عدة المريد الصادق
زروق
عدة المريد الصادق تأليف الشيخ أحمد زروق تحقيق الصادق بن عبد الرحمن الغرياني دار ابن حزم
عدة المريد الصادق تأليف الشيخ أحمد زروق تحقيق الصادق بن عبد الرحمن الغرياني دار ابن حزم
بسم الله الرحمن الرحيم حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1427هـ - 2006م الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
مقدمة
مقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن نصر سنته واهتدى بهداه. وبعد: فإني أقدم كتاب (عدة المريد الصادق) لمؤلفه الشيخ أحمد زروق، دفين مصراتة بليبيا، ولهذا الكتاب أهمية جعلتني أعتني به على الرغم من زحمة العمل، وتكمن هذه الأهمية في أمرين: الأمر الأول: رجاء النفع به، لما يتميز به هذا الكتاب من ملوك منهج القصد والإنصاف والوسطية بين الإفراط والتفريط، وهو المنهج الذي مدح به القرآن الكريم هذه الأمة، وقل في زماننا هذا أهله، فلا تجد في الغالب إلا مفرطا أو مفرطا. الأمر الثاني: إن المؤلف الذي جرد كتابه هذا لبيان عيوب الطرق ومحدثاتها، هو نفسه شيخ من شيوخ التصوف القائم على السنة والشريعة حين يذكر أهل التصوف، وفقيه عالم آراءه فتاوى يرجع إليها حين يذكر العلماء، ولذا تراه يشخص العلل والأدواء تشخيص المجرب الحاذق، إذ هو "شاهد من أهلها"، ويصف الدواء وينتقد انتقاد العالم الفقيه، الذي يصدر عن علم واسع، وفقه بالشريعة، ومعرفة بالسنة، مع حرص على الهداية، وصدق في النصيحة، بعبارة مشرقة، وألفاظ سهلة محررة، تستهوي القارئ، وتأخذ بنفسه، فتسوقه معها سوقا، حتى لا يدري إلا وقد قرأ الكتاب كله،
وذلك راجع عندي لشخصية المؤلف التي امتزج فيها إخلاص التصوف مع العلم بالشرع. هذا بالإضافة إلى أن هذا الكتاب يعد أشمل كتب الشيخ زروق التي تمثل منهجه، وآراءه في التصوف. وقد اشتمل هذا العمل على قسمين: 1 - تمهيد في التعريف بالمؤلف والكتاب، اجتهدت ألا يكون فيه إسهاب ولا إخلال. 2 - تحقيق النص وتصحيحه بقدر الطاقة والإمكان، رحم الله المؤلف رحمة واسعة، ونفع الله تعالى بعلمه، ورزقنا حسن البدء والختام، إنه منعم كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تمهيد في التعريف بالمؤلف والكتاب
القسم الأول - تمهيد في التعريف بالمؤلف والكتاب أولا - التعريف بالمؤلف (¬1) نسبه: هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، اشتهر بزروق، و (برنسي) نسبة إلى عرب بالمغرب كما جاء عن رفيق المؤلف ابن غازي في نيل الابتهاج، وقال الحجوي في الفكر السامي: البرانس قبيلة بربرية قرب فاس، و (زروق) لقب أتاه من جهة جده لأمه الذي كان أزرق العينين (¬2). مولده ونشأته: ولد المؤلف يوم الخمبس في الثاني والعشرين من محرم عام 846 من الهجرة، وتوفيت أمه ثالث أيام ولادته، ولحقها أبوه قبل السابع، فعاش الولد يتيما في كفالة جدته أم أبيه، وذلك بعهد من أبيه، وجدته تكنى أم ¬
طلبه للعلم
البنين، واسمها فاطمة، وكانت امرأة فقيهة صالحة، ربت حفيدها منذ نعومة أظفاره على الإيمان والاستقامة وطاعة الله عز وجل، يقول المؤلف عن دور هذه الجدة في تنشئته النشأة الصالحة: "وعلمتني الصلاة وأمرتني بها وأنا ابن خمس سنين، فكنت أصلي إذ ذاك، وأدخلتني الكتاب في هذه السن، فكانت تعلمني التوحيد والتوكل والإيمان والديانة بطريق عجيب، وذلك أنها كانت في بعض الأيام تهيئ لي طعاما، فإذا جئت من الكتاب للفطور، تقول: ما عندي شيء، ولكن الرزق في خزائن مولانا عز وجل، اجلس نطلب الله، فتمد يديها، وأمد يدي إلى السماء داعين ساعة، نم تقول: انظر لعل الله جعل في أركان البيت شيئا ... ، فنقوم نفتش أنا وهي، فإذا عثرت على ذلك يعظم فرحي به، وبالله الذي فتح به، فتقول: تعال نشكر الله قبل أن نأكله، لأجل أن يزيدنا مولانا، فنمد أيدينا ونأخذ في الحمد والشكر ساعة، ثم نتناوله، ونفعل ذلك المرة بعد المرة، حتى عقلت" (¬1). وكانت تحدثه بدل الخرافات التي اعتاد العجائز أن يسلوا بها الصغار بمعجزات رسول الله (ص) وسيرته المباركة، وغزواته، وسيرة السلف الصالح، وكراماتهم، لتكون قدوة له ومثلا في بلوغ مراتبهم، والتأسي بسيرتهم، وكانت كثيرا ما تردد عليه قولتها: لا بد من تعلم القراءة للدين، والصناعة للمعاش، فتربى زروق بذلك على الجد والمثابرة، وحفظ القرآن في سن العاشرة، وهو الوقت الذي توفيت فيه جدته، فتوجه لتعلم صنعة الخرازة، وتكسب منها زمنا، ثم تركها. طلبه للعلم: وفي سن السادسة عشر تحول إلى طلب العلم، وكانت جامعة القرويين حينئذ منارة العلوم الإسلامية بفاس - بلد المؤلف- تعج بكبار العلماء والشيوخ، فدرس بها المؤلف بعض أمهات كتب الفقه المالكي، وعلوم القرآن ¬
رحلته إلى المشرق
والحديث والتوحيد والتصوف والعربية، وذكر من الكتب التي قرأها في هذه المرحلة على وجه الخصوص (الرسالة)، قال: قرأتها على الشيخين علي السطي، وعبد الله الفخار قراءة بحث وتحقيق، وقرأ على جماعة علم القراءة بحرف نافع، منهم الشيخ محمد بن القاسم القوري، والشيخ عبد الله التجيبي الملقب بالأستاذ الصغير، كما قرأ على القوري البخاري، وسمع منه كثيرا، وتفقه عليه في قراءة كتاب أحكام عبد الحق، وجامع الترمذي، وقرأ في التصوف والتوحيد؛ (الرسالة القشيرية) و (عقائد الطوسي) على الشيخ عبد الرحمان المجدولي و (التنوير) على الشيخ القوري (¬1). رحلته إلى المشرق: في عام 875 هجرية توجه الشيخ زروق إلى الحج، وفي الطريق مر بمصر، وأقام بها عند عودته عاما تتلمذ خلاله على عدد من أعلام الشيوخ في الحديث والفقه والتصوف، مثل الحافظ السخاوي، ونور الدين السنهوري، وأبو العباس الحضرمي. ومن الكتب التي قرأها في الحديث والفقه: 1 - الأحكام الصغرى لعبد الحق. 2 - كتب ابن أبي جمرة. 3 - صحيح البخاري. 4 - المدخل لابن الحاج. وقرأ في التصوف: 1 - إحياء علوم الدين. 2 - الرسالة القشيرية. 3 - كتب ابن عطاء الله السكندري، وهي: ¬
نزوله بمصراته
أ - الحكم. ب - التنوير. ج - لطائف المنن. د - تاج العروس. هـ - مفتاح الفلاح. 4 - عوارف المعارف للسهروردي. 5 - مؤلفات المحاسبي. 6 - قوت القلوب لأبي طالب المكي. وفي عام 877 رجع الشيخ زروق من مصر متجها إلى المغرب، فأقام ببجاية في الجزائر، وكانت له فيها مكاتبات واتصال مع شيوخه المشارقة، ثم رجع في عام 880 إلى وطنه بفاس، وحدثت له جفوة مع شيوخها (¬1)، فغادرها بعد أربع سنوات، ورجع إلى بجاية التي لم يستقر فيها طويلا هذه المرة، إذ سرعان ما غادرها إلى مصر، وفي مصر جدد الصلة بشيوخه القدامى، ومنهم الحافظ السخاوي، الذي حصل منه على إجازة، وأبو العباس الحضرمي، الذي وثق صلته به، واستفاد منه وتأثر به كثيرا في التصوف المبني على الشريعة، وفي هذا الوقت صار للشيخ زروق شأن كبير في العلم، وقدم راسخة في التربية والسلوك، فالتف حوله طلبة العلم والمريدون، وآن له أن يبحث عن دار إقامة ينتفع به فيها الناس، ويتمكن فيها من أداء رسالته العلمية والتربوية على أفضل وجه، بعد أن نبذه قومه أهل فاس، فكانت مصراته الواقعة إلى شرق طرابلس أسعد البلاد به. نزوله بمصراته: نزل الشيخ زروق مصراته عام 886 هجرية، وطاب له المقام فيها، ¬
شيوخه
ولقي من أهلها كل تقدير وترحيب، وتزوج بها زوجته أمة الجليل بنت أحمد بن زكريا الغلباوي، وقد تزوج الشيخ في حياته خمس مرات كما ذكر في (الكناش) واجتمع حوله الناس للاستفادة من دروسه ونصائحه وتوجيهاته، وأحاطوه بالرعاية والعناية. وفي عام 894 توجه إلى الحج، ومر بالقاهرة حيث ألقى بعض الدروس بجامع الأزهر، ثم رجع بعد أداء فريضة الحج إلى مصراته، وقضى بها السنوات الأربع الباقية من عمره، وتوفي رحمه الله تعالى رحمة واسعة في الثامن عشر من صفر عام 899 هجرية. شيوخه (¬1): تتلمذ الشيخ زروق على عدد من الأعلام المشهورين في فنون مختلفة من العلم، ذكرهم في (كناشه)، ومن أهمهم: 1 - أبو عبد الله محمد بن قاسم القوري، (ت: 872). 2 - عبد الله التجيبي الملقب بالأستاذ الصغير، (ت: 887). 3 - عبد الرحمن الثعالبي، (ت: 872). 4 - أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المشذالي، (ت: 866). 5 - أحمد بن سيد الحباك المكناسي (¬2)، (ت: 870). 6 - محمد بن قاسم الرصاع، (ت: 894). 7 - أم هانئ العبدوسية، (ت: 860). 8 - محمد الزيتوني. ¬
مؤلفاته
9 - شمس الدين محمد بن عبد الرحمان السخاوي، (ت: 902). 10 - أحمد بن عبد الرحمن بن موسى اليزليتني المعروف بحلولو، (ت: 898). 11 - نور الدين السنهوري، (ت: 889). 12 - أحمد بن عقبة الحضرمي، أبو العباس (ت: 895). وغيرهم كثيرون. وتتلمذ عنه جماعة من الأعلام، منهم الشيخ الحطاب محمد بن محمد صاحب مواهب الجليل والشرح على الورقات، والخروبي الصغير، والشمس اللقاني، والناصر اللقاني، والشعراني، وآخرون. مؤلفاته (¬1): كتب الشيخ زروق متنوعة، في الفقه والحديث وعلم الكلام والتصوف والحساب والتطبب، لكن أهمها كتبه في الفقه والتصوف، مع رجحان عدد كتب التصوف على كتبه في الفقه. ويعد كتابنا هذا (عدة المريد الصادق)، وكتاب (قواعد التصوف) من أهم كتب الشيخ زروق في التصوف، كما يعد كتابه شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني من أهم مؤلفاته في الفقه. ويلاحظ أن عددا كبيرا من كتبه مكرر تحت عناوين مختلفة، والمحتوى واحد، أو مع اختلاف طفيف، بالتقديم أو التأخير أو الاختصار، وذلك كما في هذا الكتاب (عدة المريد الصادق)، وكتابه (النصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالسنة)، وكتاب (البيع)، و (البدع والحوادث)، ¬
ومن كتبه في الحديث والفقه
(والجامع لجمل من الفوائد والمنافع)، فهذه خمسة عناوين هي في الواقع أسماء متعددة لكتاب واحد، ولا يكاد يوجد بينها اختلاف، وكما في (قواعد التصوف) و (تأسيس القواعد)، فهما عنوانان في قائمة كتبه، ومضمونهما واحد، وربما اختصر المؤلف الكتاب في بعض رسائله الصغيرة، فكون هذا الاختصار عددا آخر من كتبه، كما في رسالته في الرد على أهل البدع، تشتمل على عشر ورقات هي خلاصة لما قاله في (عدة المريد الصادق). وأغلب كتب المؤلف في التصوف هي شروح على كتب مؤلفين آخرين أو رسائل صغيرة، وله أربعة وعشرون شرحا على حكم ابن عطاء الله السكندري، كما جاء في نيل الابتهاج وغيره. ومن كتبه في الحديث والفقه: تعليق على صحيح البخاري، وحاشية على صحيح مسلم، وجزء في علم الحديث، ورسالة في تحديد مصطلح الحديث، وشرحان على رسالة ابن أبي زيد، كبير وصغير، أحدهما مطبوع، ومناسك الحج، وشرح قواعد عياض، وشرح القرطبية، وشرح الوغليسية، وشرح الإرشاد لابن عسكر، وشرح على مواضع من مختصر خليل، وله غير ذلك من التآليف المفيدة، قال الكتاني في فهرس الفهارس (¬1) عن مصنفاته: "وكلامه في تصانيفه كلها كلام من حرر وضبط العلم، وعرف مقاصده، ومدار التشريع، بحيث يعتبر قلمه وعلمه وملكته قليلي النظير في المغاربة". ويقول عنه الحجوي في الفكر السامي (¬2): "كان من الطبقة العالية من المؤلفين، ذابا عن السنة، قوالا للحق، وهو آخر المحققين الجامعين بين الفقه والتصوف، المحتج به عند الطائفتين". ¬
ثانيا - الكتاب
ثانيا - الكتاب موضوع الكتاب: ألف الشيخ زروق كتابه (عدة المريد الصادق) لرد البدع التي أحدثها أصحاب الطرق، ونسبوها إلى الدين، فأفسدوا بها التصوف الإسلامي الصحيح، القائم على الكتاب والسنة، الذي هو مقام الإحسان، الوارد في حديث جبريل عليه السلام (¬1). فقد أحدث كثير من أصحاب الطرق والمدعين للتصوف خرافات، واعتقدوا عبادات لم يشرعها الله عز وجل، جهلا منهم بالشريعة، وحبا للرئاسة، والتعزز بالطريقة - على حد تعبير المؤلف - وهؤلاء أساؤوا إلى التصوف الصحيح وأهله، حتى صارت كلمة تصوف مكروهة عند الناس، وكأنها لا تعني سوى الخرافات والاعتقاد الباطل، مع أن أصل مدلولها عند أصحابها الصفاء والنقاء، وبذل النفس في مرضاة الله عز وجل والدار الآخرة,، وهو أمر لا يختلف في كونه غاية كل مسلم. اشتمل الكتاب على مقدمة ومائة فصل في بعض نسخه، وعلى أزيد من ذلك في نسخ أخرى، وهو من أهم كتب الشيخ زروق، إذ يعكس شخصية زروق الفقيه والصوفي في آن واحد، ويتضمن معظم آرائه. وموضوعه البدع والمحدثات التي أدخلها أصحاب الطرق على التصوف، ¬
طريقة المؤلف في الانتقاد
وعرضها على ميزان الشرع، وبيان الباطل منها، كما يتضمن الكتاب القواعد والضوابط والآداب التي يجب أن يتحلى بها المربي والسالك، مع كثير من الفوائد الفقهية والتربوية المنبثة في تضاعيف الكتاب، بأسلوب واضح وعبارة محررة. طريقة المؤلف في الانتقاد: يتميز الشيخ زروق في انتقاده للمدعين من أصحاب الطرق بما يلي: 1 - هو صاحب رسالة، لا يتحامل ولا يعنف، ينتقد ليبني ويقوم المعوج، ويرشد الضال، لا ينتقد ليهدم ويشنع، فنقده إصلاحي هادف، الحرص على الهداية غايته، وتبصير الغافلين مقصده، ومن أجل هذا افتتح كتابه بإعلان غاية في الأهمية، يترجم عن قصد النفع والإصلاح، وأوصى أن يوضع هذا الإعلان على صدر كل نسخة تنسخ من كتابه، قال فيه: "إنه لم يقصد الطعن على الناس، ولا إظهار عيوبهم، وإنما قصد التحذير من الوقوع فيما وقع التحذير منه، ليكون الكتاب عدة وإعانة لمن يريد الحق، ومن قصده لغير ذلك، فالله حسيبه، ومتولي الانتقام منه" (¬1) ولذا فإن المؤلف يلوم من طرف خفي ابن الجوزي على خشونته في نقد المتصوفة، حيث قال: وقد حذر بعض الناصحين من تلبيس ابن الجوزي، مع أنه في موضع آخر يعذره، بأن خشونة لفظه لحسم الذريعة والمبالغة في الإنكار (¬2). 2 - آراءه متزنة، وانتقاده في الغالب مزيج بين زروق الفقيه وزروق الصوفي، وهو وإن كان أحد الجانبين يطغى أحيانا فإنه سرعان ما يرجع إلى نهجه في تحكيم السنة وإليك أمثلة توضح منهجه: ¬
أ - لنستمع إليه وهو يذكر حكم إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله (ص)، وحكم الإضافات التي أضافها الناس إلى صيغ الصلاة على رسول الله (ص)، قال: "ومنهم من يجعل ذلك (ثواب الأعمال) رسول الله (ص)، وهو من باب حسن النية والتقرب لجنابه الكريم، وليس الحق في ذلك إلا باتباع سنته، وإكرام قرابته، وكثرة الصلاة عليه (ص)، لأنه غني عن أعمالنا، وإني لأرى ذلك إساءة أدب معه، لمقابلته بما لا يصلح أن يكون صاحبه مقبولا، فكيف بالاعتدال بثوابه، لا سيما ما جرت به عادة المصريين في ذلك، فإنه يعظم علي كثيرا جدا". ومن ذلك: "تصنيف بعض الناس في الصلاة عليه (ص)، بكيفيات يعتمدها، ويأتي فيها بألفاظ مستغربة، وأنواع مستنخبة، تألفها نفوس العامة، (وهو أمر حسن من حيث صورته، واضح من حيث حقيقته، تألفه نفوس العوام) (¬1) وتتحرك به نفوس الغافلين للصلاة عليه (ص) في الملة، والأولى بأهل التوجه الاقتصار على الألفاظ الواردة عنه (ص)، فإن الخير كله في الاتباع، والفتح الكامل في التقيد بألفاظه (ص)، فلا تعدل بها شيئا ولو قلت، فقليلها كثير، ومعناها كبير" (¬2). ب - هو مثلا حين ينقل رأي شيخه الصوفي أبي العباس الحضرمي في التبرك بزيارة الحي والميت، والانتفاع بها، يعقب ذلك بقوله: لكن ينبغي ألا يجعل ذلك عدة وعمدة، لئلا يضيع به نظام الحق والحقيقة، ثم ينقل عن ابن ليون (¬3) قوله: من شأن الفقراء شد الرحال للزيارات، وقل من اشتغل يه فنفذ (¬4). ¬
ج - يذكر المؤلف رأي من يقول بالتشبه بالصالحين في اللباس، واستعمال المرقع منه، والسبحة والعكاز - تم يقول: كل تشبه لا يصحبه عمل فليس يتشبه، إنما هو تلبس، ولا يكون التشبه لجلب فائدة البتة، بل يكون لدفع الضرر في الأسفار، ولا تصوف إلا بفقه (¬1). وأحيانا يغلب عليه الجانب الصوفي، فيؤثر التسليم، كما في حكمه على أهل الشطحات، كابن عربي وابن الفارض، إذ ينقل المؤلف فيهم فتوى شيخه محمد بن القاسم القوري أنه اختلف فيهم من الكفر إلى القطبانية، قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم، ويوجه المؤلف ذلك، بأن تكفيرهم خطر من حيث إخراج مسلم بشبهة، لأنهم يقولون: إنهم تكلموا بخاص في خاص يعلم مرادهم، والغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلام أولى من إخراج مسلم بشبهة. لكن المؤلف رحمه الله تعالى يحذر من مطالعة كتبهم، كحزب السلام لابن سبعين، ويقول: كل من أولع بها فالفلاح منه بعيد (¬2) ولذا فإن عبارة السخاوي التي يقول فيها عن الشيخ زروق: (والغالب عليه التصوف، والميل فيما يقال إلى ابن العربي ونحوه - فيها نظر، كيف وهو يحذر من قراءة كتبه (¬3). 3 - يتحلى المؤلف في عرضه للمسائل ومخالفات المخالفين برحابة صدر، فلا يضيق ذرعا بالخلاف، بل يعرض آراء العلماء في المسألة، ويوجهها ولا يتعصب، فمثلا عندما ذكر المعيار الذي تعرف به البدعة من السنة، بين أن من المعايير ما هو مختلف فيه بين العلماء، فقد يكون العمل بدعة عند بعض العلماء، وليس بدعة عند آخرين، ومثل له بالدعاء والذكر والقراءة جهرا في جماعة، وقال: إن الشافعي لا يراه بدعة، لأن له مستندا في الشرع من حيث الجملة، فليس كل ما لم يعمل به السلف، عند الشافعي ¬
أهم القضايا التي تناولها الكتاب
بدعة، حيث لم يرد في السنة نهي عنه، لقول النبي (ص): "ما تركته لكم فهو عفو". وعند عرض المؤلف لاختلاف العلماء يختار منه ويرجح، وأحيانا يتوقف، فلا تجد له رأيا واضحا، كما في موقفه من دعاء الإمام دبر الصلوات وتأمين المأمومين، فإنه ذكره بقوله: قال بعضهم: هو بدعة مستحسنة، وقال بعضهم: بدعة مستهجنة وترك المسألة دون أن يبين ما يراه صوابا (¬1). أهم القضايا التي تناولها الكتاب: اشتمل الكتاب على مقدمة وأزيد من مائة فصل، عالج فيها أهم القضايا الآتية: 1 - البدع: هدف المؤلف من تأليف كتابه هو بيان البدع والمخالفات التي أدخلها أصحاب الطرق في الدين باسم التصوف، فموضوع البدعة وتطبيقاتها هو المحور الذي يقوم عليه الكتاب، ولذا كان عنوان الكتاب الموجود على بعض نسخه، هو: (الرد على أهل البدع)، بدل (عدة المريد الصادق)، عرف المؤلف البدعة وقسمها، ثم أجمل أسباب بلع الصوفية برجوعها إلى ثلاثة أمور: أ - نقص الإيمان، وفقد نوره الهادي إلى اتباع الرسول وعدم تعظيم حرمة الشارع. ب - الجهل بالشريعة، واعتقاد أنها خلاف الحقيقة، ويقول عن هذا الاتجاه: إنه من مبادئ الزندقة. ج - حب الرئاسة والظهور والتباهي بالمشيخة والأتباع، وذلك كله يضطر المقدمين فيهم إلى إحداث أمور غريبة تستميل القلوب. ¬
2 - مفهوم التصوف عند المؤلف
2 - مفهوم التصوف عند المؤلف: أصل التصوف عنده ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات الشرع، ورؤية العذر للخلائق، والمداومة على الأوراد، وترك الرخص والتأويلات، وذكر أن هذه هي الأصول، ومن ضيعها حرم الوصول، وقال: أكثر متصوفة الزمان على ذلك الحرمان إلا من عصم ربك، ولذا فهو يردد قولة الجنيد في أكثر من موضع في كتابه: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه"، لذا فلا يلتفت لما ذكره السخاوي في الضوء اللامع عن المؤلف بصيغة التمريض من قوله: "والغالب عليه ... الميل فيما يقال إلى ابن عربي ونحوه" (¬1) فقد حذر المؤلف نفسه في كتابه (مختصر النصيحة الكافية) من سلوك منهج ابن عربي وأحزابه في التصوف، وفيما يلي نص كلامه: "ومن ذلك ما وقع لبعض الصوفية من قولهم: أنا هو، وهو أنا مما يوهم الاتحاد والحلول وهذا لا يجوز لأحد أن يتبعهم فيه، ولا يجوز لأحد أن يسلمه لقائله حال سماعه، وإن ساغ له تأويله بعد وقوعه وانقراضه بما يوافق الحق مع إقامة رسم الشرع فيه، وإن صح له اعتقاد قائله مسلما ونحوه، فقد قتل الحلاج بإجماع أهل زمانه إلا أبا العباس بن سريج فإنه قال: لا أدري ما أقول، وأخرج بسببه جماعة من بلدانهم، ولم يكن قادحا فيهم ولا في مخرجهم، وقد وقع كثير من هذا النوع لابن الفارض وابن عربي والششتري وابن سبعين مع إمامتهم في العلم وظهورهم في الديانة، فليتق المؤمن ذلك كله، مشفقا على دينه، فارا من موارد الغلط، راجعا لأصول الاعتقاد، وقائما مع الحق بالكلام في القول لا في القائل، وقائلا في مثل ذلك عن أولئك القوم: ما كان من كلامهم موافقا للكتاب والسنة فإني أعتقده، وما لا، فأنا أكل علمه إلى أربابه، منزها قلبي عن اعتقاد ظاهره وإياهم كذلك، وقد نص على ذلك ولي الدين العراقي في أجوبة المكيين" (¬2). ¬
ولا بد للسالك عند المؤلف من أربعة أشياء، إذا تركها فلا تعبأن به ولو كان أعلم أهل زمانه، وهي: مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الفاقة، ومواظبة الخمس في الجماعة (¬1). ويبين المؤلف أن كل ما لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه، لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة، لأن السنة معصومة، وصاحبها معصوم، وسائر الأمة لم تثبت لهم العصمة، إلا مع إجماعهم، والصوفية كغيرهم ممن لم تثبت لهم العصمة، يجوز عليهم الخطأ والنسيان، والمعصية صغيرها وكبيرها، فالتصوف عنده مداره على الإخلاص وصدق التوجه مع التفقه في الدين والإتيان بالعمل على وفق السنة. ويقول: إن مذهب المتصوفة هو مذهب السلف في الاعتقاد من التنزيه ونفي التشبيه، وقبول ما ورد كما ورد، من غير تعرض لكيف ولا تأويل، وفي هذا يرى المؤلف البعد في العقيدة عن كل مواضع الشبه والخلاف، والأخذ بالأمر الثابت القويم، فهو يرى مثلا أن حفظ مقام العبودية يقتضي البعد عن نداء الله تعالى بتعبير (يا هو)، لما فيه من الإيهام والتسوي وعلل أخرى، ولا يليق بالربوبية، ويرى كذلك البعد عن الاشتغال بعلم الكلام والجدل والمنطق، وأن مذهب السلف وجمهور أصحاب أهل المذاهب على تجنبه، ويقول: إن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى، ولا في التلاوة والمتلو، ولا في الصفة والموصوف، ولا في مشكل الآيات والأحاديث (¬2). ويقول: إن مذهب الصوفية في الأحكام مذهب الفقهاء، وفي الفضائل مذهب المحدثين، فلا يأخذون بحديث موضوع، كصلاة الرغائب والأسبوع ونحوها، إلا أن لهم في الآداب أشياء ترخصوا فيها اضطرارا إليها، كالسماع. ¬
3 - السماع
3 - السماع: يرى المؤلف أن التصدي للسماع وتعاطيه اختيارا، بحيث يجلس الإنسان إليه ويستجلب به الحال، من الضلال والبطالة، وأنه من شبه الدين التي يتعين على من استبرأ لدينه وعرضه التبرؤ منها، ويقول: هو من حيث صورته يشبه الباطل فيتعين تركه، ولا يقتدى بشيخ يقول بالسماع، وعقد المؤلف فصولا مطولة في آخر الكتاب أغلظ فيها القول على متعاطيه، ونقل أقوال الأئمة الذين حذروا منه، ومن ذلك قول أبي الحسن الشاذلي حين سأل أستاذه عنه، فأجابه بقوله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون} (¬1) وقول صاحب (الأمر المحكم): إن السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم، وقول أبي العباس المرضي: من كان من فقراء هذا الزمان مؤثرا لهواه، آكلا لما حرمه مولاه، ففيه نزغة يهودية، لأنه يذكر العشق وليس بعاشق، والمحبة وما هو بمحب، والوجد وما هو بمتواجد، فالقوال يقول الكذب، والمستمع سماع له، ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع، فهو يصدق عليه قوله تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} (¬2) قال: وعبر بعض الصحابة على اليهود، فسمعوهم يقرؤون التوراة، فتخشعوا، فلما دخلوا على رسول الله (ص) قرأ عليهم: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} (¬3) فعوتبوا إذ تخشعوا من التوراة، وهي كلام الله، فما ظنك بهذا، أعرض عن كتاب الله، وتخشع من الملاهي والغناء. وبين المؤلف أن من قال بالسماع فمراده من غلب عليه من غير اختيار، ومع ذلك فهو مقام تدني ونزول في حق العارف، فهو لا يشرف بالسماع، بل يشرف به السماع كما يقول (¬4) ويقول: لا ينبغي الاقتداء بالشيخ ¬
4 - التشييخ وأخذ العهد
في هذا الأمر لو حصل له اضطرارا، وقد حذر المؤلف نفسه تلاميذه في حياته أن يقتدوا به في عدة أمور منها السماع. 4 - التشييخ وأخذ العهد: يرى المؤلف أن تشييخ الطريقة وأخذ العهد، له أصل في الشرع، ولكنه ليس شرطا في سلوك طريق الصوفية، إذ لم يكن للأوائل هذا الترتيب المعروف في المشيخة، وإنما كان عندهم الصحبة واللقاء، فيستفيد الأدنى من الأعلى إذا لقيه ورآه، ويقول: إنه بغلبة الخبط على النفوس، والتخليط على القلوب احتاج الناس إلى ترتيب المشيخة، وأخذ العهد وتربية كل أحد بما يليق به، استنادا لقول الله تعالى: {واتبع سبيل من آناب إلي} (¬1) ولأن النبي (ص) كان يوصى أصحابه، كلا بما يليق به، فيوصي واحدا بقوله: "لا تغصب"، وآخر بقوله: "لا يزال لسانك رطبا بذكر الله"، ولحديث معاذ (ض)، وفيه قول النبي (ص): "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا"، وكان يطلب من أصحابه تكرار البيعة، كما وقع لسلمة بن الأكوع وغيره. ومع أن المؤلف يقر أصل المسألة، وهو نفسه شيخ طريقة، فهو ينتقد بشدة الأسلوب الذي جرت عليه الطرق، القائمة على التنافس فيما بينها، وتعصب أهل كل طريقة لأنفسهم على من سواهم، وإكراههم الناس على أخذ العهد، ويذكر في ذلك عجائب، منها أن رجلا طلبوه لأخذ العهد فأبى، فاجتمعوا عليه وصرعوه في الأرض، ووضعوا أيديهم في يده، وقالوا: أخذت علينا، مع أنه رجل ضعيف العارضة، ليس فيه ما يصلح لطريقهم ولا لغيرها، فتحير المسكين من قولهم: أخذت علينا، واستعظم طريقهم، قال المؤلف: وجاء مستجيرا، فقلت له: لا حق لهم عليك، فالزم تقوى الله وتلاوة القرآن العظيم، ودع ما سوى ذلك. وقال: حدثني آخر أن رجلا من عربان طرابلس دخل على شيخ من شيوخهم، فقال له: خذ العهد، فقال: يا سيدي، ما أنا إلا قطعي حرامي، ¬
5 - أنواع الطوائف المدعية
فقال له: خذ العهد تعن على ما أنت عليه، ففعل، وكان ذلك زيادة له في شره، علق المؤلف على ذلك بقوله: وهذه فضيحة له في الآخرة، وضحكة في الدنيا عند من له عقل، على التابع والمتبوع (¬1). ومن المخالفات التي يذكرها المؤلف فطم الشيوخ أتباعهم عن كل علم سوى ما عندهم، وتسخيرهم في خدمتهم، ويوهمونهم أن ذلك في حقهم منفعة وتطهير لسرهم، مثل قول الشيخ للمريد: السر في التراب، والحكمة في الخدمة، فيقيمه خديما للطاحونة، وحليفا للمسحاة على حد قوله. وعقد المؤلف فصلا للشيوخ الذين يتعززون بالطريقة، ويأكلون بالدين، ويراهم شر الناس، ويحذر الشيوخ الذين يؤثرون المعتقدين لهم على غيرهم، أو يؤثرون الأغنياء وأصحاب الجاه، كما يحذر الذين يمنون أتباعهم بالمقامات، وبما لا يقدرون عليه لأنفسهم، كحسن الخاتمة والثبات عند السؤال والصراط، وقد عرف من الشرع أن هذه المواقف لا ينفع فيها أحد أحدا، ويقول: ما قطع قلوب الأكابر إلا هذه المواقف، وإذا كان حسن الخاتمة أمرا لا يتق به الشيخ لنفسه، فكيف يدعيه في حق غيره، ودعاء الرسل عند الصراط اللهم سلم سلم - كما ورد في الصحيح - وهم أكرم الخلق على الله، فكيف بغيرهم (¬2). 5 - أنواع الطوائف المدعية: يذكر المؤلف عددا من الطوائف المدعية، وهم كثير، فمنها: أ - طائفة تدعي الفناء، وأنها سلبت الاختيار، فتفعل المحرمات والمعاصي، وربما جرى على لسانهم ما يشبه الحقائق، فيظنه الجاهل ناتجا عن أحوال ربانية، وهو في الحقيقة عقارب تلسع، وحيات تلدغ، وربما أراد أحد المعتقدين فيهم التخلي عنهم، فيمسه الشيطان بأمر سوء، فيظنه ¬
المساكين كرامة للشيخ، فيزداد تعلق الناس به، رجاء النفع بصحبته، ولو صبر على الله لحصل على ما يريد من الله، وانتفى عنه الوهم في أقرب وقت، ولكن النفوس مبنية على التوهم. ب - طائفة ادعت أنها ترى رجال الغيب من الخضر (س) وأمثاله، وتخبر بأمور، إما كذبا صراحا، أو تلبس عليها الأمر بخيال شيطاني ونحوه، فهلكت في الهالكين. ج - طائفة ظهرت بالجدب وتصرف المجانين، وما يجري لهم من الأحوال واستماله الخلق، لا سيما الجهلة، فإنهم يؤثرون هذا النوع، ويحبونه ويقومون بخدمته، وغالب من هذا شأنه أن يجانب العلم وأهله، ويعادي العمل الصحيح ومن يلتزمه، ويقولون عن أولئك: هؤلاء هم الرجال، يقول المؤلف: وهذه مصيبة وجهل. د - طائفة على العكس من الطائفة السابقة، لا يرون المجاذيب شيئا، ولا من يعتقدهم، يقول المؤلف: وهم أسلم من الذين قبلهم، لتمسكهم بظاهر الشرع، وأسلم منهما من سلم الأمر، فلم ينتقد إلا بحق، ولم يعتقد إلا بحق، ويترك ما وراء ذلك. هـ - طائفة تدعي المراتب وتتجاسر عليها، وتتقاسم الألقاب والترقيات بينها، كفلان قطب، وفلان من الأبدال، وفلان وتد، ورقي، وأعطي، إلى غير ذلك، يقول المؤلف: وهذه جسارة عظيمة، لأنها من الكذب على الله والرجم بالغيب، من غير دليل ولا برهان. و- فئة المشتغلين بعلم الكنوز والكهانة، والخواتم والعزائم والحروف والطلاسم، والتنجيم، والكلام على المغيبات، والطالبين للاسم الأعظم، والمتعلقين بالأسماء لتحصيل خواصها دون عمل، وغير ذلك من أعمال الشعوذة والسحريات وتسخير الجان في أغراضهم، فهؤلاء جميعا عند المؤلف أطاعوا الشيطان فأطاعهم، وربما حصلت لهم المصادفة فسموها
6 - التبرك بالآثار والزيارات
مكاشفة، وقد تجرهم إلى الكفريات، وقل من تعلق بها فأفلح (¬1). 6 - التبرك بالآثار والزيارات: يقول المؤلف: اتفق العلماء على التبرك بآثار رسول الله (ص)، واختلفوا في التبرك بآثار غيره من الصالحين أحياء وأمواتا، وزيارة قبورهم، ويذكر وجهة نظر الفريقين، ويرجح منع التبرك بما كان له أصل تعظيم في عبادة الجاهلية، من خشبة أو شجرة أو حديدة أو حجر أو بناء، ويجوز بما يمتهن أو كان مستهلكا، وإن كان التنزه أولى كما يقول، لمحل الاشتباه، ويحذر كذلك من التمسح بالقبر والإدهان بالماء الذي يكون عليه، لأنه من فعل النصارى، وكذلك نقل التراب منه أو الصلاة عليه أو بناء مسجد عليه للتبرك. والمؤلف مع إباحته زيارة الحي والميت للتبرك، هو يقول: ينبغي ألا يجعل الزائر ذلك عدته، لئلا يضيع به نظام الحق والحقيقة (¬2). هذا عرض ملخص لأبرز مباحث الكتاب وقليل من كثير، وإلا فالكتاب حافل بالمسائل النافعة والفوائد النفيسة المبثوثة في تضاعيف فصوله وسطوره جمعت، بين الفقه في الدين ورقائق التصوف وطريق السالكين. ¬
نسخ المخطوط
نسخ المخطوط هذا الكتاب (عدة المريد الصادق) - لحسن الحظ - أصوله المخطوطة متوفرة في خزائن المخطوطات في عدد من البلاد: في المغرب وتونس وأسبانيا وطرابلس تحت عناوين مختلفة: (عدة المريد الصادق)، وأحيانا تكتب (عمدة) بدل عدة، وتحت اسم (الرد على أهل البلع)، و (جامع الفوائد والمنافع)، و (النصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدع بالكتاب والسنة)، و (جنة المريدين). وقد اعتمدت في هذا العمل على أربع نسخ، يمكن تمييزها إلى فئتين: الفئة الأولى وتشمل: 1 - نسخة (خ)، وهي نسخة الخزانة العامة بالرباط، وعليها ختم يفيد أنها آلت إلى الخزانة من المكتبة الزيدانية، وعنوانها المدون على ظهر الورقة الأولى (عدة المريد الصادق)، وتشتمل على مائة وثماني ورقات، وليس بها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، وخطها واضح لا تصعب قراءته. 2 - النسخة (ت 1)، وهي نسخة المكتبة الوطنية التونسية، رقمها 8631، وعنوانها المدون على ظهر الورقة الأولى (الرد على أهل البدع)، وتشتمل على مائة وعشرين ورقة، وهي ترجع في أصلها المنقولة منه إلى نسخة المؤلف، فقد جاء في آخرها: قال المصنف رضي الله عنه وأرضاه:
الفئة الثانية وتشمل
وكان الفراغ من تعليقه مبيضته في اليوم الثاني والعشرين من شهر شعبان المكرم سنة 886 هجرية على يد مؤلفه ... إلخ، واسم الناسخ: عبد الله بن محمد الصائم التلمساني نسبا التونسي منشأ ومسكنا، فرغ من نسخها ضحوة يوم الثلاثاء 13 صفر 1190 هجرية، وخطها واضح به تصحيف وأخطاء كتابية كثيرة. هذه النسخة والتي قبلها تكونان فئة واحدة من حيث إنهما تتطابقان تماما في ترتيب فصول الكتاب، وتتشابهان إلى حد كبير في النص، وناسخ النسخة الأولى أكثر ضبطا ودراية بما يكتب. الفئة الثانية وتشمل: 1 - النسخة (ت 2)، وهي أيضا من المكتبة الوطنية بتونس، وعنوانها كما هو مدون على ظهر الورقة الأولى بخط مخالف لخط الناسخ - (عمدة المريد الصادق في أسباب المقت في بيان طريق القصد وحوادث الوقت)، ورقمها 7062، وفي آخرها يقول الناسخ: انتهى كتاب عدة المريد، بدل عمدة المريد ... إلخ، الأمر الذي يدل على أن العنوان المدون على الورقة الأولى محدث، وليس من كاتب النسخة، تشتمل هذه النسخة على خمس وسبعين ورقة، كتبها محمد بن أحمد المرنيصي نسبا القيرواني مسكنا، من غير تاريخ. 2 - نسخة (ق)، وهي نسخة مكتبة أوقاف طرابلس المحفوظة في مركز جهاد الليبيين بطرابلس الغرب، وعنوانها المدون على ظهر الورقة الأولى: (عمدة المريد الصادق ... إلى آخر الاسم) كما هو على ظهر النسخة السابقة، على حين أنه في آخر النسخة يقول الكاتب: تم الكتاب ... ، المسمى بجنة المريدين في الأمور المحدثة، تشتمل هذه النسخة على تسعة وثمانين ورقة، واسم الناسخ: عبد الرحمن بن محمد بن مسعود الحازمي، كتبه للحاج محمد بالهم بن محمد النجار، وفرغ من نسخها آخر شوال سنة 1233 هجرية.
هذه المسحة والتي قبلها تكونان فئة واحدة، فإما أن تكون هذه مأخوذة من تلك، وإما أن تكونا معا مأخوذتان عن أصل واحد، فبينهما شبه كبير من حيث اختيارات ألفاظ النص، أما من حيث ترتيب فصول الكتاب فهما متطابقتان تماما، ومختلفتان عن الفئة الأولى. وللنسخة التونسية في هذه الفئة الثانية ميزة واضحة، وهي كثرة الحواشي المفيدة، والتقييدات النافعة، لتصحيح لفظ أو توضيحه، مع العزو إلى المصادر، كما هي عادة صنيع القدماء، وعلى النسخة أيضا مقابلات بالأصل الذي أخذت عنه، وأحيانا مع غيره، كما هو واضح من الحواشي، ويعبر الكاتب عن هذه المقابلات بكلمة (بلغت) في مواضع عديدة منها، وهذه النسخة تعد أحسن النسخ وأضبطها من حيث الكتابة، حيث تقل فيها الأخطاء الشائعة من الناسخ. وعلى الرغم من اتباعي في التحقيق طريقة (النص المختار) فقد فضلت في ترتيب فصول الكتاب، وكذلك، في ترتيب النص داخل الفصول، فضلت الترتيب الوارد في نسختي الفئة الأولى عند الاختلاف، لأن النص الوارد فيها أكثر استقامة، وأوضح بيانا، وأبسط عبارة، وصححت بعض ألفاظهما من نسختي الفئة الثانية، وعلى الأخص النسخة التونسية، والسبب في اعتمادي نسختي الفئة الأولى بصفة أساسية، أنهما في نظري آخر ما انتهى إليه المؤلف في أسلوب كتابه وترتيبه، والله أعلم.
وصية المؤلف لمن نسخ كتابه
وصية المؤلف لمن نسخ كتابه الحمد لله، يقول مؤلف هذا الكتاب، العبد الفقير إلى رحمة مولاه تعالى، أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي ثم الفاسي - غفر الله له -: ليعلم الناظر في هذا الكتاب، والمتأمل لما فيه من حق وصواب، أنا لم نقصد به الطعن على الناس والقدح فيهم، ولا الاشتغال بمساوئهم ولا إظهار عيوبهم، ولا أردنا الاستظهار بالمزية عليهم، وإنما قصدنا فيه التحذير من الوقوع فيما حذرنا منه، والتحرير لما نبهنا عليه، ليكون عدة للصادق في دينه، وإعانة للمحقق في يقينه، ورحمة للمسكين في حاله، فمن قصده لشيء مما قصدناه به فالله المسؤول في إعانته ونفعه، ومن قصده لغير ذلك فالله المستعان على إتلافه عنه ومنعه، وأن يعمي عنه من يريد به هتك أستار الناس ويريد به إظهار اللبس والالتباس، ومن قصده لذلك فالله حسيبه وسائله ومتولي الانتقام منه، لأن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته، والمؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبع العيوب، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ويعلم الله لولا الشفقة على بعض الإخوان الصادقين ما كتبت منه حرفا، مع ما أخذ الله على من علم شيئا أن يبينه ولا يكتمه، وما ورد من الوعيد في سكوت العالم عند ظهور البدع، مع ما انضم إلى ذلك من أسباب خاصة وعامة، وعلى الله المعتمد في عموم النفع به، وأن يجعله رحمة وبركة حيثما حل، ثم أرغب لمن كتبه أن يكتب هذه المقدمة في ظهر نسخته، لنبرأ من جهل الجاهلين، وعلى الله ثوابه وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، انتهى.
مقدمة المؤلف
ثانيا - النص مقدمة المؤلف وصلى الله على سيدنا محمد وسلم، قال الشيخ الفقيه الإمام الصالح، العلم الأوحد، الشهير الصدر الكبير، أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي، عرف بزروق - رحمه الله آمين-: الحمد لله الذي رفع عماد السنة وأعلى منارها، وخفض بساط البدعة وكسف أنوارها، وأوضح شواهد الحقيقة (¬1) وأظهر أسرارها، وكشف طرائق الباطل وطمس آثارها، وأحكم بناء التحقيق وشيد أسوارها، وأمر باتباع السنة وألزم إيثارها، فالسعيد من استبصر فأبصر، والموفق من نبه فتذكر، والمحروم من وقف فتحيرا فلا هو مقتول ففي الموت راحة، ولا هو ممنون عليه فيعتق، والشقي من بدل في الدين وغير، جعلنا الله من الفرقة الناجية، ومتعنا بالسنة في هذه الدار الفانية، وشملنا في الدارين بالعافية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أما فبل، ومع، وبعد، فإن في كل واد بني سعد، من اطمأن إليهم أتلفوه، ومن تعلق بهم كشفوه، ومن استغاث بهم أوقفوه، أعني الذين اتخذوا الجهل مهادا، والبدعة وسادا، والهوى عمادا، وادعوا أن ذلك هو الدين ¬
القويم، والصراط المستقيم، فرفضوا السنة والجماعة، ووصفوا المعصية وصف الطاعة، وتركوا السنة وأسبابها، وآثروا البدعة وفتحوا أبوابها، فكانوا دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، كما أخبر الرسول (ص) فيما أخرجه البخاري عن حذيفة بن اليمان (ض)، قال: "كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: فهل بعد ذلك الشر (¬1) من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم (¬2) يهدون يغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال (¬3): "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك" (¬4) وكان (ص) يقول في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد (ص)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وصاحبها في النار" (¬5)، رواه النسائي من طريق جابر، وأصله في مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" (¬6)، أي السنة، لقوله في الرواية الأخرى: "ما أنا عليه ¬
وأصحابي" (¬1) وقال سفيان الثوري (¬2) (ض): "لو أن فقيها في رأس جبل لكان هو الجماعة" (¬3) ونحوه عن ابن المبارك (¬4)، وغيره، وبذلك فسره ابن أبي جمرة (¬5) في حديث حذيفة (ض)، وفي تمام الحديث المذكور: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى فيه عرق ولا مفصل إلا دخله" (¬6) نسأل الله السلامة، وقال رسول الله (ص): "إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله" (¬7). وقال (ص): "يحمل (¬8) هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (¬9) وما ذلك إلا ¬
بالتبصر في الدين، قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني} (¬1) وقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (¬2) وقال عز وعلا: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (¬3). قال الجنيد (¬4) (ض): الصراط المستقيم طريق محمد (ص)، وقال أيضا: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى سنة الرسول (ص)، وقال أيضا: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه. وقال سهل بن عبد الله (¬5) (ض): بنيت أصولنا على ستة أشياء: كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق (¬6) وقال أبو عثمان الحريري (¬7) (ض) من أمر ¬
السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، قلت: وهو أن يأتي بأمر لا وجه له ولا دليل من صاحب الشريعة، كان خيرا أو غيره (¬1) قال الله تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} (¬2). وقال أبو العباس بن عطاء الله (¬3) (ض): من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب (ص) في أوامره وأفعاله وأقواله وأخلاقه. وقال أبو حمزة البغدادي (¬4) (ض) من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله تعالى إلا متابعة الرسول (ص) في أقواله وأفعاله وأحواله. وقال أبو القاسم النصراباذي (¬5) (ض): (أصل الخوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلائق، والمداومة على الأوراد، وترك الرخص والتأويلات. قلت: هذه هي الأصول التي من ضيعها حرم الوصول، وأكثر أهل الزمان على ذلك، إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، وقليل ما هم، وقد ¬
قال رسول الله (ص): "إن مما في صحف إبراهيم (س) ... ، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه ممسكا للسانه" (¬1) الحديث، فمعرفة الزمان وأهله صعب، والكلام فيه متسع رحب، وفيه من الآفات الدنيوية، ما نسأل الله السلامة منه، ومن تحريك الآثار النفسانية، مما نرغب إلى الله في الخلو عنه، لا سيما ما يشتبه فيها الحق بالباطل، ويظهر المتحلي به كالعاطل، فإن النفوس تسرع لإنكاره، ولا يصح من المشفق على نفسه وجود إظهاره، لما يحرك من عقارب التعصب والإذاية، وما يوجبه من اشتداد ظلمة الغواية، لكن الحق أبلج، والباطل لجلج، والدين النصيحة، والسكوت في الحق فضيحة، فوجب أن نأتي من ذلك، بما هو الأهم، لشيوعه في الوقت، حماية لمن وقف عليه من أسباب البعد والمقت، فنذكر أمورا يدعي أهلها أنهم على طريقة السادة الصوفية، ويرون أنهم في ذلك على حالة سنية، من غير دليل واضح قاطع، ولا نور ظاهر ساطع، ويدعون إلى ذلك بحسب إمكانهم، ويمنعون مما سواه كافة إخوانهم، ويقولون: إن قبولهم ذلك من قوة إيمانهم، وتحقق إحسانهم، وإن ذلك هو عين الحقيقة، ومنهاج سلوك السبيل والطريقة، وإنما هي طريقة معوجة، وأمور ملبسة مروجة، يغتر بها الجاهل، فيتبع، ويحتج بها المتعصب، فيضل ويبدع، أعاذنا الله مما ابتلاهم به، وسلك بنا طريق الحق بفضله، وإنما يظهر الحق في ذلك بالتبصر، ويزول اللبس فيه ويذهب التستر، وهذا حين نشرع في المقصود وبالله التوفيق، فنقول: ¬
1 - فصل في حقيقة البدعة وأحكامها وخواصها.
1 - فصل في حقيقة البدعة وأحكامها وخواصها. أما حقيقة البدعة، فشرعا: إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه، وليس منه، سواء كان بالصورة أو بالحقيقة، لقول رسول الله (ص): "من أحدث في أمرنا (هذا) (¬1)، ما ليس منه فهو رد" (¬2) وقوله (ص): "كل محدث بدعة، كما تقدم ... "، وقد بين العلماء (ض) أن المعنى في الحديثين المذكورين راجع لتغيير الحكم، باعتقاد ما ليس بقربة قربة، لا مطلق الإحداث، إذ قد تتناوله الشريعة بأصولها، فيكون راجعا إليها، أو بفروعها فيكون مقيسا عليها، وقالوا: بحسب هذا فلا تكون البدعة إلا محرمة أو مكروهة، لأنها إن قويت شبهتها لا يصح أن يبلغ بها التحريم، وإن ضعفت شبهتها جدا كانت محرمة، لا سيما إن كانت في مقابلة منصوص عن الشارع، ومخالفة لأصل الملة، أو خارجة عن قواعد الأحكام الشرعية. قال المحققون: وإنما قسمها بعضهم لأقسام الشريعة، اعتبارا بمطلق الإحداث ومن حيث اللغة، ومنه قول عمر (ض) في شأن التراويح: (نعمت البدعة هذه) (¬3) فسماها بدعة من حيث صورة إثباتها وإلا فهي سنة بفعل النبي (ص) ثلاث ليال من رمضان في حياته، ثابت إقامتها بقوله (ص): "وإني خشيت أن يفرض عليكم" (¬4) فنبه على العلة ليشعر بثبوت الحكم عند ارتفاعها، كما أثبته عمر (ض) بإجماع من الصحابة في قوله، فإن قلت: كيف تكون البدعة المكروهة ضلالة مع أن المكروه من قبيل الجائز، والنبي (ص) قد حكم على كل بدعة بأنها ضلالة، قلت: الكراهة مصروفة للعمل بها، ¬
وإحداثها حرام (¬1) لأنه افتيات على الشارع، وتقدم بين يديه، وتغيير لأحكامه مع وجود شبهة منه، (ثم من شؤم البدعة وشأنها لا تزال تتسع حتى تصل إلى محرمات، فضلا عن محرم واحد) (¬2). ثم من خواص البدعة ثلاثة: أحدها: أنها لا توجد غالبا إلا مقرونة بمحرم صريح، أو آيلة إليه، أو يكون تابعا لها، ومن تأمل ذلك وجده في كل أمر قيل: إنه بدعة، لا ينخر م بحال، كما ننبه على بعضه إن شاء الله تعالى. الثاني: أنها لا توجد غالبا إلا في الأمور المستغربة، غير المألوفة في الدين، وفي الكيفيات من المندوبات وتوابع الأعمال، وما تميل إليه النفوس وتستحسنه، كالذكر والتلاوة والصلاة والصوم، بما يدخلون عليها من الكيفيات ونحوها والسلوك والتربية ونحو ذلك فتأمله. الثالث: أنها لا توجد غالبا إلا مسندة لوجه من الشريعة، أو معنى من الحقيقة يلتبس على قليل العلم، فيتحير أو يسلم، ويتروج على الجاهل فيظنه دينا قيما من حيث لا يعلم، وما غره بذلك إلا شبهة الأصل وتسليم من يعتقد فيه العلم والفضل، ولكن لكل شيء ميزان، يظهر به الحق من الباطل، يعرفه العالم، وينفيه الجاهل، فيكون ضالا بفعله، مضلا بدعوى الخلق إليه، غير معذور في أمره، لعدم تبصره، إذ الدين مبني على التبصر، وبالله التوفيق. ... ¬
2 - فصل في موازين البدعة.
2 - فصل في موازين البدعة. وهي ثلاثة: الميزان الأول: أن ينظر في الأمر المحدث، فيما له مستند شرعي بوجه شامل محيط هو جملة الشريعة ومعظمها، فإن كان هذا الأمر مما شهد له معظم الشريعة وأصلها وذمتها، فليس ببدعة، وإن كان مما يأباه ذلك بكل وجه، فهو باطل ضلال مبتدع إلحاد (إن كان) (¬1) في جانب الاعتقاد ونحوه، وإن كان مما تراجعت فيه الأدلة، وتناولته الشبهة، واستوت فيه الوجوه، اعتبرت وجوهه، فما ترجح فيه من ذلك رجع إليه. الميزان الثاني: اعتبار قواعد الأئمة وملف الأمة العاملين بطريق السنة، فما خالفها بكل وجه فلا عبرة به، وما وافق أصولهم فهو حق، وإن اختلفوا فيه فرعا وأصلا فكل يتبع أصله ودليله، وقد عرف من قواعدهم أن ما عمل به السلف وتبعهم الخلف لا يصح أن يكونوا قد أحدثوه من عند أنفسهم، لعصمة الإجماع، كما في الحديث (¬2)، فلا يصح أن يكون بدعة ولا مذموما، وما تركوه بكل وجه واضح لا يصح أن يكون سنة ولا محمودا، وما أثبتوا أصله ولم يرد عنهم فعله، فقال مالك (ض): هو بدعة، لأنهم لم يتركوه إلا لأمر عندهم فيه، فإنهم كانوا أحرص على الخير وأعلم بالسنة، وهو مقتضى قول ابن مسعود (ض)، إذ قال لقوم رآهم يذكرون جماعة: (تالله لقد جئتم ببدعة ظلما، ولقد فقتم أصحاب محمد (ص) علما) (¬3)، ذكره ابن ¬
الحاج (¬1) في المدخل فانظره، وقال الشافعي (ض): كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة وإن لم يعمل به السلف، لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لما هو أفضل منه، أو لعله لو بلغ جميعهم عمل به، والأحكام مأخوذة من الشارع وقد أثبته، نعم، واختلفوا أيضا فيما لم يرد في السنة له معارض ولا مثبت هل هو بدعة؟ وقاله مالك، أو ليس ببدعة؟ وقاله الشافعي، مستندا لحديث: "ما تركته لكم فهو عفو" (¬2) ذكره ابن الحاج في باب الذكر، والله أعلم. وعلى هذا اختلافهم في حزب الإدارة (¬3) والذكر بالجمع والجهر، والدعاء كذلك (¬4) إذ ورد في الحديث الترغيب فيه ولم يرد عن السلف ¬
فعله، ولا ورد في كيفيته شيء، فقال الشافعي: سنة، وقال مالك: بدعة مكروهة لقيام الشبهة، ثم كل قائل لا يكون مبتدعا عند القائل بمقابله، لحكمه بما أداه إليه اجتهاده الذي لا يجوز له تعديه، ولا يصح له القول ببطلان مقابله لقيام شبهته، ولو قيل بذلك لأدى لتبديع الأمة كلها، لأن على كل قائل قائلا، وقد عرف أن حكم الله في مجتهد الفروع ما أداه إليه اجتهاده، سواء قلنا المصيب واحد أو متعدد، وقد قال رسول الله (ص): "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" (¬1) ¬
3 - فصل في البدعة ومجاريها.
فأدركهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: إنما أمرنا بالعجلة وصلوا بالطريق، وقال آخرون: إنما أمرنا بالصلاة هناك فأخروا، ولم يعب (ص) على واحد منهما، فدل ذلك على صحة العمل بما فهم عن الشارع إذا لم يكن هوى، وبالله التوفيق. الميزان الثالث: ميزان التمييز بشواهد الأحكام، وهو تفصيلي ينقسم إلى أقسام الشريعة الستة، أعني الوجوب والندب والتحريم والكراهة وترك الأولى، والإباحة، فكل ما انحاز لأصل بوجه صحيح واضح لا بعد فيه ألحق به، وما لا فهو بدعة، وعلى هذا الميزان جرى كثير من المحققين في تقسيم البدع واعتبارها من حيث اللغة للتقريب، والله أعلم. 3 - فصل في البدعة ومجاريها. وأقسام البدع ثلاثة: أولها: البدع الصريحة، وهي ما أثبت من غير أصل شرعي في مقابلة ما ثبت شرعا من واجب أو سنة أو مندوب أو غيره، فأماتت سنة، أو أبطلت حقا ثابتا، وهذه شر البدع وإن كان لها مستند من الأصول والفروع، فلا عبرة به. الثاني: البدع الإضافية، وهي التي تخاف لأمر لو سلم منها لم تصح المنازعة في كونه سنة، أو غير بدعة بلا خلاف، أو على خلاف مما تقدم، وهذه أكثرية بل غالبة في الزمان، لولا الإطالة لسردنا منها جملة. الثالث: البدع الخلافية، وهي المبنية على أصلين، يتجاذبها كل منهما بحكمه، فمن قال بهذا قال: بدعة، ومن قال بمقابله قال: سنة، كما تقدم في حزب الإدارة، وذكر الجماعة، وغير ذلك فتأمله.
4 - فصل في أصول ظهور مدعي التصوف في هذا الزمان بالبدع واتباع الناس لهم عليها.
فأما مجاري البيع في العبادات - أعني صورها اتفاقا - فكل ما أحدث فيها زيادة أو نقصا فهو بدعة إن ثبت له حكم مخالف أو لم يكن، واختلف في جريها في العادات وفيما لم يرد له حكم خاص، كالأكل والشرب واللباس ونحوه، فقيل: تجري فيه لقول أنس (ض) (أول ما أحدث الناس المناخل والأشنان والشبع) (¬1) أو كما قال، وقيل: لا تجري في ذلك، وإطلاق أنس (ض) باعتبار الصورة الواقعة فقط، (وعلى الأول يجري ما نقل عن المذهب في العمائم ونحوها كما ذكره في المدخل وغيره) (¬2)، والله أعلم. قلت: ولا ينبغي أن يختلف فيما أحدث من ذلك مع ادعاء أنه من الدين، لأنه زيادة حكم فيه، والله أعلم. ... 4 - فصل في أصول ظهور مدعي التصوف في هذا الزمان بالبدع واتباع الناس لهم عليها. فأما ظهورهم بالبدع فله أصول ثلاثة: أولها: نقص الإيمان بعدم العلم بحرمة الشارع، وفقد نور الإيمان الهادي إلى اتباع الرسول (ص)، قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما ¬
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (¬1) وقال أحمد بن حضرويه (¬2) (ض): الدليل لائح والطريق واضح، والداعي قد أسمع، فما التحير بعد هذا إلا من العمى، وفال ابن عطاء الله (¬3) (ض) في حكمه: لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك، وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك، وقال أيضا: تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال، وقال بعضهم: نحت الجبال بالأظافير أيسر من زوال الهوى إذا تمكن، قال الله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} (¬4) الآية، وقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} (¬5) يعني أن الأسباب والحيل لا تفيد في هدايته لتمكن الباطل من نفسه، وفقدان نور الإيمان من قلبه، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (¬6). الثاني: الجهل بأصول الطريقة، واعتقاد أن الشريعة خلاف الحقيقة، وهذا هو الأصل الكبير في ذلك، وهو من مبادئ الزندقة، ومنه خرجت الطوائف كلها، وصار الفروعي الجامد لا يتوقف في سب الصوفية، والمتصرف الجاهل لا يتوقف في النفور من العلم وأهله، ويخالف ظاهر الشريعة في أمره، ويرى ذلك كمالا في محله، حتى لقد سمعت عن بعض من تفقر من طلبة الوقت يحكى أنه سمع حكاية من حكايات الخارجين أوجبت أثرا في الوجود، فنطق ناطق زندقته وجهله، بأن قال: ظاهر الشريعة (¬7) حرمان، وهذا والعياذ بالله كفر وضلال، انجر له من جهله بالطريقة واعتقاده ¬
5 - فصل في الأمور التي ينتفي بها إحداث البدع عمن غلط فيها واتباع أهلها.
الفرق بين الحقيقة والشريعة، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه المارقون أصولهم، واستظهرت الطوائف بأعمال خارجة عن الدين، وأحوال موافقة للمارقين، فحمل الصادق على الكاذب، والمصيب على الخائب، ووقع الكل في جهالة لا يمكن تفصيلها، ولا ينضبط تأصيلها، ودفع ذلك لا يكون إلا بتقرير أصول القوم وسنفرد لها فصلا بعد إن شاء الله تعالى. الثالث: حب الرياسة والظهور مع الضعف عن أسبابها والقصور، فيضطرهم ذلك لإحداث أمور تستميل القلوب، لكونها مجبولة على استحسان الغريب مع جهلها بما يشين ويرب، وحرصها على الخير، وظهور هذا الشخص بصورة ذلك، وحقائق منه (¬1) مع ما يجري على يديه من خوارق شيطانية، أو يبدو لتابعيه من لذة نفسانية، أو يدركه من أذواق طبيعية، يظنها فتوحا وأسباب وصول، فينبذ بها الفروع والأصول، مع ما يعينه على ذلك من احتقار الأمور المألوفة، واعتقاده أن المقام العجيب لا يدرك إلا بالأمر الغريب، وأن العبادات في صورها ووجوهها لا تفيد المقصود إلا بإضافة أمر إليها، فينقاد لذلك عند ظهوره ويعمل به، فيجتهد (¬2) بذلك ويتقوى عليه بما يظهر له من ذلك، وما هو إلا الجهل والانقياد للوهم، وعدم التثبت والفهم، نسأل الله السلامة. 5 - فصل في الأمور التي ينتفي بها إحداث البدع عمن غلط فيها واتباع أهلها. (لمن تورط معهم) (¬3). ¬
وهي ثلاثة: أولها: تصحيح الإيمان بوجه يؤدي إلى إقامة حرمة الشارع فيما أمر به ونهى عنه، والتبصر في الدين، فقد قال الله ... تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (¬1) وقال عز وجل: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذب أليم} (¬2) قل عز من قائل: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى على بصيرة أنا ومن أتبعني} (¬3) فبين أن التبصر في الدين أصل من أصوله، وأن من أخذ الأمر رماية في عماية فليس بمتبع للشارع، لكن الناس ثلاثة: عالم متمكن متبصر في أخذ المسائل، يطلب الدليل وإن لم يكن مجتهدا، ومتوسط في الأمور بين العامة والعلماء، فلا يصح اتباعه، إلا لمن تبصر في شأنه، فأوجب له ما علم من الشريعة أن هذا ممن يقتدى به، ثم لا يأخذ منه ما يأباه ما علمه من قواعد الشريعة، إذ لا يجوز لأحد أن يتعدى علمه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬4) وعامي، وحقه أن يقف مع ما لا يشك (¬5) في حقيقته من تقوى الله تعالى وذكره، والعمل على الجادة التي لا شك فيها، وإلا فهو مستهزئ بدينه ومتلاعب به، فاعلم ذلك، وإذا لم يكن الفتح فيما جاء عن الله ... ورسوله ففي أي شيء يكون، نسأل الله السلامة. الأمر الثاني: البحث عن أحكام الله فيما هو به من حركة وسكون، وما يعرض له من إقبال وإدبار، وذلك لا يصح له إلا بمراقبة أحواله، فلا يعمل بشيء إلا عن علم أو اقتداء بمن يصح الاقتداء به، من عالم ورع، أو فقيه متصدر فيما لا هوى له فيه، ومقام المشيحة نذكره فيما بعد، إن شاء الله ... سبحانه. ¬
6 - فصل فيما يتبع من أمور الصوفية المحققين وما يترك ويكون التابع والتارك فيه تابعا مذهبهم المبارك من غير خروج.
الأمر الثالث: العلم بأصول الطريقة التي هو بها أو يريد سلوكها، فإنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول، وأصول القوم مبنية على الكتاب والسنة، هذا إمام الطائفة وعمدتها، والمرجوع إليه عند الكافة في شأنها، الشيخ أبو القاسم الجنيد (ض)، يقول: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث، ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين، أفسد من اتبعه وتتبعه حرام، وقال أبو سليمان الداراني (¬1) (ض): إنها لتقع النكتة في قلبي من كلام القوم أياما، فأقول لها: لا أقبلك إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة، وسئل الشبلي (¬2) (ض) عن التصوف، فقال: هو الاقتداء برسول الله (ص) انتهى، والنقل عنهم في هذا الباب كثير، وقد تقدم منه، ومن أراد الوقوف والزيادة فلينظر في محاله ومظانه، وبالله التوفيق. ... 6 - فصل فيما يتبع من أمور الصوفية المحققين وما يترك ويكون التابع والتارك فيه تابعا مذهبهم المبارك من غير خروج. قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (¬3) (ض): كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن، يعني كالجنيد وأمثاله، لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة، فهم خلقاء به، كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك (¬4). وإن لم يكن له أصل في الشريعة، فلا عمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة، لأن السنة ¬
معصومة من الخطأ، وصاحبها معصوم، وسائر الأمة لم تثبت لهم عصمة إلا مع إجماعهم خاصة، وإذا اجتمعوا تضمن إجماعهم دليلا شرعيا، فالصوفية كغيرهم ممن لم تثبت له العصمة، يجوز عليهم الخطأ والنسيان، والمعصية كبيرها وصغيرها، والبدعة محرمها ومكروهها، ولذلك قال العلماء: كل كلام منه مأخوذ ومتروك إلا ما كان من كلامه (ص)، وقد قرر القشيري (¬1)، رحمه الله ... ذلك أحسن تقرير، فقال: فإن قيل: فهل يكون الولي معصوما؟ قيل: أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا، وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب وإن حصلت هفوات أو آفات أو زلات فلا يمتنع ذلك في وصفهم، قال: ولقد قيل للجنيد: أيزني العارف، فأطرق مليا، ثم رفع رأسه وقال: {وكان أمر الله قدرا مقدورا (¬2). قال: فهذا كلام منصف، فكما تجوز على غيرهم المعاصي بالابتداع وغيره، كذلك تجوز عليهم البدع، فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ، ونقف عن الاقتداء بمن يجوز عليه إذا ظهر في الاقتداء به إشكال، بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة، فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه، ولا علينا إذا قام لنا الدليل على اتباع الشارع، ولم يقم لنا الدليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالها إلا بعد عرضها، وبذلك وصى شيوخهم، وأن ما جاء به صاحب الوجد والذوق من العلوم والأحوال والفهوم يعرض على الكتاب والسنة، فإن قبلاه، وإلا لم يصح، قال: نم نقول ثانيا (¬3) إذا نظرنا في رسومهم التي حدوا، وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن والتماس أحسن المخارج، ولم نعرف له مخرجا، فالواجب التوقف عن الاقتداء والعمل، وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم لا ردا له ولا اعتراضا عليه، بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية، كما فهمنا غيره، ثم قال بعد كلام: فوجب ¬
7 - فصل في تحرير الطريقة، وما بنيت عليه من شريعة وحقيقة.
بحسب الجريان على رأيهم في السلوك، ألا نعمل بما رسموه مما فيه معارضة لأدلة الشرع، ونكون في ذلك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم، خلافا لمن يعرض عن الأدلة، ويصمم على تقليدهم فيما لا يصح تقليدهم فيه على مذهبهم، فالأدلة الشرعية والأنظار الفقهية والرسوم الصوفية تذمه وترده، وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه، واستبرأ لدينه وعرضه (¬1) انتهى، وهو من مكنون العلم، وبالله التوفيق. ... 7 - فصل في تحرير الطريقة، وما بنيت عليه من شريعة وحقيقة. اعلم أن الفقه والتصوف أخوان في الدلالة على أحكام الله سبحانه، إذ حقيقة التصوف ترجع لصدق التوجه إلى الله تعالى من حيث يرضى بما يرضى، وذلك متعدد، فلذلك ادعاه كل أحد بما هو فيه، وعبر عنه كل أحد بما انتهى إليه منه على قدر القصد والفيض والهمة، واعتبر ذلك أئمته، حتى إن أبا نعيم (¬2) في حليته غالبا لا يترجم رجلا إلا أتبع ذلك بقول من أقوالهم، يناسب حال ذلك الشخص، قائلا: وقيل: إن التصوف كذا، فأشعر أن تصوف كل أحد صدق توجهه، وأن من له قسط من صدق الوجه له قسط من التصوف على قدر حاله. ثم الفقه والأصول شرط فيه، والمشروط لا يصح بدون شرطه، والشرط أن يكون بما يرضاه الحق، ومن حيث يرضاه، فما لا يرضاه لا يصح أن يكون قربة، وما يرضاه لا يصح أن يكون قربة إلا من الوجه الذي يرضاه، كالصلاة مثلا، يرضاها الحق، ولكن لا في الأوقات الممنوعة ولا على غير الوجه المستقيم {ولا يرضى لعباده الكفر} (¬3) فلزم ¬
تحقيق الإيمان {وإن تشكروا يرضه لكم} (¬1) فلزم العمل بالإسلام، فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعلم أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذا لا حقيقة للعلم إلا بالعمل، ولا عمل إلا بصدق توجه، ولا هما إلا بإيمان، إذا لا يصحان دونه، فهو بمنزلة الروح، وهما بمنزلة الجسد، لا ظهور له إلا فيهما، ولا كمال لهما إلا به (¬2)، وهو مقام الإحسان المعبر عنه: "بأن تعبد الله كأنك تراه" (¬3) إذ لا فائدة لذلك إلا صدق التوجه إلى الله تعالى على حد ما قلناه. غير أن نظر الفقيه مقصور على ما يسقط به الحرج، ونظر الأصولي مقصور على ما يصح به الأصل الذي هو الإيمان والسنة، ونظر الصوفي متعد لما يحصل به الكمال، فيطلب في باب الأصول على تحلية الإيمان بالإيقان، حتى يصير في معد العيان، وفي باب الفقه على أن يأخذ بالأعلى أبدا، ثم له حكم يخصه فيما يخصه، ومدار الأمر فيه على اتباع الأحسن والأكمل، لقوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (¬4) الآية، فلذلك كان مذهبهم في الاعتقادات مذهب السلف، من اعتقاد التنزيه، ونفي التشبيه وقبول ما ورد كما ورد، من غير تعرض لكيف ولا تأويل ولا غيره، إذ ليس ثم الحق (¬5) من صاحب الحجة بحجته، ولا يضرنا الجهل بالتأويل مع ذلك، كما لا يضرنا الجهل بألوان الأنبياء وأسمائهم، مع العلم بتعظيمهم واحترامهم، ولئن كان التأويل أعلم فالتفويض أسلم، هذا مع تكلمهم في وجوه التأويل بما يقبله اللفظ، من حيث إنه علم، فلذلك توسعوا في العبارة عنه مع قصدهم أمثالهم بالكلام لا غيرهم، فأنكر عليهم الغير ذلك، وهو معذور بما بدا له، ولو سلم لكان خيرا له، ومذهبهم في الأحكام مذهب الفقهاء إلا أنهم حرروا وهذبوا ونقحوا، غير أنهم يأخذون من المذاهب بما ¬
يوافق الحديث، ليجمعوا بين نور الاقتداء ونور الاهتداء، مع تقيدهم بالمذهب الواحد، وعدم مخالفتهم للأحوط والمشهور منه إلا من ضرورة، فقد كان الجنيد (ض) على مذهب أبي ثور (¬1)، والمحاسبي (¬2)، شافعيا، والشبلي مالكيا، والجريري (¬3) حنفيا، مع إجماعهم على اتباع الحديث كما ذكره السهروردي (¬4) فكان الجمع بين إجماعهم وفعلهم، والله أعلم. ومذهبهم في الفضائل مذهب المحدثين فلا يأخذون بموضوع كصلاة الرغائب والأسبوع ونحوها، وإن ذكرها أئمة منهم فلم ينقلها أحد عنهم، بل ولا عن أئمة المذاهب، وإن كان الشيخ أبو طالب (¬5) قد أثبتها للنساك وتبعه الغزالي (¬6) على ذلك، فقد نبه النووي (¬7) بأن لا يتبع ذلك، ولهما أصل في ذلك ذكرناه في القواعد، وبالغ في إنكار ذلك ابن عبد السلام (¬8) من الشافعية ¬
8 - فصل في ذكر ظهور المشايخ والمشيخة وما يتبع ذلك من طرق الاقتداء ونحوها.
والطرطوشي (¬1) من المالكية، وكذا ابن العربي (¬2) وغيره. وانفردوا في الآداب بأصل هو جمع قلوبهم على مولاهم فبأي وجه يمكن لهم انتهجوه، سواء كان مباحا صريحا، أو رخصة أو أمرا مختلفا فيه، فمن ثم قالوا بأشياء أنكرها عليهم من لم يعرف قصدهم، وطالبهم فيها بما طالبوا به أنفسهم في العبادات من الاحتياط وإيثار الأولى، وآثرها من غلب عليه هواه فهلك بذلك، وقد أشار الجنيد (ض) لهذا الأصل بقوله لما سئل عن السماع: كل ما يجمع العبد على ربه فهو مباح (¬3) ونقل القشيري في باب السماع عن أبي علي الدقاق (¬4) (ض) أنه قال عن المشايخ: إنهم قالوا: ما يجمع قلبك إلى الله تعالى فلا بأس به. ... 8 - فصل في ذكر ظهور المشايخ والمشيخة وما يتبع ذلك من طرق الاقتداء ونحوها. اعلم أن الأوائل من القوم لم يكن لهم ترتيب في المشيحة معروف، ولا اصطلاح في السلوك مألوف، وإنما كانت عندهم الصحبة واللقاء، فكان الأدنى منهم إذا لقي الأعلى استفاد برؤيته أحوالا، لأن من تحقق بحالة لم يخل خاطره منها، والأحوال مورثة، فلذلك قال ابن العريف (¬5) رحمه الله: ¬
كيف يفلح من لم يخالط مفلحا وكان الصحابة (ض) ينتفعون برؤيته (ص)، حتى قال أنس (ض): والله ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفه (ص) حتى وجدنا النقص في قلوبنا، وكانت الصحبة عندهم لتعلم الآداب، وأخذ العلم بوجه يعرف أحدهم بالتزام الوجه الذي يأخذ منه ويواليه موالاة من يرى فضله عليه، ويشكر إحسانه إليه، من غير زائد على ذلك، وأصلهم في ذلك قوله تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} (¬1) الآية، فلما غلب الخبط على النفوس والتخليط على القلوب، ظهر متأخرو الصوفية في الاصطلاح في التربية وترتيب المشيحة على ما هو معلوم من شأنهم، مستندين لما ذكرنا من قوله تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} الآية، ولأنه (ص) كان يربي أصحابه فيعطي كلا ما يليق به، إذ قد أوصى واحدا بقوله: "لا تغضب" (¬2) وقال لغيره: "قل ربي الله، ثم استقم" (¬3) وقال لآخر: "لا يزال لسانك رطبا بذكر الله" (¬4)، وخص قوما بأذكار وعلوم، كمعاذ بحديث: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق" (¬5) وحذيفة (ض): بالسر (¬6) وتفقد عليا ¬
وفاطمة (ض) لصلاتهما من الليل (¬1) وعائشة (ض) تعترض بين يديه اعتراض الجنازة (¬2) وقال لعبد الله ... بن عمرو: "صم وأفطر" (¬3)، وأقر على سرد الصوم حمزة بن عمرو الأسدي (¬4) إلى غير ذلك من وجوه التربية فافهم. ثم جروا في ذلك على مقتضى العلم والحقيقة فلم يدخلوا على المريد في مقام التقوى الذي هو فعل الواجبات وترك المحرمات، سوى أخذ العهد قصدا للتوثق في التزام خصال التقوى، مستندين لحديث عبادة بن الصامت (ض) الذي قال فيه (ص): "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا" (¬5) الحديث، وكان (ص) يكرر البيعة في مواضع لذلك، كما وقع له مع سلمة بن الأكوع وغيره، كما هو معلوم في أحاديث المغازي (¬6)، وهو (ص) إنما دعاهم لذلك مع تقرر إيمانهم وتبريهم مما ذكر، فكان قصدا للتأكيد، والله أعلم. ¬
9 - فصل في ذكر ما ظهر في هذه الأزمنة هن حوادث لم تسمع فيما قبل.
ولم يدخلوا عليه في مقام الاستقامة وهو حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة غير تعريفه بالأصلح له، من غير زيادة ولا نقص، لاتساع هذا الباب وجهل الإنسان باللائق به، وقيامه مع شهوته تفريطا أو إفراطا، مع ما يساعد ذلك من توسع الرخص أو تضييق الورع، الذي قد يليق به وقد لا، ويحمله عليه عدم علمه بحاله، لاسترساله مع حاله، كقوله (ص) لأبي بكر لما ذكر إسراره بصلاة الليل: "ارفع قليلا"، ولعمر لما ذكر إعلانه: "اخفض قليلا" (¬1) فأخرجهما عن مرادهما، وما تقتضيه طباعهما إلى مراد الله ورسوله تبرئة من الهوى، وإن كانا برءاء منه، فافهم. وألزموه في مجاهدة النفس بما يوصل إليها من الجوع والسهر، والصمت والخلوة، وأضداد ذلك أو أضداد بعضه، إلى غير ذلك من مختلفات الأمور التي لا تنحصر، ويجري النظر فيها بحسب جريانها، وألزموه إظهار ما عنده ليصل إلى ما عندهم فيه، فكان بين أيديهم كالميت بين يدي الغاسل، (كما هو معلوم في شرط المريد مع الشيخ) (¬2)، ولكنهم لم يلزموه هذا حتى رأوا فيه أهلية الجمع (¬3) والكمال، فجاء بعد ذلك قوم حرفوا الأمور وبدلوا الأحكام، وخبطوا خبط الأعمى في تراكم الظلام، فضلوا وأضلوا، نسأل الله ... السلامة. 9 - فصل في ذكر ما ظهر في هذه الأزمنة هن حوادث لم تسمع فيما قبل. وأصله في ذلك الغباوة (¬4)، والجهل، وهم طوائف ثلاثة: أولها: طائفة تعلقت بالعلم وهي على ثلاثة أنواع: ¬
النوع الأول: قوم أخذوا بدقائق التوحيد وشقاشق الشطحات، فأكبوا على كلام أهل ذلك الفن، مثل: ابن سبعين (¬1) وابن الفارض (¬2)، والحاتمي (¬3) ومن نحا نحوهم من غير تعريج على طريقتهم في باب المعاملات، فظهر لهم أنهم حصلوا ما فهموا، ووقفوا بذلك على التحقيق بما توهموا، وحصل لهم من ذلك ذوق فهمي استلذوا به في نفوسهم، وربما أثر سريانه فيهم على محسوسهم فحرموا التحقق والعمل، وتعلقوا بالأماني والأمل، وهذا إن سلموا من معتقد فاسد، أو تجاسر على الربوبية والنبوءة في بعض المقاصد، وهذه طريقة كثير ممن يعجبك شأنه، ممن له في الطلب قدم أو الفهم وجه، لا سيما بعض المشارقة، نسأل الله السلامة، ثم كلامنا في ذلك ليس طعنا فيمن أخذوا بكلامهم، لكن في أخذهم له مع عدم تحققهم به، فافهم. النوع الثاني: قوم تعلقوا بعلوم الأحوال والمقامات، ووقائع النفوس وموارد الحقائق، ورأوا أن ليس وراء ذلك مطلب، فاحتقروا العباد والزهاد، وادعوا أن ما هم عليه عين السداد، ثم مع ذلك فهم خائضون في أمر ليسوا منه على حقيقة، بل فهموا كلام الأئمة في ذلك، فادعوه حالا لأنفسهم بما ¬
شموا من ذلك، وذاقوا بعضه، وقد قال الشيخ أبو عبد الرحمان السلمي (¬1) (ض): من حكى حكايات السلف واتخذها لنفسه حالا وص خال عنها، وفرح بقبول الناس له على ذلك، فهو من أخس العباد حالا وأفسدهم طريقة وأبعدهم عن منهاج الصديقين، ثم قال: عجبا ممن يفرح بمال غيره، والنبي (ص) يقول: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬2) والله تعالى يقول: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (¬3) لأنهم تزينوا بأحوال هم عنها خوال، وعملوا أعمالا بعيدة عن الإخلاص، ولا يطأ بساط الحق إلا الصادقون في أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم، ومن صفا صفي له، ومن خلط خلط عليه، انتهى. قلت: ورأيت من هذا النوع آحادا اعتقدهم الناس وأكبوا على أتباعهم، فحرموهم العلم والعمل بما شرطوا لهم من عدم ذلك، وحيروهم في الحقيقة عما هم مطلوبون به بما هم مستغنون عنه، وكذلك النوع الذي قبله، بزيادة أنهم ربما أضلوا بعض الضعفاء بكلام الأقوياء، وأدخلوا على عامة الطلبة من الدعاوي والكذب ما هم عنه أغنياء، وأكثر ما رأيت هذا النوع في بعض البلاد الشرقية، وهما أي النوعين أمثلهم (¬4) طريقة، وأسلمهم منهاجا وأقل اتباعا، والله أعلم. النوع الثالث: قوم فرحوا بما عندهم من الظاهر، وجمدوا عليه، وشطحوا بما فهموا من علم الباطن ودعوا إليه، فأخذوا في الإنكار على من خالفهم، وموالاة من تبعهم وحالفهم، وجعلوا العلم حجة لأنفسهم في كل ما يجري عليه، وربما جهلوا أو حسنوا الظن بأنفسهم، حتى وقعوا في مهاو من الضلال، كإباحة بعض المحرمات، وارتكاب بعض ¬
10 - فصل الطائفة الثانية طائقة تعلقت بالأحوال.
المنكرات، وربما انجر بهم ذلك لانطباع حقيقته في قلوبهم، وارتسامه في خيالاتهم، فظهروا بأمور تناسب ذلك، وربما أتوا فيه بمراء أضافوها إلى النبي (ص) تناسب أغراضهم، ولا تصح نسبتها له، وربما يصح بعضها مع قبول التأويل، فجهل هذا المسكين في قبولها أولا، وفي عدم تأويلها آخرا، واغتر في ذلك بما جرى من نوعه لأهل الحق، الذين وزنوا أنفسهم بالورع، وقاموا مع الحق في كل أمر متبع، كابن أبي جمرة (¬1) وغيره من السادة، مع أن ما وقع لهم له تأويلات حسنة، وما وقع له في بعضه فلا يحتمله (¬2) التأويل، ثم إنه جمد عن التأويل عندما طلب به، وبالغ في ذلك لما أداه لهتكه وإذايته، رحمة الله عليه وغفرانه لديه إن كان صادقا في خبره لا غير، وبالله التوفيق. 10 - فصل الطائفة الثانية طائقة تعلقت بالأحوال. وهم ثلاثة: أولها: طائفة ادعت أنها ترى رجال الغيب من الخضر (س) وأمثاله، وتخبر في ذلك بأمور إما كذبا صراحا، أو تلبس عليها الأمر بخيال شيطاني ونحوه، فهلكت في الهالكين، وربما أهلكت غيرها، فلقد سمعت أن بعض هذه الطائفة ادعى أن الخضر نبي مرسل، وقال: أرسله الله لقوم في البحر يقال لهم: بنو كنانة، قال: ومن قال بولايته فقد تنقصه، وتنقيص النبي (ص) كفر، كذا حكى لي من أثق به أنه سمع ذلك من لفظه، ففلت: نعم نسلم له صحة ما يدعيه، ولا نسلم له تكفير ¬
القائل بما ذكر لعدم القاطع، ولو كان الأمر صحيحا في نفسه، لأنا لو ألزمنا بذلك لكانت زيادة عقيدة في الدين على غير أصل ومستند صحيح. ثم ظهر بعد هذا الشيخ من تلامذته من ادعى أنه يأخذ عن الخضر الأحكام، فدعا الناس لاتباعه، وحملهم على أمور مفارقة لأصل الملة المحمدية فيما ذكر لنا، واحتج في ذلك بقصة الخضر مع موسى (¬1) واحتجاجه باطل، لأن موسى (س) إنما التزم التسليم له لا اتباعه فيما يأمره به من صورة المنكر، وهو إنما ألزمه الصبر عليه لا وجود (¬2) اتباعه والعمل بمثل فعله، مع أنه لم يأت بأمر ينكره عليه العلم في نفس الأمر حسبما دل عليه كلامه، حين بين له الوجوه التي يعرفها، فلم يأت إلا بما هو جائز في الشرع، وإنما اختصر باطلاعه على السبب دون غيره، وهذا على تسليم أنه نبي، وهي مسألة متنازع فيها بين أهل العلم، ومع ذلك فلم ينقل عنه حكم خاص غير ما ذكر من التصرف الخارق للعادة، وقد مر ما فيه، ثم هب أن الخضر (س) يأتي بالأحكام، فشريعة نبينا ¬
محمد (ص) ناسخة لجميع الشرائع إلا ما قرر، وهذا أصل في الدين يتعين اعتقاده، ومخالفه كافر إجماعا، ولذلك لما أخبر (ص) عن نزول عيسى (س) ذكر تقريره لشريعتنا يقوله: "فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وإمامكم يومئذ منكم" (¬1)، هذا وهو أمر محقق، واجب الاعتقاد، فكيف بغيره فافهم. ولقد بلغني أن هذا الرجل بلغ به الأمر إلى أن قال: ارتفعت أحكام القرآن ولم يبق إلا ما قال له قلبه عن ربه، وهذا كفر وضلال، وقال لي بعض الناس: كنا عنده ونحن نقرأ القرآن، فوقف علينا وقال: ارتفعت بركة القرآن، ولم يبق الفتح إلا في الذكر بالجمع، أو نحو هذا، ويكفي في الرد عليه فوله (ص): "من ابتغى الهدى في غيره أضله الله" (¬2) وذكر لي أنه يظهر بخوارق العادة، ويدعي مع أمره الولاية، بل الوراثة، وكل ذلك مكر واستدراج، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه. ... ¬
11 - فصل الطائفة الثانية من الثانية.
11 - فصل الطائفة الثانية من الثانية. طائفة ادعت الفناء والتصرف بغير اختيار، فانبسطت في المحرمات، وجرت عليها آثار نفسية اكتسبتها من التجريد والجمع، فظنها الجاهل من حقائق ما يقع للعارفين، وربما ألحق هذا الشخص بمثل الشيخ أبي العباس السبتي (¬1) ونظرائه من له فيه نية صالحة، فزاده ضلالا وجهلا، وربما جرى على لسانه كلام في الحق يشبه الحقائق، فكان سببا في الاغترار به، فيما يدعو إليه من اتباعه ونحوه، وربما انفعلت له النفوس الغافلة عند جمع قواه لها في أي باب كان، فظنها الجاهل عن أحوال تفيد وتنفع، وهي في الحقيقة عقارب تلدغ وحيات تلسع، وربما قصد من اعتقده الرجوع عنه، فمسه من الشيطان أمر يسوءه، فظن أنها كرامة ترده لهذا الشخص وتسوقه، فتأكد تعلقه به وخوف الغير منه، وقوي رجاء الطامع في النيل بصحبته فتمسك به، ولو صبر لله لحصل على ما يريده من الله، فانتفى عنه الأمر في أقرب وقت، لكن النفوس مبنية على التوهم، وإلا فالحق واضح، والباطل بين، والله أعلم، ولا يفيد أحد إلا مما عنده، فمن عرف بالتقلب لا تفيد صحبته غير الذبذبة (¬2) والتقلب، ومن عرف بالتمكين لا تفيد صحبته غير ذلك، لأن من تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها. ثم ما يظهر على مريد هذا الشخص إنما هي بركة صدق هذا المريد في حاله وحسن اعتقاده، ويعقبه ألف وقت خارج عن الإضمار، وإن استقام فعلى وجه لا ثبات له، وما حبسه في أسره إلا ترصد النفحة الأولى، حتى ربما أداه ذلك إلى ارتكاب ما يأمره به وإن كان محرما، بل فاحشة بينة، وهذا هو الضلال المبين، بزيادة أنه يحتج بما يقع له ويتأول شأنه، فيكون معينا له على نفسه، وعلى عصيانه وإساءته، وربما قال لمن يعذله أو يدعوه ¬
12 - فصل الطائفة الثالثة من الثانية.
للحق أنت لا تعرف، وهذا شيخ حقيقة، وأنت صاحب طريقة (¬1) وهذه أمور ذوقية لا تعرف بالخبر، وهذا كله جهل محض وضلال، ولو كان الشيخ محقا في حاله ومغلوبا في تصرفه، فله حكم يخصه، وهو حسن الظن به، وتأويل وقائعه بوجه يقبل من غير احتجاج ولا إعانة عليه، والتسليم لهم من غير اقتداء ولا اتباع في معصية لما نهي عنه من ذلك، والله أعلم. ... 12 - فصل الطائفة الثالثة من الثانية. طائفة ظهرت بالجدب وتصرف المجانين بحيث أنها تمجذبت حتى صار الجذب لها سجية بحكم العادة، فلم تقدر على الاستقامة في التصرف، وثقل عليها الرجوع إلى المألوفات، ودعاها لذلك ما تراه من أحوال المجاذيب وما يجري لهم من الأحوال واستمالة الخلق، لميلهم لهذا النوع كثيرا، لا سيما الجهلة من أبناء الدنيا، فإنهم يؤثرون هذا النوع على غيره ويحبونه، ويقومون به وغالب من هذا شأنه أن يجانب العلم وأهله، ويعادي العمل ومن يلتزمه، ويقولون: هؤلاء هم الرجال الذين خرجوا عن الدنيا فلم تبق فيهم بقية، وهذه مصيبة وجهل، دعاهم إليها حب الدنيا حتى كرهوا كل من له بها تعلق، لكونه يشاركهم فيما لهم، بخلاف غيره. وهناك طائفة على العكس، لا يرون المجاذيب شيئا ولا من يعتقدهم، وهم أسلم من الذين قبلهم، لتمسكهم بظاهر الشرع، وأسلم منهما من سلم الأمر، فلم ينتقد إلا بحق، ولا يعتقد إلا بحق، ويترك ما وراء ذلك، وقد قال بعض العلماء: ما زال يختلج في نظري أن المجذوب فاقد عقل التكليف الذي يثبت له به أصل الدين، فكيف تثبت له الولاية، وعلى مر الدهور يعتقد ولا نكير، حتى فتح الله بأن عقل تدبير المعاش هو الذي نيط ¬
13 - فصل الطائفة الثالثة من أصول الطوائف.
به التكليف، فإذا سقط التكليف فبقي صاحبه كالبهيمة في العالم، غير أنه إن ذهب هذا العقل بخيالات وهمية، كان صاحبه معتوها غير معتبر بوجه ولا بحال، وإن ذهب بحقيقة إلهية اقتضت ذهوله فيها ونحوه، اعتبر صاحبه من حيث أنه ظرف لمعنى شريف، وأن السبب في تعطيل وجوده عن مصالحه ذلك، فإن من كان في الله تلفه كان على الله خلفه، فافهم. قلت: ويعرف كل واحد منهما بإشارته، فمن أشار لحقيقة مجموعة فهو ذاك، وإلا فليس هناك، فإن كان من أهل التجريب (¬1) فحركاتهم لا تتعدى الصغائر المختلف في إباحتها ونحوها مع ثباتهم، وإلا فهو عصيان إن وقع مرة، وفسق إن تكرر مع الإصرار، وكان عظيمة والعياذ بالله، فافهم. ... 13 - فصل الطائفة الثالثة (¬2) من أصول الطوائف. طائفة تعلقت بالأعمال، وهم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: قوم غلب عليهم الكسل والبطالة، وجمحت نفوسهم للانتساب للقوم، فعدلوا لرخص المذهب من السماع والاجتماع، وإيثار التزيي من المرقعات المزينة، والسبحات المزخرفة، والسجادات المزوقة، والعكاكيز الملفقة، وتباهوا في ذلك مباهات النسوان في الثياب، وتضاهوا فيه تضاهي أبناء الدنيا في الأسباب، فإذا عوتبوا في ذلك قالوا: يكفينا من اتباع القوم التشبه بهم، فإن من تشبه بقوم فهو منهم، فإن قيل: هذا منكم قلة همة، قالوا: أنتم في بركة الحال (¬3)، ونحن في بركة الزي، وقد قنعنا بالتزي، وما ¬
هو إلا الركون للبطالة وحب الشهوة بالباطل، ويرحم الله القائل: إن تكن ناسكا فكن كأويس ... أو تكن فاتكا فكن كابن هاني من تحلى بحلية ليست فيه ... فضحته شواهد الامتحان القسم الثاني: قوم آثروا المصالح العامة، وتتبعوا الفضائل فجنحوا لإطعام الطعام، واستئلاف العوام، ومعاناة الظلمة في الرد عن الظلم تارة بالشفاعة، وتارة بمفارقة السمع والطاعة، ورأوا ذلك دينا قيما وصراطا مستقيما، فدعاهم ذلك إلى الخروج عن الحق والإضمار، واضطرهم لوجود الرئاسة والاستظهار، فاحتاجوا لما يقوم به ناموسهم، وما تصح به صولتهم وعبوسهم، فرجعوا لطلب ما لا يطلبه إلا من قل فلاحه من علم الكنوز والكيمياء، وأسرار الحروف ونحو ذلك، فاضطرهم الكنز لتضييع الواجبات والسنن، والكيمياء لوجود الزغل والمحرمات والمحن والفتن - وغير ذلك - للسحريات وعبادة الوثن، فإذا عوتبوا بذلك، احتجوا بوقائع ذكرت عن مشايخ، أكثرها باطل وجلها تداركهم الله فيه بلطفه قبل الوقوع في تلك الرذائل، ويتهافتون في ذلك بما أمكنهم من دين ودنيا، ويرون فيه سر الممات والمحيا، وما هو إلا البلاء والوسوسة الباقية من حب الدنيا، لأنهم إن تعلقوا (¬1) بالوصول لإطعام الطعام، فالصدقة من القلة أفضل، وإن أرادوا إقامة المنصب والاحترام، فحرمة الله أوفر للمؤمن، وأحسن من ارتكاب الآثام، ولكن القلوب عمية، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}، وسرى لهم ذلك من الدخول فيما لا حاجة لهم به، وربما كان فيه حتف أحدهم من الكلام في الفاطمي (¬2)، وذكر زمنه، وترصده والاستفتاح به، والبحث عنه، حتى لقد رأيت بعض أكابر بلده هجر وطنه، ولازم موضعا تضيق فيه أخلاق أمثاله، وهو صابر على ذلك سنين لترصد هذا الأمر، ثم مات في ترصد ذلك، رحمة الله عليه، ورأيت بعض أهل الخير ممن يتعهد ¬
ذلك أتاه بعض الشياطين، وادعى له هذه المرتبة، وقال له: أنت وزيري، وأراه زيادة في خلقته مستغربة، فاعتقد ذلك وعمل عليه، ووعد الناس به، حتى كتب لبعض الملوك في تهيئه ضيافته، وقال: إنه يخرج في سنة ثلاث وثمانين، فكانت تلك السنة سنة موته رحمة الله عليه، فبقي عند الناس كذابا ومغرورا، وما هو إلا الجهل والحرص على المنافع العامة، أعاذنا الله من البلاء بمنه، وكم من أخرق قام بدعوى هذه المرتبة فكانت سبب حتفه، وفساد دينه ودنياه، لأنه يتعرض لما لا حاجة له به، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. ويقع في رذائل، منها: تغيير قلوب الملوك إن سلموا منهم، وهو حرام إجماعا، ومنها فتح باب المحنة على نفسه، وباب الفتنة على المسلمين، باتباع القيام والخروج عن الأمراء، ولو بالإرادة والمحبة لذلك، وهو أيضا مضر بالدين اتفاقا، ومنها إغراء الملوك على الجنس (¬1) حتى يؤذوا من يتكلم بالحق، أو يربوا من يتوهم منه ذلك على اتباع أغراضهم، فيجعل الشريعة سببا لذلك، وربما اتحدت (¬2) بهم الأمراء لإشاعة أمور يستعينون بها على أمرهم في ذلك، وذلك كله في ذمة المتحركين في هذا الأمر، ومنها الدخول في علم الحدثان، تارة بطريق التنجيم ونحوه، وتارة بالأجفار (¬3) والعمل بها، التي أكثرها كذب ومحال، ثم هي وإن صادفت فغالب الأمر كذبها، فلقد حدثني من لا أشك في صدق خبره أنه عمل أبياتا على صورة جفر لبعض الأمراء كان يواليه، وأنه سيكون منه ويكون، فعمل الأمير ¬
المذكور على ذلك، وكانت سبب الفتنة بينه وبين ابن عمه إلى الآن، وتضرر بها المسلمون ضررا عظيما والعياذ بالله. هذا مع أن كثيرا من العلماء يقول: بأن الفاطمي قد انقضى زمانه فيما مضى، وأنه عمر بن عبد العزيز (¬1) أو غيره، على اختلافهم في ذلك، والحق أن الأمر فيه مبهم، وأن الاشتغال به مما لا يغني، لاشتباه الأمر واضطرابه مع عدم الاضطرار إليه، وهب أنه نزل بباب المدينة التي أنت فيها، أليس في عنقك بيعة أميرها، فلا يحل لك الخروج عنه ولا الخروج إليه، لما في رقبتك من حق أميرك، هذا إن تحقق، فما ظنك والأمر متوهم الصحة في أصله، غير متحقق التأخير في وقوعه، وأصل هذا كله حب الرئاسة وبغض الأمراء، وهو دسيسة من حب الدنيا، وحقيقة طلب الفضول والاشتغال بما لا يعني، أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه. ومن ذلك التعرض للأمور الجمهورية كالجهاد ورد الظلامات، وتغيير المنكر بطريق القهر والاقتدار، دون يد سلطانية، ولا ما يقوم مقامها من الخطط الشرعية، فإن ذلك مفتاح باب الفتنة وإهلاك الضعفاء من المسلمين بغير حق ولا حقيقة، (فقد كان ببلادنا رجل من الصالحين يحوم حول ما ذكرناه، فجاءه من أخبره عن بعض جهات الروم أنها خالية، وأنها مقدور على أخذها، فمشى بجماعة من المسلمين، فخرج عليهم النصارى، فلم يجدوا فئة يرجعون إليها، ولا ملجأ يستندون إليه، فتمكن منهم العدو حتى أتى على جماعة بالقتل ونحوه، فهلك منهم جماعة كثير في ذمته) (¬2) ومع ظنه أنه عمل خيرا، نفعه بنيته، ولا واخذه بعمله، (وكان آخر يفعل مثل ذلك، فوقع له ولجماعة من المسلمين معه أمر عظيم مرارا، ثم إنه بيع لهم فأتوه ليلا فقتلوه، وقتلوا بعض من معه، وحصل لهم بذلك غرض كبير) (¬3) وكان آخر كثير الشفقة على العامة والمحاربة عليهم، فأداه ذلك لمحاربة الملوك ومعاداتهم، وإذايتهم والتجاسر ¬
عليهم، وربما دخل في خلع بعضهم وهو يرى ذلك كله دينا قيما، وربما آذى من خالفه في ذلك من جنسه، وهو في ذلك يعتقد أنه على صراط مستقيم، فكان ذلك سبب الفساد والهلاك، فندم عليه وصار يطلب التنصل فلم يجد مساغا، وكان ذلك سبب حتفه بوجه، والله أعلم بحقيقته، أعاذنا الله من حب الرئاسة، ورزقنا العافية في جميع الأمور بمنه وكرمه (¬1). ثم حسب الفقير في هذه الأزمنة من المصالح العامة لقمة يأكلها، أو يسد بها خلة محتاج على قدر إمكانه، فإن مد يده لأكثر من ذلك أخذا أو عطاء فقد أهلك نفسه، ومسألة يفيدها إن عالما، أو يستفيدها إن كان جاهلا، وظن السلامة في ذلك، وشفاعة (¬2)، في حميم حيث يقبل في ذلك ويكون مبتلى به، وإلا كان متكلفا، فإن الزمان فاسد، والناس لا يريحون ولا يتركون من يرح، ويرحم الله القائل: لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فاقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ علم أو إصلاح حال وقد قال رسول الله (ص): "إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك" (¬3)، وقال (ص): ¬
"تجدون من خير الناس مؤمن بشعب يعبد ربه ويدع الناس من شره" (¬1)، وقال الفضيل بن عياض (ض) (¬2): هذا زمان احفظ فيه لسانك واخف مكانك، وعالج قلبك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر انتهى، وهو حكم الوقت، وعين المطلوب فيه، وبالله التوفيق. القسم الثالث: قوم تبرؤوا من جماعات المتوسعين، وآثرو التجرد للعبادة وطلب الصدق في طريق الإرادة، فوقعوا في مهاوي البدع من طريق التشديد ومتابعة الهوى بترك السماح والسهولة، فدخلوا في قوله (ص): "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم من ورائهم، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن" (¬3) أخرجه البخاري وغيره، وقال ابن العربي (¬4): أشار (ص) بجحر الضب، لأن اتباعهم إياهم وقع من قبل التضييق فهو شر في الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى السلامة بمنه وكرمه، ثم هذا القسم منهم من يقتصر على نفسه ومنهم من يدعو إلى مثل حاله، وأعظمهم في ذلك طائفة ادعت المشيحة والتربية، وأن ما هي عليه هو الموصل للحق لا وراءه، وربما أسندوه لبعض أهل الصدق والولاية، وأخذوه بالعموم، وكان هو يعمل به في الخصوص، فكانت البدعة بتعميمهم الأمر دونه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ... ¬
14 - فصل في ذكر أول من ظهر بطريقهم وحاله في نفسه ووجه الدخول عليهم في ذلك.
14 - فصل في ذكر أول من ظهر بطريقهم وحاله في نفسه ووجه الدخول عليهم في ذلك. اعلم أن هذا الشيخ الذي استندت إليه هذه الطائفة، ظهر في التربية بأمور مستغربة، عامل فيها خصوصا من المريدين، أو كل مريد، لما رأى فيها من المصلحة لهم، وكونه لائقا بهم في مدة تربيتهم، كفهمهم عن علم الرسوم بعد تحصيل الواجب جمعا للهمة، وأخذهم بالقوة في تجريد الحقيقة لكلمة الشهادة، إفرادا للوجه، ومعاقبتهم بالصوم على وجود الكسل عن الورد، ردعا للقوة إذا كان ذلك لائقا بهم، واستئذانهم بالتسبيح استطرادا لحالة الجمع في تلك المدة، وإجرائهم على خلاف العادة طلبا للانتقال مع نظره في كل مريد بما يليق بحاله، ومعاملته بما هو واجب في وقته، وإشغال كلهم فيما هو واجب أو مندوب من سببه، هذا هو الظن به، لما يذكر من فضله وحقيقته رحمة الله عليه. فلما قبضه الله إليه اختلف أصحابه في الفهم عنه اختلافا متباينا، فأما ولي عهده والمقدم لتقديمه لمحله فظهر منه تغيير كثير مما كان عليه الشيخ اعتبارا بالحال، وهو فقدان شرط جواز ما كان الشيخ يعامل به المريدين من الطريقة، من انجماع حقائقهم في الطريق، وضعفه عما كان الشيخ عليه من التحقق والتحقيق، فأنكر عليه بعض أصحاب الشيخ ذلك، وزعموا أنه خارج عن طريق الشيخ فيما هنالك، وذلك منهم توهم وحسبان لا أصل له كما توهم ذلك بعض الفقهاء من أهل الدين، فكان يحلف ولا يستثني أنه مخالف لطريقه شيخه، وليس الأمر كذلك، بل كما قررناه من فقدان الشرط، فانتقل الحكم لما لا يليق بالوقت والحال، وهو أصل طريقة الشيخ، والأمور معتبرة بأصولها، وإن خالفت صورها، فهو إذا تابع لشيخه في الحقيقة وإن خالفه في الصورة. ثم مستندنا في حسن الظن به في ذلك فراسة الشيخ فيه حتى قدمه،
فإن قالوا: أخطأت فقد تنقصوا الشيخ، وإن قالوا: تغير كان ردا عليهم في استكمال همة الشيخ أبدا، وهو عمدتهم، فكلامهم فيه باطل، فأما غيره من أصحاب الشيخ فوقفوا مع ظاهر الصورة، ورأوا ذلك حكما عاما، فدعوا إليه عوام الخلق، وتنافسوا فيه تنافسا خارجا عن الحق، حتى انجر بهم الحال أن يرسلوا أصحابهم في البلاد ويسمونهم بالإرشاد، ويكرمون أكثرهم اتباعا، ويعظمون أوفاهم استتباعا (¬1)، فصار شياع الأصحاب يتحاملون بذلك على وجود الكذب في الأخبار عن الكرامات، ويثيروه، لأن الشيخ ممن يقوم على ما تتعلق به الأغراض من علم الكيمياء والحروف، وأنه صاحب تصريف متكن، وانتهى بهم ذلك إلى حد الحرص على قبول كل أحد حتى قطاع الطريق، مع إقرارهم على ما هم عليه، فلقد حدثني بعض من أصدقهم أن رجلا من عربان طرابلس دخل على شيخ من شيوخهم، فقال له: خذ العهد، فقال: يا سيدي ما أنا إلا قطعي حرامي، فقال له: خذ العهد تعن على ما أنت عليه، ففعل، وكان ذلك له زيادة في شره، وهذه فضيحة له في الآخرة وضحكة في الدنيا عند من له عقل، على التابع والمتبوع والمستتع. وأخبرني رجل ممن أعرف ثقته أنه طلبوه بالأخذ عليهم فأبى، فاجتمعوا عليه وصرعوه في الأرض ووضعوا أيديهم في يده وقالوا: أخذت علينا، مع أنه رجل ضعيف العارضة ليس فيه ما يصلح لطريقهم ولا غيرها، فتحير المسكين من قولهم: أخذت علينا، واستعظم طريقهم وجاء مستجيرا، فقلت له: لا حق لهم عليك، فالزم تقوى الله وتلاوة القرآن العظيم ودع ما سوى ذلك، وحدثني آخر أنهم بذلوا له ستة دنانير في الأخذ عليهم فأبى وتحير في أمرهم وما رده عن ذلك إلا ما رآه من شدة، وإلا فهو جاهل مسكين، فإن قالوا: إنما قصدنا بما نفعله من ذلك هداية الخلق وإرشادهم للطريق بما أمكن، فنحتال عليه بما ذكر، ولعله أن يستحيي فيثبت، أو يخاف فيزدجر، لقوله (ص): "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت ¬
عليه الشمس" (¬1) قلنا: لا هداية مع بدعة، ولا حقيقة مع التقرير على معصية، لأن ذلك معصية والمعصية كلها ظلمة فهي لا تهدي إلى نور أبدا. ثم الدعوى إلى الله تكون أولا بالوعظ والتذكير، وثانيا بالتقوى، وثالثا بالاستقامة ومجاهده النفس، ومخالفة الهوى، ومجانبة الدنيا وترك الخلائق، وأنتم لا تأتون بشيء من هذا، بل تفطمون المريد عن العلم، ولا تعرجون له على تقوى، ولا تدلونه على مخالفة الهوى، ولا تصرفونه عن غيبة، ولا أكل حرام، ولا تزهدونه في شيء من هذا الحطام (¬2) بل ترغبونه في ذلك بأفعالكم، إذ تسبون من لا يتبعكم، وتلعنون من ينكر عليكم، ولا تتوقفون فيما تقدرون عليه من أسباب الدنيا، بل تأخذونه بأي وجه أمكن، من غير مبالات بحق ولا حكم، ولا تتعرفون شيئا مما أوجب الله عليكم في ظاهركم ولا باطنكم، فالواحد منكم لا يعرف حكم الله في وضوئه وصلاته، ولا يطلب أمر الله في تقلباته وحركاته، بل الطريق عندكم أن تعلموا ما ترونه من الأمور، وتسمونه بصورة الطريق، ليمتاز بذلك، وينحاش إليكم عن كل جمع وفريق، ولا إرب لكم في هدايته، ولا عمل لكم على إزالة غوايته، بل إن كان ممن يرى أنه فقيه انسلخ مما كان فيه، وعاد إلى الجهل لفقدان علمه بالحق، مع ترويجكم عليه بعكاز التسليم، وإن كانت له فطنة ¬
بقي عليل القلب سقيما، لا هو استفاد منكم العمل بما علم، ولا هو علم بما لم يعلم، بل صار أسير الفاس والمسحاة، حليف الجهل والضلال والعياذ بالله، يرحم الله من قال من المشايخ: ذهب الإيمان من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعليم، انتهى من رسالة القشيري وهو عين الحال، والله أعلم. ـ[فائدة]ـ: ذكرت لشيخنا أبي العباس الحضرمي (¬1) (ض) قول سيدي محمد الهواري (¬2) رحمه الله: لم يبق شيخ بمغربنا، فقال: ارتفعت التربية بالاصطلاح في سنة أربع وعشرين (¬3) من جميع الأرض، ولم يبق إلا الإفادة بالهمة والحال، فعليكم باتباع السنة والكتاب من غير زيادة ولا نقصان، يعني على طريق الجادة المتعارفة، فإنها العصمة الواقية من كل ضلال وشبهة، قلت: وعلمه بذلك مستند إلى التحقيق في وجود الدلائل والعلامات، كما يقوله الفقهاء في ارتفاع الاجتهاد، والله أعلم. وإنما كان ذلك لأن الاصطلاح إنما يفيد في مثله دفعا وجلبا، بحيث كانت الحركات النفسانية اصطلاحية، حيث نفعت فيها الأمور الاصطلاحية، فلما سرت الظلمات في الحقائق لم تفد فيها غير الحقائق، فكان النفع في الهمم كما كان في أول الأمر، حيث تمكنت ظلمة الكفر والجهل من النفوس، فلم يعد إلا طلوع شمس النبوة بعموم الدعوة ونور الهداية، فمن يهديه من بعد الله، فافهم. ثم لقد تتبعت بفكري الطرق الاصطلاحية الموجودة بأيدي الناس الآن، فلم أجد عند أهلها نفحة من فتح ولا نور، ولا حقيقة ولا علم ولا ¬
15 - فصل في ذكر ما بنوا عليه طريقهم (تفصيلا وما اعتقدوه فيها ردا وقبولا)
ذوق، ولا فهم خارج عن القياس الأول، إلا لذة نفسانية، غالبها من استشعار الرئاسة، والالتذاذ بالامتياز، والاختصاص بالنسبة ونحوها، هذا ما وجدت في صادقهم، فأما غيره فلم أر منه إلا لعبا ولهوا، وفخرا وكبرا (¬1) وتعصبا وخروجا عن الإضمار بكل وجه، وكل من تأمل ذلك وجده عند مخالطتهم والنظر في أحوالهم، وبالله التوفيق. ... 15 - فصل في ذكر ما بنوا عليه طريقهم (تفصيلا وما اعتقدوه فيها ردا وقبولا) (¬2). وهو ثلاثة أمور: أحدها: مخالفة النفس بكل وجه أمكن، وغلطوا من حيث التعميم، وظنهم ابتناء الأمر على مخالفتها مطلقا، وليس الأمر كما زعموا، بل مخالفتها مقصود لموافقة الحق، فإذا كان في موافقتها وهو مقصود كان مخالفة لها في عين التلبس به، لأنا لو قدرنا خلوه عن هواها لآثرناه، ولو قدرنا انفراده بهواها لتركناه، فكان هو المقصود، لا هي، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز (ض): "إذا وافق الحق الهوى فذلك الشهد بالزبد"، وقد قال تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} (¬3) فأشعر أن الهدى هو المقصود، فافهم. الثاني: التجرد عن المعتادات بدلا من الأنس بها، وقد انجر بهم ذلك حتى دخلوا به في باب الفضائل، والمطلوب من السنن المتعلقة بالفرض وغيرها، فتركوا ما ألف منها، وآثروا ما لم يؤلف وإن كان مخالفا لها، وربما جنحوا، لأن الأجر على قدر المشقة، وليس كذلك، بل الأجر على ¬
16 - فصل في بيان ما عرفناه من طريقهم جملة وتفصيلا.
قدر الاتباع، ولو كان على قدر المشقة لكان الإيمان والمعرفة والذكر أخفض رتبة من غيرها، وليس كذلك إجماعا، وقول (ص): "أجرك على قدر تعبك" (1) خاص في خاص لخاص، فلا يكون دليلا ولا حجة فافهم. الثالث: إفراد الوجه ظاهرا وباطنا، فلذلك التزموا قانونا واحدا في جميع أحوالهم الشرعية والعادية، حتى قيدوا ما كان مطلقا مثل القراءة في الصلوات، وأطلقوا ما كان مقيدا مثل أذكار ما بعد الصلاة، فكان ذلك منهم ابتداعا بالتعميم وتغيير الحكم، وإن جاز فعل ذلك في وجه ما، لعلة التداوي ونحوه، فمع اتباع الحكم الأصلي، ومراعاته في العموم، فضيلة كان أو غيره، فافهم. ولقد تحدثت مع بعض مقدمي هذه الطائفة، فقال لي كالمعتذر: لا يقبل أحد في هذه الأزمنة لعقة من عسل السنة إلا مع صبر البدعة، فأنصف، وقال شيخنا أبو العباس الخضرمي (ض): لو طفتم من أقصى بلاد المشرق إلى أقصى بلاد المغرب في طلب مريد مستقيم الإرادة ظاهرا وباطنا بكل وجه، ما وجدتموه، فكيف بالعارف الكامل، ثم قال: ما بقي إلا من حقيقته مخبطة أو مستورة بذلك، ثم لا ننكر وجودهم من حيث لا يعرفون، هذا معنى كلامه (ض) وهو ظاهر. 16 - فصل في بيان ما عرفناه من طريقهم جملة وتفصيلا. وهو أقسام ثلاثة: (1) جاء في الصحيح، قالت عائشة (ض): "يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك؟ فقال لها: "انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم، فأهلي، ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك، أو نصبك"، وقال الحافظ في الفتح: ووقع في رواية الإسماعيلي: "على قدر نصبك أو على قدر تعبك"، البخاري مع فتح الباري 360/ 4
قسم يجب الوفاء به لحسنه وتحريره، وقسم يحرم الوفاء به لقبحه وتغييره، وقسم يتوقف فيه لتراجعه واشتباهه، فأما الأول فمداره على عشرة أمور: أولها: إدمان الوضوء لأنه ينور القلب، وينور الوجه، ويحبب الملائكة، ويوسع الرزق والخلق، ويكون عده من البلاء، وسببا في حضور القلب في الصلاة، إذ الحضور فيها بقدر الحضور فيه إلى غير ذلك. الثاني: الركوع كلما توضأ إلا أن السنة ركعتان والتحديد بأربع فيه ما فيه، وقد روى أن الله تعالى يقول: "من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن توضأ ولم يصل فقد جفاني، ومن توضأ وصلى ولم يدع فقد جفاني، ومن توضأ وصلى ودعاني ولم أستجب له فقد جفوته، ولست برب جاف" (¬1) الحديث. الثالث: صلاة الجماعة والمواظبة عليها، لأنها العصمة من كل سوء، وقد قال رسول الله (ص): "صلاة الجمع تفضل صلاة الرجل في داره وفي سوقه بخمس وعشرين جزءا" (¬2) وقال: (ص) "من صلى الصبح قي جماعة لم يزل في ذمة الله حتى يمسي (¬3) فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء" (¬4) الحديث. ¬
الرابع: ملازمة الأوراد من الرواتب وصلاة الليل من غير تقصير ولا فترة، وذلك من شأن الصالحين والأئمة المهتدين والعلماء العاملين، ولا يخفى ما له من المزية والفضل. الخامس: الذكر بالغداة والعشي وآخر الليل، إلا بوجه مفيد، لقوله (ص): "واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" (¬1) الحديث. السادس: مبادرة النوم بعد العشاء بلا مهلة، للنهي عن الحديث لغير شغل بعدها، ولأنه عون على قيام الليل، والله أعلم. السابع: توفير ما تحت اللحية وعدم حلقه لأن السنة فيه ذلك، ما لم يعتقد تحريم حلقه، فيكون هذا الاعتقاد إبتداعا كعكسه، فافهم. الثامن: الصوم في السفر المبيح، لأن المشهور ندبه، لقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} (¬2)، ولأنه عند الترك غير معوض بعبادة، بخلاف القصر، وسيأتي إن شاء الله. التاسع: عملهم على الجد دون هزل ولا شبهة، إذ لا يقولون بالسماع ولا غيره من ترهات الباطلين، وإن كانت لهم بطالة وجهالة تخصهم. العاشر: إيثارهم العافية والأسباب والخدمة والاحترام من حيث أن ذلك محمود في الجملة، وإن كان في صور ما يتعاملون به لذلك مغمز، فالأصل معتبر، وأصل أصولهم إنما هو الذكر والأدب من غير زائد، وإنما اختلطوا في صورته حسبما يذكر بعد إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق. ¬
وأما القسم الثاني فمداره على عشرة أشياء: أولا: هجران العلم وأهله ومعاداته ومعادات أهله، وهم مختلفون في إثبات ذلك ونفيه. الثاني: هجران تلاوة القرآن باشتراط عدمها، وعدم غيرها من الورد سوى كلمة الشهادة، وهو شيء معلوم من طريقتهم، وإن خالفه بعضهم. الثالث: اعتماد بطلان كل طريقة سوى طريقتهم، أو نقص كل ما خالفها من طرق غيرهم من المشايخ. الرابع: تبديل ما ورد شرعا من الأذكار في الأوقات المطلوبة فيها الذكر بغيرها، والتقييد بذكر واحد، ودعاء واحد، لا يزاد عليه ولا يعدل عنه. الخامس: إسقاط ما ترتب من الفوائت، وإلزام الصوم لفوات الورد، ونحو ذلك. السادس: إيقاف القراءة في الصلاة على ما يختارونه، دون تعد لغيره ولا انتقال عنه، وجعل حكم القيام لها كغيره من خدمة وغيرها. السابع: الاستئذان في الضروريات والحاجيات، وكونه بالتسبيح في العاديات. الثامن: طلبهم مصافحتهم وكونها بالحزام، وصلاتهم به، ووضع الجبهة على يد الشيخ عند المصافحة مع كونها بأطراف الأصابع، ونحوه. التاسع: تأخير العشاء إلى بعد العشاء، ونحو ذلك من أسباب الحرج والخروج عن الحد في التشديد. العاشر: المبالغة في أخذ العهد إلى حد يصير المأخوذ عليه لا مال له ولا روح، مع ما ينضاف لذلك من معادات المخالف لهم والمنكر عليهم، وسبه ولعنه واستباحة غيبته بسبب إنكاره، وهذا من أعظم العظائم وأكبر النوائب والمصائب، نسأل الله العافية. ***
17 - فصل وأما القسم الثالث فمرجعه لعشرة أمور
17 - فصل وأما القسم الثالث فمرجعه لعشرة أمور: أحدها: صلاتهم النافلة جماعة على وجه الدوام والاشتهار، وهو أمر كرهه مالك، وأجازه الشافعي بناء على أصلهما في السنة والبدعة حسبما تقدم، ويذكر إن شاء الله تعالى. الثاني: تكميل الصلاة في السفر وهو أحوط في الصورة وأبعد في الحقيقة، لأن أدلة السنة فيه قوية، وجملة المذاهب بقوتها مع دهماء السلف (ض) على مطلوبية القصر، حتى قال ابن عمر (ض): وصلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر" (¬1)، يعنى إن كان خلافه عنادا أو مكابرة بعد الثبوت الذي لا يشك فيه، والله أعلم. الثالث: القنوت بعد الركوع، لأن مشهور المذهب خلافه، وإن كان هو الذي صدر به في رسالة ابن أبي زيد (¬2)، وذكر بعده التخيير، ففيه ما فيه، لا سيما مع إضافة هذا الفعل لغيره من صريح البدعة، إذ لو انفرد لكان خفيفا، فافهم. الرابع: ذكر إمامهم بعد الصلاة وحده وهم سكوت يسمعون، ثم تكبيرهم بعد التصلية معه، لما في ذلك من مخالفة الجمهور، وإن كان ابن عباس قد روى التكبير أدبار الصلوات (¬3) وقال به ابن حبيب (¬4) في الثغور، ¬
فلذلك قد يستحب انفراده كغيره، لا سيما إن كان في محله، والله أعلم. الخامس: ما يقرؤونه مرتبا، كأحزاب من القرآن اختاروها مرتبة على الأيام، ومثل حزب السلام، وتخصيص ما بعد المغرب إلى العشاء بالذكر، إذ لا أصل لذلك كله في نفي ولا إثبات، وإن كان قد ورد إحياء ما بين العشاءين فبالصلاة ونحوها (¬1)، والله أعلم. السادس: هجران صلاة الضحى وصوم التطوع جملة، لما ورد في ذلك مما اتفق الناس عليه، وإن كان جماعة من الصحابة لم تقل بصلاة الضحى، وكان الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر، فمن وقف في باب الكمال لا يصلح له مثل هذا الإهمال بعد ترغيب الشارع في العموم، والله أعلم. السابع: القيام للمحترمين عندهم وتقديمهم للصلاة، وإن كان في القوم من هو أعلم وأتقى منهم، وهذا بخسة ونقص في الدين لا خفاء بها، فافهم. الثامن: اختيار هيئات في اللباس والجلوس وسائر التصرفات، بعضها موافق للسنة وبعضها مخالف، ومنه التصرف في أموال الأصحاب دون استثناء ولا توقف، وفيه ما فيه من حيث المروءة والدين وعدم اعتبار النفوس بما جبلت عليه، فافهم. التاسع: عموم الاستئذان في كل شيء من غير الضروريات والحاجيات، إذ قد تقدمت، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. العاشر: ما اصطلحوا عليه من لفظة: (الفقراء بالصورة) و (الاختيار في كذا)، وجعل اختيارهم عند واحد منهم وإن كان دونهم، وبالله التوفيق. ... ¬
18 - فصل في ذم فتاوى الفقهاء في هذه الطائفة
18 - فصل في ذم فتاوى الفقهاء في هذه الطائفة، وذلك أنهم افترقوا على ثلاثة مذاهب، فكان شيخنا أبو عبد الله محمد بن قاسم القوري (¬1) رحمه الله تعالى، يجنح إلى وجود التسليم، ويرى أن ما هم عليه ليس من البدع المحرمة ولا القادحة في الأصول، فيتوقف عن الجواب بنفي أو إثبات، فلقد أخبرني أنه بلغه في شأنهم خمس وثلاثون سؤالا لم يجب في واحد منها، قال: لأنهم في بلاد القبائل وهم محل التعصب، فإن أجبت بمساعدتهم تعصب لهم المحب، وإن أجبت بخلاف ذلك تعصب عليهم المبغض، ويكون ذلك فتحا لباب الفتنة بين القبائل إلى الأبد، وهذا شيء لا ألقى الله به، قلت: فلو كان عنده أنهم على صريح الضلال ما توقف مثل هذا التوقف، والله أعلم بهم، وعلى هذا يحمل سكوت جماعة الإفريقيين من أهل العلم والديانة منهم، مع اشتهار أمرهم، حتى إن بعضهم استفتي في ذلك فأثنى على شيخهم، وقال: إنه كان شافعي المذهب، وأنكر على من أنكر الممل بمذهب الشافعي، وهو مصيب في إنكاره، غير مصيب في نسبته لمذهب الشافعي إن قصد طريقته، لأنها لا تتقيد بمذهب، إلا أن يريد أصل مذهبه فلا بأس، والله أعلم، وكان الشيخ العالم المسلم الصدر كبير وقته سيدي أبو عبد الله محمد ابن مرزوق التلمساني (¬2) (ض)، من أشد الناس إنكارا عليهم في الأصل والفرع، وكذلك سيدي أبو القاسم العبدوسي (¬3) رحمه الله، فكانوا يصرحون في الشيخ بأمور كالرافضية والسحر وغير ذلك، ويرون أن من عصى الله بالزنا وشرب الخمر أيسر أمرا ممن اتبع طريقهم، وتبعهما على ذلك جماعة من بعدهم، حتى لقد بالغ في ذلك بعض الفاسيين بأن قال: تهدم ديارهم وتفرق ¬
19 - فصل في هجرانهم العلم والقرآن والصلاة على رسول الله (ص).
جموعهم، ويسامون سوء العذاب حتى يقلعوا عن ذلك، ووافقه على ذلك جماعة من شيوخ وقته ببلاده حين جاؤوا مستفتين في أواخر سنة ثلاث وسبعين وثماني مائة، ورأو أنهم لا يمكنون من الكلام في مسائلهم، ولا يفصل فيها لغلبة الجهل والفساد على الزمان، ووجه المتكلم في شأنهم بما يغفر الله لفاعله، إذ وقف معهم في ذلك وآواهم، وكان شيخنا أبو مهدي عيسى بن أحمد بن أحمد الماواسي (¬1) كان الله له، مفتيا في وقته بالبلد المذكور، هو الذي اقتصد في القضية، وأفتى بأن أمورهم ينظر فيها، وأنها تقبل التصحيح والإبطال، وهو كلام حق وإنصاف، ولكن غلبة الوازع يخرج إلى التفريط أو الإفراط، بحسب الاجتهاد، وإن لم يقصد هوى، والكل إن شاء الله تعالى على حق (¬2) في نظره، إذ لا يجوز له تعدي اجتهاده، والمفصل أحرى بالتحقيق عند تحقيق النظر فليتبع طريقه في ذلك، وبالله التوفيق. 19 - فصل في هجرانهم العلم والقرآن والصلاة على رسول الله (ص). أما هجرانهم العلم فمخالف للكتاب والستة والإجماع، قال الله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬3)، وقال عز من قائل: {وما يعقلها إلا العالمون} (¬4) وقال عز وعلا: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (¬5) فجعل العلم مقدمة الخشية التي هي باعث العمل، وكذلك ¬
قال (ص) "العلم إمام العمل والعمل تابعه" (¬1)، وقال (ص): "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬2)، وقال (ص): "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم" (¬3) وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وفائدة العلم تمييز أحكام الله، فالعالم العاصي خير من العابد الجاهل، وفي الخبر: "أن نوما على علم خير من عبادة على جهل" (¬4) وقال ابن مسعود (ض): ركعتان من عالم زاهد خير وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين الجاهلين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا، وفي الخبر: "عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (¬5) ¬
20 - فصل وأما هجرانهم تلاوة القرآن.
الحديث، وبالجملة فالعلم خير كله، لأنه يفيد الكمالات، والعمل الصالح يحفظها، فلا يهمله إلا جاهل، ولا يقدره على قدره إلا عاقل، نعم من خاف آفة بعد تحصيل واجب وقته وأراد الاقتصار على نفسه، فهو خير له من التوسع فيما ليس له حاصل، ولا وراءه معنى ولا طائل، لا سيما إن كان لهذا الشخص تحقق في التوجه، وإشراف على الحقيقة، فإن إفراد القلب أولى له وأتم في حاله، وهو الذي قصده المشائخ لعوام المترجمين من الجهلة والمفرطين، ثم المقتصر على نفسه لا يصلح له ذلك بشرطه إلا مع تعظيمه العلم وأهله، اعتبارا بمقصده، وبالله التوفيق. ... 20 - فصل وأما هجرانهم تلاوة القرآن. فمن أسباب البغي والطغيان، ومن وجوه الباطل والهذيان، حتى لقد بلغ ببعضهم البلاء إلى أن قال: ارتفعت خاصية القرآن وفائدته بموت رسول الله (ص)، وهذا كلام يضارع الكفر، بل هو عينه لمن اعتقده، وكذلك قولهم: إنما هو لإفادة الأحكام لا لإفادة الأسرار، وإن تلاوته تشوش لأفكار، ويكفي في الرد عليهم والطعن في نحورهم قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارة} (¬1) ¬
وقوله عز وجل: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين} (¬1) الآية، وقوله عز وعلا: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (¬2) فجعل الذكر فرع التلاوة، والهداية مسببة عنها، وكذا قوله تعالى: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} (¬3) جعل فيها الذكر مفيدا للتأثير الحالي، والتلاوة مفيدة زيادة الإيمان، وهو أقوى، وجعل سبحانه الطمأنينة الواقعة بالذكر فرع الإيمان الذي قوته فرع التلاوة، فقال عز من قائل: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} (¬4) الآية. هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، ولكن الهوى يصرف عن طريق الهدى. وقد قال رسول الله (ص): "من ابتغى الهدى في غيره أضله الله" (¬5)، وإذا لم يكن كلام رب العالمين محلا للفتح والتمكين، فأي كلام أولى به وأحق في الدين (¬6) أهذيان المبطلين، وشقائق الملحدين، وخزغبلات اللاعبين، وتحريفات المارقين، وطرائق الخارجين عن سنن المهتدين، الذين اعتمدوا مجرد الباطل، فوقعوا في كل شر وباطل، وإذا كانت الجلود منه تقشعر والقلوب به تلين، والذكر إنما ينشأ عن ذلك، وهو فرع الخشية الدالة على صحة العلم بالله، فكيف بما يترتب على ذلك، أيصح مشروط بدون شرطه، أو نهاية بدون بداية، لكن فقد نور الإيمان، وانعدام حقائق الإيقان موجب لأكثر من هذا، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (¬7) ويرحم الله شيخ ¬
21 - فصل وأما هجرانهم الصلاة على حبيب الله (ص).
المشايخ سيدي أبا مدين (¬1)، حيث يقول: لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد، هذا شأن المريد فكيف بالعارف الكامل، وبالله التوفيق. ... 21 - فصل وأما هجرانهم الصلاة على حبيب الله (ص). فمن أسباب الحرمان، ومبادئ ضعف الإيمان، وفقدان الإيقان، وكيف يهجر عمل بدأ الله فيه بنفسه، وثنى بملائكته وخاطب به جميع العالم من المؤمنين والمسلمين، فقال جل وعلا: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (¬2) قال العلماء (ض): فهذه الخاصية لا توجد في عمل سواها، ولذلك ورد أن كل الأعمال فيها مقبول ومردود إلا الصلاة عليه (¬3) (ص). وجاء في الصحيح: "أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه وملائكته عشرا" (¬4) الحديث، قال ابن عطاء الله (ض): ومن صلى الله عليه صلاة واحدة كفاه هم الدنيا والآخرة، فكيف بمن صلى عليه عشرا، وقد أشار (ص) ¬
لذلك في حديث أبي (ض) حيث قال: "أجعل صلاتي كلها عليك، قال: إذا تكفى همك ويغفر ذنبك" (¬1) الحديث، وقد أمر سبحانه بتعزيره (ص)، وتوقيره مقرونا بتسبيحه تعالى، فدل على عظم ذلك وأنه في الخاصية مساو له أو قريب منه (¬2) وقال (ص): "الصلاة علي نور في القلب، ونور في القبر، ونور على الصراط" (¬3)، هذه الأنوار هي مطالب العقلاء فضلا عن المريدين، فإلى أين يعدلون عنها، والله، لا يعدل عنها إلا مخذول، لا عبرة به ولا همة له، وقد قال شيخنا أبو العباس الخضرمي (ض) في وصيته التي كتب لي بها يوم وداعه الأول: وعليك بدوام الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله (ص)، وهي سلم ومعراج وسلوك إلى الله تعالى إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا، فقد سمعت في سنة ست وأربعين وثماني مائة بالحرم الشريف بعض الصالحين روى في ذلك عن بعض أهل الصدق مع الله تعالى، وكلاهما معروفان رأيتهما، والله أعلم، ثم أنشد: فيا عطشي والما زلال أخوضه ... ويا وحشتي والمونسون كثير وذكر بعض من عرف بطرق الشاذلية (ض)، أنه مبني على الصلاة على رسول الله (ص)، وهو طريق جليل، واضح الأنوار والبراهين والفائدة الحالية ¬
22 - فصل فإن قالوا: نحن لا نهجر العلم رأسا ولا نترك التلاوة جملة ولا ندع الصلاة على رسول الله (ص) بتا
والعلمية، ونبه عليه ابن عطاء الله في كتابه (مفتاح الفلاح)، وكان بعض مشايخ المغرب ممن أدركناه يتصرف بها تصرفا عجيبا (¬1)، وكذلك أدركنا بيننا (¬2) من الفقهاء لم يكن لهم تصرف غيرها، وكان لهم من سني الحالة وعظيم المنزلة ومواقع الهداية ونفع العباد ما لا مزيد عليه، فاعرف ذلك، وسر ذلك أنها تنزلت في حقنا منزلة السجود لآدم، لأنها عبودية تعلقت صورتها بواسطة، فمن آثرها كان محققا في العبودية ممكنا في القرب، ومن أباها كان شبيها بإبليس في إبائه، ومن منع منها كذلك، وإن كان لا يبلغ رتبة الشيطان لاختلاف قصده، فله فيه نسبة، فافهم، وإذا لم تكن الصلاة لحبيب الله (ص) هداية وفتحا ونورا، فأي شيء يكون؟ أو الثناء على المشايخ ولعن الطاعن عليهم والمنتقد لهم؟ أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه. ... 22 - فصل فإن قالوا: نحن لا نهجر العلم رأسا ولا نترك التلاوة جملة ولا ندع الصلاة على رسول الله (ص) بتا، ومدعي ذلك علينا ظالم لنا، كيف وعندنا حزب الملام وفيه من التسليم على أنبياء الله وأوليائه وموالاتهم ومعادات من عاداهم، ما ينفي وجود هذه الدعوى عنا، وكذلك ما نفعله دبر كل صلاة وعند ختم المجالس، من الصلاة والتسليم عليه (ص)، ولنا في كل يوم حزب من القرآن معلوم كأول سورة البقرة يوم السبت، فما بعده مما هو معلوم عندهم، وعند أكابرنا من شواهد علوم القوم ما لا يخفى على مخالطهم. قلنا: إنما نرد عليكم التحجير في العموم، وتأكيد الأمر حيث لا يصلح، والاستظهار بالأمور الشنيعة في المقاصد التي تنحونها مما يوجب احتقار غير ما تدعون إليه، لا سيما ما يظهر عليكم في ذلك من ادعاء الأفضلية في الحال والخصوصية في الأعمال، وتعميم الحكم في المقال، ¬
وإدخاله على العامة والجهاد، وقد قال رسول الله (ص): "لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب يملأ قدحه، فإن احتاج إلى وضوء توضأ أو إلى شراب شرب، وإلا أراقه، ولكن اجعلوني في أول صلاتكم ووسطها وآخرها" (¬1) الحديث، وهذا الذي نهى عنه هو حالكم، إذ تأبون أن يكون لكم منها ورد وتمنعون من ذلك من أتاكم، وتشددون عليه فيه غاية الشديد، بل ربما كان محبا لكم فتطرحونه لتمسكه بذلك، وهذا شيء في غاية القبح، وأقل ما في بابه الكراهة المثقلة، وهو أمر لا خفاء به عند كل ذي فطرة إيمانية. فأما تلاوة القرآن على الوجه الذي تعتمدونه فلا أصل له في سلف ولا سنة، وإنما هو أمر مركب على الخاصية، موقوف على الاختيارات النفسية، وقد سمع رسول الله (ص) بلالا يقرأ من مواضع متفرقة فقال: "ما هذا يا بلال؟ "، قال: يا رسول الله أنتقي طيبه، قال: "اقرأه متصلا فإن كلام ربنا كله طيب" (¬2) وقال (ص): "مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن تعاهدها وجدها، وإن تركها تفصمت واحدة واحدة حتى لا تبقى منها واحدة" (¬3) قد أخبرت عن بعضهم أنهم يقرأون القرآن بالنهار ويتجنبونه بالليل، وهو عكس السنة والكتاب، إذ أثنى الله تعالى على قرآن الفجر، وجاء في الخبر الحض على القيام به بالليل والعمل فيه بالنهار، ومن لم يقم به بالليل ويعمل به في النهار فقد ضيعه، وقيل في قوله تعالى: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (¬4) إنها في الرجل يحفظ القرآن ثم ينساه، وفي الخبر: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم ¬
عند الله ممن (¬1) حفظ آية من كتاب الله ثم نسيها، أو قال: ضيعها" (¬2) الحديث، وهذا أمر قد وقع لجماعة، ممن خالط هؤلاء الناس لسبب نهيهم له عن التلاوة، ويرون ذلك كمالا وإنما هو نقص وضلال، وأغرب ما سمعته في ذلك عن أستاذهم، أن شيخه دخل عليه وهو يتلو، فقال: خل عنك يا فلان ما وصل الرجال إلا بالذكر، وهذه كلمة سوء تؤذن باحتقار كتاب الله، وأن الذكر أفضل منه، والأحاديث تدل على خلاف ذلك (¬3) أعاذنا الله من البلاء، ثم ما ذكره الإمام الغزالي وغيره في ذلك، من أن من كان حضوره بالذكر أتم فهو في حقه أفضل، معتبر بالأحوال والأشخاص بعد تسليم أن القرآن أفضل وأنفع، وأنه لا ينتقل عنه إلا للضعف عن حمل أنواره، أو لما ورد نصا في محله، وأنتم قد أتيتم بالأمر عموما، فلا يصح لكم ذلك، والله أعلم. وأما العلم فما عند الأكابر لا ينفع الأصاغر إلا بتعليمه، ولا تعليم إلا من حيث صورة ما أنتم عليه، بل كافة أصحابكم جهال بأحكام العبادات ¬
23 - فصل في اقتصارهم على كلمة الشهادة دون تمامها إلا تبعا، والأوقات المعينة لها عندهم وذكر ما في ذلك.
وأنتم تنهونهم عن التعلم وطلب العلم، فيرحم الله من قال من المشايخ: ذهب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعليم، انتهى. وذكره في رسالة القشيري وهو شاهد الحال في حق من ذكرنا، فإن قالوا: "ما اتخذ الله وليا جاهلا، وإن اتخذه علمه" (¬1)، و"من عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم" (¬2) قلنا: أنتم لا تعلمونه ما يعمل به، وقولهم: إذا اتخذه علمه، يعني (الواجب طلبه) (¬3) والموهوب بمنته، وأصل الكل العلم، لقوله (ص): "إنما العلم بالتعلم" (¬4) فثم ما لا يوصل إليه إلا بالتعلم وهو الأصول، وثم ما لا يوصل إليه إلا بالمنة وهى الحقائق وما يتبعها، وبالله سبحانه التوفيق. ... 23 - فصل في اقتصارهم على كلمة الشهادة دون تمامها إلا تبعا، والأوقات المعينة لها عندهم وذكر ما في ذلك. أما هجرانهم لكل ذكر سوى الشهادة وتحجير الأمر في ذلك فهو مخالف لنفس الحق من حيث هجران ما هجروا، لا من حيث إيثار ما ¬
أثاروا، لأن السنة قد وردت بأذكار في الغداة والعشي، فرفضوها باختيارهم الاقتصار على ما ذكر، وأثنى الله سبحانه على المتضرعين والمستغفرين بالأسحار فلم يعرجوا على ذلك، بل جعلوا الكل هذه الكلمة المباركة، وهي لا تصح في الأصل إلا بإضافة شهادة الرسول (ص) لها، فلا تجزئ في الفرع إلا مع العمل بسنته (ص) والصلاة عليه، لاشتراك الفرع والأصل في أصل العلة التي هي وجوب الإيمان به (ص)، مع تعزيره وتوقيره المقرونين بتسبيح الحق وتحميده، في قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} فافهم، فالمقتصر على جهة واحدة ينظر بعين واحدة، هذا ما يتعلق بها من حيث الحكم. فأما من حيث الحكمة والخاصية المدركة بالذوق والملابسة، فالكلمة المباركة متصاعدة الأنوار، فهي لإحراق الخبيث من العبد، الكفر فما بعده، ولهذا كانت نافعة للعام والخاص من أهل البدايات والنهايات، لكن مع إضافة ما يميل بها إلى الاعتدال من شهادة الرسول (ص) واتباع ما جاء به، فأخذها مفردة كأخذ المتطبب الحبة السوداء للمداواة من كل داء، مجردة عن تدبيرها، فإن ذلك لا يصح عند كل ذي نظر سديد، مع القطع بما ورد في أنها شفاء من كل داء إلا السام (¬1)، لكن بعد تلطيف أو ترطيب أو تقوية أو تحليل أو تركيب، وطب القلوب محاذ لطب الأبدان في قياسه وعمله، وإن كان مخالفا له في قصده ومأخذه، وقد علم أن السكنجبير شراب الأطباء النافع لكل ذي علة في كل وقت وسن وحال، لكن الطبيب الحاذق يسقيه كل أحد على حسب ما يليق به، ويزيد فيه وينقص منه، بحسب ما يراه تقتضيه أصول العلم عنده. وهذه طريقة سادتنا من العجم في التسليك بهذه الكلمة، يأمرون بها كل أحد من المتوجهين ويراعون حاله، فيزيدون وينقصون له بحسب ما يرونه صالحا له، ويدخلون عليه من الأعمال ما يرونه لائقا به، فجاء هؤلاء المساكين وأخذوا بذلك في العموم، وجعلوه كسائر الرسوم، دون مراعاة أصل ولا فرع، فكان قبيحا منهم، أعني تعميم ما هو خاص في وجهه أو ¬
24 - فصل في ذكر الأوقات المعدة عندهم للذكر.
حكمه، لا سيما والمقصود بذلك، أعني إفراد الذكر والوجه إنما هو المريد المشرف على الحقيقة، الذي قد تهيأ للفتح حتى تنصبغ حقيقته بما أشرف عليه، فهو المأمور عند القوم باعتزال كل شيء بعد الواجبات والسنن المؤكدة، سوى الذكر اللائق به في حاله، فهو حكم خاص لمخصوصين، لا لعوام المتوجهين، لأنهم إن كانوا في البداية احتاجوا لأشغال حقيقتهم بما ينفي ما دخلها من المختلفات الهوائية، وإن كانوا في النهاية، كان ذلك زيادة في أنوارهم وفتحهم على نسبته، وتعميم الحكم جهل، وإرساله لغير نهاية كذلك، لكن حقهم في التربية عدم الإشعار بالمقاصد المتوجه إليها، والأفراد دون الفوائد والغايات، ليكمل الاستعداد للأخذ، وتنجمع الهمة في التوجه والغايات، فلا يعترض عليهم ذلك. وقد قال ابن عطاء الله (ض): واعلموا أن الله تعالى أودع أنوار الملكوت في أنواع الطاعات، فأي من فاته من الطاعات صنف، أو أعوزه من الموافقات جنس، فقد من النور بقدر ذلك، فلا تهملوا شيئا من الطاعات، ولا تستغنوا عن الأوراد بالواردات، ولا ترضوا لأنفسكم بما رضي به المدعون، بجري الحقائق على ألسنتهم وخلو أنوارها من قلوبهم، فذلك حال الجاهلين الذين لم يفقهوا عن الله، ولا واجههم المدد من الله، انتهى. وفيه تنبيه على أن التقيد غير معتبر، وذكره في لطائف المنن وهو من أعجب شيء في الباب، والله الموفق للصواب. ... 24 - فصل في ذكر الأوقات المعدة عندهم للذكر. وهي ثلاثة: بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة المغرب، وعند السحر، وفي كل حركة مستأنفة أو معتادة غير ضيقة.
قلت: فأما بعد صلاة الصبح فهو وقت لذلك شرعا، وحقه أن يتوزع بين تلاوة وذكر ودعاء وفكر، حسبما دلت عليه نصوص الشريعة، ونص عليه الأئمة كأبي طالب المكي والغزالي وغيرهما، فإقصاره على ما تقصرونه عليه تعد على الشارع، إلا أن يكون في حق مريد خاص، مداواة لعلة قلبه عند إشرافه حتى تتمكن الحقيقة من نفسه فلا بأس به لضرورة التداوي، فإن الضرورات لها أحكام تخصها لا يصح أن تتعدى إلى غيرها في كل فن وباب، والله أعلم. ثم ما تريدونه في ذلك من حزب السلام وقراءة الواحد وسماع الجميع مخالف أيضا، إلا أن تدعوا أنه من باب التذكير، لأن السماع المجرد أدعى للتأثير، ولكن ليس بعلم حتى يكون لكم في سماعه وإسماعه مستند، وإنما هو ذكر والذكر مطلوب من كل أحد، وهذا إن سلم مما فيه من التعريض بالمنكرين، والله أعلم. نعم وكون الذكر بالجمع والجهر على وزن معلوم عندكم لا يليق، لما فيه من الخلاف والدخول في الشبهة لغير ضرورة شرعية، فإن قلتم: من باب التعاون والوعظ، قلنا: قد يسوغ، ولكن الاسترسال في العجلة آخر المجلس والبلوغ في الأمر إلى حد تحتل معه حروف الكلمة في الذكر أو يختل نظمها لا يفيد شيئا من ذلك، بل يبعد عنه، بل قال بعض العلماء: إن التسكين في هاء (إله) تؤذن بانقطاع الاستثناء وهو كفر بالصورة، وإن لم يكن بالحقيقة والعياذ بالله، فأما ما بعد المغرب فالمطلوب إحياؤه بالصلاة (¬1) ولكن الذكر فيه غير ضار لعدم تبديل ما جاء في الشريعة أو شيء منها فيه، لأن هذا الوقت لم يخصصه الشارع ¬
بأذكار ولا غيرها، إذ ذكر العشي إنما الوارد فيه بعد العصر مطلقا، أو المغرب (¬1) بأذكار خاصة معلوم ورودها عند أئمة الإسلام، ففي الخبر يقول الله تعالى: "ابن آدم اذكرني ساعة بعد الصبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما" (¬2) إلى غير ذلك. وقد أهملوا ذكر ما بعد العصر أظنه لوجود الشغل لأنهم أبدلوه بما بعد المغرب، فيكون مخالفة للوارد والله أعلم، فأما آخر الليل فسنته التضرع والابتهال ووجود الدعاء والاستغفار، فهو وقت المناجاة كما أشارت إليه آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة، في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن الضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} (¬3) وقوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} (¬4) {وبالأسحار هم يستغفرون} (¬5) إلى غير ذلك، وقال (ص): "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه" (¬6) الحديث. ¬
وقال إبراهيم الخواص (¬1) (ض): دواء القلب ثلاثة (¬2)،: خلاء البطن، وتلاوة القرآن بالتدبر، والتضرع عند السحر وقيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع، قال: "أدبار المكتوبة، وجوف الليل الآخر" (¬3) لكن قد يقال: عملنا بقوله (ص): "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" (¬4) وهي شبهة قائمة ولكن نصوص الشريعة ومقاصد الشارع معتبرة في العموم، ويرجع بغيرها إلى خواص الأشخاص والأوقات. فأما التعرض بها للأغراض والحوائج والتجاهي بها والتمييز بذكرها، فمن حيث صورته لا يليق، ومن حيث حقيقته معتبر بالنية ولكل شيء وجه، ولكن السنة خير كلها والسلف خير منا وأحرص على الخير، وقد كانوا (عمال) (¬5) أنفسهم (¬6) ولم يكن عندهم شيء من ذلك مع احتياج الوقت لله، من جهة مناصات الكفار، والتبكيت عليهم، وإشاعة أمر الدين، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وهم ¬
25 - فصل فيما أفادهم هذا الأمر من الفوائد المعتبرة، وهي خمس في الجملة
القادة، وأئمة الهدى، ويرحم الله مالكا كان يقول في مجالسه كثيرا: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع أعاذنا الله من كل فتنة وشر، بمنه وكرمه. ... 25 - فصل فيما أفادهم هذا الأمر من الفوائد المعتبرة، وهي خمس في الجملة: أولها: اتساع الدنيا من طريق الأسباب والعوائد، وذلك محل كل تكلف وفتنة، إلا القليل من الناس، ولذلك كان السلف إذا أقبلت الدنيا قالوا: ذنب عجلت عقوبته، وإذا أقبل الفقر قالوا: مرحبا بشعار الصالحين، فهو (¬1) لا يعده فتحا إلا من عظمت الدنيا في عينه، ولا يراه منة من حيث هو، إلا من لا يعرف قدر الدنيا في فتنتها وإضرارها، فافهم. الثانية: كثرة الأتباع والخدام، وهو فرع ما قبله، ونتيجة (تمسك) (¬2) بما هو محبوب كل مؤمن (أعني الكلمة المباركة، مع وجود) (¬3) محبوب الطباع الذي هو الاتساع في الدنيا، وذلك كله خير لو سلم مما اقترن به، أو بدت نتائجه على وجود المتلبس به، ولكن الكثرة قل أن يكون معها إنتاج، وإلى ذلك أشار الشاعر حيث قال: ¬
بغات الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات (¬1) نزور وقد قال بعض المشايخ رحمهم الله: وليس مرادا أن يكثر في هذه الطريقة الزحام، إنما المراد أن يكون واحد من الأنام، لأنها سلطنة، والملك لا يكون إلا واحد انتهى، وأدلته واسعة فلا نطول بها. الثالثة: النصرة على الأعداء، بحيث يحصل الأمر منهم (¬2) بعدم التشفي ونيل الغرض وضده، وهذا من خاصية الكلمة المباركة، فقد ورد أن الله تعالى يقول: "لا إله إلا الله حصني، فمن دخله أمن من عذابي" (¬3)، وهي موضوعة لذلك في الأصل والفرع، لحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬4) الحديث، وما تضمنه من حقن الدماء والأموال والأعراض إلى غير ذلك، فهم في بركة أمنها كسائر المسلمين بزيادة فائدة لوجود الملازمة، وإن فاتهم نور الافتداء والمتابعة، فافهم. ¬
الرابعة: التصرف في أبشار الناس وأموالهم مع وجود الرضى منهم (¬1) دون توقف، أعني أصحابهم ومن يعتقدهم، وهذا أمر مباح أفاده التعظيم والاعتقاد، والأنس والمودة، ولكنه محل الغلط في التصرف على وجه لا يسوغ شرعا، وإن ساغ فلا يؤمن اختلال شرطه مع التكرار، وربما يحصل له بذلك ضرر، فلا يصح كونه فائدة، ولا زيادة إلا بالصورة، والله أعلم. الخامسة: وجود التعزز ونفوذ الكلمة، بطريق العادة، بل على سبيل الصولة وكمال رفع الهمة، إذ لا تجد أحدا منهم يتعرض للسلطان ولا غيره لينال من دنياه، ولكن مشغولا بسبب، أو مكتف بما عنده من أسباب الدنيا، وهذه كلها مصيبات وابتلاءات لا كرامات، فقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (¬2) (ض): إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان وشهود العيان، وكرامة الاقتداء والمتابعة وترك الدعوى والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب، وذو خطأ في العلم والعمل بالصواب، كمن أكرم بشهود الملك على نعت ارضى، فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب، وخلع المرضى، قال: وكل كرامة لا يصحبها الرضى عن الله، فصاحبها مستدرج مغرور، أو ناقص أو هالك مثبور، انتهى. والكلام في هذا يطول ويخرج عن الغرض، وكل فائدة كان مظهرها عالم الملك فلا عبرة بها، إذ الكائن في الكون لم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته كما قال في (الحكم) وللعاقل إشارة، وبالله التوفيق. ... ¬
26 - فصل فيما أفادهم مخالفة الجماعة من الأمور المضرة
26 - فصل فيما أفادهم مخالفة الجماعة من الأمور المضرة: أولها: العلاسة، ولا تكاد تجد منهم رجلا منورا بنور الطبع كسائر العوام، ولا بنور القلب كجملة الخواص، بل غالب وجوههم عليها نور مكسوف يدركه كل من له أدنى فطنة، فيميزهم به من غيرهم وإن كان لا يعرفهم، وذلك من اختلاط الحق بالباطل في فعلهم، فإن كل حقيقة لها نور على نسبتها، فافهم. الثاني: عدم التأثر والتأثير بأذكارهم وعباداتهم، حتى لا يخشع لها قلب ولا يهتاج لها لب، ولا يوجد لها ذوق غير لذة الاعتياد والامتياز، ولذلك لا ترى منهم صاحب وجد ولا حال، ولا من يفهم ذلك من حيث التحقق والذوق، يعرف ذلك من تأمله فيهم. الثالث: وجود القساوة والجفاء والغلظة والتعصب، حتى أداهم ذلك لإباحة عرض من خالفهم ورؤية إضرارهم حسب إمكانهم، وذلك أحد الوجوه الناشئة عن شؤم البدعة، وحب الرئاسة والصولة على الخلق. الرابع: وجوه الحرص على الاستتباع حتى انجر بهم إلى أن صاروا يبعثون أصحابهم في البلاد، فيدعون الناس لاتباعهم ويراودونهم بإعطاء الدراهم وقهرهم بما أمكن، حتى صرعوا رجلا وجعلوا أيديهم في يده، وقالوا: أخذت علينا، حدثني بذلك العامل والمعمول به ذلك، وهذه مصيبة في الدين، وفضيحة في الآخرة، وضحكة في الدنيا عند كل ذي عقل سليم، أعاذنا الله مما ابتلاهم به. الخامس: استحسان أحوالهم، والرضى عن نفوسهم، ورؤية الفضل لها على من سواهم، والاكتفاء بأحوالهم وعلومهم ومشايخهم، وهذه من أصول الجهل، وقواعد الضلال، فقد قال المشايخ (ض): لا يكون العاقل عاقلا حتى يفتقر بعقله إلى كل عقل، ولا يكون عالما حتى يفتقر بعلمه لكل علم، ولا يكون مريدا حنى لا تبقى له إرادة، وقال في الحكم: أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضى عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضى منك
27 - فصل في رد تعصبهم لطريقتهم واعتقادهم أن كل طريق سواه باطل أو ناقص، وهذا لا يخلو اعتبارهم له من وجوه.
عنها، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرض عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه، وقال المشايخ (ض)؛ فقد حلاوة العمل من فقد إخلاصه أو فقد السنة فيه، وكل حلاوة لا تثمر أدبا فهي آيلة لوجود الاغترار ولا حقيقة لها في نفسها، فاعرف ما أشرنا إليه وتأمله تجد ما قلناه عيانا، وبالله التوفيق. 27 - فصل في رد تعصبهم لطريقتهم واعتقادهم أن كل طريق سواه باطل أو ناقص، وهذا لا يخلو اعتبارهم له من وجوه. أحدها: أن يكون عندهم نص في ذلك من الشارع، استندوا إليه، لا تصح لهم مخالفته ولا رده، وهذا باطل لفقدان ذلك، بل لفقدان صورة طريقهم في الأصل، وإن كان لبعضها مستندات تؤذن بالإباحة فلا تؤذن بالأفضلية بحال، والله أعلم. الثاني: أن يكون ذلك قد أخذوه عن ظاهر واستنباط كسائر الأحكام، وهذا شيء لم ندركه فعليهم بيانه ببرهانه، وإلا فالدعاوى المجردة لا تقبل، وقولهم: هذا طريق التسليم مع ادعاء أفضليته لا يصح، لظهورهم بأمور تحتاج لنصوص الشارع ونحوها، فافهم. الثالث: أن يكون معتمدهم في ذلك، اعتبار ما احتوى عليه من مقاصد وأفعال وعلوم وأحوال، وأنها ليست إلا أفضل ما علم، وقد علم عند التفصيل ما ترخصوا فيه أو شددوا، وليس بأفضل إجماعا أو قريبا من الإجماع. الرابع: أن يكون معتمدهم في ذلك ما يجدونه من فتحهم ونورهم على زعمهم، وهذا لا يعم إدراكه (¬1) فلا يكون حجة، والأذواق لا تنحصر، وادعاء الأفضلية ها باطل، لا سيما وقد تكون معلولة، فلا يصح أن تكون دليلا. ¬
الخامس: تقليد مشايخهم من غير دليل واضح، ولا برهان لائح، ولا علامة فيهم، إلا ما يرونه من اتبع الدنيا، وكثرة الاتباع، وصورة ما هم عليه مما هو مخالفا لفوائد الخلق، وهذا من باب معرفة الحق بالرجال، ومن عرف الحق بالرجال أصبح في غاية الضلال، اعرف الحق تعرف أهله، وأهل الحق هم الذين أنصفوا الخلق في مراتبهم، وجعلوا الأفضلية حيث جعلها الله تعالى من كمال التقى، إذ قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (¬1) وقال جل وعلا: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى} (¬2) وقال (ص): "التقوى هاهنا"، وأشار إلى صدره (¬3)، وقال (ص) في أبي بكر: "لم يفتكم بكثرة صلاة ولا صيام، إنما فاتكم بشيء وقر في صدره" (¬4) فحقائق ما يقع به التفضيل مغيبة عنا إلا من حيث الدلالة، وهي غير قطعية، فلا وجه للقطع، وإنما هو الظن، وجملة الطرق غير منحصرة حتى يتميز الأفضل والفاضل، ومن ادعى ذلك فهو شغول بباطل، هذا مع أنا لا نمنع الأرجحية في النفس، لأنها التي توجب الإيثار، وعليها مبنى الاقتداء والاتباع، إذ لا سبيل في ذلك سواه، فافهم، ونستعظم ما يذكر عنهم من بعض من طعن عليهم، وسبه واستباحة عرضه وماله، وربما انتهى بعضهم لاستباحة دمه، وهو يكاد أن يكون كفرا، نسأل الله العافية بمنه وكرمه. ... ¬
28 - فصل في هجرانهم ما ورد عن الشارع من الأذكار واستبدالها بغيرها في محلها.
28 - فصل في هجرانهم ما ورد عن الشارع من الأذكار واستبدالها بغيرها في محلها. فمن ذلك التسبيح بالغداة والعشي قد ورد التحضيض عليه بص القرآن والسنة المطهرة. وصحت أذكار مثل قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة (¬1) وقول: سبحان الله وبحمده مائة" (¬2) المتفق عليهما الاثنين بصيغة من قال كذا ونحو ذلك، ومن ذلك تبديل الأذكار التي بعد الصلاة من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، والختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك إلخ (¬3)، وغيره من الأذكار الواردة شرعا والأدعية المنصوصة عن الشارع حقا، فبدلوا كل ذلك بأذكار عندهم استنبطوها، لم يرد منها شيء في نصوص الشريعة إلا آية الكرسي (¬4) ونحوها في ما أظن، فكان ذلك منهم ابتداعا صريحا بالاستبدال المذكور لا بغيره، ¬
لأن الترك في ذلك من باب إهمال الأولى لا عتب على أحد فيه، لكن لما استبدلوه صار بدعة، من حيث إثبات ما أثبتوه في محل أثبت الشارع فيه خلافه. فإن قالوا: لم نستبدله إلا بما هو أعظم خاصية منه، وأكبر أثرا في نظر الشارع، وهو كلمة الشهادة، التي قال فيها (ص): "أفضل ما قلته أنا والنبيؤون من قبلي لا إله إلا الله" (¬1)، وما ورد فيها من غير ذلك. قلنا: قد نص العلماء على أن الذكر المقيد (¬2)، أفضل من المطلق لقصد الشارع (ص) بالتخصيص الخاص، فافهم. وسئل النووي وغيره عما بعد صلاة الصبح هل الذكر أفضل فيه أو التلاوة؟ فقال: قراءة القرآن أفضل في عموم الأوقات، والسنة لم ترد في هذا الوقت إلا بالذكر فهو أفضل في وقته، وسئل مالك عن صلاة النفل وحضور مجلس العلم، فقال مرة: مجلس المسلم أفضل، وقال مرة: الصلاة أفضل (¬3) وفي بعض رواياته: ما له يصلي، لقد كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل، فقال الشيوخ: مقتضى كلامه أن كل شيء في محله أفضل وهو الذي نص ¬
29 - فصل في تقييدهم في الدعاء بنوع خاص غير ثابت من الشارع وإن كان واضح المعنى صحيح المبنى
عليه سحنون (¬1) رضي الله عنه، وذكره في البيان (¬2)، فانظره، وقد جعل الحق سبحانه ما بعد صلاة الصبح للتحصيل، وما بعد صلاة العصر للتفصيل، ووقت السحر للمناجات، كما ورد في الأخبار (¬3)، ويذكر بعد إن شاء الله تعالى، فلا ينبغي أن يتعدى بشيء محله، فإن لكل شيء وجه، وبالله التوفيق. ... 29 - فصل في تقييدهم في الدعاء بنوع خاص غير ثابت من الشارع وإن كان واضح المعنى صحيح المبنى، فقد نهى رسول الله (ص) عن الاعتداء في الدعا (¬4)، ومنه هجران ما جاء عنه، والتقيد بخلافه. وقد كره مالك رحمه الله الاقتصار على دعاء خاص في الصلاة وغيرها، وسئل عن قول القائل: يا الله يا رحمان، فقال: يا رحمن اللهم، قيل له: فلعلك تريد دعاء الأنبياء ربنا ربنا (¬5) قال: نعم، وسمع عبد الله بن مغفل الصحابي (ض) ولده يقول: اللهم إني أسألك الجنة وحورها وقصورها ¬
30 - فصل في تقييدهم القراءة في الصلاة
وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فنهاه وقال: إنه من الاعتداء في الدعاء، ولكن اسأل الله الجنة واستعذ به من النار، فإذا أعطاك الجنة أعطاك ما فيها، وإذا أعاذك من النار أعاذك مما فيها انتهى، بمعناه خرجه أبو داود وغيره. وأفضل الدعاء ما كان عن حضور واضطرار، ولا حضور مع تكلف، ولا اضطرار مع تقيد، ونهى أيضا (ص) عن السجع في الدعاء (¬1) للتكلف، ولم يرد عن أحد من السلف التقيد في الدعاء، نعم الإيثار لدعاء واحد والإكثار منه بحسب الحاجة لا يقدح، ودعاء المرء بما يفتح له أو يفتح لغيره، جائز شرعا، إن صح مبناه واتضح معناه، وبالله التوفيق. ... 30 - فصل في تقييدهم القراءة في الصلاة بحيث لا يقرأ في الركعة الأولى من كل صلاة بعد الفاتحة إلا بسورة مخصوصة، (كالشمس وضحاها) في الصبح، و (إذا زلزلت) في صلاة الظهر، و (لإيلاف قريش) في العصر، و (إنا أنزلناه) في صلاة العشاء، إلى غير ذلك مع اقتصارهم على سورة الإخلاص في الثانية أبدا، وهذه بدعة صريحة لأن السنة جاءت بالإطلاق، ولم يرد عن أحد من السلف التقييد بذلك ولا غيره، وإن ورد عنه الإكثار فإحداث التقييد المذكور، والتعلق به قبيح من وجوه ثلاثة. ¬
أحدها: الافتيات على الشارع صلوات الله عليه في تقييد ما أطلقه، وعمل به مطلقا مدة حياته هو وجملة الخلفاء الراشدين، وأئمة المسلمين بعده، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها. الثاني: ما فيه من فوت مقصود التلاوة في الصلاة الذي هو التفهم على حسب الوارد (¬1) ومعرفة حقيقة ما انطوى عليه القلب من المعارف، فإن الفاتحة جامعة وفتوحها متنوع أبدأ لجمعها، وأنواع السور مذكرة وتابعة لذلك عند أرباب القلوب، والتقيد يمنع من ذلك. الثالث: مما في ذلك من الإخلال بسنة التطويل في محله والاقتصار في موضعه، إذ السنة في الظهر والصبح طوال المفصل، وأنتم هجرتموه، وفي العشاء أواسطه، وأنتم تركتموه، وفي الثانية من الركعات على نسبة الأولى وإن كانت أقصر، وهذا شيء بدلتموه بما تقرؤونه من سورة الإخلاص، تم تعلقكم بحديث الرجل الذي كان يقرأ بها في كل صلاة (¬2) لا يدعها، لا يصح، لأن الحامل له على ذلك إنما هو حبها، فهو صاحب حال فيها، يسلم له ولا يقتدى به، ولو كان للاقتداء به محل لكان السلف أولى به، ولم يرد عن أحد منهم التزامه، نم حاله بخلاف حالكم من خمسة أوجه: ¬
31 - فصل في ذكر شبههم فيما آثروه وهجروه مما تقدم ذكره.
أحدها: أنه لم يخص بها ركعة من الركعات، بل يقرأها في صلاته فقط، وأنتم تقيدونها بالثانية أبدا. الثاني: أنه كان يضيفها إلى غيرها فيأتي بسنة الصلاة من تطويل أو تقصير ثم يزيدها كما ورد في رواية من الحديث (¬1)، وأنتم لا تضيفون لها شيئا بل تقرؤونها مجردة. الثالث: أنه لم يتعرض بها لإشاعة ولا أمر بها أحدا، بل أخذ بها في نفسه، وقد يسمح للشخص في نفسه بما لا يسمح له به في العموم، وشواهد ذلك من الشريعة كثيرة، وهذا خلاف ما أنتم عليه. الرابع: أنه استند في فعله لغلبة الحال، فقال لرسول الله (ص) لما سأله في ذلك: إنها صفة الرحمان وإني أحبها، فقال: "حبك إياها أدخلك الجنة"، فأحاله على الحال، لا على الفعل في الثواب، فافهم. الخامس: أن القوم لما عزلوه عاد إلى الإنصاف، وما عزلوه إلا لأن ذلك عندهم لا يسوغ، حتى إذا تبين عذره وأقره الشارع على ذلك سلموا له، وإلا فهم منكرون لفعله من حيث هو، لكونه لم يوافق ما عليه جمهور الإسلام في ذلك، ولولا عذر الشارع (ص) له ما سلموا له حاله، والله أعلم. ... 31 - فصل في ذكر شبههم فيما آثروه وهجروه مما تقدم ذكره. أما تقيدهم في قراءة الصلاة، فسمعت من بعضهم ما يدل على أنهم قصدوا به مناسبة أعداد الصلاة، وحركات الفلك، فأتوا لكل وقت بما ¬
يناسبه، وجعلوا الركعة الأولى فرقا، والثانية جمعا (¬1)، وهو شيء يشبه الفلسفة، فدخوله في الشرعيات لا عبرة به، واعتبار ذلك من حيث الخاصية (¬2) أيضا خارج عن الحق، هذه سورة البروج قد نص المشايخ على أن مداومتها في صلاة العصر تنفع من الدماميل، وهي مجربة، ولكن العبادة لا ينبغي أن تدخل بالعادة، فأبدلناها بعد الصلاة فانتفعنا بها، واحترام الشريعة لا يأتي إلا بخير، فإن قيل: فالرسول (ص) قد كان يصلي صبح يوم الجمعة بالسجدة وهل أتى (¬3) وصلاة الجمعة بالجمعة والغاشية (¬4) والعيد بسبح والشمس وضحاها (¬5) والخسوف بالأول الأربع الطوال (¬6) والفجر بالكافرون والإخلاص (¬7)، والوتر بالإخلاص والمعوذتين (¬8) ومغرب ليلة الجمعة بالكافرون والإخلاص (¬9) إلى غير ذلك وهذه كلها تقيدات. ¬
قلنا: الشارع لا يعترض عليه في نظره، ولا يتعدى ما أتى به فحيث أطلق تعين الإطلاق، وحيث قيد تعين التقييد، {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (¬1) وقال (ص): "ما تركته لكم فهو عفو} (¬2) وهذا ليس من المتروك، بل حمله مالك على الإيثار والإكثار، لا على التقييد، أعني ما وقع في صبح الجمعة ومغربها (¬3)، ولولا ذلك لم يكرهه، ولا يصح التحديد إلا منه، فارتكابه افتيات عليه، هذا مع ما أضيف لما ذكر من أمور أخر تقتضي وجود النكير، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يتعبد بمثل صلاة العيد، ولا الخسوف ونحوه، وذكره ابن الحاج في آخر مدخله، هذا مع أنه أثبته الشارع، لكن في محل خاص، فوجب أن لا يتعدى لغيره، والله أعلم. وأما شبههم في التقييد بالدعاء ونحوه من الأذكار، فعمدتهم في ذلك ترك المألوفات وطلب التأثير بوجود المستغربات، وذلك توهم باطل من وجوه ثلاثة: أحدها: أن العادة جارية بإلف المستغرب عند تكراره، حتى يصير في معد المألوفات، فلا يبقى له أثر غير استشعار الاختصاص، وهو مضر بصاحبه، إذ يثير له رؤية نفسه، فافهم. الثاني: أن التأثير الحقيقي هو الذي ينتج حالا أو عملا على وفق الحق والبصيرة وقد عرف أن الاصطلاح في العبادة لا يثير شيئا من ذلك، وهو مشاهد عند من له أدنى فهم. ¬
32 - فصل فيما يذكر عنهم من ترك قضاء الفوائت، وتفويت الصلاة إذا كان أحدهم في شغل الفقراء حتى يقضيه، وإن فات الوقت، وهما مصيبتان عظيمتان.
الثالث: أن وازع الحقيقة لا يتوقف على نمط واحد، فالتقييد بالكيفيات حرمان من وجوه المعارف وإن أثار لذة نفسانية، فلا يؤثر حقيقة إيمانية، ولا نكتة عرفانية، وبالله سبحانه التوفيق. ... 32 - فصل فيما يذكر عنهم من ترك قضاء الفوائت، وتفويت الصلاة إذا كان أحدهم في شغل الفقراء حتى يقضيه، وإن فات الوقت، وهما مصيبتان عظيمتان. أما الفوائت، فأول الواجبات بعد التوبة عند القوم قضاؤها إجماعا منهم، وإن كان بعض الفقهاء قد قال بسقوطها بناء على تكفير تارك الصلاة، وهو يقول مع ذلك بانفساخ نكاحه، وتجديد سائر عقوده الإسلامية، وهو مذهب بعيد، لا يصح الأخذ به في هذه البلاد، لعدم تحقيقه من علمائه، وإن كان حقا في نفسه فليس معولا عليه، ولا معمولا به عند القوم، فالعمل به تلاعب بالدين، ورجوع إلى الرخص بغير ضرورة ملجأة، وليس ذلك من شأن القوم، ثم النوافل لا تسد مسد الفرض، وقد أنكر مالك على من يرى ذلك، وقال: ليس ذلك من السنة في شيء، وإن كان قد روى عنه قول بالسقوط، فقد أنكره عياض (¬1) وغيره من شيوخ المذهب، وشأن الفقير الصادق إنما هو الأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق، إلا في محل ضرورة أو أمر لا بد فيه من الترخص، لندب من الشارع ونحوه ألحقه (¬2) نفلا، بل قال المشايخ: متى بقيت على المريد بقية من الحقوق الواجبة على توبته كان ذلك نقصا في حاله عند فتحه، وهو مشاهد معلوم. ¬
وأما تفويت الصلاة لخدمة الإخوان فحرام إجماعا، ولا بارك الله في شغل أشغل عن الصلاة، لأنها عماد الدين، وأصل كل خير وتمكين، ولقد اختلف العلماء في تعارض الوقوف بعرفة وصلاة العشاء أيهما يقدم، لقوة الواجبين وفواتهما، فما ظنك بغير ذلك مما هو من حيز المندوب المخير، إن صح كونه مندوبا، فاعرف ذلك، وهذا أبو حفص الحداد (¬1) أحد الرجال الأكابر (ض)، كان إذا سمع النداء، وقد رفع المطرقة، ألقاها من خلفه خشية أن يعمل شيئا قبل إجابة داعي الحق، وكتب عمر (ض) إلى بعض عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع (¬2) وقال بعض السلف في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} (¬3) يعني أخروها عن وقتها، إذ لو تركوها لكان كفرا، وقال الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله: إن أردت الأولياء فاطلبهم في الخلوات وذكر مواضع، ثم قال: وإن أردت أن تكون منهم فلا يدخل عليك الوقت إلا وأنت في المسجد، فأما إن فاتتك تكبيرة الإحرام أو ركعة فأنت من العامة المطعون في إيمانهم، يعني بالنقص، ولا حديث عليك، وبالجملة فهذه مسألة بينة الغي ظاهرة الباطل، فلا يعمل بها إلا جاهل، ولا يقر عليها إلا مضل، ولا يأمر بها إلا من لا خير فيه، والسلام. ... ¬
33 - فصل في استئذانهم في الواجبات والضروريات الدينية والدنيوية والإلزام بذلك.
33 - فصل في استئذانهم في الواجبات والضروريات الدينية والدنيوية والإلزام بذلك. وهو شيء بنوه على أن المريد يتعين عليه أن لا يتنفس نفسا إن أمكنه إلا بإذن أستاذه، ليكون أجمع لقلبه وأقرب لتأدبه، وأثبت في خروجه عن نفسه، وأنفى لعلله، وذلك لا يجري في الواجبات ولا في الضروريات، لأن الشيخ معزول عن النظر فيها بوجوبها، والمريد ممنوع عن الاختيار فيها بلزومها له على كل حال، فاستئذانه جهل، واشتراطه ضلال، لوجوه ثلاثة: أحدها: أنه مخالف للسنة في التضييق، وما كان الصحابة يستشيرونه (ص) إلا في الأمور المهمة المتجددة الوقوع، لا اللازمة بكل حال، مع أن بعضهم كان لا يفارقه بحال، ومع ذلك لم يثبت عنهم شيء من ذلك، بل ثبت عنهم خلافه، كحديث جابر (ض) في التزويج (¬1) وعبد الرحمن بن عوف إذ رأى عليه أثر صفرة، إلى غير ذلك، وهم كانوا أعظم الناس احتراما له (ص)، وأقواهم أدبا في حقه (ص)، وهو أحق من يتأدب معه، فإن قالوا: الآداب أمور عاديات، والعاديات جارية بحسب عرف كل قوم، وهذه آداب الأعجام، فلا تنكر عليهم، لأنه (ص) لم ينه قوما عن زيهم (¬2) قلنا: إن صح كونها عادية دخلها الابتداع من حيث إضافتها للدين، باشتراكها في أصل الديانة، مع ما يجرى من الخلاف في العاديات، هل يدخلها الابتداع أم لا، وقد مر أنه لا ينبغي أن يختلف فيما رسم من ذلك برسم الديانة، والله أعلم. ¬
فأما استنادهم إلى قوله تعالى: {وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (¬1) الآية، فلا يصح لوقوعه على خاص في أمر خاص، ففي الآية تصريح أنه في الذهاب، وهو مباح، وذلك لعلة الذين يتسللون لواذا من المنافقين، حتى لا يتوصل أحدهم لمراده من المخالفة في الأمور الجمهورية، والتوصل للتخبيب، وإدخال الضرر في الحال، ولأنه مقام تجاذب الآراء، وتنازع النفوس الخبيثة، فقد يقوم أحدهم بحظه لما يسمع، أو يكون ممن يدخل الخبال في المسلمين، أو يستظهر بمخالفة الكلمة، وأيضا فالاحترام عند الحضور يقضي بالإعلام (¬2) ولئلا تعرض حاجة أو تكون في النفس، ولا محل لها، فيقتضي وجود القيام والحصر والتشويش على القاعد، كحال التناجي، وما يجري منه، إلى غير ذلك، فهو خاص في خاص لخاص، لا يصح أن يكون دليلا في مطلق الاستئذان، والله أعلم. الثاني: أن الاستئذان في الواجب إما أن يكون مع العزم على الموافقة، سواء أمر به أو نهي عنه، فيكون معصية في الأصل تضارع الكفر إذا استباحوا ترك واجب لأمر مخلوق، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإن كان من كان، فإن قالوا: إنا نريد بذلك رضى الله، قلنا: لا يتقرب إلى الله بما لا يرضاه، وإن كان فيه وجه، {وإن تشكروا يرضه لكم} (¬3) فافهم، واعتصم بالله، وتمسك بالاتباع، ثم يكفي ردا عليهم في ذلك حديث الأمير الذي أجج النار وأمر الناس بدخولها، وجعل بعضهم يمسك بعضا، وبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: "والذي نفسي بيده لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (¬4). ¬
وإما أن يكون مع العزم على مخالفته أن لو ألف، فيكون الاستئذان مقرونا بالكذب، إذ ظاهره الموافقة بكل حال، وباطنه المخالفة في حال ما، فهم دائرون في هذه القضية بين الكذب والعصيان، وهما محرمان إجماعا. الثالث: أن هذا الأمر يتضمن تضييع واجب أو مندوب محقق، كإخراج الصلاة عن وقتها المختار، أو تضييقه، أو تفويت أوله، أو فضل الجماعة، وكلها شر، (وكذلك في الضروريات من الأكل والشرب والجماع، إذا قد يكون مضطرا فلا يؤذن له فيهلك، أو يضر غيره بتأخيره عن معتاده، ثم في الاستئذان في الجماع ثلاث فضائح: أولها: وجود التفحش لغير ضرورة شرعية. الثاني: إفشاء سر المرأة، وتحريك الأمر على الغير ممن لا شيء له من ذلك، فهو ضرر كله، دنيا ودينا، وقد نهى رسول الله (ص) عن التفحش (¬1) وأخبر (ص) أن: "إفشاء سر المرأة من أعظم الذنوب"، كما رواه أهل الصحيح (¬2) فانظره. الثالث: أنه بين أحد أمرين عند النهي عن ذك، إما أن ينتهي على حصر في نفسه، وضرر بزوجته، فيكون عاصيا، أو تغلبه شهوته فيكون خائنا، والكل من شؤم البدعة، نسأل الله العافية. ¬
34 - فصل في استئذانهم على من أتوه بالتسبيح.
فإن قالوا: هذا شيء لا نفعله ولا يصح ادعاؤه علينا، قلنا: إنما ننكر الشيء حيث يوجد، ونحن لم نعين أحدا في الأمر، وأيضا فقد سألت بعض من هو متعلق بهذه الطائفة فأخبرني بذلك أنه واقع، وأنهم يستأذنون في ذلك بلفظ (الفقراء يمشون في ضروراتهم)، ولكن قد يختلف حال مشيختهم في ذلك كغيره، فيكون منهم من يرى ذلك وهو كما ذكرناه، ومنهم من لا يراه، وهو أقرب للحق، وأبعد من الباطل، والله أعلم. ... 34 - فصل في استئذانهم على من أتوه بالتسبيح. بحيث أن أحدهم يقف بالباب، ثم يقول: سبحان الله مرات، فإن أذن له وإلا رجع، وهذه بدعة صريحة، إذ قد أماتت سنة ثابتة عن رسول الله (ص)، هي قوله في الاستئذان: "سلام عليكم أأدخل؟ ثلاثا" (¬1) فإن أذن له وإلا رجع، ويتمهل في ذلك بينها، فأبدلوا ذلك بالتسبيح، مع اعتقادهم أن ذلك أفضل، لكونه ذكرا، ولا أفضل من العمل بالسنة، ثم لا تأتي البدعة إلا بشر، ومنه الإخلال بحرمة التسبيح عند وجود المقابلة بالنقيض، وسبب ذلك من استعماله في غير محله، فقد وقع لبعض الناس منهم أنه استأذن على صاحب لهم بذلك، فقالت امرأته في جوابها: مشى يطول الحمارة، فانظر هذا الجواب ما أشنعه في مقابلة أرفع الأمور وهو ¬
التسبيح، مع مخالفة السنة الثابتة، أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه، وقد سمعت بعضهم يقول: إن الاستئذان بالتسبيح ذكر الزمخشري (¬1) فيه حديثا، وهذه نتيجة الجهل من وجوه: أحدها: معارضة أمر ثابت مستفيض، بحديث باطل إن صح نقله، لكونه غير معروف في كتب الإسلام الحديثية والفقهية. الثاني: استنادهم لمعتزلي في الأصول، زيدي في الفروع، غير إمام في الحديث، في مسألة فيها حكم ثابت مسلم متداول، فهو إعانة على أنفسهم. الثالث: اغترارهم باعتبار الأئمة بكتابه، وذلك من عدم علمهم بالوجه الذي اعتبروه منه، وهو قيامه على علوم البلاغة والتصرف بها على أحسن الوجوه، وقد أقر هو بعدم قيامه على غير ذلك في مقاماته. وعابه عليهم آخرون ورأوه فضيحة في الدين من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه اطراح لسني بمعتزلي بأخذ كتابه، وترك كتاب السني، كابن عطية (¬2) والواقدي (¬3)، ونحوهما، وتلك مصيبة عظيمة، والعياذ بالله. الثاني: أنه ثناء على معتزلي وإكرام له، وقد قال (ص): "لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم الله تعالى" (¬4) كذا ذكره ابن أبي جمرة في هذا المحل. ¬
الثالث: أنه يصير شواشا (¬1) لمعتزلي، وربما وقع في بعض مهاويه ينظر كتابه، أو وقع غيره بسببه، انظر ابن أبي جمرة في حديث البيعة أول الكتاب. فإن قالوا: الاستئذان أمر عادي، فلا يدخله الابتداع على المعول عند الأئمة المحققين، كالمآكل والمشارب والملابس ونحوها، والتسبيح عبادة جعلناها في محل العادة، فكانت أولى، لا سيما وقد ورد توقيع ذلك في التعجب والإنكار، ونحوهما، كقوله تعالى: {سبحانك هذا بهتان عظيم} (¬2) وقوله (ص): "ماذا أنزل الليلة من الفتن" (¬3) وقوله (ص): "سبحان الله أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" (¬4) وحديث: "من نابه شيء في صلاته فليبسح" (¬5) فجعل التسبيح علما للتنبيه على السهو، قلنا: لو لم يفهم من فعلكم هذا أنه من صلب الدين، ولم يثبت في محله سنة ماضية، ولم يكن بالاشتراط والمشارطة، وعلى مفارقة ما ورد في الأحاديث لكان له وجه، والمواضع التي وقع فيها إنما هو التنبيه على معناه المضمن بها عند من تأمله، وشرح ذلك يطول، وبالله التوفيق. ... ¬
35 - فصل في ذكر شبهتهم في ذلك وفيما قبله.
35 - فصل في ذكر شبهتهم في ذلك وفيما قبله. وهو أن المريد المشرف على غير الحقيقة يتعين عليه إفراد الوجه بكل حال، فلا ينطق إلا بذكر مناسب لحاله، ولا ينظر إلا بفكر مناسب لأمره، ولا يتحرك إلا بحركة مناسبة لتوجهه، حتى تنصبغ حقيقته بمعاني ما فتح له، فيعود للأحكام العامة، وإنما يعمل بذلك دواء لعلة تفرقته عند آخر أمرها، وهي مرتبة لا تجوز للمبتدئ لعدم تهييئه لها، فكيف بالناسك المقتدي، لأن شأنه اشتغال عوالم جنسه، وحفظ النظام بوجهه بالتزام التقوى، ثم بالاستقامة، حتى إذا استكملنا فيه، طولب بمراقبة أنفاسه، وعند ذلك يسوغ له الاستئذان في كل شيء، لغليان قلبه، وجريان الخواطر عليه مع الأنفاس، وحركات أحواله مع التقلبالت، ليسلم من الغلط، ويبرأ من الرعونة والدعاوى، ويهتدي فيما دق كما اهتدى فيما جل، وما لم يفعل ذلك كان الغلط والضلال والضرر أقرب إليه من كل شيء، حتى إذا صار فيه ذلك كالمطبوع، نقل لتحقيق الحقيقة بإفراد الوجه وإخلاء الباطن عن الغير، وهنا يضيقون عليه أنفاسه، ويضبطون عليه حواسه، ويمنعونه المخالطة والمماسة، حتى إذا صح توجهه، ألقوا إليه ما يصلح له من الذكر المفرد، اللائق به على حسب ما يرونه من شاهد حاله، ثم إذا تمكن ذلك منه عادوا به للمبادئ في الصورة، وإنما هو لتكميل الحقيقة، فالنهاية الرجوع للبداية، وليست البداية التعلق بالنهاية، فمن طلب بداية في نهاية فاتته العناية، ومن طلب نهاية في بداية حصل على الغواية، وما هو إلا كمن يريد منفعة الإكسير (¬1)، في المعدن قبل تطهيره، فيتلفه بغير منفعة، وهذه حالة هؤلاء المساكين الذين بادؤوا المبتدئ بالتجريد، فخرجوا به إلى محل النفي والتبعيد، واغتروا في ذلك بحركات المشايخ مع المريدين الذين علمت، همتهم، إما بسلوك سابق، أو بجذب غالب، ¬
36 - فصل في الإحداد بالصوم وغيره عقوبة أو كفارة لما يقعون فيه.
فلم يبق فيهم بقية، رزقنا الله البصيرة النافذة، ومن علينا بكل جدوى عائدة، بمنه وكرمه. 36 - فصل في الإحداد (¬1) بالصوم وغيره عقوبة أو كفارة لما يقعون فيه. وهو أمر اجتهادي لا ينكر من حيث نفعه في التربية، لكن المنكر منه قولهم: من فعل كذا فعليه كذا، مثل قولهم: من استيقظ ليلا ثم غلبته عيناه عن حزبه فعليه صيام يومه، ويدعون أن ذلك تأديب للنفس، وعقوبة لها، وإجبار لما فات من عمل ليلتها، وكل ذلك لا يصح، لوجوه ثلاثة: أحدها: أن التأدب لا يجري على نمط واحد في النفوس المختلفة، فمن الناس من لا يبالي بالصوم ويؤثر فيه غيره، فيكون صومه زيادة عليه في غير حاصل، كما حكي عن بعضهم أنه جعل على نفسه كلما اغتاب صام يوما، فلم ترجع، فجعل كلما اغتاب تصدق بدرهم، فانزجرت (¬2) وربما عينا عكسه. الثاني: أن العقوبة إنما تكون بالمؤلمات وغالب المتوجهين في .. يتهم، الصوم لهم ملائم، وربما زادهم جرأة وتقوية، فلا يصح أن يكون عقوبة لكل نفس، وهو أمر واضح. الثالث: أن الكفارة والإجبار لا يكون إلا بما كان سنة أو خبرا غير معارض بشيء من الشريعة، وهذا معارض في الأصل والفرع، أما المعارضة ¬
في الأصل فقولهم: من فعل كذا فعليه كذا، ولو لنوع من الناس - يضارع التشريع - إذ لا يقول ذلك، في أمر الدين سواه (ص)، ومن فعله سواه فقد ضاهاه في إثبات الأحكام، ومن ضاهاه في ذلك فهو شر المبتدعة، وسواء في النفي والإثبات، وأما المعارضة في الفرع، فهذا محل قد يثبت فيه من الشارع حكم عام، فلا يصح تخصيصه إلا بأمر منه، ولا أمر، فالمخصص كذلك دونه مبتدع، والحكم الثابت من الشارع صلوات الله وسلامه عليه في ذلك هو قوله (ص): "من فاته ورده من الليل فصلاه بينه وبين الزوال، كان كمن صلاه من الليل، وكان نومه عليه صدقة" (¬1) كذا رواه مسلم في صحيحه، ولم يفرق (ص) فيه بين حالة وحالة، فمن أين جاء التخصيص؟ أو من التعدي على أمر الله ورسوله؟ وقد قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} (¬2) وقال صلوات الله وسلامه عليه: "من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها لا كفارة لها إلا ذلك" (¬3) أقم الصلاة لذكري، هذا في الفرض، حصر الكفارة في وجوه الاستدراك من غير زائد، فما ظنك بالنافلة، أعاذنا الله من الابتداع في الدين، وسلك بنا مسلك المتقين بمنه، ثم إنا لا ننكر أن يكون للتربية وجه في ذلك، لكن لا بطريق العموم، بل على حسب ما يعطيه الحال من فراسة الشيخ فيه، وما يراه صالحا له ولائقا به في تربيته، فإن تحقق أن نومه من شبعه، وأن صومه يؤلمه أمره به، وإن تحقق غير ذلك عامله بحسبه، لا أنه يجعل ذلك قاعدة كلية، وأمرا ثابتا في الدين، فافهم، وبالله التوفيق. ... ¬
37 - فصل في تفويتهم العشاء إلى ما بعد صلاة العشاء في غير رمضان
37 - فصل في تفويتهم العشاء إلى ما بعد صلاة العشاء في غير رمضان، وإن كان أحدهم صائما، وهو أمر مخالف للسنة من حيث الصوم، إذ ليت سنة لتعجيل خاصة برمضان، وقد أحدثوا بذلك معادات فضيلة الصوم، وربما غرهم فيه قول الإمام أبي حامد: إحياء ما بين العشاءين أفضل من صيام يفوته إفطاره، وهو على سبيل المبالغة والفرض، وإلا فالصوم محقق الفضيلة لصحة أحاديث الترغيب فيه، لا سيما في الأيام الفاضلة، كالإثنين والخميس وثلاثة في الشهر، وإحياء ما بين العشاءين حديثه فيه ما فيه (¬1) ثم إحياؤه لمطلوب بالصلاة ونحوها، لا على ما وصفوه هم، وقد يكون إيثار الفضل ما يقع فيه من أنواع العبادات، والله أعلم. ثم في تأخيرهم لما ذكر وجوه قبيحة: أحدها: ما فيه من شغل البال عند جوعه وجوع من يلتزم به، هذا الشارع صلوات الله وسلامه عليه يقول: "إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء" (¬2) وقال (ص): "لا صلاة بحضرة طعام" (¬3)، ووقع في الدارقطني (¬4): "إذا حضر المغرب وأحدكم صائم فليبدأ بالطعام" (¬5)، فهذه بدعة بإثبات حكم خلاف حكم الشارع فيها، وهو تخصيص الأمر العام بمجرد النظر، والله أعلم. الثاني: إن تأخير العشاء إلى قريب من النوم مضر بالمعدة، لعدم نزول الطعام عن فمها، ولا كمال مع فساد الطبيعة، فلا يجوز لأحد أن يدخل الضرر على نفسه وإن كان راضيا به مع إمكانه صرفه. ¬
قال بعض العلماء: وحفظ الصحة مطلوب للتقوي على العبادة، كالرضى بالواقع، استسلاما إلى الله تعالى. الثالث: في تأخيره إضرار بالغير، من زوجة أو ولد أو ضيف أو مضيف، ممن عسى أن تجب موافقته أو تندب، لأنه إن عرف عادته قد يعمل عليها وهو منحصر في نفسه، وهو الغالب إن أخر، أو يتقدم وفيه ما فيه، ولو وقع ذلك مرة في مرة، وإن لم يعرف عادته ربما ظن ذلك منه على وجه آخر، فكان جفاء في الجانبين، والجفاء منهي عنه بكل حال. الرابع: فيه تفويت لحق الزوجة والولد والسؤال، وتعليم الأهل رديء العوائد، مع ظنهم أنها خير من غيرها في الدين، لأن الحضور مع الأهل في العشاء مطلوب، وهذا يفوت لهم إن عجلوا، ومضر بهم إن أخروا، والقيام بحق السؤال معه قل أن يتفق، لأنهم لا يتطوفون غالبا إلا بين العشاءين، وهو إن كان يعطي فللتذكر أثر، واعتقاد الغير ممن يعتقده في ذلك أنه قربة بدعة (¬1) هو سببها، فنسأل الله السلامة. الخامس: فيه تشويش ومعارضة في الحال، لأن سنة الطعام التحدث عليه (¬2) وسنة ما بعد العشاء ترك الحديث فيه (¬3) فهو إن فعل أحدهما أخل بالآخر ولا بد له منه، هذا مع ما يلحقه من طريق العوائد من تكليف الأهل، بحفظ الطعام حتى يدركه سخنا إن سبقوه، أو يأكله باردا، وربما تضرر به أو ضر به غيره ممن يريد موافقته، فهو أمر لا خير فيه بحال، وبالله التوفيق. ... ¬
38 - فصل في دعائهم للمصافحة وكيفيتها وما يتبع ذلك.
38 - فصل في دعائهم للمصافحة وكيفيتها وما يتبع ذلك. أما دعاؤهم الخلق، فقد يرون أنه من باب هداية الخلق، وذلك مطلوب لحديث: "لأن يهدي الله بك رجلا" (¬1)، فقول: إن الهداية حاصلة بأصل الإيمان، فيقولون: إنما نريد كمال ذلك بالتقوى، فنقول: إنما هو بالوعظ والتذكير {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (¬2)، فيقولون: لنفوس لا تقبل الحق إلا بصورة مستغربة، والمصافحة سنة (¬3) ولنا فيها سند ومستند مسلم، فنقول: هي مطلوبة للتوثق والمعاضدة على الدين، إذ لا أصل لها إلا بيعة الصحابة ثانيا بعد تحقيق الإيمان أولا، ونحن نجد منكم ¬
فيها خلاف ذلك، لا من قبل الكيفية، ولا من قبل القصد، ولا من قبل الحقيقة. أما الكيفية فإن السنة فيها تمكين اليد من اليد على وجه يفهم المعاضدة والنصرة وهو توفية التمكين حقه، وشد كل يد صاحبه، وأنتم تجعلونها بأطراف الأصابع، وقلب إحدى اليدين على الأخرى، وتلقون ذلك بالتقبيل، وهو مكروه على المشهور (¬1) وليس من سنة المصافحة عند أحد ¬
من العلماء، وأعظم من ذلك إلحاق التقبيل بوضع الجبهة على اليد، وهو شيء يشبه السجود، بل هو عينه، فيتعين تحريمه بظاهر شبهة السجود فيه، إذ قد نص العلماء على تحريم ما هو دونه، وهو إحناء الرأس لشبهه بذلك، وأضفتم إلى ذلك كونه محرما (¬1)، حال المصافحة، جالسا على الهيئة المطلوبة في الصلاة، وأعظم من ذلك اشتراطهم الحزام للصلاة، وهو أمر منهي عنه عند العلماء، منصوص عليه بالكراهة (¬2). ¬
وأما القصد فشاهد الحال منكم طلب الاستتباع والتكاثر بالأتباع، لأنكم تغلبون في ذلك كل من يأتيكم، وتدعون له من لم يأتكم، وتهملونه بعد الأخذ عنكم من النظر في أحواله، بل سمعت ممن أقبل قوله ما هو أنحس من هذا، وهو أن بعض مشيخة هذه الطائفة أتاه بعض اللصوص ليتبرك به، فقال له: خذ العهد، فقال: لا أطيقه، لأني لا أقدر على ترك ما أنا فيه من قطع الطريق ونحوه، فقال له: خذ العهد تعن على ما أنت فيه، وهذه مصيبة كبيرة، وضحكة عظيمة، فيها تجرئة للعصاة، وزيادة في إذاية المسلمين، وفتح باب الاستخفاف بالفقراء، واستهزاء بالدين، نسأل الله العافية بمنه. وأما الحقيقة: فالمصافحة مرادة للتبرك في حق المحب، وشرطها البيان والإيناس في حق المنتسب، وشرطها التعيين والإفادة في حق المريد، وشرطها الاهتمام، ولكل قوم فيها وجه، وله بعدها معاملة تخصه، وله فتح يليق به، وهم قد عمموا الأمر، وربما جعلوا دعواهم في ذلك ضمان الدرك عند الموت (¬1) بالثبات، وعند السؤال كذلك، وعند الصراط، إحالة منهم على غائب، حتى لا يفتضحوا، فانعكس الأمر بظهور الفضيحة، وذلك بشواهد الأخبار النبوية والعقود الإيمانية، فقد عرف أن هذه المواقف لا ينفع فيها أحد أحدا إلا الله سبحانه، دون واسطة ولا علة إلا مزيد الإيمان، لقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (¬2) وما قطع قلوب الأكابر إلا هذه المواقف، لعدم العلم بها، وتوقفها على مراد الحق سبحانه الذي لا تدخله علة ولا سبب، حسبما هو معلوم من الدين ضرورة، وإذا كان حسن الخاتمة أمرا لا يثق به الشيخ في نفسه، فكيف يدعيه في حق غيره، وأيضا فدعاء الرسل عليهم السلام عند ¬
39 - فصل فيما أحدثوه من أخذ العهد وخالفوا به الحقيقة والقصد.
الصراط: "رب سلم سلم" (¬1) فكيف يكون لغيرهم كلام أو نسبة، ويرحم الله سيدي أبا العباس الحضرمي (ض)، حيث يقول في كتابه (صدور المراتب): وما ندري وما أحد من الناس يدري ما يفعل الله به وبغيره، أعاذنا الله من المحن والفتن بمنه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... 39 - فصل فيما أحدثوه من أخذ العهد وخالفوا به الحقيقة والقصد. وذلك لا يختص بهذه الطائفة، بل لغيرهم فيه قدم وشرط، وجملة ذلك عشرة أوجه: أحدها: رحلتهم في طلب أخذ العهد على الناس، والنزول عليهم في بلادهم لذلك، وفيه من الابتذال ما لا يخفى، ومن مخالفته فعل القوم ما لا ينبغي، فإن قالوا: حرصا على هداية الخلق، قلنا: لم نر للهداية بارقة إلا في حق من دعاه قلبه لذلك، وهو الذي يطلب، لا أنه الذي يطلب، وفي شهرة الشخص كفاية لطالب الخير، ولو انفرد هذا الأمر لكان له وجه ضعيف، لكن بإضافته لغيره صار قبيحا. الثاني: حمل الناس على ذلك بالقهر مرة وبالحيلة أخرى، مع اكتفائهم منهم بمجرد ذلك وإن كانوا جهلة، وإشداد الأمر عليهم إن تأبوا عنهم وكانوا رؤوسا، أو ممن ترجى لهم الرياسة، وهو أمر لا خفاء في قبحه أيضا، وقد أخبرت بوقوع ذلك من جهة أثق بها، عن جهة هي أمثل من رأيت في ذلك، والله أعلم. ¬
الثالث: قبول كل أحد فيه على ما هو عليه، وتقريره على ما هو به من حسن أو قبح، دون انتقال إلى خلافه، سوى صورة طريقهم الذي غالب أمره بدعة، وما كان منه سنة، قد تركوا به ما هو آكد منه، وهو إلزام التقوى بترك الغيبة والريبة والكذب والخيانة إلى غير ذلك من أمور الدين التي لا يعرجون عليها. الرابع: اعتقادهم أن التوبة لا تصح إلا بمتوب (¬1)، ولا تكمل إلا بشيخ، وإنه لا يصح أن يكون إلا من خرقتهم (¬2) وإن كان من غيرهم، فإما أن يسلموه على استنقاص وإما أن يطعنوا فيه، وهو شيء خارج عن الحق، فيرحم الله الشيخ أبا العباس بن الحسن نزيل تلمسان، حين جاءه بعض أصحابنا ليتوب على يديه فقال: إذا جاءتك التوبة فلا تتوقف علي، بل لا تأتيني إلا بعد تحصيلها إما طلبا للدعاء بالثبات، وإما لتعلم لوازمها، فكف. الخامس: اعتقادهم أن الشيخ كاف عن العمل، والعمل لا يصح بعد العهد إلا بالشيخ، وهو أمر فاسد للبطالة في الأول، ولمخالفته الحق في الأمر الثاني، فقد جاء رجل لسيدي عبد السلام بن مشيش (¬3) (ض)، فقال له: أريد أن أستأذنك في مجاهدة نفسي، فأجابه بقوله تعالى: {لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} (¬4) فالتوبة لا تحتاج إلى متوب والمجاهدة لا تحتاج لإذن، لكن لمذكر حتى يقع الندم، ثم لمعلم حتى يعرف الحق، ثم لمعين حتى يحصل الثبات، وهو كمال لا شرط، والله أعلم. ¬
السادس: اشتراط بعضهم على مريده أن يعتقد فيه العصمة، وأن كل ما يصدر منه حق في نفس الأمر، وإن خالف الحق بصورته، ثم يضيق (¬1) عليه المباحات، ويسمح له في الواجبات، ولا ينبهه على المحرمات، ولا يعرج له على رد المظالم، ولا قضاء الفوائت ولا استدراك الوقت، ولا الحذر من أسباب المقت، بل يهمله إن كان ضعيفا، ويستخدمه إن كان قويا، ويستعين به إن كان فقيها، ويغلطه في نفسه إن كان له فهم، بأن يريه أن كلما يصدر منه من الفهوم ونحوها قبح، فإن قدمه على جماعة فقد شغله بما لا يمكن فلاحه بعده من الرئاسة، التي قطعت ظهور الكبار، فضلا عن هذا المسكين، أعاذنا الله من البلاء بمنه. السابع: أن يصيره بعد أخذ العهد مملوكا لا يباع، وأسيرا لا يفدى، إذ يقيمه خديما للطاحونة، وحليفا للمسحاة، ويبقى معه لا روح له ولا مال، ولا ولد ولا أهل، ولا حول ولا حيلة، فيأخذه بأمور لا تطاق من غير شفقة ولا رحمة، ويريه أن ذلك في حقه منفعة، وتطهير لسره، قائلا: السر في التراب، والحكمة في الخدمة، ويذكر من الأمور الظاهرة على مشايخه من الآثار النفسانية ما يخفف عليه ذلك، ومنهم من يكتسب من مريده بالأخذ من ماله، وحجة من يكتسب على مريده، بأن يوجهه للسؤال، ويريه أن ذلك صلاح له في الحال والمآل، وأن مراده به إخماد نفسه، وإظهار صدقه، وزوال كبره، وما هو إلا سقوط المروءة، وثبوت دعوى الاختصاص، والفضيحة، وإجابة داء الطمع، والعياذ بالله، ومنهم من يكتسب من مريده، بحيث يكون له جاه أو شهرة، فينال بنسبته إليه مزية ومنزلة، فيأخذ من أموالهم، وينال من أغراضهم ما يريد، بسبب اشتهاره بمشيخة فلان، حتى اضطرهم هذا المعنى إلى إدخال أقوام لهم جاه غير مستقيم والتبجح بهم، والاستظهار بنسبتهم لهم، إلى غير ذلك، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه، وهذا الأمر وإن لم يشعروا به قصدا، فهو كامن ¬
في النفوس، وما يظهر من تأويله بوجه الحق، فمن غدرها (¬1)، الناشئ عن العلم، المتولد من تمكن الهوى، والله أعلم. الثامن: التزام الأسلوب الغريب الذي تنقاد إليه النفوس لغربته، من غير مبالاة بالدين، ولا تعريج عر سنن أئمة المهدين، حتى لو ذكر بشيء من ذلك لقالوا: هذا علم الكتاب، والذي عندنا علم القلوب، ولقد انجر الأمر ببعض من خذله الله عند سماع بعض تلك الحكايات إلى أن قال: ما ظاهر الشريعة إلا حرمان، وهذا الكلام عين الضلال والحرمان، أعاذنا الله من البلاء بمنه. التاسع: فطم التائب عن كل علم وعمل سوى ما عندهم، وليس عندهم إلا ما علم من البدع والكيفيات، فهي خيانة إن قصدت في الفرع، وإن لم تقصد في الأصل بوجود الجهل، حتى انجر الأمر ببعضهم إلى استباحة المحرمات، والتصريح بالمنكرات، ورؤية ذلك عين الكمال، فلقد رأيت من لا يشترط على مريده سوى مخالفة مذهب مالك في مسائل خاصة إلى الرخصة (¬2) ورأيت من صرح بأن فلانا يرى الله جهرة، وهو والعياذ بالله خروج عن الإجماع أو قريب منه في إثبات الحكم (¬3) فكيف مع تعيين الشخص، وما هو بمستقيم الحالة، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه. العاشر: سوء الملكة، وقوة التعصب بذكر الموالاة والمعاداة، وأن صدق الهمة في الشيخ بمعاداة من عاداه وموالاة من والاه، فاضطرهم ذلك إلى المفاخرة والعناد والمنارعة، وقلة المبالاة بحرمة المشايخ، بل المسلمين جملة، فلا تسمع إلا غوثا (¬4) وتشويشا ودعاوى كاذبة، ونفوسا خائبة، بل لا تسمع إلا "شيخنا وشيخكم"، "ونحن وأنتم"، "وطريقتنا وطريقتكم"، ¬
40 - فصل في أخذ العهد أصلا وفصلا، وكيفيته وفاء ونقصا، وما يجري في ذلك.
لا سيما أولاد المرابطين، فإنهم يرون الحق لأنفسهم دون غيرهم ولآبائهم، دون من سواهم، وما هم إلا كما قيل: يفتخرون بأجداد لهم سلفوا ... نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا هذا غالب حالهم، والنادر لا حكم له، وهو أقل من القليل، نفعنا الله بهم (¬1)، وأعاد علينا من بركاتهم، إنه منعم كريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... 40 - فصل في أخذ العهد أصلا وفصلا، وكيفيته وفاء ونقصا، وما يجري في ذلك. أما أصله فحديث عبادة بن الصامت (ض) أن رسول الله (ص) كان في عصابة من أصحابه، فقال: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني (ولا تعصوا) في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، (ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارة له) (¬2) ومن أصاب شيئا من ذلك ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفى عنه"، فبايعناه على ذلك (¬3)، أخرجه البخاري وغيره، وقد جعل أئمة الطريق هذا الحديث أصلا في أخذ العهد إذ كان بعد تقرير الإيمان، ومقصده التوثق بمقتضيات الإيمان حتى لا يخل بها، وفيه من السماح ما لا خفاء به، وهو خلاف ما يلزمه هؤلاء الجماعة من المشاق، ويبنون عليه من ضيق النطاق. فإن قالوا: الطريق مبني على الحزم، والرخصة إنما هي للعوام، ¬
والنبي (ص)، قال: "أجرك على قدر نصبك" (¬1)، قلنا: عزم الطريق باعتبار الحكم، وترك الرخص، يعني المختلف فيها كما يأتي بيانه، وقال (ص): "إن الدين يسر ولن يشاب الدين أحد إلا غلبه" (¬2) وقال (ص): "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" (¬3) وقال (ص): "بعثت بالحنيفية السمحة البيضاء النقية" (¬4)، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): الشيخ عن دلك على راحتك لا على تبعك، وقال أيضا عن أستاذه (¬5) (ض) في قوله (ص): "يسروا ولا تسروا وبشروا ولا تنفروا" (¬6) يعني: دلوهم على الله ولا تدلو هم على غيره، لأن من دلك على الدنيا فقد غشك، ومن ذلك على العمل فقد أتعبك، ومن ذلك على الله فقد نصحك. ¬
وقولهم: الأجر على قدر المشقة، كلام باطل (¬1)، بل الأجر على قدر الاتباع، ولولا ذلك لكان كثير من الأعمال أفضل من الذكر، ومن المعرفة والإيمان، ولفضل الحج الصلاة، وهو أمر لا يصح بحال، إلى غير ذلك، فافهم، والحديث خاص لخاص في خاص، فلا يكون حجة في العموم. وأما الكيفية فللناس فيها طرق بحسب أحوالهم، ومواقع أمورهم، وطريقة هذه الجماعة في ذلك أن يصافح الشيخ، ثم يأخذه فقير أو مقدم عندهم ليخلو به ويعلمه صورة الطريق، وهذا من حيث صورته أمر لا ضرر فيه، إلا من حيث كيفية المصافحة وما يترتب عليها، وقد مر ما في ذلك ويأتي بعضه إن شاء الله، والطريق المأخوذ عن الشيخ أبي الجمال يوسف العجمي (¬2) رحمه الله ورضي عنه، هي أن يصحح الشيخ مقامه في التوبة ليتحقق ما يأمر به، ويكون ممن يأمر بالخير بعد فعله، وليقوم بحق الله عليه في واجب وقته، لأنه لا يخلو مقام عن توبة تليق به، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين، ثم يصلي ركعتي التوبة إن أمكنه ذلك، ثم يجلس بأدب، جامعا همته في الصدق مع الله واللجوء إليه في هداية نفسه، ومن تعلق به، خارجا عما عنده لما عند الله، بأن يشعر نفسه بأنه تعالى هو المتوب، وأنه آلة في تأكيد العهد على عبده هذا، فإنه لا يقدر له ولا لنفسه على شيء، بل الله هو التواب الرحيم، ويذكر له عند ذلك حقيقة التوبة وآدابها وشروطها وفرائضها ومكملاتها إن لم يكن عالما بها، وإلا اكتفى بعلمه بها، ويحذره المعاصي والعودة إليها، ويذكره الله في شأنها، ويخوفه من نقض العهد بما يتقي من العقوبة عاجلا، والعذاب آجلا، مثل: لعنة الله، وقسوة القلب، المتضمنين في قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا ¬
قلوبهم قاسية} (¬1) الآية، ويعرفه أن النقض يجر إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، قالوا: ثم يضع يده اليمنى فوق باطن يد التائب اليمنى، ويعرفه بأنه شريكه في التوبة، لاستوائهما في أمر الله لهما، بقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (¬2) الآية، وهذا كله حسن له مستند من الشرع في صورة البيعة. قالوا: ثم يغمض عينيه ويسكت ساعة ليجتمع همة، ثم يتعوذ، ويبسمل، ويقول: أستغفر الله العظيم ثلاثا، نسقا، ثم يقول بعد الثالثة: وأتوب إليه وأسأله التوبة والتوفيق لما يحب ويرضى، ثم يصلي على النبي (ص)، ويقول: الحمد لله رب العالمين، ويتبعه المريد في ذلك كله، ثم إن شاء ذكر مشايخه وأستاذه أو استغنى عن ذلك، قالوا: وكذا يفعل في تلقين الذكر، ولبس الخرقة (¬3) ثم يأمره بلزوم التقوى والطاعات، واجتناب المخالفات، والبحث عما فيه رضى الله تصريحا وتلويحا، وهذا كله أمر اصطلاحي، ولكن له مستندات تجري على أصل القوم في العمل بما يقتضي جمع قلوبهم مما لم يجمع على تحريمه. ¬
41 - فصل في التنبيه على الأمور المتشابهة من أحوال الجماعة المذكورة.
فقد يقال: إنها من المصالح الدينية، لما فيها من التثبيت والتأثير الظاهر، والفائدة الجلية في ربط أقوام من أهل الجرائم عما هم عليه من القبائح والرذائل، لكن ما يزيده بعضهم من ذكره آية البيعة، وتكرير آخرها، قد ينكر من جهة تنزيل نفسه منزلة الشارع (ص) الذي هو نائب الحق سبحانه حقيقة، إلا أن تكرير آخرها قد يكون للتأكيد في عدم النكث والله أعلم، وبالجملة فهذه الكيفية لا تلزم، وكل أحد ينفق من حاله، فيلقي للمريد على قدره، وكل حركة صدرت من غير هوى أفادت الحقيقة والتحقق، بخلاف غيرها، وكل ما تضمنه العهد من مباح ونحوه فالوفاء به واجب، والمحرم حرام والمكروه مكروه، وبالله التوفيق. ... 41 - فصل في التنبيه على الأمور المتشابهة من أحوال الجماعة المذكورة. ومدارها على ثلاثة أقسام: أحدها: أمور خالفوا فيها المشهور، وعدلوا عن مذهب الجمهور، كالاستظهار بالنافلة جماعة، وهو مذهب الشافعي، أعني جوازه لاستباحته (¬1) لأن النوافل في البيوت أفضل اتفاقا، ولئلا تصير كالفرض في الصورة، بل قد ورد صلاة النافلة في البيت كالصلاة المكتوبة في الجماعة، وصلاة النافلة في المسجد كالفريضة في البيت (¬2). ¬
وترك القصر في السفر، فقد قال (ص): "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تترك عزائمه" (¬1) وقال (ص): "خيار أمتي الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا" (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد ورجاله ثقات، ولأن الزيادة بالإتمام عند القائل بالقصر نقص، كالنقص عند القائل بالإتمام، وقد كان في الصحابة المتم والمقصر، ولم يعب واحد منهم على واحد (¬3)، فالتحديد بعد ثبوت فضل أحد الطرفين تعد، والله أعلم. وكالقنوت بعد الركوع مخالف للمشهور، لا للجمهور، فلا علة له إلا قصد المخالفة، لما الناس عليه من الأمر، إما قصد الامتياز أو رؤية أن مخالفتهم كمال، وهو قبيح بالتعريض والتعرض للأذى، والله أعلم. وكالذكر بعد الصلاة بالجهر والجمع من التصلية والتكبير خلاف المشهور، ولكن يساعده قول ابن عباس: ما كنت أعرف انصراف الناس من الصلاة إلا بالتكبير (¬4)، رواه البخاري وهو من باب الفضائل الخارجة ¬
عن ماهية الصلاة، فالعمل به غير قادح، لا سيما في الثغور على قول ابن حبيب (¬1)، والله أعلم. وكقولهم في التقديم للصلاة بحديث: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله" (¬2) فيقدمون الجاهل (¬3) على العالم إذا كان مقدما عندهم، وانجر بهم الحال إلى تقديم من لا يحكم الصلاة على من يحكمها، وهو أمر صعب جدا، يضارع المحرم أو هو عينه، من جهة مخالفة الجمهور، بل الإجماع في الأولوية، وإن كان إجماع القوم على جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، فالأئمة شفعاء، والأحق مقدم أبدا كما هو معلوم من الفقه، وإن استووا في البراءة من الفسق، والله أعلم. القسم الثاني: إدخال أمور على العادات يظن أنها من الشريعة وليست منها، كقيامهم للمحترمين منهم، وقد أجازه بعض العلماء، بشرط أن يكون المقام له من أهل الدين، بلا انحناء ولا تكتيف (¬4) وقد نهى (ص) العرب عن التزي بزي العجم، وما نهى العجم عن زي أنفسهم في قوله: "لا تفعلوا بي ¬
كما تفعل الأعاجم بملوكها " (¬1) وفي الصحيح لم يكن أحب إليهم من رسول الله (ص)، ولكنهم كانوا إذا رأوه لم يقوموا له (¬2) لما يعلمون من كراهيته لذلك وشدته عليه، وأعظم من ذلك قوله (ص): "من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار" (¬3) وهذا تبشير بسوء الخاتمة والعياذ ¬
بالله، فكيف يتعرض له من كان في طريق الله، بمجرد احتمال قد يصح وقد لا، ويظهر من هذا أن الفاعل أعذر من القائل. وقد سئل عز الدين بن عبد السلام رحمه الله عن هذا القيام، فأجاب بحديث: "لا تقاطعوا ولا تدابروا" (¬1)، وقال: تركه يؤدي إلى التدابر ¬
والتقاطع، فلو قيل بوجوبه لم يكن بعيدا، فجعله من محل الضرورة لدفع المفسدة، وقد أشبع فيه ابن الحاج في مدخله، ثم هو بكل حال قبيح، وأقبح منه جعله من الدين، أعاذنا الله من البدعة والفتة بمنه وكرمه. وكقراءة الفاتحة وسورة قريش بعد الطعام، وهو أمر لا نص فيه، فالتزام أهل الدين له يقتضي أن يكون منه، فيكون بدعة، وإلا فهو ذكر مذكر بالشكر والنعمة لا نص في نفيه، فقد يكون من حيز ما هو عفو، فيتعين بيانه بالترك مرة، والتنصيص أخرى، وكإدخال العروس بيته بالذكر، وهو تبديل لما ورد فيه من العادات المشعرة بها كالدف والغربال، والوليمة والدخان والغناء المباح لذلك، المعروف من الشريعة فيه، ولو كان محلا للذكر ما أغفله الشارع ولا أهمله السلف، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى يه أولها، وكذلك الذكر مع الجنازة، والله أعلم. وكذلك ذكرهم عند باب الشيخ إلى خروجه، أو وقوفهم به إلى قضاء حاجته من بيته، وقراءة بعضهم الفاتحة قبل الصلاة، وعدم الغسل بعد الطعام وقبله، وإن كان فيما قبله اختلاف، وقد صح "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم" (¬1) فأما إهمال المريض حتى يصح افتقاره فمن قلة الرحمة، وهو لا يعمل به إلا طائفة منهم، فلا حديث عليه، وبالله التوفيق. القسم الثالث: في أمور اصطلحوا عليها، وجرت بينهم مجرى العرف والعادة، منها ما هو في الأكل، ومنها ما هو في اللباس، ومنها ما هو في المحاوراة، ومنها ما هو في التصرفات، فتحتاج لعقد فصل مستقل، وبالله سبحانه التوفيق. ¬
42 - فصل في أمور تقيدوا بها في العادات وغيرها.
42 - فصل في أمور تقيدوا بها في العادات وغيرها. فمن ذلك تقيدهم في اللباس والصوف (¬1) وبالأبيض منه والأخضر، والعمامة، كورية إن كان ثم ما يكون فوقها، وكشفها إذا أراد مصافحة ونحوها، فأما الثلاثة الأول فلها مستند، وأما العمامة الكورية فهي من فعل قوم لوط، وزي العجم، إذ عمائم العرب ذوات دوائب، أو محنكة، ولم يزل رسول الله (ص) ينهى عن التزيي بزي الأعاجم، وقد تقدم ما فيه من كلام بعض العلماء وتأويله، مع أن الأولى التنزه عند الاشتباه (¬2) والله أعلم، وما وراء ذلك لا نعرف لهم فيه أصلا، ولا في نفيه مستندا فلا نتعرض له. ومن ذلك تقيدهم في المخاطبات بأمور لم تعهد لغيرهم، كقولهم: (الاختيار في الكلام)، (الاختيار في القيام)، (الاختيار في كذا ...)، لكل أمر يريدون الاستئذان فيه، وهو كل أمر يتصرفون فيه مما قل وجل، حتى الواجبات والضروريات، وقد تقرر ما فيها، فأما غيرهما فقد يكون له وجه، لكن السنة خلافه، لا سيما اشتراطه، إلا في حق المريد المشرف الذي يخشى عليه من حركاته، فيكون دواء لعلته، والله أعلم. فأما تلك الألفاظ المذكورة المتعارفة بينهم فهي اصطلاحية، وقولهم: (الفقراء بالصورة)، يحتمل وجوها ثلاثة: أحدها: أنهم في ذلك يخبرون عن أنفسهم أن ليس لهم في الطريقة إلا الصورة، فهو من باب التواضع ورؤية الفلس في الحال من الحقائق، فهو من باب الأدب. الثاني: إن حقيقة الفقر للشيخ والصورة للمريد، حتى ينتهوا إلى المشيحة، وكذا سمعت تأويله عندهم. ¬
الثالث: إن تسمية الفقراء لا حقيقة له فيهم، لاتسامهم بالغناء بالله في نفس الأمر، فهو اعتراف بالمنة، ووقوف مع كرامة الحق في خطاب التكليف، ونعمة الإسلام ونحوه، وهذه كلها أمور تجر إلى الدعوى والاستظهار بالنسبة، فلا يسلم من رؤية النفس معها إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، ثم فيه من إغراء المنكرين عليهم بالتهجين والتقبيح واستثقال النفوس لذلك منهم بما لا خفاء فيه، فاعرف ذلك، ومن ذلك تقيدهم في الأمور بمقدم يرجع إليه في غياب الشيخ أو حضوره ممن ترضى حاله أو لا، وقد يكون جاهلا، فيقدمونه حتى على العالم منهم، وهو من إرهاق العسر، مع أن السنة عدم ذلك إلا في السفر. فإن قالوا: نحن مسافرون بالمعنى، قلنا: يتعين أن تقتصروا في حركاتكم على ما يقتضيه سفركم في اتباعه، وهو معرفة الطريق، ووجه السير، والنزول ونحوه، لا في (¬1)، العموم، لكن قد يكون للتعميم وجه، حيث لا نص من الشارع بنفي ولا إثبات، فاتقوا الله في ذلك. ومن ذلك إباحة المعانقة وتقبيل اليد والمصافحة، أما المصافحة فحسنة وفيها اختلاف (¬2) وقد تقدم الكلام على صورتها، وأما تقبيل اليد فالمشهور كراهته (¬3) والفتيا بجوازه حيث لا وازع دنيوي، ولا خشية شهوة ولا توهمها، والمعانقة كرهها مالك وأجازها غيره (¬4) لكن هذه الثلاثة قد تكون ذريعة لأمور منكرة، عاينا منها ما شاء الله عند قوم، وقد قال بعض التابعين: يكون في هذه الأمة لوطيون ثلاثة، قوم بالفعل وقوم بالمصافحة وقوم بالنظر (¬5)، فيرحم اللهم مالكا في سد هذه الذرائع بالكراهة، ولغيره العذر بإثبات الحكم، وإثم الفاجر على نفسه، والله أعلم. ¬
ومن ذلك اشتراطهم الزيارة (¬1) على المريد، وأنه مع إخوانه مساو لهم في الحال وغيره، وهو شيء يجر إلى أكل الحرام النص، فإن النفوس مهجبولة على حب الخير، واستحسان ما يذكر بالحسن فتأتي لذلك، وتدخل فيه، مع حب الدنيا، فلا يمكنها إلا الإسعاف مصحوبا بالتكلف، وقد قال (ص): "أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف" (¬2) وقد انجر بعض الناس إلى المنافسة فوقعوا في خلاف المقصود، وصار يؤذي بعضهم بعضا بالمعايير، ويقولون: ذوي فلان (¬3) مثل ثيران الحرث، لا يأتون بشيء، ويريدون العلف والتلف، إلى غير ذلك، وهذا أمر محرم إجماعا، وأعظم من ذلك استنادهم إلى قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ...} (¬4) الآية، وهي آية منسوخة الحكم وإن بقي الندب، لكن في حق المقام الأشرف (ص)، فلا يقاس به غيره، وقياسه به من إساءة الأدب، وشم روائح الزندقة، وإن ادعي الوراثة ففي العلم والعمل والحال، لا في تكلف التعظيم والوقار، وأخذ المال، بل يتعين عليه أن يدع الناس وهمهم فيه، ويسقط عنهم الحق (¬5) والكلفة، فإن هو فعل، وإلا هلك وأهلك، وبالله التوفيق. ... ¬
43 - فصل جامع لأمور شتى من وقائعهم ووقائع غيرهم على حسب التيسير.
43 - فصل جامع لأمور شتى من وقائعهم ووقائع غيرهم على حسب التيسير. فمن ذلك إنكار الناس عليهم ترك حلق ما تحت اللحية، وهو إنكار مندوب شرعا بمستحق عادة، لا يصح بحال، بل لا يجوز، لمخالفته الأصل والوجه الواضح، اللهم إلا أن يقال بنكره لما يؤدي إليه من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه صار شعارا للمبتدعة ببلاد المغرب، إذ لا يمتاز به إلا وهبي أو جزناري (¬1) أو نحو هذا، فيكون إغراء للناس على عرض فاعله، وسببا لسوء الظن به، أو إضلالا للعوام باعتقاد الفضل لكل من يظهر به، وهذه كلها مضرة بالدين والدنيا. الثاني: ما يلحق أهله وولده بسبب ذلك (¬2) من الإهانة والمعرة، والتأذي في الاستمتاع من ترك الزينة التي اعتيد وجودها في جنسه، وهو أمر ممنوع في الأصل والفرع، فلا يقدم عليه (¬3) إلا من ضرورة شرعية، ولا ضرورة شرعية، إذ لا خلاف في أنه (¬4) مندوب إليه لا واجب، ووقاية العرض والدين وحفظ حرمة الأهل واجب. الثالث: ما في ذلك من اعتقاد بعض الناس تحريم حلقه، والمبالغة في ذلك، وتعلقهم بنهي عمر (ض)، وأنه من شعار المجوس، وقد يكون بذلك ابتداعا بإحداث حكمه، فلذلك أفتى شيوخ بلادنا لما نظروا في شأنهم أن يحلقوه مرة حتى يعرف عدم اعتقادهم لوجوبه، وكان ذلك باتفاقهم بحضرة السلطان، في حكاية يطول ذكرها، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري (ض) يقول، وسمعته من غيره غير مرة: ورد في الحديث أن ¬
النبي (ص) تنور بالنورة وجلس على المنصة وحلق ما تحت اللحية (¬1)، فإن صح هذا فهو الحجة، ثم لهم في التمسك بالسنة أقوى مستند، وأكبر معتمد، لمن قويت نيته، وعلت همته، وبالله التوفيق. ومن ذلك أن طريق المصامدة حلق رأس التائب بالمقص، وبعضهم بالموسى، وهو شيء لا أصل له، غير ما يذكر من أن رسول الله (ص) قال لرجل أسلم وعليه شعر: "انزع عنك شعر الكفرة" (¬2) لكن يعارضه ما في ¬
الصحيح من سيما الخوارج، وأن سيماهم التحليق، أو قال: التسبيد (¬1)، يعني حلق شعر الرأس، فوجب إبقاؤه لذلك، ولقد بالغوا في ذلك حتى إن بعضهم يرى أن من لم يفعل ذلك فليس بتائب، نسأل الله العافية. ومن ذلك أخذهم من كل مذهب بطرف، كالشافعي في النافلة جماعة، والحنفي في تأخير الصبح إلى الإسفار الأعلى، إلى غير ذلك وهو أمر جائز إن سلم من تتبع الرخص، وقصد المعاندة، إذا كان وجه المذهب المأخوذ به محققا عند العامل به، وهذا في بلاد المغرب معدوم، إذ لا يعرف فيه إلا مذهب مالك، والأخذ بغيره من غير تحقيق هو تلاعب بالدين، وكذلك أفتى أئمة المذهب أنه لا يفتى بغيره في بلاد المغرب، وفي المسألة اختلاف ليس هذا موضع تحقيقه، وقد تكلم ابن العريف في كتابه مفتاح السعادة على شيء من هذا، ووقع لنا كلام على قولهم الصوفي: لا مذهب له، أو مذهبه مذهب أصحاب الحديث، مستوفى في القواعد، فانظره (¬2) وفي آداب المريدين للسهروردي كفاية لمن نظر أوله، وبالله التوفيق. ... ¬
44 - فصل في تحقيق القصد في الجواب والرد.
44 - فصل في تحقيق القصد في الجواب والرد. اعلم أن كل ما أنكرناه أو رددناه فإنما هو بحسب ما انتهى إليه علمنا، ولسنا ممن ندعي الإحاطة، ولكن ممن يبدي ما عنده، فإن قبل فالمنة لله تعالى، وإن رد فنحن أهل للخطأ وقلة الإصابة، ولكن ينبغي للمتكلم بالحق أن يبين وجهه ودليله، وإلا فهو مردود عليه، إذ لا أجهل من متعصب بالباطل، أو منكر لما هو به جاهل، والاعتقاد ولاية، والاعتراض جناية (¬1) فإن عرفت فاتبع، وإن جهلت فسلم، ومن كان بريئا مما أنكرناه مما لا يمكن رده فلا كلام لنا معه، إنما كلامنا مع الشيء حيث يثبت، ويكون فيه محل للنكير بوجه واضح، فإن الحق أبلج، والباطل لجلج. ولقد سمعت عن بعض أهل هذا الطريق أنه قال: لو نزل ملك من السماء يقول: ليس بصحيح، ما قبلت قوله في ذلك، هذا منه إعلام بأنه على بصيرة في الأمر، ولا بصيرة إلا بالعلم، ولا علم، ثم في تعبيره من إساءة الأدب ما لا خفاء به، نسأل الله السلامة. وقال لي آخر: ليس لنا إلا تقليد شيخنا واتباعه، وهو أبصر بحقائق ما يأتينا به وبأصوله، لأنه عالم، وهذا كلام لا عبرة به، لخروجه عن التبصر في الدين المأمور به، والتقليد بغير دليل شرعي فيما يقتفيه، وقد قال تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} (¬2) وقال مولانا جلت قدرته: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (¬3) فالتبصر في الدين واجب، وطلب الحق لازم، والعمل بغير علم حرام، ¬
{ولا ثقف ما ليس لك به علم} (¬1) فإن قالوا: دلتنا شواهد الأحوال على أن الشيخ المذكور من أهل الحق، قلنا: لا دلالة إلا بعلم، وغالب أتباعكم الجهال، ووجود المستند غير واضح، لكن الكرامة لا تفيده، وكثرة العمل كذلك، بل قد قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك عمل رجل فقل: {اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون} (¬2) ولا يستخفنك أمر، هذا في العمل بالواضحات، فكيف بالمجهولات ومفارقة الواضح لأجلها، أعاذنا الله من الفتن بمنه. وقد جاء رجل إلى عبد السلام بن مشيش (ض)، فقال: يا سيدي وظف علي وظائف وأعمالا ألتزمها، فغضب الشيخ رحمه الله وقال: أرسول أنا، فأوجب الواجبات، الفرائض معلومة، والمحرمات مشهورة، فكن للفرائض حافظا، وللمعاصي رافضا، واحفظ قلبك من إرادة الدنيا، وحب النساء، وحب الجاه، وإيثار الشهوات، واقنع من ذلك كله بما قسم الله لك، إذا خرج لك مخرج الرضى فكن لله فيه شاكرا، وإذا خرج لك مخرج السخط فكن عليه صابرا، وحب الله (¬3)، قطب تدور عليه الخيرات، وأصل جامع لأنواع الكرامات، وحضوة ذلك كلمه أربعة: صدق الورع، وحسن النية، وإخلاص العمل، وصحة العلم، ولا تتم لك هذه الجملة إلا بصحبة أخ صالح، أو شيخ ناصح، قلت: فالشيخ مراد للعمل بما علم، وتعلم ما لم يعلم، وخروج النفس عن مرادها لمراد الحق بواسطة التحقيق في الأخذ، والتدقيق في النظر، لا للاتباع رماية في عماية، وعمل من غير سبق هداية، فحيح، بان الحق والباطل فليس إلا الترك والفعل، وإن خالف ذلك أمر الشيخ أو مراده أو قصده، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (¬4) وحيث أشكل أو احتمل فبصيرة الشيخ مقدمة، ¬
45 - فصل في صفة الشيخ المعتبر عند القوم جملة وتفصيلا.
والاتباع لازم، والاعتراض حرمان، وعليه يتنزل قولهم، من قال لأستاذه: لم؟ لا يفلح أبدا، وهذا كله بعد تحقيق المشيخة له، والله سبحانه أعلم. ... 45 - فصل في صفة الشيخ المعتبر عند القوم جملة وتفصيلا. والمشايخ ثلاثة في الجملة؛ شيخ تعليم، وشيخ تربية، وشيخ ترقية. فأما شيخ التعليم فيحتاج فيه لثلاثة: أولها: علم صحيح، بحيث يجوز مبنيا على الكتاب والسنة، مؤيدا بالقضايا العقلية والوجوه المفهمة المسلمة بالأدلة الصحيحة المقدمة. الثاني: لسان فصيح بحيث يبين به عن المقاصد من غير احتمال ولا قصور، لأن العبارة هي التي تفيد المقاصد وتدفعها، وقد قال ابن العريف رحمه الله: الطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، والعامي (يسأل ليعمل) (¬1) فحقه أن يذكر النازلة، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل، انتهى، وهو عجيب. الثالث: عقل رجيح يميز به مواضع العلم، ويقي به نفسه عن كل وصف منقص في دينه ودنياه، فيكون تقيا نقيا، وعلامته في ذلك وجود الإنصاف حيث يكون الحق مع غيره، والوقوف مع الحق، بحيث لا أحد يقابله بلزوم لا أدري فيما لا يدري، والتبرؤ من مواضع التهم قولا وفعلا واعتقادا. وقد قال الشيخ أبو عبد الله بن عباد (¬2) (ض): أوصيكم بوصية لا يعرفها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهو ألا تأخذوا في ¬
هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة، ولا مقلد، أما الكبر فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر، وأما البدعة فتوقع في البلايا الكبر، وأما التقليد فقال: يمنع من بلوغ الوطر، ونيل الظفر، قال: ولا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على الباطن، قلت: بل يحرصون بأن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم، لأن الباطن لا بد له من نسبة في الظاهر بالعكس، فلذلك قال بن العريف: كل باطن باطل، وجيده من الحقيقة عاطل (¬1)، انتهى وهو عجيب، فاعرف حقه، وبالله التوفيق. وأما شيخ التربية فيحتاج فيه إلى ثلاثة أمور: أحدها: معرفة النفوس وأحوالها الظاهرة والباطنة، وما يكتسب به كمالها ونقصها، وأسباب دوام ذلك وزواله على وجه من العلم والتجربة لا ينتقص ولا يختل في أصله، وغالب فرعه. الثاني: معرفة الوجود وتقلباته، وحكم الشرع والعادة فيما يجريان فيه نصا وتجربة، ومشاهدة وتحقيقا، وذوقا للأجسام الكثيفة، والأرواح اللطيفة، حتى يعامل كلا بما يليق به. الثالث: معرفة التصرف بذلك وتصريفه، بأن يضع كل شيء في محله على قدره ووجهه، من غير هوى ولا ميل لحظ، ولا يتم له ذلك إلا بورع صادق في تصرفه، ينتجه عدم رضاه عن نفسه، وزهد كامل نشأ عن حقيقة إيمانية تهديه لترك ما سوى الحق سبحانه، وتأدب كامل بمن صح أدبه، وقد قال أبو علي الثقفي (¬2) (ض): فلو أن رجلا جمع العلوم، وصحب طوائف الناس، فلا يقتدى به حتى يأخذ أدبه عن شيخ أو إمام. ¬
وقال الجنيد (ض): علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه من المتأدبين، أفسد من اتبعه، وقال في حكم ابن عطاء الله (ض): لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله، ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك انتهى، وإليه أشار بقوله: ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه. قال في التنوير: وليس يدل على فهم العبد كثرة علمه، ولا مداومته على ورده، إنما يدل على فهمه نوره وغناه بربه، وانحياشه إليه بقلبه، وتحرره من رقة الطمع، وتحليه بحلية الورع، فبذلك تحسن الأعمال وتزكو الأحوال، قال الله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} (¬1) انتهى غرضنا من كلامه، فانظره إن شئت، وبالله التوفيق. وأما شيخ الترقية، فعلامته ثلاثا: أولها: أن رؤيته زيادة في العمل، ومنه قولهم: كنا إذا فترنا نظرنا إلى محمد بن واسع فعملنا عليه أسبوعا (¬2). ¬
الثاني: إن خطابه تنمية للحال، وإليه إشارة الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش (ض)، حيث يقول: لا تصحب من يؤثر نفسه عليك، فإنه لئيم، ولا من يؤثرك على نفسه، فإنه قل ما يدوم، واصحب من إذا ذكر ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فقد، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتيح الغيوب انتهى، وهو عجيب. الثالث: إن مخالطته مثيرة للأنوار في بساط الكمال، فيرحم الله ابن عباد فيقول: في رجزه للحكم: إن التواخي فضله لا ينكر ... وإن خلا من شرطه لا يشكر والشرط فيه إن تواخى العارفا ... عن الحظوظ واللحوظ صارفا مقاله وحاله سيان ... ما دعوا إلا إلى الرحمن أنواره دائمة السراية ... تقيك وفد حفت بك الرعاية وقاصد الفاقد هذا الشرطا ... بصحبة يعقدها قد أخطا لكونه يرى بها محاسنه ... فنفسه ذات اغترار آمنة انتهى وهو جامع لمقاصد الشروط، وبالله سبحانه التوفيق. ... ¬
46 - فصل في مستند المشيخة ودلالتها وتعرف آثارها ووجه إفادتها
46 - فصل في مستند المشيخة ودلالتها وتعرف آثارها ووجه إفادتها (¬1). أما شيخ التعليم فمستنده واضح، لأن لا علم إلا بتعلم، ولا تعلم إلا ¬
من معلم، وقد تكفي دونه الكتب للحاذق الفهم، مع نقص في إدراكه وحظه، كما قيل: ولا بد من شيخ يريك شخوصها ... فتعرفها بالاسم والعين أقطع وإلا فنصفا العلم عندك حاصل ... ونصف إذا حاولته يتمنع وقد قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (¬1) الآية، وقال الغزالي في المنهاج ما معناه: إن الكتب كافية، ولكن الشيخ فاتح، والله أعلم. وأما شيخ التربية فدليله: {واتبع سبيل من أناب إلي} (¬2) وكان (ص) يربي أصحابه في دينهم ودنياهم على حسب ما يراه لهم، فأباح لقوم سرد الصوم، ومنع قوما منه، وتفقد فاطمة وعليا لقيام الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة، وأسر إلى بعض أصحابه أذكارا، وأطلق بعضها في العموم، وكان يحدث حذيفة بالحوادث لاستعداده لقبولها، ولا يسرها لغيره، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولا يخفى على متأمله، وقيل في قوله تعالى: {كونوا ربانيين} (¬3) علماء حكماء، قال ابن عباس: والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ذكره البخاري (¬4)، وغيره. ¬
وأما شيخ الترقية فمستنده قول أنس (ض): ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه (ص) حتى وجدنا النقص في قلوبنا (¬1)، فأفاد أن رؤية شخصه الكريم كان مفيدا لهم، فكذلك من له نسبة منه بطريق الوراثة العلمية، ومن ثم كان النظر إلى العالم عبادة (¬2)، وجاء في الخبر: إن لله عبادا من نظر إليهم نظرة سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا (¬3)، وفي الصحيح: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬4) وما ذاك إلا لاختصاصهم برؤيته (ص) على القرب، ثم رؤية من رآه كذلك، فافهم، وقال الشيخ أبو العباس المرسى (¬5) (ض): إذا كانت السلحفاة تربي ولدها بالنظر فكيف بالعارف أو الولي، وقال شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض): فهنيئا مريئا لمن ذاق أو ذاق ¬
بعض ما ذاق أو رأى من ذاق، فقد قيل: المطر قريب عهد بربه (¬1) فيستحب البروز فيه، والتبرك عند نزول المطر، هكذا ذكر الشارع (ص) وهو مطر من السحاب، فما ظنك بالمؤمن العارف بالله، قلت: وهذا إذا كان نظره من حيث خصوصيته، لا من حيث، العموم، لأن الانتفاع بحسب النية على قدر الهمة، لا مجردا عن القصد، إذ أكمل كل عمل وتأمله بحسن النية فيه، فافهم. قال في لطائف المنن: وإنما يكون الاقتداء بشيخ دلك الله عليه، وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته، فألقيت إليه القياد، فسلك بك سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك، وكمائنها ودفائنها، ويدلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار مما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله تعالى، يوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك، فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه والقيام بالشكر إليه، والدوام على ممر الساعات بين يديه (¬2). فإن قلت: فأين من هذا وصفه ولقد دللتني على أغرب من عنقاء مغرب، فاعلم أنه لا يعوزك وجود الدالين، ولكن قد يعوزك وجود الصدق في طلبهم، جد صدقا تجد مرشدا، وتجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (¬3) وقال سبحانه: {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} (¬4) فلو اضطررت إلى من يوصلك إلى الله تعالى اضطرار الظمآن إلى الماء البارد، والخائف للأمن _ لوجدت ذلك أقرب إليك من ¬
47 - فصل في العلامة التي يستدل بها المريد على حاله من الشيخ الذي قصده، أو فتح له به أنه ينتفع به.
وجود طلبك، ولو اضطررت إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدته لوجدت الله منك قريبا ولك مجيبا، ولوجدت الوصول غير متعذر عليك، ولتوجه الحق تعالى بتيسير ذلك إليك، قال ابن عباد رحمه الله تعالى: وفي كلامه تنبيه على أن الشيخ من منح الله تعالى وهداياه للعبد المريد إذا صدق في إرادته، وبذل في مناصحة مولاه جهد استطاعته، لا على ما قد يتوهمه من لا علم له، وعند ذلك يوفقه الله تعالى لاستعمال الأدب معه، لما أشهده من عالي مرتبته، ورفيع درجته انتهى، وهو حسن جدا، وبالله التوفيق، ومنه الهداية. 47 - فصل في العلامة التي يستدل بها المريد على حاله من الشيخ الذي قصده، أو فتح له به أنه ينتفع به. وهي سريان نورانية الشيخ في نورانيته، وانبساط حقيقته على عوالم ظلمته، فلا يبقى منه شيء إلا دخله منه محبة وإجلال، وأنس لا يصحبه إذلال، بل كلما ازداد بسطا تزايدت عظمته، وكلما ظهر بالجلال تأكدت محبته، ولا يزال به ذلك حتى ينتج له موافقته طوعا أو كرها، دون توقف ولا تردد، واحترامه على كل حال دون اعتلال، ولا أنس بعلم ولا عمل، ولا حال ولا طمع (¬1) ولا معاملة ولا غيرها، فقد قال الشيخ أبو مدين (ض): الشيخ من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالتعظيم، الشيخ من هذبك بأخلاقه، وأدبك بأطرافه، وأنار باطنك بإشراقه، الشيخ من جمعك في حضوره، وحفظك في مغيبه (¬2). ¬
قال في لطائف المنن: وليس شيخك من سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عباراته، وإنما شيخك الذي سرت فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله، شيخك الذي أخرجك من سجن الهوى، ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلت فيه أنوار ربك، نهض بك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، ولا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه، فزج بك في نور الحضرة، وقال: ها أنت وربك ... انتهى، وهو عجيب. ثم اعلم أن هذا الأمر قد يجده الشخص من شخص فينتفع به، ويجد منه غيره نقيضه فيتضرر به، وقد يجده الجمع الكبير، وقد لا يجده إلا الواحد والاثنان، فكما أن من أرباب الأصلاب من يكون عقيما في الولادة، مع توفر قواه، كذلك من أرباب الحقائق والأحوال من يوجد عقيما مع علو مقامه، فتمسك بمن تنتفع به، ودع ما وراء ذلك، ولا تنتقل عنه ولو رأيت من هو أعلى منه، فتحرم بركة الأول والثاني، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم من المشايخ، بل من زيارتهم، فاعرف ذلك: خد ما تراه ودع شيئا تسمع (¬1) به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل وقد قال في الحكم: العبارات قوت لعائلة المستمعين، وليس لك إلا ما أنت له آكل، أي: ما انتفعت به، لا ما انتفع به غيرك، وقال (ص): "من رزق من باب فليلزمه" (¬2). اللهم إلا أن يعترض حق شرعي يمنع من وجود الاقتداء، لضرر يلحقك ¬
48 - فصل في أوصاف المدعين وحركاتهم وما يجري منهم وبسببهم.
في نفسك أو يلحق غيرك في دينه ودنياه، فلك في التخلف وجه، وهو تحقيق المناط، والتمسك بما لا خفاء به من أمر الأول كما تقدم، وبالله التوفيق. 48 - فصل في أوصاف المدعين وحركاتهم وما يجري منهم وبسببهم. وهم أنواع كثيرة لا تكاد تنضبط بزمام، قد تقدم منها جملة، ونذكر هنا ما تيسر في ذلك، فمنهم من يدعي العلم بالسنة، ويتعلقون بالأحاديث الباطلة، ويحملون الناس على العمل بها، فتنقاد لهم النفوس لغربة ما أتوا به، وعظيم ما يسمعون من ثوابه مع خفته، وقد تكلم على ذلك جماعة من العلماء، حتى لقد قال القاضي أبو بكر بن العربي (ض): اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله سلط على الخلق، لجهلهم بالحق، وحرصهم على الخير، قوما نالوا خدمة العلم وليسوا من أهله، فأدخلوا على النبي (ص) أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، وساقوها لهم في معرض الخير، وطريق الشر، ليلحقوهم بالأخسرين أعمالا، فكانوا بذلك من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن، فحذار أن يأخذ العامي إلا بما في كتب الإسلام الخمسة؛ البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي والموطأ (¬1) فإنه روحها وتاجها، ذكره في العارضة والسراج. ومنهم قوم يدعون مقامات الرجال، وهم خلو من العلم والعمل والحال، وإليهم يشير الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله حيث قال: عشرة وأي عشرة فاحتفظ بها: إذا رأيت رجلا يدعي حالة مع الله تخرجه عن أمر الشرع فلا تقربن منه، وإذا رأيت رجلا يركن إلى غير أبناء جنسه فلا تقربن ¬
منه، وإذا رأيت رجلا يسكن إلى الرئاسة والتعظيم فلا تقربن منه، ولا ترجو فلاحه، وإذا رأيت فقيرا عاد إلى الدنيا فلو مت جوعا فلا تقربن منه، ولا تركن إلى رفقه فإن رفقه يقسي قلبك أربعين صباحا، وإذا رأيت رجلا يستغني بعلمه فلا تأمنن جهله، وإذا رأيت رجلا يرضى عن نفسه ويسكن إلى وقته فاتهمه واحذره أشد الحذر، وإذا رأيت مريدا يسمع القصائد ويميل إلى المراثة (¬1) فلا ترجون فلاحه، وإذا رأيت فقيرا لا يحضر عند السماع، يعني سماع ما يلقى إليه، فاعلم أنه حرم بركات ذلك بتشتيت باطنه، وتبديل فهمه، وقد قال في الحكم: رب عبر عن المقام من استشرف عليه، وربما عبر عنه من وصل إليه، وذلك ملتبس إلا على صاحب بصيرة، فالكلام لا يدل على وجود المقام، لكن لكل شيء علامة ودليل. قال في الحكم: من أذن له في التعبير فهمت في مسامع الخلق عبارته، وحببت إليهم إشارته، وقال أيضا: ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار، وقال الشيخ أبو العباس المرسي (ض): كلام المأذون له يخرج وعليه حلاوة وطلاوة، وكلام غير المأذون له يخرج وعليه كسفة، حتى أن الرجلين يتكلمان بالحقيقة الواحدة فيتقبل من أحدهما وترد من الآخر، قلت: وربما ظهر ذلك من الشخص الواحد، فتقبل منه في محل وترد عليه في غيره، ومن علامة المدعي عدم انبساطه بزمام الحق وشواهد الحقيقة، فتجده تارة يدعي العلم، وتارة يدعي العمل، وتارة يدعي أنه من أهل الكرامات، وتارة يستظهر بأوصاف الأحوال، وقد يلتزم حالة واحدة لا ينتقل عنها، والصادق تختلف حركاته ولا يختلف قصده، ولا يختل أصله، بل ترد كل شيء منه لأصل واحد فينتظم، سواء في باب العلم أو العمل أو الحال، لأن الحق واحد وطرقه متعددة، والباطل متراجع كله، فافهم. قالوا: والمرائي يدوم على حالة واحدة أربعين سنة والصادق يتقلب في الساعة الواحدة أربعين مرة، مع لزومه العلم والأدب في كل ذلك. ¬
49 - فصل في الاعتقاد والانتقاد وطرق الناس فيه
ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر وقد قال سهل بن عبد الله (ض): احذر صحبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين، انتهى، وهو من أجمع الوصايا وأنفعها وأتمها وأحسنها في بابه، وبالله سبحانه التوفيق. ... 49 - فصل في الاعتقاد والانتقاد وطرق الناس فيه (¬1). قال الجنيد (ض): الإيمان بطريقنا هذا ولاية، قال ابن عطاء الله (ض): وذلك لأن الإيمان بالفتح لا يكون إلا بالفتح، وقال بعض الصالحين المتأخرين: الاعتقاد ولاية والاعتراض جناية، فإن عرفت فاتبع، وإن جهلت فسلم، وكان بعض المشايخ (ض) يقول: اعتقد (¬2) ولا تنتقد ولا تطمئن لأحد، وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): أكرم المؤمنين ولو كانوا عصاة فاسقين، وأقم عليهم الحدود واهجرهم رحمة بهم لا تعززا عليهم، ولا تقتد بمن يتورع مما تناله أيد المؤمنين ولا يتورع مما مسته أيد الكافرين، وقد علم ما نال الحجر من أيد المشركين فاسود لذلك (¬3) وقد تقدم قول عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك عمل رجل فقل: {اعملوا} ¬
إلى آخره، وقال في الحكم: إذا رأيت عبدا أقامه الله بوجود الأوراد، وأدامه عليها مع طول الإمداد، فلا تستحقرن ما منحه الله، لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا بهجة المحبين، فلولا وارد ما كان ورد. قلت: بل لولا وارد ما كان انتساب ولو كان صاحبه كاذبا، لأن وجود انتسابه شاهد لتعظيمه للجناب الذي انتسب إليه في نظره، ولذلك ما تعرض أحد قط لمنتسب لله بهوى إلا أصابه منه ضرر، (لأن الحق سبحانه يغار لهتك جنابه، إلا بأمر منه فإذا وقع المنتسب) (¬1) في أمر فيه حق من حقوق الله أقيم عليه الحد، وحفظت حرمته في نسبته، لحديث: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" (¬2) الحديث، وقد ورد في الخبر: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر، سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله؛ وخصلتان ليس فوقهما شيء من الخير، حسن الظن بالله، وحسن الظن بعباد الله" (¬3) ومما أنشد بعض المجاذيب في حكاية ذكرت عنه، وقد كان خاملا فيما قبلها، فاشتهر لذلك: ستبدو لك الأسرار بعد اكتتامها ... كأن الذي قد صانها عنك يخبر ¬
فسلم لهم فالقوم أهل عناية ... وخاملهم في الوصف لا يتحقر (¬1) وإن كنت يا هذا بهم متمسكا ... فتبقى بطول الدهر لا تتغير (قلت: وذلك انبساط حرمة الله عليهم، وحرمة الجناب إذا انبسطت لم تتوقف على من واجهته، بل تتعدى لكل من له منه نسبة والله أعلم (¬2)، وبالجملة، فالاعتقاد خير كله، والانتقاد شر كله (¬3)، والاغترار أصل كل غواية، والحذر أصل كل هداية، رقد جاء في الحديث ما يؤيد هذه الجملة مفرقا، غير أن مذهب الفقهاء تقديم سوء الظن للحذر، حتى يتحقق الرافع، ومذهب الصوفية تقديم حسن الظن، عملا بسلامة الصدر، حتى يتحقق الرافع، والحذر عند كل منهما واجب، لقوله (ص): "الحزم سوء الظن" (¬4)، و"المؤمن كيس فطن حذر" (¬5)، الحديث، وإذا كان الله حذر المؤمنين من بعض أزواجهم وأولادهم فكيف بغيرهم، فالحذر شأن ذوي العزم، لكن مع ¬
سلامة الصدر، وطلاقة الوجه، واستعمال المعروف بغاية الجهد، كما ورد معناه في الأخبار، فاعرف ذلك. ثم المنكر بحق كالمصدق بحق، لأن كلا منهما مستند لحق، هو ما أداه إليه اجتهاده الذي لا يجوز له تعديه، فلذلك قال الشيخ أبو العباس الحضرمي (ض) بعد كلام ذكره في الحقائق: والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه هو معذور، مسلم له حاله، من باب الضعف والتفصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائرة، ومشهده مشهد واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة، بحسب ما في الودائع الموضوعة، على أي نوع كان، انتهى. قالوا: وما مثال الفقيه إلا كبواب الملك، والصوفي المحقق صاحب سره، فإذا حدث الصوفي عن خبايا بيت الملك، نادى عليه الفقيه إنما أنت سارق أو كذاب أو متجاسر، فإن أتى بأمارة من الملك، وإلا فحجة البواب عليه قائمة، وإنكاره صحيح، فمن ثم صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولم يصح إنكار الصوفي عليه، فاعرف ذلك، ثم لا أعظم جهلا ممن يجعل سر الحق سبحانه موقوفا على زمان أو عين أو جهة، فتثبت الخصوصية في الجملة وينكرها في الأعيان، أو يثبتها للماضين وينكرها في الزمان، أو يثبتها في الزمان وينفيها في الأشخاص، قياما مع وجود وهمه الذي سد عليه باب فهمه، وهذا الأخير هو الغالب على الناس في هذه الأزمنة، لبعدهم عن الأفهام، وتعلقهم بالأوهام، فافهم. ثم أعظم منه جهلا من يغتر بكل من يراه، ويتبع كل معتقد ويعتمده في دينه قبل اختبار مرتبته من الدين، أو يطرح اعتقاده بما يظهر له من موانع الاقتداء، فإن لكل شيء وجها، وقد قال رسول الله (ص): "في كل واد من قلب ابن آدم شعبة فمن تتبع قلبه تلك الشعاب لم يبال الله في أي واد أهلكه" (¬1) ¬
50 - فصل في أنواع المعتقدة ووجوه الاعتقاد
الحديث، فعليكم باتباع الجادة واعتقاد أهل السنة والتسليم للسادة واحترام القادة، أعني حملة الشريعة وأهل العلم والديانة من غير غض ولا اغترار، وبالله التوفيق. ... 50 - فصل في أنواع المعتقدة ووجوه الاعتقاد وهم أنواع كثيرة لا يكاد يحاط بها لكثرتهم، لكن أمهاتها خمس: أحدها: طائفة اعتقدت وجود الخصوصية وثبوتها في الجملة، ولم تتعرض لنفي ولا لإثبات (¬1) لا في زمانهم ولا فيما تقدمهم، بل إذا ذكر الصالحون ومن في معناهم قالوا: نفعنا الله بهم وأعاد علينا من بركاتهم، وإذا ذكر الواحد بعينه قالوا: نفعنا الله بالصالحين، وهذه الطائفة سالمة إلا أنها ناقصة يضيق عطنها (¬2)، عن فهم الاختصاص في الآحاد والأشخاص، ولو لم يكن من نقصهم إلا حرمانهم من رؤية بعض أهل الاختصاص والدخول في حزبهم بوجود الموالاة. الثانية: طائفة اعتقدت وجود الخصوصية واختصاصها ببعض الأزمنة دون بعض، فإذا ذكر المتقدون قالوا: نفعنا الله بهم، وهكذا كان الناس يفعلون، وإذا ذكر أكبر أهل الوقت وأوفاهم حالا وعملا، قالوا: ما رأينا شيئا، هيهات، أين الناس؟ وهم أنقص حالا من الذين من قبلهم، لتخصيصهم الزمان وما علموا أن رب الأولين والآخرين واحد، و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" (¬3) إلى غير ذلك مما ينادي عليهم بالجهل والحرمان، والله أعلم. ¬
الثالثة: طائفة اعتقدت الاختصاص ببعض الجهات، فإذا ذكر صلحاء المغرب مثلا لم يقبلوا شيئا من أحوالهم، وإذا ذكر صلحاء المشرق، قالوا: نعم، أولئك هم الناس، من شأنهم كذا ومن شأنهم كذا، وبالعكس، وهذا لا تجده إلا في أهل كل جهة ينكرون من معهم ويعتقدون الغائب عنهم، لوجود الألفة بهذا، واستغراب هذا، وهو من قوة دائرة الوهم، وقد تكون من كون العصبية في النفس (¬1)، مما هو شأن أولاد المرابطين وذريتهم، والله أعلم. الرابعة: طائفة اعتقدت الاختصاص ببعض الصفات والأعمال، وأعظمهم في ذلك جماعة اعتقدت وجود العصمة في الولاية (¬2) فاطرحوا كل من رأوه موصوما بوصف البشرية، أو من وقع في أمر ربما يتنقص به حاله من مكروه أو شبهة، فحرموا بذلك من بركات ما عاينوه من السادة. وطائفة على العكس من هذا، اعتقدوا الإباحة للولي في كل ما يتناوله أو يأتيه، حتى لو رأوه على محرم ما أنكروا عليه، وربما دخل عليهم فيه بعض الناس، فكان ضالا مضلا، وهو فيما وقع فيه إما عاص إن وقع مرة بحسب غلبة الشهوة والقدر الجاري، أو فاسق إن تكرر منه ذلك ودام مع الإصرار، وذلك ينفي الولاية، أو صاحب حال يسلم له ولا يقتدى به، ويطلب منه حق الله، ولا يهزأ به، أو محكوم له بحكم المجانين في ظاهره، بحيث تسقط عنه الأحكام، ويعتنى به لما قام بقلبه. فقد قال بعض المحققين: ما زال يختلج في نظري أن المجذوب فاقد عقل التكليف، فكيف تنسب له الولاية، حتى فتح الله سبحانه: بأن العقل الذي ناط به الشرع التكليف، هو عقل تدبير المعاش، فإذا فقد عاد الإنسان كالبهيمة في العالم، يعرف مصالح جسمه الحالية دون غيرها، فصار له ¬
حكمها في سقوط الاعتبار، إلا أن العقل إن فقد بخيالات وهمية كان صاحبه مطرحا ظاهرا وباطنا، وإن فقد بحقيقة إلهية كان له حكمها، فيعظم صاحبها من حيث أنه صار محلا لمعنى شريف، ولأن تلفه كان في الله، فتعين تعظيمه لله تعالى كما تقدم (¬1). وقد قال رسول الله (ص) للمجنونة التي سألته الدعاء: "إن شئت صبرت ولك الجنة" (¬2) مع أنها اشتكت الانكشاف، فافهم. ويعرف حال المجذوب من المجنون بإشارتهما، فكل من أشار إلى حقيقة مجموعة فهو مجذوب، وإن كانت صورتها أجنبية عن مقصده، ومن تفرقت إشارته، فهو مجنون، {ولتعرفنهم في لحن القول} (¬3) فافهم الإشارة. واعلم أن ما يقع ممن له بقية من عقله ممن ثبتت له الخصوصية في نظر معتقده، لا يخلو إما أن يكون مما لا يباح بوجه، كاللواط والزنى بالمعينة وشرب الخمر إدمانا، ونحو ذلك، فهذا لا يصح تأويله، وهو فيه إما عاص غير فاسق إن وقع مرة، أو فاسق إن أصر عليه، وذلك لا يصرفه عن مرتبته إلا في الحال، لحديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" (¬4) أي: كامل الإيمان، وفيما بعد ذلك تعود حرمته بتوبته، فإن "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬5)، أن ¬
يباح بوجه ما، وذلك مما يحسن فيه التأويل على فاعله المعتقد بأن يكون إنما فعله لوجهه المباح، كأخذ مال من شخص، لاحتمال استحقاقه، وضربه لاحتمال وجوبه عليه، وقتله لاحتمال تعلقه عليه، هذا كله مع إقامة الحق الشرعي علميه، فلا يريبنك (¬1) الحق عن الاعتقاد ولا بالعكس، لأن كلا منهما حق، وأصل ما ذكرنا في ذلك مأخوذ من قصة الخضر وموسى عليهما السلام (¬2) وقد نبه عليه ابن عباد في رسالته الكبرى، فانظره. الخامسة: طائفة وقفت مع الصور دون الحقائق، فاعتقدوا أصحاب النواميس وكثرة الأعمال، وأصحاب الأحوال المستغربة من الأقوال المزخرفة، والأعمال المحرفة، التي بعضها ضلال، وبعضها محال، لكنهم قد يقعون على بعض من وافق ظاهره باطنه، وقليل ما هم، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها إفراد الوجه (¬3) فلا تكاد تجد صاحب ظاهر إلا خلا عن الباطن، ولا صاحب باطن إلا ناقصا في الظاهر، فإنه لا يلزم من العلم العمل، ولا من الحال بلوغ الأمل، وقل أن تظهر حالة على صادق في نهايته، بل في بدايته لغلبتها عليه، فلذلك تجد غالب الناس يعتقد المريدين والمبتدئين دون المشايخ، ولو كان العلم ضامنا للعمل ما ضل إبليس بعد علمه بالصراط المستقيم الذي هو الشكر، حتى قعد عليه، فقال: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} (¬4) بعد قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (¬5) وفي قصة بلعام وبرصيص وغيرهما (¬6) ما ينبه على ذلك، بل يصرح به، ¬
51 - فصل فيما يصنع من ادعيت له المشيحة وليس بأهل لها، ويخاف على من تعلق به أن يهلك في اتباع الجهلة، أو يتبطل جملة، لظنهم توقف الأمر على الشيخ مع اعتقادهم فقد هذه المرتبة، وهو مما عمت به البلوى في هذه الأزمنة.
فاعرف هذه الجملة حقها، واعتقد الخير في الكل مع اتباع الشرع في الكل، تجد السلامة مع الكل، وبالله التوفيق. ... 51 - فصل فيما يصنع من ادعيت له المشيحة وليس بأهل لها، ويخاف على من تعلق به أن يهلك في اتباع الجهلة، أو يتبطل جملة، لظنهم توقف الأمر على الشيخ مع اعتقادهم فقد هذه المرتبة، وهو مما عمت به البلوى في هذه الأزمنة. اعلم أن كل من اعتقد جهة رأى مشيختها، وظن أنها توصله، فيتعين على من اعتقد له ذلك، ولم ير نفسه أهلا لذلك، ولم يجد محيصا عنه، خمسة أمور: أولها: أن يبين لمن تعلق به حال نفسه، وأنه ليس بشخ ولا يصلح للمشيخة، ويظهر له دلائل ذلك من نفسه بما يسلمه ولا يرده حسب إمكانه (¬1) ويدله على من يصلح لذلك إن علمه ممكنا له، فإن أبى دخل معه على الأخوة الخاصة التي تقتضي وجود النصح بغاية الوسع وإسقاط الحق والكلفة، ويعامله بذلك، ويدعه وما اعتقد من مشيخة أو غيرها، لينتفع باعتقاده ويستريح معه في أخوته، فإنه متى نزل لاعتقاد المساواة لم ينتفع به، كما أنه إذا اعتقد الآخر وجود المشيحة تعدى في التصرف، فافهم. الثاني: تزله منزلة نفسه في الشفقة على دينه ودنياه، فلا يتركه لتساهل في الدين ولا لتضييق على النفس، ولا لتوسيع عليها، ولا لمخل بمروءة، ولا لتضييع في دنيا، ولا لإضرار في الحال، بل يكون مرآة له، يريه حسنه من سيئه، ليحمد الله تعالى على الحسن ويجد فيه، ويأنس به، ويستغفر من ¬
سيئه، ويتبرأ من فعله، ويعمل بما يصلح له، ويعينه في ذلك بما أمكنه من مال أو جاه، أو حال أو دعاء، أو نصيحة، أو علم أو عمل، أو حركة أو همة، أو غير ذلك، لأنه قد باع نفسه منه، فوجب حقه عليه، ولا خير في صحبة من لا يرى لك (مثل الذي ترى له) (¬1). الثالث: أن يرفع عنه كلفته بغاية جهده، بل يرفع عنه ما استطاع من الأمور اللازمة له، حسب إمكانه، فلا يكلفه بما يطيق، لأنه مشغل له عما هو أولى به، ولا بما لا يطيق إلا ألا يجد عنه مندوحة، ولا بما يحار فيه لأنه مشوش له، وهو إنما قصد لتفريغ قلبه من مشغلات الوقت، فمن شغله فقد جار عليه، إلا فيما يكون صارفا له عما هو به من تشتيت ونحوه، فافهم. الرابع: أن يتتبع جميع حركاته وسكناته بالنظر والبحث، تارة بسؤاله عن حاله، وتارة بالتفظن لدقيق حركاته، وتارة بالالتفات لتقلب حالاته، فلا يسمح له في شيء يخاف عليه عاقبته في دين ولا دنيا، ولا يناقشه فيما لا يتعلق به أدب من حقوقه، ولا يتم له ذلك إلا بمصافاة لا يكتم معها سرا، ولا يعصي معها أمرا، فيجب للتابع عليه كتمان سره حتى عن زواره، وإيثاره عن غيره. قيل لبعضهم: من نصحب؟ قال: من يعلم منك ما يعلمه الله منك (¬2) ويسترك كما يسترك الله، ويأمرك كما يأمرك الله، وينهاك كما ينهاك الله، فهو ينهاك ولا يقطع عنك إحسانه، ويأمرك ولا يعاجلك بالعقوبة إن خالفت، بل يرشدك ويمهلك ويعدك ولا يهملك، فاعرف ذلك وتأمله. الخامس: أن يسلك بك طريق الجادة، بأن يقرر فيه شروط التوبة، ويأمره بعلم حاله، وملازمة التقوى في حركاته وسكناته، وينبهه على مواقعها من نفسه، وآكد ما يجب منها عليه ليتمسك به، ويأخذه بما تحتمله قواه من ¬
52 - فصل في بيان طريق الجادة وما احتوت عليه من فائدة ومادة
الاستقامة، التي هي طريق السنة والجماعة في باب التحلي والتخلي، ويعرفه أنه في ذلك معه على لسان العلم في ذلك كله، لا على لسان التربية، وعلى طريق الأخوة لا على وجه المشيحة، ليبرأ من عهدة الدعوى، وتنتفي عنه العزة، ويتوسع صاحبه في الأدب، ويتأدب مع من يلقى بأكثر من غيره، وهو في ذلك كله يعتقد أنه متطيب لا طبيب، ومتشيخ لا شيخ، ومتعلم لا معلم، ومعين لا مفيد، وهذه صورة المشيخة، وقد تسمى به من حيث اصطلاح الوقت والحال فلا تضر، لأنها كما قال سيدي محمد بن عباد (¬1) في هذا المعنى وأجاد: مريدك والزمان وأنت شيخ ... قريب من قريب في قريب رزقنا الله القيام بحقوق الإخوان، وعافانا من كل جرم وهذيان، بمنه وكرمه. ... 52 - فصل في بيان طريق الجادة وما احتوت عليه من فائدة ومادة وطريق الجادة هو الذي لا ينكره ظاهر، ولا يستغني عنه باطن، يفتقر إليه المبتدئ في بدايته، ولا بد للمنتهي منه في نهايته، ومداره على أربعة أمور: أولها: تصحيح التوبة بإقامة شروطها الثلاثة، التي هي الندم على ما فات، والإقلاع في الحال، والنية أن لا يعود، وتحصيل فرائضها الأربع، التي هي رد المظالم، وقضاء الفوائت، واجتناب المحارم، وتعميم القصد. وكمالاتها الست التي هي: مصاحبة العلم، وملازمة العمل، وصدق التوجه، ودوام اللجا، واتهام النفس، وشدة الحذر. ¬
وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): ليكن همك ثلاثا: التوبة والتقوى والحذر، وقوها بثلاث: الذكر والاستغفار والصمت عبودية لله، وحصن هذه الستة بأربع: الحب والرضى والزهد والتوكل، وإذا فاتتك التقوى في الاستقامة فلا يفوتنك في التوبة والإنابة انتهى، وهو عجيب جامع لأصول التوجه فاعرف حقه. الثاني: تحقيق التقوى باتباع الأوامر والانكفاف عن الزواجر، وهو معنى اجتناب المحارم المذكور في التوبة، فبين التقوى والتوبة تداخل، غير أن منتهاها مبتداه، ومنتهاه (¬1) ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس، بل ترك ما يحيك في الصدر، لقوله (ص): "الإثم حزاز القلوب" (¬2) ولا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما حاك في الصدر، وقال (ص): "التقوى هاهنا" (¬3) وأشار إلى صدره، وحاصل هذا الباب ترك المحرمات المشهورة المتفق عليها، والتحفظ في ذلك حتى تنطع به النفس، ثم الاعتناء بترك الشبهات حتى لا يقبلها القلب، تم التبرؤ من مواقع الاشتباه بالإمكان، وهي درجة الورع، رزقنا الله ذلك بمنه وكرمه. الثالث: وجود الاستقامة في جميع الأحوال باتباع السنة دون تأول ولا ترخص، ولا تشديد يخرج عن الحق، بل بإقامة الحقوق، والإعراض عن كل مخلوق، ومدار ذلك على أربعة أمور: ضبط الأوقات، والتحرر من الآفات، والتحصن من التقلبات، والتأدب مع الحالات. ¬
فضبط الأوقات بمراعاة كل ما يليق به (¬1) وقد قال (ص): "إن مما في صحف إبراهيم: وعلى العاقل أن تكون له أربع ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين شهواتها المباحة، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يبصرونه بعيوبه ويدلونه على ربه" (¬2). قلت: فساعة المناجاة من السحر إلى طلوع الشمس، وساعة المحاسبة من العصر إلى المغرب، وساعة الإخوان ساعة الفراغ من الضروريات، وأحسنها بعد الظهر، فإن عدم شرطهم فكتاب يقوم مقامهم، وما عدى ذلك فللأمور المباحة، هذا ما دلت عليه السنة، والله أعلم. والتحرز من الآفات بمراقبة الحركات والسكنات، إذ لكل وقت سهم من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية، وهو أربعة لا خامس لها. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): العاقل من عقل عن الله ما أراد به ومنه شرعا، والذي يريد الله تعالى بالعبد أربعة أشياء: ¬
إما نعمة، أو بلية، أو طاعة، أو معصية، فإذا كنت في النعمة فالله تعالى يقتضي منك الشكر شرعا، (وإذا أراد الله بك البلية فالله تعالى يقتضي منك الصبر شرعا) (¬1)، وإذا أراد الله بك الطاعة فالله تعالى يقتضي منك شهود المنة شرعا، ورؤية التوفيق شرعا، وإذا أراد الله منك معصية فالله تعالى يقتضي منك التوبة والإنابة شرعا، فمن فعل ذلك فهو عبد على الحقيقة، بدليل قوله (ص): "من أعطي فشكر، وابتلي فصبر، وظلم فغفر، وظلم فاستغفر"، ثم سكت، قالوا: ماذا له يا رسول الله؟ قال: "أولائك لهم الأمن وهم مهتدون" (¬2). قال سيدي أبو العباس المرسي (ض): أولئك لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا (¬3). قلت: وهذه المعاملات لا تصح إلا بقلب حاضر للحركات، أو متيقظ للوقائع بعد النزول، فاعرف ذلك فإنه مهم. والتحصن من التقلبات إنما هو بتبعيد القلب عن المألوفات، وهي أربعة: الشبع، والنوم، والكلام، والخلطة. قال ابن القسطلاني (¬4) (ض) ناقلا عن أحمد بن عاصم الأنطاكي (¬5) (ض): أعداؤك أربعة: الدنيا، وسلاحها لقاء الخلق، وسجنها العزلة، والنفس، وسلاحها النوم، وسجنها السهر، والشيطان، وسلاحه ¬
الشبع، وسجنه الجوع، والهوى، وسلاحه الكلام، وسجنه الصمت. قلت: وفي كل هذه آفات لا ينتبه لها إلا حازم يعامل كل شيء على قدر الحاجة إليه، فلا يفرط ولا يفرط، لأن الإفراط مضر كالتفريط، والخير كله في التوسط، فيتعين العمل عليه، وذلك بأن يكون كل واحد أهم، لا أنه ينفرد لمقابله، لأن آفة الترك كالفعل، ومن كان الجوع أهم إليه من الشبع، لم يأكل فوق ما يكفيه، ومن كان السهر أهم إليه من النوم، لم ينم فوق ما يحتاج إليه، ومن كان الصمت أهم إليه من الكلام، لم يتكلم فيما لا يعنيه، ومن كانت الخلوة أهم عليه من الجلوة، تفرغ لما يريده، ومن لم تكن هذه من همته، فقل أن يصلح حاله، وإن صلح فلا يدوم، وإن دام فلا يجد له أثرا، فقد قال بعض السادة: من يكثر الأكل، لا يجد للطاعة لذة، ومن يكثر النوم، لا يجد للعمر بركة، ومن يطلب رضى الناس، فلا ينتظر رضى الله، ومن يكثر الكلام بفضول أو غيبة، فلا يخرج من الدنيا على الإسلام (¬1). والتأدب في الحالات جار بحسبها، وأهم ما في ذلك قد جمعه الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض) حيث قال: أربعة آداب إذا خلا الفقير المتجرد عنها، فاجعله والتراب سواء: الرحمة للأصاغر والحرمة للأكابر، والإنصاف من النفس، وترك الإنصاف لها. وأربعة آداب إذا خلا الفقير المتسبب عنها فلا تعبأن به، وإن كان أحدهم أعلم البرية؛ مجانبة الظلمة، وإيثار أهل الآخرة، ومواساة ذوي الفاقة، ومواظبة الخمس في الجماعة. وقال (ض): أوصاني حبيبي (¬2) فقال: لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطفي لنفسك إلا من تزداد به يقينا، وقليل ما هم. ¬
قال بعض المشايخ يوصي بعض إخوانه: عليك بالذكر عند البسط، وبالفكر عند القبض، وبالحمد على كل حال، ووردك لا تغفل عنه، إن فاتك بالليل أخلفه بالنهار، وإن سافرت فاجعل وردك في الذكر، أو اتركه على حاله، ولا تغفل عن طلب العلم، فبه يصعد السعيد إلى المراتب العلية، وبالعمل يثبتون عليها، وقد صح أن العلم يفيد الكمالات، كما أن العمل الصالح يحفظها، والزمان الذي يتوسط لك بين أوقات الواجبات تصرفه في العمل الصالح على أي وجه كان، واجعل أكثره في طلب العلم، وصل صلواتك الخمس في جامع الخطبة، ولا تعاشر أحدا قبل إخوانك، واهجر منهم من أهمل الأدب، حتى يستغفر الله عز وجل، وعليك باحترام كل مسلم، ولا تسمح في قليل المنكر ولا كثيره، وأقل من البسط فإنه يجذب السالك إلى خلف، ويخرب على الواصل نظام كماله الأول، والله يديم تناولكم العافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه، والسلام. الرابع: رفع الهمة عن الخلائق، وإشخاص القلب للحقائق. ومقدمة ذلك: بصيرة نافذة وأنوار متزايدة نشأت، عن بصيرة مستقيمة، وآداب سليمة، وقد سئل الجنيد (ض): كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى؟ قال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يزيل التسويف، ورجاء يبعث السالك على العمل، وإهانة النفس بقربها من الأجل، وبعدها من الأمل، قيل له: فبماذا يصل العبد إلى هذا؟ قال: بقلب مفرد، فيه توحيد مجرد. وقال الشيخ أبو الحسن (ض): عمى البصيرة في ثلاثة أشياء: إرسال الجوارح في معاصي الله، والتصنع بطاعة الله، والطمع في الخلق، فمن ادعى البصيرة مع واحدة من هذه فقلبه هدف لظنون النفس ووسواس الشيطان، وقال (ض) اجعل التقوى وطنا، ولا يضرك مرح النفس ما لم تصر على الذنب، أو ترضى بالعيب، أو تسقط منك الخشية بالغيب. وقال أيضا (ض): من فارق المعاصي في ظاهره، ونبذ حب الدنيا من باطنه، ولزم حفظ جوارحه، ومراعاة سره، أتته الزوائد من ربه، ووكل به حارس يحرسه من عنده، وجمعه في سره، وأخذ الله بيده خفضا ورفعا في جميع أموره، قال: والزوائد زوائد العلم واليقين والمعرفة.
وقال (ض): سمعت قائلا يقول: ما صبر من أفشى (¬1) ولا سلم من تكلف، ولا رضي من سأل، ولا فوض من دبر، ولا توكل من دعا، وهي خمس، وما أحوجك لهذه الخمس أن تموت عليها، وقل: {ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (¬2) فزدني من فضلك وإحسانك، واجعلني من الشاكرين لنعمائك. وقال (ض): رأيت الصديق في المنام، وقال لي: تدري ما علامة خروج حب الدنيا من القلب، قلت: لا، قال؛ بذلها عند الوجد، ووجود الراحة عند الفقد، وقال (ض) يحكي عن أستاذه (¬3) رحمه الله في قوله (ص): "يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا" (¬4) أنه يعني: دلوهم على الله ولا تدلوهم على غيره، فإن من دلك على الدنيا، فقد غشك، ومن دلك على العمل، فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك، وفي الخبر: ليس الزهد بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، إنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك. وقال الشيخ أبو الحسن (ض): قف بباب واحد لا لتفتح لك الأبواب، تفتح لك الأبواب، واخضع لسيد واحد لا لتخضع لك الرقاب، تخضع لك الرقاب، قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} (¬5). وقال أيضا (ض): يئست من نفع نفسي لنفسي، فكيف، لا أيأس من نفع غيري لنفسي، ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي، وسئل عن الكيمياء (¬6) فقال: اقطع طمعك من الله أن يعطيك غير ما قسم لك، ¬
ومن الخلق أن ينفعوك أو يضروك، وقال (ض): من طلب الحمد من الناس بترك الأخذ من الناس، فإنما يعبد نفسه والناس، وليس من الله في شيء، وقال أيضا: لأن يغنيك الله عن الدنيا خير لك من أن يغنيك بها، فوالله ما استغنى بها أحد قط، وكيف يستغنى بها بعد قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (¬1). وقال: كل شهوة تدعوك إلى الرغبة في مثلها، فهي عدة الشيطان وسلاحه، وكل شهوة تدعوك إلى طاعة الله والرغبة في سبيل الخيرات، فهي محمودة، وقال (ض): أشقى الناس من يحب أن يعامله الناس بكل ما يريد، وهو لا يجد من نفسه بعض ما يريد، فطالب نفسك بإكرامهم، ولا تطالبهم بإكرامهم لك، {لا تكلف إلا نفسك} (¬2). وقال (ض): أوصاني أستاذي رحمه الله فقال: الله الله والناس، نزه لسانك عنهم، وقلبك عن التماثيل من قبلهم، وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك، فلا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك، وقد تم ورعك، وقل: اللهم أرحني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم، واغنني بخيرك عن خيرهم، وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير انتهى، وهو عجيب، وكذا كل ما قبله، وهي جملة جامعة لوجوه الآداب وأصول التحقق في رفع الهمة، فتمسك بها حتى يأتيك الفتح من الله مجردا عن الوسائط، أو بواسطة ولي من أوليائه، وهو أتم لمن قضي له به، وبالله سبحانه التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... ¬
53 - فصل فيما يستعان به على سلوك طريق الجادة من العلوم والقواعد والكتب المفيدة
53 - فصل فيما يستعان به على سلوك طريق الجادة من العلوم والقواعد والكتب المفيدة اعلم أن أصول القوم دائرة على قواعد أربع: أحدها: اتباع السنة بالأدب، وهي داخلة في العقود والقصود والأقوال والأفعال، والظواهر والبواطن، وتحقيق ذلك من كتب التوحيد بتحرير الاعتقاد وتأييده، وكتب الفقه بتحقيق المناط وتحريره، وذلك مبثوث في كتب المحاسبي، ومدخل ابن الحاج، ومن جرى مجراهما من الأئمة. الثاني: شهود المنة باستصحاب الشكر، ويجري ذلك في الجلب والدفع دينا ودنيا، علما وعملا وحالا، وعليه مدار طريق الشاذلية، وتحريرها في كتب ابن عطاء الله، وزبدتها في رسائل ابن عباد وشرحه، وما جرى مجرى ذلك. الثالث: الإعراض عن الخلق وعن كل شيء منهم، حتى عن نفسك التي بين جنبيك، وذلك مبثوث في كتاب (منهاج العابدين)، و (بداية الهداية) (¬1) بوجه يجمع الظاهر والباطن في ذلك، ولابن عطاء الله إلمام به من حيث الباطن، والله أعلم. الرابع إفراد الوجه لله سبحانه، وهو مقصود كل قوم بما أرادوه من طريقهم، لكن دخول الشاذلية فيه بأول قدم، وعليه دار كلامهم، قياما بقوله (ص): "واعبد الله كأنك تراه" (¬2) كما عمل غيرهم على أنه يراك والكل في بيان (¬3) الحق بالصدق، والله أعلم. وقد أشبع في ذلك ابن عطاء الله (ض)، ونقح وهذب وحرر المقصود ¬
منه، لا سيما في كتابه (التنوير في إسقاط التدبير)، فإن فيه ما في كتب الصوفية المطولة والمختصرة، مع زيادة البيان واختصار الألفاظ، والمسلك الذي سلك فيه مسلك توحيد لا يمكن لأحد إنكاره ولا الطعن فيه، ولا يدعى للمتصف به صفة حميدة إلا أكسبه إياها، ولا صفة ذميمة إلا أزالها عنه وطهره منها، كذا قال سيدي أبو عبد الله محمد بن عباد رحمه الله في رسائله، وصدق (ض)، وقال في (التنبيه) (¬1): تحصيله متعين على كل مريد نجيب، وقال (¬2) في (فصول السلمي (¬3) في عيوب النفس): صغير الجرم عظيم الفائدة والعلم أو كلاما هذا معناه، وأثنى على نصائح المحاسبي ثناء عظيما، ثم قال: وقد كان أوحد زمانه علما وعبادة، ونخبة أوانه ورعا وزهاده، سيدي الحاج أبو العباس أحمد بن عاشر رحمة الله عليه ورضوانه، يكثر من التحريض على مطالعة ذلك الكتاب، والعمل بما تضمنه من حق وصواب، قال: وأظنني سمعته ذات يوم يقول: لا يعمل بما فيه إلا ولي، أو كلاما هذا معناه، فليتخذ المريد مطالعته وردا، وليحرص على العمل بما تضمنه مستعينا بالله تعالى، وسائلا منه توفيقا ورشدا، لينصح لمولاه في مراعاة إصلاح باطنه، والقيام على قدم الصدق في مواطنه، وليجعل هجيراه مطالعة كتب التصوف، وموالاة أهله بالتألف والتعرف، فبذلك تتقوى أنوار إيمانه ويقينه، وتنتفى عنه العزة في العمل بوظائف دينه، ولا يقدم على ذلك إلا فرض العين وما يستجم به نفسه من التعب والأين، ولا يشغل نفسه بعلم يغير في وجه مقصوده، ويوجب له انتكاث مواثقه وعهوده، وهو ما أكب الناس عليه اليوم، وحادوا به عن سنن القوم، حتى تطرق لهم بذلك من رذائل الصفات، وعظائم الآفات، ما أصارهم إلى الهلاك والشقاء، وأعقبهم النفاق في قلوبهم إلى يوم اللقاء، وسجل عليهم بالكذب في دعواهم أنهم قاصدون بذلك رضى مولاهم، فإياك وإياهم. ¬
54 - فصل في العلوم النورانية والظلمانية والمتشابهة
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي قلت: وما وصفه من العلوم الناقصة المنقصة يدخل فيه الاشتغال بدقائق علوم القوم، من حيث ما يقصر به، لا من حيث هو. وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض) من لم يتغلغل (¬1) في هذه العلوم مات مصرا على الكبائر وهو لا يعلم، يعني: علوم القوم الدالة على الآداب والمعاملات، والله أعلم. وقال: كتاب الأحياء يورثك العلم، وكتاب قوت القلوب يورثك النور. قلت: ولا ينتفع بهما إلا من له أصل من غيرهما يرجع إليه بهما، لاتساع موردهما وموقعهما، وبالله سبحانه التوفيق. 54 - فصل في العلوم النورانية والظلمانية والمتشابهة وذلك بحسب القصد والفيض والهمة، ومقاصد العلوم ومراصدها، فكل علم خبث قصده، وخبث القصد به، فهو ظلمة، وكل علم حسن القصد به، وقصده فهو نور، وكل علم حسن قصده، وخبث القصد به، كان ظلمة بوجه قصده، نورا بعين مقصوده، فلذلك قال الحسن (¬2) (ض): ما قصد هذا العلم أحد إلا كان حظه منه ما أراده، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): العلوم على القلوب كالدراهم والدنانير في الأيدي، إن شاء الله نفعك بها، وإن شاء ضرك معها، قال رسول الله (ص): "والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها" (¬3). ¬
وسئل الجنيد (ض) عن العلم النافع فقال: هو أن تعرف ربك ولا تعدو قدرك، قال في (التنوير): والعلم النافع، هو الذي يستعان به على طاعة الله، ويلزمك المخافة من الله، والوقوف على حدود الله، وهو علم المعرفة بالله، ويشمل ذلك العلم بالله والعلم بما به أمر الله، إذا كان تعلمه لله، وقال في موضوع آخر: الذي يطلب العلم لله إذا قيل له: غدا تموت، لا يضع الكتاب من يده. قلت: وذلك لقيامه بحق وقته، وخلوه عن الفضول حتى لا يرى أفضل مما هو فيه، فاختار أن يلقى الله عليه، والله أعلم. والعلوم المعينة على تنوير القلب أربعة: أولها: علم التوحيد والإيمان، وأقل ما يجزئ منه عقيدة مجردة عن البرهان، محررة في البيان، كترجمة العقيدة للإمام الغزالي (¬1)، وما جرى مجراها، وأوسطه ما في رسالته القدسية، وأعلاه معرفة أصول المذهب الحق وقواعده، وأضر ما فيه فرض الشبه والاشتغال بأنواع التأويل من غير احتجاج لذلك، لأنه مشتت للقلب، مشوش للذهن، موهن للإيمان، مضعف لحرمة الربوبية من القلب، إلا في حق كامل منتصر للشريعة بما أوتيه من العلم والبيان، فيقوم بذلك دفعا لأهل الاعتراض، ومداواة لذوي القلوب المرضى، لا لخلي سليم غير محتاج إليه، ولا قادر على القيام عليه، والله أعلم. الثاني: علم الفقه والأركان، وأقل ما يكفي فيه معرفة عقود الأبواب وشروطها، وأوسطه ما يتسع به النظر في الأحكام، وأعلاه ما تثبت به الحجة والمحجة من العلم، بالتوجيه والتنظير والدليل والتعليل، وأنواع التقسيم إلى غير ذلك، وأضر ما فيه التشدق (¬2) في المجالس، وتشتيت، ¬
الذهن بالخلافيات، واتساع التأويل في الحركات، ورؤية النفس بالتحصيل، مع مصاولة الأقران ومكائد الإخوان، والاشتغال بوجوه الهذيان، فتعلم مستمعا ساكتا، مقتصرا على محل الفائدة، متبرئا من الدعوى ورؤية النفس، تسلم من آفاته، وبالله التوفيق. الثالث: علم التصوف والأحوال، وفائدته تحقيق العبودية، والنظر في وجه تعظيم الربوبية، بإقامة الحقوق، والإعراض بالحق عن كل مخلوق، وأقل ما يجزئ فيه (بداية الهداية) للغزالي، وأوسطه منهاجه أو بعض كتب المحاسبي، وأعلاه كتب ابن عطاء الله ومن نحا نحوه، وأما كتب الحاتمي (¬1) وابن سبعين وابن الفارض (¬2) وأبي العباس البوني (¬3)، ومن جرى مجراهم، فلها رجال لهم في الحقائق مجال، وعندهم في التمييز مقال، فلا يشتغل بها في البداية إلا غوي، ولا في النهاية إلا خلي، ولا في التوسط إلا ذكي (¬4) يأخذ بما بان رشده، ويسلم ما وراء ذلك، ليسلم من آفاته، وما هو إلا كما قال بعضهم في ترجمة من كتاب له: بحر طامس، يحتاج لبحري غاطس، وقد أولع به قوم فضلوا وأضلوا، وفارقوا العمل بما توهموه، فزلوا وربما ادعوا ما فهموه أو تنسموه حالا لأنفسهم، فافتضحوا بشواهد الأحوال، كما قيل: من تحلى بحلية ليست فيه ... فضحته شواهد الامتحان ¬
أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه. الرابع: علم الإيضاح والدلالة والبيان والتحقيق، ومداره على أربعة: العربية، لغة ونحوا وما يجري مجراها، والمراد بها ما يقع به الفهم والتفهيم على أتم الوجوم بأقرب ما تحصل به، فهي كالملح إن كثر ضر، وإن قل فسد الطعام بنقص لذته، بل عدمها، والله أعلم. والاصطلاحات الحديثية والفقهية وغيرها لا سيما اصطلاح الصوفية، فإنه مهم لغرابة ألفاظه، ودلالته على معانيه الواضحة المعروفة عندهم، التي من جهلها اعترض بالباطل، أو بقي جيده من التحقيق عاطلا، فمعرفة الاصطلاحات لازم بكل حال، والله أعلم. وفقه الحديث لتعرف مواقعه، وعلم التفسير كذلك، ولكل منهما ظاهر وباطن، وحد ومطلع، فالظاهر للنحاة والقراء، والباطن للمفسرين وأصحاب المعاني، والحد للفقهاء والعلماء، والمطلع للعارفين والأولياء، ولا تصح رتبة دون التي قبلها، والله أعلم. والعلوم التي حواها الكتاب والسنة في الجملة ثمانية: علم اللسان وهو العربية، وعلم الأديان وهو التوحيد، وعلم الأركان وهو الفقه، وعلم الأبدان وهو الطب، وعلم الحساب وهو التنجيم، وعلم السلطان وهو السياسة، وعلم الإخوان وهو علم المعاشرة، وعلم الجنان وهو التصوف، ولكل علم منها مشرب وحقيقة، وعلى المريد منها حظ في العبودية لا بد له منه، ونوع من الفتح على حسب ما أهل له، فاعرف ذلك، تجده إن شاء الله، وبالله التوفيق، وإذا علمت العلوم المنورة فقد بانت لك العلوم المكدرة، ولا يسع هذا المختصر أكثر من هذا، والسلام. ***
55 - فصل في الاكتفاء بالكتب في سلوك الطريق وعدمه، وكذا المشيخة والتعلق بالأموات
55 - فصل في الاكتفاء بالكتب في سلوك الطريق وعدمه، وكذا المشيخة والتعلق بالأموات أما الاكتفاء بالكتب فقد وقعت في آخر المائة الثامنة بين فقراء (¬1) الأندلس فيها مشاجرة، حتى تضاربوا بالنعال، ثم كتبوا إلى البلاد واشتهرت مسألتهم، فأجاب فيها كل أحد على قدر نظره. فكان جواب سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله: إن ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب لمن له ذكاء وعقل، وشيخ التربية يكون واجبا في حق الغبي متأكدا في حق غيره، لأنه إن وصل بلا شيخ لم تفارقه رعونته وإن بلغ ما بلغ. وعند الإمام الغزالي في (المنهاج): قد يكون ذلك بلا شيخ ولكن الشيخ فاتح. وأجاب ابن خلدون (¬2): بأن ذلك يختلف باختلاف المجاهدات، فمجاهده التقوى لا يحتاج فيها إلى شيخ، ووجوده أحسن، ومجاهدة الاستقامة يكون فيها آكد، ومجاهده الكشف أعني تجريد الحقيقة النفسانية لتمكين الحقيقة الإيمانية هو فيه واجب، لعدم العلم بهما، أو لما يطرأ فيهما من شبه ووقائع، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، لأن التقوى معلومة والسنة مشهورة، وخبايا النفوس وتحف الحق غير معلومة ولا معروفة، ولا بد فيها من عالم يرجع إليه في معالمها، وأصله رجوعه (ص) في عرض ما أتحف به من مبادئ الوحي على ورقة (¬3) (ض)، حيث كان عالما بذلك، والله أعلم. ¬
وأما المشيخة فتكتفي بذي الطريقة السديدة في المقامين الأولين، لأن الثالث يحتاج إلى همة عالية، وحالة سامية، وذوق صحيح، وعلم واسع، ونظر دقيق، وإن كان المتشيخ على طريقة ناقصة، فإن كانت بينة الغي أو بقاؤه معه (¬1) مضرا بالعبد في دينه أو دنياه، بالاغترار به ونحوه، فيفارقه ويتبع الجادة، ويتمسك مما أمره به بما يوافق الحق، وإلا صحبه على ما هو عليه، وتحفظ منه، لأن تغيره عليه بعد تعلقه به يوجب ظهور أثر فيه بحكم سنة الله تعالى وإن كان كاذبا في حاله، ومن هذا الوجه ظهرت آثار على جماعة من المدعين في معتقديهم دون غيرهم، ولذلك أصل ليس هذا محل تقريره فنقتصر دونه، ثم المريد ينتفع بصدقه وإن كان الشيخ مخالفا، ما لم يتبعه في مخالفته، فيضل أعظم من ضلاله، فاعرف هذا الأمر حقه، فإنه مهم، واعتبره بقصة الخضير (س)، إذ لم يأمر موسى (س) بما يفعله، ولا شرط عليه (قبوله إن أمره به) (¬2) بل شرط الصبر عليه وأنكر منه الإنكار لما التزمه من وجود الاصطبار، والله سبحانه أعلم. وقد نبه الغزالي على ذلك في (بداية الهداية) فانظره. وأما التمسك بالأموات فهو من قلة الاعتقاد في الأحياء، وذلك من نقص الهمة، اللهم إلا أن يكون ذلك على سبيل التعرض لنفحات الرحمة بالزيارة لطلب الزيادة، فمدد الميت أقوى من مدد الحي، لأنه في بساط الحق، ولأن التعلق به عري عن الأغراض والعوارض، من الاستئناس ونحوه، كما قال لنا شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض)، وكرامة الله لأوليائه لا تنقطع بموتهم، بل ربما زادت كما هو معلوم في كثير منهم، وسيأتي هذا النوع إن شاء الله تعالى، والسلام. ... ¬
56 - فصل في أنواع المتعلقين بالمشايخ والمتشيخة وأنواع الطرق وذلك بحسب المتمسكين
56 - فصل في أنواع المتعلقين بالمشايخ والمتشيخة وأنواع الطرق وذلك بحسب المتمسكين وهم ثلاث طوائف: أولها: طائفة المحبين، وحقهم وجود المحبة، لأن جزاء المحب أن يحب، ومن لوازم المحبة وجود الشفقة على كل حال، والإكرام بكل وجه، فيأمره بما يزكيه، وينهاه عما يؤذيه، ويوقيه مما يرديه، ويقيده بما ينفعه في دينه ودنياه، حسب إمكانه قياما بحق وده على قدره. الثانية: طائفة المنتسبين وحقهم وجود الاحترام، لأن حفظ الحرمة يقابل بكريم الخدمة، ولذلك أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض) بقوله في حزبه الكبير: من قرأه فله ما لنا وعليه ما علينا، أي: له ما لنا من الحرمة، وعليه ما علينا من الرحمة، قاله ابن عباد رحمه الله. الثالثة: طائفة الصادقين، وحقهم وجود السياسة، وحفظ الرئاسة، والقيام بالنصيحة، والتحذير من كل شنيعة وفضيحة فيما لهم وعليهم، وهي المرتبة التي يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتحقيق المناط في جميع المواقف، لأن مطلب صاحبها الكمال، وكل ينال من الحق بنيته على قدر همته، فالمحب محبوب، والمنتسب محترم، والصادق مصان، ولن يجعل الله لأحد على وليه من فضيلة، بل يجازيه عليها ما هو أعظم على قدر حاله، فافهم. وحق الشيخ ومن يقوم مقامه أن يطالب كل أحد بما تقتضيه قواه، من غير زائد على ذلك، فالعامي بالتقوى، والفقيه بالاستقامة، والمريد بالصدق، والعارف بالورع، إذ عامي لا تقوى له فاجر، وفقيه لا استقامة له مقصر، ومريد لا صدق له متلاعب، وعارف لا ورع له ناقص، ومطالبة الشخص بخلاف ما تقتضيه قواه جور عليه، وللرجال في أوصاف النفوس ومعاملاتها مجال رحب، أحسنه النظر في حقائق النفوس، والعمل على مقتضى حالها، ولهم في ذلك ثلاث طرق:
الطريق الأول: طريق المغاربة، ومبناه على أوصاف النفوس المركبة فيها، وما أفسد حسنها وقوي سيئها، فإذا عرفوا ذلك قابلوه بما يصلح لإزالته أو إضعافه، وجريهم في ذلك على طريق أصحاب التدبير، مستندين لقوله (ص): ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)) (¬1)، الحديث، قالوا: فأصل النفوس كلها الطهارة والاستقامة، كما أن أصل المعادن الذهب والفضة، ودخلت على هذه أوصاف البشرية المناقضة للعبودية، فأفسدتها كما دخلت الكباريت على الأخرى فأفسدتها، فيحتاج إلى النظر في تمييز العيب، ثم العمل في إزالته بوجهه الخاص به على مراتبه وترتيبه. الطريق الثاني: طريق أهل اليمن، وهو أنهم يرون القلوب أراضي، فمنها ما يصلح للحرث، ومنها ما يصلح لاستجماع الماء، ومنها ما لا يصلح لشيء من ذلك، فيعاملون كلا بما يليق به، عملا بقوله (ص): ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرض)) (¬2) الحديث، وبقوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} (¬3) الآية، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فيحتاجون إلى تمييز الصالح من غيره، وحينئذ يلقون فيه ما يليق به من البذور، ويعملون فيه بما ينميه ويصلحه. الطريق الثالث: طريق الأعجام، وهو أنهم يرون القلوب أواني، فينظرون لما ألقي فيها، فينمونه، لقوله (ص): ((القلوب أواني الله، فخيرها ما رق وصفا، وشرها ما غلظ وجفا)) (¬4) الحديث، ولذلك كان مشايخهم ¬
57 - فصل في أنواع النفوس عند المغاربة وكيفية المعاملة فيها
يختبرون المريد، فإن وجدوه خليا طردوه، وعلى ذلك حكايات المشايخ في قولهم: من لم يكن فيه كذا، أو لم يصبر على كذا، فالزموه السوق (¬1). وكان السهروردي رحمه الله تعالى، إذا جاءه المريد عرض عليه الأسماء الحسنى، فإن تأثر عند واحد منها سلكه به، وإلا أعاد عليه إلى الثلاث، فإن لم يتأثر صرفه عنه في الحال، لاعتقاده أن العمل فيه تعب بلا حاصل، ولكل طريق من هذه الطرق تفصيل نذكر بعضه الآن، وبالله التوفيق. ... 57 - فصل في أنواع النفوس عند المغاربة وكيفية المعاملة فيها وذلك أنهم يرون غالب النفوس كالمعادن السبعة المطرقة، التي يدخلها الانفعال بما يلقى إليها، فتعود لأصلها. فالنفس الأولى: كالذهب في صفائها وخلوصها ونفعها وخاصيتها، وهي الخالية عن الشوائب والشواغب المحبوبة بالطبع، النافعة بمجرد الرؤية والصرف، لكنها ناقصة باعتبار ما فوقها، إذ لا تقلب عينا كالإكسير، ولا تقيم شيئا (¬2) فتحتاج للرياضة حتى تتضاعف قواها، فتصير إكسيرا لا تقع على شيء إلا قلبت عينه، لما هي به أو لما يراد منه، وهذه رتبة الولي الذي إذا أراد أغنى، وإذا نظر نفع. الثانية: نفس كالفضة في النقاء والصفاء والخلوص، ولكنها غير متمكنة فيه، لخفة وزنها، ورقة عينها، وقلة زينها، ووجود انفعالها بالمخالطة، حتى ينقص خاصيتها، فتحتاج إلى ما ينقلها عن ذلك للرتبة التي ¬
فوقها، بأن تصير جاذبة لما هي به كالإكسير، وكاملة كالذهب، لا تؤثر فيها العوارض ولا غيرها، وهذه رتبة العارف الذي إذا توجه نفع، ويصل إليها بالرياضة وصدق التوجه، والله أعلم. الثالثة: نفس كالحديد، صالحة للنفع والرفع، غير أنها مصحوبة بسواد الشهوات والمعاصي، وقساوة الغفلات والكبر، فتحتاج إلى التطهير حتى تصير خالصة، ثم إلى التليين حتى تصير منطبعة قابلة للخاصية الفضية، ثم الخاصية الذهبية، وهذه نفوس أكثر المغاربة من المصامدة ومن جرى مجراهم، إلا من حفظه الله، وقليل ما هم. الرابعة: نفس كالنحاس، وفيه ما في الذي قبله بزيادة النتن، وهي تزكية النفس ورؤيتها أهلا للكمالات، فتحتاج للتطهير بالتقوى، ثم للتليين بالتواضع والحضور، ثم للتنقية برؤية المنة لله سبحانه، وحينئذ يصلح لأن يكون فضة خالصة، أو ما يقرب منها، فافهم. الخامسة: نفس كالرصاص، وفيه السواد واللين والنتن، فسواده عيبه وذنبه، ولينه انقطاعه وميله، ونتنه رؤيته نفسه، فيحتاج للتنظيف (¬1) ثم للتقسية حتى لا ينطبع إلا بقدر الحاجة، ثم للتنقية حتى لا تبقى لنفسه رائحة، وهذا حال المخالطين للفقراء من الجند، فإذا انتقل صلح لأن يكون ذهبا أو فضة، وهو أبعد، والله أعلم. السادسة: نفس هي كالقصدير، وفيه سبع علل ظاهرة، وسبع علل باطنة، هي في غرضنا معاصي الجوارح السبعة، التي هي: العين والأذن والفم والبطن واليدان والرجلان والفرج، وأخلاق القلب السبعة، التي هي: الكبر والبخل والحد والحقد والحرص والطمع والهوى، فإذا خلا من هذه صفا ظاهره بالتقوى، وخلص باطنه بالإخلاص، فلم تبق فيه بقية لغير مولاه، بل صار فضة خالصة، لا شوب فيها بالحقيقة، فاعرف ذلك حقه. ¬
السابعة: نفس كالزاوق (¬1) ظاهره أبيض وباطنه أسود، إن أردت ضبطه تفلت، وإن أردت جمعه تشتت، لا تكاد تطلبه في بساط الحق إلا وجدته، ولا في بساط الباطل إلا وجدته، وأصله السواد، وصورته البياض، وهذا حال أكثر من يخالط الفقراء، وينتمي إليهم في هذه الأزمنة ممن لهم ذكاء وفطنة، يقولون من قول خير البرية، ويمرقون كما يمرق السهم من الرمية (¬2) كما ورد في الحديث، فهم أشكل الأنواع وأبعدهم من موارد الانتفاع، وأكثر ما يوجد هذا النوع في أولاد أولئك النوع ممن للناس عليه إقبال، فإياك وإياهم فإنهم يتعبونك ولا ينفعونك، بل لا ينتفعون منك إلا القليل عند المصادفة (¬3) فاعرف ذلك. وأصل التدبير في ذلك كله بتلطيف النفوس بإصلاح التقوى، ثم تلطيف الأرواح بكباريت الاستقامة بعد تطهيرها من أوساخ البدع، ثم تلطيف الأجساد بأنواع التوجهات، وما هو إلا تهذيب، ثم تأديب، ثم تدريج ينتج وجود التقرب لكل من أهل له، وغير ما ذكر من النفوس لا عبرة به، فإهماله لازم وتركه واجب، لوجود الضرر به، ثم هذا الطريق مخطر لما فيه من الأطوار والأنواع والأخطار، وقل أن ينتج إلا مع صاحب همة وعزيمة، ويرحم الله من صنف في فن الأصل، فكان كلما ذكر المسألة قال: وعند اللقاء تبقى، ومبدأ هذا الطريق الموت، ومنتهاه الفوت، ونسماته من ريح الدبور، الذي هو أصل إهلاك قوم عاد، فهو طريق الإهلاك، فصاحبه لا يلتذ بالحق إلا من حيث استشعاره الاستهلاك فيه، فافهم. ... ¬
58 - فصل في بيان طريق العجم، وما لهم فيها من رسوخ قدم وزلل قدم
58 - فصل في بيان طريق العجم، وما لهم فيها من رسوخ قدم وزلل قدم والنفوس عندهم أواني، والأواني ثلاثة: الأولى: آنية خالية من الخير والشر، فهي تقبل ما يلقى فيها وإليها، قال ابن أبي زيد (ض): واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه، ومعاملتهم في هذه النفس بتعميرها بالذكر والأدب مجردا عما سواه، ولذلك تشير طريق الفتحية في أصلها، بناء على أن نفوس المتوجهين خلية بأول التوجه، ولكن التعميم أخل بمتأخريهم مع أمور أخرى من الجهل، والله أعلم. الثانية: آنية عامرة بالخير، فهي لا تقبل غير ما فيها، إلا ما كان من نسبته فيلقون له على حسب حاله لتنمية همته، والزيادة في تربيته، تارة بالخلوة والذكر، وتارة بالجلوة والخدمة، فإن خير السلوك وأسهله ما أعانت عليه الطبيعة، وكانت الخفيفة منصبغة ببعضه، وإلى هذا يشير كثير من أصحاب الخلوات، فافهم. الثالثة: آنية عامرة بالخير والشر (معا، وهذ5 التي يحتاج فيها للمعالجة القوية، فإن داعي الخير يحتاج إلى التثبيت) (¬1) وداعي الشر يحتاج إلى النفي، وهما في الشخص كالخلط النازل، والقوة الفاعلة، يتحرك الخلط فيقوى الألم، وتدفعه القوى فتظهر الصحة، فلا يتبين لصاحبه صحة ولا سقم، ومن هنا ألزموا مريدهم المشاق، وسلوك طريق الانتفاع والتجريد في عالم الأجسام والمعقول والمحسوس، وارتكبوا أهوال الجوع والسهر وكثرة الأعمال، كما درج عليه مشايخهم وشدد بعضهم في ذلك إلى ما علم من ربط نفسه بالحديد، وكي جسمه بالنار، إلى غير ذلك، مما هو جهل بالحقيقة، وضرر بالصورة، وصدق عند من لا علم عنده، وهو طريق لا ¬
59 - فصل في بيان طريقة أهل اليمن وما ظهر منها وما كمن
يصل صاحبه للحق إلا من حيث استشعار الاستهلاك (¬1) فيه، ولذلك قال بعض المشايخ في حق بعض من تقدمه منهم: لو أدرك أحدا من صبياننا لأسلم على يديه (¬2). وقال الحسين (¬3) بن المنصور: لما بلغه شأن الخواص وانقطاعه لتحقيق التوكل: أين هو من الفناء في الله، وقال الواسطي لأصحاب أبي عثمان رحمه الله - لما قالوا له: يأمرنا بالعمل ورؤية التقصير فيه -: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها بشهود منشيها ومجريها، أو كما قال، وتكلم عليه الإمام القشيري في ذلك كلاما حسنا، فانظره، وبالله التوفيق. ... 59 - فصل في بيان طريقة أهل اليمن وما ظهر منها وما كمن والنفوس عندهم أراضي لا يصلح حرثها إلا بسابقة مطر هو التوفيق، فمن وجد عندهم منه نكثة ولو في بساط الظلمات اعتبروه، ومن لا أهملوه، فأي نفس رأوها قابلة للحرث حرثوا فيها ما تقبله بحسب قواها، فهم يربون العالم بالعلم، والعابد بالعمل، والمريد بالذكر، والصادق الساذج بالهمة، لا يخرجون أحدا عما أهلته له الحكمة الإلهية، بل يعينونه فيه، ويجعلون سلوكه منه ليكون أعون له على ما يريده، فإن من سار إلى الله بطبعه، كان الوصول أقرب إليه من طبعه، ومن سار إلى الله بالخروج عن طبعه، كان وصوله على قدر بعده من طبعه. ¬
وقد عرف أن الفلاح العارف إذا وجد الأرض مشغولة بما لا منفعة فيه أزاله عنها (¬1) ثم حرث فيها ما فيه منفعة على حسب ما تقتضيه، فكذلك العارف من هذه الطائفة، يجرد النفوس عن شوك المحرمات، ثم يشق أرضها بوجود الصدق وأسباب الاعتقاد، حتى إذا تأهلت لبذر الذكر، ألقي فيها منه ما يصلح لها وتحمله قواها، وجعلوا الأمر عند الله فيما ينمي ذلك من مطر التوفيق والتنزلات الموهبية، غير أنهم يهيئون السواقي التي هي الأسباب الشرعية من العمل ونحوه، وينقون الحجر، واللفيف من الربيع والشوك ونحوه، مثل الرياء والعجب وما في معناه، خوفا من آفته، ثم لا تزال هممهم متعلقة بفضل الله وكرمه في توصيل المقصد والمراد على أتم الوجوه وأكملها، فلذلك كان طريقهم مصحوبا بالتنعم بالحق من أول قدم، لأنه لا تعريج لهم على غيره من أول الأمر إلى آخره، وذلك مقتضى الإيمان والحكمة، فلذلك قال (ص): ((الإيمان يمان والحكمة يمانية))، وهو أيضا طريق الرحمة والسهولة التي أشار لها عليه الصلاة والسلام بقوله: ((إني لأجد نفس الرحمن من ناحية اليمن)) (¬2)، يعنى تنفس الرحمة، وهو بساط النصر في قوله: ((نصرت بالصبا)) (¬3) الحديث، فاعرف ما أنت فيه، ثم اسلك على منهاجه تبلغ مرادك في أقرب مدة إن صدقت وأهلت، وذلك بأن تنظر ¬
في قواك، فما وجدته غالبا عليك من شهوة أو غضب أخذت في تقويته بالأذكار اللائقة به، والأعمال الموافقة له، والحركات المؤثرة له، ثم لا تزال كذلك حتى يبدو الأثر فيك، ثم يبدو عليك، ثم يبدو منك، وعلى هذه الطريقة يحوم الشيخ أبو العباس البوني رحمه الله في كتبه، وأحسنها في ذلك (القبس) (¬1) وهو أخفها مؤنة، وقد عرف أن كل اسم فخاصيته من معناه، وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده، وتأثيره على قدر قول صاحبه، ونفوذه على قدر القيام بمناسبته من الشريعة، فاعرف ذلك، وسر به تجد الأمر كأنه طوع يدك. واعلم أن معاقل الطريق أربعة: أولها: موقف الانتباه، وأذكاره ما يقتضي التنصل (¬2) من الاستغفار والاعتراف ونحوه. الثاني: موقف الدخول لبساط العبودية، ويناسبه ما ينعش الهمة، مثل ذكر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، ونحو ذلك. الثالث: موقف التطلب والاستفادة، ويناسبه ما يقتضي ذلك، مثل الحي القيوم، فإن فيهما سر الحياة والقيام وما جرى مجراه. الرابع: موقف التحقق ويناسبه ما يقتضي الفناء والاستغراق، مثل العظيم والكبير وما في معناهما، ولهذه الإشارة شرح لا تقوم به السطور، ولا تحيط به الصدور، وله مناسبة في الأفعال، وتصريف من بساط الحكمة، دون قصد الأشخاص، وعليه مدار الخمس من الشرعيات والوجوديات، واجمع الهمة واصدق الطلب تدرك المراد بجملته، ولا تتبع أهواء الباطلين الذين لا عزم ولا همة ولا خدمة، حتى حذر الناصحون من طرائقهم في ذلك عموما، فقالوا: (باين البوني وأشكاله، ووافق خير ¬
60 - فصل في طريق الخدمة والهمة وحفظ الحرمة
النساج (¬1) وأمثاله)، والبركة كلها في ألفاظ الشارع وأعماله وأقواله وتأديباته، وبالله التوفيق. ... 60 - فصل في طريق الخدمة والهمة وحفظ الحرمة أما طريق الخدمة فهو طريق الجادة، وهو طريق أهل البدايات من المتوجهين بالأعمال، وغالب جريانه لمتفقه أو أصولي أو محدث أو من جرى مجراهم ممن له بالعلم إلمام، وهو أصلح الطرق لأهل البداية، وعوام أهل الحاضرة، وخصوصا المتصدرين في العلم والعمل والسياسة، لبيانه وإلف النفوس له، وقد تقدم تفصيله. (وأما طريق الهمة) (¬2) فهي أسهل الطرق وأيسرها وأقربها وأبينها، ولكنه خاص لمخصوصين، والسلوك فيه على حسب التوجه من علم أو عمل أو حال، وجامع ذلك في التوجه في الحركات الواقعة، وعليه مدار كلام الشيخ ابن عباد، وهو طريق الأذكياء والظرفاء من أهل الحاضرة والأتقياء، وقد ذكر تفصيله في رسائله الصغرى، فلنأت بكلامه على وجهه، فإنه نور كله، فنقول: قال (ض): وصية يحتاج إليها كل مريد طالب للمزيد من العزيز الحميد. الحمد لله، من أراد الاستقامة على سبيل الحق في دينه، والتحصن من عدوه، والتخلص من وساوس النفوس وضيقها وتقلبها، والحصول على شرح الصدر، فليصحح مقام الأدب مع الله تعالى ظاهرا وباطنا في جميع أحواله، فذلك هو الشكر الموجب للمزيد، وينبني ذلك على أصلين: معرفته بعظمة ربه وكبريائه، واتصافه بالصفات العلية والنعوت القدسية، وعلمه ¬
بخسة نفسه، وضعتها وعيوبها وآفاتها، فإذا أحاط علما بهذين الأصلين نظر إلى نفسه وإلى ما أجرى الحق تعالى عليه من الأفعال والأقوال، وما صرفه فيه من الأحوال، فسيرى حينئذ من لطف الله تعالى به ورحمته وعنايته وفضله ما لا مطمع لأحد في إدراكه وفهمه، فيوجب ذلك له محبة وحياء يحملانه على الشكر لله تعالى بشهود النعم منه وحسن الأدب معه، فإذا رأى نفسه على طاعة فرح بمنة الله تعالى عليه من غير استحقاق ولا وسيلة، وكم من شخص لم يعطها، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في تحسينها ونفي الآفات عنها وإخلاصه فيها ربه عز وجل، فيكون حينئذ بهذه الرؤية والأدب أفضل ممن استغرق أوقاته في الطاعات وأنواع العبادات، مع فقدان ذلك، وكذلك إن رأى نفسه بحال نعمة، من صحة بدن ونيل رزق وإن قل، فليفرح بذلك ويشكر ربه عليه لعلمه أنه لا يستأهل ذلك ولا يليق به، ويستعمل حينئذ حسن الأدب في الاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، ولا يستعملها في معصية، وكم من شخص مبتلى بمرض أو فقر يتمنى ذلك ولا يجده، وكذلك إذا ابتلي بفقر أو أصيب بمرض من مصائب الدنيا فليفرح بذلك، لأنه سلك به مسلك الأولياء والصالحين، وليفرح بمنة ربه عز وجل في أن لم تكن أكثر من ذلك، كما ابتلي به طوائف من الناس، وليستعمل حسن الأدب في الصبر والرضى ونفي الجزع والشكوى، والدعاء إلى الله تعالى في سعة الرزق وكشف الضر وسؤال العافية في الدين والدنيا، وإن أمكنه السبب لاكتساب ما يغنيه والتطبب لبرئه، فيفعل ذلك فهو من حسن الأدب، وليشكر الله تعالى على تمكينه من ذلك وإذنه له فيه، وكذلك إن ابتلي بذنب أو غفلة أو سوء أدب فلا يغفل عن اللطف وخفي السنة بذلك، فقد يكون ذلك سببا لخوفه ونفي عجبه والتجائه ربه، كما ورد في الخبر في قوله (ص): ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب)) (¬1) وكم نت شخص مرتكب للكبائر مستحل لها، فرح بها. ¬
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في المبادرة إلى التوبة وتذكر الخوف وكثرة الاستغفار والدعاء والبكاء، وكذلك إن كان على مذهب إمام من أهل الدين مجمع على إمامته وهو يجد في الحال من يأخذ عنه ممن تقف به من أهل الدين وقد أخذه عن شيوخه، وشيوخه عن شيوخهم إلى أن ينتهي إلى ذلك الإمام، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه، وكم من شخص قد قلد مبتدعا أو ابتدع هو من تلقاء نفسه فهلك بذلك. وليستعمل حينئذ حسن الأدب معه في توقيره واتباعه في كل ورد وصدر، إلا إن رأى في اتباع غيره من الأئمة المجمع على إمامتهم ما يقتضي احتياطا، إن قوي عليه، أو يقتضي رخصة إن احتاج إليه، ولم يكن في مذهب إمامه إنكار على من فعل ذلك، فليفعله ولا يسقطه ذلك عن درجة الأدب، وكذلك إن ظفر بشيخ من شيوخ الصوفية، سالك سبيل السنة، فليفرح بذلك، وليشكر الله عليه، وكم من شخص لعبت به أيدي الضالين والمبتدعين، فهلك بذلك. وليستعمل حينئذ حسن الأدب في الانقياد له في أوامره وترك مخالفته، وأن لا يكتمه شيئا من أسراره وأن لا ينتقل عنه إلى غيره، وكذلك إن كان له صاحب أو أخ يسلم معه دينه، ويجد معه موافقته في دنياه، ويدخل في هذا الزوج والزوجة، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه، (وكم من شخص مبتلى بصاحب يخسر معه دينه ودنياه، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في القيام بحق صحبته، والوفاء بأخوته، وكذلك إن أقيم في سبب يجد منه كفايته وغناه عن الناس، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه) (¬1) وكم من شخص مبتلى بالالتجاء إلى الناس أو عاجز عن التسبب غير راض ولا صابر، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في نصح المسلمين بذلك، وترك الغش ¬
والاجتناب لجميع مناهي الشرع التي يتعرض لها بسبب ذلك، وإن كان في عمل من أعمال البر كتعليم القرآن أو غيره فليحتسب مع ذلك ثوابه، وليترفق في تعليمه ما أمكنه، ولا يجفو على متعلم ولا يظلمه، وليراقب ربه في ذلك، وكذلك إن سمع بمثل هذه النصيحة أو رآها مكتوبة فليشكر ربه على ذلك وليفرح بها، وكم من شخص مصحوب بالغفلة والسهو، أو مستنصح لا يجد ناصحا، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في أمثالها والوقوف على حدودها وبذلها لأهلها. وملاك ذلك كله صدق الافقار إلى الله تعالى والضراعة إليه في أن يوفقه لذلك ويعينه عليه، فمن أعطي ذلك فليفرح به وليشكر الله تعالى عليه، وكم من شخص مبتلى برؤية نفسه واعتماده على عقله وحدسه، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في اتهام نفسه في تصحيح الافتقار والضراعة اللذين ذكرناهما، فهذا الذي ذكرناه من أوله إلى آخره داخل في معنى ما ورد به الخبر الصحيح من قوله (ص): ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) (¬1) وبالله التوفيق، انتهى من (الرسائل الصغرى). وقال في (الرسائل الكبرى): فانظر هذا الطريق ما أسهله وأحسنه وأقربه وأجله وأكمله، وكلاما هذا معناه، ثم قال بعد ذلك: إنما هذا لمن أهل له، وقال في موضع آخر منها: هو طريق الأحرار لا تقبله إلا نفوسهم ولا تسلك به إلا حقائقهم، وقال في موضع آخر: إنه الصراط المستقيم، استنباطا من قوله تعالى: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (¬2) ثم قال: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} (¬3) وقال: إنه أعلى الطرق وأسهلها، فانظر كلامه رحمة الله عليه، وبالله التوفيق. وأما طريق الحرمة فهو بحفظ الأدب مع المشايخ والإخوان وحفظ ¬
61 - فصل في لوازم الفقير في نفسه ولوازمه في حق شيخه وحقه على الشيخ وحقه على الفقراء وحق الفقراء عليه على الجملة والتفصيل
حرمة الربوبية بالإيمان والتقوى وقوة اليقين، ولزوم الباب لكل وجه حسب الإمكان والتيسير دون مشقة، وهو لمن وجد شيخا كاملا يربيه بحفظ حرمته معه حتى تنصبغ نفسه بذلك، فتكون معاملته للحق بعد أتم من معاملته مع الشيخ، ونفرد لتفصيل هذه الجملة فصلا وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... 61 - فصل في لوازم الفقير في نفسه ولوازمه في حق شيخه وحقه على الشيخ وحقه على الفقراء وحق الفقراء عليه على الجملة والتفصيل أما لوازمه في نفسه فهي أربعة: أولها: لزوم الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، حتى يصير كله صدقا ظاهرا وباطنا، فلا تبقى له همة ولا إرادة ولا عزمة ولا قول ولا طريقة ولا حقيقة إلا دخلها من الصدق ما يحتاج إليه فيها، فيقلده الحق تعالى لذلك سيف الجلال والهيبة والتعظيم، كما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} (¬1) وقوله تعالى: {أن لهم قدم صدق عند ربهم ...} (¬2) الآية. قال شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض): والصدق هو سيف الحق قلده الله أرباب الحقائق، ما وضع على شيء إلا قصمه، ولا تطيق الموجودات مقابلته ولا قوته، أعني مفاجأة الحق للعبد بما يحصل من الشهود والوجود الذي يحصل من الله لعبده، وهو تجل من التجليات، وهو نوع من تجلي الحق سبحانه، والله الموفق للصواب. الثاني: الانحياش إليه تعالى في جميع الأمور من عوارض وأغراض ¬
وأسباب وأعراض ومحن وأمراض، بل جميع ما يحتاج إليه دفعا وجلبا مما قل وجل، وهو معنى قولنا حسبنا الله، أي: اكتفينا به عن كل مطلوب سواه بكل حال، ولذلك قال أبو علي الدقاق (ض): من علامة المعرفة ألا تطلب حوائجك كلها إلا من الله تعالى: قلت أو جلت، مثل موسى (س) اشتاق إلى الرؤية فقال: {رب أرني أنظر إليك} (¬1) واحتاج يوما إلى رغيف، فقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (¬2) انتهى. وثمرته الظفر بالمراد، قال الله تعالى في حق الذين قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (¬3) فاعرف ذلك وتأمله حقه تجد الكنز الأعظم، والإكسير الأكبر، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب في بابه، وبالله التوفيق. الثالث: الرضى عن الله في جميع الحالات، قياما بحق الأمر في التكليف، وبحق القهر في التعريف، وثمرته الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة لقوله تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} (¬4) قال عبد الواحد بن زيد (¬5) (ض): الرضى باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، اتتهى وهو عجيب. الرابع: إفراد الوجه في التوجه باتباع السنة، وشهود المنة كما تقدم تفصيله، فانظره هناك، وبالله التوفيق. وأما لوازمه مع شيخه وحقه على الشيخ فأربعة تقابلها أربعة: أولها: حسن القبول لما يلقيه إليه من أمر المعروف، أو حسن ¬
التخلص إن ألقى خلافه، حتى لا يعمل بمنكر ولا يستظهر بمخالفة، ويقابله كمال النصيحة، والاهتمام بالوارد والصادر من أحوالك عليه، لأنك مطروح بين يديه. الثاني: حفظ الحرمة في الشهادة والمغيب، بأن تخدمه ولا تبالي، وتعادي لأجله وتوالي، ويقابله بذل المجهود في تحصيل المنافع العينية والغيبية، بأن لا يدخر (¬1) عليك مالا ولا جاها، ولا حالا ولا همة ولا غير ذلك، ليكون لك كما أنك له، فيلحظك بهمته، ويعينك بدعوته، ويؤيدك بعزمته، ولا يدع منك عورة إلا سترها، ولا خلة إلا سدها، ولا حسنة إلا عدها، إلى غير ذلك فافهم. الثالث: حصر الأمر في جهته لكل مهم دنيا ودينا، فهو وسيلتك إلى الحضرة المحمدية، علما وعملا وحالا، وهي وسيلته إلى الله تعالى، فتمسك به بكلك، يكن لك بكله حتى يريح الحق تعالى خاطره من التهمم بك، بقضاء حاجته فيك، وهذا معنى قولنا: خاطرك، أي ليكن على بالك، لعل الحق ينظر إلى قلبك فيريحك منه، وكذا (كل) (¬2) شيء لله إذا قصد به الطلب، والله أعلم. الرابع: أن تراعي أحواله معك فلا تتعدى أدبا في محله، والحالات أربعة؛ حالة يعاملك فيها بالأبوة (¬3) من التأديب والتدريب والتهذيب، وحقك فيها الرضى والقبول، وحالة يعاملك فيها بالأخوة من النصح والمعاضدة، وهو مقام التوبة والتقوى، وحقه عليك الثبات على العهد ولزوم العمل بالقصد، وحالة يعاملك فيها بالأبوة من الذب عن عرضك ومالك ومروءتك ¬
ونحو ذلك، وحقه عليك في ذلك السمع والطاعة، وحالة يعاملك فيها بالمشيخة من التربية والترقية، وحقه عليك فيها ألا تكتمه شيئا من سرك، ولا تخالفه في شيء من أمرك، لأن الطبيب لا يقابل بالنظر والقياس، والله أعلم. وأجمع ما في ذلك قول الشيخ أبي مدين (ض): وراقب الشيخ في أحواله فعسى ... يرى عليك من استحسانه أثرا وأما حقه على الفقراء وحقهم فإسقاط الحق والكلفة مع وجود المحاسنة والألفة، فقد قال (ص): ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق جسن ...)) (¬1) الحديث. فخض أولا بالتزام التقوى، ثم الاستدراك بالتوبة عند الوقوع، ثم بمعاملة الخلق بالحسنى، ومرجع ذلك لأن تعامل الخلق بما تحب أن تعامل به أو أوفى، وتحقيقه أن تقدر نفسك في محل من تريد معاملته وبالعكس، فكل ما تريد أن يعاملك به عامله بمثله من غير تفريط ولا إفراط، ومدار ذلك على ملك النفس عند الشهوة والغضب، حتى يقع العدل في كلا الحالتين، ففي الخبر: ((ثلاث منجيات وثلاث مهلكات وثلاث درجات وثلاث كفارات، فالمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ...)) (¬2) الحديث، رواه أبو نعيم وغيره، وفي ¬
الصحيح (¬1) قال (ص): ((المؤمن كيس فطن حذر، ثلثاه تغافل، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) (¬2). وقال ابن مسعود (ض): خالط الناس وزايلهم ودينك لا تكلمنه (¬3) ويقال: الفقير مثل الأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح. وقد قال عيسى (س) للحواريين: بحق أقول لكم أين تنبت الحبة، قالوا: في الأرض، قال: فكذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب مثل الأرض. قال بعض المشايخ: طريقنا هذا لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل (¬4) انتهى، وهذا القدر كاف لمن وفق في باب المعاشرة، وبالله التوفيق. ... ¬
62 - فصل في اعتبار النسب بالجهات والأقطار وما يعرف به رجال كل بلد من الدلائل الخاصة والعامة، حسب ما هدى إليه الاستقراء ووصلت إليه الفراسة الحكيمة
62 - فصل في اعتبار النسب بالجهات والأقطار وما يعرف به رجال كل بلد من الدلائل الخاصة والعامة، حسب ما هدى إليه الاستقراء ووصلت إليه الفراسة الحكيمة وهو أمر يحتاج إليه في تعريف الأصول ليعمل عليهم في الحذر طلبا للسلامة من الاغترار، وفي المعاملة خشية التضرر بالمخالفة، وليتق كل ما يغلب على بلده وجنسه من الأخلاق المذمومة، فينجو من شرها، ولا يقع فيها من حيث لا يعلم، وإن وقع فيها عرف أنه مخطئ، فلا يتوهم صوابه بمجرد هواه الذي يعينه عليه، وجود الإلف والطبيعة فافهم، وهو أمر أشار إليه الشارع (ص) بقوله فنجد (¬1): ((الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان)) (¬2) وقال (ص): ((السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاء في الفدادين، تباع أذناب الإبل والبقر)) (¬3) وقال (ص): ((أسلم وغفار خير من ¬
جهينة ومزينة)) (¬1) وفي حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، وكمل بالعابد، أن العالم قال له: اخرج من أرضك فإنها أرض سوء (¬2) وتكلم أحمد بن حنبل وبشر (¬3) في العراق بوجوه من الذم، وكذلك عبد الله، بن مسعود وغيره، وذكره الغزالي في كتاب المحبة في باب الرضى (¬4)، منه فانظره، وهذا كله غير ضار، لأن مقصده التحذير، فلا يكون اشتغالا بالعيوب، وليس بغيبة، لعدم انحصار العين، إذ لا غيبة في غير محصور بفهم ولا نص، لاحتمال خروجها من العموم كما نص عليه الأئمة، والله أعلم. ثم نقول وبالله التوفيق، اعلم أن المغاربة تغلب عليهم الحقيقة (¬5) دون الطريقة (¬6)، في كل شيء، فطريقتهم في كل شيء تابعة للحقيقة غالبا، وأهل المشرق تغلب عليهم الطريقة في كل شيء، فحقيقتهم في كل شيء تابعة للطريقة غالبا، والطريقة تابعة للحقيقة أبدا لأنها نتيجتها، كما أن الحقيقة أصلها، بخلاف الطريقة، فإنها قد تكون مصحوبة بالحقيقة، وقد لا أعني من حيث صورتها، وإلا فمن حيث حقيقتها لا ¬
تصح بدون حقيقة، لأنها شرط وجودها، وما وجد عريا عنها فليس بتمام في حكمه، وإن كان ظاهر صورته الكمال، فاعرف ذلك، والخارج من ذلك أن المغربي إذا ظهر بصورة حق لا يصح أن يشك في تحققه بها، ما لم يخالط المشارقة، فيتهم بما هم عليه، بخلاف المشرقي فافهم. وأهل الجنوب يغلب عليهم الخبط والاغترار وعدم التوقف في الأمور مع شيء من اللين وخفة العقل، وقلة التذكر، وإن كانت الحقيقة أمس بقلوبهم، فالطريقة التي هي الأدب، مفقودة منهم في الغالب، والله أعلم. وأهل الشمال يغلب عليهم التوقف والتنكر وقلة المكر مع الجفاء والغلظة وشدة البأس وسريان الحقيقة في الحركات على وزن يقارب الطباع، ويبعد من الانطباع، فلهم إلمام بالآداب على وجه قليل في الغالب، والله أعلم. ثم ما قرب من المغرب كان على وزنه في الوجه، وما قرب من المشرق له حكمه، ولذلك كان أهل المغرب الأقصى موسومين باستحقاق ما يعاملون به من لين أو غلظة، كما أشار إليه القرآن في قصة ذي القرنين، إذ قال تعالى: {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} (¬1). وقيل في أهل الأندلس: إنهم أهل حمق وتناصف، وفي أهل الجبال: أنهم أهل وبال، وأهل السواحل أهل لين وقلة دين، ويقال: المغربي كالجوزة، ظاهرها قاس وباطنها طيب، والإفريقي كالثمرة، ظاهرها لين وباطنها قاس، والمصري مثل حبة التين طيبها طيب، ولكن لا يدوم، وخبيثها لا يمكن جبره. فأما الحجاز واليمن وما في معناهما فأسلم الناس طباعا وأحسنهم حالا، لتوسطهم بين الجميع حكما وحكمة، ولذلك كان الإيمان يمان ¬
63 - فصل في آداب مهمة على الفقير يتعين عليه مراعاتها
والحكمة يمانية (¬1)، ومكة أم القرى والمدية قرية تأكل القرى (¬2)، وهذا كله في العموم، وإلا ففي كل قطر سادات، وفي كل محل قادة يعرفون بالخروج عن رديء طبائع الجهة التي هم فيها، كالبخل وسوء الخلق عند أهل المغرب الأقصى في الجملة، وقلة الغيرة ورقة الديانة في أهل المشرق، ولهذه الجملة بسط ليس هذا محله، وبالله التوفيق. ... 63 - فصل في آداب مهمة على الفقير يتعين عليه مراعاتها وأهمها غناه بربه على كل حال، وذلك بستر حاله عن أشكاله، فلتكن غيرة الفقير على فقره أكثر من غيرة الغني على غناه، فإن كان على التجريد فلا يأخذ بإشراف ولا تعريض ولا إلحاف، ولا يتعرض جهة إلا بثمنها، إلا في الأمر التافه، ولا يسامح نفسه في الترخص في الأخذ، ويحذر آفة الرد كما يحذر آفة الأخذ، وكل مريد مال لركوب الخيل ومواقف الرئاسة واللهو فهو مخدوع. وكذلك إن آثر المصالح العامة أو اشتغل بتغيير المنكر في العموم، حيث لا يجب عليه بوجه واضح لا ضرر فيه ولا إذاية للمسلمين، أو سره ميل القلوب إليه أو إقبال أصحاب المراتب عليه، أو أخذ بالفضائل الجمهورية المغيرة لقلوب الأمراء، والمشاركة لهم في مراتبهم كالجهاد ونحوه دون أمر منهم، أو مع عورات إخوانه أو تشوف الأخبار الغيبية دون ضرورة، أو تولع بالأراجيف والأخبار السلطانية واستجلاء الكلام فيها، أو عظم الأغنياء على الفقراء، أو احتقر أهل النسبة للطريق، أو رأى لنفسه رتبة ¬
فيهم بغير شاهد من الحق ولا الحقيقة، أو آثر السماع على وجه الدوام، أو على وجه يتضمن محرما أو مكروها لا وجه له، أو خرج عن الأدب فيه ظاهرا أو باطنا مع علمه به، أو أحب أن يطلع الناس على حقيقة حاله مع الله أو يروه في صالح أعماله، أو آثر الحقيقة على الطريقة، أو فرق الطريقة من الحقيقة، أو أكثر الجمع (¬1) والاجتماع، لا لفائدة علمية، أو همة حالية، أو عزيمة عملية، أو رأى العمل ناقصا، أو العلم يكفي خالصا، أو حكى حكايات الرجال واتخذها حالا لنفسه، أو تشبع بحالة ذهبت عنه، وادعاها على الدوام، أو ظهر بما ينافي دعواه من خوارق الشريعة، أو اشتغل بأحوال الرجال ردا وقبولا، أو حكاية وتفضيلا، أو نظرا وتعليلا، أو مال للأحداث بلا سبب واضح، أو خالط النسوان والظلمة بأي وجه كان، من غير ضرورة ملجئة، أو أخذ برقيق العلم قبل كثيفة، أو بكثيفه دون رقيقه، أو عادى الفقهاء (¬2) بعلة الانتساب، أو أحب المنكرين بعلة السماح، أو تصدر للتربية دون شيخ يأمره، أو إشارة إلهية تدله، أو اتبع كل من يراه من صادق أو غير صادق، أو أساء الظن بظاهر بالنسبة، أو اغتر به في حاله دون اختبار ولا تحقق لحاله، أو كثر المشايخ والأسفار من غير استفادة، أو جعل الزيارة (¬3)، هجيراه، واتباع (¬4)، الجهل وجعله وطنه، أو قدم الباطن على الظاهر، أو اكتفى بالظاهر عن الباطن، أو آثر من أحدهما ما لا يوافق عليه الآخر، أو اكتفى بالعلم عن العمل، أو بالعمل عن العلم، أو بالحال عن أحدهما أو عنهما، أو بهما عن الحال، أو الجميع عن التحقق، أو بالتحقق عن التمكين، أو بالكرامة عن الاستقامة، أو لم يرجع لأصل في استقامته، أو يعتمد على أستاذه دون همة ولا عمل سنة، أو يهمل أقوال العلماء في حاله، أو يشغل نفسه بالشفاعات، أو يتوسع في الدنيا بعلة الديانة، أو يستكثر من المباحات مع غناه عنها، أو يعاد وقته فيما يعارضه من خفاء أو ¬
64 - فصل في الأسباب الموجبة لانقلاب المريد ورجوعه على عقبه
ظهور أو غيرهما، أو يسترسل مع ما يعرض له دون توقف ولا عمل بمقتضى الشرع والحقيقة فيه، أو تأثر بما ينقص فيه من دنياه، أو لم يبال بما فات من ديانته، ولو في باب المندوبات، أو تحامل على إخوانه في مال أو عرض أو غيره، بعلة طيب نفوسهم، لا بما يتوقعه (¬1) يكون واقعا بفعله، أو ذكر ذنوبه ولم يحققها بالبرهان على نفسه، أو ذكر نعم الله عليه ولم يقدرها تفصيلا في نفسه، أو نظر إلى الخلق فيما هم فيه، أو لما يجري عليهم من إقبال أو إدبار من حيث هم، أو استهان بمروءة نفسه لغير ضرورة واضحة، أو أشفق على نفسه فيما يتعين عليها، أو دخل فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه، أو أراد أن يكون سالما في دينه واليا في الحكم وليا في الحكمة، أو ترك الأولى في أقواله وأفعاله اقتصارا منه على قدر الواجب، أو تعزز بطريق الله وتجاهي (¬2) بها على من يناصيه أو يناديه، أو افتخر بكثرة الأتباع له أو لشيخه أو لطريقه، إلى غير ذلك مما هو نقص في الحال وعقوبة في المآل، أعاذنا الله من البلايا بمنه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... 64 - فصل في الأسباب الموجبة لانقلاب المريد ورجوعه على عقبه وأصولها خمسة: أولها: حب الرئاسة والاستظهار بالخصائص، فإن أراد أن يطلع الله الناس على عمله فهو مراء، ومن أحب أن يطلع الناس على حاله، فهو كذاب، وعن قريب تزل قدمه في مهواة التلف. قال في الحكم: استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على ¬
عدم صدقك في عبوديتك، وقال أيضا: متى أهمك عدم إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك، فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد ممن مصيبتك بوجود الأذى منهم، وقال بعض المشايخ: من أشار إلى الحق وتعلق بالخلق، أحوجه الله إليهم، ونزع الرحمة من قلوبهم عليه. وفيما كتب لنا الشيخ أبو العباس الحضرمي (ض): عش خامل الذكر بين الناس وارض به ... فذاك أسلم للدنيا وللدين من عاشر الناس لم تسلم ديانته ... ولم يزل بين تحريك وتسكين فإذا فرض المريد دفن النفس في أرض الخمول، وإيثار الأذى من كل شيء، حتى يأتيه من الحق في ذلك ما يغلبه بأن لا يقدر على دفعه، فليقم بواجب وقته، وحينئذ يقال له: من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، وعبد الله، سواء عليه أظهره أو أخفاه، كما قاله الشيخ أبو العباس المرسي (ض). الثاني: حسن ظنه بنفسه فيما هو به، بحيث يظهر له أنه بلغ مبلغ الرجال أو ما يقرب منها، فيرى أن اختلاف الأحوال لا يؤثر (¬1) فيه، فيأخذ بالسماع والاجتماع والإكثار من المباحات والاتساع في الخلطة والانبساط في المباسطة، ويؤثر العلوم الدقيقة، فيستأنس بمواجيد ذلك كله، ظنا منه أنه فتح له، حتى يقع في إساءة الأدب، فيرد من حيث لا يعلم، وقد قال أبو حفص الحداد (ض): من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضى عن نفسه، والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (¬2)، انتهى، وهو عجيب في بابه. ¬
الثالث: الغفلة عن تفقد أحواله، ومحاسبة نفسه في جميع أموره، وذلك مفتاح سوء أدبه من حيث لا يشعر، بل حتى يظن أنه على شيء، وليس عنده شيء، وقد قال أبو حفص (ض): التصوف كله أدب، (ولكل وقت أدب، ولكل حال أدب) (¬1)، ولكل مقام أدب، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الأدب، فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول انتهى، وهو تنبيه عظيم لا يقوم به إلا مراقب لكل شيء منه في جميع الأحوال، فافهم. الرابع: تعليق القلب بالاستفادة من الناس، بأن يشتغل بطلب الشيخ ويتعلق بمن يتوهم هذه المرتبة، فإن ذلك يقضي بوجود الاغترار بمن ظهرت عليه آثار نفسانية وشغل قلبه بالتشوف للجهات، فيتشتت مرة ويضل أخرى، وربما وقع في مهواة باغتراره، وفي فترة بطلبه، أو في وقفة بلقائه من ترضى حاله، (ولكن ليجعل همته في رضى مولاه، عالما أن رضاه في صدق التوجه إليه) (¬2) ولا توجه إلا ما جاء عنه من أمر ونهي في باب الواجبات والندب وغيره، حتى يفتح له بشيخ من عنده، لأنه منحة منه تعالى كما تقدم، وقد ورد في الخبر: ((في كل واد من قلب ابن آدم شعبة، فمن تبع قلبه تلك الشعاب لم يبال الله في أي واد أهلكه)) (¬3) الحديث، اللهم إلا أن ينزل به ما يحتاج للشيخ فيه، فيتعين طلبه لذلك، والله يعينه بفضله. الخامس: اتباع التأويل، وبساط الميل إلى الرخص، وتوق النفس، من ضيق التوجه وقلة الصبر على المجاهدة مع مبادئ التنوير، فلا يكاد يقع في شيء إلا رآه كمالا، أو يستدل له بدليل يظنه نورا وهو ظلمة، فيكون تارة من {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (¬4) وتارة ¬
ممن {زين له سوء عمله فرآه حسنا} (¬1) وتارة: ممن {اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} (¬2) وتارة: ممن {اتبع هواه بغير هدى من الله} (¬3) ولا يزال به الأمر حتى ينتهي إلى حد الابتداع، ثم إلى حد الزندقة والكفر، كل ذلك من انتصاره لنفسه، وظنه الحق في موضع الباطل، وهو باب من الجهل كبير. قال في الحكم: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب الإبعاد، فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد تقام مقام البعد من حيث لا تدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد. قال ابن خفيف (¬4): استدامة الكد، وترك الراحة، وليس شيء أضر على المريد من مسامحة النفس في قبول الرخص والتأويلات، وقال يوسف (¬5) بن الحسين (ض): إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص، فاعلم أنه لا يجيء منه شيء، وقال أبو إسحاق بن شيبان (¬6): من أراد أن يتعطل ¬
65 - فصل في الرخصة والشهوة والشبهة والتأويل وحال المريد في ذلك ومعاملته فيه
ويتبطل، فليلزم الرخص، قال ابن عباد رحمه الله: ويعني بالرخصة هاهنا كل ما كان مضادا لحال المريد من تناول الشهوات واللذات، والميل إلى المألوفات والمعتادات، والركون إلى الدعات والراحات، وارتكاب الشبهات والتأويلات، فإن حال المريد يقتضي مباينته لهذا كله، وإن كان بعض ذلك مباحا في رخصة الشرع لعامة الناس. انتهى، وفي كلامه تلفيف يحتاج إلى بيان معنى، وتحقيق وبسط وجه، وبالله التوفيق. ... 65 - فصل في الرخصة والشهوة والشبهة والتأويل وحال المريد في ذلك ومعاملته فيه اعلم أن الناس ثلاثة: الأول: عارف يتصرف بالفناء على لسان العلم، ولا حديث لنا معه لكماله. الثاني: عامي يتصرف بالعلم على وجه إسقاط الحرج، ولا كلام لنا معه لأنه تابع للفقه. الثالث: مريد يتصرف بالعلم على بساط الحقيقة، فحقه أن يحفظ ظاهره من النقص، وباطنه من الغفلة، وذلك يقتضي استغراق حركاته فيما يرضي الله عنه، ولا يقدم على شيء إلا بنية، ليكون له من كل شيء أمنية، ويأخذ منه بالمحقق، ويدع المحتمل، ويأخذ من المحقق بما هو الأولى أبدا، وبحسب ذلك فهو يفارق ما فيه (مغمز ما) (¬1) وقد عرف أن الرخص والشهوات من ذلك في الجملة، لكن لها من حيث الشرع وجوه تكون فيها كمالا، فكل رخصة أجمع المسلمون أو جمهورهم على استحباب العمل ¬
بها، أو قال بذلك فيها إمام المريد في ديانته، فهي نور وعليها تنزل قوله (ص): ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تترك عزائمه)) (¬1). مثال ذلك القصر في السفر، والترفق في العمل، والإفطار بدلا من صيام الدهر، ومباسطة الأهل، والكذب في الإصلاح بين الناس حيث يؤمن، إلى غير ذلك مما ندب إليه أو أبيح، غير مقيد بضرورة أو تقيد بمصلحة شاملة النفع في نظر الشارع، وكذا كل شهوة في طيها قربة، غير أنه ينبغي له أن يتثبت فيها، بأن لا يقدم عليها ابتداء دون تحقيق المناط فيها، مثاله أن تدعوه نفسه لأهله في النكاح، وتبدي له علة من خوفه على نفسه التشوف أو إعفافه أهله ونحو ذلك، فلا يجيبها بأول مرة، بل يتوقف إلى تحقيق ما تدعيه بوجه لا شك فيه، وكذلك إذا طلبته بتناول شهوة من مأكول ونحوه، فليعزلها عن الطلب والتشوف بالإياس حتى لا تعتاد ذلك. ثم إن جاءت من وجه مباح دون تسبب ولا تعريض ولا إشراف، فلا يتركها، لأن الشهوات لا تترك لذاتها، بل لما تؤدي إليه من الغفلة أو التحامل على ما لا ينبغي، أو الإغماض (¬2) في خلاف الحق، أو تفويت مندوب بسببها، فلذلك تركها القوم لا لذاتها، ولذلك أشار الأثر المروي عن بعض الأنبياء: أن الله تعالى أوحى إليه حذر قومك الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عني (¬3) وقال (ص): ((المؤمن يأكل بشهوة أهله ...)) (¬4) الحديث. ¬
وقال في الحكم: المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا انتهى، ومعناه أنه يذم ربه فيما ينعم عليه به فلا يتفرغ لثنائه على نفسه، لاشتغاله بحمد مولاه وشكره، ويذم حقه فيما يرومه من الحظوظ، فلا يدخلها إلا بأمر منه، فتكون عاملا له لا لحظه، والله أعلم. فإن قيل: كل مباح لا يخلو عن شهوة والعبد مضطر إليه. قلنا: الخلاص من ذلك بذم حق الله فيه، فما لم يكن الباعث عليه حق الله، فلا تقربه، ولذلك طلب من المريد أن لا يأكل إلا من فاقة، ولا ينام إلا من ضرورة، إلى غير ذلك، فافهم، ومتى تأخر ذم الوجه عن الواقع، فهو تأويل لا عبرة به، وضرره أكثر من نفعه، إلا أن يفيد استغفارا، أو تذكرا للمستقبل فلا بأس به، والفرار منه أحسن. ثم من الرخص والشهوات ما أجمع المسلمون على إباحته، أو قاربوا الإجماع، كالسلم والفطر في السفر، والسلف، وعدم البحث عما في الأسواق أحلال هو أم لا، ما لم يتعين أو تقوم شبهة فيه، والصلاة خلف أئمة الأمصار والقرى المعتبرة دون بحث، ورأوا أن البحث فيه من التنطع، وهو أيضا ممن حيز الرخص المحبوبة، لكونه من سماح الدين وسهولته الذي لا تطيب به إلا نفس مؤمن سليم الصدر، فإن الرخصة تحيك في صدر المشمر، كما تثقل العزيمة على المقصر، فلذلك قوبلت بها. وإنما الرخصة المذمومة عند القوم الرخصة المكروهة، كترك معتاد الفضائل والاسترسال في العاديات، أو التوسع في المباحات، أو الرجوع في المندوبات، أو الدخول في جلي الخلافيات، لا لضرورة فادحة، فإن توقى الشبهات لازم لكل مؤمن، فضلا عن المريدين، لكن شبهة الخلاف قل أن ترتفع عن مسألة في الفروع، لقلة مسائل الإجماع، لكن ما قويت شبهته أو كان الاحتياط يساعده لزمت مراعاته، وإلا فلا حرج في الدين، والخروج من الخلاف مستحب اتفاقا حسب الإمكان، واختلاف العلماء رحمة.
66 - فصل في التحصن مما ذكر من الآفات وإصلاح المختل بإدراك ما فات
وقد كان بعض مشايخنا يقول: ليتنا لا نخرج من دائرة الفقه، بل ليتنا لا نخرج من دائرة الخلاف. وكان الشيخ أبو إسحاق الجبيناني (¬1) (ض)، يقول: اكتسب بالعلم، وكل بالورع، وهي نكتة عجيبة، يخرج بها من الضيق، ويدخل بها في الاحتياط، ثم شك بلا علامة وسوسة، والترجيح عند المعارضة أصل مطلوب، وسواء بالعلم، أو بالبصيرة عند فقد العلم، والرخصة المضطر إليها خارجة مما ذكرنا، لأنه لا ورع عند ضرورة، أصله إباحة الميتة بل وجوبها لمن خاف على نفسه التلف، وبالله سبحانه التوفيق. ... 66 - فصل في التحصن مما ذكر من الآفات وإصلاح المختل بإدراك ما فات أما التحصن مما ذكر، فبأمور أربعة: أولها: إيثار الأولى في كل شيء، دينا ومروءة، فإن المريد إذا فارق الأولى وقع في دناءة أو زلة أو عيب أو علة، فكان مذموما عند الله، ممقوتا عند أبناء الدنيا، قريبا من كل آفة، بعيدا من السلامة، والله أعلم. الثاني: حفظه حرمة الربوبية، بالوفاء والعزم، والأخذ بالحزم، والوقوف على حد العلم، فإذا عقدت مع الله عقدا إياك أن تحله إلا أن يحله عليك الشرع بوجه لا خلاف فيه ولا تردد، وإذا عزمت مع الله تعالى في شيء فلا تتوقف حتى تمضيه، ولا تؤخر طاعة وقت لوقت فتعاقب بقوتها أو بقوت مثلها، ولا تقدم على أمر حتى تعلم حكم الله فيه جملة وتفصيلا، فإن من لم يحفظ الحرمة فقد أعان الشيطان على نفسه. ¬
الثالث: تعظيم حرمات المسلمين بكف الأذى وحمل الأذى، والإنصاف من نفسك وترك الانتصاف لها، فتتقي أعراضهم، وتبلغ أغراضهم، وتسامحهم فيما لا ينالك ضرره منهم، وقد كان السلف (ض) يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، بل كما قيل: ارحم بني جميع الخلق كلهم ... وانظر إليهم بعين اللطف والشفقة وقر كبيرهم وارحم صغيرهم ... وراع في كل خلق حق من خلقه الرابع: الحذر والاشفاق واتهام النفس في جميع الأحوال، والحكم عليها بالعلم الظاهر المؤيد بحقائق الباطن، فإنها تنقاد للباطن المجرد وللظاهر المجرد (¬1)، وتحب الإكثار كما تحب الترك، ولا تقبل الوسط إلا بعد مشقة فادحة وجهاد كبير، وهي التي {لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} (¬2)، كما قال بعض المشايخ، ويرحم الله القائل في معنى ذلك: توق نفسك لا تأمن غوائلها ... فالنفس أخبث من سبعين شيطانا وأما إصلاح المختل، وإدراك الفائت فبالعود إلى ما كنت عليه أولا من الصفاء والتوبة، ((فما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة)) (¬3)، ولا يغرنك الشيطان بقوله: أي فائدة لتوبة لا ثبات لها، نظرا إلى حالك الأول، فإنك بين ثبات وموت على إثر توبة، أو غفران الماضي واستئناف عمل، فكما اتخذت الذنب والعود إليه حرفة، فاتخذ التوبة والعود إليها حرفة، عالما أن توبتك تعرض لنفحات رحمتك، وتوبته عليك منة وعناية، ¬
فتعرض لنفحات رحمته أبدا، لعل العناية تواجهك يوما ما، وقدر أنك لم تقع في الذنب غير هذه المرة، ثم استأنف يستأنف لك، وفي معنى ذلك قيل على لسان الحقيقة: يا غافلا قد كنت عاهدتنا ... ومن بعد هذا قد نسيت الوداد شمر من اليوم ودع ما مضى ... وكن فقيرا ما مضى ما يعاد وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): تدري ما علاج من انقطع عن المعاملات، ولم يتحقق بحقائق المواصلات؟ علاجه أربع: طرح النفس على الله طرحا لا يصحبه الحول والقوة، والتسليم لأمر الله تسليما لا يصحبه الاختيار مع الله، هذان علاجان باطنان، وفي الظواهر: ازم الجوارح عن المخالفات، والقيام بحقوق الواجبات، ثم تقعد على بساط الذكر بالانقطاع إلى الله عز وجل عن كل ما سواه، لقوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} (¬1). وقال (ض): موت النفس بالعلم والمعرفة، والاقتداء بالكتاب والسنة، وإن أردت جهاد النفس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة، واضربها بالخوف عند كل فترة، واسجنها في قبضة الله أين ما كنت، واشك عجزك إلى الله تعالى كلما غفلت، وهي التي: {لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها}، فإن سخرت لك في قضية فجدير بأن تذكروا نعمة ربكم {وتقولوا سبحن الذيي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} (¬2). وقال (ض) بعد كلام في تصحيح العبودية: ومن أخلد إلى أرض الشهوات واتباع الهوى، ولم تساعده نفسه على التحلي، وغلب عن التخلي فعبوديته عن أمرين: أحدهما: معرفة النعمة من الله تعالى فيما وهبه من الإيمان والتوحيد، ¬
67 - فصل في ذكر أمور عمت البلوى بها في فقراء الوقت
إذ حببه في قلبه وزيه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فيقول: يا رب أنعمت علي بهذا وسميتنى راشدا فكيف أيأس منك وأنت تمدني بفضلك وإن كنت متخلفا، فأرجو أن تقبلني وإن كنت زائفا. والأمر الثاني: اللجوء والافتقار إلى الله تعالى دائما، وتقول: يا رب سلم سلم، وقني وانقذني. فلا طريق لمن غلبت عليه الأقدار، وقطعته عن العبودية المحضة لله تعالى إلا هذان الأمران، فإن ضيعهما فالشقوة حاصلة والبعد لازم، والعياذ بالله تعالى، انتهى، والله المسؤول في الهداية والتوفيق بمنه وكرمه. ... 67 - فصل في ذكر أمور عمت البلوى بها في فقراء الوقت وأمهاتها عشرون: أحدها: علم الكنوز والكيمياء والكاغديات ونحوها، وهي دسيسة من حب الدنيا وقلة العقل. الثاني: علم التصريف من الخواتم والعزائم والحروف والطلاسم ونحوها، وباعثه طلب الاستظهار بالخوارق لإقامة جاه، وانتصار من عدو ونحو ذلك. الثالث: علوم الروحاني وتخديم الجان وتصريفه في الأغراض، وأصله نحو من الذي قبله. الرابع: علم الحدثان والتنجيم وما يجرى مجراه من النظر في الاختياريات العلوية والتشوف للاطلاع على الأمور قبل بروزها، وهو (من سوسة) (¬1) الدعوى في النفس. ¬
الخامس: طلب الاسم الأعظم والتعلق بالأسماء لتحصيل خواصها والاستفادة بها مجردة عن العمل والتوجه بالهمة، وهو مفتاح البطالة والضلال. السادس: طلب الشيخ المربي بالهمة أو بالحال أو بالعمل أو بكلها دون أخذ في العمل ولا في سبب من الأسباب، وهو أيضا عكاز البطالة. السابع: الاغترار بكل من ظهرت عليه خارقة، أو الإنكار عليه قبل تحقق حاله بوجه واضح. الثامن: اشتغال الشر بخلاف المهم من العلوم والأعمال دون المهم، وهو أيضا من البطالة. التاسع: وجود الوسوسة والعمل بها ورؤيتها دينا قيما لا يعدل عنها إلا ناقص. العاشر: التعزز بالطريق، والاستظهار بالدعوى الكاذبة وغيرها، للاتتصار وللاستتباع أو لاستظهار. الحادي عشر: سب المنكرين والمبالغة في شأنهم وإن كانوا فقهاء أو أئمة أو غير ذلك. الثاني عشر: التجاسر على المراتب وادعاؤها لأنفسهم أو لغيرهم. الثالث عشر: التظاهر بالطامات والشطحات وعدم الاعتداد بغير أهلها. الرابع عشر: تتبع المشكلات والكلام فيها، مثل مسألة الروح ونحوها. الخامس عشر: جعل العلم حجة لأنفسهم لا عليها، أو يحكمون به على غيرهم لا على أنفسهم. السادس عشر: تعليم العامة علوم التوحيد ودقائق التصوف ونحو ذلك. السابع عشر: تتبع الفضائل مع إهمال الفرائض وإفاتتها. الثامن عشر: إيثار المنافع العامة وأنواع الشفاعات.
68 - فصل أما علم الكيمياء فقد أولع به طائفة من الفقراء وادعوا أن الاشتغال به مهم لتحصيل الفوائد المالية، وإقامة الزوايا وإطعام الطعام ونحو ذلك، وربما يزيد بعضهم أنه من شروط الإيمان، اغترارأ بقول أبي العباس البوني
التاسع عشر: الاستظهار بما يستجلب النفوس من الأعمال كالسماع والأحوال كالتواجد ونحوه. الموفى عشرون: التبرك بالآثار وزيارة مقابر الأموات، والانتماء (¬1) إليهم وقراءة أحزابهم والنسج على منوالهم، ونحو ذلك، وسنذكر كلا في فصل يخصه بتفصيله، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ... 68 - فصل أما علم الكيمياء (¬2) فقد أولع به طائفة من الفقراء وادعوا أن الاشتغال به مهم لتحصيل الفوائد المالية، وإقامة الزوايا وإطعام الطعام ونحو ذلك، وربما يزيد بعضهم أنه من شروط الإيمان، اغترارأ بقول أبي العباس البوني: إن العلم به أول المراتب في الإيمان باليوم الدنيوي، وقصده أن تجويز وجوده من اتساع العلم بالقدرة، لا وجود طلبه والتعلق به، إذ لا يتعلق به إلا قليل الدين، قليل المروءة، قليل العقل، واسع دائرة الوهم، بعيد عن دائرة الفهم. أما قلة دينه فلأنه يؤدي إلى محرمات، منها تأذيه ببعض السموم الثائرة منه، كما اتفق لكثير منهم، فمات أو تأذى غيره بها بعده، بواسطة قلبه للعين، حتى تستعمل في بعض الأدوية ونحوها، فيكون سببا في ذلك، وكذلك حرق ما لا يحل حرقه من شعر أو عظم أو تقطير حيوان، وإتلاف المال في غير محقق ولا مضمون السلامة، هذا مع ما يعرض له إن صح ¬
من وجوب البيان الذي لا قدرة له عليه إلا بإلقاء نفسه في الهلكة، وإن لم يبين أكل حراما، ثم إن اطلع عليه ردت شهادته وإمامته، انظر القلشاني (¬1) في بيوع الرسالة عند قوله: (ولا ما إذا ذكره كرهه المبتاع). وأما قلة عقله فتعريض نفسه للتلف، ودينه للنقص، وماله للهلاك، ومروءته للطعن بأمر متوهم، الغالب عدم وجوده بل فقده جملة وتفصيلا، كما قيل: كاف الكنوز وكاف الكيمياء معا ... لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا وقد تحدث أقوام بأمرهما ... وما أظنهما كانا ولا وقعا وأما قلة مروءته فلأنه يعرض نفسه للمقال عند الاطلاع عليه، إذ لا ينسب إلا للتدليس والغش، ولو كان يأتي بأصل الحكمة وينبوع المعادن، وأيضا فلا يصح له ما يفعل إلا بالاحتياج لقوم لا خلاق لهم، واطلاعهم على سره من اليهود وأشباههم من أهل المعرفة بأنواع المواد والوجوه والتحقيقات، وإلا كان ماشيا في عمياء، ومن لم يأنف من مثل هذا في سببه فهو خسيس الهمة، وما يدعيه من الفوائد في جنب ما يحصل له من الشر كنقطة في بحر. واحتجاج المحتج بوقائع الأكابر في ذلك، احتجاج بأمراض وقعت لمن تداركه الله على نفع العلة، ولقد رأينا هذه الصناعة ومن يطلبها مقرونة بالذل والفقر، وقال لنا بعض المشايخ: ما وقع عليها أحد قط، إلا وقع في فقر الأبد، وهو البخل، أو غنى الأبد، وهو القناعة، حتى لا ينتفع بها، ولقد عاينا ذلك في كل من يتهم بها، فأما علمها مجردا فلا بأس به، لما فيه من الاطلاع على أسرار العالم وحكمة التركيب والتحليل وأسرار وجوده، ولقد كان بعض المشايخ يسلك به من حيث الهمة والفعل، لا من حيث الطلب والتحصيل، فاتهم به وله طريقة. ¬
69 - فصل وأما الكاغدية فهي فرع علوم الروحاني، ومرجعها لأحد أمرين
فأما الكنوز فليس في طلبها إلا الطمع، وقلة العقل، والتعرض للتلف في غير حاصل، وهب أن واحدا حصل فآلاف الآلاف ماتوا بغصته، بل تلفوا في طلبه، والدنيا عند أهل الله أقل من أن ينظروا إليها، فكيف يبذلون فيها نفوسهم، وعلة الإطعام علة فارغة، لأن النفقة من القليل الخالص أفضل من الكثير المشوب، بل ولو من الخالص، وبالله التوفيق. ... 69 - فصل وأما الكاغدية فهي فرع علوم الروحاني، ومرجعها لأحد أمرين: إقلاب عين لا يدوم، فلا يحل، لأنه غش حاضر، أو نقل عين، وقد تكون من مال معصوم، فلا تحل أيضا، لأن الأصل ذلك، بخلاف ما يحتجون به من قولهم إنما يأتون به من مال من لا يزكي أو من يسرق حقوق المسلمين من السوقة، فأما ما يدعونه من أن الجان يأخذ المعدن فيضربه في حينه، فأمر داخل تحت القدرة، والأصل خلافه لقوة السرعة، وهذا كله إن سلم العمل من بعض العزائم الكفرية أو المجهولة، أو العمل بالأمور التي لا تجوز، مثل الصلاة لغير القبلة، أو بصفة معلومة لوجه معلوم، أو الوضوء ببول بعض الحيوانات، أو تحريف القرآن والزيادة فيه كسرقة سورة الفاتحة، ودعوة آية الكرسي، ودعوة قل أوحي ونحو ذلك، فإن الأصل في ذلك كله المنع، والرجوع إليه من ضعف الإيمان في منافع القرآن، وإلا فالقرآن كاف بحروفه عما ذكر في جميع ما يراد منه لمن أهل له، ثم علم الروحاني غالبا لا يتفق لمستقيم في دينه، وإن اتفق له فعن قريب ينقلب عليه فيتضرر به، وإن لم يتضرر به حجبه عن العلوم الإلهية، فكان مجعزولا عن المعرفة الخاصة، كما أشار إليه بعض الأئمة، وقال: إذا اختبرت من يصحب الجان لا تجد معه علما إلهيا أبدا، ثم إن أتاه بخير يدخل به في حيز الكهان، لقول النبي (ص): ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، كقرقرة الدجاجة، فيخلطون معها
70 - فصل في الاشتغال بعلوم التصريف من الحروف ونحوها
أكثر من مائة كذبة)) (¬1) رواه البخاري، وقد يدعي بعضهم أن ذلك من حيز المكاشفات، ويراه من محادثة الأسرار، وما هو إلا الكهانة، فيرحم الله من قال: أطاعوا الشيطان فأطاعهم، وحصلت لهم المصادقة فسموها مكاشفة، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه. 70 - فصل في الاشتغال بعلوم التصريف من الحروف ونحوها وقد أولع به كثير من الفقراء وغيرهم، ولا سيما أهل المشرق ومن قاربهم، فوقعوا في السحريات، وعملوا بالمجهولات التي بعضها إساءة أدب، وبعضها كفر أو صورة كفر، كما أشار إليه مالك رحمه الله: وما يدريك لعلها كفر. وقد وقع ذلك لبعض الأسرى أنه كان يعزم على جان بحضرة نصراني، والنصراني يضحك منه، فقال له في ذلك، فقال: عجبت منك، تسب ربك ونبيك وأنت لا تشعر، وقد وقعت لبعض الناس على شيء من ذلك ولم يمكنني الإنكار عليه، فقلت في نفسي: صدق مالك رحمة الله عليه، ومن أجاز ذلك استند لحديث: ((أعرضوا علي علي رقيكم))، ثم قال: ((لا أرى بأسا)) (¬2) اعتبارا بأن الأصل السلامة - بعيد من أصل مالك في سد الذرائع -، وقد أنكر ابن الحاج حفائظ السنة التي يكتبونها بالبلاد في آخر جمعة من رمضان، وبالغ فيها غاية المبالغة (¬3)، وانتصر لها غيره، وهذا كله إن سلم من وضع أشكال سحرية أو صورة عملية (¬4) أو رصودات فلكية، وإلا فهو مذموم باتفاق، وقد يؤدي إلى تقطع الأسماء الكريمة، وإفساد نظم ¬
حروفها، وكتبها بغير ما يحل من دم ونحوه، أو إذاية بعض الحيوانات، كالخنفطرات (¬1) المبنية على رماد الخطاف وغيرها، الموقوفة على دم الحمام وزرقه، وقد يكون من باب التوغل في الأسباب القادحة في التوكل، كما أشار إليه الشيخ ابن عباد في مسألة الخاتم الوبائي (¬2) أعني حي، حميد، حنان، حليم، إلى غير ذلك، مع أنه شغل وقت بما غالبه غير نافذ، ولا مظنون النفوذ، وربما هلك فيه مستعمله، كما اتفق لكثير من أهله، لعدم علمه، وفقد مساعدة قواه عليه، فإن الخاصية التي يقع عليها الانفعال مركبة من صفة نفسية، وحقيقة قلبية، وحركة عملية (¬3) كالمغناطيس للحديد، لا يجذب غيره ولا يتأخر عنه، وقد قال علماء الفن: لا ينتفع أحد به إلا عالم يعرف حقائق ما يتحرك فيه، أو جاهل يعظم في نفسه ما يتوهمه من قوته، فلذلك لا ينتفع عالم بمجهود، ولا جاهل بواضح، بل بمبهمات، قالوا: والاختيارات الفلكية معتبرة لتقوية الهمة حتى تقع الحركة عنها. وقد قال الشيخ محيي الدين بن عربي في بعض كتبه: علم الحروف علم شريف، إلا أنه مذموم دينيا ودنيا. قلت: أما ديينا، فلأنه مثبط للهمة، وتعمق في الأسباب من غير وجه صحيح، وأما دنيا: فلأنه متعلق بأوهام مع توقفه على شروط معدومة، فالعمل فيه عمل في غير معمل، فمن شروطه إدراك مبادئه ذوقا ومعرفة مبانيه تحقيقا، ومعرفة مواقعه حقيقة بنظر دقيق، وذلك بعيد من النفوس، فلذلك قل من ينتفع به، إلا على يد شيخ كامل ونحوه من طريق الإعانة في باب الذكر، فاضرب عنه صفحا إن كنت عاقلا، وبالله التوفيق. ... ¬
71 - فصل في الاشتغال بعلم المغيبات، وتحصيلها بطرق الكسب من أحكام النجوم والفال والقرعة والسانح والبارح وعلم الكتب والرمل ونحو ذلك
71 - فصل في الاشتغال بعلم المغيبات، وتحصيلها بطرق الكسب من أحكام النجوم والفال والقرعة والسانح والبارح وعلم الكتب والرمل ونحو ذلك وهذا الفن هو مفتاح كل فتنة في الدنيا والدين، وقل من تعلق به فأفلح، لأن مرجعه إلى الكهانة، وهي ضد الحق، وقد قال (ص): ((من أتى عرافا ليسأله، فقد كفر بما أنزل على محمد)) (¬1) يعني: إن اعتقد اطلاعه على الغيب، وإلا فكفر دون كفر. قال العلماء: وقرعة الطيور والدوائر والأنبياء ونحوها من باب الاستقسام بالأزلام، وبالغوا في ذلك إلى أن عدوا منه الاستفتاح في المصحف، وحكاية الوليد العاصي (¬2)، في تمزيقه بسبب ذلك معلومة، وقوله (ص): ((كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه خط ذلك النبي فذلك)) (¬3) الحديث، إشارة ¬
72 - فصل في طلب الاسم الأعظم والشيخ المربي بالهمة والكبريت الأحمر الذي لا يحتاج معه إلى عمل في بابه
للتوقف قيه، أو إخبار بالمنع، لأن الموافقة لا تتحقق، فالإقدام ممتنع، وإحالة لما صادف من ذلك أنه بالمصادفة لا بالتحقق. قال علماؤنا: ولو لم يكن في ذلك إلا التجسس على رب العالمين لكان كافيا، ومن تجسس على أقل الخلق ماذا ترى يلقى منه من السوء، فكيف بمن تجسس على ملك السماوات والأرض، فلذلك ابتلاهم الله سبحانه بالفقر والذل والمقت وميتة السوء، وكذلك الكيميائيون والكنازون وأهل علوم التصريف، ابتلوا بذلك في الغالب، لإرادتهم إبطال حكمة الله في الوجود، ومن اتخاذ بعضها بعضا سخريا بطريق الأسباب العادية الجامعة لتحصيل المعاش وتحصينه. فأما أهل علم الحدثان والأجفار وما يكون من الملوك والأمراء وغيرهم فزادوا على الكل بالفضول، ودخلوا المضائق التي لا حاجة بها، وقل ما تجد أحدا منهم يموت في العافية، ما ذلك إلا لمخالفة الشرع في الاشتغال بما لا يعني، وفتح باب الفتن على الناس، إلى غير ذلك، وكل من تكلم فيه من العلماء، فإما صاحب حال لا يقتدى به، أو صاحب هوى لا يصح اتباعه، أو ذو مسلك ضيق لا يصح لغيره، ثم هم لم يحرروا شيئا، فالتعلق به تعلق بموهوم لا سيما الرموز، وبالله التوفيق. 72 - فصل في طلب الاسم الأعظم والشيخ المربي بالهمة والكبريت الأحمر الذي لا يحتاج معه إلى عمل في بابه وطلب ذلك من الحمق والبطالة، والتوهم الفاسد، لأن الكل متحقق الأمر في الوجود، إلا أنه لا يوصل إليه بسبب ولا استعداد ولا طلب، ولكن بمنة الله سبحانه، ولها بساط هو العبودية، وطلب ذلك حجاب عن كل باب منها، ومقتض لاتباع كل ناعق، والتقيد بالوهم في محل الحقائق، وفاتح لأبواب الدعاوى، لأنه إذا طلب فلم يجد، واتهم بالوجدان يصعب
عليه الإقرار بالنقد وإن سهل، فلا يصدق في إخباره، وربما ساعدته القدرة في إقبال أو تيسير أسباب، فيظنه الجاهل من ذلك، فيتهالك عليه، وقد قال رسول الله (ص) لمن قال: علمني من غرائب العلم: ((فما فعلت في رأس الأمر من كذا ومن كذا))، فذكر له، فقال: ((اذهب فاحكم ما هنالك، وتعال أعلمك من غرائب العلم (¬1). وقال (ص) للذي قال له: أريد أن أكون رفيقك في الجنة: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) (¬2) واختلف جوابه (ص) في الاسم الأعظم بحسب توجهات المتوجهين (¬3) فتحير الناس في إدراك ذلك حيرة كاملة، فمن معتبر صفات النفوس، ومن معتبر حقائق الأسماء، ومن معتبر مناسبتها الأحوال، ومن معتبر جمعها للحقائق، ومن معتبر نسبتها في الوجود، والحق وراء ¬
73 - فصل في الاغترار بكل ناعق وإيثار غير المهم
ذلك كله عند المحققين، لأن مواقف المنح لا تدرك بالقياس، وإن علمت الجهة، فلا ينحصر الوجه، وقد مر بعض الكلام على ما ذكر في أثناء الكتاب، فالتزم العبودية، وبالله التوفيق. ... 73 - فصل في الاغترار بكل ناعق وإيثار غير المهم، مثل صلوات الليالي والأيام الفاضلة، والعمل بالروايات الباطلة، وترك واضح العلم، مثل صلاة أول خميس من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة سبع وعشرين من رجب، وودع رمضان، وصلاة يوم عاشوراء، وصلاة القبر، وصلاة الوالدين، وصلاة الأسبوع كل يوم وليلة بما فيه، وكل ذلك موضوع، أي كذب به على رسول الله (ص)، وقد نص الأئمة على منع العمل به، كابن العربي والطرطوشي من المالكية، وابن عبد السلام والنووي من الشافعية، وبالغ ابن العربي في إنكار صلاة التسبيح (¬1)، ولم يوافق على ذلك، إذ قد صححها أئمة وعمل بها جملة من أهل العلم. وقال الدارقطني: ليس في فضائل السور أصح من فضل {قل هو الله أحد} (¬2) ولا في فضائل الصلوات أصح من صلاة التسابيح، وذهب طائفة من أهل الفقه للعمل بذلك كله، بناء على أنه مما لا يقدح في الأصل، ولا يدفع الفرع، منهم الإمام الغزالي وأبو طالب المكي ومن جرى مجراهما، وطائفة إلى قبول ما لا تدخله كيفية، كحديث الأيام السبعة (¬3) وبعض أعداد ¬
74 - فصل في الوقوف مع الأسلوب الغريب في العلم أو في العمل أو في الحركات أو غيرها والانقياد لكل من ظهرت عليه خارقة أو جاء بدعوى، وإن لم يكن له عليها برهان
الأذكار، وفضل الصلاة في ليلة أو يوم ما مطلقا، وهي طريقة ابن حبيب. وقد قال ابن العربي رحمه الله: أما أحاديثه فلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وإذا تكلم في الفقه فاستمع لما يوحى، ولقد رأيت غالب فقراء هذا الزمان، بل سائر الناس من العوام وغيرهم يدعون إلى الحق الواضح، فلا تقبله نفوسهم إلا بتكره، بل يتركونه رأسا وينقادون لمثل هذه الأمور ويثابرون عليها، وربما ضيعوا فرضا أو وقعوا في محرم بسبب ذلك، وهو غالب أمرهم، ثم لا يبالون بذلك وهو من أكبر المصائب والنوائب، وأعظم من ذلك تعظيم أعياد الكفار، مثل الحاجوز والعنصرة، وأول خميس من مايو، وعيد البلسان عند أهل مصر، وربما تعدى بعضهم إلى مخالطة أهل المنكر ومشاهدتهم، ويعد ذلك ديانة من طريق الاعتبار، ويلتمس له الوجوه، فيقع في الزندقة وهو لا يعلم، نسأل الله العافية. ... 74 - فصل في الوقوف مع الأسلوب الغريب في العلم أو في العمل أو في الحركات أو غيرها والانقياد لكل من ظهرت عليه خارقة أو جاء بدعوى، وإن لم يكن له عليها برهان وهو باب حسن الظن في باب الاتباع، أو حيث يخشى على الغير من ذلك قبيح، وقد تقدم ما فيه، ويرحم الله تعالى بعض المشايخ، حيث قال لنا: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء فقولوا له بلسانكم: أنت ساحر، وبالقلب نفعنا الله بك، لتسلموا من ضرره وتحصلوا منفعته، وكذلك من ظهر بعلم غريب بعلوم الحقائق والرقائق ونحوها، فإنها قد تكون عند من لا خلاق له، وكلها ظلمة وحجب، وقد عاينا ذلك، وعلامته ألا تجد منها شاهدا في شمائله، فإن من لم يكن له من علمه نصيب في عمله، فهو عليه، لا له، وكذلك من يدين بالوسوسة، وإظهار التحفظ، فإن صاحبها جاهل أو غوي، لأن الوسوسة بدعة، أصلها جهل بالسنة، أو خبال في العقل، لا يخلو منها
(متدين) (¬1) ولا يدوم عليها إلا مخدوع، وأكثر ما يغتر بهذا النوع أهل البلاد المصرية، وهي سوسة من النفحات الإسرائيلية، كالتهاون بكشف العورة عندهم لذلك ولغيره. ثم الوسوسة تجمع لصاحبها الكبر والرياء وسوء الظن بالله وعباده، مع إعجابه بنفسه، لأنه لو لم ير نفسه، ما ميزها عن جمهور المسلمين، ولو حسن الظن بهم لكان مثلهم، ولولا سوء ظنه بالله ما تعمق في الدين، ولقد تصفحت أحوال الموسوسين، فما رأيت من يتوسوس فى شيء يوفيه حقه، بل رأيت الموسوس في الطهارة قل أن يصلي بها إلا ناقصة، ويقع في أمور محرمة، والموسوس في الصلاة قل أن يصليها تامة، والموسوس في الطعام قل أن يأكل لقمة صافية، وربما وقع في محرم من رياء أو رؤية نفسه، أو احتقار مسلم، أو سوء ظن به دون وجه واضح، أو تغيير قلب مسلم في أمر خفيف، وإني لا أقضي العجب من كثير من الناس، إذا أخذ في الطهارة جننه الوسواس، وإذا عن له شيء من الدنيا توثب عليه من غير توقف، بل قد قال العلماء (ض): خلق الله المال حلالا كما خلق الماء طهورا، حتى لا ينجسه إلا ما غيره، وهذا لا يمنعه إلا ما غيره، إلا أن السلف (ض) رأوا تحفظ النفوس في العبادات وتساهلها في الكسب، فتحفظوا في الكسب، وتساهلوا في العبادة، وهذا خلاف حال أهل هذا الزمان، ولا سيما أهل الزوايا والمتصدرين للشفاعات ونحوها، فإنهم يأكلون الحرام النص، ويظنون أنهم على شيء، فهذا رسول الله (ص) قد قال: ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له لأجلها هدية، فقد فتح على نفسه بابا عظيما من الربا)) (¬2) الحديث، وهم يقصدون ذلك ويتهافتون عليه، نسأل الله السلامة. ... ¬
75 - فصل في الاستظهار بالدعوى والتعزز بالطريقة والأكل بالدين ونحو ذلك
75 - فصل في الاستظهار بالدعوى والتعزز بالطريقة والأكل بالدين ونحو ذلك قنجد أكثرهم يهدد من يسيء إليه، ويعد من يحسن إليه، من غير تعريج على حسن الظن بالله، ل بالتألي عليه، إما جهلا منه ورؤية لاستحقاقه ما يدعيه، وهي خديعة شيطانية، أو اغترارا ببعض البوارق النفسانية والطوالع القلبية، ويدعوه لذلك استعجال العز والغنى بالطريق، وحب الاستتباع، حتى لقد سمعت عن بعض الناس أنه يقول ويشير إلى نفسه: كل شيخ لا يتكفل بمريده في المواقف الثلاث؛ أعني عند الخاتمة، وعند السؤال، وعند الصراط، فهو غاش، وهذه مصيبة كبيرة، لأن عاقبته في هذه الثلاث مجهولة، وكذا عواقب جميع الخلق، والآخرة يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، ودعاء الرسل على الصراط: ((اللهم سلم سلم)) (¬1)، فمن أين يكون لغيرهم ما ليس لهم، أعاذنا الله من الفضيحة والكذب على الله بغير حق، وهذه مصيبة كبيرة وغلطة وقعت لصاحب هذه الحالة، من جهله وحسن ظنه بنفسه وحبه للرئاسة، فإن أضاف إلى ذلك الأكل بالدين، وصحبة الظلمة، وإيثار الأغنياء على الفقراء، والمعتقدين له على غيرهم، واستظهر بعلوم الرقائق والدقائق، والاستظهار بها عند من يعرف ومن لا يعرف، ويرى ذلك دينا قيما وصراطا مستقيما، وإن أضاف إلى ذلك منع من يتعلق به من مطالعة كتب القوم فقد باء بالخسران، واستحق وجود اللوم، فإن شر الناس الذي يأكل بدينه. قال العلماء: وهو الذي يتطهر بصفة ليست فيه، فيأكل بذلك، قالوا: ولا يجوز أن يأكل ما باسم الصوفية، إلا من لا يصر على كبيرة، وإلا أكل حراما، ولا يسكن الزوايا إلا ذلك، فصار الأمر على خلاف ذلك في جميع الوجوم، مع تعامي الكل عن الكل خوف الفضيحة، فيرحم الله القائل: فسد الزمان فأين أين المهرب ... وفشا الحرام فأي كسب أطلب ¬
76 - فصل في معاملة المنتقدين والمنكرين والمعترضين وهم على أنواع كثيرة
وتعامت العلماء عن شبهاتها ... فلمثل ذا فليعجب المتعجب من ذا نشاور في مراتب ديننا ... أو من لنا في ذا الزمان مؤدب وقد جاء في الحديث: ((بدأ الدين غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء منه ...)) (¬1) الحديث، والغرباء هم المذكورون في حديث الطائفة التي لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها، وهي الجماعة المذكورة في حديث حذيفة (¬2)، والفرقة الناجية، أعني اتباع السلف (ض) وألحقنا بهم بمنه وكرمه. ... 76 - فصل في معاملة المنتقدين والمنكرين والمعترضين وهم على أنواع كثيرة فالمنكر بحق في حق حسبما أداه إليه اجتهاده، كالمعتقد كذلك. قال شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض) بعد كلام ذكره في كتابه (صدور المراتب ونيل المراغب): والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه، هو معذور مسلم له، من باب الضعف والتقصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائرة، ومشهده مشهد واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة، بحسب ما في (الودائع) (¬3) الموضوعة على أي صفة كانت. قلت: وهذا هو الحق والإنصاف، لأن كل أحد لا يكلف بخلاف علمه، ¬
ولا يجوز له تعدي ذلك لما لا علم له به، لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬1) فالمنكر بحق كالمعتقد به، وقد جرت عادة فقراء هذا الزمان بسب المنكرين والانتصار عليهم من غير حق، وربما انتهى بهم الأمر إلى حد يستبيحون به دماءهم وأموالهم وأعراضهم، فيدخلون بذلك في زمرة المارقين، وربما كانوا به من الذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وحق الفقير إقباله على شأنه وإعراضه عن مواضع الشبه وعدم مقابلة الخلق فيما يأتون به، لأن ذلك لا ينقضي، ويؤدي إلى وجود التشويش دائما، كما قيل: لو (¬2) كل كلب عوى ألقمته حجرا ... لأصبح الصخر مثقالا بدينار والطريق مبني على رحمة الخلق فيما هم فيه، وإقامة الحق عليهم فيما يقتضيه، فإن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم، ومن نظر إليهم بعين الشريعة طالت خصومته معهم، والحق أن ينظر إليهم بعين الحقيقة، ويحكم عليهم بحكم الشريعة، فيقع الإنصاف في عين الائتلاف: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك} (¬3) قيل: للاختلاف، وقيل: للرحمة، وقيل: لهما، وهو الصحيح، وقد جرت سنة الله بإنكار الفقهاء على هؤلاء القوم جملة وتفصيلا، والأكثر في هذه الأزمنة التفصيل، وذلك لحكمة بقائهم مع مولاهم بلا علة، ولتظهر عنايته عليهم في عدم التمكين منهم، ولتبدو فضائلهم لمن لم يكن له بها علم. إذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود. وأيضا فلئلا يفوتهم الشكر على المدح، والصبر على الذم، ولا يبقى لهم قرار إلا مع مولاهم ولا سكون لغيره. ¬
77 - فصل في التظاهر بالأمور الغريبة من الشطحات والطامات وغيرها
قال في الحكم: إنما أجرى الأذى عليك منهم، كي لا تكون ساكنا إليهم، أراد أن يزعجك إليه من كل شيء، حتى لا يشغلك عنه شيء، انتهى. ثم جرت سنته تعالى في المنكرين أن يبتليهم ببلايا ظاهرة في الوجود متى خالطهم في الإنكار هوى، ولو قل، لأنه تعالى يغار لهتك حرمة جنابه إلا بإذنه، فالمعترض له بالهوى مخذول، والمصر لدين الله منصور، وأكثر الناس يقصدون الحق في الإنكار، فإذا رد عليهم اشتدوا لنصرة أنفسهم، وانقلب الأمر عليهم وهم يظنون أنهم قاموا لله، وغيرهم يرى ذلك من خاصية الإنكار، وهو جهل من الجميع، أعاذنا الله من البلاء، وسلك بنا سبيل السنة بلا بدعة ولا إنكار بمنه وكرمه. 77 - فصل في التظاهر بالأمور الغريبة من الشطحات والطامات وغيرها وهي أمور تبدو على أصحاب الأحوال من الصادقين في مبادئ الفتح والتلوين، لا تناهي التمكين، فلذلك قيل: التلون مجون، والتمكن معرفة، وأين الحال من الصفة، وغالب أمرها إنما تصدر عمن سلك من طريق العلم أو طريق التجريد، أي: سلك على طريق العمل والتأدب، لأن فيضان نور المعرفة على حسب بساطه، وكل ذلك إناء يرشح بما فيه، وتحقيق ذلك يطول، لكن هذا صوابه. لكن هناك طوائف من الناس استظهروا بهذه الأمور عن حقائقهم، إما لغلبة وارد، فمعذورون بالغلبة غير مقتدى بهم، وهو حال الغالب، كالحلاج ومن جرى مجراه منهم. (وإما للتنبيه على موارد الواردات، كحال الحاتمي ومن جرى مجراه) (¬1) ولا عذر له في ذلك، إلا من حيث أنه يقول: إنما تكلمت بخاص في خاص، يفهم ما أريد مما أورد، ولكل قوم اصطلاح، والعبارة ¬
تقريب لمن يفهم المقصود، ولو بالنقيض، فيبقى عليه حفظ حرمة الربوبية والنبوءة في التوقيعات، فيقول: قد عرف ذلك من أصل مذهبنا، والألفاظ مؤديات، وقد أدت أعظم مما يبدي المنكر من التعظيم لأهله، كما أشار إليه ابن الفارض بقوله: وعني بالتلويح يفهم ذائق ... وغنى عن التصريح للمتعنت فيجاب عن ذلك: بأن التوقير واجب ظاهرا كوجوبه باطنا، وغلبة الحال لا يتعرض لها بغير نفي الاقتداء، فلا يجوز لأحد أن ينقل كلامهم ولو فهمه، إلا على وجه لا يصح فيه نقد، لاتساع نظر الناس اليوم في الطريق، وتداولها الجاهل والعالم وأسراع النفوس لاعتقاد ظاهرها، أو أن من ينقلها معتقد ذلك، وكل من أولع بذلك وجعله هجيراه، فالفلاح منه بعيد، وقد سئل شيخنا أبو عبد الله محمد بن القاسم القوري (ض)، عن ابن العربي الحاتمي فقال: أعرف بكل فن من أهل كل فن، فقيل له: ما سألناك عن هذا، قال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية، قيل له: فما ترجح، قال: التسليم (¬1). قلت: وذلك لأن ظهوره بترجيحه ربما أغرى الضعفاء على اتباعه، والاغتناء به فهلكوا فيه، والتعرض للتكفير خطر من حيث إخراج مسلم بشبهة، وقد قال الشيخ أبو بكر بن فورك (¬2) (ض): الغلط في إدخال ألف ¬
78 - فصل في وضع الشيء في غير محله
كافر بشبهة إسلام أولى من إخراج مسلم بذلك (¬1) ذكره في الشفاء فانظره، ولقد رأيت من الناس كثيرا لا يرون الفقير إلا من يستظهر بذلك، ومن يحفظ حرمة الله ورسوله يسمونه يابسا، ويقولون: لا خير عنده، وهو لو فتح باب الكلام في حقائق الحقائق ما شموا له رائحة، أعاذنا الله مما ابتلاه به بمنه وكرمه. ... 78 - فصل في وضع الشيء في غير محله وهو نظر الناس بالعلم في غيرهم، وتركهم الحكم به على أنفسهم، فتجد أحدهم إذا سمع شيئا من الأمور التي عمت بها البلوى، ووقع فيها عوام الخلق من العلماء والفقراء وغيرهم، يقول: هذا حال الناس اليوم يفعلون كذا ولا يتقون كذا، ويدع النظر في نفسه بذلك، فيعمى عن عيبه ويبصر عيب أخيه، وذلك من حسن ظنه بنفسه وتزكيتها، وقد أشار إليه رسول الله (ص) بقوله: ((يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه)) (¬2) الحديث، وقد ابتلي فقراء هذا الوقت بخمسة أشياء: الاغترار، والوسوسة، والكسل، ورؤية الأهلية لكل كمال بأول قدم، والتعزز بالطريق على كل حال. فحدث لهم بذلك خمسة أمور: من الاغترار اتباع كل ناعق بحق أو ¬
بباطل، ومن الوسوسة الابتداع في الدين مع رؤية الامتياز، ومن الكسل الإسراع لكل جهة يتوهمون فيها الكمال، ومن رؤية الأهلية الخبط والخوض فيما لم يحسنوا، ومن التعزز طلب الباطل بصورة الحق فحصل الفساد من جهة الصلاح، وما حجب العلماء عن العمل إلا تعلمهم العلم لغيرهم، وما أوجب لهم التشمير إلا تعلمهم ذلك، لأنفسهم، فإن من تعلم العلم لنفسه اهتدى وتبصر (¬1) ومن تعلم العلم لغيره، فقل أن ينتفع به، وعقوبة العالم موت قلبه (¬2) أي: طلب الدنيا بعمل الآخرة (¬3)، كما ورد به الأثر، فتعلموا العلم لتعملوا به، لا لتكتسبوا به، واجعلوه حجة على أنفسكم، لا لها ولا على الناس، وإياكم والاحتجاج بوقائع العلماء بدلا مما تحققتم علمه، فقد ضل كثير من الناس لهذا الباب (¬4)، ولعل للواقع فيما ذكر عذرا لم نطلع عليه، وبالله التوفيق. ... ¬
79 - فصل في تتبع الفضائل وأنواع المندوبات
79 - فصل في تتبع الفضائل وأنواع المندوبات وذلك أمر مدهش للنفس وموزع للقلب، من حيث أنه متشعب متعدد كثير قل أن تقع الإحاطة به، وهو يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وربما أدى بعض من تعلق به إلى أن تدخل عليه محرمات لا يعلمها، فلقد رأيت من هو بهذا الوصف حتى أداه إلى الغفلة الكاملة مع ابتلائه بشكاوي الخلق وسماع كلمته في ذلك وقبوله له، فصار يقبل من كل أحد ما يجيئه به، ويعمل على مقتضاه، فيقع في المتضادات، وربما ضيع حقوق أناس بذلك، ولو أبقى فضلة من رقته لصقل فكرته لكان خيرا له من جميع عباداته، وقد غلب على أكثر الناس ذلك، أعني اتباع الفضائل وحبها، وتوهم النجاة بها مع بقائهم على محرمات وذنوب وعيوب لا بد من إزالتها، حتى إن يعضهم ليهمل الفرائض ويقصر فيها، ويكثر النوافل ويسارع إليها. قال في الحكم: من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات، انتهى، فترى الواحد في هذا الزمان يقوم الليل كله ولا يقدر على فائتة يقضيها، ويتصدق بالممئين ولا يؤدي زكاة ماله، ويصوم الدهر ولا يكف عن عرض مسلم، ويذكر آناء الليل والنهار ولا يتعلم مسألة في دينه، بل لا تجد أثقل عليه من ذلك ومن التذكير به. وقال محمد بن الورد (¬1) (ض): هلاك الخلق في حرفتين، العمل في النافلة بتضييع الفريضة، وعمل الجوارح بلا مواطئة القلب، والله تعالى لا يقبل عملا إلا بالصدق وموافقة الحق، انتهى بمعناه، وقال بعض التابعين: أدركت عددا من السلف كانوا لا يعدون العبادة في الصلاة ولا في الصيام، ولكن في ¬
80 - فصل في التكلف
الكف عن الحرام والغيبة، انتهى بمعناه، وغالب ما الناس محتاجون إليه في هذه الأزمنة، ترك الغيبة والكذب والخيانة، لا سيما في البيع والشراء ونحو ذلك، ومن عز عليه دينه سهل عليه كل شيء، ومن خف عليه دينه صعب عليه كل شيء، وقد قال سري (¬1) (ض): من عرف الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش (¬2) والعاقل عن عيوبه فتاش، انتهى وهو عجيب، رزقنا الله العمل به بمنه وكرمه. ... 80 - فصل في التكلف وهو التصدي للعلم والعمل قبل حوز رتبة الإمامة فيه، والاكتفاء بعلمك عن علم غيرك، وبعلمك عن اتباع من يصح اتباعه، ومن ذلك الاشتغال بالتأليف والتصنيف قبل أن يراه الأشياخ أهلا لذلك، والتصدي للتربية بغير إشارة إلهية ولا أمر من شيخ صادق مصيب، والكلام في المشكلات قبل القدرة على حلها بوجه واضح دون توقف ولا تردد ولا احتمال، ومن ذلك ما وظفه بعض الناس من الأحزاب وأتى فيها بشقاشق الكلام، والخروج عن الإضمار في العبارة أو المعنى، وأعانه على ذلك قواه النفسانية، وطلب الرئاسة والاستتباع من حيث يشعر أو من حيث، لا يشعر. فأما أحزاب المشايخ فتكلموا فيها بوصف الفناء، وقصد الهداية على المعاينة في بساط العبودية، حتى إنهم ضمنوها معاني طريقهم، فكان فيه سلوك وتعليم وتربية وترقيه وتأديب، كما هو حال حزب الشيخ أبي الحسن الشاذلي (ض)، فلذلك صح لمن قرأه أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم، ¬
كما قال الشيخ رحمه الله فيمن قرأ حزبه الكبير، قال ابن عباد رحمه الله: أي له ما لنا من الحرمة، وعليه ما علينا من الرحمة، وفيه مواضع تصحب بالتسليم، ولا يعمل بها لأنها من عبارات المدلين، مثل قوله: وليس من الكرم إلى آخره، كذا قال ابن عباد فيما رأيت بخط بعض أصحابه وهو صحيح، فأما ما فيها من المبهمات مثل قوله ق ج ل د م حم ونحو ذلك، فحروف قصدت لإشارات يفهمها أهلها ولا تضر غيرهم، إذ ليس موقعها موقع إيهام ولا إشكال، نعم موقع من يفهمه أهله ويخفى على غير أهله، وإن كان فيها توهيم عظمتها وأنها خارجة على قياس الفهم عند الضعفاء، فقد يكون ذلك مرادا لتقوية نياتهم، ولا يضر وقوعه لا سيما في جمع فواتح السور، مثل: ألم ألمص كهيعص حم ق ص ن إلى غير ذلك، فإنها مقصودة بذاتها (¬1) إما لذاتها، وإما لمعان في ذاتها بوضع الحكيم العليم، فالتعلق بها لا يضر بحسب الفهم الصحيح، والنظر الرجيح، وقد قال (ص) لأصحابه في الحزب: ((ليكن شعاركم حم لا ينصرون)) (¬2) الحديث، فاعرف ذلك وخذ الأشياء بقبولها إذا صح الوجه، وهو كون المأخوذ عنه ممن يصح الاقتداء به، وقد ظهر من أقوال سيدي أبي الحسن الشاذلي (ض) وأعماله وأحواله ما لا يصح معه أن يقال فيه: ضال ولا مضل، وأسند جميع ما ذكره في أحزابه لإشارته (ص) به في النوم، والرؤيا الصالحة من الرجل الصالح معلومة الصدق (¬3) للحديث، والله سبحانه أعلم. ... ¬
81 - فصل في أمور أولع بها بعض الناس وفيها مغمز ما
81 - فصل في أمور أولع بها بعض الناس وفيها مغمز ما منها أحزاب الشيخ محمد عبد الحق بن سبعين، وهي محتوية على حقائق ودقائق وأمور عالية بعبارات فائقة، وشقاشق عظيمة، بعضها في الإضمار وبعضها خارج عال، فلذلك وجب على الضعفاء اتقاؤها، وكان التسليم فيها أولى من العمل بها، إلا حزب السلام له، وفيه ما فيه، للعدول عن الألفاظ الشرعية إلى عبارة أخرى لا ندري ما قصده بها، إن لم يكن الإيقاع في النفس، وبالجملة فذلك وقع له بحسب حاله ومقامه، ونحن لا نأخذ إلا ما جمع العبودية والأدب والتأثير، لا غير ذلك، فافهم. ومنها دعوات البوني وأقسامه المرتبة على الساعات وغيرها، وقد نص العلماء على أن ذلك بدعة مكروهة، ويعنون: للعالم به، فأما غيره من الجهال فلا حديث عليه، وهو ممنوع منه بكل حال، ويرحم الله الشيخ أبا العباس بن البنا (¬1) حيث يقول: باين البوني وأشكاله، ووافق خير النساج وأمثاله (¬2) وجملة كتب الشيخ أبي العباس البوني واجبة الاجتناب، إلا ثلاثة لثلاثة: (علم الهوى)، للعارف والمريد المتسع في باب العلم بعد إشرافه على الحقيقة، (ومواقف (¬3) الغايات) لمن يعرف موارد النفوس، ومواضع السلوك، (وقبس الاهتداء إلى وفق السعادة)، لمن أراد الاستعانة في توجهه بأسماء الحق سبحانه، وما سوى ذلك فضرره أكثر من نفعه، لا سيما ما بأيدي الناس مسمى شمس المعارف، فإنما هو ظلامها على الضعفاء وقد رأيت جزءا من كتاب مسمى بذلك، فرأيت من ترتيبه العجب العجاب، فذكر في بعض الناس أنه الأصل، وأن الذي بأيدي الناس وضعه بعض ¬
أصحاب الشيخ بمصر، لأنه لما بلغه الكتاب المذكور، طلبه منه بعض الملوك، فأدركته الغيرة من بذله لغير أهله، فستره وبعث بهذا لهم، والله أعلم بالأمر. وقد حذر الناصحون من تلبيس ابن الجوزي (¬1)، بل ومن مواضع في مواعظه، وفتوحات الحاتمي، وتائية ابن الفارض بل كل قصائده، وأزجال الششتري (¬2) وتآليف شيخه ابن سبعين، وكتاب (خلع النعلين) لابن قسي (¬3)، وابن ذي سكين (¬4)، والعفيف التلمساني (¬5) والعجمي الأيكي (¬6)، والأقطع (¬7) وابن أجلاء (¬8) ومن نحا نحوهم، واختلف الناس فيهم اختلافا متباينا، فمن معتقد فيهم الولاية، ومن معتقد الغواية، ومن آخذ بالتسليم (¬9) ومن قائم ¬
82 - فصل في تتبع المشكلات والاستظهار بالكلام فيها مع العوام وغيرهم وتعليمهم علوم التوحيد ودقائق التصوف
بالحق، وهو أخذ البين في نفسه، وترك ما عداه لأربابه، مع حسن الظن بالجمع، وبالله التوفيق. ... 82 - فصل في تتبع المشكلات والاستظهار بالكلام فيها مع العوام وغيرهم وتعليمهم علوم التوحيد ودقائق التصوف وذلك كله من حب الرئاسة والظهور بالغرائب، لأن النفوس مجبولة على حب الغريب، فتجد الواحد منهم يسأل عن المعرفة والوصول والحقيقة ¬
والتحقيق، ويتكلم في الأحوال والمنامات والمنازلات وعلم الخواص ونحوها مع العوام، ويزعم أنه بذلك مشوق لهم ومذكر، وما هو إلا مضر بهم ومهلك لهم، حمله عليه الجهل بحكمة الله في خلقه، فقد قال عيسى (س) لأصحابه: ت (بحق أقول لكم يا معشر الحواريين، لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير) (¬1) وفي الخبر: ((لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم)) (¬2) وفي معناه أنشدوا: ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وقد اختلف علماء الصوفية في بذل علومهم لغير أهلها، فقال بعضهم: لا تبذل إلا لأهلها، وقال بعضهم: تبذل لأهلها ولغير أهلها، والعلم أحمى جانبا من أن يصل إليه غير أهله. قيل للجنيد: كم تنادي على الله بين يدي العامة؟ قال: لكني أنادي على العامة بين يدي الله. وقيل للنوري (¬3): ألا تذكر أصحابك؟ قال: إنهم في حجاب القطيعة، والحق أن ما كان من حيز المعاملات يبذل لكل أحد لأنه حق الله على عباده وجوبا أو ندبا، وما كان من حيز الحقائق فيعتبر فيه الوجه، فقد قال ¬
رسول الله (ص): ((أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم)) (¬1) وقال (ص): حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)) (¬2). وضرب عمر بن الخطاب (ض) صبيغا (¬3) لما كان يتتبع المشكلات ويسأله عنها، وقال الإمام أبو حامد الغزالي (ض): وقد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجعل بالورد والمسك، انتهى، ومن وجوه الضرر في ذلك سبعة أشياء: أحدها: أن حقائق التوحيد ودقائقه تدهش الضعيف فتوقعه في الحيرة والشغب. الثاني: أن ذلك ربما أثار له شبهة لاتساع الأمر عليه، وزلزل اعتقاده بما يدخله من الاضطراب. الثالث: أنه ربما كان بصورة شبهة أو فرض لها، فتثبت في نفسه، ولا يمكن رفعها بعد، وهو أحد الوجوه الذي هجر ابن حنبل المحاسبي لأجله، لما ألف كتابا في الرد على المعتزلة. الرابع أن ما يسمعه من الأحوال والمقامات يؤديه لاحتقار علم الظاهر وأهله وهو الأهم عليه، فيحصل الضرر من الصلاح كما هو مشاهد في كثير من الناس. ¬
83 - فصل في التجاسر على المراتب بادعائها مرة لنفسه ومرة لغيره ومرة فيما لا يصلح الدخول فيه
الخامس: أن ذكر الخواطر وحركات النفوس تؤديه إلى القنوط من بلوغ المراد، فتوجب له البعد عن التوجه لاتساع الحال عليه، وقد هجر ابن حنبل (ض) ذا النون (¬1) حتى مات، لتكلمه في الخواطر، قائلا: أحدث في الدين علما لم يكن فيه. السادس: أن في ذكر أحوال الرجال ووقائع الأكابر، غلق الباب على الضعفاء بحيث يصيرون لوزن أحوال الناس بذلك، فلا يعتقدون أحدا، وينظرون لأنفسهم فلا يمتدون مساغا، وإن توجهوا للطريق حملوا أنفسهم على ما لا يليق بهم من ذلك، وهذه أكبر وأعظم. السابع: أن ذكر الخواص والأذكار وفوائدها ومراصدها يقضي لهم بوجود التهافت عليها، لانطباع نفوسهم بالطمع والكسل (¬2) فيكون ذلك سببا لهلاكهم دينا ودنيا، وقد مر الكلام على بعض ذلك قريبا، وبالله سبحانه التوفيق. ... 83 - فصل في التجاسر على المراتب بادعائها مرة لنفسه ومرة لغيره ومرة فيما لا يصلح الدخول فيه مثل الكلام في مسألة الروح والنفس والعقل والقلب، من حيث حقائقها وتحقيق الحق فيها، وهل هي شيء واحد أو متعدد، وهو أمر بعيد عن إدراك التحقيق من طريق القياس والنظر، وإنما طريقه الخبر، ولا خبر، قال الله تعالى: {ما أشهدتهم خلق أنثوت السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدأ} (¬3) قيل: إن هذه الآية ترد على أربع طوائف على ¬
الترتيب: المنجمين والطبائعيين والمشرحين والفلاسفة المضلين. وكنت يوما مع بعض من له ذوق في ذلك، فأردنا الكلام فيه على الوجه الذي تكلم به صاحب النفخ والتسوية (¬1) وغيره، فسمعنا بعض الصالحين ينكث علينا بقوله تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون} (¬2) فكففنا ولم نتكلم في ذلك بعد، واذا كان سيد المرسلين الذي أوتي علم الأولين والآخرين لم يتكلم في ذلك، فكيف يتكلم فيه غيره، لا من طريق الحقيقة ولا من طريق الأدب، بل جاء في الخبر: ((أن اليهود قالوا: نسأله عن الروح، فإن أتى فيها بشيء فليس بنبي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فلعله يأتي بشيء تكرهونه، ثم سألوه، فأنزل الله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (¬3) فاشتد ذلك عليهم))، وقوله: {من أمر ربي}، أي: ليس للقياس ولا للنظر فيها محل، بل هي من شأن الربوبية، لا ما يقوله بعض الناس، وأن عالم الأمر وراء العوالم، وذكر أمورا الله تعالى أعلم بها، وقد سمعت شيخنا أبا عبد الله القوري رحمه الله غير مرة يقول: اختلف في حقيقة الروح على سبعمائة قول، وذلك دليل البعد عن العلم بحقيقتها، والله أعلم، لأن الحقيقة المعلومة لا يتناولها الخلاف لبيان أمرها، والبعيدة عن الإدراك يختلف فيها على قدر بعدها، لاتساع محتملاتها أو وجوهها، ومنه اختلافهم في معنى {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} (¬4) على خمسمائة قول، كذا سمعته أيضا من شيخنا (¬5) القوري رحمة الله عليه. ... ¬
84 - فصل وأما ادعاء المراتب والمجاسرة عليها
84 - فصل وأما ادعاء المراتب والمجاسرة عليها فمثل قولهم: بأنه في مرتبة كذا، وفلان بلغ إلى كذا، وترجمة مشايخهم ومعتقديهم بالقطبانية ونحوها، فلا تكاد ترى من له شيخ إلا يدعي له القطبانية، وربما قبلها الآخر منه وادعاها، وهي مصيبة عظيمة في ثلاثة أوجه: أحدها: التجاسر على مراتب الرجال وادعاؤها لمن لا يصلح أن يكون خديما في المراحيض، حتى لقد سمعت من بعض من تعلق بالفقراء من الجند، أن القطب هو السلطان العادل، ويقول: وهذا قد يحسن بوجه، قال: فإن كان ظالما فهو وتد أو قال: بدل، وهذه جسارة عظيمة نسأل الله العافية. الثاني: الكذب على الله والرجم بالغيب على غير حقيقة ولا دلالة واضحة، إذ قال أئمة الطريق: القطب معلوم غير معين، وهو واحد من القوم، قدم عليهم كالملك على رعيته، فيرجع إليه في المهمات، وثبوته كسائر المراتب المذكورة في أولياء العدد، غير مستندة لدليل واضح من علم الظاهر، ولا الحديث الصحيح (¬1) غير إجماع القوم على إثبات هذه المرتبة وتحقيقهم لها، وشهادة أحوالهم بالصدق والحق، وكذلك حياة الخضر ووجوده ولقاؤهم له، فخبرهم في ذلك مقبول للعدالة مع الاستفاضة، والله أعلم. الثالث: سقوط حرمة أولياء الله من قلوبهم، وهب أنهم اعتقدوا ذلك لأمور دلتهم عليه، فمن أين لهم الجزم بذلك، والشيء لا يعرف إلا بمثله، ولا يقاس إلا بما كان من شكله، ولا يعرف الأمثال إلا الأماثل، ولا يفهم المرتبة إلا من قاربها أو دخلها، بل قال سيدي أبو عبد الله القرشي (¬2) (ض): ¬
إنما يفهم عنك من أشرق فيه ما أشرق فيك، ثم من صاب غاب (¬1) ومن جد وجد، ومن عرف ما وصف، لوجود الغيرة المركبة في البشر عند الاطلاع على كل جميل، والانفراد به، ولكن الجهل ورؤية النفس بعين التعظيم هو الحامل على مثل هذه الأمور، إذ لا يرضى أحدهم بأن يكون منسوبا لأحد الأولياء، ولا يرضى الآخر في بلائه أن يكون كأحد الصالحين والفقراء (¬2)، ويعضده في ذلك بعض المساعدات النفسانية والحركات الشيطانية، أو الحقائق الوجدانية، فيزيده وهمه ويبعده عن دائرة فهمه، وربما تكلم في ذلك من حيث الاستدلال بالشواهد، وهي لا تفي بالمقصود، وقد أدبنا رسول الله (ص) في ذلك بقوله: ((إذا مدح أحدكم أخاه فليقل: أحسبه، ولا أزكي على الله أحدا)) (¬3)، وقال (ص): ((ثلاث منجيات، ... وذكر منها العدل في الرضى والغضب)) (¬4)، الحديث، نعم، قد نثبت صلاح رجل بشواهد أحواله، كما نثبت إيمانه، ونحن في ذلك على حق، لاتساع رتبة الصلاح، ولقوله (ص) في ابن عمر: ((إن عبد الله رجل صالح)) (¬5)، إلى غير ذلك، نعم، ونرى ولايته بشواهد أحواله أيضا، لوجود الدلالة مع اتساع الموقع، إذ نثبت بالولاية العامة: {الله ولي الذين آمنوا} (¬6)، وقد أثبت سعد (ض) إيمان الرجل عنده (ص)، وحلف على ذلك، فلم يرده (ص) إلا ¬
85 - فصل في التشبه وما يلحقه من الحركات وغيرها
بقوله: ((أو مسلم)) (¬1) ولو كان منكرا لنهاه عن اليمين (¬2) والإثبات، فافهم. 85 - فصل في التشبه وما يلحقه من الحركات وغيرها وقد قال (ص): ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬3) قال المشايخ رحمهم الله، وكل تشبه لا يصحبه عمل فليس بتشبه، إنما هو تلبيس، بل من تمسك بطريق القوم وظهر بزيهم فهو متشبه، وإن لم يكن له في السلوك قدم، وقد أباح الله التزيي لدفع الشرور، فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا ¬
يؤذين} (¬1) فأخذ منه العلماء جواز المرقعة والعكاز (¬2) والسبحة والمحفظة بالكتاب واللوح ونحو ذلك، لدفع الضرر في الأسفار ونحوها، لا لجلب فائدة ألبتة، فاعرف ذلك. وقد كان لأبي هريرة (ض) خيط ربط فيه خمسمائة عقدة يسبح فيه (¬3) وأقر (ص) بعض الصحابيات على التسبيح في النوى (¬4)، لكنه قد قال (ص). ¬
86 - فصل في التبرك بالآثار
((واعقدن بالأصابع، فإنهن مسؤولات مستنطقات ....)) (¬1) الحديث، وذكر للشيخ أبي يوسف الدهماني (¬2) (ض) أن بعض تلامذته أخذه العرب، فقال: لم يكن معه شيء من حلية الفقراء؟ قالوا: لا، قال: ولا الشاشية؟، قالوا: ولا الشاشية، قال: المفرط أولى بالخسارة، لأن هذه الأسباب زرب الله، ومن دخلها كان في حصن الله، فيحترم من أجله، ومن لم يحترمه، فقد هتك حرمة الله فلا يفلح، ومن فرط فيها فقد أعان على نفسه، وروي عن سحنون مثل ذلك، وأنه ينبغي لساكن القيروان أن تكون له حلية في السفر خلاف ما في الحضر، وبالجملة، فاتقاء الشرور مطلوب، والتشبه بالصالحين محبوب، والتدليس لا عبرة به، وهو ما قصد للجلب أو لإظهار الصفة حتى يميز، وبالله التوفيق. 86 - فصل في التبرك بالآثار آثار أهل الخير أحياء وميتين وزيارة مقابرهم ونحو ذلك، كالشرب من فضلة الرجل الصالح أو المعتقد، والتمسح بفضلة وضوئه، وأخذ شعره والتكفين في ثوبه، وأخذ اللقمة من يده، ودخول محله ولباس ثوبه والتمسح بريقه، والتبرك بما لمسه، كموضع جلس فيه، أو إناء شرب منه، أو حجر قعد عليه، أو لمسه بيده، أو تراب ونحوه. وهذا شيء قد اختلف (¬3) الناس فيه بعد إجماعهم على التبرك ¬
بآثار رسول الله (ص)، فمن قائل بمنع ذلك، لأنه لم يعمل به السلف، ومن قائل بجوازه، لأنه مما ثبت العمل به في حقه (ص)، ولم يأت عنه نهي فيه، والأصل التأسي حتى يأتي المخصص، وقد صح أن عمر (ض) استسقى بالعباس (¬1) وقال أكثر العلماء باستحباب التحنيك (¬2) في الصبي، وقال (ص) للمرأة التي سألت عن القبلة (¬3): ((ألا أخبرتيها أني أفعله)) (¬4) فجعل فعله دليلا في باب الرخصة، كباب العزيمة، وهو نص ما ورد في حديث: ((إن أعلمكم بالله وأتقاكم أنا)) (¬5) وقد يجاب عن عدم عمل السلف بذلك باكتفائهم برؤيته (ص)، وحسما للذريعة في دعوى النبوة، لتزلزل إيمان المنافقين، ولئلا يفتح لهم باب الدعوى في ¬
ذلك، والآن قد ارتفعت العلة باتساع بلاد الإسلام وتقرره فلا يضر، ومظاهر مذهب الصوفية اعتماد ذلك والعمل به وإثبات بركته، فقد علم ما لهم في لباس الخرقة، ومناولة العصا والسبحة، وتلقين الذكر ونحو ذلك، مما هو معلوم من طريقتهم، مشهور البركة بينهم، حتى قال الأستاذ أبو القاسم القشيري (ض) فيما حكاه عنه ولده: أن أثر المعتقد أقوى في البركة من غيره، وذكر ابن ليون (¬1): إن من طريقة الفقراء قسمة شعر المحترمين بينهم، واستدل بقسمة شعره (ص) في حجة الوداع (¬2) وذكر الشيخ كمال الدين الدميري (¬3)، في حياة الحيوان له: إن الشافعي (ض) كان يقول: قبر موسى الكاظم (¬4) الترياق المجرب، وقال الإمام الغزالي: إن كل من يجوز التبرك به في حياته يجوز التبرك بقبره بعد موته، واستدل على مطلق الجواز بزيارته (ص) لذلك (¬5) وإن كان أحد لا يساوي شعرة من شعراته فللوراثة نسبة، وجعله ابن العربي في القبس من خواصه (ص)، واستطرد الغزالي الكلام فيه إلى تجويز شد الرحال لذلك، وقال: لا يعارضه حديث الثلاثة مساجد، لتساوي المساجد سواها في الفضل بخلاف الصلحاء، فانظر كلامه فيه، وقد نقله ابن الحاج بنصه وحروفه (¬6) وكان شيخنا أبو عبد الله القوري ¬
رحمه الله يقول: إذا كانت الرحمة تنزل عند ذكر الصالحين، فكيف بزيارتهم ومحل اجتماعهم على ربهم، وقد تقدم من كلام الشيخ أبي العباس الحضرمي (ض)، في مدد الحي والميت، ولكن ينبغي أن لا يجعل ذلك عدة وعمدة، لئلا يضيع به نظام الحق والحقيقة، ولذلك قال ابن ليون: ليس من شأن (¬1) الفقراء شد الرحال للزيارات، وقل من اشتغل به فنفذ، وبالله التوفيق. ... ¬
87 - فصل في بعض ما يتعلق بالتبرك والآثار من الآداب
87 - فصل في بعض ما يتعلق بالتبرك والآثار من الآداب من ذلك أنه لا يصلى على المقابر ولا يبنى عليها مسجد للتبرك، فقد قال رسول الله (ص): ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدا)) (¬1) وفي رواية: ((أولئك شرار الخلق، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجدا ...)) (¬2) الحديث، قالوا: ولا يتمسح بالقبر لأنه من فعل النصارى، ولا يدهن بالماء الذي يكون عليه، ولا يرفع منه تراب لأنه حبس، وفي المطروح بالقصد نظر، وقد أذن (ص) في الرقى بـ ((بسم الله تربة أرضنا بريق بعضنا، يشفى بها سقيمنا بإذن ربنا)) (¬3) وكذلك دل بني سلمة على تربة صعيب (¬4) للحمى، كما ذكره ابن الزبير في تاريخ المدينة، وكان الخدم يأتونه في الغداة الباردة بالأواني، فيضع فيها يده للتبرك (¬5)، وتوضأ للرجلين، وقال: أفرغا على نحوركما ورؤوسكما (¬6)، وأعطى شملته لمن ¬
طلبه منه ليكفن فيها (¬1) وقطعت أم سليم فم القربة لما شرب منها قصدا للتبرك بها (¬2) وقالت أم حرام: كنا نأخذ عرقه (ص) فنطيب به طيبنا لطيب رائحته (¬3) (ص)، وقال له الفضل بن عباس يوم عرفة: لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتل القدح في يده (¬4)، وكانوا يغسلون أثره بعده للاستشفاء به (¬5)، وهذا كله يدل لما ذكرناه، ويدل أيضا، لأن ما كان مقصودا منه إنما كان يفعله يعد عبادة ليكون تنبيها ومحجة، ولتجتمع فيه بركة كل شيء، وقد قطع عمر (ص) شجرة الرضوان (¬6) خوفا من أن ¬
تعبد أو تجعل مثل ذات أنواط - شجرة كانت الجاهلية يربطون فيها الخيوط وغيرها يستشفون بذلك -، فقال الصحابة: يا رسول الله، اتخذ لنا ذات أنواط (¬1) فقال (ص): ((ما هي إلا كما قال بنو (¬2) إسرائيل: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}، وقد يستدل بهذين الخبرين على المنع وليس كذلك، بل هما دليل في منع كل ما يستدام، أو يكون له أصل في عبادة الجاهلية من خشبة أو حديد أو حجر أو بناء ونحوه، لا ما يمتهن أو يكون مستهلكا، فاعرف ذلك (¬3). واعلم أن الناس لم يزالوا يتبركون بآثار أهل الخير كابرا عن كابر من العلماء والصلحاء وغيرهم، من قديم الزمان إلى هلم جرا، من غير نكير ولا داعية للسكوت، وهو مما تتوفر الدواعي على العمل به طبعا، فلو كان حراما لنص عليه الشارع وحذر منه الأئمة قديما، ولو كان التنزه أولى لمحل الاشتباه، وبالله التوفيق. ... ¬
88 - فصل في السماع والاجتماع.
88 - فصل في السماع والاجتماع. وهو مما تسرع إليه نفوس الجاهلين، وتولع به قلوب الغافلين، وتؤثره توجهات الباطلين، وينتفع به ضعفاء المشرفين، وتقف معه حقائق المجانين، وترتاح إليه أكباد المفتونين، وتميل إليه كليات الممتحنين، وتنطبع معه أسرار المخدوعين، وتربوا به زوائد المستدرجين، وتجنح له كليالت المدعين، وينقطع به جهلة المتوجهين، وتتضرر به بصائر المريدين، وتنقص به مواد العارفين، وقد يتعلق به بعض الواصلين لإفادة غيرهم، أو رفقا بأبدانهم، أو موافقة للحال في وقتهم، فهو موقف الإبطال، ومزلة أقدام الرجال، وأكثر ما يعتني به أهل البطالة والضلال، فقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): سألت أستاذي رحمه الله عن السماع، فأجابني بقوله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون}، وقال الشيخ أبو العباس المرسي (ض): من كان من فقراء هذا الزمان مؤثرا لهواه، آكلا لما حرمه مولاه، ففيه نزغة يهودية، لأن القوال يذكر العشق وما هو بعاشق، والمحبة وما هو بمحب، والوجد وما هو بمواجد، فالقوال يقول الكذب، والمستمع سماع له، ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع، فهو يصدق عليه قوله تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت}، قال: وعبر بعض الصحابة على بعض اليهود فسمعهم يقرؤون التوراة فتخشعوا، فلما دخلوا على رسول الله (ص) نزل عليه جبريل (س) فقال: اقرأ، قال: ((وما أقرأ)) قال: اقرأ: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}، فعوتبوا (¬1)، إذ تخشعوا من غيره، وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله، فما ظنك بهذا، أعرض عن كتاب الله، وتخشع من الملاهي والغناء، انتهى. ¬
89 - فصل فيما يصنع من عرض له السماع ونحوه بطريق الابتلاء أو الحاجة إليه، وهي خمسة أمور.
وبالجملة فالسماع من شبه الدين التي يتعين على من أستبرأ لدينه وعرضه التبرؤ منها، وهو من حيث صورته يشبه الباطل، فيترجح تركه، وقد صنف الناس فيه نفيا وثبوتا، ولم يختلفوا في فساده إذا اقترنت به أمور فاسدة، بحضور النساء وسماعهن أصوات الرجال، وحضور الآلات والشبان الحسان وإن أمنت الفتنة، لأنه يحرك ما في القلوب، والغالب على النفوس الشر، فلذلك قال صاحب (الأمر المحكم المربوط فيما يلزم الشيخ والمريد من الشروط) (¬1): إن السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يقتدى بشيخ يقول بالسماع ولا يعمل به، وقال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: ليمس السماع من التصوف بالأصالة ولا بالعرض، وقال السهروردي: هو من رخص المذهب وهو أحرى بالصواب، وقد تقدم من كلام ابن العريف: لم يكن اجتماعهم إلا لمسألة تفتح أو نفس بالعبادة تسمح. قلت: وقد تدعو الضرورة للسماع بغلبة حال أو وارد، فيجب الاقتصار على قدره بعد تحقق الضرورة، والذكر في ذلك أولى من القصائد والأزجال، لا سيما المحتملة، فأما الصريحة في الشر، كذكر القدود والخدود والخمور والشعور فتجنبها واجب ولا حديث معها، وبالله التوفيق. ... 89 - فصل فيما يصنع من عرض له السماع ونحوه بطريق الابتلاء أو الحاجة إليه، وهي خمسة أمور. أولها: تصحيح النية في القصد بعد تحقق الموجب بوجه لا يشك فيه، وذلك بأن يدفعه حتى يغلبه الحال، ويتوقف فيه حتى يعلم الاضطرار إليه. ¬
الثاني: مراعاة شروطه وآدابه في الزمان والمكان والإخوان والقيام بحقوق الإسلام والإيمان والإحسان، فقد قيل للجنيد: كنت تسمع فلم تركت؟ فقال: ممن (¬1)؟ قيل له: من الله، قال: فع من؟ فالسماع عورة لا تبدى إلا مع حر كريم، وإنما عورته بما يبدو فيه حال السكر، كما قيل: وصن سرنا في سكرنا عن حسودنا ... وإن أنكرت عيناك شيئا فسامحنا فإنا إذا غبنا وطابت نفوسنا ... وخامرنا خمر الغرام تهتكنا ولا تلم السكران في حال سكره ... فقد رفع التكليف في سكرنا عنا رفع التكليف لفقدان التمييز، وقد قال بعض العلماء: لا يجوز لمن يعلم من نفسه ذلك، الإقدام عليه، لوجوب حفظ العقول. الثالث: الفرار منه والتقليل، لما يقع فيه من الغلط والضرر، فقد قال النصراباذي (¬2) لابن نجيد (¬3) رحمهما الله: مجلس السماع خير من أن تغتاب الناس، فقال ابن نجيد: زلة في السماع شر من أن تغتاب الناس كذا كذا سنة انتهى، وإنه لصحيح مليح، لأن السماع حمى الصدق، وعلة الورع، ومفتاح الفتنة كيفما كان، وهو نقص كله، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. الرابع: أن تعتبر الصدق والحقيقة في مواجيده ومواريثه (¬4)، فكل مجلس سماع لا يظهر أثره على سامعه في دينه وقلبه من يومه فهو عليه لا له، وكذا كل وارد. ¬
90 - فصل في ذكر شيء من المواجيد والخواطر
قال في الحكم: لا تزكين واردا حتى تعرف ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الإثمار، انتهى، وهو عين الحق والصواب. الخامس: تجنب إظهاره وإظهار محبته، بل نفيها رأسا، والإبعاد منه بالغاية، والإنفار ممن يقول به ويراه دينا قيما، وبيان ذلك للحاضرين، وإظهار معايبه لهم حتى يزهدوا فيه، وسيأتي من ذكرها، وما زلت أحذر الأصحاب من الاقتداء بي في خمسة أمور (¬1): أحدها: العمل بالسماع وأقبحه في عيونهم. الثاني: التوسع في الأكل صفة ومقدارا، فإن ذلك إساءة أدب. الثالث: مخالطة كل أحد ومباسطته وذلك هجنة وقلة مروءة. الرابع: كثرة المزح والانبساط والتوسح في الكلام، لأنه يجر إلى الشر والنقص. الخامس: النظر في كتب الدقائق والعمل عليها دون غيرها، فإني لا أفعل ذلك والله عن روية ولا اختيار، وما كتبت التحذير منه هاهنا، إلا لئلا أجعل حجة فيه، وبالله التوفيق. ... 90 - فصل في ذكر شيء من المواجيد والخواطر فإن النفوس ترتاح إليها، والحاجة ماسة لها في حق كل مريد صادق. لا يخلو المريد في حال وجده بالسماع ونحوه من أن يغيب عن ¬
إحساسه أم لا، فإن غاب عن إحساسه، فلا يخلو إما أن يستفيد في غيبته علما أم لا، فإن استفاد علما فوجده صحيح، لأن الشيطان لا يقدر أن يغيبه عن إحساسه ويفيده علما، لكنه يظهر عليه بأحد الأمرين: إما أن يغيبه عن إحساسه، وإما أن يجري على لسانه شيئا يشبه الحكمة وليس بها، وعلامة ذلك أن يحدث له في جسده اضطراب عند الإحساس ولا يتأثر صاحبه به، إلا من حيث الاستلذاذ الطبيعي، فلا يظهر فيه ولا في سامعه إلا نقيض ما دل عليه مسموعه، لأن الحق إذا أتى من بساط الباطل عاد عليه شؤم بساطه، فكان عينه (¬1) لذلك. قيل لحمدون القصار (¬2): ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام وحياة القلوب، وأنتم تكلمتم لنصرة النفوس وظهور المرتبة، انتهى بمعناه لا بلفظه لطول العهد به. ثم الخواطر باعتبار جهاتها أربعة: الملك عن يمين القلب، والشيطان عن يساره، والنفس من خلفه، والخطاب الإلهي يأتيه من أمامه، ووجه القلب لناحية الظهر، كذا ذكره ابن أبي جمرة، ولا أدري من أين نقله، وهو صحيح في الوجدان، وباعتبار عرضها: فالملكي مثل غبش الصبح، والشيطاني مثل شعلة النار، يحدث به احتراقا وهوشة في البدن، والرباني كالشمس الضاحية، مع برودة تثلج الصدور ويتنعم بها، والنفساني مثل الفجر الكاذب، قائم واضح تعقبه الظلمة، ويظنه الظان حقيقة وليس بها. وباعتبار أفعالها: فالشيطان متردد ولا يأتي إلا بشر أو بخير لا يعضده دليل، ويضعف بالذكر، والملكي متردد أيضا، لا يأتي إلا بخير معضود بالدليل، يقوى بالذكر، والرباني نكتة إلهامية في توحيد خاص، وهو راتب مصمم، فإن لم يكن في التوحيد الخاص، فهو لا يأتي إلا بخير، وقد ¬
يكون بشر امتحانا وابتلاء، فإن زاد مع اللجوء إلى الله، فعقوبة تحتاج إلى الاستغفار، وإلا فتذكير، أو نفساني لأنه يشاركه في التعميم، ويفارقه في انتفائه باللجوء والاستغفار والمجاهدة، ثم هو إن كان مع عجلة لا مع تأن، ومع أمن لا مع خوف، ومع عمى العاقبة لا مع بصارة العاقبة، فهو من النفس أبدا، وهذا كله إن لم يكن من الشرع في الترجيح واضح، فإن كان فهو المرجح. وفي الحكم إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا، وفي (لطائف المنن): الذي يطلب العلم لله إذا قيل له: غدا تموت لا يضع الكتاب من يده، وقال المشايخ (ض): من عرف ما يدخل جوفه، عرف ما يجري في قلبه، لأن الحرام يطمس القلب، والشبهة تدهشه، والحرص يعميه، قال بنان الحمال (ض) (¬1): بقيت طاويا مطروحا على باب بني شيبة تسعة أيام، لم أذق شيئا، فنوديت في سري: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه، أعمى الله عيني قلبه، قالوا: وكل وجد سري عن صاحبه فلم يؤثر فيه موافق ما سمع من القرآن والسنة، فسماعه بالنفس، ووجده بالشيطان أو بالطبع. والحركة في السماع نقص كلها، وإنما الوجد بالاستلقاء والثقل، وقد سئل الشيخ أبو محمد عبد القادر (¬2) (ض) عن صفة الواردات الإلهية والطوارق الشيطانية، فقال (ض): الوارد الإلهي لا يأتي باستدعاء، ولا يذهب لسبب، ولا يأتي على نمط واحد، ولا في وقت واحد، والطارق الشيطاني بخلاف ذلك غالبا، انتهى، وهو شرح عجيب لا يصدر إلا من مثل هذا الإمام (ض) ونفعنا به بمنه وكرمه. ... ¬
91 - فصل في الكلام على تعلقات العوام من أهل التمسك وغيرهم
91 - فصل في الكلام على تعلقات العوام من أهل التمسك وغيرهم فمن ذلك تعلق كل طائفة من الناس بمن يواليه من الأولياء، كأبناء الفقراء بآبائهم وأسلافهم، وأهل كل بلد بمن له شهرة فيها مختصة بجهتهم، وجملة المنتسبين لمن تنتسب طريقهم، غالب البطالين الذين ليس لهم في إرادة المعالي قدم يستندون لأكابر المشهورين مثل: الشيخ سيدي عبد القادر، والشيخ سيدي أبي مدين، والشيخ أبي يعزى (¬1)، والشيخ أبي العباس السبتي، ونحوهم من المخبتين، وهذا كله لا يخلو عن دسيسة عصبية، أو رؤية مزية لأنفسهم، حتى لقد رأيت من حال أهل مصر يعظمون ابن الفارض، ويسبون الحاتمي، ومشرب كل منهما واحد، ولكل صالح النية لا يخلو عن فائدة أبدا، ولو كان معلولا بعلة نفسانية خفية، فخفي العلل يقدح في واضح القصد، وقد سمح المشايخ للمريد أن يجاوز الحد في شيخه حسب اعتقاده من غير غلو، ما لم يخرج إلى الطعن في المشايخ، ذكره ابن ليون في الإنالة (¬2) وهذا منه. ثم بساط كل أحد في ظهور كرامته على حسب حالته، ومن ذلك انتفاع الناس بالسبتي رحمه الله في باب العمل (¬3) أكثر من غيره، وجرت عادة الناس بالنذر لمقابر الصالحين وقد تكلم على ذلك الأئمة، وظاهر كلام ابن عرفة (¬4) جوازه (¬5)، إذ قال: لا نص فيه لمن يكون، ذكره في آخر الأيمان والنذور، من ¬
مختصره وقولهم: (شيء لله) إن كان في محل الإخبار، كقولهم: كان من ¬
شأنه كذا، وبلغ من حاله كذا، أو ذكرت عنه حكاية، فقال ذاكرها: (شيء لله)، فهو خير عن تحقق حالة ذلك الشخص في إفراد القلب، والقالب لمولاه، وإن كان في محل التوجه، فهو طلب وسؤال (¬1)، والله أعلم. ومن الناس من يجعل أعماله هدية للأولياء، ويجعل وردا لجميعهم، أو للجهة التي يعتقدها، وذلك أمر مختلف فيه، ومنهم من يجعل ذلك لرسول الله (ص)، وهو من باب حسن النية والتقرب لجنابه الكريم، وليس الحق في ذلك إلا باتباع سنته، وإكرام قرابته، وكثرة الصلاة عليه (ص)، لأنه غني عن أعمالنا، وإني لأرى (¬2) ذلك إساءة أدب معه، لمقابلته بما لا يصلح أن يكون صاحبه مقبولا، فكيف بالاعتداد بثوابه، لا سيما ما جرت به عادة المصريين في ذلك، فإنه يعظم علي كثيرا جدا. ومن ذلك: تصنيف بعض الناس في الصلاة عليه (ص)، بكيفيات يعتمدها، ويأتي فيها بألفاظ مستغربة، وأنواع مستنخبة، تألفها نفوس العامة، (وهو أمر حسن من حيث صورته، واضح من حيث حقيقته، تألفه نفوس العوام) (¬3) وتتحرك به نفوس الغافلين للصلاة عليه (ص) في الجملة، والأولى بأهل التوجه الاقتصار على الألفاظ الواردة عنه (ص)، فإن الخير كله في الاتباع، والفتح الكامل في التقيد بألفاظه (ص)، فلا تعدل بها شيئا ولو قلت، فقليلها كثير، ومعناها كبير. ومنه التزام بعضهم قراءة المرشدة (¬4)، أو عقيدة ما من العقائد، وكذا ¬
البردة والسقراطسية (¬1)، وما في معنى ذلك على جهة الورد، وجعله من الأمور المعتمدة، وهو أمر لا بأس به إن لم يعتقد سنيته، أو يؤدي إلى مخالفة السنة، كرفع الصوت في المسجد وقت اجتماع الناس فيه، وإلا فيجري مجرى رفع الصوت بالعلم، وحزب، الإدارة (¬2) وقد يستأنس بنصب الكرسي لحسان في المسجد ينافح عن رسول الهه (¬3) (ص)، والأولى بالمريد الاشتغال بما يخصه من العبادات المحققة، ويدع كل ذلك للعوام جملة وتفصيلا. فأما ما اعتاده أهل الحجاز واليمين ومصر ونحوهم، من قراءة الفاتحة في كل شيء، فلا أصل له، لكن قال الغزالي رحمه الله في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني التي أمرت بقراءتها في كل صلاة، وأكد عليك أن تعيدها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق: ((ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها)) (¬4) وفي هذا تنبيه بل تصريح أن تكثر منها، لما تضمنته ¬
92 - فصل في ذكر الزمان وأهله وما احتوى عليه من الفساد والباطل الذي أخبر به الصادق المصدوق
من الفوائد وخصت به من الذخائر، بما لو سطر كان فيه أوقار الجمال، فافهم وانتبه واعقل ما خلقت له، واعرف ما أعد لك، والله حسب من أراده، وهادي من جاهد في سبيله، وكاف من توكل عليه وهو الغني الكريم. ... 92 - فصل في ذكر الزمان وأهله وما احتوى عليه من الفساد والباطل الذي أخبر به الصادق المصدوق فقد قال (ص): ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فيبيع دينه بعرض يسير من الدنيا)) (¬1) وقال (ص): ((يأتي على الناس زمان، القابض على دينه كالقابض على الجمر)) (¬2) وقال (ص): ((يأتي على الناس زمان، لا يبقى من الإسلام إلا اسه، ولا من القرآن إلا رسمه، قلوبهم خربة من الهدى، ومساجدهم عامرة بأبدانهم، شر من تقل الغبراء وتظل السماء يومئذ علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود)) (¬3) وقال (ص)، لما سئل عن قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (¬4) الآية: ((إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك)) (¬5) وقال (ص): ((إن الفتنة إذا نزلت، دخلت قلوب الخلق حتى لو ¬
كان فيهم كذا فتنوا، فإن أردت أن تعلم هل نالك منها شيء، فانظر هل كان عندك شيء حرام فحللته، أو حلال فحرمته)) (¬1)، نقلته بالمعنى، وأظن آخره (1) من قول الصحابي، رواية (¬2) (ض). وقال (ص): ((إن الفتنة إذا نزلت قصدت ثلاثة: الحاد النحرير الذي لا يعن له منها شيء، إلا قصد قمعه بالسيف، والشريف المذكور، والخطيب الذي تدعو إليه الأمور، فأما الحاد فتصرعه، وأما هذان فتنحتهما (¬3) حتى تبلو ما عندهما))، نقلته من كتاب أبي عمرو الداني (¬4) في الفتن، على شك في بعض ألفاظه، لطول العهد به، ومنه عن ابن عباس، قال (ص): ((المؤمن لا يذل نفسه)) (¬5) قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصفة، ومنه قال (ص): ((ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره)) (¬6) وقد كنت أسمع شيخنا أبا الحسن السيطي (¬7) رحمه الله - وكان قليل العلم - كثيرا ما يذكر في مجالسه، يقول: قال رسول الله (ص): ((العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، ما لم يميلوا إلى الدنيا، أو يداخلوا السلاطين، فإذا مالوا إلى الدنيا أو ¬
93 - فصل في افتتاح كلام لبعض المشايخ كتب به لمثله
داخلوا السلاطين، فاخشوهم في دينكم)) (¬1) وقال سفيان (ض): إذا رأيت القارئ بباب الأمير، فاعلم أنه لص، وإذا رأيته بباب الغني، فاعلم أنه سارق انتهى، وبالله التوفيق. 93 - فصل في افتتاح كلام لبعض المشايخ كتب به لمثله (¬2) فقال: أما بعد، يا أخي، فإن النصح أولى ما تعامل به رفيقان، وتسامر به صديقان، وقل ما دامت اليوم صحبة إلا على مداهنة، فقد ثبت أنه (ص)، قال: ((ما ترك الحق لعمر صديقا)) (¬3). ¬
قال أويس القرذي (¬1) لرجل من مراد: يا أخا مراد، إن الموت وذكره لم يترك للمؤمن فرحا، وإن عمله بحقوق الله تعالى لم يترك له في ماله فضة ولا ذهبا، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا، قال: وكل إنسان يقبل النصح من غيره، ويلتذ بسماع معايب الناس، إذا أرسلتها في مجلسك مطلقة من غير تعيين، ويقول لك بأن هذا هو الحق، فإذا قلت: إياك عنيت بهذا الكلام، و ((المؤمن مرآة أخيه)) (¬2)، وقد رأيت فيك ما أوجب علي أن أقول لك فيه، شمخت النفس، وقالت: سبحان الله، إنما أنا مرآة نفسك، رأيت في، ومثلي من يقال له هذا؟ فأدى نصحنا له في أمر واحد إلى ارتكاب محظورات كثيرة من الكذب والنفاق، وقل يا ولي الله أن تجد اليوم للناصح من صديق، ولقد قلنا في ذلك شعرا: لما لزمت البحث والتحقيقا ... لم يتركا لي في الأنام صديقا ولعمر الله ما كذبت، ولا ذكرت إلا ما وجدت، ثم ذكر أمورا بينه وبين المكتوب إليه، وقال إثرها: فأما أهل زمانك اليوم يا ولي فكما قال الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي (¬3): ضعف ظاهر ودعوى عريضة، فأول ما وصلت إلى هذه البلاد - يعني المشرقية - سألت عن أهل هذه الطريقة المثلى، عسى أن أجد منهم نفحة الرفيق الأعلى، فحملت إلى جماعة جمعتهم خانقات عاليات البناء واسعات الفناء، فنظرت إلى مغزاهم المطلوب، ومنحاهم المرغوب، ¬
94 - فصل ثم قال رحمه الله: والزمان يا ولي، شديد، شيطانه مريد، جباره عنيد
تنظيف مرقعاتهم بل مشهراتهم، وترجيل لحاهم، غير أنهم يدعون أن أهل المغرب أهل حقيقة لا طريقة، وهم أهل طريقة لا حقيقة، وكفى بهذا الكلام فسادا، إذ لا وصول إلى حقيقة إلا بعد تحصيل الطريقة (¬1)، وقد قال الإمام المقدم، والصدر المبرز، أبو سليمان الداراني (ض): وإنما حرموا الوصول، وهي الحقيقة، لتضييعهم الأصول، وهي (¬2) الطريقة، وقد شهدوا على أنفسهم بفراغهم عن الحقيقة، فهي شهادتهم بعينها أنهم على غير طريقة، وهاتان جهالتان منهم وهم لا يشعرون. ... 94 - فصل ثم قال رحمه الله: والزمان يا ولي، شديد، شيطانه مريد، جباره عنيد، علماء سوء يطلبون ما يأكلون، وأمراء جور يحكمون بما لا يعلمون، وصوفية صوف بأغراض الدنيا موسومون، عظمت الدنيا في قلوبهم فلا يرون فوقها مطلبا، وصغر الحق في أعينهم فأعجلوا عنه هربا، حافظوا على السجادات والمرقعات والمشهرات والعكاكيز، والسبحات المزينات، كالعجائز طغام، صبيان الأحلام، لا علم عن الحرام يردهم، ولا ورع عن الشبهات يصدهم، ولا زهد عن الرغبة في الدنيا يصرفهم، اتخذوا ظاهر الدين شركا للحطام، ولازموا الخوانق في الرباطات رغبة فيما يأتي إليها من حلال وحرام، وسعوا أربانهم، وسمنوا أبدانهم، فوالله ما أراهم إلا كما حدثني غير واحد، وذكر سنده إلى سالم مولى أبي حذيفة (ض) قال: قال رسول الله (ص): ((ليجاءن يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات أمثال جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء، ثم قذفهم في النار))، فقال سالم: يا رسول الله بأبي أنت وأمي صف لنا هؤلاء القوم حتى نعرفهم، فوالذي بعثك بالحق إني لأخاف أن أكون ¬
منهم، قال: ((يا سالم أما إنهم كانوا يصومون ويصلون))، وفي حديث آخر: ((كانوا يأخذون وهنا من الليل، ولكنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام))، وفي رواية من طريق آخر: ((شيء من الدنيا وثبوا عليه، فأدحض الله عز وجل أعمالهم)) (¬1) فقال مالك بن دينار (¬2): هذا والله النفاق، فأخذ المعلى بن زياد (¬3) بلحيته فقال: صدقت والله (يا أبا الخير) (¬4)، والله يا ولي لو رأيتهم في صلاتهم ينقرونها، وفي صفوفهم لا يقيمونها، يجعل أحدهم بينه وبين صاحبه قدر ما يدخل فيه ألف شيطان، ثم إذا جئت تسد ذلك الخلل، تراهم قد قطبوا وجوههم، فإن غفلت ووطئت سجادة أحدهم، لكمك لكمة حيثما جاءت منك، وقد يكون فيها حتفك، وهذه وأشباهها هي الطريقة التي أهل زمانك عليها، ويرحم الله القشيري حيث أدرك من تحلى بحلية القوم في ظاهره، وتعرى عنهم في باطنه، فأنشد: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها هذا قد اشترك معهم في زيهم الظاهر، فأما اليوم فلا خيام ولا نساء. ثم قال: بإجماع من القوم أن الموت الأحمر (¬5) عندهم طرح الرقاع ¬
بعضها على بعض، وذلك شعارهم (ض) (¬1) فقام هؤلاء وقالوا: إنما لنا لبس مرقعة خاصة، ولم يلحظوا ما أريد بها، فتأنقوا (¬2) في الثياب المطرحة، والأعلام المشهرة، وخاطوها على وزن معلوم وترتيب منظوم تساوي مالا، وأفسدوا عليها ثيابا وسموها مرقعة، فرحم الله سيد هذه الطائفة أبا القاسم الجنيد، حيث أنشد لما رأى فساد الحال: أهل التصوف قد مضوا ... صار التصوف مخرقة صار التصوف ركوة ... وسجادة ومزلقة صار التصوف صيحة ... وتواجدا ومنطقة كذبتك نفسك ليس ذي ... سنن الطريق المحلقة (¬3) ثم قال: والله ما أعلم أهل الطريقة كذا، ما كان إلا بالقعود في مرابط الكلاب (¬4) مجاهدة، وتحمل الأذى وكفه رياضة، والرحمة والشفقة والعطف على الفقراء، أين هم من صفوة الله كما نعتتهم الطائفة العلية (ض) على ما حدثنا فلان، وذكر سنده إلى عبد الباري (¬5)، قال: قلت لذي النون المصري: صف لنا الأبدال، فقال: إنك سألتني عن دياج الظلم لأكشف لك عنها يا عبد الباري، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم تعظيما لربهم لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله تعالى النور الساطع من محبته، ورفع له أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته، وطهر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حللا من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ¬
95 - فصل ثم قال: فأما هؤلاء فوالله لو اطلعت عليهم لرأيت إن نظرت إلى وجوههم عيونا جامدة
ثم أودع القلوب من دخائر الغيوب، فهي معلقة بمواصلته، فهمومهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب لله ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من قربه، وأجلسهم على كرسي أطباء أهل معرفته، ثم قال: إن أتاكم عليل من فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فأمنوه، أو آمن مني فحذروه، أو راغب في مواصلتي فمنوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيس من فضلي فعدوه، أر راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن في فباسطوه، أو محب لي فواطنوه، أو معظم لقدري فعظموه، أو مسيء بعد إحسان فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه، إلى آخر القصة على ما ذكرناها في كتاب (البغية) مستوفاة، فهذه أحوال العارفين يا ولي، وهكذا تكون عمارة القلوب. ... 95 - فصل ثم قال: فأما هؤلاء فوالله لو اطلعت عليهم لرأيت إن نظرت إلى وجوههم عيونا جامدة، متحركة غير هامدة، وإن نظرت إلى نفوسهم، نظرت نفوسا سامدة (¬1) وإن نظرت إلى قلوبهم رأيت قلوبا لاهية من العمارة العلوية القدسية، خالية على عروشها خاوية، آجاما لأسود ضارية، ومرابض لذئاب عاوية، فنسأل من الله عند رؤيتهم العافية، أين أهل زمانك يا ولي من قوم وصفهم أبو الفيض رحمه الله فقال: إن لله صفوة من خلقه، وإن لله الخيرة، قيل: يا أبا الفيض (¬2) ما علامتهم، قال: إذا خلع العبد الراحة، وبلغ المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة، ثم قال: منع القرآن بوعده ووعيده ... مقل العيون بليلها أن تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه ... فهما تذل له القلوب وتخضع ¬
96 - فصل ثم قال: ولقد لقيت بهذه البلاد من يلبس سراويل الفتيان، ويدعي مراتب العرفان
فقال له بعض من كان في مجلسه: من هؤلاء القوم يا أبا الفيض رحمك الله؟ قال: ويحك، هؤلاء قوم جعلوا الركب لجباههم وسادا، والتراب لوجوههم (¬1) مهادا، هؤلاء قوم خالط القرآن لحومهم ودماءهم، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالأدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفجرت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمهم سراجا، ولنومهم مهادا، ولسبيلهم منهاجا، ولحجتهم ابلاجا، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون، فهم خائفون حذرون وجلون مشفقون مشمرون، يبادرون من الفوت ويستعدون للموت، إلى آخر القصة، ثم ذكر إسناده في ذلك، وقال بعده: فهذا وصفه لأولياء الله تعالى، وبهذا حلاهم، وهكذا شاهدهم ورآهم. ... 96 - فصل ثم قال: ولقد لقيت بهذه البلاد من يلبس سراويل الفتيان، ويدعي مراتب العرفان، ولا يستحي في ذلك من الرحمن، لا يعرف شروط السنن والفرائض، ولا يصلح أن يكون خديما في المراحيض، ومع هذا يا ولي، والله الصدف الذي يخفي رفيع الدر (¬2) والسياج على الروضة ذات الزهر، يدخل بينهم الصادق والصديق، فيجهل العارف المتمكن فيترك ويهمل، فإنه يحمل على ما هم عليه لاشتراكهم في المسكن، وما بينه وبينهم معاملة في شيء. قال: ولقد وقع بيدي منهم بمصر في الخانقات بالقاهرة، كهل يقرب أن يكون رجيلا لا بأس به، ففرحت به لما لم أجد غيره، تم قال: ¬
97 - فصل ثم قال بعد ذلك: وأما أهل السماع والوجد في هذه البلاد، فقد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا
واجتمعت مع شيخ يدعى فيهم، شيخ الشيوخ (باربيك) (¬1) هكذا قال لي بنفسه، ورأيته يعطي النصف من نفسه للمتكلم معه (ض)، يزعم أن ليس في المغرب من يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه، فأراد وليك أن لا يشافهه بخطاب ولا يتعرض إليه، ثم رأى ذلك قاصمة الظهر، وقارعة الدهر، فأبدينا له يسيرا مما وهبنا الله من الأسرار، ثم أعقبناه ببعض أحوال سيدنا أبي مدين خلاصة الأنوار، فبقي مبهوتا بما سمع، وقال: ما تخيلت أن يكون هذا في بلاد المغرب، ثم ألقى عليه بعض أصحابنا مسألة من الحقائق الإلهية المتوجهة على إيجاد جهنم، فوالله ما زاد على أن قال: لا أدري شيئا، وأنصف من نفسه، واعترف بنقصه، وهدأت شقاشقه، وطفيت بوارقه، فقلت: هذا حالك معي، وأنا أنقص حظا، وأحقر قدرا من أن أذكر فيهم، أو أنسب إليهم، فكيف بك، لو لاحظت الكبراء النجباء، والسادة النبلاء الكائنيين بالمغرب الغرباء، فسلم واستسلم، وحمدت الله على ما ألهم وعلم. ... 97 - فصل ثم قال بعد ذلك: وأما أهل السماع والوجد في هذه البلاد، فقد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، لا تسمع إلا من يقول لك: رأيت الحق، وقال لي، وفعل وصنع، ثم تطلبه بحقيقة يمنحها، أو سر أفاده في شطحه، فلا تجد إلا لذة نفسانية، وشهوة شيطانا، يصرخ على لسانه الشيطان فيصعق ما دام المغرور الآخر بشعره ينعق، فلا أشبههم إلا براعي غنم ينعق بغنمه فتقبل وئتدبر بنعيقه، ولا تدري فيما ذا، ولا لماذا، قال: فواجب على كل محقق في هذا الزمان، ممن ينظر ويقتدي به المريد الضعيف، أن لا يقول بالسماع أصلا، وأن يقطعه قولا فصلا، وقد أوضحنا مقامه لأهل هذه البلاد، وما يتطرق إليه من الفساد، واحتجوا علينا بأحوال من سمع من الشيوخ في الرسالة (¬2) وغيرها، فأوضحنا ¬
98 - فصل ثم قال بعد فراغه من ذكر أصوله في ذلك: فيا أيها المعترض، هذه الأصول التي استندت إليها في ذم أهل وقتي
فهمها وعربنا معجمها، فأقروا بنقصه في مراتب الوجود، فمنهم من عدل عنه، ومنهم من أقام عليه مع علمه بنقصه، ثم قال: وليعلم وليي وفقه الله، أني لما قرأت بالحرم الشريف ما ذكرته لك في حق المنتسبين إلى الصوفية، وفي أحوالهم ثقل ذلك على شخص، وقال: ما دعاه إلى هذا؟ والإعراض عن هذا أحسن، وما أشبه هذا الكلام، فزاد عند اعتراضه، تقوية أن هذا هو الحق، لكونه ثقل عليه (¬1)، قال: ولقد عمي هذا القائل عن الأصول التي استندت إليها في فعلي هذا، وهو يسلمها، وقد قرعت سمعه غير مرة، ولم يعتب عليهم، بل استحسن ذلك، فلما وقع ذلك الذم في أهل زمانه، رأى ذلك فضولا، لكونه في ذلك الزمان يخاف أن يتطرق إليه الذم في نفسه فحزن، ولو أنصف لبحث عن نفسه. ثم ذكر من أصوله التي بنى عليها في ذم أهل زمانه عموما، وأتى بشواهد من الحديث وغيره في ذلك عن أبي المهلب، قال: مررت بالساحل، فرأيت شابا قد احتفر لنفسه حفرة في الرمل، فسألته فتأوه، ثم قال يذم أهل زمانه: قد توعرت السبل، وقل السالكون لها، قد افترشوا الرخص وتمهدوا الزلل، واعتلوا بزلل الماضين إلى مثل هذا الكلام، ثم قام فمشى على الماء حتى غاب عني، أرأيت قط يتفق هذا لمن يتكلم فيما لا يعنيه، ثم ذكر بقية الأصول التي بنى عليها. ... 98 - فصل ثم قال بعد فراغه من ذكر أصوله في ذلك: فيا أيها المعترض، هذه الأصول التي استندت إليها في ذم أهل وقتي، لا حشرني الله معهم، ولا أماتني على حالهم: هلا كنت ناصري في قولي هذا، وتعرف أنه الحق، ¬
99 - فصل ثم أخذ بعد انتهاء كلامه المتقدم في محاسبة نفسه على ما هو به
وأن الحال اليوم على ما وصفناه، وكنت تأتيني باكيا على نفسك، وأنا أيضا كذلك عسى الله أن يرحمنا، إلا إن رضيت لنفسك أن تكون منافقا مداهنا، وللمداهنين إماما، لا والله، لا أرضى والله بهذه الحالة لمسلم، فتب إلى الله تعالى، وراجع ربك لعله يرجع إليك ما كنت عليه من الخير، وتعال نقم مأتما ومناحة على التقصير في العمر اليسير، والاشتغال بالترهات والفرح بالخزعبلات، بل أصل الأباطيل، والله نقول: إن من ثقل عليه هذا الكلام، فهو بتلك الصفة التي وصفنا، ولهذا قلق، ولو كان بريئا منها، سكن كما يسكن عند ذكرنا ذم السراق والقطاع وأشباههم، ولما كان (¬1)، في هؤلاء مدخل فر إلى الاعتراض، ليزداد من الله بعدا في رده الحق، وليس اعتراضه علينا في هذا بأول دمع جرى على طلل، لم يزل أبدا كل من يتكلم في معايب النفوس وأحوالها، ويبدي نقائصها ويذم شأنها على التعيين وعلى غير التعيين - في كل زمان - مذموما عند أهل زمانه، لعدم موافقته أغراض النفوس، فإذا انقرض زمانه ومات، نشأت طائفة عند ذلك تعرف قدر ما جاء به ويقال: قال فلان (ض): هكذا كان الناس، انتهى كلامه في هذه الفصول التي فصلناها، وإلا هو لم يفصل شيئا، وبالله التوفيق. ... 99 - فصل ثم أخذ بعد انتهاء كلامه المتقدم في محاسبة نفسه على ما هو به، ومشى في هذا إلى ذكر السماع، فقال رحمه الله: وروينا من حديث إبراهيم بن عبد الله بسنده إلى رجل من أشجع (¬2) قال: سمع الناس من المدائن ¬
أن سلمان في المسجد فأتوه، فجعلوا يثوبون إليه حتى اجتمع إليه نحو من الألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا افتتح سورة يوسف يقرأها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقي نحو من مائة فغضب، وقال: الزخرف من القول أردتم، قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم، ناشدتك الله يا نفسي فهذا مجلس حق فأصدقيني؟ هل سمعت قط كتاب الله يتلى فلم تهتزي، فلما أنشدت الشعر اهتزت وجننت وأخذك الحال. فقالت: ذلك والله ديدني ودائي أبدا، بل والله أزيدك ما هو أنحس من هذا مما أنا عليه، إني أقرأ القرآن ويدركتى العياء، وأقول لك: والله لا أقدر على شيء، وقد ضعفت وكل خاطري، فتجيبني إلى ذلك، وتترك المصحف من يدك والتلاوة من لسانك، فما تلبث أن ننهمك على مقطعة من كلامك أو كلام غيرك، في أي فن كانت، فتفتح فاك بها وتترنم، وترتلها مترسلا على طريقة تستحسنها، نشيطا طيب النفس وما بك من كسل ولا عياء، فلو كان ذلك الكل والعياء حقيقة مني لاستصحبك، وإنما ثقل علي القرآن، وكنت أجعلك في تلاوته تحدر ولا ترتل حتى تسريح، وكذلك في أوراد العبادات التي يجب التثبت فيها، وذلك كله خديعة مني بك، أترى هكذا حالة المؤمن؟ لا والله. بل كلام الله للمؤمن ألذ وأشوق إلى سماعه من الظمآن للماء الزلال، فإنا لله وإنا إليه راجعون على نفص الإيمان، بل والله ذهابه، يا شؤم نفسي ويا حسرتي، ويا أسفي كم والله سمعت آية من كتاب الله فثقلت علي ومججتها، وكم والله رنة شعر سمعتها فاستعذبتها، أخاف والله يا وليي على نفسي وعلى من هو مثلي أن ينقل اسمي من ديوان المؤمنين إلى ديوان من قال فيهم رب العالمين: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} (¬1) وقد اتصفت بهذا: {وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} (¬2) وقد اتصفت بهذه، وإلى قوله: {ذلكم بأنه إذا دعي الله ¬
وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنون} (¬1) يقول القوال: زخرف القول وغروره، فأهتز وأقوم، وأقول شاباش (¬2) هذا والله حسن، وأقسم بالله كاذبا، ولا يزال الملعون من شيطانى يوقعنى ويزين لي كما يفعل صاحب القرد بقرده، فإذا أخذ حاجته مني صفعني صفعة فأضجعني، فيقوم من قل فلاحه فيغطيني بردائي حتى يخلى سبيلي وأقوم فأهنأ، وقد عزاني الملأ الأعلى في ديني، وفيما نقص من عقلي، فإذا كان آخر الليل أنا وجماعة السوء مثلي، وقد تعبنا من كثرة ما رقصنا، فلم نلحق ننام إلا والصبح معنا قد قام، فنقوم نتوضأ أقل ما يطلق عليه اسم الوضوء، ثم نجيء إلى المسجد، هذا إذا وفقت، وإلا فالأغلب على من هذا حاله أن يصلي في داره بإنا أعطيناك الكوثر، وسورة الفاتحة، كيف ما كانت، والقنوت ليس بواجب فاتركه، وأنقرها مخففة جدا، ثم أضطجع، هيهات ما كانت طريق الله هكذا. وإن كنت موفقا أكثر من غيري، توضأت وخرجت إلى المسجد، وإذا دخلت - ويقال لي: قد صلى الناس - فلا أجد لذلك حزنا، ولا أكترث به، بل أقيم الصلاة وأصلي وكأنه ما فاتني شيء إلا لاهي القلب مسرورا، ونقول بلسان الحال: قد جعل لي أجر الجماعة بقصدي، وأراحني الله من تطويل الإمام، وإن أدركت الصلاة مع الإمام، فأنا في تلك الصلاة على أحد وجهين؛ إذا كنت مستريح القلب من كل شيء، إما خاطري في ليلتي البارحة وحسنها، وما كان أحسن ذلك القوال وشعره، وأقضي صلاتي كلها في هذا، حتى لا أدري ما صلى الإمام ولا بما صلى، وإنما رأيت الناس يفعلون شيئا ففعلت، ركعوا فركعت، وسجدوا فسجدت، ووقفوا فوقفت، وجلسوا فجلست، - أو يكون النوم قد أخذ مني، وهي الحالة الثانية، فأترقب عند ذلك فراغ الإمام، وتثقل علي القراءة، وأغتاب الإمام في نفسي وأمقته، وأقول: ما أثقله، قد افتتح سورة الواقعة والحشر، هلا قنع بالانفطار والفجر، والنبي (ص) قد أمر بالتخفيف، هذا خلاف السنة، ونحوقل ونهلل، كل ذلك لغير الله. ¬
أما تستحي من الله وقد وقفت البارحة مسخرة للشيطان وملعبة له، ورقبتك مصفعة له، وناصيتك بيده، وأنت في هذا كله تلتذ، ثم الداهية العظمى، والطامة الكبرى، والداء العضال، والمصيبة الآزفة، التي ليس لها من دون الله كاشفة، أني أقول في تلك الحالة كلها: إني مع الله، وفي الله، وبالله قمت، وفي الله شطحت، وإلى الله وصلت، وقلت: وقيل لي، ويعتب (¬1) لذلك هؤلاء بالغمر الجهال مثله، فيقول: لم لم تسألوني إذ رجعت من حالي، ولو سئل لافتضح، ولو فرضت أنه أجاب، فقد يجيب الكاذب عما يسأل عنه، ويؤيده الشيطان بخيالات ينصبها له ويبديها في سره، فيعبر عنها، قل الله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} (¬2) الآية، فهذا ولي الشيطان ينطق بلسانه وهو مطيع له، فانتظم في أهل الشرك، فناهيك من مجلس يحوي ويضم المشركين وأولياء الشيطان، ثم قال: وأخبرني شيخي وكان من أهل الكشف والوجود، عن رجل أعمى البصر من الصالحين، حضر مبيتا في سماع بمدينة فاس، فقال الأعمى: هذا إبليس قد دخل على صورة معز، فرآه يشم واحدا واحدا. قال الشيخ: وقعد الأعمى ينعت الجماعة الأول فالأول على التتابع، كما هم عليه من اللباس والصورة، وهو يقول: نرى الملعون يمشي عليهم ناظرا إليهم، حتى قال: نراه واقفا عند واحد عليه غفارة حمراء، وعمامة، وإحرام، التفتوا إليه، قال: فالتفتنا إليه، فرأيناه يستجلب الحال، فقال الأعمى: إن الملعون قد توقف عند هذا الرجل، ثم قال: نراه يريد أن ينطحه بقرنه، ثم قال: قد حمل عليه فنطحه بقرنه، فإذا ذلك الرجل قد صاح صيحة عظيمة، وغلب عليه الحال، وقام يشطح، فقام المجلس لقيامه، وهو بهذه المثابة ما أحسن قول الله تعالى إذ يقول: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (¬3) فناهيك من حطة لم يرضها لنبيه (ص) وقال: {إن ¬
100 - فصل ثم قال رحمه الله: وكل من سمع من الشيوخ فهو على أحد أمرين
هو إلا ذكر وقرآان مبين} (¬1) ثم قال: بارك الله فيك يا نفسي، أقررت بالحق وخصصت له، فقالت: الحق أحق أن يتبع، وصدق والله سلمان (ض). ورضي الله عن أبي مدين حيث قال: لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد، هذا مقام المريد، فما ظنك بالعارف، هل يعرج على كلام غير كلام سيده (¬2) انتهى، وبانتهائه انتهت مخاطبته لنفسه في باب السماع، وهو عجيب. ... 100 - فصل ثم قال رحمه الله: وكل من سمع من الشيوخ فهو على أحد أمرين: إما قبل أن تحصل له مرتبة التمكين، فالسماع عندنا حرام في ذلك الوقت، أو يسمع بعد التمكين بشروطه المعروفة التي قد ذكرناها في غير هذا الموضع (¬3) ويعلم من هذا أنه قد نزل من المقام إلى ما هو أسفل منه وأدنى، بخط نفسي، قال: ولهذا قلنا في حق بعض من لقيناه من المشايخ، وكان يولع بالسماع، وكان قبل ذلك لا يقول به، فسئلنا عنه فقلنا: الشيخ متمكن ومقام السماع نازل، وحظه النفس، فما هو الشيخ - والله أعلم - إلا ¬
101 - فصل في مواقع البدع وأنواع المخالفات
نزل إلى السماع رحمة بنفسه دنيوية، وجاد على السماع، بذلك ليشرف به السماع، فإن السماع يشرف بالعارفين، ولا يشرف به العارفون، فصار نزوله لإفادة الحاضرين، لا لشيء وراء ذلك، هذا معنى ما ذكر هنا. ثم قال: فشرفنا بنزوله إلينا، ولم يشرف هو بنا، هذا إذا كان الشيخ عاليا، ولكن يقع هذا منه نادرا، إلا إن أراد الحق أن يبقيه فيه زمانا طويلا، فيعلم الشيخ إن كان عارفا متمكنا أنه مطرود، وأن رجوعه إلى السماع مستصحبا عقوبة من الله عز وجل لذنب أتاه، ولذلك علقه بالسماع فلا يجد حاله إلا فيه، ويفقدها إذا فقده، مكرا من الله واستدراجا، فيبكي على نفسه، ويبحث على ما جنته نفسه، فيجد ذنبا ضرورة لا بد من ذلك. ثم قال: والله يلبسنا وإياكم رداء العافية، ويحلنا وإياكم المراتب السامية العالية، ولا يجعلنا وإياكم ممن له إلى السماع أذن واعية، فيكون من أهل القلوب اللاهية، انتهى كلام هذا الشيخ (¬1) وفيه حجة ومحجة، وبالله التوفيق. ... 101 - فصل في مواقع البدع وأنواع المخالفات وقد مر حدها وتقسيمها، وقال بعض العلماء: ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مندوب، سواء فعل على عهده (ص) أو لم يفعل، قلت: وفي كلامه هذا بحث، والتحقيق ما تقدم في أول الكتاب، ثم هي بحسبه تجري في كل مرتبة وحالة وعمل، إلا أنها تقل وتكثر، ومنها ما يجب التعرض لإزالته، ومنها ما يندب، ومنها ما يباح، ومنها ما يحرم، فكل ما علم إلحاق الضرر منه، فأنت في فسحة في إنكاره، ¬
102 - فصل في متشابه الأمور بين البدعة وغيرها
وإن كان يؤدي إلى منكر أعظم منه فيمنع، لا من حيث ذاته، بل من حيث ما يؤدي إليه، وقد أمرنا بطاعة الأمراء، واحترام العلماء، ما لم يكن الذي نصيب أعظم من الذي يصيبنا (¬1) وهذا زمان الفتن والمحن، فلا سبيل إلى التعرض للأمور الجمهورية في حق كل ضعيف أو مجهول الحال، أو من يرى أن كلامه فيها من الدعوى والاستظهار بالكلمة، فإن ذلك يؤدي إلى التلف والهلاك، وقد عاينا منه كثيرا، والتواريخ مملوءة به، فدع الأمراء والمتصدرين سبيلهم، إن أصابوا فلهم، وإن أخطؤوا فعليهم، فقد قال (ص): ((إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك)) (¬2) ومن تعلم العلم ليحكم به على الناس فلا يستريح ولا يستراح منه، ومن تعلمه لنفسه فمستريح ومستراح منه، وعلى الإنسان أن يقوم بنفسه ثم بأهله وولده وصديق ملاطف إن أمن غائلته، وقليل ما يوجد في هذه الأزمنة، وللمحاولات وجه، فدع عنك أمر العامة، ثم سايس الأمور في حظوظ الناس، تظفر بسلامة الدنيا، وتحصيل الديانة، وبالله التوفيق. ... 102 - فصل في متشابه الأمور بين البدعة وغيرها فمن ذلك في باب العلم، الاشتغال بعلم المنطق والجدل، أو علم الكلام والفلسفة، ونحوها، فقد ذهب جماعة من الأئمة إلى منع الاشتغال به، ورآه ضلالا، وذهب جماعة إلى تقديمه والاهتمام به، ورآه كمالا، ¬
وقوم فصلوا فيه، وقوم توقفوا، وقوم جعلوه في حيز المهملات. ومذهب السلف وجمهور أصحاب أهل المذاهب على تجنبه، فقد اتفق مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وسفيان الثوري في جماعة من العلماء على تحريم الكلام في علم الكلام، ولم يتكلم السلف (ض) في الاسم والمسمى، ولا في التلاوة والمتلو، ولا في الصفة والموصوف، ولا في مشكلات الآيات والأحاديث، إلا من حيث إخراجها عن ظاهرها المحال فقط، بل ضرب عمر (ض) صبيغا لما كان يتتبع مشكل الأحاديث والقرآن ويسأل عنه. وقال جماعة من السلف، بل جملتهم: بكراهة رواية الأحاديث المشكلة، وممن روى عنه ذلك مالك (ض)، وعاب الشيوخ على الشيخ أبي بكر بن فُورَك كلامه في الأحاديث المشكلة التي لم تصح، والاشتغال بتأويلها، وقالوا: كان يكفيه تضعيف أصلها، ولا ينبغي أن يتكلم منها إلا على ما صح، لوجود الاضطرار إليه، وله نية صالحة فيه، فجزاه الله وجزاهم خيرا. وقال الشافعي رحمه الله: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمى أو غيره، فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له، وقال الإمام أحمد بن حنبل (ض): لا يفلح صاحب علم الكلام أبدا، ولا يرى أحد ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض، وقال أيضا: علماء الكلام زنادقة، وقال أبو يوسف (¬1): من طلب العلم بالكلام تزندق. وقال الشافعي رحمه الله: قد اطلعت في علم الكلام على شيء ما ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل شيء نهى الله عنه عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام. ¬
قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله: وحدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر [الشاشي] (¬1) رحمه الله، كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى، وفي ذكر صفاته إجلالا لاسمه سبحانه، ويقول: هؤلاء يتمندلون بالله عز وجل. وقال الخطابي (¬2) رحمه الله: وكان بعض من أدركنا من مشايخنا، قل ما يذكر الله إلا فيما يتصل بطاعة، وكان يقول للإنسان: جزيت خيرا، وقل ما يقول: جزاك الله خيرا، إعظاما لاسمه تعالى أن يمتهن في غير قربة. قال بعض المشايخ (¬3): ومن تكلم في بعض علم الكلام من الأئمة، فإنما قصد لدفع ما أحدثه أهل الأهواء من الشبه والتخيلات التي لا يمكن ردها إلا بالكلام فيه، لابتنائها عليه، قال: واختلف العلماء هل لا يرد الباطل إلا بالحق، أو يرد بكل ما أمكن رده به، فمن منع من علم الكلام، قال بالأول، ومن أجاز قال بالثاني (¬4)، والله أعلم. ... ¬
103 - فصل في الطهارة
103 - فصل في الطهارة من جهالات العوام فيها وصل الاستنجاء بالوضوء من حيث الحكم، وقد نبه عليه في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله (¬1)، والتكبير عند غسل الوجه، وقد ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في مراقي الزلفى، والتشهد عند ذلك، ونص النووي في حلية الأبرار (¬2) على أنه لم يقل به أحد من العلماء غير بعض أصحابه (¬3) ثم رد القول به، والأذكار المرتبة على الأعضاء، وقد ذكرها الإمام أبو حامد وغيرا (¬4) وردها النووي قائلا: لا أصل لها، وكذا ابن العربي، وقال: الوضوء عبادة ليس فيها ذكر إلا البسملة أوله، والتشهد آخره. قلت: وما روي من قوله (ص): ((اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي)) (¬5)، الحديث، وترجم له النسائي: ما يقول بعد الوضوء، وابن السني (¬6): ما يقول بين ظهراني وضوئه، ورجحه النووي (¬7). وكثرة صب الماء، وفي الرسالة: وقلة الماء مع إحكام الغسل سنة، والسرف منه غلو وبدعة، يعني لمن يرى ذلك دينا قيما، وكمالا من فعله، ¬
وقد تذكر رسول الله (ص) الجنابة بعدما أقيمت الصلاة وقام الناس لها، فقال: ((على رسلكم))، ثم دخل بيته، ثم خرج ورأسه يقطر ماء (¬1) ولم يأمر بإعادة الإقامة (¬2). قال ابن الحاج: فيه رد على الموسوسين، وأن السنة التخفيف في الطهارة، وقد مر الكلام على بعض ما يتعلق بالوسوسة، وإن خير الوسوسة ما أدى إلى التحفظ في القوت، وقليل من يفعله، وهذا على سبيل المبالغة، وإلا فالوسوسة شر كلها، في أي باب كانت. ومن جهالات العوام في الوضوء لطم الوجه بالماء لطما، ولا يفعله إلا جهال الرجال وضعفة النساء، وصب الماء من دون الجبهة حتى لا يصل إليها إلا البلل، وأكثر العوام يفعله وهو لا يشعر، ونفض اليدين قبل إيصال الماء إلى العضو، وذلك تبريق وتمسيح لا غير، والمبالغة في الدلك بعد جفاف المحل من الماء، وذلك أمر لا فائدة له، إذ إزالة الوسخ الذي لا يضيف الماء ولا يتعين في العضو، ولا يكون حائلا عنه ليس بمطلوب (¬3) وقد نص ابن حبيب على كراهة المبالغة في مسح الأذنين، لأن المسح مبني على التخفيف، وبعض الناس لا يزال يدلك فيها حتى يكاد الدم يخرج منها، فأما غسل الرجلين، فقل أن يسلم متدين من الوسوسة فيهما لما يتعلق بهما من الأوساخ، وما فيهما من التكاميش والشقاق، ولا سيما مع الوعيد الوارد في ذلك، فأما وسوسة الشك فأصلها خبال في العقل، وقد تعرض من العجلة في الفعل ونحو ذلك، ومن ذلك مبالغة بعض الناس في الرواجب والبراجم (¬4) إلى حد يخرج على القياس والحد، وقد سمعت بعض ¬
104 - فصل في الصلاة
الفضلاء من أهل بلادنا يقول: سأل رجل الشيخ الفقيه الإمام العالم مفتي المسلمين أبا عيسى بن علال (¬1) عن رؤوس الأنامل مشيرا إلى المبالغة، فأجابه الشيخ رحمه الله بأن قال: اللقيمة يا أبا عبد الله اللقيمة، يشير إلى الورع في المطعم والمشرب، وكثير من المتدينين يصب الماء في أذنيه فيضر نفسه. فأما وسوسة زوال النجاسة فلا حديث على أهلها، والقاعدة الكلية في هذا الباب أن الله سبحانه إنما يطالبنا بما نعلمه بوجه صحيح أو غالب ظن، ولم يأمرنا بتحصيل الأشياء في علمه إذ لا وصول لنا إليه، وبالله التوفيق. ... 104 - فصل في الصلاة من الجهالات الواقعة لهم فيها، مزاحمة الأوقات، وإن كان أول الوقت مطلوب، فمقدار الطهارة معتبر، وكذا الأذان ونحوه. وقد قال (ص) لبلال: ((اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والمتطهر من طهارته)) (¬2) الحديث. ومن ذلك التراخي بها إلى حد الفوات، فقد قال (ص): ((تلك صلاة المنافقين، يقعد أحدهم، حتى إذا كانت الشمس بين قرني الشيطان نقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا)) (¬3) الحديث، وفي الحديث: ((أول الوقت ¬
رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) (¬1) فأما جهالات المؤذنين فكثيرة جدا، منها لحنهم بمد ألف الله وباء أكبر، وكلاهما لحن فاحش، وكذا ضم باء أكبر وميله بها إلى الكسر، وإبدال همزتها واوا، وقد استخفه بعض العلماء للضرورة، ومنها إشباع همزة أشهد، ومد الهاء وتشديدها، ومد الدال حتى يصير أمرا للجماعة، أو تسكينها فيكون أمرا للواحد، وفتح الكاف (¬2) والراء من أكبر، وإعرابها وهو مستخف للاختلاف فيه. ومنها فتح أن مع التشديد، وإبدال ألفها واوا، وإسقاطها وصلا، ومنها ضم دال محمد بعد ذلك أو كسرها، وكذا إظهار تنوينها، ولا سيما مع كسر لام رسول أو فتحها، أو إدغامها في لام الله، مع عدم الإشعار بألف الاسم المبارك. ومنها إسقاط الترجيع، أو كونه بحيث لا يسمع أصلا، وقوله: حي بإشباع الياء، أو بإشباع الحاء، أو بتخفيف الياء، أو بكسر الحاء أو الياء، ثم إسقاط الهاء من الصلاة، أو إثباتها تاء، اعتبارا بالإعراب، وفيه ما في الذي تقدم، وكذلك إسقاط حاء الفلاح، أو كسر فائه أو حائه، وقولهم: إلا الله ها بزيادة ها، وهذا من أفحش اللحن، وما يدعوهم لأمثال هذا إلا الجهل وطلب التلحين والتطريب الذي يكاد صاحبه أن يكون به خارجا عن ¬
105 - فصل ومن البدع الإضافية قول المؤذن قبل الإقامة
الأذان في فعله، بل هو خارج عنه عند جماعة من العلماء، منهم الإمام أحمد وغيره، إذ قالوا: يعيد الأذان من فعله كذلك. ومن أمورهم ذكر الأعشار القرآنية بطريقة الأشعار الغزلية، والحركات الزجلية، مع أمور لا حاجة لنا بذكرها، لما يخشى منها، ومن ذلك ترسلهم في الإقامة، مع أن سنتها الحدر، وأذانهم للصلاة في وقت الضرورة، فضلا عن آخر وقت الاختيار، ولا يفعله غالبا إلا من لا علم عنده، ممن يظن أن الأذان من سنة الصلاة لذاته، وليس الأمر كذلك. فأما تذكير ليلة الجمعة، وبعد العشاء والتصلية بعد الفراغ من الأذان، والتحضير لكل صلاة أو لبعضها، وكذا التثويب، وقول بعض أهل البلاد: (تيقام تاصاليت) في التسحير بالصعومعة، وإنشاد المنشد بعده في المسجد إلى الفجر ونحو ذلك، فقد تكلم الأئمة عليه فلا نطول به (¬1). ... 105 - فصل ومن البدع الإضافية قول المؤذن قبل الإقامة: أستغفر الله (ثلاثا)، وهذا شيء يفعله الجهال ببلاد المغرب، والتسميع حيث لا يحتاج إليه، وفي صلاة فاعله حيث يحتاج إليه أربعة أقوال، وفي صلاة المصلي به ثلاثة، هذا إن كان يأخذ من لفظ الإمام، وإلا فلا حديث عليه، ورأيت من يكبر للناس وليس معهم في الصلاة، وقد ذكر بعض العلماء أن صلاة المقتدي به مع ذلك باطلة، والشافعية يسمونه المبلغ، فلا يشترطون فيه كونه في الصلاة. ومنها الدعاء دبر الصلوات بكيفية معلومة، أن يدعو الإمام ويؤمن الناس، قال بعضهم: هي بدعة مستحسنة، وقال بعضهم: بدعة مستهجنة، والأصل أن يدعو كل واحد لنفسه، وربما استدل لها ¬
المجيزون بحديث حبيب بن مسلمة (¬1) (ض)، قال (ص): ((لا يجتمع قوم مسلمون فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله دعاءهم))، رواه الحاكم على شرط مسلم. ومنها رفع الأيدي عند الدعاء، قد أنكره بعض العلماء وأجازه آخرون، وأفرد له شيخ الإسلام ابن حجر جزءا جمع فيه تسعة أحاديث (¬2) قال في آخرها: فحصل بمجموع هذه الأحاديث أنه مشروع (¬3)، وقال في بلوغ المرام: ¬
إن في أبي داود ما يقوي حديثه حتى يكون بمجموعها حسنا (¬1) والحسن معمول به لا سيما في باب الفضائل، وفي الضعاف مسح الوجه بهما آخرا (¬2) والعمل بالضعيف في مثل هذا مسموح به عند العلماء، ومنها إنكار بعض الناس للاستغفار بعد الفراغ من الصلاة، وهو محجوج بحديث ثوبان (ض)، قال: ((كان (ص) إذا انصرف من الصلاة استغفر ثلاثا)) (¬3) رواه مسلم، وأيضا فكونها عبادة لا يمنع من اقتران الاستغفار بها، استشعارا لتقصيرها، ومنها قولهم: تقبل الله منا ومنكم، وربما يقبل يده، وهذه بدعة لا أصل لها من السنة ولا حقيقة لها في الشرع ولا شبهه من الحق، ومنها تنفل الإمام في محرابه، وقد عدت من جهالته، كتعمقه في المحراب، وطول قيامه قبل الإحرام، ودخوله قبل استواء الصفوف، وقراءته في الثانية أطول من الأولى، واعتباره بمناسبة الأيام والأوقات للقراءة، كقراءة سورة الجمعة في صبح الجمعة، إذ لم يرد، بخلاف السجدة وهل أتى فإنه ورد صحيحا (¬4)، وإن لم يكن مشهور المذهب، وكذلك قراءة الكافرون والإخلاص في مغرب ليلتها (¬5) ¬
106 - فصل في المواعيد والاجتماعات
قد ورد، وقد نبه الشيخ أبو عبد الله البلالي (¬1) رحمه الله، على أن الداعي للجماعة ينبغي له استقبالهم، لحديث دعائه (ص) في الاستقاء (¬2) ولا ينبغي إذا دعا الإمام أن يترك الإنسان الدعاء لنفسه، بل يدعو له وللمسلمين، ليخرج من عهدة ترك السنة للعمل بما عسى أن يكون بدعة، ونص الأئمة على أن الهتف بالميت بالمسجد بدعة (¬3)، وأن رفع الصوت فيه ولو بالعلم مكروه (¬4)، وذهب الشافعي إلى استحباب حزب الإدارة، وهو الذي يقرؤونه بالجمع، وقال مالك: هو بدعة، وكذا الذكر بالجمع، وقد تقدم. ... 106 - فصل في المواعيد والاجتماعات من الناس من يحضر الميعاد وقلبه لاه، فلا ينتفع به حسا ولا معنى، ومنهم من يحضره للمكابرة والمناظرة والمظاهرة، فلا يزده ذلك إلا خسرانا، لأنه إن رأى من أصحابه حسنة سدها، وإن رأى سيئة عدها، لأن سمع ما يستعين به على أغراضه الفاسدة حفظه، لأن سمع ما يفحم به خصمه ضبطه، ويريد إدحاض حجة غيره ولو بالباطل، وربما سمع الكلام من غيره في تحرير فهم أو إفادة حكمة فسبقه إلى إكماله، وأضافه إلى نفسه، فكان سارقا ومطففا بإدعاء فضيلة الغير لنفسه. ¬
107 - فصل في أمور عمت البلوى بها في بعض البلاد
والاستقامة في حضور المجالس بثلاثة أمور: أحدها: أن يكون التحصيل أهم إليه من التوصيل. الثاني: أن تكون السلامة أحب إليه من الرئاسة. الثالث: أن يلزم الأدب في حق نفسه وحق رفقائه بوجه تام، وذلك يقضي له بالصمت والإنصاف وعدم التظاهر والانحراف، وأين من هذا وصفه، رزقنا الله العافية بمنه. فأما أصحاب المجالس فمن كان الصمت أهم عليه من الكلام، فقد نجا، ومن كان الكلام أهم عليه من الصمت فقد هلك، وإذا كانت همة العالم في اتباع السنة ووجود الإنصاف في الإفادة نفع وانتفع، وإلا على العكس، وقد تكلم ابن الحاج على مجالس العلم يأتم الكلام، وذكر أمورا لا أستحضرها الآن، والحق أبلج والباطل لجلج. ومن آفات بعض العوام والمستمعين، أنهم إذا فرغوا من المجلس جلسوا لمذاكرة ما سمعوا، ثم ختموه بالغيبة وذكر عيوب الناس وأحوال الملوك ووقائع الأراجيف، وكذا كثير من الطلبة، ومن هناك قال من قال: إن الغيبة هي فاكهة القراء، فليكن الأهم على المجالس لهم التحرز من أعقاب المجالس، وبالله التوفيق. ... 107 - فصل في أمور عمت البلوى بها في بعض البلاد منها الموالات في إعطاء الزكاة لمن يمدح أو يذم، فيكتسب بها جاها، أو يدفع معرة أو مضرة، وذلك قبيح مذموم، ومنها الاعتماد في الصوم على أمور من الرخص أو التشديدات المخلة أو المملة، كصيام الدهر، أو الإفطار بعد عقده، وذلك مشهور الأمر في كتب الأئمة.
فأما عوارض الحج والجهاد وغيره، فيطول ذكرها، مع عدم مس الحاجة إليها. وأما الأيمان فتارة بالحلف بما يمنع الحلف به أو يكره، كالصوم، والطلاق، والعتاق، والمشي، والأيمان اللازمة، وما لا يصح الحلف به كقوله: أشركت بالله، أو أشرك بالله، أو أماته الله على الشرك، أو يكون خارجا من دينه، أو هو يهودي أو نصراني، إن فعل كذا فهو آثم، قال (ص): ((من حلف بدين غير الإسلام فهو كما قال) (¬1)، والمشهور منع الحلف بالمخلوق، كالسماء والكعبة والنبي ونحو ذلك، وقد قال (ص): ((من حلف بالأمانة فليس منا)) (¬2) ونهى عن الحلف بالآباء (¬3) وهو شيء يفعله الجهلة من أهل الحجاز، حتى إن أحدهم إذا حلفت له بالله لم يصدقك، ولو أكدته مائة مرة، وإذا قلت: وحياتك ورأسك ونحو هذا، صدقك. ومما تعم به البلوى، نظر العبد لسيدته أو لأطرافها من شعر ونحوه، وفيه اختلاف إن كان وغدا لا شرك لأحد فيه، ولو مكاتبا، والأصح جوازه، كالخصي الوغد لها أو لزوجها، وفي عبدها أو عبد الأجنبي خلاف، ومن المصائب نظر اليهودي للحرة المسلمة، ودخوله الدار في غيبة صاحبها، ¬
والاستخفاف به في ذلك، مع أن النساء غير مأمونات، وللنفوس كمائن، وإذا كان العلماء اختلفوا في اليهودية هل هي مع المسلمة كمثلها، أو تنزل منزلة الرجل في رؤيتها، فكيف بالرجال. ومنها التهاون بحقير الدار، كالخديم والمتسخر، ومن يجر لهم الحوائج ونحو ذلك، وذلك أصل كل علة وفساد كما هو مشاهد معلوم، لأنه يبيع أستاذه بلقمة تطعم له، أو درهم يناله، أو مدح يسمعه في نفسه. ومنها التطبب باليهود وتمكينهم من الحكم في أبشار الناس، مع ما عرف من دينهم: أن من نصح مسلما فقد خرج عن دينه. قال ابن الحاج: وهم يقسمون الناس في طبهم أقساما، أما المؤمن التقي النقي الوجيه، فليس له عندهم إلا الموت، ويتحيلون له في ذلك بكل ما أمكن، والضعيف من السؤال ينصحونه، لأن بناءه زيادة شوهة في المسلمين، مع استعانتهم بنصحه على ما هم به، إذ يقال: لو كان عندهم عيب عاملوا (¬1) به الضعفاء، ونحو هذا، وكذا الجند ينصحونهم لما يقع من التشفي يتحكمهم في المسلمين وظلمهم، مع الاستعانة بهم، وقد عاينا من ذلك وجربنا من حركاتهم ما يطول ذكره، والنصارى خير منهم في ذلك، وإن كان لا خير في الجميع، وقد أتى ابن الحاج في مدخله في هذا الأمر بما لا مزيد عليه، ومن ذلك مناصحتهم وموالاتهم أو ظلمهم وأذاهم، فقد قال الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} (¬2) وقد قال رسول الله (ص): ((من ظلم ذميا لم يرح رائحة الجنة، ومن ظلم ذميا فأنا خصمه يوم القيامة)) (¬3) ومن ذلك ¬
108 - فصل في اختيارنا من عمل اليوم والليلة، وهو الوسط حسبما دلت عليه الأحاديث النبوية والآثار السلفية
مرافقتهم في أعيادهم بالتخلي عن الحرف والصناعات، وأكل طعامهم الذي يكرهونه كالطارف، وإن كان المشهور إنما هو كراهته، فيكفي كونه نالته أيديهم النجسة، ويرحم الله الشيخ أبا الحسن الشاذلي (ض)، حيث قال: ولا تقتد بمن يتورع عما في أيدي المسلمين ويتناول مما نالته أيدي الكفار، وقد عرف ما نال الحجر الأسود من أيدي المشركين فاسود لذلك، انتهى بمعناه. ... 108 - فصل في اختيارنا من عمل اليوم والليلة، وهو الوسط حسبما دلت عليه الأحاديث النبوية والآثار السلفية فمن ذلك الصلاة في الضحى ستا، وقبل الظهر أربعا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعا، وقد روى ذلك النسائي والترمذي من حديث علي كرم الله وجهه (¬1) قال: كان (ص) يفعله، وهو حديث حسن، وله شواهد متفرقة في الصحيح وغيره، وبعد المغرب ركعتان، لحديث ابن عمر وغيره المتفق عليه (¬2) ومن الليل ثلاث عشرة ركعة، رواه ابن عباس وعائشة (¬3) وقالت: ما زاد على ذلك في رمضان ولا في غيره. قال بعض العلماء: فهو أفضل ممن قام الليل كله، لأنه (ص) لا يأخذ في نفسه الكريمة إلا بالأفضل، لقوله (ص): ((إن أعلمكم بالله وأتقاكم له أنا)) (¬4) الحديث. ¬
ثم حديث ركعتي الفجر أشهر من أن يذكر (¬1)، فمجموع ما ذكرنا من الصلوات في الفرض والنفل خمسون ركعة، وقد كان (ص) يزيد وينقص في ذلك، ليلا ونهارا، وقيل: بحسب الزيادة والنقص، فإذا أكثر في الليل قلل في النهار، وبالعكس، ولم ينقص في الليل عن سبعة، ولم يزد على سبعة عشر، وأقل أوراد الصلاة إحدى عشرة دون الفرض، وأعلاها خمسون كذلك، فالإحدى عشر؛ الركعتان قبل الظهر، ثم بعدها، ثم بعد المغرب، ثم بعد العشاء الشفع، ويوتر بواحدة، والفجر ركعتان، وتفصيل ذلك يطول، فخذ بما شئت، وبالله التوفيق. فأما الصوم، فأقل أوراده ثلاثة أيام في الشهر، وكونها البيض، المشهور من المذهب كراهته (¬2) وكان مالك رحمه الله يصوم يوما من أول الشهر، ويوما من وسطه، ويوما من آخره، وفي حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي ذر (ض)، أنه (ص) أوصاهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن لا يناموا إلا على وتر وركعتي الضحى (¬3)، قال بعض العلماء: وهذا ورد طالب المسلم، لأنه أقل الأوراد، وطالب المسلم مشغول، فلا ينبغي أن يخلي نفسه من الفضيلة، وأوسطه صيام الإثنين والخميس دائما، فقد كان (ص) يتحرى صيامهما، قيل: وفي المواظبة عليهما صيام ثلث الدهر برمضان، دون دعوى ولا غيرها، وحديثهما صحيح (¬4) وعدهما ابن رشد (¬5) وعياض ¬
109 - فصل في أوراد الذكر
في الأيام المندوبة، وأكثره صوم داود (س)، وهو معلوم (¬1) وأما التلاوة فالأوسط فيها الختم في كل عشرة إلى شهر، وأقلها في الشهرين، وأكثرها في كل ثلاث، كذلك صح عن رسول (ص) (¬2)، وبالله التوفيق. ... 109 - فصل في أوراد الذكر قد جاء الترغيب فيه من غير حد، مثل قوله تعالى: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} (¬3) وقوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} (¬4) وقوله (ص): ((ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله)) (¬5)، وقال (ص): ((اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون))، رواه ابن حبان (¬6) من حديث أبي سعيد (ض)، وقال رجل: يا رسول الله، كثرت علي شعائر الإسلام، فدلني على عمل أدرك به ما ¬
فاتني، قال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)) (¬1) وقال (ص): ((إن الدين يسر، إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (¬2) فأرشد (ص) لذكر طرفي النهار وقيام آخر الليل وهو الدلجة، فأول النهار للتحصيل، وآخره للتفصيل، وآخر الليل للمناجات {يدعون ربهم بالغداة والعشي} (¬3) {تتتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ...} (¬4) الآيتان، فافهم. أذكار وردت في دبر كل صلاة: كان (ص) إذا انصرف من الصلاة استغفر ثلاثا، ثم قال: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام)) (¬5) رواه مسلم عن ثوبان (ض)، وللطبراني عن البراء بن عازب (ض)، قال (ص): ((من قال في دبر كل صلاة: أستغفر الله وأتوب إليه، غفر له وإن كان فر من الزحف)) (¬6)، وعن معاذ بن جبل (ض)، قال (ص): ((يا معاذ إني أحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬7) ورويناه مسلسلا بالمحبة عن شيخنا السخاوي بسنده، وعن أبي هريرة (¬8) (ض)، قال (ص): ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)) (¬9) وأصله متفق عليه، وعن المغيرة بن شعبة (ض)، سمع ¬
رسول الله (ص) يقول في دبر الصلاة المكتوبة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬1). وعن أبي أمامة (ض)، قال (ص): ومن قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت))، وصححه ابن حبان، وزاد الطبراني: ((و {قل هو الله أحد})) (¬2) وله عن الحسن بن علي (ض): ((من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى)) (¬3) وإسناده حسن، وعن عقبة بن عامر (ض) أنه (ص) أمره بقراءة المعوذتين في دبر كل صلاة مكتوبة (¬4)، رواه النسائي وغيره، ثم يقول: {سبحن ربك رب العزة عما يصفون} الآية، لحديث عبد الله بن أرقم عن أبيه: ((من قال في دبر كل صلاة: {سبحن ربك ...} الآية، فقد اكتال بالجرين (¬5) الأوفى من الأجر)) (¬6) رواه الطبراني (¬7). ¬
ما بعد صلاة الصبح والمغرب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، عشرا، رواه أبو الدرداء (¬1) (ض) وقال: كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وحفظ من الشيطان حتى يمسي، وكان في حرز من المكروه، (ولن يتبع (¬2) بذنب) أن يصيبه سوى الشرك، رواه الترمذي وغيره، وإن اختلف سياقهم له فهو متقارب. حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبعا (¬3). رواه أبو الدرداء (ض)، وقال: كفاه الله ما أهمه. والصلاة على الرسول (ص) عشرا، رواه أبو الدرداء أيضا، وفي الخبر: ((من صلى علي عشرا حين يصبح، وعشرا حين يمسي، أمن من سخط الله)) (¬4). الصباح والمساء: وهو ما بعد طلوع الفجر إلى حل النافلة، وما بعد العصر إلى ما بعد صلاة العشاء، د ت ج (¬5) عن أسماء بنت يزيد، قال (ص): ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وإلهكم إلهم واحد ...} الآية، وفاتحة آل عمران)) (¬6) حسن، وفي نسخة صحيح. ¬
(ج) عن أبي أمامة، قال (ص): ((هو في البقرة وآل عمران وطه)) (¬1) وقال صاحب السلام: هو (الحي القيوم)، لاختصاصه بهذه السور، وقال شيخنا أبو العباس الحضرمي:: جوامع الاسم الأعظم ذلك. (ت) عن أبي هريرة (ض)، قال (ص): ((من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن صباحا، حفظ حتى يمسي، ومساء، حفظ حتى يصبح)) (¬2) غريب، وعن ابن مسعود، قال (ص): ((من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) (¬3) زاد النسائي: ((ويحفظ البيت الذي تقرأ فيه من الشيطان ثلاث ليال)) (¬4). (ت) عن عبد الله بن خبيب (ض)، قال (ص): ((قل هو الله أحد والمعوذتين ثلاثا صباحا، وثلاثا مساء تكفيك من كل شيء)) (¬5) حسن صحيح. الترمذي الحكيم عن أبي هريرة، قال (ص): ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك من كل ما لا أعلم، ثلاثا صباحا، وثلاثا مساء، يذهب بالشرك الجلي والخفي)) ضعيف، ورواه أبو يعلى بلفظ: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه)) (¬6)، ورواه الطبراني، وأحمد. ¬
أيضا عن أبي بكرة، كان (ص) يتعوذ بهن ثلاثا صباحا وثلاثا مساء: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، ومن عذاب القبر، لا إله إلا أنت)) (¬1) ثلاثا، وكذلك: ((اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت)) (¬2) ثلاثا أيضا. (د س) (¬3) عن ابن عباس قال (ص): ((من قال في صبيحة كل يوم ومسائه ثلاثا: اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتمم نعمتك علي وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة، كان حقا على الله أن يتم عليه نعمته)) (¬4) وحديث: ((رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ... إلخ))، قال الترمذي: حسن صحيح، وتثليثه رواه أحمد (¬5). وحديث جويرية في قول: ((سبحان الله وبحمده عدد خلقها)) (¬6) متفق عليه، وهو مشهور، وحديث: ((أعوذ بكلمات الله التامات ثلاثا مساء، أمان ¬
من كل محتضر)) (¬1) رواه الترمذي (¬2)، ورواه أبو هريرة (¬3) وأصله في الصحيح، وحديث: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء)) (¬4)، ثلاثا صباحا، وثلاثا مساء، رواه أبو داود عن عثمان، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحديث: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاثا، يتبعها بثلاث آيات من آخر سورة الحشر)) (¬5) رواه النسائي (¬6) عن معقل بن يسار قال: من قرأها صباحا لم يزل عليه من الله حافظا حتى يمسي، ومساء كذلك حتى يصبح، وإن مات مات شهيدا، قال النووي (¬7): وإسناده صحيح وحديث: ((سبحان الله العظيم وبحمده ثلاثا، أمان من ¬
الجذام والبرص والفالج))، (¬1) رواه أحمد عن قبيصة بن أبي المخارق (ض)، وحديث ((سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)) (¬2) رواه النسائي عن جبير بن مطعم، وتثليثه عن أبي ذر (¬3) (ض)، وحديث الاستغفار ثلاثا بلفظ: ((أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه))، رواه أحمد والترمذي عن بلال بن يسار، والحاكم عن ابن مسعود، وقال؛ ثلاثا، وصحيح على شرط مسلم (¬4)، وروي عن أبي كاهل قال: قال (ص): ((من صلى علي في يوم أو ليلة ثلاث مرات حبا وشوقا إلي، كان حقا على الله أن يغفر له ذنوب ذلك اليوم، أو تلك الليلة)) (¬5)، وعن علي كرم الله وجهه: ((من أراد أن يكتال ¬
110 - فصل في خاتمة الكتاب
(بالجرين) (¬1) الأوفى فليقل في آخر مجلسه: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} (¬2) انتهت مسندات الوظيفة، وكلها مرفوعة له (ص)، لكن في التوقيع (¬3) في بعضها لدلالة السياق على المقصود، وباقي الوظائف مشهورة الأصول، وبالله التوفيق. ... 110 - فصل في خاتمة الكتاب اعلم وفقنا الله وإياك أن مقصدنا بهذا الكتاب وجود الإفادة وإظهار ما عندنا، لا وجود التعنيف، فمن نظر فيه من عالم فلينظره بعين الرضا والصواب، لئلا يدفعه، وينبه على ما فيه بإصلاح مختله بالتأويل، وعضد فارغه بالدليل، فإن من صنف استهدف، ومن أبدى للناس علمه فقد ولى للوجود حكمه، والمؤمن مرآة أخيه، والإنصاف من شيم الأشراف، ((حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (¬4)، ويعلم الله قصدي بهذا الكتاب، وإن كانت النيات لا تخلو عن خلل ونقص، فلكل حق حقيقة، ولكل شيء وجه، ثم أستعيذ برب السماوات والأرض من جاهل يتحامل، أو حاسد يعرف الحق ويتجاهل، وأسأله تعالى أن يجعله حجة لنا لا علينا، رفعا لكل ¬
من وقع بيده أو قصده، وبركة لكل من أعان فيه بشيء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأستغفره سبحانه وتعالى مما جرى فيه من إساءة الأدب والظهور بالدعوى وأسباب الكذب، وأن يختم لنا بالإيمان والإسلام والكتاب والسنة في عافية، وأن يخلصنا من محن الدنيا وفتن الدين، ويجعلنا من حزبه المفلحين، ومن أوليائه المهتدين، إنه منعم كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما (¬1). تم الكتاب بحمد الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ¬
الفهارس العامة
الفهارس العامة • فهرس الآيات القرآنية. • فهرس الأحاديث والآثار. • فهرس الأعلام. • فهرس الفرق والطوائف. • فهرس المصطلحات الصوفية. • فهرس الكتب الواردة في النص. • فهرس المصادر والمراجع. • فهرس الموضوعات.