فى زمانه فقط، فيصح (وفيه من الزيادة على ما قبله) أنه زاد فى العدد واحدا وأنه جعل كل ابن هو أبوه فى الخلافة، وكرر كل اسم مرتين فى بيت واحد، فهم أربعة أسماء انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى" أحاديث الأنبياء"، باب قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ... (6/ 482)، (ح 3390)، وفى غير موضع من صحيحه. (¬2) البيت بلا نسبة فى دلائل الإعجاز للجرجانى ص 104، والإشارات ص 12، وذكر الإمام عبد القاهر هذا البيت وقال: إن تتابع الإضافات يستعمل فى الهجاء، ولا شبهة فى ثقل ذلك فى الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح. (نهاية الإيجاز ص 104). (¬3) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 192. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 194.

المحسنات اللفظية

المحسنات اللفظية وأما اللفظىّ: [الجناس] فمنه: الجناس بين اللفظين، وهو تشابههما فى اللفظ: ـــــــــــــــــــــــــــــ ورد عليه الصقلى فى العدة: أن هذا ليس من الاطراد وأن هذا ليس تعسفا؛ لأن مقصوده لا يصح إلا بهذا التكرير، قال: وقوله:" إنهم سبعة" ليس بصحيح، بل ستة، والحيوان - وإن كان له أربعة أنياب - فإنما المعول عليه منهن اثنان، فللخلافة فى كل عصر نابان الأب والابن انتهى. قلت: قوله:" ليس هذا المراد" بناء على رأى المتأخرين وابن رشيق لعله لا يخصه بذلك، وقوله:" إنهم ستة" غلط بل سبعة، كما قال ابن رشيق، فإن منهم ابن سيف الدولة المذكور فى البيت الأول. المحسنات اللفظية: ص: (وأما اللفظى فمنه الجناس إلخ). (ش): لما انقضى ما ذكره من أنواع البديع المعنوية شرع فى أنواعه اللفظية أى التى يحصل بها تحسين اللفظ فقط، فقال: فمنه الجناس بين اللفظين، ويسمى التجنيس، وهو حسن ما لم يكرر كما سيأتى، قال فى كنز البلاغة: ولم أر من ذكر فائدته. وخطر لى أنها الميل إلى الإصغاء إليه، فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلا وإصغاء إليها؛ ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى ثم جاء، والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوف إليه اه. والعبارة الثانية قاصرة على بعض أنواع الجناس، وكفى التجنيس فخرا قوله صلّى الله عليه وسلّم: " غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله وعصية عصت الله" (¬1) وهو مشتق من حروف الجنس، لأن كلا من اللفظين المتجانسين من جنس الآخر، وهو استعمال اصطلاحى يدل عليه أن ابن سيدة قال فى المحكم: الجنس الضرب من كل شئ، وجمعه أجناس، وجنوس، وكان الأصمعى يدفع قول العامة: هذا مجانس لهذا، إذا كان من شكله، ويقول: ليس عربيا صحيحا، وقول المتكلمين: تجانس الشيئان ليس بعربى - أيضا - إنما هو توسع، ثم فسر المصنف جناس اللفظين بأنه تشابههما فى اللفظ، والمراد ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى المناقب باب: ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع، (6/ 626)، (ح 3513)، وفي غير موضع، ومسلم فى" المساجد" (ح 679)، وفى" الفضائل" (ح 2514 و 2518).

والتامّ منه: أن يتفقا فى أنواع الحروف، وفى أعدادها، وفى هيئاتها، وفى ترتيبها: ـــــــــــــــــــــــــــــ باللفظين ما لفظ به أعم من أن يكون كل منهما كلمة واحدة أو أكثر، ليدخل الجناس المركب، كما سيأتى، وقد يقال: إن هذا الرسم يدخل نحو: قام زيد قام زيد وغيره من التأكيد اللفظى، فإن ادعى أن هذا فى الحقيقة لفظ واحد لاتحاد معناه، فيرد نحو قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (¬1) لأن الخشية الثانية غير الأولى، فإن قال: هما متحدان فى جنس الخشية، فيرد عليه نحو: زيد بن عمرو وزيد بن بكر فإن معناهما مختلف، فليكن جناسا، وليس كذلك، ثم يرد عليه أنه غير جامع لخروج نحو: يحيى يحيا أحدهما الاسم، والآخر فعل فإنهما فى اللفظ متحدان لا متشابهان، بل شئ واحد فإن ادعى أنهما متشابهان، فإن حقيقتهما مختلفة فى المعنى، وإنما يتشابهان فى النطق، فيدخل فى الجناس نحو:" زيد بن عمرو وزيد بن بكر" كما سبق، ويرد عليه - أيضا - نحو:" قام زيد وقام عمرو" وليس بجناس، ثم إن مطلق المشابهة فى اللفظ تصدق بما ليس بجناس، كما إذا كانا متفقين فى لام الكلمة فقط، أو عينها، أو فائها. وقوله:" تشابه اللفظين" أى الملفوظين، وقوله:" فى اللفظ" أى النطق، فالأول للمفعول، والثانى للمصدر قوله: (والتام منه) إشارة إلى أن الجناس أنواع: منها التام وهو (أن يتفقا) اللفظان (فى أنواع الحروف) بأن يكون كل حرف فى أحدهما هو فى الآخر، وأما الاتفاق بأشخاص الحروف فمستحيل، إذ يلزم أن يكون لفظا واحدا، لا لفظين (وأعدادها) أن يكون عدد حروفهما واحدا فخرج نحو: سلا، وسلاسل، فإن أنواع حروفهما واحدة، وليس تاما، ولو قال: عددها لكان أدل وأخصر، والمراد بالعدد: ما عدا الحرف المشدد، فإنه - وإن كان حرفين - فإنما يعد فى هذا الباب حرفا واحدا كما سيأتى (وهيئاتها) أى فى الحركات والسكنات، فخرج نحو: بل وبلى والمراد غير هيئة الحرف الأخير، وأما الحركة الإعرابية، فاختلافها لا يدفع تمام الجناس، لما سيأتى. والمراد - أيضا - غير الساكن من أول حرفى المشدد فلا نظر إليه، بل وجوده كعدمه كما سيأتى (وترتيبها) خرج به نحو: حفر وفرح ووجه حسن هذا القسم أن فيه صورة الإعادة وحسن الإفادة (فإن كانا) أى اللفظان المتفقان فى ذلك كله ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 37.

فإن كانا من نوع؛ كاسمين، سمى مماثلا؛ نحو: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (¬1) وإن كانا من نوعين، سمى مستوفى؛ كقوله [من الكامل]: ما مات من كرم الزّمان فإنّه … يحيا لدى يحيى بن عبد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ (من نوع واحد كاسمين سمى مماثلا نحو قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) ومن هنا نعلم أن الحركة الإعرابية لا يكون اختلافها مانعا من كون الجناس تاما، لأن ساعة والساعة مختلفا حركة الآخر، وكذلك الألف واللام التعريفية، لا تخل بالتمام لأنها زائدة عن الكلمة، ويقال: ليس فى القرآن جناس تام غيرها. قيل: ومنه ما روى عنه صلّى الله عليه وسلّم خلوا بين جرير والجرير أى دعوا له زمانه، ومنه قول الشاعر: حدق الآجال آجال … والهوى للمرء قتّال (¬2) الأول جمع أجل (بالكسر)، وهو القطيع من بقر الوحش. والثانى، جمع أجل وهو منتهى العمر، ولم يمثلوا للفظين من نوعى فعل، وهو كثير مثل: تربت يمين المسلم وتربت يمين الكافر، أى استغنت الأولى وافتقرت الثانية، وكذلك من نوعى حرف، كقولك: ما منهم من قائم (وإن كانا) أى اللفظان اللذان بينهما جناس تام (من نوعين سمى) الجناس (مستوفى كقوله) أى أبى تمام: ما مات من كرم الزّمان فإنّه … يحيا لدى يحيى بن عبد الله (¬3) واعلم أن تسمية الأول مماثلا، والثانى مستوفى قد يقال: عكسه أولى؛ لأن الأول وقع فيه استيفاء التشابه بين اللفظين، بخلاف الثانى، ولعل جوابه أنهم لاحظوا فى التماثل حصول الاستواء من كل وجه، لأن التمثيل كالتشابه، لا يكون إلا عند التساوى من كل وجه، إلا ما به الاختلاف - كما سبق - وهذا مثال لأحد الأقسام، ولم يمثلوا لغيره، فمنه أن يختلفا اسما وحرفا، كقولك:" ما ما فعلت قبيح"، ومنه أن يختلفا فعلا وحرفا، كقوله: إنّ أن الأنين يسلى الكئيبا. ¬

_ (¬1) سورة الروم: 55. (¬2) البيت لأبى سعد عيسى بن خالد المخزومى، وهو فى التبيان ص 168، وبلا نسبة فى الإشارات ص 289. (¬3) البيت من الكامل، وهو لأبى تمام فى ديوانه (ص 324 / الكتب العلمية) ورواية الديوان: من مات من حدث الزمان فإنه يحيا لدى يحيى بن عبد الله، وأسرار البلاغة (ص 17 / شاكر)، والتبيان (ص 166)، والإشارات (ص 290)، والمصباح (ص 184)، والطراز (2/ 357) بلا نسبة.

وأيضا: إن كان أحد لفظيه مركّبا، سمى جناس التركيب، فإن اتفقا فى الخطّ، خصّ باسم المتشابه؛ كقوله [من المتقارب]: إذا ملك لم يكن ذاهبه … فدعه فدولته ذاهبه وإلا خصّ باسم المفروق؛ كقوله [من المديد]: كلّكم قد أخذ الجا … م ولا جام لنا ما الّذى ضرّ مدير ال … جام لو جاملنا ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم للتام تقسيم آخر أشار إليه بقوله: (وأيضا إن كان أحد لفظيه مركبا) أى سواء كان الآخر مركبا فيكونان مركبين، أم لا، ويسمى جناس التركيب. قال فى الإيضاح: ثم إن كان المركب منهما مركبا من كلمة وبعض كلمة، سمى مرفوا كقول الحريرى: ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه … بدمع يحاكى الوبل حال مصابه ومثّل لعينيك الحمام ووقعه … وروعة ملقاه ومطعم صابه (¬1) يعنى أن المصاب فى الأول مفرد، والثانى مركب من صاب خ خ، وميم مطعم، ولا نظر إلى الضمير المضاف إليه فيهما، فالأول مفرد، والثانى مركب من كلمة وبعض أخرى. قال: (وإلا) أى وإن لم يكن المركب منهما مركبا من كلمة وبعض أخرى، وهذا القسم هو الذى اقتصر عليه فى التلخيص، وقسمه إلى قسمين، فقال: (فإن اتفقا فى الخط خص باسم المتشابه كقوله) أى قول أبى الفتح البستى: إذا ملك لم يكن ذاهبه … فدعه فدولته ذاهبه (¬2) ذاهبه الأول مضاف ومضاف إليه، والثانى اسم فاعل (وإلا) أى وإن اختلفا فى الخط (خص باسم المفروق كقوله) أى قول أبى الفتح البستى: كلكم قد أخذ الجا … م ولا جام لنا (¬3) ما الذى ضر مدير ال … جام لو جاملنا (¬4) ¬

_ (¬1) البيتان من الطويل، وهما للحريرى فى المصباح (ص 185)، والإشارات (ص 290). (¬2) البيت من المتقارب، وهو لأبى الفتح البستى فى الطراز (2/ 360)، والإشارات (ص 290)، وبلا نسبة فى الإيضاح (185)، ونهاية الإيجاز (132). (¬3) فى عقود الجمان ص: 141 " ولا جام لنا" وهو الصحيح. (¬4) البيتان من الرمل، لأبى الفتح فى الإشارات (ص 291)، وشرح عقود الجمان (2/ 141)، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (132).

وإن اختلفا فى هيئات الحروف فقط، يسمّى محرّفا، كقولهم: (جبّة البرد جنّة البرد)، ونحوه: (الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط)، والحرف المشدّد فى حكم المخفّف؛ كقولهم: (البدعة شرك الشّرك). ـــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: جام لنا الأول اسم لا وخبرها وقوله: جاملنا ثانية فعل، أى عاملنا بالجميل، وقد علم بما ذكرناه انقسام الجناس التام والمركب إلى ستة أقسام: متماثل، ومستوفى، وكل منهما إما مركب مرفو، أو متشابه، أو مفروق. واعلم أن قول المصنف: المركب منهما يدخل فيه ما إذا كانا مركبين من كلمتين مثل: جام لنا وجاملنا وبعضهم فهم أن المراد أن يكون أحدهما مركبا والآخر مفردا، وجعل الذى كلمتاه المتجانستان مركبتان نوعا آخر، سماه جناس التلفيق، ومثله بقول البستى: إلى حتفى سعى قدمى … أرى قدمى أراق دمى (¬1) ثم القسم الثانى من الأصل، أن يختلف اللفظان فى هيئات الحروف فقط، أى مع الاستواء فى نوعها وعددها وترتيبها، فسمى الجناس محرفا، كقولهم: جبة البرد جنة البرد فالبرد والبرد متفقان فيما عدا الهيئة بضم أول أولهما، وفتح أول ثانيهما، ومثلوه أيضا بقولهم: منع البرد البرد والظاهر أنه تصحيف، - وإن كان صحيحا فى المعنى -، فإن المنقول البرد البرد - بفتح الباءين، والمراد بالبرد الثانى النوم، كقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (¬2) ومنه قول الشاعر: وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (¬3) ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (¬4) ونحوه الجاهل إما مفرط، أو مفرط، نقله فى الإيضاح عن السكاكى ثم استشعر المصنف سؤالا، وهو أن مفرط فيه حرف مشدد فحروفه أربعة، فلا يكون الاختلاف بينه وبين مفرط بالهيئات فقط، بل بالحروف - أيضا - فأجاب بأن المشدد فى هذا الباب فى حكم المخفف نظرا إلى الصورة، وهذا اصطلاح لا مشاحة فيه، وإلا فأى معنى للنظر إلى الصورة والجناس أمر لفظى؟ ثم إن الاختلاف فى الحركة ¬

_ (¬1) البيت من مجزوء الكامل وهو للبستى فى شرح عقود الجمان (2/ 141). (¬2) سورة النبأ: 24. (¬3) اللسان مادة" نقخ" والشطر الأول منه: فإن شئت أحرمت النساء سواكم والبيت للعرجى واسمه عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، ونسب إلى العرج، وهو موضع ولد به. (¬4) سورة الصافات: 72، 73.

وإن اختلفا فى أعدادها، يسمّى ناقصا؛ وذلك إمّا بحرف فى الأول؛ مثل: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (¬1)، أو فى الوسط؛ نحو: جدّى جهدى خ خ، ـــــــــــــــــــــــــــــ والسكون لا وجود له فى الصورة كما أن الاختلاف بالتشديد والتخفيف لا وجود له فى الصورة، وبما قلناه صرح المطرزى فقال: فى أول شرح المقامات: وربما وقع الاختلاف بالحركة والسكون أو بالتشديد والتخفيف، كقولهم: البدعة شرك الشرك وقولهم: الجاهل مفرط أو مفرط (¬2) ينبغى أن ينظر فيه إلى اللفظ، وهو مختلف بالضرورة، واعلم أن المصنف قسم فى الإيضاح المحرف إلى: ما كان الاختلاف فيه فى الحركة فقط، ومثله بمفرط، ومفرط نقلا عن السكاكى، ولا يصح ذلك، فإنهما مختلفان بالسكون لا بالحركة، فإن الفاء فى مفرط ساكنة، وفى مفرط متحركة، كما سيأتى فى الشرك والشرك، وهذا لا يرد على المصنف فى التلخيص؛ لأنه أطلق أن مفرط ومفرط نحو: البرد والبرد، وهو صحيح؛ لأنه مثله فى مطلق اختلاف الهيئة، ثم نقله عن السكاكى ليس بصحيح، فإن السكاكى مثل به لمطلق اختلاف الهيئة، ولم يمثل به لاختلاف الهيئة بالحركة. قوله: (وكقولهم) أى قول الناس: البدعة شرك الشرك هو مثال للقسم الثانى، وهو ما كان اختلافه بهيئة الحركة والسكون، أى بأن يكون الحرف الواحد فى إحداهما متحركا وفى الأخرى ساكنا، كالراء فى شرك وشرك، والاختلاف بالسكون فقط لا يمكن، إذ هو لا يختلف كالحركة. قوله: (وإن اختلفا فى أعدادها) إشارة إلى القسم الثانى من أقسام الاختلاف، وهو القسم الثالث من الأصل، أى فإن اختلف اللفظان المتجانسان فى عدد الحروف (سمى الجناس ناقصا) لأن اختلافهما فى عدد الحروف يلزم منه نقصان أحدهما لا محالة (وذلك) النقصان إما بحرف واحد أو لا، والذى بحرف واحد، إما أن يكون الحرف الناقص هو الأول، وإليه أشار بقوله: (إما بحرف فى الأول) ولو قال: أول صفة لحرف لكان أحسن كقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ فهو جناس نقص عن التمام الحرف الأول وهو الميم (أو) بحرف (فى الوسط نحو: جدى جهدى) أى حظى، ولم ينظروا هنا إلى كون الحرف المشدد بحرفين، ¬

_ (¬1) سورة القيامة: 29 - 30. (¬2) أو مفرط، وهى فى الأصل" أومر مفرط" لعلها خطأ مطبعى.

أو فى الآخر؛ كقوله [من الطويل]: يمدّون من أيد عواص عواصم وربّما سمّى هذا مطرّفا. وإمّا بأكثر؛ كقولها [من الكامل]: إنّ البكاء هو الشّفا … ء من الجوى بين الجوانح وربّما سمى هذا مذيّلا. وإن اختلفا فى أنواعها، فيشترط ألّا يقع بأكثر من حرف: ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكون فى كل من الكلمتين حرف ليس فى الآخر؛ بل جعلوا المشدد كالمخفف كما تقدم فى المحرف (أو) بنقص حرف (فى الآخر كقوله) أى أبى تمام: يمدّون من أيد عواص عواصم … تصول بأسياف قواض قواضب (¬1) (وربما سمى هذا) أى القسم الأخير الناقص (مطرفا) ووجه حسنه أنك تتوهم قبل ورود آخر كلمة أنها هى التى مضت وأتى بها للتأكيد، وفى ذلك تحصيل فائدة جديدة بعد اليأس منها (وإما) أن يكون النقص (بأكثر) من حرف واحد (كقولها) أى الخنساء: إنّ البكاء هو الشّفاء … من الجوى بين الجوانح (¬2) فقد نقص فى الأول عن الثانى حرفان، وربما سمى ما نقص عن مجانسه بأكثر من حرف مذيلا، وتسمية هذا مذيلا أظهر فى المثال المذكور، وهو ما إذا كان فى الأول نقص عن الثانى بحرفين، فإنه وقع تذييل الثانى منه، بخلاف ما إذا قيل فى الجوانح الجوا فإن الكلمة الأخيرة فيه غير مذيلة، والتذييل إنما يكون فى الأخير. قوله: (وإن اختلفا فى أنواعها) إشارة إلى القسم الثالث من أقسام الاختلاف، وهو أن تختلف أنواع الحروف، فمن شرطه أن لا يقع الاختلاف بأكثر من حرف، فإن كان بأكثر خرج عن كونه جناسا. وقوله: (فيشترط) لم يكن به حاجة إلى هذه الفاء الداخلة على ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 46 / الكتب العلمية)، وأسرار البلاغة (ص 17 / شاكر)، والإشارات (ص 292)، والطراز (2/ 362)، وبلا نسبة فى الإيضاح (ص 187). (¬2) البيت من الكامل، وهو للخنساء فى الإشارات (ص 292)، وعقود الجمان (2/ 144).

ثمّ الحرفان: إن كانا متقاربين سمّى مضارعا، وهو إمّا فى الأوّل؛ نحو: بينى وبين كنّى (¬1) ليل دامس وطريق طامس، أو فى الوسط؛ نحو: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ (¬2)، أو فى الآخر؛ نحو: الخيل معقود بنواصيها الخير (¬3). وإلا سمّى لاحقا، وهو - أيضا - إمّا فى الأوّل؛ نحو: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (¬4)، أو فى الوسط؛ نحو: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (¬5)، أو فى الآخر؛ نحو: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ (¬6) ـــــــــــــــــــــــــــــ المضارع فى جواب الشرط، ثم الحرفان اللذان وقع الاختلاف بهما، إن كانا متقاربين سمى الجناس مضارعا، وهو أى اختلاف الحرفين بالنوع إما فى الأول، كقول الحريرى: بينى وبين كنى ليل دامس وطريق طامس فالاختلاف بالطاء والدال، وهما حرفان متقاربان، كلاهما من الحروف الشديدة أو فى الوسط، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ فوقع الاختلاف بالهمزة والهاء، وهما حرفان حلقيان. أو فى الحرف الأخير نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة (¬7) فإن الاختلاف بالراء واللام، وهما من حروف الذلاقة قوله: (وإلا) أى إن لم يكن الحرفان اللذان وقع الاختلاف بينهما متقاربين، (سمى) الجناس (لاحقا) واللاحق أيضا إما باختلاف الحرفين فى الأول، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أو يقع الاختلاف فى الوسط نحو: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ فوقع الاختلاف فى الوسط بالفاء والميم، وهذا فيه إشكال؛ لأن الفاء والميم متقاربان؛ لكونهما من حروف الذلاقة، ومن حروف الشفة، فكيف يكونان متباعدين؟ أو فى الأخير نحو قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ فوقع الاختلاف بالنون والراء، وفيه نظر - أيضا - لأنهما من ¬

_ (¬1) الكن: المنزل. وهذا من كلام الحريرى، والدامس: الشديد الظلمة. (¬2) سورة الأنعام: 26. (¬3) الحديث متفق عليه رواه البخارى فى الجهاد خ خ، ومسلم فى الإمارة خ خ. (¬4) سورة الهمزة: 1. (¬5) سورة غافر: 75. (¬6) سورة النساء: 83. (¬7) أخرجه البخارى فى" الجهاد"، باب: الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، (6/ 64)، (ح 2849)، ومسلم فى" الإمارة"، (ح 1871).

وإن اختلفا فى ترتيبها، سمى تجنيس القلب؛ نحو: حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه خ خ، ويسمّى قلب كلّ، ونحو: اللهمّ استر عوراتنا، وآمن روعاتنا (¬1)، ويسمى قلب بعض. وإذا وقع أحدهما (¬2) فى أوّل البيت، ـــــــــــــــــــــــــــــ حروف الذلاقة. قوله: (وإن اختلفا فى ترتيبها) إشارة إلى النوع الرابع من الاختلاف، وهو أن يختلفا فى ترتيب الحروف فيسمى تجنيس القلب، وهو قسمان: أحدهما، نحو قولهم: حسامه فتح لأوليائه حتف لأعدائه. قال: (ويسمى هذا قلب كل) وهذا أحسن من قوله فى الإيضاح: يسمى قلب الكل؛ لأن كل لا يدخل عليها الألف واللام فى القياس، والثانى نحو ما روى فى بعض الأخبار:" اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" (¬3) وكذلك قول بعضهم: رحم الله امرأ أمسك ما بين فكيه وأطلق ما بين كفيه. وكذلك قول أبى الطيب: ممنّعة منعّمة رداح … يكلّف لفظها الطّير الوقوعا (¬4) ويسمى هذا قلب بعض؛ لأن عورة وروعة اتفقا فى الحرف الأخير وهو التاء فلا قلب فيها وانقلب ما سواها، كانقلاب فتح وحتف، وفى كفيه وفكيه، كذلك لم يقع القلب فى الحرف الأخير. وفى ممنعة ومنعمة كذلك، فإن القلب لم يقع فى الحرف الأول والأخير، بل فيما بينهما، ولم يقع فيما بينهما على الترتيب، كما يظهر بالتأمل، ولك أن تقول: ينبغى أن يسمى القسم الأول - أيضا - قلب بعض، فإن الحرف المتوسط وهو التاء فى حتف وفتح، لم ينقلب كما لم ينقلب الأخير فى عورة وروعة وإلا فما الذى أوجب تسمية أحدهما بقلب بعض والآخر بقلب كل؟ إنما يكون بجعل الأول فى أحدهما ثانيا مثلا، والثانى ثالثا، والثالث أولا، ثم أشار المصنف إلى فرع من ذلك، وهو أنه (إذا وقع أحد المتجانسين جناس القلب فى أول البيت) ¬

_ (¬1) صحيح، أخرجه أحمد فى المسند خ خ، وأورده الشيخ الألبانى فى صحيح أبى داود، وصحيح ابن ماجه. (¬2) أى أحد اللفظين المتجانسين تجانس القلب. (¬3) جاء ذلك مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وسلم ولكن بلفظ الإفراد:" اللهم استر عورتى، وآمن روعتى، واقض دينى". وهو حديث" حسن" أخرجه الطبرانى فى الكبير عن خباب، وانظر صحيح الجامع (ح 1262). (¬4) البيت من الوافر، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (1/ 133) وفي رواية الديوان: منعمة ممنعة رداح، والمصباح (ص 190)، والإشارات (ص 294).

والآخر فى آخره، سمّى مقلوبا مجنّحا. وإذا ولى أحد المتجانسين (¬1) الآخر، سمّى مزدوجا ومكرّرا ومردّدا؛ نحو: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (¬2). ويلحق بالجناس شيئان: أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاق؛ نحو: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ وينبغى أن يقول: أو أول الفقرة ليعم النظم والنثر، إلا أن مثله فى النثر سيأتى فى رد العجز على الصدر. (والآخر فى آخره سمى مقلوبا مجنحا) كقول الشاعر: لاح أنوار الهدى من … كفّه فى كلّ حال (¬4) ولقائل أن يقول: إذا سمى هذا مقلوبا مجنحا، فتسميته مقلوبا لكونه جناس قلب، وتسميته مجنحا لكون كلمتى الجناس فيه واقعتين فى جناحى البيت، فلا بدع أن يسمى الجناس التام وغيره من الأقسام السابقة تاما مجنحا، وكذلك الجميع، إلا أن يكونوا لاحظوا مناسبة بين الجناح والقلب لسرعة تقلب الجناح، ثم قال: (وإذا ولى أحد المتجانسين الآخر) أى سواء كانا من جناس القلب أم لا (سمى مزدوجا ومكررا ومرددا، كقوله تعالى: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) واعلم أن المصنف أهمل أن يقع الاختلاف فى أمرين من الأمور السابقة. قوله: (ويلحق بالجناس) إشارة إلى ما يلحق بالجناس، وإن لم يكن منه فى الحقيقة، وهو شيئان: أحدهما، أن يجمع اللفظين الاشتقاق - أى الصغير - بأن يتفقا فى ترتيب الحروف والهيئات، مثل:" فرح زيد من المرح" فقد وقع الاختلاف بترتيب الحروف وبالهيئات معا، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ وقوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ (¬5) وقوله صلّى الله عليه وسلّم:" الظلم ظلمات يوم القيامة" (¬6) وقول الشافعى رضى الله عنه فى النبيذ: أجمع أهل الحرمين على تحريمه، وقول أبى تمام: فيا دمع أنجدنى على ساكنى نجد ¬

_ (¬1) أى تجانس كان. (¬2) سورة النمل: 22. (¬3) سورة الروم: 30. (¬4) البيت من الرمل، وهو بلا نسبة فى المصباح (ص 202)، والطراز (3/ 95)، والتبيان (ص 513) برواية لاح أنوار الندى من كفه فى كل حال، وشرح عقود الجمان (2/ 145). (¬5) سورة الواقعة: 89. (¬6) أخرجه البخارى فى" المظالم"، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة، (5/ 120)، (ح 2447)، ومسلم فى البر والصلة، (ح 2579).

والثانى: أن يجمعهما المشابهة؛ وهى ما يشبه الاشتقاق؛ نحو: قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ وفى جعل بعض هذه الأمثلة من الاشتقاق الأصغر نظر (والثانى: أن يجمعهما المشابهة) يشير إلى ما إذا لم يكن بينهما اشتقاق أصغر بل كان بينهما ما يشبهه، وهو اشتقاق أكبر أى اتفاق فى الحروف فقط من غير اشتراط الترتيب، نحو قوله تعالى: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ وقوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (¬2) فإن قال: والقالين يشبهان المشتقين بالاشتقاق الأصغر، وليس منه لأن القالين من القلى، وقال: من القول ومعناهما أيضا مختلف. (تنبيه): ذكر غير المصنف أنواعا من التجنيس، منها: التجنيس المعتل، وهو ما تقابل فى لفظيه حرفا مدّ ولين متغايران أصليان أو زائدان، مثل: نار ونور، وشمال وشمول، ومنها التجنيس المقصور، نحو: سنا وسناء، ومثل: جنا وجناح، ومنها تجنيس التنوين إما مقصور، نحو: شجى وشجن، أو منقوص، نحو: مطاعن ومطاع، فى قافية نونية ذكر ذلك كله حازم، ومنها تجنيس الإشارة، وسماه حازم تجنيس الرسالة، وهو أن يكنى عن إحدى الكلمتين، كقوله: إنى أحبك حبا لو تضمنه … سلمى سميك زل الشاهق الراسى (¬3) أراد بسميها سلمى أحد جبلى طيئ، وجعل منه الزنجانى وعبد اللطيف البغدادى قوله: حلقت لحية موسى باسمه … وبهرون إذا ما قلبا (¬4) وكذلك قول الشماخ: وما أروى وإن كرمت علينا … بأدنى من موقفة حرون (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 168. (¬2) سورة الرحمن: 54. (¬3) البيت من البسيط، وهو لدعبل فى امرأته سلمى فى شرح عقود الجمان (2/ 148)، وفيه (دق) بدلا من (زل)، والعمدة لابن رشيق (1 / 288) وفيه (ذاك) بدلا من (ذل). (¬4) البيت بلا نسبة فى نهاية الإيجاز (ص 131)، الطراز (2/ 372)، والتبيان (ص 511)، وعقود الجمان (2/ 147). (¬5) البيت من الوافر، وهو للشماخ فى ديوانه (ص 319)، ولسان العرب (وقف)، (حرن)، ومجمل اللغة (2/ 251)، وتاج العروس (وقف)، (حرت)، ومقاييس اللغة (2/ 47)، والمخصص (8/ 30)، (15/ 210)، والطراز (2/ 372).

رد العجز على الصدر

رد العجز على الصدر ومنه: ردّ العجز على الصّدر: وهو فى النّثر: أن يجعل أحد اللفظين المكرّرين أو المتجانسين أو الملحقين بهما فى أوّل الفقرة، والآخر فى آخرها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ يشير إلى الأروى التى فى الجبال. قال حازم: ومنها تجنيس الإضافة مثل: بدر تمام وليل تمام وكقول البحترى: أيا قمر التمام أعنت ظلما … علىّ تطاول الليل التمام (تنبيه): قال فى كنز البلاغة: جناس التصحيف أن يتغير الشكل والنقط، مثل: يحسنون ويحسبون وجناس التحريف أن يتغير الشكل فقط، مثل: مسلم ومسلم واللها واللهى، وجناس التصريف أن تنفرد إحدى الكلمتين عن الأخرى بحرف واحد، مثل: تفرحون وتمرحون، وجناس الترجيع أن يرجع الكلمة بذاتها غير أنها تزيد حرفا واحدا أو حرفين، مثل: ربهم بهم. (تنبيه): الصنف الواحد من التجنيس فى الصفة الواحدة، لا ينبغى أن يقع بين أكثر من لفظين وأن لا يعززا بثالث إلا حيث يكون المعنى يقتضى اقتران أشياء يصدق عليها لفظ متفق باشتراك وتواطؤ، فيكون فى اقتران تلك الأشياء على وجوه من التعلق، تحسين للمعنى، فيعبر عن تلك الأشياء على جهة تجنيس أو تصدير أو ترديد ونحوه، فأما ما فوق ذلك فمكروه عندهم نقله حازم، قال: وأما مقدار ما يستعمل فى القصيدة من أصناف التجنيس، فيجب أن لا يعنى بكثرته كل العناية، فإن ذلك شاغل عن النظر فى المعانى قال: وأحق التجنيس أن يحتمل تكراره المشتق والملحق به، وأحقها بالإقلال المركب، والمصحف، وقال التنوخى: كل ما يستحسن من البديع إذا كثر سمج كالتجنيس والمطابقة رد العجز على الصدر: ص: (ومنه رد العجز على الصدر إلخ). (ش): أى من أنواع التحسين اللفظية، لا من الجناس، كما توهمه الخطيبى لتصريح السكاكى، وكل من تكلم فى هذا العلم بعده بما قلناه رد العجز على الصدر، ويسمى التصدير، وهو تارة يكون فى النظم، وتارة يكون فى النثر ففى النثر هو عبارة عن جعلك أحد اللفظين المتكررين، أو المتجانسين، أو الملحقين بهما، أى بالمتجانسين فى أول الفقرة والآخر فى آخرها، فخرج العكس، نحو: عادات السادات سادات

نحو: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (¬1)، ونحو: (سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل)، ونحو: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (¬2). ونحو: قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (¬3) وفى النّظم: أن يكون أحدهما فى آخر البيت، والآخر فى صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو آخره، أو صدر المصراع الثانى؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ العادات. فإنه إنما وقع فيه أحد اللفظين فى أول سجعة، والآخر فى آخر الأخرى، نحو قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فأحد اللفظين المكررين فى أول الآية، ولا يخدش فى ذلك تقدم الواو، لأنه يصدق على الفعل بعدها أنه فى أول الفقرة، وإن لم يكن أولها - والآخر وهو تخشاه فى آخرها، وهذا مثال المتكررين، وبه يعلم أن من شرط التجانس اختلاف المعنى، ومثال المتجانسين، قولهم:" سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل" لأن الأول من السؤال، والثانى من السيلان، ومثال ما ألحق بالمتجانسين من المشتقين اشتقاقا أصغر قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً فإن غفارا واستغفروا يرجعان لمادة واحدة، وإنما جعل استغفروا أول الفقرة، وإن كان أولها" فقلت" لأن المراد بالفقرة فى كلام نوح عليه السّلام المحكى، لا فى الحكاية، ومثال الملحق بالمتجانسين من الضرب الثانى الراجع إلى الاشتقاق الأكبر نحو قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ وهذا على العكس مما قبله، لأنه اعتبر رد العجز على الصدر فى الحكاية، لأنه وقع بين قال والقالين، وفى الذى قبله اعتبره فى المحكى. هذا ما يتعلق برد العجز على الصدر فى النثر، وأما فى النظم فهو أن يكون أحدهما فى آخر البيت، والآخر فى صدر المصراع الأول أى فى أول البيت، أو فى حشوه أى حشو المصراع الأول، أو آخره أو صدر المصراع الثانى، فالأقسام حينئذ أربعة كل منها: إما أن يكون بالمتكررين، أو بالمتجانسين أو بالملحقين بالوجه الأول، أو بالوجه الثانى، فتكون الأقسام بالضرب ستة عشر، ولم يبق إلا أن يكون أحد الطرفين فى حشو الثانى، والآخر فى آخره، ولم يذكره المصنف، وهو جدير بالطرح، لأنه إن عدم الفاصل بينهما ففى إطلاق الرد عليه بعد - وإن وجد -، فالمسافة بينهما حينئذ قصيرة، وقد يتعذر ذلك كما فى المنهوك، أو المشطور، أو المجزوء، ويوجد فى بعض نسخ التلخيص، ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 27. (¬2) سورة نوح: 10. (¬3) سورة الشعراء: 168.

كقوله [من الطويل]: سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه … وليس إلى داعى النّدى بسريع وقوله [من الوافر]: تمتّع من شميم عرار نجد … فما بعد العشيّة من عرار وقوله [من الطويل]: من كان بالبيض الكواعب مغرما … فما زلت بالبيض القواضب مغرما (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ أو حشو الثانى، وهو بعيد لأنه لو أراد ذلك لاستغنى عن التعداد، وقال: أحدهما فى آخره، والآخر فى شئ من البيت، لكن السكاكى ذكر هذا القسم، وجعل الأقسام الخمسة ثم أخذ المصنف فى الأمثلة، فمثال ما كان الصدر فيه فى أول المصراع الأول، وهما متكرران قوله: سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه … وليس إلى داعى الندى بسريع (¬2) ومثال ما كان الصدر منه فى حشو المصراع الأول وهما متكرران قول الحماسى: تمتّع من شميم عرار نجد … فما بعد العشية من عرار (¬3) ومثال ما الصدر منه فى آخر المصراع الأول، وهما متكرران، قول أبى تمام: من كان بالبيض الكواعب مغرما … فما زلت بالبيض القواضب مغرما (¬4) ¬

_ (¬1) القواضب: السيوف القاطعة. البيض: السيوف والنساء الجميلات. والبيت من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف. (¬2) البيت للمغيرة بن عبد الله الملقب بالأميس الأسدى، لحمرة وجهه، شاعر ماجن وصاف للخمر. انظر البيت فى لطائف البيان 45، والإشارات والتنبيهات 34، والمفتاح 94 والخزانة 2/ 281، ومعاهد التنصيص 3/ 42، ودلائل الإعجاز 150 والشاهد فى قوله: (سريع إلى ابن العم، لأن التقدير: هو سريع. (¬3) البيت من الوافر، وهو للصمة بن عبد الله القشيرى، فى لسان العرب (عرر)، والتنبيه والإيضاح (2/ 167)، ومجمل اللغة (3/ 378)، وتاج العروس (عرر). (¬4) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 278)، وشرح عقود الجمان (2/ 153)، والإشارات (ص 296)، والطراز (2/ 395)، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (ص 137).

وقوله [من الطويل]: وإن لم يكن إلّا معرّج ساعة … قليلا فإنّى نافع لى قليلها وقوله [من الوافر]: دعانى من ملامكما سفاها … فداعى الشّوق قبلكما دعانى (¬1) وقوله [من الكامل]: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها … فانف البلابل باحتساء بلابل (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ ومثال ما كان الصدر منه فى أول المصراع الثانى، وهما متكرران قول الحماسى: وإن لم يكن إلا معرّج ساعة … قليلا فإنى نافع لى قليلها (¬3) ومثال الخامس، وهو ما كان الرد فيه بالجناس، والصدر فى أول المصراع الأول، قول الأرجانى: دعانى من ملامكما سفاها … فداعى الشوق قبلكما دعانى فإن" دعانى" الأول من الوداع بمعنى الترك، ودعانى الثانى من الدعاء بمعنى الطلب، ومثال السادس، وهو ما كان الصدر فيه فى حشو المصراع الأول، وهما متجانسان، قول الشاعر: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها … فانف البلابل باحتساء بلابل (¬4) فإن البلابل فى المصراع الأول جمع" بلبل" وهو الطائر، وفى آخر البيت جمع" بلبلة، وهى ظرف الخمر، والمراد بها هنا الخمر مجازا، كذا قاله بعض الشارحين، ولا أدرى من أين له ذلك، ويمكن أن يقال: إنه جمع بلبلة الإبريق، فسمى إبريق الخمر بلبلة من إطلاق اسم الجزء على الكل، ومثال السابع، وهو ما كان الصدر منه فى آخر المصراع الأول، وهما متجانسان قول الحريرى: ¬

_ (¬1) البيت للقاضى الأرجانى. (¬2) هو للثعالبى. البلابل الأولى: الطيور المعروفة. والثانية: الهموم. والثالثة: أباريق الخمر. (¬3) البيت من الطويل، وهو لذى الرمة فى الأغانى (18/ 47) وفيه (إلا معرس)، وللحماسى فى الإشارات (296)، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (137) والطراز (2/ 396) وشرح عقود الجمان (2/ 152). (¬4) البيت من الكامل، وهو للثعالبى فى شرح عقود الجمان (2/ 152)، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (ص 137)، والإشارات (ص 296).

وقوله [من الوافر]: فمشغوف بآيات المثانى … ومفتون برنّات المثانى (¬1) وقوله [من السريع]: أمّلتهم ثم تأمّلتهم … فلاح لى أن ليس فيهم فلاح (¬2) وقوله [من المتقارب]: ضرائب أبدعتها فى السّماح … فلسنا نرى لك فيها ضريبا (¬3) وقوله [من الطويل]: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه … فليس على شئ سواه بخزّان ـــــــــــــــــــــــــــــ فمشغوف بآيات المثانى … ومفتون برنّات المثانى (¬4) المثانى الأول القرآن والآخر جمع مثنى وهو آلة من آلات اللهو، ومثال الثامن وهو ما كان الصدر منه فى أول المصراع الثانى قول الأرجانى: أملتهم ثم تأملتهم … فلاح لى أن ليس فيهم فلاح ومثال التاسع وهو ما إذا كانا ملحقين بالجناس بالاشتقاق الأصغر والصدر فى أول المصراع الأول قوله أى البحترى: ضرائب أبدعتها فى السماح … فلسنا نرى لك فيها ضريبا فإن الضرائب الأشكال، والضريب الشكل والشبيه ومثال العاشر، وهو ما كان كذلك والصدر فى حشو المصراع الأول، قوله أى امرئ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه … فليس على شئ سواه بخزّان (¬5) ¬

_ (¬1) آيات المثانى: القرآن، ورنات المثانى: المزامير. (¬2) البيت للأرجانى من قصيدة يمدح فيها شمس الملك بن نظام الملك، أورده الجرجانى فى الإشارات ص 297. (¬3) البيت للسرى الرفاء أخذه من قول البحترى: بلونا ضرائب من قد نرى * فما أن رأينا لفتح ضريبا. ديوانه 1/ 151، والتبيان 179. (¬4) البيت من الوافر، وهو للحريرى فى الإشارات (ص 297)، وشرح عقود الجمان (2/ 153)، والتبيان (ص 518) بتحقيقنا، والطراز (2/ 396)، وبلا نسبة فى نهاية الإيجاز (ص 138). (¬5) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه (ص 163 / ط. الكتب العلمية)، وجمهرة اللغة (ص 596)، وأساس البلاغة (خزن)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة (2/ 178)، والإشارات (ص 297)، وشرح عقود الجمان (2/ 152).

وقوله [من البسيط]: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم … والعذب يهجر للإفراط فى الخصر وقوله [من الكامل]: فدع الوعيد فما وعيدك ضائرى … أطنين أجنحة الذّباب يضير؟! وقوله [من الطويل]: وقد كانت البيض القواضب فى الوغى … بواتر فهى الآن من بعده بتر ـــــــــــــــــــــــــــــ ونظيره قوله، أى قول المعرى: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم … والعذب يهجر للإفراط فى الخصر (¬1) ولعله إنما ذكر هذا المثال مع الأول، وإن كان الأول كافيا؛ ليبين أن" لو" - وإن كانت حرفا - فتقديمها على اختصرتم ينفى أن يكون اختصرتم واقعا فى أول البيت، بخلاف" الواو" فيما سبق، فإن الواو إنما جئ بها للوصل، وليست من حروف المعانى المستقلة، غير أنه قد يمنع كون الخصر اسما مشتقا من الاختصار؛ لأن معناه فيه غير ملاحظ، ولولا أن المصنف أدخله فى أقسام الاشتقاق؛ لكان يحسن التمثيل به للقسم الثانى، وهو الملحق بالجناس؛ لإيهام الاشتقاق لكن المصنف طرح أمثلة ذلك النوع كلها، ومثال الحادى عشر، وهو ما كان كذلك والصدر فى آخر المصراع الأول قوله: فدع الوعيد فما وعيدك ضائرى … أطنين أجنحة الذّباب يضير (¬2) ومثال الثانى عشر، وهو ما كان ملحقا بالجناس بحسب الاشتقاق الأصغر، والصدر فى أول المصراع الثانى، قول أبى تمام: وقد كانت البيض القواضب فى الوغى … بواتر وهى الآن من بعده بتر (¬3) فإنهما مشتقان من البتر، وهو القطع، وقد سكت المصنف عن مثل الأقسام الأربعة الملحقة بالتجانس بحسب الاشتقاق الأكبر؛ لقلة استعمالها. ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لأبى العلاء فى المصباح (ص 114)، وهو بلا نسبة فى تاج العروس (خصر). (¬2) البيت من الكامل، وهو لأبى عبد الله بن محمد بن أبى عيينة فى الكامل (2/ 318 / المكتبة العصرية) ودلائل الإعجاز (ص 121)، وبلا نسبة فى الإشارات (ص 297). (¬3) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 356) وفيه (المآثير) بدلا من (القواضب)، (فهى) بدلا من: (وهى)، والإشارات (ص 298)، ونهاية الإيجاز (ص 139).

السجع

السجع ومنه: السجع؛ قيل: وهو تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، وهو معنى قول السكاكى: هو فى النّثر كالقافية فى الشعر. وهو ثلاثة أضرب: مطرّف إن اختلفا فى الوزن، ـــــــــــــــــــــــــــــ (تنبيه): زاد بعضهم من أنواع الجناس: جناس الإضمار، وهو أن يضمر ركنا الإسناد ويذكر ألفاظ مرادفة لأحدهما، فيدل المظهر على المضمر، كقول الحلى: وكلّ سيف أتى باسم ابن ذى يزن … فى فتكه بالمعنى أو أبى هرم (¬1) فإن ابن ذى يزن اسمه سيف، واسم أبى هرم سنان، وذكر الإمام فخر الدين، وغيره جناس الإشارة، وهو أن يطوى أحد ركنى الإسناد ... (¬2) (تنبيه): قسم صاحب بديع القرآن رد العجز على الصدر إلى: لفظى، وهو ما سبق. وإلى معنوى، وهو ما رابطه معنوى كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (¬3) فإن معنى صدر الكلام مناقض مع عجزه، والفرق بين هذا الضرب وبين التسهيم، أنّ تقاضى هذا معنوى، وتقاضى التسهيم لفظى. السجع: ص: (ومنه السجع إلخ). (ش): من البديع اللفظى السجع مأخوذ من سجع الحمام، وهو تغريده، وهو محمود، وقال الرمانى:" السجع عيب" وكأنه يريد ما يقصد لفظه غير تابع للمعانى، ويسمى غير ذلك فواصل - كما سيأتى - عن غيره. قال الخفاجى:" السجع محمود إنما الاستمرار عليه فى الدوام لا يحمد" ولذلك لم تجئ فواصل القرآن كلها على سبيل السجع، بل فيه ذلك تارة وغيره أخرى، (قيل: وهو تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد) يعنى الكلمتين اللتين هما آخر القرينتين (وهو معنى قول السّكّاكى: هو فى النثر كالقافية فى الشعر وهو) ثلاثة أضرب: (مطرف إن اختلفتا) أى الفاصلتان ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو للصفى الحلى فى شرح عقود الجمان (2/ 147). (¬2) مكان النقط بياض بالأصل. (¬3) سورة المائدة: 105.

نحو: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (¬1). وإلّا، فإن كان ما فى إحدى القرينتين أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى فى الوزن والتقفية: فترصيع؛ نحو: (فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه). وإلّا فمتواز؛ نحو: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (¬2). وقيل: وأحسن السجع ما تساوت قرائنه؛ نحو: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (¬3)، ثمّ ما طالت قرينته الثانية؛ نحو: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (¬4)، ـــــــــــــــــــــــــــــ فى الوزن، نحو قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قلت: وينبغى أن يكون المعتبر هو الوزن الشعرى لا التصريفى وحينئذ" فوقارا وأطوارا" يصلحان فى بيتين من قصيدة واحدة من بحر واحد كالرجز والكامل (وإلا) أى وإن لم تكن الفاصلتان على وزن واحد (فإن كان ما فى إحدى القرينتين أو أكثره) أى ما فى إحداهما (مثل ما يقابله من الأخرى فى الوزن والتقفية فهو ترصيع) وينبغى أن يقول:" مرصع" ليوافق قوله: " فمطرف" وقوله:" فمتواز" (نحو) قول الحريرى: (فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه) وهذا يصلح أن يكون مثالا لما حصل الترصيع فيه فى جميع القرينتين إن قدرنا أولهما" يطبع"، وإن جعلنا أولهما" فهو" كان مثالا لما حصل فى أكثرهما. قوله: (وإلا) أى وإن لم يكن بين ألفاظ القرينتين تقابل، وكانت الفاصلة موازية لأختها (فالسجع يسمى متوازيا، كقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) وشرط حسن السجع اختلاف قرينتيه فى المعنى. قوله: (قيل) أى قال جماعة من الأدباء: (وأحسن السجع ما تساوت قرائنه)؛ ليكون شبيها بالشعر، فإن أبياته متساوية، كقوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وعلته أن السمع ألف الانتهاء إلى غاية فى السجعة الأولى، فإذا زيد عليها ثقل عليه الزائد، لأنه يكون عند وصولها إلى مقدار الأولى كمن توقع الظفر بمقصوده من فهم المراد له، ولم يجده أمامه، كذا يظهر. قوله: (ثم) أى ثم إن كانتا مختلفتين، فالأحسن من المختلفتين (ما طالت قرينته الثانية) ولا اختصاص للثانية بذلك، بل يستحسن حيث لا تستوى القرائن أن تكون كل واحدة أطول مما قبلها، كقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى قوله: ¬

_ (¬1) سورة نوح: 13، 14. (¬2) سورة الغاشية: 13 - 14. (¬3) سورة الواقعة: 28 - 30. (¬4) سورة النجم: 1 - 2.

أو الثالثة؛ نحو: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (¬1). ولا يحسن أن يؤتى بقرينة أقصر منها كثيرا. والأسجاع مبنيّة على سكون الأعجاز؛ كقولهم: ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت. قيل: ولا يقال: فى القرآن أسجاع، بل يقال: فواصل. ـــــــــــــــــــــــــــــ (أو الثالثة) أى أو طالت قرينته الثالثة على ما قبلها، نحو قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ وكلام المصنف يقتضى أن تطويل الثانية على الثالثة حيث لا بد من طول إحداهما، وعكسه سواء، وفيه نظر، لأن إيقاع طويلة بعد قصيرتين متساويتين أولى من الفصل بين المتساويتين بطويلة: ويدخل فى قوله: أو الثالثة استحسان طول الثالثة عن غيرها، فيدخل فى هذا الإطلاق ما ذكرناه من أن الثالثة يستحسن أن تكون أطول من الثانية، وأن تكون الثانية أطول من الأولى، وعلى هذا (ولا يحسن أن يولى قرينة) قرينة (أقصر منها كثيرا) أى لا يحسن أن تأتى قرينة قصيرة بعد قرينة طويلة، لأن السجع إذا استوفى أمده من السابقة لطولها وكانت اللاحقة أقصر بكثير، كان كالشئ المبتور ويصير السامع كمن يريد الانتهاء إلى غاية، فيعثر دونها. هذا الذى ذكرناه هو المشهور، وصرح الخفاجى: بأنه لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى، لكن رأيت فى مختصر الصناعتين للعسكرى أن الأحسن أن تكون الثانية أقصر من الأولى، فلا أدرى أهو غلط من الناسخ أم لا. قوله: (والأسجاع) يشير إلى أن الأسجاع (2) وينبغى أن يقول: " القرائن المسجعات" فإن السجع، وهو التواطؤ - كما سبق - لا المتواطئ (مبنية على سكون الأعجاز) أى أصلها أن تكون ساكنة الأعجاز، أى الأواخر، أى موقوفا عليها، لأن الغرض المزاوجة بين كل واحدة وأخرى، وذلك لا يطرد إلا بالوقف، كقولهم: (ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت) لأنك لو وصلته لاقتضى حكم الإعراب مخالفة حركة إحداهما للأخرى، فيفوت المقصود من السجع، وإذا كانوا يخرجون الكلم عن أوضاعها للازدواج، كالغدايا والعشايا، فما ظنك بما نحن فيه. قوله: (قيل) هذا هو المشهور أنه (لا يقال: فى قرائن القرآن الكريم أسجاع بل) إنما (يقال: فواصل) أما مناسبة فواصل، فلقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: 30 - 31.

وقيل: السّجع غير مختصّ بالنثر، ومثاله فى النّظم قوله [من الطويل]: تجلّى به رشدى وأثرت به يدى … وفاض به ثمدى وأورى به زندى ـــــــــــــــــــــــــــــ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ (¬1) وأما اجتناب أسجاع، فلأن أصله من سجع الطير فيشرف القرآن الكريم عن أن يستعار لشئ فيه لفظ هو فى أصل وضعه للطائر، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث فى اسم السجع الذى يقع فى كلام آحاد الناس، ولأن القرآن صفة الله - تعالى - ولم يجز وصفها بصفة لم يرد الإذن بها، كما لا يجوز ذلك فى حقه - عز وجل - وإن صح المعنى على أن الخفاجى قال فى سر الفصاحة: إنه لا مانع فى الشرع أن يسمى ما فى القرآن سجعا. ونحن لا نوافقه على ذلك، وليس الخفاجى ممن يرجع إليه فى الشرعيات. قال الخفاجى - أيضا -: السجع الذى يقصد فى نفسه، ثم يحمل المعنى عليه، والفواصل هى التى تتبع المعانى غير مقصودة فى نفسها. قال: ولهذا سميت رءوس الآيات فواصل ولم تسم أسجاعا، ونقل عن الرمانى: أن الفواصل بلاغة والأسجاع عيب. قال: وليس بصحيح، ثم قال: الفواصل ضربان: ضرب يكون سجعا، وهو ما تماثلت حروفه فى المقاطع، مثل: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (¬2) وضرب لا يكون سجعا، وهو ما تقاربت حروفه فى المقاطع ولم تتماثل. وحكى القاضى أبو بكر فى كتاب الانتصار، خلافا فى تسمية الفواصل سجعا، ورجح أنها تسمى بذلك، وقوله: (وقيل: السجع إلخ) يريد أن ما سبق من تعريف السجع يقتضى أن السجع لا يكون إلا نثرا، وقال بعضهم: السجع قد يكون فى النظم وإليه الإشارة بقوله: (وقيل: السجع غير مختص بالنثر) وهى عبارة مقلوبة، والصواب أن يقول: (النثر غير مختص بالسجع) لأن اختصاص السجع بالنثر أن لا يكون شئ من النثر إلا مسجعا، وهذا لا يقوله أحد، واختصاص النثر بالسجع أن لا يكون السجع إلا نثرا، وهو المقصود، وقد مثل للسجع الواقع فى النظم بقوله، أى قول أبى تمام: تجلى به رشدى وأثرت به يدى … وفاض به ثمدى وأورى به زندى (¬3) ¬

_ (¬1) سورة فصلت: 3. (¬2) سورة الطور: 1، 2. (¬3) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 111)، والمصباح (ص 169)، والإشارات (ص 301)، وشرح عقود الجمان (2/ 161)، والعمدة لابن رشيق (2/ 23).

الموازنة

ومن السجع على هذا القول ما يسمّى التشطير؛ وهو جعل كلّ من شطرى البيت سجعة مخالفة لأختها؛ كقوله [من البسيط]: تدبير معتصم بالله منتقم … لله مرتغب فى الله مرتقب الموازنة ومنه: الموازنة؛ وهى تساوى الفاصلتين فى الوزن دون التقفية؛ نحو: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ والذى يظهر أن المعنى بالسجع فى النظم، ما لم تكن كل قرينة منه بيتا كاملا، فإن القرينتين فى البيت الواحد لا يصدق عليهما بمجردهما النظم، فإنهما لو تجردا عن بقية البيت لم يكونا نظما، فلا خلاف فى المعنى. قال: (ومن السجع على هذا القول ما يسمى التشطير، وهو أن يجعل كل من شطرى البيت سجعة مخالفة لأختها) أى يجعل فى كل من شطريه سجعتان، على روى مخالف لروى سجعتى الشطر الآخر (كقوله) يعنى أبا تمام: تدبير معتصم بالله منتقم … لله مرتغب فى الله مرتقب (¬2) قال فى الإيضاح: ثم السجع ينقسم إلى قصير، وطويل، ومتوسط، ثم قال: ومنه ما يسمى التصريع، وهو جعل العروض مقفاة تقفية الضرب، ومن أحسنه قول أبى فراس: بأطراف المثقفة العوالى … تفردنا بأوساط المعالى الموازنة: ص: (ومنه الموازنة إلخ). (ش): الموازنة منهم من عدها من ضروب السجع وجعله أربعة أضرب، ومنهم من لم يعدها منه، وهو الصحيح، فقوله:" منه" يريد من التحسين اللفظى (وهى تساوى الفاصلتين) لا يريد فى القرآن فقط، بل القرينتين (فى الوزن دون التقفية، نحو قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) ثم إن كان ما فى إحدى القرينتين أو ¬

_ (¬1) سورة الغاشية: 15 - 16. (¬2) البيت من البسيط وهو لأبى تمام بلفظه فى المصباح (ص 168)، والبيت فى شرح ديوانه (ص 20) وفى الإشارات (ص 302) وشرح عقود الجمان (2/ 161)، والعمدة لابن رشيق (2/ 23) برواية أخرى للعجز وهى: لله مرتقب فى الله مرتقب.

القلب

وإذا تساوى الفاصلتان: فإن كان ما فى إحدى القرينتين أو أكثره مثل ما يقابله من القرينة الأخرى فى الوزن، خصّ باسم المماثلة؛ نحو: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (¬1)، وقوله [من الطويل]: مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس … قنا الخطّ إلّا أنّ تلك ذوابل القلب ومنه: القلب؛ كقوله [من الوافر]: وهل كلّ مودّته تدوم … مودّته تدوم لكلّ هول ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثر مثل ما يقابله من الأخرى فى الوزن خص باسم المماثلة نحو: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وفيه نظر لجواز أن يكون: وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ جزء الفاصلة، ويكون آخرها (وتركنا عليهما فى الآخرين) هذا هو الظاهر، فلا تكون تلك فاصلة غير مقفاة، نعم يصح التمثيل بالبيت المذكور، وهو لأبى تمام: مها الوحش إلّا أن هاتا أوانس … قنا الخطّ إلا أن تلك ذوابل (¬2) القلب: ص: (ومنه القلب إلخ). (ش): من وجوه التحسين القلب، وهو أن يكون الكلام إذا قلبت حروفه، لم تتغير قراءته، وهو غير القلب السابق فى التجنيس، وغير القلب السابق فى علم المعانى، ومثله المصنف بقوله، أى الأرجانى: أحبّ المرء ظاهره جميل … لصاحبه وباطنه سليم مودّته تدوم لكلّ هول … وهل كلّ مودّته تدوم (¬3) فإنه يمكن أن يقرأ من آخره لأوله، كما يقرأ من أوله لآخره، ويرد عليه أمور: أحدها، أن تشديد دال مودته، وتخفيف دال تدوم يتعذر معهما القلب، لكنه ماش ¬

_ (¬1) سورة الصافات: 17 - 18. (¬2) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 241)، والإشارات (ص 303)، والطراز (2/ 4)، والمصباح (ص 172). (¬3) البيتان من الوافر، ولم أجد إلا الثانى فى شرح عقود الجمان (2/ 163).

وفى التنزيل: كُلٌّ فِي فَلَكٍ، (¬1)، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ على اصطلاحهم من أن المشدد كالمخفف، وقد تقدم الاعتراض عليه. الثانى أن واو الضمير فى مودته تمنع من القلب، لأنها تكون عند القلب فاصلة بين التاء والهاء من مودته. الثالث، أن الحركات واختلافها يمنع القلب، وانقلاب المحرك ساكنا وعكسه، ومثله المصنف بقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ والتمثيل به سالم من السؤال الثانى دون الأول، وقوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أى من غير مراعاة الواو، وهو أصح الأمثلة، لا غبار عليه، ومثله فى الإيضاح بقول العماد الكاتب للقاضى:" الفاضل سر فلا كبابك الفرس" وجواب الفاضل له بقوله:" دام علا العماد" فأما كلام العماد فلا يصح القلب فيه، لأن ألف" فلا" تسقط فى القلب للوصل، وألف الفرس الساقطة للوصل تعود فى القلب، فلا ينقلب بحاله أبدا، وفيه تغيير الحركات كما سبق، وأما جواب الفاضل، فعليه السؤالان - أيضا - لأن ألف العماد فى أحد التركيبين دون عكسه، والحركات تتغير، وأنشدوا أيضا: عج تنم قربك دعد آمنا … إنما دعد كبرق منتجع (¬3) وهو فاسد، فإن آمنا لا ينقلب، إنما أبدا لما لا يخفى، فإن آمنا ألف بعد الهمزة، ونون واحدة، وليس فى آخرها ألف، وليس كذلك، إنما هذا الذى ذكره المصنف هو قلب الحروف، وبقى عليه نوع آخر يقال له: قلب الكلمات كقوله: عدلوا فما ظلمت لهم دول … سعدوا فما زالت لهم نعم بذلوا فما شحت لهم شيم … رفعوا فما زلت لهم قدم (¬4) فهو دعاء لهم، فإذا انقلبت كلماته صار دعاء عليهم، وهو: نعم لهم زالت فما سعدوا … دول لهم ظلمت فما عدلوا قدم لهم زلت فما رفعوا … شيم لهم شحت فما بذلوا (¬5) ¬

_ (¬1) سورة يس: 40. (¬2) سورة المدثر: 3. (¬3) البيت من الرمل، وهو بلا نسبة فى شرح عقود الجمان (2/ 163). (¬4) البيت من الكامل، وهما بلا نسبة فى شرح عقود الجمان (2/ 163). (¬5) البيتان من الكامل، وهما بلا نسبة فى شرح عقود الجمان (2/ 163).

التشريع

التشريع ومنه: التشريع؛ وهو بناء البيت على قافيتين يصحّ المعنى عند الوقوف على كلّ منهما؛ كقوله [من الكامل]: يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها … شرك الرّدى وقرارة الأكدار ـــــــــــــــــــــــــــــ التشريع: قوله: (ومنه التشريع) وهى عبارة لا يناسب ذكرها، فإن التشريع قد اشتهر استعماله فيما يتعلق بالشرع المطهر، وكان اللائق اجتنابها، وحاصله أن المراد بناء البيت على قافيتين، يصح المعنى على الوقوف عند كل منهما، والمراد أن يكون على وزنين يصح أن يكون كل منهما بيتا مستقلا، كقول الحريرى: يا خاطب الدنيا الدنية إنها … شرك الردى وقرارة الأكدار (¬1) الأبيات المشهورة. قال ابن النحوية: وفى عبارة صاحب المثل هو أن يبنى الشاعر شعره على بحرين، والصواب أن يقال: على ضربين، فإن ذلك لا يتأتى فى بحرين، وإنما الصواب أن يقال: على ضربين من بحر واحد. قلت: فيه نظر، فقد يكون ذلك من بحرين، إذا كان البيت من المديد على فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن أمكن الشاعر أن يجعل بعض البيت على فاعلاتن أربع مرات، فيكون من الرمل المجزوء، مثاله أن يقول: ليتهم سموه باسم سوى ذا فإنه فاتن … إنما التشريع دين قويم (¬2) فإنه يمكن أن يسقط منه، فيقول: ليتهم سموه باسم … إنما التشريع دين (¬3) فينقلب من المديد إلى الرمل، ثم اعلم أن التقييد بقافيتين لا معنى له، فقد يكون أكثر، ومن أغرب ما رأيت فيه أبيات الحريرى من أول الكامل، فإنه بناها على سبع قواف وهو: ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو لأبى القاسم الحريرى فى المقامة الثالثة والعشرين من مقاماته كما فى شرح عقود الجمان (2/ 167)، والمثل السائر (3/ 217)، والمصباح (ص 176)، والطراز (2/ 72). (¬2) البيت من الكامل، ولعله من إنشاء السبكى نفسه كما توضحه عبارة المرشدى فى شرحه على عقود الجمان (2/ 167)، وفيه (قيم) بدلا من: (قويم). (¬3) سبق تخريجه.

لزوم ما لا يلزم

لزوم ما لا يلزم ومنه: لزوم ما لا يلزم؛ وهو أن يجئ قبل حرف الرّوىّ - أو ما فى معناه من الفاصلة - ما ليس بلازم فى السجع؛ نحو: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (¬1) وقوله (¬2) [من الطويل]: سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى … أيادى لم تمنن وإن هى جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها … فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت ـــــــــــــــــــــــــــــ جودى على المستهتر الصب الجوى … وتعطفى بوصاله وترحمى ذا المبتلى المتفكر القلب الشجى … ثم اكتشفى عن حاله لا تظلمى (¬3) ص: لزوم ما لا يلزم: (ومنه) أى من التحسين اللفظى (لزوم ما لا يلزم، وهو أن يجئ قبل حرف الروى، أو ما فى معناه من الفاصلة) أو السجعة (ما ليس لازما فى السجع) والأولى أن يقال فى التقفية: ليعم السجع والنظم، كالهاء فى قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ثم قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (¬4) وكقول الشاعر: سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى … أيادى لم تمنن وإن هى جلّت (¬5) فتى غير محجوب الغنى عن صديقه … ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت رأى خلّتى من حيث يخفى مكانها … فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت ¬

_ (¬1) سورة الضحى: 9 - 10. (¬2) الأبيات أوردها محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 303، وهى لعبد الله بن الزبير الأسدى فى مدح عثمان بن عفان، وينسبان لأبى الأسود الدؤلى فى مدح عمرو بن سعيد بن العاص. (¬3) البيتان من الكامل، وهما للحريرى فى شرح عقود الجمان (2/ 167) وفيه (على المهتور) بدلا من: (على المستهتر). (¬4) سورة الأعراف: 201، 202. (¬5) الأبيات من الطويل، انظر تخريجه فى الإيضاح الفقرة 28. والبيت الثالث لم أجده إلا فى شرح عقود الجمان (2/ 165).

وأصل الحسن فى ذلك كلّه: أن تكون الألفاظ تابعة للمعانى، دون العكس. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأصل الحسن فى ذلك كله) أى فى النوع اللفظى (أن تكون الألفاظ تابعة للمعانى دون العكس). (تنبيه): اعلم أن أنواع البديع كثيرة، وقد صنف فيها، وأول من اخترع ذلك عبد الله بن المعتز، وجمع منها سبعة عشر نوعا، وقال فى أول كتابه:" ما جمع قبلى فنون البديع أحد، ولا سبقنى إلى تأليفه مؤلف، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين، فمن أحب أن يقتدى بنا ويقتصر على هذه فليفعل، ومن أضاف من هذه المحاسن، أو غيرها شيئا إلى البديع، ورأى فيه غير رأينا فله اختياره" وعاصره قدامة الكاتب، فجمع منها عشرين نوعا تواردا منها على سبعة، فكان جملة ما زاده ثلاثة عشر، فتكامل بها ثلاثون نوعا، ثم تتبعها الناس، فجمع أبو هلال العسكرى سبعة وثلاثين، ثم جمع ابن رشيق القيروانى مثلها، وأضاف إليها خمسة وستين بابا من الشعر، وتلاهما شرف الدين الشاشى، فبلغ بها السبعين، ثم تكلم فيها ابن أبى الإصبع، وكتاب المحرر أصح كتب هذا الفن، لاشتماله على النقل والنقد، ذكر أنه لم يؤلفه، حتى وقف على أربعين كتابا فى هذا العلم أو بعضه، وعددها فأوصلها تسعين، وادعى أنه استخرج هو ثلاثين، سلم له منها عشرون، وباقيها متداخل أو مسبوق به، وصنف ابن منقذ كتاب التفريع فى البديع، جمع فيه خمسة وتسعين نوعا، ثم إن السكاكى اقتصر على سبعة وعشرين، ثم قال:" ولك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت، وتلقب كل من ذلك بما أحببت" ثم إن صفى الدين بن سرايا الحلى عصرينا، جمع مائة وأربعين نوعا فى قصيدة نبوية فى مدحه صلّى الله عليه وسلّم ثم إن المصنف ذكر من البديع المعنوى ثلاثين نوعا، ومن البديع اللفظى سبعة أنواع، وذكر بينهما أمورا ملحقة بها، يصلح أن تعد أنواعا أخر، وها أنا أذكر شيئا مما ذكره الناس؛ ليكون مضافا لما سبق، فعليك باعتبار ما هو داخل منها فى كلام المصنف وما ليس بداخل، وباعتبار ما بينها من التداخل، وربما أنبه فى أثنائها على شئ من ذلك. التوقيف: الثامن والثلاثون" التوقيف" وهو إثبات المتكلم معانى من المدح والوصف والتشبيه، وغيرها من الفنون التى يفتتح بها الكلام فى جملة منفصلة عن أختها بالسجع - غالبا - مع تساوى الجمل فى الزنة، أو بالجمل الطويلة، كقوله تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (¬1) الآيات: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (¬2) التسميط: التاسع والثلاثون" التسميط" وهو تسجيع مقاطع الكلام، من نثر أو نظم على روى مخالف روى ذلك البيت، أو تلك السجعة، كقول ابن أبى حفصة: هم القوم إن قالوا أفادوا وإن دعوا … أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا (¬3) ومثاله فى النثر: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (¬4) وهذا القسم ذكر المصنف منه ما يتعلق بالنظم، حتى تكلم على السجع، هل يدخل فى النظم أو لا؟ التغاير: الأربعون" التغاير" وهو مدح الشئ ثم ذمه، أو ذمه ثم مدحه، ونحو ذلك إما من كلام شخصين، كقوله تعالى: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (¬5) وإما أن يتغاير كلام الشخص الواحد فى وقتين، كقول قريش عن القرآن الكريم: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (¬6) فإنه اعتراف بالعجز، ثم قالوا فى وقت آخر: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (¬7) وكان الأصل أن لا يعد هذا حسنا بل عيبا لكنه لوقوعه فى وقتين مختلفين - فى غير هذا المثال - عد من المحاسن. القسم: الحادى والأربعون" القسم" وهو الحلف على المراد بما يكون فيه تعظيم المقسم، أو غير ذلك بما يناسبه، كقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (¬8) أقسم الله - تعالى - بما يتضمن عظمته. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء: 78. (¬2) سورة الحج: 61. (¬3) البيت من الطويل، وهو لمروان بن أبى حفصة فى الأغانى (10/ 112) وشرح عقود الجمان (2/ 161) وبلا نسبة فى المصباح (ص 171). وفيها جميعا (أصابوا) بدلا من (أفادوا). (¬4) سورة الإسراء: 55. (¬5) سورة الأعراف: 75، 76. (¬6) سورة القصص: 36. (¬7) سورة الأنفال: 31. (¬8) سورة الذاريات: 23.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ السلب والإيجاب: الثانى والأربعون" السلب والإيجاب" وهو بناء الكلام على نفى الشئ من وجه، وإثباته من وجه آخر، كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (¬1) وهو يرجع إلى الطباق. الاستدراك: الثالث والأربعون" الاستدراك" إما بعد تقدم تقرير، كقوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ (¬2) أو بعد تقدم نفى، كقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (¬3) وهذا القسم يرجع إلى الطباق، أو إلى الرجوع، وقد سبقا. التلفيق: الرابع والأربعون" التلفيق" وهو إخراج الكلام مخرج التعليم، وهو أن يقع السؤال عن نوع من الأنواع تدعو الحاجة لبيان جميعها، فيجاب بجواب عام عن المسئول عنه، وعن غيره، ليبنى على عمومه ما بعده من الصفات المقصودة، كقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ (¬4) فإنه وقع جوابا عن قولهم أنه صلّى الله عليه وسلّم أبو زيد بن حارثة، فلم ينص على زيد بل عمم، ليبنى عليه خاتم النبيين، لأن كونه خاتم النبيين يناسب أنه ليس أبا لأحد، لأنه لو كان له ولد بالغ، لكان نبيا، وقد يقال: إن هذا يرجع إلى الاستطراد، وقد سبق. جمع المختلفة والمؤتلفة: الخامس والأربعون" جمع المختلفة والمؤتلفة" وهو أن يجمع بين ممدوحين بمعان مؤتلفة فى مدحهما، ثم يريد ترجيح أحدهما على الآخر، فيأتى بمعان تخالف معانى التسوية، بحيث لا ينقص الممدوح الآخر، كقوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ (¬5) إلى آخر الآية الكريمة. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 23. (¬2) سورة الأنفال: 43. (¬3) سورة الأنفال: 17. (¬4) سورة الأحزاب: 40. (¬5) سورة الأنبياء: 78.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التوهم: السادس والأربعون" التوهم" وهو إما أن يؤتى بكلمة، يوهم ما بعدها أن المتكلم أراد تصحيفها، أو يوهم أن فيه لحنا، أو أنه قلب عن وجهه، أو أن ظاهره فاسد المعنى، أو أراد غير معناها، ويكون الأمر بخلاف ذلك فى الجميع، ولهذه الأقسام أمثلة، ذكرها صاحب بديع القرآن، لم أر التطويل بذكرها. الاتساع: السابع والأربعون" الاتساع" وهو كل كلام تتسع تأويلاته، فتتفاوت العقول فيها لكثرة احتمالاته لنكتة ما، كفواتح السور. سلامة الاختراع من الابتداع: الثامن والأربعون" سلامة الاختراع من الابتداع" وهو أن يخترع الأول معنى لم يسبق إليه، ولم يتبع عليه، وأمثلته كثيرة. التوليد: التاسع والأربعون" التوليد" وهو أن المتكلم يدرج ضربا من البديع بنوع آخر، فيتولد منهما نوع ثالث، ومثلوه بقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ (¬1). النوادر: تمام الخمسين" النوادر" ويسمى" الإغراب والطرفة" وهو أن يذكر الشئ المشهور على وجه غريب بزيادة، أو تغيير يصيره غريبا، وقد تقدم هذا فى أنواع التشبيه، وهو أن يكون وجه الشبه مشهورا مبتذلا، ولن يلحق به ما يصيره غريبا خاصا. الإلجاء: الحادى والخمسون" الإلجاء" وهو ذكر اعتراض وجواب، ومثلوه بما لا طائل تحته. التخيير: الثانى والخمسون" التخيير" وهو إثبات البيت أو الفقرة على روى يصلح لأشياء غيره، فيتخير له كلمة كقوله: إنّ الغريب الطويل الذيل ممتهن … فكيف حال غريب ما له قوت (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: 112. (¬2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى شرح عقود الجمان (2/ 168).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يصلح موضع قوت" مال" كسب نسب، كذا قيل، وكثير من الناس ينشده:" ما له طول" فحينئذ يكون ترجيح طول لرد العجز على الصدر. التنظير: الثالث والخمسون" التنظير" وهو النظر بين كلامين متفقين فى المعنى أو مختلفين أيهما أفضل؟ الاستقصاء: الرابع والخمسون" الاستقصاء"، وهو ذكر جميع عوارض الشئ ولوازمه وذاتياته، وهو قريب من مراعاة النظير، ومن استيفاء الأقسام السابقين، إلا أن هذا نوع برأسه. التشكيك: الخامس والخمسون" التشكيك" وهو أن يأتى فى الكلام بكلمة يشك السامع هل هى أصلية أو لا؟ كقوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ (¬1) فإن بدين يشك السامع هل هى أصلية أو لا؟ حتى يحقق النظر، فيجدها أصلية، لأن الدين له محامل، منها الجزاء مثل كما تدين تدان (¬2). البراءة: السادس والخمسون" البراءة" ومحلها الهجاء، وهو كما قال أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء، فقال: هو الذى إذا أنشدته العذراء فى خدرها، لا يقبح عليها. التسليم: السابع والخمسون" التسليم" وهو أن يفرض محالا إما منفيا، أو مشروطا بشرط بحرف الامتناع؛ ليكون ما ذكره ممتنع الوقوع، لامتناع شرطه، كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ الآية (¬3) وهذا يدخل فى المذهب الكلامى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282. (¬2) " ضعيف" أخرجه أبو نعيم وابن عدى والديلمى عن ابن عمر، ورواه عبد الرزاق فى الزهد عن أبى قلابة مرسلا، وأحمد عن أبى الدرداء موقوفا بلفظ" البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان". وانظر ضعيف الجامع (ح 4279). (¬3) سورة المؤمنون: 91.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأفتنان: الثامن والخمسون" الافتنان" وهو أن يؤتى فى الكلام الواحد بفنين متضادين، أو مختلفين، كالجمع بين الغزل والحماسة، أو متفقين وهو كثير. إثبات الشئ للشئ بنفيه عن غيره: التاسع والخمسون" إثبات الشئ للشئ بنفيه عن غيره" كقول الخنساء: وما بلغت كفّ امرئ متناولا … من المجد إلّا والّذى نلت أطول (¬1) الترديد: الستون" الترديد" وهو تعليق الكلمة الواحدة فى المصراع الواحد، أو الفقرة الواحدة مرتين، متعلقة بشيئين، كقوله: وهويننى وهويت الغانيات إلى … أن شبت فانصرفت عنهن آمالى (¬2) فعلق" هويننى" و" هويت" بالغانيات فى مصراع واحد، وقد يحصل الترديد فى كل من المصراعين، كقوله: يريك فى الروع بدرا لاح فى غسق … فى ليث عريسة فى صورة الرّجل (¬3) فرد فى كل من المصراعين مرتين. التعطف: الحادى والستون" التعطف" وهو كالترديد، إلا أن الكلمة مذكورة فى مصراعين، وهو أعم من المزاوجة من وجه، فإن تلك يشترط فيها الشرط والجزاء، ولا يشترط فيه التكرر فى مصراعين أو فقرتين، وهذا يشترط فيه التكرر فى مصراعين، ولا يشترط أن يكون فى الكلام شرط وجزاء، وينفصل هذا والذى قبله عن رد العجز على الصدر، بأن ذلك يكون العجز فيه آخر الضرب أو آخر الفقرة، وهذان بكون إعادة الكلمة فيهما فيما وراء القافية. ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للخنساء فى ديوانها (ص 76 / الكتب العلمية)، ولسان العرب (كفف)، (طول)، وتاج العروس (كفف). ومطلع البيت فيها: (فما بلغت)، وفيها (حيث ما) بدلا من (والذى). (¬2) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة فى الأشباه والنظائر (5/ 283)، وتخليص الشواهد (ص 515)، وشرح الأشمونى (1/ 204)، والمقاصد النحوية (3/ 31). (¬3) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة فى المصباح (ص 162).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التوسيع: الثانى والستون" التوسيع" وقد فسروه بأن يأتى فى آخر الكلام بشئ مفسر بمعطوف ومعطوف عليه، مثل قوله: إذا أبو قاسم جادت لنا يده … لم يحمد الأجودان: البحر والمطر (¬1) وهذا فى الحقيقة أحد نوعى اللف والنشر. التطريز: الثالث والستون" التطريز" وهو اشتمال الصدر على مخبر عنه، يتعلق به شيئان، والعجز على خبر مقيد بمثله كقوله: كأن الكأس فى يدها وفيها … عقيق فى عقيق فى عقيق (¬2) المؤاخاة: الرابع والستون" المؤاخاة" وهو أخص من الائتلاف، وهو أن تكون معانى الألفاظ متناسبة، كقول ذى الرمة: لمياء فى شفتيها حوّة لعس … وفى الثنايا وفى أنيابها شنب (¬3) احترازا عن مثل قول الكميت: وقد رأينا بها خودا منعمة … بيضا تكامل فيها الدّلّ والشّنب (¬4) فذكر الشنب مع الدل غير مناسب وهذا فى الحقيقة نوع من اختلاف اللفظ والمعنى. ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو لابن الرومى فى الطراز (2/ 4)، (3/ 90)، والمصباح (ص 173)، ولأحمد بن أبى الطاهر فى الصناعتين (ص 480 / الكتب العلمية). (¬2) البيت من الوافر، وهو بلا نسبة فى الطراز (3/ 92)، وشرح عقود الجمان (2/ 154)، والمصباح (ص 174). (¬3) البيت من البسيط؛ وهو لذى الرمة فى ديوانه (ص 32)، والخصائص (3/ 291)، والدرر (6/ 56)، ولسان العرب (شنب)، (لعس)، (حوا)، والمقاصد النحوية (4/ 203)، وهمع الهوامع (2/ 126)، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى (2/ 438). (¬4) البيت من البسيط وهو للكميت فى الخصائص (3/ 290)، والتبيان (ص 402) بتحقيقنا لكن صدره فيهما: أم هل ظعائن بالعلياء نافعة. وهو بلفظ المصنف فى شرح عقود الجمان (2/ 73) ولكن فيه: (رأين) بدلا من (رأينا) و (فيشكل) بدلا من (تكامل).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستطراد: الخامس والستون" الاستطراد" وقد قدمناه عند ذكر المزاوجة أو قريبا منها. الإشارة: السادس والستون" الإشارة" ذكرها قدامة، وقال: دلالة اللفظ القليل على المعنى الكثير فهو حينئذ من الإيجاز، وقد سبق. الإقحام: السابع والستون" الإقحام" وهو يعلم مما سبق. الانفصال: الثامن والستون" الانفصال" وقد فسر بما هو فى معنى الاحتراس المتقدم فى الإيجاز والإطناب. البسط: التاسع والستون" البسط" وفسروه بما هو فى معنى الإطناب، وكذلك الإيضاح. التتميم: السبعون" التتميم" وقد تقدم فى الإطناب، وكذلك التكميل، والتذييل. التوشيح: الحادى والسبعون" التوشيح" وهو أن يكون فى صدر الكلام ما يدل على القافية، كذا سماه العسكرى، وهذا هو الإرصاد إلا أن فيه قيد الدلالة بصدر الكلام، والإرصاد أعم من ذلك. التكرار: الثانى والسبعون" التكرار" وقد تقدم فى الإطناب. المراجعة: الثالث والسبعون" المراجعة" وهى حكاية محاورة بين المتكلم وغيره، وهو أعم من الإلجاء السابق، كقول وضاح اليمن:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: ألا لا تلجن دارنا … إن أبانا رجل غائر أما رأيت الباب من دوننا … قلت: فإنى واثب ظافر قالت: فإنى الليث عادية … قلت: وسيفى مرهف باتر قالت: أليس البحر من دوننا؟ … قلت: فإنى سابح ماهر قالت: أليس الله من فوقنا؟ … قلت: بلى وهو لنا غافر قالت: فإما كنت أعييتنا … فأت إذا ما هجع السامر واسقط علينا كسقوط الندى … ليلة لا ناه ولا آمر (¬1) التذييل: الرابع والسبعون" التذييل" وقد تقدم فى الإطناب. الاعتراض: الخامس والسبعون" الاعتراض" وقد سبق فى المعانى. المتابعة: السادس والسبعون" المتابعة" وهى إثبات الأوصاف فى اللفظ على ترتيب وقوعها، كقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ (¬2) وقول زهير: يؤخّر فيوضع فى كتاب فيدّخر … ليوم الحساب أو يعجّل فينقم (¬3) التعريض: السابع والسبعون" التعريض" وهو الدلالة بالمفهوم بقصد المتكلم. ¬

_ (¬1) الأبيات من السريع، وهى لوضاح اليمن فى الأغانى (6/ 229)، مع اختلاف فى اللفظ، وزيادة فى الأبيات، والمصباح (ص 265) باختلاف فى اللفظ وزيادة فى الأبيات، والطراز (3/ 152) وهى بلفظ المصنف مع إبدال (وسيفى) من البيت الثالث ب (فسيفى). (¬2) سورة غافر: 67. (¬3) البيت من الطويل، وهو لزهير بن أبى سلمى فى معلقته كما فى شرح المعلقات العشر (ص 83 / الكتب العلمية)، وشرح المعلقات السبع (ص 65).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ التهكم: الثامن والسبعون" التهكم" وقد سبق فى الاستعارة التهكمية. الائتلاف: التاسع والسبعون" الائتلاف" وهو أنواع منها ائتلاف اللفظ والمعنى، وهو أن تكون الألفاظ تليق بمقصود الكلام، فللمعنى الرشيق اللفظ الرقيق، وللمعنى المفخم اللفظ الجزل، ومنها" ائتلاف اللفظ مع اللفظ"، وهو أن يختار من الألفاظ التى يعبر بها عن معنى ما بينه وبين بعض الألفاظ المذكورة ائتلاف، كقول البحترى: كالقسىّ المعطفات (¬1) البيت السابق فى مراعاة النظير، ومنها" ائتلاف المعنى" بالمعنى وهو اشتمال الكلام على معنى معه أمر ملائم له وأمر مخالف، فتقربه بالملائم، أو يكون الأمران ملائمين، فيقرب به منهما ما هو أكثر ملاءمة له، كما فى تشابه الأطراف، ومنه قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (¬2) فإنه لم يراع مناسبة الرى للشبع، والاستظلال للبس فى نوع المنفعة، بل روعى مناسبة اللبس للشبع، والاستظلال للرى فى كونهما تابعين للبس والشبع ومكملين لمنافعهما، إذ رعاية ذلك أدخل فى حسن الوعد، والامتنان بذكر أصول النعم، ثم توابعها، ومنها" ائتلاف اللفظ والمعنى مع الوزن" وهو نوعان: الأول: أن يأتى باللفظ من غير حاجة إلى تقديم وتأخير يمتنع مثله فى الشعر، ولا إلى زيادة ونقصان والثانى: أن يؤتى به مع الوزن من غير حاجة إلى إخراج المعنى عن وجه الصحة، ومنها" ائتلاف القافية أو الفاصلة بسائر الآية أو البيت"، كما فى تشابه الإرصاد، وقد يقال: إن هذا من الإرصاد. ومنها" الائتلاف مع الاختلاف" وهو ضربان: الأول أن تكون المؤتلفة بمعزل عن المختلفة، كما فى قول الشاعر: أبى القلب أن يأتى السدير وأهله … وإن قيل عيش بالسدير غزير به البق والحمى وأسد تحفه … وعمرو بن هند يعتدى ويجور (¬3) ¬

_ (¬1) سبق كما أشار المصنف فى مراعاة النظير. (¬2) سورة طه: 118، 119. (¬3) البيتان من الطويل، وهما لسويد بن حذاق فى شرح عقود الجمان (2/ 170)، والمصباح (ص 259)، وبلا نسبة فى الطراز (3/ 151).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانى ما كانا متداخلين، كقوله: وصالكم هجر وحبكم قلى … وعطفكم صد وسلمكم حرب (¬1) الخطاب العام: الثمانون" الخطاب العام" وقد تقدم ذكره فى علم المعانى، والمقصود منه أن يخاطب به غير معين، إيذانا بأن الأمر لعظمته حقيق بأن لا يخاطب به أحد، دون أحد كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ (¬2) وقوله صلّى الله عليه وسلّم: بشر المشائين فى الظلم (¬3) وربما يخاطب واحد، بالتثنية كقوله: خليلىّ مرّا بى على أم جندب (¬4) قال الطيبى: والمراد به عموم استغراق الجنس فى المفرد، فهو كالألف واللام الداخلة على اسم الجنس. قال: وتسميته خطابا عاما مأخوذ من قول صاحب الكشاف:" ما أصابك يا إنسان" خطاب عام. التغليب: الحادى والثمانون" التغليب" ويسمى ترجيح أحد المعلومين على الآخر، وقد تقدم شئ من التغليب فى المعانى، وتقدم أن ابن الحاجب قال: من شرطه تغليب الأدنى على الأعلى، كالقمرين، لأن القمر أضعف نورا من الشمس، وجعل الشمس قمرا لا بدع فيه، بخلاف العكس، وكذلك" العمران" لأن جميع فضل عمر فى أبى بكر، وأبو بكر أفضل رضى الله عنهما وقد عكس الطيبى هذا فقال: هو أن تضع أدنى الشيئين موضع أعلاهما، وما قاله ابن الحاجب أسد وأسلم، وقد جعل من ترجيح أحد ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو للعباس بن الأحنف فى العمدة لابن رشيق (2/ 22)، والطراز (3/ 151)، وعقود الجمان (2/ 170)، والمصباح (ص 259)، والمثل السائر (3/ 170). (¬2) سورة الأنعام: 27. (¬3) " صحيح" أخرجه أبو داود والترمذى عن بريدة، وابن ماجه والحاكم عن أنس وعن سهل بن سعد وانظر صحيح الجامع (ح 2823). (¬4) هذا صدر بيت من الطويل، وعجزه: لتقضى لبانات الفؤاد المعذب وهو لامرئ القيس فى ديوانه (ص 29 / الكتب العلمية)، والأشباه والنظائر (8/ 85)، والمصباح (ص 269) وعجزه فيه: نقص لبانات الفؤاد المعذب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمرين على الآخر: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (¬1) تغليبا للمخاطبين على الغائبين، وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (¬2) وإن كانا إنما يخرجان من الملح. اللغز: الثانى والثمانون" اللغز" ويسمى" الأحجية" و" المعمى" وهو قريب من التورية، وأمثلته لا تكاد تنحصر، وفيه مصنفات للناس. الإبداع: الثالث والثمانون" الإبداع" وهو ما يبتدع عند الحوادث المتجددة، كالأمثال التى تخترع وتضرب عند الوقائع. الكلام الجامع: الرابع والثمانون" الكلام الجامع" وهو أن يجئ المتكلم مثلا فى كلامه بشئ من الحكمة والموعظة، أو شكاية الزمان أو الأحوال، وأمثلته كثيرة. إرسال المثل: الخامس والثمانون" إرسال المثل" وهو أن يورد المتكلم - مثلا - فى كلامه وقد عرف ذلك فى علم البيان فى مجاز التمثيل. الترقى: السادس والثمانون" الترقى" وهو أن يذكر معنى، ثم يردف بأبلغ منه، كقولك: " عالم نحرير وشجاع باسل" وهذا قد يدخل فى بعض أقسام الإطناب. الاقتباس: السابع والثمانون" الاقتباس" وسيأتى فى كلام المصنف. المواربة: الثامن والثمانون" المواربة" بالراء المهملة من الأرب، وهو الحاجة والعقل، وقيل: من ورب العرق إذا فسد، وهو أن يقول الإنسان كلاما يتوجه عليه فيه المؤاخذة، فإذا أنكر عليه شخص، استحضر بعقله ما يتخلص به، بتحريف كلمة أو تصحيفها أو زيادة أو نقص، أو غير ذلك، كقول أبى نواس فى خالصة جارية الرشيد: ¬

_ (¬1) سورة النمل: 55. (¬2) سورة الرحمن: 22.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ لقد ضاع شعرى على بابكم … كما ضاع عقد على خالصه (¬1) فلما بلغ الرشيد وأنكر عليه قال: إنما قلت: ضاء فقال بعض الحاضرين: هذا بيت ذهبت عيناه فأبصر. الهجاء فى المدح: التاسع والثمانون" الهجاء فى معرض المدح" وهو أن يهجو بألفاظ ظاهرها المدح وباطنها القدح وهذا يدخل فى قسم التوجيه، كقوله: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة … ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأنّ ربك لم يخلق لخشيته … سواهم من جميع الناس إنسانا (¬2) التخيير: التسعون" التخيير" وهو البيت يأتى على قافية مع كونه يسوغ أن يقفى بقواف كثيرة، كقول ديك الجن: قولى لطيفك ينثنى … عن مضجعى عند المنام فعسى أنام فتنطفى … نار تأجج فى العظام جسد تقلبه الأكف … على فراش من سقام أما أنا فكما علم … ت فهل لوصلك من دوام (¬3) فإنه يصلح مكان" منام"" رقاد" هجوع هجود وسن، ومكان" عظام"" فؤاد" ضلوع كبود بدن، ومكان" سقام"" قتاد" دموع وقود حزن، ومكان" دوام"" معاد" رجوع وجود ثمن. حصر الجزئى فى الكلى: الحادى والتسعون" حصر الجزئى فى الكلى، وغير ذلك" المراد منه، ما يتعلق بكيفية الابتداء والتخلص والانتهاء. ¬

_ (¬1) البيت من المتقارب، وهو لأبى نواس فى عقود الجمان (2/ 116)، وما أجده فى ديوانه ط دار العرب. (¬2) البيتان من البسيط، هما للحماسى فى شرح عقود الجمان (2/ 118). (¬3) الأبيات من مجزوء الكامل، وهى لديك الجن الحمصى فى عقود الجمان (2/ 168) وفيه (وتنظفى) بدلا: (فتنطفى)، (فى عظام) بدلا من: (فى العظام).

خاتمة: فى السرقات الشعرية

خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة ، وما يتّصل بها، وغير ذلك: اتفاق القائلين إن كان فى الغرض على العموم - كالوصف بالشجاعة، والسخاء، ونحو ذلك - فلا يعدّ سرقة؛ لتقرّره فى العقول والعادات. وإن كان فى وجه الدّلالة؛ كالتشبيه، والمجاز، والكناية، وكذكر هيئات تدلّ على الصفة؛ لاختصاصها بمن هى له - كوصف الجواد بالتهلّل عند ورود العفاة، والبخيل بالعبوس مع سعة ذات اليد -: فإن اشترك الناس فى معرفته لاستقراره فيهما (¬1)؛ كتشبيه الشجاع بالأسد، والجواد بالبحر، فهو كالأول؛ وإلّا جاز أن يدّعى فيه السبق والزيادة. وهو (¬2) ضربان؛ خاصّىّ فى نفسه غريب، وعامى تصرّف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة؛ كما مر. ـــــــــــــــــــــــــــــ خاتمة فى السرقات الشعرية وما يتصل بها وغير ذلك أما ما يتعلق بالسرقات الشعرية وأنواعها، فلا شك أن القائلين إذا اتفقا، فإما أن يكون اتفاقهما فيما يشترك الناس فيه، وهو المراد بقوله:" فى الغرض على العموم" كالوصف بالشجاعة والسخاء والبلادة والذكاء، فذلك لا يسمى سرقة. قوله: (فلا يعد) فيه نظر، لإدخال" الفاء" على" لا" يعد سرقة، وهو جواب شرط لا يدخل على مثله" الفاء". ثم يصير معناه اتفاق القائلين لا يعد سرقة، وهو فاسد، فإن الاتفاق لا يمكن أن يكون سرقة، بل السرقة أخذ أحدهما من الآخر (لتقرره) أى مثل ذلك (فى العقول والعادات) يشترك فيها الفصيح والأعجم (وإن كان) أى الاتفاق (فى وجه الدلالة) فذلك أقسام: منها التشبيه بما توجد الصفة فيه، على الوجه البليغ، على ما سبق فى البيان، ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة، لاختصاصها بمن هى له، هذه عبارة المصنف، وصوابه العكس، وهو أن يقال: لاختصاص من هى له (كوصف الجواد بالتهلل عند ورود العفاة) عليه (والبخيل بالعبوس، مع سعة ذات اليد، فإن اشترك الناس فى معرفته لاستقراره فيها) أى فى العقول (كتشبيه الشجاع بالأسد، والجواد بالبحر) والبليد بالحمار (فهو كالأول) وإن كان مما لا ينال إلا بفكر، ولا يصل إليه كل أحد، فهذا هو الذى يجوز أن يدعى فيه سبق المتقدم المتأخر، وزيادة المتأخر على المتقدم، وهو ضربان: أحدهما - ما كان خاصيا غريبا فى أصله - والثانى - عامى تصرف فيه بما أخرجه من الابتداء والظهور والسذاجة، إلى خلاف ذلك من الغرابة، كما مرت أمثلة القسمين فى التشبيه والاستعارة، إذا عرف ذلك. ¬

_ (¬1) أى فى العقول والعادات، وقد تصحفت إلى (فيها). (¬2) يعنى النوع الذى لم يشترك الناس فى معرفته.

فالسرقة والأخذ نوعان: ظاهر، وغير ظاهر. أما الظاهر: فهو أن يؤخذ المعنى كلّه، إمّا مع اللفظ كلّه، أو بعضه، أو وحده: فإن أخذ اللفظ كلّه من غير تغيير لنظمه: فهو مذموم؛ لأنه سرقة محضة، ويسمى نسخا وانتحالا؛ كما حكى عن عبد الله بن الزبير أنه فعل ذلك بقول معن بن أوس (¬1) [من الطويل]: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته … على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه … إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل ـــــــــــــــــــــــــــــ فالأخذ والسرقة نوعان: ظاهر، وغير ظاهر الأخذ الظاهر. الأخذ الظاهر: أما الظاهر، فأن يؤخذ المعنى كله إما مع اللفظ كله أو بعضه، أو وحده. (فإن أخذ اللفظ كله من غير تغيير لنظمه، فهو مذموم، لأنه سرقة محضة، ويسمى نسخا وانتحالا) ومغالبة، كما حكى أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية، فأنشد قول أبى نواس: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته … على طرف الهجران إن كان يعقل (¬2) ويركب حدّ السيف من أن تضيمه … إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل فقال له معاوية: لقد شعرت بعدى، ولم يفارق عبد الله المجلس، حتى دخل معن ابن أوس، فأنشده كلمته التى أولها: لعمرك ما أدرى وإنى لأوجل … على أينا تعدو المنية أول (¬3) ¬

_ (¬1) حكى أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده هذين البيتين، فقال له معاوية: لقد شعرت بعدى يا أبا بكر، ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزنى، فأنشد قصيدته التى أولها: لعمرك وما أدرى وإنى لأوجل على أينا تعدو المنية أول حتى أتمها، وفيها هذان البيتان، فأقبل معاوية على ابن الزبير وقال: ألم تخبرنى أنهما لك فقال: اللفظ له والمعنى لى، وبعد فهو أخى من الرضاعة، وأنا أحق بشعره. (¬2) البيتان من الطويل، وهما من إنشاد عبد الله بن الزبير وإنشاد ابن أوس فى شرح عقود الجمان (2/ 178)، والإشارة (ص 306). (¬3) البيت من الطويل، وهو لمعن بن أوس فى شرحه (ص 39)، وخزانة الأدب (8/ 244، 245، 289، 294)، وشرح التصريح (2/ 51)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى (ص 1126)، ولسان العرب (كبر)، (وجل)، والمقاصد النحوية (3/ 493)، وتاج العروس (وجل)، وشرح عقود الجمان (2/ 178) وفيه (لا) بدلا من (ما).

وفى معناه: أن يبدل بالكلمات كلّها أو بعضها ما يرادفها. وإن كان مع تغيير لنظمه أو أخذ بعض اللفظ، سمّى: إغارة ومسخا. فإن كان الثانى أبلغ؛ لاختصاصه بفضيلة: فممدوح؛ كقول بشّار [من البسيط]: من راقب النّاس لم يظفر بحاجته … وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى أنشده ما أنشده عبد الله، فأقبل معاوية على عبد الله، وقال: ألم تخبرنى أنهما لك؟ فقال: المعنى لى واللفظ له، وبعد فهو أخى من الرضاعة وأنا أحق بشعره. قلت: والذى يتفق له ذلك إن ادعى أن هذا النظم له كان كاذبا، وإن لم يدع، فهذا ليس بسرقة بالكلية (وفى معناه) أى معنى ما أخذ اللفظ كله مع المعنى وكان مذموما (أن يبدل بالكلمات، أو بعضها ما يرادفها) لأن المترادفين كاللفظ الواحد، كقول امرئ القيس: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم … يقولون: لا تهلك أسى وتجمّل (¬1) وقول طرفة: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم … يقولون: لا تهلك أسى وتجلّد (¬2) قلت: وفى تسميته سرقة نظر، فإن الظاهر أن هذا من تطابق الخواطر والتوارد، إلا أن ابن السكيت عده فى السرقات. قوله: (وإن كان) أى ذلك الأخذ (مع تغيير لنظمه أو أخذ) المعنى مع (بعض اللفظ سمى) ذلك اللفظ (إغارة ومسخا)، ومنهم من جعل المسخ إعارة الصورة الحسنة قبيحة، والمشهور الأول وإذا قلنا به (ف) ذلك قسمان: (إن كان الثانى) أى كلام السارق (أبلغ) من الأول، أى المسروق منه (لاختصاصه) أى اختصاص الثانى (بفضيلة) كالإيضاح، أو الاختصار، أو حسن السبك أو زيادة معنى، (ف) هو (ممدوح) أى مقبول (كقول بشار) أولا: من راقب الناس لم يظفر بحاجته … وفاز بالطيبات الفاتك اللهج (¬3) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه (ص 111 / الكتب العلمية)، وشرح المعلقات السبع (ص 5)، وشرح المعلقات العشر (ص 58)، وبلا نسبة فى رصف المبانى (ص 268)، والطراز (3/ 191). (¬2) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد فى معلقته، المعلقات السبع (ص 35)، والمعلقات العشر (ص 69)، والطراز (3/ 191). (¬3) البيت من البسيط، وهو لبشار بن برد فى الأغانى (3/ 196)، (19/ 278، 279، 280)، وشرح عقود الجمان (2/ 178)، والإشارات (ص 309).

وقول سلم [من مخلّع البسيط]: من راقب النّاس مات غمّا … وفاز باللذة الجسور وإن كان دونه: فمذموم، كقول أبى تمّام [من الكامل]: هيهات لا يأتى الزّمان بمثله … إنّ الزّمان بمثله لبخيل وقول أبى الطيب [من الكامل]: أعدى الزّمان سخاؤه فسخا به … ولقد يكون به الزّمان بخيلا ـــــــــــــــــــــــــــــ (وقول سلم) ثانيا: من راقب الناس مات غمّا … وفاز باللذّة الجسور (¬1) فإن الثانى أجود سبكا، وأوجز (وإن كان) الثانى (دونه) أى دون الأول (فهو مذموم) مردود، كقول أبى تمام: هيهات لا يأتى الزمان بمثله … إنّ الزّمان بمثله لبخيل (¬2) وقول أبى الطيب بعده: أعدى الزّمان سخاءه فسخا به … ولقد يكون به الزّمان بخيلا (¬3) أى تعلم الزمان منه السخاء، فجاد بأن أخرجه من العدم إلى الوجود، ولولا سخاؤه الذى استفاد منه لبخل به الزمان على أهل الدنيا، واستبقاء لنفسه، فبيت أبى تمام أجود سبكا، لأن بيت أبى الطيب احتاج فيه إلى أن وضع" يكون" موضع" كان"، وأجيب بجواز أن يريد أن الزمان قد يكون بخيلا به، فلا يوافق على هلاكه، ورد عليه بأن الزمان بعد أن سمح به لم يبق له فيه تصرف. وفيه نظر؛ لجواز أن يكون جاد بإبرازه ¬

_ (¬1) البيت من مخلع البسيط، وهو لسلم الخاسر فى الأغانى (3/ 196)، (7/ 72)، (19/ 278، 279، 280)، وشرح عقود الجمان (2/ 178)، والإشارات (ص 309) (¬2) البيت من الكامل (وهو لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 363)، والإشارات (ص 309)، وشرح عقود الجمان (2/ 179)، وفيه (أن يأتى). (¬3) فى ديوانه 1/ 190 من قصيدة مطلعها: فى الخد أن عزم الخليط رحيلا … مطر تزيد به الخدود محولا.

وإن كان مثله: فأبعد عن الذّم، والفضل للأوّل؛ كقول أبى تمام [من الكامل]: لو حار مرتاد المنيّة لم يجد … إلّا الفراق على النّفوس دليلا وقول أبى الطيب [من البسيط]: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت … لها المنايا إلى أرواحنا سبلا ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يسمح بعد ذلك بهلاكه. (وإن كان مثله) أى إن كان الثانى مثل الأول فى البلاغة والفضل (فأبعد من الذم) مما قبله، ولكن الفضل للسابق، كقول أبى تمام: لو حار مرتاد المنيّة لم يجد … إلا الفراق على النفوس دليلا (¬1) فإنه مثل قول أبى الطيب بعده: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت … لها المنايا إلى أرواحنا سبلا (¬2) كذا قالوه، والذى يظهر أن بيت أبى الطيب أحسن، لأنه أصرح فى المراد. قال فى الإيضاح: ومن هذا الضرب ما هو قبيح جدا، وهو ما يدل على السرقة باتفاق الوزن والقافية، كقول أبى تمام: مقيم الظن عندك والأمانى … وإن قلقت ركابى فى البلاد ولا سافرت فى الآفاق إلّا … ومن جدواك راحلتى وزادى (¬3) وقول أبى الطيب: وإنى عنك بعد غد لغاد … وقلبى عن فنائك غير غاد محبّك حيثما اتّجهت ركابى … وضيفك حيث كنت من البلاد (¬4) ¬

_ (¬1) البيت من الكامل، وهو لأبى تمام بلفظه فى عقود الجمان (2/ 179)، وشرح ديوانه (ص 228)، ولكن فيه (لو جاء)، بدلا من (لو حار). (¬2) البيت من البسيط، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (1/ 59)، وشرح عقود الجمان (2/ 179). (¬3) البيتان من الوافر، وهما لأبى تمام فى شرح ديوانه (ص 80)، بتقديم الثانى على الأول، وفيه (وما سافرت)، وشرح عقود الجمان (2/ 179)، والإشارات (ص 310). (¬4) البيتان من الوافر، وهما لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (1/ 133)، وشرح عقود الجمان (2/ 179)، وفيه: (وقلبى فى فتائك)، والإشارات (ص 311).

وإن أخذ المعنى وحده سمى: إلماما وسلخا، وهو ثلاثة أقسام كذلك: أولها: كقول أبى تمام [من الطويل]: هو الصّنع إن يعجل فخير وإن يرث … فللرّيث فى بعض المواضع أنفع وقول أبى الطيب [من الخفيف]: ومن الخير بطء سيبك عنّى … أسرع السّحب فى المسير الجهام وثانيها: كقول البحترى [من الكامل]: وإذا تألّق فى النّدىّ كلامه ال … مصقول خلت لسانه من عضبه (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن أخذ المعنى وحده) أى، ولم يؤخذ شئ من اللفظ (سمى إلماما وسلخا) من الإلمام، وهو اقتراف الصغائر أو مقاربة المعصية من غير وقوعها (وهو ثلاثة أقسام كذلك: أولها) أن يكون الثانى أبلغ بالفضل (كقول أبى تمام): هو الصنع إن يعجل فخير وإن يرث … فللريث فى بعض المواضع أنفع (¬2) فخير منه (قول أبى الطيب: ومن الخير بطء سيبك عنى … أسرع السّحب فى المسير الجهام) (¬3) فإنه اشتمل على زيادة التشبيه بالسحب، وأن السحب أسرعها جهام لا ماء فيه، (وثانيها) وهو ما كان الأول فيه أحسن (كقول البحترى: وإذا تألق فى الندى كلامه الم … صقول خلت لسانه من عضبه) (¬4) ¬

_ (¬1) العضب: السيف القاطع. (¬2) البيت من الطويل، وهو لأبى تمام فى عقود الجمان (2/ 179)، بلفظه ولكن فيه (تعجل)، و (ترث)، وهو فى شرح ديوانه (ص 181)، ولكن لفظه فيه: هو الصنع إن يعجل فنفع وإن ترث … فللريث فى بعض المواطن أسرع (¬3) البيت من الخفيف، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (1/ 210)، وشرح عقود الجمان (2/ 179). (¬4) البيت من الكامل، وهو للبحترى فى عقود الجمان (2/ 179).

وقول أبى الطيب [من البسيط]: كأنّ ألسنهم فى النّطق قد جعلت … على رماحهم فى الطّعن خرصانا (¬1) وثالثها: كقول الأعرابي [من الوافر]: ولم يك أكثر الفتيان مالا … ولكن كان أرحبهم ذراعا وقول أشجع [من المتقارب]: وليس بأوسعهم فى الغنى … ولكن معروفه أوسع وأما غير الظاهر: فمنه أن يتشابه المعنيان؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه خير من قول أبى الطيب: كأنّ ألسنهم فى النّطق قد جعلت … على رماحهم فى الطّعن خرصانا (¬2) فإن أبا الطيب فاته ما أفاده البحترى بقوله:" تألق" وقوله:" المصقول" من الترشيح (وثالثها) وهو ما كان الثانى فيه مثل الأول (كقول الأعرابى: ولم يك أكثر الفتيان مالا … ولكن كان أرحبهم ذراعا) (¬3) فإنه مثل (قول أشجع: وليس بأوسعهم فى الغنى … ولكن معروفه أوسع) (¬4) كذا قال المصنف، وقد يقال: الأول أحسن لسلامته من حذف المفضل عليه، والاستعارة للأرحب فيه، هذه أنواع الأخذ الظاهر. الأخذ غير الظاهر: ص: (وأما غير الظاهر إلخ). (ش): الأخذ غير الظاهر أنواع (فمنه أن يتشابه المعنيان) أى المعنى الأول، والمعنى الثانى (كقول جرير: ¬

_ (¬1) جمع خرص بالضم والكسر، وهو السنان. (¬2) البيت من البسيط، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (1/ 228)، وشرح عقود الجمان (2/ 179). (¬3) البيت من الوافر، وهو لأبى زياد الأعرابى فى شرح عقود الجمان (2/ 179)، الإشارات (ص 312) وصدره فيها: وما إن كان أكثرهم سواما. (¬4) البيت من المتقارب، وهو لأشجع بن عمرو السلمى فى الأغانى (18/ 233)، وشرح عقود الجمان (2/ 179)، والإشارات (ص 312).

كقول جرير [من الوافر]: فلا يمنعك من أرب لحاهم … سواء ذو العمامة والخمار وقول أبى الطيب [من الوافر]: ومن فى كفّه منهم قناة … كمن فى كفّه منهم خضاب (¬1) ومنه: النقل؛ وهو: أن ينقل المعنى إلى معنى آخر؛ كقول البحترى [من الكامل] سلبوا وأشرقت الدّماء عليهم … محمرّة فكأنّهم لم يسلبوا وقول أبى الطيب [من الكامل]: يبس النّجيع عليه وهو مجرّد … من غمده فكأنّما هو مغمد ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يمنعك من أرب لحاهم … سواء ذو العمامة والخمار (¬2) وقول أبى الطيب: ومن فى كفّه منهم قناة … كمن فى كفّه منهم خضاب) (¬3) فكل من البيتين يدل على عدم المبالاة بالرجال، إلا أنهما مختلفان، لأن الأول دل على مساواة النساء للرجال، والثانى دل على تشبيه الرجال بالنساء، فهو معنى غير الأول والأول أبلغ منه، لما تقدم من أن التشابه وهو التساوى أبلغ من التشبيه، الذى هو إلحاق الناقص بالزائد. (ومنه أن ينقل المعنى إلى محل آخر) كقول البحترى: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم … محمرة فكأنهم لم يسلبوا (¬4) وقول أبى الطيب: يبس النجيع عليه وهو مجرد … من غمده فكأنما هو مغمد (¬5) ¬

_ (¬1) القناة: الرمح. (¬2) البيت من الوافر، وهو لجرير فى شرح ديوان جرير (ص 147)، ومطلعه" ولا تمنعك"، وشرح عقود الجمان (2/ 180). (¬3) البيت من الوافر، وهو لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه (2/ 137)، وشرح عقود الجمان (2/ 180). (¬4) انظر عقود الجمان (ص 2/ 180)، وهو للبحترى والتنبيهات، والإشارات 2/ 313. (¬5) الإشارات والتنبيهات/ 313، والبيت لأبى الطيب المتنبى، وشرح عقود الجمان (ص 2/ 180)، وبلفظ" ليس" بدلا من" يبس".

ومنه: أن يكون الثانى أشمل؛ كقول جرير [من الوافر]: إذا غضبت عليك بنو تميم … وجدت النّاس كلّهم غضابا وقول أبى نواس [من السريع]: وليس على الله بمستنكر … أن يجمع العالم فى واحد ومنه: القلب؛ وهو أن يكون معنى الثانى نقيض معنى الأوّل؛ كقول أبى الشّيص [من الكامل]: أجد الملامة فى هواك لذيذة … حبّا لذكرك فليلمنى اللّوّم ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه أخذ معنى بيت البحترى ونقله إلى السيف (ومنه) أى من غير الظاهر (أن يكون معنى الثانى أشمل) من الأول (كقول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم … وجدت النّاس كلّهم غضابا (¬1) وقول أبى نواس: وليس على الله بمستنكر … أن يجمع العالم فى واحد) (¬2) فالثانى أشمل، لأن الأول دل على الاختصاص بحالة الغضب كذا قيل، وفيه نظر لأنهم إذا كانوا هم جميع الناس فى حال الغضب، كانوا جميع الناس فى كل حال. وقيل: لأن الأول خاص ببنى تميم، والثانى شامل لهم ولغيرهم، وهو فاسد، لأن المراد بالواحد فى الثانى واحد معين خاص، والأحسن أن يقال: الثانى شامل، لأن العالم أشمل من الناس، لأنه كل موجود حادث، والذى يظهر أن يقال: الثانى أبلغ، باعتبار أنه صريح فى أن الناس كلهم ذلك الواحد، بخلاف الأول، فإنه لا يلزم من غضب الناس كلهم لغضب بنى تميم، أن يكونوا هم جميع الناس؛ لجواز أن يريد أن الناس تبع لهم، يغضبون لغضبهم، لكن التعبير عن هذا بأنه أشمل فيه تعسف. ومنه - أيضا - القلب، هو أن يكون المعنى الثانى نقيض المعنى الأول، لقلب المعنى إلى نقيضه، فهو مأخوذ من نقيضه، كقول أبى الشيص: أجد الملامة فى هواك لذيذة … حبا لذكرك فليلمنى اللّوّم (¬3) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر انظر ديوانه ص 62، والإشارات والتنبيهات ص 313، وشرح عقود الجمان (ص 2/ 180). (¬2) البيت من المديد لأبى الشيص، انظر الإشارات والتنبيهات/ 314، وشرح عقود الجمان (2/ 180). (¬3) البيت من الكامل لأبى الشيص انظر شرح عقود الجمان (ص 2/ 180)، والإشارات والتنبيهات/ 314.

وقول أبى الطيب [من الكامل]: أأحبّه وأحبّ فيه ملامة … إنّ الملامة فيه من أعدائه ومنه: أن يؤخذ بعض المعنى، ويضاف إليه ما يحسّنه؛ كقول الأفوه [من الرمل]: وترى الطّير على آثارنا … رأى عين ثقة أن ستمار وقول أبى تمام [من الطويل]: وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى … بعقبان طير فى الدّماء نواهل أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها … من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل ـــــــــــــــــــــــــــــ وقول أبى الطيب: أأحبّه وأحبّ فيه ملامة … إنّ الملامة فيه من أعدائه (¬1) فبيت المتنبى وأبى الشيص متناقضان، لأن أبا الشيص صرح بحب الملامة، والمتنبى نفى حبها بهمزة الإنكار بقوله:" أأحبه وأحب فيه ملامة" وقد يقال: المنكر بهمزة الإنكار ما وليها، والذى وليها حبه وهو غير منكر، وجوابه أن المعنى: أأجمع بين الأمرين مثل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (¬2) أو يقال: التقدير:" وأنا أحب" ويكون جملة حالية، وإنما قدرنا" أنا" لأن المضارع المثبت لا يقع حالا بالواو. (ومنه أن يؤخذ بعض المعنى السابق، ويضاف إليه (ما) يحسنه، كقول الأفوه: وترى الطّير على آثارنا … رأى عين ثقة أن ستمار (¬3) وقول أبى تمام (¬4): وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى … بعقبان طير فى الدماء نواهل أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها … من الجيش إلا أنّها لم تقاتل ¬

_ (¬1) البيت من الكامل لأبى الطيب، الإشارات ص 314، وشرح عقود الجمان (ص 2/ 180). (¬2) سورة البقرة: 44. (¬3) البيت من الكامل للأفوه انظر الإشارات والتنبيهات ص 314، وشرح عقود الجمان (2/ 180). (¬4) البيت من الطويل لأبى تمام ص 233، والإشارات والتنبيهات ص 314، وشرح عقود الجمان (2/ 180).

فإنّ أبا تمّام لم يلمّ بشئ من معنى قول الأفوه: رأى عين خ خ، وقوله: ثقة أن ستمار خ خ، ولكن زاد عليه بقوله: إلا أنها لم تقاتل خ خ، وبقوله: فى الدماء نواهل خ خ، وبإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش، وبها يتمّ حسن الأول. وأكثر هذه الأنواع ونحوها مقبولة، بل منها ما يخرجه حسن التصرّف من قبيل الاتّباع إلى حيّز الابتداع، وكلّما كان أشدّ خفاء كان أقرب إلى القبول. هذا كلّه إذا علم أن الثانى أخذ من الأوّل؛ لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخواطر، أى: مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد للأخذ. فإذا لم يعلم، قيل: قال فلان كذا، وسبقه إليه فلان، فقال كذا. وما يتصل بهذا: القول فى الاقتباس، والتضمين، والعقد، والحلّ، والتلميح: ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أبا تمام) أسقط بعض معنى بيت الأفوه ف (لم يلم بشئ من معنى قوله: رأى عين) الدال على قربها (ولا من) معنى (قوله: ثقة أن ستمار) الدال على التأكيد (لكن زاد عليه بقوله: إلا أنها لم تقاتل) الدال على أن لها قدرة على القتال (وبقوله: فى الدماء نواهل وبإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش وبها) أى بهذه الزيادات (يتم حسن) المعنى (الأول) المأخوذ أو بها يتم حسن قوله: إلا أنها لم تقاتل، ثم قال المصنف: (وأكثر هذه الأنواع) وهى خمسة (ونحوها) مما فيه نكتة غير ما ذكره (مقبولة) أنثه باعتبار المعنى، أو بإضافة الأكثر للجمع، ومن نحوها الاحتذاء، وهو أن يبتدئ المتكلم أسلوبا، فيعمد غيره إلى ذلك الأسلوب، من غير أن يأخذ لفظا ولا معنى، كمن يقطع من الأديم نعلا على قياس نعل صاحبه. (بل منها ما يخرجه حسن التصرف من قبيل الاتباع) أى الأخذ (إلى حيز الابتداع) أى الاختراع (وكل ما كان أشد خفاء) من واحد من هذه الأنواع، ونحوها، (كان أقرب إلى القبول هذا كله) من أقسام الأخذ والسرقة بجميع أنواعها، إنما هو (إذا علم أن الثانى أخذ من الأول)، ولا يعلم ذلك إلا بإقراره. وقوله: (لجواز) يتعلق بمحذوف، أى ولا يجوز الحكم بذلك ابتداء لجواز، (أن يكون الاتفاق) أى اتفاق القائلين فى اللفظ أو فى المعنى (من) قبيل (توارد الخواطر) أى مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الأخذ، فإذا لم يعلم الأخذ قيل: قال فلان: كذا، وقد سبقه إليه فلان، فقال كذا. ما يتصل بالسرقات: ص: (ومما يتصل بهذا إلخ). (ش): أى مما يتصل بالكلام فى السرقات بمناسبة له (الاقتباس، والتضمين، والعقد، والحل، والتلميح.

الاقتباس

الاقتباس أما الاقتباس: فهو أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه؛ كقول الحريرىّ: فلم يكن إلّا (كلمح البصر أو هو أقرب) (¬1)، حتى أنشد فأغرب خ خ، وقول الآخر [من السريع]: إن كنت أزمعت على هجرنا … من غير ما جرم فصبر جميل (¬2) وإن تبدّلت بنا غيرنا … فحسبنا الله ونعم الوكيل (¬3) وقول الحريرىّ: قلنا شاهت الوجوه (¬4) وقبّح اللّكع ومن يرجوه خ خ، ـــــــــــــــــــــــــــــ الاقتباس: أما الاقتباس، فهو: مأخوذ من اقتباس الضوء، وهو (أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث) النبوى على قائله أفضل الصلاة والسّلام، والمراد بتضمينه أن يذكر كلاما وجد نظمه فى القرآن، أو السنة مرادا به غير القرآن فلو أخذ مرادا به القرآن، لكان ذلك من أقبح القبيح، ومن عظام المعاصى، نعوذ بالله منه، وهذا هو معنى قول المصنف: (لا على أنه منه) أى من القرآن أو الحديث، وقد مثله المصنف بقول الحريرى فلم يكن: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ حتى أنشد فأغرب، وكقوله - أيضا: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ (¬5) وأبين صحيح القول من عليه، وقول الآخر: إن كنت أزمعت على هجرنا … من غير ما جرم فصبر جميل وإن تبدّلت بنا غيرنا … فحسبنا الله ونعم الوكيل (¬6) فإن آخر البيتين مقتبس، وكقول الحريرى:" قلنا شاهت الوجوه وقبح اللكع" أى الفاسق أو اللئيم أو العبد، ومن يرجوه،" فشاهت الوجوه" مقتبس من كلام النبى صلّى الله عليه وسلّم حين رمى يوم حنين" كفا من الحصباء" وقال ذلك ومنه - أيضا - قول ابن عباد: ¬

_ (¬1) اقتباس من سورة النحل: 77. (¬2) اقتباس من سورة يوسف: 18. (¬3) اقتباس من سورة آل عمران: 173. (¬4) هذا من قول النبى صلّى الله عليه وسلّم للمشركين يوم حنين، وهو حديث طويل رواه مسلم فى صحيحه كتاب الجهاد باب 81 (غزوة حنين). وأخرجه أحمد وغيره. (¬5) سورة يوسف: 45. (¬6) البيت من بحر الرجز لأبى القاسم بن الحسين الكاتبى، انظر شرح عقود الجمان (2/ 184).

وقول ابن عباد (¬1) [من مجزوء الرمل]: قال لى: إنّ رقيبى … سيّئ الخلق فداره قلت: دعنى وجهك الج … نّة حفّت بالمكاره (¬2) وهو ضربان؛ ما ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلى كما تقدّم، وخلافه كقوله (¬3) [من الهزج]: لئن أخطأت فى مدحي … ك ما أخطأت فى منعى لقد أنزلت حاجاتى … بواد غير ذى زرع ـــــــــــــــــــــــــــــ قال لى إن رقيبى … سيّئ الخلق فداره قلت دعنى وجهك الج … نة حفت بالمكاره فإنه مقتبس من قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: حفت الجنة بالمكاره (¬4) قيل: وقد يكون الاقتباس بتضمين شئ من الفقه، أو الأثر، أو الحكمة. فالفقه كما روى عن الشافعى، ولم يصح عنه: خذوا بدمى هذا الغزال فإنه … رمانى بسهمى مقلتيه على عمد ولا تقتلوه إننى أنا عبده … ولم أر حرا قط يقتل بالعبد وفيه نظر، لأن هذا أولى بأن يعد من التلميح، وأما أخذ الأثر فهو من العقد، وسيأتى، وقد يقال: القسم الذى قبله - أيضا - من العقد. (ثم الاقتباس نوعان): أحدهما (ما لم ينقل فيه المقتبس عن معناه الأصلى) قبل الاقتباس إلى معنى غيره، كالأمثلة السابقة (و) الثانى (خلافه)، وهو ما نقل عن معناه قبل الاقتباس، كقول ابن الرومى: لئن أخطأت فى مديحك … ما أخطأت فى منعى لقد أنزلت حاجاتى … بواد غير ذى زرع ¬

_ (¬1) أوردهما الطيبى فى التبيان 2/ 455 بتحقيقى، وعزاهما للصاحب. (¬2) جزء من حديث صحيح رواه البخارى فى الفتن باب 2، والأحكام 43، ومسلم فى الإمارة 34، 41، 42 وغيرهما. (¬3) أوردهما الجرجانى فى الإشارات ص 316، وهما لابن الرومى. وقوله: بواد غير ذى زرع اقتباس من سورة إبراهيم آية 37. (¬4) الحديث أخرجه مسلم فى صحيحه" كتاب الجهاد والسير"، باب: فى غزوة حنين، (ح 1777) من حديث سلمة بن الأكوع.

التضمين

ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره؛ كقوله [من مخلّع البسيط]: قد كان ما خفت أن يكونا … إنّا إلى الله راجعونا التضمين وأمّا التضمين: فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير، مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (¬1) مقتبس من القرآن الكريم، ونقل عن معناه وهو حقيقة الوادى إلى معنى مجازى، (ولا بأس) فى الاقتباس (بتغيير يسير للوزن أو غيره، كقوله) أى بعض المغاربة عند موت بعض أصحابه: قد كان ما خفت أن يكونا … إنّا إلى الله راجعونا (¬2) وفى تسمية هذا اقتباسا نظر، لأن هذا اللفظ ليس فى الأصل من القرآن، والورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله وكلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا سيما إذا أخذ شئ من القرآن الكريم وجعل بيتا أو مصراعا، فإن فى ذلك من الإساءة ما لا يناسب المتقين، كقوله: كتب المحبوب سطرا … فى كتاب الله موزون لن تنالوا البر حتى … تنفقوا مما تحبون (¬3) وقوله: قراءة لعاصم … لغيرها موافقه إن نعف عن طائفة … منكم نعذب طائفه التضمين: ص: (وأما التضمين إلخ). (ش): أى التضمين أن تجعل فى ضمن الشعر شيئا من شعر غيرك، ولو بعض مصراع، فإن كان مشهورا، فشهرته تغنى عن التنبيه عليه، وإن لم يك مشهورا، فلينبه عليه خوفا أن يظن به السرقة، بذكر ما يدل على نسبته لقائله، كقوله أى الحريرى: ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 37، (¬2) الاقتباس من الآية 156 من سورة البقرة. والصحيح أن البيت لأبى تمام. قاله عند موت ابنه، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات 316 وعزاه لبعض المغاربة، والإيضاح بتحقيقى ص: 361. (¬3) البيت فى شرح عقود الجمان (2/ 186).

كقوله [من الوافر]: على أنّى سأنشد عند بيعى … أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا؟ وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة؛ كالتورية والتشبيه فى قوله [من الطويل]: إذا الوهم أبدى لى لماها وثغرها … تذكّرت ما بين العذيب وبارق ويذكرنى من قدّها ومدامعى … مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق ولا يضرّ التغيير اليسير. وربّما سمى تضمين البيت فما زاد: استعانة، ـــــــــــــــــــــــــــــ على أنّى سأنشد عند بيعى … أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا (¬1) فإن النصف الثانى قيل: للعرجى، وقيل: لأمية بن أبى الصلت وتمامه: ليوم كريهة وسداد ثغر (¬2) فقد نبه على تضمينه بقوله: أنشد، فإن الإنشاد إنما يكون لشئ قد سبق نظمه، وقوله:" تضمين شئ من شعر الغير" فيه نظر، فإنه ربما ضمن الإنسان شعره شيئا نظمه من شعر سابق ولا يشترط فى التضمين أن يكون بعض بيت، فربما ضمنت القصيدة البيت، أو البيتين من شعر الغير. (وأحسنه) أى التضمين (ما زاد) وينبغى أن يقول: ما زاد فيه المضمن، (على الأصل بنكتة، كالتورية، والتشبيه فى قوله) أى صاحب التحبير: إذا الوهم أبدى لى لماها وثغرها … تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرنى من قدها ومدامعى … مجرى عوالينا ومجرى السوابق (¬3) فإن المصراعين الثانيين لأبى الطيب، وقد زاد عليهما لتضمن الأول التورية، والثانى التشبيه، كذا قالوا، وفيه نظر، لأن المصراع استعارة لا تشبيه، إلا أن يريد التشبيه المعنوى (ولا يضر) فى التضمين (التغيير اليسير، وربما سمى تضمين البيت، فما زاد استعانة، ¬

_ (¬1) البيت للحريرى، انظر عقود الجمان (2/ 188)، وانظر الإشارات ص 318. (¬2) هو الشطر الأول للبيت السابق، قيل: إنه للعرجى، وقيل: لأمية بن أبى الصلت، انظر الجمان 2/ 188 والإيضاح ص: 363. (¬3) البيت لصاحب التحبير وهو لزكى الدين بن أبى الأصبع، انظر الإشارات ص 318، وانظر عقود الجمان (2/ 189).

العقد

وتضمين المصراع فما دونه: إيداعا ورفوا. العقد وأما العقد: فهو أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس؛ كقوله (أبى العتاهية): ما بال من أوّله نطفة … وجيفة آخره يفخر؟ عقد قول على - رضى الله عنه -: (وما لابن آدم والفخر، وإنّما أوّله نطفة، وآخره جيفة). ـــــــــــــــــــــــــــــ و) يسمى (تضمين المصراع فما دونه إيداعا ورفوا) ولا يخفى مناسبة هاتين التسميتين. العقد: ص: (وأما العقد إلخ). (ش): العقد أن يؤخذ الكلام النثر، فينظم، لا على طريق الاقتباس، أى لا كما يفعل فى الاقتباس، سمى عقدا، لأنه كان نثرا محلولا فصار نظما معقودا بالوزن، كقوله يعنى أبا العتاهية: ما بال من أوّله نطفة … وجيفة آخره يفخر؟ (¬1) فإنه أخذه من قول على - رضى الله عنه - " ما لابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة وآخره جيفة" قال المصنف: وقد يعقد القرآن، كقول الشاعر: أنلنى بالذى استقرضت خطا … وأشهد معشرا قد شاهدوه فإن الله خلاق البرايا … عنت لجلال هيبته الوجوه يقول: إذا تداينتم بدين … إلى أجل مسمى فاكتبوه (¬2) يشير بقوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (¬3) وقد يعقد الحديث، كما روى عن الشافعى رضى الله عنه أنه قال: ¬

_ (¬1) الإيضاح بتحقيقى ص: 365. (¬2) البيت فى الإشارات ص 319، وشرح عقود الجمان (ص 2/ 191). (¬3) سورة البقرة: 282.

الحل

الحلّ وأما الحلّ: فهو أن ينثر نظم؛ كقول بعض المغاربة: (فإنّه لمّا قبحت فعلاته، وحنظلت نخلاته، لم يزل سوء الظنّ يقتاده، ويصدّق توهّمه الذى يعتاده)؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ عمدة الخير عندنا كلمات … أربع قالهن خير البريه اتق الشبهات وازهد ودع ما … ليس يعنيك واعملن بنيه (¬1) فإنه أشار لقوله صلّى الله عليه وسلّم:" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" (¬2) وقوله عليه الصلاة والسّلام:" ازهد فى الدنيا يحبك الله" (¬3) وقوله عليه الصلاة والسّلام:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬4) وقوله عليه الصلاة والسّلام: إنما الأعمال بالنيات (¬5) وقد يقال: إن هذا الباب كله من التلميح كما ستراه. الحل: ص: (وأما الحل إلخ). (ش): الحل عكس العقد، وهو أن يجعل النظم نثرا قال المصنف: وشرط كونه مقبولا أمران، أحدهما: أن يكون سبكه مختارا لا يتباعد عن سبك أصله، والثانى: أن يكون حسن الموقع مستقرا فى محله غير قلق، وذلك كقول بعض المغاربة: فإنه لما قبحت فعلاته، وحنظلت نخلاته، لم يزل سوء الظن يقتاده، ويصدق توهمه الذى يعتاده. فإنه حل لقول أبى الطيب: ¬

_ (¬1) البيت الشافعى، انظر عقود الجمان 2/ 191. (¬2) أخرجه البخارى فى" الإيمان"، باب: فضل من استبرأ لدينه (1/ 153)، (ح 52)، وفى" البيوع"، ومسلم فى" المساقاة"، (ح 1599). (¬3) " صحيح" أخرجه ابن ماجه، والطبرانى والحاكم والبيهقى عن سهل بن سعد، وانظر صحيح الجامع (ح 922)، وراجع الصحيحة (ح 944). (¬4) " صحيح" أخرجه الترمذى وابن ماجه عن أبى هريرة، وأحمد والطبرانى عن الحسين بن على، والحاكم فى" الكنى" عن أبى بكر الشيرازى وعن أبى ذر، وغيرهم، وانظر صحيح الجامع (ح 5911). (¬5) هذا الحديث رواه البخارى فى" بدء الوحى" وقد افتتح به صحيحه (ح 1)، ورواه أيضا فى مواضع أخر من صحيحه، ومسلم فى" الإمارة"، (ح 1907)، وهذه الأحاديث الأربعة عليها مدار هذا الدين.

التلميح

حلّ قول أبى الطيب [من الطويل]: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه … وصدّق ما يعتاده من توهّم التلميح وأما التلميح: فهو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره؛ كقوله (أبى تمام) [من الطويل]: فو الله ما أدرى أأحلام نائم … ألمّت بنا أم كان فى الرّكب يوشع؟! أشار: إلى قصة يوشع - عليه السّلام - واستيقافه الشمس (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه … وصدّق ما يعتاده من توهّم (¬2) التلميح: ص: (وأما التلميح إلخ). (ش): التلميح، وقد يسمى التلميح، وهو أن يشير المتكلم فى كلامه إلى قصة، أو مثل، أو شعر من غير ذكره، فالأول كقول أبى تمام: فو الله ما أدرى أأحلام نائم … ألّمت بنا أم كان فى الركب يوشع (¬3) فإنه أشار إلى قصة يوشع بن نون، فتى موسى، - عليهما الصلاة والسّلام - واستيقافه الشمس، فإنه قائل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس، خاف أن تغيب ويدخل السبت، فلا يحل له قتالهم، فدعا الله - تعالى - فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم (¬4)، وحكاية المصنف لهذه القصة أولها يقتضى أن الشمس لم تكن غربت، ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث أبى هريرة الذى أخرجه البخارى فى ك: (فرض الخمس)، ومسلم فى ك (الجهاد)، وفيه غزا نبى من الأنبياء .... إلى قوله، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه ... خ خ (¬2) البيت لأبى الطيب، انظر عقود الجمان (2/ 191). (¬3) البيت لأبى تمام من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغرى، انظر شرح عقود الجمان (ص 2/ 192). (¬4) حديث يوشع بن نون عليه السّلام وأخرجه البخارى فى فرض الخمس" باب: قول النبى صلّى الله عليه وسلّم: " أحلت لكم الغنائم"، (6/ 254)، (ح 3124)، ومسلم فى" الجهاد والسير" (ح 1747).

وكقوله [من الطويل]: لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظى … أرقّ وأحفى منك فى ساعة الكرب أشار إلى البيت المشهور [من البسيط]: المستجير بعمر وعند كربته … كالمستجير من الرّمضاء بالنّار ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن المعجزة فى استيقافها، وآخرها يدل على أنها غربت ثم طلعت، وكل من النوعين قد اتفق لنبينا صلّى الله عليه وسلّم على ما ورد فى بعض الأحاديث، وأما الإشارة إلى شعر، فمثله المصنف بقوله: لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظى … أرق وأحفى منك فى ساعة الكرب (¬1) أشار إلى البيت المشهور: المستجير بعمرو عند كربته … كالمستجير من الرمضاء بالنار (¬2) وأما الإشارة إلى مثل، فكقوله: من غاب عنكم نسيتموه … وقلبه عندكم رهينه أظنكم فى الوفاء ممن … صحبته صحبة السفينه (¬3) قال فى الإيضاح:" ومن التلميح ما يشبه اللغز" كما روى أن تميميا قال لشريك النميرى: ما فى الجوارح أحب إلىّ من البازى، فقال: إذا كان يصيد القطا أشار التميمى إلى قول جرير: أنا البازىّ المطلّ على نمير … أتيح من السّماء لها انصبابا (¬4) وأشار شريك لقول الطرماح: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا … ولو سلكت طرق المكارم ضلّت (¬5) ¬

_ (¬1) انظر شرح عقود الجمان (2/ 192). (¬2) انظر شرح عقود الجمان (2/ 192). (¬3) انظر شرح عقود الجمان (2/ 192). (¬4) البيت لجرير، انظر شرح عقود الجمان (2/ 190). (¬5) الإيضاح بتحقيقى ص: 368.

فصل [ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه]

فصل [ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه] ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه؛ حتى يكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصحّ معنى: أحدها: الابتداء؛ كقوله (¬1) [من الطويل]: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل … بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل وكقوله (أشجع) (¬2) [من الكامل]: قصر عليه تحيّة وسلام … خلعت عليه جمالها الأيّام ـــــــــــــــــــــــــــــ ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه: ص: (فصل ينبغى للمتكلم إلخ). (ش): لا شك أن هذه المواضع الثلاثة هى محط شوق النفوس، فينبغى التأنق فيها، وهو طلب النيقة وهو حسن التدبر، حتى تكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصح معنى. وقوله: (حتى تكون إلخ) ينبغى أن يكون غاية، لا تعليلا، فإن حسن المطلع - مثلا - ليس علة لعذوبة حروفه وكلماته، بل المعنى يتأنق إلى أن تكون هذه المواضع الثلاثة بهذه الصفة. (أحدها الابتداء) وهو المطلع، لأنه أول ما يقرع السمع، فإذا كان بهذه المثابة، أقبل السامع على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه، وإن كان حسنا، وأحسن الابتداءات المختارة، قول امرئ القيس. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قيل: لما سمعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قاتل الله، الملك الضليل وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب ومنزله فى مصراع واحد؟! وقوله: أى قول الأشجع فى تهنئة البناء: قصر عليه تحية وسلام … خلعت عليه جمالها الأيام (¬3) ¬

_ (¬1) هو لامرئ القيس، مطلع معلقته، ديوانه ص 8، والإشارات ص 302. (¬2) البيت من قصيدة له يمدح فيها هارون الرشيد. (¬3) البيت للأشجع السلمى، انظر عقود الجمان (2/ 192)، والإشارات والتنبيهات ص 322.

وينبغى أن يجتنب فى المديح ما يتطيّر به؛ كقوله (¬1) [من الرجز]: موعد أحبابك بالفرقة غد وأحسنه ما يناسب المقصود، ويسمى: براعة الاستهلال؛ كقوله فى التهنئة [من البسيط]: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا وقوله فى المرثيّة (الساوى) [من الوافر]: هى الدّنيا تقول بملء فيها … حذار حذار من بطشى وفتكى وثانيها: التخلّص ممّا شيب الكلام به من نسيب أو غيره إلى المقصود، ـــــــــــــــــــــــــــــ (و) يجب فى علم البديع على المتكلم (أن يتجنب فى المديح ما قد يتطير به كقوله) أى قول ابن مقاتل الضرير، وينشد الداعى العلوى: موعد أحبابك بالفرقة غد فقال الداعى: موعد أحبابك يا ضرير، ولك المثل السوء (وأحسن الابتداء، ما ناسب المقصود) بتضمينه شيئا فى معنى ما سيق الكلام لأجله؛ ليكون دالا عليه (ويسمى) ذلك (براعة الاستهلال) أى فضيلته (كقوله) أى أبى محمد الخازن يهنئ ابن عباد بمولود لبنته: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا (¬2) وكقول أبى الفرج الساوى فى المرثية: هى الدنيا تقول بملء فيها … حذار حذار من بطشى وفتكى (¬3) (وثانيها التخلص مما شبب الكلام به) مما هو غير المقصود (من تشبيب، أو غيره إلى المقصود)، والتشبيب فى البديع أن يمهد قبل الشروع فى المقصود، ما يمهده من التغزل قبل المدح، أو التثبيت على الخطاب الهائل تلطفا، أو التنبيه على السماع ¬

_ (¬1) أنشده ابن مقاتل لمحمد بن زيد الحسينى الداعى العلوى صاحب طبرستان فقال له الداعى: بل موعد أحبابك ولك المثل السوء. انظر شرح عقود الجمان (2/ 195). (¬2) البيت لمحمد بن الخازن يهنئ الصاحب بولد لبنته والشطر الثانى منه: وكوكب المجد فى أفق العلا صمدا. انظر شرح عقود الجمان (2/ 195). (¬3) البيت لأبى الفرج الساوى، انظر عقود الجمان (2/ 196).

مع رعاية الملاءمة بينهما؛ كقوله (أبى تمام) (¬1) [من البسيط]: تقول فى قومس قومى وقد أخذت … منّا السّرى وخطا المهريّة القود أمطلع الشّمس تبغى أن تؤمّ بنا … فقلت كلّا ولكن مطلع الجود وقد ينتقل منه إلى ما لا يلائمه، ويسمّى: الاقتضاب، وهو مذهب العرب الجاهلية ومن يليهم من المخضرمين؛ كقوله (أبى تمام) [من الخفيف]: لو رأى الله أنّ فى الشّيب خيرا … جاورته الأبرار فى الخلد شيبا كلّ يوم تبدى صروف اللّيالى … خلقا من أبى سعيد غريبا ـــــــــــــــــــــــــــــ للخطاب العظيم وغير ذلك. (مع رعاية الملاءمة بينهما) أى بين ما شيب الكلام به، وبين المقصود (كقوله) أى قول أبى تمام: يقول فى قومس (¬2) قومى وقد أخذت … منا السرى وخطا المهريّة القود أمطلع الشمس تبغى أن تؤمّ بنا … فقلت كلّا ولكن مطلع الجود (تنبيه): التخلص باب اعتنى به المتأخرون دون المتقدمين، وقال بعض الناس: لم يأت فى القرآن الكريم تخلص، ونقله ابن الأثير فى الجامع عن الغانمى، وحمله على ذلك أنه وجده يقع متكلفا - فى الغالب - والقرآن لا كلفة فيه. قال التنوخى: ليس كما قال، ففى القرآن الكريم التخلص، قال تعالى: لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (¬3) فتخلص من ذكر العذاب، إلى صفاته - عز وجل - (وقد ينتقل) منه أى مما شبب الكلام به (إلى ما) أى معنى (لا يلائمه، ويسمى الاقتضاب، وهو مذهب العرب الجاهلية) أى الجاهلين، فإن من شأنهم الانتقال من غير مناسبة (ومن يليهم من المخضرمين) من قولهم: ناقة مخضرمة، أى جدع نصف أذنها، والمخضرم من أدرك الجاهلية والإسلام، كأنما قطع نصفه حيث كان فى الجاهلية. قال المصنف: (كقول أبى تمام (¬4): لو رأى الله أن فى الشيب خيرا … جاورته الأبرار فى الخلد شيبا كلّ يوم تبدى صروف الليالى … خلقا من أبى سعيد غريبا) ¬

_ (¬1) البيتان لأبى تمام، ديوانه (أ) ص 120، (ب) 2/ 132، وشرح عقود الجمان (2/ 195)، والمصباح ص 272، وقومس: بلد بالقرب من أصفهان. (¬2) قومس: موضع جهة خراسان. (¬3) سورة المعارج: 2، 3. (¬4) البيت لأبى تمام ص 33، وانظر شرح عقود الجمان (2/ 197).

ومنه: ما يقرب من التخلّص؛ كقولك بعد حمد الله: أمّا بعد قيل: وهو فصل الخطاب، وكقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (¬1) أى: الأمر هذا، أو هذا كما ذكر. وقوله: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (¬2) ومنه قول الكاتب: (هذا باب). وثالثها: الانتهاء؛ كقوله (أبى نواس) [من الطويل]: وإنّى جدير إذ بلغتك بالمنى … وأنت بما أمّلت منك جدير فإن تولنى منك الجميل فأهله … وإلّا فإنّى عاذر وشكور ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه تخلص من غير مناسبة، وقد أورد عليه أن أبا تمام ليس من المخضرمين، بل كان فى زمن المعتصم، من الدولة العباسية، ولعل المصنف لم يرد أنه مخضرم، بل قصد تمثيل التخلص بلا مناسبة (ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص) بأن يكون فيه مناسبة غير تامة (كقولك بعد حمد الله: أما بعد) فإن فيه مناسبة ما، وقيل: هو فصل الخطاب، وقد سبق الكلام على ذلك فى شرح خطبة هذا الكتاب، ومما يقرب من التخلص نحو قوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، أى الأمر هذا، أو هذا كما ذكر، فإن قوله: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ الآية بيان لحال العصاة، والذى قبله، وهو قوله تعالى: قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (¬3) تبيين لحال المتقين، فتوسط" هذا" بينه وبين ما بعده، ومثاله - أيضا - قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ فإنه انتقل من ذكر الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - إلى بيان ما أعد لهم من النعيم، بتوسط" هذا ذكر" وناسب ما قبله لما بعده، ومما يقرب من التخلص - أيضا - قول الكاتب إذا فرغ من باب وأراد الشروع فى آخر:" هذا باب" أى هذا الذى مضى باب، فتوسطه فيه مناسبة ما. (وثالثها: الانتهاء) أى المقطع، ويطلب تحسينه، لأنه آخر ما يعيه السمع، ويرتسم فى الذهن. قال: فإذا كان مختارا جبر ما عساه وقع قبله من تقصير، وإن كان غير مختار فبالعكس، وربما أنسى حسن ما قبله، ومثال قوله: وإنى جدير إذ بلغتك بالمنى … وأنت بما أملت منك جدير فإن تولنى منك الجميل فأهله … وإلا فإنى عاذر وشكور (¬4) ¬

_ (¬1) سورة ص: 55. (¬2) سورة ص: 49. (¬3) سورة ص: 25، 53. (¬4) البيت لأبى نواس، انظر شرح عقود الجمان (2/ 194)، والإشارات والتنبيهات ص 324.

وأحسنه ما آذن بانتهاء الكلام؛ كقوله (المعرى) [من الطويل]: بقيت بقاء الدّهر يا كهف أهله … وهذا دعاء للبريّة شامل وجميع فواتح السّور وخواتمها، واردة على أحسن الوجوه وأكملها؛ يظهر ذلك بالتأمّل، مع التذكّر لما تقدّم. وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، اللهمّ اغفر لى بفضلك ولمن دعا لى بخير، واغفر لوالدى ولكلّ المسلمين. آمين، وصلّ وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وأصحابهم والتابعين، خصوصا النبى المصطفى، والحبيب المجتبى، وآله وأصحابه. آمين. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأحسن الانتهاء ما كان مؤذنا بانتهاء الكلام، كقوله: بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله … وهذا دعاء للبريّة شامل (¬1) وجميع فواتح السور وخواتمها، واردة على أحسن الوجوه، وأكملها. جملة وتفصيلا من الفصاحة والبلاغة، وجميع الأنواع تقصر عنه العبارات، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور، والابتداء بالنداء فى نحو: يا أَيُّهَا النَّاسُ (¬2) والابتداء بالبسملة التى هى مفتاح كل خير، والابتداء بالحروف نحو:" الم" وكذلك الخواتم من الأدعية والوصايا والفرائض والمواعظ والوعد والوعيد والتحميد، إلى غير ذلك مما يظهر كثير منه بالبديهة، وكثير بالتأمل، كالدعاء آخر البقرة والوصايا فى نهاية آل عمران، والفرائض فى خاتمة النساء، والتبجيل والتعظيم فى خاتمة المائدة، والوعد والوعيد فى آخر الأنعام، فسبحان العزيز الحكيم (فى نسخة الأصل ما نصه) قال المؤلف - رحمه الله -: فرغت منه بين المغرب والعشاء، من ليلة الاثنين عاشر جمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، والحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وصلّى الله على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ¬

_ (¬1) البيت للغزى، انظر شرح عقود الجمان (2/ 199). (¬2) سورة الحج: 1.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - أ - 1 - أسرار البلاغة - لعبد القاهر الجرجانى - بتصحيح السيد رشيد رضا - ط مكتبة محمد على صبيح. 2 - أساس البلاغة للزمخشرى - دار صادر - بيروت 1399 هـ. 3 - الأطول للعصام. 4 - الأعلام للزركلى - بيروت. 5 - الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى/ ط 2: 4، 13، 12، 18، 19، 15، 10، 17. 6 - أمثال الحديث للرامهرمزى ط الدار السلفية - الهند للمرتضى على بن الحسين. تحقيق أبو الفضل، القاهرة 1954. 7 - الأنوار الزاهية فى ديوان أبى العتاهية. جمع اليسوعى 1914 م المطبعة الكاثوليكية - بيروت. 8 - الأنوار ومحاسن الأشعار لأبى الحسن على بن محمد الشمشاطى. تحقيق: صالح مهدى العزاوى. دار الحركة 1396 هـ/ 1976 م. 9 - الإيضاح فى علوم البلاغة للقزوينى. تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد. مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة. وأخرى شرح د/ محمد عبد المنعم خفاجى ط دار الكتاب اللبنانى. - ب - 10 - البداية والنهاية لابن كثير - ط دار الفكر. 11 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكانى/ ج/ مطبعة السعادة 1348 هـ. 12 - البديع فى نقد الشعر لأسامة بن منقذ. تحقيق: د. أحمد أحمد بدوى. ود. حامد عبد المجيد/ مطبعة البابى الحلبى - القاهرة: 1380 هـ/ 1960 م.

13 - البرهان فى وجوه البيان لابن وهب الكاتب. تحقيق: د. أحمد مطلوب. ود. خديجة الحديثى/ مطبعة العانى - بغداد 1967 م. 14 - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكانى. تحقيق: د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثى مطبعة العانى - بغداد. 15 - بغية الوعاة للسيوطى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مطبعة البابى الحلبى 1384 هـ 1964. 16 - بلاغة السكاكى منهجا وتطبيقا. لأحمد محمد على/ دكتوراه بكلية اللغة العربية - جامعة الأزهر. 17 - البلاغة عند السكاكى. د. أحمد مطلوب/ ط بغداد. 18 - البلاغة تطور وتاريخ - د/ شوقى ضيف - ط دار المعارف. 19 - البيان فى غريب إعراب القرآن لأبى البركات الأنبارى. تحقيق: د. طه عبد الحميد طه، دار الكتاب العربى بالقاهرة 1389 هـ/ 1969 م. 20 - البيان والتبيين للجاحظ/ ج 1، 3. تحقيق عبد السّلام محمد هارون نشر الخانكى بالقاهرة ط 5/ 1405 هـ/ 1985 م. - ت - 21 - تاريخ الأدب العربى لبروكلمان ج 2 / ط 2 / ترجمة: عبد الحليم النجار، وج 5 / ترجمة: د. رمضان عبد التواب. وعبد الحليم النجار/ دار المعارف - مصر. 22 - تاريخ ابن خلدون - دار الكتاب اللبنانى. 23 - تاريخ علوم البلاغة والتعريف برجالها للشيخ مصطفى المراغى. 24 - التبيان فى المعانى والبيان للطيبى - بتحقيقى - طبعة المكتبة التجارية - بمكة المكرمة. 25 - التلخيص فى علوم البلاغة للخطيب القزوينى. بتحقيقى - طبعة دار الكتب العلمية. - ج - 26 - جامع العبارات فى تحقيق الاستعارات. على عصام - دكتوراه بكلية اللغة العربية -

جامعة الأزهر. 27 - الجمان فى تشبيه آيات القرآن لابن ناقيا البغدادى. تحقيق: د. أحمد مطلوب، ود. خديجة الحديثى/ دار الحرية 1387 هـ/ 1968 م. 28 - همع الهوامع على شرح جمع الجوامع للسيوطى - بتحقيقى - طبعة المكتبة التوفيقية. 29 - جمهرة أشعار العرب. تأليف أبى زيد محمد بن أبى الخطاب القرشى/ 1926 م. 30 - جمهرة الأمثال لأبى هلال العسكرى، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش/ القاهرة 1964 م. 31 - جمهرة أنساب العرب لأبى محمد على بن أحمد الأندلسى. تحقيق عبد السّلام محمد هارون. دار المعارف مصر ط 5. 32 - حدائق البيان فى شرح التبيان لعلى بن عيسى شارح التبيان للطيبى - مخطوط بمعهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة. 33 - حسن التوسل إلى صناعة الترسل لشهاب الدين محمد الحلبى. تحقيق ودراسة. د. أكرم عثمان يوسف/ دار الحرية - 1980 م. 34 - الحماسة البصرية للبصرى. عالم الكتب بيروت. 35 - حماسة الظرفاء من أشعار المحدثين والقدماء لأبى محمد عبد الله بن محمد العبد لكانى الزوزنى. تحقيق: د. محمد جبار المعيبد - دار الحرية - بغداد ج 1: 1973 م، ج 2: 1978 م. - خ - 36 - خزانة الأدب للبغدادى/ ج 1 تحقيق وشرح عبد السّلام محمد هارون، دار الكتاب العربى بالقاهرة 1387 هـ/ 1967 م. 37 - الخلاصة فى أصول الحديث للطيبى. تحقيق: الأستاذ صبحى السامرائى/ مطبعة الإرشاد بغداد 1391 هـ - 1971 م. - د - 38 - دائرة المعارف الإسلامية - ط دار الفكر.

39 - الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلانى/ مطبعة دار الكتب الحديثة - مصر. 40 - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى. تعليق وشرح: د. محمد عبد المنعم خفاجى/ مطبعة الفجالة - القاهرة 1969 م/ 1389 هـ. وأخرى بتحقيق محمد رشيد رضا. 41 - ديوان أبى الأسود الدؤلى. تحقيق الشيخ محمد حسن إل ياسين، مطبعة المعارف - بغداد 1964 م. 42 - ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس. شرح وتعليق: د/ محمد حسين/ المطبعة النموذجية. 43 - ديوان أمير المؤمنين على بن أبى طالب/ مطبوعات العربى/ 1393 هـ - 1973. 44 - ديوان أوس بن حجر. تحقيق وشرح: د. محمد يوسف نجم - دار صادر بيروت/ ط 2. 45 - ديوان البحترى، دار صادر، بيروت. 46 - ديوان بشار بن برد، شرح ونشر محمد الطاهر بن عاشور، مط لجنة التأليف والترجمة والنشر 1967 م. 47 - ديوان البهاء زهير. دار المعارف بمصر. 48 - ديوان حاتم الطائى - الشركة اللبنانية للكتاب - بيروت. وديوان حاتم الطائى/ دار صادر - بيروت. 49 - ديوان الحطيئة بشرح ابن السكيت والسكرى، والسجستانى. تحقيق: نعمان أمين طه. مط مصطفى البابى الحلبى القاهرة 1958. 50 - ديوان الحماسة لأبى تمام. تحقيق: د. عبد المنعم صالح، دار الرشيد للنشر بغداد 1980 م. 51 - ديوان الخنساء، دار التراث، بيروت 1968 م. 52 - ديوان الشريف الرضى/ طبع المطبعة الأدبية - بيروت 1307 هـ. 53 - ديوان الصاحب بن عباد. تحقيق: الشيخ محمد إل ياسين بيروت 1974 م. 54 - ديوان الصنوبرى. تحقيق: د. إحسان عباس/ دار الثقافة - بيروت 1970 م.

55 - ديوان العباس بن الأحنف. تحقيق: د. عاتكة الخزرجى/ دار الكتب المصرية/ 1373 هـ - 1954 م. 56 - ديوان عبيد بن الأبرص/ دار صادر - بيروت. 57 - ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات. تحقيق وشرح: د. محمد يوسف نجم/ دار صادر - بيروت/ 1378 هـ - 1958 م. 58 - ديوان العرجى رواية أبى الفتح الشيخ عثمان بن جنى. شرحه وحققه: خضر الطائى ورشيد العبيدى/ ط 1 / الشركة الإسلامية للطباعة - 1375 هـ/ 1956 م. 59 - ديوان عروة بن الورد. 60 - ديوان علقمة الفحل. شرح: الأعلم الشنتمرى. تحقيق: لطفى الصقال/ مطبعة الأصيل حلب/ 1389 هـ - 1969 م. 61 - ديوان على بن جبلة العكوك. تحقيق: د. أحمد الجنابى/ مطبعة الآداب - النجف الأشرف/ 1391 هـ - 1971 م. 62 - ديوان عمرو بن معد يكرب. تحقيق د. هاشم الطعان. مطبعة الجمهورية، ببغداد 1970 م. 63 - ديوان الفرزدق. دار صادر، بيروت 1966 م. 64 - ديوان القطامى. تحقيق: د. إبراهيم السامرائى. ود. أحمد مطلوب/ دار الثقافة - بيروت 1960 م. 65 - ديوان كثير. تحقيق: د. إحسان عباس، بيروت 1971 م. 66 - ديوان لبيد بن ربيعة العامرى. تحقيق: د. إحسان عباس. التراث العربى - الكويت 1962 م. 67 - ديوان مجنون ليلى. جمع وتحقيق وشرح: عبد الستار أحمد فراج/ دار مصر للطباعة. 68 - ديوان مسلم بن الوليد. تحقيق د. سامى الدهان، دار المعارف بمصر 1970. 69 - ديوان ابن نباتة السعدى. دراسة وتحقيق: عبد الأمير مهدى حبيب الطائى/ ج 1 - 2 / دار الحرية/ 1397 هـ - 1977 م.

70 - ديوان أبى نواس/ المطبعة الأهلية - بيروت، وط. مصر. 71 - ديوان ابن هانئ الأندلسى/ دار صادر - بيروت/ 1384 هـ - 1964 م. 72 - ديوان الهذليين. نشر القومية للطباعة بالقاهرة 1384 هـ/ 1965 م. 73 - ديوان الوأواء الدمشقى. تحقيق: د. سامى الدهان/ المطبعة الهاشمية - دمشق 1369 هـ - 1950 م/ وطبعة ليون. - س - 74 - سر الفصاحة لابن سنان الخفاجى. تحقيق على فودة/ مصر 1932 م. 75 - سقط الزند لأبى العلاء المعرى/ دار صادر - بيروت. 76 - سمط اللآلى. تحقيق: عبد العزيز الميمنى. مط. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 م. - ش - 77 - شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى/ المكتب التجارى/ بيروت - لبنان. 78 - شرح ديوان جرير، محمد إسماعيل الصاوى/ مكتبة دار الثقافة العربية. 79 - شرح ديوان حسان. ضبط الديوان وصححه: عبد الرحمن الرقوقى/ دار الأندلس/ بيروت - 1980 م. 90 - شرح ديوان عبيد بن الأبرص/ دار بيروت، ودار صادر - بيروت/ 1377 هـ - 1958 م. 91 - شرح ديوان أبى العتاهية/ دار التراث بيروت/ 1389 هـ - 1969 م. 92 - شرح ديوان أبى فراس الحمدانى/ منشورات دار الفكر - بيروت/ مطبعة سميا. 93 - شرح ديوان كعب بن زهير. صنعة السكرى/ الدار القومية - القاهرة/ 1385 هـ - 1966 م. 94 - شرح شواهد المغنى للسيوطى. تحقيق: أحمد ظافر خان مصر 1386 هـ - 1966 م.

95 - شرح القصائد العشر للتبريزى. تحقيق: د. فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة - بيروت ط 3/ 1399 هـ - 1973 م. 96 - شرح المعلقات السبع للزوزنى. تحقيق: محمد على حمد الله/ طبعة دمشق المفصل لابن يعيش/ ج 9 مطبعة المنيرة بمصر. 97 - شرح مقامات الحريرى، دار التراث - بيروت. 98 - شعر الأخطل، صنعة السكرى، تحقيق: د. فخرى الدين قباوة/ منشورات دار الآفاق الجديدة/ بيروت/ ط 2/ 1399 هـ - 1979 م. 99 - شعر عبدة بن الطبيب. د. يحيى الجبورى/ دار التربية/ 1391 هـ - 1971 م. 100 - شعر ابن المعتز، صنعة الصولى. دراسة وتحقيق: د. يونس أحمد السامرائى/ دار الحرية/ 1398 هـ - 1978 م. 101 - شعر النمر بن تولب، صنعة د. نورى حمودى القيس/ مطبعة المعارف/ بغداد 1969 م. 102 - الشعر والشعراء لابن قتيبة. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر. دار المعارف. - ص - 103 - صبح الأعشى - للقلقشندى - المطبعة الأميرية. 104 - صحيح الجامع للشيخ الألبانى ط المكتب الإسلامى. 105 - الصناعتين لأبى هلال العسكرى/ مصر 1971 م. وأخرى تحقيق د. مفيد قميحة. 106 - صحيح البخارى. ط الشعب. 107 - صحيح مسلم بشرح النووى. طب الشعب، وأخرى بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقى. 108 - ضعيف الجامع للشيخ الألبانى ط المكتب الإسلامى. - ط - 109 - طبقات الشافعية لأبى بكر هداية الله الحسينى. تحقيق: عادل نويهض/ ج 2 / منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت 1979.

110 - طبقات الشعراء لابن المعتز. تحقيق: عبد الستار أحمد فراج/ ط 4 / دار المعارف. 111 - الطراز ليحيى بن حمزة العلوى ط 3، مطبعة المقتطف مصر 1332 هـ - 1914. 112 - الطيبى وجهوده البلاغية - عبد الحميد هنداوى - ماجيستير مخطوط بكلية دار العلوم جامعة القاهرة - ومطبوع نشر المكتبة التجارية - بمكة المكرمة. - ع - 113 - العرف الطيب فى شرح ديوانى أبى الطيب للشيخ ناصيف اليازجى. 114 - عقود الجمان وشرحه للسيوطى وشرحه للمرشدى ط. المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هـ. 115 - العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده. تأليف: أبى الحسن بن رشيق القيروانى. تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد/ ط 2 / ج 1 - 2 / مطبعة السعادة 1383 هـ - 1963 م. - ف - 116 - فتوح الغيب فى الكشف عن قناع الريب - للطيبى - مخطوط بدار الكتب المصرية 145 تفسير. 117 - فخر الدين الرازى بلاغيا. تأليف: ماهر مهدى هلال/ دار الحرية - 1397 هـ - 1977 م. 118 - فن البديع. تحقيق: د. عبد القادر حسين/ دار الشروق/ 1403 هـ - 1983 م. 119 - فن التشبيه. أ. على الجندى. مكتبة نهضة مصر. - ق - 120 - القاموس المحيط للفيروزأبادى. - ك - 121 - الكاشف عن حقائق السنن للطيبى شرح مشكاة المصابيح مخطوط بدار الكتب المصرية 30 / حديث قوله، وجارى تحقيقى له. 122 - الكامل للمبرد/ طبع ليبزج. وأخرى ط مكتبة الاستقامة بالقاهرة 1951 م.

123 - كتاب العين/ بتحقيقى طبعة دار الكتب العلمية. 124 - الكشاف للزمخشرى ج 4، 3، 2، 1. ط دار المعرفة. 125 - كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، لحاجى خليفة مطبعة وكالة المعارض 1943 م. - ل - 126 - لسان العرب لابن منظور ط دار المعارف. 127 - لطائف التبيان فى المعانى والبيان للطيبى - مخطوط بدار الكتب المصرية، 26 بلاغة م وانظره بتحقيقى ط المكتبة التجارية بمكة المكرمة. - م - 128 - المثل السائر لابن الأثير/ طبعتين/ تحقيق: محيى الدين، ود. بدويت طبانة. ود. أحمد الحوفى/ دار الرفاعى - الرخاص/ 1403 هـ - 1983 م. وط دار نهضة مصر - الفجالة - القاهرة. 129 - مجموع أشعار العرب. تصحيح وليم بن الورد البروسى ليبسيغ 1903 هـ. 130 - المرقصات والمطربات لنور الدين على بن الوزير أبى عمران ت 673 هـ، دار حمد ومحيو - بيروت 1973 م. 131 - المصباح لبدر الدين بن مالك، المطبعة الخيرية 1341 هـ. وأخرى ط مطبعة الآداب بالقاهرة تحقيق د/ حسنى عبد الجليل. 132 - معانى القرآن للأخفش. تحقيق: د. فائز فارس، الشركة الكويتية ط 2: 1401 هـ - 1981 م. 133 - معجم الأدباء لياقوت، تحقيق: مرجوليوث ج 1 دار إحياء التراث العربى. 134 - معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة ج 4 المكتبة العربية، دمشق 1957 م. 135 - مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة. تحقيق: كامل بكرى وعبد الوهاب أبو النور، مطبعة الاستقلال مصر 1968 م. 136 - المفتاح للسكاكى. بتحقيقى طبعة دار الكتب العلمية.

137 - المقتضب للمبرد. تحقيق: الشيخ عضيمة 1382 هـ - 1963 م. 138 - مقتضى الحال بين البلاغة القديمة والنقد الحديث لإبراهيم الخولى - دكتوراه بكلية اللغة العربية بالقاهرة. - ن - 139 - نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز - تحقيق: د. بكرى شيخ أمين - ط دار العلم للملايين. 140 - النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحى/ ط 2 / دار الفكر/ 1399 هـ - 1979 م. 141 - هدية العارفين - لإسماعيل باشا البغدادى. 142 - وفيات الأعيان لأحمد بن محمد بن خلكان. تحقيق: د. إحسان عباس/ طبع دار الثقافة - بيروت. - ي - 143 - اليتيمة للثعالبى. تحقيق: محيى الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، القاهرة.

§1/1