عدة رسائل في مسائل فقهية (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثاني)

حمد بن ناصر آل معمر

الرسالة الأولى

عدة رسائل في مسائل فقهية للشيخ: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الرسالة الأولى من حمد بن ناصر بن معمر إلى جناب الأخ المكرم جمعان بن ناصر -حفظه الله تعالى- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغ السلام. وبعد: فالخط الشريف وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، وما ذكر جنابك صار لدَى محبك معلوما، ومنه طرف المسائل التي تسأل عنها، وتطلب جوابها. (حكم اشترط طلاق الضرة في عقد النكاح) (فالمسألة الأولى) فيمن شرطت على زوجها عند العقد طلاق ضرتها، فهذا الشرط اختلف العلماء فيه؛ هل هو صحيح أم فاسد، فذهب الحنابلة إلى صحته، فيجب عندهم الوفاء، وخيار الفسخ لها إذا لم يفِ. وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه شرط. باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، على هذا يبطل الشرط ويصح النكاح؛ لأن هذا ليس من الشروط المبطلة للعقد، كنكاح الشغار والتحليل والمتعة.

(الشروط الصحيحة في عقد النكاح)

(الشروطُ الصحيحة في عقدِ النِّكاح) (وأما المسألة الثانية) فيمن شرطت على الزوج عند العقد شرطا صحيحا، ورضي بذلك، وقالت: إنْ فعلْتَ كذا فهو طلاقي. ثم لم يفِ لها، بل خالف ما شرطت عليه، فهذا الشرط -إن كان من الشروط الصحيحة- فلها الفسخ إن لم يفِ به. وإن لم تقل: "فهو طلاقي" فلها إلغاؤه وإبطاله، فإذا أسقطته بعد البينونة سقط، وجاز له أن يرجع إليها بنكاح جديد. وإن كان الإسقاط قبل البينونة سقط والنكاح بحاله، وليس لها مطالبته بذلك بعد إسقاطه. (حكمُ تَراضِي الزوجين علَى تعليقِِ الطَّلاقِ بالتزَوُّجِ عَلَيْها) (وأما المسألة الثالثة) فيمن تشاجر هو وزوجته، ثم تراضيا على شروط صحيحة، كقوله: إن تزوجت عليك فهو طلاقك. ثم قالت له: أعد اللفظ. فأعاده مرتين أو ثلاثا، هل يثبت هذا الشرط، وإن كان بعد عقد النكاح؟ وهل يقع عليه الطلاق؟ وهل يفرق بين الحرفين فيما إذا قال: إن تزوجت فأنت طالق، أو إذا تزوجت؟ فنقول: هذا الشرط وهو تعليق الطلاق على التزوج، شرطٌ لازم، وتعليقه صحيح، فمتى تزوج طلقت. ثم ننظر في نيته حال تكراره لفظ الطلاق: فإنْ قصد بالتكرار إفهامها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة، وله أن يراجعها بعد التزوج بالأخرى، لأن هذا الشرط لم يوجد عند العقد، بل حدث بعد ذلك. فإنْ يقصد بالتكرار الإفهام ولا التأكيد طُلِّقَتْ ما نواه. فإن لم يكن له نية ففيه خلاف، والأشهر أنها تُطلَّق بعدد التكرار، وبعضهم يقول: لا تُطلَّق إلا واحدة. وأما التفرقة بين إن الشرطية وإذا، فالعامة لا يفرقون بينهما، فيحكم

(طلاق غير البالغ)

عليهم بلغتهم على قصدهم ونيتهم، مع أن في مثل هذه الصورة يقع الطلاق بكل حال. (طَلاقُ غير البالغ) (وأما المسألة الرابعة) وهي طلاق الصبي الذي لم يبلغ، فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وطائفة من العلماء إلى أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وذهب الإمام أحمد -في المشهور عنه- والشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه إذا عقل، وعلم أن زوجته تبين منه بذلك -خصوصا إذا تجاوز العشر- فإنه يقع طلاقه. أحكام زيادةِ الوكيلِ بالتطليق على الواحدة (المسألة الخامسة) فيمن وكَّل وكيلا في طلاق زوجته، هل للوكيل أن يزيد على طلقة إذا كان الموكل لم يأمره بكثير ولا قليل؟ وهل إذا طلق ثلاثا تقع أم لا؟ وهل يعتبر إنكار الموكل ذلك؟ فهذه المسألة الراجح فيها أن الوكيل لا يزيد على واحدة لأن الزيادة خلاف السنة، فإن زاد لم يقع إلا واحدة، إلا أن يأمره الموكل بذلك، فإن لم يأمره بذلك ولم يثبت ببينة ولا بإقرار الموكل، لم يثبت إلا طلاق السنة، وهي الطلقة الواحدة. (حكمُ تكرارِ لفظِ التطليقِ في الخُلْع) (وأما المسألة السادسة) فيمن بذلت لزوجها عوضا، كمخالعة الناس اليوم على أن يطلقها، فقبل العوض ثم قال: أنت طالق. ثم قال: أنت طالق. ثم قال: أنت طالق. ثلاث مرات أو أكثر، هل تبين منه باللفظة الأولى، ولم تلحقها البواقي عند من يقول: إن المختلعة لا يلحقها طلاق؟ فنقول: الذي ذكره

(حكم من أخذ عوض الخلع ولم ينطق بما يدل على إنشائه)

الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أنها تبين بالأولى، ولا يلحقها ما بعدها لأنها بانت بالجملة الأولى، فإذا لحقها جملة ثانية وثالثة لم يصادف ذلك محلا، وأما عند من يقول: إن المختلعة يلحقها الطلاق كما ذكر كثير من التابعين، فالطلاق عندهم لاحق. (حُكْمُ مَن أَخَذَ عِوَضَ الخُلْعِ ولَمْ يَنْطِقْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِنْشَائِهِ) (وأما المسألة السابعة) فيمن خالع زوجته بأن بذلت له العوض وقبله، ولم يتلفظ بخلع ولا طلاق ولا فسخ، هل تبين بمجرد أخذ العوض؟ فالذي عليه الجمهور: أنه لا بد من اللفظ، لقوله صلى الله عليه وسلم-: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة" 1. (تَعليقُ الطَّلاق) (وأما المسألة الثامنة) فيمن قال لزوجتهِ: إذا جاءني حقي فأنت طالق، وإن نزلت على أهلك فأنت طالق. فأقامت مدة لم تعطه، ولم تنزل على أهلها، هل الشرط لازم أم لهم إبطاله؟ فنقول: إذا علق طلاقها على ذلك فالشرط لازم، والتعليق ثابت ولو اتفقا على إبطاله، وفي الحديث: "ثلاث هزلهن جد، وجدهن جد" 2 الحديث. (الوصيَّةُ بالأُضحيةِ وأكْلُ ورثةِ المُوصِي منها) (المسألة التاسعة) فيمن أوصى عند موته بأضحية، هل للموصى إليه أو غيره من ورثة الميت الأكل منها أم لا؟ فالذي يظهر لي من كلام العلماء أنه لا بأس بذلك، وإنما اختلفوا في أضحية اليتيم.

_ 1 البخاري: الطلاق (5273) , والنسائي: الطلاق (3463) , وابن ماجه: الطلاق (2056) . 2 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجه: الطلاق (2039) .

(المفاضلة بين التضحية عن الميت والتصدق بثمنها)

(المفاضلة بين التضحية عن الميت والتصدق بثمنها) (وأما المسألة العاشرة) هل الأضحية عن الميت أفضل أم الصدقة بثمنها؟ فهذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله. وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول قوي في النظر؛ وذلك لأن التضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف، إلا أنه ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم-، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- أوصاه بذلك. والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره، وقال: لا يضحي عن الميت إلا أن يوصي بذلك، فإن لم يوصِ فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها، فإذا كان هذا صورة المسألة، فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله تعالى. (حكمُ من ضحَّى عن غيره قبل نفسه أو وفاء نذره) (وأما المسألة الحادية عشرة) : هل له أن يضحي عن غيره قبل أن يضحي لنفسه؟ وهل له أن يضحي وعليه نذر قبل أن يوفي بنذره؟ فمسألة التضحية عن الغير قبل أن يضحي لنفسه فلا أعلم فيها بأسا، وإنما المنع فيمن عليه حجة الإسلام، فليس له أن يحج عن غيره قبل أن يحج فريضة الإسلام. وأما تقديم الأضحية على النذر فالواجب يقدم على النافلة، فإذا كان المنذور أضحية ذبحها قبل أضحية التطوع، فإن تطوع وترك النذر الواجب وجب عليه أن يذبح الواجب أيضا، وأما إذا أراد أن يذبحهما جميعا لكنه

(التفريق بين الأم وولدها الصغير وبين الأخوة في البيع)

قدم التطوع على النذر، فلا أعلم في هذا منعا. (التفريقُ بين الأمِ وولدها الصغير وبين الأخوةِ في البيع) (وأما المسألة الثانية عشرة) وهي التفريق بين الوالدة وولدها قبل البلوغ، وكذلك بين الأخوة في البيع، فأما قبل البلوغ فلا يجوز التفريق، وأما بعد البلوغ ففيه خلاف، والمشهور عن أحمد وكثير من الفقهاء أنه لا يجوز، لحديث: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 12، وكذلك حديث علي في التفرقة بين الأخوة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "رده، رده" 3. (أبان زوجا من أربع ليس له التزوج بغيرها قبل انقضاء عدتها) (وأما المسألة الثالثة عشرة) فيمن معه أربع فطلق واحدة وأبانها، هل له أن يتزوج في مكانها أخرى، وإن كانت المطلقة لم تعتد لأنها بائن ليس له عليها رجعة، أم لا يجوز ذلك حتى تعتد المطلقة؟ فالذي نص عليه العلماء أن ذلك لا يجوز، بل لا بد من انقضاء العدة، ولا يجوز له أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 الترمذي: السير (1566) , وأحمد (5/412,5/414) , والدارمي: السير (2479) . 2 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي أيوب وصحح. 3 الترمذي: البيوع (1284) , وابن ماجه: التجارات (2249) , وأحمد (1/102) .

الرسالة الثانية

الرسالة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر بن معمر إلى جناب الأخ المكرم جمعان بن ناصر -سلمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمسائل وصلت، وهذا جوابها: (طلب إمام المسجد المعاونة من الفيء أو الزكاة) أما سؤال إمام المسجد المعاونة من الفيء والزكاة، فالسؤال من حيث هو مذموم إلا في حال الاضطرار، لكن إن كان السؤال من الفيء فهو موافق، لأن الفيء للمسلمين غنيهم وفقيرهم، وما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب، فإذا سأل الإنسان نصيبه من الفيء لم ينكر عليه. وأما إن كان السؤال من الزكاة، فإن كان السائل غنيا فهو حرام، ولا تحل له الزكاة، بل لو جاءته من غير سؤال لم تحل له، إلا إن كان من الخمسة المذكورين في الحديث؛ وذلك لأن الله تعالى قسمها بنفسه، ولم يرض فيها بقسم نبي ولا غيره. حكم القيء (فروع في العبادات) وأما القيء فالمشهور أنه نجس، وأما نقض الوضوء به ففيه خلاف، والمشهور أنه ينقض إذا كان كثيرا، ولا ينقض اليسير منه. وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه لا ينقض الوضوء ولو كثر، لكن يستحب الوضوء، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين. الخروج من الصلاة لأجل الخارج وأما الخروج من الصلاة لأجل الخارج اليسير من القيء أو الدم

فإذا كان يسيرا لم يقطع الصلاة، ولا إعادة عليه، لأنه روي عن الصحابة نحو ذلك، فابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى. وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ. إخراج الإنسان زكاته أو بعضها بنفسه وأما إخراج الإنسان زكاته أو بعضها بنفسه، فذكر أهل العلم أنه لا يجوز أن يخرجها ولا بعضها إن كان الإمام عدلا يضعها في أهلها، (بل) يجب دفعها إليه. قضاء الفوائت وأما قضاء الفوائت، فالمشهور قضاء الفوائت على الفور مرتبا، قلت الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة، فإن كان ناسيا للفائتة سقط الترتيب، ويصلي الفائتة، ولا يقضي الحاضرة، لأن الترتيب يسقط بالنسيان. الصلاة على الميت وأما الصلاة على الميت فإن أوصى الميت بأن يصلي عليه رجل معين فهو أحق من غيره، ولا يقوم أحد في جنب الإمام، بل يقف الإمام وحده إلا أن يكون المكان ضيقا، بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف، حينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة. العقد على المطلقة في العدة وأما المطلقة فلا يجوز العقد عليها في العدة بإجماع أهل العلم، بل لا يجوز التصريح في خطبتها، فإن كانت رجعية حرم التعريض أيضا، لأنها زوجة ما دامت في العدة، فإن عقد عليها فالنكاح باطل، ولا يحتاج إلى طلاق، لأنه باطل إجماعا، بل يفرق بينهما. فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب، وعند مالك أنها تحرم عليه أبدا؛ وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر، والأول قول علي، وهو المشهور عن أحمد، والجديد من قولي الشافعي. المطلقة التي مات زوجها وأما المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة، فإن كانت رجعية استأنفت

عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف بين العلماء، وإن كانت بائنا بنت على عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته، فتعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء. وعند مالك والشافعي أنها تبني على عدة الطلاق؛ لأنها بائن وليست بزوجة، كما لو طلقها في الصحة. فأما إذا كان الطلاق البائن في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة تعتد أطول الأجلين. طلق زوجته واختل عقله وأما مسألة الذي طلق زوجته واختل عقله، فإن كان حال الطلاق ثابت العقل وطلق مختارا، فالطلاق واقع، فإن كانت آخر ثلاث تطليقات لم تحل له إلا بعد زوج وإصابة، ولو اختل عقله بعد ذلك، ولو آل به الأمر إلى الجنون. وإن كان الطلاق الذي وقع بكلمة واحدة جمع فيها الطلاق، فكذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الذي يفتى به عندنا. وعند الشيخ تقي الدين وابن القيم أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة مطلب يحسب طلقة واحدة، وحينئذ فله رجعتها، والعمل على كلام الجمهور. الدعاء عند ختم القرآن وأما الدعاء عند ختم القرآن، فروي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله وولده، ويدعو عند ختم القرآن. وروي عن طائفة من السلف، وهو قول غير واحد من الفقهاء. وأما تعيين الدعاء فلم يثبت فيه دعاء مخصوص، ولهذا لم يستحبه بعض الفقهاء؛ قال: لأنه لم يرد فيه سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. التكبير في آخر كل سورة من سورة الضحى وأما التكبير في آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن، ففيه خلاف، ولم يستحبه الشيخ تقي الدين إلا لمن يقرأ بقراءة ابن كثير. وأما من قرأ بقراءة عاصم التي هي غالب قراءة الناس اليوم فلا. الوقف على المسجد وأما الرجل الذي وقف على المسجد بعض أملاكه، فإن عين القائمين

رسالة ثالثة المنكر الذي يجب إنكاره

أو الإمام أو المؤذن تعين ما عينه الواقف من الجهات، فإن لم يعين جهة فالوقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن والقيم، وكذا عمارته كتطيين سطحه، وإبدال خشبه لتكسير فيه، ونحو ذلك. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. رسالة ثالثة المنكر الذي يجب إنكاره بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان، رزقه الله العلم النافع والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، والمسائل وصلت، وهذا جوابها واصلك إن شاء الله تعالى. (المسألة الأولى) في المنكر الذي يجب إنكاره، هل يسقط الإنكار إذا بلغ الأمير أم لا؟ فاعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1؛ وحينئذ إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره، لم يسقط إنكاره، بل ينكره بحسب الاستطاعة؛ لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه. وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي؛ وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد، وفي الحديث: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي" 2. العدل في عطية الأولاد (وأما مسألة العطية) فلا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية

_ 1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3/20,3/49,3/54) . 2 الترمذي: الزكاة (652) , وأبو داود: الزكاة (1634) , وأحمد (2/192) , والدارمي: الزكاة (1639) .

رسالة رابعة كنايات الطلاق

بين الأولاد، وكراهة التفضيل، لكن اختلفوا في صفة التسوية، فالمشهور عن أحمد أن المستحب أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله في الميراث، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 1 وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي أنه يعطى الأنثى مثل ما يعطي الذكر. رسالة رابعة كنايات الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان -حفظه الله تعالى- آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه-، وسر الخاطر سؤالك عما أشكل عليك، رزقنا الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح. فأما ما سألت عنه من استعمال كنايات الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع النية، فإذا تكلم الزوج بالكناية وقال: لم أرد طلاقك ولم أنوه، ولم يتكلم بذلك في حال الغضب وسؤالها الطلاق، فهذا يقبل قوله، ولا يقع به طلاق. وأما إن تكلم بذلك في حال الغضب فهذا مما اختلف الفقهاء فيه. فقال بعضهم: يقبل قوله إنه لم يرد طلاقا ولم ينوه. وقال بعضهم: لا يقبل قوله في ظاهر الحكم لأجل القرينة الدالة على إرادة الطلاق. وبعض أهل العلم يفرق بين الكنايات، ويقول: الكنايات التي يكثر استعمالها في الطلاق، ويعبرون أن من تلفظ بها فإنما يريد الطلاق، فهذا لا يقبل قوله. وأما الكنايات التي تستعمل في عرف أهل البلد في الطلاق وفي غيره، فهذا يقبل أنه ما أراد الطلاق، بل لو تلفظ بذلك وقال:

_ 1 سورة النساء آية: 11.

لم أرد الطلاق ولا غيره، لم تطلق إلا بالنية إذا كان الطلاق لفظا يستعمل في الطلاق وفي غيره. تكرير لفظ الطلاق (وأما المسألة الثانية) : إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فهذا إن نوى بالتكرار التأكيد أو إفهامها، لم يقع إلا واحدة. فإن نوى به طلاقا ثلاثا وقعت ثلاثا عند الجمهور. وأما إذا طلق بالنية، وقال: لم أرد به التأكيد والإفهام، ولا إيقاع ثلاث، بل عزبت نيته، فهذا محل الخلاف، فبعض أهل العلم يقول: يقع واحدة، إلا أن ينوي طلاق ثلاث فتقع. (وأما قولك) : إذا توقف المفتي عن الإفتاء في الكنايات، هل يكون داخلا في الكتمان أم لا؟ فاعلم أن الذي يتناوله الوعيد هو من عنده علم من الله ورسوله، فيُسأل عنه فيكتمه. وأما من أشكل عليه الحكم ولم يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء ولم يعلم الراجح من القولين. وأحمد -رحمه الله- وغيره من العلماء يتوقفون كثيرا في مسائل، مع معرفتهم بكلام العلماء قبلهم في تلك المسائل إذا لم يتبين لهم الصواب. وأحمد يتوقف عن الإفتاء في كنايات الطلاق في أكثر أجوبته، وبعض العلماء لا يفتي في مسائل الطلاق بالكلية؛ لعظم خطرها. والواجب على المفتي أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين يدي الله وبين عباده، فيما أحل الله وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم، وما أشكل عليه فليكله إلى عالمه. دم المرأة الحامل في غير عادتها (وأما مسألة الحامل) إذا رأت الدم فهذا ينظر فيه، وفي حال عادة المرأة، فإن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فهذا لا تلتفت إليه، بل تصلي فيه وتصوم، ويكون حكمها حكم المستحاضة، وليس في هذا اختلاف. وإنما الاختلاف فيما إذا كان عادة المرأة أنها تحيض وتطهر في عادة الطهر، فهذا

الذي اختلف فيه العلماء، والراجح في الدليل أنه حيض إذا كان على ما وصفنا، ولكن قليل الوقوع، وأكثر الواقع على متكرره وبين من ليس لها عادة، أو يضرب عليها الدم، فإنه يشتبه على كثير من الطلبة. تزويج اليتيمة (وأما مسألة اليتيمة) إذا طلبت الزوج، فيجوز لوليها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كانت لها تسع سنين، ولكن لا يجبرها، ولا يزوجها إلا برضائها إذا كانت يتيمة. وأما الأب فيجوز له إجبار الصغيرة التي لم تبلغ، والبلوغ يحصل بالحيض، ونبات الشعر الخشن حول القبل. لحن الإمام في الفاتحة (وأما مسألة الأمي) فالأمي الذي لا يحسن الفاتحة، أو يلحن فيها لحنا يغير المعنى، وأما إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها، فهذا لا يسمى أميا. ولكن أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإن وجد القارئ قدم على غيره. وأما إذا أقيمت الصلاة، ثم جاء القارئ وهم يصلون، جاز للقارئ أن يصلي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة، ولا يلحن فيها لحنا يحيل المعنى. وأما الذي يلحن فيها لحنا يحيل المعنى فهذا هو الأمي، لا يجوز أن يصلي إلا بمثله، فلا يؤم أحدا يحسن الفاتحة. تعيين الإمام (وأما مسألة تعيين الإمام) كما هو الواقع في المساجد التي لها أئمة راتبون، فهذا إذا بان له أنه غير إمامه الراتب صحت صلاته لأن قصده الصلاة مع الجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام، والله أعلم.

رسالة خامسة: استخدام الدابة بجزء من الثمرة

رسالة خامسة: استخدام الدابة بجزء من الثمرة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر -حفظه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه- وكذلك السؤال وصورته. ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر يسقي عليها زرعا بجزء من الثمرة، سواء كان الدفع قبل وجود الزرع أو بعد ما اخضر الزرع، وسواء كان مدة السقي معلومة أو مجهولة، مثل إلى أن تهزل أو تعجف، هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها؟ أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذ لم توقت؟ فنقول: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء، ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة؛ فمن ذلك أنهم ذكروا أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة، ومعرفة قدر المدة. قال في "المغني": يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم فيه خلافا، انتهى. ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها، أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من مسائل المشاركات؟ فإن قلنا: إنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة على مدة معلومة؛ ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وعللوه بأن العوض مجهول، فلا تصح الإجارة بعوض مجهول، وأجازه الإمام أحمد، فمن أصحابه من

قال: هو إجارة. ومنهم من قال: بل هو مزارعة بلفظ الإجارة. قال في "الإنصاف": والصحيح من المذهب أن هذه إجارة؛ لأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المأجورة، وهو من مفردات المذهب. انتهى. قال في "المغني": "إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب. واختار أبو الخطاب أنها لا تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو الصحيح -إن شاء الله-، لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول، فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنه لا نص في جوازها، ولا يمكن قياسها على المنصوص؛ فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك، ولا نعلم في تجويزها نصا. والمنصوص جواز إجارة ذلك بذهب أو فضة أو شيء معلوم، فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة. انتهى. وقال في "المغني" أيضا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها، وما ولدت من ولد (فهو) بينهما؟ قال: "أكره ذلك". وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفا؛ وذلك لأن العوض معدوم مجهول أيوجد أم لا، والأصل عدمه. انتهى. وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشركة، وقلنا: هي بمسائل الشركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها. وأنا أذكر لك بعض ما ذكر العلماء في هذا الباب: قال في "المغني": وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا أو كيفما شرط صح، نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن

المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله. ولنا أنها عين نمت بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، وقد أشار أحمد رحمه الله تعالى- إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، لحديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر على الشطر" 1. وهذا يدل على أنه ظاهر في مثل هذا إلى الجواز، لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة. ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة، أرجو أن لا يكون به بأس. ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل يكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز، والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصا وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب. وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه. ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع. وسئل: عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين؟ قال: أكرهه؛ لأن هذا شيء لا يعرف الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا؛ لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر" 2. قيل لأبي عبد الله: فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما؟ قال: فليجعل له ثلثا وعشر ثلث، أو نصف عشر وما أشبهه، انتهى ملخصا. وقد نص أحمد أيضا على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له، ويقول: ما زاد فهو لك. وقال في "الإنصاف": "ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل بهما بجزء من الأجرة،

_ 1 البخاري: الإجارة (2286) , والترمذي: الأحكام (1383) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17,2/37) . 2 البخاري: الإجارة (2286) , والترمذي: الأحكام (1383) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17,2/37) .

أو ثوبا يخيطه، أو غزلا ينسجه بجزء من ربحه جاز، نص عليه، وهو المذهب، جزم به ناظم "المفردات"، وهو منها. وقال في "الحاوي الصغير": ومن استأجر من يجد نخله أو يحصد زرعه بجزء مشاع منه جاز نص عليه في رواية مهنا، وعنه لا يجوز وللعامل أجرة مثله. ونقل مهنا في "الحصاد": "هو أحب إلي من المقاطعة، وعنه له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه، اختاره شيخ الإسلام والمذهب، لا لحصول نمائه من غير عمله، انتهى ملخصا. وقال في "المغني": وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الآخر البقر، والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا، فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر؛ لأنه نماء ماله، ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما، انتهى. وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم الدابة، ومن آخر راوية، ومن الآخر العمل، على أن ما رزق الله بينهم، صح في قياس قول أحمد، فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، على أن لهم الأجرة على الصحة، وهذا مثله. وهكذا لو اشترك أربعة، من أحدهم دكان، ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل، ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك، فما رزق الله تعالى- بينهم صح، وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعا. وهو ظاهر قول الشافعي، انتهى. ومن تأمل ما نقلناه تبين له حكم مسألة السؤال، والله أعلم.

رسالة سادسة: عدة البائن إذا مات زوجها

رسالة سادسة: عدة البائن إذا مات زوجها بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن مسائل: (الأولى) : المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة، فهذه إن كان زوجها طلقها في الصحة- فإنها تبني على عدة الطلاق، ولا تعتد للوفاة، كما لو لم يمت. عدة المتوفى عنها وهي حامل (الثانية) : المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في حداد ولو اعتدت أربعة أشهر وعشرا؟ فالأمر كذلك هي في حداد حتى تضع حملها. العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده (الثالثة) : العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده، هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك، وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله. المطلقة ثلاثا قبل الدخول بها (الرابعة) فيمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاثا، هل إذا بانت بالأولى تحل له بملاك جديد، أم تحرم عليه إلا بعد الزوج الثاني بعد أن يجامعها؟....1 ولا تحل للزوج الأول قبل جماع الزوج الثاني. وأما إن كان طلقها ثلاثا؛ واحدة بعد واحدة، فإنها تبين بالأولى، ولا يلحقها بقية الطلاق؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، ولا يلحقها الطلاق، فإذا بانت بالأولى حلت لزوجها بعقد ثان، وإن لم تتزوج غيره، وتبقى معه على طلقتين. طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس (الخامسة) فيمن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس، ثم تزوجت

_ 1 الظاهر أن هذا آخر السؤال، وأن بدء الجواب بعده بالواو سهو.

لها زوجا ثانيا، وطلقها قبل أن يمسها، هل ترجع إلى الأول؟ فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد، لأنها حلال لزوجها قبله، فإذا اعتدت حلت لزوجها الأول بعقد جديد، فإن لم يكن خلا بها فلا عدة، ويعقد عليها الثاني في الحال. وطء الصبي الصبية (السادسة) : إذا وطئ الصبي الصبية، هل يلزمهما غير التعزير؟ فلا يلزمهما حد، بل يعزران تعزيرا بليغا، قال الشيخ تقي الدين: لا خلاف بين العلماء أن غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيرا بليغا. رمى صبية بالزنى أو صبيا (السابعة) فيمن رمى صبية بالزنى أو صبيا، فإن كان يمكن الوطء من مثله -كبنت تسع وابن عشر- فهذا يقام الحد على قاذفهما، وإن لم يبلغا -بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله، والصغيرة التي لا يجامع مثلها- فليس على قاذفهما إلا التعزير، وأما الصغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلا التعزير. تفسير الشرطين (الثامنة) عبارة "الشرح" في تفسير الشرطين، وكذلك عبارة "الإنصاف" التي نقلت، فالذي عليه الفتوى: أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد كما هو اختيار الشيخ تقي الدين. دية الجراح المقدرات (التاسعة) الجراح المقدرات، مثل الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد، فديتها في نسبتها من ثمنه، فالموضحة في الحر ديتها نصف عشر الدية، ومن العبد نصف عشر قيمته بعد البرء. دية المملوك قيمته (العاشرة) : دية المملوك قيمته، سواء كثرت أو قلت، وإذا قتل الحر العبد لم يقد به؛ لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 1. الإقرار بالزنى (الحادية عشرة) : الإقرار بالزنى هل يكفي فيه مرة أو أربع؟ فالمسألة خلافية بين العلماء، والأحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات، كما هو مذهب

_ 1 سورة البقرة آية: 178.

رسالة سابعة: سرقة الدابة

الإمام أحمد، ولا بد أن يقيم على إقراره، فإن رجع عن إقراره لم يقم عليه الحد، بل لو شرعوا في إقامة الحد عليه، فرجع ترك، لحديث ماعز، والله أعلم. رسالة سابعة: سرقة الدابة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم، والإيمان، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه، وكذلك المسائل التي تسأل عنها. (الأولى) : إذا سرقت الدابة، ونحرت ... إلخ. (فالجواب) : إن الدابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ، أو لم يكن معقولا، وكان الحافظ ناظرا إليه أو مستيقظا بحيث يراه، ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الحرز فعلى السارق القطع بشروطه. فإن لم تكن في حرز فلا قطع على السارق، وعليه غرامة مثلي قيمتها، وهو مذهب الإمام أحمد، واحتج بأن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها. وأما من سرق من الثمرة، فإن كان بعدما آواها الجرين فعليه القطع. فإن كان قبل ذلك بأن سرق من الثمر المعلق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله، وبالغ أبو عمر بن عبد البر، وقال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بغرامة مثليه. والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه

عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة1، فلا شيء عليه. ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع" حديث حسن. قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئا يدفعه، وأما ما عدا هذا من الثمرة والماشية، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا يغرم أكثر من القيمة، إن كان متقوما أو مثله إن كان مثليا، فالأصل وجوب غرامة المثل فقط، المتلف والمغصوب والنهب والاختلاس وسائر ما تجب غرامته مخالفة الأصل في هذين الموضعين لا أثر له، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشيخ تقي الدين - رحمه الله- وجوب غرامته المثلية في كل سرقة لا قطع فيها. وأما قول السائل -وفقه الله- إذا اختلفا في القيمة، ولا بينة لهما، من القول قوله؟ 2 فالظاهر من كلامهم أن القول قول الغارم. وأما قوله إذا سرقها، وباعها على من لا يعرف، فما الحكم؟ فنقول الحكم فيها كما تقدم، وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطبا، وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن فيه أن السائل قال: الشاة الحريسة يا نبي الله؟ قال: "ثمنها ومثله معه"3 ولا فرق بين بيع الشاة، وبين ذبحها ونحر الناقة وبيعها. دبر الرجل جاريته (وأما المسألة الثانية) : إذا دبر الرجل جاريته كقوله: أنت عتيقة على موتي، أو إذا مت فأنت حرة، فهل بين هذه الألفاظ فرق؟ (فالجواب) : أنه لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علق صريح العتق بالموت فقال: أنت حرة أو محررة أو عتيقة بعد موتي، صارت مدبرة بغير

_ 1 الخبنة كما في القاموس ما يحمله في حفنه. 2 أي فالقول لمن. 3 ابن ماجه: الحدود (2596) .

خلاف علمته. وأما قوله إذا دبرها، وهي حامل أو حملت بعد التدبير، فما الحكم في ولدها؟ فنقول: أما إذا دبرها وهي حامل، فإن ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه، لأنه بمنزلة عضو من أعضائها. وأما إذا حملت بعد التدبير، ففيه خلاف بين العلماء: فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير، ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها، وهو مروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري وأصحاب الرأي. وذكر القاضي أن حنبلا نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشترطه المولى قال: فظاهره أنه لا يتبعها، ولا يعتق بموت سيدها، وهذا قول جابر بن زيد، وهو اختيار المزني من أصحاب الشافعي. قال جابر بن زيد: إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت، فإن ثمرته لك ما عشت، وللشافعي قولان كالمذهبين. تصرف الفضولي (وأما المسألة الثالثة) إذا تصرف الفضولي، وأنكره صاحب المال، فلم يجز التصرف، فما الحكم في نماء المبيع؟ (فنقول) : اختلف الفقهاء في تصرف الفضولي إذا أجازه المالك، هل هو صحيح أم لا؟، والخلاف مشهور. وأما إذا لم يجز المالك لم ينعقد أصلا، ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف، بل الملك باق على ملك صاحبه، ولا ينتقل بتصرف الفضولي، ونماؤه لمالكه. وأما قوله: إذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما لحقك من الغرامة، هل يلزمه غرامة النماء؟ فنقول: إن كان المشتري جاهلا أن هذا مال الغير، أو كان عالما لكن جهل الحكم، وغره الفضولي، فما لزم المشتري من الغرامة

من هذا النماء الذي تلف تحت يده، فهو على الضامن من الغار. إثبات الشفعة بالشركة والطريق (وأما المسألة الرابعة) وهي قوله على القول بإثبات الشفعة بالشركة والطريق، هل إذا باع إنسان عقاره، وقد وقعت الحدود أن الشركة باقية في البئر والطريق ومسير الماء، هل يأخذ الشفيع المبيع كله لأجل الشركة في هذه الأمور؟ أم لا شفعة له في الطريق ومسير الماء؟ فنقول: على القول بإثبات الشفعة بالشركة في البئر والطريق، يأخذ الشفيع المبيع كله بالشركة في البئر والطريق، ولا يختص ذلك في البئر نفسها ولا بالطريق وحده، وقد نص على ذلك أحمد -رحمه لله- في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال: للجار إذا كان الطريق واحدا؛ فإذا صرفت الطرق، وعرفت الحدود، فلا شفعة. ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن الأربعة من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" 1. وفي حديث جابر المتفق عليه: "الشفعة في كل ما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة" 2. فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأول بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطرق، والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق لأن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك، ومع بقاء الشركة في البئر والطريق يبقى الضرر بحاله، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين - رحمه الله-، وهو الذي عليه الفتوى. وأما الشفعة فيما لا ينقل وليس بعقار كالشجر إذا بيع مفردا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، فالمشهور في المذهب أنها لا تثبت فيه، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تثبت

_ 1 الترمذي: الأحكام (1369) , وأبو داود: البيوع (3518) , وابن ماجه: الأحكام (2494) , وأحمد (3/303) , والدارمي: البيوع (2627) . 2 البخاري: الشفعة (2257) , ومسلم: المساقاة (1608) , والترمذي: الأحكام (1370) , والنسائي: البيوع (4646) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296,3/399) .

في البناء والغراس، وإن بيع مفردا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم "1، ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر، والضرر فيما لم يقسم أبلغ منه فيما ينقسم، وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشفيع شريك، والشفعة في كل شيء" 2 وقد روي مرسلا، ورواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعا، ولفظه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء" 3. وجوب الضيافة (وأما مسألة الضيافة) والقول بوجوبها، فالضيف على من نزل به. وأما الغائب، ومن لم ينزل به الضيف، فلا يجب عليه معونة المنزول به إلا أن يختار المعين. إبراء الغريم (وأما مسألة الغريم) الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين، فلما برئ من المرض أراد الرجوع مما زاد على الثلث، فهذا لا رجوع فيه، بل سقط الدين بمجرد إسقاطه، وإنما التفضيل فيما إذا أبرأ من الدين ومات في ذلك المرض. (وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول) بأن شرط عليه ذلولا تمشي في الجهاد دائما، ومتى ماتت اشترى أخرى، أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام، فهذا لا يصح، والبراءة والحالة هذه لا تصح، والله أعلم.

_ 1 ابن ماجه: الأحكام (2497) . 2 الترمذي: الأحكام (1371) . 3 البخاري: الشركة (2496) , ومسلم: المساقاة (1608) , والنسائي: البيوع (4701) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296) , والدارمي: البيوع (2628) .

رسالة ثامنة: طلق زوجته في مرض موته وأبانها

رسالة ثامنة: طلق زوجته في مرض موته وأبانها بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان -حفظه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الخط وصل -أوصلك الله إلى رضوانه- وهذا جواب المسائل واصلك -إن شاء الله تعالى-. (الأولى) فيمن طلق زوجته في مرض موته، وأبانها؛ فالذي عليه العمل أنها ترثه، ما دامت في العدة في قول جمهور العلماء، وكذا ترثه بعد العدة ما لم تتزوج، كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد في رواية؛ بل مذهب مالك: أنها ترثه ولو تزوجت، والراجح الأول. المطلقة عليها أطول الأجلين (المسألة الثانية) وهي قولهم في المطلقة عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشرا، فصورة المسألة على ما صورته في السؤال، وأما الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أن المطلقة البائن في مرض الموت تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي: تبني على عدة الطلاق. إجارة العين المستأجرة (وأما المسألة الثالثة) : فالمشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغني: يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وأما إجارتها قبل قبضها، فلا يجوز من غير المؤجر في إحدى الوجهين، وهو قول أبي حنيفة، والمشهور

من قولي الشافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. الحرز (وأما المسألة الرابعة) وهي مسألة الحرز، فالحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال: فحرز الغنم الحظيرة، وحرزها في المرعى بالراعي، ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب، وأما إذا نام عنها فقد خرج من الحرز. والضابط ما ذكرناه، وهو أن الحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، والأموال تختلف؛ وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة، فراجعه. السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز (وأما المسألة الخامسة) وهي السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رؤوس النخل، لحديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمر ولا كثر" 1. وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة، لا قطع فيها، وتضمن بمثل قيمتها. والثمر يضمن بمثلي قيمته لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وروى الأثرم أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها، وهذا مذهب أحمد. وأما الجمهور فقالوا: لا يجب عليه إلا غرامة مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بغرامة مثليه. وحجة أهل القول الأول حديث عمرو بن شعيب قال أحمد: لا أعلم شيئا يدفعه. وأما المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم، فلا يغرم إلا مثله من غير زيادة على المثل والقيمة، لأن الأصل وجوب غرامة المثل بمثله، والمتقوم بقيمته خولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. جامع جاهلا أو ناسيا في نهار رمضان (وأما المسألة السادسة) : إذا جامع جاهلا أو ناسيا في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي أم بينهما فرق؟

_ 1 الترمذي: الحدود (1449) , والنسائي: قطع السارق (4960,4961,4962,4963,4964,4965,4966,4967,4968,4969,4970) , وأبو داود: الحدود (4388) , وابن ماجه: الحدود (2593) , وأحمد (3/463,3/464,4/140,4/142) , ومالك: الحدود (1583) , والدارمي: الحدود (2304,2305,2306,2308,2309) .

فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة، وبعض الفقهاء فرق بين أن يكون جاهلا بالحكم أو جاهلا بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقدا أن الفجر لم يطلع، فبان أنه قد طلع، ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت؛ فالناسي مثله وأولى. قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلا بالوقت أو ناسيا، ولا كفارة أيضا. أقسام القذف (وأما المسألة السابعة) وهي مسألة القذف، فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية كالطلاق؛ فالصريح ما لا يحتمل غيره نحو: يا زاني يا عاهر، ونحو ذلك. والكناية التعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره، فإن فسر الكناية بالزنى فهو قذف، لأنه أقر بالقذف، وإن فسره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمينه، ويعزر تعزيرا يردعه وأمثاله، ونحو ذلك، فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره، ولم يفسره بما يوجب القذف، فإنه يعزر، ولا حد عليه. أخذ الأب صداق ابنته (وأما المسألة الثامنة) : هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟ فالمشهور عن أحمد جوازه، وهو قول إسحاق بن راهويه. وقد روي عن مسروق أنه زوج ابنته، واشترط لنفسه عشرة آلاف يجعلها في الحج والمساكين، ثم قال للزوج: جهز امرأتك. وروي ذلك عن علي بن الحسين أيضا، واستدلوا لذلك بما حكى الله عن شعيب {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 1 وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 2 وقوله: "إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم" 3 فإذا شرط لنفسه شيئا من الصداق كان آخذا من مال ابنته، وله ذلك.

_ 1 سورة القصص آية: 27. 2 ابن ماجه: التجارات (2291) . 3 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4450) , وأبو داود: البيوع (3529) , وابن ماجه: التجارات (2290) , وأحمد (6/41,6/127,6/162,6/193,6/201) , والدارمي: البيوع (2537) .

استبدال الدين (وأما المسألة التاسعة) : إذا كان لإنسان طعام في ذمة رجل، وليس هو سلما، وذلك بأن يكون قرضا، أو إجارة أرض أو عمارة نخل، وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنسا آخر من الطعام، فهذا لا بأس به إذا لم يتفرقا وبينهما شيء. فإن اتفقا على المعاوضة، وتفرقا قبل التقابض لم يثبت الأول، ومتى تقابضا جازت المعاوضة، كما يجوز ذلك في بيع الأعيان، لقوله: صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" 1، وكما وردت السنة بمثل ذلك في قبض الدراهم عن الدنانير، والدنانير عن الدراهم في حديث ابن عمر. العاصب للميت من كان أقرب من غيره (وأماالمسألة العاشرة) فالعاصب للميت من كان أقرب من غيره، بعد العاصب أو قرب، فمتى ثبت النسب بأن هذا ابن عم الميت، ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب، ولو بعد عن الميت. فإن عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة، ولم يعرف له عاصب معين، وأشكل الأمر دفع إلى أكبرهم سنا، فإن كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه، ولم يوجد عاصب، فالرد إلى ذوي الفروض أولى من دفعه إلى بيت المال، ويرد على أهل الفروض على حسب ميراثهم إلا الزوج والزوجة، فلا يرد عليهم. تغريب المرأة البكر في الزنى (وأماالمسألة الحادية عشرة) : إذا زنت المرأة البكر وجلدت، فهل تغرب أم لا؟ والمسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث، أعني قوله: صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام" 2. والله أعلم.

_ 1 مسلم: المساقاة (1587) , وأحمد (5/320) . 2 أحمد (3/476) .

رسالة تاسعة: التهليلات العشر من صلاتي المغرب والفجر

رسالة تاسعة: التهليلات العشر من صلاتي المغرب والفجر (قال جامع الرسائل) : ومن جواب أسئلة وردت على حمد بن ناصر - رحمه الله وعفا عنه- قال: (التهليلات العشر من صلاتي المغرب والفجر) الحمد لله، أما المسائل التي سألت عنها، فأولها السؤال عن التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، إذا كان قد ثبت في الأحاديث: "من قال قبل أن ينصرف - وفي لفظ دبر المغرب والصبح -: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" 1 إلخ، وهو الذي يفعله الناس اليوم من الجهر، هل كان من هديه - صلى الله عليه وسلم- وفعله أصحابه والتابعون؟ وما أصل هذه التهليلات؟ فنقول، وبالله التوفيق: أما أصل التهليلات العشر، فهو ما أشار إليه السائل - وفقه الله- من الأحاديث الواردة فيه، فروى الترمذي في سننه حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في دبر صلاة الصبح، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي، ويميت، وهو على كل شيء قدير - عشر مرات -، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات" 2 … الحديث. وروى الترمذي أيضا، والنسائي في اليوم والليلة من حديث عمارة بن شبيب مرفوعا: "من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، على إثر المغرب، بعث الله له مَسْلحةً يحفظونه حتى يصبح" 3 الحديث. قال الترمذي: غريب. فهذان

_ 1 أحمد (4/226) . 2 الترمذي: الدعوات (3474) . 3 الترمذي: الدعوات (3534) .

الحديثان هما أصل التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، وهما حجة على استحباب هذه التهليلات، ولهذا استحبها العلماء، وذكروها في الأذكار المستحبة دبر الصلاة، وأن المصلي يهلل بهن دبر صلاة الفجر وصلاة المغرب. (المأثور في الأذكار عقب الصلاة ورفع الصوت بها) وأما قول السائل: هل كان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم أو فعله أصحابه؟ فهذا لم يبلغنا من فعله – صلى الله عليه وسلم-، والذي ثبت عنه الترغيب في ذلك، ويترتب الأجر العظيم على فعله، وذلك كاف في استحبابه. وهذا له نظائر كثيرة في السنة: فإذا وردت الأحاديث بالحث على شيء من العبادات ورغب فيه الشارع ثبت أنها مستحبة، وإن لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه فعلها لم تستحب. ومن تأمل الأحاديث عرف ذلك، وليس في هذا اختلاف بين العلماء، وإنما الخلاف بينهم في استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " 1. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، يعني بالجهر. ولهذا اختلف العلماء، هل الأصل الإسرار كما هو المشهور عند أتباع الأئمة؟ أم الجهر أفضل لهذا الحديث الصحيح؟ قال في الفروع: وهل يستحب الجهر لذلك كقول بعض السلف والخلف، وقاله شيخنا، أم لا؟ كما ذكره أبو الحسن بن بطال وجماعة، وأنه قول أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم، وظاهر كلام أصحابنا مختلف، ويتوجه تخريج واحتمال يجهر لقصد التعليم فقط، ثم يتركه، وفاقا للشافعي، وحمل الشافعي خبر ابن عباس على هذا. انتهى

_ 1 البخاري: الأذان (841) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (583) , وأبو داود: الصلاة (1003) , وأحمد (1/367) .

كلامه. فهذا الاختلاف في استحباب الجهر بعد الصلوات بالأذكار الواردة من حيث الجملة، وحديث ابن عباس دليل على الاستحباب. وأما تخصيص هذه التهليلات بالجهر دون غيرها من الأذكار، فلم نعلم له أصلا، ولكن لما أثبت ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صح الاستدلال به على رفع الصوت بالتهليلات؛ إذ هو من جملة الأذكار الواردة، فمن رفع صوته بذلك لم ينكر عليه، بل يقال: رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة مستحب، ومن أسر لم ينكر عليه، لأن ذلك من مسائل الاختلاف بين العلماء، وكل منهم قد قال باجتهاده، رضي الله عنهم. (حكم التلقيح بالجدري) وأما السؤال عن التوتين الذي يفعله العوام يأخذون قيحا من المجدور، ويشقون جلد الصحيح، ويجعلونه في ذلك المشقوق يزعمون أنه إن جدر يخفف عنه، فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعليقها فيما يظهر لنا، وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته حمى الجدري لطخوا رجليه بالحنا لئلا يظهر الجدري في عينيه، وقد جرب ذلك، فوجد له تأثير، وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري. والذي يظهر لنا فيه الكراهة، لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله إلا أنه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري، فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما قد ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع؛ فمات بسبب ذلك فهذا وجه الكراهة1.

_ 1 يظهر أن هذا التوتين الذي يسمى الآن التلقيح أو التطعيم لم يكن في عصر هذا المفتي أو في بلاده قد نجح كنجاحه المعروف الآن حتى في أمراض أخرى غير الجدري، ولذلك أثبت أنه مظنة الضرر فيكون مكروها، وقد حرمه في أول ظهوره كثير من أهل البلاد، والملل المختلفة حتى الإنكليز، وقد ثبت من عهد بعيد أنه يقي من هذا الداء الفتاك المشوه، وأن تأثير التلقيح الواقي خفيف جدا يتحمله الأطفال بسهولة، فالقول بوجوبه غير بعيد.

(التوسل إلى الخالق بالمخلوقين) وأما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فهذا ليس فيه دليل على السؤال بالمخلوق كما قد توهمه بعض الناس، فاستدل به على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، وإنما هو سؤال الله – تعالى- بما أوجبه على نفسه فضلا وكرما، لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1، ونظيره قوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2، وقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3، وقوله: {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} 4. هذا معنى ما ذكر العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح، وإلا فهو ضعيف. وعلى تقدير صحته، فهو من باب السؤال بصفات الله، لا من السؤال بذات المخلوقين، والله أعلم.

_ 1 سورة البقرة آية: 186. 2 سورة الروم آية: 47. 3 سورة هود آية: 6. 4 سورة يونس آية: 103.

رسالة عاشرة: ما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي والعملي

رسالة عاشرة: ما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي والعملي بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ إبراهيم بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) : وصل الخط -أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت صار عندنا معلوما. ومن جانب السؤال عما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي، فيذكرون أهل العلم أن سورة الإخلاص متضمنة للتوحيد العلمي، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 متضمنة للتوحيد العملي. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب - تعالى- من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفو المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل. فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي الشبيه والمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه. وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. وبيان ذلك أن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والخبر نوعان: خبر عن الخالق، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه - سبحانه- وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، كما أخلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 3 لبيان الشرك العملي القصدي.

_ 1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 سورة الكافرون آية: 1.

(الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية) وأما الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، فهي مسألة عظيمة، ومن لم يعرفها لم يعرف حقيقة التوحيد والشرك. والشيخ - رحمه الله-1 عقد لها بابا في كتاب التوحيد فقال: باب الشفاعة) ، وقول الله – تعالى-: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2، ثم ساق الآيات، وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين. فأنت راجع الباب، وأمعن النظر فيه يتبين لك حقيقة الشفاعة، والفرق بين ما أثبته القرآن، وما نفاه. وإذا تأمل الإنسان القرآن، وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة، وآيات كثيرة في إثباتها. فالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله – تعالى-: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3، ومثل قوله – تعالى-: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 4، وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 5، وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 6، إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن؛ فمثل قوله – تعالى-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7، وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 8 وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 9، وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 10، إلى غير ذلك من الآيات. فالشفاعة التي نفاها القرآن هي التي يطلبها المشركون من غير الله، فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين، فيستغيث به، ويتشفع به إلى الله لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع

_ 1 يعني الشيخ محمد عبد الوهاب قدس الله روحه. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة البقرة آية: 254. 5 سورة السجدة آية: 4. 6 سورة الزمر آية: 44. 7 سورة النجم آية: 26. 8 سورة سبأ آية: 23. 9 سورة الأنبياء آية: 28. 10 سورة طه آية: 109.

له عند الله، وقضى الله حاجته، سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية. كما حكاه – تعالى- عن المشركين في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 لكن (كان) الكفار الأولون يتشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية. وأما المعاد فكانوا مكذبين به جاحدين له. وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة، ويتقربون بذلك إلى الله، ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة، و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} 2. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن، فقيدها – سبحانه- بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله وعمله، وهو – سبحانه- لا يرضى إلا التوحيد، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص. فمن طلبها منه اليوم حرمها يوم القيامة، والله – سبحانه- قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وإنما تنفع من جرد توحيده لله بحيث أن يكون الله – وحده- هو إلهه ومعبوده، وهو -سبحانه- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال – تعالى-: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. فإذا تأملت الآيات، تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون، ويطلبونها اليوم من غير الله. (وأما الشفاعة المثبتة) فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الشورى آية: 16. 3 سورة الزمر آية: 3.

رسالة حادية عشرة: صفة الواجب والمسنون

رسالة حادية عشرة: صفة الواجب والمسنون بسم الله الرحمن الرحيم السؤال بخط منصور أبا حسين1، والجواب بخط المجيب حمد بن ناصر - رحمه الله-. من منصور أبا حسين2 إلى الأخ حمد بن ناصر -حفظه الله بما حفظ به عباده الصالحين، وجعله من أئمة المتقين، ومن أصحاب اليمين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد) : أفدني أثابك الله الجنة، ما صفة الواجب وحده والمسنون وحده؟ وما يترتب عليهما من الثواب والعقاب؟ كذلك ما صفة المكروه وحده، وصفة المحرم وحده؟ كذلك إذا دخل الرجل المسجد، هل يعمل على حديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي، وهو داخل في وقت النهي، أو يعمل على حديث "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس" 3 … إلخ؟ كذلك بيع الدين بالدين، وبيعتين في بيعة، مثّلهما لي، ولا تخلني من صالح دعاك، واستودعك الله وأنت سالم، والسلام. (تعريف الواجب والمسنون والمكروه والمحرم) الحمد لله رب العالمين، الواجب في الشرع ما ذم تاركه إذا تركه قصدا، وأثيب فاعله، وهو يرادف الفرض عند الحنابلة والشافعية وأكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أن الفرض آكد من الواجب، وهو قول أبي حنيفة.

_ 1 يظهر أن لغتهم بنجد إعراب لفظ أب المضاف بالألف مطلقا. 2 يظهر أن لغتهم بنجد إعراب لفظ أب المضاف بالألف مطلقا. 3 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295,5/303,5/305,5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) .

وأما المسنون فهو ما أثيب فاعله، ولم يذم تاركه، والسنة في اللغة الطريقة والسيرة. وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم- وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز. وأما المكروه فهو ضد المندوب، وهو لغة ضد المحبوب، وشرعا ما مدح تاركه، ولم يعاقب فاعله. ومنه ما نهى عنه الشارع لرجحان تركه على فعله كالصوم في السفر إذا وجدت المشقة في الصوم، ونحو ذلك. وأما المكروه فهو في عرف المتأخرين ما نهي عنه نهي تنزيه. ويطلق على الحرام أيضا، وهو كثير في كلام المتقدمين كالإمام أحمد، وغيره كقول الإمام أحمد أكره المتعة والصلاة في المقابر، وهما محرمان، وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 1. وأما الحرام، فهو ضد الحلال، وهو ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من ترك الواجبات وفعل المحرمات. وأصل التحريم في اللغة المنع، ومنه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} 2. وحده شرعا ما ذم فاعله، ولو قولا كالغيبة والنميمة، ونحوهما مما يحرم التلفظ به، أو عمل القلب كالنفاق والحقد ونحوهما. تحية المسجد وقت الكراهية وأما قوله إذا دخل الرجل المسجد وقت النهي هل يترك التحية على أحاديث النهي… إلخ؟ فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما أنه لا يصلي التحية وقت النهي، وهو المذهب الذي عليه أكثر الأصحاب، وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي. والثانية يجوز

_ 1 سورة الإسراء آية: 38. 2 سورة القصص آية: 12.

وهو قول الشافعي، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لأنه قد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" 1 وهو حديث صحيح، وهو يخص أحاديث العموم. وأهل هذا القول حملوا أحاديث النهي على ما لا سبب له، وأما ذوات الأسباب كركعتي الطواف، وتحية المسجد، وإعادة الصلاة إذا صلاها في رحله، وإعادة صلاة الفجر إذا صلاها في رحله ثم حضر الجماعة وهم يصلون، ونحو ذلك، فهذا يفعل في أوقات النهي لأدلة دلت على ذلك، وهي تخص عموم النهي، وكما أن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها باتفاق العلماء، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه أمر من دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، وليتجوز فيهما. وهذا نظير قوله في أبي قتادة: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فقد نهى عن الجلوس قبل الصلاة، وذلك أمر بالصلاة إذ لم يقل أحد أنه إذا دخل عقيب صلاة العصر يقوم قائما إلى غروب الشمس. ومما يبين رجحان هذا القول أن المانعين من فعل التحية وقت النهي أجازوا ما هو مثلها، فإن مذهب الإمام أحمد أن ركعتي الطواف تفعل في أوقات النهي، وكذلك المعادة مع إمام الحي إذا أقيمت، وهو في المسجد يصليها معهم في وقت النهي. وكذلك قضاء الفوائت تفعل في وقت النهي، وكذلك صلاة الجنازة تفعل في الوقتين الطويلين من أوقات النهي، هذا مذهب أحمد في هذه المسائل فما كان جوابهم ودليلهم على جوازه، فهو دليل من أجاز تحية المسجد في هذه الأوقات، فإن قوله: صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" 2 أمر عام لجميع الأوقات فإذا قال منازعوهم: أحاديث النهي تخص

_ 1 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295,5/303,5/305,5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) . 2 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295,5/303,5/305,5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) .

هذا العموم قالوا لهم: أنتم جوزتم الصلاة وقت الخطبة، وركعتي الطواف وإعادة الجماعة، وقضاء الفوائت وصلاة الجنازة، فلم تعملوا بأحاديث النهي على ظاهرها بل خالفتم ظاهرها في صور معلومة. بيع الدين بالدين وأما بيع الدين بالدين، فله صور: منها ما هو منهي عنه بالاتفاق، ومنها ما هو مختلف فيه. وهو ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط. فالذي لا شك في بطلانه بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع ما في الذمة مؤخرا بشيء في الذمة مؤخرا، فإن الكالئ هو المؤخر فإذا أسلم شيئا في ذمته في شيء في ذمة الآخر، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز باتفاق العلماء. ومثال الساقط بالساقط صورة المقاصة، فإن اتفق الدينان جنسا وأجلا فلا بأس بها، وإن اختلف الجنس كما لو كان لكل واحد من اثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة وتساقطا، ولم يحضرا شيئا فهذا فيه خلاف المنصوص عن أحمد أنه لا يجوز إذا كانا نقدين من جنسين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز. وأما الساقط بالواجب فكما لو باعه دينا في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين الحال ممن هو في ذمته بدين لم يقبض. وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو كان لرجل دراهم في ذمة رجل آخر فجعل الدراهم سلما في طعام في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه دين غيره؛ وقد حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا يجوز، وليس في ذلك إجماع، بل قد أجازه بعض العلماء، لكن القول بالمنع هو قول الجمهور، والله أعلم.

الرسالة الثانية عشرة: عشرة صلاة المسبوق

البيعتان في بيعة وأما البيعتان في بيعة: فالمشهور عن أحمد أنه اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر كبيع أو إجارة أو صرف الثمن أو قرض، ونحو ذلك، وعنه البيعتان في بيعة إذا باعه بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة، وقال في العمدة: البيعتان في بيعة أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا. انتهى. فجمع بين الروايتين، وجعل كلا الصورتين داخلا في معنى بيعتين في بيعة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الرسالة الثانية عشرة: عشرة صلاة المسبوق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. (أما بعد) : المسألة الأولى: مسبوق دخل مع الإمام، ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح، ويقرأ سورة أم في آخرها فيسكت. (الجواب) : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين هما روايتان عن أحمد: (إحداهما) : أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، قال في الشرح الكبير: هذا هو المشهور في المذهب يروى ذلك عن ابن عمر

ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري، وحكي عن الشافعي، وأبي حنيفة وأبي يوسف، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "وما فاتكم فاقضوا" 1 متفق عليه. فالمقضي هو الفائت، فعلى هذا ينبغي أن يستفتح، ويستعيذ، ويقرأ السورة. (القول الثاني) : أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، والمقضي آخرها، وهو الرواية الثانية عن أحمد قال في الشرح: وبه قال سعيد بن المسيب والحسن، وهو ابن عبد العزيز وإسحاق، وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك، واختاره ابن المنذر، لقوله – عليه السلام-: "وما فاتكم فأتموا" 2. فعلى هذه الرواية لا يستفتح. فأما الاستعاذة، فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ، وإلا فلا. وأما السورة بعد الفاتحة، فيقرؤها على كل حال، قال شيخنا: لا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة، وهذا مما يقوي الرواية الأولى. انتهى. وقال في الفروع: وقيل يقرأ السورة مطلقا، ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافا بين الأئمة الأربعة، وذكر ابن أبي موسى المنصوص عليه، وذكره الآجري عن أحمد، وبنى قراءتها على الخلاف، ذكره ابن هبيرة وفاقا، وجزم به جماعة، واختاره صاحب المحرر، وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك. وصرح به منهم جماعة، وأنه ظاهر رواية الأثرم، ويخرج على الروايتين الجهر والقنوت وتكبير العيد وصلاة الجنازة، وعلى الأولى، يعني الرواية الأولى المشهورة أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة تشهد عقب قضاء أخرى، وفاقا لأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين له كالرواية الثانية انتهى. وفي القواعد الفقهية لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد: الفائدة الرابعة: مقدار القراءة، وللأصحاب في ذلك طريقان: أحدهما

_ 1 البخاري: الأذان (636) والجمعة (908) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (602) , والترمذي: الصلاة (327) , والنسائي: الإمامة (861) , وأبو داود: الصلاة (572) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (775) , وأحمد (2/237,2/238,2/239,2/270,2/318) , ومالك: النداء للصلاة (152) , والدارمي: الصلاة (1282) . 2 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) .

أنه إذا أدرك ركعتين من الرباعية، فإنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كلا الروايتين، قال ابن أبي موسى: لا يختلف قوله في ذلك، والطريق الثاني بناؤه على الروايتين، فإن قلنا: ما يقضيه أول صلاته فكذلك، وإلا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، وذكره ابن أبي موسى تخريجا، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأومأ إليه في رواية حرب. وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى، وقال: لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة أو على رأي من يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين. انتهى ملخصا، والله أعلم. والذي يترجح عندنا أن ما أدركه المسبوق أول صلاته، لأن رواية من روى (فأتموا) أكثر، وأصح عند كثير من أهل الحديث مع أن رواية فاقضوا لا تخالف رواية (فأتموا) ؛ لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام كما قال – تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 1، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 2، قال في "الفتح": قوله –صلى الله عليه وسلم-: "وما فاتكم فأتموا" 3 أي: أكملوا، هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواية ابن عيينة بلفظ: (فاقضوا) ، وحكم مسلم عليه بالوهم في هذه اللفظة مع أنه خرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه قال، والحاصل أن أكثر الروايات، ورد بلفظ فأتموا، وأقلها بلفظ فاقضوا، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا، واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى. وهنا كذلك، لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} 4 … الآية، ويرد لمعان أخر، فيحمل قوله هنا: "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ، فلا

_ 1 سورة الجمعة آية: 10. 2 سورة البقرة آية: 200. 3 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . 4 سورة الجمعة آية: 10.

يغاير قوله: فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم. وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له؛ لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصا. فظهر لك أن هذا القول هو الراجح، والله - سبحانه وتعالى- أعلم. تأخير الصلاة للمسافر عند فقد الماء (المسألة الثانية) : رجل في سفر، ودخل عليه وقت الزوال، وهو عادم الماء، فأخر صلاة الظهر ناويا التأخير إلى العصر، فوجد الماء في وقت الظهر، ولم يستعمله؛ فلما جاء وقت العصر إذا هو عادم للماء؟ (فالجواب وبالله التوفيق) : أن المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه، لأنه يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر، إذا كان ناويا للجمع. قال في الشرح الكبير: وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه، وعدم الماء في الوقت، صلى بالتيمم من غير إعادة، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا، وإلا صلى بالتيمم، وعليه الإعادة، لأنه مفرط، ولنا أنه لم يجب عليه استعماله، أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت. وفي شرح منصور على "المنتهى": من في الوقت أراقه، أي: الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه، ولم يفعل وهو يعلم أنه لا يجد غيره، أو باعه، أو وهبه في الوقت لغير من يلزمه بذله له، حرم عليه ذلك، ولم يصح العقد من بيع أو هبة لتعلق حق الله – تعالى-بالمعقود عليه، فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة. ثم إن تيمم لعدم غيره،

ولم يقدر على رد المبيع أو الموهوب، وصلى، لم يعد، لأنه عادم للماء حال التيمم، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. انتهى. فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت، ولم ينو الجمع، فكيف إذا كان ناويا للجمع؟ والله – سبحانه وتعالى- أعلم. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (المسألة الثالثة) : رجل قضى رجلا مثلا جديدة1 والذي عندهم أنها زينة، وأخذت أياما عنده يعبرها وترد عليه، وأخرجها من يده، وربما رفعها عند أهله، ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه، فأنكرها أن تكون جديدته التي دفعها إليه، ولم تكن بينة، فاليمين على من تكون. (الجواب) : أن الذي يظهر من كلامهم في هذه الصورة أن القول قول الدافع بيمينه، أنها ليست جديدته التي دفعها إذا كانت قد خرجت من يده. وأما إذا لم تخرج من يده ففيها قولان في المذهب: أحدهما وهو المشهور في المذهب: أن القول قول المشتري مع يمينه. قال في الإنصاف: لو باع سلعة بنقد أو غيره معين حال العقد، وقبضه ثم أحضره، وبه عيب وادعى أنه الذي دفعه إليه المشتري، وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به، ولا بينة لواحد منهما، فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته، وعدم وقوع العقد على هذا المعين، ولو كان الثمن في الذمة، ثم نقده المشتري أو قبضه من قرض أو سلم أو غير ذلك مما هو في ذمته، ثم اختلفا كذلك ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو القابض مع يمينه على الصحيح، لأن القول في الدعاوي قول من الظاهر معه، والظاهر مع البائع، لأنه

_ 1 الجديدة نقد متداول بنجد، وزينة جيدة، ويعبرها يدفعها إلى الناس، ورفعها عند أهله حفظها عندهم، فحاصل السؤال أن رجلا دفع نقدا جيدا إلى آخر، فتصرف به أخذا وردا، وربما حفظيه عند أهله، ثم في آخر الأمر وقفت، فأنكرها صاحبها، ولم تكن بينة، فعلى من تكون اليمين؟.

ثبت له في ذمة المشتري ما انعقد عليه العقد غير معين، فلم يقبل قوله في ذمته، إلى أن قال: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده. انتهى. ومراده أنه إذا أخرجه البائع من يده كما في الصورة المسؤول عنها، فالقول قول المشتري، وهو الدافع بلا خلاف عندهم، والله أعلم. اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله (المسألة الرابعة) : باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع لنفي الضمان، لا حقيقة الشرط، هل يصح ذلك؟ وينتفي عنه الضمان أم لا؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: إن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته، وإنما قصدا إبطال ما أثبته الله ورسوله من وضع الجائحة؛ لأن المقصود في العقود معتبر، والأعمال بالنيات، ومن اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وكذلك إذا اشترط شرطا لا حقيقة له، وإنما قصده ونيته غير الشرط. وقد ذكر الشيخ تقي الدين- رحمه الله تعالى-، وتليمذه ابن القيم - رحمه الله تعالى- من ذلك صورا كثيرة في كتاب الإعلام، والله أعلم. الحلف لنفي عيب السلعة (المسألة الخامسة) : لو اشترى سلعة، وخرجت من يده، وظهر بها عيب، فهل يمين البائع على البت أو على نفي العلم؟ (فالجواب) : أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد: (أحدهما) : أن الأيمان كلها على البت في الإثبات والنفي إلا لنفي فعل غيره، أو لنفي الدعوى على الغير، فيحلف على نفي العلم، وهذا هو المشهور في المذهب. (والقول الثاني) : أنها على نفي العلم مطلقا في النفي والإثبات، وهو الرواية الثانية عن أحمد، واختاره أبو بكر، واحتج بالخبر الذي ذكره أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضروا الناس في أيمانهم

أن يحلفوا على ما لا يعلمون". وعن أحمد - رحمه الله- رواية ثالثة: يحلف لنفي عيب السلعة على العلم، وهذا هو المروي عن عثمان رضي الله عنه في قصة العبد الذي باعه ابن عمر -رضي الله عنهما- ثم ظهر به عيب، فقال له عثمان: أتحلف أنك بعته، وما تعلم به عيبا؟ والله – سبحانه وتعالى- أعلم. اشترى سلعة للسفر فوجد قيها عيبا (المسألة السادسة) : لو اشترى سلعة؛ ليسافر بها في بلد، ثم وجد بها عيبا، وأشهد على الرد، ولا حاكم يسلمها إليه، والطريق مخوف، ما وجه الحكم؟ (الجواب) : أن الوجه المناسب له في هذه الصورة: أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد، فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل، وإلا أودعها عند ثقة، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. خرج من يد المرتهن إلى الراهن (المسألة السابعة) : رجل أعار رجلا شيئا؛ ليرهنه، فرهنه عند آخر، فأودعه المرتهن المعير مع علمه، هل يزول اللزوم أم لا؟ (فالجواب) : أن المشهور عند الحنابلة أن المرتهن إذا أخرجه من يده زال اللزوم، وبطل الرهن، لأن استدامة القبض عندهم شرط في لزومه، فمتى أخرجه من يده أو أعاده أو رده إلى مالكه بإعادة أو غيرها، زال لزومه. قال: في الإقناع، وإن آجره أي آجر الراهن الرهن أو أعاره، أي: الرهن لمرتهن أو لغيره بإذنه، فلزومه باق. انتهى. وعن أحمد - رحمه الله- رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد قبل القبض في غير المكيل والموزون، وممن أوجب استدامة القبض مالك، وأبو حنيفة، قال في الشرح الكبير: وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فأولى أن يقول الاستدامة غير شرط، لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء، وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في

الاستدامة. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة، ولنا قول الله – تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1. ولأنها أحد حالتي الرهن، فكان القبض فيه شرطا كالابتداء، ويفارق الهبة، فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك، فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه، واستيفاء الدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه. انتهى. وذكر في الإنصاف وغيره عن أحمد: أنه إن آجره أو أعاره لغير المرتهن زال لزومه، قال في الإنصاف: نصره القاضي، وقطع به جماعة، واختاره أبو بكر في الخلاف، قال المجد في شرحه: ظاهر كلام أحمد أنه لا يصير مضمونا بحال. انتهى. قال في الإنصاف: فلو استأجره المرتهن عاد اللزوم بمضي المدة، ولو سكنه بأجرته بلا إذنه، فلا رهن، نص عليهما. ونقل ابن منصور: إن كراه بإذن الراهن أو له، فإذا رجع صار رهنا، والكراء للراهن. انتهى. فظهر بما تقدم أن المشهور في المذهب: أنه إذا أعاره الراهن المرتهن أو غيره، أو آجره للمرتهن أو غيره بإذن المرتهن، أن لزومه باق بحاله. والقول الثاني: أنه متى خرج من يد المرتهن إلى الراهن أو غيره بإعارة أو إجارة، أو سكن المرتهن الدار بلا إذنه، فإنه يبطل لزومه، وهذا هو الذي ذكره في الإنصاف وغيره، منصوص أحمد، وهو طرد القول الصحيح عندهم، لأنهم ذكروا أنه إذا أعاره المرتهن الراهن أو استأجره زال لزومه، فأي فرق بينه وبين الأجنبي؟ مع أن الإمام أحمد - رحمه الله- نص على أنه إذا أخرجه من يده إلى الراهن أو غيره زال لزومه، كما تقدم في رواية ابن منصور وغيره. والله أعلم.

_ 1 سورة البقرة آية: 283.

اختلاف المعير والمستعير (المسألة الثامنة) : أعاره سيفا ليرهنه، وقال: شرطت عليك رهنه عند زيد أو في جنس كذا أو في قدر كذا، فقال: أطلقت الإذن لي، فهل قوله معتبر لاتفاقهما على الإذن واختلافهما في الصفة، أم قول المعير؟ (فالجواب) : أن القول في مثل هذا قول المالك لأنه منكر لما ادعاه خصمه، والقول قول المنكر بيمينه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" 1. قال في الإقناع وشرحه: وإن استعار أو استأجر شيئا ليرهنه، ورهنه بعشرة، ثم قال الراهن لربه: أذنت لي في رهنه بعشرة، فقال ربه: بل أذنت لك في رهنه بخمسة، فالقول قول المالك بيمينه لأنه منكر للإذن في الزيادة، ويكون رهنا بالخمسة فقط. نبات الغرس الذي في أرض الزرع (المسألة التاسعة) : رجل استأجر أرضا للزرع، فنبت فيها غرس، لمن يكون الغرس؟ (فالجواب) : أن الذي يظهر من كلامهم في مثل هذه الصورة أن الغراس يكون للمستأجر؛ لأنه نبت على مائه، فإن شاء قلعه وسوى الحفر، وإن شاء تركه لصاحب الأرض بقيمته، والخيرة في ذلك للمستأجر. المطالبة بالأجرة بعد هلاك الدابة محل الإجارة (المسألة العاشرة) : إذا استأجر رجلا على رعي دابة، وعلى طلاها على جرب؛ فأخذ يرعاها، ثم ماتت الدابة حتف أنفها، هل يستحق شيئا من الأجرة في مقابلة رعيه وطلاه أم لا؟ (الجواب) وبالله التوفيق: أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد: (إحداهما) لأنه لا يستحق شيئا من الأجرة إلا بتسليم العين، وهذا هو المشهور في المذهب، قال في الإنصاف: ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب، وقال

_ 1 الترمذي: الأحكام (1341) .

أيضا: وتجب الأجرة بنفس العقد، هذا المذهب، وتستحق كاملة بتسليم العين أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر، كطباخ استؤجر لعمل شيء في بيت المستأجر. انتهى. قال في المغني: وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل؛ لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق، والثمن في البيع، ولا ضمان عليه أي الأجير المشترك، فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد، قال في الإنصاف: هذا المذهب. قال الزركشي: هو المنصوص عليه في رواية الجماعة، ثم قال: ولا أجرة له فيما عمل فيه، أي الذي تلف في يده، سواء قلنا: إنه لا يضمن أو عليه الضمان، هذا المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب. والقول الثاني أنه له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره، وعنه له أجرة البناء لا غير، نص عليه في رواية ابن منصور، وعنه له أجرة البناء، والمنقول إذا عمله في بيت ربه. وقال ابن عقيل في "الفنون": له الأجرة مطلقا؛ لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه كدفعه إلى البائع غرارة، وقال: ضع الطعام فيها، وكاله فيها، كان ذلك قبضا لأنها كيله؛ ولهذا لو ادعيا طعاما في غرارة أحدهما كان له، قال في "الإنصاف": وهو قوي. وقال في "المنتهى" وشرحه: وله أي: الحامل، أجرة حمله إلى محل تلفه، ذكره في التبصرة. واقتصر عليه في الفروع، لأن ما عمل فيه من عمل بإذن، وعدم تمام العمل ليس من جهته، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا، والله - سبحانه وتعالى- أعلم. الحلف بالحرام (المسألة الحادية عشرة) : لو حرم شيئا لا يفعله، هل يكون ظهارا أم لا؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: أنه ذكر في الإنصاف وغيره من كتب المذهب أنه لو قال: علي الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو

لغو، لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه مع قرينته أو نيته أي الطلاق وجهان، وأطلقهما في المغني والشرح والفروع. قلت: والصواب أنه مع النية والقرينة، كقوله: أنت علي حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع: ويتوجه الوجهان إن نوى به طلاقا، وإن العرف قرينة، ثم قال: قلت: الصواب أنه مع القرينة أو النية، كأنت علي حرام، وهذا كله كلام الإنصاف. واعلم أن الحلف بالحرام له صيغتان: (إحداهما) أن يقول: إن فعلت كذا، فأنت علي حرام، أو أنت علي حرام إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فامرأتي علي حرام، هذا كله صيغة واحدة. (والصيغة الثانية) : أن يقول: الحرام يلزمني إن فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فالحرام لازم، أو علي الحرام لا أفعل كذا، وما أشبه هذا؛فكل هذا حلف بالحرام، وقد اختلف العلماء في ذلك قديما وحديثا حتى ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى- في كتاب الإعلام أن فيها خمسة عشر قولا، ثم سردها، ثم قال: وفي المسألة مذهب وراء هذا كله، وهو أنه إذا وقع التحريم كان ظهارا، ولو نوى أنه الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس. انتهى كلامه. وهذا هو الراجح عندي في هذه المسألة لأن أكثر الناس يقصدون بها الحلف عن الحض والمنع، فعلى هذا يكون من أيمان المسلمين التي فرض الله فيها الكفارة، كما قال تعالى في أول سورة التحريم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 1 بعد قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 2، فدل على أن الحلف بالحرام من أيمان المسلمين المكفرة، لكن هل

_ 1 سورة التحريم آية: 2. 2 سورة التحريم آية: 1.

تكون كفارته كفارة يمين مغلظة أو مخفف؟، وممن قال بأنه يكفر كفارة ظهار ابن عباس في إحدى الروايات عنه، وسعيد بن جبير وأبو قلابة ووهب بن منبه وعثمان البتي، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد. وحجة هذا القول أن الله جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا، وجعله منكرا من القول وزورا، فالتشبيه بالمحرمة يجعله ظهارا، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-: وهذا أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم، وإنما ذلك إليه – سبحانه-، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أو قال: أنت علي حرام، فقد قال المنكر من القول والزور، وكذب، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حراما، فأوجب عليه هذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار. انتهى. وأما من قال: إنه يمين يكفر بما تكفر به اليمين بكل حال، وهو قول أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعائشة، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجمع من التابعين، فحجة هذا القول ظاهر القرآن، فإن الله – سبحانه- فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان بغير المذكور، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. موت الموقوف عليه قبل الواقف (المسألة الثانية عشرة) : لو قال: عقاري هذا مسبل يفعل به فلان ما شاء أو أراد، ومات فلان قبله، والحال إن قصده من جهات بر معلومة كصوام أو مؤذن أو إمام، ما الحكم فيه؟

(فالجواب) : أن مثل هذا وقف صحيح، وللواقف أن يعين الجهة، أو يعين رجلا غيره يجعله في أعمال البر، هذا هو الصحيح -إن شاء الله تعالى-. قال في الإقناع وشرحه: وإن قال: وقفت كذا، وسكت، ولم يذكر مصرفه، فالأظهر بطلانه. والذي في الإنصاف وفي الروضة لأن الوقف يقتضي التمليك، فلا بد من ذكر المملك، ولأن جهالة المصرف مبطلة، فعدم ذكره أولى بالإبطال. قال في الإنصاف: الوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به، وقال في الرعاية: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا. انتهى. ومقتضاه أن صاحب الإنصاف لم يطلع فيه على خلاف للأصحاب، وكذا لم يحك الحارثي في صحته خلافا بين الأصحاب، قال: ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقا كالأضحية والوصية. أما صورة المجهول فالفرق بينهما أن الإطلاق يفيد مصرف البر لخلو اللفظ عن المانع منه، وكونه متعارفا فالعرف إليه ظاهر في مطابقة مراده، وكذلك التقييد بالمجهول، فإنه قد يريد به معينا غير ما قلنا من المتعارف، فيكون إذا الصرف إلى المتعارف غير المطابق لمراده، فينتفي الصرف بالكلية، فلم يصح الشرط. انتهى ما ذكره في الإقناع. وعبارة صاحب الإنصاف: وإن قال: وقفت وسكت، يعني حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء، والوقف صحيح عند الأصحاب، وقطعوا به. وقال في الروضة: على الصحيح عندنا، فظاهره أن في الصحة خلافا، فعلى المذهب حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء في مصرفه على الصحيح من المذهب كما قال المصنف هنا، وقطع به القاضي في المجرد، وابن عقيل، واختاره صاحب التلخيص وغيره، وقال القاضي وأصحابه: يصرف في وجوه البر. انتهى كلامه. وصورة

المسألة المسؤول عنها تقرب من هذه الصورة لأنه لم يعين الجهة، وقد تقرر أن الصحيح أن تعيين الجهة ليس بشرط. وأما إذا جعل النظر والتعيين إلى الرجل بعينه، فمات، فقال في الإقناع وشرحه: فإن لم يشترط الواقف ناظرا أو شرطه لإنسان، فمات المشروط له، فليس للواقف ولاية النصب، أي: نصب ناظر؛ لانتفاء ملكه فلم يملك النصب ولا العزل كل في الأجنبي، ويكون النظر للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه آدميا معينا كزيد، أو جمعا محصورا. انتهى. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. تأجير الوقف (المسألة الثالثة عشرة) : لو آجر الواقف مستحقه مدة طويلة، وحكم حاكم بلزومها، هل تلزم أم لا إلى أن يأتي محل الحكم، وهو موت المؤجر؟ (فالجواب) : أن الذي قطع به مشايخ المذهب أن المستحق للوقف إذا كان هو الناظر، يجوز له إجارة الوقف مدة، ولم يقيدوها بطول أو قصر، فدل على جوازها وصحتها بالمدة الطويلة، ولم يذكروا في ذلك خلافا إلا تخريجا ذكره الموفق في المغني أنها تبطل. وإنما حكى الخلاف في انفساخها بموت المؤجر، هل تنفسخ بذلك أم لا؟ قال في المغني: إذا أجر الموقوف عليه مدة، فمات في أثنائها وانتقلت إلى من بعده، ففيه وجهان: (أحدهما) : لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته، فلم تبطل بموته كما لو آجر ملكه الطلق. (الثاني) تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه آجر ملكه وملك غيره، فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو آجر دارين إحداهما له، والأخرى لآخر، وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره، فلا ينفذ عقده عليها من غير ملك، ولا ولاية بخلاف الطلق، فإن الوارث من جهة الموروث، فلا يملك إلا ما خلف، وما تصرف فيه في

حياته لا ينتقل إلى الوارث، والمنافع التي آجرها قد خرجت من ملكه بالإجارة، فلا ينتقل إلى الوارث، والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف، فما حدث منها بعد البطن الأول كان ملكا لهم، فقد صادف تصرف المؤجر ملكهم من غير إذنهم، ولا ولاية له عليهم فلم يصح، ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة، وهذا التفصيل مذهب الشافعي. فعلى هذا إذا كان المؤجر قبض الأجر كله، وقلنا: تنفسخ الإجارة. فلمن انتقل إليه الوقف أخذه، ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصته للباقي من الأجرة، وإن قلنا لا تنفسخ، رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته. وقال في الإنصاف: يجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر، فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة في أحد الوجهين، (أحدهما) : لا تنفسخ بموت المؤجر، وهو المذهب كناظر الملك، وكملكه الطلق، قاله المصنف وغيره، وصححه جماعة، وقدمه في الفروع وغيره. وقال القاضي في المجرد: هذا قياس المذهب. (والثاني) : تنفسخ، جزم به القاضي في خلافه، واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقال ابن رجب: وهو المذهب الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها بانقراض الطبقة الأولى، قلت: وهو الصواب، وهو المذهب. وقال في الفائق: ويتخرج الصحة بعد الموت موقوفة لا لازمة، وهو المختار. انتهى. ومحل الخلاف المتقدم إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فأما إن كان المؤجر هو الناظر العام أو من شرط له، وكان أجنبيا، لم تنفسخ الإجارة بموته قولا واحدا، قاله الشيخ المصنف والشارح والشيخ تقي الدين وغيرهم. وقال ابن حمدان في رعايته وغيره: ومحل الخلاف إذا آجره مدة

يعيش فيها غالبا، فأما إن آجره مدة لا يعيش فيها غالبا، فإنها تنفسخ قولا واحدا، وما هو ببعيد. فعلى الوجه الأول من أصل المسألة، يستحق البطن الثاني حصتهم من الأجرة من تركة المؤجر إذا كان قبضها، وإن لم يكن قبضها فعلى المستأجر. وعلى الوجه الثاني، يرجع المستأجر على ورثة المؤجر القابض. قال الشيخ تقي الدين: والذي يتوجه أنه لا يجوز تسليف الأجرة للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه بخلاف المالك؛ وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر، انتهى كلام صاحب الإنصاف، وفيه بعض تلخيص، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وأما إذا حكم حاكم ممن يجوز له الحكم لكونه أهلا لذلك في هذا العقد المختلف فيه ونحوه، فإنه لا يجوز له نقضه، والله أعلم. الخلع على مجهول (المسألة الرابعة عشرة) : لو خلع زوجته على نفقة ولده منها، وشرطت إن مات فلا رجوع له، هل يصح الخلع والشرط أو يفسد؟ (فالجواب) وبالله التوفيق: أن الذي يظهر من كلام الأصحاب أن مثل هذا الشرط يصح، لأنهم صححوا الخلع على المجهول، كحمل أمتها، وما تحمل شجرتها، وعلى ما في يدها وهو لا يظهر، وأشباه هذا. قال في الإنصاف: إذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، أو ما في بيتها من المتاع، فله ما فيهما، فإن لم يكن فيهما شيء، فله ثلاثة دراهم، وأقل ما يسمى متاعا، قال: وظاهر كلامه إن كان في يدها شيء من الدراهم، فهي له لا يستحق غيرها ولو كان دون ثلاثة دراهم، وهو صحيح، وهو المذهب؛ وقيل يستحق ثلاثة دراهم كاملة. قال: وإن خالعها على حمل أمتها، أو ما تحمل شجرتها، فله ذلك؛

فإن لم تحملا فقال أحمد: ترضيه بشيء، وهو المذهب. قال القاضي: لا شيء له، وتأول كلام أحمد: ترضيه بشيء، على الاستحباب. انتهى كلامه. فدل على صحة الخلع على المجهول، وهذه الصورة المسؤول عنها غايتها أن يكون بعضها مجهولا، وقد ذكروا أنه يجوز لها أن تخالعه على رضاع ولده عامين، قالوا: فإن مات رجع بأجرة الباقي، ومرادهم بذلك إذا لم تشترط أنه لا يرجع عليها إذا مات، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه (المسألة الخامسة عشرة) : رجل وقف وقفا على اللاعي، وهو الذي يسأل في المساجد، أو عند أبواب المساجد، ومات الموقف، ثم بعد زمان طويل قام ابن الموقف، وقال: لنا قرابة ضعفاء، ويزعم أن مفتيا أفتاه بأنه أحق به، والوقف معين على مسجد الجامع، من تكلم فيه من فقير غريب أو غيره. (فالجواب) : أن المشهور عند أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم أن مثل هذا لا يجوز صرفه إلى غير من ذكر الواقف إذا كان ذلك في جهة بر. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه باختلاف الزمان، كما لو وقف ذلك على الفقهاء والصوفية، فاحتاج الناس إلى الجهاد، صرف إلى الجند. قال في الإنصاف: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة له على الصحيح من المذهب، ونقله الجماعة، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب، ثم ذكر كلام الشيخ المتقدم، والله أعلم. من يثبت له خيار المجلس (المسألة السادسة عشرة) : قول منصور في خيار المجلس بوكالة، أو ولاية في بعض أفرادها مع ما في المغني من ذلك. (فالجواب) : أن مراده بذلك أن الذي يتولى طرفي العقد لا يثبت له خيار المجلس، لأنه هو البائع المشتري كالوكيل على بيع سلعة، وشراها

أو الولي إذا باع ما ولي عليه، فاشتراه من نفسه لنفسه، لأنه يتولى في ذلك طرفي العقد، وعبارة منصور في شرح المنتهى: ويثبت في بيع غير كتابة، فلا خيار فيها تراد للعتق، وغير تولي طرفي عقد في بيع بأن انفرد بالبيع واحد لولاية أو وكالة، فلا خيار له كالشفيع، وغير شراء منه يعتق عليه كرحمة المحرم لعتقه بمجرد انتقال الملك إليه في العقد، أشبه ما لو مات قبل التفرق. قال المنقح: ويعترف بحريته قبل الشراء لأنه استنقاذ لا يشرى حقيقة لاعترافه بحريته، ثم ذكر الصور التي تكون بمعنى البيع ويثبت فيها خيار، كالصلح الذي بمعنى البيع، وكقسمة وهبة بمعنى البيع وإجارة، وما قبضه شرط لصحته كصرف وسلم وربوي بجنسه، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. طهارة الماء المتنجس بالنجاسة بتصفيته (المسألة السابعة عشرة) : الماء المتنجس بالتغيير وهو كثير، إذا حوض وترك حتى صفي، هل يطهر أم لا؟ قياسا على الخمرة إذا انقلبت لقصد التخليل. (الجواب) : أن الذي ذكره الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة سواء تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنزحه أو مكاثرته بالماء أو بزوال تغيره بنفسه إذا كان كثيرا. والكثير عند الحنابلة وغيرهم ما كان قلتين فأكثر. وأما التراب فالمشهور عندهم أنه لا يطهره؛ لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه، فعن غيره أولى. قال في الفروع: وقيل: بلى، وأطلق في الإيضاح روايتين، وللشافعي قولان. فعلى هذا إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية، ولم يبق فيه لون ولا طعم ولا ريح، فإنه يطهر لزوال النجاسة منه كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا، وكذلك النجاسة إذا استحالت، والله – سبحانه وتعالى- أعلم. ائتم مسبوق بمسبوق في الصلاة (المسألة الثامنة عشرة) : مسبوق ائتم بمثله حالة دخولهما مع الإمام،

وأنه يأتم أحدهما بصاحبه بعد المفارقة أو تكفي بعد السلام؛ لأنه وقت ائتمامه به. (فالجواب) : إن هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين. قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم في الخلاف روايتين، منهم ابن تميم: أحدهما يجوز ذلك، وهو المذهب، قال المصنف والشارح وصاحب الفروع، وغيرهم لما حكوا الخلاف: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم. (والوجه الثاني) : لا يجوز، قال المجد في شرحه: هذا منصوص أحمد في رواية صالح، وعنه لا يجوز هنا، وإلا جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، وفرق بينهما وبين مسألة الاستخلاف من وجهين انتهى، وفيه بعض تلخيص، والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، والله - سبحانه وتعالى- أعلم. تصاف اثنان في الصلاة ثم أتى ثالث ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا (المسألة التاسعة عشرة) : لو تصاف اثنان ثم أتى ثالث، ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثا، وانصرف هل تصح صلاة الأول مع الثاني أم لا تصح صلاة الثلاثة؟ (فالجواب) : أن ظاهر كلام أصحاب أحمد أن مثل هذا تصح صلاته، لأنه حال المصافة قد جهل حدثه، وقد مضوا على أنه إذا لم يعلم حدثه في

الرسالة الثالثة عشرة: اقتتلت فئتان فتفرقوا عن قتيل من أحدهما

حال المصافة، وجهله مصافه أيضا أنه لا يكون فذا. قال في الإنصاف عند قول المصنف: ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو محدث يعلم حدثه فهو فذ. قال: (تنبيه) مفهوم كلام المصنف أنه إذا لم يعلم حدثه بل جهله، وجهله مصافه أيضا، أنه لا يكون فذا، وهو صحيح، وهو المذهب، نص عليه، وجزم به في الفائق والشرح، وقدمه في الفروع. وقال القاضي: وغيره حكمه حكم جهل المأموم حدث الإمام على ما سبق، والله - سبحانه وتعالى- أعلم. الرسالة الثالثة عشرة: اقتتلت فئتان فتفرقوا عن قتيل من أحدهما وهذه مسائل أخر سئل عنها الشيخ الإمام أحمد بن ناصر - رحمه الله-. (المسألة الأولى) إذا التقى فئتان من المسلمين، ووقع بينهما قتال، وقتل من إحدى الطائفتين رجل، وعلم قاتله بعينه، ورضوا بالدية، فهل تكون الدية على القاتل أم على جميع الطائفة؟ فنقول، وبالله التوفيق: إذا اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة، ونحو ذلك فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، صرح بذلك في الشرح الكبير والإنصاف والإقناع، والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية. قال في الإنصاف بعد قوله: "وتضمن كل، واحدة ما أتلفته على الأخرى": وهذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما تهبه كل طائفة تساقطا، كمن جهل الحرام من ماله أخرج نصفه، والباقي له. وقال أيضا: أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعلم عين المتلف. قال في الإقناع وشرحه: فلو دخل بينهم بصلح، وجهل قاتله ضمناه، وإن علم قاتله من طائفة، وجهل عينه ضمنته وحدها. قال ابن عقيل:

ويفارق المقتول في زحام الجامع والطواف، أن الزحام والطواف ليس فيه تعد، بخلاف الأول. انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا، فانكشفوا، وبينهم قتيل أو جريح لا يدرى من فعل ذلك به: إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل، وإن عقله على القوم الذين نازعوه، وإن كان القتيل أو الجريح من غير الفريقين، فعقله على الفريقين جميعا. انتهى. وقال في الشرح الكبير: إذا اقتتلت الفئتان، فتفرقوا عن قتيل من أحدهما، فاللوث على الطائفة الأخرى، ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا يقتله سهام بعضهم بعضا، فاللوث على عاقلة القتيل، وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه. وعن أحمد في قوم اقتتلوا، فقتل بعضهم وجرح بعض، فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح. انتهى. وقال في الإنصاف بعد ما ذكر نص أحمد هذا: قال الإمام أحمد: قضى به علي، وحمله على من ليس به جرح من دية القتلى شيء فيه وجهان، قال ابن حامد: قلت: الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية انتهى. فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل، وأما إذا علم القاتل، ففيه تعلق الحكم به، فإن كان القتل عمدا، فأولياؤه يخيرون إن شاؤوا اقتصوا، أو إن شاؤوا أخذوا الدية، فإن قبلوا الدية فهو من مال القاتل دون العاقلة، ولا شيء على الطائفة التي هو منها إلا أن يكونوا قطاع الطريق لأنهم ردؤهم ومباشرهم سواء، وكذا إن تواطؤوا على قتله؛ فقتله بعضهم، وأعانه الآخرون

(والمسألة الثانية)

كالممسك مع القاتل عند مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فتكون الدية على المباشر والمعين؛ لأنهم سواء عند الجمهور، ذكره الشيخ تقي الدين. قول من ادعي عليه القتل فأقر به وادعى أنه قتله خطأ (والمسألة الثانية) : إذا ادعي على رجل أنه قتل رجلا، فأقر بالقتل، ولكن ادعى أنه قتله خطأ، فهل يقبل قوله أم لا؟ فنقول: إذا لم يكن للمدعي بينة، وعلم القتل، وصار ثبوت القتل بإقرار المدعى عليه، سئل المدعى عليه عن صفة القتل، فإن كان عمد الفعل بما يقتل غالبا على تفصيل الفقهاء في أول كتاب الجنايات، فهذا لا يقبل قوله في دعوى الخطأ لأنه أقر أنه ضربه بما يقتل غالبا. وإن أنكر أن يكون تعمد الفعل بل زعم أنه خطأ محض، وفسره بذلك، فالقول قوله، ولا قصاص عليه، لأن من شرطه أن يكون القتل عمدا محضا، والأصل عدم ذلك؛ وعلى هذا فتكون الدية في ماله دون عاقلته. شهادة الخصم (والمسألة الثالثة) : إذا اقتتلت طائفتان، وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى، وجاؤوا بالشهود، وادعى المشهود عليهم بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم، فهل ترد شهادتهم بذلك؟ فنقول: ينظر في حال الشهود، فإن كانوا عدولا، وادعوا أنهم لم يحضروا القتال، ولم يدخلوا معهم، وعلم صدقهم بقرائن الحال، لا ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم، لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل لا يقبل قوله فيه إلا ببينة. وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة، أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم، وأنهم من جملتهم، لم يقبلوا، ولم تسمع شهادتهم. ومن صور المسألة: ما جرى بين الوداعين وأهل ميراث، فإن الوادعين زعموا أن معهم البينة على أنهم لم يبدؤوا بقتال، وإنما قتلوا دفعا عن أنفسهم، فلما سألنا عن شهودهم إذا هم من جملتهم الذين غزوا، فقلنا لهم: هؤلاء من جملتكم، وعليهم من الدية بقدر نصيبهم منها، ولا تقبل

(والمسألة الرابعة)

شهادتهم بأنهم يدفعون بها عن أنفسهم. والمسألة واضحة في كلام العلماء، لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء، والله أعلم. إرضاع المطلقة ولدها بأجرة (والمسألة الرابعة) : إذا أرضعت امرأة مطلقة ولدها، ولم يجر بينها وبين الأب مشارطة على الرضاع، ولكنها نوت الرجوع عليه، وأشهدت على أنها محتسبة عليه، فهل لها ذلك؟ أم لا يثبت لها أجرة إلا بالمشارطة بينها وبين الأب؟ فنقول: قد ذكر الفقهاء أن الأم أحق برضاع ولدها إذا طلبت ذلك بأجرة مثلها، ولكن اختلفوا هل لها ذلك إذا كانت في حبال الزوج أم لا؟ وأما إذا كانت مطلقة فهي أحق برضاعه، وإن طلبت أجرة مثلها، ولو مع وجود متبرعة غيرها، واستدل صاحب الشرح بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} 1 فقدمهن على غيرهن، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2. وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجرة مثلها، فما ذكرنا من الآيتين، ولأن الأم أحنى وأشفق، ولبنها امرأ من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية إرضاعه بأجرة مثلها، ولأن في إرضاع غيرها تفويتا لحق من الحضانة، وإضرارا بالولد، ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله على الأب. انتهى. فإذا عرفت أنها أحق بإرضاعه بأجرة المثل، ولو وجد الأب متبرعة تبين لك أن لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا نوت ذلك، وأشهدت عليه، وإن لم تشارط الأب؛ لأن غاية ما يقال: لعل الأب يجد متبرعة أو يجد من يرضعه بدون أجرة المثل، فيقال في جواب ذلك: الأم أحق به، ولو حصل من يتبرع برضاعه، فحينئذ لا تأثير لكونها تشارط أو لا تشارط لأنها متى

_ 1 سورة البقرة آية: 233. 2 سورة الطلاق آية: 6.

(المسألة الخامسة)

أرضعته وطلبت أجرة مثلها لزم الأب ذلك، إلا أن تكون أرضعته متبرعة برضاع ابنها، ولو تنوي الرجوع على الأب، فلا شيء لها، والله أعلم. منيحة الناقة (المسألة الخامسة) : هل منيحة الناقة ونحوها كالعارية، والقول فيهما سواء؟ فيقال: المنيحة عارية لأنه قبضها للانتفاع بلبنها، فهو قابض بحظ نفسه، وللمعير الرجوع في العارية متى شاء. فإن تلفت عند المستعير، فهل هي مضمونة بكل حال كما هو المشهور عن أحمد والشافعي، أم لا تضمن مطلقا كما هو المشهور عن مالك وأبي حنيفة، وهو اختيار ابن القيم في الهدي؟ أم لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها، كما هو اختيار الشيخ؟ ولا يخفى الراجح عند التأمل، وبالله التوفيق، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقع ذلك سنة 1225 هجرية. تمت الحمد لله.

§1/1